ج 17 ، ص : 144
(وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وبئس النار موئلا ومقاما لهؤلاء المشركين باللّه.
ونحو الآية قوله : « إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً » .
[سورة الحج (22) : الآيات 73 الى 76]
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
تفسير المفردات
ضرب : أي جعل ، والمثل والمثل : الشبه ، لا يستنقذوه : أي لا يقدروا على استنقاذه ، ما قدروا اللّه : أي ما عظّموه ، عزيز : أي غالب على جميع الأشياء ، يصطفى :
أي يختار.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أنهم يعبدون من دون اللّه ما لا حجة لهم عليه من الوحى ، ولا دليل عليه من العقل - أردف هذا بما يدل على إبطاله ويؤكد جهلهم بمقام الألوهية ، وما ينبغى أن يكون لها من إجلال وتعظيم ، ثم أعقب ذلك ببيان أنه سبحانه يصطفى من الملائكة والناس لرسالته من يشاء وهو العليم بمن يختار « اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ »(17/144)
ج 17 ، ص : 145
روى أن الوليد بن المغيرة قال : أ أنزل عليه الذكر من بيننا ؟ فأنزل اللّه الآية :
« اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ »
وأخرج الحاكم وصححه عن عكرمة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « إن اللّه اصطفى موسى بالكلام وإبراهيم بالخلّة »
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي يا أيها الناس جعل المشركون لى أشباها وأندادا وهى الآلهة التي يعبدونها معى ، فأنصتوا وتفهّموا حال ماملوهم وجعلوهم لى فى عبادتهم إياهم أشباها وأمثالا.
ثم بين حال هؤلاء الأشباه والأمثال فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) أي لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأوثان على أن يخلقوا ذبابة واحدة على صغر حجمها وحقارة شأنها ما قدروا وما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
روى عن أبى هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلّم قال : « قال اللّه عز وجل : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقى ، فليخلقوا ذرة فليخلقوا شعيرة » .
(وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي وإن يسلب الذباب الآلهة والأوثان شيئا مما عليها من طيب وما أشبهه - لا تستنقذ ذلك منه على ضعفه.
والخلاصة - إنهم عاجزون عن خلق ذباب واحد ، بل أعجب من ذلك أنهم عاجزون عن مقاومته والانتصار منه لو سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه.
وفى ذلك إيماء إلى أنهم قد بلغوا غاية الجهالة ، وأشركوا باللّه القادر على كل شىء آلهتهم من الأصنام والأوثان التي لا تقدر على خلق أحقر المخلوقات وأصغرها وهو الذباب ولو اجتمعت له ، ولا تستطيع أن تنتصر منه لو سلبها شيئا.(17/145)
ج 17 ، ص : 146
(ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) أي عجز الطالب وهو الآلهة أن تستنقذ من المطلوب وهو الذباب ما سلبها إياه من الطيب وما أشبهه.
وقصارى هذا - إنه سبحانه وصف هذه الآلهة بما وصف ، للدلالة على مهانتها وضعفها ، تقريعا منه لعبدتها من مشركى قريش وكأنه قيل لهم : كيف تجعلون لى مثلا فى العبادة ، وتشركون معى فيها ما لا قدرة له على خلق ذباب ، وإن أخذ منه الذباب شيئا لم يقدر أن ينتصر منه ، وأنا الخالق لما فى السموات والأرض ، المالك لجميع ذلك ، المحيي لما أردت والمميت له - ؟ إن فاعل ذلك بالغ غاية الجهل وعظيم السفه.
ثم زاد هذا الإنكار توكيدا فقال :
(ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظّموه حق التعظيم ، إذ عبدوا معه غيره من هذه الأصنام التي لا تقاوم الذباب لضعفها ، ولا تنتصر منه إن سلبها شيئا.
(إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي إنه تعالى قوىّ لا يتعذر عليه شىء ، وبقدرته خلق كل شىء ، عزيز لا يغالب ، لعظمته وسلطانه ، ولا يقدر شىء أن يسلبه من ملكه شيئا ، وليس كآلهتكم التي تدعونها من دون اللّه.
ونحو الآية قوله : « وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ » وقوله : « إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ » .
وبعد أن ذكر ما يتعلق بالإلهيات ذكر ما يتعلق بالنبوات فقال :
(اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) أي اللّه يختار من الملائكة رسلا يتوسطون بينه وبين الأنبياء بالوحى ، ويصطفى من الناس رسلا يدعون عباده إلى ما يرضيه ، ويبلغونهم ما نزّله عليهم من وحيه ، إرشادا لهم وتشريعا للأحكام التي فيها سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم.
(إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي إنه تعالى سميع لأقوال عباده ، بصير بهم فيعلم من يستحق أن يختار منهم لهذه الرسالة.(17/146)
ج 17 ، ص : 147
(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي يعلم ما كان بين أيدى ملائكته ورسله من قبل أن يخلقهم ، ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم.
وخلاصة ذلك - يعلم مستقبل أحوالهم وماضيها.
(وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي وإليه ترجع الأمور يوم القيامة ، فلا أمر ولا نهى لأحد سواه ، وهو يجازى كلا بما عمل إن خيرا وإن شرا.
[سورة الحج (22) : الآيات 77 الى 78]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
تفسير المفردات
فى اللّه : أي فى سبيله ، والجهاد كما قال الراغب : هو استفراغ الوسع فى مجاهدة العدو ، وهو ثلاثة أضرب :
(ا) مجاهدة العدو الظاهر كالكفار.
(ب) مجاهدة الشيطان.
(ج) مجاهدة النفس والهوى ، وهذه أعظمها فقد أخرج البيهقي وغيره عن جابر قال : « قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قوم غزاة فقال : قدمتم خير مقدم ، قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ، قيل وما الجهاد الأكبر ؟ قال : مجاهدة العبد هواه » .(17/147)
ج 17 ، ص : 148
والمراد بالجهاد هنا ما يشمل الأنواع الثلاثة ، كما يؤيده ما روى عن الحسن أنه قرأ الآية وقال : « إن الرجل ليجاهد فى اللّه تعالى وما ضرب بسيف » .
واجتباكم : أي اختاركم ، حرج : أي ضيق بتكليفكم ما يشق عليكم ، واعتصموا باللّه أي استعينوا به وتوكلوا عليه ، مولاكم : أي ناصركم.
المعنى الجملي
بعد أن تكلم فى الإلهيات ثم فى النبوات - أتبعهما بالكلام فى الشرائع والأحكام.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ، وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي يا أيها الذين صدقوا اللّه ورسوله ، اخضعوا للّه ، وخروا له سجدا ، واعبدوه بسائر ما تعبّدكم به ، وافعلوا الخير الذي أمركم بفعله من صلة الأرحام ومكارم الأخلاق ، لتفلحوا وتفوزوا من ربكم بما تؤمّلون من الثواب والرضوان.
(وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ) أي وجاهدوا فى سبيل اللّه جهادا حقا خالصا لوجهه لا تخشون فيه لومة لائم.
(هو اجتباكم) أي هو اختاركم من سائر الأمم ، وخصكم بأكرم رسول ، وأكمل شرع.
(وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي وما جعل عليكم فى الدين الذي تعبدكم به ضيقا لا مخرج لكم منه ، بل وسّع عليكم وجعل لكم من كل ذنب مخلصا ، فرخص لكم فى المضايق فالصلاة وهى أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب فى الحضر أربعا وفى السفر تقصر إلى اثنتين ، ويصليها المريض جالسا ، فإن لم يستطع فعلى جنبه ،(17/148)
ج 17 ، ص : 149
وأباح الفطر حين السفر وحين الإرضاع والحمل والشغل فى شاقّ الأعمال ، ولم يوجب علينا الجمعة فى المساجد حين السفر أو الخوف من عدو أو سبع أو مطر إلى نحو أولئك ، كما فتح لكم باب التوبة وشرع لكم الكفارات فى حقوقه ودفع الدية بدل القصاص إذا رضى الولي.
ونحو الآية قوله سبحانه : « فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ » وقوله : « يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ » وقوله : « رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا » .
(مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) أي وملتكم هى ملة أبيكم إبراهيم الحنيفية السمحة التي لم يعتورها جنف ولا إشراك.
ونحو الآية قوله تعالى : « قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً » الآية.
(هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ، وَفِي هذا) أي إن اللّه سماكم يا معشر من آمن بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم - المسلمين فى الكت ب المتقدمة وفى هذا الكتاب.
وخلاصة هذا - إنه تعالى ذكر أنه اختارهم من بين سائر الأمم ، ثم حثهم على اتباع ما جاءهم به الرسول ، لأنه ملة أبيهم إبراهيم ، ثم نوّه بذكره والثناء عليه فى كتب الأنبياء قبله وفى القرآن.
(لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي إنما جعلكم هكذا أمة وسطا عدولا مشهودا بعدالتكم بين الأمم ، ليكون محمد صلّى اللّه عليه وسلّم شهيدا عليكم يوم القيامة بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم ، وتكونوا شهداء على الناس بأن الرسل قد بلغوهم ما أرسلوا به إليهم.(17/149)
ج 17 ، ص : 150
وإنما قبلت شهادتهم على الناس لسائر الأنبياء ، لأنهم لم يفرقوا بين أحد منهم وعلموا أخبارهم من كتابهم على لسان نبيهم ، ولاعتراف سائر الأمم يومئذ بفضلهم على سواهم ، وقد تقدم ذكر هذا فى سورة الأنعام عند قوله : « وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً » الآية.
ولما ندبهم لأداء الشهادة على الأمم جميعا طلب منهم دوام عبادته والاعتصام بحبله المتين فقال :
(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ) أي فقابلوا هذه النعم العظيمة بالقيام بشكرها ، فأدّوا حق اللّه عليكم بطاعته فيما أوجب وترك ما حرم ، ومن أهم ذلك إقامة الصلاة التي هى وصلة بينكم وبين ربكم ، وإيتاء الزكاة التي هى طهرة أبدانكم ، وصلة ما بينكم وبين إخوانكم ، واستعينوا باللّه فى جميع أموركم ، وهو ناصركم على من يعاديكم.
ثم علل الاعتصام به بقوله :
(فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي إن من تولاه كفاه كل ما أهمه ، وإذا نصر أحدا أعلاه على كل من خاصمه ، إذ لا ناصر فى الحقيقة سواه ولا ولىّ غيره ، فله الحمد وهو رب العالمين.
خلاصة ما تضمنته السورة من الحكم والأحكام
(1) وصف حال يوم القيامة وما فيه من شدائد وأهوال تشيب منها الولدان.
(2) جدال عبدة الأصنام والأوثان بلا حجة ولا برهان.
(3) إثبات البعث وإقامة الأدلة عليه.
(4) وصف المنافقين المذبذبين فى دينهم وعدم ثباتهم على حال واحدة.
(5) ما أعد اللّه لعباده المؤمنين من الثواب المقيم فى جنات النعيم.(17/150)
ج 17 ، ص : 151
(6) بيان أن اللّه ناصر نبيه ومظهر دينه على سائر الأديان.
(7) بيان أن اللّه يحكم يوم القيامة بين عباده من أرباب الديانات المختلفة ويجازى كلا بما يستحق.
(8) إقامة الأدلة على وجود خالق السموات والأرض وبيان أن العالم كله خاضع لقدرته.
(9) أمر المؤمنين بقتال المشركين الذين أخرجوهم من ديارهم ، وبيان أن هذا القتال لا بد منه لنصرة الحق فى كل زمان ومكان وأن اللّه ينصر من يدافع عنه.
(10) تسلية الرسول على ما يناله من أذى قومه وأنهم ليسوا بدعا فى الأمم ، فكثير ممن قبلهم كذبوا رسلهم ثم كانت العاقبة للمتقين ، وأهلك اللّه القوم الظالمين ، والعبرة ماثلة أمامهم فى حلهم وترحالهم.
(11) بيان أن المفسدين يلقون الشبهات على الحق ليزلزلوا عقائد المؤمنين ، لكنها لا تلبث أن تزول وينكشف نور الحق ويزيل ظلام الباطل.
(12) الثواب على الهجرة للّه ورسوله سواء قتل المهاجر أو مات.
(13) وصف حال الكافرين إذا تلى عليهم القرآن ، بما يظهر على وجوههم من أمارات الغضب.
(14) بيان أن اللّه يرسل رسلا من الملائكة ورسلا من البشر وأن اللّه عليم بمن يصلح لهذه الرسالة.
(15) أمر المؤمنين بدوام الصلاة والزكاة وفعل الخيرات والجهاد حق الجهاد فى سبيل الحق.
(16) بيان أن الدين يسر لا عسر ، وأنه كمّلة إبراهيم سمح لا شدة فيه.(17/151)
ج 17 ، ص : 152
(17) بيان أن الرسول شهيد على أمته يوم القيامة وأن هذه الأمة تشهد على الأمم السالفة بأن رسلهم قد بلغوهم شرائع اللّه وما قصّروا فى ذلك.
اللهم ألهمنا الحق ، واهدنا سبيل الرشاد ، وتقبل أعمالنا ، إنك أنت السميع المجيب.
قد انتهى تفسير هذا الجزء فى اليوم الثامن عشر من ذى الحجة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وألف بعد الهجرة بمدينة حلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية ، وفقنا اللّه لإتمام تفسير كتابه الكريم.(17/152)
ج 17 ، ص : 153
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
المبحث 3 فى الحديث : « بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول وهن من تلادى » 6 طعن المشركون فى نبوة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بأمرين 7 طلب المشركون من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم آية أخرى غير القرآن 11 فضل القرآن 13 كانت الأمم السابقة تعترف بظلمها حين إهلاكها 14 فساد المطاعن التي وجهوها إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم 17 السموات والأرض لم تخلقا عبثا فلابد من الحساب والجزاء 19 لو كان فى السموات والأرض إلهان لفسدتا 20 الكتب السماوية جميعا جاءت بوحدانية اللّه وطلب عبادته 21 الملائكة عباد مكرمون يسبحون الليل والنهار لا يفترون 24 الأدلة على وجود اللّه 29 الدنيا ما خلقت للخلود والدوام 30 الابتلاء والفتنة تكون بالخير والشر 32 جبل الإنسان على حب العجلة 34 تأتى الساعة بغتة وهم لا يشعرون 39 يوم القيامة يدعو المشركون على أنفسهم بالويل والثبور وعظائم الأمور 41 أوصاف المتقين(17/153)
ج 17 ، ص : 154
42 حجاج إبراهيم لأبيه وقومه ودعوتهم إلى التوحيد 44 احتجاج قومه بالتقليد 46 كسر إبراهيم عليه السلام للأصنام 47 رجوع قوم إبراهيم على أنفسهم بالملامة 51 اتفاق قوم إبراهيم على إحراق إبراهيم 53 النعم التي أفاض اللّه بها على إبراهيم 54 النعم التي أسبغها على لوط 56 ما أنعم اللّه به على داود وسليمان 57 قضاء داود وسليمان فى الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم 58 نعم اللّه على داود عليه السلام نعم اللّه على سليمان عليه السلام 61 ما أحيطت به قصة أيوب من العجائب والغرائب 63 نداء يونس عليه السلام لربه فى الظلمات واستجابة اللّه له 66 دعاء زكريا ربه واستجابته لدعوته 68 لبّ الدين عند اللّه واحد واختلاف الأديان فى التفاصيل 73 الأصنام وعابدوها فى النار ، وحكمة ذلك 74 أحوال أهل النار وما يلاقونه من الأهوال 75 ما كتب لأهل السعادة فى الجنة 76 صلاح الأمة يقوم على أربعة عمد 78 الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم أرسل رحمة للعالمين 83 ما اشتملت عليه سورة الحج من المباحث 85 أهوال يوم القيامة 86 ذمّ المجادل بغير علم(17/154)
ج 17 ، ص : 155
88 مراتب الخلق والاستدلال بها على البعث 91 المجادل بلا عقل صحيح ولا نقل صريح 94 من الناس المذبذب المضطرب فى دينه 97 إثبات نصر الرسول والمبالغة فى ذلك بما لا مزيد عليه 98 القرآن هاد إلى سواء السبيل الأديان ستة خمسة للشيطان وواحد للرحمن 99 السجود ضربان اختياري وتسخيرى 100 من يهنه اللّه فلا مكرم له 102 جزاء الكافرين يوم القيامة 103 جزاء المؤمنين يومئذ 105 جزاء الصادّ عن البيت الحرام 106 تأنيب من يصد عنه من المشركين 108 سبب الأمر بزيارة البيت الحرام 109 ذبح الأنعام وأكلها حلال إلا ما حرم 110 من أشرك باللّه فقد أهلك نفسه وكان كمن سقط من السماء فتخطفه الطير 112 الذبح وإراقة الدماء قربة للّه ليس بخاص بهذه الأمة 113 علامات المخبتين 114 الهدايا من شعائر اللّه ودليل تقواه 117 وعد اللّه رسوله والمؤمنين بالنصر على المشركين 119 تحريض المؤمنين على القتال وبيان أن به انتظام أمر الجماعات 121 تسلية الرسول على ما يرى من قومه من الأذى 124 كان المشركون يستهزئون بالعذاب فيستعجلونه(17/155)
ج 17 ، ص : 156
125 سنة اللّه إهلاك الظالمين ولو بعد حين 126 وعد اللّه للمتقين ووعيده للكافرين 128 إلقاء المشركين الشبه والأوهام فيما يقرأ من القرآن 129 ما يفعله القساوسة والمبشرون الآن فى البلاد الإسلامية 131 هداية اللّه لعباده المؤمنين إلى الصراط المستقيم 133 المقتول فى سبيل اللّه والمهاجر إعزازا لدين اللّه فى الأجر سواء 135 اللّه قدير على نصر عباده المؤمنين 136 اللّه سابغ نعمه على عباده المؤمنين 138 لكل أمة منسك وشريعة خاصة بها 141 النعي على عبادة الأوثان والأصنام 142 لا دليل على صحة عبادة الأصنام من عقل ولا نقل 143 كانت إذا تليت آيات القرآن على المشركين ظهر على وجوههم آثار الغيظ والألم 145 الأصنام لا تستطيع خلق الذباب ولا تدفع عن نفسها ما يسلب منها 147 الجهاد ضروب 148 الدين يسر لا عسر 149 الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم شهيد عليكم وأنتم شهداء على الناس(17/156)
ج 18 ، ص : 3
الجزء الثامن عشر
سورة المؤمنون
هى مكية وقد نزلت بعد سورة الأنبياء ، وآيها ثمانى عشرة ومائة.
روى أن بعض الصحابة قالوا لعائشة : كيف كان خلق رسول اللّه ؟ قالت.
كان خلقه القرآن ، ثم قرأت : « قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - حتى انتهت إلى - وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ » هكذا كان خلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
ووجه المناسبة بينها وبين ما قبلها من وجوه :
(1) إنه تعالى ختم السورة السابقة بخطاب المؤمنين وأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل الخيرات لعلهم يفلحون - وحقق فلاحهم فى بدء هذه السورة.
(2) إنه تكلم فى كل من السورتين فى النشأة الأولى وجعل ذلك دليلا على البعث والنشور.
(3) إن فى كل من السورتين قصصا للأنبياء الماضين وأممهم ذكرت عبرة للحاضرين والآتين.
(4) إنه نصب فى كل منهما أدلة على وجود الخالق ووحدانية.(18/3)
ج 18 ، ص : 4
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)
تفسير المفردات
الفلاح : الظفر بالمراد ، وأفلح : دخل فى الفلاح كأبشر دخل فى البشارة ، والمؤمن : هو المصدّق بما جاء عن ربه على لسان نبيه من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء ، والخاشع : هو الخاضع المتذلل مع خوف وسكون للجوارح ، واللغو : هجر القول وقبيحه ، والزكاة : تزكية النفس وطهارتها بفعل العبادة المالية. والفرج : سوءة الرجل والمرأة ، وحفظه : التعفف عن الحرام ، وابتغى : طلب ، وراء ذلك : أي غير ذلك ، والعادون : أي المتناهون فى العدوان ومجاوزة الحدود الشرعية ، والأمانات :
واحدها أمانة ، وهى ما ائتمن المرء عليه من قبل اللّه كالتكاليف الشرعية أو من قبل الناس كالأموال المودعة لديه والنذور والعقود ونحوها ، والعهد : ما عقده الإنسان على نفسه مما يقربه إلى ربه ، وما أمر به اللّه كما قال : « الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا » والرعي : الحفظ. والراعي : القائم على الشيء لحفظه وإصلاحه ، يحافظون : أي يواظبون عليها ، والفردوس : أعلى الجنة.(18/4)
ج 18 ، ص : 5
الإيضاح
حكم اللّه سبحانه بالفلاح لمن كان جامعا لخصال سبع من خصال الخير :
(1) الإيمان (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) أي فاز وسعد المصدّقون باللّه ورسله واليوم الآخر.
(2) الخشوع فى الصلاة (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) أي الذين هم مخبتون للّه أذلاء منقادون له خائفون من عذابه ،
روى الحاكم أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان يصلى رافعا بصره إلى السماء ، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره إلى نحو مسجده
أي موضع سجوده ، والخشوع واجب على المرء فى الصلاة لوجوه :
(1) للتدبر فيما يقرأ كما قال : « أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها » والتدبر لا يكون بدون الوقوف على المعنى كما قال : « وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا » أي لتقف على عجائب أسراره وبديع حكمه وأحكامه.
(ب) لتذكر اللّه والخوف من وعيده كما قال : « أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي » .
(ج) إن المصلى يناجى ربه ، والكلام مع الغفلة ليس بمناجاة البتة ، ومن ثم قالوا : صلاة بلا خشوع جسد بلا روح ، وجمهور العلماء على أن الخشوع ليس شرطا للخروج من عهدة التكليف وأداء الواجب ، وإنما هو شرط لحصول الثواب عند اللّه وبلوغ رضوانه.
(3) الإعراض عن اللغو (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) أي والذين يعرضون عن كل ما لا يعنيهم ، وعن كل كلام ساقط حقّه أن يلغى كالكذب والهزل والسب ، إذ لهؤلاء من الجدّ ما يشغلهم ، فهم فى صلاتهم معرضون عن كل شى إلا عن خالقهم ، وفى خارجها معرضون عن كل ما لا فائدة فيه ، فهم متجهون للجد وصالح العمل ، فهم قد استفادوا من خشوع الصلاة درسا انتفعوا منه بعدها ، وتخلقوا بأخلاق للنبيين والصديقين.(18/5)
ج 18 ، ص : 6
(4) تطهيرهم لأنفسهم بأداء الزكاة (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) أي والذين هم لأجل طهارة أنفسهم وتزكيتها يؤدون المفروض للفقير والمسكين كما قال : « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها » وقال : « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى » (5) حفظ الفرج (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) أي والذين يحفظون فروجهم فى كافة الأحوال إلا فى حال تزوجهم أو تسرّيهم (قربان الأمة بالملك) فإنهم حينئذ يكونون غير ملومين ، والمراد بهذا الوصف مدحهم بنهاية العفة والإعراض عن الشهوات.
(فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي فمن طلب غير أربع من الحرائر وما شاء من الإماء فأولئك هم المتناهون فى العدوان والمتعدّون لحدود اللّه.
(6) رعاية الأمانة والعهد (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي والذين إذا ائتمنوا لم يخونوا ، بل يؤدون الأمانة لأهلها ، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بما عاهدوا عليه ، إذ الخيانة وخلف العهد من صفات المنافقين كما
جاء فى الحديث : « آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذ ائتمن خان »
وقصارى ذلك - إنهم يؤدون ما ائتمنوا وعوهدوا عليه من الرب أو العبد كالتكاليف الشرعية والأموال المودعة والعقود التي عاقدوا الناس عليها.
(7) المحافظة على الصلوات (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي والذين يواظبون عليها على أكمل وجه فى الأوقات التي رسمها الدين ،
روى عن ابن مسعود أنه قال : « سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت يا رسول اللّه : أىّ العمل أحب إلى اللّه ؟ قال : الصلاة على وقتها ، قلت ثم أىّ ؟ قال : بر الوالدين قلت ثم أىّ ؟ قال :
الجهاد فى سبيل اللّه » رواه الشيخان.
وقد افتتح سبحانه هذه الصفات الحميدة بالصلاة واختتمها بالصلاة ، دلالة على عظيم فضلها ، وكبير مناقبها ،
وقد ورد فى الحديث : « اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن » .(18/6)
ج 18 ، ص : 7
ولما كان الجزاء فى الآخرة نتيجة للعمل فى الدنيا ، وما فيها من نعيم حصّاد لما زرع فيها ، رتب على ذلك قوله :
(أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي أولئك المؤمنون الذين تحلّوا بتلك الخلال السامية جديرون بأن يتبوءوا أرفع مراتب الجنات ، كفاء ما زينوا به أنفسهم من الأخلاق الفاضلة ، والآداب العالية ، ويبقون خالدين فيها أبدا لا يخرجون منها ولا يموتون.
وقصارى ما سلف - إن فلاح المؤمن موقوف على اتصافه بتلك الصفات السامية العالية القدر ، العظيمة الأثر فى حياته الروحية ، وكمالاته النفسية.
روى عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه أنه قال : « كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى يسمع عند وجهه دوىّ كدوىّ النحل ، فأنزل عليه يوما ، فمكث ساعة ثم سرّى عنه ، فاستقبل القبلة فقال : اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنّا ، وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا ، ثم قال لقد أنزل علىّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ : قد أفلح المؤمنون حتى ختم العشر » .
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 16]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
تفسير المفردات
السلالة : ما سلّ من الشيء واستخرج منه ، وتارة تكون مقصودة كخلاصات الأشياء كالزّبد من اللبن ، وتارة تكون غير مقصودة كقلامة الظفر وكناسة البيت(18/7)
ج 18 ، ص : 8
وقرار : أي مستقر ، مكين : أي متمكن ، والعلقة : الدم الجامد ، والمضغة : قطعة اللحم قدر ما يمضغ ، تبارك اللّه : أي تعالى وتقدس.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أحوال السعداء المفلحين - قفّى على ذلك بذكر مبدئهم ومآل أمرهم وأمر غيرهم من بنى الإنسان ، وفى هذا إعظام للمنة ، وحث على الاتصاف بحميد الصفات ، وتحمل مئونة التكاليف ، ثم ذكر أن كل ذلك منته إلى غاية هى يوم القيامة الذي تبعثون وتحاسبون فيه على أعمالكم إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
الإيضاح
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) أي ولقد خلقنا أصل هذا النوع وأول أفراده ، وهو آدم عليه السلام من صفوة طين لا كدر فيه.
ويرى جماعة من المفسرين : أن المراد بالإنسان هنا ولد آدم وهم يقولون : إن النطف تتوالد من الدم الحادث من الأغذية وهى إما حيوانية وإما نباتية ، والحيوانية تنتهى إلى نباتية ، والنبات يتوالد من صفو الأرض والماء ، فالإنسان على الحقيقة متوالد من سلالة من طين ، ثم تواردت على تلك السلائل أطوار الخلقة إلى أن صارت نطفا (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي ثم جعلنا نسله نطفا فى أصلاب الآباء ، ثم قذفت إلى الأرحام ، فصارت فى حرز حصين من وقت الحمل إلى حين الولادة.
ونحو الآية قول : « أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ » .
(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) أي ثم خولنا النطفة من صفتها الثانية إلى صفة العلقة وهى الدم الجامد.
(فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي ثم جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم بمقدار ما يمضغ.(18/8)
ج 18 ، ص : 9
(فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) أي فصيرناها كذلك ، وميزنا بين أجزائها ، فما كان منها من العناصر الداخلة فى تكوين العظام جعلناه عظاما ، وما كان من مواد اللحم جعلناه لحما ، والمواد الغذائية شاملة لذلك ومنبثة فى الدم ، ومن ثم قال :
(فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) أي فجعلنا اللحم كسوة لها ، من قبل أنه يستر العظام ، فأشبه بالكسوة الساترة للجسم.
(ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) مباينا للخلق الأول ، إذ نفخنا فيه الروح وجعلناه حيوانا بعد ما كان أشبه بالجماد ، ناطقا سميعا بصيرا ، وأودعنا فيه من الغرائب ظاهرها وباطنها ما لا يحصى.
وقد قال العلماء : إن جميع أعضاء الإنسان مقسمة تقسيما دقيقا على نسب معينة مقيسة بشبره ، فطوله ثمانية أشبار بشبره ، وإذا مدّ يديه إلى أعلى كان عشرة أشبار بقياسه ، وإذا مد يديه إلى الجانبين كان طولهما كطوله على السواء ، ومن ثمّ جعل المصريون أصل المقاييس الشبر ، وجعلوا كل ضلع من أضلاع الهرم الأكبر بالجيزة ألف شبر بشبر الإنسان.
(فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي فتنزه ربنا جلت قدرته ، وهو أحسن المقدّرين المصورين.
عن أنس قال : قال عمر « وافقت ربى فى أربع ، قلت يا رسول اللّه لو صلينا خلف المقام فأنزل اللّه « وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى » وقلت يا رسول اللّه لو اتخذت على نسائك حجابا ، فإنه يدخل عليك البرّ والفاجر فأنزل اللّه « إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ » وقلت لأزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لتنتهنّ أو ليبدلنه اللّه أزواجا خيرا منكن فنزلت « عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ » الآية ونزلت « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ - إلى قوله - ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ، فقلت : فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ » فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : هكذا أنزلت يا عمر أخرجه الطيالسي.(18/9)
ج 18 ، ص : 10
(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) أي ثم إنكم بعد النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت.
(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) من قبوركم للحساب ثم المجازاة بالثواب والعقاب.
إذ يوفّى كل عامل جزاء عمله ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وخلاصة ما تقدم - إنه تعالى بعد أن ذكر أنه كلف عباده بما كلف - بين أن هذه التكاليف شكر من الإنسان لربه الذي أنشأه النشأة الأولى وقلّبه فى أطوار مختلفة حتى أوصله إلى طور هو غاية كماله ، فأصبح قادرا على تكليفه بتلك التكاليف ، ولا بد له من طور يستحق فيه الجزاء على ما كلّف به ، وهو طور البعث بعد الموت يوم القيامة.
ويقول الدكتور أحمد محمد كمال فى مجلة الدكتور ، إن كلمة (تراب) أو (طين) الواردة فى القرآن وردت بمعناها المجازى ، فالإنسان بل جميع الكائنات الحية تتركب كيميائيا من عناصر أولية جمعها الخالق سبحانه وتعالى وركبها فى شكل مادة كيميائية معقدة هى البروتوبلازم أي المادة الحيوية التي تتركب منها الخلايا والأنسجة الحيوانية والنباتية ، وهذه المادة الحيوية تتركب من عناصر الأكسجين والأيدروجين والكربون والأزوت والكبريت والفسفور والكالسيوم والصديوم والكلور والحديد والنحاس واليود إلخ.
فإذا نظرنا إلى التراب وقمنا بتحليل عينات منه وجدنا أنه يحتوى على نفس العناصر لأولية المذكورة.
وليس أدل على أن التعبير مجازى من أن جسم الإنسان أو الحيوان أو النبات عند ما يتحلل بعد الوفاة يتحول إلى رماد أو تراب بنفس العناصر.
ويقول الدكتور سالم محمد فى هذه المجلة إن الخلق فى قوله (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) ويكون إشارة إلى خلق آدم نفسه وقد يكون بمعنى أن النطفة فى كل من الذكر والأنثى ليدة عملية التغذية التي يتغذى بها الإنسان أو الجسم ، وأصل هذه التغذية ومنشؤها من تراب ، والنطفة هى الحيوان المنوي للذكر والبويضة للأنثى ، فإذا تم التلقيح بدأت البويضة فى الانقسام بدأ تطور العلقة وهى مجموعة من الخلايا الحية تنقسم إليها بويضة بعد تلقيحها. وإنما سميت فى هذا الطور علقة للشبه الكبير بينها وبين علق الماء(18/10)
ج 18 ، ص : 11
وطور العلقة فى حياة الجنين يبلغ أربعة أسابيع ، ثم تتطور العلقة إلى مضغة للشبه الكبير بينها وبين قطعة اللحم الممضوغة ويبلغ طور المضغة بضعة أسابيع ، ثم يبدأ ظهور خلايا العظام ، فاللحم أي العضلات التي تكسو هذه العظام.
وقوله (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي انه من هذه الخلايا ومن هذه الأطوار المتعددة يخرج اللّه لنا هذه الصورة الإنسانية الجميلة التي تشهد بقدرة الخالق وعظمته.
وقوله (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) فالقرار المكين هو الرحم ، ومن يدرس تشريح الرحم وموضعه المكين الأمين فى أسفل بطن المرأة ويرى ذلك الوعاء ذا الجدار المريض السميك ثم ترى هذه الأربطة العريضة والأربطة المستديرة ، وهذه الأجزاء من البريتون التي تشده إلى المثانة والمستقيم ، وكلها تحفظ توازن الرحم وتشد أزره ، وتحميه من الميل أو السقوط ، وتطول معه إذا ارتفع عند تقدم الحمل ، وتقصر إلى طولها الطبيعي تدريجا بعد الولادة. وكذلك من يدرس تكوبن الحوض عظامه يعرف جليا صدق قوله (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) وكذلك فى الرحم سائل أمينوس داخل جيب المياه يعوم فيه الجنين بحرية ويدفع عن الجنين ما قد تلاقيه الأم من صدمات وهزات عنيفة قد تصل إليه فتؤذيه إن لم يهدىء هذا السائل من قوتها ويضعف من شدتها. ثم هو يحتفظ للجنين بحرارة مناسبة حيث أنه موصل ردىء للحرارة ، وكذلك هو يقوم بعملية تحديد عنق الرحم وتوسيعه وقت الولادة (القرن) كما يقوم بعملية التطهير أمام الجنين بما فيه من خواص مطهرة ، فكل ذلك يزيد الرحم مكنة وأمنا.
وهكذا يبدو أن مصير هذا الكتاب العجيب الخالد لا يفنى ، وأن معين العلم والإلهام فيه لا يضمحل ولا يغيض ، وأن الدنيا ستظل تكشف فيه آفاقا بعد آفاق كلما تقدم العلم فتلقى ما بهذا الكتاب الكريم من إيحاءات وإشراقات (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ).(18/11)
ج 18 ، ص : 12
[سورة المؤمنون (23) : آية 17]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17)
تفسير المفردات
الطرائق : السموات واحدها طريقة أي مطروق بعضها فوق بعض من قولهم طارق بين ثوبين : إذا لبس ثوبا فوق ثوب ، قال الخليل والزجاج : وهذا كقوله « أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً » وقوله : « اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً » والخلق : أي المخلوقات التي منها السموات السبع ، غافلين : أي مهملين أمرها كما قال : « يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » .
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه خلق الإنسان فى أطواره المختلفة ، واستدل بذلك على قدرته وتفرده بالتصرف فى الملك والملكوت - أردفه بيان ما يحتاج إليه فى بقائه لما فيه من المنافع التي لا غنى له عنها
الإيضاح
(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) أي ولقد خلقنا فوقكم سبع سموات بعضها فوق بعض وهى أيضا طرق الكواكب المعروفة عند البشر قديما ، وهناك طرائق أخرى عرفها الناس حديثا.
(وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) أي وما كنا عن المخلوقات - سواء كانت هذه الطرائق أو غيرها - غافلين عن أمرها ، إذ تسير الكواكب فى تلك الطرائق بحساب منتظم ، ولو أهملناها لاختل توازنها وسار كل كوكب فى غير مداره أو زلّ نجم عن سنن سيره ، ففسد النظام العام للعالم العلوي والعالم الأرضى.(18/12)
ج 18 ، ص : 13
والخلاصة - إنا خلقنا السموات لمنافعهم ، ولسنا غافلين عن مصالحهم ، بل نفيض عليهم ما تقتضيه الحكمة ، فخلقها دال على كمال قدرتنا ، وتدبير أمرها دال على كمال علمنا.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 18 الى 20]
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
تفسير المفردات
السماء : هنا السحاب ، بقدر : أي بتقدير خاص وهو مقدار كفايتهم ، فأسكناه فى الأرض : أي جعلناه ثابتا قارا فيها ، والذهاب : الإزالة إما بإخراجه من المائية أو بتغويره فى الأرض بحيث لا يمكن استخراجه ، والشجرة : هى الزيتون ، وطور سيناء :
هو جبل الطور الذي ناجى فيه موسى ربه ، ويسمى طور سينين أيضا ، والصبغ :
ما يصبغ فيه الخبز أي يغمس فيه للائتدام ، قال فى المغرب : يقال صبغ الثوب بصبغ حسن ، وصباغ حسن ، ومنه الصّبغ والصباغ من الإدام ، لأن الخبز يغمس فيه ويلوّن به كالخل والزيت.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن من دلائل قدرته خلق الطرائق السبع - قفى على ذلك ببيان ما فيها من منافع للإنسان ، فمنها ينزل الماء الذي به تنشأ الجنات من النخيل والأعناب وكثير من أشجار الفاكهة التي تؤكل ، وينبت به شجر الزيتون الذي يؤخذ من ثمره الزيت الذي يتّخذ دهنا للأجسام ، وإداما فى الطعام.(18/13)
ج 18 ، ص : 14
الإيضاح
(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي وأنزلنا من السحاب مطرا بقدر الحاجة ، لا هو بالكثير فيفسد الأرض ، ولا هو بالقليل فلا يكفى الزرع والثمار ، حتى إن الأرضين التي تحتاج إلى ماء كثير لزرعها ولا تحتمل تربتها إنزال المطر عليها يساق إليها الماء من بلاد أخرى كما فى أرض مصر ، ويقال لمثلها (الأرض الجرز) فيساق إليها ماء النيل حاملا معه الطين الأحمر (الغرين) يجترفه من بلاد الحبشة فى زمن الأمطار فيستقر فيها ويكون سمادا لها ونافعا لزرعها.
وبعض هذا الماء يسكن فى الأرض فيتغذى به ما فيها من الحب والنوى ، ومنه تتكون الآبار والعيون التي تمر على معادن مختلفة ، فتتشكل بأشكالها وتتصف بصفاتها فيكون ماؤها حاويا إما للنوشادر وإما للكبريت وإما للأملاح وهكذا.
(وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) أي وإنا على ذهابه وإزالته لقادرون بحيث يتعذر استخراجه ، كما كنا قادرين على إنزاله ، ولو شئنا ألا يمطر السحاب لفعلنا ، ولو شئنا لصرفناه عنكم إلى جهات أخرى لا تستفيد منه كالأرضين السبخة والصحارى ، ولو شئنا لجعلناه إذا نزل فى الأرض يغور فيها إلى مدى بعيد لا تصلون إليه ولا تنتفعون به ، ولكن بلطفنا ورحمتنا ننزل عليكم الماء العذب الفرات ، ونسكنه فى الأرض ونسلكه ينابيع فيها ، لتسقوا به الزرع والثمار ، وتشربوا منه أنتم ودوابكم وأنعامكم.
(فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) أي فأخرجنا لكم بما أنزلنا من السماء بساتين فيها نخيل وأعناب.
(لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) أي لكم فى الجنات فواكه كثيرة تتمتعون بها زيادة على ثمرات النخيل والأعناب.
(وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي ومن زروع الجنات وثمارها ترزقون وتحصّلون معايشكم ،(18/14)
ج 18 ، ص : 15
كما يقال فلان يأكل من حرفة يحترفها ، ومن تجارة يتربح بها أي إنها طعمته وجهته التي منها يحصّل رزقه.
(وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) أي وأنشأنا لكم شجرة الزيتون التي تنبت فى هذا الجبل بتلك البقعة المباركة ، وتثمر زيتونا تصنع منه الزيوت التي يدّهن بها ، وتتخذ إداما للآكلين.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 21 الى 22]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
المعنى الجملي
بعد أن ذكرنا سبحانه بنعمة إنزال الماء من السماء الذي ينبت به جنات النخيل والأعناب والفواكه المختلفة والزيتون - أردفها ذكر النعم المختلفة التي سخّرها لنا من خلق الحيوان.
الإيضاح
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) أي إن فى خلق الأنعام لعبرة فضلا عن كونها نعمة ، ووجه العبرة فيها أن الدم المتوالد من الأغذية يتحول فى الغدد التي فى الضّرع إلى شراب طيب لذيذ الطعم صالح للتغذية ، وهذا من أظهر الدلائل على قدرة الخالق لها.
ثم فصّل منافعها وذكر منها أريعا فقال :
(1) (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) فتنتفعون بألبانها على ضروب شتى ، فتتخذون منها الققشدة والسمن والجبن ونحوها.
(2) (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) فتأخذون أصوافها وأشعارها وأوبارها ، وتتخذونها ملابس وفرشا للدفء وبيوتا فى الصحارى ونحوها مما يجرى هذا المجرى.
(3) (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي وتأكلون منها بعد ذبحها ، فكما انتفعتم بها وهى حية تنتفعون بها بعد الذبح بالأكل.(18/15)
ج 18 ، ص : 16
(4)َ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)
أي وتركبون ظهورها وتحمّلونها الأحمال الثقيلة إلى البلاد النائية كما قال فى آية أخرى : « وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ » وقال : « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ ؟ » .
وقصارى ذلك - إن فى خلق الأنعام عبرا ونعما من وجوه شتى ، ففيه دلائل على قدرة الخالق بخلق الألبان من مصادر هى أبعد ما تكون منها - ونعما لنا فى مرافقها وأعيانها ، فننتفع بألبانها وأصوافها ولحومها ونجعلها مطايا لنا فى أسفارنا إلى نحو أولئك من شتى المنافع.
قصة نوح عليه السلام
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 30]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)(18/16)
ج 18 ، ص : 17
تفسير المفردات
الملأ : أشراف القوم ، يتفضل : أي يدعى الفضل والسيادة ، جنة : أي جنون ، فتربصوا : أي انتظروا ، بأعيننا : أي بحفظنا ورعايتنا ، وفار : نبع ، والتنور : وجه الأرض ، استويت : أي علوت ، لآيات : أي عبرا ، لمبتلين : أي لمختبرين ممتحنين لهم : أي لمعامليهم معاملة من يختبر.
المعنى الجملي
بعد أن عدد سبحانه ما أنعم به على عباده فى نشأتهم الأولى وفى خلق الماء لهم لينتفعوا به ، وفى خلق الحيوان كذلك - ذكر هنا أن كثيرا من الأمم قد أهملوا التدبر والاعتبار فى هذا ، فكفروا بهذه النعم ، وجهلوا قدر المنعم بها ، وعبدوا غيره ، وكذبوا رسله الذين أرسلوا إليهم ، فحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ، وأهلكهم بعذاب من عنده ، فأصبحوا كأمس الدابر ، والمثل السائر ، وفى هذا تخويف لقريش ، وإنذار لهم على ما يفعلون ، وأنه سيحل بهم ما داموا على تكذيب رسولهم والكفر به مثل ما حل بمن قبلهم.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه منذرا لهم عذاب اللّه وشديد بأسه وانتقامه على إشراكهم به وتكذيب رسوله ، فقال لهم متعطفا عليهم مستميلا لهم لقبول الحق : يا قوم اعبدوا اللّه وحده وأطيعوه ، ولا تشركوا معه ربا سواه ، فإنه لا رب لكم غيره ، ولا معبود سواه.
(أَفَلا تَتَّقُونَ ؟ ) أي أفلا تخشون عقابه فتحذروا أن تعبدوا معه سواه ؟ .
(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي فقال أشراف قومه ورؤساؤهم من العريقين فى الكفر ومن ذوى الكلمة المسموعة والرأى المطاع : ما نوح إلا رجل منكم ليس له ميزة عليكم فى فضل ولا خلق فيكون(18/17)
ج 18 ، ص : 18
أهلا للنبوة وتلقى الوحى من ربه وما هو إلا رجل يريد أن يسودكم ويكون له الصّولة والسلطان عليكم ، وقد ادعى الرسالة ليصل إلى ما تصبو إليه نفسه وليس له من حقيقتها شىء.
وبعد أن بينوا أن لا مقتضى لاختصاصه بالنبوة ذكروا الموانع التي تحول بينه وبينهما فذكروا أمورا ثلاثة :
(1) (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) أي ولو شاء اللّه ألا نعبد سواه لأرسل بالدعاء إلى ما يدعوكم إليه نوح ملائكة تؤدى إليكم رسالته.
(2) (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي ما سمعنا فى القرون الغابرة عهود الآباء والأجداد بمثل هذا الذي يدعو إليه نوح من أنه لا إله إلا إله واحد لا ربّ غيره ولا معبود سواه.
وفى هذا إيماء إلى أنهم قوم لا رأى لهم ، وإنما يعولون على التقليد وقول الآباء والأجداد ، فلما لم يجدوا عن آبائهم شيئا مثل هذا أنكروا نبوّته ، وفيه إشارة أيضا إلى أنهم قد بلغوا الغاية فى العناد والتكذيب والانهماك فى الغى والضلال.
(3) (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي وما نوح إلا رجل به خبل فى عقله ، فمزاعمه لا تصدر إلا من رجل لا يزن قوله ، ولا يدعم رأيه بحجة ناصعة ، فلا يلتفت إذا إلى ما يدّعى ، ولا ينبغى أن نضيع الوقت فى محاجّته ، ودحض مزاعمه فى صدق دعوته.
وبعد أن ذكروا موانع نبوّته ذكروا الطريقة المثلى فى إبطال دعوته فقالوا :
(فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) أي فتلبثوا وانتظروا ، لعله يضيق مما هو فيه فيعود سيرته الأولى ، ويرجع من تلقاء نفسه إلى دينكم ودين آبائكم وأجدادكم.
وهذا من مكابراتهم لفرط عنادهم ، إذ هم يعلمون أنه أرجح الناس عقلا ، وأرزنهم قولا.
ولم يردّ سبحانه على هذه الشبه لسخافتها ووضوح فسادها ، إذ كل عاقل يعلم أن الرسول يتميز من غيره بالمعجزات التي تأتى على يديه سواء أ كان ملكا أم بشرا(18/18)
ج 18 ، ص : 19
وإرادته التفضل عليهم إن كانت لأجل أن يستبين فضله حتى ينقادوا له فلا ضير فى ذلك بل هو واجب ، وإن أرادوا أنه يبغى التجبر عليهم فالأنبياء منزهون عن ذلك ، وقولهم :
ما سمعنا بهذا فى آبائنا الأولين ، اعتناق للتقليد وهو لا يصلح حجة تدفع بها حجج المعارضين الواضحة وضوح الشمس فى رائعة النهار ، وقولهم : به جنة كذب صراح.
لأنهم يعلمون ذكنه ، وعظيم فطنته ، وما أوتيه من أصالة الرأى ، وثاقب الفكر.
ولما استبان لنوح إصرارهم على ضلالهم وتماديهم فى غيّهم ويأسه من إيمانهم وأوحى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن - طلب إلى ربه أن ينصره عليهم :
(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي قال رب انصرني بإنجاز ما أوعدتهم به من العذاب بقولي « إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ » .
ونحو الآية قوله : « فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ » وقوله : « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً » .
وقد أجاب اللّه دعاءه فقال :
(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) أي فقلنا حين استنصرنا على كفرة قومه : اصنع السفينة بحفظنا ورعايتنا لك ، من التعدي عليك ، وتعليمنا إياك كيفية صنعها.
(فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) أي فإذا جاء قضاؤنا من قومك بعذابهم وهلاكهم ، ونبع الماء من وجه الأرض - فأدخل فيها من كل طائفة من الحيوان فردين مزدوجين كناقة وجمل ، وحصان ورمكة ، وأدخل ولدك ونساءهم إلا من سبق عليه القول منا بأنه هالك فيمن يهلك ، فلا تحمله معك وهو كنعان وأمه.
(وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي ولا تسألنى أن أنجّى الذين كفروا باللّه من الغرق. فإن كلمتى قد حقت عليهم أجمعين.(18/19)
ج 18 ، ص : 20
ثم أمره بحمده والثناء عليه إذا هو استوى على الفلك فقال :
(فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فإذا اطمأننت فى السفينة أنت ومن معك ممن حملته من أهلك ، فقل الحمد للّه الذي نجانا من هؤلاء المشركين الظلمة.
وفى هذا إيماء إلى أنه لا ينبغى المسرة بمصيبة أحد ولو عدوّا إلا إذا اشتملت على دفع ضرره أو تطهير الأرض من دنس شركه وإضلاله.
قال ابن عباس : كان فى السفينة ثمانون إنسانا نوح وامرأته غير التي غرقت وثلاثة بنين سام وحام ويافث ، وثلاث نسوة لهم واثنان وسبعون إنسانا ، وكل الخلائق من نسل من كان فى السفينة.
ثم أمر نوح أن يدعو ربه حين خروجه من السفينة.
(وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) أي وقل إذا سلمت وخرجت من السفينة : رب أنزلنى من الأرض منزلا مباركا وأنت خير من أنزل عباده المنازل.
قال قتادة : علمكم اللّه أن تقولوا حين ركوب السفينة : « بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها » وحين ركوب الدابة : « سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ » وحين النزول : « وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ » (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) أي إن فيما فعلنا بقوم نوح من إهلاكهم إذ كذبوا رسولنا وجحدوا وحدانيتنا وعبدوا الآلهة والأصنام - لعبرا لقومك من مشركى قريش ، وحججا لنا عليهم يستدلون بها على سنننا فى أمثالهم فينزجرون عن كفرهم ، ويرتدون عن تكذيبهم حذر أن يصيبهم مثل الذي أصاب من قبلهم من العذاب ، وقد كنا مختبريهم بالتذكير بهذه الآيات لننظر ماذا يفعلون قبل أن ننزل بهم عقوبتنا.
ونحو الآية قوله : « وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ » وقد تقدم هذا القصص بتفصيل فى سورة هود عليه السلام.(18/20)
ج 18 ، ص : 21
قصة هود عليه السلام
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 الى 41]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
تفسير المفردات
القرن : الأمة ، والمراد بهم عاد قوم هود لقوله تعالى فى سورة الأعراف :
« وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ » أترفناهم : أي وسّعنا عليهم وجعلناهم فى ترف ونعيم ، لخاسرون : أي لمغبونون فى آرائكم ، إذ أنكم أذللتم أنفسكم لعبادة من هو دونكم ، هيهات : أي بعد ، ما توعدون : هو البعث والحساب ، بمؤمنين :
أي بمصدقين ، عما قليل : أي بعد زمان قليل ، ليصبحنّ : أي ليصيرنّ ، والصيحة :
العذاب الشديد كما قال :
صاح الزمان بآل برمك صيحة خرّوا لشدتها على الأذقان(18/21)
ج 18 ، ص : 22
والغثاء : ما يحمله السيل من الورق والعيدان البالية التي لا ينتفع بها ، بعدا :
أي هلاكا.
الإيضاح
(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ. فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، أَفَلا تَتَّقُونَ ؟ ) أي ثم أوجدنا من بعد مهلك قوم نوح قوما آخرين وهم عاد ، فأرسلنا فيهم رسولا منهم ، وهو هود عليه السلام داعيا لهم قائلا : يا قوم اعبدوا اللّه وأطيعوه دون الأوثان والأصنام ، فإن العبادة لا تنبغى إلا له ، ولا تصلح لسواه ، أفلا تخافون عقابه بعبادتكم غيره من وثن أو صنم ؟
(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) أي وقال أشراف قومه الذين جحدوا وحدانية اللّه وكذبوا بالبعث والحساب ، وقد وسعنا عليهم فى الحياة الدنيا بما بسطنا لهم من الرزق حتى بطروا وعتوا وكفروا بربهم : ما هود إلا بشر مثلكم لا ميزة له عنكم ، فهو يأكل مما تأكلون ، ويشرب مما تشربون ، ومرادهم بذلك توهين أمره ، وتحقير شأنه.
(وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) أي ولئن أطعتم بشرا مثلكم فاتبعتموه وقبلتم ما يقول : إنكم إذا لمغبونون حظوظكم من الشرف والرفعة فى الدنيا.
ثم بينوا سبب إنكارهم لاتباعه ، واستبعادهم وقوع ما يدعيه بقولهم :
(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) أي أ يعدكم أنكم مخرجون من قبوركم أحياء كما كنتم أولا إذا متم وكنتم ترابا فى القبور بعد أن تذهب لحومكم وتبقى عظامكم.
(هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) أي بعد ما توعدون أيها القوم من أنكم بعد موتكم ومصيركم ترابا وعظاما تخرجون من قبوركم للبعث والحساب ثم الجزاء على ما تعملون(18/22)
ج 18 ، ص : 23
ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم :
(إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) أي ما حياة إلا هذه حياة فى الدنيا ، تموت الأحياء منا فلا تحيا ، ويحدث آخرون منا ويولدون ، وما نحن مبعوثين بعد الموت ، إنما مثلنا مثل الزرع يحصد هذا وينبت ذاك والخلاصة - إنه يموت منا من هو موجود ، وينشأ آخرون بعدهم.
وبعد أن كان أمرهم معه مقصورا على الاستبعاد فحسب ، جاهروا بتكذيبه فيما يدعى فقالوا :
(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) أي ما هود إلا رجل يختلق الكذب على اللّه ، فتارة يقول : مالكم من إله غير اللّه خالق السموات والأرض وأخرى يقول : إنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما إنكم مخرجون ، وما نحن بمصدقيه فيما يدّعى ويزعم من التوحيد والبعث.
ولما يئس هود من إيمانهم بعد ذكر هذه المقالة « وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ » فزع إلى ربه (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي قال بعد أن يئس من إيمانهم وقد سلك فى دعوتهم كل مسلك ، متضرعا إلى ربه : رب انصرني عليهم وانتقم لى منهم بتكذيبهم إياى فيما دعوتهم إليه من الحق وإصرارهم على الباطل.
فأجابه ربه إلى ما سأل.
(قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) أي قال تعالى مجيبا دعاءه : ليصيرنّ مكذبوك بعد زمن قليل نادمين على ما فعلوا ، وستحل بهم نقمتنا ، ولا ينفعهم الندم حينئذ.
ثم أخبر أنه أنجز وعيده فيهم فقال :
(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) أي فسلطنا عليهم نقمتنا فأخذهم العذاب الذي لا قبل لهم به ، وقد كانوا لمثله مستحقين ، بسبب كفرهم وتكذيبهم برسوله ، فجعلناهم كغثاء السيل ، لاغناء فيهم ، ولا فائدة ترجى منهم.(18/23)
ج 18 ، ص : 24
(فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فأبعد اللّه القوم الكافرين بهلاكهم ، إذ كفروا بربهم وعصوا رسوله وظلموا أنفسهم.
وفى هذا من الذلة والمهانة لهم والاستخفاف بأمرهم ما لا يخفى ، وأن الذي ينزل بهم فى الآخرة من البعد من النعيم والثواب أعظم مما حل بهم من العقاب فى الدنيا ، وفيه عظيم العبرة لمن بعدهم ممن هم عرضة لمثله.
قصص صالح ولوط وشعيب وغيرهم
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 الى 44]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)
تفسير المفردات
تترى ، من المواترة : وهى التتابع بين الأشياء مع فترة ومهلة بينها قاله الأصمعى.
أحاديث : واحدها أحدوثة ، وهى ما يتحدث به تعجبا منه وتلهيا به ، وقد جمعت العرب ألفاظا على أفاعيل كأباطيل وأقاطيع ، وقال الزمخشري : الأحاديث اسم جمع للحديث ومنه أحاديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولكن الجمهور على أنه جمع كما علمت.
الإيضاح
(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) أي ثم أنشأنا من بعد هلاك عاد أقواما آخرين ، كقوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم.
(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي ما تتقدم أمة من تلك الأمم المهلكة الوقت الذي قدّر لهلاكهم وما يستأخرون عنه.
والخلاصة - ما تهلك أمة قبل مجىء أجلها ولا بعده ، فلكل شىء ميقات لا يعدوه.(18/24)
ج 18 ، ص : 25
(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) أي ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ، وقد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولا خاصا به ، بعضهم فى إثر بعض.
(كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) أي كلما بلّغهم الرسول ما جاء به من عند ربه من الشرائع والأحكام كذبوه ، كما فعل قومك بك حين أمرتهم بذلك.
(فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) أي فأهلكنا بعضهم فى إثر بعض حين تألّبوا على رسلهم وكذبوهم.
(وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) يتحدث بها للناس ويتلهّون بذكرها.
ونحو الآية قوله : « فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ » .
ولما ترتب على تكذيبهم الهلاك المقتضى لبعدهم قال :
(فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) أي فأبعد اللّه قوما لا يؤمنون به ولا يصدقون برسوله قصة موسى وهرون عليهما السلام
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 الى 49]
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
تفسير المفردات
الآيات : هى الآيات التسع التي سبقت فى سورة الأعراف ، والسلطان : الحجة عالين : أي متكبرين ، عابدون : أي خدم منقادون ، قال أبو عبيدة : العرب تسمى كل من دان للملك عابدا ، وقال المبرد : العابد : المطيع الخاضع ، الكتاب : هو التوراة.
الإيضاح
(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) أي ثمّ أرسلنا بعد الرسل الذين تقدم ذكرهم من قبل - موسى(18/25)
ج 18 ، ص : 26
وأخاه هرون إلى فرعون وأشراف قومه من القبط ، بالآيات والحجج الدامغة ، والبراهين القاطعة ، فاستكبروا عن اتباعهما والانقياد لما أمروا به ودعوا إليه ، من الإيمان وترك تعذيب بنى إسرائيل كما جاء فى سورة النازعات : « اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى » وقد كان من دأبهم العتوّ والبغي على الناس وظلمهم كبرا وعلوا فى الأرض.
ثم ذكر ما استتبعه هذا العتو والجبروت.
(فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ ؟ ) أي فقال فرعون وملؤه كيف ندين لموسى وأخيه ، وبنو إسرائيل قومهما خدمنا وعبيدنا يخضعون لنا ويتلقّون أوامرنا ؟
وما قصدوا بهذا إلا الزراية بهما والحط من قدرهما ، وبيان أن مثلهما غير جدير بمنصب الرسالة ، وقد قاسوا الشرف الديني والإمامة فى تبليغ الوحى عن اللّه بالرياسة الدنيوية المبنية على نيل الجاه والمال.
وهم فى هذا أشبه بقريش إذ قالوا : « لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ » وقد فاتهم أن مدار أمر النبوة والاصطفاء للرسالة إنما هو السبق فى الفضائل النفسية والصفات السنية التي يتفضل اللّه بها على من يشاء من عباده ، فالأنبياء لصفاء نفوسهم يتصلون بالعالم العلوي وعالم المادة ، فيتلقون الوحى من الملأ الأعلى ويبلغونه إلى البشر ، ولا يعوقهم التعلق بمصالح الخلق ، عن التبتل والانقطاع إلى حضرة الحق.
وإن تعجب من شىء فاعجب لهؤلاء وأمثالهم ممن لم يرض النبوة للبشر ، كيف سوّغت لهم أنفسهم ادعاء الألوهية للحجر : « فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ » .
ثم ذكر عاقبة أعمالهم وما آل إليه أمرهم فقال :
(فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) أي فأصر فرعون وملؤه على تكذيب موسى(18/26)
ج 18 ، ص : 27
وهرون ، فأهلكهم اللّه بالغرق فى بحر القلزم (البحر الأحمر) كما أهلك من قبلهم من الأمم بتكذيبهم لرسلهم.
ثم ذكر ما أولاه موسى بعد هلاكهم من التشريف والتكريم فقال :
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي ولقد أنزلنا على موسى التوراة وفيها الأحكام من الأوامر والنواهي بعد أن أهلكنا فرعون وملأه وأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ، رجاء أن يهتدى بها قومه إلى الحق ، ويعملوا بما فيها من الشرائع.
قصص عيسى عليه السلام إجمالا
[سورة المؤمنون (23) : آية 50]
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)
تفسير المفردات
الآية : الحجة والبرهان ، وآويناهما : أي جعلنا مأواهما ومنزلهما الربوة : وهى ما ارتفع من الأرض دون الجبل ، ذات قرار : أي ذات استقرار للناس لما فيها من الزرع والثمار ، ومعين : أي ماء جار.
الإيضاح
(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) أي وجعلنا عيسى آية للناس دالة على عظيم قدرتنا وبديع صنعنا ، إذ خلقناه من غير أب ، وأنطقناه فى المهد ، وأجرينا على يديه إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، وجعلنا أمه آية إذ حملته من غير أب.
وجعلهما آية واحدة ، لأنهما اشتركا فى هذا الأمر العجيب الخارق للعادة وهو الولادة بلا أب.
ونحو الآية قوله : « وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ » .
(وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) أي وجعلناهما ينزلان بمرتفع من الأرض ذى ثمار وماء جار كثير.(18/27)
ج 18 ، ص : 28
قال قتادة : الربوة : بيت المقدس ، وقال مقاتل والضحاك : هى غوطة دمشق إذ هى ذات الثمار والماء.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 الى 56]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55)
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)
تفسير المفردات
الطيبات : ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه ، أمتكم : أي ملتكم وشريعتكم ، فتقطعوا : أي قطّعوا ومزّقوا ، أمرهم : أي أمر دينهم ، زبرا : أي قطعا واحدها زبور ، فذرهم : أي فدعهم واتركهم ، وأصل الغمرة الماء الذي يغمر القامة ويسترها والمراد بها الجهالة ، حتى حين : أي إلى أن يموتوا فيستحقوا العذاب ، نمدهم :
أي نعطيه مددا لهم.
المعنى الجملي
بعد أن قص سبحانه علينا قصص بعض الأنبياء السالفين - عقّب هذا ببيان أنه أوصاهم جميعا بأن يأكلوا من الحلال ، ويعملوا صالح الأعمال ، كفاء ما أنعم به عليهم من النعم العظيمة ، والمزايا الجليلة التي لا يقدر قدرها ، ثم حذرهم وأنذرهم بأنه عليم بكل أعمالهم ، ظاهرها وباطنها ، لا تخفى عليه من أمورهم خافية ، ثم أرشدهم إلى أن الدين الحق واحد لا تعدد فيه ، ولكن الأمم قد فرقت دينها شيعا ، وكل أمة فرحة مسرورة بما تدين به كما هى حال قريش ، ثم خاطب رسوله بأن يتركهم وما يعتقدون إلى حين ، ثم ذكر أنهم فى عماية حين ظنوا أن ما أوتوه من النعم هو حظوة من(18/28)
ج 18 ، ص : 29
ربهم لهم - كلا ، فهم لا يشعرون بحقيقة أمرهم وعاقبة حالهم ، ولو عقلوا لعلموا أنهم فى سكرتهم يعمهون.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً) أمر اللّه كل نبى فى زمانه بأن يأكل من المال الحلال مالذّ وطاب ، وأن يعمل صالح الأعمال ، ليكون ذلك كفاء ما أنعم به عليه من النعم الظاهرة والباطنة.
وهذا الأمر وإن كان موجها إلى الأنبياء فإن أممهم تبع لهم ، وكأنه يقول لنا :
أيها المسلمون فى جميع الأقطار ، كلوا من الطيبات أي من الحلال الصافي القوّام - الحلال ما لا يعصى اللّه فيه ، والصافي ما لا ينسى اللّه فيه ، والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل - واعملوا صالح الأعمال.
أخرج أحمد وابن أبى حاتم وابن مردويه والحاكم عن أم عبد اللّه أخت شداد ابن أوس رضى اللّه عنها أنها بعثت إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بقدح لبن حين فطره وهو صائم ، فرد إليها رسولها وقال : من أين لك هذا ؟ فقالت من شاة لى ، ثم رده وقال : من أين هذه الشاة ؟ فقالت اشتريتها بمالى فأخذه ، فلما كان من الغد أمته وقالت يا رسول اللّه : لم رددت اللبن ؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : أمرت الرسل ألا يأكلوا إلا طيبا ، ولا يعملوا إلا صالحا.
و
أخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن أبى هريرة قال : قال صلّى اللّه عليه وسلّم : « أيها الناس! إن اللّه تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن اللّه تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : « يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ » وقال « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ » ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذّى بالحرام ، يمدّ يديه إلى السماء ، يا رب يا رب فأنى يستجاب له » ؟(18/29)
ج 18 ، ص : 30
وفى تقديم أكل الطيبات على العمل الصالح إيماء إلى أن العمل الصالح لا يتقبّل إلا إذا سبق بأكل المال الحلال.
وجاء فى بعض الأخبار « إن اللّه تعالى لا يقبل عبادة من فى جوفه لقمة من حرام »
وصح أيضا
« أيّما لحم نبت من سحت فالنار أولى به » .
ثم علل هذا الأمر بقوله :
(إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أي إنى بأعمالكم عليم ، لا يخفى على شىء منها ، وأنا مجازيكم بجميعها ، وموفّيكم أجوركم ، وثوابكم عليها ، فخذوا فى صالح الأعمال ، واجتهدوا قدر طاقتكم فيها ، شكرا لربكم على ما أنعم به عليكم وفى هذا تحذير من مخالفتهم ما أمروا به ، وإذا قيل للأنبياء ذلك فما أجدر أممهم أن تأخذ حذرها ، وترعوى عن غيها ، وتخشى بأس اللّه وشديد عقابه.
(وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي وإن دينكم معشر الأنبياء دين واحد وملة واحدة ، وهو الدعوة إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له.
واختلاف الشرائع والأحكام بحسب اختلاف الأزمان والأحوال لا يسمى اختلافا فى الدين ، لأن الأصول واحدة.
(وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) أي وإنى أنا ربكم لا شريك لى فى الربوبية فاحذرو عقابى وخافوا عذابى.
وفى هذا إيماء إلى أن دين الجميع واحد فيما يتصل بمعرفة اللّه واتقاء معاصيه.
ثم بين أن أمم أولئك الرسل خالفوا أمر رسلهم واتبعوا أهواءهم وجعلوا دينهم فرقا وشيعا فقال :
(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي فتفرق أتباع الأنبياء فرقا وجماعات ، وأصبح كل فريق معجبا بنفسه ، فرحا بما عنده ، معتقدا أنه الحق الذي لا معدل عنه.(18/30)
ج 18 ، ص : 31
فيا أتباع الأنبياء. أين عقولكم ؟ إن اللّه أرسل إليكم رسلا فجعلتموهم محل الشقاق ومثار النزاع ، لم هذا ؟ هل اختلاف الشرائع مع اتحاد الأصول والعقائد ينافى المودة والمحبة ؟ وأين أنتم يا أتباع محمد ؟ ما لكم كيف تفرقتم أحزابا ؟ هل اختلاف المذاهب كشافعية ومالكية ، وزيدية وشيعة يفرق العقيدة ؟ وكيف يكون هذا سبب التفرقة فهل تغير الدين ؟ وهل تغير القرآن ؟ وهل تغيرت القبلة ؟ وهل حدث إشراك ؟ كلا كلا ، فإذا كان العيب قد لحق الأمم المختلفة على تنابذها ، فما أجدركم أن يلحقكم الذم على تنابذكم وأنتم أهل دين واحد.
ولا علة لهذا إلا لجهالة الجهلاء ، فقد خيّم الجهل فوق ربوعكم ومدّت طنبه بين ظهرانيكم ، لأنكم فرطتم فى كتاب ربكم : ظننتم أن أسس الدين هى مسائل العبادات والأحكام ، وتركتم الأخلاق وراءكم ظهريا ، وتركتم آيات التوحيد والنظر فى الأكوان ولو أنكم نظرتم إلى شىء من هذا لعلمتم أن كل ذلك من دينكم وأنتم عنه غافلون.
وبعد أن ذكر سبحانه ما حدث من أمم أولئك الأنبياء من التفرّق والانقسام فيما كان يجب عليهم فيه اتفاق الكلمة ، ومن فرحهم بما فعلوا - أمر نبيه أن يتركهم فى جهلهم الذي لا جهل فوقه ، لأنه لا ينجع فيهم النصح ، ولا يجدى فيهم الإرشاد فقال :
(فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) أي فذرهم فى غيّهم وضلالهم إلى حين يرون العذاب رأى العين.
ونحو الآية قوله : « فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً » وقوله : « ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ » .
وقد جعلوا فى غمرة تشبيها لحالهم حين ستر الجهل والحيرة عقولهم بحال من غمره الماء وغطّاه.
ثم بين خظأهم فيما يظنون من أن سعة الرزق فى الدنيا علامة رضا اللّه عنهم فى الآخرة فقال :
(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ)(18/31)
ج 18 ، ص : 32
أي أ يظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد ، كرامة لهم علينا وإجلالا لأقدارهم عندنا - كلا ، إن هذا الإمداد ليس إلا استدراجا فى المعاصي ، واستجرارا لهم إلى زيادة الإثم ، وهم يحسبونه مسارعة فى الخيرات ، إذ هم أشبه بالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا فى أنه - استدراج هو أم مسارعة فى الخيرات ؟
ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم : « وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ » وقوله : « فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا » وقوله : « إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً » .
قال قتادة فى تفسير الآية : مكر اللّه بالقوم فى أموالهم وأولادهم. يا ابن آدم لا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم ، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح.
وعن ابن مسعود رضى اللّه عنه قال : قال صلّى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه قسم بينكم أخلاقكم ، كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن اللّه يعطى الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطى الدين إلا من أحب ، فمن أعطاه اللّه الدين فقد أحبّه ، والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه ، قالوا وما بوائقه يا رسول اللّه ؟ قال : غشّه وظلمه » .
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 61]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)
تفسير المفردات
الخشية : الخوف من العقاب ، والإشفاق نهاية الخوف والمراد لازمه ، وهو دوام الطاعة ، والآيات : هى الآيات الكونية فى الأنفس والآفاق والآيات المنزلة ، وجلة :
أي خائفة ، سابقون : أي ظافرون بنيلها.(18/32)
ج 18 ، ص : 33
المعنى الجملي
بعد أن ذم سبحانه من فرقوا دينهم شيعا وفرحوا بما عملوا وظنوا أن ما نالوه من حظوظ الدنيا هو وسيلة لنيل الثواب فى الآخرة ، وبين أنهم واهمون فيما حسبوا - قفّى على ذلك بذكر صفات من له المسارعة فى الخيرات ، ومن هو جدير بها.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي إن الذين هم من خوفهم من عذاب ربهم دائبون فى طاعته ، جادّون فى نيل مرضاته ، فهم فى نهاية الخوف من سخطه عاجلا ، ومن عذابه آجلا ، ومن ثم يبتعدون عن الآثام والمعاصي.
(وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أي والذين هم بآيات ربهم الكونية التي نصبها فى الأنفس والآفاق دلالة على وجوده ووحدانيته ، وبآياته المنزّلة على رسله - مصدّقون موقنون ، لا يعتريهم شك ولا ريب.
(وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) أي والذين لا يعبدون مع اللّه سواه ، ويعلمون أنه الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي ليس له صاحبة ولا ولد.
وفيما سبق وصف للّه بتوحيد الربوبية ، وهنا وصف له بتوحيد الألوهية ، ولم يقتصر على الأول ، لأن كثيرا من المشركين يعترفون بتوحيد الربوبية كما قال :
«
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ » ولا يعترفون بتوحيد الألوهية والعبادة ، ومن ثم عبدوا الأصنام والأوثان على طرائق شتى ، وعبدو معبودات مختلفة.
(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أي والذين يعطون ما أعطوا ، ويتصدقون بما تصدقوا ، وقلوبهم خائفة ألا يتقبّل ذلك منهم ، وألا يقع على الوجه المرضى حين يبعثون ويرجعون إلى ربهم ، وتنكشف الحقائق ، ويحتاج العبد إلى عمل مقبول لديه وإن قل « فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ » .(18/33)
ج 18 ، ص : 34
ويدخل فى قوله : (يُؤْتُونَ ما آتَوْا) كل حق يلزم إيتاؤه ، سواء أ كان من حقوق اللّه كالزكاة والكفارة وغيرها أم من حقوق العباد كالودائع والديون والعدل بين الناس ، فمتى فعلوا ذلك (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ، من التقصير والإخلال بها بنقصان أو غيره) اجتهدوا فى أن يوفّوها حقّها حين الأداء.
وسألت عائشة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن قوله : « (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أ هو الذي يزنى ويشرب الخمر ، ويسرق وهو على ذلك يخاف اللّه تعالى ؟ فقال لا يا بنة الصديق ، ولكن هو الرجل يصلى ويصوم ويتصدق ويخاف أ لا يقبل ذلك منه.
(أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي أولئك الذين جمعوا هذه المحاسن يرغبون فى الطاعات أشد الرغبة ، فيبادرونها لئلا تفوتهم إذا هم ماتوا ، ويتعجلون فى الدنيا وجوه الخيرات العاجلة التي وعدوا بها على الأعمال الصالحة فى نحو قوله : « فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ » وقوله : « وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ » (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) أي إنهم يرغبون فى الطاعات وهم لأجلها سابقون الناس إلى الثواب ، لا أولئك الذين أمددناهم بالمال والبنين فظنوا غير الحق أن ذلك إكرام منّا لهم ، فإن إعطاء المال والبنين والإمداد بهما لا يؤهل للمسارعة إلى الخيرات ، وإنما الذي يؤهل للخيرات هو خشية اللّه وعدم الإشراك به وعدم الرياء فى العمل والتصديق مع الخوف منه.
ومعنى (هم لها) أنهم معدون لفعل مثلها من الأمور العظيمة ، كقولك لمن يطلب منه حاجة لا ترجى من غيره - أنت لها - وعلى هذا قوله :
مشكلات أعضلت ودهت يا رسول اللّه أنت لها
وخلاصة ذلك - إن النعم ليست هى السعادة الدنيوية ونيل الحظوظ فيها ، بل هى العمل الطيب ، بإيتاء الصدقات ونحوها مع إحاطة ذلك بالخوف والخشية.(18/34)
ج 18 ، ص : 35
[سورة المؤمنون (23) : آية 62]
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)
تفسير المفردات
الوسع : ما يتسع على الإنسان فعله ولا يضيق عليه ، والكتاب : هو صحائف الأعمال ، بالحق : أي بالصدق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه صفات المؤمنين المخلصين الذين يسارعون إلى الخيرات - أرشد إلى أن ما كلّفوا به سهل يسير لا يخرج عن حد الوسع والطاقة ، وأنه مهما قلّ فهو محفوظ عنده فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى ، وهو لا يظلم أحدا من خلقه ، بل يجزى بقدر العمل ، وبما نطقت به الصحف على وجه الحق والعدل.
الإيضاح
(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي إن سنتنا جارية على ألا نكلف نفسا إلا ما فى وسعها وقدر طاقتها ، ومن ثم قال مقاتل : من لم يستطع القيام فى الصلاة فليصلّ قاعدا ، ومن لم يستطع القعود فليوم إيماء.
(وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ) أي وليدنا صحائف أعمالهم يقرءونها حين الحساب ، وتظهر فيها أعمالهم التي عملوها فى الدنيا دون لبس ولا ريب ، ويجازون على الجليل منها والحقير ، والقليل والكثير.
ونحو الآية قوله « هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » وقوله : « لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها » .
ثم بين فضله على عباده وعدله بيننهم فى الجزاء إثر بيان لطفه فى التكليف وكتابة الأعمال على ما هى عليه فقال :
(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي وهم لا يظلمون فى الجزاء بنقص ثواب أو زيادة عذاب ، بل يجازون مما عملوا ونطقت به كتبهم بالعدل والحق.(18/35)
ج 18 ، ص : 36
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 63 الى 77]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
تفسير المفردات
الغمرة : الغفلة والجهالة ، من دون ذلك : أي غير ذلك ، والمترف : المتوسع فى النعمة ، وجأر الرجل : صلح ورفع صوته ، لا تنصرون : أي لا يجيركم أحد ولا ينصركم ، تنكصون : أي تعرضون عن سماعها ، وأصل النكوص : الرجوع على(18/36)
ج 18 ، ص : 37
الأعقاب (العقب مؤخر الرّجل) ورجوع الشخص على عقبه : رجوعه فى طريقه الأولى كما يقال رجع عوده على بدئه ، سامرا : أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه ، والهجر (بالضم) الهذيان ، والجنّة : الجنون ، والذكر : القرآن الذي هو فخرهم ، عن ذكرهم : أي فخرهم ، خرجا : أي جعلا وأجرا ، صراط مستقيم : أي طريق لا عوج فيه ، لنا كبون : أي عادلون عن طريق الرشاد ، يقال نكب عن الطريق : إذا زاغ عنه ، لج فى الأمر : تمادى فيه ، يعمهون : أي يتحيرون ويترددون فى الضلال ، واستكانوا : خضعوا وذلوا ، وما يتضرعون : أي يجددون التضرع والخضوع ، مبلسون :
أي متحيرون آيسون من كل خير.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه سجاحه هذا الدين ، وأنه دين يسر لا عسر ، فلا يكلفها النفس إلا ما تطيق ، وأن ما يعمله المرء فهو محفوظ فى كتاب لا يبخس منه شيئا ولا يزاد له فيه شى ء - أردف هذا بيان أن المشركين فى غفلة عن هذا الذي بيّن فى القرآن ، ولهم أعمال سوء أخرى من فنون الكفر والمعاصي ، كطعنهم فى القرآن واستهزائهم بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وإيذائهم للمؤمنين ، فإذا حل بهم بأسنا يوم القيامة جأروا واستغاثوا ، فقلنا لهم لا فائدة فيما تعملون ، فقد جاءتكم الآيات والنذر فأعرضتم عنها واتخذتموها هزوا تسمرون بها فى البيت الحرام ، وقد كان من حقكم أن تتدبروا القرآن لتعلموا أنه الحق من ربكم ، وأن مجىء الكتب إلى الرسل سنة قديمة ، فكيف تنكرونها ؟ وهل رابكم فى رسولكم شىء حتى تمتنعوا من تصديقه وتقولوا إن به جنة وأنتم تعلمون أنه أرجح الناس عقلا وأثقبهم رأيا - لا - إن الأمر على غير ما تظنون ، إنه قد جاءكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون ، لما دسّيتم به أنفسكم من الزيغ والانصراف عن سبيل الحق ، ولو أجابكم ربكم إلى ما فى أنفسكم من الهوى وشرع الأمور وفق ذلك لفسدت السموات والأرض لفساد أهوائكم واختلافها ، وأنتم(18/37)
ج 18 ، ص : 38
لو تأملتم لعلمتم أن ما جاءكم به هو فخركم فكيف تعرضون عنه ؟ وهل تظنون أنه يسألكم أجرا على هدايتكم وإرشادكم ، فما عند اللّه خير مما عندكم وهو خير الرازقين.
فها هو ذا قد تبين الرشد من الغىّ ، واستبان أن ما تدعوهم إليه هو الحق الذي لا محيص منه ، وأن الذين لا يؤمنون به عادلون عن طريق الحق ، وقد بلغوا حدا من التمرد والعناد لا يرجى معه صلاح ، فلو أنهم ردّوا فى الآخرة إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه ، لشدة لجاجهم وتدسيتهم لأنفسهم.
ولقد قتلنا سراتهم بالسيف يوم بدر ، فما خضعوا ولا انقادوا لربهم ، ولا ردهم ذلك عما كانوا فيه ، بل استمروا فى غيهم وضلالهم كما قال « فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا » .
فإذا جاءتهم الساعة بغتة ، وأخذهم من عذاب اللّه ما لم يكونوا يحتسبون ، أيسوا من كل خير ، وانقطع رجاؤهم من كل راحة وسعادة.
الإيضاح
(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) أي بل قلوب المشركين فى غفلة عن هدى القرآن والاسترشاد بما جاء به ، مما فيه سعادة الناس فى دينهم ودنياهم ، فلو قرءوه وتدبروه لرأوا أنه كتاب ينطق بالصدق ، وأنه يقضى بأن أعمال المرء مهما دقّت فهو محاسب عليها ، وإن ربك لا يظلم أحدا من عباده.
ثم ذكر جنايات أخرى لهم فوق جنايتهم السابقة فقال :
(وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) أي إن لهم أعمالا أخرى أسوأ من ذلك ، فقد أغرقوا فى الشرك والمعاصي ، واتخذوا هذا الكتاب هزوا ، وجعلوه سمرهم فى البيت الحرام يقولون فيه ما هو منه براء ، يقولون إن هو إلا سحر مفترى ، وما هو إلا أساطير الأولين ، وما هو إلا كلام شاعر ، ويتقوّلون على من أرسل به ، فيزعمون أنه رجل به جنّة ، وأنه قد تعلمه من غيره من أهل الكتاب ، وانغمسوا فى عبادة(18/38)
ج 18 ، ص : 39
الأوثان والأصنام ، ولقد تراهم إذا جاء البرهان الساطع أعرضوا عنه وقالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.
(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي حتى إذا حلّ بهم بأسنا يوم القيامة ، وحاق بهم سوء العذاب ، صاحوا صيحة منكرة وقالوا : وا غوثاه ، ووا سوء منقلباه ، لشدة ما يروه من الكرب والهول ، ولا سيما مترفوهم الذي انقلب أمرهم من النعيم إلى العذاب الأليم ، وندموا حين لا ينفع الندم :
ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم
ثم أبان أن الصريخ والعويل لا يجديهم نفعا فقال :
(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) أي قلنا لهم : هيهات هيهات ، قد فات ما فات ، الآن لا يجديكم البكاء والعويل ، فهذا وقت الجزاء على ما كسبت أيديكم وقد حقّت عليكم كلمة ربكم ، ولا مغيث من أمره ، ولا ناصر يحول بينكم وبين بأسه.
ولا يخفى ما فى ذلك من التهويل الشديد لذلك اليوم وأنه لا تجدى فيه ضراعة ولا استغاثة ، ولا ينفع فيه ولىّ ولا نصير.
ثم ذكر سببا آخر يبين أن البكاء والصراخ لا ينفع شيئا فقال :
(قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) أي دعوا الصراخ فإنه لا يمنعكم منا ، واتركوا النصير فإنه لا ينفعكم عندنا ، فقد ركبتم شططا ، وجاءتكم الآيات والنذر فأعرضتم عن سماعها ، فضلا عن تصديقها والعمل بها ، وكنتم كمن ينكص على عقبيه مولّيا القهقرى ، نافرا مما يسمع ويرى.
ثم ذكر سببا ثالثا يدعو إلى التنكيل بهم والتشديد فى عذابهم فقال :
(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) أي تعرضون عن الإيمان ، مستعظمين بالبيت الحرام ، تقولون نحن أهل حرمه وخدّام بيته ، فلا يظهر علينا أحد ، ولا نخاف أحدا ، وتسمرون حوله وتتخذون القرآن سلواكم ، والطعن فيه هجّيراكم ، تهذون فتقولون :
هو سحر ، هو شعر ، هو كهانة إلى آخر ما يحلولكم أن تتقوّلوه.(18/39)
ج 18 ، ص : 40
والخلاصة - إنكم كنتم عن سماع آياتي معرضين ، مستعظمين بأنكم خدام البيت وجيرانه ، فلا تضلمون ، وتهذون فى أمر القرآن وتقولون فيه ما ليس فيه مسحة من الحق ، ولا جانب من الصواب.
ثم أنّبهم على ما فعلوا وبيّن أن إقدامهم عليه لا بد أن يكون لأحد أسباب أربعة فقال :
(1) (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي إنهم لم يتدبروا القرآن فيعلموا ما خصّ به من فصاحة وبلاغة ، وقد كان لديهم فسحة من الوقت ، تمكنهم من التدبر فيه ومعرفة أنه الحق من ربهم ، وأنه مبرأ من التناقض وسائر العيوب التي تعترى الكلام - إلى ما فيه من حجج دامغة ، وبراهين ساطعة ، إلى ما فيه من فضائل الآداب ، وسامى الأخلاق ، إلى ما فيه من تشريع إن هم اتبعوه كانوا سادة البشر ، واتبعهم الأسود والأحمر ، كما كان لمن اتبعه من السابقين الأولين من المؤمنين.
(2) (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) أي أم اعتقدوا أن مجىء الرسل أمر لم تسبق به السنن من قبلهم ، فاستبعدوا وقوعه ، لكنهم قد عرفوا بالتواتر أن الرسل كانت تترى وتظهر على أيديهم المعجزات ، فهلّا كان ذلك داعيا لهم إلى التصديق بهذا الرسول الذي جاء بذلك الكتاب الذي لا ريب فيه.
(3) (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي أم أنهم لم يعرفوا رسولهم بأمانته وصدقه وجميل خصاله قبل أن يدّعى النبوّة ؟ كلا ، إنهم لقد عرفوه بكل فضيلة ، وشهر لديهم باسم (الأمين) فكيف ينكرون رسالته ، ولقد قال جعفر بن أبى طالب رضى اللّه عنه للنجاشى : إن اللّه بعث فينا رسولا نعرف نسبه ، ونعرف صدقه وأمانته ، وكذلك قال أبو سفيان لملك الروم حين سأله وأصحابه عن نسبه ، وصدقه وأمانته ، وقد كانوا بعد كفارا لم يسلموا.
(4) (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) أي أم إن به جنونا فلا يدرى ما يقول ، مع أنهم يعلمون أنه أرجح الناس عقلا وأثقبهم ذهنا وأوفرهم رزانة.(18/40)
ج 18 ، ص : 41
وبعد أن عدد سبحانه هذه الوجوه ، ونبّه إلى فسادها ، بيّن وجه الحق فى عدم إيمانهم فقال :
(بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) أي إن ما جاءهم به هو الحق الذي لا محيص منه ، فما هو إلا توحيد اللّه ، وما شرعه لعباده مما فيه سعادة البشر ، لكن أكثرهم جبلوا على الزيغ والانحراف عن الحق ، لما ران على قلوبهم من ظلمات الشرك والإسراف فى الآثام والمعاصي ، ومن ثم فهم لا يفقهون الحق ولا تستسيغه نفوسهم فهم له كارهون.
وإنما نسب هذا الحكم للأكثر ، لأن فيهم من ترك الإيمان أنفة من توبيخ قومه أن يقولوا : ترك دين آبائه ، لا كراهة للحق ، كما أثر عن أبى طالب من قوله :
فو اللّه لو لا أن أجىء بسبّة تجرّ على أشياخنا فى القبائل
إذا لا تبعناه على كل حالة من الدهر جدّا غير قول التخاذل
ثم بين سبحانه أن اتباع الهوى يؤدى إلى الفساد العظيم فقال :
(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) أي ولو سلك القرآن طريقهم ، بأن جاء مؤيدا للشرك باللّه ، واتخاذ الولد ، (تعالى اللّه عن ذلك) وزيّن الآثام واجتراح السيئات ، لاختل نظام العالم كما جاء فى قوله : « لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا » ولو أباح الظلم وترك العدل لوقع الناس فى هرج ومرج ، ولوقع أمر الجماعات فى اضطراب وفساد ، والمشاهد فى الأمم التي يفشو فيها التخاذل والذلة والمسكنة يئول أمرها إلى الزوال ، ولو أباح العدوان واغتصاب الأموال وأن يكون الضعيف فريسة للقوى ، لما استتبّ أمن ولا ساد نظام ، وحال العرب قبل الإسلام شاهد صدق على ذلك.
ولو أباح الزنا لفسدت الأنساب وما عرف والد ولده ، فلا تتكوّن الأسر ، ولا يكون من يعول الأبناء ، ولا يبحث لهم عن رزق ، فيكونون شرّدا فى الطرقات لا مأوى لهم ، ولا عائل يقوم بشئونهم ، وأكبر برهان على هذا ما هو حادث فى أوروبا الآن من(18/41)
ج 18 ، ص : 42
وجود نسل بازدواج غير شرعى مما تئنّ منه الأمم والجماعات إلى نحو أولئك مما سبق ذكره من قبل وفصّلناه تفصيلا.
وبعد أن أنبّههم على كراهتهم للحق ، شنّع عليهم لإعراضهم عما فيه الخير لهم ، وهو يخالف ما جبلت عليه النفوس من الرغبة فى ذلك فقال :
(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) أي بل جئناهم بالقرآن الذي فيه فخرهم وشرفهم فأعرضوا عنه ، ونكصوا على أعقابهم ، وازدروا به وجعلوه هزوا وسخرية ، وما كان لهم من الخير أن يفعلوا ذلك.
ونحو الآية قوله : « وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ » .
ثم نفى عن رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ما ربما صدّهم عن دعوته ، وهو طلبه المال منهم أجرا لنصحه وإرشاده فقال :
(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي أم يزعمون انك طلبت منهم أجرا على تبليغ الرسالة ، فلأجل هذا لا يؤمنون.
والمراد - إنك لا تسألهم أجرا ، فإن ما رزقك اللّه فى الدنيا والعقبى خير من ذلك ، لسعته ودوامه وعدم تحمل منّة فيه ، ولأنك تحتسب أجره عند اللّه لا عندهم.
ونحو الآية قوله : « قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ » وقوله : « قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ » وقوله : « قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » .
(وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) توكيد لما قبله ، إذ من يكون خير الرازقين يكون رزقه خيرا من رزق غيره.
وبعد أن فنّد آراءهم أتبعها ببيان صحة ما جاء به الرسول وأنه الحق الذي لا معدل عنه فقال :
(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي وإنك لتدعو هؤلاء المشركين من(18/42)
ج 18 ، ص : 43
قومك إلى ذلك الدين القيم الذي تشهد العقول السليمة باستقامته ، وبعده عن الضلال والهوى والاعوجاج والزيغ.
وخلاصة ما سبق ما قاله صاحب الكشاف : قد ألزمهم الحجة فى هذه الآيات وقطع معاذيرهم وعللهم - بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره ، وحاله مخبور سره وعلنه ، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم ، وأنه لم يعرض له حتى يدّعى بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ، ولم يجعل ذلك سلّما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم ، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم ، مع إبراز المكنون من أدوائهم ، وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل ، واستهتارهم بدين الآباء الضّلال من غير برهان ، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق ، وثبات التصديق من اللّه بالمعجزات والآيات النيّرة ، وكراهتهم للحق ، وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر اه.
ثم بين أن الذين ينكرون البعث هم فى ضلال مبين فقال :
(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) أي وإن الذين لا يصدقون بالبعث بعد الموت ، وبقيام الساعة ومجازاة اللّه عباده فى الآخرة - عادلون عن محجة الحق ، وعن قصد السبيل ، وهو دين اللّه الذي ارتضاه لعباده ، ونصب الأدلة عليه.
(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي إنهم بلغوا فى التمرد والعناد حدا لا يرجى معه صلاح لهم ، فلو أنهم ردوا فى الآخرة إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه ، لشدة لجاجهم وتدسيتهم لأنفسهم.
(وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) أي ولقد قتلنا سراتهم بالسيف يوم بدر ، فما خضعوا لربهم ولا انقادوا لأمره ونهيه ولا تذللوا ولا ردهم ذلك عما كانوا فيه ، بل استمروا فى غيهم وضلالهم.
ونحو الآية قوله : « فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا » .
ثم أبان عاقبة أمرهم وما يكون من حالهم إذا جاءت الساعة فقال :(18/43)
ج 18 ، ص : 44
(حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي حتى إذا جاءهم أمر اللّه ، وجاءتهم الساعة بغتة ، وأخذهم من العذاب ما لم يكونوا يحتسبون - أيسوا من كل خير وانقطعت آمالهم وخاب رجاؤهم.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 الى 80]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80)
تفسير المفردات
ذرأكم فى الأرض : أي خلقكم وبثكم فيها ، اختلاف الليل والنهار : تعاقبهما من قولهم : فلان يختلف إلى فلان : أي يتردد عليه بالمجيء والذهاب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه إعراض المشركين عن سماع الأدلة ورؤية العبر والتأمل فى الحقائق - أردف ذلك الامتنان على عباده بأنه قد أعطاهم الحواس من السمع والبصر وغيرهما ووفقهم لاستعمالها ، وكان من حقهم أن يستفيدوا بها ، ليستبين لهم الرشد من الغى ، لكنها لم تغن عنهم شيئا ، فكأنهم فقدوها كما قال : « فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ » ثم ساق أدلة أخرى على وجوده وقدرته ، فبين أنه أوجدهم من العدم وأن حشرهم إليه ، وأنه هو الذي يحييهم ثم يميتهم ، وأنه هو الذي يولج الليل فى النهار ويولج النهار فى الليل ، أ فلا عقل لكم تتأملون به فيما تشاهدون ؟(18/44)
ج 18 ، ص : 45
الإيضاح
امتن سبحانه على عباده بأمور هى دلائل قدرته وواسع علمه فقال :
(1) (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي واللّه هو الذي أحدث لكم السمع ، لتسمعوا به الأصوات التي تخاطبون بها ، والأبصار لتشاهدوا بها الأضواء والألوان والأشكال المختلفة ، والعقول لتفقهوا بها ما ينفعكم ويوصلكم إلى سعادة الحياتين الدنيا والعقبى.
وخص هذه الثلاثة بالذكر ، لأنها طريق الاستدلال الحسى والعقلي لمعرفة الموجودات ، وذكرها على هذا الترتيب ، لما أثبته الطب أن الطفل فى الأيام الثلاثة الأولى يسمع ولا يبصر ، ثم يبدأ الرؤية بعدئذ ، ومن الواضح تأخر العقل عن ذلك.
(قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) تقول العرب للكفور الجحود للنعمة : ما أقل شكر فلان على نعمتى ، على معنى أنه لم يشكرها ، فالمراد هنا أنكم لم تشكروه على هذه النعم العظيمة ، وقد كان ينبغى أن تشكروه عليها فى كل حين.
(2) (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي وهو الذي خلقكم فى الأرض وبثكم فيها على اختلاف أجناسكم ولغاتكم ، ثم يجمعكم لميقات يوم معلوم فى دار لا حاكم فيها سواه.
(3) (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي وهو الذي جعل الخلق أحياء بنفخ الروح فيهم بعد أن لم يكونوا شيئا ، ثم يميتهم بعد أن أحياهم ، ثم يعيدهم تارة أخرى للثواب والجزاء.
(4) (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي وهو الذي سخر الليل والنهار وجعلهما متعاقبين يطلب كل منهما الآخر طلبا حثيثا ، لا يملانّ ولا يفترقان كما قال : « لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ » .
ثم أنب من ترك النظر فى كل هذا فقال :(18/45)
ج 18 ، ص : 46
(أَفَلا تَعْقِلُونَ ؟ ) أي أفلا تتفكرون فى هذه الموجودات ، لتعلموا أن هذه صنع الإله العليم القادر على كل شىء ، وأن كل شىء خاضع له تحت قبضته دالّ على وجوده ؟
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 81 الى 83]
بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
تفسير المفردات
الأساطير : الأكاذيب واحدها أسطورة كأحدوثة وأعجوبة ، قاله المبرد وجماعة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أدلة التوحيد المبثوثة فى الأكوان والأنفس والتي يراها الناس فى كل آن - أعقبها بذكر البعث والحشر وإنكار المشركين لهما ، وتردادهم مقالة من سبقهم من الكافرين الجاحدين فى استبعادهما والتكذيب بحصولهما.
الإيضاح
(بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) أي ما اعتبر هؤلاء المشركون بآيات اللّه ، ولا تدبروا حججه الدالة على قدرته على فعل كل ما يريد ، كإعادة الأجسام بالبعث ، وحياتها حياة أخرى للحساب والجزاء ، بل قالوا مثل مقالة أسلافهم من الأمم المكذبة لرسلها من قبلهم ، تقليدا لهم دون برهان ولا دليل.
ثم فصل تلك المقالة. فقال :
قالوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أي قالوا : أ ئذا متنا وصرنا ترابا قد بليت أجسامنا ، وجرّدت عظامنا : من لحومنا : أ إنا لمبعوثون من قبورنا أحياء كهيئتنا قبل الممات ؟ إن هذا لن يكون.(18/46)
ج 18 ، ص : 47
ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم :
(لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) أي قالوا : لقد وعدنا هذا الوعد الذي تعدنا به ، ووعد آباؤنا من قبل مثل هذا على أيدى قوم زعموا أنهم رسل اللّه ، ثم لم يوجد ذلك مع طول العهد.
ثم زادوا فى تأكيد الإنكار فقالوا :
(إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي ما هذا الذي تعدنا به من البعث بعد الممات إلا أكاذيب الأولين ، قد تلقفناها منهم دون أن يكون لها ظل من الحقيقة ، ولا نصيب من الصحة ونحو الآية قوله حكاية عنهم : « أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً. قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ » وقوله : « أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ » .
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 الى 90]
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90)
تفسير المفردات
تتقون : أي تحذرون عقابه ، الملكوت : الملك والتدبير ، يجير : أي يغيث ، من قولهم أجرت فلانا من فلان إذا أنقذته منه ، ولا يجار عليه : أي لا يعين أحد منه أحدا ، تسحرون : أي تخدعون وتصرفون عن الرشد.(18/47)
ج 18 ، ص : 48
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه شبهات المشركين فى أمر البعث والحساب والجزاء وأحوال النشأة الآخرة - عقب ذلك بذكر الأدلة التي تثبت تحققه وأنه كائن لا محالة.
الإيضاح
احتج سبحانه عليهم لإثبات البعث ببرهانات ثلاثة :
(1) (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ؟ ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المكذبين بالآخرة من قومك : لمن ملك السموات والأرض ومن فيها من الخلق ، إن كنتم من أهل العلم بذلك ؟
وفى قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) استهانة بهم وتوكيد لفرط جهالتهم كما لا يخفى ولما كانت بداهة العقل تضطرهم أن يجيبوا بأن الخالق لها هو اللّه - أخبر عن الجواب قبل أن يجيبوا فقال :
(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) أي إنهم سيقرون بأنها للّه ملكا وخلقا وتدبيرا دون غيره.
ثم أمر رسوله أن يرغبهم فى التدبر ليعلموا بطلان ما هم عليه فقال :
(قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ؟ ) أي قل لهم حين يعترفون بذلك موبّخا لهم : أ فلا تتدبرون فتعلموا أن من قدر على خلق ذلك ابتداء ؟ - فهو قادر على إحيائهم بعد مماتهم ، وإعادتهم خلقا جديدا بعد فنائهم.
(2) (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي قل لهم : من خلق السموات وخلق العرش المحيط بهن كما قال : « وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ » ومن يدبر أمرهن على هذا الوضع البديع والنظام العجيب ، كما قال : « فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها » .
ثم أخبر عن الجواب قبل أن يجيبوا فقال :(18/48)
ج 18 ، ص : 49
(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) الذي له كل شىء وهو رب ذلك ، ليس لهم جواب غيره ولما تأكد الأمر وزاد وضوحا حسن التهديد فقال :
(قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ؟ ) أي قل لهم منكرا وموبخا : أ تعلمون ذلك ولا تقون أنفسكم عقاب ربكم ، فتنكروا ما أخبر به من البعث ؟
وبعد أن قررهم بأن العالمين العلوي والسفلى ملك له تعالى - أمره أن يقررهم بأن له تدبير شئونهما وتدبير كل شىء فقال :
(3) (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي قل لهم : من المالك لكل شىء ؟ والمدبر لكل شىء ؟ وفى قبضته وتحت سلطانه وتصرفه كل شىء ؟ وهو يغيث من يشاء فيكون فى حرز لا يقدر أحد على الدنوّ منه ، ولا يغاث أحد ولا يمنع منه ، لأنه ليس فى العوالم كلها ما هو خارج من قبضته.
والخلاصة - إنه المدبر لنظام العالم جميعه ، وهو الذي يغيث من شاء ، ولا يستطيع أحد أن يغيث منه.
ثم أجاب عن هذا السؤال قبل أن يجيبوا فقال :
(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) الذي بيده ذلك دون غيره.
(قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ؟ ) أي قل لهم على طريق الاستهجان والتوبيخ : كيف تخدعون وتصرفون عن توحيد اللّه وطاعته ؟ فأنتم بعبادة الأصنام أو بعض البشر قد سحرت عقولكم كأنما غابت عن رشدها ، واعتراها الذهول ، فتصورت الأشياء على غير ما هى عليها.
وقد ثبت بالتجربة أن تكرار الكلام يخدع العقول والحواس حتى تتخيل غير الحق حقا ، وتتوهم صدق ما يقال وإن كان باطلا ، ومن ثم كثرت المذاهب الإسلامية وابتدع الرؤساء الدينيون والسياسيون من الأساليب ما خدعوا به عقول الشعوب فى دينهم ودنياهم.(18/49)
ج 18 ، ص : 50
والخلاصة - إن الكتاب الكريم عبر عن انصراف المشركين عن الحقائق الملموسة إلى ما لا أصل له إلا فى أوهامهم وخيالاتهم بالسحر ، فإن قوما يعترفون بإله خالق للسموات والأرض بل للعالم كله ، ثم هم بعد ذلك يقولون إن له شريكا - ليس له من سر إلا أن العقول قد سحرت عن أن تفهم الحقائق ، وعوّلت على الاقتناع بالترهات والأباطيل.
(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي ليس الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون من قولهم : إن هذا إلا أساطير الأولين ، بل جئناهم فيه بالدين الحق الذي فيه سعادة البشر ، وإنهم لكاذبون فى إنكار ذلك ، لأن عقولهم قد سحرت بخدع الآباء ، وتكرار القول ، وحكم العادة ، وهى طبيعة ثانية.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 91 الى 92]
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن المشركين كاذبون فى إنكار البعث والجزاء ، وفى مقالتهم :
إن القرآن أساطير الأولين ، قفى على ذلك ببيان أنهم كاذبون فى أمرين آخرين.
اتخاذ اللّه للولد ، وإثبات الشريك له.
الإيضاح
نفى سبحانه عن نفسه شيئين :
(1) (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ) أي ليس له ولد كما زعم قوم من المشركين حين(18/50)
ج 18 ، ص : 51
قالوا : الملائكة بنات اللّه ، وكيف يكون له ذلك ، ولا مثل له ولا ندّ ، والوالد إنما يتخذ للحاجة إلى النصير والمعين ، واللّه غنى عن كل شىء.
(2) (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) يشركه فى الألوهية ، لا قبل خلق العالم ولا حين خلقه له ولا بعد خلقه.
ثم ذكر دليلين على بطلان تعدّد الآلهة فقال :
(ا) (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) أي لو قدّر تعدد الآلهة لا نفرد كل منهم بما خلق ، إذ لكل صانع ضرب من الصنعة يغاير صنعة سواه ، فكان يحصل التباين فى نظم الخلق والإيجاد ، ويوجد الاختلاف بين المخلوقات المتحدة الأنواع فلا ينتظم الكون ، والمشاهد أنه منتظم متسق ، وهو الغاية فى الكمال كما قال : « ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ » .
(ب) (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي ولكان لكل منهم أن يطلب قهر الآخر وغلبته ، فيعلو بعضهم على بعض كما هو حال ملوك الدنيا ، وإذا لم تروا أثرا للتحارب والتغالب فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شىء وإليه ترجعون.
وبعد أن وضح الحق وصار كفلق الصبح جاء بما هو كالنتيجة لذلك فقال :
(سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزه ربنا وتقدّس عما يقوله الكافرون من أن له ولدا أو شريكا.
ثم وصف نفسه بصفات الكمال فقال :
(عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي هو العالم بما غاب عن خلقه من الأشياء فلا يرونه ولا يشاهدونه ، وبما يرونه ويبصرونه ، والمراد أن الذين قالوا بالولد والشريك مخطئون فيما قالوا ، فإنهم يقولون عن غير علم ، وأن الذي يعلم الأشياء شاهدها وغائبها ولا تخفى عليه خافية من أمرهما - قد نفى ذلك ، فخبره هو الحق دون خبرهم.
(فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تقدس عما يقول الجاحدون الظالمون.(18/51)
ج 18 ، ص : 52
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 93 الى 100]
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
تفسير المفردات
الهمزات : الوساوس المغرية بمخالفة ما أمرنا به ، واحدها همزة ، وأصل الهمز النخس والدفع بيد أو غيرها ، ومنه مهماز الرائض (حديدة توضع فى مؤخر الرحل ينخس بها الدابة لتسرع) كلا : كلمة تستعمل للردع والزجر عن حصول ما يطلب ، من ورائهم :
أي من أمامهم ، برزخ : أي حاجز بينهم وبين الرجعة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه ما لهم من مقالات السوء ، كإنكار البعث والجزاء واتخاذ الولد ، ووصف اللّه بما لا يليق به ، وكان كل هذا مما يدعو إلى استئصالهم وأخذهم بالعذاب - أمر رسوله أن يدعوه بألا يجعله قرينا لهم فيما يحيق بهم من العذاب ، ثم ذكر أنه قدير على أن يعجّل لهم العذاب ، ولكنه أخره ليوم معلوم ، ثم أرشده إلى الترياق النافع فى مخالطة الناس ، وهو إحسان المرء إلى من يسىء إليه حتى تعود عداوته صداقة ، وعنفه لينا.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان(18/52)
ج 18 ، ص : 53
ثم أمره أن يستعيذ من حيل الشياطين وأن يحضروه فى أي عمل من أعماله ، ولا يكون كالكافرين الذين قبلوا همزها وأطاعوا وسوستها ، حتى إذا ما حان وقت الاحتضار تمنّوا أن يعودوا إلى الدنيا ليعملوا صالحا ، وإنه لا يسمع لمثل هؤلاء دعاء ، فإنه لارجعة لهم بعد هذا ، وأمامهم حاجز يحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا إلى يوم البعث.
الإيضاح
(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ. رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي قل رب إن عاقبتهم وأنا مشاهد ذلك فلا تجعلنى فيهم ، ولا تهلكنى بما تهلكهم به ، ونجّنى من عذابك وسخطك ، واجعلنى ممن رضيت عنهم من أوليائك.
وفى أمره بذلك إيماء إلى أن العذاب قد يلحق غير من هو أهل له كما قال :
« وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً » .
روى الإمام أحمد والترمذي أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان يدعو « وإذا أردت بقوم فتنة فتوفّنى إليك غير مفتون » .
(وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) أي وإنا أيها الرسول لقادرون على أن نريك ما ننزله بهم من العذاب ، فلا يحزننك تكذيبهم بك ، وإنما تؤخره حتى يبلغ الكتاب أجله ، علما منا أن بعضهم أو بعض أعقابهم سيؤمن ، ومن جزاء ذلك لا نستأصلهم ولا نمحو آثارهم.
ثم أرشده إلى ما يفعل بهم إذا لحقه أذاهم فقال :
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) أي ادفع الأذى عنك بالخصلة التي هى أحسن ، بالإغضاء والصفح عن جهلهم والصبر على أذاهم وتكذيبهم بما أتيتهم به من عند ربك ، ونحن أعلم بما يصفوننا به ، وينحلونه إيانا من الاختلاق والأكاذيب ،(18/53)
ج 18 ، ص : 54
وبما يقولون فيك من السوء وهجر القول ومجازوهم على ما يقولون ، فلا يحزنك ذلك ، واصبر صبرا جميلا.
ونحو الآية قوله : « ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ » .
روى عن أنس رضى اللّه عنه أنه قال فى الآية : « يقول الرجل لأخيه ما ليس فيه ، فيقول له : إن كنت كاذبا فإنى أسأل اللّه أن يغفر لك ، وإن كنت صادقا فإنى أسأل اللّه أن يغفر لى » .
ولما أدب سبحانه رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يدفع بالحسنى أرشده إلى ما به يقوى على ذلك فقال :
(وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أي وقل : رب إنى ألتجئ إليك من أن يصل إلىّ الشياطين بوساوسهم ، أو أن يبعثوا إلىّ أعداءك لإيذائى ، وهكذا يدعو المؤمنون فإن الشيطان لا يصل إليهم إلا بأحد هذين الأمرين.
وإذا انقطع العبد إلى مولاه وتبتل إليه وسأله أن يعيذه من الشياطين استيقظ قلبه ، وتذكرر به فيما يأتى ويذر ، ودعاه ذلك إلى التمسك بالطاعة ، وازدجر عن المعصية.
وقد استعاذ صلّى اللّه عليه وسلّم أن تحضره الشياطين فى عمل من أعماله ولا سيما حين الصلاة وقراءة القرآن وحلول الأجل.
أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والبيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : « كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يعلمنا كلمات نقولها عند النوم خوف الفزع : بسم اللّه أعوذ بكلمات اللّه التامة من غضبه وعقابه ، وشر عباده ، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ، قال فكان ابن عمرو يعلمها من بلغ من أولاده أن يقولها عند نومه ، ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها فى عنقه » .(18/54)
ج 18 ، ص : 55
وأخرج أحمد عن الوليد بن الوليد أنه قال : « يا رسول اللّه إنى أجد وحشة ، قال :
إذا أخذت مضجعك فقل : أعوذ بكلمات اللّه التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ، فإنه لا يحضرك وبالحرى لا يضرك » .
و
روى أبو داود أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول : « اللهم إنى أعوذ بك من الهزم ، وأعوذ بك من الهدم ، ومن الغرق ، وأعوذ بك أن تتخبّطنى الشياطين عند الموت » .
ثم أخبر عما يقوله الكافرون حين معاينة الموت من سؤال الرجعة إلى الدنيا ليصلحوا ما كانوا قد أفسدوا حال حياتهم فقال :
(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) أي ولا يزال الكافر يجترح السيئات ولا يبالى بما يأتى وما يذر من الآثام والأوزار ، حتى إذا جاءه الموت وعاين ما هو قادم عليه من عذاب اللّه ندم على ما فات ، وأسف على ما فرّط فى جنب اللّه وقال : رب ارجعنى إلى الدنيا لأعمل صالحا فيما قصّرت فيه من عبادتك وحقوق خلقك.
وخلاصة ذلك - إنه حين الاحتضار يعاين ما هو مقبل عليه من العذاب فيتمنى أن يرجع إلى الدنيا ، ليصلح ما أفسد ، ويطيع فيما عصى.
ونحو الآية قوله : « وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا ، فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ » وقوله : « وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا » وقوله : « وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ » وقوله : « وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ ؟ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ » .
ومن كل هذا تعلم أنهم يطلبون الرجعة حين الاحتضار ، وحين النشور ، وحين(18/55)
ج 18 ، ص : 56
العرض على الملك الجبار ، وحين يعرضون على النار وهم فى غمرات جهنم ، فلا يجابون إليها فى كل حال.
(كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) أي إنا لا نجيبه إلى ما طلب ، لأن طلبه الرد ليعمل صالحا هو قول فحسب ولا عمل معه وهو كاذب فيه ، فلو ردّ لما عمل كما قال : « وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ » .
(وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي ومن أمامهم حاجز يحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا إلى يوم القيامة.
وفى هذا تيئيس لهم من الرجوع أبدا ، لأنهم إذا لم يرجعوا قبل يوم القيامة ، فهم بعدها لا يرجعون أبدا ، لما علم أنه لا رجعة بعد البعث إلا إلى الآخرة.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 101 الى 111]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105)
قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111)(18/56)
ج 18 ، ص : 57
تفسير المفردات
الصور واحدها صورة نحو بسر وبسرة : أي نفخت فى الأجساد أرواحها ، ولا يتساءلون : أي لا يسأل بعضهم بعضا ، موازينه : أي موزوناته وهى حسناته ، المفلحون :
أي الفائز ون ، خسروا أنفسهم : أي غبنوها ، تلفح : أي تحرق ، كالحون : أي عابسون متقلصو الشفاه ، الشقوة والشقاوة : سوء العاقبة ، وهى ضد السعادة ، اخسئوا : أي اسكتوا سكوت ذلة وهوان ، سخريا : أي هزوا ، ذكرى : أي خوف عقابى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن وراء الرجوع إلى الدنيا حاجزا إلى يوم القيامة - أعقب ذلك بذكر أحوال هذا اليوم ، فبين أنه عند البعث وإعادة الأرواح فى الأجسام لا تنفع الأحساب ، ولا يسأل القريب قريبه وهو يبصره ، وأن من رجحت حسناته على سيئاته فاز ونجا من النار ودخل الجنة ، ومن ثقلت سيئاته على حسناته خاب وهلك وأدخل النار خالدا فيها أبدا ، وكان عابس الوجه متقلّص الشفتين من شدة الاحتراق ، وأنه يقال لأهل النار توبيخا لهم على ما ارتكبوا من الكفر والآثام ، ألستم قد أرسلت إليكم الرسل ، وأنزلت عليكم الكتب ؟ فيقولون بلى ، ولكنا لم ننقد لها ولم نتبعها فصللنا ، ربنا ارددنا إلى دار الدنيا ، فإن نحن عدنا فإنا ظالمون مستحقون العقوبة ، فيجيبهم ربهم : امكثوا فى النار صاغرين أذلاء ولا تعودوا إلى سؤالكم هذا ، إنكم كنتم تستهزئون بعبادي المؤمنين وكنتم منهم تضحكون ، إنهم اليوم هم الفائزون جزاء صبرهم على أذاكم واستهزائكم بهم.
الإيضاح
(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) أي فإذا أعيدت الأرواح إلى الأجساد حين البعث والنشور ، لا تنفعهم الأنساب ، لأن التعاطف يزول ، والود(18/57)
ج 18 ، ص : 58
يختفى ، لاستيلاء الدهشة والحيرة عليهم ، واشتغال كل امرئ بنفسه كما جاء فى قوله :
«
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ » (وَلا يَتَساءَلُونَ) أي ولا يسأل القريب قريبه وهو يبصره ، لاشتغاله بأمر نفسه كما قال : « وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً » وما جاء فى بعض الآيات من إثبات التساؤل بينهم كقوله : « فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ » فإنما هو عند القرار فى الجنة أو النار.
ثم شرع يبين أحوال السعداء وأحوال الأشقياء حينئذ فقال :
(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي فمن رجحت موزونات أخلاقه وأعماله فأولئك هم الفائزون بكل مطلوب ، والحائزون لكل مرغوب.
(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي ومن ثقلت سيئاته على حسناته فأولئك الذين خابوا وآبوا بالصفقة الخاسرة ، إذ هم دسّوا أنفسهم باسترسالهم فى الشهوات وفعل الموبقات.
(فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) أي مآلهم أن يمكثوا فى جهنم لا يخرجون منها أبدا.
ثم وصف حال النار وحالهم فيها فقال :
(تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) أي تحرق النار وجوههم وهم فيها منقلصو الشفاه من أثر ذلك اللفح.
وإنما خص الوجوه من بين باقى الأعضاء ، لأنها أشرفها ، فذكر ما ينوبها من ألم ، ويلحقها من أذى ، يكون أزجر عن المعاصي التي تصل بهم إلى النار.
أخرج ابن مردويه عن أبى الدرداء رضى اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فى قول اللّه تعالى (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم.
ثم ذكر ما يقال لهم حينئذ توبيخا وتقريعا وتذكيرا لما به حقّ عليهم العذاب (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي قد أرسلت إليكم الرسل ،(18/58)
ج 18 ، ص : 59
وأنزلت عليكم الكتب ، وأزلت عنكم الشّبه ، ولم يبق لكم حجة كما قال : « لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ » وقال : « وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا » فكذبتم بها ، وأعرضتم عنها ، وآذيتم من جاء بها.
ونحو الآية قوله : « كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ » .
ثم ذكر جوابهم عن ذلك فقال :
(قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) أي قالوا قد قامت علينا الحجة ولم ننقد لها ، لسوء استعدادنا وتغلّب شهواتنا ، ولما دسّينا به أنفسنا من الآثام والمعاصي ومن ثم ضللنا طريق الهدى ، ولم نتبع الحق.
ونحو الآية قوله « فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ » .
والخلاصة - إنا كنا نعرف الحق ، ولكن العادة وخشية الناس ملكتا علينا أمرنا ، فلم نقدر على الخلاص مما نحن فيه ، وما مثلنا إلا مثل شاربى الخمر والتّبغ والمولعين بحب الكبرياء والعظمة والمغرمين بالإسراف ، فإنهم يعرفون أضرارها ، ثم لا يجدون سبيلا إلى تركها ولا للبعد عنها.
وبعدئذ حكى دعاءهم ربّهم أن يخرجهم منها : وقولهم فإن عدنا كنا ظالمين فقال :
(رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) أي قالوا ربنا أخرجنا من النار ، وارددنا إلى الدنيا ، فإن عدنا إلى مثل ما سلف منا من الشرور والآثام كنا ظالمين لأنفسنا جديرين بالعقوبة.
ثم ذكر ما أجيبوا به عن طلبهم هذا فقال :
(قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) أي قال امكثوا فيها أذلاء صاغرين واسكتوا ، ولا تعودوا إلى مثل سؤالكم هذا ، فإنه لا رجعة لكم إلى الدنيا ، وإنما يكلمنى من سمت نفسه إلى عالم الأرواح ، ولبس رداء الخوف والخشية من ربه ، واحتقر الدنيا وشهواتها ، وعزف عنها ، لما يرجوه من ربه من ثواب عميم ، ونعيم مقيم.(18/59)
ج 18 ، ص : 60
ثم بين السبب فيما نالهم من العذاب فقال :
(إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ : رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي إن فريقا من عبادى ممن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فى الدنيا يقولون :
ربنا آمنا بك وبرسلك وبما جاءوا به من لدنك ، فاستر زلّاتنا ، وآمن روعاتنا ، ولا تخزنا يوم العرض ، ولا تعذبنا بعذابك ، فإنك أرحم من رحم أهل البلاء.
(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) أي فتشاغلتم بهم ، ساخرين منهم ، ودأبتم على هذا ، حتى نسيتم ذكرى ، ولم تخافوا عقابى ، وكنتم تضحكون منهم استهزاء بهم.
والخلاصة - إنكم أضفتم إلى سيئاتكم ، الاستهزاء بمن يفعلون الحسنات ، ويتقربون إلى رب الأرض والسموات ، روى أنها نزلت فى كفار قريش وقد كانوا يستهزئون بالفقراء من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كبلال وعمار وصهيب.
ونحو الآية قوله : « إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ » .
ثم ذكر ما جازى به أولئك المستضعفين فقال :
(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) أي إنى جزينهم بصبرهم على الأذى والسخرية بهم - بالفوز بالنعيم المقيم.
والخلاصة - إنهم صبروا فجوزوا أحسن الجزاء.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 الى 118]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)(18/60)
ج 18 ، ص : 61
تفسير المفردات
اللبث : الإقامة ، العادّين : الحفظة العادين لأعمال العباد وأعمارهم ، والعبث : ما خلا من الفائدة الحق : أي الثابت الذي لا يبيد ولا يزول ملكه ، والعرش : هو مركز تدبير العالم ، ووصفه بالكريم لشرفه ، وكل ما شرف فى جنسه يوصف بالكرم كما فى قوله : « وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ » وقوله : « وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً » يدعو : يعبد ، حسابه : أي جزاؤه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر إنكارهم للبعث وأنهم لا يعترفون بحياة إلا ما كان فى هذه الدنيا ، وأنه بعد الفناء لا حياة ولا إعادة - ذكر هنا أنهم بعد أن يستقروا فى النار ويوقنوا أنهم مخلدون فيها أبدا ، يسألون سؤال تقريع وتوبيخ عن مدة لبثهم فى الأرض ، ليستبين لهم أن ما ظنوه أمدا طويلا يسير بالنسبة إلى ما أنكروه ، وحينئذ يزدادون حسرة وألما على ما كانوا يعتقدون فى الدنيا حين رأوا خلاف ما ظنوا ، ثم بين بعدئذ ما هو كالدليل على وجود البعث ، وهو تمييز المطيع من العاصي ، ولولاه لكان خلق العالم عبثا ، تنزه ربنا عن ذلك. ثم أتبع هذا بالرد على من أشرك معه غيره ، وأنذره بالعذاب الأليم ، ثم أمر رسوله أن يطلب منه غفران الذنوب ، وأن يثنى عليه بما هو أهله.(18/61)
ج 18 ، ص : 62
الإيضاح
(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ؟ ) أي قال الملك المأمور بسؤالهم : كم لبثتم فى الأرض أحياء ؟ .
(قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) فقد نسى هؤلاء الأشقياء مدة لبثهم فى الدنيا ، لعظيم ما هم فيه من البلاء والعذاب ، وقصّر عندهم الأمد الذي مكثوه فيها ، ما حل بهم من نقمة اللّه ، حتى حسبوا أنهم لم يمكثوا إلا يوما أو بعض يوم ، ولعل بعضهم يكون قد أقام بها الزمان الطويل والسنين الكثيرة.
(فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي فاسأل الحفظة العارفين لأعمال العباد وأعمارهم كما روى ذلك جماعة عن مجاهد.
(قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي قال لهم الملك : ما لبثتم إلا زمنا يسيرا ، ولو كنتم تعلمون شيئا من العلم لعملتم على مقتضى ذلك ، ولما صدر منكم ما أوجب خلودكم فى النار ، ولما قلنا لكم « اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ » .
روى مرفوعا « إن اللّه تعالى إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال :
يا أهل الجنة كم لبثتم فى الأرض عدد سنين ؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ، قال : لنعم ما أنجزتم فى يوم أو بعض يوم رحمتى ورضوانى وجنتى ، امكثوا فيها خالدين مخلدين ، ثم يقول يا أهل النار. كم لبثتم فى الأرض عدد سنين ؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ، فيقول بئسما أنجزتم فى يوم أو بعض يوم نارى وسخطى ، امكثوا فيها خالدين مخلدين »
: ثم زاد فى توبيخهم على تماديهم فى الغفلة وتركهم النظر الصحيح فيما يرشد إلى حقية البعث والقيامة فقال :
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) أي أ ظننتم أيها الأشقياء أنا إنما خلقناكم إذ خلقناكم لعبا وباطلا ؟ كلا ، بل خلقناكم لنهذبكم ونعلمكم ، لترتقوا إلى عالم أرقى مما أنتم فيه ، لا كما ظننتم أنكم لا ترجعون إلينا للحساب والجزاء.(18/62)
ج 18 ، ص : 63
وفى هذا إشارة إلى أن الحكمة تقتضى تكليفهم وبعثهم لمجازاتهم على ما قدموا من عمل ، وأسلفوا من سعى فى الحياة الدنيا.
ثم نزه اللّه نفسه عما يصفه به المشركون فقال :
(فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) أي تنزه ربنا ذو الملك والملكوت الذي لا يزول ، وليس هناك معبود سواه ، وهو ذو العرش الكريم الذي يدبر فيه نظام الكون علويّه وسفليّه وجميع ما خلق عن أن يخلق الخلق عبثا ، وأن تخلوا أفعاله عن الحكم والمقاصد الحميدة ، وأن يكون له ولد أو شريك.
وبعد أن ذكر أنه الملك الحق الذي لا إله إلا هو - أتبعه ببيان أن من ادعى أن فى الكون إلها سواه فقد ادعى باطلا ، وركب شططا فقال :
(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي ومن يعبد مع ذلك المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له ، معبودا آخر لا بيّنة له به ، فحزاؤه عند ربه ، وهو موفيه ما يستحقه من جزاء وعقاب.
وفى ذلك من شديد التوبيخ والتقريع ما لا يخفى.
(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي إنه لا يسعد أهل الشرك ، ولا ينجيهم من العذاب.
وما ألطف افتتاح السورة بفلاح المؤمنين ، وختمها بخيبة الكافرين ، وعدم فوزهم بما يؤملون!.
وبعد أن شرح أحوال الكافرين وجهلهم فى الدنيا وعذابهم فى الآخرة ، أمر رسوله بالانقطاع إليه ، والالتجاء إلى غفرانه ورحمته بقوله :
(وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي وقل أيها الرسول : رب استر على ذنوبى بعفوك عنها ، وارحمني بقبول توبتى وترك عقابى على ما اجترحت من آثام وأوزار ، وأنت ربّنا خير من رحم ذا ذنب ، فقبل توبته وتجاوز عن عقابه إنك ربنا خير غافر ، وإنك المتولى للسرائر ، والمرجوّ لإصلاح الضمائر ، وصلّ ربّنا على محمد وآله.(18/63)
ج 18 ، ص : 64
أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن حبان فى جماعة عن أبى بكر أنه قال « يا رسول اللّه علّمنى دعاء أدعو به فى صلاتى قال : قل اللهم إنى ظلمت نفسى ظلما كثيرا ، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لى مغفرة من عندك ، وارحمني ، إنك أنت الغفور الرحيم » .
خلاصة ما تضمنته السورة من الحكم والأحكام والآداب
(1) فوز المؤمنين ذوى الصفات الفاضلة بدخول الجنات خالدين فيها أبدا.
(2) ذكر حال النشأة الأولى.
(3) خلق السموات السبع وإنزال المطر من السماء وإنشاء الجنات من النخيل والأعناب وذكر منافع الحيوان للإنسان.
(4) قصص بعض الأنبياء كنوح وشعيب وموسى وهرون وعيسى عليهم السلام ثم أمرهم جميعا بأكل الطيبات وعمل الصالحات.
(5) لا يكلف اللّه عباده إلا بما فيه يسر وسجاحة.
(6) وصف ما يلقاه الكافرون من النكال والوبال يوم القيامة وتأنيبهم على عدم الإيمان بالرسول ، وتفنيد المعاذير التي اعتذروا بها.
(7) ذكر ما أنعم به على عباده من الحواس والمشاعر.
(8) إنكار المشركين للبعث والجزاء والحجاج على إثبات ذلك.
(9) النعي على من أثبت الولد والشريك للّه.
(10) دعاء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ربه ألا يجعله فى القوم الظالمين حين عذابهم.(18/64)
ج 18 ، ص : 65
(11) تعليم نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم الأدب فى معاملة الناس ، وأمره أن يدعوه بدفع همزات الشياطين عنه.
(12) طلب الكفار العودة إلى الدنيا حين رؤية العذاب ، لعلهم إذا عادوا عملوا صالحا.
(13) وصف أهوال يوم القيامة وبيان ما فيها من الشدائد.
(14) أوصاف السعداء والأشقياء.
(15) تأنيب الكافرين على طلبهم العودة إلى الدنيا وزجرهم على هذا الطلب.
(16) سؤال المشركين عن مدة لبثهم فى الدنيا ، وبيان أنهم ينسون ذلك.
(17) النعي على من عبد مع اللّه إلها آخر.
وصلّى اللّه على سيدنا محمد النبي الأمى وعلى آله وصحبه وسلم.(18/65)
ج 18 ، ص : 66
سورة النور
هى مدنية وآيها أربع وستون.
ووجه اتصالها بما قبلها :
(1) إنه قال فى السورة السالفة : « وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ » وذكر هنا أحكام من لم يحفظ فرجه من الزانية والزاني وما اتصل بذلك من شأن القذف وقصة الإفك والأمر بغضّ البصر الذي هو داعية الزنا ، وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف ، والنهى عن إكراه الفتيات على الزنا.
(2) إنه تعالى لما قال فيما سلف إنه لم يخلق الخلق عبثا بل للأمر والنهى - ذكر هنا جملة من الأوامر والنواهي.
روى عن مجاهد أنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « علّموا رجالكم سورة المائدة ، وعلموا نساءكم سورة النور »
وعن حارث بن مضرّب رضى اللّه عنه قال :
كتب إلينا عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور.
[سورة النور (24) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
تفسير المفردات
أنزلناها : أي أعطيناها الرسول كما يقول العبد إذا كلم سيده : رفعت إليه حاجتى ، والفرض : التقدير كما قال : « فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ » وقال : « إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ » والمراد هنا تقدير ما فيها من الحدود والأحكام على أتمّ وجه ، بينات : أي واضحات الدلالة على ما فيها من الأحكام ، ولعلّ هنا يراد بها الإعداد والتهيئة ، تذكرون : أي تتذكرون وتتعظون.(18/66)
ج 18 ، ص : 67
الإيضاح
امتنّ سبحانه على عباده بما أنزل عليهم فى هذه السورة من الفرائض والأحكام وفصله لهم من أدلة التوحيد وبيناته الواضحة التي لا تقبل جدلا ، ليعدّهم بذلك لأن يتعظوا ويعملوا بما جاء فيها مما فيه سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم وفيه صلاحهم ، فإن فى حفظ الفروج صيانة للأنساب واطمئنانا على سلامتها مما يشوبها ، كما أن فيه أمنا من حصول الضغائن والأحقاد التي قد تجر إلى القتل وارتكاب أفظع الجرائم بين الأفراد ، وأمنا على الصحة والبعد من الأمراض التي قد تودى بحياة المرء وتوقعه فى أشد المصايب وأعظم ألوان البلاء.
كما جاء فيها توثيق روابط المودة بين أفراد المجمع ، ففيها نظام دخول البيوت للتزاور ، وفيها حفظ الألسنة وصونها عن الولوغ فى الأعراض بما لا ينبغى أن يقال حتى لا ينتسر الفحش بين الناس ، وفيها تحذير للعباد من ذلك « إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » .
والخلاصة - إنه تعالى ذكر فى أول السورة أنواعا من الأحكام والحدود الشرعية.
وفى آخرها الدلائل على وحدانيته وكامل قدرته ، فأشار إلى الأولى بقوله (وَفَرَضْناها) وإلى الثانية بقوله : (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ).
والفائدة فى كل هذا اتقاء المحارم والبعد عنها ومعرفة اللّه المعرفة التي تجعل المرء يخضع لجلاله وعظيم سلطانه ، ويشعر بأنه محاسب على كل ما يعمل من عمل قلّ أو كثر فإذا تم له ذلك صلحت نظم الفرد ونظم المجتمع ، وسادت السكينة والطمأنينة بين الناس.
[سورة النور (24) : آية 2]
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)(18/67)
ج 18 ، ص : 68
عقوبة الزنا الدنيوية
الزاني والزانية إما أن يكونا محصنين : أي متزوجين ، أو غير محصنين : أي غير متزوجين.
عقوبة المحصنين
إن كان الزانيان محصنين واستوفيا الشروط الآتية ، وهى أن يكونا بالغين عاقلين حرين مسلمين متزوجين بعقد نكاح صحيح - وجب رجمهما : أي رميهما بالحجارة حتى يموتا ، ويكون ذلك فى حفل عامّ للمسلمين ليعتبر بهما غيرهما.
وقد ثبت هذا بالسنة المتواترة ، ورواه الثقات عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فقد رواه أبو بكر وعمر وعلىّ وجابر بن عبد اللّه وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وزيد ابن خالد وبريدة الأسلمى فى آخرين من الصحابة ، وجاء فى رواياتهم أن رجلا من الصحابة يسمى ما عزا أقر بالزنا فرجم ، وأن امرأتين من بنى لخم وبنى غامد أقرتا بالزنا فرجمعا على مشهد من الناس ومرأى منهم.
عقوبة غير المحصنين
إن كان الزانيان غير محصنين فالعقوبة مابة جلدة بمحضر جمع من المسلمين كما بينته الآية ليفتضح أمرهما كما تقدم ذلك.
طريق إثبات الزنا
يثبت الزنا بأحد أمور ثلاثة :
(1) الإقرار به وهذا هو الطريق الذي ثبت به الزنا فى الإسلام ، وبه أوقع النبي صلى اللّه عليه وسلّم وصحابته العقوبة على من زنى.
(2) الحبل للمرأة بلا زوج معروف لها.
(3) شهادة أربعة من الشهود يرونهما وهما ملتبسان بالجريمة.(18/68)
ج 18 ، ص : 69
عقوبة الزنا الأخروية
تقدم أن بيّنا المساوى والأضرار التي تنشأ من الزنا للأفراد والجماعات فى الدنيا ، وهنا نذكر حكمه الأخروى فنقول : اتفقت الأمة على أن الزنا من أكبر الآثام ، وأنه من الذنوب التي شدد الدين فى تركها ، وأغلظ فى العقوبة على فعلها ، وجاء فيه من النصوص ما لم يأت فى غيره مما حرم اللّه ، فقد قرن بالشرك فى قوله : « وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً »
وروى عن حذيفة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « يا معشر الناس اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال : ثلاث فى الدنيا وثلاث فى الآخرة ، أما التي فى الدنيا فيذهب البهاء ، ويورث الفقر ، وينقص العمر ، وأما التي فى الآخرة فسخط اللّه سبحانه وتعالى ، وسوء الحساب ، وعذاب النار » .
وعن عبد اللّه بن مسعود قال : « قلت يا رسول اللّه ، أىّ الذنب أعظم عند اللّه ؟
قال أن تجعل للّه ندّا وهو خلقك ، قلت ثم أىّ ؟ قال وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك ، قلت ثم أىّ ؟ قال وأن تزنى بحليلة جارك ، فأنزل اللّه تصديقها :
« وَالَّذِين َ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ »
الإيضاح
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) أي من زنى من الرجال أو زنت من النساء وهما حران بالغان عاقلان غير محصنين بزوجين فاجلدوا كلا منهما مائة جلدة عقوبة له على ما أتى من معصية اللّه.
(وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) أي ولا تأخذكم بهما رحمة ورقة فى حكم(18/69)
ج 18 ، ص : 70
اللّه ، فتعطلوا الحدود أو تخففوا الضرب ، بل الواجب عليكم أن تتصلبوا فى دين اللّه ولا يأخذكم اللين والهوادة فى استيفاء الحدود ، وكفى برسول اللّه أسوة فى ذلك ، إذ
يقول : « لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها » .
(إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي إن كنتم تصدقون باللّه ربكم ، وأنكم مبعوثون للحشر ومجازون بالثواب والعقاب. فإن من كان مصدّقا بذلك لا يخالف أمر اللّه ونهيه خوف عقابه على معاصيه.
وفى هذا تهييج وإغضاب لتنفيذ حدود اللّه وإقامة شريعته.
(وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فإنهما إذا جلدا بمحضر من الناس كان ذلك أبلغ فى زجرهما ، وأنجع فى ردعهما ، والزيادة فى تأنيبهما على ما فعلا.
والطائفة : الأربعة فصاعدا كما روى عن ابن عباس ، وعن الحسن : عشرة فصاعدا.
[سورة النور (24) : آية 3]
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
المعنى الجملي
قال مجاهد وعطاء : قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء ليس لهم أموال ولا عشائر ، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة عيشا ، ولكل منهن علامة على بابها للتعريف عن نفسها والإعلان عن أمرها ، وكان لا يدخل عليهن إلا زان أو مشرك ، فرغب فى كسبهن ناس من فقراء المسلمين وقالوا ننّزوج بهن إلى أن يغنينا اللّه عنهنّ ، فاستأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت الآية.
الإيضاح
(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) أي إن الفاسق الفاجر الذي من شأنه الزنا والفسق لا يرغب فى نكاح الصوالح من النساء ،(18/70)
ج 18 ، ص : 71
وإنما يرغب فى فاسقة خبيثة أو فى مشركة مثلها ، والفاسقة المستهترة لا يرغب فى نكاحها الصالحون من الرجال ، بل ينفرون منها ، وإنما يرغب فيها من هو من جنسها من الفسقة ، ولقد قالوا فى أمثالهم : إن الطيور على أشكالها تقع.
ولا شك أن هذا حكم الأعم الأغلب كما يقال : لا يفعل الخير إلا الرجل التقى ، وقد يفعل الخير من ليس بتقى ، فكذا هذا فإن الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة ، والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف.
(وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي إن نكاح المؤمن المتّسم بالصلاح الزانية ، ورغبته فيها واندماجه فى سلك الفسقة المشهورين بالزنا - محرم عليه ، لما فيه من التشبه بالفسّاق ومن حضور مواضع الفسق والفجور التي قد تسبب له سوء القالة واغتياب الناس له ، وكم فى مجالسة الفساق من التعرض لاقتراف الآثام ، فما بالك بمزاوجة الزواني والفجار ، وجاء فى الخبر « من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه » .
حكم قذف غير الزوجة من النساء
[سورة النور (24) : الآيات 4 الى 5]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
تفسير المفردات
المراد بالمحصنات هنا العفيفات الحرائر البالغات العاقلات المسلمات.
المعنى الجملي
بعد أن نفّر سبحانه من نكاح الزانيات وإنكاح الزانين وبيّن أن ذلك عمل لا يليق بالمؤمنين الذين أشربت قلوبهم حب الإيمان والتصديق برسله - نهى هنا عن رمى(18/71)
ج 18 ، ص : 72
المحصنات به ، وشدد فى عقوبته الدنيوية والأخروية ، فجعل عقوبته فى الدنيا الجلد وألا تقبل له شهادة أبدا ، فيكون ساقط الاعتبار فى نظر الناس ملغى القول لا تسمع له كلمة ، وجعل عقوبته فى الآخرة العذاب المؤلم الموجع إلا إذا تاب إلى اللّه وأناب وأصلح أعماله ، فإنه يزول عنه اسم الفسوق وتقبل شهادته.
الإيضاح
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) أي إن الذين يشتمون العفيفات من حرائر المسلمين فيرمونهن بالزنا ، ثم لم يأتوا على ما رموهن به من ذلك بأربعة شهداء عدول يشهدون بأنهم رأوهن يفعلن ذلك - فاجلدوهم ثمانين جلدة جزاء لهم على ما فعلوا من ثلم العرض ، وهتك الستر دون أن يكون ذلك بوجه الحق.
(وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) أي وردوا شهادتهم ، ولا تقبلوها أبدا فى أي أمر من الأمور.
ثم بين سوء حالهم عند ربهم بقوله :
(وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي وأولئك هم الخارجون عن طاعة ربهم إذ أنهم فسقوا عن أمره وركبوا كبيرة من الكبائر ، باتهامهم المحصنات الغافلات المؤمنات كذبا وبهتانا كما قال حسان يمدح أمّ المؤمنين عائشة :
حصان رزان ما تزنّ بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل « 1 »
وهم إن كانوا صادقين فقد هتكوا ستر المؤمنات ، وأوقعوا السامعين فى شك من أمرهن ، دون أن يكون فى ذلك فائدة دينية ولا دنيوية لهم ، وقد أمرنا بستر العرض إذا لم يكن فى ذلك مصلحة فى الدين.
__________________________________________________
(1) حصان : عفيفة ، ورزان : حصيفة الرأى ، وتزن : تتهم ، وريبة : أي شك فى عرضها ، وغرثى : جائعة ، والمراد أنها لا تغتاب النساء كما هو شأن المرأة.(18/72)
ج 18 ، ص : 73
(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) أي إلا الذين رجعوا عما قالوا وندموا على ما تكلموا من بعد ما اجترحوا ذلك الإثم وأصلحوا حالهم.
وقد اختلف فى هذا الاستثناء ، أ يعود إلى الجملة الأخيرة فترفع التوبة الفسق فحسب ، ويبقى مردود الشهادة دائما وإن تاب ؟ وإلى هذا ذهب من السلف القاضي شريح وسعيد بن جبير وأبو حنيفة ، أم يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة ، وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيّب وجماعة من السلف ، وهو رأى مالك والشافعي وأحمد ، وعليه فتقبل شهادته ويرفع عنه حكم الفسق.
ثم ذكر علة قبول التوبة فقال :
(فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن اللّه ستّار لذنوبهم التي أقدموا عليها بعد أن تابوا منها ، رحيم بهم فيزيل عنهم ذلك العار الذي لحقهم بعدم قبول شهادتهم ووسمهم بميسم الفسوق الذي وصفوا به.
حكم قذف الرجل زوجه
[سورة النور (24) : الآيات 6 الى 10]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
تفسير المفردات
يرمون أزواجهم : أي يقذفونهنّ بالريبة وتهمة الزنا ، ولعنة اللّه : الطرد من رحمته ، ويدرأ : أي يدفع ، والعذاب : الحد ، وغضب اللّه : سخطه والبعد من فضله وإحسانه(18/73)
ج 18 ، ص : 74
المعنى الجملي
بعد أن بيّن سبحانه حكم قاذف الأجنبيات بالزنا وذكر أنه لا يعفى القاذف عن العقوبة إلا إذا أتى بأربعة شهداء - ذكر هنا ما هو فى حكم الاستثناء من ذلك ، وهو قذف الزوجات ، فإن الزوج القاذف يعفى من الحد إذا شهد الشهادات المبينة فى الآية ، لأن فى تكليف الزوج إحضار الشهود وإعناتا له وإحراجا ، ولما يلحقه من الغيرة على أهله ثم كظم الغيظ إذ لا يجد مخلصا من ضيقه.
روى عن ابن عباس أنه قال : « لما نزل قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات إلخ قال عاصم بن عدىّ الأنصاري : إن دخل منا رجل بيته فوجد رجلا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك ، فقد قضى الرجل حاجته وخرج ، وإن قتله قتل به ، وإن قال وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب ، وإن سكت سكت على غيظ ، اللهم افتح.
وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عو يمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس ، فأتى عويمر عاصما فقال : لقد رأيت شريك بن سحماء على بطن امرأتى خولة ، فاسترجع عاصم وأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال يا رسول اللّه ما أسرع ما ابتليت بهذا فى أهل بيتي! فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : وما ذاك ؟ قال أخبرنى عويمر ابن عمى أنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خولة ، وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بنو عم عاصم ، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بهم جميعا وقال لعويمر اتقى اللّه فى زوجتك وابن عمك ولا تقذفها ، فقال : يا رسول اللّه أقسم باللّه إنى رأيت شريكا على بطنها وإنى ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنها حبلى من غيرى ، فقال لها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : اتقى اللّه ولا تخبري إلا بما صنعت ، فقالت يا رسول اللّه : إن عويمرا رجل غيور وإنه رأى شريكا يطيل النظر إلىّ ويتحدث فحملته الغيرة على ما قال ، فأنزل اللّه هذه الآية ، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.(18/74)
ج 18 ، ص : 75
فنودى (الصلاة جامعة) فصلى العصر ثم قال لعويمر : قم وقل أشهد باللّه إن خولة لزانية وإنى لمن الصادقين ، ثم قال : قل أشهد باللّه إنى رأيت شريكا على بطنها وإنى لمن الصادقين ، ثم قال : قل أشهد باللّه إنها حبلى من غيرى وإنى من الصادقين ثم قال :
قل : أشهد باللّه إنها زانية وإنى ما قربتها منذ أربعة شهور وإنى لمن الصادقين ثم قال :
قل لعنة اللّه على عويمر (يعنى نفسه) إن كان من الكاذبين فيما قال ، ثم قال :
اقعد ، وقال لخولة : قومى فقامت وقالت أشهد باللّه ما أنا بزانية وإن عويمرا زوجى لمن الكاذبين ، وقالت فى الثانية : أشهد باللّه ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين ، وقالت فى الثالثة : إنى حبلى منه ، وقالت فى الرابعة : أشهد باللّه إنه ما رآنى على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين ، وقالت فى الخامسة : غضب اللّه على خولة إن كان عويمر من الصادقين فى قوله ، ففرق رسول اللّه بينهما » .
«
وفى رواية عن ابن عباس : أنها حين كانت تؤدى الشهادة الخامسة قالوا إنها الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ، ثم قالت واللّه لا أفضح قومى فشهدت فى الخامسة كما تقدم ، فقضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بالتفريق بينهما وألا يدعى ولدها لأب ، وأن لا مسكن لها عليه ولا مؤنة ، من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا وفاة »
فصار هذا سنّة المتلاعنين وسمى عملهما (اللعان والملاعنة).
وفى رواية « إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : أبصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين فلا أراه إلا قد صدق ، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة (سحلية) فلا أراه إلا كاذبا فجاءت به على النعت المكروه » .
الإيضاح
(وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ)(18/75)
ج 18 ، ص : 76
أي والأزواج الذين يقذفون زوجاتهم بالزنا ، ولم يكن لهم شهداء يشهدون لهم بصحة ما قذفوهن به من الفاحشة ، فعلى كل منهم أن يشهد أربع شهادات إنه لصادق فيما رماها به من الزنا ، والشهادة الخامسة أن لعنة اللّه عليه إن كان من الكاذبين فيما اتهمها به.
(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ. وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي ويدفع عنها العقوبة الدنيوية وهى الحد أن تخلف باللّه أربعة أيمان إن زوجها الذي رماها بما رماها به من الفاحشة - لمن الكاذبين فيما قال ، والشهادة الخامسة أن غضب اللّه عليها إن كان زوجها صادقا فيما اتهمها به.
وخصّت الملاعنة بأن تخمّس بغضب اللّه عليها تغليظا عليها ، لأنها هى سبب الفجور ومنبعه ، بخديعتها وإطماعها الرجل فى نفسها.
وبعد أن ذكر حكم الرامي للمحصنات وللأزواج بين أن فى هذا تفضلا بعباده ورحمة بهم فقال :
(وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) أي ولو لا تفضله سبحانه ورحمته بكم وأنه قابل لتوبتكم فى كل آن ، وأنه حكيم فى جميع أفعاله وأحكامه التي منها ما شرعه لكم من اللعان - لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة ، ولكنه ستر عليكم ودفع عنكم الحد باللعان ، إذ لو لم يشرع لكم ذلك لوجب على الزوج حد القذف ، مع أن قرائن الأحوال تدل على صدقه ، لأنه أعرف بحال زوجه ، وأنه لا يفترى عليها ، لاشتراكهما فى الفضيحة ، ولو جعل شهادته موجبة لحد الزنا عليها لأهمل أمرها وكثر افتراء الزوج عليها لضغينة قد تكون فى نفسه من أهلها ، وفى كل هذا خروج من سبق الحكمة والفضل والرحمة ، ومن ثم جعل شهادات كل منهما مع الجزم بكذب أحدهما درائة عنه العقوبة الدنيوية ، وإن كان قد ابتلى الكاذب منهما فى تضاعيف شهادته بأشد مما درأه عن نفسه وهو العقاب الأخروى.(18/76)
ج 18 ، ص : 77
[سورة النور (24) : الآيات 11 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)(18/77)
ج 18 ، ص : 78
تفسير المفردات
الإفك : أبلغ الكذب والافتراء ، والعصبة : الجماعة ، وكثر إطلاقها على العشرة فما فوقها إلى الأربعين ، وقد عدّت عائشة منها المنافق عبد اللّه بن أبى ابن سلول وقد تولّى كبره ، وحمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب رضى اللّه عنها وزوج طلحة ابن عبيد اللّه ، ومسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، كبره (بكسر الكاف وضمها وسكون الباء) أي معظمه فقد كان يجمعه ويذيعه ويشيعه ، (لولا) كلمة بمعنى هلّا تفيد الحث على فعل ما بعدها ، مبين : أي ظاهر مكشوف ، أفضتم : أي خضتم فى حديث الإفك ، تلقونه : أي تتلقونه ويأخذه بعضكم من بعض ، يقال تلقّى القول وتلقّنه وتلقّفه ومنه « فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ » سبحانك : تعجب ممن تفوّه به ، بهتان : أي كذب يبهت سامعه ويحيره لفظاعته ، يعظكم : أي ينصحكم ، تشيع : أي تنتشر ، الفاحشة : الخصلة المفرطة فى القبح وهى الزنا ، وخطوات واحدها خطوة (بالضم) ما بين القدمين من المسافة ، ويراد بها نزغات الشيطان ووساوسه : والمنكر : ما تنكره النفوس فتنفر منه ، زكا : أي طهر من دنس الذنوب ، ولا يأتل : أي لا يحلف ، الفضل الزيادة فى الدين ، السعة : الغنى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حكم من قذف الأجنبيات ، وحكم من قذف الزوجات - ذكر فى هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين ، صيانة لعرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.(18/78)
ج 18 ، ص : 79
ومجمل القصص ما
رواه البخاري وغيره عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت : « كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن حرجت قرعتها استصحبها ، فأقرع بيننا فى غزوة غزاها فخرج سهمى (نصيبى) فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب فحملت فى هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودى بالرحيل ، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأنى أقبلت إلى رحلى ، فلست صدرى فإذا عقدى من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمسته فحبسنى ابتغاؤه ، وأقبل الرّهط الذين كانوا يرحّلون بي فاحتملوا هودجى فرحّلوه على بعيري وهم يحسبون أنى فيه لخفتى ، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير ، ووجدت عقدى بعد ما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب ، فتيممت منزلى وظننت أنهم سيفقدوننى ويعودون فى طلبى ، فبينا أنا جالسة فى منزلى غلبتنى عينى فنمت ، وكان صفوان بن المعطّل السّلمى من وراء الجيش ، فلما رآنى عرفنى فاستيقظت باسترجاعه ، فخمّرت وجهى بجلبابي ، وو اللّه ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطئ على يديها ، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا فى نحر الظهيرة ، وافتقدنى الناس حين نزلوا وماج القوم فى ذكرى ، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا فى حديثى فهلك من هلك ، وكان الذي تولى الإفك عبد اللّه بن أبى ، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون فى قول أصحاب الإفك لا أشعر بشىء من ذلك ، ويريبنى فى وجعي أنى لا أعرف من رسول اللّه اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكى ، إنما يدخل فيسلم ثم يقول : كيف تيكم ؟ فذلك يريبنى ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت بعد ما نقهت ، وخرجت مع أم مسطح قبل (المناصع) وهو متبرّزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول فى التنزه فى البرية ، و
كنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا ، فانطلقت أنا وأم مسطح(18/79)
ج 18 ، ص : 80
(هى ابنة أبى رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف ، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبى بكر الصديق) قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح فى مرطها فقالت : تعس مسطح ، فقلت أ تسبّين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه أ ولم تسمعى ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتنى بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضى فلما رجعت إلى منزلى ودخل علىّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم قال كيف تيكم ؟
قلت أ تأذن لى أن آتى أبوىّ ؟ قال نعم ، قالت وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما ، فجئت أبوىّ فقلت لأمى : أي أماه ، ما ذا يتحدث الناس به ؟ فقالت : أي بنيّة هوّنى عليك ، فو اللّه لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضراتر إلا أكثرن عليها : قالت قلت سبحان اللّه ، أو قد تحدث الناس بهذا وبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ؟ قالت نعم ، قالت فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقألى دمع ولا أكتحل بنوم ؟ ثم أصبحت فدخل علىّ أبو بكر وأنا أبكى ، فقال لأمى ما يبكيها ؟
قالت : لم تكن علمت ما قيل لها ، فأكبّ يبكى ، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية ، فكيت يومى ذلك لا يرقأ لى دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم بكيت ليلى المقبل لا يرقأ لى دمع ولا أكتحل بنوم حتى ظن أبواى أن البكاء سيفلق كبدى ، ودعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم على بن أبى طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحى يستشيرهما فى فراق أهله ، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي فى نفسه من الود ، فقال : يا رسول اللّه هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا ، وأما علىّ فقال : لم يضيق اللّه عليك والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية (يعنى بريرة) تصدقك ، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بريرة فقال : هل رأيت من شىء يريبك من عائشة ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها ، فتأتى الدواجن فتأكله ، فقام(18/80)
ج 18 ، ص : 81
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من يومه فاستعذر من عبد اللّه بن أبىّ فقال وهو على المنبر يا معشر المسلمين من يعذرنى من رجل قد بلغني أذاه فى أهلى ، فو اللّه ما علمت على أهلى إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلى إلا معى ، فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضى اللّه عنه فقال : أنا أعذرك يا رسول اللّه ، إن كان من الأوس صربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحميّة ، فقال أىّ سعد بن معاذ : لعمر اللّه لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل ، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة ، كذبت لعمر اللّه لنقتلنّه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، فتثاور الحيّان الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قائم على المنبر ، فلم يزل يخفّضهم حتى سكتوا ، ثم أتانى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأنا فى بيت أبوىّ ، فبينما هما جالسان عندى وأنا أبكى استأذنت علىّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكى معى ، قالت فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم جلس عندى ولم يجلس عندى منذ قيل ما قيل ، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه فى شأنى بشىء ، قالت فتشهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم حين جلس ثم قال : أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك اللّه ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفرى اللّه وتوبى إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب اللّه عليه ، فلما قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مقالته قلص دمعى حتى ما أحسّ منه دمعة ، قلت لأبى : أجب عنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيما قال ، قال واللّه ما أدرى ما أقول لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فقلت لأمى : أجيبى رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم ، فقالت واللّه ما أدرى ما أقول لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قالت فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن ، إنى واللّه قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر فى أنفسكم حتى كدتم أن تصدّقوا به ،(18/81)
ج 18 ، ص : 82
فإن قلت لكم إنى بريئة (واللّه يعلم أبى بريئة) لا تصدّقونى بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمر واللّه يعلم أنى منه بريئة لتصدّقنى ، وإنى واللّه لا أجد لى ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف « فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ » ثم توليت فاضطجعت على فراشى وأنا واللّه أعلم أنى بريئة ، وأن اللّه سيبرئنى ببراءتي ، ولكنى واللّه ما كنت أظن أن ينزل فى شأنى وحي يتلى ، ولشأنى كان أحقر فى نفسى من أن يتكلم اللّه فى بأمر يتلى ، ولكنى كنت أرجو أن يرى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فى المنام رؤيا يبرئنى اللّه بها ، قالت واللّه ما دام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مجلسه ولا خرج من البيت أحد حتى أنزل اللّه على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحى حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان
من العرق فى اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه ، قالت : فلما سرّى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يضحك ، كان أول كلمة تكلم بها أن قال : أبشرى يا عائشة ، إن اللّه قد يراك ، فقالت لى أمي قومى إليه ، فقلت واللّه لا أقوم إليه ولا أحمد إلا اللّه ، هو الذي أنزل براءتي ، فأنزل اللّه : « إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ » العشر الآيات كلها ، فلما أنزل اللّه هذا فى براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : واللّه لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ، فأنزل اللّه :
« وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ - إلى قوله - غَفُورٌ رَحِيمٌ » فقال أبو بكر :
إنى لأحب أن يغفر اللّه لى ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يسأل زينب بنت جحش عن أمرى وما سمعت ، فقالت : يا رسول اللّه أحمى سمعى وبصرى ، واللّه ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهى التي كانت تساميى ، فعصمها اللّه بالورع ، وطفقت أحبها حمنة تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك » .(18/82)
ج 18 ، ص : 83
وكان مسروق إذا حدّث عن عائشة يقول : حدثتنى الصّديقة بنت الصديق حبيبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المبرّأة من السماء.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أي إن الذين جاءوا بالكذب والبهتان جماعة منكم أيها المؤمنون تعاونوا وأجمعوا أمرهم على إعلانه وإذاعته بين الناس لمقاصد لهم أخفوها واللّه عليم بما يفعلون.
وفى التعبير (بعصبة) بيان أن هؤلاء شرذمة قليلون ، وأنهم هم الذين ينتسرونه ، لا أنهم عدد كثير من الناس.
(لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي لا تظنوا أن فيه فتنة وشرا ، بل هو خير لكم ، لاكتسابكم به الثواب العظيم ، لأنه كان بلاء مبينا ومحنة ظاهرة ، وإظهار كرامتكم على اللّه بإنزال قرآن يتلى مدى الدهر فى براءتكم وتعظيم شأنكم ، وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم والثناء على من ظن بكم خيرا ، إلى نحو ذلك من الفوائد الدينية والآداب التي لا تخفى على من تأملها.
ثم ذكر عقاب من اجترحوه - كل منهم بقدر ما خاض فيه فقال :
(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي لكل امرئ منهم جزاء ما اجترح من الإثم بقدر ما خاض فيه ، فإن بعضهم تكلم ، وبعضهم ضحك كالمسرور الراضي بما سمع ، وبعضهم أقلّ ، وبعضهم أكثر.
(وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي والذي تحمّل معظم ذلك الإثم منهم وهو عبد اللّه بن أبىّ (عليه اللعنة) له عذاب عظيم فى الدنيا والآخرة ، أما فى الدنيا فبإظهار نفاقه على رءوس الأشهاد ، وأما فى الآخرة فبعذاب لا يقدر قدره إلا العليم الحكيم.
وقد كان هو أول من اختلقه لإمعانه فى عداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ،(18/83)
ج 18 ، ص : 84
وقال الضحاك : الذي تولى كبره حسان ومسطح فجلدهما صلّى اللّه عليه وسلّم حين أنزل اللّه عذرها ، وجلد معهما امرأة من قريش ، وإنما أضاف الكبر إليه ، لأنه ابتدأ بذلك القول ، لاجرم حصل له من العقاب مثل ما حصل لكل من قال ذلك ،
لقوله عليه الصلاة والسلام « من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة » .
ثم عاتب اللّه أهل الإيمان به فيما وقع فى أنفسهم من إرجاف من أرجف فى أمر عائشة وزجرهم بتسعة أمور :
(1) (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) أي هلا إذ سمعتم ما قال أهل الإفك فى عائشة ظنتم بمن اتّهم بذلك خيرا ، لأن الإيمان يحملكم على إحسان الظن ، ويكفّكم عن إساءتكم أنفسكم أي أمثالكم من المؤمنين الذين هم كأنفسكم كما قال « وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ » وقال « فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ » وهلا قلتم حينئذ : هذا كذب ظاهر مكشوف ؟ فإن الذي وقع لم يكن فيه ما يرتاب منه - ذاك أن مجىء أم المؤمنين راكبة جهرة على راحلة صفوان وقت الظهيرة والجيش أجمعه يشاهد ذلك ، ورسول اللّه بين أظهرهم ينفى كل شك ، وإنما قيل ما قيل لحسد فى القلوب كامن ، وبغض فى النفس مكتوم.
ثم علل سبحانه كذب الآفكين ووبّخهم على ما اختلفوه وأذاعوه بقوله :
(2) (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) أي هلا جاء الخائضون فى الإفك بأربعة شهداء يشهدون على ثبوت ما قالوا وما رموها به.
(فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي فحين لم يقيموا بينة على ما قالوا فأولئك المفسدون هم الكاذبون فى حكم اللّه وشرعه.
(3) (وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولولا تفضله سبحانه عليكم فى الدنيا بضروب النعم التي من أجلّها الإمهال للتوبة ، ورحمته فى الآخرة بالعفو بعد التوبة - لعجل لكم العقاب فى الدنيا من جراء ما خضتم فيه من حديث الإفك والبهتان.(18/84)
ج 18 ، ص : 85
ثم بين سبحانه وقت حلول العذاب الذي كانوا يستحقونه لولا الفضل والرحمة بقوله :
(4) (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) أي ولولا تفضله ورحمته لمسكم ذلك العذاب وقت تلقيكم ما أفضتم فيه من الإفك وأخذ بعضكم إياه من بعض بالسؤال عنه ، وقولكم قولا بالأفواه دون أن يكون له منشأ فى القلوب يؤيده ، وظنكم إياه هينا سهلا لا يعبأ به ، وهو من العظائم والكبائر عند اللّه.
وخلاصة ذلك - إنه وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام وعلق مس العذاب العظيم بها :
(ا) تلقى الإفك بالألسنة ، فقد كان الرجل يلقى أخاه فيقول له ما وراءك ، فيحدثه حديث الإفك حتى شاع وانتشر حتى لم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه ، فهم قد فعلوا جهد المستطاع فى نشره.
(ب) إنه قول بلا روية ولا فكر ، فهو قول باللسان لا يترجم عما فى القلب ، إذ ليس هناك علم يؤيده ولا قرائن أحوال وشواهد تصدقه (ج) استصغار ذلك وحسبانه مما لا يؤبه له ، وهو عند اللّه عظيم الوزر ، مستحق لشديد العقوبة.
(ه) (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا ، سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) أي وهلّا حين سمعتموه ممن بدأ به وانتحله أو ممن تابعه فى القول - قلتم تكذيبا له وتهويلا لشأن ما ارتكبه من الجرم : لا يحل لنا أن نتكلم بهذا ولا ينبغى لنا أن نتفوه به سبحانك رب - هذا كذب صراح يحيّر السامعين ، أمره ، لما فيه من جرأة على بيت كريم شهير بالعفاف والطهر ، ولما فيه من مس عرض ذلك البيت المقدس ، بيت النبوة الذي هو فى الذروة العليا من الإجلال والاحترام وعظيم المكانة ، وإذا جاز الخوض فيه على هذه الشاكلة فماذا يبقى للمؤمنين بعدئذ ؟ أ فليس هؤلاء هم الأسوة الحسنة ، وينبوع الطهر ، ومنهم يقتبس المؤمنون فضائل الدين ، وشريف الأخلاق ؟ وإنا لنبرأ إليك(18/85)
ج 18 ، ص : 86
ربنا منه وأن تلوكه ألسنتنا ، وأن يحمل الهواء تلك النبرات الصوتية لتصل إلى أسماعنا ، كما نبرأ إليك ربنا من كل أفّاك أثيم سولت له نفسه أن يكون الوسيلة فى انتشار هذا القول الكاذب بين المؤمنين.
وخلاصة هذا - تنزه ربنا أن يرضى بظلم هؤلاء القاذفين ، وألا يعاقبهم على عظيم ما ارتكبوا وكبير ما اجترحوا من الإثم والفسوق ، وأن توسم زوج نبيه بالفجور ، والعقل والدين يمنعان الخوض فى مثل هذا ، لأن فيه إيذاء للنبى صلّى اللّه عليه وسلّم واللّه يقول « إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ » ولأن فيه إشاعة الفاحشة التي أمر اللّه بسترها ، ولأن فى إظهار محاسن الناس وترك معايبهم تخلقا بأخلاق اللّه
والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول « تخلقوا بأخلاق اللّه » .
ثم حذر عباده المؤمنين أن يعودوا لمثل هذا فقال :
(6) (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي يعظكم اللّه بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب ، وكبر هذا الجرم ، وأن فيه النكال والعقاب بالحد فى الدنيا ، والعذاب فى الآخرة ، كى لا تعودوا لمثله أبدا إن كنتم من أهل الإيمان تتعظون بعظات اللّه ، وتأتمرون بأمره ، وتنتهون عما نهاكم عنه.
وفى قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إيماء إلى أن الإيمان يمنع من فعل هذا.
(وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي ويفصّل اللّه لكم فى كتابه ، آيات التشريع ، ومحاسن الفضائل والآداب ، وهو العليم بكم ، لا يخفى عليه شىء منها ، فيجازى المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته. الحكيم فى تدبير شئونكم وفيما كلفكم به ، مما فيه سعادتكم فى معاشكم ومعادكم ، وبه تسمو نفوسكم وترقى إلى عالم الأرواح ، وتكونون خير الأمم فى سياسة الشعوب وعمارة الأرض ، وإقامة ميزان العدل بين أفرادها « وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ » ولقد صدق اللّه وعده وعمر أسلافنا الأولون ما كان معروفا فى ذلك الحين وبثوا فيه فضائل الدين وسماحته(18/86)
ج 18 ، ص : 87
حتى صاروا مضرب الأمثال ، فلما انحرفوا عن الصراط السوي ، والنهج القويم ، تقلّص ظلهم ، وذهب ريحهم ، وصاروا أذلاء مستعبدين بعد أن كانوا السادة الحاكمين ، وللّه الأمر من قبل ومن بعد.
ولما كان من أنفع المواعظ بيان ما يستحقه المذنب من العقاب على جرمه بيّن ذلك بقوله :
(7) (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي إن الذين يحبون أن يذيع الزنا فى المحصنين والمحصنات من المؤمنين والمؤمنات ، لهم عذاب موجع فى الدنيا بإقامة الحد عليهم واللعن والذم من الناس ، وفى الآخرة بعذاب النار وبئس القرار.
وفى الصحيح أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال « المسلم من سلّم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر ما نهى اللّه عنه » .
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : « لا يستر عبد مؤمن عورة عبد مؤمن إلا ستره اللّه يوم القيامة ، ومن أقال عثرة مسلم أقال اللّه عثرته يوم القيامة » .
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فردوا الأمور إلى ربكم ترشدوا ، ولا ترووا ما لا علم لكم به ، ولا سيما حلائل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فتهلكوا.
ثم كرر فضله ورحمته على عباده للمنة عليهم بترك المعاجلة بالعقاب فقال :
(8) (وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي ولولا أن اللّه تفضل عليكم وأبقاكم بعد الخوض فى الإفك ومكّنّكم من التلافي بالتوبة لهلكتم ، لكنه لرأفته بعباده لا يدع ما هو أصلح للعبد وإن جنى على نفسه.
وبعدئذ حذر عباده من اتباع وساوس الشيطان فقال :
(9) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي يا أيها الذين صدقوا اللّه ورسوله لا تسلكوا سبل الشيطان وطرقه ، ولا تقتفوا آثاره ، بإشاعتكم الفحشاء فى الذين آمنوا ، وإذا عتكموها فيهم ، بروايتكم إياها عمن نقلها إليكم.(18/87)
ج 18 ، ص : 88
ثم ذكر سبب النهى فقال :
(وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) أي ومن اتبع الشيطان ارتكب الفحشاء والمنكر ، فإنه لا يأمر إلا بهما ، ومن هذا شأنه لا ينبغى اتباعه ولا طاعته.
ثم أكد منته على عباده فقال :
(وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) أي ولو لا فضل اللّه عليكم ورحمته بكم بتوفيقكم للتوبة التي تمحو الذنوب وتغسل أدرانها ما طهر أحد منكم من ذنبه وكانت عاقبته النكال والوبال ، ولعاجلكم بالعقوبة كما قال :
« وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ على ظهرها مِنْ دَابَّةٍ » .
(وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي ولكنّ اللّه جلت ، قدرته يطهر من يشاء من خلقه بقبول توبتهم من تلك الذنوب التي اجترحوها تفضلا منه ورحمة كما فعل بمن سلّم من داء النفاق ممن وقع فى حديث الإفك كحسان ومسطح وغيرهما.
(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي واللّه سميع لما تقولون بأفواهكم من القذف وإثبات البراءة ، عليم بما فى قلوبكم من محبة إشاعة الفاحشة أو كراهتها ، ومجازيكم بكل ذلك.
وفى هذا حث لهم على الإخلاص فى التوبة ، والابتعاد جهد المستطاع عن المعصية ، وارتكاب الأوزار والآثام.
(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) أي ولا يحلف من كان ذا فضل وسعة منكم أيها المؤمنون باللّه ، ألا يعطوا ذوى قرابتهم المساكين المهاجرين كمسطح ابن خالة أبى بكر الذي كان فقيرا وهاجر من مكة إلى المدينة وشهد مع رسول اللّه بدرا.
روى أن الآية نزلت فى أبى بكر رضى اللّه عنه حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة أبدا بعد ما قول فى عائشة ما قال(18/88)
ج 18 ، ص : 89
ذاك أنه بعد أن أنزلت براءة عائشة وطابت النفوس وتاب اللّه على من تكلم من المؤمنين فى ذلك وأقيم الحد على من أقيم عليه - تفضل وله الحمد والمنة فعطّف الصّدّيق على قريبه مسطح وكان ابن خالته وكان مسكينا لا مال له وكان من المهاجرين فى سبيل اللّه وقد زلق زلقة تاب اللّه عليه منها وضرب الحدّ عليها.
(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) أي وليتركوا عقوبتهم على ذلك ، بحرمانهم مما كانوا يؤتونهم ، وليعودوا لهم إلى مثل الذي كان لهم عليهم من الإفضال.
ثم رغبهم فى العفو والتفضل فقال :
(أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) أي أ لا تحبون أن يستر اللّه عليكم ذنوبكم بإفضاله عليكم ، والجزاء من جنس العمل ، فكما تغفر ذنب من أذنب إليك ، يغفر اللّه لك ، وكما تصفح يصفح اللّه عنك ، فحينئذ قال الصديق : بلى واللّه نحب أن تغفر لنا ربّنا ، ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة وقال واللّه لا أنزعها منه أبدا.
(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي واللّه غفور لذنوب من أطاعه واتبع أمره ، رحيم به أن يعذبه على ما كان له من زلة قد استغفر منها وتاب إليه من فعلها.
وفي هذا ترغيب عظيم فى العفو ، ووعد كريم عليه بالمغفرة من الذنوب وحث على مكارم الأخلاق.
[سورة النور (24) : الآيات 23 الى 25]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)(18/89)
ج 18 ، ص : 90
تفسير المفردات
المحصنات : العفيفات ، الغافلات : أي عن الفواحش وهن النقيات القلوب اللاتي لا يفكّرن فى فعلها ، لعنوا : أي طردوا من رحمة اللّه فى الآخرة وعذبوا فى الدنيا بالحدّ ، دينهم : أي جزاءهم ومنه
« كما تدين تدان »
الحق : أي الثابت الذي يحق لهم لا محالة ، أن اللّه : أي وعده ووعيده ، الحق : أي العدل الذي لا جور فيه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص أم المؤمنين عائشة وبين عقاب من اتهمها بالإفك وشديد عذابه يوم القيامة وأسهب فى هذا - أعقب ذلك ببيان حكم عام وهو أن كل من اتهم محصنة مؤمنة غافلة بالخنا والفجور - فهو مطرود من رحمة اللّه ، بعيد عن دار نعيمه ، معذّب فى جهنم إلا إذا تاب وأحسن التوبة وعمل صالحا.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي إن الذين يتهمون بالفاحشة العفيفات الغافلات عنها المؤمنات باللّه ورسوله - يبعدون من رحمة اللّه فى الدنيا والآخرة ، ولهم فى الآخرة عذاب عظيم جزاء ما اقترفوا من جناياتهم ، فهم مصدر قالة السوء فى المؤمنات ، وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين والقدوة السيئة لمن يتكلم بها ، فعليهم وزرها ووزر من تكلم بها كما ورد فى الحديث :
« من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة » .
(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ولهم ذلك العذاب الذي لا يقدر قدره يوم يجحدون ما اكتسبوا فى الدنيا من الذنوب حين سؤالهم عنها ، فتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون من قول أو فعل ، إذ ينطقها اللّه بقدرته ، فتخبر كل جارحة بما صدر منها من أفاعيل صاحبها.(18/90)
ج 18 ، ص : 91
ونحو الآية قوله تعالى : « وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ؟ قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ » .
عن أبى سعيد الخدرىّ أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « إذا كان يوم القيامة عرّف الكافر بعمله ، فيجحد ويخاصم ، فيقال هؤلاء جيرانك يشهدون عليك ، فيقول كذبوا ، فيقال أهلك وعشيرتك ، فيقول كذبوا ، فيقال احلفوا فيحلفون ، ثم يصمّهم اللّه فتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ثم يدخلهم النار » .
ويرى فريق من المفسرين أن الشهادة هنا ليست الشهادة باللسان ، بل شهادة الإثبات والبيان ، إذ كل ما يعمله الإنسان فى الدنيا من قول أو فعل تنطبع له صورة على العضو الذي فعله ، فالكلمة يقولها تنطبع لها صورة على اللسان ، واليد التي تمتد لفعل شىء ، والرجل التي تخطو إلى عمل ، كل ذلك يحفظ على نفس الجارحة التي فعلته ، فما أشبه ذلك بالصور التي تؤخذ اليوم لأصابع المجرمين وبصمات أيديهم وأرجلهم فى قلم تحقيق الشخصية للرجوع إليها إذا دعت الحاجة إلى ضبط أولئك المجرمين ، فما ينطبع إذ ذاك على اللسان واليد والرجل يكون كافيا جد الكفاية فى إثبات الجرم على أولئك المجرمين والطغاة الظالمين.
(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) أي فى هذا اليوم يوفيهم اللّه جزاءهم على أعمالهم ، ويعلمون أن ما كانوا يوعدون به فى حياتهم الدنيا من العذاب هو الحق الذي لا شك فيه ، ويزول عنهم كل ريب كان قد ألمّ بهم فى الدار الأولى.
عن أبى هريرة رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « اجتنبوا السبع الموبقات ، قيل وما هن يا رسول اللّه ؟ قال : الشرك باللّه ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم اللّه إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » رواه الشيخان.
قال صاحب الكشاف : ولو قلّبت القرآن كله وفتّشت عما أوعد به العصاة(18/91)
ج 18 ، ص : 92
لم تر أن اللّه قد غلّظ فى شىء تغليظه فى إفك عائشة رضوان اللّه عليها ، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد والعقاب البليغ والزجر العنيف واستعظام ما ركب من ذلك ، واستفظاع ما أقدم عليه ، على طرق مختلفة ، وأساليب مفتنّة ، كل واحد منها كاف فى بابه ، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين فى الدارين جميعا وتوعّدهم بالعذاب العظيم فى الآخرة ، بأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا ، وأنه يوفّيهم جزاءهم ال حق الذي هم أهله اه.
[سورة النور (24) : آية 26]
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
المعنى الجملي
بعد أن برأ سبحانه عائشة مما رميت به من الإفك ، ثم ذكر أن رامى المحصنات الغافلات مطرود من رحمة اللّه - أردف ذلك دليلا ينفى الريبة عن عائشة بأجلى وضوح - ذاك أن السنة الجارية بين الخلق مبنية على مشاكلة الأخلاق والصفات بين الزوجين ، فالطيبات للطيبين ، والخبيثات للخبيثين ، ورسول اللّه من أطيب الطيبين ، فيجب كون الصّدّيقة من أطيب الطيبات على مقتضى المنطق السليم ، والعادة الشائعة بين الخلق.
الإيضاح
(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال لا يتجاوزنهم إلى غيرهم.(18/92)
ج 18 ، ص : 93
(وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) أي والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، لأن المجالسة من دواعى الألفة ودوام العشرة.
(وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ) أي والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، لما قد عرفت من الأنس بمن يحاكيك فى الصفات ، ويجانسك فى الفضل والكمال.
(وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) أي والطيبون أيضا للطيبات منهن لا يتجاوزونهن إلى من عداهن.
وإذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من أطيب الأطيبين ، وخيرة الأولين والآخرين ، استبان أن الصديقة رضى اللّه عنها من أطيب الطيبات واستبان بطلان ما أشاعه المرجفون من أهل الإفك.
(أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي أولئك الطيبون والطيبات ومنهم صفوان وعائشة مبرءون مما يقول الخبيثون والخبيثات من النساء.
(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي لهم مغفرة عن ذنوبهم التي اقترفوها من قبل ، ورزق كريم عند ربهم فى جنات النعيم.
[تنبيه ] هذه الآية الكريمة تشرح الغرائز والطباع ، وتبين أن الإنسان بل هذا الوجود لا تلاؤم بين أجزائه إلا بصفات متناسبة ، فالكرة الأرضية متجاذبة الأجزاء وكرة الهواء مطيعة لمجموعها ، لما بينها من تناسب وتشابه فى الصفات ، وهكذا أخلاق الناس وصفاتهم إذا تشابهت اتفقوا ، وهم يكونون يوم القيامة كذلك ، لا يجتمعون إلا حيث يتفقون.
[سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)(18/93)
ج 18 ، ص : 94
تفسير المفردات
حتى تستأنسوا : أي حتى تستأذنوا ، إذ بالاستئذان يحصل أنس أهل البيت ، وبدونه يستوحشون ويشق عليهم الدخول ، تذكرون : أي تتعظون ، أزكى : أي أطهر ، جناح : أي حرج ، متاع : أي حق تمتع ومنفعة كإيواء الأمتعة والرحال والشراء والبيع ، كحوانيت التجارة والفنادق والحمامات ونحوها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حكم قذف المحصنات الأجنبيات وحكم قذف الزوجات ، ثم أتبع ذلك بقصص أهل الإفك وبسط ذلك غاية البسط ، وكان مما يسهل السبيل إلى التّهمة فى كل هذا وجود الخلوة بين رجل وامرأة - أعقب ذلك بحكم دخول المرء بيت غيره ، وبين أنه لا يدخله إلا بعد الاستئذان والسلام حتى لا يوجد بحال تورث التّهمة التي أمرنا بالابتعاد عنها جهد الطاقة ، إلى أن الإنسان قد يكون فى بيته ومكان خلوته على حال لا يود أن يراه غيره عليها.
روى عدى بن ثابت عن رجل من الأنصار « أن امرأة قالت يا رسول اللّه : إنى أكون فى بيتي على الحال التي لا أحب أن يرانى عليها أحد لا والد ولا ولد ، فيأتينى آت فيدخل علىّ فكيف أصنع ؟ فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية » .
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) أدب اللّه عباده المؤمنين بآداب نافعة فى بقاء الود وحسن العشرة بينهم ، ومن ذلك(18/94)
ج 18 ، ص : 95
ألا يدخلوا بيوت غيرهم إلا بعد الاستئذان والسلام حتى لا يطلعوا على عورات سواهم ، ولا ينظروا إلى ما لا يحل لهم النظر إليه ، ولا يقفوا على الأحوال التي يطويها الناس فى العادة ، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها إلى أن فى هذا تصرفا فى ملك غيرك فلابد أن يكون برضاه.
وينبغى أن يكون الاستئذان ثلاث مرات ، فإن أذن له دخل وإلا انصرف ،
فقد ثبت فى الصحيح أن أبا موسى الأشعري حين استأذن على عمر ثلاثا فلم يؤذن له انصرف ، ثم قال عمر : ألم أسمع صوت عبد اللّه بن قيس (يعنى أبا موسى) يستأذن ؟
ائذنوا له فطلبوه فوجدوه قد ذهب ، فلما جاء بعد ذلك قال ما أرجعك ؟ قال إنى استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لى ، وإنى سمعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فلينصرف » .
(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي الاستئذان والتسليم والانتظار حتى يؤذن لكم خير من الدخول بغتة أو من الدخول على عادة الجاهلية ، فقد كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتا غير بيته يقول حيّيتم صباحا ، حيّيتم مساء ، ثم يدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته فى لحاف واحد.
وقد أرشدكم ربكم إلى ذلك كى تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بما أمرتم به.
(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) أي فإن لم تجدوا فيها أحدا ممن يملك الإذن ، بأن كان فيها عبد أو صبى فلا تدخلوها حتى يأذن لكم من يملكه وهو رب الدار.
وقد استثنى من ذلك ما إذا دعت الضرورة إلى الدخول فورا كإطفاء حريق أو منع حدوث جناية أو نحو ذلك.
(وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) أي وإن قال لكم أهل البيت تستأذنون فيه ارجعوا فارجعوا ، فإن الرجوع أطهر لكم فى دينكم ودنياكم ، لأن رب الدار قد يستوحش ويتأذى بوقوف غيره على بابه بعد منع الاستئذان ،(18/95)
ج 18 ، ص : 96
ولما فى ذلك من الدناءة والتسكع على بيوت الناس ، وربما ظن بأهل البيت سوء من وقوف الأجانب على أبوابهم.
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أي واللّه عليم بكل مقاصدكم ونواياكم من دخول البيوت ومجازيكم على ذلك.
ولما بين حكم البيوت المسكونة بين حكم البيوت غير المسكونة فقال :
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أي ليس عليكم أيها المؤمنون إثم ولا حرج أن تدخلوا بيوتا غير معدّة لسكنى قوم معينين ، بل معدة ليتمتع بها من يحتاج إليها كائنا من كان كالفنادق والحوانيت والحمامات ونحوها مما فيه حق التمتع لكم كالمبيت فيها وإيواء الأمتعة والبيع والشراء والاغتسال ونحو ذلك ، لأن السبب الذي لأجله منع دخول البيت وهو الاطلاع على عورات الناس والوقوف على أسرارهم - غير موجود فيها.
روى أن أبا بكر قال « يا رسول اللّه ، إن اللّه قد أنزل عليك آية فى الاستئذان ، وإنا لنختلف فى تجارتنا فننزل هذه الخانات ، أ فلا ندخلها إلا بإذن ؟ فنزلت الآية » .
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) أي واللّه عليم بما تظهرون بألسنتكم من الاستئذان إذا استأذنتم على أهل البيوت المسكونة ، وما تضمرون من حب الاطلاع على عورات الناس أو من قصد ريبة أو فساد.
وفى هذا من الوعيد الشديد ما لا يخفى.
[سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)(18/96)
ج 18 ، ص : 97
تفسير المفردات
غض بصره : خفّض منه ، والخمر : واحدها خمار وهو ما تغطى به المرأة رأسها (طرحة) والجيوب واحدها جيب : وهو فتحة فى أعلى القميص يبدو منها بعض الجسد ، والبعولة : الأزواج واحدهم بعل ، والإربة : الحاجة إلى النساء ، والطفل : يطلق على الواحد والجمع ، لم يظهروا : أي لم يعلموا عورات النساء لصغرهم.
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه عن دخول البيوت إلا بعد الاستئذان والسلام على أهلها منعا للقيل والقال والاطلاع على عورات الناس وأسرارهم - أمر رسوله أن يرشد المؤمنين إلى غض البصر عن المحارم لمثل السبب المتقدم ، إذ ربما كان ذلك ذريعة إلى وقوع المفاسد وانتهاك الحرمات التي نهى الدين عنها.
الإيضاح
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ)
أي قل أيها الرسول للمؤمنين كفّوا أبصاركم عما حرم اللّه عليكم ، ولا تنظروا إلا ما يباح لكم النظر إليه ، فإن وقع البصر على محرم من غير قصد فليصرفوا أبصارهم عنه سريعا لما رواه مسلم عن عبد اللّه البجلىّ قال :(18/97)
ج 18 ، ص : 98
« سألت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن نظرة الفجاءة فأمرنى أن أصرف بصرى » ،
وروى أبو داود أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال لعلى : « يا علىّ لا تتبع النظرة النظرة ، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة » ،
وفى الصحيح عن أبى سعيد قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « إياكم والجلوس على الطرقات ، قالوا يا رسول اللّه لا بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه ، قالوا وما حق الطريق يا رسول اللّه ؟ قال غضّ البصر ، وكفّ الأذى ، ورد السلام ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر » .
والحكمة فى ذلك : أن فى غض البصر سدا لباب الشر ، ومنعا لارتكاب المآثم والذنوب ، وللّه در أحمد شوقى حيث يقول : نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء
(وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) بمنعها من عمل الفاحشة ، أو بحفظها من أن أحدا ينظر إليها ،
وقد جاء فى الحديث : « احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك » .
(ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) أي ما ذكر من غض البصر وحفظ الفرج أطهر من دنس الريبة وأنفع دينا ودنيا فقد قالوا : النظر بريد الزنا ورائد الفجور ، وللّه در شاعرهم :
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فعلت فى قلب فاعلها فعل السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء مادام ذا عين يقلّبها فى أعين العين موقوف على الخطر
بسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
(إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) فلا يخفى عليه شىء مما يصدر منهم من الأفعال كإجالة النظر واستعمال سائر الحواس ، وماذا يراد بذلك ، فلتكونوا على حذر منه تعالى فى كل ما تأتون وما تذرون.(18/98)
ج 18 ، ص : 99
وبعد أن أمر رسوله بأمر المؤمنين بغضّ أبصارهم أمره بأن يأمر المؤمنات بذلك.
(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ) فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من عورات الرجال والنساء (ما بين السرة والركبة) وإذا نظرن إلى ما عدا ذلك بشهوة حرم ، وبدونها لا يحرم ، ولكن غض البصر عن الأجانب أولى بهن وأجمل لما روى أبو داود والترمذي عن أم سلمة « أنها كانت عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه بعد ما أمرنا بالحجاب ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم احتجبا منه ، فقلت : يا رسول اللّه أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : أ وعمياوان أنتما ؟ أ ولستما تبصرانه ؟ » .
(وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) عما لا يحل لهن من الزنا والسّحاق ويسترنها حتى لا يراها أحد.
(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) أي ولا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه مما جرت العادة بظهوره كالخاتم والكحل والخضاب ، فلا يؤاخذن إلا فى إبداء ما خفى منها كالسوار والخلخال والدّملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط ، لأن هذه الزينة واقعة فى مواضع من الجسد (وهى الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن) لا يحل النظر إليها إلا لمن استثنى فى الآية بعد.
ولما نهى عن إبداء الزينة أرشد إلى إخفاء بعض مواضعها فقال :
(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ)
أي وليلقين خمرهن على جيوبهن ليسترن بذلك شعورهن وأعناقهن وصدورهن حتى لا يرى منها شىء ، وكان النساء يغطين رءوسهن بالخمر ويسدلها من وراء الظهر فتبدو نحورهن وبعض صدورهن كعادة الجاهلية فنهين عن ذلك ، قالت عائشة : رحم اللّه النساء المهاجرات الأول لما أنزل اللّه (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) شققن مروطهن فاختمرن بها.(18/99)
ج 18 ، ص : 100
(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ) أي قل للمؤمنات لا يظهرن هذه الزينة الخفيّة إلا لأزواجهن ، فإنهم المقصودون بها والمأمورات نساؤهم بصنعها لهم ، حتى إن لهم ضربهن على تركها ، ولهم النظر إلى جميع بدنهن ، أو لآباء النساء أو لآباء الأزواج أو لأبنائهن أو لأبناء أزواجهن أو لاخواتهن أو لأبناء الإخوة أو لأبناء الأخوات ، لكثرة المخالطة بينهم وبينهن ، وقلة توقع الفتنة من قبلهم ولأن الطباع السليمة تأبى أن تفتتن بالقريبات ، إلى أنهن محتاجات إلى صحبتهم فى الأسفار للركوب والنزول.
(أو نسائهن) أي المختصات بهن بالصحبة والخدمة.
أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) من الجواري ، أما العبيد فقد اختلفوا فيهم ، فقال قوم عبد المرأة محرم لها فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفا ، وله أن ينظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة كالمحارم ، وروى ذلك عن عائشة وأم سلمة ، وقد روى أن عائشة كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها ، وقال قوم هو كالأجنبى معها وهو رأى ابن مسعود والحسن وابن سيرين ، ومن ثم قالوا لا ينظر العبد إلى شعر مولاته ، وسئل طاوس هل يرى غلام المرأة رأسها وقدمها ؟ ما أحب ذلك إلا أن يكون غلاما يسيرا ، فأما رجل ذو لحية فلا.
(أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) وهم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم لا غرض لهم إلا ذلك ولا حاجة لهم إلى النساء ، إما لأنهم طعنوا فى السن ففنيت شهواتهم ، وإما لكونهم ممسوحين قطعت منهم أعضاء التناسل.
(أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) أي أو الأطفال الذين لم يبلغوا سن الشهوة والقدرة على ملامسة النساء.
ثم نهى عن إظهار وسوسة الحلي بعد النهى عن إبداء مواضعه فقال :
(وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) أي ولا يضربن بأرجلهن.(18/100)
ج 18 ، ص : 101
الأرض لتقعقع خلاخلهن ، فإن ذلك مما يهيج الرجال ويورث ميلا إليهن ، وللنساء أفانين فى هذا ، فقد يجعلن الخرز ونحوه فى جوف الخلخال ، فإذا مشين ولو هونا كان له رنين وصوت خاص ، ومن الناس من تهيجه وسوسة الحلي أكثر مما تهيجه رؤيته (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي ارجعوا أيها المؤمنون إلى طاعة اللّه فيما أمركم به ونهاكم عنه من غض البصر وحفظ الفرج وترك دخول بيوت غيركم بلا استئذان ولا تسليم ، تفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة.
أخرج أحمد والبخاري والبيهقي فى شعب الإيمان عن ابن عمر أنه قال : سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلّم يقول : أيها الناس توبوا إلى اللّه ، فإنى أتوب إليه كل يوم مائة مرة » .
ومن شرط التوبة : الإقلاع عن الذنب ، والندم على ما مضى ، والعزم على ألا يعود إليه ، ورد الحقوق إلى أهلها ، لا كما يظن الناس الآن أنها كلمة تلاك باللسان دون أن يكون لها أثر فى القلب ، ولا عزم على عدم العود ، حتى إن كثيرا ممن يزعمون أنهم تابوا من الذنب يحكون ما فعلوه من الآثام على وجه الفخر والاستلذاذ بذكره ، وهذا دليل على أنهم كاذبون فى توبتهم مراءون فى أفعالهم.
[سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)(18/101)
ج 18 ، ص : 102
تفسير المفردات
الأيامى : واحدهم أيم وهو كما قال النضر بن شميل كل ذكر لا أنثى معه ، وكل أنثى لا ذكر معها بكرا كانت أو ثيبا ، ويقال آمت المرأة وآم الرجل إذا لم يتزوجا بكرين أو ثيبين ، وكثر استعماله فى الرجل إذا ماتت امرأته وفى المرأة إذا مات زوجها ، والصالحين : أي الصالحين للنكاح والقيام بحقوقه ، والإماء : واحدهن أمة وهى الرقيقة غير الحرة ، واسع : أي غنىّ ، وليستعفف : أي وليجتهد فى العفة ، لا يجدون : أي لا يتمكّنون من وسائله وهى المال والكتاب والمكاتبة : كالعتاب والمعاتبة يراد بها شرعا إعتاق المملوك بعد أداء شىء من المال منجّما أي فى موعدين أو أكثر فيقول له كاتبتك على كذا درهما ويقبل المملوك ذلك ، فإذا أدّاه عتق وصار أحق بمكاسبه ، كما صار أحق بنفسه ، والفتيات : واحدهن فتاة ، ويراد بالفتى والفتاة لغة العبد والأمة ، والبغاء : الزنا والتحصن : العفة ، لتبتغوا : أي لتطلبوا ، عرض الحياة الدنيا : أي الكسب وبيع الأولاد ، مبينات : أي مفصّلات ما أنتم فى حاجة إلى بيانه من الأحكام والآداب ، مثلا : أي فصة عجيبة من قصص الماضين كقصة يوسف ومريم.
المعنى الجملي
لما أمر سبحانه بغض الأبصار وحفظ الفروج ونحوهما مما يفضى إلى السفاح أعقبه بالأمر بإنكاح الأيامى ، لأنه الوسيلة لبقاء هذا النوع ، وحفظ الأنساب الذي يستدعى مزيد الشفقة على الأولاد وحسن تربيتهم ودوام الألفة بينهم ، ثم ذكر حكم من يعجز عن ذلك لعدم وجود المال لديه ، ثم رغّب فى مكاتبة الأرقاء ، ليصيروا أحرارا فى أنفسهم(18/102)
ج 18 ، ص : 103
وفى أموالهم يتزوجون كما يشاءون ، وبعدئذ أردف ذلك النهى عن إكراه الإماء على الفجور إن أردن العفة ، ابتغاء ظل زائل من عرض الدنيا.
ثم ختم هذا ببيان أنه أنزل عليكم فى هذه السورة وفى غيرها آيات مبينات لكل ما أنتم فى حاجة إلى بيانه من أحكام وآداب وحدود زاجرة ، وعقوبات رادعة ، وقصص عجيبة عن الماضين ، وأمثال مضروبة ، لتكون عبرة وذكرى لكم.
الإيضاح
(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) أي زوّجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر :
أي من الرجال والنساء ، والمراد بذلك ، مدّيد المساعدة بكل الوسائل حتى يتسنى لهم ذلك ، كإمدادهم بالمال ، وتسهيل الوسائل التي بها يتم ذلك الزواج والمصاهرة.
(وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) أي والقادرين والقادرات على النكاح والقيام بحقوق الزوجية من الصحة والمال ونحو ذلك.
والخلاصة - إن فى الآية أمرا للأولياء بتزويج من لهم عليهم حق الولاية ، وللسادة بتزويج العبيد والإماء ، والجمهور قد حملوا الأمر على الاستحسان لا على الوجوب ، لأنه قد كان فى عصر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفى سائر العصور بعده أيامى من الرجال والنساء ولم ينكر ذلك أحد عليهم ، والظاهر أن الأمر يكون للوجوب إذا خيفت الفتنة وغلب على الظن حصول السفاح من الرجل أو المرأة.
ثم رغّب فى الزواج بالفقير والفقيرة وألا يكون عدم وجدان المال حائلا عن إتمامه فقال :
(إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم أو فقر من تريدون زواجها ، ففى فضل اللّه ما يغنيهم ، والمال غاد ورائح.
وكم يسر أتى من بعد عسر وفرّج كربة القلب الشجىّ
(وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي واللّه ذو سعة وغنى ، فلا انتهاء لفضله ولا حد لقدرته ،(18/103)
ج 18 ، ص : 104
فهو يسع هذين الزوجين وغيرهما ، وهو عليم يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر بحسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
قال ابن عباس : أمر اللّه سبحانه بالنكاح ، ورغّبهم فيه ، وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم ووعدهم فى ذلك الغنى.
وعن أبى هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : « ثلاثة حق على اللّه عونهم : الناكح يريد العفاف ، والمكاتب يريد الأداء ، والغازي فى سبيل اللّه »
. وبعد أن بين حال القادرين على النكاح ووسائله ، بين حال العاجزين عن تلك الوسائل فقال :
(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي وليجتهد فى العفّة وصون النفس من لا يتمكن من المال الذي به يتم النكاح ، ولينتظر أن يغنيه اللّه من فضله حتى يصل إلى بغيته من النكاح ،
وقد جاء فى الحديث الصحيح : « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء »
الباءة مؤن النكاح من مهر ونفقة وكسوة ، والوجاء نوع من الخصاء يكون برضّ عروق الأنثيين مع بقاء الخصيتين كما هما ، فشبه الصوم فى قطعه شهوة النساء به.
(وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أي والمماليك الذين يطلبون من سادتهم أن يكاتبوهم على أداء مال معين نجوما ليصيروا بعد أدائها أحرارا ، ويكونون قادرين على الكسب وأداء ما كوتبوا عليه مع الأمانة والصدق - فكاتبوهم ويكونون بعد انتهاء الأجل وأداء ما أوجبوه على أنفسهم أحرارا فى رقابهم وفى كسبهم.
ثم حث المؤمنين جميعا على تحرير الرقاب فقال :
(وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ) أي وآتوا أيها السادة المكاتبين شيئا من مال اللّه الذي أعطاكم وليس لكم فيه فضل ، فإن اللّه ربكم ورب عبيدكم ، وأموالكم(18/104)
ج 18 ، ص : 105
ملكه ، وأعطوا أيها الحكام المكاتبين سهومهم التي جعلها اللّه لهم فى بيت المال فى مصارف الزكاة بقوله (وَفِي الرِّقابِ) أي وفى تحرير الأرقاء.
وفى هذا حث لجميع المؤمنين على عتق الرقاب ،
روى أبو هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « ثلاثة حق على اللّه عونهم : المكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح يريد العفاف ، والمجاهد فى سبيل اللّه » .
ثم نهى المؤمنين عن السعى فى جمع المال بسبل الحرام فقال :
(وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ولا تكرهوا إماءكم على الزنا إن كنّ يردن التعفف والتحصن ، التماسا لعرض الدنيا من مال وزينة ورياش.
وفى قوله : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) زيادة فى تقبيح حالهم وتشنيع عليهم ، فإن ذا المروءة لا يرضى بفجور من يحويه بيته من إمائه ، فضلا عن أمرهن بذلك وإكراههن عليه ، ولا سيما عند إرادة التعفف وتوافر الرغبة فيه.
والخلاصة - لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراه الإماء على البغاء ، طلبا لمتاع سريع الزوال ، وشيك الفناء والاضمحلال.
أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضى اللّه عنه أن جارية لعبد اللّه بن أبىّ ابن سلول يقال لها (مسيكة) وأخرى يقال لها (أميمة) كان يكرههما على الزنا فشكتا ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت الآية.
وأخرج ابن مردويه عن على كرم اللّه وجهه أنهم كانوا فى الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا ليأخذوا أجورهن ، فنهوا عن ذلك فى الإسلام ونزلت الآية.
ثم أبان أنهن إن أكرهن فالوزر على من أكرههن لا عليهن فقال :
(وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ومن يكرههن على البغاء فإن اللّه غفور رحيم لهن من بعد إكراههن والذنب على المكره لهن ، وكان الحسن إذا قرأ الآية قال : لهن واللّه ، لهن واللّه.(18/105)
ج 18 ، ص : 106
وبعد أن فصّل هذه الأحكام وبيّنها امتنّ على عباده بذلك فقال :
(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي ولقد أنزلنا آيات القرآن مبينات لما أنتم فى حاجة إليه من الأحكام والآداب ، كما أنزلنا قصصا من أخبار الأمم السالفة كقصة يوسف وقصة مريم وفيها شبه بقصص عائشة ، وفيها عظة لمن اتقى اللّه وخاف عقابه وخشى عذابه.
وأثر عن على كرم اللّه وجهه فى وصف القرآن : فيه حكم ما بينكم ، وخبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه اللّه ، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله اللّه.
[سورة النور (24) : آية 35]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
تفسير المفردات
نور : أي ذو نور أي هو هاد أهل السموات والأرض ، والمراد العالم كله ، والمشكاة : لفظ حبشى معرّب يراد به الكوّة غير النافذة ، الزجاجة : القنديل من الزجاج ، والدرىّ : المضيء المتلألئ منسوب إلى الدر ، لا شرقية ولا غربية : أي ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر ولا يحجبها عنها شىء من الشروق إلى الغروب ، يضرب اللّه الأمثال : أي يبين للناس الأشباه والأمثال.(18/106)
ج 18 ، ص : 107
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه أنزل فى هذه السورة آيات مبينات لكل ما يحتاج إليه الناس فى صلاح أحوالهم فى معاشهم ومعادهم من الشرائع والأحكام والآداب والأخلاق - بين أنه نور السموات والأرض بما بث فيهما من الآيات الكونية والآيات التي أنزلها على رسله دالة على وجوده ووحدانيته وسائر صفاته من قدرة وعلم إلى نحو أولئك ، هادية إلى صلاح أمورهم فى الدنيا والآخرة.
الإيضاح
(اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي اللّه هاد أهل السموات والأرض بما نصب من الأدلة فى الأكوان ، وبما أنزل على رسله من الآيات البينات ، فهم بنوره إلى الحق يهتدون ، وبهداه من حيرة الضلال ينجون.
(مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) أي مثل أدلته التي بثها فى الآفاق وهدى بها من شاء من عباده كنور مشكاة فيها سراج ضخم ثاقب له الصفات الآتية.
(الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) أي وذلك المصباح فى قنديل من الزجاج الصافي الأزهر.
(الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) أي الزجاجة كأنها كوكب ضخم مضىء من درارى النجوم وعظامها كالزّهرة والمشترى.
(يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي رويت ذبالته (فتيلته) بزيت شجرة زيتونة كثيرة المنافع ، زرعت على جبل عال أو صحراء واسعة ، فهى ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر ولا يحجبها عنها حاجب من حين طلوعها إلى حين غروبها ، فزيتها أشد ما يكون صفاء.
فقوله : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي لا شرقية فحسب ، ولا غربية فحسب ، بل هى شرقية غربية تصيبها الشمس من حين طلوعها إلى حين غروبها كما يقال فلان لا مسافر ولا مقيم إذا كان يسافر أحيانا ويقيم أخرى.(18/107)
ج 18 ، ص : 108
(يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) أي هو لصفائه وبريقه ولمعانه كأنه يضىء بنفسه دون أن تمسه النار ، لأن الزيت إذا كان خالصا صافيا ثم رئى من بعد يرى كأن له شعاعا ، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوء - كذلك قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاءه ازداد نورا على نور وهدى على هدى.
قال يحيى بن سلام : قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبيّن له ، لموافقته إياه ، وهو المراد من
قوله صلّى اللّه عليه وسلم : « اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور اللّه » .
(نُورٌ عَلى نُورٍ) أي هو نور مترادف متضاعف ، قد تناصرت فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت حتى لم يبق بقية مما يقوّى النور ويزيده إشراقا ويمدّه بإضاءة.
ذاك أن المصباح إذا كان فى مكان ضيق كالمشكاة كان أضوأ له وأجمع لنوره ، بخلاف المكان الواسع فإن الضوء ينبعث فيه وينتشر ، والقنديل أعون شىء على زيادة الإنارة ، وكذلك الزيت وصفؤه.
(يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) أي يوفّق اللّه من يشاء من عباده لإصابة الحق بالنظر والتدبر وتوجيه الفكر لسلوك طريق الجادّة الموصلة إليه ، ومن لم يتدبر فهو كالأعمى سواء لديه جنح الليل الدّامس ، وضحوة النهار الشامس. وعن على رضى اللّه عنه : « اللّه نور السماوات والأرض ، ونشر فيهما الحق وبثه ، فأضاء بنوره » .
(وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) أي ويسوق اللّه الأمثال للناس فى تضاعيف هدايتهم بحسب ما تدعو إليه حالهم ، لما فيها من الفوائد فى النصح والإرشاد ، إذ بها تتفتّق الأذهان للوصول إلى الحق ، وبها تأنس النفس بتصويرها المعاني بصور المحسوسات التي تألفها وتدين بها ، ولأمر ما كثرت فى القرآن الكريم ، فقلّما ساق حجاجا أو أقام دليلا إلا أردفه بالمثل ، ليكون أدعى إلى الإقناع ، وأرحى للاقتناع.
(وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعطى هدايته من يستحقها ممن صفت نفوسهم ،(18/108)
ج 18 ، ص : 109
واستعدّوا لتلقى أحكام الدين وآدابه وكذلك يجعل وسائلها على ضروب شتى بحسب اختلاف أحوال عباده ، لتقوم له الحجة عليهم.
وفى هذا وعد وبشارة لمن تدبر الأمثال ووعاها ، ووعيد وإنذار لمن لم يتفكر فيها ولم يكترث بها ، فإنه لا يصل إلى الحق ولا يهتدى لطريقه.
وخلاصة ذلك ما قاله ابن عباس : هذا مثل نور اللّه وهداه فى قلب المؤمن ، فكما يكاد الزيت الصافي يضىء قبل أن تمسه النار ، فإذا مسته ازداد ضوءا على ضوء - يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاءه ازداد هدى على هدى ونورا على نور.
[سورة النور (24) : الآيات 36 الى 38]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)
تفسير المفردات
المراد بالبيوت : المساجد ، وأذن : أمر ، أن ترفع : أي أن تعظم وتطهّر عن الأنجاس وعن اللغو من الأقوال ، يسبح : أي ينزّه ويقدّس ، الغدو والغداة : أول النهار ، والآصال : واحدها أصيل وهو العشى : أي آخر النهار ، تلهيهم : أي تشغلهم وتصرفهم ، تجارة : أي نوع من هذه الصناعة ، ولا بيع : أي فرد من أفراد البياعات وخصه بالذكر لأنه أدخل فى الإلهاء ، وإقام الصلاة : أي إقامتها لمواقيتها ، وإيتاء الزكاة :(18/109)
ج 18 ، ص : 110
أي المال الذي فرض إخراجه للمستحقين ، واليوم : هو يوم القيامة ، وتتقلّب فيه القلوب والأبصار : أي تضطرب وتتغير من الهول والفزع.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر - جلّت آلاؤه - نوره لعباده وهدايته إياهم على أتم الوجوه - بين هنا حال من حصلت لهم الهداية بذلك النور ، وذكر بعض أعمالهم القلبية والحسية.
الإيضاح
(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) أي كمشكاة فى بيوت أمر اللّه بتطهيرها من الأنجاس الحسية والمعنوية ، كاللغو ورفث الحديث وأمر بذكره فيها وإخلاص العبادة له.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : « المساجد بيوت اللّه فى الأرض ، تضىء لأهل السماء كما تضىء النجوم لأهل الأرض » .
وعن عمرو بن ميمون قال : « أدركت أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهم يقولون : المساجد بيوت اللّه ، وحقّ على اللّه أن يكرم من زاره فيها » .
(يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) أي ينزه اللّه ويقدسه فى أول النهار وآخره ، رجال لا تشغلهم الدنيا وزخرفها ولا بيوعهم وتجاراتهم عن ذكر ربهم وهو خالقهم ورازقهم ، إذ يعلمون أن ما عنده خير لهم وأنفع مما بأيديهم ، فما عندهم ينفد ، وما عند اللّه باق ، ويؤدون الصلاة فى مواقيتها على الوجه الذي رسمه الدين ، ويؤتون الزكاة المفروضة عليهم تطهيرا لأنفسهم من الأرجاس.
ونحو الآية قوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ » الآية. وقوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ » .(18/110)
ج 18 ، ص : 111
ثم ذكر السبب فى شغل أنفسهم بالعبادة فقال :
(يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) أي إنهم يخافون عقاب يوم تضطرب فيه الأفئدة من الهول والفزع ، وتشخص فيه القلوب والأبصار من الهلع والحيرة والرعب والخوف ونحو الآية قوله : « وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ » وقوله :
« إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ » .
ثم بين مآل أمرهم وحسن عاقبتهم فقال :
(لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أي يفعلون هذه القربات من التسبيح والذكر وإيتاء الزكاة مع الخوف من عذاب يوم القيامة - ليثيبهم اللّه على حسناتهم التي فعلوها ، فرضها ونفلها ، واجبها ومستحبها.
ونحو الآية قوله : « إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ، فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ، وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً » .
وفى قوله (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) إيماء إلى أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم بل يغفرها لهم.
(وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي يجزيهم بأحسن الأعمال ، ويضاعف لهم ما يشاء كما قال : « مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها » وقال : « لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ »
وقال صلّى اللّه عليه وسلّم حكاية عن ربه : « أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر » .
ثم نبه إلى كمال قدرته وعظيم جوده وسعة إحسانه فقال :
(وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي إنه تعالى يعطيهم غير أجزية أعمالهم من الخيرات ما لا يفى به الحساب ، فهم لما اجتهدوا فى الطاعة ، وخافوا ربهم أشد الخوف - جازاهم بالثواب العظيم على طاعتهم وزادهم الفضل الذي لا غاية له ، لخوفهم من قهره وشديد عذابه.(18/111)
ج 18 ، ص : 112
[سورة النور (24) : الآيات 39 الى 40]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
تفسير المفردات
السراب : ما يرى فى الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب ويحرى على وجه الأرض كأنه ماء ، والقيعة والقاع : المنبسط من الأرض ، والظمآن : شديد العطش ، لجى : أي ذى لج (بالضم) واللجّ معظم الماء ، والمراد بحر عميق الماء كثيره ، يغشاه :
أي يغطيه ، لم يكد يراها : أي لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها.
المعنى الجملي
بعد أن بين عز اسمه أحوال المؤمنين وأنهم فى الدنيا يكونون فى نور اللّه ، وبه يستمسكون بالعمل الصالح ، وفى الآخرة يفوزون بالنعيم المقيم والثواب العظيم - أردف ذلك بيان حال أضدادهم وهم الكفار ، فذكر أنهم يكونون فى الآخرة فى أشد الخسران والبوار ، وفى الدنيا فى ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض ، وضرب لكلتا الحالين مثلا يوضحها أتم الإيضاح والبيان.
الإيضاح
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) شبه الأعمال الصالحة التي يعملها من جحدوا توحيد اللّه وكذبوا بهذا القرآن(18/112)
ج 18 ، ص : 113
وبمن جاء به ويظنون أنها تنفعهم عند اللّه وتنجيهم من عذابه ، ثم تخيب فى العاقبة آمالهم ويلقون خلاف ما قدّروا - بالسراب يراه من اشتد به العطش فيحسبه ماء فيطلبه ويظن أنه قد حصل على ما يبغى ، حتى إذا جاءه لم يجد شيئا - هكذا حال الكافرين يحسبون أعمالهم نافعة منجيّة لهم من بأس اللّه ، حتى إذا جاءهم العذاب يوم القيامة لم تنفعهم ولم تغنهم من عقابه إلا كما ينتفع بالسراب من اشتد ظمؤه ، واحتاج إلى ما به يروى غلّته.
ثم بين شديد عقابه بقوله :
(وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أي ووجد عقاب اللّه الذي توعد به الكافرين أمامه ، وتحوّل ما كان يظنه نفعا عظيما إلى ضرر محقق وتجيئه الزبانية تعتله وتسوقه إلى جهنم وتسقيه الحمم والغساق.
ونحو الآية قوله : « وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً » .
(وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا يشغله حساب عبد عن حساب آخر.
وخلاصة ما سلف - إن الخيبة والخسران فى الآخرة لمن عملوا صالح الأعمال فى الدنيا كصلة الأرحام ، وإغاثة الملهوفين ، وقرى الأضياف ونحو ذلك. وظنوا أنها تنجيهم من عذاب ربهم ، وهم مع ذلك جاحدو ووحدانيته مكذبون لرسله ، فما مثلهم إلا مثل من اشتد أوامه ورأى السراب فخاله ماء وظن أنه قد وجد ضالته فسعى إليه ، حتى إذا جاءه لم يجد شيئا ورجع يخفّى حنين.
هذه حالهم فى الآخرة ، أما حالهم فى الدنيا فكما قال :
(أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) أي ومثل أعمالهم التي عملت على غير هدى مثل ظلمات مترادفة فى بحر عميق ماؤه ، بعيد غوره ، يغطّيه موج من فوقه موج من فوقه سحاب - فالظلمات هى أعمال الكافرين ، والبحر اللجىّ قلوبهم التي غمرها الجهل ، وتغشبتها الحيرة والضلالة ، فلا تعقل ما فى السكون من(18/113)
ج 18 ، ص : 114
آيات ، ولا تسمع عظة الناصحين ، ولا تبصر حجج اللّه ، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض.
قال الحسن : الكافر له ظلمات ثلاث : ظلمة الاعتقاد ، وظلمة القول ، وظلمة العمل ، وقال ابن عباس : هى ظلمة قلبه وبصره وسمعه.
والخلاصة - إن الكافر لشدة إصراره على كفره تراكمت عليه الضلالات ، حتى إن أظهر الدلالات إذا ذكرت عنده لا يفهمها ، فقلبه مظلم فى صدر مظلم فى جسد مظلم.
(ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) أي ما تقدم ذكره ظلمات متراكمة ، فإن البحر يكون مظلم القعر جدا بسبب غور الماء ، فإذا ترادفت الأمواج ازدادت الظلمة ، فإذا كان فوق الماء سحاب يغطّى النجوم ويحجب أنوارها بلغت الظلمة حدا عظيما.
(إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) أي إذا أخرج الناظر يده ، وهى أقرب ما يرى إليه ، لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها.
(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُو راً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ)
أي ومن لم يرزقه اللّه إيمانا وهدى من الضلالة فما له هداية من أحد.
ونحو الآية قوله : « وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ » وقوله : « وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا » .
وخلاصة ذلك - من لم يوله اللّه نور توفيقه ولطفه فهو فى ظلمة الباطل لا نور له.
[سورة النور (24) : الآيات 41 الى 42]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)(18/114)
ج 18 ، ص : 115
تفسير المفردات
يسبح : أي ينزه ويقدس ، صافات : أي باسطات أجنحتها فى الهواء ، المصير : المرجع.
المعنى الجملي
لما وصف سبحانه قلوب المؤمنين بالنور والهداية وقلوب الكافرين بالظلمة - أردف ذلك ذكر دلائل التوحيد وساق منها أربعة.
الإيضاح
(1) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) أي ألم تعلم بالدليل أن اللّه ينزهه آنا فآنا فى ذاته وصفاته وأفعاله جميع ما فى السموات والأرض من العقلاء وغيرهم ، تنزيها تفهمه أرباب العقول السليمة ، إذ كل المخلوقات فى وجودها وبقائها دالة على وجود خالق لها متصف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص.
وخص التنزيه بالذكر مع دلالة ما فيهما على اتصافه بجميع أوصاف الكمال ، من جرّاء أن سياق الكلام لتقبيح شأن الكفار الذين أخلّوا بالتنزيه ، فجعلوا الجمادات شركاء له سبحانه ، ونسبوا له اتخاذ الولد إلى نحو أولئك ، تعالى ربنا عما يقول الكافرون علوّا كبيرا.
كما ذكر الطير مع دخولها فى جملة ما فى الأرض ، من قبل أنها غير مستقرة فيها ، ولاستقلالها ببديع الصنع وإنبائها عن كمال قدرة خالقها ولطف تدبير مبدعها ، فإن منح تلك الأجرام الثقيلة الوسائل التي تتمكن بها من الوقوف فى الجو وتتحرك كيف تشاء ، وإرشادها إلى طريق استعمالها بالقبض والبسط والتحريك يمينا وشمالا - حجة واضحة الدلالة على كمال قدرة الصانع المجيد ، وحكمة المبدع المعيد.(18/115)
ج 18 ، ص : 116
(كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) أي كل مصلّ منهم ومسبّح قد علم اللّه صلاته وتسبيحه ، لا يخفى عليه شىء من أفعالهم طاعتها ومعصيتها ، وعلمه محيط بها ومجازيهم عليها.
وقد يكون المعنى - إن كل مصلّ ومسبح يعلم ما يجب عليه من الصلاة والتسبيح اللذين كلف بهما ، وليس بالبعيد أن يلهم اللّه الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها.
انظر إلى النحل كيف تبنى بيوتها السداسية الأشكال التي لا يتمكن من بنائها فطاحل المهندسين إلا بدقيق الآلات ، وإلى العنكبوت كيف تفعل الحيل اللطيفة لاصطياد الذباب ، وإلى الدبّ يستلقى فى ممر الثور ، حتى إذا قرب منه ورام نطحه شبث ذراعيه بقرنيه ولا يزال ينهش ما بين ذراعيه حتى يثخنه ثم يفترسه.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) أي إن للّه تعالى ملك السموات والأرض وهو الحاكم المتصرف فيهما إيجادا وإعداما بدءا وإعادة ، وإليه وحده مصيركم ومعادكم ، فيوفيكم أجور أعمالكم التي عملتموها فى الدنيا ، فأحسنوا عبادته ، واجتهدوا فى طاعته ، وقدموا لأنفسكم صالح الأعمال.
[سورة النور (24) : الآيات 43 الى 44]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44)(18/116)
ج 18 ، ص : 117
تفسير المفردات
زجى : يسوق برفق وسهولة ، يؤلف : أي يجمع بين أجزائه وقطعه ، ركاما :
أي متراكما بعضه فوق بعض ، الودق : المطر ، من خلاله : أي من فتوقه التي حدثت بالتراكم ، واحدها خلل كجبال وجبل ، من جبال : أي من قطع عظام تشبه الجبال ، والسنا : الضوء ، يذهب بالأبصار : أي يخطفها لشدة ضوئه وسرعة وروده ، وهو كقوله فى البقرة « يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ » يقلب اللّه الليل والنهار : أي يتصرف فيهما فيأخذ من طول هذا فى قصر ذاك حتى يعتدلا ويغير أحوالهما بالحر والبرد ، لأولى الأبصار : أي لأهل العقول والبصائر.
الإيضاح
(3) هاتان الآيتان دليلان آخران على وحدانية اللّه وقدرته.
وخلاصتهما - انظر أيها الرسول الكريم إلى السحاب ، ويسوقه اللّه بقدرته أول ما ينشئه ، ثم يجمع بين ما تفرق من أجزائه ثم يجعل بعضه متراكما فوق بعض ، فينزل المطر من فتوقه ، وحينا ينزل منه قطعا كبيرة من البرد كأنها الجبال ، فيصيب بما ينزل منه من يشاء من عباده ، فيناله الخير والنفع العميم أو الضرر الشديد إذا كان فوق الحاجة ، ويصرفه عمن يشاء أن يصرفه ، وإلى ما فى هذا السحاب من برق يضىء بشدة وسرعة حتى ليكاد يخطف الأبصار ، وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة ، إذ فيه توليد الضد من الضد ، ففيه توليد النار من الماء.
وانظر أيضا إلى اختلاف الليل والنهار وتقلبهما بزيادة أحدهما ونقص الآخر ، وإلى تغير أحوالهما بالحرارة والبرودة ، إن فى هذا لعبرة لمن اعتبر ، وعظة لمن تأمل فيه ممن له عقل ، فهو واضح الدلالة على أن له مدبرا ومقلّبا لا يشبهه شىء.
عن أبى هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « قال اللّه تعالى : يؤذينى(18/117)
ج 18 ، ص : 118
ابن آدم يسبّ الدهر ، وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلّب الليل والنهار » أخرجه البخاري ومسلم.
[سورة النور (24) : آية 45]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
الإيضاح
(4) هذا هو رابع الأدلة على التوحيد ، فقد استدل بأحوال السماء والأرض ، وبالآثار العلوية ، وهنا استدل بأحوال الحيوان فقال :
(وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) أي واللّه خلق كل حيوان يدبّ على الأرض من ماء هو جزء مادته.
وخص الماء بالذكر من بين ما يتركب منه من المواد ، لظهور احتياج الحيوان إليه ، ولا سيما بعد كمال تركيبه ، ولامتزاج الأجزاء الترابية به.
ثم فصل أقسام الحيوان مما يدب على وجه الأرض فقال :
(فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالحيات والسمك وغيرهما من الزواحف ، وسمى حركتها مشيا مع كونها تزحف زحفا ، إشارة إلى كمال القدرة ، وأنها مع عدم وجود آلة المشي كأنها تمشى.
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالإنسان والطير.
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالأنعام والوحوش.
ولم يذكر سبحانه ما يمشى على أكثر من ذلك كالعناكب وغيرها من الحشرات ، لدخوله فى قوله :
(يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ) مما ذكر ومما لم يذكر ، مع الاختلاف فى الصور والأعضاء ، والحركات والطبائع ، والقوى والأفاعيل.(18/118)
ج 18 ، ص : 119
(إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن اللّه على إحداث ذلك وخلقه وخلق ما يشاء من الأشياء - لذو قدرة فلا يتعذر عليه شىء أراده.
وعلى الجملة فاختلاف هذه الحيوانات فى الأعضاء والقوى ، ومقادير الأبدان والأعمال والأخلاق - لا بد أن يكون بتدبير مدبّر حكيم ، مطلع على أحوالها وأسرار خلقها ، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء ، تعالى اللّه عما يقول الجاحدون علوا كبيرا
[سورة النور (24) : آية 46]
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
المعنى الجملي
بعد أن ساق سبحانه ما يدل على وجوده من أحوال السماء والأرض والآثار العلوية وأحوال الحيوان - ذكر هنا أن هذه وغيرها آيات واضحات دالة على وجود الخالق المدبر للكون لا خفاء فيها.
الإيضاح
(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ) أي لقد أنزلنا عليك دلائل واضحات على طريق الحق والرشاد ، لكن لا يصل إلى فهمها إلا من أوتى بصيرة نيرة ، وفطرة سليمة ، تضىء له الفكر حتى يسير على نهج الحق ويبتعد عن الغى والضلال ، ومن ثم قال :
(وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي واللّه يرشد من يشاء إلى الطريق الذي لا عوج فيه ، وهو إخلاص العبادة له وحده والإنابة إليه.
[سورة النور (24) : الآيات 47 الى 54]
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)(18/119)
ج 18 ، ص : 120
تفسير المفردات
يتولى : أي يعرض ، مذعنين : أي منقادين ، مرض : أي فساد من أصل الفطرة يحملهم على الضلال ، ارتابوا : أي شكّوا فى نبوّتك ، يحيف : أي يجور ، الظالمون :
أي الذين يريدون ظلم الناس وجحد حقوقهم ، ويخشى اللّه : أي فيما صدر منه من الذنوب فى الماضي ، ويتقه : أي فيما بقي من عمره ، جهد أيمانهم : أي أقصى غايتها من قولهم : جهد نفسه إذا بلغ أفصى وسعها وطاقتها ، تولوا : أي تتولوا (بحذف إحدى التاءين).
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه الأدلة الواضحة على توحيده وأتمّ بيانها ، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم ، أعقبه بذكر من لم يهتد بها وهم المنافقون(18/120)
ج 18 ، ص : 121
الذين يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم ، فيقولون : آمنا باللّه وبالرسول ثم يفعلون صد ما يقولون ، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا وخافوا أن يحيف عليهم ، والمؤمن الصادق الإيمان إذا ما دعى إلى اللّه والرسول قال سمعا وطاعة ، ثم بيّن بعض أكاذيبهم التي يراءون بها ويدّعون الإخلاص فيها ، فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول فى كل ما يأمرهم به ، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبّوا الأمر سراعا ، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والإيمان لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين ، وبأن يقول لهم : أطيعوا اللّه حقا لا رياء ، فإن أبيتم فإنما علىّ التبليغ وعليكم السمع والطاعة ، فإن أطعتمونى اهتديتم ، وإن توليتم فقد فعلت ما كلفت به ، وعلى اللّه الحساب والجزاء.
قال مقاتل : نزلت هذه الآية فى بشر المنافق دعاه يهودى فى خصومة بينهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف ، ثم تحاكما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فحكم لليهودى فلم يرض المنافق بقضائه عليه السلام فقال نتحاكم إلى عمر رضى اللّه عنه ، فلما ذهبا إليه قال له اليهودي : قضى لى النبي صلى اللّه عليه وسلّم فلم يرض بقضائه ، فقال عمر للمنافق : أ كذلك ؟ قال بلى ، فقال مكانكما حتى أخرج إليكما ، فدخل رضى اللّه عنه بيته وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد ، وقال : هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وسلم.
الإيضاح
(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي ويقول هؤلاء المنافقون : صدّقنا باللّه وبالرسول وأطعنا الرسول ، ثم يخالفون ذلك فيعرضون عن طاعة اللّه ورسوله ضلالا منهم عن الحق ، وما أولئك بالمؤمنين المخلصين الثابتين على الإيمان ، بل هم ممن فى قلوبهم مرض ، وقد مرنوا على النفاق ، يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم.(18/121)
ج 18 ، ص : 122
وخلاصة ذلك - لا يدخل فى زمرة المؤمنين من يقول آمنا باللّه والرسول وأطعنا ، ثم يعرض عما تقتضيه الطاعة وينحاز إلى غير المؤمنين.
ثم بين هذا التولّى بقوله :
(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) أي وإذا دعى هؤلاء المنافقون إلى كتاب اللّه وإلى رسوله ليحكم بينهم فيما اختصموا فيه بحكم اللّه - أعرضوا عن قبول الحق واستكبروا عن اتباع حكمه ، لأنه لا يحكم إلا بالحق.
ونحو الآية قوله : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً » .
(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) أي وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم جاءوا إلى الرسول مطيعين ، لعلهم بأنه يحكم لهم ، لأنه لا يحكم إلا بالحق ، فإذعانهم لم يكن عن اعتقاد أن حكمه الحق ، بل لأنه وافق هواهم ، ومن جرّاء هذا لما خالف الحقّ قصدهم عدلوا عنه إلى غيره.
ثم فصل ما يحتمل أن يكون السبب فى عدولهم عن قبول حكمه صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله :
(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ؟ ) أي أسبب إعراضهم عن المحاكمة إليه صلّى اللّه عليه وسلّم أنهم مرضى القلوب بالكفر والنفاق ؟ أم سببه أنهم ارتابوا وشكّوا فى نبوته عليه السلام على ظهور أمرها ؟ أم سببه أنهم يخافون أن يجور اللّه ورسوله عليهم فى الحكم ؟
وخلاصة ذلك - لا يخرج أمرهم عن أن يكون فى القلوب مرض لازم بالكفر والنفاق ، أو عروض شك فى الدين ، أو خوف من أن يجور اللّه ورسوله عليهم ، وأيا كان الأمر فهو كفر وضلال ، واللّه عليم بما انطوت عليه قلوبهم من المرض.(18/122)
ج 18 ، ص : 123
ثم أبطل السببين الأولين وأثبت الثالث فقال :
(بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي ليس العدول إلا للسبب الأول فحسب ، فهم ما عدلوا إلا لما فى قلوبهم من المرض والنفاق ، وظلمهم لأنفسهم بمخالفة أمر ربهم ومعصيتهم له فيما أمرهم به من الرضا بحكم رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم فيما أحبّوا وكرهوا ، والتسليم لقضائه.
وبعد أن نفى عنهم الإيمان الحق بين صفات المؤمن الكامل فقال :
(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ينبغى أن يكون قول المؤمنين إذا دعاهم الداعون إلى حكم اللّه ورسوله فيما بينهم وبين خصومهم - سمعنا كلامكم وأطعنا أمركم ، وأولئك هم الفائزون بكل مطلوب ، الناجون من كل مخوف.
وبعد أن رتب الفلاح على هذا النوع من الطاعة أتبعه ببيان أن كل طاعة للّه ورسوله موجبة للفوز فقال :
(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) أي ومن يطع اللّه ورسوله فيما أمراه به وترك ما نهياه عنه ، ويخش اللّه فيما صدر منه من الذنوب فيحمله ذلك على الطاعة وترك المعاصي ، ويتقه فى مستأنف أموره ، فأولئك الذين وصفوا بكل هذا هم الفائزون برضاه عنهم يوم القيامة ، والآمنون من عذابه.
ثم حكى سبحانه نوعا آخر من أكاذيب المنافقين بقوله :
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ)
أي وحلفوا باللّه جاهدين أيمانهم بالغين غايتها - لئن أمرتهم بالخروج للجهاد والغزو ليلبّنّ الطلب وليخرجنّ كما أمرت.
والخلاصة - إنهم أغلظوا الأيمان وشددوها فى أن يكونوا طوع أمرك ورهن اشارتك وقالوا : أينما تكن نكن معك ، فإن أق(18/123)
ج 18 ، ص : 124
(قُلْ لا تُقْسِمُوا)
أي قل لهم : لا تحلفوا ، فإن العلم بما أنتم عليه لا يحتاج إلى قسم ويمين لوضوح كذبه.
ثم علل النهى عن الحلف بقوله :
(طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ)
أي لا تقسموا لأن طاعتكم معروفة لنا ، فهى طاعة باللسان فحسب من غير مواطأة القلب لها ، ولا يجهلها أحد من الناس.
ونحو الآية قوله : « يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ » وقوله : « اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ » .
ثم هددهم وتوعدهم على أيمانهم الكاذبة وأنه مجازيهم على أعمالهم السيئة ، ولا سيما ذلك النفق المفضوح فقال :
(إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)
أي إنه تعالى لا تخفى عليه خافية من ظاهر أعمالكم وخافيها ، فيعلم ما تظهرونه من الطاعة المؤكدة بالأيمان الكاذبة ، وما تبطنونه من الكفر والنفاق والعزيمة على مخادعة المؤمنين ونحو ذلك من أفانين الشر والفساد التي دبّرتموها.
ولما نبه سبحانه إلى خداعهم وأشار إلى عدم الاغترار بأيمانهم - أمر بترغيبهم وترهيهم مشيرا إلى الإعراض عن عقوبتهم بقوله :
(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي مرهم باتباع كتاب اللّه وسنة رسوله ، وفى هذا إيماء إلى أن ما أظهروه من الطاعة ليسوا منها فى شىء.
ثم أكد الأمر السابق ، وبالغ فى إيجاب الامتثال به ، والحمل عليه بالترغيب والترهيب بقوله :
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) أي فإن تتولوا عن الطاعة بعد أن أمركم الرسول بها ، فما ضررتم الرسول بشىء ، بل ضررتم أنفسكم ، لأنه عليه(18/124)
ج 18 ، ص : 125
ما أمر به من تبليغ الرسالة وقد فعل ، وعليكم ما أمرتم به من الطاعة ، فإن أنتم لم تفعلوا وتولّيتم فقد عرّضتم أنفسكم لسخط اللّه وعذابه ، وإن أطعتموه فقد خرجتم من الضلال إلى الهدى ، فالنفع والضرر عائدان إليكم.
(وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي وإن تطيعوا الرسول فيما أمركم به ونهاكم عنه - تهتدوا إلى الحق الموصّل إلى كل خير ، المنجّى من كل شر ، وما الرسول إلا ناصح وهاد ومبلّغ لكم ، فإن أطعتموه لحظوظ أنفسكم أصبتم طريق الصواب ، وإن خالفتموه أوقعتم أنفسكم فى الهلكة.
والخلاصة - إن الرسول فعل ما يجب عليه من أداء الرسالة ، وقد بقي ما يجب عليكم أن تفعلوه.
ونحو الآية قوله : « فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ » وقوله : « فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ » .
[سورة النور (24) : آية 55]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55)
المعنى الجملي
بعد أن بيّن أن من أطاع الرسول فقد اهتدى إلى الحق ، ومن اهتدى إلى الحق فجزاؤه دار النعيم - أردف ذلك وعده الكريم بأنه سيجعل المؤمنين المطيعين للّه ورسوله خلفاء فى الأرض ، ويؤيدهم بالنصرة والإعزاز ، ويبدلهم من بعد خوفهم من العدوّ أمنا ، فيعبدون اللّه وحده وهم آمنون ، ومن جحد هذه النعم من بعد ذلك فقد عصى ربه ، وكفر أنعمه.(18/125)
ج 18 ، ص : 126
روى الطبراني والحاكم وابن مردويه عن أبىّ بن كعب قال : « لما قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وصحبه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا فى السلاح ولا يصبحون إلا فيه ، فقالوا : ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا اللّه ؟ » فنزلت الآية.
الإيضاح
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وعد اللّه المؤمنين منكم المصلحين لأعمالهم - ليورثنّهم أرض المشركين من العرب والعجم ، وليجعلنهم ملوكها وساستها ، كما استخلف بنى إسرائيل بالشام حين أهلك الجبابرة وجعلهم ملوكها وسكانها.
وقد وفى سبحانه بوعده ، فإنه لم يمت عليه الصلاة والسلام حتى فتح اللّه عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام ، وهاداه هرقل ملك الروم ، والمقوقس فى مصر ، والنجاشي ملك الحبشة.
ولما قبض صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى قام بالأمر من بعده الخلفاء الراشدون ، فنهحوا منهجه ، وافتتحوا كثيرا من المشرق والمغرب ، ومزّقوا ملك الأكاسرة ، وملكوا خزائنهم ، واستعبدوا أبناء القياصرة ، وصدق
قول رسوله « إن اللّه زوى لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها » .
(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) أي وليجعلنّ دين الإسلام راسخا قويا ثابت القدم ، ويعظم أهله فى نفوس أعدائه الذين يواصلون الليل بالنهار فى التدبير لإطفاء أنواره ، لتعفو آثاره.
(وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) أي وليغيرنّ حالهم من الخوف إلى الأمن
قال الربيع من أنس : « كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى اللّه وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال(18/126)
ج 18 ، ص : 127
حتى أمروا بعد بالهجرة إلى المدينة فقدموها ، فأمرهم اللّه بالقتال ، فكانوا بها خائفين ، يمسون فى السلاح ويصبحون فى السلاح ، فصبروا على ذلك ما شاء اللّه ، ثم إن رجلا من الصحابة قال يا رسول اللّه : أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح ؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم فى الملأ العظيم محتبيا ليس فيه حديدة ، فأنزل اللّه « وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا »
إلى آخر الآية.
ونحو الآية قوله : « وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » .
ثم أتبع ذلك بتعليل التمكين وما بعده بقوله :
(يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) أي يعبدوننى غير خائفين أحدا غيرى :
(وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي ومن جحد هذه النعم فأولئك هم الذين أنكروا فضل المنعم بها ، وتناسوا جليل خطرها.
[سورة النور (24) : الآيات 56 الى 57]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
تفسير المفردات
معجزين فى الأرض : أي جاعلين اللّه عاجزا عن إدراكهم وإهلاكهم وإن هربوا فى الأرض جميعها.(18/127)
ج 18 ، ص : 128
المعنى الجملي
بعد أن بشر المؤمنين بأنه سيمكن لهم فى الأرض ، ويجعل لهم من بعد الخوف أمنا - أردف ذلك أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، شكرا له على ما أنعم به عليهم ، وإحسانا إلى عباده البائسين الفقراء كما أحسن إليهم بتبديل ذلهم عزة وضعفهم قوة ، ثم أعقبه برفع استبعاد تحقق الوعد السابق ، مع كثرة عدد عدوهم وعددهم ، وبعدئذ ذكر أن مآلهم إلى النار ، وبئس القرار.
الإيضاح
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وأقيموا أيها الناس الصلاة على الوجه الذي رسمه اللّه فى مواقيتها ولا تضيعوها ، وآتوا الزكاة التي فرضها على أهلها ، لما فيها من الإحسان إلى الفقير والمسكين وذوى البؤس والحاجة ، وأطيعوا رسول ربكم فيما أمركم به ونهاكم عنه ، لعل ربكم أن يرحمكم فينجيكم من شديد عذابه.
ثم بين أن الكافرين سيحل بهم النكال ، ولا يجدون مهربا مما أوعدهم به ربهم فقال :
(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي أيها الرسول لا تضّنّ الكافرين يجدون مهربا فى الأرض إذا أردنا إهلاكهم ، بل نحن قادرون على أخذهم والبطش بهم متى أردنا ، والكلام من وادي قولهم : (اسمعي يا جاره).
وبعدئذ بين مآلهم فى الآخرة فقال :
(وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي كما أنا سنضيّق عليهم فى الدنيا وننكّل بهم ، ولا يفلتون من عذابنا - سنجعل عاقبة أمرهم نارا تلظى ، لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذّب وتولى.(18/128)
ج 18 ، ص : 129
والخلاصة - إنه سيلحقهم سخطنا فى الدنيا ، وسينالهم الذل والصغار ، وسيكون مصيرهم فى الآخرة سعيرا وحميما وغساقا ، جزاء وفاقا ، إنهم كذبوا بآياتنا كذابا.
[سورة النور (24) : الآيات 58 الى 60]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
تفسير المفردات
ما ملكت أيمانكم : يشمل العبيد والإماء أي الذكران والإناث ، الحلم : بسكون اللام وضمها أي وقت البلوغ إما بالاحتلام ، وإما ببلوغ الخامسة عشرة سنة من حلم بفتح اللام ، تضعون : أي تخلعون ، الظهيرة : وقت اشتداد الحرّ حين منتصف النهار ، والعورات : أي الأوقات التي يختل فيها تستركم ، من قولهم : أعور الفارس : إذا اختلت حاله. جناح : أي إثم وذنب ، طوافون عليكم : أي يطوفون عليكم للخدمة والمخالطة الضرورية ، القواعد : واحدها قاعد ، وهى العجوز ، لا يرجون نكاحا : أي لا يطمعن فيه لكبر سنهن ، والتبرج : التكلف فى إظهار ما يخفى من الزينة ، من قولهم : سفينة بارج ، إذا كان لا غطاء عليها.(18/129)
ج 18 ، ص : 130
المعنى الجملي
بعد أن نهى فيما سلف عن دخول الأجانب فى البيوت إلا بعد الاستئذان والتسليم على أهلها ، وبين أن فى ذلك الخير كل الخير لهم ، فإن لم يجدوا فيها أحدا رجعوا لما لذلك من كبير الأثر فى المجتمع الإسلامى ، بصيانة الآداب العامة ، ومنع القيل والقال ، وحفظ الأعراض والأنساب.
استثنى فى هذه الآيات دخول الأقارب بعضهم على بعض ، ودخول المملوكين على سادتهم ، وبين أن الاستئذان لا يكون فى جميع الأوقات ، بل فى ثلاث أوقات هى عورات لأرباب البيوت ، لما فيها من رفع الكلفة وقلة التحفظ فى الستر ، ثم ذكر أن النساء الطاعنات فى السن إذا لم يطمعن فى الزواج فلا حرج عليهن إذا لم يستعملن الزينة ، وعليهن أن يتعففن جهد الطاقة.
روى أن سبب نزول الآية « أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعث وقت الظهيرة إلى عمر رضى اللّه عنه غلاما من الأنصار يقال له مدلج ، وكان عمر نائما فدقّ عليه الباب ودخل ، فاستيقظ وجلس ، فانكشف منه شىء ، فقال : لوددت أن اللّه تعالى نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا فى هذه الساعة إلا بإذن ، فانطلق معه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فوجد الآية قد نزلت فخرّ ساجدا »
وهذا أحد موافقات رأيه الصائب رضى اللّه عنه للوحى.
وقيل إن السبب ما روى من أن أسماء بنت أبى مرشد دخل عليها غلام كبير لها فى وقت كرهت دخوله فيه ، فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا فى حال نكرهها فنزلت الآية.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ : مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ ، وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ(18/130)
ج 18 ، ص : 131
الْعِشاءِ)
أي لا يدخل أيها المؤمنون فى بيوتكم عبيدكم وإماؤكم ثلاث مرات فى ثلاثة أوقات من ساعات ليلكم ونهاركم إلا بإذن : قبل صلاة الفجر لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم وليس ثياب اليقظة ، وكل ذلك مظنة انكشاف العورة ، وحين تخلعون ثيابكم التي تلبسونها وقت الظهيرة ، ومن بعد صلاة العشاء ، لأنه وقت خلع ثياب اليقظة ولبس ثياب النوم.
وخص هذه الأوقات الثلاثة ، لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب والالتحاف باللحاف.
وهكذا حكم حال الذين لم يبلغوا الحلم من أطفالكم.
ثم علل طلب الاستئذان بقوله :
(ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) أي لأن هذه الأوقات الثلاثة ثلاث عورات لكم يختل فيها التستر عادة.
وبعد أن بين حكم هذه الأوقات الثلاث بين حكم ما عدا ذلك فقال :
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ) أي ليس عليكم معشر - أرباب البيوت ولا على الذين ملكت أيمانكم من الرجال والنساء ولا على الذين لم يبلغوا الحلم من أطفالكم - حرج ولا إثم فى غير هذه العورات الثلاث.
والخلاصة - لا حرج ولا إثم على الناس أن يدخل عليهم مماليكهم البالغون وصبيانهم الصغار بغير استئذان بعد هذه الأوقات الثلاث - أما من بلغ الحلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال.
ثم علل الإباحة فى غيرها بقوله :
(طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي هؤلاء المماليك والصبيان الصغار يدخلون ويخرجون على مواليهم وأقربائهم فى منازلهم غدوة وعشية بغير إذن ، لأنهم يخدمونهم ، أو لاحتياج الأقارب إليهم ، كما أن السادة والأقارب يطوفون على ذوى قرابتهم ومماليكهم إذا عرضت لهم حاجة إليهم.(18/131)
ج 18 ، ص : 132
ثم بين فضله على عباده فى بيان أحكام دينهم لهم فقال :
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي ومثل هذا التبيين لتلك الأحكام يبين لكم شرائع دينكم وأحكامه ، واللّه عليم بما يصلح أحوال عباده ، حكيم فى تدبير أمورهم ، فيشرع لهم ما يصلح أحوالهم فى المعاش والمعاد.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس : ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ » الآية ، وقوله فى النساء :
« وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى » الآية ، وقوله فى الحجرات : « إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ » .
وعن عكرمة عن ابن عباس أن رجلين سألاه عن الاستئذان فى العورات الثلاث التي أمر اللّه بها فى القرآن فقال : إن اللّه ستّير يحب الستر ، كأن الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حجال فى بيوتهم ، فربما فجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه فى حجره وهو على أهله ، فأمرهم اللّه أن يستأذنوا فى تلك العورات ، ثم بسط اللّه عليهم الرزق فاتخذوا الستور واتخذوا الجبال فرأوا أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به اه.
ولما بين اللّه حكم الأرقاء والصبيان الذين هم أطوع للأمر وأقبل لكل خير - أتبعه بحكم البالغين الأحرار بقوله :
(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وإذا بلغ الصغار من أولادكم وأقربائكم الأحرار سنّ الاحتلام وهو خمس عشرة سنة فلا يدخلوا عليكم فى كل حين إلا بإذن لا فى أوقات العورات الثلاث ولا فى غيرها ، كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه.
وذكر اللّه فى هذه الآية حكم الأطفال إذا بلغوا ولم يذكر حكم ما ملكت أيماننا مع أن ما قبلها فيه ذكر المماليك والأطفال - لأن حكم ما ملكت اليمين وحد كبارهم ، صغارهم ، وهو الاستئذان فى الساعات الثلاث التي ذكرت فى الآية قبل(18/132)
ج 18 ، ص : 133
ثم أكد نعمه عليهم ببيان أحكام دينهم بقوله :
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي كما بين لكم ما ذكر غاية البيان ، يبين لكم ما فيه سعادتكم فى دنياكم وآخرتكم ، وهو العليم بأحوال خلقه ، الحكيم فيما يدبر لهم.
ولما بين سبحانه حكم الحجاب حين إقبال الشباب أتبعه بحكمه حين إدباره فقال :
(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي والنّساء اللواتى قعدن عن الولد كبرا ، وقد يئسن من التبعل فلا يطمعن فى الأزواج ، فليس عليهن إثم ولا حرج أن يخلعن ثيابهن الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار إذا كنّ لا يبدين زينة خفية كشعر ونحر وساق لدى المحارم وغير المحارم من الغرباء.
وخلاصة ذلك - لا جناح على القواعد من النساء أن يجلسن فى بيوتهن بدرع وخمار ويضعن الجلباب ، ما لم يقصدن بذلك الزينة وإظهار ما يجب إخفاؤه - هذا إذا لم يكن فيهن بقية من جمال تورث الشهوة ، فإن كان فيهن ذلك فلا يدخلن فى حكم الآية.
(وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) أي وإن تعففن عن وضع جلابيبهن وأرديتهن ، فلبسنها كان ذلك خيرا لهن من خلعها ، لتباعدهن حينئذ عن التّهمة ، ولقد قالوا :
لكل ساقطة فى الحىّ لاقطة.
ثم توعد من يخالف تلك الأوامر فقال :
(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي واللّه سميع بما يجرى بينهن وبين الرجال من الأحاديث ، عليم بمقاصدهن لا تخفى عليه خافية من أمرهن ، فاحذروا أن يسوّل لكم الشيطان مخالفة ما به أمر ، وعنه نهى.(18/133)
ج 18 ، ص : 134
[سورة النور (24) : آية 61]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
تفسير المفردات
الحرج لغة : الضيق ، ويراد به فى الدين الإثم ، ما ملكتم مفاتحه : أي ما كان تحت تصرفكم من بستان أو ماشية بطريق الوكالة أو الحفظ ، والصديق : يطلق على الواحد والجمع كالخليط والعدو ، جميعا : أي مجتمعين ، أشتاتا : أي متفرقين ، واحدهم شتيت ، على أنفسكم : أي على أهل البيوت ، طيّبة : أي تطيب بها نفس المستمع.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن للمماليك والصبيان الدخول فى البيوت فى غير العورات الثلاث بلا استئذان ولا إذن من أهل البيت - ذكر هنا أنه لا حرج على أهل هذه الأعذار الثلاثة فى تركهم للجهاد وما يشبهه ، وذلك يستلزم عدم الاستئذان منه صلّى اللّه عليه وسلم فلهم القعود من غير استئذان ولا إذن ، كما لا حرج عمن ذكروا بعدهم فى الأكل من البيوت المذكورة فى الآية.(18/134)
ج 18 ، ص : 135
قال صاحب الكشاف : والكلام على هذا التفسير صحيح لالتقاء الطائفتين فى أن كلا منهما منفى عنه الحرج ، ومثاله أن يستفتى مسافر عن الإفطار فى رمضان وحاجّ مفرد عن تقديم الحلق على النحر فتقول : ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاجّ أن تقدّم الحلق على النحر اه.
قال الحسن : أنزلت الآية فى ابن أم مكتوم وضع اللّه عنه الجهاد وكان أعمى.
وقال مقاتل : نزلت فى الحارث بن عمرو ، وكان قد خرج مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غازيا وخلف مالك بن يزيد على أهله ، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال : تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك.
الإيضاح
(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي ليس على هؤلاء الثلاثة إثم فى ترك الجهاد لضعفهم وعجزهم : قاله عطاء وزيد بن أسلم.
ونحو الآية قوله فى سورة براءة : « لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ » .
وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما أن المراد من الحرج المنفي فى الآية الحرج فى الأكل ذلك أنه لما نزل قوله تعالى : « وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ » تحرّج المسلمون عن مؤاكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام. فأنزل اللّه هذه الآية. والمعنى على هذه الرواية : ليس فى مؤاكلة الأعمى ولا ما بعده حرج.
(وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي ولا حرج عليكم أن تأكلوا من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم ، ويشمل ذلك بيوت الأولاد ، لأن بيت الولد كبيته
لقوله صلّى اللّه عليه وسلم « أنت ومالك لأبيك »
وقوله « إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه ، وإن ولده من كسبه »
.(18/135)
ج 18 ، ص : 136
وفائدة ذكر قوله : (عَلى أَنْفُسِكُمْ) الإشارة إلى أن الأكل المذكور مع أنه لا حرج فيه لا يخل بقدر من له شأن ، فقد كثر إقحام (النفس) فى ذوى القدر كقوله :
« كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ » ولم يقل : كتب ربكم عليه الرحمة ، وقوله
فى الحديث القدسي « يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى »
ولم يقل : حرمت الظلم علىّ وذكر هذا الحكم وهو معلوم ، ليعطف عليه غيره فى اللفظ ، وليساويه ما بعده فى الحكم.
(أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) لما علم بالعادة أن هؤلاء تطيب نفوسهم بأكل من يدخل عليهم من الأقارب.
(أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) عنى بذلك وكيل الرجل وقيّمه فى ضيعته وماشيته ، فلا حرج عليه أن يأكل من ثمر الضيعة ويشرب من لبن الماشية ، ولكن لا يحمل ولا يدّخر ، وهذا إذا لم يجعل له أجرا على ذلك ، فإن جعل له أجرا فلا يحل له أكل شىء منها.
(أَوْ صَدِيقِكُمْ) أي أو بيوت أصدقائكم الذين يصدقونكم المودة وتصدقونهم ، هذا إذا علم رضاهم بذلك بالإذن أو بشاهد الحال ، ولا فرق بينهم وبين غيرهم إذا وجد الإذن.
قال ابن زيد : هذا شىء قد انقطع ، إنما كان فى أوّله ولم يكن لهم ستور أبواب ، أو كانت الستور مرخاة فربما دخل الرجل البيت وليس فيه أحد ، وربما وجد الطعام وهو جائع ، فسوّغ له أن يأكل منه ، ثم قال ذهب ذلك اليوم ، البيوت فيها أهلها ، فإذا خرجوا أغلقوا اه.
وعلى هذا ، فالمعنى يجوز الأكل من بيوت هؤلاء وإن لم يحضروا إذا علم رضاهم به بصريح اللفظ أو بالقرينة وإن كانت ضعيفة.
وإنما خص هؤلاء بالذكر ، لأنهم اعتادوا التبسط بينهم ، والرضا فيهم محقق غالبا(18/136)
ج 18 ، ص : 137
وعن جعفر الصادق رضى اللّه عنه. من عظم حرمة الصديق أن جعله اللّه تعالى من الأنس والثقة والانبساط ورفع الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ.
وقيل لأفلاطون : من أحب إليك : أخوك أم صديقك ؟ فقال لا أحب أخى إلا إذا كان صديقى ، ولكن أنّى هو ؟ فقد أثر عن هشام بن عبد الملك أنه قال : نلت مانلت حتى الخلافة ، وأعوزنى صديق لا أحتشم منه.
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) أي لا حرج عليكم أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين ، روى عن ابن عباس والضحاك وقتادة أنها نزلت فى بنى ليث ابن عمرو بن كنانة تحرّجوا أن يأكلوا طعامهم متفرقين ، وكان الرجل منهم يمكث طوال يومه لا يأكل حتى يجد ضيفا يأكل معه ، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا ، وربما قعد الرجل منهم والطعام بين يديه لا يتناوله إلى الرواح ، وقد تكون معه الإبل الحفّل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه ، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل ، وفى مثل هذا يقول حاتم :
إذا ما صنعت الزاد فالتمسى له أكيلا فإنى لست آكله وحدي
وفى الحديث : « شر الناس من أكل وحده ، وضرب عبده ، ومنع رفده »
وإنما ذمّ هذا لأنه بخل بالقرى.
ثم شرع سبحانه يبين ما ينبغى رعايته حين دخول البيوت بعد أن ذكر الرخصة.
فيه فقال :
(فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي فإذا دخلتم بيتا من هذه البيوت فليسلم بعضكم على بعض.
وفى التعبير عن أهل تلك البيوتات (بأنفسكم) إيماء إلى السبب الذي اقتضى إباحة الأكل من تلك البيوت ، وأنه إنما كان لأن الداخل فيها كأنه داخل فى بيته ، لما بينهما من قرابة أو نحوها.(18/137)
ج 18 ، ص : 138
(تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) أي حيّوا تحية ثابتة بأمره تعالى مشروعة من لدنه ، يرجى بها زيادة الخير والثواب ، ويطيب بها قلب المستمع.
وعن جابر بن عبد اللّه قال : « إذا دخلت على أهلك فسلّم عليهم تحية من عند اللّه مباركة طيبة » أخرجه البخاري وغيره.
روى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال : أوصانى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بخمس خصال قال : « يا أنس أسبغ الوضوء يزد فى عمرك ، وسلّم على من لقيك من أمتى تكثر حسناتك ، وإذا دخلت (يعنى بيتك) فسلم على أهلك يكثر خير بيتك ، وصلّ صلاة الضحى فإنها صلاة الأوّابين قبلك ، يا أنس ، ارحم الصغير ، ووقّر الكبير ، تكن من رفقائى يوم القيامة » .
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي هكذا يفصّل اللّه لكم معالم دينكم ، كما فصّل لكم فى هذه الآية ما أحل لكم فيها ، وعرّفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه ، لكى تفقهوا أمره ونهيه وأدبه ، وبذا تفوزون بسعادة الدارين ، ويكون لكم المقام المحمود عند ربكم.
[سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)(18/138)
ج 18 ، ص : 139
تفسير المفردات
أمر جامع : أي خطب جلل يستعان فيه بأرباب التجارب والآراء كقتال عدو أو تشاور فى حادث قد عرض ، والتسلل : الخروج من البيت تدريجا وخفية ، واللواد والملاوذة : التستر ، يقال لاذ فلان بكذا ، إذا استتر به ، والمخالفة : أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر فى حاله أو فعله ، فتنة : أي بلاء وامتحان فى الدنيا ، عذاب أليم : أي عذاب مؤلم موجع فى الآخرة.
المعنى الجملي
بعد أن أمر المؤمنين بالاستئذان عند الدخول أمرهم بالاستئذان حين الخروج ، ولا سيما إذا كانوا فى أمر جامع مع الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم كتشاور فى قتال أحد أو فى حادث عرض ، وبيّن أن من يفعل ذلك فهو من كاملى الإيمان ، ثم أمر رسوله أن يأذن لمن شاء منهم إذا استأذنه ، ثم أمر المؤمنين أن يبجّلوا نبيهم ولا يسموه باسمه بل يقولوا يا نبى اللّه ، ويا رسول اللّه ، وليحذروا أن يخالفوا أمره وسنته وشريعته ، بل عليهم أن يزنوا أقوالهم وأفعالهم بأقواله وأفعاله ، فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على فاعله وقائله كائنا من كان ،
وقد ثبت فى الصحيحين وغيرهما أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » .
الإيضاح
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) أي ما المؤمنون حق الإيمان إلا الذين صدقوا اللّه ورسوله ،(18/139)
ج 18 ، ص : 140
وإذا كانوا مع رسوله على أمر يجمع جميعهم من حرب حضرت ، أو صلاة اجتمع لها ، أو تشاور فى أمر قد نزل ، لم ينصرفوا عما اجتمعوا له حتى يستأذنوا الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وهذا أدب على نهج سابقه ، فكما أرشدهم من قبل إلى الاستئذان حين الدخول ، أمرهم بالاستئذان حين الانصراف ، ولا سيما إذا كانوا فى أمر جامع ،
روى الترمذي والنسائي عن أبى هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم ، فإذا أراد أن يقوم فليسلم ، فليست الأولى بأحق من الآخرة » .
ولما كان الإذن كالدليل على كمال الإيمان والمميّز للمخلص من غيره أعاده مؤكدا بأسلوب أبلغ فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي إن الذين لا ينصرفون إذا كانوا معك أيها الرسول في أمر جامع إلا بإذنك لهم ، طاعة منهم للّه ولك ، وتصديقا بما أتيتهم به من عنده - أولئك هم المؤمنون حقا.
ولما ذكر ما يلزم المؤمن من الاستئذان أعقبه بما يفعله الرسول حينئذ فقال :
(فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) أي فإذا استأذنوك لبعض ما يعرض لهم من مهامّ أمورهم فأذن لمن شئت منهم أن ينصرف لقضاء ما عرض له ، بحسب ما تقتضيه المصلحة التي تراها ، كما وقع لعمر رضى اللّه عنه حين خرج مع النبي صلى اللّه عليه وسلّم فى غزوة تبوك ، حيث استأذن فى الرجوع إلى أهله فأذن له صلّى اللّه عليه وسلّم
وقال له : ارجع فلست بمنافق.
(وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي وادع اللّه أن يتفضل عليهم بالعفو عن تبعات ما بينه وبينهم ، إنه غفور لذنوب عباده التائبين ، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.(18/140)
ج 18 ، ص : 141
وفى هذا إيماء إلى أن الاستئذان وإن كان لعذر قوى - فيه بعض الملامة لما فيه من تقديم شئون الدنيا على أمور الآخرة ، كما أن فيه احتفالا برسوله صلّى اللّه عليه وسلّم إذ جعل الاستئذان للذهاب عنه ذنبا محتاجا إلى الاستغفار ، فضلا عن الذهاب بلا إذن ، ورتب الإذن على الاستئذان لبعض شأنهم لا على الاستئذان لأى أمر مهما كان ، مهمّا كان أو غير مهمّ ، على أنه علق الإذن بالمشيئة.
وبعد أن ظهر فى هذه السورة شرف الرسول ، ولا سيما فى هذه الآية التي بهرت العقول - أردف هذا ما يؤكده فقال :
(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) أي لا تقيسوا أيها المؤمنون دعاءه عليه السلام إياكم بدعاء بعضكم بعضا فى المساهلة والرجوع من مجلسه بغير ستئذان ، فإن هذا محرم عليكم.
ثم توعد المنصرفين خفية بغير استئذان فقال :
(قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) أي قد يعلم اللّه الذين يخرجون متسللين من المسجد فى الخطبة واحدا بعد واحد من غير استئذان خفية مستترين بشىء ، وإن عملهم هذا إن خفى على الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فلا يخفى على من يعلم السر والنجوى ومن لا يعزب عنه مثقال ذرة ، ويعلم الدواعي التي تحملهم على ذلك ، ولديه الجزاء على ما يفعلون.
روى أبو داود أنه كان من المنافقين من يثقل عليه استماع الخطبة والجلوس فى المسجد فإذا استأذن أحد من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتر به فأنزل اللّه الآية.
(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي فليتق اللّه من يفعلون ذلك منكم ، فينصرفون عن رسول اللّه بغير إذنه ، أن تصيبهم محنة وبلاء فى الدنيا أو يصيبهم عذاب مؤلم موجع فى الآخرة ، بأن يطبع اللّه على قلوبهم ، فيتمادوا فى العصيان ومخالفة أمر الرسول ، فيدخلهم النار وبئس القرار.(18/141)
ج 18 ، ص : 142
والآية تعم كل من خالف أمر اللّه وأمر رسوله وجمد على التقليد من بعد ما تبين له الهدى ، وظهر له الصواب من الخطأ.
وبعد أن أقام الأدلة على أنه نور السموات والأرض ، ثم حذر كل مخالف لرسوله صلى اللّه عليه وسلّم - ختم السورة ببيان أنه المالك للموجودات بأسرها ، خلقا وملكا ، وتصرفا وإيجادا ، وإعداما بدءا وإعادة ، فقال :
(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أي إنه تعالى مالك السموات والأرض وإنه عالم بما يعمل العباد كما قال : « وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ، وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ » وقال تعالى : « أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ؟ » .
ثم هدّد وتوعد فقال :
(وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي ويوم يرجع الخلائق إلى ربهم حين العرض والحساب يخبرهم بما فعلوا فى الدنيا من جليل وحقير ، وكبير وصغير كما قال :
« يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ »
وقال : « وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً » وبعدئذ ذكر ما هو كالدليل على ما سلف بقوله :
(وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إنه سينبئهم بما عملوا فى حياتهم الأولى ، لأنه ذو علم بكل شىء وإحاطة به وهو موف كل عامل أجر عمله ، يوم يرجعون إلى حكمه ، إذ لا حكم يومئذ إلا هو.(18/142)
ج 18 ، ص : 143
عن عقبة بن عامر قال : « رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يقرأ هذه الآية فى خاتمة النور ، وهو جاعل أصبعيه تحت عينيه يقول بكل شىء بصير » أخرجه الطبراني وغيره ، قال السيوطي بسند حسن.
وصلّ ربنا على محمد النبي الأمى وعلى آله.
مجمل ما حوته السورة الكريمة من الأغراض والمقاصد
(1) عقوبة الزاني والزانية.
(2) عقوبة قاذفى المحصنات الغافلات المؤمنات.
(3) حكم قذف الزوجات.
(4) قصص الإفك وبراءة أم المؤمنين عائشة.
(5) آداب الزيارة.
(6) أمر المؤمنين بغضّ الأبصار وحفظ الفروج.
(7) نهى النساء عن إبداء زينتهن لغير بعولتهن إلخ.
(8) أمر المؤمنين بإنكاح الأيامى من الرجال والنساء ، فالمجتمع الإسلامى كأنه أسرة واحدة.
(9) أمر من لم تتوافر له وسائل النكاح لعدم وجود المال أو سواه بالعفة حتى يغنيه اللّه.
(10) بيان أن الأعمال الصالحة التي يعملها الكافرون فى الدنيا لا تجدى عنهم نفعا يوم القيامة ، بل تكون كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا (11) الأدلة التي نصبها اللّه فى الأكوان علويها وسفليها شاهدة بوحدانيته.
(12) المنافقون يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم.
(13) وصف المؤمنين الصادقين.(18/143)
ج 18 ، ص : 144
(14) وعد اللّه عباده المؤمنين بأنه سيستخلفهم فى الأرض وينشر دينهم الذي ارتضى لهم.
(15) استئذان الموالي والأطفال فى أوقات ثلاث إذا أرادوا الدخول على أهليهم (16) رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض فى الجهاد.
(17) لا حرج فى الأكل من بيوت الآباء والأمهات إلخ بلا إذن.
(18) نهى المؤمنين عن الانصراف من مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا كانوا معه فى أمر جامع.
(19) إباحة إذنه لهم إن شاء حين الطلب.
(20) بيان أن مجلس الرسول مبجّل موقر وليس كمجلس المؤمنين بعضهم مع بعض.(18/144)
ج 18 ، ص : 145
سورة الفرقان
هى مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة ، وهى 68 ، 69 ، 70 ، وآيها سبع وسبعون نزلت بعد سورة يس.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه :
(1) إنه سبحانه اختتم السورة السابقة بكونه مالكا لما فى السموات والأرض مصرّفا له على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة مع النظام البديع والوضع الأنيق ، وأنه سيحاسب عباده يوم القيامة على ما قدموا من العمل خيرا كان أو شرا ، وافتتح هذه بما يدل على تعاليه فى ذاته وصفاته وأفعاله وعلى حبه لخير عباده بإنزال القرآن لهم هاديا وسراجا منيرا.
(2) اختتم السورة السالفة بوجوب متابعة المؤمنين للرسول صلّى اللّه عليه وسلم مع مدحهم على ذلك وتحذيرهم من مخالفة أمره خوف الفتنة والعذاب الأليم ، وافتتح هذه بمدح الرسول وإنزال الكتاب عليه لإرشادهم إلى سبيل الرشاد ، وذمّ الجاحدين لنبوته بقولهم : إنه رجل مسحور ، وإنه يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق إلى آخر ما قالوا.
(3) فى كل من السورتين وصف السحاب وإنزال الأمطار وإحياء الأرض الجرز فقال فى السالفة : « أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً » إلخ وقال فى هذه : « وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً » إلخ.
(4) ذكر فى كل منهما وصف أعمال الكافرين يوم القيامة وأنها لا تجزيهم فتيلا ولا قطميرا فقال فى الأولى : « وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ » إلخ وقال فى هذه :
« وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً » .
(5) وصف النشأة الأولى للإنسان فى أثنائهما فقال فى الأولى : « وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ » وفى الثانية : « وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً »(18/145)
ج 18 ، ص : 146
[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2)
تفسير المفردات
تبارك : من البركة ، وهى كثرة الخير لعباده ، بإنعامه عليهم وإحسانه إليهم كما قال « وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها » والفرقان : هو القرآن ، سمى بذلك لأنه فرّق فى الإنزال كما قال : « وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ » على عبده :
أي على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ، ووصفه بذلك تشريفا له بكونه فى أقصى مراتب العبودية ، وتنبيها إلى أن الرسول لا يكون إلا عبدا للمرسل ، وفيه ردّ على النصارى الذين يدّعون ألوهية عيسى عليه السلام ، للعالمين : أي الثقلين من الإنس والجن ، فقدره : أي هيّأه لما أعدّه له من الخصائص والأفعال.
المعنى الجملي
حوت هذه السورة توحيد اللّه وإثبات نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وبيان صفات النبي ، والرد على من أنكروا نبوته صلّى اللّه عليه وسلم ، ثم بيان أحوال يوم القيامة وما يكون فيها من الأهوال ، ثم ختمت بأوصاف عباده المخلصين الذين يمشون على الأرض هوبا ، ثم ذكر جلال اللّه ، وتصرفه فى خلقه ، وتفرده بالخلق والتقدير.
الإيضاح
(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) حمد سبحانه نفسه على ما نزّله على رسوله من القرآن الكريم ، لينذر به الثقلين الجن والإنس ويخوفهم(18/146)
ج 18 ، ص : 147
بأسه ، وإنما ذكر الإنذار ولم يذكر التبشير مع أن الرسول مرسل بهما ، من قبل أن السورة بصدد بيان حال المعاندين المتخذين للّه ولدا والطاعنين فى كتبه ورسله واليوم الآخر.
وخلاصة ذلك - تعالى اللّه عما سواه فى ذاته وصفاته وأفعاله التي من جملتها تنزيل القرآن المعجز الناطق بعلوّ شأنه ، وسمو صفاته ، وابتناء أفعاله على أساس الحكم والمصالح ، على عبده محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، لينذر به الناس ويخوفهم بأسه ، ووقائعه بمن خلا قبلهم من الأمم.
ونحو الآية قوله : « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ » .
ثم وصف سبحانه نفسه بأربع صفات من صفات الكبرياء :
(1) (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له السلطان القاهر عليهما ، فله القدرة التامة فيهما وفيما حوياه إيجادا وإعداما وأمرا ونهيا بحسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح.
(2) (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) أي ولم يكن له ولد كما زعم الذين قالوا ذلك للمسيح وعزير والملائكة ، كما حكى اللّه عنهم فى قوله : « وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ » وقوله : « أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ. أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ. أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ؟ » (3) (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) أي وما كان للّه شريك فى ملكه وسلطانه يصلح أن يعبد من دونه ، فأفر دواله العبادة وأخلصوها له دون كل ما تعبدون من دونه من الآلهة والملائكة والجن والإنس.
وفى هذا ردّ على مشركى الع رب الذين كانوا يقولون فى تلبيتهم للحج : « لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك » .(18/147)
ج 18 ، ص : 148
(4) (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) أي وأوجد كل شىء بحسب ما اقتضته إرادته المبنية على الحكم البالغة ، وهيأه لما أراد به من الخصائص والأفعال التي تليق به ، فأعدّ الإنسان للإدراك والفهم ، والتدبر فى أمور المعاش والمعاد ، واستنباط الصناعات المختلفة ، والانتفاع بما فى ظاهر الأرض وباطنها ، وأعدّ صنوف الحيوان للقيام بأعمال مختلفة تليق بها وبإدراكها.
والخلاصة - إن كل شىء مما سواه مخلوق مربوب ، وهو خالق كل شىء وربه ومليكه وإلهه ، وكل شىء تحت قهره ، وتسخيره وتقديره ، ومن كان كذلك فكيف يخطر بالبال أو يدور فى الخلد كونه سبحانه والدا له أو شريكا له فى ملكه كما قال :
«
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ؟ » الآية.
[سورة الفرقان (25) : آية 3]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3)
الإيضاح
بعد أن وصف سبحانه نفسه بصفات العزة والجلال ، وبيّن وجه الحق فى ذلك أردفه حكاية أباطيل عبدة الأوثان الذين اتخذوا من دونه آلهة ، تعجيبا لأولى النّهى من حالهم ، وتنبيها إلى خطأ أفعالهم ، وتسفيها لأحلامهم ، فقد انحرفوا عن منهج الحق وركبوا المركب الذي لا يركبه إلا كل آفن الرأى ، مسلوب العقل.
وقد أبان سبحانه ما بها من النقص من وجوه متعددة :
(1) إنها لا تخلق شيئا ، والإله يكون قادرا على الخلق والإيجاد.
(2) إنها مخلوقة ، والمخلوق محتاج ، والإله يجب أن يكون غنيا عن كل ما سواه.(18/148)
ج 18 ، ص : 149
(3) إنها لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا ، فضلا عن أن تملك ذلك لغيرها ، ومن كان كذلك فلا فائدة فى عبادته وإجلاله وتعظيمه.
(4) إنها لا تقدر على التصرف فى شىء ما ، فلا تستطيع إماتة الأحياء ، ولا إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم ، ومن كان كذلك فكيف يسمى إلها ، وتعطى له خصائص الآلهة من الخضوع لعظمته والإخبات لجلاله ؟ .
وعلى الجملة فعبدة الأصنام قد تركوا عبادة الخالق المالك لكل شىء ، المتصرف فيه بقدرته وسلطانه ، وعبدوا ما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، وليس بعد هذا من حماقة ، ولا يرضى بمثله من له مسكة من عقل ، ولا أثارة من علم.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 4 الى 6]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6)
تفسير المفردات
الافتراء : الاختلاق والكذب ، من قولهم : افتريت الأديم - الجلد - إذا قطّعته للإفساد ، جاءوا : أي أتوا ، والظلم : وضع الشيء فى غير موضعه ، إذ هم قد نسبوا القبيح إلى من كان مبرأ منه ، والزور : الكذب ، والأساطير : واحدها أسطار أو أسطورة كأحدوثة ، وهو ما سطّره المتقدمون ، اكتتبها : أي أمر بكتابتها ، تملى عليه : أي تلقى عليه بعد اكتتابها ليحفظها ، بكرة وأصيلا : أي صباحا ومساء ، والمراد دائما.(18/149)
ج 18 ، ص : 150
المعنى الجملي
بعد أن تكلم أوّلا فى التوحيد ، ثم فى الرد على عبدة الأوثان - أردف ذلك الرد على الطاعنين فى نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقد قسموا مطاعنهم قسمين :
مطاعن فى القرآن ، ومطاعن فيمن نزل عليه القرآن.
روى أن هذه الآيات نزلت فى النضر بن الحرث إذ هو الذي قال هذه المقالة ، وعنى بالقوم الآخرين عدّاسا مولى حويطب بن عبد العزّى ، ويسارا مولى العلاء بن الحضرمي ، وأبا فكيهة الرومي ، وكانوا من أهل الكتاب يقرءون التوراة ويحدّثون أحاديث منها ، فأسلموا ، وكان النبي يتعهدهم ويختلف إليهم ، فمن ثم قال النضر ما قال.
الإيضاح
(وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) أي وقال الكافرون : إن هذا القرآن ليس من عند اللّه ، بل اختلقه محمد ، وأعانه على ذلك جماعة من أهل الكتاب ممن أسلموا ، وكان يتعهدهم ويختلف إليهم : « تقدم ذكر أسمائهم » فيلقون إليه أخبار الأمم الغابرة ، وهو يصوغها بلغته وأسلوبه الخاص.
فرد اللّه عليهم مقالهم فقال :
(فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) أي فقد وضعوا الأشياء فى غير مواضعها ، وكذبوا على ربهم ، إذ جعلوا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - إفكا مفترى من قبل البشر ، وكيف يتقوّلون ذلك على الرسول وقد تحداهم أن يأتوا بمثله ، وهم ذوو اللسن والفصاحة والغاية فى البلاغة ، فعجزوا أن يأتوا بمثله ، ولو كان ذلك فى مكنتهم ما ادّخروا وسعا فى معارضته ، وقد ركبوا الصعب والذلول ليدحضوا حجته ، ويبطلوا دعوته ، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، ولو كان محمد صلّى اللّه عليه وسلّم قد استعان فى ذلك بغيره لأمكنهم أيضا أن يستعينوا هم بغيرهم ، فما مثله فى اللغة إلا مثلهم فلما(18/150)
ج 18 ، ص : 151
لم يفعلوا علم أنه قد بلغ الغاية التي لا تجارى وانتهى إلى حد الإعجاز - إلى أنه اشتمل على الحكم والأحكام التي فيها سعادة البشر فى معاشهم ومعادهم ، كما اشتمل على أخبار من أمور الغيب التي لا تصل إليها مدارك البشر ولا عقولهم.
وبعد أن حكى عنهم قولهم فى الافتراء بإعانة قوم آخرين عليه - حكى عنهم طريق تلك الإعانة.
(وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي وقال المشركون الذين قالوا إن هذا إلا إفك مفترى : أي ما هذا إلا أحاديث الأولين الذين كانوا يسطرونها فى كتبهم من نحو أحاديث رستم وإسفنديار - اكتتبها من اليهود فهى تستنسخ منهم وتقرأ عليه ، ليحفظها غدوة وعشيا : أي قبل انتشار الناس وحين يأتون إلى مساكنهم ، وقد عنوا بذلك أنها تملى عليه خفية لئلا يقف الناس على حقيقة الحال ، وهذه جرأة عظيمة منهم ، قاتلهم اللّه أنى يؤفكون ، وقد يكون مرادهم أنها تملى عليه دائما.
ثم أمره اللّه تعالى بإجابتهم عما قالوا بقوله :
(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي قل لهم ردّا وتحقيقا للحق :
ليس ذلك كما تزعمون ، بل هو أمر سماوى أنزله الذي لا يعزب عن علمه شىء وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع لا تحوم حوله الأفكار ، ومن ثم أعجزكم بفصاحته وبلاغته ، كما أخبركم فيه بمغيّبات مستقبلة ، وأمور مكنونة ، لا يوقف عليها إلا بتوفيق العليم الخبير.
وقد وصف سبحانه نفسه بإحاطة علمه بجميع المعلومات الخفية ، فالجلية المعلومة من باب أولى ، إيذانا بانطواء ما أنزله على أسرار مطوية عن عقول البشر.
(إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي إنكم استوجبتم العذاب بمكايدتكم لرسوله ، لكنه لم يعجله لكم رحمة بكم ، رجاء توبتكم وغفران ذنوبكم ، ولو لا ذلك لصبّ عليكم العذاب صبّا.(18/151)
ج 18 ، ص : 152
وفى هذا إيماء إلى أن هذه الذنوب مع بلوغها الغاية فى العظم - مغفورة إن تابوا وأن رحمته واصلة إليهم بعدها ، فلا ييأسوا منها بما فرط منهم مع إصرارهم على ما هم عليه من معاداة الرسول ومخاصمته.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 16]
وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11)
إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)
تفسير المفردات
مسحورا : أي سحر فاختلّ عقله ، الأمثال : أي الأقاويل العجيبة الجارية لغرابتها مجرى الأمثال ، فضلوا : أي فبقوا متحيرين فى ضلالهم ، أعتدنا : أي هيأنا والسعير : النار الشديدة الاشتعال ، رأتهم : أي إذا كانت منهم بمرأى الناظر فى البعد ، من قولهم : دور تتراءى أي تتناظر ، ومنه قوله صلّى اللّه عليه وسلم : « إن المؤمن والكافر(18/152)
ج 18 ، ص : 153
لا تتراءى ناراهما » أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى ، إذ يجب على المؤمن مجانبة الكافر والمشرك فى أمور الدين ، والتغيظ : إظهار الغيظ ، والمراد صوت التغيظ ، والزفير : إخراج النفس بعد مده ، مقرنين : أي قرنت أيديهم إلى أعناقهم فى السلاسل ، والثبور : الهلاك ، وجنة الخلد : هى التي لا ينقطع نعيمها ، مسئولا :
أي جديرا أن يسأل ويطلب ، لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون.
المعنى الجملي
بعد أن حكى سبحانه شبهتهم فيما يتعلق بالمنزّل وهو القرآن - ساق شبهتهم فى المنزّل عليه ، وهو الرسول على الوجه الذي ذكره ثم فنّد تلك الشبه وبين سخفها وأنها لا تصلح مطعنا فى النبي ، ثم حكى عنهم نوعا ثالثا من أباطيلهم وهو تكذيبهم بيوم القيامة ، ثم وصف ما أعد للكافرين فيه مما يشيب من هوله الولدان من نار تلظى يسمعون لها تغيظا وزفيرا ، ووضعهم فيها مقرنين فى الأصفاد ، وندائهم إذ ذاك بقولهم يا ثبوراه ، ثم أتبع ذلك بما يؤكد حسرتهم وندامتهم بوصف ما يلقاه المتقون فى جنات النعيم : مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وأن هذا ما وعدهم به ربهم الذي لا خلف لوعده.
الإيضاح
حكى اللّه هنا أن المشركين ذكروا خمس صفات للنبى تمنع النبوة فى زعمهم :
(1) (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ؟ ) أي أىّ شىء ميّزه عنا وجعله يدعي النبوة مع أنه يأكل كما نأكل ويشرب كما نشرب ؟
(2) (وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) لابتغاء الرزق كما نفعل فهو مثلنا ، فمن أين له الفضل علينا ؟ وهم يقصدون بذلك استبعاد الرسالة عنه ، لمنافاتها للأكل والشرب وطلب المعاش ، وكأنهم قالوا : إن صح ما يدعيه ، فما باله لم يخالف حاله حالنا ولم يؤت ميزة دوننا ؟(18/153)
ج 18 ، ص : 154
وما هذا منهم إلا لضعف عقولهم وقصور إدراكهم ، فإن الرسل لم يمتازوا بأمور حسية ، بل بصفات روحية ، وفضائل نفسية ، فطرهم اللّه عليها توجب صفاء عقولهم وطهارة نفوسهم ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى : « قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ » .
(3) (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) أي فهلا أنزل إليه ملك من عند اللّه يكون شاهدا على صدق ما يدعيه ، ويردّ على من يخالفه ، وشبيه بهذا ما قال فرعون عن موسى : « فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ » .
(4) (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) أي وهلا أنزل عليه كنز من السماء ينفق منه حتى لا يحتاج إلى المشي فى الأسواق لطلب المعاش.
(5) (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) أي وهلا كان له بستان يعيش من غلته كما يعيش المياسير من الناس.
قال صاحب الكشاف : إنهم طلبوا أن يكون الرسول ملكا ، ثم زلوا عن ملكيّته إلى صحبة ملك يعينه ، ثم نزلوا عن ذلك إلى كونه مرفودا بكنز ، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل ويرزق منه اه.
وعن ابن عباس قال : إن عتبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحرث وأبا البحتري والأسود بن المطلب ، وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد اللّه بن أبى أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ومنبّه بن الحجاج اجتمعوا ، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه ، فبعثوا إليه إن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك ، قال فجاءهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم. فقالوا : يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك ، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا ، وإن كنت تطلب به الشرف فنحن(18/154)
ج 18 ، ص : 155
نسودّك ، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك ؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما بي مما تقولون ، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن بعثني إليكم رسولا ، وأنزل على كتابا ، وأمرنى أن أكون لكم بشيرا ونذيرا ، فبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم ، فإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علىّ أصبر حتى يحكم اللّه بينى وبينكم ، قالوا يا محمد :
فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فسل لربك ، وسل لنفسك أن يبعث معك ملكا يصدّقك فيما تقول ويراجعنا عنك ، وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة ويغنيك عما نراك تبتغى ، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم ، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : ما أنا بفاعل ، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا ، وما بعثت إليكم بهذا ، ولكن اللّه بعثني بشيرا ونذيرا ، فأنزل اللّه فى ذلك هذه الآية.
أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر.
وبعد أن حكى عنهم أوّلا أنهم يثبتون له كمال العقل ولكنهم ينتقصونه بصفات فى شئون الدنيا - حكى عنهم ثانيا أنهم نفوا عنه العقل بتاتا وادّعوا أنه مختلّ الشعور والإدراك ، وإلى هذا أشار بقوله :
(وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً) أي وقال الكافرون الظالمون لأنفسهم بنسبتهم إلى الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ما هو منه براء ، وما يدل العقل والمشاهد على نفيه عنه : ما تتبعون إلا رجلا سحر فاختلّ عقله فهو لا يعى ما يقول ، ومثله لا يطاع له رأى ، وهذا منهم ترقّ فى انتقاصه ، وأنه لا يصلح للنبوة بحال.
ولما ذكر ضلالاتهم التفت إلى رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم مسليا له بقوله :
(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) أي انظر واعجب لهم : كيف جرءوا على التفوّه بتلك الأقاويل العجيبة ، فاخترعوا لك صفات وأحوالا بعيدة كل البعد عن صفاتك التي أنت عليها ، فضلوا بذلك عن طريق الهدى(18/155)
ج 18 ، ص : 156
وصاروا حائرين لا يدرون ماذا يقولون ولا ما يقدحون به فى نبوتك إلا مثل ذلك السّخف والهذر.
والخلاصة - إن ما أتوا به لا يصلح أن يكون قادحا فى نبوتك ولا مطعنا فيك ، فإن كان لهم مطعن فى المعجزات التي أتيت بها فليفعلوا ، ولكن أنّى لهم ذلك ؟
ثم رد على ما اقترحوه من الجنة والكنز بقوله :
(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) أي كثر خير ربك ، فإن شاء وهب لك فى الدنيا خيرا مما اقترحوا فإن أراد جعل لك فى الدنيا مثل ما وعدك به فى الآخرة ، فأعطاك جنات تجرى من تحتها الأنهار ، وآتاك القصور الشامخة والصياصي التي لا يصل إلى مثلها أكثرهم مالا وأعزهم نفرا ، ولكن اللّه لم يشأ ذلك لأنه أراد أن يكون عطاؤه لك فى الدار الباقية الدائمة ، لا فى الدار الزائلة للفانية ، وإنما كانت مما ذكروا : لكثرتها وجريلن الأنهار من تحت أشجارها وبناء المساكن الرفيعة فيها ، والعرب تسمى كل بيت مشيد قصرا.
ثم انتقل من ذلك إلى كلامهم فى البعث وأمر الساعة مبينا بذلك السبب فى عدم تصديقهم برسوله فقال :
(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) أي ما أنكر هؤلاء المشركون ما جئتهم به من الحق ، وتقوّلوا عليك ما تقوّلوا ، إلا من قبل أنهم لا يوقنون بالبعث ، ولا يصدقون بالثواب والعقاب.
والخلاصة - إنهم أتوا بأعجب من هذا كله ، وهو تكذيبهم بالساعة ، ومن ثمّ فهم لا ينتفعون بالدلائل ، ولا يتأملون فيها.
ثم توعدهم وبين عاقبة أمرهم وما كتب لمثلهم من الخيبة والخذلان فقال :
(وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً. إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً. وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً. لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً(18/156)
ج 18 ، ص : 157
وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً)
أي إنا أعددنا لمن كذب بالبعث والحشر ، والنشر والحساب والجزاء نارا تسعر وتتقد عليهم ، وإذا كانت منهم بمرأى الناظر سمعوا لها صوتا يشبه صوت المتغيظ لشدة توقدها ، وصوت الزفير الذي يخرج من فم الحزين المتهالك حسرة وألما.
أخرج ابن المنذر وابن جرير عن عبيد بن عمير أنه قال « إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ، ولا نبىّ مرسل إلا ترعد فرائصه ، حتى إن إبراهيم ليجثو على ركبتيه فيقول : رب لا أسألك اليوم إلا نفسى » .
وإذا ألقوا منها فى مكان ضيق قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم فى الأغلال والسلاسل ، استغاثوا وقالوا يا ثبوراه : أي باهلاكنا احضر فهذا وقتك ، فيقال لهم :
لا تنادوا هلاكا واحدا وادعوا هلاكا كثيرا : أي إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم منه واحدا ، إنما ثبوركم منه كثير ، لأن العذاب ألوان وأنواع ، ولكل منها ثبور لشدته وفظاعته.
وخلاصة ذلك - إن اللّه قد أعدّ لمن كذب بالقيامة نارا مستعرة ، وإذا كانت منهم بمرأى الناظر فى البعد سمعوا صوت غليانها ، وإذا طرحوا منها فى مكان ضيق وهم مقرنون فى السلاسل والأغلال تمنوا الهلاك ليسلموا مما هو أشد منه كما قيل : (أشد من الموت ما يتمنى معه الموت) فيقال لهم حينئذ : لا تدعوا هلاكا واحدا فإنه لا يخلّصكم ، بل اطلبوا هلاكا كثيرا لتخلصوا به - والمقصد من ذلك تيئيسهم مما علّقوا به أطماعهم من الهلاك ، وتنبيه إلى أن عذابهم أبدى لاخلاص لهم منه.
وبعد أن وصف عقاب المكذبين بالساعة ، أردفه ما يؤكد حسرتهم وندامتهم فقال :
(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ؟ ) أي قل لهؤلاء المكذبين تهكما بهم وتحسيرا لهم على مافاتهم : أ هذه النار التي وصفت لكم خير أم جنة الخلد التي يدوم نعيمها ولا يبيد ، وقد وعدها من اتقاه فى الدنيا بطاعته فيما به أمره ونهاه ؟(18/157)
ج 18 ، ص : 158
ثم حقق أمرها تأكيدا للبشارة بقوله :
(كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) أي كانت هذه الجنة لهم جزاء أعمالهم فى الدنيا بطاعته ، وثوابا لهم على تقواه ، ومرجعا لهم ينتقلون إليه فى الآخرة.
ثم وصف مقدار تنعمهم فيها بقوله :
(لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ) أي لهم فى جنة الخلد ما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب ونحو ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وهم فيها خالدون أبدا بلا انقطاع ولا زوال.
(كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا) أي وهذا من وعد اللّه الذي تفضل به عليهم وأحسن به إليهم حين سألوه بقولهم : « رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ »
[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 19]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19)
تفسير المفردات
ضل السبيل : فقده وخرج عنه ، والذكر : ما ذكّر به الناس على ألسنة أنبيائهم ، بورا : أي هالكين وهو لفظ يستوى فيه الواحد والجمع ، صرفا : أي دفعا للعذاب ، يظلم : أي يكفر.(18/158)
ج 18 ، ص : 159
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما أعدّ لأولئك المكذبين بيوم القيامة من الشدائد والأهوال فى النار ودعائهم على أنفسهم بالويل والثبور - أردفه ذكر أحوالهم مع معبوداتهم من دون اللّه وتوبيخهم على عبادة من عبدوا من الملائكة وغيرهم ، ثم ذكر أن معبوداتهم تكذبهم فيما نسبوه إليهم ، ثم بين أن العابدين لا يستطيعون دفع العذاب عن أنفسهم ولا يجدون من يستنصرون به.
الإيضاح
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ؟ ) أي واذكر لقومك تخويفا وتحذيرا يوم يحشر عابدو الأصنام والملائكة عيسى وعزير وأضرابهم من العقلاء الذين عبدوا من دون اللّه ، ثم يقال لأولئك المعبودين :ء أنتم دعوتم عبادى إلى الغى والضلال حتى دسّوا أنفسهم وهلكوا ، أم هم الذين ضلوا سبيل الرشد والحق ، وسلكوا سبيل الهلاك بإعراضهم عن اتباع الرسول ؟ فأجاب المعبودون :
(قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً) أي قال المعبودون على طريق التعجب مما قيل لهم ، لأنهم ملائكة أو أنبياء معصومون ، فما أبعدهم عن الإضلال : تنزهت ربنا مما نسب إليك هؤلاء المشركون ، ما كان يليق بنا ونحن لا نتخذ من دونك أولياء أن ندعو غيرنا إلى ذلك ، ولكنك ربنا أكثرت عليهم وعلى آبائهم نعمك ليعرفوا حقها ويشكروك ، فاستغرقوا فى الشهوات ، وانهمكوا فى اللذات وغفلوا عن ذكرك والإيمان بك ، فكانوا من الهالكين ، فحينئذ يقال لأولئك العابدين.
(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً) أي فقد كذبكم أيها الكافرون من زعمتم أنهم أضلوكم ودعوكم إلى عبادتهم - فيما تقولون ،(18/159)
ج 18 ، ص : 160
فما تستطيعون صرف العذاب عن أنفسكم ولا تجدون من ينصركم ويدفع عقاب اللّه عنكم والخلاصة - إنكم لا تستطيعون النجاة ، لا بالهرب ولا بالانتصار لأنفسكم ، فأنتم معذبون لا محالة.
ثم عمم سبحانه الحكم وخاطب جميع المكلفين فقال :
(وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) أي ومن يكفر منكم أيها المكلفون فيعبد اللّه إلها غيره كهؤلاء الذين كذبوا بيوم القيامة - نذقه فى الآخرة عذابا كبيرا بقدر قدره ، ولا تصل العقول إلى معرفة كنهه.
[سورة الفرقان (25) : آية 20]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقالتهم التي طعنوا فيها على رسوله بقولهم : « ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ » زاعمين أن هذا مما لا ينبغى للرسول أن يفعل مثله - أردن ذلك الاحتجاج عليهم بأن محمدا ليس بدعا فى الرسل ، فكلهم كانوا يفعلون فعله.
وفى هذا تسلية للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وتصبير له على أذاهم.
ثم بين أن سنته أن يبتلى بعض الناس بعض ، فيبتلى الفقراء بالأغنياء ، والمرسلين بالمرسل إليهم ، فيناصبوهم العداء وعودهم ، ليعلم أيّهم يصبر وأيهم يجزع ؟ وهو البصير بحال الصابرين وحال الجازعين(18/160)
ج 18 ، ص : 161
الإيضاح
(وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) أي إن جميع من سبقك من الرسل كانوا يأكلون الطعام للتغذى به ، ويمشون فى الأسواق للتكسب والتجارة ، ولم يقل أحد إن ذلك نقص لهم يغضّ من كرامتهم ويزرى بهم ، ولم يكن لهم امتياز عن سواهم فى هذا ، وإنما امتازوا بصفاتهم الفاضلة ، وخصائصهم السامية ، وآدابهم العالية ، وبما ظهر على أيديهم من خوارق العادات ، وباهر المعجزات ، مما يستدلّ به كل ذى لب سليم وبصيرة نافذة على صدق ما جاءوا به من عند ربهم - فمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ليس بدعا من الرسل ، إذ يأكل ويمشى فى الأسواق ، وليس هذا بذم له ولا مطعن فى صدق رسالته كما تزعمون.
ونحو الآية قوله تعالى : « وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى » وقوله : « وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ » .
ثم سلى رسوله على قولهم : « أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها » بقوله.
(وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ؟ ) أي وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض ، فجعلنا هذا نبيا وخصصناه بالرسالة ، وهذا ملكا وخصصناه بالدنيا ، وهذا فقيرا وحرمناه من لذات الحياة ونعيمها ، لنختبر الفقير بصبره على ما حرم مما أعطيه الغنى ، والملك بصبره على ما أوتيه الرسول من الكرامة ، وكيف يكون رضى كل منهم بما أعطى وقسم له ، وطاعته ربه على حرمانه مما أعطى سواه - ومن جرّاء هذا لم أعط محمدا الدنيا وجعلته بمشى فى الأسواق يطلب المعاش ، لأبتليكم وأختبر طاعتكم وإجابتكم إياه إلى ما دعاكم إليه وهو لم يرج منكم عرضا من أعراض الدنيا ، ولو أعطيتها إياه لسارع كثير منكم إلى اتباعه ، طمعا فى أن ينال شيئا من دنياه.(18/161)
ج 18 ، ص : 162
والخلاصة - لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلى حتى لا يخالفوا لفعلت ، لكنى أردت أن أبتلى العباد بهم ، وأبتليهم بالعباد ، فينالهم منهم الأذى ، ويناصبوهم العداء ، فاصبروا على البلاء ، فقد علمتم ما وعد اللّه به الصابرين.
(وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) أي وربك أيها الرسول بصير بمن يجزع ، وبمن يصبر على ما امتحن به من المحن ، ويجازى كلا بما يستحق من عقاب أو ثواب.
روى مسلم أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « انظروا إلى أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هم فوقكم ، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة اللّه عليكم » .
اللهم اجعلنا من الصابرين على أذى السفهاء ، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وارزقنا من لدنك قناعة وغنى نربأ بهما عما فى أيدى الناس ، وثبت أقدامنا فى فهم كتابك ، وبلغنا ما نرجوه من إرشاد عبادك بما نقدّم لهم من نور يهتدون به إلى صراطك المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، وصل ربنا على محمد وآله.
ثم تفسير هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية ، لثلاث خلون من صفر سنة أربع وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية ، وللّه الحمد أولا وآخرا.(18/162)
ج 18 ، ص : 163
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 5 المؤمن المفلح هو الجامع لخصال سبع من خصال الخير 7 أطوار خلق الإنسان 9 قال عمر : وافقت ربى فى أربع إلخ 12 ما يحتاج إليه الإنسان فى معيشته 14 ما فى السماء من منافع للإنسان 15 النعم التي سخرها اللّه لنا من خلق الحيوان 16 قصص نوح عليه السلام مع قومه وما فيه من عبرة 21 قصص هود عليه السلام مع قومه 24 قصص صالح ولوط وشعيب وغيرهم عليهم السلام 25 قصص موسى وهرون عليهما السلام 27 قصص عيسى عليه السلام إجمالا 28 الرسل جميعا أمروا أن يأكلوا من الحلال الطيب 29 فى الحديث : إن اللّه تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا 30 دين الأنبياء دين واحد وهو الدعوة إلى عبادة اللّه وحده ، واختلاف الشرائع لا يسمى اختلافا فى الدين 31 كثرة المال والبنين ليست كرامة من اللّه لعباده 32 صفات المسارعين فى الخيرات 35 لا يكلف العبد إلا بما فى وسعه وهو فى كتاب محفوظ عليه 38 المشركون فى عمى بين فى القرآن 39 لا ينفع المشركين يوم القيامة الصريح والعويل 40 الأسباب التي ركن إليها المشركون فى إنكارهم لهذا الدين 41 لو جاء التشريع بحسب الهوى لاختل نظام العالم 42 ما أنت أيها الرسول بطالب أجرا على هدايتهم 45 ما امتنّ به سبحانه على عباده 46 المشركون أنكروا البعث تقليدا لمن سبقهم 48 إثبات البعث ببرهانات ثلاثة 50 كذب المشركون فى ادعائهم اتخاذ اللّه للولد واتخاذ الشريك 51 ما وصف به سبحانه نفسه من صفات الكمال 52 أمر اللّه رسوله أن يدعوه ألا يجعله قرينا للمشركين فى العذاب 53 أمر الرسول بالدفع بالحسنى 54 كان الرسول صلى اللّه عليه وسلم يعلم صحبه كلمات يقولونها عند النوم 55 طلب المشركين الرجوع إلى الدنيا عند معاينة العذاب 57 أهوال يوم القيامة 58 أحوال الأشقياء يومئذ 62 يسأل المجرمون توبيخا لهم عن مده لبثهم فى الأرض 63 تنزيه اللّه نفسه عما يصفه به المشركون 68 عقوبة الزنا الدنيوية لنير المحصن 68 طريق إثبات الزنا 69
العقوبة الأخروية 70 الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة 71 حكم قذف غير الزوجة من النساء 73 حكم قذف الرجل زوجه 74 ما ورد فى ذلك من الآثار 77 حديث الإفك على أم المؤمنين عائشه رضى اللّه عنها 79 من هلك بسببه من المؤمنين 83 وعيد من أشاع هذا الحديث 84 عتاب اللّه للمؤمنين على ما وقر فى نفوسهم من إرجاف المرجفين 85 ارتكاب المرجفين ثلاثة آثام(18/163)
ج 18 ، ص : 164
86 تحذير المؤمنين أن يعودوا لمثل هذا 87 جزاء من يحب إشاعة الفاحشة فى المؤمنين 90 من اتهم محصنة غافلة بالخنا والفجور فهو مطرود من رحمة اللّه 90 شهادة الأيدى والأرجل والألسنة 92 الأدلة على براءة عائشة 93 الإنسان لا تلاؤم بين أجزائه إلا بصفات متناسبة 94 دخول المرء بيت غيره لا بد فيه من الإذن 95 من قيل للداخل ارجع وجب أن يرجع 96 حكم دخول البيوت غير المسكونة سكنى خاصة 96 الأمر بغض البصر وحفظ التزوج سدّ الباب الشر ومنعا 99 الأمر بضرب الخمر على الجيوب لارتكاب الآثام 100 النهى عن إبداء الزينة إلا للبعولة أو آباء البعولة إلخ 101 الأمر بإنكاح الأيامى من الرجال والنساء حفظا للأنساب 104 ثلاثة حق على اللّه عونهم وبقاء للنوع 106 مثل نور اللّه فى السموات والأرض 108 فوائد ضرب الأمثال فى القرآن 110 المساجد بيوت اللّه ، وحق على اللّه أن يكرم من زاره فيها 111 أعددت لعبادى الصالحين - الحديث 112 مثل أعمال الكافرين فى الآخرة 115 ذكر دلائل التوحيد 119 المنافقون يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم 122 المنافقون يعرضون عن التحاكم إلى الرسول 123 طاعة اللّه ورسوله توجب الفوز والنجاة 124 نهى المنافقين عن الحلف 126 وعد المؤمنين بالاستخلاف فى الأرض 127 الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة 129 الأمر بالاستئذان فى العورات الثلاث 130 سبب نزول آية الاستئذان 133 لا حرج على النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فى ترك الزينة 134 الأمر بالسلام عند دخول البيوت 135 لا حرج على الأعمى ولا على المريض ولا على الأعرج فى ترك الجهاد 138 الأمر بالاستئذان حين الانصراف عن مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم 141 النهى عن الانصراف خفية من مجلسه 142 علم اللّه محيط بكل شىء 147 ما وصف به سبحانه نفسه من صفات الكبرياء 148 ما فى الأصنام من صفات النقص 150 الرد على الطاعنين فى نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم 151 قال المشركون إن
محمدا اكتتب أساطير الأولين 153 الصفات التي تمنع نبوة النبي صلى اللّه عليه وسلم فى زعمهم 155 ادعى المشركون أن محمدا رجل مسحور 156 تكذيب المشركين بيوم القيامة 160 الرسل جميعا كانوا يأكلون الطعام ويمشون فى الأسواق 162 لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلى لفعلت(18/164)
ج 19 ، ص : 3
الجزء التاسع عشر
[تتمة سورة الفرقان ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 24]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)
تفسير المفردات
لا يرجون : أي لا يخافون كما جاء فى قوله : « ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً » واللقاء : مقابلة الشيء ومصادفته ، ولقاءنا : أي لقاء جزائنا ، واستكبروا فى أنفسهم :
أي أوقعوا الاستكبار فى شأن أنفسهم بعدّها كبيرة الشأن ، والعتوّ : تجاوز الحد فى الظلم تجاوزا بلغ أقصى الغاية حيث كذبوا الرسول الذي جاء بالوحى ولم يكترثوا بالمعجزات التي أتاهم بها ، حجرا محجورا : كلمة تقولها العرب حين لقاء عدو موتور أو هجوم نازلة(19/3)
ج 19 ، ص : 4
هائلة ، يقصدون بها الاستعاذة من وقوع ذلك الخطب الذي يلحقهم والمكروه الذي يلمّ بدارهم : أي نسأل اللّه أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا ، وقدمنا : أي عمدنا وقصدنا ، والهباء كما قال الراغب : دقاق التراب وما انبثّ فى الهواء ولا يبدو إلا فى أثناء ضوء الشمس من كوّة ونحوها ، والمستقر : المكان الذي يستقر فيه المرء فى أكثر الأوقات للجلوس والمحادثة ، والمقيل : المكان الذي يؤوى إليه للاستمتاع بالأزواج والتمتع بحديثهن ، سمى بذلك لأن التمتع به يكون وقت القائلة غالبا.
المعنى الجملي
بعد أن حكى سبحانه أباطيل المشركين السالفة بطعنهم فى نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم بقولهم « لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً » أردف ذلك بذكر سخافات أخرى لهم فى هذا الصدد فقالوا : هلا أنزل علينا الملائكة فيخبرونا بصدقه ، أو يرى ربنا فينبئنا بذلك ، ثم بين أن هذا عتو عظيم منهم ، ثم أعقب هذا ببيان أنهم سيرون الملائكة حين الهول يوم الجزاء والحساب حين يقولون لهم : لا بشرى لكم اليوم بل فيه منعكم من كل خير ، فإن ما قدمتم من عمل صالح فى الدنيا صار هباء منثورا ، ثم أخبر بما يكون لأهل الجنة من خير المستقر ، وحسن المقيل ، فى ظل ظليل ، ونعم لا مقطوعة ولا ممنوعة ، حين يقولون : « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ » ولعل فى ذكر هذا ما يكون حافزا لهم على مراجعة أنفسهم وتخمير الرأى ، ليرشدوا إلى طريق السّداد ، ويقلعوا عما هم فيه من هوى متّبع ، وشيطان مطاع.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) أي وقال الذين ينكرون البعث والحشر ويطعنون فى صدق الرسول فيما أوحى به إليه : هلا أنزل علينا(19/4)
ج 19 ، ص : 5
الملائكة فيخبرونا بأن محمدا صادق فيما يدّعى ، فإنا فى شك من أمره ، وفى ريب مما يخبر به ، وإن لم يكن هذا فلنر ربنا ونعلم أنه هو حقا بأمارات لا يعتريها لبس ثم يقول لنا :
إنى أرسلت إليكم محمدا من لدنى بشيرا ونذيرا ، فإن تم لنا ذلك صدّقناه وآمنا به ، وما مقصدهم من هذا وذاك إلا التمادي فى الإنكار والعناد والعتوّ ومن ثم قال :
(لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) أي واللّه لقد استكبروا فى شأن أنفسهم ، وتجاوزوا الحد فى الظلم والطغيان تجاوزا بلغ أقصى الغاية ، تكذيبا برسوله ، وشموخا بأنوفهم عن أن ينصاعوا إليه ويتبعوه ، ولم يأبهوا بباهر معجزاته ، ولا كثرة آياته ، وإنهم لقد بلغوا غاية القحة فى الطلب ، وفى الحق إن شأنهم لعجب ، وإن العقل ليحار فى أمرهم ، ويدهش لقصور عقولهم ، وسذاجة آرائهم ، وضعف أحلامهم ، « أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ » وللّه در القائل :
ومن جهلت نفسه قدره رأى غيره منه ما لا يرى
ونحو الآية قوله تعالى : « إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ » .
ثم بين أنهم سيلقون الملائكة حين الهول يوم القيامة لا على الوجه الذي طلبوه ، ولا على الصورة التي اقترحوها ، بل على وجه آخر لم يمر ببالهم فقال :
(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) أي يوم يرى هؤلاء المجرمون الملائكة فلا بشرى لهم بخير ، إذ يقولون لهم : حجرا محجورا أي محرم عليكم البشرى بالغفران والجنة ، أي جعلهما اللّه حراما عليكم ، إذ هما لا يكونان إلا لمن اعترف بوحدانية اللّه وصدّق رسوله.
والخلاصة - لا بشرى يومئذ للكافرين وتقول لهم الملائكة : حرام أن نبشركم بما نبشر به المتقين.
ثم بين السبب فى وبالهم وخسرانهم حينئذ فقال :
(وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) أي فعمدنا إلى محاسن(19/5)
ج 19 ، ص : 6
أعمالهم التي قاموا بها فى الدنيا كصلة رحم ، وإغاثة ملهوف ، ومن على أسير ونحو ذلك مما لو كانوا عملوها مع الإيمان لنالوا ثوابها - فجعلناه كالهباء المنثور لا يجدى ولا يفيد.
وخلاصة ذلك - إنه تعالى جعل مثل هؤلاء الكفار ومثل أعمالهم التي عملوها حال كفرهم - مثل قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه ، فقصد إلى ما بين أيديهم فأفسده وجعله شذر مذر ، ولم يترك له أثرا ولا عينا.
وبعد أن بين حال الكافرين حينئذ ذكر حال أضدادهم المؤمنين فقال :
(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) أي إن منازل أهل الجنة خير من منازل أولئك المشركين الذين يفتخرون بأموالهم وما أوتوا من الترف والنعيم فى الدنيا ، وأحسن فيها قرارا حين القائلة من مثلها لهم فى الدنيا ، لما يتزين به مقيلهم من حسن الصور وجمال التنوّق والأبّهة والزّخرف وغيرها من المحاسن التي لا يوجد مثلها فى الدنيا فى بيوت المترفين ، ولما فيه من نعيم لا يشو به كدر ولا تنغيص بخلاف مقيل الدنيا.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 29]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فى سابق الآيات أن المشركين طلبوا إنزال الملائكة - أردف هذا ببيان أنهم ينزلون حين ينتهى هذا العالم الدنيوي ، ويختلّ نظام الأفلاك ،(19/6)
ج 19 ، ص : 7
والأرض والسموات ، ويحشر الناس من قبورهم للعرض والحساب ، فيعض الكافر على يديه نادما على مافات ويتمنى أن لو كان قد أطاع الرسول فيما أمر ونهى ولم يكن قد أطاع شياطين الإنس والجن الذين أضلوه السبيل وخذلوه عن الوصول إلى محجة الصواب.
الإيضاح
(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) أي واذكر أيها الرسول لقومك أهوال هذا اليوم حين تكون شمسنا وكواكبنا والشموس الأخرى وسياراتها أشبه بالغمام ، لأنها تصير هباء متفرقة فى الجو وترجع سيرتها الأولى أي تتحلل وترجع فى الجو كما كانت ويختلى نظام هذا العالم المشاهد كما قال تعالى : « وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً. وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً » .
(وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا) بصحائف أعمال العباد ، لتقدّم لدى العرض والحساب ، وتكون شاهدة عليهم لدى فصل القضاء.
(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) أي الملك الحق فى هذا اليوم ملك الرحمن ، فله السلطان القاهر ، والاستيلاء العام ظاهرا وباطنا ، ولا ملك لغيره فى هذا اليوم وهو الذي يقضى بين عباده بالعدل ، ولا شفيع ولا نصير : « الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ » .
ثم ذكر الهول الذي ينال الكافرين حينئذ فقال :
(وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) أي وكان ذلك اليوم شديد الهول على الكافرين ، لأنه يوم عدل وفصل للقضاء ، وهو على المؤمنين يسير ، لما ينالهم فيه من الكرامة والبشرى ،
وفى الحديث « إنه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة صلّاها فى الدنيا »
.(19/7)
ج 19 ، ص : 8
ونحو الآية قوله : « فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ » .
ثم بين شدة ندم المشركين وعظيم حسرتهم فى هذا اليوم :
(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) أي وفى هذا اليوم يعضّ المشرك بربه على يديه ندما وأسفا على ما فرّط فى جنب اللّه ، وعلى ما أعرض عنه من الحق الواضح الذي جاء به رسوله ويقول : ليتنى اتخذت مع الرسول طريقا إلى النجاة ، ولم تتشعب بي طرق الضلالة.
(يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا) أي يا هلكتى احضرى فهذا أوانك ، ليتنى لم أتخذ فلانا الذي أضلنى وصرفنى عن طريق الهدى خليلا وصديقا.
ومن الأخلاء الشياطين ، ولا فارق بين شياطين الإنس وشياطين الجن ، ومن هؤلاء أبىّ بن خلف ،
فقد روى أن عقبة بن أبى معيط كان يكثر مجالسة النبي صلى اللّه عليه وسلم فدعاه إلى ضيافته فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل ، وكان أبىّ صديقه فعاتبه ، وقال له : صبأت ، فقال : لا واللّه ولكن أبى أن يأكل من طعامى وهو فى بيتي فاستحييت منه فشهدت له ، فقال لا أرضى منك إلا أن تأتيه فتطأ قفاه وتبزق فى وجهه ، فوجده ساجدا فى دار النّدوة ففعل ذلك ، فقال له النبي صلى اللّه عليه وس لم : لا ألقاك خارجا من مكة إلّا علوت رأسك بالسيف فأسر يوم بدر فأمر عليا فقتله ، وقتل أبىّ بن خلف بيده الشريفة يوم أحد ، طعنه بحربة فوقعت فى ترقوته فلم يخرج منه دم كثير واحتقن الدم فى جوفه فجعل يخور كما يخور الثور ، فأتى أصحابه حتى احتملوه وهو يخور ، فما لبث إلا يوما أو نحوه حتى ذهب إلى النار فأنزل اللّه الآية.
وعن أبى هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « يحشر المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخال » أخرجه أبو داود والترمذي.
و
عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقىّ »
وروى الشيخان عن أبى موسى الأشعري أن(19/8)
ج 19 ، ص : 9
النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك ، وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة » .
ثم بين علة هذا التمني بقوله :
(لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) أي لقد أضلنى عن الإيمان بالقرآن بعد إذ جاءنى من ربى.
ثم أخبر عن طبيعة الشيطان ودأبه فقال :
(وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا) أي وكان من عادة الشيطان أن يخذل الإنسان فيصرفه عن الحق ويدعوه إلى الباطل ثم لا ينقذه مما يحل به من البلاء ، ولا ينجيه منه.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 31]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقالاتهم الباطلة ، وتعنتهم الظالم فى الرسول من نحو قولهم : لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ، وقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق ، وقولهم فى القرآن : إن هو إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ، وقولهم فيه : إن هو إلا أساطير الأولين اكتتبها - أعقب ذلك بشكاية الرسول إلى ربه بأن قومه قد هجروا كتابه ، ولم يلتفتوا إلى ما فيه من هداية لهم ، ورعاية لمصالحهم فى دينهم ودنياهم ، ثم سلاه سبحانه على ذلك بأن هذا ليس دأب قومك فحسب ، بل إن كثيرا من(19/9)
ج 19 ، ص : 10
الأمم قد فعلوا مع رسلهم مثل هذا ، فاقتد بأولئك الأنبياء ولا تجزع ، ثم وعده وعدا كريما بأن يهديه إلى مطلبه ، وينصره على عدوه ، وكفى به هاديا ونصيرا.
الإيضاح
(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) أي وقال الرسول مشتكيا إلى ربه : رب إن قومى الذين بعثتني إليهم لأدعوهم إلى توحيدك ، وأمرتنى بإبلاغه إليهم ، قد هجروا كتابك ، وتركوا الإيمان بك ، ولم يأبهوا بوعدك ووعيدك ، بل أعرضوا عن استماعه واتباعه.
وفى ذكره صلى اللّه عليه وسلم بلفظ (الرَّسُولُ) تحقيق للحق ، ورد عليهم ، إذ كان ما أورده قدحا فى رسالته صلى اللّه عليه وسلم.
ثم سلى رسوله على ما يلاقيه من الشدائد والأهوال ، بأن له فى سلفه من الأنبياء قبله أسوة بقوله :
(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أي كما جعلنا لك أعداء من المشركين يتقولون عليك ما يتقولون من التّرهات والأباطيل ويفعلون من السخف ما يفعلون - جعلنا لكل نبى من الأنبياء الذين سلفوا وأوتوا من الشرائع ما فيه هدى للبشر - أعداء لهم من شياطين الإنس والجن ، وكانوا لهم بالمرصاد ، وقاوموا دعوتهم ، َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ »
.
فلا تجزع أيها الرسول فإن هذا دأب الأنبياء قبلك ، واصبر كما صبروا قال ابن عباس : كان عدو النبي صلى اللّه عليه وسلم أبا جهل ، وعدو موسى قارون ، وكان قارون ابن عم موسى.
ونحو الآية قوله : « وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً » .
ثم وعده بالهداية والنصر والتأييد وغلبته لأعدائه فقال :
(وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) أي وكفاك ربك هاديا لك إلى مصالح الدين(19/10)
ج 19 ، ص : 11
والدنيا ، وسيبلغك أقصى ما تطلب من الكمال ، وسينصرك على أعدائك ، وستكون لك الغلبة عليهم آخرا ، فلا يهولنك كثرة عددهم وعددهم ، فإنى لا محالة جاعل كلمة اللّه هى العليا وكلمة أعدائه هى السفلى ، فاصبر لأمرى ، وامض لتبليغ رسالتى ، حتى يبلغ الكتاب أجله.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 32 الى 34]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34)
تفسير المفردات
جملة واحدة : أي دفعة واحدة ، لنثبت به فؤادك : أي لنقوى به قلبك ، ورتلناه :
أي أتينا ببعضه إثر بعض على تؤدة ومهل من قولهم ثغر مرتّل : أي متفلج الأسنان ، بمثل : أي بنوع من الكلام جار مجرى المثل فى تنميقه وتحسينه ، ورشاقة لفظه وصدق معناه ، تفسيرا : أي إيضاحا ، يحشرون على وجوههم إلى جهنم : أي يسحبون على وجوههم ويجرّون إليها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مطاعنهم فى الكتاب الكريم كقولهم إن هو إلا إفك مبين ، وقولهم هو أساطير الأولين - قفى على ذلك بذكر شبهة أخرى لهم وهى قولهم : لو كان القرآن من عند اللّه حقا لأنزله جملة واحدة كما أنزلت التوراة جملة على موسى والإنجيل جملة على عيسى والزبور على داود ، فرد اللّه عليهم مقالتهم ، وبين لهم فوائد إنزاله(19/11)
ج 19 ، ص : 12
منجّما ، فذكر منها تثبيت فؤاده صلى اللّه عليه وسلم بتيسير الحفظ ، وفهم المعنى ، وضبط الألفاظ ، إلى نحو أولئك ، ثم وعده بأنهم كلما جاءوا بشبهة دحضها بالجواب الحق ، والقول الفصل الذي يكشف عن وجه الصواب ، وبعدئذ ذكر حال المشركين وأنهم حين يحشرون يكونون فى غاية الذل والهوان ويجرّون على وجوههم إلى جهنم وهم مصفّدون بالسلاسل والأغلال.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) أي وقال اليهود :
هلا أنزل القرآن على محمد دفعة واحدة كما أنزلت الكتب السالفة على الأنبياء كذلك ، وهذا زعم باطل ، ودعوى داحضة ، فإن هذه الكتب نزلت متفرقة فقد أنزلت التوراة منجمة فى ثمانى عشرة سنة كما تدل على ذلك نصوص التوراة ، وليس هناك دليل قاطع على خلاف ذلك من كتاب أو سنة كما نزل القرآن ، لكنهم معاندون أو جاهلون لا يدرون كيف نزلت كتب اللّه على أنبيائه ، وهو اعتراض بما لا طائل تحته ، لأن الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو متفرقا.
فرد اللّه عليهم ما قالوا وأشار إلى السبب الذي لأجله نزل منجما فقال :
(كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) أي أنزلناه كذلك لنقوّى قلبك به بإعادته وحفظه كما قال : « وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا » .
وخلاصة تلك الفوائد :
(1) إنه عليه الصلاة والسلام لما كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ، فلو نزل عليه القرآن جملة واحدة كان من الصعب عليه أن يضبطه ، وجاز عليه السهو والغلط.
(2) إنه أنزل هكذا ليكون حفظه له أكمل ويكون أبعد عن المساهلة وقلة التحصيل.
(3) إنه لو أنزل جملة على الخلق لنزلت الشرائع بأسرها دفعة واحدة عليهم ،(19/12)
ج 19 ، ص : 13
ولا يخفى ما فى ذلك من حرج عليهم بكثرة التكاليف مرة واحدة ، ولكن بإنزاله منجّما جاء التشريع رويدا رويدا فكان احتمالهم له أيسر ومرانهم عليه أسهل.
(4) إنه عليه الصلاة والسلام إذا شاهد جبريل الفينة بعد الفينة قوى قلبه على أداء ما حمل به ، وعلى الصبر على أعباء النبوة ، وعلى احتمال أذى قومه ، وقدر على الجهاد الذي استمر عليه طوال حياته الشريفة.
(5) إنه أنزل هكذا بحسب الأسئلة والوقائع ، فكان فى ذلك زيادة بصر لهم فى دينهم.
(6) إنه لما نزل هكذا ، وتحداهم بنجومه وبما ينزل منه ، وعجزوا عن معارضته - كان عجزهم عن معارضته جملة أجدر وأحق فى نظر الرأى الحصيف.
(7) إن بعض أحكام الشريعة جاء فى بدء التنزيل وفق حال القوم الذين أنزلت عليهم ، وبحسب العادات التي كانوا يألفونها ، فلما أضاء اللّه بصائرهم بهدى رسوله تغيرت بعض أحوالهم واستعدت أنفسهم لتشريع يزيدهم طهرا على طهر ، ويذهب عنهم رجس الجاهلية الذي كانوا فيه ، فجاء ذلك التشريع الجديد الكامل المناسب لتلك الحال الجديدة ، ولو نزل القرآن جملة لم يتسنّ شىء من هذا.
(وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا) أي وأنزلناه عليك هكذا على مهل ، وقرأناه بلسان جبريل شيئا فشيئا في ثلاث وعشرين سنة.
وبعد أن أبان فساد قولهم بالدليل الواضح أعقبه بما يقوّى قلبه إزاء المشركين ، وأنه قد كتب له الفلج عليهم ، فهم محجوجون فى كل آن ، وقولهم مدفوع على كل وجه فقال :
(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أي ولا يأتيك هؤلاء المشركون بصفة غريبة من الصفات التي يقترحونها ، ويريدون بها القدح فى نبوتك إلا دحضناها بالحق الذي يدفع قولهم ويقطع عروق أسئلتهم السخيفة ، ويكون أحسن بيانا مما يقولون.(19/13)
ج 19 ، ص : 14
ونحو الآية قوله : « بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ » .
والخلاصة - إنهم لا يقترحون اقتراحا من فاسد مقترحاتهم ، إلا أتيناك بما يدفعه ، ويوضح بطلانه.
وبعد أن وصفوا رسوله بتلك الأوصاف السالفة تحقيرا له - سلاه على ذلك ، وطلب إليه أن يقول لهم.
(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا) أي إنى لا أقول لكم كما تقولون ولا أصفكم بمثل ما تصفوننى به ، بل أقول لكم : إن الذين يسحبون إلى جهنم ويجرّون بالسلاسل والأغلال هم شر مكانا وأضل سبيلا ، فانظروا بعين الإنصاف ، وفكّروا من أولى بهذه الأوصاف منا ومنكم ؟ لتعلموا أن مكانكم شر من مكاننا ، وسبيلكم أضل من سبيلنا.
وهذا على نسق قوله تعالى : « وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ » .
ويسمّون هذا الأسلوب فى المناظرة بإرخاء العنان للخصم ، ليسهل إفحامه وإلزامه ،
روى الترمذي عن أبى هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف. صنفا مشاة وصنفا ركبانا وصنفا على وجوههم ، قيل يا رسول اللّه ، وكيف يمشون على وجوههم ؟ قال إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم ، أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك »
والمراد أن الملائكة عليهم السلام تسحيهم وتجرّهم على وجوههم إلى جهنم ، أو يكون الحشر على الوجوه عباوة عن الذلة والخزي والهوان ، أو هو من قول العرب مرّ فلان على وجهه إذا لم يدر أين يذهب.
قصص بعض الأنبياء مع أممهم
[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 40]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40)(19/14)
ج 19 ، ص : 15
تفسير المفردات
قال الزجاج : الوزير من يرجع إليه للاستعانة برأيه ، والتدمير : كسر الشيء على وجه لا يمكن معه إصلاحه ، وأعتدنا. هيّأنا وأعددنا ، الرس : البئر غير المطوية (غير المبنية) والجمع : رساس. قال أبو عبيدة : والمراد بهم كما قال قتادة أهل قرية من اليمامة يقال لها الرسّ والفلج فتلوا نبيهم فهلكوا ، وهم بقية ثمود قوم صالح ، والتتبير : التفتيت والتكسير قال الزجاج : كل شىء كسرته وفتّته فقد تبرّته ومنه التّبر لفتات الذهب والفضة ، والقرية : هى سذوم أعظم قرى قوم لوط ، لا يرجون : أي لا يتوقعون ، والنشور :
البعث للحساب والجزاء.
المعنى الجملي
بعد أن تكلم فى دلائل وحدانيته ونفى الأنداد ، وفى النبوة وأجاب عن شبهات المنكرين لها ، وفى أحوال يوم القيامة وأهوالها التي يلقاها الكافرون ، وفى النعيم الذي يتفضل به على عباده المتقين ، أردف ذلك بقصص بعض الأنبياء مع أممهم الذين كذّبوهم فحل بهم النكال والوبال ، ليكون فى ذلك عبرة لقومه المشركين الذين كذبوا رسوله حتى لا يحل بهم من العذاب مثل ما حل بمن قبلهم إذا هم تمادوا فى تكذيبهم وأصرّوا على بغيهم وطغيانهم.(19/15)
ج 19 ، ص : 16
وقد ذكر من ذلك خمس قصص : قصة موسى مع فرعون وقومه. وقصة نوح وقومه. وقصة هود مع قومه عاد. وقصة صالح مع قومه ثمود. وقصة أصحاب الرس.
قصة موسى وهارون عليهما السلام
(وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) أي ولقد أنزلنا على موسى التوراة كما أنزلنا عليك الفرقان ، وجعلنا معه أخاه هرون معينا وظهيرا له ، ولا تنافى بين هذه الآية وقوله : « وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا » فإنه وإن كان نبيا فالشريعة لموسى عليه السلام وهو تابع له فيها ، كما أن الوزير متبع لسطانه.
ثم ذكر ما أمرا به من تبليغ الرسالة مع بيان أن النصر لهما آخرا على أعدائهما.
(فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) أي فقلنا لهما اذهبا إلى فرعون وقومه الذين كذبوا بدلائل التوحيد المودعة فى الأنفس والآفاق ، فلما ذهبا إليهم كذبوهما فأهلكناهم أشد إهلاك.
ونحو الآية قوله : « دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها » .
وفى ذلك تسلية لرسوله وأنه ليس أول من كذّب من الرسل ، فله أسوة بمن سلف منهم.
قصة نوح عليه السلام
(وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) أي وكذلك فعلنا بقوم نوح حين كذبوا رسولنا نوحا عليه السلام ، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى اللّه ويحذّرهم نقمته « وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ » فأغرقناهم ولم نترك منهم أحدا إلا أصحاب السفينة وجعلناهم عبرة للناس كما قال : « إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ » أي أبقينا لكم(19/16)
ج 19 ، ص : 17
السفينة ، لتذكروا نعمة اللّه عليكم بإنجائكم من الغرق وجعلكم من ذرية من آمن به وصدّق بأمره.
وفى قوله : كذبوا الرسل وهم لم يكذبوا إلا رسولا واحدا وهو نوح - إيماء إلى أن من كذّب رسولا وأخذا فقد كذب جميع الرسل ، إذ لا فرق بين رسول وآخر ، إذ جميعهم يدعو إلى توحيد اللّه ونبذ الأصنام والأوثان قاله الزجاج.
ثم ذكر مآل المكذبين فقال :
(وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً) أي وأعددنا لكل من كفر باللّه ولم يؤمن برسله عذابا أليما فى الآخرة.
وفى ذلك رمز إلى أن قريشا سيحل بهم من العذاب فى الدنيا والآخرة مثل ماحل بأولئك المكذبين إذا لم يرعووا عن غيّهم.
قصص عاد وثمود وأصحاب الرس وغيرهم
(وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ) أي ودمّرنا عادا قوم هود عليه السلام بالريح الصرصر العاتية ، وثمود قوم صالح بالصيحة ، وأهلكنا أصحاب الرس الذين كانوا باليمامة وقتلوا نبيهم. واختار ابن جرير أنهم أصحاب الأخدود الذين ذكروا فى سورة البروج وسيأتى ذكر قصصهم.
(وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) أي وأمما كثيرة أهلكناهم لما كذّبوا رسلنا.
ثم ذكر أنه أنذر أولئك المكذبين وحذرهم قبل أن أوقع بهم فقال :
(وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) أي وكل هؤلاء أوضحنا لهم حججنا ، وبينا لهم أذلتنا ، وأزحنا عنهم الأعذار ، فتمادوا فى كفرهم وطغيانهم ، فأهلكناهم أفظع الإهلاك وأشده.
ثم ذكّر مشركى مكة بما يرونه من العبر فى حلّهم وتر حالهم وما يشاهدونه مما حل بأولئك الأمم المكذبة من المثلات فقال :(19/17)
ج 19 ، ص : 18
(وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) أي وتاللّه لقد مرّ هؤلاء المكذبون فى رحلة الصيف على سذوم أعظم قرى قوم لوط وقد أهلكها اللّه بأن أمطر عليها حجارة من سجيل ، لأن قومها كانوا يعملون الخبائث ، وحذّرهم لوط ، فما أغنت عنهم الآيات والنذر.
ثم وبخهم على تركهم التذكر حين مشاهدة ما يوجبه فقال :
(أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها ؟ ) أي أ فلم يروا ما نزل بتلك القرية من عذاب اللّه بتكذيب أهلها رسول ربهم فيعتبروا ويتذكروا ويراجعلوا التوبة من كفرهم وتكذيبهم لرسوله.
ثم أبان أن عدم التذكر لم يكن سببه عدم الرؤية ، بل منشؤه إنكار البعث والنشور فقال :
(بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) أي إنهم ما كذّبوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم فيما جاءهم به من عند اللّه ، لأنهم لم يكونوا رأوا ما حل بالقرية التي وصفت ، بل كذبوه من قبل أنهم قوم لا يخافون نشورا بعد الممات ، ولا يوقنون بعقاب ولا ثواب فيردعهم ذلك عما يأتون من معاصى اللّه.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 41 الى 44]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مطاعن المشركين فى النبي صلى اللّه عليه وسلم وأورد شبهاتهم فى ذلك - أردف هذا بيان أن ذلك ما كفاهم ، وليتهم اقتصروا عليه ، بل زادوا على(19/18)
ج 19 ، ص : 19
ذلك الاستهزاء به والحطّ من قدره حتى لقد قال بعضهم لبعض : أ هذا الذي بعث اللّه رسولا ؟ بل لقد غالوا فى ذلك فسمّوا دعوته إضلالا ، فرد اللّه عليهم مقالهم وأبان لهم أنه سيظهر لهم حين مشاهدة العذاب من الضالّ ومن المضلّ ؟ ثم عجّب رسوله من شناعة أحوالهم بعد حكاية أقوالهم وأفعالهم القبيحة ، وأرشد إلى أن مثل هؤلاء يبعد أن يزدجروا عما هم فيه من الغىّ بنصحك وإرشادك ، فإن أكثرهم لا يسمعون ولا يعقلون وما هم إلا كالأنعام أو أضل منها سبيلا.
روى أن الآية الأولى نزلت فى أبى جهل ومن معه فإنه كان إذا مر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع صحبه قال مستهزئا (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا).
الإيضاح
(وَإِذا رَأَوْك َ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا)
أي وإذا رآك هؤلاء المشركون الذين قصصت عليك قصصهم - اتخذوك موضع هزؤ وسخرية وقالوا احتقارا لشأنك هذه المقالة.
ثم ذكر ما زاد قبحه فى زعمهم فقال :
(إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) أي ويقولون إنه قد كاد يصدّنا عن عبادة آلهتنا لو لا صبرنا على عبادتها وثباتنا على ديننا.
وفى هذا إيماء إلى وجوه من الفائدة :
(1) إنه صلى اللّه عليه وسلم قد بلغ من الاحتفال فى الدعوة إلى التوحيد وإظهار المعجزات ، وإقامة الحجج والبينات ، مبلغا شارفوا به أن يتركوا دينهم لو لا فرط عنادهم وتناهى عتوهم ولجاجهم.
(2) الدلالة على تناقضهم واضطرابهم ، فإن فى استفهامهم السابق ما يدل على التحقير له ، وفى آخر كلامهم ما يدل على قوة حجته ، ورجاحة عقله ، فذكره تحميق لهم وتجهيل لاستهزائهم بما استعظموه.(19/19)
ج 19 ، ص : 20
وبعد أن حكى مقالتهم سفّه آراءهم من وجوه ثلاثة :
(1) (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا) أي إنهم حين يشاهدون العذاب الذي استوجبوه بكفرهم وعنادهم سيعلمون من الضال ومن المضل ؟
وفى هذا رد لقولهم إن كاد ليضلنا عن آلهتنا ، كما أن فيه وعيدا شديدا على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر.
(ب) (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ؟ ) أي انظر فى حال هذا الذي جعل هواه إلهه ، بأن أطاعه وبنى عليه أمر دينه ، وأعرض عن استماع الحجة الباهرة ، والبرهان الجلى الواضح ، واعجب ولا تأبه به ، فإنك لن تكون حفيظا على مثل هذا تزجره عما هو عليه من الضلال وترشده إلى الصراط السوىّ.
وخلاصة ذلك - كأنه سبحانه يقول لرسوله : إن هذا الذي لا يرى معبودا له إلا هواه ، لا تستطيع أن تدعوه إلى الهدى ، وتمنعه من متابعة الهوى ، إن عليك إلا البلاغ.
ونحو الآية قوله : « لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ » وقوله : « وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ » وقوله : « لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ » .
وفى هذا الأسلوب تعجيب لرسوله من سوء أحوالهم بعد أن حكى قبيح أقوالهم وأفعالهم ، وتنبيه له إلى سوء عاقبتهم.
قال ابن عباس : كان الرجل فى الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا ، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول فأنزل اللّه الآية.
(ح) (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) أي بل أ تظن أن أكثرهم يسمعون حق السماع ما تتلو عليهم من الآيات ، أو يعقلون ما تتضمنه من المواعظ الداعية إلى الفضائل ومحاسن الأخلاق ، حتى تجتهد فى دعوتهم ، وتحتفل بإرشادهم وتذكيرهم ، وتطمع فى إيمانهم فما حالهم إلا حال البهائم فى تركهم للتدبر فيما يشاهدون من البينات والحجج ، بل هم أضل منها سبيلا ،(19/20)
ج 19 ، ص : 21
هى قد تنقاد لصاحبها الذي يتعهّدها ، وتعرف من يحسن إليها ومن يسىء ، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها ، وتهتدى لمراعيها ومشاربها ، وتأوى إلى معاطنها ومرابضها ، لكن هؤلاء لا ينقادون لخالقهم ورازقهم ، ولا يعرفون إحسانه إليهم وإساءة الشيطان لهم ، وهو الذي قد زين لهم اتباع الشهوات - إلى أنهم لا يرجون ثوابا ، ولا يخافون عقابا ، إلى أن جهالة الأنعام مقصورة عليها ، وجهالة هؤلاء تؤدى إلى وقوع الفتنة والفساد ، وصدّ الناس عن سنن السّداد ، ووقوع الهرج والمرج بين العباد ، إلى أن البهائم إذ لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك ، بخلاف هؤلاء فإنهم اعتقدوا البطلان عنادا ومكابرة وتعصبا وغمطا للحق ، إلى أنها لم تعطّل قوة من القوى المودعة فيها ، فلا تقصير من قبلها عن الكمال ، أما هؤلاء فهم مبطلون لقواهم العقلية مضيعون للفطرة التي فطر اللّه الناس عليها ، وقد قالوا الملائكة روح وعقل ، والبهائم نفس وهوى ، والبشر مجمع الكل للابتلاء والاختبار ، فإن غلبته النفس والهوى فضلته الأنعام ، وإن غلبته الروح والعقل فضل الملائكة الكرام.
وتخصيص الأكثر بالذكر ، لأنه قد كان منهم من آمن ، ومنهم من عقل الحق وكابر ، استكبارا وخوفا على الرياسة.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 54]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49)
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54)(19/21)
ج 19 ، ص : 22
تفسير المفردات
ألم تر : أي ألم تنظر ، إلى ربك : أي إلى صنعه ، مد : بسط ، الظل : ما يحدث من مقابلة جسم كثيف كجبل أو بناء أو شجر للشمس من حين ابتداء طلوعها حتى غروبها ، ساكنا : أي ثابتا على حاله فى الطول والامتداد بحيث لا يزول ولا تذهبه الشمس ، دليلا : أي علامة ، قبضناه : أي محوناه ، يسيرا : أي على مهل قليلا قليلا بحسب سير الشمس فى فلكها ، والسبات : الموت لما فى النوم من زوال الإحساس ، والنشور : البعث ، بشرا : (تخفيف بشر بضمتين) واحدها بشور كرسل ورسول :
أي مبشرات ، والرحمة : المطر ، بين يديه : أي قدامه ، طهورا : أي يتطهر به ، والبلدة :
الأرض ، والميت : التي لا نبات فيها ، والأنعام : الإبل والبقر والغنم ، وخصها بالذكر لأنها ذخيرتنا. ومعاش أكثر أهل المدر منها ، وأناسىّ : واحدهم إنسان (أصله أناسين أبدلت النون ياء وأدغمت فى الياء) وصرفناه : أي حولناه فى أوقات مختلفة إلى بلدان متعددة ، ليذكروا : أي ليعتبروا ، كفورا : أي كفرانا للنعمة وإنكارا لها ، نذيرا :
أي نبيا ينذر أهلها ، والمرج : من قولهم مرج فلان دابته إذا تركها وشأنها ، فرات : أي مفرط العذوبة ، أجاج : أي شديد الملوحة ، برزخا : أي حاجزا ، حجرا محجورا : أي تنافرا شديدا فلا يبغى أحدهما على الآخر ولا يفسد الملح العذب ، نسبا وصهرا : أي ذكورا ينسب إليهم ، وإناثا يصاهر بهن.(19/22)
ج 19 ، ص : 23
المعنى الجملي
لما بين سبحانه جهالة المعرضين عن دلائل التوحيد ، وسخيف مذاهبهم وآرائهم أعاد الكرة مرة أخرى ، فذكر خمسة أدلة عليه نراها عيانا ، وتتوارد علينا ليلا ونهارا ، وتكون دليلا على وجود الإله القادر الحكيم.
الإيضاح
(1) (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) أي انظر أيها الرسول إلى صنع ربك ، كيف أنشأ الظل لكل مظلّ من طلوع الشمس حتى غروبها ، فاستخدمه الإنسان للوقاية من لفح الشمس وشديد حرارتها.
(وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي ولو شاء لجعله ثابتا على حال واحدة لا يتغير ، لكنه جعله متغير فى ساعات النهار المختلفة ، وفى الفصول المتعاقبة ، ومن ثم اتّخذ مقياسا للزمن منذ القدم ، فاتخذ المصريون (المسلات) وقاسوا بها أوقات النهار على أوضاع مختلفة ، وطرق حكيمة منوّعة ، واتخذ العرب المزاول لمعرفة أوقات الصلاة فقالوا : يجب الظهر عند الزوال : أي إذا تحول الظل إلى جانب المشرق ، والعصر حين بلوغ ظل كل شىء مثله عند الأئمة عدا أبا حنيفة الذي قال : لا يجب إلا إذا بلغ ظل كل شىء مثليه.
(ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) أي ثم جعلنا طلوع الشمس دليلا على ظهور الظل ومشاهدته للحس والعيان ، والأشياء تستبين بأضدادها ، فلو لا الشمس لما عرف الظل ، ولو لا الظلمة ما عرف النور.
(ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) أي ثم أزلناه بضوء الشمس يسيرا يسيرا ، ومحوناه على مهل جزءا فجزءا بحسب سير الشمس.
(2) (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) أي ومن آثار قدرته ، وروائع رحمته الفائضة على خلقه ، أن جعل لنفعكم الليل كاللباس يستركم بظلامه(19/23)
ج 19 ، ص : 24
كما يستركم اللباس ، وجعل النوم كالموت لتعطيله الحواس ووظائفها المختلفة كما قال :
« وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ » وقال : « اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها » وجعل النهار زمان بعث من ذلك الموت.
وخلاصة ذلك - جعلنا موتكم بالنوم فى الليل ، وجعلنا نشوركم : أي انبعاثكم من النوم الذي يشبه الموت بالنهار ، إذ ينشر الخلق للمعاش كما ينشرون بعد الموت للحساب. قال لقمان لابنه كما تنام فتوقظ ، كذلك تموت فتنشر.
ونحو الآية قوله : « وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ » الآية.
(3) (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي واللّه الذي أرسل الرياح مبشّرات بقدوم الأمطار.
(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) الطهور اسم لما يتطهر به كالوقود لما توقد به النار والوضوء لما يتوضأ به ، أي وأنزلنا من السحاب ماء تتطهرون به فى غسل ملابسكم وأجسامكم ، وتنتفعون به فى طبخ مطاعمكم ، وتشربونه عذبا فراتا.
روى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال فى البحر « هو الطّهور ماؤه ، والحل ميتته » أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.
(لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي وأنزلناه لنحيى به أرضا طال انتظارها للغيث ، فهى هامدة لا نبات فيها ، وبذلك الماء تزدهر بالشجر والنبات والأزهار ، وذلك أشبه بالحياة للإنسان والحيوان.
ونحو الآية قوله : « فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ » وقوله : « فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها » (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) أي وليشرب منه الحيوان والإنسان ،(19/24)
ج 19 ، ص : 25
وأخر ذكر الإنسان عن النبات والحيوان لحاجته إليهما فى حياته ، ولأنهم إذا ظفروا بماء يسقى أرضهم ومواشيهم لم يعدموا ما يكون منه سقياهم.
(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ) أي ولقد صرفنا المطر بين الناس على أوضاع شتى ، فلا تمر ساعة فى ليل ولا نهار إلا كان فيه دليل على آثار قدرتنا ، فننزله على قوم ونحجبه عن آخرين ، فنحن صرفناه بينهم كما صرفنا الليل والنهار ، فالشمس تجرى من عند قوم وتذهب إلى آخرين : « صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ » .
إلى أن الماء يكون جامدا يشبه الحجر ، وسائلا يشبه الزيت وسائر المائعات ، وحينا بخاريا يشبه الهواء ، وهو أيضا غاد ورائح فى الجوّ وفى الأنهار وفى الغدران وفى أجسام النبات والحيوان والإنسان.
(لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أي صرّفناه بينهم ، ليعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيشكروا ، ولكن أكثر الناس أبوا إلا جحودا للنعمة ، وكفرانا بخالقها.
ثم بين منته على رسوله وأنه كلفه الأحمال الثقال من أعباء النبوة ليزداد شرفا ويعظم قدرا فقال :
(وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) أي ولو أردنا أن نرسل رسولا إلى أهل كل قرية لفعلنا وخفّت عنك أعباء النبوة ، ولكن بعثناك إلى القرى كلها وحملناك ثقل النذارة ، لتستوجب بصبرك ما أعددناه لك من الكرامة والمنزلة الرفيعة ، فقابل ذلك بشكر النعمة ، وبالثبات والاجتهاد فى الدعوة وإظهار الحق كما قال : « قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً »
وجاء فى الصحيحين « بعثت إلى الأحمر والأسود »
أي إلى العجم والعرب.
والخلاصة - إنّا عظّمناك بهذا الأمر ، وجعلناك مستقلا بأعبائه ، لتحوز ما ادّخر لك من عظيم جزائه ، وكبير مثوبته فعليك بالمجاهدة والمثابرة ، ولا عليك من تلقّيهم الدعوة بالإعراض والمشاكسة.
(فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) أي فلا تطع الكافرين فيما(19/25)
ج 19 ، ص : 26
يدعونك إليه من موافقتهم على مذاهبهم وآرائهم ، وجاهدهم بالشدة والعنف ، لا بالملاينة والمداراة لتكسب ودّهم ومحبتهم ، وعظهم بما جاء به القرآن من المواعظ والزواجر ، وذكّرهم بأحوال الأمم المكذبة لرسلها ، وذلك منتهى الجهاد الذي لا يقادر قدره.
ونحو الآية قوله تعالى : « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ » .
والخلاصة - إنك مبعوث إلى الناس كافة ، لتنذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم ، فاجتهد فى دعوتك ، ولا تتوان فيها ، ولا تحفل بوعيدهم ، فإن اللّه ناصرك عليهم ومظهر دينك على الدين كله ولو كره المشركون.
(4) (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) أي ومن آثار نعمته على خلقه أن خلى البحرين متجاورين متلاصقين وجعلهما لا يمتزجان ، ومنع الملح من تغيير عذوبة العذب وإفساده إياه ، وحجزه عنه بقدرته ، فكأن بينهما حاجزا يمنع أحدهما من إفساد الآخر ، وكأن بينهما ساترا يجعله لا يبغى عليه.
والخلاصة - إنه تعالى جعل البحرين مختلطين فى مرأى العين ، منفصلين فى التحقيق بقدرته تعالى بحيث لا يختلط الملح بالعذب ولا العذب بالملح ، ولا يتغير طعم أحدهما بالآخر ولا يفسده.
ونحو الآية قوله فى سورة الرحمن : « مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ » .
(5) (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) أي وهو الذي جعل الماء جزءا من مادة الإنسان ، ليقبل الأشكال المختلفة ، والأوضاع المنوّعة وقسمه قسمين ذوى نسب ينسب إليهم وهم الذكور ، وذوات صهر يصاهر بهن وهن(19/26)
ج 19 ، ص : 27
الإناث كما قال : « فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى » وكان اللّه قديرا ، إذ خلق من مادة واحدة بشرا عجيب الصنع ، بديع الخلق ، كبير العقل ، عظيم التفكير ، سخّر ما على ظاهر الأرض وباطنها لنفعه وفائدته « وَسَخَّرَ لَكُمْ ... ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ » .
[سورة الفرقان (25) : الآيات 55 الى 62]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)
تفسير المفردات
الظهير والمظاهر : المعاون فهو يعاون الشيطان على ربه : أي على رسوله بالعداوة ، وسبح بحمده : أي ونزّهه وصفه بصفات الكمال ، ويقال كفى بالعلم جمالا : أي حسبك ، فلا تحتاج معه إلى غيره ، والخبير بالشيء : العليم بظاهره وباطنه وبكل ما يتصل به ، والبروج : منازل السيارات الاثني عشر المعروفة التي جمعها بعضهم فى قوله :(19/27)
ج 19 ، ص : 28
حمل الثور جوزة السرطان ورعى الليث سنبل الميزان
ورمى عقرب بقوس لجدّى نزح الدلو بركة الحيتان
فهى الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدى والدلو والحوت ، وهى منازل الكواكب السيارة السبعة وهى : المريخ وله الحمل والعقرب ، والزهرة : ولها الثور والميزان ، وعطارد : وله الجوزاء والسنبلة ، والقمر :
وله السرطان ، والشمس : ولها الأسد ، والمشترى : وله القوس والحوت ، وزحل :
وله الجدى والدلو.
وهى فى الأصل القصور العالية. فأطلقت عليها على طريق التشبيه ، والسراج : الشمس خلفة : أي يخلف أحدهما الآخر ويقوم مقامه فيما ينبغى أن يعمل فيه.
المعنى الجملي
بعد أن بسط سبحانه أدلة التوحيد ، وأرشد إلى ما فى الكون من باهر الآيات ، وعظيم المشاهدات ، التي تدل على بديع قدرته ، وجليل حكمته - أعاد الكرة مرة أخرى ، وبين شناعة أقوالهم وقبيح أفعالهم ، إذ هم مع كل ما يشاهدون لا يرعوون عن غيّهم ، بل هم عن ذكر ربهم معرضون ، فلا يعظّمون إلا الأحجار والأوثان وما لا نفع فيه إن عبد ، وما لا ضرّ فيه إن ترك ، إلى أنهم يظاهرون أولياء الشيطان ، ويناوثون أولياء الرحمن وإن تعجب لشىء فاعجب لأمرهم ، فقد بلغ من جهلهم أنهم يضارّون من جاء لنفعهم وهو الرسول الذي يبشّرهم بالخير العميم إذا هم أطاعوا ربهم ، وينذرهم بالويل والثبور إذا هم عصوه ، ثم هو على ذلك لا يبتغى أجرا.
ثم أمر رسوله بألا يرهب وعيدهم ، ولا يخشى بأسهم ، بل يتوكل على ربه ، ويسبح بحمده ، وينزهه عما لا يليق به من صفات النقص كالشريك والولد ، وهو الخبير بأفعال عباده ، فيجازيهم بما يستحقون.(19/28)
ج 19 ، ص : 29
الإيضاح
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) أي ويعبد هؤلاء المشركون من دون اللّه آلهة لا تنفعهم إذا هم عبدوها ، ولا تضرهم إن تركوا عبادتها ، فهم عبدوها لمجرد التشهي والهوى ، وتركوا عبادة من أنعم عليهم بهذه النعم التي لا كفاء لأدناها ، ومن ذلك ما ذكره قبل بقوله : « أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ » إلى آخر الآيات.
ثم ذكر لهم جرما آخر فقال :
(وَ كانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) أي وكانوا مظاهرين الشيطان ، على معصية الرحمن ، وذلك دأبهم وديدنهم ، فهم يعاونون المشركين ، ويكونون أولياء لهم على رسوله وعلى المؤمنين ، بمساعدتهم على الفجور وارتكاب الآثام ، وخذلان المؤمنين إذا أرادوا منعها والتنفير منها كما قال : « وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ » .
وقد يكون المعنى - وكان الكافر على ربه هيّنا ذليلا لا قدر له ولا وزن له عنده من قول العرب : ظهرت به ، أي جعلته خلف ظهرك ولم تلتفت إليه ، ومنه قوله تعالى :
« وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا » أي هينا ، وقول الفرزدق :
تميم بن قيس لا تكونن حاجتى بظهر فلا يعيا علىّ جوابها
قال ابن عباس نزلت الآية فى أبى الحكم بن هشام الذي سماه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا جهل بن هشام.
ثم بين عظيم حمقهم ونفورهم ممن جاء لجلب الخير لهم ودفع الأذى عنهم فقال :
(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي كيف تطلبون العون على اللّه ورسوله واللّه قد أرسل رسوله لنفعكم ، إذ قد بعثه ليبشركم على فعل الطاعات ، وينذركم على فعل المعاصي ، فتستحقوا الثواب وتبتعدوا عن العقاب.(19/29)
ج 19 ، ص : 30
وخلاصة ذلك - لا جهل أعظم من جهل من استفرغ جهده فى إيذاء من يرجو نفعه فى دينه ودنياه.
وفى هذا تسلية لرسوله حتى لا يحزن على عدم إيمانهم.
ثم أمر رسوله أن يبين لهم أنه مع كونه يريد نفعهم لا يبغى لنفسه نفعا فقال :
(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي قل لمن أرسلت إليهم : لا أسألكم على ما جئت به من عند ربى أجرا ، فتقولوا إنما يدعونا ليأخذ أموالنا ، ومن ثم لا نتبعه حتى لا يكون له فى أموالنا مطمع.
(إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) أي لكن من شاء منكم أن يتقرب إلى اللّه بالإنفاق فى الجهاد وغيره ، ويتخذ ذلك سبيلا إلى رحمته ونيل ثوابه فليفعل.
وخلاصة ذلك - لا أسألكم عليه أجرا لنفسى ، وأسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتخاذ السبيل إلى ربكم لنيل مثوبته ومغفرته.
وبعد أن بين له أن الكافرين متظاهرون على إيذائه - أمره بالتوكل عليه فى دفع المضارّ وجلب المنافع فقال :
(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي وتوكل على ربك الدائم الباقي رب كل شىء ومليكه ، واجعله ملجأك وذخرك ، وفوّض إليه أمرك ، واستسلم له ، واصبر على ما نابك فيه ، فإنه كافيك وناصرك ومبلغك ما تريد ، ونزّهه عما يقوله هؤلاء المشركون من الصاحبة والولد ، فهو الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ، كما تنزهه عن الأنداد والشركاء من الأصنام والأوثان فهو لا كفء له ولا ند : « وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ » .
وقد علمت قبل أن التوكل اعتماد العبد على اللّه فى كل الأمور ، والأسباب وسائط أمرنا باتباعها من غير اعتماد عليها.
ونحو الآية قوله : « وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ » .(19/30)
ج 19 ، ص : 31
وفى قوله : (الْحَيِّ) إيماء إلى أنه لا ينبغى أن يتوكل على من لم يتصف بالحياة من صنم أو وثن ، ولا على من لا بقاء له ممن يموت ، لأنه إذا مات ضاع من توكل عليه.
وحكى عن بعض السلف أنه قرأ هذه الآية فقال : لا ينبغى لذى لب أن يثق بعدها بمخلوق.
ثم أنذرهم وحذّرهم بأن ربهم محص أعمالهم عليهم ، ومجازيهم عليها يوم القيامة فقال :
(وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أي وحسبك بالحي الذي لا يموت خبيرا بذنوب خلقه ما ظهر منها وما بطن ، فهو لا يخفى عليه شىء منها ، وهو محصيها عليهم ومجازيهم عليها ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، فلا عليك إن آمنوا أو كفروا.
وفى هذا ساوة لرسوله ، ووعيد لأولئك الكافرين على سوء أفعالهم ، وإعراضهم عن اتباع رسوله ومناصبته العداء ، وكأنه قيل : إذا أقدمتم على مخالفة أمره كفاكم علمه فى مجازاتكم بما تستحقون من العقوبة.
ثم وصف نفسه بذكر أفعاله التي تجعله حقيقا أن يتوكّل عليه فقال :
(الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تقدم إيضاح هذا فى سور يونس وهود وطه ، ولكن يلاحظ هنا أنه تعالى وصف نفسه بالأبدية والعلم الشامل ، ثم بخلق السموات والأرض ليقرر وجوب التوكل عليه ويؤكده ، فإن من أحدث هذه الأجرام العظيمة على ذلك النمط البديع وجعلها مرفوعة بغير عمد فى تلك الأيام ، وقد كان قديرا على إبداعها دفعة واحدة بقدرته التي لا تقف على كنهها العقول - جدير بأن يتوّكل عليه ويفوّض أمره إليه.
(الرَّحْمنُ) أي عظيم الرحمة بكم ، والحدب عليكم ، فلا تعبدوا إلا إياه ولا تتوكلوا إلا عليه.
وخلاصة ذلك - توكلوا على من لا يموت وهو رب كل شىء وخالقه وخالق السموات السبع على ارتفاعها واتساعها وما فيها من عوالم لا يعلم كنهها إلا هو ، وخالق(19/31)
ج 19 ، ص : 32
الأرضين السبع على ذلك الوضع البديع فى ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ويقضى بالحق.
(فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) أي فاسأل عن خلق ما ذكر خبيرا به يخبرك بحقيقته وهو اللّه سبحانه ، لأنه لا يعلم تفاصيل تلك المخلوقات إلا هو ، فالأيام التي ثم فيها الخلق إنما هى أطوار ستة سار عليها طورا بعد طور وحالا بعد أخرى كما يرشد إلى ذلك قوله :
« وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ » والاستواء على العرش لا يراد به الجلوس عليه بل تمام التصرف فيه.
فمن كان محدود الفكر فليقف عند ظاهر اللفظ ويترك البحث فيه ، ومن كان حصيف الرأى طليق الفكر فليجدّ فى البحث والدرس وسؤال أهل الذكر من العلماء ليعلم المراد من ذلك على قدر ما تصل إليه طاقة البشر.
وبعد أن ذكر سبحانه إحسانه إليهم وإنعامه عليهم ذكر ما أبدوه من الكفر فى موضع الشكر فقال :
(وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ ؟ ) أي وإذا قيل لهؤلاء الذين يعبدون من دون اللّه ما لا ينفعهم ولا يضرهم : اجعلوا خضوعكم وتعظيمكم للرحمن خالصا دون الآلهة والأوثان ، قالوا على طريق التجاهل : وما الرحمن ؟ أي نحن لا نعرف الرحمن فنسجد له.
ونحو هذا قول فرعون : « وَما رَبُّ الْعالَمِينَ » حين قال له موسى عليه السلام :
« إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ » وهو قد كان عليما به كما يؤذن بذلك قول موسى له :
« لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ » .
ثم عجبوا أن يأمرهم بذلك وأنكروه عليه بقولهم :
(أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا ؟ ) أي أ نسجد للذى تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرفه.
ثم بين أنه كلما أمرهم بعبادته ازدادوا عنادا واستكبارا فقال :(19/32)
ج 19 ، ص : 33
(وَزادَهُمْ نُفُوراً) أي وزادهم هذا الأمر بالسجود نفورا وبعدا مما دعوا إليه ، وقد كان من حقه أن يكون باعثا لهم على القبول ثم الفعل.
وكان سفيان الثّورى يقول فى هذه الآية : إلهى زدنى لك خضوعا ، ما زاد عداك نفورا.
روى الضحاك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه سجدوا ، فلما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا فى ناحية المسجد مستهزئين.
وبعد أن حكى عنهم مزيد النفرة من السجود له ، ذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود لمن له تلك الخصائص فقال :
(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) أي تقدس ربنا الذي جعل فى السماء نجوما كبارا عدها المتقدمون نحو ألف وعدها علماء العصر الحاضر بعد كشف آلات الرصد الحديثة (التلسكوبات) أكثر من مائتى ألف ألف ولا يزال البحث يكشف كل حين منها جديدا ، وجعل فيها شمسا متوقدة وقمرا مضيئا.
ثم ذكر آية أخرى من آيات قدرته وفيها الدليل على وحدانيته فقال :
(وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) أي وهو الذي جعل الليل والنهار متعاقبين يخلف أحدهما الآخر ، فيكون فى ذلك عظة لمن أراد أن يتعظ باختلافهما ويتذكر آلاء اللّه فيهما ويتفكر فى صنعه ، أو أراد أن يشكر نعمة ربه ليجنى ثمار كل منهما ، إذ لو جعل أحدهما دائما لفاتت فوائد الآخر ، ولحصلت السآمة والملل ، وفتر العزم الذي يثيره دخول وقت الآخر إلى نحو أولئك من الحكم التي أحكمها العلى الكبير.
وفى الحديث الصحيح : « إن اللّه عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل » .
وعن الحسن : من فاته عمل من التذكر والشكر بالنهار كان له فى الليل مستعتب ،(19/33)
ج 19 ، ص : 34
ومن فاته بالليل كان له فى النهار مستعتب. وروى أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى فقيل له : صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه! فقال : إنه بقي علىّ من وردى شىء فأحببت أن أتمه أو قال أقضيه وتلا هذه الآية : « وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ » إلخ.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 63 الى 77]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67)
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72)
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)(19/34)
ج 19 ، ص : 35
تفسير المفردات
الهون : الرفق واللين والمراد أنهم يمشون فى سكينة ووقار ، ولا يضربون بأقدامهم أشرا وبطرا ، الجاهلون : أي السفهاء ، سلاما : أي سلام توديع ومتاركة لا سلام تحية كقول إبراهيم لأبيه : « سَلامٌ عَلَيْكَ » ويبيتون : أي يدركهم الليل ناموا أو لم يناموا كما يقال بات فلان قلقا ، غراما : أي هلاكا لازما ، قال الأعشى :
إن يعاقب يكن غراما وإن يعط جزيلا فإنه لا يبالى والإسراف : مجاوزة الحد فى النفقة بالنظر لنظرائه فى المال ، والتقتير : التضييق والشح ، قواما : أي وسطا وعدلا لا يدعون : أي لا يشركون ، والآثام : الإثم والمراد جزاؤه ، مهانا : أي ذليلا مستحقرا ، لا يشهدون الزور : أي لا يقيمون الشهادة الكاذبة والمراد أنهم لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم ، واللغو ما ينبغى أن يلغى ويطرح مما لا خير فيه ، كراما : أي مكرمين أنفسهم عن الخوض فيه ، والخرور :
السقوط على غير نظام وترتيب ، وقرة العين : يراد بها الفرح والسرور ، والإمام :
يستعمل للمفرد والجمع والمراد الثاني أي أئمة يقتدى بهم فى إقامة مراسم الدين ، والغرفة :
كل بناء عال مرتفع ويراد بها الدرجات الرفيعة ، ما يعبأ بكم : أي لا يعتدبكم ، دعاؤكم :
أي عبادتكم ، لزاما : أي لازما يحيق بكم حتى يكبكم فى النار.
المعنى الجملي
بعد أن وصف الكافرين بالإعراض عن عبادته ، والنفور من طاعته ، والسجود له عز اسمه - ذكر هنا أوصاف خلص عباده المؤمنين ، وبين ما لهم من فاضل الصفات ، وكامل الأخلاق ، التي لأجلها استحقوا جزيل الثواب من ربهم ، وأكرم لأجلها مثواهم وقد عدّ من ذلك تسع صفات مما تشرئب إليها أعناق العاملين ، وتتطلع إليها نفوس الصالحين ، الذين يبتغون المثوبة ونيل النعيم كفاء ما اتصفوا من كريم الخلال ، وأتوا به من جليل الأعمال.(19/35)
ج 19 ، ص : 36
الإيضاح
وصف اللّه سبحانه عباده المخلصين الذين استوجبوا المثوبة منه وجازاهم على ذلك الجزاء بصفات تسع :
(1) (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) أي وعباد اللّه الذين حق لهم الجزاء والمثوبة من ربهم هم الذين يمشون فى سكينة ووقار ، لا يضربون بأقدامهم كبرا ، ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا.
روى أن عمر رضى اللّه عنه رأى غلاما يتبختر فى مشيته فقال : إن البخترة مشية تكره إلا فى سبيل اللّه ، وقد مدح اللّه أقواما فقال : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) فاقصد فى مشيتك.
وقال ابن عباس : هم المؤمنون الذين يمشون علماء حلماء ذوى وقار وعفة.
وفى الحديث إن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « أيها الناس عليكم بالسكينة ، فإن البرّ ليس فى الإيضاع »
(السير السريع)
وفى صفته صلى اللّه عليه وسلم : إنه كان إذا زال زال تقلعا ، ويخطو تكفؤا ، ويمشى هونا ، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب
(التقلع : رفع الرجل بقوة ، والتكفؤ : الميل إلى سنن القصد ، والهون : الرفق والوقار ، والذريع : الواسع الخطا) أي إنه كان يرفع رجله بسرعة فى مشيه ويمد خطوه خلاف مشية المختال وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة ومن ثم قيل كأنما ينحط من صبب قاله القاضي عياض فى الشفاء.
وخلاصة هذا - إنهم لا يتكبرون ولا يتجبرون ولا يريدون علوّا فى الأرض ولا فسادا.
(2) (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) أي وإذا سفه عليهم السفهاء بالقول السيء لم يقابلوهم بمثله ، بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلا خيرا ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حلما.(19/36)
ج 19 ، ص : 37
وعن الحسن البصري : هم حلماء لا يجهلون ، وإن جهل عليهم حلموا ولم يسفهوا ، هذا نهارهم فكيف ليلهم ؟ خير ليل ، صفّوا أقدامهم ، وأجروا دموعهم ، يطلبون إلى اللّه جل ثناؤه فكاك رقابهم.
قال ابن العربي : لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ولا نهوا عن ذلك بل أمروا بالصفح والهجر الجميل ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أندية المشركين ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم.
ولما ذكر تعالى ما بينهم وبين الخلق ذكر ما بينهم وبينه فقال :
(3) (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) أي والذين يبيتون ساجدين قائمين لربهم أي يحيون الليل كله أو بعضه بالصلاة ، وخص العبادة بالبيتوتة ، لأن العبادة بالليل أحمص وأبعد عن الرياء ، وقال ابن عباس : من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات للّه ساجدا قائما : وقال الكلبي : من أقام ركعتين بعد المغرب وأربعا بعد العشاء فقد بات ساجدا قائما.
ونحو الآية قوله : « تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ » وقوله : « كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ » وقوله : « أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ » .
(4) (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) أي والذين يدعون ربهم أن يضرف عنهم عذاب جهنم وشديد آلامها.
وفى هذا مدح لهم ببيان أنهم مع حسن معاملتهم للخلق واجتهادهم فى عبادة الخالق وحده لا شريك له ، يخافون عذابه ويبتهلون إليه فى صرفه عنهم غير محتفلين بأعمالهم كما قال فى شأنهم : « وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ » .
ثم بين أن سبب سؤالهم ذلك لوجهين :
(ا) (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أي إن عذابها كان هلاكا دائما ، وخسرانا ملازما.(19/37)
ج 19 ، ص : 38
(ب) (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي إنها بئس المنزل مستقرا وبئس المقيل مقاما : أي إنهم يقولون ذلك عن علم ، وإذا فهم أعرف بعظم قدر ما يطلبون ، فيكون ذلك أقرب إلى النّجح.
قال الحسن : قد علموا أن كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم ، وقال محمد بن كعب : طالبهم اللّه تعالى بثمن النعيم فى الدنيا فلم يأتوا به ، فأخذ ثمنه بإدخالهم النار.
(5) (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) أي والذين هم ليسوا بالمبذّرين فى إنفاقهم ، فلا ينفقون فوق الحاجة ، ولا ببخلاء على أنفسهم وأهليهم فيقصّرون فيما يجب نحوهم ، بل ينفقون عدلا وسطا ، وخير الأمور أوسطها ، وقد قيل :
ولا تغل فى شىء من الأمر واقتصد كلا طرفى قصد الأمور ذميم
وقيل :
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي دعته إليه من حلاوة عاجل
قال يزيد بن أبى حبيب : أولئك أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثيابا للجمال ، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ، ويقوّيهم على عبادة ربهم ، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ، ويكفهم من الحر والبرد ، وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوّجه ابنته فاطمة :
ما نفقتك ؟ قال عمر : الحسنة بين سيئتين ، ثم تلا هذه الآية ، وقال لابنه عاصم :
يا بنى كلّ فى نصف بطنك ، ولا تطرح ثوبا حتى تستخلقه ، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم اللّه فى بطونهم وعلى ظهورهم.
(6) (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) أي والذين لا يعبدون مع اللّه إلها آخر فيشركون فى عبادتهم إياه ، بل يخلصون له العبادة ويفردونه بالطاعة.(19/38)
ج 19 ، ص : 39
(وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ولا يقتلونها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق المزيل لحرمتها وعصمتها ، كالكفر بعد الإيمان ، والزنا بعد الإحصان ، وقتل النفس بغير حق.
(وَلا يَزْنُونَ) فيأتون ما حرم اللّه عليهم إتيانه من الفروج.
روى البخاري ومسلم والترمذي عن ابن مسعود قال : « سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أىّ الذنب أكبر ؟ قال : أن تجعل للّه ندّا وهو خلقك ، قلت ثم أىّ ؟
قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ، قلت ثم أىّ ؟ قال أن تزانى حليلة جارك » فأنزل اللّه تصديق ذلك : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) الآية.
وقد نفى عنهم هذه القبائح مع أنه وصفهم بالصفات السالفة من حسن معاملتهم للناس ومزيد خوفهم من اللّه وإحياء الليل يقتضى نفيها عنهم ، تعريضا بما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيرهم ، وتنبيها إلى الفرق بين سيرة المؤمنين وسيرة المشركين ، فكأنه قيل : وعباد الرحمن الذين لا يدعون مع اللّه إلها آخر وأنتم تدعون ، ولا يقتلون وأنتم تقتلون الموءودة ، ولا يزنون وأنتم تزنون.
روى مسلم عن ابن عباس : أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، فأتوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم فقالوا ، إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن ، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزلت : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً)
ونزل : « قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا » الآية : وقد قال ابن عباس وسعيد بن جبير إن هذه نزلت فى وحشي قاتل حمزة.
ثم توعد سبحانه من يفعل مثل هذه الأفعال بشديد العقاب فقال :
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) أي ومن يفعل خصلة من خصال الفجور السالفة ، يلق فى الآخرة جزاء إثمه وذنبه(19/39)
ج 19 ، ص : 40
الذي ارتكبه ، بل سيضاعف له ربه العذاب يوم القيامة ويجعله خالدا أبدا فى النار مع المهانة والاحتقار ، فيجتمع له العذاب الجسمى والعذاب الروحي.
وبعد أن أتم تهديد الفجار على هذه الأوزار أتبعه بترغيب الأبرار فى التوبة والرجوع إلى حظيرة المتقين فيفوزون بجنات النعيم فقال :
(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي لكن من رجع عن هذه الآثام مع إيمانه وعمله الصالحات فألئك يمحو اللّه سوابق معاصيه بالتوبة ويثبت له لواحق طاعته.
قال الحسن : قال قوم هذا التبديل فى الآخرة وليس كذلك.
وقال الزجاج : ليس يجعل مكان السيئة الحسنة ، ولكن يجعل مكان السيئة التوبة ، والحسنة مع التوبة.
وروى أبو ذر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم « إن السيئات تبدل بحسنات » ،
وروى معاذ أنه صلى اللّه عليه وسلم قال : « أتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن » .
والخلاصة - إنه يعفو عن عقابه ، ويتفضل بثوابه ، واللّه واسع المغفرة لعباده ، فيثيب من أناب إليه بجزيل الثواب ، ويبعد عنه شديد العقاب.
(وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً) أي ومن تاب عن المعاصي التي فعلها ، وندم على ما فرط منه ، وزكى نفسه بصالح الأعمال ، فإنه يتوب إلى اللّه توبة نصوحا ، مقبولة لديه ، ماحية للعقاب ، محصلة لجزيل الثواب ، إلى أنه ينير قلبه بنور من عنده يهديه إلى سواء السبيل ، ويوفقه للخير ، ويبعده عن الضير.
وفى هذا تعميم لقبول التوبة من جميع المعاصي بعد أن ذكر قبولها من أمهاتها.
(7) (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) أي والذين لا يؤدون الشهادات الكاذبة ، ولا يساعدون أهل ال باطل على باطلهم ، ويكرمون أنفسهم عن سماع اللغو وما لا خير فيه كاللغو فى القرآن وشتم الرسول والخوض فيما(19/40)
ج 19 ، ص : 41
لا ينبغى ، وكان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ، ويسخم وجهه ، (يطليه بمادة سوداء) ويحلق رأسه ويطوف به السوق.
ونحو الآية قوله : « وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ، وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ » .
(8) (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) أي والذين إذا ذكّروا بها أكبوا عليها سامعين بآذان واعية ، مبصرين بعيون راعية.
وفى هذا تعريض بما عليه الكفار والمنافقون الذين إذا سمعوا كلام اللّه لم يتأثروا به ولم يتحولوا عما كانوا عليه ، بل يستمرون على كفرهم وعصيانهم ، وجهلهم وضلالهم ، فكأنهم صمّ لا يسمعون ، وعمى لا يبصرون.
(9) (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) أي والذين يسألون اللّه أن يخرج من أصلابهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له - وصادق الإيمان إذا رأى أهله قد شاركوه فى الطاعة قرت بهم عينه ، وسر قلبه ، وتوقّع نفعهم له فى الدنيا حيا وميتا ، وكانوا من اللاحقين به فى الآخرة ويسألون أيضا أن يجعلهم أئمة يقتدى بهم فى إقامة مراسم الدين بما يفيض عليهم من واسع العلم ، وبما يوفقهم إليه من صالح العمل.
روى مسلم عن أبى هريرة رضى اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له ، وعلم ينتفع به من بعده ، وصدقة جارية » .
والخلاصة - إنهم طلبوا من ربهم أمرين - أن يكون لهم من أزواجهم وذرياتهم من يعبدونه فتقربهم أعينهم فى الدنيا والآخرة وأن يكونوا هداة مهتدين ، دعاة إلى الخير ، آمرين بالمعروف ، ناهين عن المنكر.
ولما بين سبحانه صفات المتقين المخلصين ذكر إحسانه إليهم بقوله :(19/41)
ج 19 ، ص : 42
(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) أي أولئك المتصفون بصفات الكمال ، الموسومون بفضائل الأخلاق والآداب ، يجزون المنازل الرفيعة ، والدرجات العالية ، بصبرهم على فعل الطاعات ، واجتنابهم للمنكرات ، ويبتدرون فيها بالتحية والإكرام ، ويلقّون التوفير والاحترام ، فلهم السلام وعليهم السلام.
ونحو الآية قوله : « والملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب ، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار » .
ثم بين أن هذا النعيم دائم لهم لا ينقطع فقال :
(خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي مقيمين فيها لا يظعنون ولا يموتون ، حسنت منظرا ، وطابت مقيلا ومنزلا.
ونحو الآية قوله : « وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ » .
ولما شرح صفات المتقين وأثنى عليهم أمر رسوله أن يقول لهم :
(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) أي قل لهؤلاء الذين أرسلت إليهم : إن الفائزين بتلك النعم الجليلة التي يتنافس فيها المتنافسون ، إنما نالوها بما ذكر من تلك المحاسن ، ولولاها لم يعتد بهم ربهم ، ومن ثم لا يعبأبكم إذا لم تعبدوه ، فما خلق الإنسان إلا ليعبد ربه ويطيعه وحده لا شريك له كما قال : « وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ » .
(فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) أي أما وقد خالفتم حكمى ، وعصيتم أمرى ، ولم تعملوا عمل أولئك الذين ذكروا من قبل وكذبتم رسولى ، فسوف يلزمكم أثر تكذيبهم ، وهو العقاب الذي لا مناص منه ، فاستعدوا له ، وتهيئوا لذلك اليوم ، فكل آت قريب.
وخلاصة ذلك - لا يعتد بكم ربى لو لا عبادتكم إياه ، أما وقد قصر الكافرون منكم فى العبادة ، فسيكون تكذيبهم مفضيا لعذابهم وهلاكهم فى الدنيا والآخرة.
والحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصل ربنا على محمد وآله.(19/42)
ج 19 ، ص : 43
خلاصة ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الأحكام
اشتملت هذه السورة على عدة مقاصد :
(1) إثبات النبوة والوحدانية ، والنعي على عبدة الأصنام والأوثان ، وإثبات البعث والنشور وجزاء المكذبين بذلك مع ذكر شبهاتهم التي قالوها فى النبي صلى اللّه عليه وسلم وفى القرآن ثم تفنيدها.
(2) قصص بعض الأنبياء السالفين وتكذيب أممهم لهم ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
(3) العجائب الكونية من مدّ الظل وجعل الليل لباسا وجعل النهار معاشا وإرسال الرياح مبشرات بالأمطار ومروج البحرين : العذب الفرات ، والملح الأجاج ، وجعل البروج فى السماء ، وجعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورا.
(4) الأخلاق والآداب من قوله : وعباد الرحمن إلى آخر السورة.(19/43)
ج 19 ، ص : 44
سورة الشعراء
هى مكية نزلت بعد سورة الواقعة إلا آية 197 ومن 224 إلى آخر السورة فمدنية وآيها 227.
وعن البراء بن عازب أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « إن اللّه أعطانى السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطانى المئين مكان الإنجيل ، وأعطانى الطواسين مكان الزبور ، وفضّلنى بالحواميم والمفصّل ، ما قرأهن نبىّ قبلى » .
ومناسبتها ما قبلها من وجوه :
(ا) إن فيها بسطا وتفصيلا لبعض ما ذكر فى موضوعات سالفتها.
(ب) إن كلتيهما قد بدئت بمدح الكتاب الكريم.
(ح) إن كلتيهما ختمت بإبعاد المكذبين.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)(19/44)
ج 19 ، ص : 45
تفسير المفردات
لعل : هنا للاستفهام الذي يراد به الإنكار ، وقال العسكري : إنها للنهى ، وباخع نفسك : أي مهلكها من شدة الحزن ، قال ذو الرمة :
ألا أيها الباخع الوجد نفسه لشىء تحته عن يديه المقادر
وأصل البخع : أن تبلغ بالذّبح البخاع (بكسر الباء) وهو عرق مستبطن فقار الرقبة ، وذلك يكون من المبالغة فى الذبح ، والأعناق : الجماعات ، يقال جاءت عنق الناس : أي جماعة منهم ، وذكر : أي موعظة ، والمراد بالأنباء ما سيحل بهم من العذاب ، وزوج : أي صنف ، والكريم من كل شىء : المرضىّ المحمود منه.
الإيضاح
(طسم) تقدم أن بيّنا أن المراد بمثل هذه الحروف المقطعة فى أوائل السور التنبيه ، فهى أشبه بألا ونحوها من حروف التنبيه ، ويا التي للنداء ، وتقرأ بأسمائها فيقال طا - سين - ميم.
(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي هذه آيات القرآن البين الواضح الذي يفصل بين الحق والباطل ، والغىّ والرشاد.
(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي أقاتل نفسك أسفا وحزنا على ما فاتك من إسلام قومك وخوفك ألا يؤمنوا ؟
وقد يكون المعنى - لا تبخع نفسك ولا تهلكها أسى وحسرة على إيمانهم.
ونحو الآية قوله : « فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ » وقوله : « فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً » .
ثم بين سبب النهى عن البخع بقوله :
(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) أي لو شئنا(19/45)
ج 19 ، ص : 46
أن ننزل عليهم من السماء آية تلجئهم إلى الإيمان وتقسرهم عليه كما نتقنا الجبل فوق قوم موسى حتى صار كالظّلّة فصار جماعاتهم خاضعين منقادين لها كرها - لفعلنا ، ولكن جرت سنتنا أن يكون الإيمان اختياريا لا قسريا كما قال : « وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ » .
ومن ثم نفذ قدرنا ، ومضت حكمتنا ، وقامت حجتنا ، على الخلق بإرسال الرسل إليهم ، وإنزال الكتب عليهم.
والخلاصة - إن القرآن وإن بلغ فى البيان الغاية غير موصّل لهم إلى الإيمان ، فلا تبالغ فى الأسى والحزن ، فإنك إن فعلت ذلك كنت كمن يقتل نفسه ثم لا ينتفع بذلك ، فكما أن الكتاب على وضوحه لم يفدهم شيئا ، فحزنك عليهم لا يجدى نفعا ، وقد كان فى مقدورنا أن نلجئهم إلى الإيمان إلجاء ، ولكن جرت سنتنا أن يكون الإيمان طوعا لا كرها ، ومن جراء هذا أرسلنا رسلنا بالعظات والزواجر ، وأنزلنا الكتب لتهديهم إلى سواء السبيل ، لكنهم ضلوا وأضلوا ، وما ربك بظلام للعبيد.
ثم بين شدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما هم عليه من الكفر والضلال بغير الآيات الملجئة تأكيد الصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الحرص على إسلامهم فقال :
(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) أي وما يجىء هؤلاء المشركين الذين يكذبونك ويجحدون ما أتيتهم به - ذكر من عند ربك لتذكرهم به إلا أعرضوا عن استماعه وتركوا إعمال الفكر فيه ولم يوجهوا همهم إلى تدبره وفهم أسراره ومغازيه ، وما كان أحراهم بذلك وهم أهل الذّكن والفطنة ، ولكن طمس اللّه على قلوبهم فأكثرهم لا يعقلون.
وخلاصة ذلك - إنه لا يجدد لهم موعظة وتذكيرا إلا جددوا ما هو نقيض ذلك من إعراض وتكذيب واستهزاء.
ثم أكد إعراضهم بقوله :(19/46)
ج 19 ، ص : 47
(فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي فقد كذب هؤلاء المشركون بالذكر الذي أتاهم من عند اللّه ، ثم انتقلوا من التكذيب إلى الاستهزاء ، وسيحل بهم عاجل العذاب وآجله فى الدنيا والآخرة كما قال : « وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ » وقال : « وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ » .
ونحو الآية قوله : « يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ » .
وقصارى ذلك - إنهم كذبوا بما جئتهم به من الحق ، وإنه سيأتيهم لا محالة صدق ما كانوا يستهزئون به من قبل بلا تدبر ولا تفكير فى العاقبة.
وبعد أن بين أنهم أعرضوا عن الآيات المنزلة من عند ربهم - ذكر أنهم أعرضوا عن الآيات التي يشاهدونها فى الآفاق فقال :
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ؟ ) أي أهم أصروا على ما هم عليه من الكفر باللّه وتكذيب رسوله ولم يتأملوا فى عجائب قدرته ولم ينظروا فى الأرض وكثرة ما فيها من أصناف النبات المختلفة الأشكال والألوان مما يدل على باهر القدرة وعظيم سلطان ذلك العلى الكبير ؟
والخلاصة - كيف اجترءوا على مخالفة الرسول وتكذيب كتابه ، وإلهه هو الذي خلق الأرض وأنبت فيها الزرع والثمار والكروم على ضروب شتى وأشكال مختلفة تبهر الناظرين وتسترعى أنظار الغافلين.
ثم بين أنهم قوم فقدوا وسائل الفكر ، وعدموا التأمل والنظر فى الأكوان ، ومن ثمّ فهم جاحدون فقال :
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن فى ذلك الإنبات على هذه الأوضاع البديعة لدلالات لأولى الألباب على قدرة خالقه على البعث والنشور ، فإن من أنبت الأرض بعد جدبها وجعل فيها الحدائق الغناء والأشجار الفيحاء لن يعجزه أن ينشر فيها الخلائق من قبورهم ، ويعيدهم سيرتهم الأولى ، ولكن أكثر الناس غفلوا(19/47)
ج 19 ، ص : 48
عن هذا ، فجحدوا بها وكذبوا باللّه ورسله وكتبه ، وخالفوا أوامره ، واجترحوا معاصيه ، وللّه در القائل :
تأمل فى رياض الورد ونظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات على أهدابها ذهب سبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن اللّه ليس له شريك
والخلاصة - إن فى هذا وأمثاله لآية عظيمة ، وعبرة جليلة ، دالة على ما يجب الإيمان به ، ولكن ما آمن أكثرهم مع موجبات الإيمان ، بل تمادوا فى الكفر والضلالة ، وانهمكوا فى الغى والجهالة.
وفى هذا ما لا يخفى من تقبيح حالهم ، وبيان سوء مآلهم.
ثم بشره بنصره وتأييده وغلبته لأعدائه وإظهاره عليهم فقال :
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك أيها الرسول الكريم لهو الغالب على أمره والقادر على كل ما يريد ، وسينتقم لك من هؤلاء المكذبين على تكذيبهم بك وإشراكهم بي وعبادتهم للأوثان والأصنام ، وهو ذو الرحمة الواسعة بمن تاب من كفره ومعصيته ، فلا يعاقبه على ما سلف من جرمه بعد توبته بل يغفر له حوبته.
والخلاصة - إن ربك عزّ كل شىء وقهره ، ورحم خلقه ، فلا يعجل بعقاب من عصاه ، بل يؤجله وينظره لعله يرعوى عن غيه ، فإن تمادى أخذه أخذ عزيز مقتدر.
قصص موسى عليه السلام
[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 22]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)(19/48)
ج 19 ، ص : 49
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه سوء حال المشركين وشدة عنادهم وقبيح لجاجهم - سلى رسوله صلى اللّه عليه وسلم على ذلك بأن قومه ليسوا ببدع فى الأمم وأنه ليس بالأوحد فى الأنبياء المكذبين ، فقد كذّب موسى من قبلك على ما أتى به من باهر الآيات ، وعظيم المعجزات ، ولم تغن الآيات والنذر فحاق بالمكذبين ما كانوا به يستهزئون ، وأخذهم اللّه بذنوبهم وأغرقهم فى اليم جزاء اجتراحهم للسيئات ، وتكذيبهم بعد ظهور المعجزات ، وما ربك بظلام للعبيد.
الإيضاح
(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ) أي واذكر لقومك وقت ندائه تعالى موسى عليه السلام من جانب الطور الأيمن ، وأمره له بالذهاب إلى أولئك القوم الظالمين لأنفسهم بالكفر والمعاصي ، والظالمين لبنى إسرائيل باستعبادهم(19/49)
ج 19 ، ص : 50
وذبح أبنائهم - قوم فرعون ذى الجبروت والطغيان ، والعتوّ والبهتان ، ليكون لهم فى ذلك عبرة لو تذكروا ، فيرعووا عن غيهم ، ويثوبوا إلى رشدهم ، حتى لا يحيق بهم ما حاق بأولئك المكذبين من قبلهم ، إذ ابتلعهم اليم وأغرقوا جميعا.
ولا شك أن الأمر بذكر الوقت إنما هو ذكر لما جرى فيه كما أسلفنا من قبل.
ثم أتبع ذكر إرساله عليه السلام إنذارهم وتسجيل الظلم عليهم وتعجيب موسى من حالهم التي بلغت غاية الشناعة ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام اللّه فقال :
(أَلا يَتَّقُونَ ؟ ) أي قال اللّه لموسى : ألا يتقى هؤلاء القوم ربهم ويحذرون عاقبة بغيهم وكفرهم به.
فأجاب موسى عن أمر ربه الإتيان إليهم متضرعا إليه :
(قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ، وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) أي قال موسى : رب إنى أخاف تكذيبهم إياى ، فيضيق صدرى تأثرا منه ولا ينطلق لسانى بأداء الرسالة ، بل يتلجلج بسبب ذلك ، كما يرى أن كثيرا من ذوى اللسن والبلاغة إذا اشتد بهم الغم وضاق منهم الصدر تلجلجت ألسنتهم حتى لا تكاد تبين عن مقصدهم.
وفى هذا تمهيد العذر فى استدعاء عون له على الامتثال وإقامة الدعوة على أتم وجه ، فإن ما ذكر ربما أوجب الإخلال بالدعوة ، وعدم إلزام الحجة ومن ثم قال :
(فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) أي فأرسل جبريل عليه السلام إلى هرون ، واجعله نبيا ، وآزرنى به واشدد به عضدى ، فبإرساله تحصل أغراض الرسالة على أتم وجه.
ثم ذكر سببا آخر فى الحاجة إلى طلب العون وهو خوفه أن يقتل قبل تبليغ الرسالة فقال :
(وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) أي ولهم علىّ تبعة جرم بقتل القبطي خباز فرعون بالوكزة التي وكز بها ، فأخاف إن أنا جئتهم وحدى أن يقتلونى من جرّاء ذلك - وهذا اختصار لما بسط من القصة فى موضع آخر.(19/50)
ج 19 ، ص : 51
ومقصده عليه السلام بهذا طلب دفع بلوى قتله ، خوف فوت أداء الرسالة ونشرها بين الملأ كما هو دأب أولى العزم من الرسل ، فقد كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يتوقع مثل هذا حتى نزل قوله تعالى : « وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ » .
وفى هذا إيماء إلى أن الخوف قد يحصل من الأنبياء كما يحصل من غيرهم.
والخلاصة - إن موسى طلب من ربه أمرين : دفع الشر عنه ، وإرسال هرون معه ، فأجابه إليهما.
(قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) أي قال له : لا تخف من شىء من ذلك ، فاذهب أنت وأخوك متعاضدين إلى ما أمرتكما به مؤيّدين بآياتنا الدالة على صدقكما ، وإنى ناصركما ومعينكما عليه ، وهذا كقوله : « إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى » .
(فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي فأتياه وقولا له : إن اللّه أرسلنا إليك لتطلق سبيل بنى إسرائيل وتخلّيهم وشأنهم ، ليذهبوا إلى الأرض المقدسة موطن الآباء والأجداد التي وعدنا اللّه بها على ألسنة رسله ، وكانوا قد استعبدوا أربعمائة سنة.
قال القرطبي : فانطلقا إلى فرعون فلم يأذن لهما سنة فى الدخول عليه ا ه.
ووحّد الرسول هنا ولم يثنه كما جاء فى قوله : « إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ » لأن رسولا يستعمل للمفرد وغيره كما قال الشاعر :
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسرّ ولا أرسلتهم برسول
كما يستعمل كذل عدوّ وصديق كما جاء فى قوله : « فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي » .
فأجابه فرعون على وجه التفريع والازدراء وذكر أمرين كما حكى سبحانه عنه :
(1) (قال أ لم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك ستين ؟ ) أي أبعد أن ربيناك فى بيوتنا ولم نقتلك فى جملة من قتلنا ، وأنعمنا عليك بنعمنا ردحا من الزمن تقابل ا لإحسان بكفران النعمة ، وتواجهنا بمثل تلك المقالة ؟ .
روى أنه لبث فيهم ثمانى عشرة سنة ، وقيل ثلاثين سنة.(19/51)
ج 19 ، ص : 52
(2) (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي وقتلت ذلك القبطي الذي وكزته وهو من خواصى ، فكنت من الجاحدين لنعمتى عليك من التربية والإحسان إليك.
وخلاصة ما سلف - إنه عدد نعماءه عليه أولا من تربيته وإبلاغه مبلغ الرجال ثم بتوبيخه بما جرى على يديه من قتل خبازه وهو من خواصه ، وهو بهذا أيضا يكون قد كفر نعمته وجحد فضله.
فأجاب موسى عن الأمر الثاني ، وترك أمر التربية ، لأنها معلومة مشهورة ، ولا دخل لها فى توجيه الرسالة ، فإن الرسول إذا كان معه حجة ظاهرة على رسالته تقدم بها إلى المرسل إليهم ، سواء أ كانوا أنعموا عليه أم لم ينعموا.
(قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي قال موسى مجيبا فرعون : فعلت هذه الفعلة التي ذكرت وهى قتل القبطي وأنا إذ ذاك من الجاهلين بأن وكزني تأتى على نفسه ، فإنى إنما تعمدت الوكز للتأديب ، فأدى ذلك إلى القتل.
(فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي فخرجت هاربا منكم حين توقعت مكروها يصيبنى حين قيل لى : « إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ » فوهب لى ربى علما بالأشياء على وجه الصواب ، وجعلنى من المرسلين من قبله لهداية عباده وإرشادهم إلى النجاة من العذاب.
وخلاصة ما قال - إن القتل الذي توبخنى به لم يكن مقصودا لى ، بل كنت أريد بوكزه التأديب فحسب ، فلا أستحق التخويف الذي أوجب فرارى ، وإن أنتم أسأتم إلىّ فقد أحسن إلىّ ربى فوهب لى فهم الأمور على حقائقها وجعلنى من زمرة عباده المخلصين.
ثم بين له أنه وإن أسدى النعمة إليه فقد أساء إلى شعبه عامة فقال :
(وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) يقال عبّدت الرجل وأعبدته إذا اتخذته عبدا ، وتمنّ من المنة بمعنى الإنعام : أي وما أحسنت إلىّ وربيتنى إلا وقد أسأت إلى بنى إسرائيل جملة ، فجعلتهم عبيدا وخدما تصرفهم فى أعمالك وأعمال رعيتك الشاقة.(19/52)
ج 19 ، ص : 53
وخلاصة ذلك - أ فيفي إحسانك إلى رجل منهم بما أسأت به إلى مجموعهم ؟
فهو ليس بشىء إذا قيس بما فعلته بالشعب أجمع ، وكأنه قال : إن هذا ليس بنعمة ، لأن الواجب عليك ألا تقتلهم ولا تستعبدهم فإنهم قومى ، فكيف تذكر إحسانك إلىّ على الخصوص ، وتنسى استعباد الشعب كله.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 31]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
الإيضاح
لما دخل موسى وهرون على فرعون وقالا له : إنا رسولا رب العالمين أرسلنا إليك لهدايتك إلى الحق وإرشادك إلى طريق الرشد ، وغلباه بالحجة رجع إلى معارضة موسى فى قوله : َسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ »
.
(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ؟ ) أي قال لموسى : إنك تدّعى أنك رسول من رب العالمين فما هو ؟ إذ كان قد قال لقومه : « ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي » .
فأجابه موسى عن سؤاله :
(قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي قال : رب العالمين هو خالق العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيرات ، والعالم(19/53)
ج 19 ، ص : 54
السفلى وما فيه من بحار وقفار وجبال وأشجار وحيوان ونبات وما بين ذلك من هواء وطير ، إن كانت لكم قلوب موفقة ، وأبصار نافذة.
حينئذ عجب فرعون من كلام موسى والتفت إلى الملأ حوله معجّبا لهم من ذلك المقال.
(قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ ؟ ) أي التفت فرعون إلى الملأ والرؤساء من حوله وقال لهم على سبيل التهكم والاستهزاء : ألا تعجبون من مقالته وزعمه أن لكم إلها غيرى ؟
ثم زاد موسى وصف إلههم إيضاحا وبيانا.
(قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي قال : إنه هو خالقكم وخالق من قبلكم من آبائكم وأجدادكم.
وقد انتقل بهم موسى من النظر فى الآفاق وما فيها من باهر الأدلة إلى النظر فى الأنفس وما فيها من عجيب الصنع ، فإن التناسل المستمر فى النبات والحيوان والإنسان وما فيها من العجائب لأوضح دلالة من النظر فى الآفاق.
ولما لم يستطع ردا لما جاء به أورد ما يشككّ قومه فى حسن تقديره للأمور وفهمه لما يقول :
(قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) أي قال فرعون لقومه : إن رسولكم لا عقل له ، إذ يقول قولا لا نعرفه ولا نفهمه ، فهو يدّعى أن ثمّة إلها غيرى.
ثم وصف موسى الإله بأنه. خالق الأكوان ، ورب الزمان والمكان.
(قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي قال موسى : إن ربكم هو الذي جعل المشرق مشرقا تطلع منه الكواكب ، والمغرب مغربا تغرب فيه الكواكب ، ثوابتها وسياراتها مع انتظام مداراتها ، وتغير المشارق والمغارب كل يوم ، إن كان لكم عقول تفقهون بها ما يقال لكم ، وتسمعون بها ما تسمعون ، إذ فى كل(19/54)
ج 19 ، ص : 55
ذلك أدلة على أن هناك إلها مصوّرا صوّر هذه العوالم كلها وأبدعها وزيّنها ورتبها ونظّمها على أحسن النظم.
وقد لاينهم أوّلا وعاملهم بالرفق حيث قال لهم : إن كنتم موقنين ، ثم لما رأى شدة شكيمتهم خاشنهم وأغلظ لهم فى الرد وعارضهم بمثل مقالهم بقوله إن كنتم تعقلون ، لأنه أوفق بما قبله من رد نسبة الجنون إليه.
ولما قامت الحجة على فرعون عدل إلى القهر واستعمال القوة ولبس لموسى جلد التمر كما حكى سبحانه عنه.
(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) أي قال له : لأجعلنّك فى زمرة الذين فى سجونى على ما تعلم من فظاعة أحوالها ، وشديد أهوالها ، وكانت سجونه أشد من القتل ، لأنه إذا سجن أحدا لم يخرجه حتى يموت ، وكان يطرحه فى هوّة عميقة تحت الأرض وحده ، وفى توعده بالسجن ضعف منه ، لما يروى أنه كان يفزع من موسى فزعا شديدا.
وحينئذ اضطر موسى أن يترك الأدلة العقلية وراءه ظهريّا ، ويلجأ إلى المعجزات ، وخوارق العادات.
(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ؟ ) أي أ تفعل هذا ولو جئتك بحجة بينة على صدق دعواى ، وهى المعجزة الدالة على وجود الإله القادر وحكمته ، وعلى صدق دعوى من ظهرت على يديه.
وحين سمع فرعون هذا الكلام من موسى.
(قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فى دعوى الرسالة ، فإن من يدّعى النبوة لا بد له من حجة على صدق ما يدعى ، وقد أمره بذلك ظنا منه أنه يقدر على معارضته.(19/55)
ج 19 ، ص : 56
[سورة الشعراء (26) : الآيات 32 الى 37]
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
تفسير المفردات
مبين : أي ظاهر أنه ثعبان بلا تمويه ولا تخييل كما يفعل السحرة ، الملأ :
أشراف القوم ، عليم : أي خبير بفن السحر حاذق فى تلك الصنعة ، فماذا تأمرون ؟
أي فبم تشيرون ، أرجه وأخاه : أي أخر أمرهما ولا تباغتهما بالقتل خيفة الفتنة ، حاشرين : أي اجعل رجال الشرطة يحشرون السحرة.
الإيضاح
(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) أي فبعد أن قال له فرعون مقالته ألقى عصاه فإذا هى ثعبان واضح لا لبس فيه ، ولا تخييل ولا تمويه ،
وقد روى أنها لما صارت حية ارتفعت فى السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون ، فقال : بالذي أرسلك إلا أخذتها ، فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت.
وقد جاء فى آية أخرى « كَأَنَّها جَانٌّ » والجان الصغير من الحيات ، تشبيها لها به من جراء الخفة والسرعة.
ولما أتى موسى بهذه الآية قال له فرعون : هل هناك غيرها ؟ قال نعم.
(وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أي وأدخل يده فى جيبه ثم أخرجها فإذا هى تضىء الوادي من شدة نورها ، وكأنها فلقة قمر ، قال ابن عباس : أخرج موسى يده من جيبه فإذا هى بيضاء تلمع للناظرين ، لها شعاع كشعاع الشمس يكاد يعشى الأبصار ويسدّ الأفق.(19/56)
ج 19 ، ص : 57
ولما رأى فرعون هذه الحجج بادر بالتكذيب والعناد وذكره لأشراف قومه أمورا ثلاثة :
(1) (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) أي قال لرؤساء دولته وأشراف قومه الذين حوله ليروّج عليهم بطلان ما يدّعيه موسى : إن هذا الرجل لبارع فى السحر حاذق فى الشعوذة ، ومراده من هذا أن ما ظهر على يديه إنما هو من قبيل السحر لا من وادي المعجزات.
ثم هيّجهم وحرضهم على مخالفته والكفر به والتنفير منه بقوله :
(2) (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) أي يريد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا السحر ، فيكثر أعوانه وأتباعه ، ويغلبكم على دولتكم ، فيأخذ البلاد منكم.
(3) (فَما ذا تَأْمُرُونَ) أي فأشيروا علىّ ماذا أصنع ؟ وبم أدافعه عما يريد ؟
ومثل هذا القول يوجب جذب القلوب والتضافر فى مكافحة العدو والتغلب عليه جهد المستطاع.
قال المفتى أبو السعود : بهره سلطان المعجزة وحيره حتى حطه من ذروة ادعاء الربوبية إلى حضيض الخضوع لعبيده فى زعمه ، والامتثال لأمرهم ، أو إلى مقام مؤامرتهم ومشاورتهم بعد ما كان مستقلا بالرأى والتدبير ، وأظهر استشعار الخوف من استيلائه على ملكه ، ونسبه إلى إخراجهم من الأرض لتنفيرهم منه.
(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) أي قالوا : أخّر البت فى أمرهما ، ولا تعاجلهما بالعقوبة ، حتى تجمع لهما من مدائن مملكتك ، وأقاليم دولتك ، كل سحار عليم ، ثم تقابلهم به وجها لوجه ويأتون من ضروب السحر ما يستطيعون به التغلب عليه ، فتكون قد قابلت الحجة بالحجة وقرعت الدليل بمثله ، ويكون لك النصر والتأييد عليه ، وتجتذب قلوب الشعب إليك.(19/57)
ج 19 ، ص : 58
وقد كان هذا من تسخير اللّه تعالى له ، ليجتمع الناس فى صعيد واحد وتظهر آيات اللّه وحججه للناس فى وضح النهار جهرة.
روى أن فرعون أراد قتله فقال له الملأ : لا تفعل. فإنك إن قتلته أدخلت على الناس شبهة فى أمره ، وأشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون له كل سحار عليم ، ظنا منهم أنهم إذا كثروا غلبوه على أمره ، وتم لفرعون الغلب.
فأخذ بمشورتهم وأجابهم إلى طلبتهم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 38 الى 51]
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
تفسير المفردات
الميقات : ما وقت به أي حدد من مكان وزمان ومنه مواقيت الإحرام ، واليوم المعلوم : هو يوم الزينة الذي حدده موسى فى قوله موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس(19/58)
ج 19 ، ص : 59
ضحى ، وعزة فرعون : أي قوته التي يمتنع بها من الضيم ، تلقف : أي تبتلع بسرعة ، يأفكون : أي يقلبونه عن وجهه وحقيقته بكيدهم وسحرهم ، من خلاف : أي بقطع الأيادى اليمنى والأرجل اليسرى ، لا ضير : أي لا ضرر علينا فيما ذكرت ، منقلبون :
أي راجعون.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه هذه المناظرة بين موسى عليه السلام والقبط فى سورة الأعراف وسورة طه وفى هذه السورة.
وخلاصتها - إن فرعون وقومه أرادوا أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ، فأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، وذلك شأن الإيمان والكفر والحق والباطل ما تقابلا إلا غلب الإيمان الكفر : « بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ » ومن ثم لما جاء السحرة وقد جمعوهم من أقاليم مصر العليا وكانوا أبرع الناس فى فن السحر وأشدهم خداعا وتخيلا ، وكانوا جمعا كثيرا وجما غفيرا أحضروا مجلس فرعون ، فطلبوا منه الأجر إن هم غلبوا ، فأجابهم إلى ما طلبوا ، وزادهم عليه أن سيجعلهم من بطانته ومن المقربين إليه ، ولكن المناظرة انتهت بغلبة موسى لهم وهزيمة من استنصر بهم ، وإيمانهم بموسى ، وحينئذ عاد إلى المكابرة والعناد ، وشرع يتهدد السحرة ويتوعدهم ويقول : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) ولكن ذلك لم يردّهم إلا إيمانا وتسليما ، لعلمهم ما جهله قومهم من أن هذا لا يصدر عن بشر إلا إذا أيده اللّه وجعله حجة على صدق ما يدّعى ، ومن ثمة قالوا له بعد أن توعدهم بقطع الأيدى والأرجل : إن ذلك لا يضيرنا ، وإن المرجع إلى اللّه ، وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وإنا لنرجو أن يغفر لنا خطايانا ، لأنا سبقنا قومنا من القبط إلى الإيمان ، ويروى أنه قتلهم جميعا.(19/59)
ج 19 ، ص : 60
الإيضاح
(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي إن الملأ بعد أن أشاروا على فرعون بتأخير البت فى أمر موسى ، وبان من الخير له أن يجمع السحرة ، ليظهر عند حضورهم فساد قوله - رضى بما أشاروا به واستقر عليه الرأى وأحب أن تقع المناظرة فى يوم عيد لهم ، لتكون بمحضر الجمّ الغفير من الناس ، ويتم اللّه نوره ويظهر الحق على الباطل بلطفه وفضله.
(وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) أي وقيل للناس حثا لهم على المبادرة إلى الاجتماع ومشاهدة ما يكون من الجانبين : هل أنتم مجتمعون فى ذلك الميقات لتروا ما سيكون فى ذلك اليوم المشهود ، وكان ذلك ثقة من فرعون بالظهور ، وقد طلب أن يكون ذلك بمجمع من الناس لئلا يؤمن بموسى أحد منهم ، فوقع من موسى الموقع الذي يريده ، لأنه يعلم أن حجة اللّه هى الغالبة ، وحجة الكافرين هى الداحضة ، وفى ظهور حجة اللّه بمجمع من الناس زيادة فى الاستظهار للمحقين ، وقهر للمبطلين.
(لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) أي إنا نرجو أن يكون لهم الغلبة فنتبعهم ونستمر على دينهم ولا نتبع دين موسى.
(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ ؟ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي فلما جاء السحرة مجلس فرعون طلبوا منه الإحسان ببذل المال والتقرب إليه إن هم غلبوا ، فأجابهم إلى ما طلبوا وزاد على هذا أن وعدهم بأنهم سيكونون من جلسائه وخاصة بطانته.
بعدئذ عادوا إلى مقام المناظرة وقالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين.
(قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ. فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) أي قال لهم موسى ألقوا ما تريدون إلقاءه ، مما يكون حجة لكم(19/60)
ج 19 ، ص : 61
على إبطال ما أدعيه من المعجزات فألقوا ما معهم من الحبال والعصى وقد كانت مطليّة بالزئبق ، والعصىّ مجوّفة مملوءة به ، وقالوا بقوة فرعون وجبروته : إنا لنحن الغالبون ، فلما حميت حرارة الشمس اشتدت حركتها وصارت كأنها حيات تدبّ من كل جانب ، وسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم.
وجاء فى سورة طه : « فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى » .
وقد استفرغوا الوسع وقاموا بما ظنوا أن فيه الكفاية بل ما فوقها وأن النصر قد كتب لهم.
(فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) أي وحين ألقى موسى عصاه ابتلعت ما كانوا يقلبون صورته وحاله الأولى بتمويههم وتخييل الحبال والعصى أنها حيات تسعى.
وجاء فى آية أخرى : « فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » .
وقد قامت الحجة لموسى عليهم واستبان لهم أن هذا ليس من متناول أيديهم كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله :
(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أي فخروا سجد اللّه ، لأنهم قد علموا أن هذا الذي فعلوه هو منتهى التخييل السحرى ، فلما ابتلعت الحية ما زّوروه أيقنوا أن هذا من قدرة فوق ما عرفوا ، وما هو إلا من قوة آتية من السماء لتأييد موسى ، حينئذ خروا سجدا للّه القوى القاهر فوق عباده.
وفى التعبير بالإلقاء إشارة إلى أنهم لم يتمالكوا أنفسهم من الدهش حتى كأنهم أخذوا فطرحوا.
ثم فاهوا بما يجيش فى صدورهم ، وتنطوى عليه جوانحهم.
(قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) أي قالوا : آمنا برب العالمين الذي دعا إليه موسى أول ما تكلم مع فرعون.(19/61)
ج 19 ، ص : 62
وفى هذا إيماء إلى عزل فرعون عن الربوبية ، وأن سبب إيمانهم ما أجراه اللّه على يدى موسى وهرون من المعجزات.
وبعد أن حصحص الحق ، وو صح الصبح لذى عينين ، لجأ فرعون إلى العناد والمكابرة وشرع يهدّد ويتوعد ، ولكن ذلك لم يجد فى السحرة شيئا ، ولم يزدهم إلا إيمانا وتسليما ، إذ كان حجاب الكفر قد انكشف ، واستبان لهم نور الحق ، وعلمهم ما جهل قومهم ، وأن القوة التي تؤيد موسى قوة غيبية قد أيده اللّه بها ، وجعلها دليلا على صدق ما يدّعى.
(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ؟ ) أي قال لهم : أ تؤمنون به قبل أن تستأذنو ، وقد كان ينبغى أن تفعلوا ذلك ، وألا تفتاتوا علىّ ، فإنى أنا الحاكم المطاع ؟
ثم التمس لإيمانهم عذرا آخر غير انبلاج الحق ، ليعمّى على العامة ، ويصرفهم عن وجه الحق فقال :
(إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) فأنتم فعلتم ذلك عن مواطأة بينكم وبينه.
ولا شك أن هذا تضليل لقومه ، ومكابرة ظاهرة البطلان ، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم ، فكيف يكون هو كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر.
ثم توعدهم فقال :
(فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وبال ما فعلتم ، وسوء عاقبة ما اجترحتم.
ثم بين ذلك بقوله :
(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) أي لأقطعنّ اليد اليمنى من كل منكم والرجل اليسرى ، ثم لأصلبنكم أجمعين بعد ذلك.
فأجابوه غير مكترثين بقوله ، ولا عابثين بتهديده ، بأمرين فى كل منهما دليل على اطمئنان النفس وبرد اليقين :(19/62)
ج 19 ، ص : 63 (1) (قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي قالوا لا ضرر علينا فى تنفيذ وعيدك ، ولا نبالى به ، لأن كل حىّ لا محالة مائت.
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
ونحو ذلك قول على كرم اللّه وجهه : لا أبالى أوقعت على الموت أم وقع الموت علىّ ؟
(2) (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ ) أي ولأنا نؤمل أن يغفر لنا ربنا ما فعلنا من السحر ، واعتقدناه من الكفر ، من أجل أن كنا أول من آمن من الجماعة الذين شهدوا الموقف ، انقياد للحق ، وإعراضا عن زخرف الدنيا وزينتها.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 68]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)(19/63)
ج 19 ، ص : 64
تفسير المفردات
أسرى : سار ليلا ، متبعون : أي يتبعكم فرعون وجنوده ، والشرذمة : الطائفة القليلة من الناس ، غائظون : أي فاعلون ما يغيظنا ويغضبنا ، حاذرون : أي من دأبنا الحذر واستعمال الحزم فى الأمور ، كنوز : أي أموال كنزوها وخزنوها فى باطن الأرض ، ومقام كريم : أي قصور عالية ودور فخمة ، أورثناها : أي ملكناها لهم تمليك الميراث ، مشرقين : أي داخلين فى وقت الشروق ، تراءى الجمعان : أي تقاربا بحيث رأى كل منهما الآخر ، لمدركون : أي سيدر كوننا ويلحقون بنا ، كلا : أي لن يدركوكم ، انفلق : انشق ، الفرق : الجزء المنفرق منه ، والطود : الجبل ، وأزلفنا :
أي قرّبنا. وثمّ : أي هناك ، لآية : أي لعظة وعبرة توجب الإيمان بموسى.
المعنى الجملي
أقام موسى بين ظهرانى المصريين يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات ، فلم يزدهم ذلك إلا عتوا واستكبارا ، يرشد إلى ذلك قوله فى سورة الأعراف : « وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ » الآيات ، ثم أمره اللّه أن يخرج بنى إسرائيل ليلا من مصر ، وأن يمضى بهم حيث يؤمر ، ففعل ما أمر به وخرج بهم بعد ما استعاروا من قوم فرعون حليّا كثيرة.
فلما وصل علم ذلك إلى فرعون أرسل فى المدائن حاشرين يجمعون له الجند ، ثم قوّى نفسه ونفس أصحابه ، بأن وصف بنى إسرائيل بالقلة ، وأن أفعالهم تضيق بها الصدور ، وتوجب الغيظ ، وهو مستعد أن يبيدهم بما لديه من قوة وجند ، ثم تبعهم هو وجنوده وقت الشروق ، فلما تقارب الجمعان خاف أصحاب موسى وقالوا إن فرعون وقومه لاحقون بنا لا محالة. فقال لهم موسى لن يدركوكم وإن ربى سيهدينى إلى طريق النجاة وحينئذ أوحى اللّه إليه أن اضرب بعصاك البحر فضرب فانفلق حتى صار شكل الماء المتراكم كالجبل العظيم ، فسار هو وقومه فى اليبس حتى جاوزوا البحر(19/64)
ج 19 ، ص : 65
من الجانب الآخر ، ودخل فرعون وجنوده من الجانب الأول فانطبق البحر عليهم وأغرقوا أجمعون.
وهذه آية كان من حقها أن توجب الاعتبار والعظة فيؤمن به من بقي من المصريين لكنهم لم يفعلوا.
الإيضاح
(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي وأوحينا إليه أن سر بعبادي ليلا حتى إذا اتبعوكم مصبحين كان لكم تقدم عليهم فلا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر ، بل يكونون على إثركم حين تلجونه ، فيدخلون مدخلكم فأطبقه عليهم فيغرقون.
وقد جاء فى سفر الخروج من التوراة فى الإصحاح الحادي عشر : إن الرب أمر أن يطلب كل رجل من صاحبه ، وكل امرأة من صاحبتها أمتعة ذهب وأمتعة فضة ، وأن اللّه سيميت كل بكر فى أرض مصر من الإنسان والحيوان ، وأمرهم أن يذبح أهل كل بيت شاة فى اليوم الرابع عشر من شهر الخروج ، وأن يلطخوا القائمتين والعتبة العليا من الدار ، وأن يأكلوا اللحم تلك الليلة مشويا بالنار مع فطير ، وأمرهم أن يأكلوا بعجلة ، ويأكلوا الرأس مع الأكارع والجوف ، وهذا هو (فصح الرب) وهذا الدم علامة على بيوت بنى إسرائيل حتى يحفظ كل بكر منهم ويتخطاهم الموت إلى أبكار المصريين ، ويكون أكل الفطير سبعة أيام ، ويكون هذا فريضة أبدية تذكارا بالخروج من مصر من يوم 14 من شهر أبيب إلى 21 من هذا الشهر كل سنة.
وهكذا أمر موسى قومه بذلك ، ففعلوا كل هذا ونجا أولادهم ، وصار ذلك سنة أبدية.
ولما مات الأبكار من الإنسان والحيوان فى جميع بلاد مصر فى نصف الليل اشتغل الناس بالأموات ، وأخذ بنو إسرائيل غنمهم وبقرهم وعجينهم قبل أن يختمر ، ومعاجنهم(19/65)
ج 19 ، ص : 66
مصرورة فى ثيابهم على أكتافهم ، وفعلوا ما أمرهم به الرب ، فارتحلوا من رعمسيس إلى سكوت وكانوا ستمائة ألف ماش من الرجال ما عدا الأولاد ، وخبزوا العجين الذي أخرجوه من مصر خبز ملّة (فطيرا) ا ه.
وكانت إقامة بنى إسرائيل فى مصر 430 سنة ، وليلة الخروج هى عيد الفصح عندهم إلى الأبد.
(فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أي فلما أسرى بهم موسى وأخبر فرعون بما صنعوا ، أرسل فى مدائن مصر رجالا من حرسه ، ليجمعوا الجند فيتبعوهم ويردّوهم إلى مصر ، ويعذبوهم أشد التعذيب على ما فعلوا.
ثم قوّى فرعون جنده فى اقتفاء آثارهم بأمور :
(ا) (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) فيسهل اقتفاؤهم وإرجاعهم وكبح جماحهم فى الزمن الوجيز.
(ب) (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) أي وإنهم بين آونة وأخرى يصدر منهم ما يخل بالأمن ، فيحدثون الشغب والاضطراب فى البلاد - إلى أنهم ذهبوا بأموالنا التي استعاروها.
(ج) (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) أي وإن لنا أن نحذر عاقبة أمرهم قبل أن يستفحل خطبهم ويصعب رأب صدعهم ، ونحن قوم من دأبنا التيقظ والحذر ، واستعمال الحزم فى الأمور.
والخلاصة - إنه أشار أولا إلى عدم الموانع التي تمنع اتباعهم من قلة وجود الشّوكة لهم ، ثم إلى تحقق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم لهم ، ووجوب التيقظ فى شأنهم حثا منه عليه.
وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن ، لئلا يظنّ به ما يكسر من قهره وسلطانه.
وخلاصة مقاله - إن هؤلاء عدد لا يعبأ به ، وإن فى مقدورنا أن نبيدهم بأهون الوسائل ، ولا خوف منهم إذا نحن اتبعنا آثارهم ورددناهم على أعقابهم(19/66)
ج 19 ، ص : 67
خاسئين ، حتى لا يعودوا كرة أخرى إلى الإخلال بالأمن والهرج والمرج والاضطراب فى البلاد ، وهذا ما يقتضيه الحزم واليقظة فى الأمور.
والذي نجزم به أن بنى إسرائيل كانوا أقل من جند فرعون ، لكنا لا نجزم بعدد معين ، وما فى كتب التاريخ والتوراة مبالغات يصعب تصديقها ولا ينبغى التعويل عليها ، فخير لنا ألا نشغل أنفسنا باستقصاء تفاصيلها ، وقد فنّد ابن خلدون فى مقدمة تاريخه هذه الروايات وأبان ما فيها من مغالاة لا يقبلها العقل ولا تثبت أمام البحث العلمي الصحيح.
وقد جازى اللّه فرعون وجنوده بما أرادوا أن يجازوا به بنى إسرائيل فأهلكوا جميعا كما قال :
(فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. كَذلِكَ) أي فأخرجناهم من النعيم إلى الجحيم ، وتركوا المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والملك والجاه العظيم الذي لم يسمع بمثله ، وقد كان الأمر حقا كما قلنا.
ثم بين ما آل إليه أمر بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر :
(وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) أي وملّكنا بنى إسرائيل جنات وعيونا مماثلة لها فى أرض الميعاد التي ساروا إليها ، وفى هذا بيان لأن حالهم تحوّل من الاستعباد والرقّ إلى الترف والنعيم فى الجنات والعيون والمقام الكريم.
ونحو الآية قوله : « وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها » .
(فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) أي فخرجوا من مصر فى حفل عظيم وجمع كثير من أولى الحل والعقد من الأمراء والوزراء والرؤساء والجند ، فوصلوا إليهم حين شروق الشمس.
ثم ذكر ما عرا بنى إسرائيل من الخوف حين رؤيتهم فرعون وقومه.
(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي فلما رأى كل من(19/67)
ج 19 ، ص : 68
الفريقين صاحبه قال بنو إسرائيل : إن فرعون وجنوده سيلحقوننا ويقتلوننا ، وكانوا قد قالوا لموسى من قبل : إنا قد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ، فقد كانوا يذبحون أبناءنا من قبل أن تأتينا ، ومن بعد ما جئتنا يدركوننا ويقتلوننا.
والخلاصة - إنا لمتابعون وسنهلك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد لأناقد انتهى بنا السير إلى سيف البحر (ساحله) وقد أدركنا فرعون وجنوده.
فأجابهم موسى وطمأنهم وقوّى نفوسهم.
(قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي قال لهم موسى : إنه لن يصلكم شىء مما تحذرون ، فإن اللّه هو الذي أمرنى أن أسير بكم إلى هنا ، وهو سبحانه لا يخلف وعده ، فهو :
(1) سيهدينى إلى طريق النجاح والخلاص.
(2) سينصرنى عليهم ويتكفّل بمعونتي.
ثم ذكر سبحانه كيف هداه ونجّاه وأهلك أعداءه فقال :
(فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) أي وأوحينا إليه أن اضرب بعصاك البحر فضرب فانفلق فكان كل قطعة من الماء كالجبل العالي وصار فيه اثنا عشر طريقا ، لكل سبط منهم طريق وصار فيه طاقات ينظر منها بعضهم إلى بعض ، وبعث اللّه الريح إلى قعر البحر فلفحته فصار يبسا كوجه الأرض كما قال فى آية أخرى : « فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى » .
(وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) أي وقربنا فرعون وجنوده من البحر وأدنيناهم منه.
(وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي وأنجينا موسى وبنى إسرائيل ومن اتبعهم على دينهم ، فلم يهلك منهم أحد ، وأغرقنا : فرعون وجنوده ولم نبق منهم أحدا.(19/68)
ج 19 ، ص : 69
والخلاصة - إنه لما خرج أصحاب موسى وتتامّ أصحاب فرعون ، انطبق عليهم البحر فأغرقهم جميعا.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي إن فى الذي حدث فى البحر لعبرة دالة على قدرته تعالى وعلى صدق موسى عليه السلام ، من حيث كان معجزة له ، وتحذيرا من الإقدام على مخالفة أمر اللّه وأمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم.
ثم بيّن أنهم لم تجدهم الآيات والنذر شيئا.
(وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي وإن أكثرهم لم يؤمنوا مع ما رأوا من الآيات العظام والمعجزات الباهرات.
وفى ذلك تسلية لرسوله صلى اللّه عليه وسلم فقد كان يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات على يديه ، فنبهه بهذا الذكر إلى أن له أسوة بموسى عليه السلام ، فإن ما ظهر على يديه من المعجزات التي تبهر العقول لم يمنع من تكذيب أكثر القبط له وكفرهم به مع ما شاهدوه فى البحر وغيره ، وتكذيب بنى إسرائيل ، فإنهم بعد أن نجوا عبدوا العجل وقالوا : لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة.
ثم توعدهم وقال :
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو المنتقم من أعدائه ، الرحيم بأوليائه.
وفى هذا بشارة لنبيه بأن النصر سيكتب له ، والفوز سيكون حليفه كما قال :
« وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ » .
قصص إبراهيم عليه السلام
[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 82]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)(19/69)
ج 19 ، ص : 70
المعنى الجملي
لما ذكر فى أول السورة شدة حزنه صلى اللّه عليه وسلم على كفر قومه وعدم استجابتهم دعوته ، ثم ذكر قصص موسى عليه السلام ليكون فى ذلك تسلية له ، وليعلم أنه ليس ببدع فى الرسل ، وأن قومه ليسوا بأول الأمم عنادا واستكبارا ، فقد أتى موسى بباهر المعجزات ، وعظيم الآيات ، ولم يؤمن به من قومه إلا القليل ، ولم يؤمن به من المصريين إلا النذر اليسير - أردف ذلك بقصص إبراهيم أبى الأنبياء ، وخليل الرحمن ، وكليم اللّه ، ليعلم أن حزنه لكفران قومه كان أشد ، وآلامه كانت أمض ، فهو كان يرى أن أباه وقومه صائرون إلى النار ، وهو ليس بمستطيع إنقاذهم ، وقد أكثر حجاجهم حتى حجّهم ولم يجد ذلك فيهم شيئا ، بل ركنوا إلى التقليد بما ورثوه عن الآباء والأجداد ، وقد أبان لهم أثناء حجاجه أن أصنامهم لا تغنى عنهم شيئا ، فهى لا تسمع دعاءهم « وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ » ولو سمعت لم تغن عنهم شيئا. ثم ذكر لهم صفات الرّب الذي ينبغى أن يعبد وفصلها أتم التفصيل.
الإيضاح
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ ؟ ) أي واتل على أمتك أخبار إبراهيم إمام الحنفاء ، ليقتدوا به فى الإخلاص والتوكل على اللّه وعبادته وحده(19/70)
ج 19 ، ص : 71
لا شريك له والتبري من الشرك وأهله ، وقد أوتى الرشد من صغره ، فهو من حين نشأ وترعرع أنكر على قومه عبادة الأصنام فقال لأبيه وقومه ماذا تعبدون ؟ وهو مشاهد راء له ، ليعلمهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة في شرع ولا عقل.
روى أنّ أصنامهم كانت من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب فأجابوه إجابة المفتخر بما يفعل ، المزهوّ بجميل ما يصنع.
(قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) أي قالوا نعبد الأصنام ونقيم على عبادتها طوال ليلنا ونهارنا. وبعد أن أوضحوا له طريقتهم نبههم إلى فساد معتقدهم بسوق الدليل الذي يرشد إلى بطلانه.
(قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ؟ ) أي قال لهم :
هل يسمعون دعاءكم حين تدعونهم فيستجيبوا لكم ببذل معونة أو دفع مصرة ؟ .
ذاك أن الغالب من حال من يعبد غيره أن يلتجىء إليه فى المسألة ليعرف مراده إذا سمع دعاءه ثم يستجيب له ببذل المعونة من جلب نفع أو دفع ضر ، فإذا كان ما تعبدونه لا يسمع دعاءكم حتى يعرف مقصودكم ، ولو عرف ما استطاع مدّ يد المعونة ، فكيف بكم تستسيغون لأنفسكم أن تعبدوا ما هذه صفته ؟ .
وحينئذ فلجت حجة إبراهيم ولم يجدوا مقالا يقولونه وكأنما ألقمهم حجرا ، فعدلوا عن الحجاج إلى اللجاج ، وتقليد الآباء والأجداد ، وتلك هى حجة العاجز المغلوب على أمره ، الذي أظلم وجه الحق أمامه ، ولم يهتد لحجة ولا دليل.
فزاد فى تقريعهم وتوبيخهم كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله :
(قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ. قالَ : أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ؟ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) أي إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير كما تدّعون ، وتستطيع أن تضر وتنفع فلتخلص إلىّ بالمساءة فإنى عدوّ لها ، لا أبالى بها ولا آبه بشأنها ، ولكن رب العالمين هو ولى فى الدنيا والآخرة ، ولا يزال متفضلا علىّ فيهما.
ونحو هذا قول نوح عليه السلام « فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ » وقول هود :(19/71)
ج 19 ، ص : 72
« إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » .
ثم وصف رب العالمين سبحانه بأوصاف استحق لأجلها أن يعبد :
(1) (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) أي هو الخالق الذي خلقنى وصورنى فأحسن صورتى ، وهو الذي يهدينى إلى كل ما يهمنى من أمور المعاش والمعاد هداية تتجدد على جهة الدوام والاستمرار.
(2) (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) أي وهو رازقى بما يسرّ من الأسباب السماوية والأرضية ، فساق المزن ، وأنزل الماء فأحيا به الأرض ، وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد ، وأنزل الماء عذبا زلالا يسقيه ما خلق من الأنعام والأناسى.
(3) (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) أي وهو الذي ينعم علىّ بالشّفاء إذا حصل لى مرض ، وأضاف المرض إلى نفسه وهو حادث بقدرة ربه أدبا منه مع ربه كما قالت الجن « وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً » .
والخلاصة - إنى إذا مرضت لا يقدر على شفائى أحد غيره بما يقدّر من الأسباب الموصلة إلى ذلك.
(4) (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) أي وهو الذي يحيينى ويميتنى ولا يقدر على ذلك أحد إلا هو ، فهو الذي يبدئ ويعيد ، وقد يكون المراد بالإحياء البعث بعد الموت ، ويؤيده عطفه بثم لا تساع الوقت بين الإماتة والإحياء.
(5) (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) أي وهو الذي لا يقدر على غفران الذنوب فى الآخرة إلا هو كما قال : « وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ » وسمى إبراهيم ما صدر منه من عمل - هو خلاف الأولى - خطيئة ، استعظاما له.
وخلاصة مقاله - إن جميع النعم التي يتمتع بها المرء من النشأة الأولى إلى آخر الدهر هى من اللّه وحده ، ولا قدرة لأصنامكم على شىء منها.(19/72)
ج 19 ، ص : 73
وفى صحيح مسلم عن عائشة « قلت يا رسول اللّه : ابن جدعان كان فى الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، فهل ذلك نافعه ؟ قال لا ينفعه ، إنه لم يقل يوما :
رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين » .
[سورة الشعراء (26) : الآيات 83 الى 89]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
تفسير المفردات
الحكم : هو العلم بالخير والعمل به ، واللحوق بالصالحين يراد به التوفيق للأعمال التي توصل إلى الانتظام فى زمرة الكاملين المنزهين عن كبائر الذنوب وصغائرها ، لسان صدق : أي ذكرا جميلا بين الناس بتوفيقى إلى الطريق الحسنة حتى يقتدى بي الناس من بعدي ، وهذا هو الحياة الثانية كما قال : قد مات قوم وهم فى الناس أحياء ، من ورثة جنة النعيم : أي من الذين يتمتعون بالجنة وسعادتها فيكون ذلك غنيمة لهم كما يتمتع الناس بالميراث فى الدنيا ، والخزي : الهوان ، والقلب السليم : هو البعيد عن الكفر والنفاق وسائر الأخلاق الذميمة.
المعنى الجملي
بعد أن أثنى إبراهيم على ربه بما أثنى عليه - ذكر مسألته ودعاءه إياه بما ذكره كما هو دأب من يشتغل بدعائه تعالى ، فإنه يجب عليه أن يتقدم بالثناء عليه وذكر عظمته وكبريائه ، ليستغرق فى معرفة ربه ومحبته ، ويصير أقرب شبها بالملائكة الذين(19/73)
ج 19 ، ص : 74
يعبدون اللّه بالليل والنهار لا يفترون ، وبذا يستنير قلبه إلى ما هو أرفق به فى دينه ودنياه ، وتحصل له قوة إلهية تجعله يهتدى إلى ما يريد ، ومن ثم جاء فى الأثر حكاية عن اللّه تعالى : « من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين » .
الإيضاح
دعا إبراهيم ربه أن يؤتيه من فضله أجمل الأخلاق وأكمل الآداب ، فطلب إليه أمورا هي :
(1) (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) أي ائتني معرفة بك وبصفاتك ، ومعرفة للحق لأعمل به.
(2) (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي ووفقني للعمل فى طاعتك ، لأنتظم فى سلك المقربين إليك ، المطيعين لك ، وقد أجاب اللّه دعاءه كما قال : « وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ » .
روى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال فى دعائه : « اللهم أحينا مسلمين ، وأمتنا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ، غير خزايا ولا مبدّلين » .
(3) (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) أي وخلّد ذكرى الجميل فى الدنيا بتوفيقى لصالح العمل ، فأكون قدوة لمن بعدي إلى يوم القيامة ، وقد أجاب اللّه دعاءه كما قال : « وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ » .
ومن ثم لا نرى أمة إلا محبة لإبراهيم وتدّعى أنها على ملته ، وقد جاء من ذريته كملة الأنبياء وأولو العزم منهم.
وختم ذلك بمجدّد دينه ، وداعية الناس إلى التوحيد وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم.
وبعد أن طلب سعادة الدنيا طلب ثواب الآخرة فقال :(19/74)
ج 19 ، ص : 75
(4) (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) أي واجعلنى ممن يدخلون الجنة ويتمتعون بنعيمها كما يتمتع المالك بما يملكه ميراثا ويئول إليه أمره من شئون الدنيا.
وبعد أن طلب السعادة الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأقرب الناس إليه وهو أبوه فقال :
(5) (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) أي واغفر له ذنوبه ، إنه كان ضالا عن طريق الهدى ، وهذه الدعوة وفاء بما وعده من قبل كما جاء فى آية أخرى :
« وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ » .
ثم طلب من ربه عدم خزيه وهوانه يوم القيامة فقال :
(6) (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أي ولا تخزنى بمعاتبتي على ما فرطت ، أو بنقص مرتبتى عن بعض الوارثين.
ثم بين حال هذا اليوم وما فيه من شديد الأهوال فقال :
(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي يوم لا يقى المر ، من عذاب اللّه المال ولو افتدى بملء الأرض ذهبا ، ولا البنون ولو افتدى بهم جميعا ، ولكن ينفعه أن يجىء خالصا من الذنوب وأدرانها ، وحب الدنيا وشهواتها ، وخص الابن بالذكر لأنه أولى القرابة بالدفع والنفع ، فإذا لم ينفع فغيره من القرابة أولى.
قال النسفي : وما أحسن ما رتب عليه السلام من كلامه مع المشركين ، حيث سألهم أوّلا عما يعبدون سؤال مقرّر لا مستفهم ، ثم أقبل على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ، وعلى تقليدهم آباءهم الأقدمين فأخرجه من أن يكون شبهة فضلا عن أن يكون حجة ، ثم صور المسألة فى نفسه دونهم حتى تخلّص منها إلى ذكر اللّه تعالى ، فعظم شأنه ، وعدّد نعمه من حين إنشائه إلى وقت وفاته ، مع ما يرجى فى الآخرة من رحمته ، ثم أتبع ذلك أن دعا بدعوات المخلصين ، وابتهل إليه ابتهال الأدب ، ثم وصله بذكر يوم القيامة وثواب اللّه وعذابه وما يفعل المشركون يومئذ من الند(19/75)
ج 19 ، ص : 76
والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمنى الكرّة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا ا ه.
أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن ثوبان قال : لما نزلت : « وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ » الآية. وقال بعض أصحاب رسول اللّه لو علمنا أىّ المال خير اتخذناه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أفضله لسان ذاكر ، وقلب شاكر ، وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه » .
[سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 104]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99)
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
تفسير المفردات
أزلفت : أي قرّبت ، برزت : أي جعلت بارزة لهم بحيث يرون أهوالها ، والغاوين : الضالين عن طريق الحق ، فكبكبوا : أي ألقوا على وجوههم مرة بعد أخرى من قولهم كبّه على وجهه : أي ألقاه ، يختصمون : أي يخاصمون من معهم من الأصنام والشياطين ، نسويكم : أي نجعلكم مساوين له فى استحقاق العبادة ، والصديق :
هو الصادق فى وده ، والحميم : هو الذي يهمه ما أهمك ، والكرة : الرجعة.(19/76)
ج 19 ، ص : 77
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنه لا ينفع فى هذا اليوم مال ولا بنون ، وإنما ينفع البعد من الكفر والنفاق - ذكر هنا من وصف هذا اليوم أمورا تبين شديد أهواله ، وعظيم نكاله.
الإيضاح
ذكر ما يحدث فى هذا اليوم مما يبشر بثواب المتقين ونكال الكافرين ، ثم قرّعهم على ما اجترحوا من السيئات فقال :
(1) (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي إن الجنة تكون قريبة من موقف السعداء ، ينظرون إليها ، ويفرحون بأنهم سيحشرون إليها كما جاء فى آية أخرى : « وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ » .
وفى هذا تعجيل لمسرتهم كفاء ما عملوا لها ، ورغبوا عن الدنيا وزخرفها.
(2) (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) أي وتكون النار بارزة مكشوفة للأشقياء ، بحيث تكون بمرأى منهم ، يسمعون زفراتها التي تبلغ منها القلوب الحناجر ، ويوقنون بأنهم مواقعوها ، لا يجدون عنها مصرفا.
وفى هذا تعجيل للغم والحسرة ، إذا نسوا فى دنياهم هذا اليوم كما جاء فى قوله :
« وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ » .
ثم ذكر أنه يسأل أهل النار تقريعا لهم.
(3) (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ؟ )(19/77)
ج 19 ، ص : 78
أي أين آلهتكم التي كنتم تعبدونها ؟ هل ينفعونكم بنصرتهم لكم ، أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنفسهم ؟ لا - إنهم وآلهتهم وقود النار.
والخلاصة - ليست الآلهة التي عبدتموها من دون اللّه من الأصنام والأوثان بمغنية عنكم اليوم شيئا ، ولا هى بدافعة عن نفسها شيئا ، فإنكم وإياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون.
ثم ذكر مآلهم بعدئذ فقال :
(4) (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) أي فألقى الآلهة والغاوون الذين عبدوها فى النار ، والشياطين والداعون إلى عبادتها - على رءوسهم أو ألقى بعضهم على بعض.
وتأخير الغاوين فى الكبكبة عن آلهتهم ليشاهدوا سوء حالهم ، فينقطع رجاؤهم منهم قبل دخول الجحيم.
ثم ذكر ما يحدث من المخاصمة والمحاجة بين الآلهة والغاوين عبدتها والشياطين الذين دعوهم إلى تلك العبادة.
(5) (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ. تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) أي قال الغاوون وهم يخاصمون من معهم من الأصنام والشياطين : تاللّه إننا كنا فى ضلال واضح لا لبس فيه حين سويناكم برب العالمين فى استحقاق العبادة وعظمناكم تعظيم المعبود الحق ، وما أضلّنا إلا المجرمون من الرؤساء والكبراء كما جاء فى آية : « رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا » .
وخلاصة ذلك - إنهم حين رأوا صور تلك الآلهة اعترفوا بالخطأ العظيم الذي كان منهم وندموا على طاعتهم لأولئك الرؤساء والسادة الذين حملوهم على عبادتها وتعظيم شأنها.
ثم أكّدوا ندمهم على ما فرط منهم وحسرتهم على ما صنعوا.
(فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) أي فليس لنا اليوم شفيع يشفع لنا مما(19/78)
ج 19 ، ص : 79
نحن فيه من ضيق أو ينقذنا من هلكة ، ولا صديق شفيق بعنيه أمرنا ويودنا ونوده.
ونحو الآية ما جاء فى آية أخرى حكاية عنهم : « فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ » .
وقد أرادوا بهذا الإخبار إظهار اللهفة والحسرة على فقد الشفيع والصديق النافع ، وقد نفوا أولا أن يكون لهم من ينفعهم فى تخليصهم من العذاب بشفاعته ، ثم ترقّوا ونفوا أن يكون لهم من يهمه أمرهم ويشفق عليهم ويتوجع لهم وإن لم يخلصهم.
والخلاصة - إن الأمر قد بلغ من الهول ما لا يستطيع أحد أن ينفع فيه أدنى نفع.
ثم حكى اللّه عنهم تمنيهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون ، واللّه يعلم إنهم لو ردوا لعادوا إلى ما نهوا عنه وإنهم لكاذبون فقال :
(فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ليت لنا رجعة إلى الدنيا فنعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ، حتى إذا متنا وبعثنا مرة أخرى لا ينالنا من العذاب مثل ما نحن فيه.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)/ 103 أي إن فى محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجة عليهم فى التوحيد - لآية واضحة جلية على أنه تعالى لا رب غيره ، ولا معبود سواه ، ومع كل هذا ما آمن به أكثرهم.
وفى هذا تسلية للرسول صلى اللّه عليه وسلم على ما يجده من تكذيب قومه له مع ظهور الآيات وعظيم المعجزات.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك المحسن إليهم بإرسالك لهدايتهم - لهو القادر على الانتقام منهم ، الرحيم بهم إذ لم يهلكهم ، بل أخّر ذلك وأرسل إليهم الرسل ونصب لهم الشرائع ، ليؤمنوا بها هم أو ذريتهم.(19/79)
ج 19 ، ص : 80
قصص نوح عليه السلام
[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 122]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
تفسير المفردات
القوم : اسم لا واحد له من لفظه كرهط ونفر يذكّر ويؤنث ، أخوهم : أي أخوّة نسب ، كما يقال يا أخا العرب ويا أخاتيم ، يريدون يا من هو واحد منهم قال الحماسى :
لا يسألون أخاهم حين يندبهم فى النائبات على ما قال برهانا
الأرذلون : واحدهم أرذل ، والرذالة : الخسة والدناءة ، وقد استرذلوهم لا تضاع نسبهم وقلة حظوظهم من الدنيا ، من المرجومين : أي من المقتولين رميا بالحجارة ،(19/80)
ج 19 ، ص : 81
فافتح : أي احكم من الفتاحة بمعنى الحكومة ، والفلك : يستعمل واحدا وجمعا ، المشحون : أي المملوء
المعنى الجملي
بعد أن قص على رسوله صلى اللّه عليه وسلم قصص أبيه إبراهيم وما لقيه من تكذيب قومه له مع ما أرشدهم إليه من أدلة التوحيد وما حجهم به من الآيات - أردف هذا بقصص الأب الثاني وهو نوح عليه السلام ، وفيه ما لا فاه من قومه من شديد التكذيب لدعوته وعكوفهم على عبادة الأصنام والأوثان وأنه مع طول الدعوة لهم لم يزدهم ذلك إلا عتوّا واستكبارا ، وقد كان من عاقبة أمرهم ما كان لغيرهم ممن كذبوا رسل ربهم بعد أن أملى لهم بطول الأمد : « وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ » فأغرقهم الطوفان ولم ينج منهم إلا من حملته السفينة.
وهذا القصص مجمل تقدم تفصيله فى سورتى الأعراف وهود ، وسيأتى بسطه أتم البسط فى سورة نوح.
الإيضاح
(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ ؟ ) أي كذبت قوم نوح رسل اللّه حين قال لهم أخوهم نوح : ألا تتقون اللّه فتحذروا عقابه على كفركم به وتكذيبكم رسله ؟ .
وجعل تكذيب نوح تكذيبا للرسل جميعا ، لأن تكذيبه يتضمن تكذيب غيره منهم إذ طريقتهم لا نختلف فهى فى كل مكان وزمان الدعوة إلى التوحيد وأصول الشرائع.
وقد حكى سبحانه عن نوح أنه خوفهم أوّلا بقوله : ألا تتقون ؟ لأن القوم إنما قبلوا تلك الأديان تقليدا ، والمقلد إذا خوّف خاف ، وما لم يستشعر بالخوف لا يشتغل بالاستدلال والنظر.(19/81)
ج 19 ، ص : 82
وقد وصف نوح نفسه بأمرين :
(1) (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي إنى رسول من اللّه إليكم ، أمين فيما بعثني به ، أبلغكم رسالاته ، لا أزيد فيها ، ولا أنقص منها.
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي خافوا عقاب اللّه وأطيعونى فيما آمركم به من التوحيد ، وقدّم الأمر بتقوى اللّه على الأمر بطاعته لأن التقوى هى ملاك الأمر كله فى هذه الحياة وكرر الأمر بها لأنها العمدة فى جميع الأعمال ، فيجب على العامل ملاحظتها إذا أراد الإحسان وتجويد العمل.
(2) (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) أي لا أطلب منكم جزاء على نصحى لكم ، بل أطلب ثواب ذلك من عند اللّه.
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) فقد وضح الأمر لكم ، وبان نصحى وأمانتى فيما بعثني اللّه به وائتمنى عليه ، وسبب التكرير ما علمته من قبل ، ونظير هذا ما يقول الوالد لولده :
ألا تتقى اللّه فى عقوقى وقدر بيتك صغيرا ؟ ألا تتقى اللّه فى عقوقى وقد علمتك كبيرا ؟ .
وبعد أن أقام الدليل على صدق رسالته وعظيم نصحه وأمانته لهم أرادوا أن يتنصلوا من اتباع دعوته بحجة هى أوهى من بيت العنكبوت.
(قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ؟ ) أي قالوا كيف نتبعك ونصدّقك ونؤمن بك ونأتسى بهؤلاء الأراذل الذين اتبعوك ؟ ومرادهم أن هذا لن يكون أبدا وهذه شبهة لا ينبغى لعاقل أن يركن إليها ، لأن نوحا عليه السلام بعث إلى الخلق كافة ، لا بارق بين غنى وفقير ، وصعلوك وأمير ، ولا بين ذوى البيوتات والحسب ، وذوى الوضاعة والخسة فى النسب ، فليس له إلا اعتبار الظواهر ، دون التفتيش والبحث عن البواطن ، ومن ثم أجابهم :
(قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ؟ ) أي وأىّ شىء يعلمنى ما كان يعمل أتباعى ؟
إنما لى منهم ظاهر أمرهم دون باطنه ، فمن أظهر الحسن ظننت به حسنا ، ومن أظهر(19/82)
ج 19 ، ص : 83
السوء ظنت به ذلك ، ولم أكلّف العلم بأعمالهم ، وإنما كلّفت أن أدعوهم إلى الإيمان والاعتبار به لا بالحرف والصناعات والفقر والغنى ، وهم كأنهم يقولون إن إيمان هؤلاء لم يكن عن نظر صحيح. بل لتوقع مال ورفعة.
ثم أبان أن أمر جزائهم وحسابهم على ربهم لا عليه ، فلا يعنيه استقصاء أحوالهم فقال :
(إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) أي ما حسابهم على ما تحويه سرائرهم إلا على ربهم المطّلع عليها لو كنتم من ذوى الشعور والعقل.
ولما جعلوا من موانع إيمانهم اتباع هؤلاء الأراذل كانوا كأنهم طلبوا طردهم فقال :
(وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وما أنا بطارد من آمن باللّه واتبعنى وصدق بما جئت به من عند اللّه.
ثم بين وظيفة الرسول فقال :
(إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنما بعثت منذرا ومخوّفا بأس اللّه وشديد عذابه ، فمن أطعنى كان منى وأنا منه ، شريفا كان أو وضيعا ، جليلا كان أو حقيرا.
ولما أجابهم بهذا الجواب وأيسوا مما راموا لجئوا إلى التهديد.
(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) أي قال قوم نوح له : لئن لم تنته عما تدعو إليه من الطعن فى آلهتنا لنرجمنك بالحجارة ولنقتلنك بها.
ولما طال مقامه بين ظهرانيهم ، يدعوهم إلى اللّه ليلا ونهارا ، سرا وإعلانا ، وكلما كرر عليهم الدعوة صمّوا آذانهم وصمموا على تكذيبه وتمادوا فى عتوّهم واستكبارهم - استغاث بربه وطلب منه أن يحكم بينه وبينهم وأن يهلكهم كما أهلك المكذبين من قبلهم لرسلهم وينجيه والمؤمنين به.
(قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ. فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي إن قومى كذبونى فيما أتيتهم به من الحق من عندك ، فاحكم بينى وبينهم حكما تهلك به المبطل وتنتقم منه وتنصر به الحق وأهله.(19/83)
ج 19 ، ص : 84
وجاء فى آية أخرى « فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ » .
وفى ذلك إيماء إلى طلب إنزال العذاب بهم كما يرشد إلى ذلك قوله : (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
فأجاب اللّه دعاءه كما قال :
(فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) أي فأنجينا نوحا ومن اتبعه على الإيمان باللّه وطاعة رسوله ، وأغرقنا من كفر به وخالف أمره.
وفى قوله - المشحون - إيماء إلى كثرتهم وأن الفلك امتلأ بهم وبما صحبهم ، وقد روى أنهم كانوا ثمانين ، أربعين رجلا وأربعين امرأة.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي إن فى إنجاء المؤمنين وإنزال سطوتنا وبأسنا بالكافرين لعبرة وعظة لقومك المصدقين منهم والمكذبين ، على أن سنتنا إنجاء رسلنا وأتباعهم إذا نزلت نقمتنا بالمكذبين من قومهم ، وكذلك هى سنتى فيك وفى قومك.
(وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ومع كل ما حذر به نوح وأنذر لم يؤمن به إلا القليل ، وفى هذا إيماء إلى أنه لو كان أكثرهم مؤمنين لما عوجلوا بالعقاب.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو العزيز فى انتقامه ممن كفر به وخالف أمره ، الرحيم بالتائب منهم أن يعاقبه بعد توبته.
قصص هود عليه السلام
[سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 140]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)(19/84)
ج 19 ، ص : 85
تفسير المفردات
عاد : اسم أبى القبيلة الأكبر ، ويعبر عن القبيلة إذا كانت عظيمة باسم الأب أو بينى فلان أو آل فلان ، والريع (بالفتح والكسر) المكان المرتفع ، ويقال كم ريع أرضك أي ارتفاعها ، آية : أي قصرا مشيدا عاليا ، تعبثون : أي تفعلون العبث ، وما لا فائدة فيه ، مصانع : أي قصورا مش يدة وحصونا منيعة ، ولعل هنا معناها التشبيه أي كأنكم تخلدون ، والبطش : الأخذ بالعنف ، والجبار : المتسلط العاتي بلا رأفة ولا شفقة ، أمدكم : أي سخر لكم ، والوعظ : كلام يلين القلب بذكر الوعد والوعيد ، خلق الأولين : أي عادتهم التي كانوا بها يدينون ، ونحن بهم مقتدون : نموت ونحيا بلا حساب ولا بعث.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص نوح وقومه وأن نوحا دعاهم وحذرهم عقاب اللّه وطال عليه المطال ولم يزدهم ذلك إلا عتوّا ونفورا ، فدعا ربه فأخذهم الطوفان وهم ظالمون - أردف هذا قصص هود عليه السلام مع قومه عاد ، وكانوا بعد قوم نوح كما قال فى سورة(19/85)
ج 19 ، ص : 86
الأعراف « وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً » . يسكنون الأحقاف ، وهى جبال الرمل القريبة من حضرموت ببلاد اليمن وكانت لهم أرزاق دارّة وأموال ، وجنات وأنهار وزروع وثمار ، وكانوا يعبدون الأصنام والأوثان ، فبعث اللّه فيهم نبيّا منهم يبشرهم وينذرهم ويدعوهم إلى عبادة اللّه وحده ويحذّرهم نقمته وعذابه ، فكذبوه فأهلكهم كما أهلك المكذبين لرسله.
الإيضاح
(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) جاءت هذه المقالة على لسان نوح وهود وصالح ولوط وشعيب للتنبيه إلى أن بعثة الأنبياء أسّها الدعاء إلى معرفة اللّه وطاعته فيما يقرب المدعو إلى الثواب ويبعده من العقاب ، وأن الأنبياء مجمعون على ذلك وإن اختلفوا فى تفصيل الأحكام تبعا لاختلاف الأزمنة والعصور ، وأن الأنبياء منزّهون عن المطامع الدنيوية لا يأبهون بها ، ولا يجعلونها قبلة أنظارهم ، ومحط رحالهم.
ولما فرغ من دعائهم إلى الإيمان أتبعه إنكار بعض ما هم عليه فقال :
(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ؟ ) أي أ تبنون فى كل مرتفع عال قصرا مشيدا للتفاخر والدلالة على الغنى.
(وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي وتتخذون الحصون والقلاع كأنكم مخلّدون فى الدنيا.
روى ابن أبى حاتم أن أبا الدرداء رضى اللّه عنه لما رأى ما أحدث المسلمون فى غوطة دمشق من البنيان ونصب الشجر ، قام فى مسجدهم فنادى : يا أهل دمشق ، فاجتمعوا إليه ، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال : ألا تستجيبون ، ألا تستجيبون ، تجمعون(19/86)
ج 19 ، ص : 87
ما لا تأكلون ، وتبنون ما لا تسكنون ، وتأكلون ما لا تدركون ، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون ، ويبنون فيوثّقون ، ويأملون فيطيلون ، فأصبح أملهم غرورا ، وأصبح جمعهم بورا ، وأصبحت مساكنهم قبورا ، ألا إن عادا ملكت ما بين عدن وعمّان ، خيلا وركابا ، فمن يشترى منى ميراث عاد بدرهمين ؟ .
(وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) أي إنكم قوم قساة غلاظ الأكباد ذوو جبروت وعتوّ ، فإذا عاقبتم عاقبتم دون شفقة ولا رأفة.
وخلاصة ما قال - إن أفعالكم تدل على حب الدنيا وعلى الكبرياء والتسلط على الناس بجبروت وعسف.
ولما نهامم عن حب الدنيا والاشتغال بالسّرف والجبروت ، دعاهم إلى العمل للآخرة زجرا لهم عما هم فيه فقال :
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي فاحذروا عقاب اللّه ، واتركوا هذه الأفعال الذميمة ، وأطيعونى فيما أدعوكم إليه من عبادة اللّه وحده لا شريك له ، فإن ذلك أجدى لكم وأنفع.
ثم وصل العظة بما يوجب قبولها بالتنبيه إلى نعم اللّه التي غمرتهم ، وفواضله التي عمّتهم ، وذكرها أوّلا مجملة ثم فصلها ليكون ذلك أوقع فى نفوسهم فيحتفظوا بها ويعرفوا عظيم قدرها فقال :
(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي واتقوا عقاب اللّه بطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فابتعدوا عن اللعب واللهو وظلم الناس والفساد فى الأرض ، واحذروا سخط من أعطاكم من عنده ما تعلمون من الأنعام والبنين والبساتين والأنهار تتمتعون بها كما شئتم ، حتى صرتم مضرب الأمثال فى الغنى والثروة والزخرف والزينة ، فاجعلوا كفاء هذا عبادة من أنعم بها وتعظيمه وحده.
ثم بين السبب فى أمرهم بالتقوى فقال :
(إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إنى أخاف عليكم إن أصررتم على كفركم(19/87)
ج 19 ، ص : 88
ولم تشكروا هذه النعم ، عذاب يوم شديد الهول تذهل فيه المرضعة عما أرضعت ، وترى الناس فيه سكارى حيارى وما هم بكارى ، ولكن عذاب اللّه شديد.
وبعد أن بلغ الغاية فى إنذارهم وتخويفهم ، وترغيبهم وترهيبهم كانت خاتمة مطافه أن قابلوه بالاستخفاف وقلة الاكتراث والاستهانة بما سمعوا ، كما أشار إلى ذلك بقوله :
(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) أي هوّن عليك وأرح نفسك ، فكل هذا تعب ضائع ، وجهاد فى غير عدوّ ، وضرب فى حديد بارد ، فإنا لن نرجع عما نحن عليه ، وقد حكى سبحانه قولهم فى سورة هود : « وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ » .
ثم ذكروا السبب فى أن الوعظ وعدمه سواء بقولهم :
(إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ. وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي ما هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الأولين من الآباء والأجداد ، فنحن سالكون سبيلهم ، نعيش كما عاشوا ونموت كما ماتوا ، ولا بعث ولا معاد ، ولا ثواب ولا عقاب ، ولا جنة ولا نار.
(فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ) أي فاستمروا فى تكذيبهم ومخلفة أمر رسوله ، فأملكناهم بريح صرصر عاتية : (ريح عظيمة ذات برد شديد) كما جاء فى قوله : « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ » وقوله : « وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى » :
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي إن فى إهلاكنا عادا بتكذيبها رسولها - لعبرة لقومك المكذبين بك فيما أتيتهم به من عند ربك.
(وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي وما كان أكثر من أهلكنا بالذين يؤمنون فى سابق علمنا.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو الشديد فى انتقامه من أعدائه ، الرحيم بأوليائه المؤمنين إن تابوا وأصلحوا.(19/88)
ج 19 ، ص : 89
قصص صالح عليه السلام
[سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 159]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145)
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
تفسير المفردات
الطلع : أول ما يطلع من الثمر وبعده يسمى خلالا ثم بلحا ثم بسرا ثم رطبا ثم تمرا ، والهضيم : هو النضيج الرّخص اللين اللطيف ، والنحت : النجر والبرى ،(19/89)
ج 19 ، ص : 90
والنّحاتة : البراية ، والمنحت : ما ينحت به ، والفره : النشاط وشدة الفرح ، من المسحّرين : أي الذين سحروا حتى ذهبت عقولهم ، الشرب : (بالكسر) النصيب والحظ ، فعقروها : أي رموها بسهم ثم قتلوها.
المعنى الجملي
بعد أن قص سبحانه على رسوله قصص عاد وهود - قص قصص ثمود وصالح وقد كانوا عربا مثلهم يسكنون مدينة الحجر التي بين وادي القرى والشام ، ومساكنهم معروفة تتردد عليها قريش فى رحلة الصيف وهم ذاهبون إلى بلاد الشام.
دعاهم صالح إلى عبادة اللّه وحده وأن يطيعوه فيما بلغهم من رسالة ربهم فأبوا وكذبوا بعد أن أتى لهم ، لآيات المصدّقة لرسالته ، فأخذهم العذاب وزلزلت بهم الأرض ولم تبق منهم ديّارا ولا نافخ نار.
الإيضاح
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) أي كذبت ثمود أخاهم صالحا حين قال لهم : ألا تتقون عقاب اللّه على معصيتكم إياه ، وخلافكم أمره ، بطاعتكم أمر المفسدين فى الأرض ؟ إنى لكم رسول من عند اللّه أرسلنى إليكم بتحذيركم عقوبته ، أمين على رسالته التي أرسلها معى إليكم ، فاتقوه وأطيعونى ، وما أسألكم على نصحى وإنذارى جزاء ولا ثوابا ، ما جزائى إلا على رب السموات والأرض وما بينهما.(19/90)
ج 19 ، ص : 91
ثم خاطب قومه واعظا لهم ومحذرا نقم اللّه أن تحل بهم ومذكّرا بأنعمه عليهم فيما آتاهم من الأرزاق الدارّة والجنات والعيون والزروع والثمرات ، والأمن من المحذورات فقال :
(1) (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ ؟ ) أي لا نظنوا أنكم تتركون فى دياركم آمنين متمتعين بالجنات والعيون والزروع والثمار اليانعة ، وأن لا دار للجزاء على العمل. بل عليكم أن تتذكروا أن ما أنتم فيه من نعيم ، وأمن من عدوّ ، لن يدوم وأنكم عائدون إلى ربكم ، مجازون على أعمالكم خيرها وشرها.
(2) (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي وتتخذون تلك البيوت المنحوتة فى الجبال أشرا وبطرا من غير حاجة إلى سكناها مع الجدّ والاهتمام فى بنائها ، فاتقوا اللّه وأقبلوا على ما يعود عليكم نفعه فى الدنيا والآخرة من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم ، وتسبيحه بكرة وأصيلا.
(3) (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ. الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) أي ولا تطيعوا أمر رؤسائكم الذين تمادوا فى معصية ربكم واجترءوا على سخطه ، وهم الرهط التسعة الذين كانوا يفسدون فى الأرض ولا يصلحون وهم لنذكورون فى قوله :
« وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ » أي يسعون فى أرض اللّه بمعاصيه ، ولا يصلحون أنفسهم بالعمل بطاعته.
وخلاصة هذا - لا تطيعوا رؤساءكم وكبراءكم الدعاة إلى الشرك والكفر ومخالفة الحق.
ولما عجزوا عن الطعن فى شىء مما دعاهم إليه عدلوا إلى التخييل إلى عقول الضعفاء والعامة.
(1) (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أي أنت ممن سحر كثيرا حتى غلب على عقله ، فلا يقبل لك قول ، ولا يسمع لك نصح.(19/91)
ج 19 ، ص : 92
(2) (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي إنك بشر مثلنا ، فكيف أوحى إليك دوننا ؟ كما حكى عنهم فى آية أخرى : « أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا ؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ ؟ » فأجابهم إلى ما اقترحوا من الآيات الدالة على صدقه فيما جاء به من عند ربه.
(قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي قال صالح لثمود لما سألوه آية يعلمون بها صدقة : يا قوم هذه ناقة اللّه آية لكم ، ترد ماءكم يوما وتردونه أنتم يوما ، فلها حظ من الماء يوما ولكم مثله يوما آخر.
قال قتادة : إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله ، ولا تشرب فى يومهم ماء.
روى أنهم اقترحوا عليه عشراء (الحامل فى عشرة أشهر) تخرج من صخرة عيّنوها ، ثم تلد سقبا ، فقعد عليه الصلاة والسلام يتذكر ، فقال له جبريل عليه السلام :
صلّ ركعتين وسل ربك ، ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقبا مثلها فى العظم.
وإن أمثال هذه الروايات لا يجب علينا التصديق بها إلا إذا ثبتت بصحيح الأخبار.
(وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي ولا تمسوها بسوء كضرب أو عقر فيحل بكم عذاب لا قبل لكم به.
ثم حكى عنهم أنهم خالفوا أمر نبيهم فقال :
(فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ. فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) أي فعقروا الناقة بعد أن مكثت بين أظهرهم حينا من الدهر ترد الماء وتأكل المرعى ، ثم ندموا على ما فعلوا حين علموا أن العذاب نازل بهم ، إذ أنظرهم ثلاثة أيام وفى كل يوم منها تظهر مقدمات نزوله فندموا حيث لا ينفع الندم ، فأخذهم العذاب وزلزلت أرضهم زلزالا شديدا وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت منها قلوبهم ، ونزل بهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون ، فأصبحوا فى ديارهم جاثمين.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تقدم تقسيرها(19/92)
ج 19 ، ص : 93
قصص لوط عليه السلام
[سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
تفسير المفردات
أخوهم : أي فى البلد والسكنى ، لا فى الدين ولا فى النسب ، لأنه ابن أخى إبراهيم وهما من أرض بابل ، والذكران : واحدهم ذكر ضد الأنثى من كل حيوان ، عادون :
أي متعدون الحدود التي رسمها العقل والشرع ، من المخرجين : أي ممن نخرجهم من أرضنا وننفيهم من قريتنا ، من القالين : أي المبغضين لفعلكم ، والقلى : البغض(19/93)
ج 19 ، ص : 94
الشديد كأنه يقلى الفؤاد ، يقال قليته أقليه قلى وقلاء ، الغابرين : أي الباقين فهى لم تخرج مع لوط ومن مضى معه.
المعنى الجملي
قص اللّه علينا فى هذه الآيات قصص لوط بن هارون بن آزر بن أخى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، بعثه اللّه فى حياته إلى أمة عظيمة تسكن مذوم وما حولها من المدائن من بلاد الغور بالقرب من بيت المقدس ، فدعاهم إلى عبادة اللّه وحده وطاعة رسوله ، ونهاهم عن معصيته وارتكاب ما كانوا ابتدعوا من الفواحش مما لم يسبقهم إليه أحد من العالمين ، فكذّبوه فأهلكهم اللّه ، فأرسل عليهم كبريتا ونارا من السماء فاحترقت قريتهم وأحدث بها زلزالا جعل عاليها سافلها كما جاء فى قوله : « فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ » .
الإيضاح
(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) تقدم تفسير هذا فى سالف القصص.
وبعد أن نصحهم بما سلف ذكره وبخهم على قبيح ما ابتدعوه بقوله :
(أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ. وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أي أ أنتم دون الناس جميعا تفعلون هذه الفعلة الشنعاء ، تعشون الذكور وتتركون النساء اللاتي جعلهن اللّه حلّا لكم تستمتعون بهن ويستمتعن بكم.
(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) أي بل أنتم قوم أحقاء بأن توصفوا بالعدوان وتجاوز الحدود التي تسيغها العقول وتبيحها الشرائع ، بارتكابكم هذا الجرم الذي لم يخطر ببال أحد ممن قبلكم ،(19/94)
ج 19 ، ص : 95
ولما اتضح لهم وجه الحق وانقطعت حجتهم لجئوا إلى التهديد واستعمال القوة :
(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) أي لئن لم تنته عما أنت فيه من إنكارك ما تنكره من أمرنا لننفينّك من قريتنا ، وليكونن شأننا معك شأن من أخرجناهم من قبلك بالعنف والعسف واحتباس الأموال : (كما هو شأن الظلمة إذا أجلوا بعض من يبغضونهم صادروا أملاكهم).
حينئذ أجابهم بأن إبعاده لا يقف به عن الإنكار عليهم.
(قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) أي إنى برىء مما تعملون ، مبغض له ، لا أحبه ولا أرضاه ، ولا يضيرنى تهديدكم ولا وعيدكم ، وإنى لراغب فى الخلاص من سوء حواركم.
وقال (مِنَ الْقالِينَ) دون (قالَ) إيماء إلى أنه من القوم الذين لو سمعوا بما تفعلون لأبغضوه ، كما يقال فلان من العلماء فإنه أشد مدحا من قولك فلان عالم ، إذ الأولى تدل على أنه فى عداد زمرة العلماء المعروفين بمساهمته لهم فى العلم.
ثم أعرض عنهم وتوجه إلى اللّه أن ينجيه من أعمال السوء هو وأهله قال :
(رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) أي رب نجّنى من شؤم أعمالهم وأبعدنى من عذابك الدنيوي والأخروى.
فأجاب اللّه دعاءه وأغاثه بعد أن استغاثه قال :
(فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) أي فنجيناه وأهله جميعا مما حل بأهل القرية من العذاب ، فأمرناه بالخروج منها قبل أن ينزل بهم ما نزل ، إلا عجوزا قد بقيت ولم تخرج معه وهى امرأته كما جاء فى سورة هود : « إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ » وكانت عجوز سوء لم نتبع لوطا فى الدين ولم تخرج معه.
والخلاصة - فنجيناه وأهله من العذاب بإخراجهم من بينهم ليلا عند حلول العذاب بهم إلا عجوزا قدر اللّه بقاءها لسوء أفعالها وقبح طويّتها ، ولما لها من ضلع فى استحسان أفعالهم.(19/95)
ج 19 ، ص : 96
(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ. وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أي ثم أهلكنا المؤخرين عن لوط فأمطرنا عليهم حجارة من السماء. قال وهب بن منبه : أنزل اللّه عليهم الكبريت والنار.
وبئس المطر هذا وما أشد وطأته ، وما أقسى وقعه ، فقد أحدث بأرضهم زلزالا جعل عاليها سافلها.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ : وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) سبق تفسير ذلك.
إيضاح لهذه القصة بما كتبه الباحثون
كتبت مجلة السياسية الأسبوعية فصلا قالت فيه : روت الكتب المنزلة أن اللّه أهلك مدينتى سذوم وعمورة وثلاث مدن أخرى بجوارهما بأن أمطر عليهم نارا وكبريتا من السماء ، فلم ينج من سكانها سوى إبراهيم الخليل وأهل بيته ولوط وابنتيه ولم يكن إبراهيم من أهل تلك المدن ، بل نزح إليها من الشمال طلبا للكلأ والمرعى بحسب عادة القبائل الرحّل فى ذلك الزمن.
وكان كثير من المؤرخين يرى أن هذه قصة خرافية ، وبعضهم يقول إنها قصة واقعية كما يشهد بذلك آثار البلاد المجاورة للبحر الميت (بحيرة لوط).
وقد قام الدكتور (أو لبرابط) بمباحث واسعة فى وادي نهر الأردن وعلى سواحل البحر الميت حيث يظن أن سذوم وعمورة والثلاثة المدن الأخرى كانت فيها ، فاستبان له أن هذه القصة حقيقية بجميع تفاصيلها ، وعلم أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام انحدر حوالى القرن التاسع عشر قبل الميلاد من بلاد ما بين النهرين إلى فلسطين ومعه أهل بيته وابن أخيه لوط وأهله ومعهما أنعام كثيرة ، فحدث نزاع وشجار بين الرعاة فرأى لوط حفظا للسلام أن يفترق عن إبراهيم واختار منطقة وادي الأردن التي كانت فيها(19/96)
ج 19 ، ص : 97
سذوم وعمورة وأقام بسذوم ، واختار إبراهيم المرتفعات التي فى الشمال وضرب خيامه هنالك.
وكشف الدكتور آثارا تدل على صدق هذه القصة ، إذ وجد هناك آثار حصن قديم يعلو سطح البحر بنحو خمسمائة قدم وبجواره (المذبح) هو حجارة منصوبة على شكل أعمدة يرجح أن الوثنيين فى ذلك الزمن كانوا يقدّمون عليها قرابينهم ، ويرجح أن البحر الميت طغا على المدن الخمس التي كانت فى منطقة الأردن ا ه.
وبعض علماء الجيولجيا (طبقات الأرض) يؤكدون أن هذا البحر يغمر اليوم بلادا كانت آهلة بالسكان.
وفى التوراة : إن إبراهيم كان ذات يوم جالسا بباب خيمته فى حرّ النهار إذ أقبل إليه ثلاثة ملائكة فاستقبلهم بترحاب عظيم وصنع لهم وليمة واحتفى بهم ، وفى أثناء الطعام علم أنهم ذاهبون إلى سذوم ، وكان أهل هذه المدينة مشهورين بشرورهم وانغماسهم فى شهواتهم البهيمية ولا سيما المحرمة منها ، فلما وصلوا إلى سذوم ساروا توّا إلى منزل لوط ابن أخى إبراهيم ليبيتوا عنده ، وعلم أهل سذوم بقدومهم فأرادوا أن يرتكبوا بهم موبقا ، ولكن لوطا دافع عنهم وعرّض أن يضحى بشرف ابنتيه لينقذهم ، فأبى أهل سذوم إلا أن يرتكبوا بهم الفحشاء ، وقد تمكن الضيوف من الفرار ، وأقنعوا لوطا وأهل بيته بالفرار ، وحين أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط (صوعر) فأمطر الرب على سذوم وعمورة كبريتا ونارا من السماء وقلب تلك المدن وجميع سكانها ونظرت امرأة لوط إلى الوراء فصارت عمود ملح : (اختنقت بالغازات الكثيرة التي التهبت إما بحدوث زلزلة أو بسقوط صاعقة من الجو).
وفى التاريخ ما يدل على حدوث انقلابات هيو لوجية شبيهة بحادثة (سذوم وعمورية) فقد يثور بركان ويتدفق حممه على البلاد المجاورة فيغمرها ويهلك أهلها ، وقد تغور بلاد واسعة فيطمو عليها البحر وتزول هى وما فوقها من نبات وحيوان وإنسان ، وقد تنشقّ الأرض فتبتلع مدنا بأسرها :(19/97)
ج 19 ، ص : 98
والخلاصة - إن هذه المدن كانت قاعدة لملوك جبارين وكانت ذات رياض غناء وغياض غنيه بوفرة مائها وحيراتها وشمل أهلها الفساد ورتعوا فى شهواتهم البهيمية ولم يبق فيها برّ إلا لوط وأهله ، فانتقم اللّه منهم فأمطر عليهم نارا وكبريتا من السماء ، فألهب البراكين النارية التي فيها ، فعجلت دمارهم ، وخسفت الأرض بهم ، وظهرت البحيرة على ما يراه الآن.
قصص شعيب عليه السلام
[سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)
وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)(19/98)
ج 19 ، ص : 99
تفسير المفردات
الأيكة : غيضة كثيرة الشجر قرب مدين بعث اللّه إلى أهلها شعيبا كما بعثه إلى أهل مدين ولم يكن منهم نسبا ، من المخسرين : أي المطففين الآخذين من الناس أكثر ممّا لكم ، والقسطاس : الميزان ، والمستقيم : أي العدل ، ولا تعثوا : أي لا تفسدوا ، والجبلة : بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ، وبضمهما وتشديد اللام : الخلقة والطبيعة ، ويقال جبل فلان على كذا : أي خلق ، والمراد أنهم كانوا على خلقة عظيمة ، كسفا :
واحدها كسفة كقطعة (وزنا ومعنى) والظلة : السحابة التي استظلوا بها.
المعنى الجملي
قص اللّه تعالى علينا فى هذه الآيات قصص شعيب مع قومه أهل مدين ، وقد بعثه إليهم فنصحهم بإيفاء الكيل والميزان وألا يعثوا فى الأرض فسادا فكذبوه ، فسلط اللّه عليهم الحر الشديد فكانوا يدخلون الأسراب فيجدونها أحر من غيرها فيخرجون ، ثم أظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا جميعا.
الإيضاح
(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) سبق تفسير هذا.
وبعد أن نصحهم بتلك النصائح وعظهم بعظة أخرى ، فنهاهم عن نقيصة كانت شائعة بينهم وهى التطفيف فى الكيل والميزان فقال :
(أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) أي إذا بعتم للناس فكيلوا لهم الكيل كاملا ولا تبخسوهم حقهم فتعطوه ناقصا ، وإذا اشتريتم فخذوا كما لو كان البيع لكم.(19/99)
ج 19 ، ص : 100
وخلاصة ذلك - خذوا كما تعطون ، وأعطوا كما تأخذون.
(وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي وزنوا بالميزان السوي العدل ، وقد جاء فى سورة المطففين مثل هذا مع التحذير منه فقال : « وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ، الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا ، عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ » .
ثم عمم النهى عن البخس فى كل حق فقال :
(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي ولا تنقصوا الناس حقهم فى كيل أو وزن أو غيرهما كالمذروعات والمعدودات كأخذ بيض كبير وإعطاء بيض صغير ، وإعطاء رغيف صغير وأخذ رغيف كبير وهكذا.
ثم نهاهم عن جرم أعظم شأنا وأشد خطرا ، وهو الفساد فى الأرض بجميع ضروبه وأشكاله فقال :
(وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي ولا تكثروا فيها الفساد بالقتل والغارة وقطع الطريق والسلب والنهب ونحوها.
وبعد أن نهاهم عن ذلك خوّفهم سطوة الجبار الذي خلقهم وخلق من قبلهم ممن كانوا أشد منهم بطشا وعتوّا فقال :
(وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) أي وخافوا بأس اللّه الذي خلقكم من العدم للإصلاح فى الأرض ، وخلق من قبلكم ممن كانوا أشد منكم قوة وأكثر مالا ، كقوم هود الذين قالوا من أشد مناقوة ، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، وقد تمخض هذا النصح عن شيئين : القدح فى رسالته أولا ، واستصغار الوعيد ثانيا.
(1) (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أي ما أنت إلا ممن سحر عقله مرة بعد أخرى ، فصار كلامه جزافا لا يعبّر عن حقيقة ، ولا يصيب هدف الحق.
(وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فما وجه تفضيلك علينا وإرسالك رسولا إلينا.(19/100)
ج 19 ، ص : 101
ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم :
(وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) أي وإنا لنعتقد أنك ممن يتعمد بالكذب فيما يقول ، ولم يرسلك اللّه نبيّا إلينا.
(2) (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي فإن كنت صادقا فى دعواك الرسالة فأنزل علينا من السحاب قطعا يكون فيها العذاب لنا.
وهذا شبيه بما قالته قريش لنبيهم فيما حكى اللّه عنهم بقوله : « وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً - إلى أن قالوا - أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا » وقوله : « وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ » .
فأجابهم شعيب :
(قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم به ، فإن شاء عجل لكم العذاب ، وإن شاء أخره إلى أجل معلوم ، وما علىّ إلا البلاغ ، وأنا مأمور به ، فلم أنذركم من تلقاء نفسى ، ولا ادّعى القدرة على عذابكم.
(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي وهكذا دأبوا على التكذيب فجازاهم بجنس ما طلبوا من إسقاط الكسف من السماء ، فجعل عقوبتهم أن أصابهم حرّ عظيم أخذ بأنفاسهم ، لم ينفعهم فيه ظل ولا ماء ولا شراب ، فاضطروا أن يخرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما فاجتمعوا كلهم تحتها ، فأمطرتهم شواظا من نار فاحترقوا.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن فى ذلك الإنجاء لكل رسول ومن أطاعه ، والعذاب لكل من عصاه فى كل العصور - لدلالة واضحة على صدق الرسل ، وما كان أكثر قومك بمؤمنين ، مع أنك قد أتيتهم بما لا يكون معه شك ، لما يصحبه من الدليل والبرهان.(19/101)
ج 19 ، ص : 102
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو العزيز فى انتقامه من الكافرين الرحيم بعباده المؤمنين التائبين.
(تنبيه) جاءت هذه القصص السبع مختصرة هنا وفيها البرهان الساطع على أن القرآن جاء من عالم الغيب ، فإن النتائج التي حصل عليها الأنبياء مع أقوامهم هى مثل النتائج التي حصل عليها النبي صلى اللّه عليه وسلم ولم يكن حين نزولها ذا شوكة ولا ذا قوة وأن ما أصيب به من التكذيب والأذى وكانت عاقبته الفتح والنصر المبين - نموذج لما حدث للأنبياء السالفين قبله
[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 212]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206)
ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211)
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)(19/102)
ج 19 ، ص : 103
تفسير المفردات
الروح الأمين : هو جبريل عليه السلام ، ووصف بالأمين ، لأنه أمين وحيه تعالى وموصله إلى من شاء من عباده ، على قلبك : أي على روحك ، لأنه المدرك والمكلّف دون الجسد ، والزبر : الكتب ، واحدها زبرة كصحف وصفحة ، والآية : الدليل والبرهان ، والأعجمين : واحدهم أعجمى ، وهو من لا يقدر على التكلم بالعربية ، سلكناه : أي أدخلناه ، والمجرمين : مشركى قريش ، بغتة : فجأة ، منظرون : أي مؤخرون ، ذكرى : أي تذكرة وعبرة لغيرهم ، وما ينبغى لهم : أي ما يتيسر ولا يتسنى لهم ، وما يستطيعون : أي ما يقدرون على ذلك ، لمعزولون : أي لممنوعون بالشهب بعد أن كانوا ممكّنين.
المعنى الجملي
بعد أن اختتم سبحانه هذا القصص ، وبين ما دار بين الأنبياء وأقوامهم من الحجاج والجدل ، وذكر أنه قد أهلك المكذبين ، وكان النصر فى العاقبة لرسله المتقين فإن سنته فى كل صراع بين الحق والباطل أن تدول دولة الباطل وينتصر الحق وإن طال الزمن : « بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ » .
وفى ذلك سلوة لرسوله ، وعدة له بأنه مهما أوذى من قومه ولقى منهم من الشدائد ، فإن الفلج والفوز له : « سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا » أردف هذا بيان أن هذا القرآن الذي جاء بذلك القصص وحي من اللّه أنزله على عبده ورسوله جبريل عليه السلام بلسان عربىّ مبين ، لينذر به العصاة ويبشر به عباده المتقين ، وأن ذكره فى الكتب المتقدمة المأثورة عن الأنبياء الذين بشّروا به حتى قام آخرهم خطيبا فى ملئه يبشر به كما قال : « وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي(19/103)
ج 19 ، ص : 104
مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ »
وأن العلماء من بنى إسرائيل يجدون ذكره فى كتبهم كما قال :
« الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ » وكما أن الأعجمين إذا قرئ عليهم لم يدروا منه شيئا ولم يؤمنوا به ، كذلك هؤلاء المجرمون من قريش لا يؤمنون به كفرا وعنادا حتى يأتيهم عذاب اللّه بغتة وهم لا يشعرون ، فيتمنون إذ ذاك النّظرة ليطيعوا اللّه ويتبعوا أوامره ، وأنّى لهم ذلك ؟ وهل يجديهم التمني ساعتئذ ؟ « فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا » .
وقد جرت سنتنا ألا نهلك قوما إلا بعد أن نبعث إليهم الرسل مبشرين ومنذرين.
ثم رد على مشركى قريش الذين قالوا : إن لمحمد صلى اللّه عليه وسلم تابعا من الجن يخبره كما تخبر الكهنة - بأن الشياطين من سجاياهم الفساد ، وإضلال العباد ، والقرآن فيه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وبأنهم ممنوعون عن سماع ما تتكلم به الملائكة فى السماء ، لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا مدة إنزال القرآن على رسوله صلى اللّه عليه وسلم فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استراق السمع كما قال : « وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً ، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً » .
الإيضاح
(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) أي وإن هذا القرآن الذي تقدم ذكره فى قوله « وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ » أنزله اللّه إليك ، وجاء به جبريل عليه السلام فتلاه عليك حتى وعيته بقلبك ، لتنذر به قومك بلسان عربىّ بيّن ليكون قاطعا للعذر ، مقيما للحجة ، دليلا إلى المحجة ، هاديا إلى الرشاد ، مصلحا لأحوال العباد.(19/104)
ج 19 ، ص : 105
وفى قوله : على قلبك إيماء إلى أن ذلك المنزّل محفوظ ، وأن الرسول متمكن منه ، إلى أن القلب هو المخاطب فى الحقيقة لأنه موضع التمييز ، والعقل والاختيار وسائر الأعضاء مسخرة له ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى : « إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ »
وقوله صلى اللّه عليه وسلم : « ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهى القلب » أخرجاه فى الصحيحين
ولأن القلب إذا غشّى عليه وقطع سائر الأعضاء لم يحصل له شعور ، وإذا أفاق القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات.
وفى قوله : بلسان عربى مبين ، تقريع لمشركى قريش بأن الذي حملهم على التكذيب هو الاستكبار والعناد ، لا عدم الفهم ، لأنه نزل بلغتهم ، فلا عذر لهم فى الإعراض عنه.
(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي وإن ذكر هذا القرآن والتنويه بشأنه لفى كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به فى قديم الدهر وحديثه ، وقد أخذ عليهم الميثاق بذلك وبه بشر عيسى بقوله : « وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ » .
(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ ؟ ) أي أو ليس بكاف لهم شهادة على صدقه أن العلماء من بنى إسرائيل نصوا على أن مواضع من التوراة والإنجيل فيها ذكر الرسول صلى اللّه عليه وسلم بصفته ونعته ، وقد كان مشركو قريش يذهبون إليهم ويتعرفون منهم هذا الخبر.
ذكر الثعلبي عن ابن عباس أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقالوا : هذا أوانه وذكروا نعته.
وبعد أن أثبت بالدليلين السالفين نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ذكر أن هؤلاء المشركين لا تنفعهم الدلائل ، ولا تجديهم البراهين فقال :
(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) أي إنا أنزلنا(19/105)
ج 19 ، ص : 106
هذا القرآن على رجل عربى بلسان عربى مبين فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله وبشرت به الكتب السالفة ومع هذا لم يؤمنوا به ، بل جحدوه وسمّوه تارة شعرا وأخرى كهانة ، فلو أنا نزّلناه على بعض الأعجمين الذي لا يحسن العربية فقرأه عليهم لكفروا به أيضا ، ولتمحلوا لجحودهم عذرا وقالوا له :
لا نفقه ما يقول كما قال فى آية أخرى : « وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ » .
وفى هذا تسلية من اللّه لرسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم على ما حصل من قومه لئلا يشتد حزنه بإدبارهم عنه وإعراضهم عن الاستماع له.
والخلاصة - إنا لو نزلناه على بعض الأعجمين : « لا عليك فإنك رجل منهم ويقولون لك ما أنت إلا بشر مثلنا وهلا نزل به ملك » فقرأه ذلك الأعجم عليهم ولم يكن لهم علة يدفعون بها أنه حق وأنه منزل من عندنا ما كانوا به مصدقين ، فخفض من حرصك على إيمانهم به ، فإنهم لا يؤمنون به على كل حال.
ثم وكّد هذا الإنكار أفضل توكيد فقال :
(كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) أي كما أدخلنا التكذيب به بقراءة الأعجم ، أدخلنا التكذيب به فى قلوب المجرمين كفار قريش.
وفى ذلك إيماء إلى أن ذلك التكذيب صار متمكنا فى قلوبهم أشد التمكن وصار كالشىء الجبلىّ الذي لا يمكن تغييره.
ثم زاد ذلك توكيدا فقال :
(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي إنهم لا يتأثرون بالأمور الداعية إلى الإيمان ، بل يستمرون على ما هم عليه حتى يعاينوا العذاب ، حين لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
وإجمال ما تقدم - هكذا مكنا التكذيب وقررناه فى قلوبهم ، فكيفما فعل بهم ، وعلى أي وجه دبر أمرهم ، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من جحوده(19/106)
ج 19 ، ص : 107
وإنكاره كما قال : « وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ » .
(فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي فيأتى هؤلاء المكذبين بهذا القرآن العذاب الأليم وهم لا يشعرون قبل ذلك بمجيئه حتى يفجأهم.
ثم بين أنهم يتمنّون التأخير حينئذ ليتداركوا ما فات.
(فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) أي فيقولوا على وجه الحسرة والأسف والتمني للإمهال ليتداركوا ما فرّطوا فيه : هل تؤخر إلى حين ؟ كما يستغيث المرء حين تعذر الخلاص ، وهم يعلمون إذ ذاك أنه لا رجعة لهم ، لكنهم يذكرون ذلك استرواحا.
ولما أوعدهم النبي صلى اللّه عليه وسلم بالعذاب قالوا إلى متى توعدنا به ، ومتى هذا كما قال :
(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ ؟ ) أي كيف يستعجلون عذابنا بنحو قولهم : « فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ » وقولهم : « ائْتِنا بِما تَعِدُنا » .
وقد تبين لهم كيف أخذنا للأمم الماضية ، والقرون الخالية ، والأقوام العاتية ؟
ثم أبان أن طول العمر لا يغنى عنهم شيئا وأن العذاب آت لا محالة فقال :
(أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ. ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) أي هل الأمر كما يعتقدون من طول عيشهم فى النعيم ، فأخبرنى إن متعناهم فى الدنيا برغد العيش وصافى الحياة ، ثم جاءهم بعد تلك السنين المتطاولة ما كانوا يوعدون به من العذاب ، فهل ما كانوا فيه من النعيم يدفع عنهم شيئا منه أو يخففه عنهم ؟ .
والخلاصة - إن طول التمتع ليس بدافع شيئا من عذاب اللّه ، وكأنهم لم يمتّعوا بنعيم قط كما قال : « كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها » وقال :
« يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ » وقال « وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى » .(19/107)
ج 19 ، ص : 108
وعن ميمون بن مهران أنه لقى الحسن البصري فى الطواف بالكعبة وكان يتمنى لقاءه فقال : عظنى فلم يزد أن تلا هذه الآية فقال ميمون : لقد وعظت فأبلغت.
ثم بين سبحانه أنه لا يهلك قرية إلا بعد الإنذار وإقامة الحجة عليها فقال :
(وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ. ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا بعد إرسالنا إليهم رسلا ينذرونهم بأسنا على كفرهم ، تذكرة لهم وتنبيها إلى ما فيه النجاة من عذابنا ، وما كنا ظالمين فى إهلاكهم ، لأنهم جحدوا نعمتنا ، وعبدوا غيرنا ، بعد الإعذار إليهم ، ومتابعة الحجج ، ومواصلة الوعيد.
ونحو الآية قوله : « وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا » وقوله : « وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا » .
ولما كان المشركون يقولون : إن محمدا كاهن وما يتنزل عليه من نوع ما تتنزل به الشياطين أكذبهم سبحانه بقوله :
(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) أي وما نزلت الشياطين بالقرآن ليكون كهانة أو شعرا أو سحرا ، وما ينبغى لهم أن ينزلوا به ، وما يستطيعون ذلك وإن عالجوه بكل وسيلة ، وإنهم عن سمع الملائكة لمحجوبون بالشهب.
والخلاصة - إن الشياطين لا تنزل به لوجوه ثلاثة :
(1) إنه ليس من مبتغا هم ، إذ من سجاياهم الإضلال والإفساد ، والقرآن فيه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وهو هدى ونور وبرهان متين ، فبينه وبين مقاصد الشياطين منافاة عظيمة.
(2) إنه لو انبغى لهم ما استطاعوا حمله وتأديته كما قال : « لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ » .(19/108)
ج 19 ، ص : 109
(3) إنهم لو انبغى واستطاعوا حمله وتأديته لما وصلوا إلى ذلك ، لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 213 الى 220]
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
المعنى الجملي
بعد أن بالغ سبحانه فى تسلية رسوله صلى اللّه عليه وسلم وأقام الحجة على نبوته ، ثم أورد سؤال المنكرين وأجاب عنه - أردف ذلك أمره بعبادته وحده وإنذار العشيرة الأقربين ومعاملة المؤمنين بالرفق ، ثم ختم هذه الأوامر بالتوكل عليه تعالى وحده ، فإنه هو العليم بكل شئونه وأحواله.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضى اللّه عنه قال : لما أنزل اللّه : « وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » أنى النبي صلى اللّه عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى يا صباحاه ، فاجتمع الناس إليه ، بين رجل يجىء إليه ورجل يبعث رسوله ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يا بنى عبد المطلب ، يا بنى فهر ، يا بنى لؤى ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتمونى ؟ قالوا نعم ، قال :
فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تبّا لك سائر اليوم ، أما دعوتنا إلا لهذا ؟ » وأنزل اللّه تعالى : « تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ »
.(19/109)
ج 19 ، ص : 110
الإيضاح
أمر سبحانه نبيه بأربعة أوامر ونواه :
(1) (فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) أي أخلص العبادة للّه وحده ، ولا تشرك به سواه ، فإن من أشرك به فقد عصاه ، ومن عصاه فقد استحق عقابه.
وفى هذا حث لرسوله على ازدياد الإخلاص ، وبيان أن الإشراك قبيح بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدوره منه ، فيكون الوعيد لغيره أزجر ، وله أقبل.
وبعد أن بدأ بالرسول وتوعده إن دعا مع اللّه إلها آخر أمره بدعوة الأقرب فالأقرب ، لأنه إذا تشدد على نفسه أولا ، ثم ثنى بالأقرب فالأقرب كان قوله لسواهم أنفع ، وتأثيره أنجع فقال :
(2) (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) أي وخوّف الأقربين من عشيرتك بأس اللّه ، وشديد عقابه لمن كفر به وأشرك به سواه.
وهذه النذارة الخاصة جزء من النذارة العامة التي بعث بها صلى اللّه عليه وسلم كما قال : « لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها » وقال : « لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا » .
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبى هريرة قال : « لما نزلت هذه الآية دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قريشا وعم وخص ، فقال : « يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإنى لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ، يا معشر بنى كعب بن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار ، فإنى لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ، يا معشر بنى قصىّ أنقذوا أنفسكم من النار ، فإنى لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ، يا معشر بنى عبد مناف ، أنفذوا أنفسكم من النار ، فإنى لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ، يا معشر بنى عبد المطلب ، أنقذوا أنفسكم من النار ، فإنى لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ، يا فاطمة بنت محمد أنقذى نفسك من النار ،(19/110)
ج 19 ، ص : 111
فإنى لا أملك لك ضرا ولا نفعا ، ألا إن لكم رحما وسأبلّها ببلالها - يريد : أصلكم فى الدنيا ولا أغنى عنكم من اللّه شيئا » .
وفى الحديث والآية دليل على أن القرب فى الأنساب ، لا ينفع مع البعد فى الأسباب ، وعلى جواز صلة المؤمن والكافر وإرشاده ونصحه بدليل قوله : إن لكم رحما سأبلها ببلالها.
و
روى مسلم قوله صلى اللّه عليه وسلم : « والذي نفسى بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودىّ ولا نصرانى ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار » .
وبعد أن أمره بإنذار المشركين من قومه أمره بالرفق بالمؤمنين فقال :
(3) (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ألن جانبك ، وترفّق بمن اتبعك من المؤمنين ، فإن ذلك أجدى لك ، وأجلب لقلوبهم ، وأكسب لمحبتهم ، وأفضى إلى معونتك ، والإخلاص لك.
(فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي فإن عصاك من أنذرتهم من العشيرة فلا ضير عليك ، وقد أديت ما أمرت به ، ولا عليك إثم مما يعملون ، وقل لهم إنى برىء منكم ومن دعائكم مع اللّه إلها آخر ، وإنكم ستجزون بجرمكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم.
(4) (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) أي وفوّض جميع أمورك إلى القادر على دفع الضرّ عنك ، والانتقام من أعدائك الذين يريدون السوء بك ، الرحيم بك إذ نصرك عليهم برحمته وهو الذي يراك حين تقوم للصلاة بالناس ، ويرى تغيرك من حال كالجلوس إلى حال كالقيام فيما بين المصلين إذا كنت لهم إماما ،
وفى الخبر « اعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك » .
وعبر عن المصلين بالساجدين ، لأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد.
ثم أكد ما سلف بقوله :
(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إنه هو السميع لأقوال عباده ، العليم بحركاتهم(19/111)
ج 19 ، ص : 112
وسكناتهم ، بسرهم ونجواهم كما قال : « وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ » .
وقصارى ذلك - إنه هو القادر على نفعكم وضركم ، فهو الذي يجب أن تتوكلوا عليه ، وهو الذي يكفيكم ما أهمكم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 227]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
تفسير المفردات
أنبئكم : أي أخبركم : والأفاك : كثير الإفك والكذب ، والأثيم : كثير الذنوب والفجور ، يلقون السمع : أي يصغون أشد الإصغاء إلى الشياطين فيتلقون منهم ما يتلقون مما أكثره الكذب ، والغاوون : الضالون المائلون عن السنن القويم.
والوادي : الشّعب ، يهيمون : أي يسيرون سير البهائم حائرين لا يهتدون إلى شىء ، والمنقلب : المرجع.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه امتناع تنزل الشياطين بالقرآن ، وأثبت أنه تنزيل من رب العالمين - أعقب هذا ببيان استحالة تنزلهم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فإنها(19/112)
ج 19 ، ص : 113
لا تنزل إلا على كل كذاب فاجر ، ورسول اللّه صادق أمين. ثم ذكر أن الكذابين يلقون السمع إلى الشياطين ، فيتلقّون وحيهم وهو تخيلات لا تطابق الحق والواقع.
وبعدئذ ذكر أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم ليس بشاعر ، لأن الشعراء يهيمون فى كل واد من أودية القول من مدح وهجو وتشبيب ومجون بحسب الهوى والمنفعة ، فأقوالهم لا تترجم عن حقيقة ، وليس بينها وبين الصدق نسب ، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم لا يقول إلا الصدق ، فأنّى له أن يكون شاعرا ؟ .
الإيضاح
(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) أي هل أخبركم خبرا جليا نافعا فى الدين ، عظيم الجدوى فى الدنيا ، تعلمون به الفارق بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن - على من تنزل الشياطين حين تسترق السمع ؟ .
وهذا ردّ على من زعم من المشركين من ما جاء به الرسول ليس بحق ، وأنه شىء أتاه به رئىّ من الجن ، فنزّه اللّه رسوله عن قولهم وافترائهم ، ونبّه إلى أن ما جاء به إنما هو من عند اللّه ، وأنه تنزيله ووحيه ، نزل به ملك كريم ، وأنه ليس من قبل الشياطين.
ثم أشار إلى الجواب عن هذا السؤال بوجهين :
(1) (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) أي هى تنزل على كل كذاب فاجر من الكهنة نحو شقّ بن رهم ، وسطيح بن ربيعة.
(2) (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) أي يلقى الأفاكون سمعهم إلى الشياطين ، ويصغون إليهم أشد إصغاء ، فيتلقون منهم ما يتلقون ، وهؤلاء قلما يصدقون فى أقوالهم ، بل هم فى أكثرها كاذبون.
والخلاصة - إن هناك فارقا بين محمد صلى اللّه عليه وسلم والكهنة ، فمحمد(19/113)
ج 19 ، ص : 114
لا يكذب فيما يخبر عن ربه ، وما عرف عنه إلا الصدق ، والكهنة كذابون فيما يقولون ، وقلما عرف عنهم الصدق فى أخبارهم.
وبعد أن ذكر الفارق بين محمد صلى اللّه عليه وسلم والكهنة - أردف ذلك ذكر الفارق بينه وبين الشعراء فقال :
(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) أي إن الشعراء يتبعهم الضالون الحائدون عن السنن القويم ، المائلون إلى الفساد الذي يجر إلى الهلاك ، وأتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم ليسوا كذلك ، بل هم الساجدون الباكون الزاهدون.
وقد سبق أن قلنا : إن من الشعر ما يجوز إنشاده ، ومنه ما يكره أو يحرم روى مسلم من حديث عمرو بن الشّريد عن أبيه قال : « ردفت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوما فقال : هل معك من شعر أمية بن أبى الصلت شىء ؟ قلت نعم ، قال هيه فأنشدته بيتا ، فقال هيه ، ثم أنشدته بيتا ، فقال هيه ، حتى أنشدته مائة بيت » .
وفى هذا دليل على العناية بحفظ الأشعار إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا ، وإنما استكثر النبي صلى اللّه عليه وسلم من شعر أمية لأنه كان حكيما ، ألا ترى
قوله عليه الصلاة والسلام « كاد أمية بن أبى الصلت أن يسلم » .
ثم بين تلك الغواية بأمرين :
(1) (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) أي ألم تعلم أن الشعراء يسلكون الطرق المختلفة من الكلام ، فقد يمدحون الشيء حينا بعد أن ذموه ، أو يعظّمونه بعد أن احتقروه ، والعكس بالعكس ، وذلك دليل على أنهم لا يقصدون إظهار الحق ، ولا تحرّى الصدق ، لكنّ محمدا جبلّته الصدق ، ولا يقول إلا الحق ، وقد بقي على طريق واحد ، وهو الدعوة إلى اللّه ، والترغيب فى الآخرة ، والإعراض عن الدنيا.
(2) (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) فهم يرغّبون فى الجود ويرغبون عنه ، وينفّرون عن البخل ويضرون عليه ، ويقدحون فى الأعراض لأدنى الأسباب ،(19/114)
ج 19 ، ص : 115
ولا يأتون إلا الفواحش ، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم على خلاف ذلك. فقد بدأ بنفسه إذ قال له ربه : (فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) ثم بالأقرب فالأقرب فقال : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فليست حاله حال الشعراء.
ولما وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة استثنى منهم من اتصف بأمور أربعة (1) : الإيمان (2) والعمل الصالح (3) وكثرة قول الشعر فى توحيد اللّه والنبوة ودعوة الخلق إلى الحق (4) وألا يهجو أحدا إلا انتصارا ممن يهجوه اتباعا لقوله : « لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ » كما كان يفعل عبد اللّه بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير حين كانوا يهجون المشركين منافحة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
وقد روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لكعب بن مالك : « اهجهم ، فو الذي نفسى بيده لهو أشد عليهم من رشق النّبل »
وكان يقول لحسان بن ثابت : « قل وروح القدس معك » ،
وفى رواية « اهجهم وجبريل معك » .
وإلى هذا أشار بقوله :
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا).
وروى ابن جرير عن محمد بن إسحق « أنه لما نزلت هذه الآية جاء حسان بن ثابت وعبد اللّه بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهم يبكون ، قالوا قد علم اللّه حين أنزل هذه الآية أنّا شعراء فتلا النبي صلى اللّه عليه وسلم :
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال أنتم (وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً) قال : أنتم (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) قال : أنتم (أي بالرد على المشركين) ثم قال النبي صلى اللّه عليه وسلم :
انتصروا ولا تقولوا إلا حقا ، ولا تذكروا الآباء والأمهات » ، فقال حسان لأبى سفيان :
هجوت محمدا فأجبت عنه وعند اللّه فى ذاك الجزاء وإن أبى ووالده وعرضى لعرض محمد منكم وقاء(19/115)
ج 19 ، ص : 116
أتشتمه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء لسانى صارم لا عيب فيه وبحرى لا تكدّره الدّلاء وقال كعب : يا رسول اللّه. إن اللّه قد أنزل فى الشعر ما قد علمت ، فكيف ترى فيه ؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ، « إن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه ، والذي نفسى بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النّبل » وقال كعب :
جاءت سخينة كى تغالب ربها وليغلبنّ مغالب الغلّاب فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : لقد مدحك اللّه يا كعب فى قولك هذا :
وبعد أن ذكر سبحانه من الدلائل العقلية وأخبار الأنبياء المتقدمين ما يزيل الحزن عن قلب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم بين الدلائل على صدق نبوته ، ثم أرشد إلى الفارق بينه وبين الكهنة وبينه وبين الشعراء - ختم السورة بالتهديد العظيم ، والوعيد الشديد للكافرين فقال :
(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) أي وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم ، وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات كفرا بها وعنادا - أىّ مرجع يرجعون إلى اللّه بعد الموت ، وأىّ معاد يعودون إليه ؟ إنهم ليصيرنّ إلى نار لا يطفأ سعيرها ، ولا يسكن لهيبها.
اللهم أبعدنا عن تلك النار وأدخلنا جنتك برحمتك يا أرحم الراحمين.(19/116)
ج 19 ، ص : 117
خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة
(1) مقدمة فى تسلية الرسول صلى اللّه عليه وسلم على إعراض قومه عن الدين ، وبيان أنهم ليسوا ببدع فى الأمم ، وأنه صلى اللّه عليه وسلم ليس بأول الرسل الذين كذّبوا ، وأن اللّه قادر على إنزال القوارع التي تلجئهم إلى الإيمان ، ولكن جرت سنته أن يجعل الإيمان فى القلوب اختيار يا لا اضطراريا.
(2) الاستدلال بخلق النبات وأطواره المختلفة وأشكاله المنوّعة - على وجود الإله ووحدانيته.
(3) قصص الأنبياء مع أممهم لما فيه من العبرة لأولئك المكذبين.
(4) إثبات أن القرآن وحي من رب العالمين ، لا كلام تتنزل به الشياطين.
(5) بيان أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم ليس بكاهن ولا شاعر.
(6) التهديد والوعيد لمن يعبد مع اللّه سواه من الأصنام والأوثان ، ويكذب بالرسول والنور الذي أنزل معه.(19/117)
ج 19 ، ص : 118
سورة النمل
مكية نزلت بعد الشعراء ، وآيها ثلاث وتسعون.
ومناسبتها ما قبلها من وجوه :
(1) إنها كالتتمة لها ، إذ جاء فيها زيادة على ما تقدم من قصص الأنبياء قصص داود وسليمان.
(2) إن فيها تفصيلا وبسطا لبعض القصص السالفة كقصص لوط وموسى عليهما السلام.
(3) إن كلتيهما قد اشتمل على نعت القرآن وأنه منزل من عند اللّه.
(4) تسلية رسوله صلى اللّه عليه وسلم على ما يلقاه من أذى قومه وعنتهم ، وإصرارهم على الكفر به ، والإعراض عنه.
[سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
الإيضاح
(طس) تقدم القول فى المراد من فواتح السور ، وأن الأصح أنها حروف مقطعة جاءت للتنبيه نحو ألا ويا التي للنداء ، وينطق بأسمائها فيقال : (طا - سين).
(تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) أي إن هذه الآيات التي أنزلتها إليك أيها الرسول لآيات القرآن ، وآيات كتاب بيّن لمن تدبره وفكر فيه أنه من عند اللّه(19/118)
ج 19 ، ص : 119
أنزله إليك ، لم تتقوّله أنت ولا أحد من خلقه ، إذ لا يستطيع ذلك مخلوق ولو تظاهر معه الجن والإنس.
والمراد بالكتاب المبين : القرآن ، وعطفه عليه كعطف إحدى الصفتين على الأخرى كما يقال هذا فعل السخي والجواد الكريم.
(هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي هى تزيد المؤمنين هدى على هداهم كما قال :
«
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ » وهى تبشرهم برحمة من اللّه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم.
ولما كان وصف الإيمان خفيا ذكر ما يلزمه من الأمور الظاهرة فقال :
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي إن المؤمنين حق الإيمان هم الذين يعملون الصالحات ، فيقيمون الصلاة المفروضة على أكمل وجوهها ، ويؤدون الزكاة التي تطهّر أموالهم وأنفسهم من الأرجاس ، ويوقنون بالمعاد إلى ربهم ، وأن هناك يوما يحاسبون فيه على أعمالهم خيرها وشرّها ، فيذلّون أنفسهم فى طاعته ، رجاء ثوابه وخوف عقابه.
وليسوا كأولئك المكذبين به الذين لا يبالون. أحسنوا أم أساءوا ، أطاعوا أم عصوا ، لأنهم إن أحسنوا لا يرجون ثوابا ، وإن أساءوا لم يخافوا عقابا.
[سورة النمل (27) : الآيات 4 الى 5]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
تفسير المفردات
يعمهون : أي يتحيرون ويترددون فى أودية الضلال ، الأخسرون : أي أشد الناس خسرانا ، لحرمانهم الثواب ، واستمرارهم فى العذاب.(19/119)
ج 19 ، ص : 120
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن المؤمنين يزيدهم القرآن هدى وبشرى ، إذ هم به يستمسكون ويؤدون ما شرع من الأحكام على أتم الوجوه - أردف هذا ببيان أن من لا يؤمن بالآخرة يركب رأسه ، ويتمادى فى غيه ، ويعرض عن القرآن أشد الإعراض ، ومن ثم تراه حائرا مترددا فى ضلاله ، فهو فى عذاب شديد فى دنياه لتبلبله ، وقلقه واضطراب نفسه ، وفى الآخرة له أشد الخسران ، لما يلحقه من النكال والوبال والحرمان من الثواب والنعيم الذي يتمتع به المؤمنون.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) أي إن الذين لا يصدقون بالآخرة وقيام الساعة والمعاد إلى اللّه بعد الموت ، وبالثواب والعقاب - حبّبنا إليهم قبيح أعمالهم ، ومددنا لهم فى غيهم ، فهم فى ضلالهم حيارى تائهون ، يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، لا يفكرون فى عقبى أمرهم ، ولا ينظرون إلى ما يئول إليه سلوكهم.
قال الزجاج : أي جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه بأن جعلناه مشتهى بالطبع ، محبوبا إلى النفس.
(أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) فى الدنيا بقتلهم وأسرهم حين قتال المؤمنين كما حدث يوم بدر.
(وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي وهم فى الآخرة أعظم خسرانا مما هم فيه فى الدنيا ، لأن عذابهم فيها مستمر لا ينقطع ، وعذابهم فى الدنيا ليس بدائم بل هو زائل لا بقاء له.(19/120)
ج 19 ، ص : 121
قصص موسى عليه السلام
[سورة النمل (27) : الآيات 6 الى 14]
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
تفسير المفردات
لتلقى : أي لتلقّن وتعطى ، آنست : أي أبصرت إبصارا حصل لى به أنس ، بخبر : أي عن الطريق وحاله ، بشهاب : أي بشعلة نار ، قبس : أي قطعة من النار مقبوسة ومأخوذة من أصلها ، تصطلون : أي تستدفئون بها ، قال الشاعر :
النار فاكهة الشتاء فمن يرد أكل الفواكه شاتيا فليصطل
جان : أي حية صغيرة سريعة الحركة ، ولّى مدبرا : أي التفت هاربا ، ولم يعقب :
أي لم يرجع على عقبه ولم يلتفت إلى ماوراءه من قولهم : عقّب المقاتل إذا كرّ بعد الفرّ ،(19/121)
ج 19 ، ص : 122
من غير سوء : أي من غير برص ولا نحوه من الآفات ، آيات : أي معجزات دالة على صدقك ، مبصرة : أي بينة واضحة ، جحدوا بها : أي كذبوا ، واستيقنتها أنفسهم :
أي علمت علما يقينيا أنها من عند اللّه ، وعلوا : أي ترفعا واستكبارا.
المعنى الجملي
بعد أن وصف عز اسمه القرآن بأنه هدى وبشرى للمؤمنين ، وأن من أعرض عنه كان له الخسران المبين - أردفه بذكر حال المنزل عليه وهو الرسول صلى اللّه عليه وسلم مخاطبا له.
الإيضاح
(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) أي وإنك أيها الرسول لتحفظ القرآن وتعلّمه من عند حكيم بتدبير خلقه ، عليم بأخبارهم وما فيه الخير لهم ، فخبره هو الصدق ، وحكمه هو العدل كما قال : « وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا » .
ثم خوطب صلى اللّه عليه وسلم وأمر بتلاوة بعض ما تلقاه من لدنه عز اسمه تقريرا لما قبله وتحقيقا له بقوله :
(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي واذكر أيها الرسول لقومك حين قول موسى لأهله وقد ساربهم فضلّ الطريق فى ليل دامس وظلام حالك ، فرأى نارا تأجج وتضطرب ، إنى أبصرت نارا سآتيكم منها إما بخبر عن الطريق أو آتيكم بشعلة من النار تستدفئون بها ، وكان كما قال : فإنه رجع منها بخبر عظيم ، واقتبس نورا جليلا.
وقد كان هذا حين مسيره من مدين إلى مصر ولم يكن معه سوى امرأته ، وكانا يسيران ليلا فاشتبه عليهما الطريق والبرد شديد.(19/122)
ج 19 ، ص : 123
وفى مثل هذه الحال يستبشر الناس بمشاهدة النار من بعد لما يرجى فيها من زوال الحيرة وأمن الطريق ومن الانتفاع بها للاصطلاء ، ومن ثم قال لها هذه المقالة.
(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي فلما وصل إلى النار نودى بأن بورك من فى مكان النار ومن حول مكانها ، ومكانها هى البقعة المباركة المذكورة فى قوله : « نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ » ومن حولها من فى ذلك الوادي وحواليه من أرض الشام الموسومة بالبركات ومهبط الخيرات ، لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتا.
وقوله سبحان اللّه تنزيه لنفسه عما لا يليق به فى ذاته وحكمته وإيذان بأن مدبر ذلك الأمر هو رب العالمين.
أخرج عبد بن حميد وابن ماجه وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي عن أبى موسى الأشعري قال : قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : « إن اللّه لا ينام ، ولا ينبغى له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل ، حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات (أنوار) وجهه كل شىء أدركه بصره » ثم قرأ أبو عبيدة « أن بورك من فى النار ومن حولها وسبحان اللّه رب العالمين » .
وفى التوراة : جاء اللّه من سيناء ، وأشرف من ساعير ، واستعلى من جبل فاران ، فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها ، وإشرافه من ساعير بعثه المسيح منها ، واستعلاؤه من فاران بعثه محمدا صلى اللّه عليه وسلم (وفاران مكة).
ولما تشوقت النفس إلى تحقيق ما يراد بالتصريح قال تعالى تمهيدا لما أراد إظهاره على يد موسى من المعجزات الباهرة :
(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي يا موسى إن الذي يخاطبك ويناجيك هو ربك الذي عزّ كل شىء وقهره ، وهو الحكيم فى أقواله وأفعاله.(19/123)
ج 19 ، ص : 124
ثم أرى موسى آية تدل على قدرته ، ليعلم ذلك علم شهود فقال :
(وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي وألق عصاك ، فلما ألقاها انقلبت حية سريعة الحركة ، فلما رآها كذلك ولّى هاربا خوفا منها ولم يلتفت وراءه من شدة فرقه.
وحينئذ تاقت النفس إلى معرفة ما قيل إذ ذاك فقال :
(يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) أي لا تخف مما ترى ، فإنى لا يخاف عندى رسلى وأنبيائى الذين اختصهم وأصطفيهم بالنبوة.
(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لكن من ظلم من سائر العباد ، فإنه يخاف إلا إذا تاب ، فبدل بتوبته حسنا بعد سوء ، فإنى أغفر له وأمحو ذنوبه وجميع آثارها كما فعل السحرة الذين آمنوا بموسى ، وفى هذا بشارة عظيمة لسائر البشر ، فإن من عمل ذنبا ثم أقلع عنه وتاب وأناب ، فإن اللّه يتوب عليه كما قال :
« وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى » وقال : « وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً »
.
ثم أراه جلت قدرته آية أخرى ذكرها بقوله :
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي وأدخل يدك فى جيب « مدخل الرأس منه المفتوح إلى الصدر » فميصك تخرج بيضاء بياضا عظيما ، ولها شعاع كشعاع الشمس بلا آفة بها من برص أو غيره.
والآية الأولى كانت بتغيير ما فى يده وقلبها من جماد إلى حيوان ، والثانية بتغيير يده نفسها وقلب أوصافها إلى أوصاف أخرى نورانية.
(فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) أي هاتان آيتان من تسع آيات أؤيدك بهن ، وأجعلهن برهانا لك إلى فرعون وقومه كما قال : « وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ » .
ثم علل إرساله إليهم بالخوارق بقوله :(19/124)
ج 19 ، ص : 125
(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي لأنهم قوم خرجوا عما تقتضيه الفطرة ويوجبه العقل بادعاء فرعون الألوهية وتصديقهم له فى ذلك.
وبعدئذ ذكر ما حدث لهم حين أتاهم بالبراهين من ربه فقال :
(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي فلما جاءت فرعون وقومه أدلتنا الواضحة المنيرة الدالة على صدق الداعي - أنكروها وقالوا هذا سحر بين لائح يدل على مهارة فاعله وحذق صانعه.
ثم بين أن هذا التكذيب إنما كان باللسان فحسب لا بالقلب فقال :
(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) أي وكذبوا بها بألسنتهم وأنكروا دلالتها على صدقه وأنه رسول من ربه ، لكنهم علموا فى قرارة نفوسهم أنها حق من عنده ، فخالفت ألسنتهم قلوبهم ، ظلما للآيات ، إذ حطوها عن مرتبتها العالية وسمّوها سحرا ، ترفعا عن الإيمان بها كما قال فى آية أخرى : « فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ » .
والخلاصة - إنهم تكبروا عن أن يؤمنوا بها وهم يعلمون أنها من عند اللّه.
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي فانظر أيها الرسول ما آل إليه أمر فرعون وقومه من الإغراق على الوجه الذي فيه العبرة للظالمين ، ومن إخراجهم من الجنات والعيون والزروع والمقام الكريم.
وفى هذا تحذير للمكذبين بمحمد صلى اللّه عليه وسلم الجاحدين لما جاء به من عند ربه ، أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك ، لعلهم يقلعون عن عنادهم واستكبارهم حتى لا تنزل بهم القوارع ويأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون.
قصص داود وسليمان عليهما السلام
[سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)(19/125)
ج 19 ، ص : 126
تفسير المفردات
ورث سليمان داود : أي قام مقامه فى النبوة والملك ، منطق الطير : أي فهم ما يريده كل طائر إذا صوّت ، حشر : أي جمع ، يوزعون : أي يحبس أولهم ليلحق آخرهم فيكونون مجتمعين لا يتخلف منهم أحد ، وادي النمل : واد بأرض الشام لا يحطمنكم :
أي لا يكسرنكم ويهشمنكم ، أوزعنى : أي يسر لى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص موسى صلى اللّه عليه وسلم تقريرا لما قبله ببيان أنه تلقاه من لدن حكيم عليم - أردفه قصص داود وسليمان ، وذكر أنه آتى كلا منهما طائفة من علوم الدين والدنيا ، فعلّم داود صنعة الدروع ولبوس الحرب ، وعلّم سليمان منطق الطير ، ثم بين أن سليمان طلب من ربه أن يوفقه إلى شكر نعمه عليه وعلى والديه ، وأن يمكنه من العمل الصالح وأن يدخله جنات النعيم.(19/126)
ج 19 ، ص : 127
الإيضاح
(وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً ، وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولقد أعطينا داود وسليمان ابنه عليهما السلام طائفة عظيمة من العلم ، فعلمنا داود صنعة الدروع ولبوس الحرب ، وعلمنا سليمان منطق الطير والدواب وتسبيح الجبال ونحو ذلك مما لم نؤته أحدا ممن قبلهما ، فشكر اللّه على ما أولاهما من مننه ، وقالا الحمد للّه الذي فضلنا بما آتانا من النبوة والكتاب وتسخير الشياطين والجن ، على كثير من المؤمنين من عباده الذين لم يؤتهم مثل ما آتانا.
وفى الآية إيماء إلى فضل العلم وشرف أهله من حيث شكرا عليه وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا شيئا دونه مما أوتياه من الملك العظيم : « يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ » وفيها تحريض للعلماء على أن يحمدوا اللّه على ما آتاهم من فضله ، وأن يتواضعوا ويعتقدوا أن عباد اللّه من يفضلهم فيه.
(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي قام مقامه فى النبوة والملك بعد موته ، وسخّرت له الريح والشياطين.
قال قتادة فى الآية : ورث نبوته وملكه وعلمه ، وأعطى ما أعطى داود ، وزيد له تسخير الريح والشياطين ، وكان أعظم ملكا منه وأقضى منه ، وكان داود أشد تعبدا من سليمان ، شاكرا لنعم اللّه تعالى ا ه.
ثم ذكر بعض نعم اللّه عليه :
(وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أي وقال متحدثا بنعمة ربه ، ومنبها إلى ما شرّفه به ، ليكون أجدر بالقول : يا أيها الناس إن ربى يسرّ لى فهم ما يريده الطائر إذا صوّت ، فأعطانى قوة أستطيع بها أن أتبين مقاصده التي يومئ إليها فضلا منه ونعمة.
وقد اجتهد كثير من الباحثين فى العصر الحاضر فعرفوا كثيرا من لغات الطيور(19/127)
ج 19 ، ص : 128
أي تنوع أصواتها لأداء أغراضها المختلفة من حزن وفرح وحاجة إلى طعام وشراب واستغاثة من عدوّ ، إلى نحو ذلك من الأغراض القليلة التي جعلها اللّه للطير.
وفى هذا معجزة لكتابه الكريم لقوله فى آخر السورة : « وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها » .
وإنك لتعجب إذ ترى اليوم أن كثيرا من الأمم تبحث فى لغات الطيور والحيوان والحشرات كالنمل والنحل ، وتبحث فى تنوع أصواتها لتنوع أغراضها ، فكأنه تعالى يقول : إنكم لا تعرفون لغات الطيور الآن وعلّمتها سليمان ، وسيأتى يوم ينتشر فيه علم أحوال مخلوقاتى ، ويطلع الناس على عجائب صنعى فيها.
(وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ) مما نحتاج إليه فى تدبير الملك ، ويعيننا فى ديننا ودنيانا.
وهذا أسلوب يراد به الكثرة من أي شىء ، كما يقال فلان يقصده كل أحد ، ويعلم كل شىء ، وسيأتى فى مقال الهدهد عن بلقيس. « وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ » .
(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي إن هذا الذي أوتيناه من الخيرات لهو الفضل المبين الذي لا يخفى على أحد.
ثم ذكر بعض ما أوتيه سليمان بقوله :
(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي وجمع له عساكره من مختلف النواحي ليحارب بهم من لم يدخل فى طاعته فهو يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ، وقال ابن عباس لكل صنف وزعة ترد أولاها على أخراها ، لئلا تتقدمها فى السير كما يصنع الملوك. وقال الحسن : لا بد للناس من وازع : أي سلطان يكفلهم. وقال عثمان بن عفان : ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن.
(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ : يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي حتى إذا أشرفوا على وادي النمل صاحت نملة بما فهم منه سليمان أنها تأمرهم بأن يدخلوا مساكنهم خوفا من تحطيم سليمن وجنوده لهم وهم لا يشعرون بذلك.(19/128)
ج 19 ، ص : 129
(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) أي فضحك متعجبا من حذرها وتحذيرها والهداية التي غرسها اللّه فيها ، مسرورا بما خصه اللّه من فهم مقاصدها ، وقال رب ألهمنى أن أشكر نعمتك التي أنعمت بها علىّ وعلى والدىّ ، وأن أعمل عملا تحبه وترضاه ، وتوفنى مسلما وألحقنى بالصالحين من عبادك.
وخلاصة ذلك - كأنه قال : العلم غاية مطلبى وقد حصلت عليه ، ولم يبق بعد ذلك إلا أن أطلب التوفيق للشكر عليه بالعمل الصالح الذي ترضاه ، وأن أدخل فى عداد الصالحين من آبائي الأنبياء وغيرهم.
تذكرة وعبرة بالآية
قد دلّ بحث الباحثين فى معيشة النمل على مالها من عجائب فى معيشتها وتدبير شئونها ، فإنها لتتخذ القرى فى باطن الأرض ، وتبنى بيوتها أروقة ودهاليز وغرفات ذوات طبقات ، وتملؤها حبوبا وقوتا للشتاء ، وتخفى ذلك فى بيوت من مساكنها منعطفات إلى فوق ، حذرا من ماء المطر.
وفى هذه الآية تنبيه إلى هذا لإيقاظ العقول إلى ما أعطيته من الدقة وحسن النظم والسياسة ، فإن نداءها لمن تحت أمرها وجمعها لهم ليشير إلى كيفية سياستها ، وحكمتها وتذبيرها لأمورها ، وأنها تفعل ما يفعل الملوك ، وتدبّر وتسوس كما يسوس الحكام.
ولم يذكره الكتاب الكريم إلا ليكون أمثالا تضرب للعقلاء ، فيفهموا حال هذه الكائنات ، وكيف أن النمل أجمعت أمرها على الفرار خوفا من الهلاك كما تجتمع على طلب المنافع ، وإن أمة لا تصل فى تدبيرها إلى مثل ما يفعل هذا الحيوان الأعجم تكون أمة حمقاء تائهة فى أودية الضلال ، وهى أدنى حالا من الحشرات والديدان :
« وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » .(19/129)
ج 19 ، ص : 130
[سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 26]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
تفسير المفردات
التفقد : طلب ما فقد ، بسلطان مبين ، أي بحجة واضحة ، والإحاطة بالشيء علما علمه من جميع جهاته ، وسبأ : هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان أبو قبيلة باليمن ، ونبأ : أي خبر عظيم ، والعرش : سرير الملك ، عن السبيل : عن سبيل الحق والصواب والخبء : هو المخبوء من كل شىء كالمطر وغيره من شئون الغيب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فى سابق الآيات أنه سخر لسليمان الجن والإنس والطير وجعلهم جنودا له - ذكر هنا أنه احتاج إلى جندى من جنوده وهو الهدهد ، فبحث عنه فلم يجده فتوعده بالعذاب أو القتل إلا إذا أبدى له عذرا يبرئه ، فحضر بعد قليل وقص عليه خبر مملكة باليمن من أغنى الممالك وأقواها تحكمها امرأة هى بلقيس ملكة سبأ ، ووصف له مالها من جلال الملك وأبّهته وأنها وقومها يعبدون الشمس لا خالق الشمس(19/130)
ج 19 ، ص : 131
العليم بكل شىء فى السموات والأرض ، والعليم بما نخفى وما نعلن ، والعليم بالسر والنجوى ، وهو رب العرش العظيم.
الإيضاح
(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) أي وطلب ما فقد من الطير بحسب ما تقتضيه العناية بأمر الملك من الاهتمام بالرعايا ولا سيما الجند فقال : الهدهد حاضر ومنع مانع من رؤيته كساتر ونحوه ؟ ثم لاح له أنه غائب فقال أم كان قد غاب قبل ذلك ولم أشعر به ؟ .
وخلاصة ذلك - أ غاب عنى الهدهد الآن فلم أره حين تفقده ، أم كان قد غاب من قبل ولم أشعر بغيبته.
ثم توعده بالعذاب إذا لم يجد سببا يبرر به غيبته فقال :
(لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي لأعذبنه بحبسه مع ضده فى قفص ، ومن ثم قيل : أضيق السجون معاشرة الأضداد ، أو بإبعاده من خدمتى ، أو بإلزامه بخدمة أقرانه أو نحو ذلك ، أو لأذبحنه ليعتبر به سواه أو ليأتينى بحجة تبين عذره.
والخلاصة - إنه ليعذبنه بأحد الأمرين الأولين إن لم يكن الأمر الثالث.
ثم ذكر أنه جاء بعد قليل وبين أن غيابه كان لأمر هامّ لدى سليمان.
(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) أي فغاب مدة قصيرة بعد سؤال سليمان عنه ثم جاء فسأله : ما الذي أبطأ بك عنى ؟
فقال : اطلعت على ما لم تطلع أنت ولا جنودك عليه ، على سعة علمك واتساع أطراف مملكتك.
وقد بدأ كلامه بهذا التمهيد ، لترغيبه فى الإصغاء إلى العذر ، واستمالة قلبه إلى قبوله ، ولبيان خطر ما شغله ، وأنه أمر جليل الشأن يجب أن يتدبر فيه ، ليكون فيه(19/131)
ج 19 ، ص : 132
الخير له ولمملكته ، فهو ما كان إلا لكشف مملكة سبأ ، ومعرفة أحوالها ، ومعرفة من يسوس أمورها ، ويدبر شئونها.
قال صاحب الكشاف : ألهم اللّه الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتى من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ، ابتلاء له فى علمه ، وتنبيها على أن فى أدنى خلقه وأضعفه من أحاط بما لم يحط به ، لتتحاقر إليه نفسه ، ويتصاغر إليه علمه ، ويكون لطفا له فى ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء ، وأعظم بها فتنة ا ه.
ثم فصل هذا النبأ وبينه بقوله :
(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) بين فى هذا الكلام شئونهم الدنيوية وذكر منها ثلاثة أمور :
(1) إن ملكتهم امرأة وهى بلقيس بنت شراحيل ، وكان أبوها من قبلها ملكا جليل القدر واسع الملك.
(2) إنها أوتيت من الثراء وأبهة الملك وما يلزم ذلك من عتاد الحرب والسلاح وآلات القتال ، الشيء الكثير الذي لا يوجد مثله إلا فى الممالك العظمى.
(3) إن لها سريرا عظيما تجلس عليه ، مرصّعا بالذهب وأنواع اللآلئ والجواهر فى قصر كبير رفيع الشأن ، وفى هذا أكبر الأدلة على عظمة الملك وسعة رقعته ورفعة شأنه بين الممالك.
وبعد أن بين شئونهم الدنيوية ذكر معتقداتهم الدينية فقال :
(وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) أي وجدتها وقومها فى ضلال مبين ، فهم يعبدون الشمس لا ربّ الشمس وخالق الكون المحيط بكل شىء علما ، وزين لهم الشيطان قبيح أعمالهم ، فظنوا حسنا ما ليس بالحسن ، وصدهم عن الطريق القويم الذي بعث به الأنبياء والرسل وهو إخلاص السجود والعبادة للّه وحده.(19/132)
ج 19 ، ص : 133
(أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) أي فصدهم عن السبيل حتى لا يهتدوا ويسجدوا للّه الذي يظهر المخبوء فى السموات والأرض كالمطر والنبات والمعادن المخبوءة فى الأرض ، ويعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال كما قال : « سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ » .
ولما بين أن كل العوالم مفتقرة إليه ومحتاجة إلى تدبيره ، ذكر ما هو كالدليل على ذلك ، فأبان أن أعظمها قدرا ، وهو العرش الذي هو مركز تدبير شئون العالم هو الخالق له وهو محتاج إليه فقال :
(اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي هو اللّه الذي لا تصلح العبادة إلا له وهو رب العرش العظيم ، فكل عرش وإن عظم فهو دونه ، فأفردوه بالطاعة ولا تشركوا به شيئا.
[سورة النمل (27) : الآيات 27 الى 31]
قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
تفسير المفردات
تولّ عنهم : أي تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ، ليكون ما يقولونه بمسمع منك ، فانظر : أي تأمل وفكّر ، يرجعون : أي يرجع بعضهم إلى بعض من القول ويدور بينهم بشأنه ، والملأ : أشراف القوم وخاصة الملك ، ألا تعلوا علىّ :
أي ألا تتكبروا ولا تنقادوا للنفس والهوى ، مسلمين : أي منقادين خاضعين.(19/133)
ج 19 ، ص : 134
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن الهدهد أبدى المعاذير لتبرئة نفسه - أردف ذلك إجابة سليمن عن مقالة الهدهد ، ثم أمره بتبليغ كتاب منه إلى ملكة سبأ ، والتنحي جانبا ليستمع ما يدور من الحديث بينها وبين خاصتها بشأنه.
الإيضاح
(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ ؟ ) أي قال سنختبر مقالك ، ونتعرف حقيقته بالامتحان ، أصادق أنت فيما تقول ، أم كاذب فيه لتتخلص من الوعيد ؟
وفى التعبير بقوله : كنت من الكاذبين ، دون أن يقول أم كذبت ، إيذان بأن تلفيق الأقوال المنمّقة ، واختيار الأسلوب الذي يستهوى السامع إلى قبولها من غير أن يكون لها حقيقة تعبر عنها - لا يصدر إلا ممّن مرن على الكذب وصار سجيّة له حتى لا يجد وسيلة للبعد عنه ، وهذا يفيد أنه كاذب على أتم وجه ، ومن كان كذلك لا يوثق به.
ثم شرع يفعل ما يختبره به فكتب له كتابا موجزا وأمره بتبليغه إلى ملكة سبأ فقال :
(اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) أي اذهب بهذا الكتاب فألقه إليهم ، ثم تنح عنهم وكن قريبا منهم ، واستمع مراجعة الملكة أهل مملكتها ، وما بعد ذلك من مراجعة بعضهم بعضا ونقاشهم فيه.
ثم فصل ما دار بينهم بشأنه فقال :
(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) أي وبعد أن ذهب الهدهد بالكتاب ألقاه إلى الملكة ففضّت خاتمه وقرأته ، وجمعت أشراف قومها ومستشاريها(19/134)
ج 19 ، ص : 135
وقالت تلك المقالة للمشورة ، وطلبت أخذ الرأى فى ذلك الخطب الذي نزل بها كما هو دأب الدول الديمقراطية.
وفى الآية إيماء إلى أمور :
(1) سرعة الهدهد فى إيصال الكتاب إليهم.
(2) إنه أوتى قوة المعرفة فاستطاع أن يفهم بالسمع كلامهم.
(3) إنها ترجمت ذلك الكتاب فورا بواسطة تراجمتها.
(4) إن من آداب رسل الملوك أن يتنحّوا قليلا عن المرسل إليهم بعد أداء الرسالة ، ليتشاور المرسل إليهم فيها.
ثم بينت مصدر الكتاب وما فيه لخاصتها وذوى الرأى فى مملكتها فقالت.
(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) ونص هذا الكتاب على وجازته يدل على أمور :
(1) إنه مشتمل على إثبات الإله ووحدانيته وقدرته وكونه رحمانا رحيما.
(2) نهيهم عن اتباع أهوائهم ، ووجوب اتباعهم للحق.
(3) أمرهم بالمجيء إليه منقادين خاضعين.
وبهذا يكون الكتاب قد جمع كل ما لا بد منه فى الدين والدنيا.
[سورة النمل (27) : الآيات 32 الى 35]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)(19/135)
ج 19 ، ص : 136
تفسير المفردات
أفتونى : أي أشيروا علىّ بما عندكم من الرأى والتدبير فيما حدث ، قاطعة أمرا :
أىّ باتّة فيه منفذته ، تشهدون : أي تحضروني ، والمراد بالقوة : القوة الحسية وكثرة الآلات ، والمراد بالبأس : النجدة والثبات فى الحرب.
المعنى الجملي
ذكر فيما سلف أن الهدهد حيما ألقى الكتاب أحضرت بطانتها وأولى الرأى لديها وقرأت عليهم نصّ الكتاب ، وهنا بين أنها طلبت إليهم إبداء آرائهم فيما عرض عليهم من هذا الخطب المدلهمّ والحادث الجلل حتى ينجلى لهم صواب الرأى فيما تعمل ويعملون ، لأنها لا نريد أن تستبدّ بالأمر وحدها ، فقلّبوا وجوه الرأى واشتد الحوار بينهم وكانت خاتمة المطاف أن قالوا : الرأى لدينا القتال ، فإنا قوم أولو بأس ونجدة ، والأمر مفوّض إليك فافعلى ما بدا لك ، وإن قالت : إنى أرى أن عاقبة الحرب والدمار والخراب وصيرورة العزيز ذليلا ، وإنى أرى أن نهادنه ونرسل إليه بهدية ثم ننظر ماذا يكون رده ، علّه يقبل ذلك منا ، ويكفّ عنا ، أو يضرب علينا خراجا نحمله إليه كل عام ونلتزم ذلك له ، وبذا يترك قتالنا وحربنا :
الإيضاح
(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) أي قالت بلقيس لأشراف قومها : أيها الملأ أشيروا علىّ فى أمر هذا الكتاب الذي ألقى إلىّ فإنى لا أقضى فيه برأى حتى تشهدونى فأشاوركم فيه.
وفى قولها هذا دلالة على إجلالهم وتكريمهم ليمحضوها النصح ، ويشيروا عليها بالصواب ، ولتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم ، وحزمهم فيما يقيم أمرهم ، وإمضاءهم على الطاعة لها ، علما منها أنهم إن لم يبذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم دونها لم يكن(19/136)
ج 19 ، ص : 137
لها طاقة بمقاومة عدوها ، وإن لم يجتمع أمرهم وحزمهم وجدهم كان ذلك عونا لعدوهم عليهم ، وإن لم تختبر ما عندهم وتعلم قدر عزمهم لم تكن على بصيرة من أمرهم ، وربما كان فى استبدادها برأيها وهن فى طاعتها ، وتعمية فى تقدير أمرهم ، وكان فى مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريد من قوة شوكتهم وشدة مدافعتهم ، ألا ترى إلى قولهم فى جوابهم : (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) على مالها من عقل راجح وأدب جمّ فى التخاطب.
وعلى هذا النهج سار الإسلام ، فقد قال سبحانه لنبيه « وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ » وقد مدح سبحانه صحابة رسوله بقوله : « وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ » .
فأجابوا عن مقالها :
(قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ ، وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) أي قال الملأ من قومها حين شاورتهم فى أمرها وأمر سليمان : نحن ذوو بأس ونجدة فى القتال ، إلى ما لنا من وافر العدّة وعظيم العتاد وكثير الكراع والسلاح ، وإن أمر القتال والسلم مفوّض إليك ، فانظرى وقلّبى الرأى على وجوهه ، ثم مرينا نأتمر بذلك.
ولما أحست منهم الميل إلى القتال شرعت تبين لهم وجه الصواب ، وأنهم فى غفلة عن قدرة سليمان وعظيم شأنه ، إذ من سخر له الطير على الوجه الذي يريده ليس من السهل مجالدته والتغلب عليه.
(قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) أي قالت لهم حين عرضوا عليها أنفسهم لقتال سليمان : إن الملوك إذا دخلوا قرية فاتحين أفسدوها بتخريب عمائرها وإتلاف أموالها ، وأذلوا أهلها بالأسر والإجلاء عن موطنهم أو قتلوهم تقتيلا ، ليتم هلم الملك والغلبة ، وتتقرر لهم فى النفوس المهابة ، وهكذا يفعلون معنا.
وفى هذا تحذير شديد لقومها من مسير سليمان إليهم ، ودخوله بلادهم.(19/137)
ج 19 ، ص : 138
وبعد أن أبانت ما فى الحرب والمجالدة من الخطر أتبعته بما عزمت عليه من المسالمة بقولها :
(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ؟ ) أي وإنى سأرسل إليه هدية من نفائس الأموال لأتعرف حاله وأختبر أمره ، أنبى هو أم ملك ؟ فإن كان نبيا لم يقبلها ولم يرض منا إلا أن نتبعه على دينه ، وإن كان ملكا قبل الهدية وانصرف إلى حين ، فإن الهدايا مما تورث المودة ، وتذهب العداوة ،
وفى الحديث : « تصافحوا يذهب الغل ، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء »
ولقد أحسن من قال :
هدايا الناس بعضهم لبعض تولّد فى قلوبهم الوصالا
وتزرع فى الضمير هوى وودّا وتكسبهم إذا حضروا جمالا
[سورة النمل (27) : الآيات 36 الى 37]
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37)
تفسير المفردات
لا قبل لهم بها : أي لا طاقة لهم بمقاومتها ، صاغرون : أي مهانون محتقرون.
الإيضاح
لما وصلت الهدية مع الرسول إلى سليمان وكانت من ذهب وجواهر ولآلى وغيرها مما تقدمه الملوك العظام ، قال سليمان للرسول : أ تصانعونني بالمال لأترككم على شرككم وكفركم ؟ لن يكون ذلك أبدا ، إن الذي أعطانيه اللّه من النبوة والملك الواسع الأرجاء والمال الوفير - خير مما أنتم فيه ، فلا حاجة لى بهديتكم ، وليس رأيى فى المال كما ترون ، فأنتم تفرحون به دونى ، فارجع بما جئت به إلى من أرسلك ،(19/138)
ج 19 ، ص : 139
ولنأتينكم بجنود لا طاقة لكم بدفعها ولا الانتصار عليها ، ولنخرجنكم من أرضكم أذلة مأمورين مستعبدين ، إن لم تأتونى مستسلمين منقادين.
[سورة النمل (27) : الآيات 38 الى 40]
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
تفسير المفردات
العرش : سرير الملك ، مسلمين أي خاضعين منقادين ، العفريت من البشر :
الخبيث الماكر الذي يعفر أقرانه ، ومن الشياطين : المارد ، مقامك : أي مجلسك الذي تجلس فيه للحكم ، قوى : أي قادر على حمله لا أعجز عنه ، أمين : أي على ما فيه من لآلئ وجواهر وغيرها ، والكتاب : هو علم الوحى والشرائع ، والذي عنده علم هو سليمان عليه السلام كما اختاره الرازي وقال إنه أقرب الآراء ، يرتد : أي يرجع ، والطرف : تحريك الأجفان والمراد بذلك السرعة العظيمة ، مستقرا : أي ساكنا قارا على حاله التي كان عليها ، الفضل : التفضل والإحسان ، ليبلونى : أي ليعاملنى معاملة المختبر ، أم أكفر أي أقصر فى أداء واجب الشكر ، كفر أي لم يشكر.
المعنى الجملي
استبان مما سلف أن سليمان رفض قبول الهدايا وتهدد الرسول بأن قومه وملكتهم إن لم يأتوا إليه طائعين خاضعين فسيوجه إليهم جيشا جرارا ينكل بهم أشد التنكيل ،(19/139)
ج 19 ، ص : 140
يقتل من يقتل ويأتى بالباقين أسارى وهم صاغرون ، ويجليهم جميعا عن الديار والأوطان ، ويأخذ أموالهم غنائم له - وهنا ذكر أنهم خافوا تهديده واستجابوا لدعوته ، فتوجهت الملكة وأشراف قومها إليه ، لكن سليمان رأى حين قربت من الوصول إليه أن يحضر سرير ملكها قبل مقدمها ، ليكون فى ذلك دلالة على قدرة اللّه وإثبات نبوته وتتظاهر عليها الأدلة من كل أوب ، فسأل أعوانه : أيكم يستطيع أن يحضره قبل وصولها إلينا ، فأجابه عفريت من الجن بأن فى استطاعته أن يحضره قبل قيامه من مجلس الحكم والقضاء ، فقال هو : بل أنا آتيكم به كلمح البصر ، وقد كان كما قال : فرأى العرش حاضرا أمامه فشكر ربه على ما آتاه من النعم العظام الذي لا يستطيع إيفاء حقها من الشكر.
وعلينا أن نؤمن بما جاء فى الكتاب الكريم على أنه معجزة لسليمان ، إذ هو لا ينطبق على السنن العادية التي وضعها ربنا لخلقه ، فعلم البشر إلى الآن لم يصل إلى تحقيق ذلك عمليا مع تقدم سبل الانتقال ، فالطائرات على سرعتها التي أدهشت العقول لا تستطيع أن تسافر من جنوب اليمن إلى أطراف الشام فى مثل تلك اللحظات الوجيزة.
الإيضاح
لما رجعت الرسل إلى بلقيس وأخبرتها بما قال سليمان قالت : قد واللّه عرفت ما هذا بملك ، وما لنا به طاقة ، وما نصنع بمكاثرته شيئا ، وبعثت إليه إنى قادمة إليك بأشراف قومى ، لأنظر ما أمرك وما تدعونا إليه ، من دينك ، ثم شخصت إليه ، فجعل يبعث الجن يأتونه بأخبارها ويعلمونه غاية سيرها كل يوم حتى إذا دنت منه جمع جنده من الجن والإنس وتكلم فيهم.
(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي قال أيها الأعوان من منكم فى مكنته أن يأتينى بسرير ملكها قبل قدومها علينا ، لنطلعها(19/140)
ج 19 ، ص : 141
على بعض ما أنعم اللّه به علينا من العجائب النبوية ، والآيات الإلهية ، لتعرف صدق نبوتنا ، ولتعلم أن ملكها فى جانب عجائب اللّه وبدائع قدرته يسير ، وحينئذ تقدّم إليه بعض جنده بمقترحات.
(قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) أي قال شيطان قوى أنا أحضره إليك قبل أن تقوم من مجلس قضائك وكان إلى منتصف النهار ، ثم زاد الأمر توكيدا فقال : وإنى على الإتيان به لقادر لا أعجز عنه ، وإنى لأمين لا أمسه بسوء ، ولا أقتطع منه شيئا لنفسى - حينئذ.
(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي قال سليمان للعفريت متحدثا بنعمة اللّه وعظيم فضله عليه : أنا أفعل ما لا تستطيع أنت ، أنا أحضره فى أقصر ما يكون مدة ، أنا أحضره قبل ارتداد طرفك إليك ، وقد كان كما قال :
(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ؟ ) أي فلما رآه سليمان ساكنا ثابتا على حاله لم يتبدل منه شىء ولم يتغير وضعه الذي كان عليه قال هذا تفضل من اللّه ومنّة ليختبرنى : أ أشكر بأن أراه فضلا منه بلا قوة منى أم أجحد فلا أشكر بل أنسب العمل إلى نفسى ؟
وإن النعم الجسمية والروحية والعقلية كلها مواهب يمتحن اللّه بها عباده ، فمن ضل بها هوى ، ومن شكرها ارتقى ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :
(وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) أي ومن شكر ففائدة الشكر إليه ، لأنه يجلب دوام النعمة ، ومن جحد ولم يشكر فإن اللّه غنى عن العباد وعبادتهم ، كريم بالإنعام عليهم وإن لم يعبدوه ، كما قال : « مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها » وقال : « وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ »
وروى مسلم قوله صلى اللّه عليه وسلم حكاية عن ربه(19/141)
ج 19 ، ص : 142
« يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد دلك فى ملكى شيئا ، يا عبادى لو أن أ ولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا ، يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفّيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد اللّه ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه » .
[سورة النمل (27) : الآيات 41 الى 44]
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)
تفسير المفردات
نكروا لها عرشها : أي غيروا هيئته وشكله بحيث لا يعرف بسهولة ، مسلمين :
أي خاضعين منقادين ، صدها : أي منعها ، والصرح : القصر وكل بناء عال ، واللجة الماء الكثير ، ممرد : أي ذو سطح أملس ومنه الأمرد للشاب الذي لا شعر فى وجهه ، القوارير : الزجاج واحدها قارورة ، أسلمت : أي خضعت.
المعنى الجملي
علمنا مما سلف أن بلقيس تجهزت للسفر مقبلة إلى سليمان ، وأن الجن كانت تترسم خطاها من يوم إلى آخر حتى إذا دنت منه سأل سليمان جنده : من يستطيع(19/142)
ج 19 ، ص : 143
إحضار عرشها ؟ فقال عفريت من الجن : أنا أفعل ذلك قبل أن تقوم من مجلس القضاء ، فقال سليمان : بل أستطيع أن أحضره فى لمح البصر وكان كما قال : فلما رآه أمامه شكر ربه على جزيل نعمه.
وهنا ذكر ما فعل سليمان من تغيير معالم العرش وتبديل أوضاعه ، ثم سؤالها عنه ليختبر مقدار عقلها ، ولتعلم صدق سليمان فى دعواه النبوة ، وتتظاهر لديها الأدلة على قدرة المولى سبحانه.
وقد كان مما أعده لنزولها قصر عظيم مبنى من الزجاج الشفاف ، فرشت أرضه بالزجاج أيضا ، وفى أسفله ماء جار فيه صنوف السمك ، فلما دخلت فى بهوه خالته لجة من الماء فكشفت عن ساقيها لتخوض فيه ، فأنبأها سليمان بأن هذا زجاج يجرى تحته الماء ، حينئذ أيقنت بأن دين سليمان هو الحق وأنها قد ظلمت نفسها بكفرها باللّه ربها خالق السموات والأرض وصاحت تقول : أسلمت مع سليمان للّه رب العالمين
الإيضاح
(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) أي قال سليمان لجنده لما جاء عرش بلقيس : غيروا لها معالم السرير وبدّلوا أوضاعه ، لنختبر حالها إذا نظرت إليه ونرى : أ تهتدي إليه وتعلم أنه هو أم لا تستبين لها حقيقة حاله ؟ .
ثم أشار إلى سرعة مجيها وخضوعها بقوله :
(فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ ؟ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) أي فحين قدمت واطلعت على عرشها سئلت عنه ، أعرشك مثل هذا ؟ أجابت بما دل على رجاحة عقلها إذ قالت كأنه هو ، ولم تجزم بأنه هو ، إذ ربما كان مثله.
قال مجاهد : جعلت تعرّف وتنكر ، وتعجب من حضوره عند سليمان فقالت :(19/143)
ج 19 ، ص : 144
كأنه هو : وقال مقاتل : عرفته ولكنها شبّهت عليهم كما شبهوا عليها ، ولو قيل لها أ هذا عرشك لقالت نعم.
ولما ظنت أن سليمان أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار المعجزة لها قالت :
(وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) أي وأوتينا العلم بكمال قدرة اللّه وصدق نبوتك من قبل هذه المعجزة بما شاهدناه من أمر الهدهد ، وبما سمعناه من رسلنا إليك من الآيات الدالة على ذلك ، وكنا منقادين لك من ذلك الحين ، فلا حاجة بي إلى إظهار معجزات أخرى.
ثم ذكر سبحانه ما منعها عن إظهار ما ادعت من الإسلام إلى ذلك الحين فقال :
(وَ صَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) أي ومنعها ما كانت تعبده من دون اللّه وهو الشمس عن إظهار الإسلام والاعتراف بوحدانيته تعالى ، من قبل أنها من قوم كانوا يعبدونها ونشأت بين أظهرهم ولم تكن قادرة على إظهار إسلامها إلى أن مثلت بين يدى سليمان فاستطاعت أن تنطق بما كانت تعتقده فى قرارة نفسها ويجول فى خاطرها.
روى أن سليمان أمر قبل مقدمها ببناء قصر عظيم جعل صحنه من زجاج أبيض شفاف يجرى من تحته الماء وألقى فيه دواب البحر من سمك وغيره ، فلما قدمت إليه استقبلها فيه وجلس فى صدره ، فحين أرادت الوصول إليه حسبته ماء فكشفت عن ساقيها ، لئلا تبتل أذيالها كما هى عادة من يخوض الماء ، فقال لها سليمان : إن ما تظنينه ماء ليس بالماء ، بل هو صرح قد صنع من الزجاج فسترت ساقيها وعجبت من ذلك ، وعلمت أن هذا ملك أعزّ من ملكها ، وسلطان أعز من سلطانها ، ودعاها سليمان إلى عبادة اللّه وعليها على عبادة الشمس دون اللّه ، فأجابته إلى ما طلب وقالت : رب إنى ظلمت نفسى بالثبات على ما كنت عليه من الكفر ، وأسلمت مع سليمان للّه رب كل شىء وأخلصت له العبادة
وإلى ما تقدم أشار سبحانه بقوله :(19/144)
ج 19 ، ص : 145
ِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ ، قالَتْ : رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)
.
أخرج البخاري فى تاريخه والعقيلي عن أبى موسى الأشعري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أول من صنعت له الحمامات سليمان » .
قصص صالح
[سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 53]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49)
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53)
تفسير المفردات
فريقان : أي طائفتان طائفة مؤمنة وأخرى كافرة ، يختصمون : أي يجادل بعضهم بعضا ويحاجه ، السيئة : العقوبة التي تسوء صاحبها ، الحسنة : التوبة ، لو لا : أي هلّا ، وهى كلمة تفيد الحث على حصول ما بعدها ، اطيرنا : أي تطايرنا وتشاء منا بك ،(19/145)
ج 19 ، ص : 146
طائركم : أي ما يصيبكم من الخير والشر ، وسمى طائرا لأنه لا شىء أسرع من نزول القضاء المحتوم ، تفتنون : أي تختبرون بتعاقب السراء والضراء ، والمراد بالمدينة :
الحجر ، والرهط والنفر : من الثلاثة إلى التسعة ، تقاسموا : أي احلفوا ، والبيات :
مباغتة العدو ومفاجأته بالإيقاع به ليلا ، وليه : أي من له حق القصاص من ذوى قرابته إذا قتل ، والمهلك : الهلاك ، والمكر : التدبير الخفي لعمل الشر ، والتدمير : الإهلاك ، خاوية : أي خالية ، لآية : أي لعبرة وموعظة.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) أي ولقد بعثنا إلى ثمود أخاهم صالحا وقلنا لهم : اعبدوا اللّه وحده لا شريك له ، ولا تجعلوا معه إلها غيره.
وحين دعاهم إلى ذلك افترقوا فرقتين :
(1) فريق صدّق صالحا وآمن بما جاء به من عند ربه.
(2) فريق كذّبه وكفر بما جاء به.
وصارا يتجادلان ويتخاصمان ، وكل منهما يقول أنا على الحق وخصمى على الباطل.
ثم ذكر أن صالحا استعطف المكذّبين وكانوا أكثر عددا وأشد عتوّا وعنادا حتى قالوا : « يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ » .
(قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ؟ ) أي لم تستعجلون بالعقوبة التي يسوءكم نزولها بكم قبل حصول الخيرات التي بشّرتكم بها فى الدنيا والآخرة إن أنتم آمنتم بي.
ثم نصحهم وطلب إليهم أن يستغفروا ربهم لعلهم يرحمون فقال :(19/146)
ج 19 ، ص : 147
(لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي هلّا تتوبون إلى اللّه من كفركم ، فيغفر لكم عظيم جرمكم ويصفح عن عقوبتكم على ما أتيتم به من الخطايا ، لعلكم ترحمون بقبولها ، إذ قد جرت سنته ألا تقبل التوبة بعد نزول العقوبة.
ولما قال لهم صالح ما قال ، وأبان لهم سبيل الرشاد أجابوه بفظاظة وغلظة.
(قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) أي قالوا : إنا تشاءمنا بك وبمن آمن معك ، إذ زجرنا الطير فعلمنا أن سيصيبنا بك وبهم من المكاره ما لا قبل لنا به ، ولم تزل فى اختلاف وافتراق منذ اخترعتم دينكم وأصابنا القحط والجدب بسببكم.
وسمى التشاؤم تطيرا من قبل أنه كان من دأبهم أنهم إذا خرجوا مسافرين فمروا بطائر زجروه : أي رموه بحجر ونحوه ، فإن مرّ سانحا بأن مر من ميامن الشخص إلى مياسره تيمنوا به ، وإن مر بارحا بأن مر من المياسر إلى الميامن تشاءموا منه.
فأجابهم صالح عليه السلام :
(قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) أي قال إن ما يصيبكم من خير أو شر مكتوب عند اللّه وهو بقضائه وقدره ، وليس شىء منه بيد غيره ، فهو إن شاء رزقكم ، وإن شاء حرمكم :
وسمى ذلك القضاء طائرا لسرعة نزوله بالإنسان ، فلا شى أسرع منه نزولا.
ثم أبان لهم سبب نزول ما ينزل من الشر بقوله :
(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) أي بل أنتم قوم يختبركم ربكم حين أرسلنى إليكم أ تطيعونه فتعملوا بما أمركم به فيجزيكم الجزيل من ثوابه ، أم تعصونه فتعملوا بخلافه فيحل بكم عقابه ؟
ثم ذكر أن قريته كانت كثيرة الفساد فقال :
(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) أي وكان فى مدينة صالح وهى الحجر تسعة أنفس يعيثون فى الأرض فسادا لا يعملون فيها صالحا.
ثم بين بعض ما عملوا من الفساد :(19/147)
ج 19 ، ص : 148
(قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي قال بعضهم لبعض فى أثناء المشاورة فى أمر صالح عليه السلام بعد أن عقروا الناقة وتوعّدهم بقوله : « تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ » احلفوا لنباغتّنه وأهله بالهلاك ليلا ثم لنقولن لأولياء الدم ، ما حضرنا هلاكهم ، ولا ندرى من قتله ولا قتل أهله. ونحلف إنا لصادقون فى قولنا.
وإذا كانوا لم يشهدوا هلاكهم فهم لم يقتلوهم بالأولى ، وأيضا فهم إذا لم يقتلوا الأتباع فأحربهم ألا يقتلوا صالحا.
قال الزجاج : كان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيّتوا صالحا وأهله ثم ينكروا عند أوليائه أنهم ما فعلوا ذلك ولا رأوه ، وكان هذا مكرا منهم ، ومن ثم قال سبحانه محذّرا لهم ولأمثالهم.
(وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وغدر هؤلاء التسعة الرهط الذين يفسدون فى الأرض بصالح ، إذ صاروا إليه ليلا ليقتلوه وأهله وهو لا يشعر بذلك ، فأخذناهم بعقوبتنا ، وعجلنا لهم العذاب من حيث لا يشعرون بمكر اللّه بهم.
ثم بين ما ترتب على ما باشروه من المكر بقوله :
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) أي ففكر كيف آل أمرهم ، وكيف كانت عاقبة مكرهم ، فقد أهلكناهم وقومهم الذين لم يؤمنوا على وجه يقتضى النظر ، ويسترعى الاعتبار ، ويكون عظة لمن غدر كغدرهم فى جميع الأزمان.
روى أنه كان لصالح فى الحجر مسجد فى شعب يصلى فيه ، فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث ، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث ، فذهبوا إلى الشعب ليقتلوه ، فوقعت عليهم صخرة من جبالهم طبّقت عليهم الشعب فهلكهوا وهلك الباقون فى أماكنهم بالصيحة ، ونجّى اللّه صالحا ومن آمن معه.
ثم أكد ما تقدم وقرره بقوله :(19/148)
ج 19 ، ص : 149
(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) أي فتلك مساكنهم أصبحت خالية منهم ، إذ قد أهلكهم اللّه بظلمهم أنفسهم بشركهم به وتكذيبهم برسوله.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي إن فى فعلنا بثمود ما قصصناه عليك لعظة لمن كان من أولى المعرفة والعلم ، فيعلم ارتباط الأسباب بمسبباتها ، والنتائج بمقدماتها ، بحسب السنن التي وضعت فى الكون.
وبعد أن ذكر من هلكوا أردفهم بمن أنجاهم فقال :
(وَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي وأنجينا من نقمتنا وعذابنا الذي أحللناه بثمود - رسولنا صالحا ومن آمن به ، لأنهم كانوا يتقون سخط اللّه ويخافون شديد عقابه ، بتصديقهم رسوله الذي أرسله إليهم.
وفى هذا إيماء إلى أن اللّه ينجى محمدا وأتباعه عند حلول العذاب بمشركى قريش حين يخرج من بين ظهرانيهم كما أحلّ بقوم صالح ما أحل حين خرج هو والمؤمنون إلى أطراف الشام ونزل رملة وفلسطين.
قصص لوط
[سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 55]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
الإيضاح
(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ؟ ) أي واذكر لقومك حديث لوط لقومه إذ قال لهم منذرا ومحذّرا : إنكم لتفعلون فاحشة لم يسبقكم بها أحد من بنى آدم ، مع علمكم بقبحها لدى العقول والشرائع (واقتراف القبيح ممن يعلم قبحه أشنع).(19/149)
ج 19 ، ص : 150
ثم بين ما يأتون من الفاحشة بطريق التصريح بعد الإبهام ليكون أوقع فى النفس فقال :
(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ ؟ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أي أ ينبغى أن تأتوا الرجال وتقودكم الشهوة إلى ذلك وتذروا النساء اللاتي فيهن محاسن الجمال ، وفيهن مباهج الرجال ، إنكم لقوم جاهلون سفهاء حمقى ما جنون.
ونحو الآية قوله : « أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ » .
وقد أشار سبحانه إلى قبيح فعلهم وعظيم شناعته من وجوه :
(1) قوله : (الرِّجالَ) وفيه الإشارة إلى أن الحيوان الأعجم لا يرضى بمثل هذا.
(2) قوله : (مِنْ دُونِ النِّساءِ) وفى ذلك إيماء إلى أن تركهن واستبدال الرجال بهن خطأ شنيع وفعل قبيح.
(3) قوله : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) وفى هذا إيماء إلى أنهم يفعلون فعل الجهلا الذين لا عقول لهم ، ولا يدرون عظيم قبح ما يفعلون.
هذا آخر ما سطرناه تفسيرا لهذا الجزء من كلام ربنا العليم القدير ، فله الحمد والمنة.
وكان ذلك بمدينة حلوان من أرباض القاهرة فى الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول من سنة أربع وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية ، والحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(19/150)
ج 19 ، ص : 151
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 3 ما شرطه المشركون للتصديق بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم 5 ما تقوله الملائكة للمشركين يوم القيامة 8 ندمهم فى الآخرة على ما فعلوا فى الدنيا 9 مثل الجليس الصالح وجليس السوء 10 شكاية الرسول إلى ربه بأن قومه هجروا كتابه 10 كان لكل نبى أعداء من شياطين الإنس والجن 12 فوائد إنزال القرآن منجّما 13 وعد اللّه رسوله بتأييده بإزالة ما يقولون من الشبه 14 قصص بعض الأنبياء مع أممهم 17 قصص عاد وثمود وأصحاب الرس وغيرهم 19 استهزاء المشركين بالرسول صلى اللّه عليه وسلم وقولهم « أ هذا الذي بعث اللّه رسولا 19 احتفال النبي صلى اللّه عليه وسلم بالدعوة والإلحاف فى البلاغ 20 تسفيه آراء المشركين من وجوه ثلاثة :
23 الأدلة على التوحيد 25 بعثة الرسول صلى اللّه عليه وسلم إلى الناس كافة كما جاء فى الحديث : بعثت إلى الأحمر والأسود 27 النهى على المشركين فى عبادة الأصنام 27 المشركون يظاهرون أولياء الشيطان ويعادون أولياء الرحمن(19/151)
ج 19 ، ص : 152
27 أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالتوكل على اللّه وحده ألا يرهب الوعيد ولا التهديد 31 خلق السموات والأرض فى ستة أيام 33 جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكر 34 أوصاف خلّص عباده المؤمنين 36 صفة مشى النبي صلى اللّه عليه وسلم 37 سؤالهم صرف العذاب عنهم 38 كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم 39 سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أىّ الذنب أكبر ؟
40 ترغيب الأبرار فى التوبة 41 كان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة 41 « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث » 42 إحسان اللّه إلى عباده المتقين 42 لو لا عبادتكم ربكم لم يعبأ بكم 45 الحروف المقطعة فى أوائل السور 46 جرت سنة اللّه أن يكون الإيمان طوعا لا كرها 46 إعراض المشركين عن النظر فى الآيات 48 بشارة النبي صلى اللّه عليه وسلم بتأييده ونصره 48 قصص موسى عليه السلام 49 تسلية الرسول صلى اللّه عليه وسلم بأن قومه ليسوا ببدع فى الأمم 50 الأسباب التي جعلت موسى يطلب معونة هارون 51 تقريع فرعون لموسى على حسن صنيعه له 52 قال موسى لفرعون إن أحسنت إلىّ فقد أسأت إلى شعبى(19/152)
ج 19 ، ص : 153
53 تعريف موسى لإلهه أمام فرعون 54 بعد أن عجز فرعون عن دحض حجج موسى وصفه بالجنون 55 تهديد فرعون لموسى بالسجن 56 الأدلة التي أدلى بها موسى على صحة نبوته 57 ما يرويه فرعون. موقفه من موسى أمام شعبه 58 المناظرة بين موسى والسحرة وفلج موسى عليهم 61 إيمان السحرة بموسى 62 تهديد فرعون للسحرة على إيمانهم 63 رد السحرة على تهديد فرعون 65 أمر اللّه لموسى بالهجرة مع قومه من مصر 65 ما جاء فى سفر الخروج من التوراة عن هذه الهجرة 66 ما قوّى به فرعون جنده فى تعقبهم 67 ما جازى اللّه به فرعون وقومه 68 ما طمأن به موسى قومه حين خافوا من تعقبهم 68 كيف نجى اللّه موسى وقومه 69 قصص إبراهيم عليه السلام مع قومه 71 محاجة إبراهيم لقومه 72 ما وصف به إبراهيم رب العالمين 74 ما طلبه إبراهيم من ربه 76 تقريب الجنة من المتقين والنار من الغاوين 77 سؤال أهل النار سؤال تقريع(19/153)
ج 19 ، ص : 154
78 ندم المشركين على ما كان قد فرط منهم 80 قصص نوح عليه السلام مع قومه 82 الحجة التي تذرعوا بها لعدم إجابتهم دعوته 83 تهديدهم لنوح عليه السلام 84 قصص هود عليه السلام مع قومه 86 ما أنكره هود على قومه 87 عظته لقومه على ما آتاهم من النعم 88 بعد أن أنذرهم ووبخهم قابلوه بالإنكار 89 قصص صالح عليه السلام مع قومه 91 ما خاطب به قوم ه محذرا لهم 92 إجابتهم له على ما اقترحوه من الآيات 93 قصص لوط عليه السلام مع قومه 94 توبيخ لوط لقومه على قبيح أفعالهم 95 إغاثة اللّه له بعد أن استغاثه 96 ما كتبه الباحثون حديثا عن قرى قوم لوط 97 رواية التوراة لقصة قوم لوط 98 قصص شعيب عليه السلام مع قومه 100 نهيهم عن بخس الحقوق 100 قدحهم فى نبوة الرسول لأمرين 101 ما نزل بهم من العذاب(19/154)
ج 19 ، ص : 155
102 إخبار القرآن عن الغيب 103 القرآن ذكر فى الكتب السالفة 104 الرد على المشركين بأن لمحمد تابعا من الجن 105 بعث المشركون إلى أهل يثرب يسألونهم عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم 106 تسلية الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن عدم إيمان قومه 107 طول العمر لا يدفع عنهم العذاب المنتظر 108 لا يهلك اللّه قرية إلا بعد إنذارها 109 إنذار النبي صلى اللّه عليه وسلم لقريش 111 أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بلين الجانب 112 تنزل الشياطين على كل أفاك أثيم 114 الشعراء يتبعهم الغاوون وذكر سبب ذلك 115 كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحض على قول الشعر انتصار للدين 116 تحذير المشركين من سوء العاقبة 117 خلاصة ما حوته سورة الشعراء 118 أصح الأقوال فى فواتح السور 119 لوازم الإيمان الصحيح 120 يجب اللّه إلى من لا يؤمن بالآخرة سوء عمله 122 قصص موسى عليه السلام حين عودته من مدين 123 ما جاء فى التوراة عن ذلك 124 ما أراه ربه من الآيات الدالة على قدرته 125 قصص داود وسليمان عليهما السلام(19/155)
ج 19 ، ص : 156
128 كثير من العلماء الآن يهتمون بالبحث عن لغات الطيور والحشرات كالنمل والنحل 129 تذكرة وعبرة بالآية 130 تفقد سليمان للهدهد 132 وصف مملكة سبأ 132 كتاب سليمان لملكة سبأ وردها عليه 135 ما يدل عليه الكتاب على وجازته 136 طلبت بلقيس من أشراف قومها إبداء الرأى فى كتاب سليمان 137 تحذيرها قومها من حرب سليمان 138 لم يقبل سليمان عليه السلام هدية بلقيس 140 مجىء سليمان بعرش بلقيس 141 من الذي عنده علم من الكتاب ؟
143 ما فعلته بلقيس حين دخولها الصرح 144 ما أعده سليمان لنزول بلقيس 145 قصص ثمود مع صالح عليه السلام 148 توعدوا صالحا عليه السلام بعد أن توعدهم 149 ما قاله لوط لقومه ناصحا لهم 150 تأنيب قوم لوط على قبيح فعلهم(19/156)
ج 20 ، ص : 3
الجزء العشرون
[تتمة سورة النمل ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النمل (27) : الآيات 56 الى 58]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
تفسير المفردات
يتطهرون : أي ينزهون أنفسهم ، ويتباعدون عما نفعله ، ويزعمون أنه من القاذورات ، قدّرنا : أي قضينا وحكمنا ، الغابرين : أي الباقين فى العذاب.
المعنى الجملي
سبق أن بيّنا أن الذين قسموا القرآن إلى أجزائه الثلاثين لاحظوا العدّ اللفظي للحروف والكلمات والآيات ، ولم ينظروا إلى ارتباط المعاني بعضها ببعض ، ومن ثم نرى هنا أن الجزء قد انتهى قبل تمام قصة لوط وبدئ الجزء العشرون بتمام هذه القصة ، وقد بين فيها أن النصح لم يجدهم شيئا وعقدوا العزم على استعمال القوة فى إخراجه من(20/3)
ج 20 ، ص : 4
بين ظهرانيّهم ، ولم يكن لهم حجة على المعارضة إلا أن لوطا وقومه لا يريدون أن يشاركوهم فيما يفعلون تباعدا من الأرجاس ، وتلك مقالة قالوها على سبيل الاستهزاء بهم ، وقد نسوا أن هناك قوة أشد من قوتهم هى لهم بالمرصاد ، وأنها تمهلهم ولا تهملهم ، فلما حان حينهم جاءهم العذاب من حيث لا يشعرون ، وأهلك اللّه القوم الظالمين ، ونصر الحق وأزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا.
الإيضاح
(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أي فلم يكن جوابهم للوط إذ نهاهم عما أمره اللّه بنهيهم عنه من إتيان الذكور إلا قيل بعضهم لبعض :
أخرجوا لوطا وأهله من قريتنا ، وقد عدّوا سكناه بينهم منّة ومكرمة عليه إذ قالوا :
من قريتكم.
ثم عللوا هذا الإخراج بقولهم استهزاء بهم :
(إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي إنهم يتحرّجون من فعل ما تفعلون ، ومن إقراركم على صنيعكم ، فأخرجوهم من بين أظهركم ، فإنهم لا يصلحون لجواركم فى بلدكم.
ولما وصلوا إلى هذا الحد من قبح الأفعال والأقوال دمّر اللّه عليهم وللكافرين أمثالها ، وإلى هذا أشار بقوله :
(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) أي فأهلكناهم وأنجينا لوطا وأهله إلا امرأته جعلناها بتقديرنا وحكمتنا من الباقين فى العذاب ، لأنها كانت على طريقتهم راضية بقبيح أفعالهم وكانت ترشد قومها إلى صيفان لوط ليأتوا إليهم ، لا أنها كانت تفعل الفواحش تكرمة لنبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، لا كرامة لها.
ثم بين ما أهلكوا به فقال :
(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أي وأمطرنا عليهم مطرا غير ما عهد(20/4)
ج 20 ، ص : 5
من نوعه ، فقد كان حجارة من سجيل ، فبئس ذلك المطر مطر الذين أنذرهم اللّه عقابا لهم على معصيتهم إياه ، وخوّفهم بأسه بإرسال الرسول إليهم.
[سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 64]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64)
تفسير المفردات
العباد المصطفون : هم الأنبياء عليهم السلام ، الحدائق : البساتين واحدها حديقة ، والبهجة : الحسن والرونق ، يعدلون : من العدول وهو الانحراف ، قرارا : أي مستقرا ، الخلال : واحدها خلل وهو الوسط ، رواسى : أي ثوابت أي جبالا ثوابت ، الحاجز :
الفاصل بين الشيئين ، والمضطر : الذي أحوجته الشدة وألجأته الضراعة إلى اللّه ،(20/5)
ج 20 ، ص : 6
ويكشف : أي يرفع ، خلفاء : من الخلافة وهى الملك والتسلط ، يهديكم : أي يرشدكم ، بين يدى رحمته : أي أمام المطر.
المعنى الجملي
بعد أن قص سبحانه على رسوله قصص أولئك الأنبياء السالفين ، وذكر أخبارهم الدالة على كمال قدرته وعظيم شأنه ، وعلى ما خصهم به من المعجزات الباهرة الناطقة بجلال أقدارهم ، وصدق أخبارهم ، وفيها بيان صحة الإسلام والتوحيد وبطلان الشرك والكفر ، وأن من اقتدى بهم فقد اهتدى ، ومن أعرض عنهم فقد تردّى فى مهاوى الردى ، ثم شرح صدره عليه الصلاة والسلام بما فى تضاعيف تلك القصص من العلوم الإلهية ، والمعارف الربانية ، الفائضة من عالم القدس مقررا بذلك قوله : « وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ » أردف هذا أمره عليه الصلاة والسلام بأن يحمده تعالى على تلك النعم ، ويسلم على الأنبياء كافة عرفانا لفضلهم ، وأداء الحق تقدمهم واجتهادهم فى الدين ، وتبليغ رسالات ربهم على أكمل الوجوه وأمثل السبل ، ثم ذكر الأدلة على تفرده بالخلق والتقدير ووجوب عبادته وحده ، وأنه لا ينبغى عبادة شىء سواه من الأصنام والأوثان.
الإيضاح
(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى ) أمر اللّه رسوله أن يحمده شكرا له على نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى ، وأن يسلّم على عباده الذين اصطفاهم لرسالته ، وهم أنبياؤه الكرام ورسله الأخيار.
ومن تلك النعم النجاة والنصر والتأييد لأوليائه ، وحلول الخزي والنكال بأعدائه.
ونحو الآية قوله : « سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » .(20/6)
ج 20 ، ص : 7
وفى هذا تعليم حسن ، وأدب جميل ، وبعث على التيمن بالذّكرين والتبرك بهما ، والاستظهار بمكانهما ، على قبول ما يلقى إلى السامعين ، والإصغاء إليه ، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المستمع ، ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر : هذا الأدب ، فحمدوا اللّه وصلّوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمام كل علم مفاد ، وقبل كل عظة ، وفى مفتتح كل خطبة ، وتبعهم المتزسّلون فأجروا عليه أوائل كتبهم فى الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن.
ثم شرع يوبخ المشركين ويتهكم بهم وينبههم إلى ضلالهم وجهلهم ، إذ آثروا عبادة الأصنام على عبادة الواحد القهار فقال :
(آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ؟ ) أي آللّه الذي ذكرت لكم شئونه العظيمة خير أم الذي تشركون به من الأصنام ؟ وفى ذلك ما لا يخفى من تسفيه آرائهم ، وتفبيح معتقداتهم ، وإلزامهم الحجة ، إذ من البين أنه ليس فيما أشركوه به سبحانه شائبة خير حتى يوازن بينها وبين ما هو محض الخير ، فهو من وادي ما حكاه سيبويه : تقول العرب : السعادة أحب إليك أم الشقاء ؟ وكما قال حسان يهجو أبا سفيان بن حرب ويمدح النبي صلى اللّه عليه وسلم :
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
وجاء فى بعض الآثار « أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال :
بل اللّه خير وأبقى ، وأجل وأكرم »
ثم انتقل من التوبيخ تعريضا إلى التبكيت تصريحا فقال :
(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) أي أ عبادة ما تعبدون أيها المشركون من أوثانكم التي لا تضر ولا تنفع خير ، أم عبادة من خلق السموات على ارتفاعها وصفائها وجعل فيها كواكب نيّرة ونجوما زاهرة ، وأفلاكا دائرة وخلق الأرض وجعل فيها جبالا وأنهارا وسهولا وأوعارا ، وفيافى وقفارا ، وزروعا وأشجارا ، وحيوانات مختلفة(20/7)
ج 20 ، ص : 8
الأصناف والأشكال والألوان ، وأنزل لكم من السماء مطرا جعله رزقا للعباد ، فأنبت به بساتين مونقة تسر الناظرين ؟ ولو لاه ما نبت الشجر ، ولا ظهر الثمر.
ونحو الآية قوله : « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ » وقوله : « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ » .
ثم زاد فى التوبيخ فنفى الألوهية عما يشركون بعد تبكيتهم على نفى الخيرية عنها فقال.
(أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ ؟ ) أي أ إله غيره يقرّون به ، ويجعلونه شريكا له فى العبادة ، مع تفرده جل شأنه بالخلق والتكوين ؟ ونحو الآية قوله : « وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ » .
ثم انتقل من تبكيتهم إلى بيان سوء حالهم فقال :
(بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) أي بل هؤلاء المشركون قوم دأبهم العدول عن طريق الحق ، والانحراف عن جادّة الاستقامة فى جميع شئونهم ، ومن ثمّ يفعلون ما يفعلون من العدول عن الحق الواضح وهو التوحيد ، ويعكفون على الضلال المبين وهو الإشراك.
وفى معنى الآية قوله : « أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ » وقوله : « أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ » وقوله :
« وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ » .
ثم أعاد التوبيخ بوجه آخر فقال :
(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) أي أ عبادة ما تشركون أيها الناس بربكم مع أنه لا يضر ولا ينفع خير ، أم عبادة الذي جعل الأرض مستقرا للإنسان والدواب ، وجعل فى أوسطها أنهارا تنتفعون بها فى شربكم وسقى أنعامكم ومزارعكم ، وجعل فيها ثوابت الجبال حتى لا نميد بكم ،(20/8)
ج 20 ، ص : 9
وحتى تنتفعوا بما فيها من المعادن المختلفة ، وقد أنزل الماء على شواهقها وجعل بين المياه العذبة والملحة حاجزا يمنعهما من الاختلاط حتى لا يفسد هذا بذاك ، والحكمة تقضى ببقاء كل منهما على حاله ، فالعذبة : لسقى الناس والحيوان والنبات والثمار ، والملحة : تكون مصادر للأمطار التي تجرى منها ، وكذلك هى وسيلة لإصلاح الهواء.
(أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ ؟ ) فى إبداع هذه الكائنات وإيجاد هذه الموجودات.
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون قدر عظمة اللّه وما عليهم من ضرّ فى إشراكهم غيره به ، وما لهم من نفع فى إفرادهم إياه بالألوهة ، وإخلاصهم العبادة له ، وبراءتهم من كل معبود سواه.
ثم زادهم توبيخا من وجه ثالث فقال :
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ ؟ ) أي أمن تشركون باللّه خير أم من يجيب المكروب الذي يحوجه المرض أو الفقر أو النازلة من نوازل الدهر إلى اللّجأ والتضرع إليه إذا دعاه وقت اضطراره ، ويرفع عن الإنسان ما يسوءه من فقر أو مرض ، ويجعلكم خلفاء من قبلكم من الأمم فى الأرض فيورثكم إياها بالسكنى والتصرف فيها ؟ .
وجاء رجل إلى مالك بن دينار فقال : أسألك باللّه أن تدعو لى فأنا مضطر قال :
إذا فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه ، وقال الشاعر :
وإنى لأدعو اللّه والأمر ضيّق علىّ فما ينفك أن يتفرّجا
ورب أخ سدّت عليه وجوهه أصاب لها لمّا دعا اللّه مخرجا
وعن أبى بكرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى دعاء المضطر : « اللهم رحمتك أرجو ، فلا تكلنى إلى نفسى طرفة عين ، وأصلح لى شأنى كله ، لا إله إلا أنت » .
وجاء فى الخبر : « ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن ، دعوة المظلوم ، ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده »
.(20/9)
ج 20 ، ص : 10
وفى صحيح مسلم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لمعاذ لما وجهه إلى أرض اليمن :
« واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين اللّه حجاب » .
(أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ ؟ ) الذي هذه شئونه ، وتلك نعمه ؟ .
ثم بين أن من طبيعة الإنسان ألا يتذكر نعم اللّه عليه إلا قليلا ، وإلى ذلك أشار بقوله :
(قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ) أي قليلا ما تتذكرون نعم اللّه عليكم ، وأياديه عندكم ، ومن ثمّ أشركتم به غيره فى العبادة.
ثم زادهم تأنيبا وتهكما من ناحية أخرى فقال :
(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي أمن تشركون باللّه خير ، أم من يرشدكم فى ظلمات البر والبحر إذا أظلمت عليكم السبل فضللتم الطريق - بما خلق من الدلائل السماوية كما قال : « وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ » وقال : « وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ » ومن يرسل الرياح أمام الغيث الذي يحيى موات الأرض.
ولما اتضحت الأدلة ولم يبق لأحد فى ذلك عذر ولا علة قال :
(أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ ؟ ) فعل هذا ؟ .
ثم أكد هذا النفي وقرره بقوله :
(تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه ربنا المنفرد بالألوهية ، ومن له صفات الكمال والجلال ، ومن تخضع له جميع المخلوقات ، وتذلّ لقهره وجبروته - عن شرككم الذي تشركونه به وعبادتكم معه ما تعبدون.
ثم أضاف إلى ذلك برهانا آخر لعلهم يرتدعون عن غيهم فقال :
(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي أما تشركون به خير أم الذي ينشىء الخلق بادىء بدء ويبتدعه من غير أصل سلف ، ثم يفنيه إذا(20/10)
ج 20 ، ص : 11
شاء ، ثم يعيده إذا أراد كهيئته قبل أن يفنيه ، وهو الذي يرزقكم من السماء والأرض فينزل من الأولى غيثا وينبت من الثانية نباتا لأقواتكم وأقوات أنعامكم.
وهم وإن كانوا ينكرون الإعادة والبعث لم يلتفت إلى ذلك الإنكار لظهور أدلته فلم يبق لهم عذر فيه وبعد أن وضح الدليل على نفى الشريك بكّتهم وقال :
(أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ ؟ ) يفعل هذا حتى يجعل شريكا له ؟
وبعد أن ذكر البرهان تلو البرهان وأوضح الحق حتى صار كفلق الصبح زاد فى التهكم بهم والإنكار عليهم والتسفيه لعقولهم ، فأمر رسوله أن يطلب منهم البرهان على صدق ما يدّعون. فقال :
(قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي قل لهم أيها الرسول : هاتوا الدليل على وجود ما تزعمون من الشركاء إن كان ما تقولونه حقا وصدقا
[سورة النمل (27) : الآيات 65 الى 66]
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)
تفسير المفردات
أيان : أي متى ، يبعثون : أي يقومون من القبور للحساب والجزاء ، ادّارك :
أي تدارك وتتابع والمراد التتابع فى الاضمحلال والفناء ، فى شك : أي فى حيرة عظيمة ، عمون : واحدهم عم وهو أعمى القلب والبصيرة.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت تفرده بالألوهية ، لاختصاصه بالقدرة التامة ، والرحمة العامة - أعقب هذا بذكر لوازمها وهو اختصاصه بعلم الغيب ، تكميلا لما قبله وتمهيدا لما بعده من أمر البعث(20/11)
ج 20 ، ص : 12
(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) يقول سبحانه آمرا رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يعلم جميع خلقه أنه لا يعلم الغيب أحد من أهل السموات والأرض ، بل اللّه وحده هو الذي يعلم ذلك كما قال : « وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ » الآية. وقال : « إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ » الآية.
والمراد بالغيب الشئون التي تتعلق بأمور الآخرة وأحوالها ، وشئون الدنيا التي لا تقع تحت حسّنا وليست فى مقدورنا.
وعن مسروق عن عائشة رضى اللّه عنها أنها قالت : من زعم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم يعلم ما يكون فى غد فقد أعظم الفرية على اللّه ، لأن اللّه يقول : « قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ » ثم ذكر بعض ذلك الغيب فقال :
(وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي وما يدرى من فى السموات والأرض من خلقه متى هم مبعوثون من قبورهم لقيام الساعة كما قال : « ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً » أي ثقل علمها على أهل السموات والأرض فلا يشعرون بها ، بل تأتيهم فجأة.
ثم أكد جهلهم بهذا اليوم بقوله :
(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي بل انتهى علمهم وعجزهم عن معرفة وقتها فلم يكن لهم علم بشىء مما سيكون فيها قطعا مع توافر أسباب العلم ، وليس المراد أنه كان له م علم بوقتها على الحقيقة فانتفى شيئا فشيئا ، بل المراد أن أسباب العلم ومبادثه من الدلائل العقلية والنقلية ضعفت فى اعتبارهم شيئا فشيئا كلما تأملوا فيها حتى لم يعد لها قيمة وكأن لم تكن.
ثم انتقل من وصفهم بالجهل بميقاتها إلى الحيرة فى الآخرة نفسها ، أ تكون أو لا تكون ؟ فقال :(20/12)
ج 20 ، ص : 13
(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) أي بل هم فى حيرة عظيمة من تحققها ووجودها ، أ كائنة هى أم غير كائنة ؟ كمن يحار فى الأمر لا يجد عليه دليلا ، فضلا عن تصديق ما سيحدث فيها من شئون أخبرت عنها الكتب السماوية كالثواب والعقاب ، والنعيم والعذاب والأهوال التي لا يدرك كنهها العقل.
ثم ارتقى من وصفهم بالشك فى أمرها إلى وصفهم بالعمى واختلال البصيرة بحيث لا يدركون الدلائل التي تدل على أنها كائنة لا محالة فقال :
(بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) أي بل هم فى عماية وجهل عظيم من أمرها ، وعن كل ما يوصلهم إلى الحق فى شأنها ، والنظر فى دلائلها
[سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 75]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71)
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عزّ اسمه فيما سلف جهلهم بالآخرة وعما هم عنها - أردف ذلك بيان ذلك وإيضاحه بأنهم ينكرون الإخراج من القبور بعد أن صاروا ترابا ، وأنهم قالوا(20/13)
ج 20 ، ص : 14
تلك مقالة سمعناها من قبل ، وما هى إلا أسطورة من أساطير الأولين وخرافاتهم ، ثم أمر اللّه رسوله أن يرشدهم إلى صدق هذا بالسير فى الأرض حتى يروا عاقبة المجرمين ، بسبب تكذيبهم للرسل فيما دعوهم إليه من الإيمان باللّه واليوم الآخر ، ثم صبّر سبحانه رسوله على ما يناله من أذى المشركين ، ووعده بالنصر عليهم ، ثم ذكر أنهم مكذبون بالساعة وغيرها من العذاب والجزاء الموعود ، وأنهم يسألون عن ذلك سخرية واستهزاء ، وأجابهم بأن العذاب سينزل بهم قريبا ، ثم ذكر فضله على عباده بأنه لا يعجل لهم العذاب مع استحقاقهم له ، إذ هم لا يشكرونه على ذلك ، ثم بين أنه تعالى عليم بالسر والنجوى ، وأنه مطلع على ما تكنّه القلوب ، وأنه ما من شىء مهما خفى فاللّه عليم به وهو مثبت عنده فى كتاب مبين.
الإيضاح
(وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) أي وقال الكافرون باللّه المكذبون لرسله ، أ إنا لمخرجون من قبورنا أحياء كهيئتنا من بعد مماتنا وبعد أن بلينا وكنا فيها ترابا ؟
وهذا منهم استبعاد لإعادة الأجسام بعد صيرورتها عظاما ورفاتا.
ثم ذكروا شبهتهم على استبعاده فى زعمهم فقال :
(لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) أي إنا ما زلنا نسمع بهذا نحن وآباؤنا ولا نرى تحقق ذلك ولا وقوعه.
ثم أكدوا هذا الاستبعاد بقولهم :
(إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي ما هذا الوعد إلا أسطورة مما سطّره الأولون من الأكاذيب فى كتبهم من غير أن يكون لهم بينة على إمكان تحققه ووجوده.
ثم أمر اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يرشدهم إلى وجه الصواب مع التهديد والوعيد فقال :(20/14)
ج 20 ، ص : 15
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) أي قل لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به من الأنباء من عند ربك : سيروا فى الأرض فانظروا إلى ديار من كان قبلكم من المكذبين ، كيف هى ؟ ألم يخرّ بها اللّه ويهلك أهلها بتكذيبهم رسلهم ، وردّهم عليهم نصائحهم ، فخلت منهم الديار ، وعفت منها الرسوم والآثار ، وكان ذلك عاقبة إجرامهم ، وتلك سنة اللّه فى كل من سلك سبيلهم فى تكذيب رسله ، وسيفعل ذلك بكم إن أنتم لم تبادروا إلى الإنابة من كفركم وتكذيبكم رسوله.
ثم صلّى رسوله صلى اللّه عليه وسلم على ما يناله من عماهم عن السبيل ، الذي هدى إليه الدليل فقال :
(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي ولا تحزن على إدبار هؤلاء المشركين عنك وتكذيبهم لك ، ولا يضق صدرك من مكرهم ، فإن اللّه ناصرك عليهم ، ومظهر دينك على من خالفه فى المشارق والمغارب.
ثم أشار إلى أنهم لم يقصروا إنكارهم على الساعة ، بل كان إنكارهم لغيرها من عذاب اللّه أشد بقوله :
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقول مشركو قريش المكذبون بما أتيتهم به من عند ربك : متى يكون هذا العذاب الذي تعدنا به ؟ إن كنتم صادقين فيما تدّعون ؟ .
ثم أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يجيبهم فقال :
(قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) أي قل لهم : عسى أن يلحقكم ويصل إليكم بعض ما تستعجلون حلوله من العذاب ، والمراد به ما حل بهم يوم بدر من النكال والوبال.
قال صاحب الكشاف : عسى ولعل وسوف ، فى وعد الملوك ووعيدهم تدل على صدق الأمر وجدّه ، وما لا مجال للشك بعده ، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم ،(20/15)
ج 20 ، ص : 16
وأنهم لا يعجّلون بالانتقام لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم وتوقعهم أن عدوهم لا يفوتهم وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم ، وعلى ذلك جرى وعد اللّه ووعيده ا ه.
ثم بين سبحانه السبب فى ترك تعجيل العذاب فقال :
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) أي وإن ربك لهو المنعم المتفضل على الناس جميعا بتركه المعاجلة بالعقوبة على المعصية والكفر ، ولكن أكثرهم لا يعرفون حق فضله عليهم. فلا يشكره إلا القليل منهم.
ثم أبان سبحانه أنه مطّلع على ما فى قلوبهم فقال :
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) يقال كننت الشيء وأكننته :
إذا سترته وأخفيته ، أي إن ربك يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر كما قال « سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ » وقال « فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى » .
وقصارى ذلك - إنه يعلم ما يخفون من عداوة الرسول ومكايدهم له وما يعلنون ، وهو محصيها عليهم ومجازيهم بذلك.
ثم ذكر أن كل ما يحصل فى الوجود فهو محفوظ فى اللوح المحفوظ فقال :
(وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي وما من أمر مكتوم وسر خفى يغيب عن الناظرين فى السماء أو فى الأرض إلا وهو فى أم الكتاب الذي أثبت ربنا فيه كل ما هو كائن من ابتداء الخلق إلى يوم القيامة ، وهو بيّن لمن نظر إليه وقرأ ما فيه ، مما أثبته ربنا جلت قدرته.
ونحوه : « أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ » .
[سورة النمل (27) : الآيات 76 الى 81]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)(20/16)
ج 20 ، ص : 17
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما يتعلق بالنشأة الأولى وأنه خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون ، وما يتصل بالبعث والنشور وأقام على ذلك الدليل يتلو الدليل بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد - أردف ذلك الكلام فى نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وأقام الأدلة على صحتها وصدق دعواه فيما يدّعى ، وكان من أعظم ذلك القرآن الكريم ، لا جرم بين اللّه تعالى إعجازه من وجوه :
(1) إن ما فيه من القصص موافق لما فى التوراة والإنجيل مع أنه صلى اللّه عليه وسلم كان أميا ولم يخالط أحدا من العلماء للاستفادة والتعلم ، فلا يكون ذلك إذا إلا من وحي إلهى من لدن حكيم خبير.
(2) إن ما فيه من دلائل عقلية على التوحيد والبعث والنبوة والتشريع العادل المطابق لحاجة البشر فى دنياهم وآخرتهم - لا يوجد له نظير فى كتاب آخر ، فلا بد أن يكون ذلك من عند اللّه.
(3) إنه قد بلغ الغاية فى الفصاحة والبلاغة حتى لم يستطع أحد أن يتصدى لمعارضته مع حرصهم عليها أشد الحرص ، فدل ذلك على أنه خارج عن قوى الشر ، وأنه من من الملإ الأعلى ومن لدن خالق القوى والقدر.
ثم ذكر بعد ذلك أنه جاء حكما على بنى إسرائيل فيما اختلفوا فيه ، فأبان لهم الحق فى هذا كاختلافهم فى أمر المسيح ، فمن قائل هو اللّه ، ومن قائل هو ابن اللّه ، ومن قائل(20/17)
ج 20 ، ص : 18
إنه ثالث ثلاثة ، وقوم يقولون إنه كاذب فى دعواه النبوة ، كما نسبوا مريم إلى ما هى منزهة عنه ، وقالوا إن النبي المبشّر به فى التوراة هو يوشع عليه السلام أو هو نبى آخر يأتى آخر الدهر. إلى نحو ذلك مما اختلفوا فيه ، وأنه لا يحكم إلا بالعدل ، فقوله الحق وقضاؤه الفصل.
ثم أمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يتوكل عليه فإنه حافظه وناصره ، وأن يعرض عن أولئك الذين لا يستمعون لدعوته ، لأنهم صم بكم لا يعقلون ، والذكرى لا تنفع إلا من له قلب يعى ، وآذان تسمع دعوة الداعي إلى الحق فتستجيب لها.
الإيضاح
(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن هذا القرآن الذي أنزلته إليك أيها الرسول يقص على بنى إسرائيل الحق فى كثير مما اختلفوا فيه ، وكان عليهم لو أنصفوا أن يتبعوه ، لكنهم لم يفعلوا وكابروا مع وضوح الحق وظهور دليله كما تفعلون أنتم أيها المشركون.
ثم وصف القرآن بقوله :
(وَ إِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي وإنه لهاد للمؤمنين إلى سبيل الرشاد ، ورحمة لمن صدّق به وعمل بما فيه.
وبعد أن ذكر فضله وشرفه أتبعه دليل عدله فقال :
(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي إن ربك يقضى بين المختلفين من بنى إسرائيل بحكمه العادل ، فينتقم من المبطل منهم ، ويجازى المحسن بما يستحق من الجزاء ، وهو العزيز الذي لا يردّ حكمه وقضاؤه ، العليم بأفعال العباد وأقوالهم ، فقضاؤه موافق لواسع علمه.
وبعد أن أثبت لنفسه العلم والحكمة والجبروت والقدرة أمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يتوكل عليه وحده فقال :(20/18)
ج 20 ، ص : 19
(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي ففوض إلى اللّه جميع أمورك وثق به فيها ، فإنه كافيك كل ما أهمك ، وناصرك على أعدائك ، حتى يبلغ الكتاب أجله.
ثم علل هذا بقوله :
(إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) أي أنت على الحق المبين ، وإن خالفك فيه من خالفك ممن كتب عليه الشقاء : « إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ » .
ثم أيأسه من إيمان قومه وأنه لا أمل فى استجابتهم لدعوته فقال :
(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي إنك لا تقدر أن تفهم الحق من طبع اللّه على قلوبهم فأماتها ، ولا أن تسمعه من أصمهم عن سماعه ، ولا سيما أنهم مع ذلك معرضون عن الداعي ، مولّون على أدبارهم ، وإنما شبههم بالموتى لعدم تأثرهم بما يتلى عليهم ، وشبههم بالصم البكم ليبين أنه لا أمل فى استجابتهم للدعوة ، لأن الأصم الأبكم لا يسمع الداعي بحال.
وظاهر نفى سماع الموتى العموم ، فلا يخص منه إلا ما ورد بدليل.
كما
ثبت فى الصحيح « أنه صلى اللّه عليه وسلم خاطب القتلى فى قليب (بئر) بدر فقيل له : يا رسول اللّه إنما تكلم أجسادا لا أرواح لها ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم » . أخرجه مسلم.
وكما ثبت أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه.
وقصارى ما سلف - إنه تعالى أمره بالتوكل عليه والإعراض عما سواه ، لأنه على الحق المبين ومن سواه على الباطل ، ولأنه تعالى مؤيده وناصره ، ولأنه لا مطمع فى مشايعة المشركين ومعاضدتهم ، لأنهم كالموتى وكالصم البكم ، فلا أمل فى استجابتهم للدعوة ، ولا فى قبولهم للحق.
ثم أكد ما سلف وقطع أطماعه فى إيمانهم على أتم وجه فقال :(20/19)
ج 20 ، ص : 20
(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) أي أنت أيها الرسول لا تستطيع أن تصرف العمى عن ضلالتهم وتهديهم إلى الطريق السوىّ ، والمراد أنك لا تهدى من أعماهم اللّه عن الهدى والرشاد ، فجعل على أبصارهم غشاوة تمنعهم عن النظر فيما جئت به نظرا يوصلهم إلى معرفة الحق وسلوك سبيله.
ثم زاد ذلك توكيدا فقال :
(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي إنما يستجيب لك من هو نافذ البصيرة ، خاضع لربه ، متبتل إليه ، مجيب لدعوة رسله.
الخلاصة - إنك لا تقدر أن تفهم الحق وتسمعه إلا من يصدقون بآياتنا وحججنا ، فإنهم هم الذين يسمعون منك ما تقول ، ويتدبرونه ويعملون به ، إذ هم ينقادون للحق فى كل حين.
[سورة النمل (27) : الآيات 82 الى 90]
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)(20/20)
ج 20 ، ص : 21
تفسير المفردات
وقع : حدث وحصل ، والمراد من القول : ما دل من الآيات على مجىء الساعة ، تكلمهم : أي تنبئهم وتخبرهم ، نحشر : أي نجمع ، فوجا : أي جماعة من الرؤساء ، يوزعون : أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا فى موقف التوبيخ والمناقشة ، ولم تحيطوا بها علما : أي ولم تدركوا حقيقة كنهها ، ألم يروا : أي ألم يعلموا ، ليسكنوا فيه : أي ليستريحوا فيه ويهدءوا ، مبصرا : أي ليبصروا بما فيه من الإضاءة طرق التقلب فى أمور معاشهم ، الصور : البوق ، داخرين : أي أذلاء صاغرين ، جامدة : أي ثابتة فى أماكنها ، أتقن : أي أحكم ، يقال رجل تقن (بكسر التاء وسكون القاف) أي حاذق بالأشياء ، الحسنة : الإيمان وعمل الصالحات ، والسيئة : الإشراك باللّه والمعاصي ، كبت : أي ألقيت منكوسة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما يدل على كمال علمه وقدرته ، وأبان بعدئذ إمكان البعث والحشر والنشر ، ثم فصل القول فى إعجاز القرآن ، ونبه بذلك إلى إثبات نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم - أردف ذلك ذكر مقدمات القيامة وما يحدث من الأهوال حين قيامها ، فذكر خروج دابة من الأرض تكلم الناس أنهم كانوا لا يؤمنون بآيات ربهم ، وأنه حينئذ ينفخ فى الصور ، فيفزع من فى السموات ومن فى الأرض إلا من شاء اللّه ، وأن الجبال تجرى وتمر مر السحاب ثم بين أحوال المكلفين بعد ذلك وجعلهم(20/21)
ج 20 ، ص : 22
قسمين : مطيعين يعملون الحسنات فيثابون عليها بما هو خير منها ويأمنون الفزع والخوف ساعتئذ ، وعاصين يكبّون فى النار على وجوههم ويقال لهم حينئذ هذا جزاء ما كنتم تعملون.
الإيضاح
(وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) يخبر سبحانه بأنه حين فساد الناس وتركهم أوامره وتبديلهم الدين الحق قرب مجىء الساعة - تخرج دابة من الأرض تحدّث الناس بأنهم كانوا لا يوقنون بآياته الدالة على مجىء الساعة ومقدّماتها.
والمقصود من هذا التحديث : التشنيع عليهم بهذه المقالة ، وفى التعبير بكلمة (النَّاسَ) الإشارة إلى كثرتهم وأنهم جمّ غفير منهم.
وما جاء فى وصف الدابة والمبالغة فى طولها وعرضها ، وزمان خروجها ومكانه - مما لا يركن إليه ، فإن أمور الغيب لا يجب التصديق بها إلا إذا ثبتت بالدليل القاطع عن الرسول المعصوم.
ثم بين سبحانه حال المكذبين حين مجىء الساعة بعد بيان بعض مباديها وأشراطها فقال :
(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ؟ ) أي ويوم نجمع من كل أهل قرن جماعة كثيرة ممن كذبوا بآياتنا ودلائلنا ، ونحبس أولهم على آخرهم ، ليجتمعوا فى موقف التوبيخ والإهانة ، حتى إذا جاءوا ووقفوا بين يدى اللّه فى مقام السؤال والجواب ، ومناقشة الحساب ، قال لهم ربهم مؤنبا وموبخا لهم على تكذيبهم :
أكذبتم بآياتى الناطقة بلقاء يومكم هذا بادى الرأى غير ناظرين فيها نظرا يوصلكم إلى العلم بحقيقتها ، أم ماذا كنتم تعملون فيها من تصديق وتكذيب ؟ .(20/22)
ج 20 ، ص : 23
(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) أي وحلّ بأولئك المكذبين بآيات اللّه - السخط والغضب بتكذيبهم بها. فهم لا ينطقون بحجة يدفعون بها عن أنفسهم عظيم ما حل بهم من العذاب الأليم.
ونحو الآية قوله : « هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ » .
وبعد أن خوّفهم من أهوال يوم القيامة ذكر الدليل على التوحيد والحشر والنبوة فقال :
(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي ألم ير هؤلاء المكذبون بآياتنا تصريفنا الليل والنهار ومخالفتنا بينهما يجعل ذاك سكنا لهم يسكنون فيه ، ويهدءون راحة لأبدانهم من تعب التصرف والتقلب نهارا ، وجعل هذا مضيئا يبصرون فيه الأشياء ويعاينونها ، فيتقلبون فيه لمعايشهم - فيتفكرون فى ذلك ويتدبرون ويعلمون أن مصرّف ذلك كذلك ، هو الإله الذي لا يعجزه شىء ، ولا يتعذر عليه إماتة الأحياء ، وإحياء الأموات بعد الممات.
وفى ذلك أيضا دليل على النبوة ، لأنه كما يقلب الليل والنهار لمنافع المكلفين ففى بعثة الأنبياء منافع عظيمة للناس فى دنياهم ودينهم ، فما المانع إذا من بعثهم إليهم ؟
بل الحاجة إلى ذلك ملحّة.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فيما ذكر لدلالة على قدرته على البعث بعد الموت ، وعلى توحيده لمن آمن به وصدّق برسله ، فإن من تأمل فى تعاقبهما واختلافهما على وجوه بديعة مبنية على حكم تحار فى فهمها العقول ، ولا يحيط بعلمها إلا اللّه وشاهد فى الآفاق تبدل ظلمة الليل الحالكة المشابهة للموت ، بضياء النهار المضاهي للحياة ، وعاين فى نفسه تبدل النوم الذي هو أخو الموت بالانتباه الذي هو مثل الحياة - قضى بأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن اللّه يبعث من فى القبور ، وجزم بأن اللّه جعل هذا دليلا على تحققه ، وأن الآيات الناطقة به حق ، وأنها من عند اللّه.(20/23)
ج 20 ، ص : 24
وبعد أن ذكر الحشر الخاصّ وأقام الدليل عليه - ذكر الحشر العام فقال :
(وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) أي واذكر أيها الرسول لهم هول يوم النفخ فى الصور ، إذ يفزع من فى السموات ومن في الأرض ، لما يعتريهم من الرعب حين البعث والنشور ، بمشاهدة الأهوال الخارقة لعادة فى الأنفس والآفاق ، إلا من ثبّت اللّه قلبه.
ويرى أكثر أهل العلم أن هناك نفختين ، نفخة الفزع المذكورة فى هذه الآية وهى نفخة الصعق المذكورة فى قوله تعالى : « وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ » لأن كلا الأمرين الفزع والخوف ، والصعق وهو الموت يحصلان بها ، ونفخة البعث المذكورة فى قوله تعالى : « وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ » .
(وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) أي وكل هؤلاء الفزعين المبعوثين ، حين النفخة يحضرون الموقف بين يدى رب العزة للسؤال والجواب ، والمناقشة والحساب ، أذلاء صاغرين ، لا يتخلف أحد عن أمره كما قال : « يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ » .
وقال : « ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ » وقال :
« يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ » .
ولما ذكر دخورهم أتبعه بدخور ما هو أعظم منهم فقال :
(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) أي وترى الجبال كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه وهى تزول عن أماكنها وتسير حثيثا كمر السحاب ، لأن الأجرام الكبار إذا تحركت فى سمت واحد لا تكاد تبين حركتها.
ونحو الآية قوله : « يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً. وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً » وقوله :
«
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً » وقوله : « وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً » وهذا يقع بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق ، فيبدل اللّه الأرض غير الأرض ويغيّر هيئتها ويسيّر الجبال عن مقارّها ليشاهدها أهل المحشر ، وهى وإن(20/24)
ج 20 ، ص : 25
دكت عند النفخة الأولى ، فتسييرها إنما يكون لدى النفخة الثانية كما نطق به قوله :
« فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً » وقوله : « يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ » .
ثم علل إمكان ذلك وسرعة حصوله بقوله :
(صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ) أي ذلك الصنع العظيم صنع اللّه الذي أحكم كل شىء وأودع فيه من الحكمة ما أودع.
ثم علل ما تقدم من النفخ فى الصور والقيام للحساب ومجازاة العباد على أعمالهم بقوله :
(إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) أي إنه تعالى ذو علم وخبرة بما يفعل عباده من خير وشر ، وطاعة ومعصية ، وهو مجازيهم على ذلك أتم الجزاء.
ثم بين حال السعداء والأشقياء يومئذ فقال :
(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي من آمن باللّه وعمل صالحا فله على ذلك جزيل الثواب من عند ربه فى جنات النعيم ، يأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة كما جاء فى الآية : « لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ » وقال : « أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ ؟ » وقال : « وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ » وقد صح تفسير الحسنة هنا بشهادة أن لا إله إلا اللّه ، على ما رواه ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والحسن.
(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) أي ومن أشركوا باللّه وعملوا السيئات يكبّون على وجوههم فى جهنم ويطرحون فيها.
ونحو الآية قوله : « فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ » .
ثم ذكر ما يقال لهم حينئذ فقال :
(هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ؟ ) أي ويقال لهم : هل هذا إلا جزاء ما كنتم تعملون فى الدنيا ، مما يسخط ربكم ويغضبه منكم من شرك به ومعصية له.(20/25)
ج 20 ، ص : 26
[سورة النمل (27) : الآيات 91 الى 93]
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
تفسير المفردات
البلد : هى مكة ، أتلو القرآن : أي أواظب على تلاوته ، من المنذرين : أي المخوفين قومهم من عذاب اللّه.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أحوال المبدإ والمعاد ، وفصّل أحوال القيامة - أمر رسوله أن يقول لهؤلاء المشركين هذه المقالة تنبيها لهم إلى أنه قد تمّ أمر الدعوة بما لا مزيد عليه ، ولم يبق له بعد ذلك شأن سوى الاشتغال بعبادة اللّه والاستغراق فى مراقبته ، غير مبال بهم ضلّوا أو رشدوا ، صلحوا أو فسدوا ، إثارة لهممهم بألطف وجه إلى تدارك أحوالهم وتحصيل ما ينفعهم ، والتدبر فيما يقرع أسماعهم من باهر الآيات التي تكفى فى إرشادهم ، وتشفى عللهم وأمراضهم.
الإيضاح
(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) أي قل لهم أيها الرسول إنما أمرت أن أعبد رب مكة التي حرم على خلقه أن يسفكوا فيها دما حراما أو يظلموا فيها أحدا. وخصها بالذكر لأنى أول بيت للعبادة كان فيها - دون الأوثان التي تعبدونها كما قال : « فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ » .(20/26)
ج 20 ، ص : 27
وفى هذا تأنيب لهم على ما يفعلون من أنواع الفجور وفظيع المنكرات ، فإنهم قد تركوا عبادة رب مكة ، ونصبوا الأوثان فيها ، وعكفوا على عبادتها.
(وَلَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ) خلقا وملكا وتصرفا دون أن يشركه فى ذلك أحد.
(وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي وأمرنى ربى أن أسلم وجهى له ، فأكون من الموحدين المخلصين المنقادين لأمره المخبتين له فى الطاعة.
ونحو الآية قوله : « قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » .
(وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) آناء الليل وأطراف النهار ، لتنكشف لى أسراره المخزونة فى تضاعيفه ، وأستطلع أدلة الكون المتفرّقة فى آية ، فأعرف حقائق الحياة ، وسر الوجود ، ويفاض علىّ من فيوضاته الإلهية ، وأسراره القدسية ما شاء اللّه أن يفيض.
وقد روى « أنه صلى اللّه عليه وسلم قام ليلة يصلى فقرأ قوله تعالى « إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ » فما زال يكررها ويظهر له من أسرارها ما يظهر ، ويتجلّى له من مقاصدها ما تسمو به نفسه إلى الملإ الأعلى حتى طلع الفجر » .
ونحو الآية : « ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ » .
(فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي فمن اتبعنى واهتدى بهداي وآمن بي وبما جئت به فقد سلك سبيل الرشاد ، وأمن نقمة ربه فى الدنيا وعذابه فى الآخرة.
(وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي ومن جار عن قصد السبيل بتكذيبه بي وبما جئت به من عند اللّه ، فقل إنما أنا من المنذرين فحسب ، وقد خرجت من عهدة الإنذار ، وليس علىّ من وبال ضلالكم من شىء ، فإن قبلتم وانتهيتم عما يكرهه ربكم من الشرك ، فحظوظ أنفسكم تصيبون ، وإن كذبتم وأعرضتم عما أدعوكم إليه فعلى أنفسكم تجنون ، وقد بلّغتكم ما أمرت بإبلاغه إياكم.
ونحو الآية قوله : « فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ » وقوله : « إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ » .(20/27)
ج 20 ، ص : 28
ثم أمره سبحانه بترغيب قومه وترهيبهم فقال :
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي وقل الحمد للّه على ما أفاض علىّ من نعمائه التي من أجلّها نعمة النبوة المستتبعة لضروب من النعم الدينية والدنيوية ، ووفقني لتحمل أعبائها وتبليغ أحكامها ، بالآيات البينة ، والبراهين الساطعة ، ووفقني لاتباع الحق الذي أنتم عنه عمون (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) أي سيريكم ربكم آيات عذابه وسخطه فتعرفون بها حقيقة نصحى ، ويستبين لكم صدق ما دعوتكم إليه من الرشاد حين لا تجدى المعرفة ، ولا تفيد التبصرة شيئا.
ونحو الآية قوله : « سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ » .
ثم ذيل هذا بتقرير ما قبله من الوعد والوعيد بقوله :
(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي وما ربك بغافل عما يعمله هؤلاء المشركون ولكنه مؤخر عذابهم إلى أجل هم بالغوه ، لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون ، فلا يحزنك تكذيبهم فإنى لهم بالمرصاد ، وأيقن بأنى ناصرك وخاذل عدوك ، ومذيقهم الذلّ والهوان.
روى أن عمر بن عبد العزيز قال : فلو كان اللّه مغفلا شيئا لأغفل ما تعفى الرياح من أثر قدمى ابن آدم وكان الإمام أحمد كثيرا ما ينشد هذين البيتين :
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علىّ رقيب
ولا تحسبنّ اللّه يغفل ساعة ولا أنّ ما يخفى عليه يغيب
والحمد للّه وصلاته على النبي الأمى وعلى آله وصحبه أجمعين.(20/28)
ج 20 ، ص : 29
خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من حكم وأحكام وقصص
(1) وصف القرآن الكريم بأنه هدى ورحمة للمؤمنين.
(2) قصص موسى عليه السلام.
(3) قصص سليمان عليه السلام.
(4) قصص ثمود وقصص قوم لوط.
(5) النعي على المشركين فى عبادة الأصنام والأوثان ، وإقامة الأدلة على وحدانية اللّه تعالى.
(6) إنكار المشركين للبعث والنشور وقولهم : إن هذا إلا أساطير الأولين.
(7) علم اللّه بما فى الصدور.
(8) حكم القرآن على ما اختلف فيه بنو إسرائيل.
(9) قطع الأطماع فى إيمان المشركين وتشبيههم بالعمى الصم (10) أشراط الساعة كخروج الدابة من الأرض ، وحشر فوج من كل أمة ، وتسيير الجبال.
(11) الجزاء على العمل خيرا كان أو شرا.
(12) أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم أن يقول للمشركين : إنه إنما أمر بعبادة رب مكة ، لا بعبادة الأصنام والأوثان.
(13) أمره بحمد اللّه والثناء عليه وطلبه تلاوة القرآن.
(14) إنه سبحانه سيرى المشركين آياته فيعرفونها حق المعرفة حين لا يفيدهم ذلك شيئا.(20/29)
ج 20 ، ص : 30
سورة القصص
هى مكية كلها على ما روى الحسن وعطاء وطاوس وعكرمة ، وقال مقاتل :
إلا من آية 52 إلى 55 فمدنية ، وإلا آية 85 فقد نزلت بالجحفة أثناء الهجرة إلى المدينة.
وآيها ثمان وثمانون ، نزلت بعد النمل.
ووجه مناسبتها لما قبلها أمور :
(1) إنه سبحانه بسط فى هذه السورة ما أوجز فى السورتين قبلها من قصص موسى عليه السلام وفصّل ما أجمله هناك ، فشرح تربية فرعون لموسى وذبح أبناء بنى إسرائيل الذي أوجب إلقاء موسى حين ولادته فى اليمّ خوفا عليه من الذبح ، ثم ذكر قتله القبطي ، ثم فراره إلى مدين وما وقع له مع شعيب من زواجه ببنته ، ثم مناجاته لربه.
(2) إنه أحمل فى السورة السالفة توبيخ المشركين بالسؤال عن يوم القيامة وبسطه هنا أتم البسط.
(3) إنه فصل هناك أحوال بعض المهلكين من قوم صالح وقوم لوط ، وأجمله هنا فى قوله : « وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ » الآيات.
(4) بسط هناك حال من جاء بالحسنة وحال من جاء بالسيئة ، وأوجز ذلك هنا ، وهكذا من المناسبات التي تظهر بالتأمل حين قراءة السورتين.
[سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6)(20/30)
ج 20 ، ص : 31
تفسير المفردات
نتلو عليك : أي ننزل عليك ، والنبأ : الخبر العجيب ، علا : تجبر واستكبر ، شيعا : أي فرقا يستخدم كل صنف فى عمل من بناء وحفر وحرث إلى نحو ذلك من الأعمال الشاقة ، ويغرى بينهم العداوة والبغضاء حتى لا يتفقوا ، يستضعف : أي يجعلهم ضعفاء مقهورين ، والطائفة هنا هم بنو إسرائيل ، ونمن : أي نتفضل ، والأئمة : واحدهم إمام وهو من يقتدى به فى الدين أو فى الدنيا ، ويقال مكّن له إذا جعل له مكانا موطّأ ممهدا يجلس عليه ، والمراد به هنا التسلط على أرض مصر والتصرف فيها ، وهامان وزير فرعون ، يحذرون : أي يتوقعونه من ذهاب ملكهم وهلكهم على يد مولود من بنى إسرائيل.
الإيضاح
(طسم) تقدم أن قلنا إن أحق الآراء وأجدرها بالقبول فى معنى هذه الحروف المقطعة أنها حروف يراد بها التنبيه ، كما يراد مثل ذلك من معنى (يا) فى النداء و(ألا) ونحوهما ، وينطق بها بأسمائها هكذا (طاسين ميم) (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي هذه آيات الكتاب الكريم ، الذي أنزلته إليك أيها الرسول واضحا جليا كاشفا لأمور الدين وأخبار الأولين ، لم تتقوله ولم تتخرّصه كما زعم المشركون المنكرون له ولرسالة من أوحى إليه.
ثم ذكر ما هو كالدليل على أنه وحي يوحى وليس هو من وضع البشر فقال :(20/31)
ج 20 ، ص : 32
(نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي نتلو عليك بعض أخبار موسى ومحاجته لفرعون وغلبته إياه بالحجة ، وإخبار فرعون وجبروته وطغيانه ، وكيف قابل الحق بالباطل ، ولم تجد معه البراهين الساطعة ، والمعجزات الواضحة ، فأخذناه أخذ عزيز مقتدر ، فكانت عاقبته الدمار والوبال ، وأغرق ومن معه من جنده أجمعون ، نتلوها عليك تلاوة على وجه الحق كأنك شاهد حوادثها ، مبصر وقائعها ، تصف ما ترى وتبصر عيانا ، لقوم يصدقون بك وبكتابك. لتطمئن به قلوبهم وتثلج به صدورهم ، ويعلموا أنه الحق من ربهم ، وأن سنته فيمن خالفك وعاداك من المشركين هى سنته فيمن عادى موسى ومن آمن معه من بنى إسرائيل ، وأن النصر دائما للمتقين ويخزى اللّه المكذبين : « فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ » .
وإنما جعل التلاوة للمؤمنين وهو يتلى على الناس أجمعين ، لبيان أنه لا يعتبر بها إلا من كان له قلب واع وأذن سامعة تذكر وتتعظ بآياته ، أما من أعرض عنه ، وأبى واستكبر ، وقال إن هذا إلا سحر يؤثر ، فلا تفيده الآيات والنذر ، ولا يلقى له بالا ، ولا يعى ما فيه من حكمة ، ولا ما يسوقه من عبرة ، فهو على نحو ما حكى اللّه عنهم :
«
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ » .
ثم فصل هذا المجمل ووضحه بقوله :
(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) أي إن فرعون تجبر فى مصر وقهر أهلها وجاوز الغاية فى الظلم والعدوان وساس البلاد سياسة غاشمة.
ومما مكّن له فى ذلك ما بينه اللّه سبحانه بقوله :
(وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) أي وفرقهم فرقا مختلفة ، وأحزابا متعددة ، وأغرى بينهم العداوة والبغضاء ، كيلا يتفقوا على أمر ولا يجمعوا على رأى ، ويشتغل بعضهم بالكيد لبعض ، وبذا يلين له قيادهم ، ولا يصعب عليه خضوعهم واستسلامهم ، وتلك هى سياسة الدول الكبرى فى العصر الحاضر ، وذلك هو دستورها فى حكمها(20/32)
ج 20 ، ص : 33
لمستعمراتها ، وقد نقش حكامها فى صدورهم ذلك الدستور الذي ساروا عليه « فرّق تسد » وطالما أجدى عليهم فى سياسة تلك البلاد ، التي يعمّها الجهل ويطغى على أهلها حب الظهور. ويرضون بالنّفاية والقشور.
رحماك ، اللهم رحماك ، بسطت لعبادك سنتك فى الأكوان ، وأبنت لهم طبيعة الإنسان ، وأنه محب للظلم والعدوان.
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
(يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) أي يجعل جماعة منهم أذلاء مقهورين ، يسومهم الخسف ، ويعاملهم بالعسف ، وهم بنو إسرائيل.
ثم فسر هذا الاستضعاف بقوله :
(يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي يذبح أبناءهم حين الولادة ، وقد وكل بذلك عيونا تتجسس ، فكلما ولدت امرأة منهم ذكرا ذبحوه ، ويستبقى إناثهم ، لأنه كان يتوجس خيفة من الذكران الذين يتمرسون الصناعات ، وبأيديهم زمام المال ، فإذا طال بهم الأمد استولوا على المرافق العامة ، وغلبوا المصريين عليها والغلب الاقتصادى فى بلد ما أشدّ وقعا وأعظم أثرا فى أهلها من الغلب الاستعمارى ، ومن ثمّ لم يشأ أن يقتل النساء.
روى السّدّى أن فرعون رأى فى منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتغلت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بنى إسرائيل ، فسأل علماء قومه ، فأخبره الكهنة أنه سيخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك مصر على يديه ، فأخذ يفعل ما قص علينا الكتاب الكريم.
قال الزجاج : والعجب من حمق فرعون ، فإن الكاهن الذي أخبره بذلك إن كان صادقا عنده فما ينفع القتل ، وإن كان كاذبا فلا داعى للقتل ا ه.
ولا يعنينا من أمر هذه الرواية شىء فسواء صحت أو لم تصح ، فإن السرّ المعقول ما قصصناه عليك أوّلا.(20/33)
ج 20 ، ص : 34
ثم علل اجتراحه لتلك الجرائم ، وإزهاقه للأرواح البريئة بقوله :
(إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ومن ثم سولت له نفسه أن يفعل ما فعل من تلك الفظائع ، وقتل سلائل الأنبياء بلا جريمة ارتكبوها ، ولا ذنب جنوه ، وقد كانت هناك وسائل عديدة ليصل بها إلى اتقاء شرور اليهود بحسب ما يزعم ، وكان له فيها غنية عن سفك الدماء ، ولكن قساة القلوب غلاظ الأكباد تتوق نفوسهم إلى الولوغ فى الدم ، ويجعلونه الترياق الشافي لحزازات نفوسهم ، وسخائم أفئدتهم.
ثم ذكر سبحانه ما أكرم به هذه الأمة وما أتاح لها من السلطان الديني والدنيوي ، فتأسست لهم دولة عظيمة فى بلاد الشام ، وصاروا يتصرفون فى أرض مصر كما شاءوا فقال :
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) أي ونريد أن نتفضل بإحساننا على من استضعفهم فرعون وأذلهم ، وننجيهم من بأسه ، ونريهم فى أنفسهم وفى أعدائهم فوق ما يحبون ، وأكثر مما يؤملون.
(وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) مقتدى بهم فى الدين والدنيا.
(وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) لملك الشام لا ينازعهم فيه منازع ، وقد جاء فى آية أخرى :
« وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا » وفى ثالثة « كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ » .
(وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي ونسلطهم على أرض مصر يتصرفون فيها كيفما شاءوا بتأييدهم بكليم اللّه ثم بالأنبياء من بعده.
ثم بين ما نال عدوهم من النكال والوبال فقال :
(وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) أي ونرى أولئك الأقوياء والأعداء والألداء على أيدى بنى إسرائيل من المذلة والهوان وما كانوا يتوقعونه من زوال الملك والسلطان على يد مولود منهم ، ولكن لا ينجى حذر من قدر ، فنفذ حكم اللّه الذي جرى به القلم من القدم على يد هذا الغلام الذي احترز من وجوده وقتل بسببه ألوفا من الولدان ، وكان منشؤه ومرباه على فراشه وفى داره ، وغذاؤه(20/34)
ج 20 ، ص : 35
من طعامه ، وكان يدللّه ويتبناه ، وحتفه وهلاكه وهلاك جنوده على يديه ، ليعلم أن رب السموات والأرض هو الغالب على أمره ، الشديد المحال الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وخلاصة ما سلف :
(1) إن فرعون علا فى الأرض.
(2) استضعف حزبا من أحزاب مصر.
(3) قتل الأبناء.
(4) استحيا النساء.
(5) إنه كان من المفسدين.
وقد قابل سبحانه هذه الخمسة بخمسة مثلها تكرمة لبنى إسرائيل :
(1) إنه منّ عليهم بإنقاذهم من بطش فرعون وجبروته.
(2) إنه جعلهم أئمة مقدّمين فى الدارين.
(3) إنه ورّثهم أرض الشام.
(4) إنه مكن لهم فى أرض الشام ومصر.
(5) إنه أرى فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون من ذهاب ملكهم على أيديهم :
هذان عظمة وضعف يعقب أحدهما الآخر كما يعقب الليل النهار ، سنة اللّه فى خلقه ولن تجد لسنة اللّه تبديلا : « وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ » .
انظر إلى الدولتين الفارسية والرومية ، وما كان لهما من مجد بازخ ، وملك واسع ، كيف دالت دولتهما ، وذهب ريحهما بظلم أهلهما ، وتقسّم ملكهما ، ثم قامت بعدهما الدولة العربية وعاشت ما شاء اللّه أن تعيش ، ثم قام بعدها بنو عثمان وملكوا أكثر مما كان بيد الأمة العربية ، ثم هرمت دولتهم وشاخت واستولت عليها ممالك أوروبا.
« قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » .(20/35)
ج 20 ، ص : 36
[سورة القصص (28) : الآيات 7 الى 13]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11)
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13)
تفسير المفردات
الوحى : الإلهام كما جاء فى قوله : « وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ » والخوف : غم يحصل بسبب توقع مكروه يحدث فى المستقبل ، والحزن : (بفتحتين وبضم فسكون كالرّشد والرّشد والسّقم والسّقم) غم يحدث بسبب مكروه قد حصل ، واليمّ : البحر ، والمراد هنا نهر النيل ، والالتقاط : أخذ الشيء فجأة من غير طلب له ، والمراد من الخطأ هنا : الخطأ فى الرأى وهو ضد الصواب والمراد به الشرك والعصيان للّه ، وقرت به العين :
فرحت به وسرّت ، فارغا : أي خاليا من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه فى يد عدوه نحو ما جاء فى قوله : « وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ » أي خلاء(20/36)
ج 20 ، ص : 37
لا عقول بها ، والإبداء : إظهار الشيء ، والربط على القلب : شده والمراد هنا تثبيته ، وقصيه : أي اقتفى أثرة وتتبعى خبره ، فبصرت به : أي أبصرته ، عن جنب : أي عن بعد ، لا يشعرون : أي لا يدرون أنها أخته ، حرمنا : أي منعنا ، يكفلون : أي يضمنون رضاعه والقيام بشئونه ، والنصح : إخلاص العمل والمراد أنهم يعملون ما ينفعه فى غذائه وتربيته ، ولا يقصرون فى خدمته.
الإيضاح
بعد أن ذكر سبحانه أنه سيمنّ على بنى إسرائيل الذين استضعفوا فى الأرض ، أردف ذلك تفصيل بعض نعمه عليهم فقال :
(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) أي وألهمناها وقذفنا فى قلبها أن أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه عن عدوه وعدوك.
(فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) أي فإذا خفت عليه من جواسيس فرعون ونقبائه الذين يقتلون أولاد بنى إسرائيل اتباعا لأمره ، أو من الجيران أن يتمّوا عليه إذا سمعوا صوته ، فألقيه فى النيل ولا تخافي هلاكه ، ولا تحزنى لفراقه ، وقد تقدم فى سورة طه بيان الكيفية التي ألقته بها فى اليم.
روى أن دارها كانت على الشاطئ فاتخذت تابوتا ومهدت فيه مهدا وألقته فى النيل ، وليس هناك من دليل على الزمن الذي قصته بين الولادة والإلقاء فى اليم.
ثم وعدها سبحانه بما يسليّها ويطمئن قلبها ويملؤه غبطة وسرورا ، وهو رده إليها وجعله رسولا نبيا فقال :
(إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي إنا رادو ولدك إليك للرضاع وتكونين أنت مرضعه ، وباعثوه رسولا إلى هذا الطاغية وجاعلو هلاكه ونجاة بنى إسرائيل مما هم فيه من البلاء على يديه.
وهذه الآية اشتملت على أمرين : أرضعيه وألقيه ، ونهيين : ولا تخافي ولا تحزنى ،(20/37)
ج 20 ، ص : 38
وخبرين : إنا رادوه إليك وجاعلوه. وبشارتين فى ضمن الخبرين : وهما الرد والجعل من المرسلين ، حكى عن الأصمعى قال : سمعت أعرابية تنشد :
أستغفر اللّه لذنبى كله قبّلت إنسانا بغير حله
مثل الغزال ناعما فى دلّه فانتصف الليل ولم أصله
فقلت : قاتلك اللّه ما أفصحك! قالت أو يعد هذا فصاحة مع قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى ) الآية ؟ فجمع فى آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
ثم ذكر صدق وعده ومقدمات نجاته فقال :
(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) أي فأخذه أهل فرعون أخذ اللقطة التي يعنى بها وتصان عن الضياع صبيحة الليل الذي ألقى فيه التابوت.
روى أن الموج أقبل به يرفعه مرة ويخفضه أخرى حتى أدخله بين الأشجار عند بيت فرعون ، فخرج جوارى امرأته إلى الشط فوجدن التابوت فأدخلنه إليها وظنن أن فيه مالا ، فلما فنحنه وجدن فيه غلاما فوقعت عليها رحمته فأحبته.
ولما أخبرت فرعون به أراد أن يذبحه إذ قال إنى أخاف أن يكون هذا من بنى إسرائيل وأن يكون هلاكنا على يديه ، فلم تزل تكلمه حتى تركه لها.
ثم ذكر سبحانه أن العاقبة كانت ضد ما قصدت فقال :
(لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) أي لتكون عاقبة أمره كذلك إذ أراد اللّه هذا ، وهذا كما تقول لآخر تؤنبه على فعل كان قد فعله وهو يظن نفسه محسنا فيه وأدى الأمر إلى مساءة وضرّ قد لحقه : فعلت هذا لضر نفسك ، وهو قد كان حين الفعل راجيا نفعه غير أن العاقبة جاءت بخلاف ما كان يرجو ، وهذا جار على سنن العرب فى كلامهم ، فيذكرون الحال بالمئال ، قال شاعرهم :
وللمنايا تربّى كل مرضعة ودورنا لخراب الدهر نبنيها
وقال آخر :
فللموت تغذو الوالدات سخالها كما لخراب الدهر تبنى المساكن(20/38)
ج 20 ، ص : 39
فعاقبة البناء الخراب وإن كان فى الحال مفروحا به ، وعاقبة تغذية السخال الذبح وإن كانت الآن تغذّى لتسمن.
والخلاصة - إن اللّه قيّضهم لالتقاطه : ليجعله لهم عدوا وحزنا ، ويستبين لهم بطلان حذرهم منه.
وعداوته إياهم مخالفته لهم فى دينهم وحملهم على الحق ، وحزنهم بزوال ملكهم على يديه بالغرق بعد أن يظهر فيهم الآيات ولا يستجيبوا لدعوته ، فتحل بهم القوارع كما هى سنة اللّه فى خلقه المكذبين.
ثم بين أن القتل الذي يفعله فرعون وهامان وجنوده لبنى إسرائيل حمق وطيش فقال :
(إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) أي إن هؤلاء كان من دأبهم الخطأ وعدم التدبر فى العواقب ، ومن ثم قتلوا لأجله ألوفا ، ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون.
ثم حكى سبحانه قول امرأة فرعون حين رآه فرعون وهمّ بقتله.
(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ) أي قالت تخاصم عنه وتحببه إلى فرعون : إنه مما تقرّ به العيون ، وتفرح لرؤيته القلوب ، فلا تقتلوه.
ثم ذكرت العلة التي قالت لأجلها ما قالت.
(عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي لعلنا نصيب منه خيرا ، لأنى أرى فيه مخايل اليمن ، ودلائل النجابة ، كما قال الشاعر :
فى المهد ينطق عن سعادة جدّه أثر النجابة ساطع البرهان
أو نتخذه ولدا لما فيه من الوسامة وجمال المنظر التي تجعله أهلا لتبنى الملوك له ، وكانت لا تلد فاستوهبته من فرعون فوهبه لها.
ثم بين سبحانه أنهم لا يدرون خطأهم فيما صنعوا فقال :
(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وهم لا شعور لهم بما خبأه لهم القدر ، وبما يئول إليه أمرهم(20/39)
ج 20 ، ص : 40
معه من عظائم الأمور التي تؤدى إلى هلاكهم ، وإنما علم ذلك لدى علام الغيوب ، فهو الذي يدرى ما أراد بالتقاطهم إياه من الحكم البالغة ، والحجج القاطعة.
وبعد أن أخبر سبحانه عن حال من لقيه موسى عليه السلام خبّر عن حال من فارقه بقوله :
(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي إنها حين سمعت بوقوعه فى يد فرعون طار عقلها شعاعا لما دهمها من الجزع والحزن وتوقع الهلاك الذي لا مندوحة منه جريا على عادته مع أنداده ولداته ، ولو لا أن عصمناها وثبتنا قلبها لأعلنت أمرها ، وأظهرت أنه ابنها وقالت من شدة الوجد « وا ولداه » وقد فعلنا ذلك لتكون من المصدّقين بوعدنا : « إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ » .
ثم أخبر عن فعلها فى تعرف خبره بعد أن أخبر عن كتمها إياه بقوله :
(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وقالت لابنتها وكانت كبيرة تعى ما يقال لها : تتبّعى أثره ، وتسمّعى خبره ، فأبصرته عن بعد ، وهم لا يشعرون أنها تقصه ، وتتعرف حاله ، وأنها أخته.
ثم شرع سبحانه يذكر أسباب رده إليها فقال :
(وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) أي ومنعنا موسى المراضع من أول أمره ، فقالت أخته حين رأت اهتمامهم برضاعه : أ تحبون أن أرشدكم إلى أهل بيت يأخذونه ويتولون تربيته ويقومون بجميع شئونه ولا يقصّرون فى خدمته والعناية بأمره ؟
روى عن ابن عباس أنها لما قالت ذلك أخذوها وشكّوا فى أمرها وقالوا لها :
ما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه ؟ فقالت هم يفعلون ذلك رغبة منهم فى سرور الملك ورجاء عطائه ، وبذا خلصت من أذاهم ، وذهبوا معها إلى منزلهم ودخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه ، ففرحوا بذلك فرحا شديدا وذهب البشير إلى امرأة الملك(20/40)
ج 20 ، ص : 41
فاستدعت أم موسى وأحسنت إليها وأعطتها العطاء الجزيل ، ثم سألتها أن تقيم عندها وترضعه فأبت ذلك عليها وقالت إن لى بعلا وأولادا ولا أستطيع المقام عندك ، ولكن إن أحببت أن أرضعه فى بيتي فعلت ، فأجابتها إلى ما طلبت ، وأجرت عليها النفقة والصلات والكسا وجزيل العطايا ورجعت بولدها إلى بيتها راضية مرضية قد أبدلها اللّه بعد خوفها أمنا وهى موفورة العز والجاه والرزق الواسع ،
وقد جاء فى الأثر « مثل الذي يعمل الخير ويحتسب كمثل أم ترضع ولدها وتأخذ أجرها » .
وإلى هذا أشار سبحانه بقوله :
(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) أي فرددناه إلى أمه بعد أن التقطه آل فرعون ، لتقرّ عينها بابنها إذ رجع إليها سليما ، ولا تحزن على فراقه إياها.
(وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي ولتعلم أنّ وعد اللّه الذي وعدها حين قال لها :
(إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) حق لامرية فيه ولا خلف ، وقد شاهدت بعضه ، وقاست الباقي عليه.
وبرده إليها تحققت أنه سيكون رسولا ، فربّته على ما ينبغى لمثله من كامل الأخلاق وفاضل الآداب.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) حكم اللّه فى أفعاله وعواقبها المحمودة فى الدنيا والآخرة ، إذ قد يكون الشيء بغيضا إلى النفوس ظاهرا ، محمود العاقبة آخرا كما قال :
« فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً » .
وقد حدث هذا فى أمر موسى ، فقد ألقى فى اليم ثم رد إلى أمه مكرّما ثم كان له من الوجاهة فى الدنيا والآخرة ما كان.
[سورة القصص (28) : الآيات 14 الى 19]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)
فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)(20/41)
ج 20 ، ص : 42
تفسير المفردات
واحدة الأشد : شدة كأنعم ونعمة ، والشدة : القوة والجلادة ، وبلوغ الأشد :
استكمال القوة الجسمانية وانتهاء النمو المعتدّ به ، والاستواء : اعتدال العقل وكماله ، ويختلف ذلك باختلاف الأقاليم والأزمان والأحوال ، والحكم : الحكمة ، والمدينة : هى مصر ، على حين غفلة : أي فى وقت لا يتوقعون دخولها فيه ، من شيعته : أي ممن شايعه وتابعه فى الدين وهم بنو إسرائيل ، من عدوه : أي من مخالفيه فى الدين وهم القبط ، فاستغاثه أي طلب غوثه ونصره ، فوكزه أي فضربه بجمع يده ، أي بيده ، مجموعة الأصابع ، فقضى عليه : أي فقتله وأنهى حياته ، من عمل الشيطان : أي من تزيينه ، مبين : أي ظاهر العداوة والإضلال ، فاغفر لى : أي فاستر ذنوبى ، بما أنعمت علىّ : أي أقسم بنعمك علىّ ، ظهيرا : أي معينا ، يترقب : أي ينتظر ما يناله من أذى ، استنصره : أي طلب نصره ومعونته ، يستصرخه : أي يطلب الاستغاثة برفع الصوت ، غوىّ :(20/42)
ج 20 ، ص : 43
أي ضال ، يبطش : أي يأخذ بصولة وسطوة ، والجبار : هو الذي يفعل ما يفعل دون نظر فى العواقب ، من المصلحين : أي ممن يبغون الإصلاح بين الناس ، ويدفعون التخاصم بالحسنى
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما أفاض به على موسى من نعمه فى الصغر من إنجائه من الهلاك بعد وضعه فى التابوت وإلقائه فى النيل ، وإنجائه من الذبح الذي عم أبناء بنى إسرائيل - أردفه ذكر ما أنعم به عليه فى كبره من إيتائه العلم والحكمة ثم إرساله رسولا ونبيا إلى بنى إسرائيل والمصريين ، ثم ذكر ما حصل منه من قتل المصري الذي اختصم مع اليهودي بوكزه بجمع يده وكان ذلك سببا فى موته ، ثم طلبه المغفرة من ربه على ما فعل ، ثم تصميمه وعزمه ألا يناصر غويا مجرما ، ثم أعقب ذلك بذكر خصام آخر بين ذلك اليهودي وقبطى آخر وقد هم موسى بإغاثته أيضا ، فقال له المصري :
أتريد الإصلاح فى الأرض أم تريد أن تكون من الجبارين المفسدين ؟ .
الإيضاح
(وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي ولما قوى جسمه واعتدل عقله آتيناه فقها فى الدين وعلما بالشريعة كما قال تعالى : « وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ » وكما جزينا موسى على طاعته إيانا وإحسانه بصيره على أمرنا - نجزى كل من أحسن من عبادنا ، وأطاع أمرنا ، وانتهى عما نهيناه عنه.
وبعد أن أخبر بتهيئته للنبوة ذكر ما كان السبب فى هجرته إلى مدين وتوالى الأحداث الجسام عليه فقال :
(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) أي ودخل مصر آتيا من عين شمس فى وقت ليس من المعتاد الدخول فيه وهو وقت القائلة.(20/43)
ج 20 ، ص : 44
روى أنه دخلها مستخفيا من فرعون وقومه ، لأنه كان قد خالفهم فى دينهم وعاب ما كانوا عليه.
ثم أبان ما حدث منه حينئذ فقال :
(فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ، قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي فوجد فى مصر رجلين أحدهما من بنى إسرائيل وثانيهما من القبط وهو طباخ فرعون وكان قد طلب منه أن يحمل حطبا للمطبخ فأبى ، فطلب الإسرائيلى من موسى غوثه ونصره على عدوه القبطي ، فضر به موسى بجمع يده فى صدره وحنكه فقتله فقال :
إن هذا الذي حدث من القتل هو من تزيين الشيطان ووسوسته.
ثم أخبر عن حال الشيطان ليحذر منه فقال :
(إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) أي إنه عدو فينبغى الحذر منه ، مضل ، فلا يقود إلى خير بيّن العداوة والإضلال.
ثم أخبر بندم موسى على قتله نفسا لم يؤمر بقتلها بقوله :
(قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) أي قال رب إنى ظلمت نفسى بقتل نفس لا يحل قتلها ، فاغفر لى ذنبى واستره ولا تؤاخذني بما فعلت ، قال قتادة : عرف واللّه المخرج فاستغفر ا ه. ثم لم يزل صلى اللّه عليه وسلم يعدد ذلك على نفسه مع علمه بأنه قد غفر له ، حتى إنه يوم القيامة يقول عند طلب الناس الشفاعة منه : إنى قتلت نفسا لم أومر بقتلها ، وإنما عده ذنبا وقال : (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) من أجل أنه لا ينبغى لنبى أن يقتل حتى يؤمر بالقتل.
روى مسلم عن سالم بن عبد اللّه أنه قال : يا أهل العراق : ما أسألكم ، وأركبكم للكبيرة. سمعت أبى عبد اللّه بن عمر يقول : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول « إن الفتنة تجىء من هاهنا - وأومأ بيده نحو المشرق - من حيث يطلع قرنا الشيطان ، وأنتم بعضكم يضرب رقاب بعض ، وإنما قتل موسى الذي قتل من(20/44)
ج 20 ، ص : 45
آل فرعون خطأ فقال اللّه عزّ وجلّ : « وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً » .
ثم ذكر أنه أجاب دعاءه وغفر له فقال :
(فَغَفَرَ لَهُ) أي فعفا عن ذنبه ولم يعاقبه عليه وبعدئذ ذكر ما هو كالعلة لما قبله فقال :
(إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي إنه تعالى هو الستار لذنوب من أناب إليه ، المتفضل عليه بالعفو عنها ، الرحيم له أن يعاقبه بعد أن أخلص توبته ، ورجع عن حوبته.
ثم ذكر أنه شكر ربه على هذه النعمة التي أنعم بها عليه فقال :
(قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) أي قال رب اعصمني بحق ما أنعمت علىّ بعفوك عن قتل هذه النفس لأمتنعنّ عن مثل هذا الفعل ، ولن أكون معينا للمشركين فأصحبهم وأكثر سوادهم ، وقد كان عليه السلام يصحب فرعون ويركب بركوبه كالولد مع الوالد ، ومن ثم كانوا يسمونه ابن فرعون.
وقد يكون المراد لأمتنعن عن مظاهرة من تئول مظاهرته إلى الجرم والإثم كمظاهرة الإسرائيلى التي أدت إلى القتل الذي لم يؤمر به.
ونحو الآية قوله : « وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا » .
ثم ذكر حاله بعد قتل القبطي فى المدينة فقال :
(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) أي فصار موسى فى تلك المدينة التي قتل فيها القبطي خائفا من جنايته التي جناها بقتله النفس التي قتلها ، وصار يتحسس الأخبار ويسأل عما يتحدث به الناس من أمره وأمر القبطي وما هم بالغوه به ، وداخلته الهواجس خيفة أن يقتلوه به ، وإذا الإسرائيلى الذي استنصره بالأمس على المصري يطلب منه الغوث والعون على مصرى آخر ، فقال له موسى : إنك لذو غواية وضلال لا شك فيه ، وقد تبينت ذلك بقتالك أمس رجلا واليوم آخر ، ثم دنا منهما.(20/45)
ج 20 ، ص : 46
(فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى : أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) أي فلما أراد موسى أن يأخذ الفرعوني عدوهما بالشدة والعنف قال له منكرا :
أتريد أن تفعل معى كما فعلت بالأمس وتقتلنى كما قتلت من قتلت ؟ وكان قد عرف ذلك من حديث المصريين عنه.
ثم زاد الإنكار توكيدا فقال :
(إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) أي ما تريد إلا أن تكون قاهرا عاليا فى الأرض تضرب وتقتل دون أن تنظر فى العواقب ، ولا تريد أن تكون ممن يعمل فيها بما فيه صلاح أهلها ودفع تخاصمهم بالحسنى.
[سورة القصص (28) : الآيات 20 الى 28]
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)(20/46)
ج 20 ، ص : 47
تفسير المفردات
أقصى المدينة : أي أبعدها مكانا ، يسعى : أي يسرع ، الملأ : أشراف الدولة ووجوهها ، يأتمرون بك : أي يتشاورون فى أمرك ، قال الأزهرى ائتمر القوم وتآمروا إذا أمر بعضهم بعضا كما قال : « وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ » وقال النمر بن تولب :
أرى الناس قد أحدثوا شيمة وفى كل حادثة يؤتمر
يترقب : أي يلتفت يمنة ويسرة ، توجه إلى الشيء : صرف وجهه إليه ، تلقاء مدين : أي جهتها ، ورد : أي وصل ، والمراد بماء مدين : البئر التي كانوا يستقون منها ، أمة : أي جماعة ، تذودان : أي تطردان غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الأقوياء ، قال الشاعر :
لقد سلبت عصاك بنو تميم فما تدرى بأيّ عصا تذود ؟
ما خطبكما : أي ما شأنكما ولم لا تردان
إلا سحر مفتعل ، وما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين ، فقال لهم موسى : ربى أعلم بالمهتدي منا ومنكم ، وسيفصل بينى وبينكم ، ويجعل النصر والتأييد للصالحين من عباده.
الإيضاح
(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ. وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) أي قال يا رب إنى قتلت من قوم فرعون نفسا ، فأخاف إن أتيتهم ولم أبن عن نفسى بحجة أن يقتلونى ، لأن ما فى لسانى من عقدة يحول بينى وبين ما أريد من الكلام ، وأخى هرون هو أفصح منى لسانا ، وأحسن بيانا ، فأرسله معى عونا يلخّص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل ، ويجيب عن الشبهات ، ويجادل هؤلاء الجاحدين المعاندين ، وإنى أخاف أن يكذبونى ولسانى لا يطاوعنى حين المحاجة.
فأجابه سبحانه إلى ما طلب.
(قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) أي سنقويك ونعينك بأخيك ، ونجعل لكما تسلطا عظيما وغلبة على عدوكما ، فلا يصلون إليكما بوسيلة من وسائل الغلب.
(بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) أي أنتما ومن تبعكما الغالبون بحججنا وسلطاننا الذي يجعله لكما.
وفى هذا دليل على أن فرعون لم يصل إلى السحرة بشىء مما هددهم به ، لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين أنفسهم فى سبيل اللّه.(20/47)
صفحات ناقصة من ص 48 ـ 57
ج 20 ، ص : 48(20/48)
ج 20 ، ص : 58
ثم أبان ما صدر من فرعون عقب مجىء موسى إليه فقال :
(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي فحين جاء موسى بالحجج البالغة الدالة على صدق رسالته - فرغون وملأه ، قالوا ما هذا إلا سحر افتريته من عندك ، وانتحلته كذبا وبهتانا ، وما سمعنا بهذا الذي تدعونا إليه من عبادة إله واحد فى أسلافنا وآبائنا الذين مضوا من قبلنا.
وهذا تحكيم لعادة التقليد التي أضلّت كثيرا من الناس ، على أنهم قد كذبوا وافتروا ، فإنهم سمعوا بذلك فى عهد يوسف عليه السلام (وما بالعهد من قدم) فقد قال لهم الذي آمن : « يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ - إلى أن قال - وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ » .
ولما كذبوه كفرا وعنادا وهم الكاذبون رد عليهم بما أشار إليه بقوله :
(وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي وقال موسى مجيبا فرعون وملأه : ربى أعلم بالمحق منا يا فرعون من المبطل ، ومن الذي جاء بالحق الذي يوصّل إلى سبيل الرشاد ، ومن الذي له العقبى المحمودة فى الدار الآخرة ؟ .
وفى هذا الأسلوب من أدب الخطاب فى الحجاج والمناظرة ما لا يخفى ، فهو لم يؤكد أن خصمه فى ضلال كما لم ينسبه إلى نفسه بل ردده بينهما وهو يعلم أنه لأيهما ، وعلى هذا النحو جاء الخطاب من النبي صلى اللّه عليه وسلم للمشركين بقوله : « وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ » .
ثم علل هذا بأن سنة اللّه قد جرت بأن المخذول هو الكاذب فقال :
(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي إنه لا ينجح الكافرون ولا يدركون طلبتهم ، وفى هذا إيماء إلى أنهم لا يظفرون بالفوز والنجاة ، بل يحصلون على ضد ذلك ، وهذا غاية الزجر والتهديد لكفهم عن العناد.(20/49)
ج 20 ، ص : 59
[سورة القصص (28) : الآيات 38 الى 43]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
تفسير المفردات
هامان : وزير فرعون ، صرحا : أي قصرا عاليا ، أطلع : أي أصعد وأرتقى ، فنبذناهم : أي طرحناهم ، أئمة : واحدهم إمام وهو من يقتدى به فى الدين أو فى الدنيا ، يدعون إلى النار : أي إلى ما يوجبها من الكفر والمعاصي ، لعنة : أي طردا من الرحمة ، من المقبوحين : أي المخزيين ، يقال قبحه اللّه : أي نحاه من كل خير ، وقبحت وجهه وقبّحت بمعنى ، قال الشاعر :
ألا قبح اللّه البراجم كلّها وقبّح يربوعا وقبّح دارما
الكتاب : هو التوراة ، القرون الأولى : هم قوم نوح وهود وصالح ، بصائر :
واحدها بصيرة ، وهى نور القلب الذي يميز بين الحق والباطل.(20/50)
ج 20 ، ص : 60
المعنى الجملي
بعد أن رغّب موسى فرعون وقومه فى التوحيد والنظر فى الكون تارة ، ورهّبهم من عذاب اللّه وشديد نكاله تارة أخرى - أجابه فرعون بتلك المقالة التي تدل على الجهل المطبق ، ونقصان العقل ، وأنه بلغ غاية لا حدّ لها فى الإنكار وأنه لا مطمع فى إيمانه ، لعتوّه وطغيانه واستكباره فى الأرض حتى قال ما قال ، ومن ثم كانت عاقبته فى الدنيا الهلاك بالغرق هو وجنوده واللعن من اللّه والناس ، وفى الآخرة الطرد من رحمة اللّه.
ثم أخبر سبحانه أنه آتى موسى التوراة ، وجعلها نورا للناس يهتدون بها ، وتكون لهم تذكرة من عقاب اللّه ، وشديد عذابه.
الإيضاح
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) أي وقال فرعون يا أيها القوم ما علمت لكم فى أي زمن إلها غيرى كما يدّعى موسى ، والأمر محتمل أن يكون ، وسأحقق ذلك لكم ، وهذا كلام ظاهره الإنصاف ، ليتوصل بذلك إلى قبولهم ما يقول لهم بعد ذلك فى شأن الإله وتسليمهم إياه ، اعتمادا على ما رأوا من عظيم نصفته فى القول.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « كلمتان قالهما فرعون (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) وقوله : « أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى » كان بينهما أربعون عاما ، فأخذه اللّه نكال الآخرة والأولى » .
وخلاصة مقاله - لا علم لى برب غيرى فتعبدوه ، وتصدقوا قول موسى فيما جاءكم به ، من أن لكم وله ربا غيرى ، ومعبودا سواى.
ونحو الآية قوله : « فَحَشَرَ فَنادى . فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى . فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى » وقوله « لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ »(20/51)
ج 20 ، ص : 61
قال الرازي : ليس مراده من ادعاء الألوهية أنه خالق السموات والأرض والبحار والجبال وخالق الناس ، فإن العلم بامتناع ذلك واضح لكل ذى عقل ، بل مراده بذلك وجوب عبادته ، فهو ينفى وجود الإله ويقول : لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا مليكهم وينقادوا لأمره ا ه بتصرف.
ثم خاطب وزيره آمرا له على سبيل التهكم أمام موسى ، ليشكّك قومه فى صدق مقالته.
(فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى ) أي فاصنع لى آجرّا واجعل لى منه قصرا شامخا وبناء عالينا أصعد وأرتقى إلى إله موسى الذي يعبده فى السماء ، ويدعى أنه يؤيده وينصره وهو الذي أرسله إلينا.
وبمعنى الآية قوله : « وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً » .
ثم زاد قومه شكا فى صدقه بقوله :
(وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي وإنى لأظنه كاذبا فيما يدّعى ، من أن له معبودا فى السماء ينصره ويؤيده ، وأنه هو الذي أرسله.
ثم ذكر سبحانه ما هو كالسبب فى العناد والجحود فقال :
(وَ اسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) أي ورأى هو وجنوده كل من سواهم فى أرض مصر حقيرا ، عتوّا منهم على ربهم ، وحسبوا أنهم بعد مماتهم لا يبعثون ، ولا يثابون ولا يعاقبون ، ومن ثم ركبوا أهواءهم ، ولم يعلموا أن اللّه لهم بالمرصاد ، وأنه مجازيهم على خبيث أعمالهم ، وسيىء أقوالهم.
ثم أخبر بما نالهم من عقاب الدنيا بعد أن توعدهم بعقاب الآخرة فقال :
(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ) أي فجمعنا فرعون وجنوده من القبط فألقيناهم جميعا فى البحر.(20/52)
ج 20 ، ص : 62
وفى هذا ما لا يخفى من الدلالة على عظم شأن الخالق وكبريائه وسلطانه ، وشديد احتقاره لفرعون وقومه ، واستقلاله لهم وإن كانوا عددا كبيرا ، وجما غفيرا ، فما مثلهم إلا مثل حصيات صغار قذفها الرامي من يده فى البحر.
ثم أمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم وقومه بالنظر والاعتبار والتأمل فى العواقب ، ليعلموا أن هذه سنة اللّه فى كل مكذب برسله فقال :
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أي فانظر أيها المعتبر بالآيات ، كيف كان أمر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ، وكفروا بربهم ، وردوا على رسوله نصيحته - ألم نهلكهم ونوّرث ديارهم وأموالهم أولياءنا ونخوّلهم ما كان لهم من جنات وعيون ، وكنوز ومقام كبير ، بعد أن كانوا مستضعفين ، تقتّل أبناؤهم وتستحيا نساؤهم ، وإنّا بك وبمن آمن بك فاعلون ، فمخوّلوك وإياهم دبار من كذبك وردّ عليك ما أتيتهم به من الحق ، وأموالهم بعد أن تستأصلوهم قتلا بالسيف - سنة اللّه فى الذين خلوا من قبل.
ثم ذكر ما يوجب سوء عاقبتهم وعذابهم فى النار فقال :
(وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي وجعلنا فرعون وقومه أئمة يقتدى بهم أهل العتو والكفر باللّه ، فهم يحثون على فعل الشرور والمعاصي ، وتدسية النفوس بالفسوق والآثام التي تلقى بفاعلها فى النار.
وما كفاهم أن كانوا ضالين كافرين باللّه ورسوله ، بل دأبوا على إضلال سواهم وتحسين العصيان لهم ، وبذا قد ارتكبوا جريمتين ، فباءوا بجزاءين : جزاء الضلال وجزاء الإضلال ،
وقد جاء فى الحديث : « من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سنّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة » .
ثم ذكر أنه لا نصير لهم ولا شفيع فى ذلك اليوم فقال :
(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) أي ويوم القيامة لا يجدون نصيرا يدفع عنهم عذاب(20/53)
ج 20 ، ص : 63
اللّه إذا حاق بهم ، وقد كانوا فى الدنيا يتناصرون ، فكان لهم مطمع فى النصرة يومئذ بحسب ما يعرفون.
ثم ذكر ما هو كالفذلكة لما تقدم ، وبين سوء حالهم فى الدارين فقال :
(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) أي وألزمنا فرعون وقومه فى هذه الدنيا خزيا وغضبا منا عليهم ومن ثم قضينا عليهم بالهلاك والبوار وسوء الأحدوثة ، ونحن متبعوهم لعنة أخرى يوم القيامة ، فمخزوهم الخزي الدائم ومهينوهم الهوان اللازم الذي لا فكاك عنه.
ثم بين سبحانه الحاجة التي دعت إلى إرسال موسى ليكون كالتوطئة لبيان الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن الكريم على رسوله صلى اللّه عليه وسلم فقال :
(وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي ولقد أنزلنا على موسى التوراة وفصلنا فيها الأحكام التي فيها سعادة البشر فى دنياهم وآخرتهم من بعد ما أهلكنا الأمم التي من قبلهم كقوم نوح وهود وصالح ، ودرست معالم الشرائع وطمست آثارها واختلت نظم العالم ، وفشا بينهم الشر ، ورفع الخير. فاحتاج الناس إلى تشريع جديد يصلح ما فسد من عقائدهم وأفعالهم ، بتقرير أصول فى ذلك التشريع تبقى على وجه الدهر ، وترتيب فروع تتبدل بتبدل العصور واختلاف أحوال الناس ، وفيها التذكير بأحوال الأمم الخالية ، ليكون فى ذلك عبرة للناس ، ونور لقلوبهم ، تبصر به الحقائق ، وتميز لحق من الباطل ، بعد أن كانوا فى عماية عن الفهم والإدراك ، وتهديهم إلى ما يوصلهم إلى القرب من ربهم ، ونيل رضوانه ومغفرته ورحمته ، ليتذكروا نعم اللّه عليهم فيشكروه عليها ، ولا يكفروا بها.
قال أبو سعيد الخدري : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : « ما أهلك اللّه قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة(20/54)
ج 20 ، ص : 64
على موسى غير القرية التي مسخت قردة ، ألم تر إلى قوله تعالى : « وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى » .
[سورة القصص (28) : الآيات 44 الى 47]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
تفسير المفردات
الغربي : هو الجبل الغربي الذي وقع فيه الميقات وأعطى اللّه فيه ألواح التوراة لموسى ، قضينا : أي عهدنا إليه وكلفناه أمرنا ونهينا ، الأمر : أي أمر الرسالة ، الشاهدين :
أي الحاضرين ، فتطاول عليهم العمر : أي بعد الأمد ، ونحوه « فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ » ثاويا : أي مقيما. قال العجّاج :
فبات حيث يدخل الثّوىّ أي الضيف المقيم ، أهل مدين : أي قوم شعيب
عليه السلام ، مصيبة : أي عذاب الدنيا والآخرة ، ولو لا الثانية بمعنى هلا وتفيد تمنى حصول ما بعدها والحث عليه.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه فيما سلف أنه أرسل موسى بعد أن أهلك القرون الأولى ، ودرست الشرائع ، واحتيج إلى نبى يرشد الناس إلى ما فيه صلاحهم فى معاشهم ومعادهم(20/55)
ج 20 ، ص : 65
أردف ذلك بيان الحاجة إلى إرسال رسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم لمثل تلك الدواعي التي دعت إلى إرسال موسى عليه السلام ، لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل ، ولأن رحمته اقتضت ألا يعذب أحدا إلا إذا أرسل رسولا ، ويتضمن ذلك كون القرآن وحيا من عند اللّه ، لأن ما فصل فيه من الأحوال لا يتسنى إلا بالمشاهدة أو التعلم ممن شاهدها ، وقد انتفى كلاهما فتبين أنه بوحي من علام الغيوب.
الإيضاح
(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي وما كنت حاضرا بجانب الجبل الغربي الذي وقع فيه الميقات وأعطى اللّه فيه ألواح التوراة لموسى حين عهدنا إليه أمر النبوة ، وما كنت من جملة السبعين الذين اختيروا لسماع تفاصيل ذلك الأمر الذي أوحينا به إلى موسى حتى تخبر به كله على الوجه الذي أتيناك به فى هذه الأساليب المعجزة.
وخلاصة ذلك - إن إخبارك بالغيوب الماضية التي لم تشهدها وقد قصصتها كأنك سامع راء لها وأنت أمي لا نقرأ ولا تكتب ، وقد نشأت بين قوم أميين لا يعرفون شيئا من ذلك - لهو من أعظم البراهين على نبوتك ، وإن إخبارك بذلك إنما هو بوحي من اللّه كما قال : « أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى » .
(وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي ولكنا أنشأنا من عهد موسى إلى عهدك قرونا كثيرة فتطاول عليهم العمر إلى أن وجد القرن الذي أنت فيه فدرست العلوم فوجب إرسالك إليهم ، فأرسلناك وعرّفناك أحوال الأنبياء ، وأحوال موسى ، وأرسلناك بما فيه سعادة البشر.
والخلاصة - إنك ما كنت شاهدا موسى وما جرى له ولكنا أوحيناه إليك ، وفى هذا تنبيه إلى المعجزة كأنه قال : إن فى إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلّم من أهله - لدلالة ظاهرة على نبوتك.(20/56)
ج 20 ، ص : 66
ثم ذكر ما هو كالدليل على ذلك فقال :
(1) (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي وما كنت مقيما بين أهل مدين تتلقف القصة ممن شاهدها ، وتقرؤها عليهم بطريق التعلم منهم كما يقرأ المتعلم على معلمه ، فتفهّم أخبار موسى بهذا الطريق ونحوه.
(وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) لك موحين إليك تلك الآيات ونظائرها ، ولو لا ذلك ما علمتها وما أخبرتهم بها.
(2) (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) أي وما كنت بجانب الطور ليلة المناجاة وتكليم اللّه موسى حتى تحدّث أخبارها ، وتفصل أحوالها ، حديث الخبير العليم ببواطن أمورها وظواهرها.
(وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بتلك الأخبار وبغيرها مما فيه صلاح البشر وسعادتهم فى معاشهم ومعادهم ، لتنذر قوما لم يأتهم قبلك نذير ، وتحذّرهم بأس اللّه وشديد عقابه على إشراكهم به وعبادتهم الأوثان والأنداد ، لعلهم يرجعون عن غيهم ، ويتذكرون عظيم خطئهم ، وكبير جرمهم ، فينيبوا إلى ربهم ، ويقروا بوحدانيته ، ويفردوه بالعبادة دون سواه من الآلهة.
ثم ذكر الحكمة فى إرسال الرسول صلى اللّه عليه وسلم إليهم ، وأن فى ذلك قطعا لمعذرتهم ، حتى إذا جاءهم بأسنا لم يجدوا حجة فقال :
(وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا : رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولو لا أن يقول هؤلاء الذين أرسلناك إليهم حين يحلّ بهم بأسنا ويأتيهم عذابنا على كفرهم بربهم واجتراحهم للمعاصى قبل أن نرسلك إليهم : ربنا هلّا أرسلت إلينا رسولا قبل أن يحلّ بنا سخطك وينزل بنا عذابك ، فنتبع أدلتك وآي كتابك التي تنزلها عليه ، ونكون من المؤمنين بألوهيتك المصدقين برسولك - لعاجلناهم العقوبة على شركهم ، لكنا بعثناك إليهم نذيرا ببأسنا(20/57)
ج 20 ، ص : 67
كما هو سنتنا فى أمثالهم كما جاء فى الآية الكريمة : « لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ » .
والخلاصة - إنا أزحنا العذر ، وأكملنا البيان ، فبعثناك أيها الرسول إليهم ، وقد حكمنا بأنا لا نعاقب عبدا إلا بعد إكمال البيان والحجة وبعثة الرسل.
[سورة القصص (28) : الآيات 48 الى 51]
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
تفسير المفردات
الحق : أي الأمر الحق وهو القرآن ، سحران : أي ما أوتيه موسى وما أوتيه محمد ، تظاهرا : أي تعاونا وتناصرا ، فإن لم يستجيبوا لك : أي فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به ، والتوصيل : ضم قطع الحبل بعضها إلى بعض قال شاعرهم :
فقل لبنى مروان ما بال ذمّتى بحبل ضعيف ما يزال يوصّل
والمراد به هنا إنزال القرآن منجّما مفرقا يتصل بعضه ببعض.
المعنى الجملي
بعد أن بين فيما سلف أنه إنما أرسل رسوله قطعا لمعذرتهم حتى لا يقولوا حين نزول بأسنا بهم : هلا أرسلت إلينا رسولا فنتبعه - أردفه بيان أنه حين مجىء الرسول وإنزال(20/58)
ج 20 ، ص : 68
القرآن عليه جحدوا به ، وكذبوا رسالته ، ولم يعتدوا بكتابه ، وطلبوا مجىء معجزات كمعجزات موسى ، من مجىء التوراة جملة ، وقلب العصا ، وإخراج اليد بيضاء من غير سوء ، وقد كفر المعاندون من قبلهم بما جاء به موسى من المعجزات وقالوا : ما هى إلا سحر مفترى وما هى إلا أساطير الأولين وإن موسى ومحمدا ساحران تعاونا على الخداع والتضليل ، وإنا لكافرون بكل منهما.
ثم أمر رسوله أن يقول لهم : إن استطعتم أن تأتوا بكتاب خير من كتابيهما موصل إلى الحق هاد إلى سبيل الرشد فافعلوا ، فإن لم تستطيعوا ذلك فأنتم متبعون للهوى ، سالكون سبيل الضلال ، ولا أضل ممن يسلك هذه السبيل.
ثم ذكر أنه ما أرسل الكتاب منجما على هذا النهج إلا ليكون فيه عبرة وذكرى لهم بين آن وآخر لعلهم يرتدعون عن غيهم ، ويثوبون إلى رشدهم.
الإيضاح
(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى ) أي فلما جاء محمد صلى اللّه عليه وسلم هؤلاء القوم الذين لم يأتهم نذير من قبله - بالكتاب الكريم قالوا تمردا وعنادا وتماديا فى الغى والضلال : هلا أوتى مثل ما أوتى موسى من المعجزات كقلب العصا حية واليد البيضاء وتظليل الغمام إلى نحو أولئك.
ثم ذكر أن هذه شنشنة المعاندين فى كل زمان ، لا يريدون بما يقولون إظهار الحق ، بل يقصدون التمادي والإنكار ، ألا ترى أن من أرسل إليهم موسى قالوا مثل هذه المقالة كما أشار إلى ذلك بقوله :
(أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ ؟ ) أي إن المعاندين الذين مذهبهم كمذهبكم وهم الكفار الذين كانوا فى زمن موسى كفروا بما جاء به موسى ، فأنتم متّبعون نهجهم ، وسالكون سبيلهم.
ثم بين طريق كفرهم به فقال :
(قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) أي قالوا إن موسى ومحمدا ساحران(20/59)
ج 20 ، ص : 69
تعاونا على الدّجل والتضليل ، وخداع السّذج من الجماهير ، ولم يرسلهما ربهما لهداية البشر كما زعما ، وإنا لكافرون بكل منهما ، ولا نؤمن بما جاءا به.
ثم أمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يتحدى قومه بأن يأتوا بكتاب أهدى للبشر ، وأصلح لحالهم فى المعاش والمعاد من التوراة والقرآن فقال :
(قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ائتوني بكتاب من عند اللّه أصلح لهداية البشر من التوراة والقرآن ، فإن جئتم به فإنى لأتركهما وأتبع ما تجيئون به ، إن كنتم صادقين فيما تقولون ، جادّين فيما تدّعون.
ثم توعدهم إذا هم نكصوا على أعقابهم ، ولم يلبّوا طلبه ، ولم يأتوا بالكتاب فقال :
(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) أي فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به فاعلم أنهم سادرون فى غلوائهم ، متبعون لأهوائهم ، راكبون لرءوسهم ، حائدون عما يقتضيه الدليل والبرهان.
ثم بين عاقبة من يتبع الهوى فقال :
(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ ؟ ) أي ومن أضل عن طريق الرشاد وسبيل السداد ، ممن سار متبعا الهوى بغير بيان من اللّه وعهد منه بما ينزله على رسله بوحي منه.
وفى هذا من التشنيع عليهم ، وتقبيح فعلهم ما لا يخفى على كل ذى لب.
ثم بين سنته تعالى فى خلقه فقال :
(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن اللّه لا يوفّق لإصابة الحق واتباع سبيل الرشد ، من خالفوا أمره ، وتركوا طاعته ، وكذبوا رسله ، وبدّلوا عهده ، واتبعوا هوى أنفسهم ، إيثارا منهم لطاعة الشيطان على طاعة الرحمن.
ولما أثبت نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم بين الحكمة فى إنزال القرآن منجّما فقال :
(وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي ولقد نزلنا عليهم القرآن متواصلا(20/60)
ج 20 ، ص : 70
بعضه إثر بعض على ما تقتضيه الحكمة ، وترشد إليه المصلحة ، وهى أن يكون أقرب إلى التذكير والتنبيه ، فهم فى كل يوم يطلعون فيه على حكمة جديدة وفائدة زائدة ، فيكون ذلك أدعى إلى إيمانهم ، ورسوخه فى نفوسهم ، وامتلاء قلوبهم نورا به.
[سورة القصص (28) : الآيات 52 الى 55]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55)
تفسير المفردات
مسلمين : أي منقادين خاضعين للّه ، يدرءون أي يدفعون ، واللغو : ما حقه أن يلغى ويترك من العبث وسخف القول ، سلام عليكم : أي سلام لكم مما أنتم فيه ، لا نبتغى الجاهلين : أي لا نريد أن نكون من أهل السفه والجهل ، فنجازيكم على باطلكم بباطل مثله.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت أن القرآن وحي من عند اللّه ، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - أكد هذا بأن أثبت أن أهل الكتاب آمنوا به حين رأوا الأدلة تتظاهر على صدقه ، وموافقته لما فى كتبهم من وصف ، فأجدر بمن لا كتاب لهم من قبله أن يؤمنوا به.
قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية فى سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي(20/61)
ج 20 ، ص : 71
إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فلما قدموا عليه قرأ عليهم (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) حتى ختمها فجعلوا يبكون وأسلموا.
الإيضاح
(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) أي الذين آمنوا بالتوراة والإنجيل من أهل الكتاب ، ثم أدركوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم آمنوا بالقرآن ، لأنهم قد وجدوا فى كتبهم البشرى به ، وانطباق الأوصاف عليه.
ونحو الآية قوله : « وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ » ، وقوله : « الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ » .
(وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) أي وإذا تلى هذا القرآن عليهم قالوا صدّقنا بأنه نزل من عند ربنا حقا ، وقد كنا مصدّقين به قبل نزوله ، لأنا وجدنا فى كتبنا نعت محمد ، ونعت كتابه.
وفى هذا إيماء إلى أن إيمانهم به متقادم العهد ، فآباؤهم الأولون قرءوا فى الكتب الأول ذكره ، وأبناؤهم من بعدهم فعلوا كما فعلوا من قبل نزوله.
ثم بين جزاءهم على إيمانهم به بعد إيمانهم بما سبقه من الكتب بقوله :
(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) أي هم يؤتون ثواب عملهم مرتين :
مرة على إيمانهم بكتابهم ، ومرة على إيمانهم بالقرآن ، بسبب صبرهم وثباتهم على الإيمانين فإنّ تجشم مثل هذه المشاقّ شديد على النفوس ، فقد يصيبهم من جرّاء ذلك أذى من قومهم أو من المشركين فى اتباعهم محمدا صلى اللّه عليه وسلم.
ونحو الآية قوله تعالى فى شأنهم « يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ »
وفى الحديث الصحيح عن أبى موسى الأشعري رضى اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي ، وعبد(20/62)
ج 20 ، ص : 72
مملوك أدّى حق اللّه وحق مواليه ، ورجل كانت له أمة فأدّبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها »
وروى أبو أمامة قال : إنى لتحت راحلة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الفتح فقال قولا حسنا جميلا وقال فيما قال : « من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين وله ما لنا وعليه ما علينا » .
ثم ذكر من أوصافهم ما يؤهّلهم للزلفى والقرب من ربهم فقال :
(1) (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي وهم يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم بالصفح والعفو عنه.
(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون مما أعطاهم اللّه من فضله من المال الحلال ، النفقات الواجبة لأهلهم وذوى قرباهم ، ويؤدون الزكاة المفروضة عليهم ، ويساعدون البائسين وذوى الخصاصة المعوزين.
(3) (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) أي وإذا سمعوا ما لا ينفع فى دين ولا دنيا ، من السب والشتائم وتكذيب الرسول أعرضوا عن قائليه ولم يخالطوهم ، وإذا سفه عليهم سفيه ، وكلّمهم بما لا ينبغى رده من القول لم يقابلوه بمثله ، إذ لا يصدر منهم إلا طيب الكلام ، وقالوا لنا أعمالنا لا تثابون على شىء منها ولا تعاقبون ، ولكم أعمالكم لا نطالب بشىء منها ، فنحن لا نشغل أنفسنا بالرد عليكم ، سلام عليكم سلام متاركة وتوديع ، فإنا لا نريد طريق الجاهلين.
ونحو الآية قوله تعالى : « وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً » .
روى محمد بن إسحق « أنه قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلا أو يزيدون من نصارى الحبشة حين بلغهم خبره ، فوجدوه فى المسجد ، فجلسوا إليه وكلموه وسألوه ، ورجال من قريش فى أنديتهم حول الكعبة ، فلما فرغوا من مساءلته عما أرادوا دعاهم إلى اللّه وتلا عليهم القرآن ، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا اللّه وآمنوا به وصدّقوه ، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم فى كتابهم من أمره ،(20/63)
ج 20 ، ص : 73
فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام فى نفر من قريش فقالوا لهم : خيّبكم اللّه من ركب ، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل ، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال ، ما رأينا ركبا أحمق منكم ، فقالوا لهم : سلام عليكم ، لا نجاهلكم ، لنا ما نحن عليه ، ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خير.
[سورة القصص (28) : الآيات 56 الى 57]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)
تفسير المفردات
الهداية : تارة يراد بها الدعوة والإرشاد إلى طريق الخير وهى التي أثبتها اللّه لرسوله فى قوله « وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » وتارة يراد بها هداية التوفيق وشرح الصدر بقذف نور يحيا به القلب كما جاء فى قوله : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً » وهى بهذا المعنى نفيت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى هذه الآية ، يجبى إليه : أي يجمع إليه ، يقال جبى الماء فى الحوض : أي جمعه ، والجابية :
الحوض العظيم ، والخطف : الانتزاع بسرعة ويراد به هنا الإخراج من البلاد.
المعنى الجملي
بعد أن أبان فيما سلف أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى آمنوا به ، وجاءوا إليه زرافات ووحدانا من كل فج عميق ، وجابوا الفيافي وقطعوا البحار للإيمان به ،(20/64)
ج 20 ، ص : 74
بعد أن سمعوا أخباره ، وترامت لهم فضائله وشمائله ، وقد كان فى هذا مقنع لقومه أن يؤمنوا به وأن تحدثه نفسه الشريفة بالطمع فى إيمانهم ، ودخول الهدى فى قلوبهم والانتفاع بما آتاه اللّه من العرفان ، فتكون لهم به السعادة فى الدنيا والآخرة - أردف ذلك الآية الأولى تسلية له صلى اللّه عليه وسلم إذ لم ينجع فى قومه الذين يحبهم ويحرص عليهم أشد الحرص - إنذاره وإبلاغه ، فيقبلوا ما جاء به ، بل أصرّوا على ما هم عليه ، وقالوا لو لا أوتى مثل ما أوتى موسى ، فكانوا على عكس قوم هم أجانب عنه آمنوا بما جاء به ، وقالوا إنه الحق من ربنا.
وقد استفاضت الأخبار بأن الآية نزلت فى أبى طالب ،
فقد أخرج عبد بن حميد ومسلم والترمذي والبيهقي فى الدلائل عن أبى هريرة قال : « لما حضرت أبا طالب الوفاة أتاه النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال يا عماه : قل لا إله إلا اللّه أشهد لك بها عند اللّه يوم القيامة ، فقال : لو لا أن تعيّرنى قريش ، يقولون ما حمله على ذلك إلا جزعه من الموت لأقررت بها عينك ، فأنزل اللّه (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) » الآية.
ونزل فى الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف حين أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : نحن نعلم أنك على الحق ، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب ونحن أكلة رأس (يريد : إنا قليلو العدد) أن يتخطفونا - قوله تعالى : (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى ) الآية.
الإيضاح
(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي إنك لا تستطيع هدى من أحببت من قومك أو من غيرهم هدى موصلا إلى البغية ، فتدخله فى دينك وإن بذلت كل مجهود ، وإنما عليك البلاغ ، واللّه يهدى من يشاء ، وله الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة.
وبمعنى الآية قوله : « لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ » .
وقوله : « وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ » .(20/65)
ج 20 ، ص : 75
(وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي وهو أعلم بالمستعدّين للهداية فيمنحونها ، ومنهم الذين ذكرت أوصافهم من أهل الكتاب ، دون من هم من أهل الغواية كقومك وعشيرتك.
ثم أخبر سبحانه عن اعتذار بعض الكفار فى عدم اتباعهم للهدى فقال :
(وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) أي وقالوا : نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى ، وخالفنا من حولنا من أحياء العرب المشركين أن يقصدونا بالأذى ، ويحاربونا ويجلونا من ديارنا.
فرد اللّه عليهم مقالتهم وأبان لهم ضعف شبهتهم فقال :
(أَ وَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا ؟ ) أي إن ما اعتذرتم به لا يصلح أن يكون عذرا ، لأنا جعلناكم فى بلد أمين ، وحرم معظّم منذ وجد ، فكيف يكون هذا الحرم آمنا لكم حال كفركم وشرككم ولا يكون أمنا لكم وقد أسلمتم واتبعتم الحق ؟ قال يحيى بن سلام : يقول : كنتم آمنين فى حرمى ، تأكلون رزقى ، وتعبدون غيرى ، أ فتخافون إذ عبدتمونى وآمنتم بي ؟ وقد تفضل عليكم ربكم وأطعمكم من كل الثمرات التي تجلب من فجاج الأرض والمتاجر والأمتعة من كل بلد ، رزقا منه لكم.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي ولكن أكثرهم جهلة لا يفطنون إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم ومن ثم قالوا ما قالوا ، وقد كان من حقهم أن يعلموا أن تلك الأرزاق إنما وصلت إليهم من ربهم ، فهو الذي يخشى ويتّقى ، لا سواه من المخلوقين.
[سورة القصص (28) : الآيات 58 الى 59]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59)(20/66)
ج 20 ، ص : 76
تفسير المفردات
بطرت : أي بغت وتجبرت ولم تحفظ حق اللّه ، وأمّها : أكبرها وأعظمها ، وهى قصبتها (عاصمتها).
المعنى الجملي
هذا هو الرد الثاني على شبهتهم ، فإنه بعد أن بين ما خص به أهل مكة من النعم أتبعه بما أنزله على الأمم الماضية الذين كانوا فى رغد من العيش ، فكذبوا الرسل ، فأزال عنهم تلك النعم ، وأحل بهم النقم.
وإجمال هذا - إن قولكم لا نؤمن خوفا من زوال النعم ليس بحق ، بل الإصرار على عدم قبول الإيمان هو الذي يزيل هذه النعم.
ثم بين أن من سنته تعالى ألا يهلك قوما إلا إذا أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين.
الإيضاح
(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا) أي وكثير من القرى أثرى أهلها وسعوا فى الأرض فسادا وبطروا تلك النعم ، فخرّب اللّه ديارهم ، وأصبحت خاوية لم يعمر منها إلا أقلها ، وصار أكثرها خرابا يبابا.
ونحو الآية قوله : « وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ » .
(وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) لهم ، إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم فى ديارهم وسائر ما يتصرفون فيه.
والشيء إذا لم يبق له مالك معين قيل إنه ميراث اللّه ، لأنه هو الباقي بعد خلقه.
ونحو الآية قوله : « وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ » .(20/67)
ج 20 ، ص : 77
ثم أخبر سبحانه عن عدله وأنه لا يهلك أحدا إلا بعد الإنذار وقيام الحجة بإرسال الرسل فقال :
(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي وما كانت سنته فى عباده أن يهلك القرى حتى يبعث فى كبراها رسولا يتلو عليهم الآيات الناطقة بالحق ، ويدعوهم إليه بالترغيب حينا ، والترهيب حينا آخر ، فيكون ذلك أدعى إلى إلزام الحجة وقطع المعذرة.
وإنما كان البعث فى أم القرى ، لأن فى أهلها فطنة وكياسة ، فهم أقبل للدعوة ، وأعرف بمواقع الحق إلى أن الرسول يبعث للأشراف كما يرسل إلى العامة ، وهم يسكنون المدائن وهى أمّ ما حولها.
ونحو الآية قوله : « وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا » .
ثم بين أنه لا يهلك القرى بعد إرسال الرسل إلا إذا ظلموا أنفسهم وكذبوا رسلهم فقال :
(وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) أي ولا نهلك القرى التي نبعث فيها الرسل الذين يدعونهم إلى الحق ، ويرشدونهم إلى سبيل السّداد إلا إذا ظلموا بتكذيب الرسول وكفروا بالآيات ، فلا نهلك قرية بإيمان ، ولكن نهلكها بظلمها واجترامها المعاصي وارتكابها الآثام ، وقوله : بظلم إشارة إلى أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلما منه ، تعالى ربنا عن ذلك علوا كبيرا
[سورة القصص (28) : الآيات 60 الى 61]
وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)(20/68)
ج 20 ، ص : 78
تفسير المفردات
من المحضرين : أي الذين يحضرون للعذاب ، وقد اشتهر ذلك فى عرف القرآن كما قال : « لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ » وقال : « إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ » لأن فى ذلك إشعارا بالتكليف والإلزام ، ولا يليق ذلك بمجالس اللذات بل هو أشبه بمجالس المكاره والمضار.
المعنى الجملي
هذا هو الرد الثالث على تلك الشبهة ، فإن خلاصة شبهتهم أنهم تركوا الدين لئلا تفوتهم منافع الدنيا ، فرد اللّه عليهم بأن ذلك خرق رأى وخطل عظيم ، فإن ما عند اللّه خير مما فيها ، لكثرة منافعه وخلوصه من شوائب المضار ، ومنافعها مشوبة ، وهو أبقى مما فيها ، لأنه دائم لا ينقطع ، ومنافعها لا بقاء لها ، فمن الجهل الفاضح إذا ترك منافع الآخرة لاستيفاء منافعها ، ولا سيما إذا قرنت تلك المنافع بعقاب الآخرة.
الإيضاح
(وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها ، وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى ) أي وما أعطيتم أيها الناس من شىء من الأموال والأولاد ، فإنما هو متاع تتمتعون به فى الحياة الدنيا ، وتتزينون به فيها ، وهو لا يغنى عنكم شيئا عند ربكم ، ولا يجديكم شروى نقير لديه ، وما عنده خير لأهل طاعته وولايته لدوامه وبقائه ، بخلاف ما عندكم فإنه ينفد وينقطع بعد أمد قصير.
ونحو الآية قوله « ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ » وقوله : « وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ » وقوله : « بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى » ،
وفى الحديث : « واللّه ما الحياة الدنيا فى الآخرة إلا كما يغمس أحدكم إصبعه فى اليمّ ، فلينظر ماذا يرجع إليه ؟ »
.(20/69)
ج 20 ، ص : 79
(أَفَلا تَعْقِلُونَ ؟ ) أي أفلا عقول لكم أيها القوم تتدبرون بها ، فتعرفون الخير من الشر ، وتختارون لأنفسكم خير المنزلتين على شرهما ، وتؤثرون الدائم الذي لا نفاد له على الفاني الذي ينقطع ، ومن أجل هذا أثر عن الشافعي رحمه اللّه أنه قال : من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث للمشتغلين بطاعة اللّه تعالى - وكأنه رحمه اللّه أخذه من هذه الآية.
ثم أكد ترجيح ما عند اللّه على ما فى الدنيا من زينة بقوله :
(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ؟ ) أي أ فمن وعدناه من خلقنا على طاعته إيانا بالجنة وجزيل نعيمها ، مما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر ، فآمن بما وعدناه وأطاعنا فاستحق أن ننجز له وعدنا فهو لاقيه حتما وصائر إليه ، كمن متعناه الحياة الدنيا ونسى العمل بما وعدنا به أهل الطاعة ، وآثر لذة عاجلة على لذة آجلة لا تنفد ، ثم هو يوم القيامة إذا ورد على اللّه كان من المحضرين لعذابه وأليم عقابه ؟ .
وهذه الآية تبين حال كل كافر متّع فى الدنيا بالعافية والغنى وله فى الآخرة النار ، وحال كل مؤمن صبر على بلاء الدنيا ثقة بوعد اللّه وله فى الآخرة الجنة.
وخلاصة ذلك - أ فمن سمع كتاب اللّه فصدّق به ، وآمن بما وعده اللّه فيه ، كمن متعناه متاع الحياة الدنيا وقد كفر باللّه وآياته ثم هو يوم القيامة من المحضرين لعذابه - الجواب الذي لا ثانى له - إنهما لا يستويان فى نظر العقل الرجيح ؟ !.
وتلخيص المعنى : إنهم لما قالوا تركنا الدين للدنيا قيل لهم : لو لم يحصل عقب دنياكم مضرة العقاب لكان العقل يقضى بترجيح منافع الآخرة على منافع الدنيا ، فكيف وبعد هذه اللذة فيها يحصل العقاب الدائم ؟ .
وجاء الكلام بأسلوب الاستفهام ليكون أبلغ فى الاعتراف بالترجيح.(20/71)
ج 20 ، ص : 80
[سورة القصص (28) : الآيات 62 الى 67]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66)
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
تفسير المفردات
حق : أي وجب وثبت ، والقول : أي مدلول القول ومقتضاه وهو قوله : « لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ » والغواية : الضلال ، والفعل غوى يغوى كضرب يضرب ، فلم يستجيبوا لهم : أي فلم يجيبوا ، عميت : أي خفيت ، والأنباء : الحجج التي تنجيهم ، ولا يتساءلون ، أي لا يسأل بعضهم بعضا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن التمتع بزينة الدنيا وزخرفها دون طاعة اللّه وعظيم شكره على نعمه - يكون وبالأعلى الكافر يوم القيامة حين يحضر للعذاب - أردف ذلك بيان ما يحصل فى هذا اليوم من الإهانة والتقريع للمشركين حين يسألهم سؤالات يحارون فى الجواب عنها ، ويشتد عليهم الخطب حين لا يجدون مخلصا ومعذرة تبرر لهم ما كانوا يقترفون ، فيسألهم أوّلا عن الآلهة التي كانوا يعبدونها فى الدنيا من أصنام وأوثان ، هل ينصرونهم أو ينتصرون ؟ ثم يأمرهم بدعوتهم فلا يجدون منهم ردا ، ثم يسألهم عما أجابوا به الرسل حين دعوهم إلى الإيمان بربهم ، فتخفى عليهم الحجج التي(20/72)
ج 20 ، ص : 81
تنجيهم من العذاب الذي لا مفر لهم منه ، ولا يستطيع بعضهم أن يسأل بعضا عما يلقنه من حجة لهول الموقف واشتداد الخطب ، ثم ذكر بعدئذ حال المؤمنين بربهم الذين عملوا صالح الأعمال ، وبين أنهم يلقون الفوز والظفر بالمراد فضلا من ربهم ورحمة.
الإيضاح
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ؟ ) أي واذكر أيها الرسول لقومك يوم ينادى رب العزة هؤلاء الذين يضلّون الناس ويصدون عن سبيل اللّه فيقول لهم : أين شركائى من الملائكة والجن والكواكب والأصنام الذين كنتم تزعمون فى الدنيا أنهم لى شركاء - ليخلّصوكم من هذا الذي نزل بكم من العذاب.
وهذا السؤال للإهانة والتحقير ، لأنهم عرفوا بطلان ما كانوا يفعلون.
ونحو الآية قوله : « وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ » .
ثم ذكر جواب هؤلاء الرؤساء الدعاة إلى الضلال فقال :
(قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ : رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) أي قال رؤساء الضلال والدعاة إلى الكفر الذين حق عليهم غضب اللّه ، ولزمهم الوعيد بقوله : « لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ » فدخلوا النار : ربنا إن هؤلاء الأتباع الذين أضللناهم ، أغويناهم باختيارهم كما غوينا نحن كذلك ، ولم يكن منا لهم إلا الوسوسة والتسويل لا القسر والإلجاء - فهم كانوا مختارين حين أقدموا على تلك العقائد وهذه الأعمال.(20/73)
ج 20 ، ص : 82
وخلاصة ذلك - إن تبعة غيّهم واقعة عليهم لا علينا ، إذ لم نلجئهم إلى ذلك ، بل كان منا مجرد الوسوسة فحسب ، فإن كان تسويلنا لهم داعيا إلى الكفر ، فقد كان فى مقابلته دعاء اللّه لهم إلى الإيمان ، بما وضع من الأدلة العقلية ، وبعث إليهم من الرسل ، وأنزل إليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر ، وناهيك بذلك صارفا عن الكفر داعيا إلى الإيمان.
ونحو ذلك قوله حكاية عن الشيطان « إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ » وقوله لإبليس : « إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ » فقوله : إلا من اتبعك يدل على أن ذلك الاتباع من قبل أنفسهم ، لا من إلجاء الشيطان إلى ذلك.
ثم زاد الجملة الأولى توكيدا بقوله :
(تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم ومما اختاروه من الكفر والمعاصي اتباعا لهوى أنفسهم ، فلا لوم علينا فى الحقيقة بسببهم.
ونحو الآية قوله : « إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ » .
ثم ذكر ما هو كالعلة لنفى الشبهة عنهم فقال :
(ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) أي هم ما كانوا يعبدوننا ، وإنما كانوا يعبدون الأوثان بما زيّنت لهم أهواؤهم.
ثم طلب إليهم دعاء الشركاء توبيخا لهم وتهكما بهم فقال :
(وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي وقيل للمشركين باللّه الآلهة والأنداد فى الدنيا : ادعوا آلهتكم الذين زعمتم جهلا منكم شركتهم للّه ليدفعوا العذاب عنكم ، فدعوهم لفرط الحيرة وغلبة الدهشة ، فلم يجيبوهم عجزا منهم عن الإجابة.(20/74)
ج 20 ، ص : 83
والمقصد من طلب ذلك منهم فضيحتهم على رءوس الأشهاد ، بدعاء من لا نفع له ، ولا فائدة منه.
ثم بين حالهم حينئذ وتمنيهم أن لو كانوا وفّقوا فى الدنيا إلى سلوك طريق الهدى والرشاد فقال :
(وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) أي وأيقن الداعون والمدعوون أنهم صائرون إلى النار لا محالة ، وودّوا حين عاينوا العذاب لو أنهم كانوا من المهتدين المؤمنين فى الدنيا.
ونحو الآية قوله : « وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً » .
وبعد أن سئلوا عن إشراكهم باللّه توبيخا لهم ، سئلوا عن تكذيبهم للأنبياء كما أشار إلى ذلك بقوله :
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ؟ ) أي ويوم ينادى المشركين ربهم وقد برز الناس فى صعيد واحد ، منهم المطيع ومنهم العاصي ، وقد أخذ بأنفاسهم الزحام ، وتراكبت الأقدام على الأقدام ، فيقول لهم : ماذا أجبتم المرسلين فيما أرسلناهم به إليكم من دعائكم إلى التوحيد والبراءة من الأوثان والأصنام ؟ .
ثم بين أنهم لا يحارون جوابا ، ولا يجدون من الحجج ما يدافعون به عن أنفسهم فقال :
(فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) أي فخفيت عليهم الحجج ولم يجدوا معذرة يجيبون بها ، فلم يكن لهم إلا السكوت جوابا.
ثم ذكر أنه تخفى عليهم كل طرق العلم التي كانت تجديهم فى الدنيا فقال :
(فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) أي فلا يسأل بعضهم بعضا كما يتساءل الناس فى المشكلات لما اعتراهم من الدهشة وعظيم الهول ، ولتساويهم جميعا فى عمى الأنباء عليهم والعجز عن الجواب.(20/75)
ج 20 ، ص : 84
وإذا كان الأنبياء لهول ذلك اليوم يتعتمون فى الجواب عن مثل ذلك السؤال ويفوضون الأمر إلى علم اللّه كما قال : « يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ ؟ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ » فما ظنك بهؤلاء الضلّال ؟ .
وبعد أن ذكر حال المعذبين من الكفار وما يجرى عليهم من التوبيخ والإهانة أتبعه بذكر من يتوب منهم فى الدنيا ، ترغيبا فى التوبة وزجرا عن الثبات على الكفر فقال :
(فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) أي فأما من تاب من المشركين ، وراجع الحق ، وأخلص للّه بالألوهة ، وأفرد له العبادة ، وصدّق نبيّه ، وعمل بما أمر به فى كتابه على لسان نبيه ، فهو من الفائزين ، الذين أدركوا طلبتهم وفازوا بجنات النعيم خالدين فيها أبدا.
وقد تقدم أن ذكرنا فى كثير من المواضع أن (عسى) يراد بها فى الكتاب الكريم الإعداد وتوقع حصول ما بعدها من الفوز والنجح لما طلبوا.
[سورة القصص (28) : الآيات 68 الى 70]
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
تفسير المفردات
الخيرة والتخير : الاختيار باصطفاء بعض الأشياء وترك بعض ، سبحان اللّه : أي تنزيها للّه أن ينازعه أحد فى الاختيار ، تكنّ : أي تخفى ، ويعلنون : أي يظهرون ، الحكم : القضاء النافذ فى كل شىء دون مشاركة لغيره فيه.(20/76)
ج 20 ، ص : 85
المعنى الجملي
بعد أن وبخهم فيما سلف على اتخاذهم الشركاء ، وذكر أنه يسألهم عنهم يوم القيامة تهكما بهم وتقريعا لهم - أردف ذلك بتجهيلهم على اختيار ما أشركوه واصطفائهم إياه للعبادة ، وأبان لهم أن تمييز بعض المخلوقات عن بعض ، واصطفاءه على غيره من حق اللّه لا من حقكم أنتم ، واللّه لم يصطف شركاءكم الذين اصطفيتموهم للعبادة والشفاعة ، فما أنتم إلا جهال ضلال.
الإيضاح
(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) أي وربك يخلق ما يشاء خلقه ، وهو وحده سبحانه دون غيره يصطفى ما يريد أن يصطفيه ويختاره ، فيختار أقواما لأداء الرسالة وهداية الخلق وإصلاح ما فسد من نظم العالم ، ويميز بعض مخلوقاته عن بعض ويفضّله بما شاء ، ويجعله مقدما عنده ، وليس لهم إلا اتباع ما اصطفاه ، وهو لم يصطف شركاءهم الذين اختاروهم للعبادة والشفاعة ، فما هم إلا فى ضلال مبين ، صدوا عن عمل ما يجب عليهم فعله طاعة للّه ورسوله ، وتصدّوا لما ليس من حقهم أن يفعلوه بحال.
ونحو الآية قوله : « وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ » وقال الشاعر :
العبد ذو ضجر ، والرب ذو قدر والدهر ذو دول والرزق مقسوم
والخير أجمع فيما اختار خالقنا وفى اختيار سواه اللوم والشّوم
وروت عائشة عن أبى بكر رضى اللّه عنهما « أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا أراد أمرا قال : اللهم خر لى واختر لى »
وروى أنس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال له « يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ، ثم انظر إلى ما يسبق إليه قلبك ، فإن الخير فيه » .(20/77)
ج 20 ، ص : 86
ويستحسن ألا يقدم أحد على أمر من الأمور حتى يسأل اللّه الخيرة فيه ، وذلك بأن يصلى ركعتين صلاة الاستخارة ، يقرأ فى الركعة الأولى بعد الفاتحة « قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ » وفى الركعة الثانية « قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ » .
وعن جابر بن عبد اللّه قال : « كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة فى الأمور كلها ، كما يعلمنا السورة من القرآن ، يقول إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم إنى أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لى فى دينى ومعاشى وعاقبة أمرى ، فاقدره لى ويسّره لى ، ثم بارك لى فيه ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لى فى دينى ودنياى ومعاشى وعاقبة أمرى ، فاصرفه عنى واصرفني عنه ، واقدر لى الخير حيث كان ، ثم رضنى به ، قال : ويسمى حاجته » .
ثم أكد هذا وقرره بقوله :
(ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي ليس لهم أن يختاروا على اللّه شيئا ، وله الخيرة عليهم ، فله أن يرسل من يشاء رسولا بحسب ما يعلمه من الحكمة والمصلحة دون أن يكون ذلك منوطا بمال أو جاه كما خيّل إلى بعض المشركين فقالوا « لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ » .
ثم نزه سبحانه نفسه أن ينازعه فى سلطانه أحد فقال :
(سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزيها له وعلوا عن إشراك المشركين ، فليس لأحد أن ينازع اختياره أو يزاحمه فيه ، لعلمه باستعداد خلقه وصلاحيتهم للاصطفاء ، فإذا أراد النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يهدى أحدا ممن يحب ، أو أراد أهل مكة أن يرسل اللّه رسولا من عظمائهم قال اللّه لهم : ليس لكم من الأمر شىء ، فلا النبي صلى اللّه عليه وسلم بقادر على هدى عمه ، ولا أهل مكة يصلون إلى أن تكون الرسالة فى عظمائهم.(20/78)
ج 20 ، ص : 87
ثم بين أن اختياره تعالى مبنى على العلم الصحيح لا اختيارهم فقال :
(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) أي إن اختياره من يختار منهم للإيمان به مبنى على علم منه بسرائر أمورهم وبواديها ، فيختار للخير أهله فيوفقهم له ، ويولّى الشر أهله ويخلّيهم وإياه.
ونحو الآية قوله : « سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ » .
ولما كان علمه بذلك جاء من كونه إلها واحدا فردا صمدا ، وكان غيره لا يعلم من علمه إلا ما علّمه قال :
(وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي وهو المنفرد بالإلهية ، فلا معبود سواه ، ولا يحيط الواصفون بكنه عظمته ، وهو العليم بكل شىء ، القادر على كل شىء.
ثم ذكر بعض صفات كماله فقال :
(لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) أي هو المحمود فى جميع ما يفعل فى الدنيا والآخرة ، لأنه المعطى لجميع النعم عاجلا وآجلا.
(وَلَهُ الْحُكْمُ) النافذ فى كل شىء ، فلا معقّب لحكمه ، وهو القاهر فوق عباده ، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير.
(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة فيجزى كل عامل جزاء عمله إن خيرا وإن شرا ، ولا يخفى عليه منهم خافية.
[سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 73]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)(20/79)
ج 20 ، ص : 88
تفسير المفردات
أرأيتم : أي أخبرونى ، والسرمد : الدائم المتصل قال طرفة :
لعمرك ما أمرى علىّ بغمّة نهارى ولا ليلى علىّ بسرمد
تسكنون فيه : أي تستقرون فيه من متاعب الأعمال.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه المستحق للحمد على ما أولاه من النعم ، وتفضل به من المنن - أردف هذا تفصيل ما يجب أن يحمد عليه منها ، ولا يقدر عليها سواه.
الإيضاح
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين باللّه : أيها القوم أخبرونى إن جعل اللّه عليكم الليل دائما لا نهار له يتبعه إلى يوم القيامة ، أىّ معبود غير اللّه يأتيكم بضياء النهار فتستضيئون به ؟ .
وفى هذا الأسلوب من التبكيت والتقريع والإلزام ما لا يخفى.
(أَفَلا تَسْمَعُونَ ؟ ) ما يقال لكم سماع تدبر وتفكر فتتعظوا وتعلموا أن ربكم هو الذي يأتى بالليل ويزيل النهار إذا شاء ، وإذا أراد أتى بالنهار وأذهب الليل ، ولا يقدر على ذلك سواه.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ؟ ) أي أخبرونى إن جعل اللّه عليكم النهار دائما لاليل معه أبدا إلى يوم القيامة ، أىّ المعبودات غير اللّه الذي له عبادة كل شىء يأتيكم بليل تستقرون فيه وتهدءون ؟ .(20/80)
ج 20 ، ص : 89
(أَفَلا تُبْصِرُونَ ؟ ) الشواهد المنصوبة الدالة على القدرة الكاملة ، فتعلموا بذلك أن العبادة لا تصلح إلا لمن أنعم عليكم بذلك دون غيره ، ومن له القدرة التي خالف بها بين الليل والنهار.
ثم بين أن المخالفة بينهما من فضله تعالى ورحمته فقال :
(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي ومن رحمته بكم أيها الناس جعل لكم الليل والنهار ، وخالف بينهما ، فجعل الليل ظلاما لتستقروا فيه راحة لأبدانكم من تعب التصرف نهارا فى شئونكم المختلفة ، وجعل النهار ضياء لتتصرفوا فيه بأبصاركم لمعايشكم وابتغاء رزقه الذي قسمه بينكم بفضله.
(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي ولتستعدوا لشكره على إنعامه عليكم ، وتخلصوا له الحمد ، لأنه لم يشركه فى إنعامه عليكم شريك ، ومن ثم ينبغى ألا يكون له شريك يحمد.
والخلاصة : إن الليل والنهار نعمتان تتعاقبان على مرّ الزمان ، والمرء فى حاجة إليهما ، إذ لا غنى له عن الكدح فى الحياة لتحصيل قوته ، ولا يتسنى له ذلك على الوجه المرضى لو لا ضوء النهار ، كما لا يكمل له السعى على الرزق إلا بعد الراحة والسكون بالليل ، ولا يقدر على شىء من ذلك إلا اللّه الواحد القهار.
وجاء تذييل الآيتين بقوله (أَفَلا تَسْمَعُونَ ؟ ) ، (أَفَلا تُبْصِرُونَ ؟ ) لبيان أنهم لما لم ينتفعوا بالسمع والبصر نزّلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر.
[سورة القصص (28) : الآيات 74 الى 75]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)(20/81)
ج 20 ، ص : 90
تفسير المفردات
ونزعنا : أي أحضرنا من قولهم : نزع فلان بحجة كذا إذا أحضرها وأخرجها ، والشهيد : هو نبى الأمة يشهد عليها بما أجابته حين أرسل إليها ، وضل : أي غاب.
المعنى الجملي
بعد أن وبخ المشركين أوّلا على فساد رأيهم فى اتخاذ الشركاء للّه ، ثم ذكر التوحيد ودلائله - عاد إلى تقريعهم وتبكيتهم ثانيا ببيان أن إشراكهم لم يكن عن دليل صحيح ، بل كان عن محض الهوى كما يرشد إلى ذلك قوله (فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ)
الإيضاح
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي ويوم ينادى ربك - أيها الرسول - هؤلاء المشركين ، فيقول لهم : أين شركائى الذين كنتم تزعمون فى الدنيا أنهم شركائى ، ليخلّصوكم مما أنتم فيه.
وهذا النداء للتوبيخ والتقريع على رءوس الأشهاد على عبادة غير اللّه ، للاشعار بأنه لا شىء أجلب لغضبه تعالى من الإشراك به ، كما أنه لا شىء أدخل فى مرضاته من توحيده عز وجل.
(وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أي وأحضرنا من كل أمة شهيدها وهو نبيها الذي يشهد عليها بما أجابته أمته فيما آتاهم به عن اللّه برسالته.
ونحو الآية قوله « فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً » .
وهذا فى موقف من مواقف القيامة ، وفى موقف آخر يكون الشهداء هم الملائكة كما قال تعالى : « وَجِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ » .(20/82)
ج 20 ، ص : 91
ثم بين ما يطلب منهم بعد هذه الشهادة فقال :
(فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على صحة ما ادعيتموه من أن للّه شركاء مع إعذار الرسل إليكم ، وإقامة الحجج عليكم ، فلم يحيروا جوابا ، وأيقنوا حينئذ بعذاب دائم ، ونار تتلظى ، لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى.
وحينئذ يستبين لهم خطأ ما كانوا يفعلون كما قال :
(فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) أي فعلموا حينئذ أن الحجة البالغة عليهم ، وأن خبره هو الصادق ، وأنه لا يشركه فى الألوهية شىء سواء.
(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وغاب عنهم ما كانوا يتخرّصون به فى الدنيا ويكذبون به على ربهم من الأباطيل والأضاليل.
[سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 78]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
تفسير المفردات
فبغى عليهم : أي تكبّر وتجبر ، والكنز : المال المدفون فى باطن الأرض ، والمراد(20/83)
ج 20 ، ص : 92
به هنا المال المدّخر ، ومفاتحه : أي خزائنه واحدها مفتح (بفتح الميم) وتنوء : من ناء به الحمل ينوء : إذا أثقله حتى أماله. قال ذو الرمة :
تنوء بأخراها فلأيا قيامها وتمشى الهوينى عن قريب فتبهر
والعصبة : الجماعة الكثيرة يتعصب بعضهم لبعض بلا تعيين عدد خاص ، والقوة :
الشدة ، لا تفرح : أي لا تبطر وتتمسك بالدنيا ولذاتها حتى تتلهى عن الآخرة ، قال بيهس العذرى :
ولست بمفراح إذا الدهر سرّنى ولا جازع من صرفه المتقلّب
والدار الآخرة : أي ثواب اللّه بإنفاق المال فيما يوصل إلى مرضاته ، على علم عندى : أي على حسن تصرف فى المتاجر واكتساب الأموال.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حديث أهل الضلالة وما يلقونه من الإهانة والاحتقار يوم القيامة ، ومناداتهم على رءوس الأشهاد بما يفضحهم ويبين لهم سوء مغبتهم. أعقبه بقصص قارون ، ليبين عاقبة أهل البغي والجبروت فى الدنيا والآخرة ، فقد أهلك قارون بالخسف ، وزلزلت به الأرض ، وهوت من تحته ، ثم أصبح مثلا يضرب للناس فى ظلمه وعتوّه ، ويستبين لهم به سوء عاقبة البغاة ، وما يكون لهم من النكال والوبال فى الدنيا والآخرة. فيندمون على ما فعلوا :
ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم
الإيضاح
(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى ) أي إنه كان من بنى إسرائيل ، لأنه ابن عم(20/84)
ج 20 ، ص : 93
موسى ، فموسى هو ابن عمران بن قاهث بن لاوى بن يعقوب عليه السلام ، وقارون ابن يصهر بن قاهث إلخ.
وكان يسمى المنوّر لحسن صورته ، وكان أحفظ بنى إسرائيل للتوراة ، وأقرأهم لها ، لكنه نافق كما نافق السامري وقال : إذا كانت النبوة لموسى ، والمذبح والقربان لهرون ، فما لى إذا ؟ .
(فَبَغى عَلَيْهِمْ) أي تجاوز الحد فى احتقارهم. والقرابة كثيرا ما تدعو إلى البغي.
ثم ذكر سبب بغيه وعتوه بقوله :
(وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) أي وأعطيناه المال المذخور الذي يثقل حمل مفاتيح خزائنه على العدد الكثير من الأقوياء من الناس.
روى عن ابن عباس أن مفاتيح خزائنه كان يحملها أربعون رجلا من الأقوياء ، وكانت أربعمائة ألف يحمل كل رجل عشرة آلاف ، ولا شك أن مثل هذا التحديد يحتاج إلى سند قوى يعسر الوصول إليه ، ومثل هذا الأسلوب يدل على إرادة الكثرة دون تحديد شىء معين.
وبعد أن ذكر بغيه ذكر وقته فقال :
(إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ) أي إنه أظهر التفاخر والفرح بما أوتى حين قال له قومه من بنى إسرائيل : لا تظهر الفرح والبطر بكثرة مالك ، فإن ذلك يجعلك تتكالب على جمع حطام الدنيا ، وتتلهى عن شئون الآخرة ، وفعل ما يرضى ربك.
ثم علل النهى عن الفرح بكونه مانعا محبة اللّه فقال :
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي إنه تعالى لا يكرم الفرحين بزخارف الدنيا ولا يقرّبهم من جواره ، بل يبغضهم ويبعدهم من حضرته.(20/85)
ج 20 ، ص : 94
وأثر عن بعضهم أنه قال : لا يفرح بالدنيا إلا من رضى بها واطمأن إليها ، أما من يعلم أنه سيفارقها عن قريب فلا يفرح بها ، وما أحسن ما قال المتنبي :
أشدّ الغم عندى فى سرور تيقّن عنه صاحبه انتقالا
وأحسن منه وأوجز قوله سبحانه : « لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ » .
ثم نصحوه بعدة نصائح فقالوا :
(1) (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أي واستعمل ما وهبك اللّه من هذا المال الجزيل ، والنعمة الطائلة فى طاعة ربك ، والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب فى الدنيا والآخرة ،
وفى الحديث : « اغتنم خمسا قبل خمس :
شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك » .
(2) (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) أي ولا تترك حظك من لذات الدنيا فى مآكلها ، ومشاربها وملابسها فإن لربك عليك حقا ، ولنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ،
وروى عن ابن عمر : « اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا »
وعن الحسن : « قدّم الفضل وأمسك ما يبلّغ » .
(3) (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) أي وأحسن إلى خلقه ، كما أحسن هو إليك فيما أنعم به عليك ، فأعن خلقه بمالك وجاهك ، وطلاقة وجهك ، وحسن لقائهم ، والثناء عليهم فى غيبتهم.
(4) (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) أي ولا تصرف همتك ، بما أنت فيه إلى الفساد فى الأرض ، والإساءة إلى خلق اللّه.
ثم أتبعوا هذه المواعظ بعلتها فقالوا :
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) أي إن اللّه لا يكرم المفسدين ، بل يهينهم ويبعدهم من حظيرة قربه ، ونيل مودته ورحمته.(20/86)
ج 20 ، ص : 95
ثم بين أنه مع كل هذه المواعظ أبى وزاد فى كفران النعمة فقال :
(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أي قال قارون لمن وعظوه : إنما أوتيت هذه الكنوز لفضل علم عندى ، علمه اللّه منى ، فرضى بذلك عنى ، وفضّلنى بهذا المال عليكم.
وتلخيص ذلك : إنى إنما أعطيته لعلم اللّه أنى له أهل.
ونحو الآية قوله « فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ » .
فرد اللّه عليه مقاله بقوله :
(أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) أي أنسى ولم يعلم ، حين زعم أنه أوتى الكنوز لفضل علم عنده ، فاستحق بذلك أن يؤتى ما أوتى ؟ أن اللّه قد أهلك من قبله من الأمم ، من هم أشد منه بطشا ، وأكثر جمعا للأموال ؟ ولو كان اللّه يؤتى الأموال من يؤتيه لفضل فيه وخير عنده ورضاه عنه ، لم يهلك من أهلك من أرباب الأموال ، الذين كانوا أكثر منه مالا ، لأن من يرضى اللّه عنه ، فمحال أن يهلكه وهو عنه راض ، وإنما يهلك من كان عليه ساخطا ، ألم يشاهد فرعون وهو فى أبّهة ملكه ، وحقّق أمره يوم هلكه.
وفى هذا الأسلوب تعجيب من حاله ، وتوبيخ له على اغتراره بقوته وكثرة ماله ، مع علمه بذلك.
وبعد أن هدده سبحانه بذكر إهلاك من قبله من أضرابه في الدنيا - أردف ذلك تهديد المجرمين كافة بما هو أشد من عذاب الآخرة وهو عدم سؤالهم عن ذنوبهم ، إذ أنه يؤذن بشدة الغضب عليهم ، والإيقاع بهم لا محالة ، فقال : « وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ » أي إنه تعالى حين إرادة عقابهم لا يسألهم عن مقدار ذنوبهم(20/87)
ج 20 ، ص : 96
ولا عن كنهها ، لأنه عليم بها ، ولا يعاتبهم عليها ، كما قال تعالى : « فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ » وقال : « وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ » .
ونحو الآية قوله « فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ » .
وهذا لا يمنع أنهم يسألون سؤال تقريع وإهانة ، كما جاء فى قوله : « فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ » .
[سورة القصص (28) : الآيات 79 الى 82]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)
تفسير المفردات
الحظ : البخت والنصيب ، العلم : هو علم الدين وما ينبغى أن يكون عليه المتقون ، ويل : أصلها الدعاء بالهلاك ، ثم استعملت فى الزجر عن ترك ما لا يرتضى ، وخسف المكان : أي غار فى الأرض ، وخسف اللّه به الأرض خسفا : غاب به فيها كما قال :
« فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ » وفئة : أي جماعة من المنتصرين.(20/88)
ج 20 ، ص : 97
أي الممتنعين عن عذابه ، يقال : نصره من عدوه فانتصر : أي منعه منه فامتنع ، وى :
كلمة يراد بها التندم والتعجب مما حصل ، يقدر : أي يضيّق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف بغى قارون وعتوه وجبروته ، وكثرة ما أوتيه من المال الذي تنوء به العصبة أولو القوة - أردف ذلك تفصيل بعض مظاهر بغيه وكبريائه ، فذكر أنه خرج على قومه ، وهو فى أبهى حليّه وحلله ، والعدد العديد من أعوانه وحشمه ، قصدا للتعالى على العشيرة ، وأبناء البلاد ، وفى ذلك كسر للقلوب ، وإذلال للنفوس ، وتفريق للكلمة ، فلا تربطهم رابطة ، ولا تجمعهم جامعة ، فيذلون فى الدنيا بانقضاض الأعداء عليهم ، وتفريقهم شذر مذر ، وقد غرّت هذه المظاهر بعض الجهال الذين لا همّ لهم إلا زخرف الحياة وزينتها ، فتمنّوا أن يكون لهم مثلها ، فرد عليهم من وفقهم اللّه لهدايته ، بأن ما عنده من النعيم لمن اتقى خير مما أوتى قارون ، ولا يناله إلا من صبر على الطاعات ، واجتنب المعاصي ، ثم أعقب ذلك بذكر ما آل إليه أمره من خسف الأرض به وبداره ، ولم يجد معينا ينصره ويدفع العذاب عنه ، وقد انقلب حال المتمنين المعجبين بحاله إلى متعجبين مما حل به ، قائلين : إن اللّه يبسط الرزق لمن يشاء من عباده لا لفضل منزلته عنده وكرامته لديه كما بسط لقارون ويضيّق على من يشاء ، لا لهوانه عليه ولا لسخط عمله ، ولو لا أن تفضل علينا فصرف عنا ما كنا نتمناه بالأمس لخسف بنا الأرض.
الإيضاح
(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) أي فخرج ذات يوم على قومه فى زينة عظيمة ، وتجمل باهر من مراكب وخدم وحشم ، مريدا بذلك التعالي على الناس ، وإظهار العظمة ، وذلك من الصفات البغيضة ، والافتخار الممقوت ، والخيلاء المذمومة لدى(20/89)
ج 20 ، ص : 98
عقلاء الناس من جرّاء أنها تقوّض كيان المجتمع ، وتفسد نظمه ، وتفرق شمل الأمة ، وتقسمها طبقات ، وفى ذلك تخاذلها ، وطمع العدو فى امتلاك ناصيتها.
وفى هذا تحذير لنا أيما تحذير ، فكثير ممن يظهرون النعم ، إنما يريدون التعالي والتفاخر ، وكم ممن يقيم الزينات ، أو يصنع الولائم لعرس أو مأتم ، لا يريد بذلك إلا إظهار ثرائه ، وسعة ماله بين عشيرته وبنى جلدته ، فيكون قارون زمانه ، وتكون عاقبته الخسف لما أوتيه من مال ، ويذهب اللّه ثراءه ، ويجعله عبرة لمن اعتبر.
فالكتاب الكريم ما قص علينا هذا القصص إلا ليرينا أن الكبرياء والتعالي ليس وبالهما فى الآخرة فحسب ، بل يحصل شؤمهما فى الدنيا قبل الآخرة ، كما حصل لكثير من المسلمين اليوم.
وقد روى عن مفسرى السلف فى زينة قارون ما يجعلنا نقف أمامه موقف الحذر ، ويجعلنا نعتقد أن الإسرائيليات سداه ولحمته ، فمن ذلك ما روى عن قتادة قال : ذكر لنا أنه خرج هو وحشمه ، على أربعة آلاف دابة ، عليهم ثياب حمر منها ألف بغلة بيضاء ، وعلى دوابهم قطائف الأرجوان. وقال مقاتل : خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب ، ومعه أربعة آلاف فارس على الخيول ، وعليهم الثياب الأرجوانية ، ومعه ثلاثمائة جارية بيض ، عليهن الحلىّ والثياب الحمر يركبن البغال الشّهب.
وحين رآه قومه على هذه الشاكلة انقسموا فرقتين :
(1) (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي قال من كان همه الدنيا وزينتها : يا ليت لنا من الأموال والمتاع مثل ما لقارون منها ، حتى ننعم عيشا ، ونتمتع بزخارف الحياة ، كما يتمتع.
وإن مثل هذا التمني ليشاهد كل يوم ، وفى كل بلد ، وفى كل قرية ، فترى الرجل والشاب ، والمرأة والفتاة ، يتمنى كل منهم أن يكون له مثل ما أوتى فلان(20/90)
ج 20 ، ص : 99
وفلانة من ثوب جميل ، أو دابة فارهة ، أو مزرعة يحصد غلتها ، أو قصر مشيد ، أو نحو ذلك.
ثم عللوا تمنيهم وأكدوه بقولهم :
(إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي إن اللّه قد تفضل عليه ، وآتاه من بسطة الرزق حظا عظيما ، ونصيبا كبيرا يغبط عليه.
والقائلون هذه المقالة : إما جماعة من المؤمنين قالوا ذلك جريا على الجبلة البشرية من الرغبة فى السعة واليسار ، وإما عصبة من الكفار والمنافقين تمنّوا مثل ماله ، ولم يتمنوا زوال نعمته ، ومثل هذا لا ضرر فيه.
(2) (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي وقال الذين أوتوا العلم بما أعد اللّه لعباده فى الآخرة وصدّقوا به ردّا على أولئك المتمنين :
تبّا لكم وخسرا ، كيف تتغالون فى طلب الدنيا ، ويسيل لعابكم عليها ، وما عند اللّه من ثواب فى الآخرة لمن صدق به ، وآمن برسله ، وعمل صالح الأعمال ، خير مما تتمنون ، فإن هذا باق ، وذاك فان ، وهذا خالص مما يشوبه وينغصه من الأكدار ، وذلك مشوب بالأحزان والمنغّصات.
ثم بين من يعمل بهذه النصيحة فقال :
(وَ لا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) أي ولا يتّبع هذه النصيحة ، ولا يعمل بها إلا من صبر على أداء الطاعات ، واجتنب المحرمات ، ورضى بقضاء اللّه فى كل ما قسم من المنافع والمضار ، وأنفق ماله فى كل ما فيه سعادة لنفسه وللمجتمع ، وكان قدوة صالحة فى حفظ مجد أمته ، ورفع صيتها بين الأمم ، ببذل كل ما فيه نفعها وقوتها ، وإعلاء شأنها ، وبذا ينال حسن الأحدوثة بين الناس ، ويلقى المثوبة من ربه.
ثم ذكر ما آل إليه بطره وأشره من وبال ونكال فقال :
(فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) أي فزلزلت به الأرض وابتلعته جزاء بطره وعتوّه(20/91)
ج 20 ، ص : 100
وفى هذا عبرة لمن اعتبر ، فيترك التعالي والتغالى فى الزينة ، لئلا يخسف اللّه به وبماله الأرض.
وقد غفل كثير من الناس عن المقصد من المال فأنفقوه قاصدين به الرياء والمباهاة ، فضاعت دورهم وأموالهم ، وأصبحت ملكا لغيرهم ، وهذا هو الخسف العظيم ، وما خسف قارون بشىء إذا قيس بهذا ، فإن الخسف الآن خسف الأمم ، لا خسف الأفراد ، فكل بلد من بلاد الإسلام يدخله الغاصب يصبح أهله عبيدا له وضحية مطامعه ، وخسف أمة أدهى من خسف فرد ، فليخسف الفرد ، ولتبق الأمة ، وهكذا دخلت البلاد تباعا فى ملك الغاصب ، واحدة إثر أخرى ، ولم يبق منها إلا ما رحم اللّه ، وما ذاك إلا بجهلها لدينها ، وعدم اتباعها أحكامه ، وغفلتها عن مقاصده.
ثم بين أنه لم يجد له شفيعا ولا نصيرا يدفع عنه العذاب حينئذ فقال :
(فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) أي ما أغنى عنه ماله ، ولا خدمه ولا حشمه ، ولا دفعوا عنه نقمة اللّه ولا نكاله ، ولا استطاع أن ينتصر لنفسه.
وقصارى ذلك. إنه لا ناصر له من غيره ولا من نفسه ، فكيف يكون للأمة الغافلة عن أوامر دينها ، الجاهلة بمقاصد شريعتها فى إنفاق الأموال أن تجد مناصا من خراب الديار ، وإضاعة المجد الطارف والتالد ، ولا بد أن تقع فريسة للغاصبين ، الذين يسومونها الخسف دون شفقة ولا رحمة ، وقد كان ذلك جزاءا وفاقا ، لجهلها وسوء تصرفها وظلمها لأنفسها ، ولا يظلم ربك أحدا ، وهكذا حال من تصرّف فى ماله تصرف السفهاء ، وركب رأسه ، وصار يبعثره يمنة ويسرة ، فإنه سيندم ولات ساعة مندم.
وقد أبان الكتاب الكريم أن النصر للصابرين ، فهو أثر لازم للصبر على حفظ المال ، وحفظ الشهوات والعقول ، وكل الفضائل التي حث عليها الدين ، وسلك سبيلها السلف الصالح.(20/92)
ج 20 ، ص : 101
وقد حكى المفسرون فى أسباب الخسف أمورا كثيرة هى غاية فى الغرابة يبعد أن نصدقها العقول ، ومن ثم قال الرازي : إنها مضطربة متعارضة ، فالأولى طرحها والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن ، وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب ا ه.
ولما شاهد قوم قارون ما نزل به من العذاب ، صار ذلك زاجرا لهم عن حب الدنيا ومخالفة موسى ، وداعما إلى الرضا بقضاء اللّه وبما قسمه ، وإلى إظهار الطاعة والانقياد لأنبيائه ورسله ، كما أشار إلى ذلك بقوله :
(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) أي فلما خسف اللّه بقارون الأرض أصبح قومه يقولون : إن كثرة المال والتمتع بزخارف الدنيا ، لا تدل على رضا اللّه عن صاحبه فاللّه يعطى ويمنع ويوسع ويضيّق ، ويرفع ويخفض ، وله الحكمة التامة ، والحجة البالغة ، لا معقب لحكمه.
وقد روى عن ابن مسعود مرفوعا « إن اللّه قسم بينكم أخلاقكم ، كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن اللّه يعطى المال من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطى الإيمان إلا من يحبّ » .
ولما لاح لهم من واقعة أمره أن الرزق بيد اللّه يصرّفه كيف يشاء ، أتبعوه بما يدل على أنهم اعتقدوا أن اللّه قادر على كل ما يريد من رزق وغيره فقالوا :
(لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا) أي لو لا لطف اللّه بنا لخسف بنا كما خسف به ، لأنا وددنا أن نكون مثله. ثم زادوا ما سبق توكيدا بقولهم :
(وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) لنعمه المكذبون برسله وبما وعدوا به من ثواب لآخرة ، كما كان شأن قارون.
[سورة القصص (28) : الآيات 83 الى 84]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84)(20/93)
ج 20 ، ص : 102
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه قول أهل العلم بالدين : ثواب اللّه خير - أعقب ذلك بذكر محل هذا الجزاء ، وهو الدار الآخرة وجعله لعباده المؤمنين المتواضعين ، الذين لا يترفعون على الناس ، ولا يتجبرون عليهم ، ولا يفسدون فيهم ، بأخذ أموالهم بغير حق ، ثم بين بعدئذ ما يحدث فى هذه الدار جزاء على الأعمال فى الدنيا ، فذكر أن جزاء الحسنة عشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يحيط به إلا علام الغيوب ، فضلا من اللّه ورحمة وجزاء السيئة مثلها ، لطفا منه بعباده ، وشفقة عليهم.
الإيضاح
(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) أي تلك (الدار التي سمعت خبرها ، وبلغك وصفها - نجعل نعيمها للذين لا يريدون تكبرا عن الحق وإعراضا عنه ، ولا ظلم الناس ومعصية اللّه.
وثبت فى الصحيح أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « إنه أوحى إلىّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغى أحد على أحد » .
و
روى مسلم وأبو داود أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر ، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة ، فقال : إن اللّه جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق ، وغمط الناس » .
وروى أبو هريرة : « أنه جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وكان جميلا ، فقال : يا رسول اللّه إنى رجل حبّب إلىّ الجمال وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقنى أحد بشراك نعل أ فمن ذلك ؟ قال : لا ولكن المتكبر من بطر الحق وغمط الناس » .
وعن عدى بن حاتم قال : « لما دخل على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ألقى إليه وسادة(20/94)
ج 20 ، ص : 103
وجلس على الأرض فقال : أشهد إنك لا تبغى علوا فى الأرض ولا فسادا فأسلم » .
أخرجه ابن مردويه.
(وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي والعاقبة المحمودة ، وهى الجنة لمن اتقى عذاب اللّه يعمل الطاعات ، وترك المحرمات ، ولم يكن كفرعون فى الاستكبار على اللّه ، بعد امتثال أوامره ، والارتداع عن زواجره ، ولا كقارون فى إرادة الفساد فى الأرض.
ثم بين ما يكون فى تلك الدار من جزاء على الأعمال فقال :
(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي من جاء اللّه يوم القيامة بحسنة فله خير منها ، فهو يضاعفها له أضعافا مضاعفة تفضلا منه ورحمة.
(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ومن أتى بسيئة فلا يجزى عليها إلا مثلها ، وهذا منه سبحانه رحمة وعدل.
ونحو الآية قوله : « وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » .
[سورة القصص (28) : الآيات 85 الى 88]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)(20/95)
ج 20 ، ص : 104
تفسير المفردات
فرض عليك : أي أوجب عليك ، ومعاد الرجل : بلده ، لأنه يتصرف فى البلاد ثم يعود إليه ، ظهيرا : أي معينا ، هالك : أي معدوم ، وجهه : أي ذاته ، الحكم :
أي القضاء النافذ.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص موسى وقومه مع قارون ، وبين بغى قارون واستطالته عليهم ثم هلاكه ، ونصرة أهل الحق عليه أردف هذا قصص محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه مع قومه ، وإيذائهم إياه ، وإخراجهم له من مسقط رأسه ، ثم إعزازه إياه بالإعادة إلى مكة ، وفتحه إياها منصورا ظافرا.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي إن الذي أوجب عليك العمل بأحكام القرآن وفرائضه - لرادّك إلى محل عظيم القدر اعتدته وألفته ، وهو مكة ، والمراد بذلك عوده إليها يوم الفتح ، وقد كان للعود إليها شأن عظيم ، لاستيلاء رسول اللّه عليها عنوة ، وقهره أهلها ، وإظهار عز الإسلام ، وإذلال المشركين.
وهذا وعد من اللّه لرسوله صلى اللّه عليه وسلم وهو بمكة فى أذى وغلبة من أهلها أنه يهاجر منها ويعيده إليها ظاهرا ظافرا.
روى مقاتل « أنه عليه الصلاة والسلام خرج من الغار (حين الهجرة) وسار فى غير الطريق مخافة الطلب ، فلما أمن رجع إلى الطريق ، ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة ، وعرف الطريق إلى مكة ، واشتاق إليها ، وذكر مولده ومولد أبيه ، فنزل جبريل عليه السلام وقال له : أ نشتاق إلى بلدك ومولدك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : نعم ، فقال جبريل : فإن اللّه يقول : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ).(20/96)
ج 20 ، ص : 105
وهذه إحدى معجزاته صلى اللّه عليه وسلم لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر.
ولما قال المشركون لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إنك لفى ضلال مبين) نزل قوله تعالى :
(قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي قل لمن خالفك وكذّبك من قومك المشركين ومن تبعهم : ربى أعلم بالمهتدي منى ومنكم ، وستعلمون من تكون له عاقبة الدار ، ومن تكون له الغلبة والنصرة فى الدنيا والآخرة.
ثم ذكّره سبحانه نعمه ، ونهاه عن معاونة المشركين ومظاهرتهم فقال :
(وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي وما كنت أيها الرسول ترجو أن ينزل عليك القرآن ، فتعلم أخبار الماضين من قبلك ، وما سيحدث من بعدك وما فيه من تشريع ، فيه سعادة البشر فى معاشهم ومعادهم وآداب هى منتهى ما تسمو إليه نفوسهم وتطمح إليها عقولهم ثم تتلو ذلك على قومك ، ولكن ربك رحمك فأنزله عليك.
ثم بين ما يجب أن يعمله كفاء هذه النعم المتظاهرة فقال :
(فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) أي فاحمد ربك على ما أنعم به عليك بإنزاله الكتاب إليك ولا تكونن عونا لمن كفروا به ولكن فارقهم ونابذهم.
ثم شدد عزمه وقواه بألا يأبه بمخالفتهم فقال :
(وَ لا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) أي ولا تبال بهم ولا تهتم بمخالفتهم لك وصدهم الناس عن طريقتك ، فإن اللّه معك ومؤيدك ومظهر ما أرسلك به على سائر الأديان.
ثم أمره أن يصدع بالدعوة ولا يألو جهدا فى تبليغ الرسالة فقال :
(وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي وبلغ رسالة ربك إلى من أرسلك إليهم واعبده وحده لا شريك له.(20/97)
ج 20 ، ص : 106
(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي ولا تتركن الدعاء إلى ربك وتبليغ المشركين رسالتك ، فتكون ممن فعل فعل المشركين بمعصيته ومخالفة أمره.
ثم فسر هذا وبينه بقوله :
(وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) أي ولا تعبد أيها الرسول مع اللّه الذي له عبادة كل شى ء - معبودا آخر سواه.
ثم علل هذا بقوله :
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لأنه لا معبود تصلح له العبادة إلا اللّه ، ونحو الآية قوله :
« رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا »
.
ثم بين صفاته فقال :
1 - (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي هو الدائم الباقي الحي القيوم الذي لا يموت إذا ماتت الخلائق ، كما قال : « كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ » وقد ثبت فى الصحيح عن أبى هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أصدق كلمة قالها لبيد : « ألا كل شىء ما خلا اللّه باطل » .
2 - (لَهُ الْحُكْمُ) أي له الملك والتصرف والقضاء النافذ فى الخلق.
3 - (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم معادكم ، فيجزيكم بأعمالكم إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
وصل ربنا على محمد وآله.(20/98)
ج 20 ، ص : 107
خلاصة ما تحويه السورة الكريمة من الأغراض
(1) استعلاء فرعون وإفساده فى الأرض.
(2) استضعافه بنى إسرائيل وقتله أبناءهم واستبقاؤه نساءهم.
(3) منته تعالى على بنى إسرائيل بإنقاذهم من بأس فرعون وجعلهم أئمة فى أمر الدين والدنيا ووراثتهم أرض الشام.
(4) إغراق فرعون وجنوده.
(5) إلقاء موسى فى اليمّ ، والتقاط آل فرعون له ، ثم رده إلى أمه.
(6) قتل موسى للقبطى ، ثم هربه إلى أرض مدين ، وتزوجه ببنت كاهنها ، وبقاؤه بها عشر سنين.
(7) عودة موسى إلى مصر ، ومناجاته ربه.
(8) معجزات موسى من العصا واليد البيضاء.
(9) طلبه من ربه أن يرسل معه أخاه هرون ليكون له وزيرا وإجابته إلى ذلك.
(10) تبليغه رسالة ربه إلى فرعون ، وتكذيب فرعون له ، واستكباره فى الأرض بغير الحق.
(11) إثبات نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم بإخباره عن قصص الماضين ، دون أن يكون حاضرا معهم ، ولا أن يتعلم ذلك من معلم.
(12) إنكار قريش لنبوته ، بعد أن جاءهم بالحق من ربهم ، وقولهم : إن ما جاء به سحر مفترى.
(13) إيمان أهل الكتاب بالقرآن وإعطاؤهم أجرهم مرتين.
(14) إثبات أن الهداية بيد اللّه ، لا بيد رسوله ، فلا يمكنه أن يهدى من يحب.
(15) معاذير قريش فى عدم إيمانهم بالرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ثم دحضها.
(16) بيان أن اللّه لا يعذب أمة إلا إذا أرسل إليهم رسولا ، حتى لا يكون لهم حجة على اللّه.(20/99)
ج 20 ، ص : 108
(17) نداء المشركين على رءوس الأشهاد ، وأمرهم بإحضار شركائهم ونداؤهم ، ليسألهم عما أجابوا به الرسل ، فلم يستطيعوا لذلك ردا.
(18) بيان أن اختيار الرسل للّه ، لا للمشركين ، فهو الذي يصطفى من يشاء لرسالته.
(19) التذكير بنعمته على عباده باختلاف الليل والنهار.
(20) شهادة الأنبياء على أممهم.
(21) ذكر قارون وبغيه فى الأرض ، ثم خسف الأرض به.
(22) بيان أن ثواب الآخرة لا يكون إلا لمن لا يريد العلو فى الأرض ولا الفساد فيها.
(23) مضاعفة اللّه للحسنات ، وجزاء السيئة بمثلها.
(24) الإنباء بالغيب عن نصر اللّه لرسوله ، وفتحه لمكة.
(25) بيان أن كل ما فى الوجود فهو هالك ، إلا اللّه تبارك وتعالى.(20/100)
ج 20 ، ص : 109
سورة العنكبوت
هى مكية إلا من أولها إلى قوله : « وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ » فمدنية ، نزلت بعد سورة الروم ، آيها تسع وستون.
ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه :
(1) إنه ذكر فى السورة السالفة استعلاء فرعون وجبروته ، وجعله أهلها شيعا ، وافتتح هذه السورة بذكر المؤمنين الذين فتنهم المشركون ، وعذبوهم على الإيمان ، دون ما عذب به فرعون بنى إسرائيل تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم ، وحثا لهم على الصبر ، كما قال : « وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ » .
(2) ذكر فى السورة السابقة نجاة موسى من فرعون وهربه منه ثم عوده إلى مصر رسولا نبيا ، ثم ظفره من بعد بغرق فرعون وقومه ونصره عليهم نصرا مؤزّرا ، وذكر هنا نجاة نوح عليه السلام وأصحاب السفينة وإغراق من كذبه من قومه.
(3) نعى هناك على عبدة الأصنام والأوثان ، وذكر أنه يفضحهم يوم القيامة على رءوس الأشهاد - وهنا نعى عليهم أيضا وبيّن أنهم فى ضعفهم كضعف بيت العنكبوت.
(4) هناك قص قصص قارون وفرعون ، وهنا ذكرهما أيضا ، وبين عاقبة أعمالهما.
(5) ذكر هناك فى الخاتمة الإشارة إلى هجرة النبي صلى اللّه عليه وسلم فى قوله :
« إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ » ، وفى خاتمة هذه أشار إلى هجرة المؤمنين بقوله : « يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ »
.(20/101)
ج 20 ، ص : 110
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4)
تفسير المفردات
الفتنة : الامتحان والاختبار ، ليعلمن اللّه الذين صدقوا : أي ليظهرنّ صدقهم ، السبق : الفوت والمراد به الفوت عن المجازاة ، والسيئات : هى الشرك باللّه والمعاصي التي يجترحونها ، ساء ما يحكمون : أي قبح حكمهم أنهم يهربون منا.
المعنى الجملي
بعد أن قال فى أواخر السورة السالفة « وَادْعُ إِلى رَبِّكَ » وكان فى الدعاء إليه توقع الطعن والضرب فى الحرب ، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد إن لم يؤمن المشركون ويستجيبوا للدعاء ، وذلك مما يشق على بعض المؤمنين - أردف ذلك تنبيههم إلى أن المؤمنين لا يتبين إيمانهم الحق إلا إذا فتنوا.
روى ابن جرير وابن المنذر أن ناسا ممن كانوا بمكة آمنوا فكتب إليهم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة لا يقبل منكم إسلام حتى تهاجروا ، فخرجوا إلى المدينة فتبعهم المشركون فردّوهم فنزلت فيهم هذه الآيات فكتبوا إليهم ، أنزلت فيكم آية كذا وكذا ؟ فقالوا : تخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه ، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا ، فأنزل اللّه فيهم : « ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ » .(20/102)
ج 20 ، ص : 111
قال مقاتل : نزلت فى مهجع مولى عمر بن الخطاب ، وكان أول قتيل من المسلمين يوم بدر ، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم يومئذ :
«
سيد الشهداء مهجع ، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة » وجزع عليه أبواه وامرأته فنزلت « الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا » الآية.
الإيضاح
(الم) تقدم أن قلنا إنه ينطق بالحروف المقطعة فى أوائل السور بأسمائها ساكنة فيقال : (ألف. لام. ميم).
والحكمة فى البداءة بها التنبيه وطلب إصغاء السامعين إلى ما يلقى بعدها ، فإن الحكيم إذا خاطب من يكون مشغول البال قدّم على المقصود شيئا غيره ليلفت المخاطب بسببه إليه ، فحينا يكون كلاما مفهوما كقول القائل اسمع أو ألق بالك إلىّ ، وحينا يكون فى معنى الكلام المفهوم كقولك يا على ، وحينا يكون صوتا غير مفهوم المعنى كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه.
فالنبى صلى اللّه عليه وسلم وإن كان يقظ الجنان فهو إنسان يشغله شأن عن شأن ، فحسن من الحكيم الخبير أن يقدّم على المقصود حروفا هى كالمنبّهات لا يفهم منها معنى ، لتكون أتم فى إفادة التنبيه ، لأنه إذا كان المقدم قولا مفهوما فربما ظن السامع أنه هو المقصود ولا كلام للمتكلم بعد ذلك ليصغى إليه ، أما إذا سمع صوتا لا معنى له جزم بأن هناك كلاما آخر سيرد بعد ، فيقبل إليه تمام الإقبال ، ويرهف السمع إلى ما سيأتى.
وقد ثبت بالاستقراء أن كل سورة فى أوائلها حروف التهجي بدئت بذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن نحو « الم ذلِكَ الْكِتابُ ، المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ، يس وَالْقُرْآنِ ، ص وَالْقُرْآنِ ، ق وَالْقُرْآنِ ، حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ » إلا ثلاث سور « كهيعص ، الم أَحَسِبَ النَّاسُ ، الم غُلِبَتِ الرُّومُ » .(20/103)
ج 20 ، ص : 112
وقد حصل التنبيه فى القرآن بغير الحروف التي لا يفهم معناها كقوله : « يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ » ، وقوله : « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ؟ » ، من قبل أن تقوى اللّه أمر عظيم ، ومثلها تحريم ما أحل اللّه.
وقد بدئت هذه السورة بالحروف وليس فيها البدء بالقرآن أو الكتاب من قبل أن فيها ذكر جميع التكاليف ، وهى شاقة على النفس ، فحسن البدء بحروف التنبيه للإيقاظ إلى ما يلقى بعدها :
(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) أي أظن الذين نجوا من أصحابك من أذى المشركين أن نتركهم بغير اختبار ولا امتحان بمجرد قولهم : آمنا بك وصدقناك فيما جئنا به من عند اللّه ، كلا لنمتحننّهم بشاقّ التكاليف كالهجرة ، والجهاد فى سبيل اللّه ، ورفض الشهوات ، ووظائف الطاعات ، وأفانين المصايب فى الأنفس والأموال والثمرات ، ليمتاز المخلص من المنافق ، والراسخ فى الدين من المتزلزل فيه ، ونجازى كلا بحسب مراتب عمله.
ونحو الآية قوله : « أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ » .
والخلاصة : أ يظن الناس أنهم يتركون بمجرد قولهم آمنا دون أن يبتلوا بالفرائض البدنية والمالية كالهجرة من الأوطان والجهاد فى سبيل اللّه ودفع الزكاة للفقراء والمحتاجين وإغاثة البائسين والملهوفين.
ثم ذكر ما هو كالتسلية لهم بما نال من قبلهم بالمشاقّ فقال :
(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي ولقد اختبرنا أتباع الأنبياء من الأمم السالفة وأصبناهم بضروب من البأساء والضراء فصبروا وعضوا على دينهم بالنواجذ ، فابتلينا بنى إسرائيل بفرعون وقومه وأصابهم منه البلاء العظيم والجهد الشديد ، وابتلينا من آمن بعيسى بمن كذبه وتولى عنه - لا جرم ليصيبنّ أتباعك أذى شديد وجهد عظيم ممن خالفهم وناصبهم العداء.(20/104)
ج 20 ، ص : 113
روى البخاري وأبو داود والنسائي عن خبّاب بن الأرت قال : « شكونا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد لقينا من المشركين شدة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟
ألا تدعو لنا ؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له فى الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه فما يصدّه ذلك عن دينه ، واللّه ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللّه والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون » .
وعن أبى سعيد الخدري قال : « دخلت على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يوعك ، فوضعت يدى عليه ، فوجدت حره بين يدى فوق اللحاف ، فقلت : يا رسول اللّه ما أشدها عليك! قال إنا كذلك يضعّف لنا البلاء ويضعّف لنا الأجر ، قلت : يا رسول اللّه :
أىّ الناس أشد بلاء ؟ قال الأنبياء ، قلت : ثم من ؟ قال : ثم الصالحون ، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها (يمزقها) وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء » .
ونحو الآية قوله : « وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا » .
(فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) أي وليظهرنّ اللّه الصادقين منهم فى إيمانهم من الكاذبين بما يشبه الامتحان والاختبار ، وليجازينّ كلا بما يستحق.
وخلاصة ما سلف : أيها الناس لا تظنوا أنى خلقتكم سدى ، بل خلقتكم لترقوا إلى عالم أعظم من عالمكم وأرقى منه فى كل شئونه ، ولا يتم ذلك إلا بتكليفكم بعلم وعمل ، واختباركم من آن إلى آخر بإنزال النوازل والمصايب ، فى الأنفس والأموال والثمرات ، والتخلي عن بعض الشهوات ، وفعل التكاليف من الزكاة والصيام والحج ونحوها فحياتكم حياة جهاد وشقاء ، شئتم أو أبيتم.(20/105)
ج 20 ، ص : 114
وبمقدار ما تصبرون على هذا الاختبار وتفوزون بالنجاح فيه يكون مقدار الجزاء والثواب ، وتلك سنة اللّه فيكم وفى الأمم من قبلكم ، وتاريخ الأديان ملىء بأخبار هذا البلاء وما لقيه المؤمنون من المكذبين بالرسل.
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ؟ ) أي بل أ يظن هؤلاء الذين يجترحون الإثم والفواحش أن يفوتونا ، فلا نقدر على مجازاتهم ، ولا نستطيع أن نجرى العدل فيهم ، وما قضت به سنتنا فى الظالمين بأخذهم أخذ عزيز مقتدر ؟ .
قال ابن عباس : يريد الوليد بن المغيرة وأبا جهل والأسود والعاص بن هشام وعتبة والوليد بن عتبة وعتبة بن أبى معيط وحنظلة بن أبى سفيان والعاص بن وائل.
(ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس حكما يحكمونه هذا الحكم ، وكيف يدور ذلك بخلدهم وإنا لم نخلق الخلق سدى ، بل رييناهم وهذبناهم بضروب من التهذيب والعلم ، لعلهم يلمحون فى هذا العالم نور جمالى وجلالى.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 5 الى 7]
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)
تفسير المفردات
يرجو : أي يطمع ، لقاء اللّه : أي نيل ثوابه وجزائه ، أجل اللّه : الوقت المضروب للقائه ، جاهد أي بذل جهده فى جهاد حرب أو نفس.(20/106)
ج 20 ، ص : 115
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أن العبد لا يترك فى الدنيا سدى ، وأن من ترك ما كلف به عذّب - أردف ذلك بيان أن من يعترف بالآخرة ويعمل لها لا يضيّع اللّه عمله ولا يخيّب أمله ، ثم ذكر أن طلب ذلك من المكلف ليس لنفع يعود إلى اللّه تعالى فهو غنىّ عن الناس جميعا ، ثم أرشد إلى أن جزاء العمل الصالح تكفير السيئات ، ومضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها فضلا منه ورحمة.
الإيضاح
(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي من كان يطمع فى ثواب اللّه يوم لقائه فليبادر إلى فعل ما ينفعه ، وعمل ما يوصله إلى مرضاته ، ويجتنب ما يبعد من سخطه ، فإن أجل اللّه الذي أجّله لبعث خلقه للجزاء لآت لا محالة ، واللّه هو السميع لأقوال عباده ، العليم بعقائدهم وأعمالهم ، ويجازى كلا بما هو أهل له ، وفى هذا تنبيه إلى تحقق حصول المرجوّ والمخوف وعدا ووعيدا.
ثم بين سبحانه أن التكليف بجهاد النفس وجهاد الحرب ليس لنفع يعود إليه ، بل لفائدة المكلف فقال :
(وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ ، إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) أي ومن بذل جهده فى جهاد عدو أو حرب نفس فإنما يجاهد لنفع نفسه ، لأنه إنما يفعل ذلك ابتغاء الثواب من اللّه على جهاده ، وهربا من عقابه ، وليس باللّه إلى فعله حاجة ، فهو غنى عن جميع خلقه ، له الملك وله الأمر يفعل ما يشاء.
ونحو الآية : « مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ » وقوله : « إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ » .
ثم بين بالتفصيل جزاء المطيع فقال :
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ(20/107)
ج 20 ، ص : 116
الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)
أي والذين آمنوا باللّه ورسوله وصح إيمانهم حين ابتلائهم ، فلم يرتدوا عنه بأذى المشركين لهم ، وعملوا صالح الأعمال ، فأدّوا فرائضه وقاموا بها حق القيام ، فواسوا البائس الملهوف ، وأغاثوا المظلوم ، وقدّموا لوطنهم ما هو شديد الحاجة إليه ، فرأبوا صدعه ، وسدّوا ثغره ، وكانوا للمؤمنين سندا ومعينا ، حتى يصيروا كالبنيان يشد بعضه بعضا - لنكفرنّ عنهم سيئاتهم التي فرطت منهم فى شركهم أو صدرت منهم لماما فى إيمانهم وندموا على ما اجترحوه منها ، ولنثيبنهم على صالح أعمالهم حين إسلامهم أحسن ما كانوا يعملون ، فنقبل القليل من الحسنات ، ونثيب على الواحدة منها عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وتجزى على السيئة بمثلها ، أو نعفو عنها.
ونحو الآية قوله : « إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً » .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 9]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن العمل الصالح يكفر السيئات ويضاعف الحسنات - أعقب ذلك بذكر البر بالوالدين والحدب عليهما ، لأنهما سبب وجوده ، فلهما عليه الإحسان والطاعة.
فالإحسان إلى الوالد بالإنفاق ، وإلى الوالدة بالإشفاق ، إلا إذا حرّضاه على الشرك وأمراه بالمتابعة على دينهما إذا كانا مشركين ، فإنه لا يطيعهما فى ذلك ، ثم بين أن من يعمل الصالحات يدخله اللّه فى زمرة الأنبياء والأولياء ، ويؤتيه من الكرامة والدرجة الرفيعة والزلفى عنده مثل ما أوتى هؤلاء.(20/108)
ج 20 ، ص : 117
روى الترمذي « أن الآية نزلت فى سعد بن أبى وقّاص وأمه حمنة بنت أبى سفيان لما أسلم وكان من السابقين الأولين وكان بارّا بأمه ، قالت له : ما هذا الدين الذي أحدثت ؟ واللّه لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتتعيّر بذلك أبد الدهر يقال : يا قاتل أمه ، ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل ، فأصبحت وقد جهدت ، ثم مكثت يوما آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب ، فجاء سعد إليها وقال يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت دينى ، فكلى إن شئت ، وإن شئت فلا تأكلى ، فلما أيست منه أكلت وشربت ، فأنزل اللّه هذه الآية ، آمرا بالبر بالوالدين والإحسان إليهما ، وعدم طاعتهما فى الشرك به » .
الإيضاح
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) أي وأمرناه بتعهدهما والبر بهما ، والإحسان إليهما ، كما قال فى آية أخرى : « وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً ، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً » .
(وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) أي وإن حرضاك على أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين ، فإياك أن تفعل ذلك ، وجاء فى الحديث الصحيح « لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق » .
ومعنى قوله : (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أنه لا علم لك بإلهيته ، وإذا كان لا يجوز له أن يتّبع فيما لا يعلم صحته فأحر به ألا يتبع فيما يعلم بطلانه.
ثم توعد من يفعل ذلك بقوله :
(إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي مرجعكم جميعا إلىّ يوم القيامة ،(20/109)
ج 20 ، ص : 118
من آمن منكم ومن كفر ، ومن بر والديه ، ومن عقّ ، ثم أجازيكم على أعمالكم ، المحسن بإحسانه ، والمسيء بما هو أهل له.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي والذين آمنوا باللّه وصدّقوا رسوله وعملوا ما يصلح نفوسهم ، ويزكّى أرواحهم ويطهرها ، لندخلنهم فى زمرة الصالحين ، ونجعلهم فى عدادهم فندخلهم الجنة معهم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 10 الى 11]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11)
المعنى الجملي
الناس فى الدين أقسام ثلاثة : مؤمن حسن الاعتقاد والعمل ، وكافر مجاهر بالكفر والعناد ، ومذبذب بينهما ، يظهر الإيمان بلسانه ، ويبطن الكفر فى فؤاده ، وقد بين القسمين الأولين بقوله : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) وبين أحوالهما بقوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) إلى قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ثم أردف ذلك ذكر القسم الثالث بقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ) إلخ.
روى أن الآية نزلت فى عياش بن أبى ربيعة أسلم وهاجر ، ثم أوذى وضرب فارتدّ وقد كان عذبه أبو جهل والحارث ، وكانا أخويه لأمه ، ثم عاش بعد ذلك دهرا وحسن إسلامه.(20/110)
ج 20 ، ص : 119
الإيضاح
(وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ) أي ومن الناس فريق يقول : آمنا باللّه وأقررنا بوحدانيته ، فإذا آذاه المشركون لأجل إيمانه ، جعل فتنة الناس فى الدنيا كعذاب اللّه فى الآخرة ، فارتد عن إيمانه ، ورجع إلى كفره ، وكان يمكنه أن يصبر على الأذى ، ويجعل قلبه مطمئنا بالإيمان ، ولكنه جعل فتنة الناس صارفة له عن الإيمان ، كما أن عذاب اللّه صارف للمؤمنين عن الكفر ، وعذاب الناس له دافع ، وعذاب اللّه ليس له دافع ، وعذاب الناس يترتب عليه ثواب عظيم ، وعذاب اللّه بعده العقاب الأليم ، والمشقة إذا كانت مستتبعة للراحة العظيمة تطيب النفس لها ولا تعدّها عذابا.
قال الزجاج : ينبغى للمؤمن أن يصبر على الأذى فى اللّه.
أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه وأبو ليلى عن أنس قال : قال صلى اللّه عليه وسلم : « لقد أوذيت فى اللّه وما يؤذى أحد ، ولقد أخفت فى اللّه ، وما يخاف أحد ، ولقد أتت علىّ ثالثة ، ومالى ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ماوارى إبط بلال » .
وخلاصة ذلك : إن من الناس من يدّعون الإيمان بألسنتهم ، فإذا جاءتهم محنة وفتنة فى الدنيا اعتقدوا أن هذا من نقمة اللّه تعالى منهم ، فارتدّوا عن الإسلام ، ورجعوا إلى الكفر الذي كان متغلغلا فى حنايا ضلوعهم وشغاف قلوبهم.
ونحو الآية قوله : « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ » .
(وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أي ولئن جاء نصر قريب من لدى ربك بالفتح والمغانم ليقولنّ هؤلاء المنافقون : إنا كنا معكم إخوانا فى الدين ننصركم على أعدائكم ، وهم كاذبون فيما يدّعون.
ونحو الآية قوله : « الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ، فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا(20/111)
ج 20 ، ص : 120
أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ؟ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ »
.
ثم توعدهم وذكر أنه عليم بما فى صدورهم ، لا يخفى عليه شىء من أمرهم فقال :
(أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ ؟ ) أي أو ليس اللّه أعلم بما فى قلوب المنافقين وما تكنّه صدورهم ، وإن أظهروا لكم الموافقة على الإيمان ، فكيف يخادعون من لا تخفى عليه خافية ، ولا يستتر عنه سر ؟ .
ثم ذكر أن هذه الفتنة إنما هى ابتلاء واختبار من اللّه ، ليستبين صادق الإيمان من المنافق ، الذي لا يتجاوز الإيمان طرف لسانه ، ولا يعدوه إلى قلبه فقال :
(وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) أي وليختبرن اللّه عباده بالسراء والضراء ، ليميز صادق الإيمان من المنافق ، من يطيع اللّه فى كل حال فيصبر على اللأواء إذا مسته ، ويعدّها اختبارا له ، وأنه سيثاب عليها إذا هو فوّض الأمر فيها إليه ، ومن يعصيه إذا حزبه الأمر ، واشتد به الخطب ، ولا يجد الصبر إلى قلبه سبيلا.
ونحو الآية قوله : « وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ » وقوله : « ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ » .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 الى 13]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)(20/112)
ج 20 ، ص : 121
تفسير المفردات
المراد بالحمل هنا : تبعة الذنوب ، والأثقال واحدها ثقل : وهو الحمل الذي يئود حامله ، والمراد به الذنب والإثم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف قسر الكفار للمؤمنين على الكفر ، وإلزامهم إياه بالأذى والوعيد - أردف ذلك ذكر دعوتهم إياهم إليه بالرفق واللين حينا آخر بنحو قولهم لهم : لا عليكم بذلك من بأس ، إننا نحتمل تبعات ذنوبكم ، ثم ردّ مقالتهم ببيان كذبهم ، فإن أحدا لا يحمل وزر أحد يوم القيامة ، ثم ذكر أن المضلين يتحملون تبعات ضلالهم وإضلالهم ، ويكون لهم العذاب على كلا الجرمين.
روى عن مجاهد : أن الآية نزلت فى كفار قريش قالوا لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا ، فإن كان عليكم إثم فعلينا.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) أي وقال الكافرون من قريش لمن آمن منهم واتبعوا الهدى : ارجعوا إلى ديننا الذين كنتم عليه ، واسلكوا طريقنا ، وإن كانت عليكم آثام فعلينا تبعتها وهى فى رقابنا ، كما يقول القائل : افعل هذا وخطيئتك فى رقبتى.
فردّ اللّه عليهم كذبهم بقوله :
(وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ) أي وإنهم لا يحملون ذنوبهم يوم القيامة فإن أحدا لا يحمل وزر أحد كما قال تعالى : « وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى » وقال « وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً. يُبَصَّرُونَهُمْ » .(20/113)
ج 20 ، ص : 122
ثم أكد ما سبق وقرره بقوله :
(إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما قالوه إنهم يحملون عنهم الخطايا ، قال صاحب الكشاف :
وترى المتّسمين بالإسلام من يستنّ بأولئك فيقول لصاحبه إذا أراد أن يشجعه على ارتكاب بعض العظائم : افعل هذا وإثمه فى عنقى ، وكم من مغرور بمثل هذا الضمان من ضعفة العامة وجهلتهم ا ه.
وبعد أن بين عدم منفعة كلامهم لمخاطبيهم ، بين ما يستتبعه ذلك القول من المضرّة لأنفسهم فقال :
(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ) أي وليحملن الدعاة إلى الكفر والضلال يوم القيامة أوزار أنفسهم وأوزارا أخرى ، بما أضلّوا من الناس من غير أن ينقص من أوزار أولئك شيئا كما جاء فى الآية الأخرى « لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ »
وفى الصحيح : « من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلال كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من آثامهم شيئا » .
ثم ذكر أنهم يوم القيامة يسألون على افترائهم على ربهم فقال :
(وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وليسألن حينئذ سؤال توبيخ وتقريع عما كانوا يكذبونه فى الدنيا بوعد من أضلوهم بالأباطيل ، وقولهم لهم : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ).
قصص نوح عليه السلام
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 15]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)(20/114)
ج 20 ، ص : 123
الإيضاح
بعد أن ذكر افتتان المؤمنين بأذى الكفار ، وأرشد إلى أن من قبلهم من الأمم قد فتنوا ، أعقبه بتفصيل من فتنوا من الأنبياء : كنوح وإبراهيم وهود ولوط وشعيب تسلية له صلى اللّه عليه وسلم ، فقد ابتلوا بما أصابهم من المكاره ، وصبروا عليها ، فليكن ذلك قدوة للمؤمنين.
وقد بدأ بذكر أبى الأنبياء نوح عليه السلام فذكر أنه مكث فى قومه ألف سنة يدعوهم إلى اللّه ليلا ونهارا سرا وجهرا ، وما زادهم ذلك إلا فرارا من الحق ، وإعراضا عنه ، وتكذيبا له ، وما آمن معه إلا قليل منهم ، فأنزل اللّه عليهم الطوفان فأهلكهم وهم مستمرون فى الظلم ، لم يتأثروا بما سمعوا من نوح من الآيات ، ولم يرعووا عما هم عليه من الكفر والمعاصي هذه المدة ، فأنجى اللّه نوحا ومن معه ممن ركب السفينة من أتباعه ، وكانت تلك السفينة عبرة وموعظة أمدا طويلا مدة بقائها على جبل الجودي ، ينظر إليها الناس ، وترشدهم إلى نعمته على خلقه بالنجاة من الطوفان ، كما قال : « إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ. لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ » وقد تقدم تفصيل هذا فى سورة هود.
وجاء النظم هكذا : إلا خمسين عاما ، ولم يقل : تسعمائة سنة وخمسين سنة ، لأن فى الاستثناء تحقيق العدد بخلاف الثاني فقد يطلق على ما يقرب منه ، إلى أن ذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض ، وجىء بالمميّز أولا بالسنة ، ثم بالعام دفعا للتكرار ، ولأن العرب تعبر عن الخصب بالعام ، وعن الجدب بالسنة ، ونوح لما استراح بقي فى زمن حسن.
العبرة من هذا القصص
لا يحزننك أيها الرسول ما تلقى من هؤلاء المشركين أنت وأصحابك من الأذى ، فإنى وإن أمليت لهم وأطلت إملاءهم ، فإن مصيرهم إلى البوار ، ومصيرك ومصير(20/115)
ج 20 ، ص : 124
أصحابك إلى العلو والنصر ، كفعلنا بقوم نوح : إذ أغرقناهم بالطوفان ، وأنجينا نوحا وأتباعه من راكبى السفينة وجعلناها عبرة للعالمين.
وفى ذلك إيماء إلى أن نوحا قد لبث هذا الأمد الطويل يدعو قومه ، ولم يؤمن إلا القليل ، فصبر وما ضجر ، فأنت أولى بالصبر ، لقلة مدة لبثك ، وكثرة عدد أمتك.
قصص إبراهيم عليه السلام
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 18]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18)
الإيضاح
(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ) أي واذكر لقومك قصص إبراهيم حين كمل عقله ، وقدر على النظر والاستدلال ، وترقى من مرتبة الكمال إلى مرتبة إرشاد الخلق ، وتصدى للدعوة إلى طريق الحق ، فدعا قومه إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له ، والإخلاص له فى السر والعلن ، واتقاء سخطه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه.
ثم بين لهم فائدة ذلك فقال :
(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي فذلك الذي آمركم به خير لكم مما أنتم عليه(20/116)
ج 20 ، ص : 125
إن كان لديكم ذرة من الإدراك والعلم ، تميزون بها الخير من الشر ، وتعلمون ما ينفعكم فى مستأنف حياتكم الدنيوية والأخروية.
ثم أرشدهم إلى فضل ما يدعوهم إليه ، وفساد ما هم عليه بقوله :
(إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أي ما تعبدون من دون اللّه إلا تماثيل هى مصنوعة بأيديكم ، وتكذبون حين تسمّونها آلهة ، وتدّعون أنها تشفع لكم عند ربكم.
ثم زاد فى النعي عليهم والتهكم بهم ، وبيان أن ذلك لا يجديهم نفعا فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) أي إن أوثانكم التي تعبدونها لا تقدر أن ترزقكم شيئا من الرزق الذي لا قوام لكم بدونه ، فكيف تعبدونها ؟
ثم ذكر لهم من ينبغى أن يعبد فقال :
(فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ) أي فالتمسوا الرزق عند اللّه لا عند أوثانكم تدركوا ما تطلبون ، واعبدوه وحده ، واشكروا له نعمه عليكم مستجلبين بذلك المزيد من فضله.
وبعد أن ذكر أنه هو الرازق فى الدنيا والمنعم على عباده ، بين أن المرجع إليه فى الآخرة فهو الذي يطلب رضاه ، والتقرب إليه ، والزلفى عنده ، فقال :
(إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي واستعدوا للقائه تعالى بالعبادة والشكر له ، فإنكم إليه ترجعون فيسألكم عما أنتم عليه من عبادتكم غيره ، وأنتم عباده وخلقه وفى نعمه تتقلبون ، ومن رزقه تأكلون.
ولما فرغ من إرشادهم إلى الدين الحق حذّرهم من تركه ، وهددهم بما حل بمن قبلهم من المكذبين للرسل فقال :
(وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي وإن تصدقونى فقد فزتم بسعادة الدارين ، وإن تكذبونى فيما أخبرتكم به فلا تضرونى بتكذيبكم ، فقد كذب أمم(20/117)
ج 20 ، ص : 126
قبلكم رسلهم : كقوم إدريس ونوح وهود وصالح عليهم السلام ، فجرى الأمر على ما سنه اللّه فى الخلق من نجاة المصدّقين للرسل ، وهلاك العاصين لهم.
(وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي وما ضر ذلك الرسل شيئا ، بل هم قد ضروا أنفسهم ، فما على الرسول إلا التبليغ الذي لا يبقى معه شك ، وما عليه أن يصدقه قومه ، وقد خرجت من عهدة التبليغ ، ولا علىّ بعد ذلك أ صدقتم ، أم كذبتم ؟ .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 19 الى 23]
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23)
تفسير المفردات
النشأة : الخلق والإيجاد ، تقلبون : أي تردّون بعد موتكم ، بمعجزين : أي جاعلين اللّه عاجزا ، من ولىّ : أي قريب ، ولا نصير : أي معين.
المعنى الجملي
بعد أن أقام الأدلة على الوحدانية ، ثم الرسالة بقوله : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) شرع يبين الأصل الثالث وهو البعث والنشور ، وقد قلنا فيما سلف : إن هذه الأصول الثلاثة لا يكاد ينفصل بعضها من بعض فى الذكر الإلهى ، فأينما تجد أصلين منها تجد الثالث.(20/118)
ج 20 ، ص : 127
الإيضاح
(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أرشد إبراهيم خليل الرحمن قومه إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه ، بما يشاهدونه فى أنفسهم من خلقهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا ، ثم إعطائهم السمع والبصر والأفئدة ، وتصرفهم فى الحياة إلى حين ، ثم موتهم بعد ذلك ، والذي بدأ هذا قادر على أن يعيده ، بل هو أهون عليه كما قال فى آية أخرى : « وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ » .
وخلاصة هذا : أنتم قد علمتم ذلك فكيف تنكرون الإعادة وهى أهون عليه ؟
وبعد أن ساق هذا الدليل المشاهد فى الأنفس ، أرشد إلى الاعتبار بما فى الآفاق من الآيات المشاهدة فقال :
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ، ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي سيروا فى الأرض وشاهدوا السموات وما فيها من الكواكب النيرة. ثوابتها وسياراتها ، والأرض وما فيها من جبال ومهاد ، وبراري وقفار ، وأشجار وثمار ، وأنهار وبحار ، فكل ذلك شاهد على حدوثها فى أنفسها وعلى جود صانعها الذي يقول للشىء كن فيكون.
أو ليس من فعل هذا بقادر على أن ينشئه نشأة أخرى ، ويوجده مرة ثانية وهو القادر على كل شىء ؟ .
وشبيه بالآية قوله فى الآية الأخرى : « سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ » .
ولما أقام الدليل على الإعادة رتب عليها ما سيكون بعدها فقال :
(يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) أي يعذب من يشاء منكم ومن غيركم فى الدنيا والآخرة بعدله فى حكمه بحسب سننه فى خلقه ، ويرحم من يشاء بفضله ورحمته ،(20/119)
ج 20 ، ص : 128
فهو الحاكم المتصرف الذي يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد ، لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون.
(وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) أي وإليه تردّون بعد موتكم والمراد أنه إن تأخر ذلك عنكم فلا تظنوا أنه قد فات ، فإن إليه إيابكم ، وعليه حسابكم ، وعنده يدّخر ثوابكم وعقابكم.
(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي إنه تعالى لا يعجزه أحد من أهل سمواته ولا أرضه ، بل هو القاهر فوق عباده ، فكل شىء فقير إليه ، فلو صعد إلى السمّاكين ، أو هبط إلى موضع السموك فى الماء ما خرج من قبضته وما استطاع الهرب منه.
ولما بين أنه مقدور عليهم جميعا لا يفلتون منه ، ذكر أنه لا يستطيع أحد نصرهم فقال :
(وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي وما كان لكم أيها الناس ولى بلى أموركم ، ويحرسكم من أن يصيبكم بلاء أرضى أو سماوى ، ولا نصير يدفع عذاب اللّه عنكم إن قدّر لكم.
ولما قرر التوحيد والبعث هدد من خالفهما وتوعده فقال :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي والذين كفروا بالدلائل التي نصبها سبحانه فى الكون دالة على توحيده ، والدلائل التي أنزلها على رسله مرشدة إلى ذلك ، وجحدوا لقاءه والورود إليه يوم تقوم الساعة ، أولئك لا أمل لهم فى رحمته ، لأنهم لم يخافوا عقابه ، ولم يرجوا ثوابه ، ولهم عذاب مؤلم موجع فى الدنيا والآخرة.
ونحو الآية قوله : « إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ » .(20/120)
ج 20 ، ص : 129
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 24 الى 25]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)
المعنى الجملي
بعد أن أقام لهم الحجج والبراهين على الوحدانية وإرسال الرسل والحشر والجزاء أردف هذا ببيان أنهم جحدوا وعاندوا ودفعوا الحق بالباطل بعد أن ألزمهم الحجة ، ولم يجدوا للدفاع سبيلا ، وحينئذ عدلوا إلى استعمال القوة كما هو دأب المحجوج المغلوب على أمره ، فقالوا لقومهم : « ابنوا له بنيانا فألقوه فى الجحيم » ، فأنجاه اللّه من كيدهم ، وجعلها عليه بردا وسلاما ، فعاد إلى لومهم بعد أن أخرج من النار ، وقال : إن تمسككم بما أنتم عليه لم يكن عن دليل وبرهان ، بل عن تقليد وحفظ للمودة بينكم ، فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه فى السيرة والطريقة ولكنكم يوم القيامة تتحاجون حين يزول عمى القلوب ، وتستبين الأمور للّبيب الأريب ، ويكفّر بعضكم بعضا ، فيقول العابد : ما هذا معبودى ، ويقول المعبود : ما هؤلاء بعبدتي ، ويلعن بعضكم بعضا ، فيقول هذا لذاك : أنت الذي أوقعتنى فى العذاب حيث عبدتنى ، ويقول ذاك لهذا : أنت الذي أوقعتنى فيه حيث أضللتنى بعبادته ، ويود كل منكم أن يبعد عن صاحبه ، وأنّى لهما ذلك ، وهما مجتمعان فى النار ؟ وما لهما ناصر يخلّصهما منها كما خلصنى ربى من النار التي ألقيتمونى فيها.(20/121)
ج 20 ، ص : 130
الإيضاح
(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ) أي فلم يكن جوابهم إذ قال لهم : اعبدوا اللّه واتقوه. إلا أن قال بعضهم لبعض : اقتلوه أو أحرقوه بالنار ، فأضرموا النار وألقوه فيها ، فأنجاه اللّه منها ، ولم يسلطها عليه ، بل جعلها بردا وسلاما.
ثم ذكر ما فى هذا من العبرة لمن اعتبر فقال :
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فى إنجائنا لإبراهيم من النار ، وقد ألقى فيها وهى تستعر وتصييرها بردا وسلاما عليه - لأدلة وحججا لقوم يؤمنون باللّه إذا عاينوا ورأوا مثل هذه الحجة.
ثم ذكر ما قاله إبراهيم لهم بعد إنجائه من النار :
(وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي وقال لهم إبراهيم مؤنبا وموبخا على سوء صنيعهم بعبادة الأوثان : إنما اجتمعتم على عبادتها فى الدنيا للصداقة والألفة التي بين بعضكم وبعض ، فأنتم تتحابون على عبادتها ، وتتوادون على خدمتها ، كما يتفق الناس على مذهب ، فيكون ذلك سبب ألفتهم ومودتهم ، لا لقيام الدليل عندكم على صحة عبادتها.
وقصارى ذلك : إن مودة بعضكم بعضا هى التي دعتكم إلى عبادتها ، إذ قد رأيتم بعض من تودون عبدوها ، فعبدتموها موافقة لهم لمودتكم إياهم ، كما يرى الإنسان من يوده يفعل شيئا ، فيفعله مودة له.
ثم ذكر أن حالهم فى الآخرة ستكون على نقيض هذا فقال :
(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي ثم تنعكس الحال يوم القيامة ، فتنقلب الصداقة والمودة بغضا(20/122)
ج 20 ، ص : 131
وشنآنا وتتجاحدون ما كان بينكم ، ويلعن بعضكم بعضا ، فيلعن الأتباع المتبوعين ، والمتبوعون الأتباع كما قال : « الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ » ثم مرجعكم إلى النار ، وما لكم من ناصر ينصركم ، ولا منقذ ينقذكم من عذاب اللّه.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 26 الى 27]
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
تفسير المفردات
لوط : هو ابن أخى إبراهيم على ما قاله النسابون - مهاجر إلى ربى : أي إلى الجهة التي أمرنى بالهجرة إليها ، وإسحاق هو ابنه الأكبر ، ويعقوب : حفيده وابن إسحاق ، وأجر الدنيا : الرزق الواسع الهنى ، والمنزل الرحب ، والمورد العذب ، والزوجة الصالحة ، والثناء الجميل ، والذكر الحسن ، والصالح لغة : هو الباقي على ما ينبغى ، يقال : طعام بعد صالح أي هو باق على حال حسنة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر إنجاء إبراهيم من النار ، وأن ذلك معجزة له لا يفقه قدرها إلا من كان ذكى الفؤاد ، قوى الفطنة ، يفهم الدلائل التي أودعها اللّه فى الكون - أردف هذا بيان أنه لم يصدّق بما رأى إلا لوط عليه السلام ، فقد آمن به ، واستقر الإيمان فى قلبه. ثم بين أن إبراهيم لما يئس من إيمان قومه هاجر إلى بلاد الشام - فرارا بدينه وقصدا إلى إرشاد الناس وهدايتهم ، ثم عدّد نعمه العاجلة عليه فى الدنيا بأن آتاه بنين وحفدة ، وجعل فيهم النبوة ، وأنزل عليهم الكتب ، وآتاه الذكر الحسن إلى يوم القيامة ، ونعمه الآجلة أنه مكتوب فى عداد الكلمة فى الصلاح والتقوى.(20/123)
ج 20 ، ص : 132
الإيضاح
(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) أي فلما رأى لوط معجزة إبراهيم آمن به وقال إبراهيم : إنى جاعل بلاد الشام دار هجرتى إذ أمرنى ربى بالتوجه إليها ، ويقال :
إن مهجره كان من كوثى من سواد الكوفة إلى أرض الشام ، فإنه لما بالغ فى الإرشاد ولم يهتد به أحد من قومه إلا لوط أصبح بقاؤه بينهم مفسدة ، لأنه إما اشتغال بما لا فائدة فيه وهو عبث ، وإما سكوت وهو دليل الرضا ، فلم تبق إلا الهجرة.
ذكر البيهقي عن قتادة قال : أول من هاجر من المسلمين إلى اللّه عز وجل بأهله عثمان بن عفان رضى اللّه عنه ،
قال أنس بن مالك : خرج عثمان بن عفان ومعه رقيّة بنت رسول اللّه إلى أرض الحبشة ، فأبطأ على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خبرهما ، فقدمت امرأة من قريش فقالت : يا محمد رأيت ختنك ومعه امرأته ، قال على أىّ حال رأيتهما ؟ قالت : رأيته وقد حمل امرأته على حمار من هذه الدبابة (التي تدب فى الأرض ولا تسرع) وهو يسوقها ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « صحبهما اللّه ، إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط » .
ثم ذكر العلة فى الهجرة فقال :
(إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي إن ربى هو العزيز الذي لا يذلّ من نصره ، بل يمنعه ممن أراده بسوء ، الحكيم فى تدبير شئون خلقه ، وتصريفه إياهم فيما صرّفهم فيه.
ثم ذكر سبحانه ما منّ به عليه من النعم فى الدنيا والآخرة كفاء إخلاصه له فقال :
(1) - (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أي ورزقناه من لدنّا إسحاق ولدا ويعقوب من بعده حفيدا.
ونحو الآية قوله : « فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا » وقوله : « وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً »(20/124)
ج 20 ، ص : 133
وفى الصحيحين : « إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم » .
(2) - (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) فلم يوجد نبى بعده إلا وهو من سلائله ، فجميع أنبياء بنى إسرائيل من أولاد يعقوب ، حتى كان آخرهم عيسى بن مريم.
(3) - (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) فبدل اللّه أحواله فى الدنيا بأضدادها ، فبدّل وحدته بكثرة الذرية ، وبدل قومه الضالين بقوم مهتدين ، وهم ذريته الذين جعل فيهم النبوة والكتاب ، وكان لا مال له ولا جاه وهما غاية اللذة فى الدنيا ، فكثر ماله ، وعظم جاهه ، فصارت تقرن الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء ، وصار معروفا بأنه شيخ الأنبياء بعد أن كان خامل الذكر ، حتى قال قائلهم : « سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ » وهذا لا يقال إلا فى المجهول بين الناس ، إلى أنه تعالى اتخذه خليلا ، وجعله للناس إماما.
(4) - (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي وإنه فى الآخرة لفى عداد الكلمة فى الصلاح والتقوى ، المستحقين لتوفير الأجر ، وكثرة العطاء ، والفوز بالدرجات العلى من لدن رب العالمين.
وقصارى أمره - إنه سبحانه جمع له بين سعادة الدارين ، وآتاه الحسنى فى الحياتين.
قصص لوط عليه السلام
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 30]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)(20/125)
ج 20 ، ص : 134
تفسير المفردات
الفاحشة : الفعلة القبيحة التي تنفر منها النفوس الكريمة ، السبيل : الطريق وكانوا يتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ الأموال.
المعنى الجملي
بعد أن قص علينا سبحانه قصص إبراهيم وما لاقاه من قومه من العتوّ والجبروت ، ثم نصره له نصرا مؤزرا - أعقبه بقصص لوط ، إذ كان معاصرا له وسبقه إلى الدعوة إلى اللّه ، وقد افتنّ قومه فى فعلة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين ، ولأن الملائكة الذين أنزلوا بقرية سذوم العذاب جاءوا ضيوفا لإبراهيم عليه السلام.
الإيضاح
(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) أي واذكر قصص لوط حين أرسلناه إلى أهل سذوم الذين سكن فيهم وصاهرهم وانقطع إليهم فصاروا قومه ، فأنكر عليهم سوء صنيعهم وقبيح أفعالهم التي اختصّوا بها ، ولم يسبقهم إليها أحد من قبلهم ، لفظاعتها ، ونفرة الطباع السليمة منها.
ثم فصل هذه الفاحشة وكرر الإنكار عليها فقال :(20/126)
ج 20 ، ص : 135
(1) (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) إتيان الشهوة ، وتستمتعون بهم الاستمتاع بالنساء.
(2) (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) أي وتقفون فى الطرقات تتعرضون للمارّة تقتلونهم وتأخذون أموالهم.
(3) (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) أي وتفعلون من الأفعال والأقوال فى أنديتكم ومجتمعاتكم ما لا يليق ، ويخجل منه أرباب الفطر السليمة ، والعقول الراجحة الحصيفة.
أخرج أحمد والترمذي والطبراني والبيهقي عن أم هانئ بنت أبى طالب قالت : « سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قول اللّه تعالى (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) فقال : كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون (يرمون بالحصى) أبناء السبيل ، ويسخرون منهم »
وفى رواية عن ابن عباس « هو الخذف بالحصى والرمي بالبنادق والفرقعة ومضغ العلك (اللبان) والسواك بين الناس وحل الإزار والسّباب والفحش فى المزاح » .
ثم ذكر جوابهم عن نصحه لهم فقال :
(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي فما كان جوابهم إذ نهاهم عما يكرهه اللّه من إتيان الفواحش التي حرمها عليهم إلا قولهم :
ائتنا بعذاب اللّه الذي تعدنا به إن كنت صادقا فيما تقول ، ومنجزا ما تعد ، وكان قد أوعدهم بالعذاب على ذلك.
وهذا الجواب صدر منهم فى أولى مواعظه ، فلما ألحف عليهم فى الإنكار والنهى قالوا « أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ » كما جاء فى سورة الأعراف وفى هذا إيماء إلى شديد كفرهم ، وعظيم عنادهم.
ولما يئس من هدى قومه واتباعهم نصحه طلب من اللّه نصره فقال :
(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) أي قال رب انصرني على هؤلاء الذين ابتدعوا الفواحش ، وجعلوها سنة فيمن بعدهم ،(20/127)
صفحات ناقصة
ج 20 ، ص : 136 ـ 147(/)
ج 20 ، ص : 148
32 كان من سياسة فرعون إزكاء العداوة والبغضاء بين أفراد الشعب (فرّق تسد) 34 ما خص به الشعب الإسرائيلى من الكرامة 35 للدول هرم كما تهرم الأفراد 36 ما أوحى به إلى أمّ موسى 39 قتل فرعون وجنوده لأولاد بنى إسرائيل خطأ عظيم 40 ما قالته أمّ موسى لأخته 43 ما أنعم اللّه به على موسى حين كبره 44 ما حدث من موسى حين دخول مصر 48 نصيحة المؤمن الذي يكتم إيمانه لموسى 49 ما حصل لموسى حين وصوله إلى مدين من الأحداث 50 ما قالته ابنة الكاهن لموسى بعد مشورة أبيها 52 ما قاله الكاهن لموسى 53 عودة موسى إلى مصر بعد إتمام الأجل 54 خبر النار التي رآها موسى من جانب الطور 55 ما أراد اللّه لموسى من الآيات 56 طلب موسى من ربه أن يرسل معه أخاه هرون وزيرا وإجابة طلبه 58 ادعاء فرعون أن موسى ساحر 59 تهكم فرعون بإله موسى وطلبه من وزيره بناء صرح ليطلع عليه 60 ما نال فرعون من عقاب فى الدنيا قبل الآخرة 63 ما أوتى موسى من الآيات البينات 64 الحاجة إلى رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم 65 ذكر قصص موسى فى القرآن على هذا الوجه دليل على نبوته صلى اللّه عليه وسلم(20/128)
ج 20 ، ص : 149
66 إرسال الأنبياء قطع للحجة على الناس 68 طلب المشركين من الرسول أن يأتى بمعجزات كمعجزات موسى وقد كفر المعاندون من قبل بها 69 الحكمة فى إنزال القرآن منجما 70 من آمن من أهل الكتاب يؤتى أجره مرتين 71 فى الحديث : ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين 72 أوصاف المؤمنين من أهل الكتاب 74 « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ » نزلت فى أبى طالب 75 احتجاج المشركين على عدم إيمانهم 76 عدم الإيمان موجب لهلاك القرى 77 لا يهلك اللّه قرية إلا إذا ظلم أهلها 78 زينة الدنيا ظل زائل ، وما عند اللّه خير وأبقى 80 يسأل المشركون يوم القيامة عن الأوثان الذين عبدوهم من دون اللّه 81 جواب الرؤساء الدعاة إلى الضلال 83 يسأل المشركون عن تكذيبهم للأنبياء 84 حال من تاب من الكفار يوم القيامة 85 اصطفاء بعض المخلوقات بالرسالة من حق اللّه ، لا من حق البشر 86 الاستخارة الشرعية 87 بعض صفات كماله سبحانه 88 تفصيل ما يجب أن يحمد عليه من النعم 89 المخالفة بين الليل والنهار فضل من اللّه 90 اتخاذ الشركاء للّه لم يكن عن دليل ، بل كان عن محض الهوى 92 قصص قارون فيه بيان عاقبة أهل البغي والجبروت(20/129)
ج 20 ، ص : 150
93 أسباب بغيه 94 النصائح التي أسداها قومه له 95 مقالة قارون لقومه ردّا عليهم 97 مظاهر بغى قارون بتباهيه بماله وخدمه وحشمه وأعوانه 98 حين رآه قومه على هذه الشاكلة انقسموا فرقتين 99 ما آل إليه بطره من وبال ونكال 100 العبرة من ذكر قصص قارون للناس 102 الدار الآخرة وما فيها من ثواب أعده اللّه للمؤمنين المتواضعين الذين لا يترفعون على الناس 104 قصص محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه مع قومه وإيفاؤهم لهم 105 أمره صلى اللّه عليه وسلم أن يصدع بالدعوة ويبلّغ الرسالة 107 خلاصة ما حوته سورة القصص من أغراض 109 وجه الاتصال بين القصص والعنكبوت 110 لا يتبين الإيمان الحق إلا بالامتحان 111 الحكمة فى بدء السور بالحروف المقطعة 112 أتباع الأنبياء السابقين فتنوا كما فتن محمد صلى اللّه عليه وسلم وأتباعه 113 إن الخلق لم يخلقوا سدى 114 من يعمل للآخرة لا يضيع عمله سدى 116 البرّ بالوالدين والإحسان إليهما 117 لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق 118 الناس فى الدين أقسام ثلاثة 119 من الناس من يقول آمنا باللّه فإذا أوذى فى اللّه ارتد عن دينه(20/130)
ج 20 ، ص : 151
121 كان الكافرون يقولون للمؤمنين : اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم 122 قصص نوح عليه السلام 123 العبرة من قصص نوح عليه السلام 124 قصص إبراهيم عليه السلام 126 ما على الرسول إلا البلاغ المبين 126 إقامة الدليل على البعث والنشور 127 تهديد من ينكر البعث 129 بعد أن حاج إبراهيم قومه استعملوا
معه القوة وقالوا : اقتلوه أو حرقوه 130 يوم القيامة يكفر بعض المشركين ببعض 131 حين يئس إبراهيم من إيمان قومه هاجر إلى الشام 132 منة اللّه على إبراهيم فى الدنيا والآخرة 134 قصص لوط عليه السلام مع قومه 136 مجىء الملائكة لإبراهيم بالبشرى 137 ما كان من لوط حين مجىء الرسل 139 قصص شعيب عليه السلام مع قومه 140 قصص هود وصالح عليهما السلام 140 قصص موسى عليه السلام مع فرعون 141 عاقبة الأمم المكذبة لرسلها 142 تمثيل حال من عبد غير اللّه بحال العنكبوت اتخذت بيتا 144 فوائد ضرب الأمثال 145 الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر(20/131)
ج 21 ، ص : 3
الجزء الحادي والعشرون
[تتمة سورة العنكبوت ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 49]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49)
تفسير المفردات
الجدل : الحجاج والمناظرة ، مسلمون : أي خاضعون مطيعون ، والجحد : نفى ما فى القلب ثبوته أو إثبات ما فى القلب نفيه والمراد به هنا الإنكار عن علم ، والارتياب :
الشك ، الظالمون : أي الذين ظلموا أنفسهم وجحدوا وجه الحق.(21/3)
ج 21 ، ص : 4
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه طريق إرشاد المشركين وجدالهم بالخشن من القول ، والمبالغة فى تسفيه آرائهم وتوهين شبههم بنحو قوله : « صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ » وقوله : « لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها » إلى أشباه ذلك - أردف هذا ذكر طريق إرشاد أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأن يسلك معهم طريق الحجاج بالحسنى ، ولا يسفّه آراءهم ، ولا ينسب إلى الضلال آباءهم.
ذاك أن المشركين جاءوا بالمنكر من القول ونسبوا إلى اللّه ما لا ينبغى من الشريك والولد ، أما أهل الكتاب فقد اعترفوا باللّه وأنبيائه ، لكنهم أنكروا نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وقالوا إن شريعتهم باقية على وجه الدهر لا تنسخ بشريعة أخرى ، فينبغى إقناع مثل هؤلاء بالحسن من القول ، ولفت أنظارهم إلى الأدلة الباهرة الدالة على نبوته وصدق رسالته بما يكون لهم فيه مقنع ، وبما لو تأملوا فيه وصلوا إلى الصواب ، وأدركوا الأمر على الوجه الحق ، إلا من ظلموا منهم وعاندوا ولم يقبلوا النصح والإرشاد ، فاستعملوا معهم الغلظة فى القول ، والأسلوب الجافّ فى الحديث ، لعلهم يثوبون إلى رشدهم ، ويتأملون فيما يقنعهم من الحجج والبراهين.
ثم أمر رسوله أن يقول لهم : آمنا بالذي أنزل إلينا من القرآن ، وأنزل إليكم من التوراة والإنجيل ، وإن إلهنا وإلهكم واحد ، ونحن مطيعون له.
ثم ذكر أن من أهل الكتاب من يؤمن بالقرآن ، كما أن من أهل مكة من يؤمن به ، وما يجحد به إلا من توغل فى الكفر ، وعدم حسن التأمل والفكر ، إذ لا ريب فى صدق رسوله ، وأن كتابه منزل من عند ربه ، فإن رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب ، ولم يتعلم العلم ، ولم يدارس إنسانا مدى حياته ، يأتى بهذه الحكم والأحكام ، وجميل الآداب ، ومكارم الأخلاق ، مما لم يكن له مثيل فى محيط نشأ به ، ولا فى بلد كان يأويه - لمن أكبر الأدلة على أنه ليس من عند بشر ، بل أوتيه من لدن حكيم خبير.(21/4)
ج 21 ، ص : 5
الإيضاح
(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي ولا تجادلوا من أراد الاستبصار فى الدين من اليهود والنصارى إلا باللين والرفق ، وقابلوا الغضب بكظم الغيظ ، والشّغب بالنصح ، والسّورة بالأناة.
ونحو الآية قوله : « ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » وقوله : « ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ » وقوله لموسى وهرون حين بعثهما إلى فرعون « فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى » .
إلا من ظلموا منهم وحادوا عن وجه الحق ، وعموا عن واضح الحجة ، وعاندوا وكابروا ، ولم يجد فيهم الرفق ، فمثل هؤلاء لا ينفع فيهم إلا الغلظة :
ووضع الندى فى موضع السيف بالعلا مضرّ كوضع السيف فى موضع الندى
قال سعيد بن جبير ومجاهد : المراد بالذين ظلموا منهم - الذين نصبوا القتال للمسلمين وآذوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فجدالهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية.
(وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي إذا حدّثكم أهل الكتاب عن كتبهم ، وأخبروكم عنها بما يمكن أن يكونوا صادقين فيه وأن يكونوا كاذبين ، ولم تعلموا حالهم فى ذلك - فقولوا لهم : آمنا بالقرآن الذي أنزل إلينا والتوراة والإنجيل اللذين أنزلا إليكم ، ومعبودنا ومعبودكم واحد ونحن خاضعون له ، منقادون لأمره ونهيه والطاعة له.
روى البخاري والنسائي عن أبى هريرة قال : « كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ،(21/5)
ج 21 ، ص : 6
وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون »
وروى عبد اللّه بن مسعود أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « لا تسألوا أهل الكتاب عن شىء ، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، إما أن تكذّبوا بحق ، وإما أن تصدّقوا بباطل »
وفى البخاري عن حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدّث رهطا من قريش بالمدينة ، وذكر كعب الأحبار فقال : إن كان من أصدق هؤلاء المحدّثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب ، وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب.
ثم بين أنه لا عجب فى إنزال القرآن على الرسول فهو على مثال ما أنزل من الكتب من قبل فقال :
(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي كما أنزلنا الكتب على من قبلك أيها الرسول - أنزلنا إليك هذا الكتاب ، فالذين آتيناهم الكتب ممن تقدم عهدك من اليهود والنصارى يؤمنون به ، إذ كانوا مصدقين بنزوله بحسب ما علموا عندهم من الكتاب ، ومن كفار قريش وغيرهم من يؤمن به.
(وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) أي وما يكذّب بآياتنا ويجحد حقها إلا من يستر الحق بالباطل ، ويغطّى ضوء الشمس بالوصائل ، ويغمط حق النعمة عليه ، وينكر التوحيد عنادا واستكبارا.
ثم ذكر ما يؤيد إنزاله ويزيل الشبهة فى افترائه فقال :
(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي وما كنت من قبل إنزال الكتاب إليك تقدر أن تتلو كتابا ولا تخطه بيمينك : أي ليس من دأبك وعادتك ذلك ، إذ لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط أو ممن يعتادهما لارتاب المشركون وقالوا لعله التقط ذلك من كتب الأوائل ، ولما لم يكن أمرك هكذا لم يكن لارتيابهم وجه.(21/6)
ج 21 ، ص : 7
قال مجاهد : كان أهل الكتاب يجدون فى كتبهم أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية.
وخلاصة ما سلف - إنك قد لبثت فى قومك عمرا طويلا قبل أن تأتى بهذا القرآن ، لا تقرأ ولا تكتب ، وكل واحد من قومك يعرف أنك أمي لا تقرأ ولا تكتب ، وهذه صفتك فى الكتب المتقدمة كما قال : « الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ » .
فلا وجه إذا للشك فى أن هذا القرآن منزّل من عند اللّه وليس مفتعلا من صنع يدك تعلمته من الكتب المأثورة عمن قبلك كما حكى سبحانه عنهم من نحو قولهم :
« وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا » .
ثم أكد ما سلف وبين أنه منزل من عند اللّه حقا فقال :
(بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي بل هذا القرآن آيات واضحات الدلالة على الحق ، يسّر اللّه حفظها وتفسيرها للعلماء كما قال : « وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ؟ » .
روى البخاري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « ما من نبى إلا وقد أعطى ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه اللّه إلىّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا » .
(وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) أي وما يكذب آياتنا ويبخس حقها ويردها إلا المعتدون المكابرون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه.
ونحو الآية قوله : « إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ » .(21/7)
ج 21 ، ص : 8
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 52]
وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الدليل على أن القرآن من عند اللّه وليس بمفترى من عند محمد صلى اللّه عليه وسلم - أردف هذا شبهة أخرى لهم ، وهى أنهم طلبوا من النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يأتى لهم بمعجزة محسوسة كما أتى بذلك الأنبياء السابقون كناقة صالح وعصا موسى ، فأجابهم بأن أمر ذلك إلى اللّه لا إليه ، فلو علم أنكم تهتدون بها لأجابكم إلى ما طلبتم ، ثم بين سخف عقولهم وطلبهم الآيات الدالة على صدقه بعد أن جاءهم بالمعجزة الباقية على وجه الدهر وهى القرآن يتلى عليهم آناء الليل وأطراف النهار ، فيه خبر من قبلهم ونبأ من بعدهم وحكم ما بينهم ، وفيه بيان الحق ودحض الباطل ، وفيه ذكرى حلول العقاب بالمكذبين والعاصين ثم أبان أن اللّه شهيد على صدقه وهو العليم بما فى السموات والأرض ، ثم هدد الكافرين بأن كل من يكذب رسل اللّه بعد قيام الأدلة على صدقهم ، ويؤمن بالجبت والطاغوت فقد خسرت صفقته ، وسينال العقاب من ربه جزاء وفاقا على جحوده وإنكاره.
أخرج الدارمي وأبو داود عن يحيى بن جعدة قال : جاء ناس من المسلمين بكتب قد كتبوها فيها بعض ما سمعوه من اليهود ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم « كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم »(21/8)
ج 21 ، ص : 9
فنزلت « أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ » الآية.
وأخرج البخاري عند تفسير الآية قوله صلى اللّه عليه وسلم « ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن »
أي يستغن به عن غيره. و
عن عبد اللّه ابن الحرث الأنصاري قال : دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى اللّه عليه وسلم بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك ، فتغير وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تغيرا شديدا لم أر مثله قط ، فقال عبد اللّه بن الحارث لعمر : أما ترى وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ فقال عمر : رضينا باللّه ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، فسرّى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال : لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتمونى لضللتم ، أنا حظكم من النبيين ، وأنتم حظى من الأمم » أخرجه عبد الرزاق.
الإيضاح
(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) أي وقال كفار قريش تعنتا وعنادا :
هلا أنزل على محمد آية من الآيات التي أنزل مثلها على رسل اللّه الماضين كناقة صالح وعصا موسى وأشباههما من المعجزات المحسوسة التي ترى رأى العين ، فيكون ذلك أقبل لدى النفوس وأدهش للعقول ، فتلجئ إلى التصديق بمن تظهر على يده المعجزة.
فأمره اللّه أن يجيبهم بقوله :
(قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ) أي قل لهم : إنما أمر الآيات ونزول المعجزات إلى للّه ، ولو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى ما سألتم ، لأن ذلك سهل يسير عليه ، ولكنه يعلم أنكم إنما قصدتم بذلك التعنت والامتحان ، فهو لا يجيبكم إلى ما طلبتم كما قال سبحانه « وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها » .
(وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي وليس من شأنى إلا الإنذار بما أوتيت من الآيات ، لا الإتيان بما اقترحتموه منها ، فعلىّ أن أبلغكم رسالة ربى وليس علىّ هداكم كما قال :(21/9)
ج 21 ، ص : 10
«
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً » وقال. « لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ » .
ثم بين سبحانه سخفهم وجهلهم ، إذ كيف يطلبون الآيات مع نزول القرآن عليهم فقال :
(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) أي أما كفاهم دليلا على صدقك أنزلنا الكتاب عليك ، يتلونه ويتدارسونه ليل نهار ، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب ولم تخالط أحدا من أهل الكتاب ، وقد جئتهم بأخبار ما فى الصحف الأولى ، وبينت الصواب فيما اختلفوا فيه كما قال : « أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى » .
ثم بين فضائل هذا الكتاب ومزاياه فقال :
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فى هذا الكتاب الباقي على وجه الدهر - لرحمة لمن آمن به ، ببيان الحق وإزالة الباطل ، وتذكرة بعقاب اللّه الذي حل بالمكذبين قبلكم ، وبما سيحل بهم من النكال والوبال ، وبما سيكون لمن اتبع سنتهم وكذب بالآيات بعد وضوحها.
وبعد أن أقام الأدلة على صدق رسالته ، وبين أن المعاندين من أهل الكتاب والمشركين لم يؤمنوا به - أمره أن يكل علم ذلك إلى اللّه وهو العليم بصدقه وكذبه فقال :
(قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) أي كفى اللّه عالما بما صدر منى من التبليغ والإنذار ، وبما صدر منكم من مقابلة ذلك بالتكذيب والإنكار ، وهو المجازى كلّا بما يستحق ، وإنى لو كنت كاذبا عليه لا نتقم منى كما قال : « وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ » بل إنى صادق فيما أخبرتكم به ، ومن ثمّ أيدنى بالمعجزات الواضحات ، والدلائل القاطعات(21/10)
ج 21 ، ص : 11
ثم علل كفايته وأكدها بقوله :
(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو العليم بكل ما فيهما ، ومن جملته شأنى وشأنكم ، فيعلم ما تنسبونه إلىّ من التقوّل عليه ، وبما أنسبه إليه من القرآن الذي يشهد لى به عجزكم عن الإتيان بمثله ، فهو حجتى الفالجة عليكم ، التي لم تستطيعوا لها ردا ولا دفعا.
ولما بين طريق الجدل مع كلّ من أهل الكتاب والمشركين - عاد إلى تهديد المشركين وبين مآل أمرهم ، فقال :
(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي والذين يعبدون الأوثان والأصنام ويكفرون باللّه ، مع تظاهر الأدلة التي فى الآفاق والأنفس على الإيمان به ، ويكفرون برسوله مع تعاضد البراهين على صدقه ، أولئك هم الأخسرون أعمالا ، المغبونون فى صفقتهم ، من حيث اشتروا الكفر بالإيمان ، فاستوجبوا العقاب حين الوقوف بين يدى الملك الديّان.
وخلاصة ذلك : إن اللّه سيجزيهم على ما صنعوا من تكذيبهم بالحق ، واتباعهم للباطل ، وتكذيبهم برسول اللّه ، مع قيام الأدلة على صدقه « ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى » .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 53 الى 55]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)(21/11)
ج 21 ، ص : 12
المعنى الجملي
بعد أن أنذر المشركين بالعذاب ، وهدّدهم أعظم تهديد قالوا له تهكما واستهزاء :
إن كان هذا حقا فأتنا به ، وهم يقطعون بعدم حصوله ، فأجابهم بأنه لا يأتيكم بسؤالكم ولا يعجّل باستعجالكم ، لأن اللّه أجّله لحكمة ، ولو لا ذلك الأجل المسمى ، الذي قتضته حكمته ، وارتضته رحمته ، لعجّله لكم ولأوقعه بكم ، وإنه ليأتينّكم فجأة وأنتم لا تشعرون به ، ثم تعجب منهم فى طلبهم الاستعجال ، وهو سيحيط بهم فى جميع نواحيهم ، ويقال لهم على طريق الإهانة والتوبيخ : ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون :
الإيضاح
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) أي ويستعجلك كفار قريش بنزول العذاب ، بنحو قولهم « مَتى هذَا الْوَعْدُ » وقولهم : « فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ » ولو لا أجل مسمى ضربه اللّه لعذابهم ، لجاءهم حين استعجالهم إياه.
(وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وليأتينهم العذاب فجأة ، وهم لا يشعرون بمجيئه ، بل يكونون فى غفله عنه ، واشتغال بما ينسيهموه.
ثم زاد فى التعجيب من جهلهم بقوله :
(يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أي يطلبون منك إيقاع العذاب ناجزا فى غير ميقاته ، ويلحقون فى ذلك ، ولو علموا ما هم صائرون إليه ، لتمنّوا أنهم لم يخلقوا ، فضلا عن أن يستعجلوا ، ولأعملوا جميع جهدهم فى الخلاص منه.
ثم بين السبب فى جهلهم وحمقهم ، فقال :
(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي وإن جهنم ستحيط بالكافرين المستعجلين للعذاب يوم القيامة.(21/12)
ج 21 ، ص : 13(21/13)
ج 21 ، ص : 13
ثم ذكر كيف تحيط بهم ، فقال :
(يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يوم يجلّلهم العذاب ، ويكون من الأهوال والأحوال ، ما لا يفى به المقال ، ويقال لهم على سبيل التوبيخ والتقريع : (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ونحو الآية قوله : « لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ » وقوله « لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ » وقوله : « لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ » الآية ، وقوله : « يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ » وقوله : « يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ » .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 60]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أحوال المشركين ، وأنذرهم بالخسران ، وجعلهم من أهل النار - اشتد عنادهم للمؤمنين وكثر أذاهم لهم ومنعوهم من العبادة ، فأمرهم اللّه بالهجرة إلى دار أخرى إن تعذرت عليهم العبادة فى ديارهم.(21/14)
ج 21 ، ص : 14
ولما كانت مفارقة الأوطان عزيزة على النفس كريهة لديها ، بين لهم أن المكروه واقع لا محالة إن لم يكن بالهجرة فهو حاصل بالموت ، فأولى بكم أن يكون ذلك فى سبيل اللّه لتنالوا جزاءه ومرجعكم إلى ربكم ، وحينئذ تنالون من النعيم المقيم ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فهنالك الغرف التي تجرى من تحتها الأنهار ، ونعم هذا الأجر جزاء للعاملين الصابرين المتوكلين على ربهم ، الذين يعلمون أن اللّه قد تكفل بأرزاقهم ، كما تكفل بأرزاق جميع مخلوقاته ، وهو السميع لدعائهم ، العليم بحاجتهم.
روى أن الآية نزلت فى قوم تخلفوا عن الهجرة ، وقالوا : نخشى إن نحن هاجرنا عن الجوع وضيق المعيشة.
الإيضاح
(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)
أي يا عبادى الذين وحّدونى وآمنوا بي وبرسولى محمد صلى اللّه عليه وسلم ، إنّ أرضى لم تضق عليكم فتقيموا منها بموضع لا يحل لكم المقام فيه ، فإذا انتشرت فى موضع ما معاصى اللّه ، ولم تقدروا على تغييرها ، فاهربوا منه إلى موضع آخر تتمكنون من القيام فيه بشعائر دينكم.
روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « البلاد بلاد اللّه ، والعباد عباد اللّه ، فحيثما أصبت خيرا فأقم »
ومن ثم لما ضاق على المستضعفين مقامهم بمكة خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك ، فوجدوا خير المنزلين لدى أصحمة النجاشي ملك الحبشة ، فآواهم وأيدهم بنصره ، وأنزلهم ضيوفا مكرمين ببلاده ، ثم هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والصحابة الباقون إلى المدينة.
والخلاصة : إن اللّه أمر المؤمنين بالهجرة إن لم يتسنّ لهم إقامة شعائر دينهم ، إلى أرض يستطيعون ذلك فيها.(21/15)
ج 21 ، ص : 15
ثم حث على إخلاص العبادة له والهجرة من الوطن ، فبين أن الدنيا ليست دار بقاء ، وأن وراءها دار الجزاء ، التي يؤتى فيها كل عامل جزاء عمله فقال :
(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أي أينما تكونوا يدرككم الموت ، فكونوا فى طاعة اللّه وافعلوا ما أمركم به ، فذلك خير لكم ، فإن الموت لا محالة آت ، وللّه در القائل :
الموت فى كل حين ينشد الكفنا ونحن فى غفلة عما يراد بنا
لا تركننّ إلى الدنيا وزهرتها وإن توشحت من أثوابها الحسنا
أين الأحبة والجيران ما فعلوا أين الذين هم كانوا لها سكنا ؟
سقاهم الموت كأسا غير صافية صيّرتهم تحت أطباق الثرى رهنا
ثم إلى اللّه مرجعكم ، فمن كان مطيعا له جازاه خير الجزاء وآتاه أتم الثواب.
والخلاصة : لا يصعبنّ عليكم ترك الأوطان ، مرضاة للرحمن ، بل هاجروا إلى أوفق.
البلاد وإن بعدت ، فإن مدى الدنيا قريب ، والموت لا محيص منه ، ثم إلى ربكم ترجعون ، فيوفيكم جزاء ما تعملون ، فقدموا له خير العمل تفوزوا بنعيم مقيم ، وجنة عرضها السموات والأرض.
ثم بيّن جزاء المؤمن بربه ، المهاجر بدينه ، فرارا من شرك المشركين ، فقال :
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي والذين صدّقوا اللّه ورسوله فيما جاء به من عنده ، عملوا بما أمرهم به ، فأطاعوه وانتهوا عما نهاهم عنه لنزلنهم من الجنة علالىّ وقصورا ، تجرى من تحت أشجارها الأنهار ، ما كثين فيها إلى غير نهاية ، جزاء لهم على ما عملوا ونعم الجزاء.
ثم بين صفات هؤلاء العاملين الذين استحقوا تلك الجنات بقوله :
(الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي هؤلاء العاملون هم الذين صبروا على(21/16)
ج 21 ، ص : 16
أذى المشركين ، وشدائد الهجرة وغيرهما من الجهود والمشاقّ ، وتوكلوا على ربهم فيما يأتون وما يذرون ، كأرزاقهم وجهاد أعدائهم ، فلا ينكلون عنهم ، ولا يتراجعون ثقة منهم بأن اللّه معل كلمتهم ، وموهن كيد الكافرين ، وأنّ ما قسم لهم من الرزق من يفوتهم.
ثم ذكر سبحانه أن مما يعين على التوكل عليه معرفة أنه الكافي أمر الرزق فى الوطن والغربة فقال :
(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي هاجرو أيها المؤمنون باللّه ورسوله ، وجاهدوا أعداءه ، ولا تخافوا عيلة ولا إقتارا ، فكم من دابة ذات حاجة إلى الغذاء والمطعم لا تطيق جمع قوتها ولا حمله ، فترفعه من يومها لغدها عجزا منها عن ذلك ، اللّه يرزقها وإياكم يوما بيوم وساعة فساعة ، وهو السميع لقولكم نخشى من فراق أوطاننا العيلة ، العليم بما فى أنفسكم ، وإليه يصير أمركم وأمر عدوكم من إذلال اللّه إياه ونصرتكم عليه ولا تخفى عليه خافية من أمور خلقه.
روى ابن عباس « أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال للمؤمنين بمكة حين آذاهم المشركون : اخرجوا إلى المدينة وهاجروا ، ولا تجاوروا الظلمة ، قالوا ليس لنا بها دار ولا عقار ، ولا من يطعمنا ، ولا من يسقينا ، فنزلت الآية » .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 الى 63]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63)(21/17)
ج 21 ، ص : 17
المعنى الجملي
لما بين الأمر للمشركين وذكر لهم سوء مغبة أعمالهم - خاطب المؤمنين بما فيه مدّكر لهم ، وإرشاد للمشرك لو تأمله وفكر فيه ، ومثل هذا مثل الوالد له ولدان : أحدهما رشيد والآخر مفسد ، فهو ينصح المفسد أوّلا ، فإن لم يسمع يعرض عنه ، ويلفت إلى الرشيد قائلا : إن هذا لا يستحق أن يخاطب ، فاسمع أنت ولا تكن كهذا المفسد ، فيكون فى هذا نصيحة للمصلح ، وزجر للمفسد ، ودعوة له إلى سبيل الرشاد.
الإيضاح
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي ولئن سألت هؤلاء المشركين باللّه : من خلق السموات والأرض فسواهن ، وسخر الشمس والقمر يجريان دائبين لمصالح خلقه ؟ ليقولنّ : الذي خلق ذلك وفعله هو اللّه.
(فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ؟ ) أي فيكف يصرفون عن توحيده ، وإخلاص العبادة له ، بعد إقرارهم بأنه خالق كل ذلك.
والخلاصة - إنهم يعترفون بأنه هو الخالق للسموات والأرض ، والمسخر للشمس والقمر ، ثم هم مع ذلك يعبدون سواه ، ويتوكلون على غيره ، فكما أنه الواحد فى ملكه ، فليكن الواحد فى عبادته ، وكثيرا ما يقرر القرآن توحيد الألوهية بعد الاعتراف بتوحيد الربوبية التي كانوا يدينون بها بنحو قولهم : لبّيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك.
ولما ذكر اعترافهم بالخلق ذكر حال الرزق ، من قبل أن كمال الخلق ببقائه ، ولا بقاء له إلا بالرزق فقال :
(اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) أي إن اللّه يوسع رزقه على من يشاء من خلقه ، ويقتّر على من يشاء ، فالأرزاق وقسمتها بيده تعالى لا بيد أحد سواه ،(21/18)
ج 21 ، ص : 18
فلا يؤخّرنكم عن الهجرة وجهاد عدوكم خوف العيلة والفقر ، فمن بيده تكوين الكائنات لا يعجز عن أرزاقها.
ونحو الآية قوله : « إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ » .
ثم علل التفاوت فى الرزق بين عباده بعلمه بالمصلحة فى ذلك فقال :
(إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إنه هو العليم بمصالحكم ، فيعلم من يصلحهم البسط ومن يفسدهم ، ويعطيهم بحسب ذلك إن شاء.
ثم ذكر اعترافهم بهذا بقوله :
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي ولئن سألتهم من ينزل من السحاب ماء فيحيى به الأرض القفر فتصير خضراء تهتز بعد أن لم تكن كذلك - لم يجدوا إلا سبيلا واحدة ، هى الاعتراف الذي لا محيص عنه بأنه اللّه ، فهو الموجد لسائر المخلوقات ، ومن عجب أنهم بعد ذلك يشركون به بعض مخلوقاته التي لا تقدر على شىء من ذلك.
ولما أثبت أنه الخالق بدءا وإعادة - نبّه إلى عظمة صفاته التي يلزم من إثباتها صدق رسوله صلى اللّه عليه وسلم فقال :
(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي قل متعجبا من حالهم : الحمد للّه على إظهار الحجة ، واعترافهم بأن النعم كلها منه تعالى ، ولكن أكثر المشركين لا يعقلون ما لهم فيه من النفع فى دينهم وما فيه الضر لهم ، فهم لجهلهم يحسبون أنهم لعبادتهم الآلهة دون اللّه ينالون بها الزلفى والقرب عنده.
والخلاصة - إن أقوالهم تخالف أفعالهم ، فهم يقرون بوحدانية اللّه وعظيم قدرته وجلاله ، ثم هم يعبدون معه سواه مما هم معترفون بأنه خلقه.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 64 الى 66]
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)(21/19)
ج 21 ، ص : 19
تفسير المفردات
اللهو : الاستمتاع باللذات ، واللعب : هو العبث وما لا فائدة فيه ، الحيوان : أي الحياة التامة التي لا فناء بعدها.
المعنى الجملي
لما ذكر فيما سلف أنهم يعترفون بأن اللّه هو الخالق وأنه هو الرزاق ، وهم بعد ذلك يتركون عبادته ، ويعبدون من دونه الشركاء اغترارا بزخرف الدنيا وزينتها - أردف ذلك أن هذه الدنيا باطل وعبث زائل ، وإنما الحياة الحقة هى الحياة الآخرة التي لا فناء بعدها فلو أوتوا شيئا من العلم ما آثروا تلك على هذه.
ثم أرشد إلى أنهم مع إشراكهم بربهم سواه فى الدعاء والعبادة ، إذا هم ابتلوا بالشدائد ، كما إذا ركبوا البحر وعلتهم الأمواج من كل جانب ، وخافوا الغرق نادوا اللّه ، معترفين بوحدانيته ، وأنه لا منجّى سواه ، وليتهم استمروا على ذلك ، ولكن سرعان ما يرجعون القهقرى ، ويعودون سيرتهم الأولى ، كما هو دأب من يعمل للخوف لا للعقيدة.
الإيضاح
(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) أي وما هذه الحياة الدنيا التي يتمتع بها هؤلاء المشركون إلا شىء يتعلّل به ، ثم هو منقض عما قريب ، لا بقاء له ولا دوام ، ومن ثم قيل : الدنيا إن بقيت لك لم تبق لها ، وأنشدوا :
تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت وتحدث من بعد الأمور أمور
وتجرى الليالى باجتماع وفرقة وتطلع فيها أنجم وتغور(21/20)
ج 21 ، ص : 20
فمن ظن أن الدهر باق سروره فذاك محال لا يدوم
سرور عفا اللّه عمن صيّر الهمّ واحدا وأيقن أن الدائرات تدور
(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي وإن الدار الآخرة لهى دار الحياة الدائمة التي لا زوال لها ولا انقطاع.
(لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كانوا يعلمون أن ذلك كذلك لما آثروا عليها الحياة الدنيا السريعة الزوال ، الوشيكة الاضمحلال.
ثم أخبر بأن تلك حال المشركين فى الرخاء ، فإذا ابتلوا بالشدائد دعوا اللّه وحده ليخلصهم منها كما قال :
(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي فإذا ركب هؤلاء المشركون فى السفينة وخافوا الغرق ، دعوا اللّه وحده ، وأفردوا له الطاعة ، ولم يستغيثوا بآلهتهم وأندادهم ، ليخلصوهم من تلك الشدة ، فهلا يكون هذا منهم دائما ؟
ثم بين سرعة رجوعهم وعودتهم إلى ما كانوا عليه وشيكا فقال :
(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) أي فلما خلّصهم مما كانوا فيه من الضيق ، ونجاهم من الهلاك ، ووصلوا إلى البر ، رجعوا القهقرى ، وعادوا سيرتهم الأولى ، وجعلوا مع اللّه الشركاء ، ودعوا الآلهة والأنداد.
ونحو الآية قوله « وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً » .
روى محمد بن إسحاق فى السيرة عن عكرمة بن أبى جهل قال : « لما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة ذهبت فارّا منها ، فلما ركبت البحر إلى الحبشة اضطربت بنا السفينة ، فقال أهلها : يا قوم أخلصوا لربكم الدعاء ، فإنه لا منجّى هاهنا إلا هو ، فقال عكرمة : لئن كان لا ينجى فى البحر غيره فإنه لا ينجى فى البر أيضا غيره ، اللهم لك علىّ عهد ، لئن خرجت لأذهبنّ فلأضعن يدى فى يد محمد فلأجدنّه رءوفا رحيما فكان كذلك » .(21/21)
ج 21 ، ص : 21
وقال عكرمة : كان أهل الجاهلية إذا ركبوا فى البحر حملوا معهم الأصنام ، فإذا اشتد عليهم الريح ألقوها فيه وقالوا يا رب يا رب.
قال الرازي فى اللوامع : وهذا دليل على أن معرفة الرب فى فطرة كل إنسان ، وأنهم إن غفلوا فى السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه فى حال الضراء ا ه.
(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا) أي يشركون لتكون عاقبة أمرهم الكفران بما آتيناهم من نعمة النجاة ، وليتمتعوا باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادّهم عليها.
ثم تهددهم وتوعدهم فقال :
(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة ذلك حين يعاقبون يوم القيامة.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 67 الى 69]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن المشركين حين يشتد بهم الخوف إذا ركبوا فى الفلك ونحوه لجئوا إلى اللّه وحده مخلصين له العبادة - ذكر هنا أنهم حين الأمن كما إذا كانوا فى حصنهم الحصين وهو مكة التي يأمن من دخلها من الشرور والأذى يكفرون به ويعبدون معه سواه ، وتلك حال من التناقض لا يرضاها لنفسه عاقل ، فإن دعاءهم إياه حال الخوف مع الإخلاص ما كان إلا ليقينهم بأن نعمة النجاة منه لا من سواه ، فكيف يكفرون به حين الأمن ، وهم يوقنون بأن الأصنام حين الخوف لا تجديهم فتيلا ولا قطميرا ؟(21/22)
ج 21 ، ص : 22
الإيضاح
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ؟ ) أي أو لم ير هؤلاء المشركون من قريش ما خصصناهم به من النعمة دون سائر عبادنا ، فأسكناهم بلدا حرّمنا على الناس أن يدخلوه لغارة أو حرب ، وآمنا من سكنه من القتل والسبي والناس من حولهم يقتلون ويسبون فى كل حين ، فيشكرونا على ذلك ، ويزدجروا عن كفرهم بنا وإشراكهم ما لا ينفعهم ولا يضرهم.
والخلاصة : إنه تعالى يمتنّ على قريش بما أحلهم من حرمه الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد ، ومن دخله كان آمنا ، فهم فى أمن عظيم ، والأعراب حولهم نهب مقسّم ، يقتل بعضهم بغضا ، ويسبى بعضهم بعضا ، ثم هم مع ذلك يكفرون به ، ويعبدون معه سواه.
ونحو الآية قوله : « لِإِيلافِ قُرَيْشٍ. إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ. وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ » .
ثم بين أن العقل كان يقضى بشكرهم على هذه النعمة ، لكنهم كفروا بها ، وما جنحوا إلى مرضاة ربهم ، فقال :
(أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ؟ ) أي أ فكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به ، وعبدوا معه غيره من الأصنام والأنداد ، وبدلوا نعمة اللّه كفرا ، وأحلوا قومهم دار البوار ، فكفروا بنبي اللّه وعبده ورسوله.
والخلاصة : إنه كان من حق شكرهم له على هذه النعم إخلاص العبادة له ، وألا يشركوا به ، وأن يصدّقوا برسوله ، ويعظموه ويوقروه ، لكنهم كذبوه فقاتلوه وأخرجوه من بين أظهرهم ، ومن ثم سلبهم اللّه ما كان أنعم به عليهم ، بقتل من قتل منهم ببدر ، وأسر من أسر ، حتى قطع دابرهم يوم الفتح ، وأرغم آنافهم وأذل رقابهم(21/23)
ج 21 ، ص : 23
ولما استنارت الحجة ، وظهر الدليل ، ولم يكن لهم فيه مقنع ، بين أنهم قوم ظلمة مفترون ، وضعوا الأمور فى غير مواضعها بكذبهم على اللّه ، فقال :
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) أي ومن أظلم ممن كذبوا على اللّه ، بأن زعموا أن له شريكا ، وأنهم إذا فعلوا فاحشة قالوا : إن اللّه أمرنا بها ، واللّه لا يأمر بالفحشاء ، وكذبوا بالكتاب حين مجيئه ، دون أن يتأملوا فيه أو يتوقفوا ، بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه.
وفى هذا من تسفيه آرائهم ، وتقبيح طرائقهم ما لا يخفى ثم بين سوء مغبة أعمالهم بطريق الاستفهام التقريرى ، وهو أبلغ فى إثبات المطلوب ، فقال :
(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ ؟ ) أي ألا يستوجب هؤلاء الكافرون من أهل مكة الثّواء فى جهنم ، فقد افتروا على اللّه الكذب ، فكذبوا بالكتاب لما جاءهم بلا تريّث ولا تلبث ؟ .
والخلاصة : إن مثوى هؤلاء وأشباههم جهنم وبئس المصير.
وبعد أن بين عاقبة أولئك الكافرين ذكر عاقبة المؤمنين الذين اهتدوا يهدى اللّه وجاهدوا فى سبيله ، فقال :
(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) أي والذين قاتلوا هؤلاء المفترين على اللّه الكذب ، المكذبين لما جاءهم به رسوله ، مبتغين بقتالهم علوّ كلمتنا ، ونصرة ديننا ، لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير ، وتوفيقا لسلوكها كما قال : « وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ »
وجاء فى الحديث : « من عمل بما علم ورّثه اللّه علم ما لم يعلم »
، وقال عمر بن عبد العزيز : إنما قصّر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا فى العمل بما علمنا ، ولو عملنا ببعض ما علمنا لاورثنا علما لا تقوم به أبداننا. وقال أبو سليمان الداراني : ليس الجهاد فى الآية قتال الكفار فقط ، بل هو نصر الدين ، والرد على المبطلين ، وقمع(21/24)
ج 21 ، ص : 24
الظالمين ، وعظمه الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، ومنه مجاهدة النفوس فى طاعة اللّه ، وهو الجهاد الأكبر.
ثم ذكر أن اللّه يعينهم بالنصرة والتوفيق.
(وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) أي وإن اللّه ذا الرحمة لمع من أحسن من خلقه ، فجاهد أهل الشرك مصدقا رسوله فيما جاء به من عند ربه بالمعونة والنصرة على من جاهد من أعدائه ، وبالمغفرة والثواب فى العقبى.
روى ابن أبى حاتم عن الشعبي قال : قال عيسى بن مريم عليه السلام : إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ، وليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك.
وقد انتهى بهذا تفسير السورة الكريمة ، وللّه الحمد أولا وآخرا.(21/25)
ج 21 ، ص : 25
مشتملات هذه السورة الكريمة
(1) اختبار المؤمنين ليعلم صدقهم فى إيمانهم.
(2) فى الجهاد فائدة للمجاهد ، واللّه غنىّ عن ذلك.
(3) الحسنات يكفّرن السيئات.
(4) الأمر بالإحسان إلى الوالدين وبرهما مع عدم طاعتهما فى الإشراك باللّه.
(5) حال المنافق الذي يظهر الإيمان ولا يحتمل الأذى فى سبيل اللّه.
(6) حال الكافرين الذين يضلون غيرهم ، ويقولون للمؤمنين : نحن نحمل خطاياكم إن كنتم ضالين.
(7) قصص الأنبياء : كنوح وإبراهيم ولوط وشعيب وصالح وموسى وهرون ، وبيان ما آل إليه أمر الأنبياء من النصر ، وأمر أممهم من الهلاك بضروب مختلفة من العقاب.
(8) حجاج المشركين بضرب الأمثال لهم مما فيه تقريعهم وتأنيهم.
(9) حجاج أهل الكتاب ، والنهى عن جدلهم بالفظاظة والغلظة.
(10) إثبات النبوة ببيان صدق معجزته صلى اللّه عليه وسلم.
(11) ذكر بعض شبههم فى نبوته ، والرد على ذلك.
(12) استعجالهم بالعذاب تهكما.
(13) أمر المؤمنين بالفرار بدينهم من أرض يخافون فيها الفتنة.
(14) العاقبة الحسنى للذين يعملون الصالحات.
(15) اعترافهم بأن الخالق الرازق هو اللّه.
(16) بيان أن الدار الآخرة هى دار الحياة الحقة.
(17) امتنانه على قريش بسكناهم البيت الحرام ، ثم كفرانهم بهذه النعمة بإشراكهم به سواه.(21/26)
ج 21 ، ص : 26
سورة الروم
هى مكية إلا قوله تعالى : « وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ » فمدنية وآيها ستون ، نزلت بعد سورة الانشقاق.
ومناسبتها ما قبلها من وجوه :
(1) إن السورة السابقة بدئت بالجهاد وختمت به ، فافتتحت بأن الناس لم يخلقوا فى الأرض ليناموا على مهاد الراحة ، بل خلقوا ليجاهدوا حتى يلاقوا ربهم ، وأنهم يلاقون شتى المصاعب من الأهل والأمم التي يكونون فيها ، وهذه السورة قد بدئت بما يتضمن نصرة المؤمنين ودفع شماتة أعدائهم المشركين ، وهم يجاهدون فى اللّه ولوجهه فكأن هذه متممة لما قبلها من هذه الجهة.
(2) إنّ ما فى هذه السورة من الحجج على التوحيد والنظر فى الآفاق والأنفس مفصل لما جاء منه مجملا فى السورة السالفة ، إذ قال فى السالفة : « فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ » إلخ ، وهنا بيّن ذلك ، فقال : « أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ » إلخ ، وقال : « اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ » .
[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)(21/27)
ج 21 ، ص : 27
تفسير المفردات
الروم : أمة عظيمة من ولد روم بن عيص بن إسحق بن إبراهيم ، كذا قال النسابون من العرب ، أدنى الأرض : أي أقربها من الروم ، والأقربية بالنظر إلى أهل مكة الذين يساق إليهم الحديث ، والبضع : ما بين الثلاث إلى العشر ، وقال : المبرد ما بين العقدين فى جميع الأعداد ، ظاهر الحياة الدنيا : هو ما يشاهدونه من زخارفها ولذاتها الموافقة لشهواتهم التي تستدعى انهما كهم فيها وعكوفهم عليها.
المعنى الجملي
روى أن فارس غزوا الروم ، فوافوهم بأذرعات وبصرى من أرض الشام فغلبوا عليهم ، وبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه وهو بمكة ، فشق ذلك عليهم ، من قبل أن الفرس مجوس ، والروم أهل كتاب ، وفرح المشركون بمكة وشمتوا ، ولقوا أصحاب النبي وهم فرحون ، وقالوا : إنكم أهل كتاب ، والنصارى أهل كتاب ، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب ، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم ، فأنزل اللّه هؤلاء الآيات ، فخرج أبو بكر رضى اللّه عنه إلى المشركين فقال :
أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا ؟ فلا تفرحوا ولا يقرّن اللّه أعينكم (لا يسرّنكم) فو اللّه لتظهرنّ الروم على فارس كما أخبرنا بذلك نبينا صلى اللّه عليه وسلم فقام إليه أبىّ ابن خلف فقال : كذبت ، فقال : أنت أكذب يا عدو اللّه ، اجعل بيننا أجلا أنا حبك عليه (أراهنك) على عشر قلائص منى ، وعشر قلائص منك ، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت ، وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين ، فناحبه ، ثم جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره ، فقال عليه السلام : زايده فى الخطر وماده فى الأجل ، فخرج أبو بكر ، فلقى أبيا ، فقال : لعلك ندمت ، فقال : لا ، تعال أزايدك فى الخطر ، وأمادك فى الأجل فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين ، قال : قد فعلت ، فلما أراد أبو بكر الهجرة طلب منه أبى كفيلا بالخطر إن غلب ، فكفل به ابنه(21/28)
ج 21 ، ص : 28
عبد الرحمن ، فلما أراد أبىّ الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل فأعطاه كفيلا ، ومات أبىّ من جرح جرحه إياه النبي صلى اللّه عليه وسلم فى الموقعة وظهرت الروم على فارس لما دخلت السنة السابعة ، فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبىّ وجاء به إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : تصدق به
(وقد كان هذا قبل تحريم القمار كما أخرجه ابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي ، لأن السورة مكية وتحريم الخمر والميسر بالمدينة).
الإيضاح
(الم) تقدم فى السورة قبلها ما فيه الكفاية من الكلام فى أمثال هذه الحروف فى أوائل السور ، وقد بينا هناك أنه ينطق بأسمائها فيقال (ألف. لام. ميم).
(غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) أي غلبت فارس الروم فى أقرب أرض الروم بالنسبة إلى بلاد العرب ، إذ الوقعة كانت بين الأردن وفلسطين ، والروم من بعد غلب فارس إياهم سيغلبون فارس فى بضع سنين ، وقد تحقق ذلك فغلبوهم بعد سبع من الوقعة الأولى.
ولا شك أن وقوعه على نحو ما قال الكتاب الكريم بعد من أكبر الدلائل على إعجازه ، وأنه كلام اللّه العليم بكل شىء لا كلام البشر.
(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي للّه الأمر من قبل غلب دولة الروم على فارس ومن بعدها ، فمن غلب فهو بأمر اللّه وقضائه وقدره كما قال : « وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ » فهو يقضى فى خلقه بما يشاء ويحكم بما يريد ، ويظهر من شاء منهم على من أحب إظهاره عليه.
(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ) أي ويوم تغلب الروم فارس يفرح المؤمنون بنصر اللّه وتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له ، وغيظ من شمتوا من كفار مكة ، وأنه سيكون فألا حسنا لغلبة المؤمنين على الكافرين.(21/29)
ج 21 ، ص : 29
ثم أكد قوله « لِلَّهِ الْأَمْرُ » بقوله :
(يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)
أي ينصر من يشاء أن ينصره على عدوه ويغلّبه عليه على مقتضى السنن التي وضعها فى الخليقة ، وهو المنتقم ممن يستحقون الانتقام بالنصر عليهم ، الرحيم بعباده ، فلا يعاجلهم بالانتقام على ذنوبهم كما قال :
« وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ».
(وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)
أي وعد اللّه وعدا بظهور الروم على فارس ، واللّه لا يخلف ما وعد ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك لجهلهم بشئونه تعالى وعدم تفكرهم فى النواميس والسنن التي وضعها فى الكون ، فإنه قد جعل من تلك السنن أن وعده لا يخلف إذ هو مبنى على مقدمات ووسائل هو يعلمها ، وقد رتب عليها تلك العدة التي وعدها ، وجعل قانون الغلب فى الأمم والأفراد مبنيا على الاستعداد النفسي والاستعداد الحربي ، فلا تغلب أمة أخرى إلا بما أعدت لها من وسائل الظفر بها ، وما كان لها من صفات تكفل لها هذا الظفر من أناة وصبر وتضحية بما تملك من عزيز لديها من مال ونفس.
وهكذا حكم الفرد فهو لا ينجح فى الحياة إلا إذا كان معه أسلحة يغالب بها عوامل الأيام حتى يغلبها بجدّه وكدّه ، فهذه الأمور وأمثالها تحتاج إلى دقة نظر لا يدركها إلا ذوو البصائر.
(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) كتدبير معايشهم ، وإحسان مساكنهم ، وتنمية متاجرهم ، وتصرفهم فى مزارعهم ، على النحو الذي يجعلها تزدهر وتفى بحاجة المجتمع (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) أي وهم غافلون عن أن النفوس لها بقاء بعد الموت وأنها ستلبس ثوبا آخر فى حياة أخرى ، وستنال إذ ذاك جزاء ما قدمت من خير أو شر ، ولو لم تكن النفوس تتوقع هذه الحياة لكانت آلام الدنيا ومتاعبها لا تطاق ولا تجد النفوس(21/30)
ج 21 ، ص : 30
لاحتمالها سبيلا ، وهى ما قبلت تلك الآلام واحتملتها إلا لأنها توقن بسعادة أخرى وراء ما تقاسى من المناعب فى هذه الحياة ، وللّه در القائل :
ومن البلية أن ترى لك صاحبا فى صورة الرجل السميع المبصر
فطن بكل مصيبة فى ماله وإذا يصاب بدينه لم يشعر
[سورة الروم (30) : الآيات 8 الى 10]
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)
المعنى الجملي
لما أنكر المشركون الإله بإنكار وعده ، وأنكروا البعث كما قال وهم عن الآخرة هم غافلون - أردف هذا أن الأدلة متظاهرة فى الأنفس والآفات على وجوده وتفرده بخلقها ، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه ، وأنها لم تخلق سدى ولا باطلا ، بل خلقت بالحق ، وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى هو يوم القيامة ، ثم أمرهم بالسير فى أقطار الأرض ليعلموا حال المكذبين من الأمم قبلهم ، وقد كانوا أشد منهم بأسا وقوة ، فكذبوا رسلهم فأهلكهم اللّه وصاروا كأمس الدابر والمثل الغابر ، وما كان ذلك إلا بظلمهم وفساد أنفسهم لا بظلم اللّه لهم.(21/31)
ج 21 ، ص : 31
الإيضاح
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ؟ ) أي أو لم يتفكر هؤلاء المكذبون بالبعث من قومك فى خلق اللّه لهم ولم يكونوا شيئا ، ثم تصريفهم أحوالا وتارات حتى صاروا كاملى الخلق كاملى العقل فيعلموا أن الذي فعل ذلك قادر أن يعيدهم بعد فنائهم خلقا جديدا ، ثم يجازى المحسن منهم بإحسانه ، والمسيء منهم بإساءته ، لا يظلم أحدا منهم فيعاقبه بدون حرم صدر منه ، ولا يحرم أحدا منهم جزاء عمله ، لأنه العدل الذي لا يجور ، فهو ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالعدل ، وإقامة الحق إلى أجل مؤقت مسمى ، فإذا حل الأجل أفنى ذلك كله ، وبدل الأرض غير الأرض ، وبرزوا للحساب جميعا.
ثم ذكر أن كثيرا من الناس غفلوا عن الآخرة وما فيها من حساب وجزاء فقال :
(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) لأنهم لم يتفكروا فى أنفسهم ، ولو تفكروا فيها ودرسوا عجائبها لأيقنوا بلقاء ربهم ، وأن معادهم إليه بعد فنائهم.
ثم نبههم لى صدق رسله فيما جاءوا به عنه ، بما أيدهم به من المعجزات والدلائل الواضحة ، من إهلاك من جحد نبوتهم ، ونجاة من صدقهم فقال :
(أَ وَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها ، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي أو لم يسر هؤلاء المكذبون باللّه ، الغافلون عن الآخرة ، فى البلاد التي يسلكونها تجرا ، فينظروا إلى آثار اللّه فيمن كان قبلهم من الأمم المكذبة ، كيف كان عاقبة أمرهم فى تكذيبهم رسلهم ، وقد كانوا أشد منهم قوة ، وحرثوا الأرض وعمروها أكثر مما عمر هؤلاء ثم أهلكهم اللّه بكفرهم وتكذيبهم رسله ، وما كان اللّه بظالم لهم ، بعقابه إياهم على تكذيبهم رسله وجحودهم آياته ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بمعصيتهم ربهم.(21/32)
ج 21 ، ص : 32
والخلاصة - إنه قد كان لكم فيمن قبلكم من الأمم معتبر ومزدجر ، فقد كانوا أكثر منكم أموالا وأولادا ، ومكّنوا فى الدنيا تمكينا لم تبلغوا معشاره ، وعمّروا فيها أعمارا طوالا واستغلوها أكثر من استغلالكم ، ولما جاءتهم الرسل بالبينات كذبوهم وفرحوا بما أوتوا فأخذوا بذنوبهم ولم تغن عنهم أموالهم شيئا ، ولم تحل بينهم وبين بأس اللّه ثم أكد ما سلف بقوله :
(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ثم كان العذاب عاقبتهم ، أما فى الدنيا فلهم البوار والهلاك ، وأما فى الآخرة فالنار لا يخرجون منها ولا هم يستعتمون ، وما ذاك إلا لأن كذبوا بحجج اللّه وآياته ، وهم أنبياؤه ورسله ، وسخروا منهم عنتا وكبرا.
[سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 16]
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16)
تفسير المفردات
يبلس المجرمون : أي يسكتون وتنقطع حجتهم ، الروضة : الأرض ذات النبات والماء ويقال أراض الوادي واستراض إذا كثر ماؤه ، وأرض القوم : أرواهم بعض الرّىّ ، يحبرون : يسرون ، يقال حبره يحبره (بالضم) حبرا وحبورا : إذا سره سرور لتهلل له(21/33)
ج 21 ، ص : 33
وجهه ، وظهر فيه أثره ، وفى المثل : امتلأت بيوتهم حبرة ، فهم ينتظرون العبرة ، محضرون : أي مدخلون فيه لا يغيبون عنه.
المعنى الجملي
بعد أن بين أن عاقبة المجرمين النار ، وكان ذلك يستلزم الإعادة والحشر لم يتركه دعوى بلا بينة ، بل أقام عليه الدليل بأن أبان أن من خلق الخلق بقدرته وإرادته لا يعجز عن رجعته ، ثم بين ما يكون حين الرجوع من إفلاس المجرمين وتحقق بأسهم وحيرتهم ، إذ لا تنفعهم شركاؤهم ، بل هم يكفرون بهم ، ثم ذكر أن الناس حينئذ فريقان : فريق فى الجنة وفريق فى السعير ، فالأولون يمتعون بسرور وحبور ، والآخرون يصلون النار دأبا لا يغيبون عنها أبدا.
الإيضاح
(اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي اللّه ينشىء جميع الخلق بقدرته ، وهو منفرد بإنشائه من غير شريك ولا ظهير ، ثم يعيده خلقا جديدا بعد إفنائه وإعدامه كما بدأه خلقا سويا ولم يك شيئا ، ثم إليه يردّون فيحشرون لفصل القضاء بينهم ، فيجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.
ثم بين ما سيحدث فى هذا اليوم من الأهوال للأشقياء ، والنعيم والحبور للسعداء ، فقال :
(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) أي ويوم تجىء الساعة التي فيها يفصل اللّه بين خلقه بعد نشرهم من قبورهم وحشرهم إلى موقف الحساب - يسكت الذين أشركوا باللّه واجترحوا فى الدنيا مساوى الأعمال ، إذ لا يجدون حجة يدفعون بها عن أنفسهم ما يحل بهم من النكال والوبال.
ولما كان الساكت قد يغنيه غيره عن الكلام نفى ذلك بقوله :(21/34)
ج 21 ، ص : 34
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ) أي ولم يكن لهؤلاء المجرمين من شركائهم الذين كانوا يتبعونهم على ما دعوهم إليه من الضلالة - شفعاء يستنقذونهم من عذاب اللّه ، وإذ ذاك يستبين لهم جهلهم وخطؤهم إذ قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه.
ولما ذكر سبحانه حال الشفعاء معهم ذكر حالهم مع الشفعاء بقوله :
(وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) أي وجحدوا ولاية الشركاء وتبرءوا منهم كما جاء فى آية أخرى : « إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ. وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا » .
ثم بين بعدئذ أن اللّه يميز الخبيثين من الطيبين فقال :
(وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) أي ويوم تجىء الساعة التي يحشر فيها الخلق إلى اللّه يتفرق أهل الإيمان باللّه وأهل الكفر به فأما أهل الإيمان به فيؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ، وأما أهل الكفر فيؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ، قال قتادة : فرقة واللّه لا اجتماع بعدها.
ثم بين كيف يكون كل من الفريقين فقال :
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) أي فأما الذين آمنوا باللّه ورسوله وعملوا بما أمرهم اللّه به وانتهوا عما نهاهم عنه ، فهم فى رياض الجنات يمرحون ، وبألوان الزّهر والسندس الأخضر يتمتعون ، ويتلذذون بالسماع والعيش الطيب الهنى.
(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي وأما الذين جحدوا توحيد اللّه وكذبوا رسله وأنكروا البعث بعد الممات والنشور للدار الآخرة ، فأولئك فى عذاب اللّه محضرون لا يغيبون عنه أبدا.(21/35)
ج 21 ، ص : 35
[سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 19]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حالى الفريقين المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، والكافرين المكذبين بالآيات ، وما أعدّ لكل منهما من الثواب والعقاب - أرشد إلى ما يفضى إلى الحال الأولى وينجى من الثانية ، وهو تنزيه اللّه عز وجل عن كل ما لا يليق به ، وحمده ، والثناء عليه بما هو أهل له من صفات الجلال والكمال.
ولما كان الإنسان حين الإصباح يخرج من حال النوم التي هى أشبه بالموت منها إلى اليقظة ، وكأنها حياة بعد موت - أتبع ذلك بذكر الموت والحياة حقيقة.
الإيضاح
(فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) أي نزّهوا اللّه سبحانه فى وقت المساء حين إقبال الليل وظلامه ، وحين الصباح حين إسفار النهار بضيائه.
(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي واللّه هو المحمود من جميع خلقه فى السموات من سكانها من الملائكة ، وفى الأرض من أهلها من أصناف خلقه فيها.
(وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ)
أي ونزهوه وقت العشى حين اشتداد الظلام ، ووقت الظهيرة حين اشتداد الضياء كما قال : « وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها. وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها » ، وقال : « وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى . وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى » .
وتخصيص هذه الأوقات من بين سائرها لما فيها من التبدل الظاهر فى أجزاء الزمن ، والانتقال من حال إلى أخرى على صورة واضحة ، كالانتقال من الضياء إلى الظلام(21/36)
ج 21 ، ص : 36
فى المساء ، ومن الظلام إلى النور فى الإصباح ، ومن ضياء تام وقت الظهيرة إلى اضمحلال لذلك الضياء وقت العشى ، وهكذا.
ثم بين صفات ذلك الإله المستحق للثناء والتقديس ، فقال :
(1) (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) فهو القادر على خلق الأشياء المتقابلة بعضها من بعض ، فيخرج الإنسان والطائر من النطفة والبيضة ، كما يفعل ضد هذا ، فيخرج النطفة والبيضة من الإنسان والطائر ، وفى هذا دلالة على كمال قدرته ، وبديع صنعه ، وكون البيضة والنطفة كائن حى لا تعرفه العرب ولا تعترف به.
(2) (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي ويحيى الأرض بالمطر ، فتخرج النبات الغض بعد أن كانت صعيدا جرزا.
ونحو الآية قوله : « وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ » وقوله : « وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ » .
(3) (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي وكما سهل حركة النائم الساكن بالانتباه ، وإنماء الأرض بإنباتها بعد موتها - يسهل عليه إحياء الميت وإخراجه من قبره لفصل القضاء.
[سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 21]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)(21/37)
ج 21 ، ص : 37
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه بتنزيهه عن الأسواء والنقائص التي لا تليق بجلاله وكماله ، ذكر أن الحمد له على خلقه جميع الموجودات ، وبين قدرته على الإماتة والإحياء بقوله : (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) ، ذكر هنا أدلة باهرة ، وحججا ظاهرة على البعث والإعادة ، ومنها : خلقكم من التراب الذي لم يشمّ رائحة الحياة ، ولا مناسبة بينه وبين ما أنتم عليه فى ذاتكم وصفاتكم ، ثم إبقاء نوعكم بالتوالد ، فإذا مات الأب فام ابنه مقامه ، لتبقى سلسلة الحياة متصلة بهذا النوع وبسائر الأنواع الأخرى بالازدواج والتوالد إلى الأجل الذي قدره اللّه لأمد هذه الحياة.
الإيضاح
(وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) أي ومن حججه الدالة على أنه القادر على ما يشاء من إنشاء وإفناء ، وإيجاد وإعدام : أن خلقكم من تراب بتغذيتكم إما بلحوم الحيوان وألبانها وأسمانها ، وإما من النّبات والحيوان غذاؤه النبات ، والنبات من التراب ، فإن النواة لا تصير شجرة إلا بالتراب الذي ينضم إليه أجزاء مائية تجعلها صالحا للتغذية ، ثم بعد إخراجكم منه إذا أنتم بشر تنتشرون فى الأرض. تتصرفون فيها فى أغراضكم المختلفة ، وأسفاركم البعيدة ، تكدحون وتجدّون لتحصيل أرزاقكم من فيض ربكم ، وواسع نعمه عليكم.
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) أي ومن آياته الدالة على البعث والإعادة : أن خلق لكم أزواجا من جنسكم لتأنسوا بها ، وجعل بينكم المودة والرحمة لتدوم الحياة المنزلية على أتم نظام.
ونحو الآية قوله : « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها » .(21/38)
ج 21 ، ص : 38
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فيما سلف من خلقكم من تراب ، وخلق أزواجكم من أنفسكم ، وإبقاء المودة والرحمة - لعبرة لمن تأمل فى تضاعيف تلك الأفعال المبنية على الحكم والمصالح ، فهى لم تخلق عبثا ، بل خلقت لأغراض شتى ، تحتاج إلى الفكر حتى يصل إلى معرفتها ذوو الذّكن والعقل الراجح.
[سورة الروم (30) : الآيات 22 الى 23]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر دلائل وجوده بما ذكره فى خلق الإنسان - أعقبه بذكر الدلائل فى الأكوان المشاهدة ، والعوالم المختلفة ، وفى اختلاف ألوان البشر ولغاتهم التي لا حصر لها ، مع كونهم من أب واحد وأصل واحد ، وفيما يشاهد من سباتهم العميق ليلا ، وحركتهم السريعة نهارا ، فى السعى على الأرزاق ، والجدّ والكد فيها.
الإيضاح
(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ومن دلائل وجوده وآيات قدرته :
خلقه السموات المزدانة بالكواكب ، والنجوم الثوابت والسيارة المرتفعة السموك الواسعة الأرجاء ، وخلق الأرض ذات الجبال والوديان ، والبحار والقفار ، والحيوان والأشجار.
(وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) أي واختلاف لغاتكم اختلافا لا حدّ له ، فمن عربية إلى فرنسية ، إلى إنجليزية ، إلى هندية ، إلى صينية ، إلى نحو ذلك مما لا يعلم حصره إلا خالق اللغات ، واختلاف أنواعكم وأشكالكم اختلافا به أمكن التمييز بين الأشخاص فى الأصوات والألوان ، وهذا مما لا غنى عنه فى منازع الحياة ومختلف(21/39)
ج 21 ، ص : 39
أغراضها ، فكثيرا ما تميز الأشخاص بالأصوات ، وبذا نعرف الصديق من العدو ، فنتخذ ما يلزم من العدّة لكل منهما ، كما نميزها بلغاتها ، فنعرف من أي الأجناس هى.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) أي إن فيما ذكر لدلائل لائحة لأولى العلم الذين يفكرون فيما خلق اللّه ، فيعلمون أنه لم يخلق الخلق عبثا ، بل خلقه لحكمة بالغة فيها عبرة لمن تذكر.
(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي ومن علامات قدرته نومكم بالليل واستقراركم فيه ، حتى لا تكون حركة ولا حس ، وسعيكم للأرزاق نهارا بمزاولة أسباب المعاش ووسائله.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي إن فى فعل اللّه ذلك لعبرا وأدلة لمن يسمعون مواعظه فيتعظون بها ، ويفهمون حججه عليهم ، على أن صانع ذلك لا يعجزه بعث العالم وإعادته.
[سورة الروم (30) : الآيات 24 الى 25]
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما يعرض للأنفس من الأوصاف - ذكر ما يعرض للأكوان والآفاق ونشاهده رأى العين الفينة بعد الفينة ، مما فيه العبرة لمن ادّكر ، ونظر فى العوالم نظرة متأمل معتبر فى بدائع الأكوان ، ليتوصّل إلى معرفة مدبرها وخالقها الذي أحسن كل شىء خلقه ثم هدى.(21/40)
ج 21 ، ص : 40
الإيضاح
(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي ومن آياته الدالة على عظيم قدرته أنه يريكم البرق ، فتخافون مما فيه من الصواعق ، وتطمعون فيما يجلبه من المطر الذي ينزل من السماء ، فيحيى الأرض الميتة التي لا زرع فيها ولا شجر.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي إن فى ذلك الذي سلف ذكره لبرهانا قاطعا ، ودليلا ساطعا ، على البعث والنشور ، وقيام الساعة ، فإن أرضا هامدة لا نبات فيها ولا شجر يجيئها الماء فتهتز وتربو ، وتنبت من كل زوج بهيج : لهى المثال الواضح ، والدليل اللائح ، على قدرة من أحياها على إحياء العالم بعد موته ، حين يقوم الناس لرب العالمين.
(وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) أي ومن الحجج الدالة على قدرته على ما يشاء قيام السماء والأرض بلا عمد ، بل بإقامته وتدبيره فالأرض تجرى ، والسحاب يجرى حولها ، والهواء تبع لها ، وهى والقمر والسيارات يجرين حول الشمس ، والشمس ولواحقها يجرين حول كواكب أخرى ، لا نعلم عنها إلا هذه الآثار العلمية الضئيلة.
وقصارى ذلك : إلى إمساك هذه العوالم ، وإقامتها وتدبيرها وإحكامها من الآيات التي ترشد إلى إله مدبر لها.
(ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) أي ولا يزال الأمر هكذا حتى ينتهى أجل الدنيا ، ويختل نظام العالم ، فتبدل الأرض غير الأرض ، وتدك الجبال دكا ، وحينئذ تخرجون من قبوركم سراعا حينما يدعوكم الداعي.
ونحو الآية قوله : « يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا » وقوله : « فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ » وقوله :
« إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً. فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ » .(21/41)
ج 21 ، ص : 41
[سورة الروم (30) : الآيات 26 الى 27]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
المعنى الجملي
بعد أن أقام الأدلة على الوحدانية وهى الأصل الأول ، وعلى القدرة على الحشر ، وهى الأصل الثاني - أعقب ذلك بهاتين الآيتين وجعلهما كالنتيجة لما سلف.
الإيضاح
(وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي إن من فى السموات والأرض من خلق اللّه مطيع له فيما أراد به ، من حياة أو موت ، من سعادة أو شقاء ، من حركة أو سكون ، إلى أشباه ذلك ، وإن عصاه بقوله أو فعله فيما يكسبه باختياره ، ويؤثره على غيره.
ثم كرر ذكر البعث والإعادة مرة أخرى لشدة إنكارهم له فقال :
(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي وهو الذي يبدأ الخلق من غير أصل له ، فينشئه بعد أن لم يكن شيئا ، ثم يفنيه بعد ذلك ، ثم يعيده كما بدأه ، وذلك أسهل عليه على حسب ما يدور فى عقول المخاطبين ، من أن من فعل شيئا مرة كانت الإعادة أسهل عليه.
والخلاصة : إن الإعادة أسهل على اللّه من البدء بالنظر لما يفعله البشر مما يقدرون عليه ، فإن إعادة شىء من مادته الأولى أهون عليهم من إيجاده ابتداء والمراد بذلك التقريب لعقول الجهلة المنكرين للبعث ، وإلا فكل الممكنات بالنظر إلى قدرته سواء.(21/42)
ج 21 ، ص : 42
وقصارى ذلك : إنه أهون عليه بالإضافة إلى أعمالكم ، وبالقياس إلى أقداركم.
روى عن أبى هريرة أنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يقول اللّه تعالى « كذّبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمنى ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياى.
فقوله : لن يعيدنى كما بدأنى ، وليس أول الخلق بأهون علىّ من إعادته ، وإما شتمه إياى ، فقوله : اتخذ اللّه ولدا ، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد » .
(وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وله الوصف البديع فى السموات والأرض ، وهو أنه لا إله إلا هو ، ليس كمثله شىء ، تعالى عن الشبيه والنظير.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو العزيز الذي لا يغالب ولا يغلب ، الحكيم فى تدبير خلقه ، وتصريف شئونه فيما أراد ، وفق الحكمة والسّداد.
[سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 29]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)
تفسير المفردات
من أنفسكم : أي منتزعا من أحوال أنفسكم ، التي هى أقرب الأمور إليكم وأعرفها عندكم ، ملكت أيمانكم : أي مماليككم وعبيدكم ، فيما رزقناكم : أي من العقار والمنقول ، فأنتم فيه سواء : أي تتصرفون فيه كتصرفكم ، تخافونهم : أي تخافون أن يستبدوا بالتصرف فيه ، كخيفتكم أنفسكم : أي كما يخاف الأحرار بعضهم من(21/43)
ج 21 ، ص : 43
بعض ، نفصل الآيات : أي نبيتها بالتمثيل الكاشف للمعانى ، فمن يهدى من أضل اللّه ؟ :
أي لا أحد يهديهم ، وما لهم من ناصرين : أي ليس لهم من قدرة اللّه منقذ ولا مجير.
المعنى الجملي
بعد أن بين القدرة على الإعادة بإقامة الأدلة عليها ، ثم ضرب لذلك مثلا أعقب ذلك بذكر المثل على الوحدانية بعد إقامة الدليل عليها.
الإيضاح
(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ؟ ) أي بين اللّه تعالى إثبات وحدانيته بما يكشفها من ذلك المثل المنتزع من أحوال أنفسكم وأطوارها التي هى أقرب الأمور إليكم ، وبه يستبين مقدار ما أنتم فيه من الضلال بعبادة الأوثان والأصنام ، فتسرعون إلى الإقلاع عن عبادة من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.
هل أنتم أيها الأحرار تشركون معكم عبيدكم فى أموالكم ، فيساوونكم فى التصرف فيها ؟ لا ، لا يتصرفون فيها إلا بإذنكم خوفا من لأئمة تلحقهم منكم ، كما يخاف بعضكم بعضا ، وإذا كنتم لا ترضون بذلك لأنفسكم وأنتم وهم عبيد اللّه ، فكيف ترضون لرب الأرباب أن تجعلوا عبيده شركاء له ؟
وهذا مثل ضربه اللّه للمشركين به ، العابدين معه غيره ، الجاعلين له شركاء ، وهم معترفون بأن شركاءه من الأصنام والأوثان عبيده وملكه ، إذ كانوا يقولون فى التلبية والدعاء ، حين أداء مناسك الحج : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك.
وخلاصة المثل : إن أحدكم يأنف أن يساويه عبيده فى التصرف فى أمواله ، فكيف تجعلون للّه الأنداد من خلقه ؟ .(21/44)
ج 21 ، ص : 44
(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي ومثل هذا التفصيل البديع بضرب الأمثال الكاشفة للمعانى ، المقربة لها إلى العقول ، إذ تنقل المعقول إلى المحسوس التي هى به ألصق ، ولإداركه أقرب - نفصل حججنا وآياتنا لقوم يستعملون عقولهم فى تدبر الأمثال ، واستخراج مغازيها ومراميها للوصول إلى الأغراض التي لأجلها ضربت ، ولمثلها استعملت ، فيستبين الرشد من الغى ، والحق من الباطل ، ولأمرمّا كثرت الأمثال فى جلاء الحقائق ، وإيضاح ما أشكل منها على الناظرين.
ثم بين أن المشركين إنما عبدوا غيره ، سفها من أنفسهم وجهلا ، لا ببرهان قد لاح لهم فقال :
(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ولكن الذين ظلموا أنفسهم فكفروا باللّه ، اتبعوا أهواءهم جهلا منهم لحق اللّه عليهم ، فأشركوا الآلهة والأوثان فى عبادته ، ولو قلّبوا وجوه الرأى ، واستعملوا الفكر والتدبر لربما ردّهم ذلك إلى معرفة الحق ، ووصلوا إلى سبيل الرشد ، ولكن أنّى لهم ذلك ؟
(فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ؟ ) أي فمن يهدى من خلق اللّه فيه الضلال ، وجعله كاسباله باختياره ، لسوء استعداده وميله بالفطرة إليه ، وعلم اللّه فيه ذلك ؟
(وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي وليس لهم ناصر ينقذهم من بأس اللّه وشديد انتقامه إذا حل بهم ، لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
[سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 32]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)(21/45)
ج 21 ، ص : 45
تفسير المفردات
أقم : من أقام العود وقوّمه إذا عدّله والمراد الإقبال على دين الإسلام والثبات عليه ، حنيفا : من الحنف وهو الميل ، فهو مائل من الضلالة إلى الاستقامة ، والفطرة :
هى الحال التي خلق اللّه الناس عليها من القابلية للحق ، والتهيؤ لإدراكه ، وخلق اللّه :
هو فطرته المذكورة أوّلا ، القيم : أي المستوي الذي لا عوج فيه ولا انحراف ، منبين إليه : أي راجعين إليه بالتوبة وإخلاص العمل ، من قولهم : ناب نوبة ونوبا إذا رجع مرة بعد أخرى ، واتقوه : أي خافوه ، فرقوا دينهم : أي اختلفوا فيما يعبدونه على حسب اختلاف أهوائهم ، شيعا : أي فرقا تشايع كل فرقة إمامها الذي مهد لها دينها وقرره ووضع أصوله.
المعنى الجملي
بعد أن عدد سبحانه البينات. والأدلة على وحدانيته ، وأثبت الحشر وضرب لذلك المثل ، وسلى رسوله ووطن عزيمته على اليأس من إيمانهم ، لأن اللّه قد ختم على قلوبهم ، فلا مخلص لهم مما هم فيه ولا ينقذهم من ذلك لا هو ولا غيره فلا تذهب نفسك عليهم حسرات - أعقب ذلك بأمره بالاهتمام بنفسه ، وعدم المبالاة بأمرهم ، وإقامة وجهه لهذا الدين غير ملتفت عنه يمنة ولا يسرة ، فهو فطرة اللّه التي خلق العقول معترفة بها.
الإيضاح
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) أي فسدّد وجهك نحو الوجه الذي وجّهك إليه ربك لطاعته ، وهو الدين القيم ، دين الفطرة ، ومل عن الضلال إلى الهدى.
(فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) أي الزموا خلقة اللّه التي خلق الناس عليها ، فقد جعلهم بفطرتهم جانحين للتوحيد وموقنين به ، لكونه موافقا لما يهدى إليه(21/46)
ج 21 ، ص : 46
العقل ، ويرشد إليه صحيح النظر ، كما ورد فى الحديث الذي رواه البخاري ومسلم :
« كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء » (مستوية لم يذهب من بدنها شى ء) « هل تحسون فيها من جدعاء » (مقطوعة الأذن أو الأنف).
ثم علل وجوب الامتثال بقوله :
(لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) أي لا ينبغى أن تبدّل فطرة اللّه أو تغير ، وهذا خبر فى معنى النهى كأنه قيل : لا تبدّلوا دين اللّه بالشرك.
بيان هذا أن العقل الإنسانى كصحيفة بيضاء ، قابلة لنقش ما يراد أن يكتب فيها ، كالأرض تقبل كل ما يغرس فيها ، فهى تنبت حنظلا وفاكهة ، ودواء وسمّا ، والنفس يرد عليها الديانات والمعارف فتقبلها ، والخير أغلب عليها من الشر ، كما أن أغلب نبات الأرض يصلح للرعى ، والقليل منه سمّ لا ينتفع به ، ولا تغير بالآراء الفاسدة إلا بمعلم يعلمها ذلك كالأبوين اليهوديين أو النصرانيين ، ولو ترك الطفل وشأنه لعرف أن الإله واحد ولم يسقه عقله إلى غير ذلك ، فإن البهيمة لا تجدع إلا بمن يجدعها من الخارج ، هكذا صحيفة العقل لا تغيّر إلا بمؤثّر خارجى يضلّها بعد علم.
(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي ذلك الذي أمرتكم به من التوحيد هو الدين الحق الذي لا عوج فيه ولا انحراف.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك لعدم تدبرهم فى البراهين الواضحة الدالة عليه ، ولو علموا ذلك حق العلم لا تبعوه ، وما صدوا الناس عن الاقتباس من نوره ، وما سدلوا الحجب التي تحجب عنهم ضياءه.
(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) أي فأقم وجهك أيها الرسول أنت ومن اتبعك ، حنفاء للّه منيبين إليه ، وخافوه ، وراقبوا أن تفرطوا فى طاعته ، وترتكبوا معصيته.
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي وداوموا على إقامتها ، فهى عمود الدين ، وهى التي تذكّر المؤمن ربه ، وتجعله يناجيه فى اليوم خمس مرات ، وتحول بينه وبين الفحشاء(21/47)
ج 21 ، ص : 47
والمنكر ، لأنها تعوّد النفس الخضوع والإخبات له ، ومراقبته فى السر والعلن ، كما جاء فى الحديث : « اعبد اللّه كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » .
(وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) به غيره ، بل أخلصوا له العبادة ولا تريدوا بها سواه ، وحافظوا على امتثال أوامره ، واجتناب نواهيه.
ثم بين صفات هؤلاء المشركين بقوله :
(مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) أي من المشركين الذين بدلوا دين الفطرة وغيّروه ، وكانوا فى ذلك فرقا مختلفة كلها جانبت الحق ، وركنت إلى الباطل ، كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان ، وسائر الأديان الباطلة.
والخلاصة : إن أهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على مذاهب ونحل باطلة ، كل منها تزعم أنها على شىء.
(كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي كل طائفة من هؤلاء الذين فارقوا دينهم الحق ، وأحدثوا من البدع ما أحدثوا - فرحون بما هم به مستمسكون ، ويحسبون أن الصواب لا يعدوهم إلى غيرهم من النحل والمذاهب الأخرى.
[سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 37]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)(21/48)
ج 21 ، ص : 48
المعنى الجملي
لما أرشد سبحانه إلى التوحيد ، وأقام الأدلة عليه ، وضرب له المثل أعقبه بذكر حال للمشركين يعرفون بها ، وسيماء لا ينكرونها ، وهى أنهم حين الشدّة يتضرعون إلى ربهم ، وينيبون إليه ، فإذا خلصوا منها رجعوا إلى شنشنتهم الأولى ، وأشركوا به الأوثان والأصنام ، فليضلوا ما شاءوا ، فإن لهم يوما يرجعون فيه إلى ربهم ، فيحاسبهم على ما اجترحوا من السيئات ، وليتهم اتبعوا ذلك عن دليل ، حتى يكون لهم شبه العذر فيما يفعلون ، بل هو الهوى المطاع ، والرأى المتّبع ، ثم ذكر حال طائفة من المشركين دون سابقيهم ، وهم من تكون عبادتهم للّه رهن إصابتهم من الدنيا ، فإن آتاهم ربهم منها رضوا ، وإذا منعوا منها سخطوا وقنطوا ، وقد كان عليهم أن يعلموا أن بسط النعمة وإقتارها بيده وحده ، وقد جعل لذلك أسبابا متى سلكها فاعلها وصل إلى ما يريد ، وليس علينا إلا أن تطمئن نفوسنا إلى ما يكون ، فكله بقدر اللّه وقضائه ، وعلينا أن نستسلم له ، ونعمل ما طلب إلينا عمله من الأخذ من الأسباب والجد فى العمل جهد الطاقة.
الإيضاح
(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) أي وإذا مس هؤلاء المشركين الذين يجعلون مع اللّه إلها آخر - ضرّ فأصابهم جدب وقحط أخلصوا لربهم التوحيد ، وأفردوه بالتضرع إليه واستغاثوا به منيبين إليه ، تائبين إليه من شركهم وكفرهم.
(ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي ثم إذا كشف ربهم عنهم ذلك الضر وفرجه عنهم ، وأصابهم برخاء وخصب وسعة ، إذا جماعة منهم يشركون به فيعبدون معه الآلهة والأوثان.
والخلاصة : إنهم حين الضرر يدعون اللّه وحده لا شريك له ، وإذا أسبغ عليهم(21/49)
ج 21 ، ص : 49
نعمه إذا فريق منهم يشركون به سواه ، ويعبدون معه غيره.
ثم أمرهم أمر تهديد كما يقول السيد لعبده متوعدا إذا رآه قد خالف أمره :
اعصنى ما شئت ، قال :
(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) أي فليجحدوا نعمى عليهم وإحسانى إليهم كيف شاءوا ، فإن لهم يوما نحاسبهم فيه ، يوم يؤخذون بالنواصي ، ويجرّون بالسلاسل والأغلال ، ويقال لهم : ذوقوا ما كنتم تعملون.
ومثله الأمر بعده وهو :
(فَتَمَتَّعُوا) أي فتمتعوا بما آتيناكم من الرخاء ، وسعة النعمة فى الدنيا ، فما هى إلا أو يقات قصيرة تمضى كلمح البصر.
ثم هددهم أشد التهديد بقوله :
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) إذا وردتم علىّ ما يصيبكم من شديد عذابى ، وعظيم عقابى ، على كفركم بي فى الدنيا.
روى عن بعض السلف أنه قال : واللّه لو توعدنى حارس درب لخفت فيه ، فكيف والمتوعّد هو اللّه الذي يقول للشىء كن فيكون ؟ .
ثم أنكر على المشركين ما اختلقوه من عبادة غيره بلا دليل ، فقال :
(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي أ أنزلنا على هؤلاء الذين يشركون فى عبادتنا الآلهة والأوثان كتابا فيه تصديق لما يقولون ، وإرشاد إلى حقيقة ما يدّعون.
وإجمال القصد : إنه لم ينزّل بما يقولون كتابا ولا أرسل به رسولا ، وإنما هو شىء افتعلوه اتباعا لأهوائهم.
ثم ذكر طبيعة الإنسان وجبلّته إلا من عصمه اللّه فقال :
(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ(21/50)
ج 21 ، ص : 50
يَقْنَطُونَ)
أي إن الإنسان قد ركّب فى طبيعته الفرح والبطر حين تصيبه النعمة ، كما حكى اللّه عنه : « لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ » وإذا أصابته شدة بجهله بسنن الحياة ، وعصيانه أوامر الدين ، قنط من رحمة اللّه وأيس منها ، فهو كما قيل :
كحمار السوء إن أعلفته رمح الناس وإن جاع نهق
«
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ » فإنهم راضون بما قسمه لهم ربهم من خير أو شر ، علما منهم أن اللّه حكيم ، لا يفعل إلا ما فيه خير للعبد ، وفى الحديث الصحيح :
« عجبا للمؤمن لا يقضى اللّه له قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته سراء شكر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له » .
ثم أنكر عليهم ما يلحقهم من اليأس والقنوط لدى الضراء ، فقال :
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ؟ ) أي ألم يشاهدوا ويعلموا أن الأمرين من اللّه ، فما بالهم لم يشكروا فى السراء ، ويحتسبوا فى الضراء ، كما يفعل المؤمنون ، فإن من فطر هذا العالم لا ينزل الشدة بعباده إلا لما لهم فيها من الخير كالتأديب والتذكير والامتحان ، فهو كما يربى عباده بالرحمة يربيهم بالتعذيب فلو أنهم شكروه حين السراء ، وتضرعوا إليه فى الضراء ، لكان خيرا لهم.
والخلاصة : إنه يجب عليهم أن ينيبوا إليه فى الرخاء والشدة ، ولا يعوقهم عن الإنابة إليه نعمة تبطرهم ، ولا شدة تحدث فى قلوبهم اليأس ، بل يكونون فى السراء والضراء منيبين إليه.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فى ذلك البسط على من بسط له والقدر على من قدر عليه - لدلالة واضحة لمن صدّق بحجج اللّه إذا عاينها.
[سورة الروم (30) : الآيات 38 الى 40]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)(21/51)
ج 21 ، ص : 51
تفسير المفردات
حقه : هو صلة الرحم والبرّ به ، والمسكين : هو المعدم الذي لا مال له ، وابن السبيل :
هو المسافر الذي احتاج إلى مال وعزّ عليه إحضاره من بلده ، ووسائل المواصلات الحديثة الآن تدفع مثل هذه الحاجة ، ربا : أي زيادة ، والمراد بها الهدية التي يتوقع بها مزيد مكافأة ، فلا يربو عند اللّه : أي فلا يبارك فيه ، والمراد بالزكاة الصدقة ، المضعفون :
أي الذين يضاعف اللّه لهم الثواب والجزاء.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر - أردف ذلك ببيان أنه يحبّ الإحسان على ذوى القربى وذوى الحاجات من المساكين وأبناء السبيل ، فإنه إذا بسط الرزق لم ينقصه الإنفاق ، وإذا قدر لم يزده الإمساك :
إذا جادت الدنيا عليك فجدبها على الناس طرّا إنها تتقلّب
فلا الجود يفنيها إذا هى أقبلت ولا البخل يبقيها إذا هى تذهب
الإيضاح
(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) أي أعط أيها الرسول ومن تبعك من المؤمنين : الأقارب الفقراء جزءا من مالك صلة للرحم ، وبرا بهم لأنهم أحق الناس بالشفقة ومن ثم حكى عن أبى حنيفة أنه استدل بهذه الآية على وجوب النفقة على كل ذى رحم محرم ذكرا كان أو أنثى إذا كان فقيرا عاجزا عن الكسب(21/52)
ج 21 ، ص : 52
وكذا المسكين الذي لا مال له إذا وقع فى ورطة الحاجة ، فيجب على من عنده مقدرة دفع حاجته ، وسدّ عوزه.
ومثله المسافر البعيد عن ماله ، الذي لا يستطيع إحضار شىء منه لانقطاع السبل به فيجب مساعدته بما يدفع خصاصته ، حتى يصل إلى مأمنه ، وسرعة طرق المواصلات الآن تدفع هذه الضرورة.
(ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ذلك الإعطاء لمن تقدم ذكرهم ، من فعل الخير الذي يتقبّله اللّه ، ويرضى عن فاعليه ، ويعطيهم جزيل الثواب ، وأولئك قد ربحوا فى صفقتهم ، فأعطوا ما يفنى ، وحصلوا على ما يبقى ، من النعيم المقيم ، والخير العميم.
وإنما كان هذا العمل خيرا ، لما فيه من تكافل الأسرة الخاصة ، وتعاونها فى السراء والضراء ، وتعاون الأسرة العامة ، وهى الأمة الإسلامية جمعاء ، كما
جاء فى الحديث : « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا » .
ولا يخفى ما لذلك من أثر فى تولد المحبة والمودة ، وفى التكاتف لدفع عوادى الأيام ، ومحن الزمان.
(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ) أي ومن أهدى هدية يريد أن تردّ بأكثر منها ، فلا ثواب له عند اللّه ، وقد حرم اللّه ذلك على رسوله صلى اللّه عليه وسلم على الخصوص ، كما قال تعالى : « وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ » أي ولا تعط العطاء تريد أكثر منه.
روى عن ابن عباس أنه قال : الربا ربوان : ربا لا يصح وهو ربا البيع ، وربا لا بأس به ، وهو هدية الرجل يريد فضلها وإضعافها ، ثم تلا هذه الآية.
وقال عكرمة : الربا ربوان : ربا حلال ، وربا حرام فأما الربا الحلال : فهو الذي يهدى ، يلتمس ما هو أفضل منه وعن الضحاك فى هذه الآية : هو الربا الحلال(21/53)
ج 21 ، ص : 53
الذي يهدى ، ليثاب ما هو أفضل منه ، لا له ولا عليه ، ليس له أجر وليس عليه فيه إثم.
(وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي ومن أعطوا صدقة يبتغون بها وجه اللّه تعالى خالصا ، فأولئك من الذين يضاعف لهم الثواب والجزاء ، كما قال تعالى : « مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً ؟ » ،
وجاء فى الصحيح أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « وما تصدّق أحد بعدل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربّى أحدكم فلوّه أو فصيله حتى تصير التمرة أعظم من أحد (جبل) » .
ولما بين أنه لا زيادة إلا فيما يزيده ، ولا خير إلا فيما يختاره أكد ذلك بقوله :
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي اللّه الذي لا تصح العبادة إلا له ، ولا ينبغى أن تكون لغيره ، هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا ، ثم رزقكم ما به تقوم شئونكم فى هذه الحياة ، ثم يقبض أرواحكم فى الدنيا ، ثم يحييكم يوم القيامة للبعث.
ثم وبخ هؤلاء المشركين الذين يعبدون الآلهة والأصنام التي لا تخلق ولا ترزق ولا تحيى ولا تميت بقوله :
(هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ ؟ ) أي هل من آلهتكم وأوثانكم الذين جعلتموهم شركاء لى فى العبادة من يخلق أو يرزق أو ينشر الميت يوم القيامة ؟ .
وإجمال المعنى : إن شركاءكم لا يفعلون شيئا من ذلك ، فكيف يعبدون من دون اللّه ؟ .
ثم برأ سبحانه نفسه من هذه الفرية التي افتروها ، فقال :
(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه عن الشريك ، فهو الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد.(21/54)
ج 21 ، ص : 54
[سورة الروم (30) : الآيات 41 الى 42]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
تفسير المفردات
البر : الفيافي والقفار ، ومواضع القبائل ، والبحر : المدن ، والعرب تسمى الأمصار بحارا لسعتها كما قال سعد بن عبادة فى عبد اللّه بن أبى بن سلول : ولقد أجمع أهل هذه البحيرة (المدينة) ليتوّجوه.
وقال ابن عباس : البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر ، والبحر ما كان على شط نهر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن المشركين عبدوا مع اللّه سواه ، وأشركوا به غيره ، والشرك سبب الفساد ، كما يرشد إلى ذلك قوله : « لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا » - أعقب ذلك ببيان أن الناس قد انتهكوا حرمات اللّه ، واجترحوا المعاصي ، وفشا بينهم الظلم والطمع ، وأكل القوى مال الضعيف ، فصب عليهم ربهم سوط عذابه ، فكثرت الحروب ، وافتنّ الناس فى أدوات التدمير والإهلاك ، فمن غائصات البحار تهلك السفن الماخرة فيها ، إلى طائرات قاذفات للحمم والموادّ المحرقة ، إلى مدافع تحصد الناس حصدا ، إلى دبابات سميكة الدروع تهدّ المدن هدا وما الحرب القائمة(21/55)
ج 21 ، ص : 55
الآن إلا مثال الوحشية الإنسانية ، والمجازر البشرية التي سلط اللّه فيها العالم بعضه على بعض ، فارتكب المظالم ، واجترح المآثم ، والإنسان فى كل عصر هو الإنسان.
وكما أهلك اللّه الكافرين قبلهم بكفرهم وظلمهم ، يهلك الناس بشؤم معاصيهم وفسادهم ، فليجعلوا من سبقهم مثلا لهم ، ليتذكروا عقاب اللّه وشديد عذابه للمكذبين.
الإيضاح
(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ظهر الفساد فى العالم بالحروب والغارات ، والجيوش والطائرات ، والسفن الحربية والغواصات ، بما كسبت أيدى الناس من الظلم وكثره المطامع ، وانتهاك الحرمات ، وعدم مراقبة الخلاق ، وطرح الأديان وراء ظهورهم ، ونسيان يوم الحساب ، وأطلقت النفوس من عقالها ، وعاثت فى الأرض فسادا ، إذ لا رقيب من وازع نفسى ، ولا حسيب من دين يدفع عاديتها ، ويمنع أذاها ، فأذاقهم اللّه جزاء بعض ما عملوا من المعاصي والآثام ، لعلهم يرجعون عن غيهم ، ويثوبون إلى رشدهم ، ويتذكرون أن هناك يوما يحاسب الناس فيه على أعمالهم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فيخيّم العدل على المجتمع البشرى ، ويشفق القوىّ على الضعيف ، ويكون الناس سواسية فى المرافق العامة ، وحاج المجتمع بقدر الطاقة البشرية.
وبعد أن بين أن ظهور الفساد كان نتيجة أفعالهم أرشدهم إلى أن من كان قبلهم وكانت أفعالهم كأفعالهم ، أصابهم بعذاب من عنده ، وصاروا مثلا لمن بعدهم وعبرة لمن خلفهم ، قال :
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ؟ ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين من قومك : سيروا فى البلاد فانظروا إلى مساكن الذين كفروا باللّه من قبلكم وكذبوا رسله ، كيف أهلكناهم بعذاب منا ، وجعلناهم عبرة لمن بعدهم ؟ .(21/56)
ج 21 ، ص : 56
ثم بين سبب ما حاق بهم من العذاب ، فقال :
(كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) فما حل بهم من العذاب كان جزاء وفاقا لكفرهم بآيات ربهم ، وتكذيبهم رسله.
[سورة الروم (30) : الآيات 43 الى 45]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)
تفسير المفردات
لا مرد له : أي لا يقدر أحد أن يردّه ، يصّدّعون : أي يتصدعون ويتفرقون ، كما قال متمّم بن نويرة من قصيدة يرثى بها أخاه مالكا :
وكنا كندمانى جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن نتصدعا « 1 »
فأصبحنا كأنى ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
يمهدون : من مهد فراشه إذا وطّأه حتى لا يصيبه ما ينغّص عليه مرقده من بعض ما يؤذيه ، وتمهيد الأمور تسويتها وإصلاحها ، وتمهيد العذر بسطه وقبوله ، لا يحب الكافرين : أي إنه يبغضهم ، وسيعاقبهم على ما فعلوا.
__________________________________________________
(1) وجذيمة : هو جذيمة الأبرش ، وكان ملكا فى الحيرة ، ونديماه مالك وعقيل ، وبهما يضرب المثل فى طول المنادمة ، فقد نادماه أربعين سنة ما أعادا عليه حديثا كان قالاه من قبل.(21/57)
ج 21 ، ص : 57
المعنى الجملي
بعد أن نهى الكافر عن بقائه على حاله التي هو عليها خيفة أن يحل به سوء العذاب - أردف ذلك أمر رسوله ومن تبعه بالثبات على ما هم عليه ، بعبادتهم الواحد الأحد ، قبل أن يأتى يوم الحساب ، الذي يتفرق فيه العباد ، فريق فى الجنة ، وفريق فى السعير ، فمن كفر فعليه وبال كفره ، ومن عمل صالحا فقد أعد لنفسه مهادا يستريح عليه بما قدم من صالح العمل ، وسينال من فضل ربه وثوابه ورضاه عنه ما لا يخطر له ببال ، ولا يدور له فى حسبان.
والكافر سيلقى فى هذا اليوم العذاب والنكال ، لأن ربه يبغضه ويمقته جزاء ما دسّى به نفسه من سيئ العمل.
الإيضاح
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) أي فاسلك أيها الرسول الكريم الطريق الذي رسمه لك ربك بطاعته ، واتباع نهجه القويم ، الذي لا عوج فيه ولا أمت ، من قبل أن يجىء ذلك اليوم الذي لا راد له ، وهو يوم الحساب الذي كتب اللّه مجيئه وقدّره ، وما قدّر لا بد أن يكون.
ثم ذكر حال الناس يومئذ ، فقال :
(يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) أي يومئذ يتفرق الناس بحسب أعمالهم ، فريق فى الجنة يؤتى ثمرة عمله ، وفريق يزجى إلى النار بما اجترح من الآثام ، وبما ران على قلبه مما كسبت يداه.
ثم بين أن ما ناله كل منهما من الجزاء كان نتيجة حتمية لعمله فقال :
(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أي من كفر باللّه ، ودسّى نفسه بما عمل من السيئات ، واجترح من الآثام ، فعليه وحده أوزار جحوده(21/58)
ج 21 ، ص : 58
وكفره بنعم ربه ، ومن عمل الصالحات ، وأطاع اللّه فيما به أمر ، وعنه نهى ، فقد أعدّ لنفسه العدّة ، ووطأ لنفسه الفراش حتى لا يقضّ عليه مضجعه ، ويقع فى عذاب السعير.
ثم بين العلة فى تفرقهم ، فقال :
(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) أي إنهم يتفرقون ليجازى المؤمنين بالحسنى من فضله ، فيكافئ الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى ما شاء اللّه من المنح والعطايا.
وذكر جزاء الكافرين بما يدل عليه قوله :
(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي إنه يبغضهم ، وذلك يستدعى عقابهم ، ولا يخفى ما فى ذلك من تهديد ووعيد.
[سورة الروم (30) : آية 46]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
المعنى الجملي
لما ذكر سبحانه أن الفساد ظهر فى البر والبحر بسبب الشرك والمعاصي ، نبههم إلى دلائل وحدانيته بما يشاهدونه أمامهم من إرسال الرياح وبالأمطار ، فتحيا بها الأرض بعد موتها وجرى الفلك حاملة لما هم فى حاجة إليه ، مما فيه غذاؤهم ، وعليه مدار حياتهم.
الإيضاح
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي ومن الأدلة على وحدانيته تعالى ، والحجج القائمة على أنه رب كل شىء ، أنه يرسل الرياح من حين إلى آخر مبشرات بالغيث الذي به تحيا(21/59)
ج 21 ، ص : 59
الأرض وينبت الثمر والزرع ، فتأكلون منه مالذ وطاب ، وتعيشون أنتم ودوابكم وأنعامكم فضلا من ربكم ، وتجرى السفن ما خرة للبحار ، حاملة للأقوات وأنواع الثمار ، متنقلة من قطر إلى قطر ، فتأتى بما فى أقصى المعمور من الشرق إلى أقصاه فى الغرب ، والعكس بالعكس ، فلا تحتجن الثمرات والأقوات فى أماكنها ، وتكون وقفا على قوم بأعيانهم.
(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي وليعدّكم لشكره كفاء ما أسدى إليكم من نعمه الوفيرة ، وخيراته العميمة التي لا تحصى ، كما قال : « وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها » .
[سورة الروم (30) : آية 47]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
المعنى الجملي
لما ذكر سبحانه البراهين الساطعة الدالة على الوحدانية والبعث والنشور ، ولم يرعو بها المشركون ، بل لجّوا فى طغيانهم يعمهون ، سلى رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، فذكر له أنك لست أول من كذّب ، فكثير ممن قبلك جاءوا أقوامهم بالبينات ، فلم تغنهم الآيات والنذر ، فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ، ونصرنا رسلنا ومن آمن بهم ، فلا تبتئس بما كانوا يعملون ، ولنجرينّ عليك وعلى قومك سنننا ، ولننتقمنّ منهم ، ولننصرنّك عليهم ، فالعاقبة للمتقين
الإيضاح
َ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)
أي ولقد أرسلنا أيها الرسول رسلا من قبلك إلى أقوامهم(21/60)
ج 21 ، ص : 60
الكافرين ، كما أرسلناك إلى قومك عابدى الأوثان من دون اللّه ، فجاءوهم بالحجج الواضحة على أنهم من عند اللّه ، فكذبوهم كما كذبك قومك ، وردّوا عليهم ما جاءوهم به من عنده ، كما ردوا عليك ما جئتهم به ، فانتقمنا من الذين اجترحوا الآثام ، واكتسبوا السيئات من أقوامهم ، ونجينا الذين آمنوا باللّه وصدقوا رسله ، ونحن فاعلوا ذلك بمجرمى قومك ، وبمن آمن بك ، سنة اللّه التي شرعها لعباده ، ولن تجد لسنة اللّه تبديلا.
وهذا إخبار من اللّه سبحانه بأن نصره لعباده المؤمنين حق عليه ، وهو لا يخلف الميعاد.
أخرج الطبراني وابن أبى حاتم وابن مردويه والترمذي عن أبى الدرداء قال :
سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « ما من مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على اللّه أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة » ثم تلا : َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ »
: ولا يخفى ما فى هذا من الوعد والبشارة بالظفر على أعدائه ، والوعيد والنكال ، والخسران فى المآل ، لمن كذب به من قومه.
[سورة الروم (30) : الآيات 48 الى 51]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)(21/61)
ج 21 ، ص : 61
تفسير المفردات
تثير : أي تحرك ، يبسط : أي ينشر ، فى السماء : أي فى سمتها وجهتها ، كسفا : أي قطعا ، والودق : المطر ، خلاله : واحدها خلل ، وهو الفرجة بين الشيئين ، لمبلسين :
أي لآيسين.
المعنى الجملي
عود على بدء ، بعد أن سلى رسوله صلى اللّه عليه وسلم على ما يلاقيه من أذى قومه ببيان أنه ليس ببدع فى الرسل ، فكائن من رسول قبله قد كذّب ، ثم دالت الدّولة على المكذبين ، ونصر اللّه رسوله والمؤمنين ، أعاد الكرة مرة أخرى ، فأتبع البرهان بالبرهان لإثبات الوحدانية ، وإمكان البعث والنشور بما يشاهد من الأدلة فى الآفاق ، مرشدة إلى قدرته ، وعظيم رحمته ، ثم بما يرى فى الأرض الموات من إحيائها بالمطر ، وهو دليل لائح يشاهدونه ، ولا يغيب عنهم الحين بعد الحين ، والفينة بعد الفينة ، أ فليس فيه حجة لمن اعتبر ومقنع لمن ادّكر ؟ .
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي اللّه الذي يرسل الرياح فتنشئ سحابا فينشره ويجمعه جهة السماء ، تارة سائرا ، وأخرى واقفا ، وحينا قطعا ، فترى المطر يخرج من وسطه ، فإذا أصاب به بعض عباده فرحوا به لحاجتهم إليه.
(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) أي وقد كانوا من قبل أن ينزل عليهم قانطين يائسين من نزوله ، فلما جاءهم على فاقة وحاجة وقع منهم موقعا عظيما.(21/62)
ج 21 ، ص : 62
والخلاصة : إنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله ، ومن قبل ذلك أيضا ، إذ هم ترقّبوه فى إبّانه فتأخر ، ثم مضت فترة فترقبوه فيها فتأخر ، ثم جاء بغتة بعد اليأس والقنوط ، وبعد أن كانت أرضهم هامدة أصبحت وقد اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي فانظر أيها الرسول أثر الغيث الذي أنبت به ما أنبت من الزرع والأشجار والثمار ، وفيه الدليل الكافي على عظيم القدرة وواسع الرحمة.
وإذ قد ثبتت قدرته على إحياء الميت من الأرض بالغيث ثبتت قدرته على إحياء الأجسام بعد موتها وتفرقها وتمزقها إربا إربا ، ومن ثم قال :
(إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى ) أي إن ذلك الذي قدر على إحياء الأرض قادر على إحياء الأجسام حين البعث.
ثم أكد هذا بقوله :
(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يعجزه شىء ، فإحياؤكم من قبوركم هيّن عليه ، ونحو الآية قوله : « قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها. أَوَّلَ مَرَّةٍ » .
ثم ذمهم على تزلزلهم وسوء اضطرابهم ، فإذا أصابهم الخير فرحوا به ، وإن أصابهم السوء يئسوا وأبلسوا ، وانقطع رجاؤهم من الخير ، فقال :
(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) أي ولئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة على الزرع الذي زرعوه وبما واستوى على سوقه ، فرأوه قد اصفر بعد خضرته ونضرته - لظلّوا من بعد ذلك الاستبشار والرجاء يجحدون نعم اللّه السابقة عليهم.
ولا يخفى ما فى ذلك من المبالغة فى احتقارهم لتزلزلهم فى عقيدتهم ، إذ كان الواجب(21/63)
ج 21 ، ص : 63
عليهم أن يتوكلوا على اللّه فى كل حال ، ويلجئوا إليه بالاستغفار إذا احتبس عنهم المطر ، ولا يبأسوا من روح اللّه ، ويبادروا إلى الشكر بالطاعة إذا أصابهم جل وعلا برحمته ، وأن يصبروا على بلائه إذا اعترى زرعهم آفة ولا يكفروا بنعمائه ، لكنهم قد عكسوا الأمر ، وأبوا ما يجديهم ، وأتوا بما يؤذيهم.
[سورة الروم (30) : الآيات 52 الى 53]
فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه صنوف الأدلة ، ثم ضرب المثل على توحيده ووجوب إرسال الرسل مبشرين ومنذرين ، وصحة بعث الأجسام يوم القيامة ، ووعد وأوعد بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد ، ثم ما زادهم دعاء الرسول إلا إعراضا ، ولا تكرار النصح إلا إصرارا وعنادا - أردف هذا تسليته على ما يراه من التمادي فى الإعراض ، وكثرة العناد واللجاج ، فأبان أن هؤلاء كأنهم موتى ، فأنّى لك أن تسمعهم ، وكأنهم صمّ ، فكيف يسمعون دعاءك حتى يستجيبوا لك ؟ إنما الذي يستجيب من يؤمن بآيات اللّه ، فهو إذا سمع كتابه تدبره وفهمه ، فيخضع لك بطاعته ، ويتذلل لمواعظ كتابه.
الإيضاح
(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي إنك لا تقدر أن تفهم هؤلاء المشركين الذين قد ختم اللّه على أسماعهم ، فسلبهم فهم ما يتلى عليهم من مواعظ تنزيله كما لا تقدر أن تفهم الموتى الذين سلبوا أسماعهم بأن تجعل لهم(21/64)
ج 21 ، ص : 64
أسماعا ، ولا تقدر أن تهدى من تصامّوا عن فهم آيات كتابه فتجعلهم يسمعونها ويفهمونها كما لا تقدر أن تسمع الصم - الدعاء إذا ولّوا عنك مدبرين.
ثم بين أن الهداية والضلالة بيده لا بيد الرسول ، فقال :
(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) أي ليس فى طوقك أن تهدى من أضله اللّه ، فتردّه عن ضلالته ، بل ذلك إليه وحده ، فإنه يهدى من يشاء ، ويضل من يشاء ، وليس ذلك لأحد سواه.
والخلاصة : إن هذا ليس من عملك ، ولا بعثت لأجله.
ثم أكد ما سلف بقوله :
(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي لا تسمع السماع الذي ينتفع به سامعه فيتّبعه ، إلا من يؤمن بآياتنا ، لأنه هو الذي إذا سمع كتاب اللّه تدبره وفهمه ، وعمل بما فيه ، وانتهى إلى حدوده التي حدها ، فهو مستسلم خاضع له ، مطيع لأوامره ، تارك لنواهيه.
[سورة الروم (30) : آية 54]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر دلائل الآفاق على وحدانيته أردفها دلائل الأنفس ، فذكر خلق الأنفس ، فى أطوارها المختلفة من ضعف إلى قوة ، ثم انتكاسها وتغيير حالها من قوة إلى ضعف ، ثم إلى شيخوخة وهرم. وبين أنه العليم بها فى مختلف أحوالها ، القدير على تغييرها واختلاف أشكالها.(21/65)
ج 21 ، ص : 65
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) يقول سبحانه محتجا على المشركين المنكرين للبعث : إن الذي خلقكم من نطفة وماء مهين ، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ، ثم جعل لكم قوة على التصرف من بعد ضعف الصغر والطفولة ، ثم أحدث لكم الضعف بالهرم والكبر ، بعد أن كنتم أقوياء فى شبابكم - قادر أن يعيدكم مرة أخرى بعد البلى ، وبعد أن تكونوا عظاما نخرة.
والخلاصة : إن تنقل الإنسان فى أطوار الخلق حالا بعد حال من ضعف إلى قوة ، ثم من قوة إلى ضعف - دليل على قدرة الخالق الفعّال لما يشاء ، الذي لا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء ، ولا يعجزه أن يعيدكم كرّة أخرى.
(يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) أي يخلق ما يشاء من ضعف وقوة ، وشباب وشيب وهو العليم بتدبير خلقه ، القدير على ما يشاء ، لا يمتنع عليه شىء أراده ، وهو كما يفعل هذا قادر على أن يميت خلقه ويحييهم إذا شاء :
[سورة الروم (30) : الآيات 55 الى 57]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
تفسير المفردات
الساعة الأولى : يوم القيامة سميت بذلك لأنها تقوم فى آخر ساعة من ساعات لدنيا ، ما لبثوا : أي ما أقاموا بعد الموت ، غير ساعة : أي غير قطعة قليلة من الزمان(21/66)
ج 21 ، ص : 66
يؤفكون : أي يصرفون عن الحق ، المعذرة : العذر ، يستعتبون : أي يطلب منهم إزالة عتب اللّه وغضبه عليهم بالتوبة والطاعة ، فقد حق عليهم العذاب ، يقال :
استعتبني فلان فأعتبته : أي استرضانى فأرضيته.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف بدء النشأة الأولى ، وذكر الإعادة والبعث ، وأقام عليه الأدلة فى شتى السور وضرب له الأمثال - أردف ذلك ذكر أحوال البعث وما يجرى فيه من الأفعال والأقوال من الأشقياء والسعداء ليكون فى ذلك عبرة لمن يدّكر.
الإيضاح
(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) أي ويوم تجئ ساعة البعث ، فيبعث اللّه الخلق من قبورهم ، يقسم المجرمون الذين كانوا يكفرون باللّه فى الدنيا ، ويكتسبون فيها الآثام ، إنهم ما أقاموا فى قبورهم إلا قليلا من الزمان ، وهذا استقلال منهم لمدة لبثهم فى البرزخ على طولها ، وهم قد صرفوا فى الآخرة عن معرفة مدة مكثهم فى ذلك الحين.
(كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) أي كذبوا فى قولهم ما لبثنا غير ساعة ، كما كانوا فى الدنيا يحلفون على الكذب وهم يعلمون. والكلام مسوق للتعجب من اغترارهم بزينة الدنيا وزخرفها ، وتحقير ما يتمتعون به من مباهجها ولذاتها ، كى يقلعوا عن العناد ، ويرجعوا إلى سبل الرشاد ، وكأنه قيل : مثل ذلك الكذب العجيب كانوا يكذبون فى الدنيا اغترارا بما هو قصير الأمد من اللذات وزخارف الحياة.
ثم ذكر توبيخ المؤمنين لهم وتهكمهم بهم :
(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) أي وقال(21/67)
ج 21 ، ص : 67
الذين أوتوا العلم بكتاب اللّه والإيمان باللّه لأولئك المنكرين : لقد لبثتم من يوم مماتكم إلى يوم البعث فى قبوركم.
وفى هذا رد عليهم وعلى ما حلفوا عليه ، وإطلاع لهم على الحقيقة.
ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على ؟ ؟ ؟ البعث بقولهم :
(فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي فهذا هو اليوم الذي أنكرتموه فى الدنيا ، وزعمتم أنه لن يكون لتفريطكم فى النظر وغفلتكم عن الأدلة المتظاهرة عليه.
ولما كانت الأدلة تترى على أن الدنيا دار عمل ، وأن الآخرة دار جزاء ، ذكر أن المعاذير لا تجدى فى هذا اليوم ، فلا يجابون إلى ما طلبوا من الرجوع إلى الدنيا ، لإصلاح ما فسد من أعمالهم ، فقال :
(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي ففى هذا اليوم لا تنفع هؤلاء المجرمين معاذيرهم عما فعلوا ، كقولهم : ما علمنا أن هذا اليوم كائن ، ولا أنا نبعث فيه ، ولا هم يرجعون إلى الدنيا ليتوبوا ، لأن التوبة لا تقبل حينئذ فالوقت وقت جزاء لا وقت عمل ، وقد حقت عليهم كلمة ربهم « لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ » والخلاصة : إنهم لا يعاتبون على سيئاتهم ، بل يعاقبون عليها.
ونحو الآية قوله : « وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ » .
[سورة الروم (30) : الآيات 58 الى 60]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)(21/68)
ج 21 ، ص : 68
المعنى الجملي
بعد أن ذكر من الأدلة على الوحدانية والبعث ما ذكر ، وأعاد وكرر ، بشتى البراهين ، وبديع الأمثال - أردف ذلك أنه لم يبق بعد هذا زيادة لمستزيد ، وأن الرسول صلى اللّه عليه وسلم قد أدى واجبه ، وأن من طلب شيئا بعد ذلك فهو معاند مكابر ، فإن من كذّب الدليل الواضح اللائح ، لا يصعب عليه تكذيب غيره من الدلائل.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفمّ طعم الماء من سقم
الإيضاح
(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي ولقد أوضحنا لهم الحق ، وضربنا لهم الأمثال الدالة على وحدانية الخالق الرازق ، وعلى البعث وصدق الرسول ، ليستبينوا الحق ويتبعوه ، لكنهم أعرضوا عن ذلك استكبارا وعنادا كما أشار إلى ذلك بقوله :
(وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي واللّه لئن جئتهم بالآيات لا يؤمنون بها ، بل يعتقدون أنها سحر مفترى ، وما هى إلا أساطير الأولين.
ونحو هذا قوله : « إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ » .
(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي كذلك يختم اللّه على قلوب الذين لا يعلمون حقيقة ما تأتيهم به من العبرة والعظات ، والآيات البينات ، فلا يفقهون الأدلة ولا يفهمون ما يتلى عليهم من آي الكتاب لسوء استعدادهم ، ولما دسوابه أنفسهم من سوء القول والفعل ، فهم فى طغيانهم يعمهون.
ثم ختم السورة بأمر الرسول بالصبر على أذاهم ، وعدم الالتفات إلى عنادهم ، فقال :
(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي فاصبر أيها الرسول على ما ينالك من أذى(21/69)
ج 21 ، ص : 69
المشركين ، وبلغهم رسالة ربك ، فإن وعده الذي وعدك من النصر عليهم والظفر بهم ، وتمكينك وتمكين أصحابك وأتباعك فى الأرض - حق لا شك فيه ، وليكونن لا محالة.
(وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) أي ولا يحملنك الذين لا يوقنون بالميعاد ولا يصدقون بالبعث بعد الممات - على الخفة والقلق ، فيثبطوك عن أمر اللّه والقيام بما كلفك به من تبليغ رسالته.
وفى هذا إرشاد لنبيه صلى اللّه عليه وسلم ، وتعليم له ، بأن يتلقى المكاره بصدر رحب ، وسعة حلم.
أخرج ابن أبى شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي أن رجلا من الخوارج نادى عليا وهو فى صلاة الفجر فقال : « وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ » فأجابه وهو فى الصلاة :
« فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ »
.
ولا عجب من صدور مثل هذا الجواب على البديهة من على كرم اللّه وجهه ، وهو مدينة العلم.
وصل ربنا على محمد وآله الكرام ، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.(21/70)
ج 21 ، ص : 70
خلاصة ما احتوت عليه السورة الكريمة من الموضوعات
(1) إثبات النبوة بالإخبار بالغيب.
(2) البراهين الدالة على الوحدانية.
(3) الاعتبار بما حدث للمكذبين من قبلهم.
(4) الأدلة التي فى الآفاق شاهدة على وحدانية اللّه وعظيم قدرته.
(5) الأدلة على صحة البعث.
(6) ضرب الأمثال على أن الشركاء لا يجدونهم فتيلا ولا قطميرا يوم القيامة.
(7) الأمر بعبادة اللّه وحده وهى الفطرة التي فطر الناس عليها.
(8) النهى عن اتباع المشركين الذين فرقوا دينهم بحسب أهوائهم.
(9) من طبيعة المشرك الإنابة إلى اللّه إذا مسه الضر ، والإشراك به حين الرخاء.
(10) من دأب الناس الفرح بالنعمة والقنوط حين الشدة. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
(11) الأمر بالتصدق على ذوى القربى والمساكين وابن السبيل.
(12) الدلائل التي وضعها سبحانه فى الأنفس شاهدة على وحدانيته.
(13) للخير والشر فائدة تعود إلى المرء يوم تجزى كل نفس بما كسبت.
(14) فى النظر فى آثار المكذبين عبرة لمن اعتبر.
(15) تسلية الرسول على عدم إيمان قومه بأنهم صم عمى لا يسمعون ولا يبصرون.
(16) بيان أن الكافرين يكذبون فى الآخرة كما كانوا يكذبون فى الدنيا.
(17) الإرشاد إلى أن الرسول قد بلغ الغاية فى الإعذار والإنذار ، وأن قومه قد بلغوا الغاية فى التكذيب والإنكار.
(18) أمره صلى اللّه عليه وسلم بإدامة التبليغ مهما لاقى من الأذى ، فإن العاقبة والنصر له ، والخذلان لمن كذب به.(21/71)
ج 21 ، ص : 71
سورة لقمان
هى مكية إلا الآيات 28 ، 29 ، 30 فمدنية ، فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة قال له أحبار اليهود : بلغنا أنك تقول : « وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا » أ عنيتنا أم قومك ؟ قال : كلّا عنيت ، فقالوا : إنك تعلم أننا أوتينا التوراة وفيها بيان كل شىء ، فقال عليه الصلاة والسلام ذلك فى علم اللّه قليل ، فأنزل اللّه هؤلاء الآيات.
وآيها أربع وثلاثون ، نزلت بعد الصافات.
وسبب نزولها أن قريشا سألت النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قصة لقمان مع ابنه وعن برّه والديه ، فنزلت.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه :
(1) إنه تعالى قال فى السورة السالفة : « وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ » وأشار إلى ذلك فى مفتتح هذه السورة.
(2) إنه قال فى آخر ما قبلها : « وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ » وقال فى هذه : « وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً » .
(3) إنه قال فى السورة السابقة : « وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ » وقال هنا : « ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ » ، ففى كلتيهما إفادة سهولة البعث.
(4) إنه ذكر هناك قوله : « وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ » ، وقال هنا : « وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ » فذكر فى كل من الآيتين قسما لم يذكره فى الآخر.(21/72)
ج 21 ، ص : 72
(5) إنه ذكر فى السورة التي قبلها محاربة ملكين عظيمين لأجل الدنيا ، وذكر هنا قصة عبد مملوك زهد فيها ، وأوصى ابنه بالصبر والمسألة ، وذلك يقتضى ترك المحاربة ، وبين الأمرين التقابل وشاسع البون كما لا يخفى
[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
الإيضاح
(الم) تقدم تفسير هذا مرارا بإسهاب.
(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي هذه آيات الكتاب الحكيم بيانا وتفصيلا.
(هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي هذه آيات الكتاب الهادي من الزيغ ، الشافي من الضلال ، لمن أحسنوا العمل ، وانبعوا الشريعة ، فأقاموا الصلاة على الوجه الأكمل ، الذي رسمه الدين فى أوقاتها ، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها ، وأيقنوا بالجزاء فى الدار الآخرة ، ورغبو إلى اللّه فى ثواب ذلك لم يراءوا به ، ولا أرادوا به جزاء ولا شكورا.
ولما كان المتصفون بهذه الخلال هم الغاية فى الهداية والفلاح قال :
(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي إن هؤلاء الذين ذكرت أوصافهم على نور من ربهم ، وأولئك الذين رجوا ما أمّلوا من ثوابه يوم القيامة ، وقد تقدم مزيد إيضاح لهذا أول سورة البقرة.
[سورة لقمان (31) : الآيات 6 الى 7]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7)(21/73)
ج 21 ، ص : 73
تفسير المفردات
المراد بلهو الحديث : الجواري المغنيات ، وكتب الأعاجم ، وقد اشتريت حقيقة.
وقال ابن مسعود : لهو الحديث : الرجل يشترى جارية تغنيه ليلا ونهارا ،
وعن ابن عمر « أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول فى لهو الحديث : إنما ذلك شراء الرجل اللعب والباطل » ،
وسبيل اللّه : هو دينه ، والهزو : السخرية ، مهين : أي تلحقهم به الإهانة ، وقرا : أي صمما يمنعهم من السماع.
المعنى الجملي
بعد أن بين حال السعداء الذين يهتدون بكتاب اللّه ، وينتفعون بسماعه وهم الذين قال اللّه فيهم : « اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ » - أردف ذلك ذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام اللّه ، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب.
روى عن ابن عباس أن الآية نزلت فى النضر بن الحارث اشترى قينة (مغنية) وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق بها إليه ، فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ، ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام ، وأن تقاتل بين يديه.
وروى عن مقاتل أنه كان يخرج تاجرا إلى فارس ، فيشترى كتب الأعاجم فيرويها ويحدّث بها قريشا ، ويقول لهم : إن محمدا يحدثكم. حديث عاد وثمود ، وأنا أحدثكم(21/74)
ج 21 ، ص : 74
حديث رستم وإسفنديار ، وأخبار الأكاسرة ، فيستملحون حديثه ويتركون سماع القرآن.
الإيضاح
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً) أي ومن الناس فريق يتخذ ما يتلهّى به عن الحديث النافع للإنسان فى دينه ، فيأتى بالخرافات والأساطير والمضاحيك وفضول الكلام ، كالنضر بن الحارث الذي كان يشترى الكتب ، ويحدّث بها الناس ، وربما اشترى الفتيات ، وأمرهن بمعاشرة من أسلم ، ليحملهم على ترك الإسلام ، وما مقصده من ذلك إلا الإضلال ، والصد عن دين اللّه وقراءة كتابه ، واتخاذه هزوا ولعبا.
وعن نافع قال « كنت أسير مع عبد اللّه بن عمر فى الطريق ، فسمع مزمارا ، فوضع أصبعيه فى أذنيه ، وعدل عن الطريق ، فلم يزل يقول : يا نافع أ تسمع ؟ قلت :
لا ، فأخرج أصبعيه من أذنيه ، وقال : هكذا رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صنع » .
وعن ابن عوف أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة لهو ومزامير شيطان. وصوت عند مصيبة خمش وجوه ، وشق جيوب ، ورنة شيطان » .
والخلاصة : إن سماع الغناء الذي يحرك النفوس ، ويبعثها على اللهو والمجون بكلام يشبب فيه بذكر النساء ، ووصف محاسنهن ، وذكر الخمور والمحرمات ، لا خلاف فى تحريمه ، أما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه فى أوقات الفرح : كالعرس والعيد ، وحين التنشيط على الأعمال الشاقة ، كما كان فى حفر الخندق وحدو أنجشه (عبد أسود كان يقود راحلة نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم عام حجة الوداع) فأما ما ابتدعه الصوفية من الإدمان على سماع المغانى بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام ، وأما طبل الحرب فلا حرج فيه ، لأنه يقيم النفوس ، ويرهب العدو ،(21/75)
ج 21 ، ص : 75
فقد ضرب بين يدى النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم دخل المدينة ، فهمّ أبو بكر بالزجر ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح » فكنّ يضربن ويقلن : نحن بنات النجار ، حبذا محمد من جار.
ولا بأس من استعمال الطبل والدف فى النكاح. وكذا الآلات المشهرة به والغناء بما يحسن من الكلام مما لا رفث فيه.
وسماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم لا يجوز.
ثم بين عاقبة أمرهم ، فقال :
(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي إنه كتب لهم العذاب والخزي يوم القيامة ، لأنهم لما أهانوا الحق باختيارهم الباطل - جوزوا بإهانتهم يوم الجزاء بعذاب يفضحهم ويخزيهم أمام الخلائق :
ثم أشار سبحانه إلى أن هذا داء قد استشرى فى نفسه ، فكلما تليت عليه آية ازداد إباء ونفورا ، فقال :
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) أي وإذا تتلى آيات الكتاب الكريم على هذا الذي اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل اللّه - يعرض عن سماعها ويولّى مستكبرا ، كأن لم يسمعها ، كأن فى أذنيه ثقلا ، فلا يصيخ لها ، ولا يأبه لتلقّفها وتأملها.
ونحو الآية قوله : « قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى » .
ولما تسبب عن ذلك استحقاقه لما بزيل كبره وعظمته قال :
(فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي فبشر هذا المعرض وأوعده بالعذاب الذي يؤلمه ويقض مضجعه يوم القيامة.(21/76)
ج 21 ، ص : 76
[سورة لقمان (31) : الآيات 8 الى 9]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال من أعرض عن الآيات وبيّن مآله - عطف على ذلك ذكر مآل من قبل تلك الآيات وأقبل على تلاوتها والانتفاع بها.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ. خالِدِينَ فِيها) أي إن الذين آمنوا باللّه وصدقوا المرسلين ، وعملوا الأعمال الصالحة ، فأتوا بما أمرهم به ربهم فى كتابه على لسان رسله ، وانتهوا عما نهاهم عنه - لهم جنات ينعمون فيها بأنواع اللذات والمسارّ من المآكل والمشارب ، والملابس والمراكب ، مما لم يخطر لأحدهم ببال ، وهم فيها مقيمون دائما لا يظعنون ، ولا يبغون عنها حولا.
(وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا) أي ما أخبرنا به كائن لا محالة ، لأنه وعد اللّه الذي لا يخلف وعده وهو الكريم المنّان على عباده.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو الشديد فى انتقامه من أهل الشرك به ، الصادّين عن سبيله ، الحكيم فى تدبير خلقه ، فلا يفعل إلا ما فيه الحكمة والمصلحة لهم.
[سورة لقمان (31) : الآيات 10 الى 11]
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)(21/77)
ج 21 ، ص : 77
تفسير المفردات
العمد : واحدها عماد ، وهو ما يعمد به أي يسند به ، تقول : عمدت الحائط إذا دعمته ، رواسى : أي جبالا ثوابت ، تميد : أي تضطرب ، والبثّ : الإثارة والتفريق كما قال : « كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ » والمراد الإيجاد والإظهار : وزوج : أي صنف ، كريم :
أي شريف كثير المنفعة.
المعنى الجملي
بعد أن أبان فيما سلف كمال قدرته وعلمه وإتقان عمله - أردف ذلك الاستشهاد لما سلف بخلق السموات والأرض وما بعده ، مع تقرير وحدانيته ، وإبطال أمر الشرك ، وتبكيت أهله.
الإيضاح
(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) أي ومن الأدلة على قدرته البالغة ، وحكمته الظاهرة أن خلق السموات السبع بغير عمد تستند إليه ، بل هى قائمة بقدرة الحكيم الفعال لما يشاء ، وقد تقدم تفصيل ذلك فى سورة الرعد.
(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي وجعل على ظهر الأرض ثوابت الجبال ، لئلا تضطرب بكم ، وتميد بالمياه المحيطة بها ، الغامرة لأكثرها.
(وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) أي وذرأ فيها من أصناف الحيوان ما لا يعلم عددها ومقادير أشكالها وألوانها إلا الذي فطرها.
(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) أي وأنزلنا من السماء مطرا فكان ذلك سببا لإنبات كلّ صنف كريم من النبات ذى المنافع الكثيرة.
ثم بكتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه اللّه وأنشأه ، فأرونى ماذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة فقال :
(هذا خَلْقُ اللَّهِ) أي هذا الذي تشاهدونه من السموات والأرض وما فيهما من الخلق - خلق اللّه وحده دون أن يكون له شريك فى ذلك.(21/78)
ج 21 ، ص : 78
(فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ؟ ) أي فأخبرونى أيها المشركون الذين تعبدون هذه الأصنام والأوثان : أىّ شىء خلق الذين من دونه مما اتخذتموهم شركاء له سبحانه فى العبادة ، حتى استحقوا به العبودية ، كما استحق ذلك عليكم خالفكم وخالق هذه لأشياء التي عددتها لكم ؟ .
ثم انتقل من توبيخهم بما ذكر إلى تسجيل الضلال عليهم ، المستدعى للإعراض عنهم ، وعدم مخاطبتهم بالمعقول من القول لاستحالة أن يفهموا منه شيئا فيهتدوا إلى بطلان ما هم عليه ، فقال :
(بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي بل المشركون باللّه ، العابدون معه غيره فى جهل وعمى واضح لا اشتباه فيه لمن تأمله ونظر فيه ، فأنّى لهم أن يرعووا عن غىّ أو يهتدوا إلى رشد وحق ؟ .
[سورة لقمان (31) : آية 12]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
تفسير المفردات
لقمان كان نجارا أسود من سودان مصر ذا مشافر آتاه اللّه الحكمة ، ومنحه النبوة.
والحكمة : العقل والفطنة ، وقد نسب إليه من المقالات الحكيمة شىء كثير ، كقوله لابنه : أي بنىّ إن الدنيا بحر عميق ، وقد غرق فيها ناس كثيرون ، فاجعل سفينتك فيها تقوى اللّه تعالى ، وحشوها الإيمان ، وشراعها التوكل على اللّه ، لعلك تنجو ، ولا أراك ناجيا.
وقوله : من كان له من نفسه واعظ ، كان له من اللّه حافظ ، ومن أنصف الناس من نفسه ، زاده اللّه بذلك عزا ، والذل فى طاعة اللّه ، أقرب من التعزز بالمعصية.
وقوله : يا بنىّ لا تكن حلوا فتبتلع ، ولا مرّا فتلفظ.(21/79)
ج 21 ، ص : 79
وقوله : يا بنى إذا أردت أن تواخى رجلا فأغضبه قبل ذلك ، فإن أنصفك عند غضبه فآخه ، وإلا فاحذره.
والشكر : الثناء على اللّه تعالى ، وإصابة الحق ، وحب الخير للناس ، وتوجيه الأعضاء وجميع النعم لما خلقت له.
المعنى الجملي
بعد أن بين فساد اعتقاد المشركين بإشراك من لا يخلق شيئا بمن خلق كل شىء ، ثم بين أن المشرك ظالم ضالّ - أعقب ذلك ببيان أن نعمه الظاهرة فى السموات والأرض ، والباطنة : من العلم والحكمة ترشد إلى وحدانيته ، وقد آتاها لبعض عباده كلقمان الذي فطر عليها دون نبىّ أرشده ، ولا رسول بعث إليه.
الإيضاح
(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) أي ولقد أعطى سبحانه لقمان الحكمة ، وهى شكره وحمده على ما آتاه من فضله بالثناء عليه بما هو أهل له ، وحب الخير للناس ، وتوجيه الأعضاء إلى ما خلقت له.
(وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأن اللّه يجزل له على شكره الثواب ، وينقذه من العذاب كما قال : « وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ » .
(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي ومن كفر نعم اللّه عليه ، فإلى نفسه أساء ، لأن اللّه معاقبه على كفرانه إياها ، واللّه غنى عن شكره ، لأن شكره لا يزيد فى سلطانه ، وكفرانه لا ينقص من ملكه ، وهو المحمود على كل حال ، كفر العبد أو شكر.
[سورة لقمان (31) : الآيات 13 الى 19]
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)(21/80)
ج 21 ، ص : 80
تفسير المفردات
العظة : تذكير بالخير يرقّ له القلب ، والوهن : الضعف ، والفصال : الفطام ، جاهداك : أي حرصا على متابعتك لهما فى الكفر ، أناب : أي رجع ، المثقال :
ما يوزن به غيره ، ومثقال حبة الخردل مثل فى الصغر ، لطيف : أي يصل علمه إلى كل خفىّ ، خبير : أي عليم بكنه الأشياء وحقائقها ، من عزم الأمور : أي من الأمور المعزومة التي قطعها اللّه قطع إيجاب ، تصعير الخد : ميله وإبداء صفحة الوجه ، وهو من فعل المتكبرين ، قال أعرابى : وقد أقام الدهر صعرى بعد أن أقمت صعره ، وقال عمرو بن حنىّ التغلبي :
وكنا إذا الجبار صعّر خدّه أقمنا له من ميله فتقوّما(21/81)
ج 21 ، ص : 81
وفى الحديث : « يأتى على الناس زمان ليس فيهم إلا أصعر أو أبتر »
والأصعر :
المعرض بوجهه كبرا ،
وفى الحديث « كل صعّار ملعون »
أي كل ذى أبهة وكبر هو كذلك. مرحا : أي فرحا وبطرا ، والمختال : هو الذي يفعل الخيلاء وهى التبختر فى المشي كبرا ، والفخور : من الفخر وهو المباهاة بالمال والجاه ونحو ذلك ، اقصد : أي توسط ، اغضض : أي انقص منه وأقصر ، من قولهم : فلان يغضّ من فلان إذا قصّر به ووضع منه وحط من قدره ، أنكر الأصوات : أي أقبحها وأصعبها على السمع من نكر (بالضم) نكارة ، أي صعب.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن لقمان أوتى الحكمة ، فشكر ربه على نعمه المتظاهرة عليه وهو يرى آثارها فى الآفاق والأنفس آناء الليل وأطراف النهار - أردف ذلك ببيان أنه وعظ ابنه بذلك أيضا ، ثم استطرد فى أثناء هذه المواعظ إلى ذكر وصايا عامة وصّى بها سبحانه الأولاد فى معاملة الوالدين رعاية لحقوقهم ، وردّا لما أسدوه من جميل النعم إليهم ، وهم لا يستطيعون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ، على ألا يتعدى ذلك إلى حقوقه تعالى ، ثم رجع إلى ذكر بقية المواعظ التي يتعلق بعضها بحقوقه ، وبعضها يرجع إلى معاملة الناس بعضهم مع بعض.
الإيضاح
(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) أي واذكر أيها الرسول الكريم موعظة لقمان لابنه ، وهو أشفق الناس عليه ، وأحبهم لديه حين أمره أن يعبد اللّه وحده ، ونهاه عن الشرك ، وبين له أنه ظلم عظيم أما كونه ظلما ، فلما فيه من وضع الشيء فى غير موضعه ، وأما أنه عظيم ، فلما فيه من التسوية بين من لا نعمة إلا منه ، وهو سبحانه وتعالى ، ومن لا نعمة لها ، وهى الأصنام والأوثان.(21/82)
ج 21 ، ص : 82
روى البخاري عن ابن مسعود قال : لما نزل قوله تعالى : « الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ » شق ذلك على أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقالوا : أيّنا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إنه ليس بذلك. ألا تسمعون لقول لقمان : « يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ » .
وبعد أن ذكر سبحانه ما أوصى به لقمان ابنه من شكر المنعم الأول الذي لم يشركه فى إيجاده أحد ، وذكر ما فى الشرك من الشناعة أتبعه بوصيته الولد بالوالدين لكونهما السبب فى وجوده ، فقال :
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) أي وأمرناه ببرهما وطاعتهما ، والقيام بحقوقهما ، وكثيرا ما يقرن القرآن بين طاعة اللّه وبر الوالدين كقوله : « وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً » .
ثم ذكر منّة الوالدة خاصة لما فيها من كبير المشقة ، فقال :
(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) أي حملته وهى فى ضعف يتزايد بازدياد ثقل الحمل إلى حين الطلق ، ثم مدة النفاس.
ثم أردفها ذكر منه أخرى ، وهى الشفقة عليه وحسن كفالته حين لا يملك لنفسه شيئا ، فقال :
(وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) أي وفطامه من الرضاع بعد وضعه فى عامين تقاسى فيهما الأم فى رضاعه وشئونه فى تلك الحقبة جمّ المصاعب والآلام التي لا يقدر قدرها إلا العليم بها ، ومن لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء.
وقد وصى بالوالدين لكنه ذكر السبب فى جانب الأم فحسب ، لأن المشقة التي تلحقها أعظم ، فقد حملته فى بطنها ثقيلا ، ثم وضعته وربته ليلا ونهارا ، ومن ثم
قال صلى اللّه عليه وسلم لمن سأله من أبرّ ؟ : أمك ، ثم أمك ، ثم أمك ، ثم قال بعد ذلك : ثم أباك.(21/83)
ج 21 ، ص : 83
ثم فسر هذه الوصية بقوله :
(أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) أي وعهدنا إليه أن اشكر لى على نعمى عليك ، ولوالديك ، لأنهما كانا السبب فى وجودك ، وإحسان تربيتك ، وملاقاتهما ما لا قيا من المشقة حتى استحكمت قواك.
ثم علل الأمر بشكره محذّرا إياه بقوله :
(إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي إلىّ الرجوع ، لا إلى غيرى ، فأجازيك على ما صدر منك مما يخالف أمرى ، وسائلك عما كان من شكرك لى على نعمى عليك ، وعلى ما كان من شكرك لوالديك وبرّك بهما.
وبعد أن ذكر سبحانه وصيته بالوالدين وأكد حقهما ، ووجوب طاعتهما استثنى من ذلك حقوقه تعالى ، فإنه لا يجب طاعتهما فيما يغضبه ، فقال :
(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) أي وإن ألحف عليك والداك فى الطلب ، وشدّ النكير عليك ، بأن تشرك بي فى عبادتى غيرى مما لا تعلم أنه شريك لى ، فلا تطعهما فيما أمراك به ، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به.
روى أن هذه الآية نزلت فى سعد بن أبى وقاص قال : « لما أسلمت حلفت أمي لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا ، فناشدتها أول يوم فأبت وصبرت ، فلما كان اليوم الثاني ناشدتها فأبت ، فلما كان اليوم الثالث ناشدتها فأبت ، فقلت : واللّه لو كانت لك مائة نفس لخرجت قبل أن أودع دينى هذا ، فلما رأت ذلك وعرفت أنى لست فاعلا أكلت » .
(وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) أي وصاحبهما فى أمور الدنيا صحبة يرتضيها الدين ، ويقتضيها الكرم والمروءة ، بإطعامهما وكسوتهما ، وعدم جفائهما وعيادتهما إذا مرضا ، ومواراتهما فى القبر إذا ماتا.(21/84)
ج 21 ، ص : 84
وقوله : (فِي الدُّنْيا) إشارة إلى تهوين أمر الصحبة ، لأنها فى أيام قلائل وشيكة الانقضاء ، فلا يصعب تحمل مشقتها.
ولما كان ذلك قد يجر إلى نوع وهن فى الدين ببعض محاباة فيه نفى ذلك بقوله :
(وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ) أي واسلك سبيل من تاب من شركه ورجع إلى الإسلام ، واتبع محمدا صلى اللّه عليه وسلم.
والخلاصة : واتبع سبيلى بالتوحيد ، والإخلاص والطاعة ، لا سبيلهما.
(ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم مصيركم إلىّ بعد مماتكم ، فأخبركم بما كنتم تعملون فى الدنيا من خير وشر ، ثم أجازيكم عليه ، المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته.
ثم عاد إلى ذكر بقية وصايا لقمان لابنه بعد أن نهى فى مطلعها عن الشرك وأكده بالاعتراض الذي ذكره بقوله :
(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) أي يا بنى إن الفعلة من الإساءة والإحسان إن تك وزن حبة من خردل فتكن فى أخفى مكان وأحرزه كجوف الصخرة أو فى أعلى مكان كالسموات أو فى أسفله كباطن الأرض - يحضرها اللّه يوم القيامة ، حين يضع الموازين القسط ، ويجازى عليها إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، كما قال تعالى : « وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً » .
(إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أي إن اللّه لطيف يصل علمه إلى كل خفى ، خبير : يعلم ظواهر الأمور وخوافيها.
(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) أي أدها كاملة على النحو المرضى ، لما فيها من رضا الرب بالإقبال عليه والإخبات له ، ولما فيها من النهى عن الفحشاء والمنكر ، وإذا تم ذلك صفت النفس وأنابت إلى بارئها فى السراء والضراء كما
جاء فى الحديث : « اعبد اللّه كأنك كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك » .(21/85)
ج 21 ، ص : 85
وبعد أن أمره بتكميل نفسه توفية لحق اللّه عليه عطف على ذلك تكميله لغيره ، فقال :
(وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) أي وأمر غيرك بتهذيب نفسه قدر استطاعتك ، تزكية لها ، وسعيا إلى الفلاح ، كما قال : « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها » .
(وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي وانه الناس عن معاصى اللّه ومحارمه التي توبق من اكتسبها ، وتلقى به فى عذاب السعير ، فى جهنم وبئس المصير.
(وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من أذى الناس فى ذات اللّه إذا أنت أمرتهم بالمعروف أو نهيتهم عن المنكر.
وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة ، وختمها بالصبر ، لأنهما عمادا لاستعانة إلى رضوان اللّه كما قال : « وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ » .
ثم ذكر علة ذلك ، فقال :
(إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي إن ذلك الذي أوصيك به من الأمور التي جعلها اللّه محتومة على عباده لا محيص منها ، لما لها من جزيل الفوائد ، وعظيم المنافع ، فى الدنيا والآخرة ، كما دلت على ذلك تجارب الحياة ، وأرشدت إليه نصوص الدين.
وبعد أن أمره بأشياء حذره من أخرى ، فقال :
(1) (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) أي ولا تعرض بوجهك عمن تكلمه تكبرا واحتقارا له ، بل أقبل عليه بوجهك كله متهللا مستبشرا من غير كبر ولا عتوّ.
ومن هذا ما
رواه مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا ، وكونوا عباد اللّه إخوانا ، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث » .
(2) (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي ولا تمش فى الأرض مختالا متبخترا ، لأن تلك مشية الجبارين المتكبرين الذين يبغون فى الأرض ، ويظلمون الناس ، بل امش هونا ، فإن ذلك يفضى إلى التواضع ، وبذا تصل إلى كل خير.(21/86)
ج 21 ، ص : 86
روى يحيى بن جابر الطائي عن غضيف بن الحارث قال : « جلست إلى عبد اللّه ابن عمرو بن العاصي ، فسمعته يقول : إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه ، فيقول : يا بن آدم ما غرّك بي ؟ ألم تعلم أنى بيت الوحدة ؟ ألم تعلم أنى بيت الظلمة ؟ ألم تعلم أنى بيت الحق ؟ يا بن آدم ما غرك بي ؟ لقد كنت تمشى حولى فدّادا (ذا خيلاء وكبر) » .
وفى الحديث : « من جرّ ثوبه خيلاء لا ينظر اللّه إليه يوم القيامة » .
ثم ذكر علة هذا النهى بقوله :
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي إن اللّه لا يحب المختال المعجب بنفسه ، الفخور على غيره ، ونحو الآية ما مر من قوله : « وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا » .
(3) (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي وامش مشيا مقتصدا ليس بالبطىء المتثبّط ، ولا بالسريع المفرط ، بل امش هونا بلا تصنع ولا مراءاة للخلق ، بإظهار التواضع أو التكبر.
روى عن عائشة أنها نظرت إلى رجل كاد يموت تخافتا ، فقالت : ما لهذا ؟ فقيل :
إنه من القرّاء (الفقهاء العالمين بكتاب اللّه) قالت : كان عمر سيّد القراء ، وكان إذا مشى أسرع ، وإذا قال أسمع ، وإذا ضرب أوجع.
ورأى عمر رجلا متماوتا ، فقال له : لا تمت علينا ديننا ، أماتك اللّه. ورأى رجلا مطأطئا رأسه ، فقال له : « ارفع رأسك ، فإن الإسلام ليس بمريض » .
(وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أي وانقص منه وأقصر ، ولا ترفع صوتك حيث لا يكون إلى ذلك حاجة ، لأنه أوقر للمتكلم ، وأبسط لنفس السامع وفهمه.
ثم علل النهى وبيّنه بقوله :
(إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) أي إن أبشع الأصوات وأقبحها برفعها فوق(21/87)
ج 21 ، ص : 87
الحاجة بلا داع هو صوت الحمير ، وغاية من يرفع صوته أنه يجعله شبيها بصوت الحمار فى علوه ورفعه ، وهو البغيض إلى اللّه.
وفى ذلك ما لا يخفى من الذم ، وتهجين رفع الصوت ، والترغيب عنه ، ومن جعل الرافع صوته كأنه حمار مبالغة فى التنفير من عمله ، وهذا أدب من اللّه لعباده بترك الصياح وجوه الناس تهاونا بهم ، أو بترك الصياح جملة.
وقد كانت العرب تفخر بجهارة الصوت ، فمن كان منهم أشد صوتا كان أعز ، ومن كان أخفض كان أذل ، قال شاعرهم :
جهير الكلام جهير العطاس جهير الرواء جهير النّعم
ويعدو على الأين عدو الظّليم ويعلو الرجال بخلق عمم « 1 »
[سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 21]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21)
المعنى الجملي
بعد أن أقام الأدلة على التوحيد ، وذكر أن لقمان فهمه بالحكمة دون أن يرسل إليه نبىّ - عاد إلى خطاب المشركين وتوبيخهم على إصرارهم على ما هم عليه من الشرك مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد لائحة للعيان ، يشاهدونها فى كل آن ، فى السموات والأرض ، وتسخيرهم لما فيها مما فيه مصالحهم فى المعاش والمعاد ، وإنعامه عليهم بالنعم المحسوسة والمعقولة ، المعروفة لهم وغير المعروفة ثم أبان أن كثيرا من الناس يجادلون
__________________________________________________
(1) الرواء بالضم : المنظر الحسن ، والنعم : الإبل ، والأين : الإعياء. والخلق العمم : التام.(21/88)
ج 21 ، ص : 88
فى توحيد اللّه وصفاته بدون دليل عقلى على ما يدّعون ، ولا رسول أرسل إليهم بما عنه يناضلون ، ولا كتاب أنزل إليهم يؤيد ما يعتقدون ، وإذا هم أفحموا بالحجة والسلطان المبين ، لم يجدوا جوابا إلا تقليد الآباء والأجداد بنحو قولهم : « إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ » وما ذاك إلا من نزغات الشيطان ، والشيطان لا يدعو إلا إلى الضلال الموصّل إلى النار ، وبئس القرار.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) أي ألم تروا أيها الناس أن اللّه الذي سخر لكم ما فى السموات من شمس وقمر ، ونجوم ، تستضيئون بها ليلا ونهارا ، وتهتدون بها فى ظلمات البر والبحر ، وسحاب ينزل لكم الأمطار لسقى الناس والحيوان والمزارع المختلفة ، وما فى الأرض من الدوابّ والأشجار ، والمياه والبحار ، والسفن والمعادن التي فى باطنها ، إلى نحو ذلك من المنافع التي جعلها لغذائكم وأقواتكم ، فتتمتعون ببعض ذلك ، وتنتفعون بجميع ذلك ، وأتمّ عليكم نعمه محسوسة وغير محسوسة.
والخلاصة : إنه تعالى نبّه خلقه إلى ما أنعم به عليهم فى الدنيا والآخرة بأن سخر لهم ما فى السموات وما فى الأرض وأسبغ عليهم من النعم الظاهرة والباطنة ، فأرسل الرسل وأنزل الكتب وأزاح الشبه والعلل.
روى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لابن عباس وقد سأله عن هذه الآية :
« الظاهرة : الإسلام وما حسن من خلقك ، والباطنة : ما ستر عليك من سيئ عملك »
وقيل : الظاهرة الصحة وكمال الخلق ، والباطنة : المعرفة والعقل وقيل : الظاهرة :
ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال ، وتوفيق الطاعات ، والباطنة : ما يجده المرء فى نفسه من العلم باللّه ، وحسن اليقين ، وما يدفع عن العبد من الآفات.(21/89)
ج 21 ، ص : 89
ثم ذكر أنه مع كل هذه الأدلة الظاهرة قد مارى بعض الناس دون برهان من عقل ولا مستند من نقل ، فقال :
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي وهناك فريق من الناس يجادل فى توحيد اللّه وصفاته كالنضر بن الحارث وأبىّ بن خلف اللذين كانا يجادلان النبي صلى اللّه عليه وسلم فى ذلك بلا علم من عقل ، ولا مستند من حجة صحيحة ، ولا كتاب مأثور يؤيد صحة ما يدّعون.
ثم بين أنه لا مطمع فى إيمان مثل هؤلاء ، لأنهم قد بلغوا الغاية فى الغباوة ، واستسلموا للتقليد ، وتركوا الدليل وإن كان لائحا ظاهرا ، فقال :
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي وإذا قيل لهؤلاء المجادلين الجاحدين لوحدانية اللّه : اتبعوا ما أنزل اللّه على رسوله من الشرائع - لم يجدوا ردا لذلك إلا قولهم : إنا نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من دين ، فإنهم كانوا أهل حق ودين صحيح.
فوبخهم سبحانه على تلك المقالة التي هى من حبائل الشيطان ووساوسه فقال :
(أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ ؟ ) أي أ يتبعونهم على كل حال دون نظر إلى دليل ؟ فربما كان اعتقادهم مبنيا على الهوى وترّهات الأباطيل ، سداه ولحمته ما زينه لهم الشيطان من وساوس ، لا تستند إلى حجة ولا برهان.
والخلاصة - أما كان لهم أن يفكروا ويتدبروا حتى يعلموا الحق من الباطل ، والصواب من الخطأ ، فإن الرجال بالحق وليس الحق بالرجال ؟
وفى هذا ما لا يخفى من تسفيه عقولهم وتسخيف آرائهم ، وأنهم بلغوا الدّرك الأسفل فى هدم العقل ، وعدم الركون إلى الدليل مهما استبانت غايته ، واستقامت محجته(21/90)
ج 21 ، ص : 90
[سورة لقمان (31) : الآيات 22 الى 24]
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)
تفسير المفردات
يسلم وجهه : أي يفوّض أمره ، محسن : أي مطيع للّه فى أمره ونهيه ، والمراد بالعروة الوثقى ، أوثق العرى وأمتنها ، وهو مثل : وأصله أن من يرقى فى جبل شاهق أو يتدلى منه يستمسك بحبل متين مأمون الانقطاع ، نضطرهم : أي نلزمهم ، وغليظ :
أي ثقيل ثقل الأجرام الغلاظ.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حال المشرك المجادل فى اللّه بغير علم - أردف ذلك ذكر حال المستسلم المفوّض أموره إلى اللّه ، وبيان عاقبته ومآله ، ثم سلى رسوله على ما يلقاه من المشركين من العناد والكفران ، وبين له أنه قد بلّغ رسالات ربه وتلك وظيفة الرسل ، وعلى اللّه الحساب والجزاء ، فهو يجازيهم بما يستحقون من العذاب الغليظ فى جهنم وبئس المصير.
الإيضاح
(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ) أي ومن يعبد اللّه وهو متذلل خاضع مع الإحسان فى العمل بفعل الطاعات ، وترك المعاصي والمنكرات ، فقد تعلق بأوثق الأسباب التي توصل إلى رضوان ربه ومحبته ، وحسن جزائه على ما قدم من عمل صالح.(21/91)
ج 21 ، ص : 91
ثم بين العلة فى أنه يلقى الجزاء الأوفى فقال :
(وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي إن المصير إلى اللّه لا إلى غيره ، فلا يكوننّ لأحد إذ ذاك أمر ولا نهى ، ولا عقاب ولا ثواب ، فيجازى المتوكل عليه أحسن الجزاء ، ويعاقب المسيء أنكل العذاب.
ثم سلى رسوله على ما يلقاه من أذى المشركين وعنادهم فقال :
(وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) أي لا تحزن على كفرهم باللّه وبما جئت به ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ، فإن قدر اللّه نافذ فيهم.
ثم بين لرسوله أنه لا يهملهم على أعمالهم بل هو مجازيهم عليها فقال :
(إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي إن مصيرهم يوم القيامة إلينا فنخبرهم بما عملوا فى الدنيا من خبيث الأعمال حتى لا يكون هناك سبيل إلى الإنكار ثم نجازيهم على ذلك أشد الجزاء.
ثم بين أنه عادل فى الجزاء لسعة علمه وعظيم إحاطته بكل شىء فقال :
(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إنه تعالى يجازيهم بكل ما عملوا ، إذ لا تخفى عليه خافية.
ثم بين أن ما يمتعون به فى الدنيا عرض قليل وظل زائل لا ينبغى لعاقل أن يقيم له وزنا بجانب العذاب الدائم فقال :
(نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) أي نمهلهم فى الدنيا زمنا قليلا يتمتعون فيه بزخارفها ثم نلجئهم على كره منهم إلى عذاب شاقّ على نفوسهم.
ونحو الآية قوله : « قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ »(21/92)
ج 21 ، ص : 92
[سورة لقمان (31) : الآيات 25 الى 26]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
المعنى الجملي
بعد أن أقام الأدلة على وحدانيته تعالى بخلق السموات بلا عمد وبإسباغ نعمه الظاهرة والباطنة عليهم - أردف ذلك ببيان أن المشركين معترفون بذلك غير جاحدين له ، وهذا يستدعى أن يكون الحمد كله له وحده ، ومن يستحق الحمد هو الذي يستحق العبادة فأمرهم عجب يعلمون المقدمات ثم ينكرون النتيجة التي تستتبعها ، فيعبدون من لا يستحق عبادة ، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا من الأصنام والأوثان.
الإيضاح
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي ولئن سألت أيها الرسول هؤلاء المشركين باللّه من قومك : من خلق السموات والأرض ؟ ليقولن اللّه.
وفى هذا إيماء إلى أنه قد بلغ من الوضوح مبلغا لا يستطيعون معه الإنكار والجحود ولما استبان بذلك صدقه صلى اللّه عليه وسلم وكذبهم قال آمرا رسوله.
(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على إلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان ما هم عليه من إشراك غيره تعالى به فى العبادة التي لا يستخقها سوى الخالق المنعم على عباده.
ثم بين أنهم بلغوا الغاية فى الجهل فهم يعترفون بالشيء ويعملون نقيضه فقال :
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي بل أكثر المشركين لا يعلمون من له الحمد ، وأين موضع الشكر ، فهم مع تكذيبك يعترفون بما يوجب تصديقك.
ولما أثبت لنفسه الإحاطة بأوصاف الكمال استدل على ذلك بقوله :(21/93)
ج 21 ، ص : 93
(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي له سبحانه كل ما فى السموات والأرض ملكا وخلقا وتصرفا وليس ذلك لأحد سواه ، فلا يستحق العبادة فيهما غيره ، وهو الغنى عن عبادة جميع خلقه ، لأنهم ملكه وهم المحتاجون إليه المحمود على نعمه التي أنعمها عليهم.
[سورة لقمان (31) : الآيات 27 الى 28]
(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه أجرى الحكمة على لسان لقمان ، ثم قفى على ذلك ببيان أنه أسبغ نعمه على عباده ظاهرة وباطنة ، وأن له ما فى السموات وما فى الأرض - أردف ذلك ببيان أن تلك النعم وهذه المخلوقات لا حصر لها ، ولا يعلمها إلا خالقها كما قال : « وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها » .
ولما كانت تلك النعم لا نهاية لها ، وربما ظن أنها مبعثرة لا قانون لها ، أو أنها لكثرتها يصعب عليه تدبيرها وتصريف شئونها كما يريد - دفع هذا بقوله : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ).
روى أنه لما نزل بمكة قوله تعالى : « وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ » الآية وهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود وقالوا بلغنا أنك تقول :
« وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا » أ تعنينا أم تعنى قومك ؟ قال : كلّا عنيت : قالوا أ لست تتلو فيما جاءك أنا أوتينا التوراة فيها علم كل شىء ، فقال صلى اللّه عليه وسلم هى فى علم اللّه قليل ، وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم ، قالوا كيف تزعم هذا وأنت(21/94)
ج 21 ، ص : 94
تقول : « وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً » فكيف يجتمع علم قليل وخير كثير ، فنزلت الآية : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) إلخ.
الإيضاح
(وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ) أي ولو أن أفنان الأشجار وأغصانها بريت أقلاما وجعل البحر مدادا وأمدته سبعة أبحر والخلائق جميعا يكتبون بها كلمات اللّه الدالة على عظمته وجلاله لتكسرت الأقلام ونفد ماء البحر ولم تنفد كلمات اللّه :
ونحو الآية قوله « قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً » وإنما ذكرت السبعة الأبحر للدلالة على الكثرة ، لا لقصد هذا العدد بعينه ، فقد تقدم أن قلنا آنفا إن العرب تذكر السبعة والسبعين ، والسبعمائة ، وتريد بذلك الكثرة كما
جاء فى الحديث « سبعة يظلهم اللّه فى ظله يوم لا ظل إلا ظله »
وفى الآية : « مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ » .
وقصارى ذلك : إنه سبحانه أخبر أن عظمته وكبرياءه وجلاله وأسماءه الحسنى لا يحيط بها أحد ، ولا يصل البشر إلى معرفة كنهها وعدها كما
ورد فى الحديث : « سبحانك لا نحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك » .
(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إن اللّه قد عز كل شىء وقهره ، فلا مانع لما أراد ، ولا معقّب لحكمه ، وهو الحكيم فى خلقه وأمره ، وأقواله وأفعاله ، وشرعه وجميع شئونه.
ثم أبان أن هذا الخلق الذي لا حصر له محيط به علما ، ولا يعجزه شىء فيه متى أراد ، فقال :
(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) أي ما خلق جميع الناس ولا بعثهم(21/95)
ج 21 ، ص : 95
يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كخلق نفس واحدة ، فالكل هين عليه كما قال :
«
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » وقال « وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ » ، وقال « فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ » .
(إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي إن اللّه سميع لأقوال عباده ، بصير بأفعالهم.
[سورة لقمان (31) : الآيات 29 الى 32]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
تفسير المفردات
يولج : أي يدخل ، والمراد أنه يضيف الليل إلى النهار ، والعكس بالعكس ، فيتفاوت بذلك حال أحدهما زيادة ونقصانا ، تجرى أي تسير سيرا سريعا ، بنعمة اللّه أي بما تحمله من الطعام والمتاع ونحوهما ، غشيهم : أي غطاهم ، والظلل : واحدها ظلة ، وهى كما قال الراغب : السحابة تظلّ ، مقتصد : أي سالك للقصد أي للطريق المستقيم وهو التوحيد لا يعدل عنه إلى غيره ، وما يجحد : أي ما ينكر ، وختار : من الختر ، وهو أشد الغدر ، قال عمرو بن معد يكرب :
فإنك لو رأيت أبا عمير ملأت يديك من غدر وختر(21/96)
ج 21 ، ص : 96
وقال الأعشى :
بالأبلق الفرد من تيماء منزله حصن حصين وجار غير ختّار
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه سخر للانسان ما فى السموات وما فى الأرض - ذكر هنا بعض ما فيهما بقوله يولج الليل فى النهار إلخ ، وبعض ما فى السموات بقوله وسخر الشمس والقمر ، وبعض ما فى الأرض بقوله ألم تر أن الفلك تجرى فى البحر بنعمة اللّه ، ثم ذكر أن كل المشركين معترفون بتلك الآيات ، إلا أن البصير يدركها على الفور ، ومن فى بصيرته ضعف لا يدركها إلا إذا وقع فى شدة ، وأحدق به الخطر ، فهو إذ ذاك يعترف بأن كل شىء بإرادة اللّه.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي ألم تشاهد أيها الناظر بعينيك أن اللّه يزيد ما نقص من ساعات الليل فى ساعات النهار ، ويزيد ما نقص من ساعات النهار فى ساعات الليل.
والخلاصة : إنه يأخذ من الليل فى النهار ، فيقصر ذاك ويطول هذا ، وذاك فى مدة الصيف ، إذ يطول النهار إلى الغاية ، ثم يبتدئ النهار فى النقصان ، ويطول الليل إلى الغاية فى مدة الشتاء.
(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لمصالح خلقه ومنافعهم.
(كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي كل منهما يجرى بأمره إلى وقت معلوم ، وأجل محدد ، إذا بلغه كوّرت الشمس والقمر.
(وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي وأن اللّه بأعمالكم من خير وشر خبير بها لا تخفى عليه خافية من أمرها ، وهو مجازيكم بها.(21/97)
ج 21 ، ص : 97
ثم بين الحكمة فى إظهار آياته للناس ، فقال :
(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) أي إنما يظهر آياته للناس ليستدلوا بها على أنه هو المستحق للعبادة ، وأن كل ما سواه هو الباطل الذي يضمحلّ ويفنى ، فهو الغنى عما سواه ، وكل شىء فقير إليه.
(وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي وأنه تعالى المرتفع على كل شىء ، والمتسلط على كل شىء ، فكل شىء خاضع له ، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير.
وبعد أن ذكر الآيات السماوية الدالة على وحدانيته أشار إلى آية أرضية ، فقال :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) أي ألم تشاهد أيها الرسول السفن وهى تسير فى البحر حاملة للأقوات والمتاع ، من بلد إلى آخر ، ومن قطر إلى قطر هو فى حاجة إليها لينتفع الناس بما على ظاهر الأرض مما ليس فى أيديهم.
وفى هذا دليل على عجبب قدرته التي ترشدكم إلى أنه الحق الذي أوجد ما ترون من الأحمال الثقيلة على وجه الماء الذي ترسب فيه الإبرة فما دونها.
ثم ذكر من يستفيد من النظر فى الآيات ، فقال :
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن فيما ذكر لدلائل واضحات لكل صبار فى الضراء ، شكور فى الرخاء. قال الشعبي : الصبر نصف الإيمان ، والشكر نصف الإيمان ، واليقين الإيمان كله ، ألم تر إلى قوله : « إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ » . وقوله : « وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ » .
وقال عليه الصلاة والسلام : « الإيمان نصفان : نصف صبر ، ونصف شكر » .
ثم بين أن المشركين ينسون اللّه فى السراء ويلجئون إليه حين الضراء ، فقال :
(وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي وإذا أحاطت بالمشركين الذين يدعون من دون اللّه الآلهة والأوثان - الأمواج العالية كالجبال ، وأحدق بهم الخطر من كل جانب حين يركبون السفن - فزعوا بالدعاء إلى اللّه مخلصين له الطاعة لا يشركون به شيئا ، ولا يدعون معه أحدا سواه ، ولا يستغيثون بغيره.(21/98)
ج 21 ، ص : 98
(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) أي فلما نجوا من الأهوال التي كانوا فيها ، وخلصوا إلى البر ، فمنهم متوسط فى أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء ، موفّ بما عاهد عليه اللّه فى البحر ، ومنهم من غدر ونقض عهد الفطرة ، وكفر بأنعم اللّه عليه.
[سورة لقمان (31) : الآيات 33 الى 34]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
تفسير المفردات
اتقوا ربكم : أي خافوا عقابه ، لا يجزى : أي لا يغنى ، والغرور : ما غرّ الإنسان من مال وجاه ، وشهوة وشيطان ، والساعة : يوم القيامة ، ما فى الأرحام : أي ما فى أرحام النساء من صفاته وأحواله كالذكورة والأنوثة ، والحياة والموت ، وغيرها من الأعراض.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر دلائل التوحيد على ضروب مختلفة ، وأشكال منوّعة - أمر بتقوى اللّه على سبيل الموعظة والتذكير بيوم عظيم ، يوم يحكم اللّه بين عباده ، يوم لا تنفع فيه قرابة ، ولا تجدى فيه صلة رحم ، فلو أراد والد أن يفدى ابنه بنفسه لما قبل منه ذلك وهكذا الابن مع أبيه ، فلا تلهينكم الدنيا عن الدار الآخرة ، ولا يغرنكم الشيطان(21/99)
ج 21 ، ص : 99
فيزيننّ لكم بوساوسه المعاصي والآثام ثم ختم السورة بذكر ما استأثر اللّه بعلمه ، مما فى الكائنات ، وهى الخمس التي اشتملت عليها الآية الكريمة ، مما لم يؤت علمها ملك مقرّب ، ولا نبى مرسل.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) أي يا أيها المشركون من قريش وغيرهم ، اتقوا اللّه وخافوا أن يحل بكم سخطه فى يوم لا يغنى والد عن ولده ، ولا مولود هو مغن عن والده شيئا ، لأن الأمور كلها بيد من لا يغالب ، ومن لا تنفع عنده الشفاعة والوسائل التي تنفع فى الدنيا ، بل لا تجدى عنده إلا وسيلة واحدة ، هى العمل الصالح الذي قدمه المرء فى حياته الأولى.
ثم أكد ما سلف بقوله :
(إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي اعلموا أن مجىء هذا اليوم حق ، لأن اللّه قد وعد به ، ولا خلف لوعده.
ثم حذرهم من شيئين ، فقال :
(1) (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي فلا تخدعنّكم زينة هذه الحياة ولذاتها ، فتميلوا إليها وتدّعوا الاستعداد لما فيه خلاصكم من عقاب اللّه فى ذلك اليوم.
(2) (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) أي ولا يغرنكم الشيطان ، فيحملنّكم على المعاصي بتزيينها لكم ، ثم إرجاء التوبة إلى ما بعد ذلك ، ثم هو ينسينكم ذلك اليوم ، فلا تتخذنّ له زادا ، ولا تعدّنّه معادا.
ثم ذكر سبحانه خمسة أشياء لا يعلمها إلا هو ، فقال :
(1) (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) فلا يعلمها أحد سواه لا ملك مقرّب ، ولا نبى مرسل ، كما قال : « لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ » .
(2) (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) فى وقته المقدر له ، ومكانه المعين فى علمه تعالى ، والفلكيون وإن علموا الخسوف والكسوف ، ونزول الأمطار بالأدلة الحسابية ،(21/100)
ج 21 ، ص : 100
فليس ذلك غيبا ، بل بأمارات وأدلة تدخل فى مقدور الإنسان ، ولا سيما أن بعضها قد يكون أحيانا فى مرتبة الظن ، لا فى مرتبة اليقين.
(3) (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أذكر هو أم أنثى ، أ تامّ الخلق أم ناقصه ، أو نحو ذلك من الأحوال العارضة له.
(4) (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شر.
(5) (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أي لا يدرى أحد أين مضجعه من الأرض ؟ أ في بحر أم فى برّ ، أم فى سهل ، أم فى جبل.
(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي إن اللّه عليم بجميع الأشياء ، خبير ببواطنها كما هو خبير بظواهرها.
أخرج ابن المنذر عن عكرمة « أن رجلا يقال له : الوارث بن عمرو بن حارثة جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا محمد متى قيام الساعة ، وقد أجدبت بلادنا ، فمتى تخصب ؟ وقد تركت امرأتى حبلى فما تلد ؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غدا ؟
وقد علمت بأى أرض ولدت ، فبأى أرض أموت ، فنزلت الآية : إن اللّه عنده علم الساعة إلخ » .
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « مفاتيح الغيب خمس : إن اللّه عنده علم الساعة ، وينزل الغيث ، ويعلم ما فى الأرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا ، وما تدرى نفس بأى أرض تموت إن اللّه عليم خبير » .
وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.(21/101)
ج 21 ، ص : 101
مجمل ما حوته السورة الكريمة من الموضوعات
(1) القرآن هداية ورحمة للمؤمنين.
(2) قصص من ضل عن سبيل اللّه بغير علم ، واتخذ آيات اللّه هزوا.
(3) وصف العالم العلوي ، والعالم السفلى ، وما فيهما من العجائب الدالة على وحدانية اللّه.
(4) قصص لقمان وإيتاؤه الحكمة ، وشكره لربه على ذلك ، ثم نصائحه لابنه.
(5) الأمر بطاعة الوالدين إلا فيما لا يرضى الخالق.
(6) النعي على المشركين فى ركونهم إلى التقليد إذا دعوا إلى النظر فى الكون وعبادة الخالق له.
(7) لا نجاة للإنسان إلا بالإخبات للّه وعمل الصالحات.
(8) تسلية الرسول على عدم إيمان المشركين.
(9) تعجيب رسوله من المشركين بأنهم يقرون بأن اللّه هو الخالق لكل شىء ثم هم يعبدون معه غيره ممن هو مخلوق مثلهم.
(10) نعم اللّه ومخلوقاته لا حصر لها.
(11) الأمر بالنظر إلى الكون وعجائبه لنسترشد بذلك إلى وحدانية الصانع لها.
(12) تحميق المشركين بأنهم فى الشدائد يدعون اللّه وحده ، وفى الرخاء يشركون معه سواه.
(13) الأمر بالخوف من عقاب اللّه يوم لا يجزى والد عن ولده.
(14) مفاتيح الغيب الخمسة التي استأثر اللّه بعلمها.
(15) إحاطة علمه تعالى بجميع الكائنات ظاهرها وباطنها.(21/102)
ج 21 ، ص : 102
سورة السجدة
هى مكية إلا من آية 16 إلى آية عشرين فمدنية وآيها ثلاثون ، نزلت بعد سورة (المؤمنين).
ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه :
(1) اشتمال كل منهما على دلائل الألوهية.
(2) إنه ذكر فى السورة السالفة دلائل التوحيد ، وهو الأصل الأول ، ثم ذكر المعاد ، وهو الأصل الثاني ، وهنا ذكر الأصل الثالث ، وهو النبوة.
(3) إن هذه السورة شرحت مفاتح الغيب التي ذكرت فى خاتمة ما قبلها ، فقوله : « ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ » شرح لقوله : « إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ » وقوله : « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ » شرح لقوله : « وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ » وقوله : « الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ » تفصيل لقوله : « وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ » وقوله : « يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ » إيضاح لقوله : « وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً » وقوله : « أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ » إلخ شرح لقوله : « وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ » .
[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)(21/103)
ج 21 ، ص : 103
الإيضاح
(الم) تقدم الكلام فى مثل هذا من قبل ، فى معناه ، وكيفية النطق به.
(تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي إن هذا القرآن الذي أنزل على محمد لا شك أنه من عند اللّه ، وليس بشعر ، ولا سجع كاهن ، ولا هو مما تخرّصه محمد صلى اللّه عليه وسلم.
وفى هذا تكذيب لقولهم : « وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا » .
ثم فنّد تكذيبهم له ، وأكد أنه من لدن رب العالمين ، فقال :
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ، بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي بل هو الحق والصدق من عند ربك أنزله إليك ، لتنذر قومك بأس اللّه وسطوته أن تحل بهم على كفرهم به ، وإنه لم يأتهم نذير من قبلك ، ليبين لهم سبيل الرشاد ، وأن محمدا لم يختلقه كما يزعمون.
وفى هذا ردّ لقولهم : « إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ » .
[سورة السجده (32) : الآيات 4 الى 9]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)(21/104)
ج 21 ، ص : 104
المعنى الجملي
بعد أن أثبت سبحانه صحة الرسالة - بيّن ما يجب على الرسول من الدعاء إلى توحيد للّه ، وإقامة الأدلة على ذلك.
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي اللّه سبحانه هو الخالق للسموات والأرض وما بينهما فى ستة أطوار فى نظر الناظرين إليها ، وليس المراد اليوم المعروف ، لأنه قبل خلق السموات لم يكن ليل ولا نهار ، وقد تقدم تفصيل ذلك فى سورة الفرقان.
(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تقدم بيان هذا فى سورة يونس وهود وطه.
(ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) أي ليس لكم أيها الناس من يلى أموركم ، وينصركم منه إن أراد بكم ضرا ، ولا يشفع لكم عنده إن هو عاقبكم على معصيتكم إياه.
والخلاصة : فإياه فاتخذوه وليّا ، وبه وبطاعته فاستعينوا على أموركم ، فإنه يمنعكم ممن أرادكم بسوء ، ولا يقدر أحد على دفع السوء عنكم ، إذا هو أراد وقوعه بكم ، لأنه لا يقهره قاهر ، ولا يغلبه غالب.
ثم أمرهم بالتذكر والتدبر فى الأدلة ، فقال :
(أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ ؟ ) أي أفلا تعتبرون وتتفكرون أيها العابدون غيره ، المتوكلون على من عداه ، تعالى اللّه وتقدس أن يكون له نظير أو شريك ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه.(21/105)
ج 21 ، ص : 105
(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) تدبير الأمر : النظر فى دابره وعاقبته ليجىء محمود المغبّة ، وتدبير الأمر من السماء إلى الأرض ، ثم عروجه إليه ، تمثيل لإظهار عظمته ، كما يصدر الملك أوامره ، ثم يتلقى من أعوانه ما يدل على تنفيذها.
(فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة ، ثم يصير الأمر كله إليه ، ليحكم فيه فى يوم مقداره ألف سنة مما كنا نعده فى هذه الحياة.
والمراد بالألف الزمن المتطاول ، وليس المقصد منه حقيقة العدد ، إذ هو عند العرب منتهى المراتب العددية ، وأقصى غاياتها ، وليس هناك مرتبة فوقه إلا ما يتفرع منه من عداد مراتبها.
قال القرطبي : المعنى إن اللّه تعالى جعله فى صعوبته على الكفار كخمسين ألف سنة قاله ابن عباس ، والعرب تصف أيام المكروه بالطول ، وأيام السرور بالقصر ، قال شاعرهم :
ويوم كظلّ الرمح قصّر طوله دم الزقّ عنا واصطفاق المزاهر ا ه
(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي لك المدبر لهذه الأمور ، هو العالم بما يغيب عن أبصاركم ، مما تكنّه الصدور وتخفيه نفوس ، وما لم يكن بعد مما هو كائن ، وبما شاهدته الأبصار وعاينته ، وهو الشديد انتقامه ممن كفر به ، وأشرك معه غيره ، وكذب رسله ، وهو الرحيم بمن تاب من ضلالته ، ورجع إلى الإيمان به وبرسوله ، وعمل صالحا ، وهو الذي أحسن خلق الأشياء وأحكمها.
ولما ذكر خلق السموات والأرض شرع يذكر خلق الإنسان ، فقال :
(وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) أي وبدأ خلق آدم أبى البشر من الطين ، وقد يكون(21/106)
ج 21 ، ص : 106
المعنى إن الطين ماء وتراب مجتمعان ، والآدمي أصله منىّ ، والمنىّ من الغذاء والأغذية إما حيوانية ، وإما نباتية. والحيوانية ترجع إلى النباتية ، والنبات وجوده بالماء والتراب وهو الطين.
(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي ثم جعل ذريته يتناسلون كذلك من نطفة تخرج من بين الصلب والترائب فى كل من الرجل والمرأة كما دل على ذلك علم الأجنة ، وسيأتى إيضاح هذا عند قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أي ثم عدّله بتكميل أعضائه فى الرحم ، وتصويره على أحسن صورة ، ونفخ فيه من روحه ، وجعلها تتعلق ببدنه ، فيبدأ يتحرك ، وتظهر فيه آثار الحياة ، ثم ينطق ويتكلم.
(وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي وأنعم عليكم ، فأعطاكم السمع تسمعون به الأصوات ، والأبصار تبصرون بها المرئيات ، والأفئدة تميزون بها بين الخير والشر ، وبين الحق والباطل.
وجاء الترتيب هكذا : لما ثبت من أن الطفل بعد الولادة يسمع ولا يبصر مدى ثلاث أيام ، ثم يبتدئ يبصر ، ثم يبتدئ يدرك ويميز كما هو مشاهد.
ثم بين أن الإنسان قابل هذه النعم بالكفران إلا من رحم اللّه ، فقال :
(قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) أي وأنتم تشكرون ربكم قليلا من الشكر على هذه النعم التي أنعم بها عليكم باستعمالها فى طاعته وعمل ما يرضيه.
[سورة السجده (32) : الآيات 10 الى 11]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الرسالة بقوله : « لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ » ، والوحدانية بقوله : « اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ » إلخ. أردف ذلك ذكر البعث ، واستبعاد المشركين له ، ثم الرد عليهم.(21/107)
ج 21 ، ص : 107
الإيضاح
(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ؟ ) أي وقال المشركون باللّه المكذبون بالبعث : أ ئذا صارت لحومنا وعظامنا ترابا فى الأرض ؟ أنبعث خلقا جديدا ؟ .
وخلاصة مقالهم : عظيم الاستبعاد للإعادة ، بأنها كيف تعقل وقد تمزقت الجسوم ، وتفرقت فى أجزاء الأرض ؟ .
وهم قد قاسوا قدرة الخالق الذي بدأهم أول مرة ، وأنشأهم من العدم بقدرة المخلوق العاجز - شتان بينهما - إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
ثم زاد فى النعي عليهم ، والإنكار لآرائهم بقوله :
(بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) أي ما بهؤلاء المشركين جحود قدرة اللّه على ما يشاء فحسب ، بل هم تعدّوا ذلك إلى الجحود بلقاء ربهم حذر عقابه ، وخوف مجازاته إياهم على معاصيهم.
ثم رد عليهم مقالتهم ، وشديد استنكارهم بقوله (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أصل التوفى أخذ الشيء وافيا كاملا ، أي قل لهؤلاء المشركين : إن ملك الموت الذي وكّل بقبض أرواحكم يستوفى العدد الذي كتب عليه الموت منكم حين انتهاء أجله ، ثم تردون إلى ربكم يوم القيامة أحياء كهيئتكم قبل وفاتكم ، فيجازى المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، وفى هذا إثبات للبعث مع تهديدهم وتخويفهم ، وإشارة إلى أن القادر على الإماتة قادر على الإحياء.
[سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 14]
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)(21/108)
ج 21 ، ص : 108
المعنى الجملي
بعد أن أثبت البعث والرجوع - بين حال المشركين حين معاينة العذاب ، ووقوفهم بين يدى اللّه أذلاء ناكسى رءوسهم من الحياء والخجل طالبى الرجوع إلى الدنيا لتحسين أعمالهم ، ثم بين أنه لا سبيل إلى العودة ، لأنهم لو ردوا لعادوا إلى ما نهوا عنه ، وأنه قد ثبت فى قضائه ، وسبق فى وعيده أن جهنم تمتلئ من الجنة والناس ممن ساءت أعمالهم ، وقبحت أفعالهم ، فلا يصلحون لدخول الجنة ، ويقال لهم : ذوقوا عذاب النار جزاء ما عملتم فى الدنيا ، وقد نسيتم لقاء ربكم ، فجازاكم ، بفعالكم ، وجعلكم كالمنسيين من رحمته.
الإيضاح
(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) أي ولو ترى أيها الرسول هؤلاء القائلين : أ ئذا ضللنا فى الأرض أ إنا لفى خلق جديد - ناكسى رءوسهم عند ربهم حياء وخجلا منه ، لما سلف منهم من معاصيهم له فى الدنيا ، قائلين : ربنا أبصرنا الحشر ، وسمعنا قول الرسول وصدّقنا به ، فارجعنا إلى الدنيا نعمل صالح الأعمال ، وهذا منهم عود على أنفسهم بالملامة إذا دخلوا النار ، كما حكى عنهم سبحانه قولهم : « لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ » .
ثم ادّعوا اطمئنان قلوبهم حينئذ ، وقدرتهم على فهم معانى الآيات ، والعمل بموجبها ، كما حكى اللّه عنهم بقوله :(21/109)
ج 21 ، ص : 109
(إِنَّا مُوقِنُونَ) أي إنا قد أيقنا الآن ما كنا به فى الدنيا جهالا من وحدانيتك ، وأنه لا يصلح للعبادة سواك ، وأنك تحيى وتميت ، وتبعث من فى القبور بعد الممات والفناء ، وتفعل ما تشاء.
ونحو الآية قوله : « وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ، فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا » الآية.
(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) أي ولو أردنا أن نلهم كل نفس ما تهتدى به إلى الإيمان والعمل الصالح لفعلنا ، ولكن تدبيرنا للخلق على نظم كاملة ، كفيلة بمصالحه ، قضى أن نضع كل نفس فى المرتبة التي هى أهل لها بحسب استعدادها ، كما توضع فى الإنسان العين فى موضع لا يصلح له الظفر والإصبع ، والمعدة فى موضع لا يصلح له القلب ، وهذا هو المراد من قوله :
(وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي ولكن سبق وعيدي بملء جهنم من الجنة والناس الذين هم أهل لها ، بحسب استعدادهم ، ولا يصلحون لدخول الجنة كما لا يعيش البعوض والذباب ، إلا فى الأماكن القذرة ، ليخلّص الجو من العفونات ، ولو جعلا فى القصور النظيفة النقية ما عاشا فيها ، إذ لا يجدن فيها غذاء ولا منفعة لهما :
وهكذا هؤلاء إذا رأوا العالم المضيء المشرق ، والأنوار المتلألئة ، والحياة الطيبة فى الجنة لم يستطيعوا دخولها ، وعجزوا عن ذلك ، فما مثلهم إلا مثل السمك الذي لا يعيش فى البر ، ومثل ذوات الأربع التي لا تعيش فى البحر.
ولما بين لهم أنه لا رجوع إلى الدنيا أنّبهم على ما عملوا من تدسية نفوسهم بفعل المعاصي ، وترك الطاعة له ، فقال :
(فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي فذوقوا العذاب بسبب تكذيبكم بهذا اليوم ، واستبعادكم وقوعه ، وعملكم عمل من لا يظن أنه راجع إلى ربه فملاقيه.(21/110)
ج 21 ، ص : 110
ثم ذكر لهم جزاءهم على فعل المعاصي ، فقال :
(إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي إنا سنعاملكم معاملة الناسي ، لأنه تعالى لا ينسى شيئا ، ولا يضل عنه شىء ، وهذا أسلوب فى الكلام يسمى أسلوب المشاكلة ، ونحوه :
« الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا » وقوله : « تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ » وقوله : « وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها » .
(وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي وذوقوا عذابا تخلدون فيه إلى غير نهاية ، بسبب كفركم وتكذيبكم بآيات ربكم ، واجتراحكم للشرور والآثام.
[سورة السجده (32) : الآيات 15 الى 17]
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)
تفسير المفردات
ذكروا بها : أي وعظوا ، خروا : أي سقطوا ، سبحوا بحمد ربهم : أي نزهوه عما لا يليق به ، تتجافى : أي ترتفع وتبتعد ، قال عبد اللّه بن رواحة :
وفينا رسول اللّه يتلو كتابه إذا انشقّ معروف من الصبح ساطع
يبيت يجافى جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
والجنوب : واحدها جنب ، وهو الشق ، والمضاجع : واحدها مضجع ، وهو مكان النوم ، أخفى لهم : أي خبّئ لهم ، من قرة أعين : أي من شىء نفيس تقرّ به أعينهم وتسرّ.(21/111)
ج 21 ، ص : 111
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه علامة أهل الكفر من طأطأة الرءوس خجلا وحياء مما صنعوا فى الدنيا ، وذكر ما يلاقونه من العذاب المهين يوم القيامة - عطف على ذلك ذكر علامة أهل الإيمان من تذللهم لربهم ، وتسبيحهم بحمده ، ومحافاة جنوبهم للمضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ، ثم أردفه ذكر ما يلاقونه من نعيم مقيم ، وقرة أعين جزاء لهم على جميل أعمالهم ، ومحاسن أقوالهم.
الإيضاح
(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي ما يصدّق بحججنا وآيات كتابنا إلا الذين إذا وعظوا بها خروا للّه سجدا ، تذللا واستكانة لعظمته ، وإقرارا بعبوديته ، ونزهوه فى سجودهم عما لا يليق به ، مما يصفه به أهل الكفر من الصاحبة والولد والشريك ، يفعلون ذلك وهم لا يستكبرون عن طاعته ، كما يفعل أهل الفسق والفجور حين يسمعونها ، فإنهم يولون مستكبرين ، كأن لم يسمعوها.
ثم ذكر بقية محاسن أعمالهم بقوله :
(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي يتنحون عن مضاجعهم التي يضطجعون فيها لمنامهم ، فلا ينامون ، داعين ربهم خوفا من سخطه وعذابه ، وطمعا فى عفوه عنهم ، وتفضله عليهم برحمته ومغفرته ، ومما رزقناهم من المال ينفقون فى وجوه البر ، ويؤدون حقوقه التي أوجبها عليهم فيه ، قال أنس بن مالك : « نزلت فينا معاشر الأنصار ، كنا نصلى المغرب ، فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلى العشاء مع النبي صلى اللّه عليه وسلم » .
وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فى قوله : « تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ » قال : هى قيام العبد أول الليل.(21/112)
ج 21 ، ص : 112
و
روى الإمام أحمد عن ابن مسعود أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « عجب ربنا من رجلين : رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبّه وأهله إلى ضلاته رغبة فيما عندى ، وشفقة مما عندى ورجل غزا فى سبيل اللّه تعالى فانهزم ، فعلم ما عليه من الفرار ، وما له فى الرجوع ، فرجع حتى أهريق دمه رغبة فيما عندى ، وشفقة مما عندى ، فيقول اللّه عز وجل للملائكة : انظروا إلى عبدى رجع رغبة فيما عندى ، ورهبة مما عندى حتى أهريق دمه » .
وأخرج ابن جرير والحاكم وابن مردويه عن معاذ بن جبل قال : « كنت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم فى سفر ، فأصبحت يوما قريبا منه ، ونحن نسير فقلت :
يا نبى اللّه أخبرنى عما يدخلنى الجنة ، ويباعدنى عن النار. قال : لقد سألت عن عظيم وإنه يسير على من يسّره اللّه تعالى عليه - تعبد اللّه ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتى الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير ؟
الصوم جنّة ، والصدقة تطفئ الخطيئة ، وصلاة الرجل فى جوف الليل ، ثم قرأ : تتجافى جنوبهم عن المضاجع - حتى بلغ - جزاء بما كانوا يعملون ، ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ فقلت : بلى يا رسول اللّه ، فقال : رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد فى سبيل اللّه ، ثم قال : ألا أخبرك مملاك ذلك كله ؟
فقلت : بلى يا نبى اللّه ، فأخذ بلسانه ، ثم قال : كفّ عليك هذا ، فقلت : يا رسول اللّه وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكبّ الناس فى النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم » .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال فى الآية : « تَتَجافى جُنُوبُهُمْ لذكر اللّه ، كلما استيقظوا ذكروا اللّه عز وجل ، إما فى الصلاة ، وإما فى قيام أو قعود ، أو على جنوبهم ، لا يزالون يذكرون اللّه تعالى » وقال الحسن ومجاهد ومالك والأوزاعى وغيرهم إن المراد بالتجافي القيام لصلاة النوافل بالليل.(21/113)
ج 21 ، ص : 113
وبعد أن ذكر حال المؤمنين المتواضعين ذكر جزاءهم بقوله :
(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فلا يعلم أحد عظيم ما أخفى لهم من النعيم واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد جزاء وفاقا بما كانوا يعملون من صالح الأعمال ، أخفوا أعمالهم فأخفى اللّه ثوابهم.
روى الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : « يقول اللّه تعالى : أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، بله ما أطلعتكم عليه ، اقرءوا إن شئتم : « فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ » .
وأخرج الفريابي وابن أبى شيبة وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : « إنه لمكتوب فى التوراة ، لقد أعدّ اللّه تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ، ولم تسمع أذن ، ولم يخطر على قلب بشر ، ولا يعلم ملك مقرّب ، ولا نبى مرسل ، وإنه لفى القرآن : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) » .
[سورة السجده (32) : الآيات 18 الى 22]
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)(21/114)
ج 21 ، ص : 114
تفسير المفردات
أصل الفسق : الخروج من فسقت الثمرة إذا خرجت من قشرها ، ثم استعمل فى الخروج من الطاعة وأحكام الشرع مطلقا ، فهو أعم من الكفر ، وقد يخص به كما فى قوله : « وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ » والمأوى : المسكن وأصل النزل : ما يعدّ للنازل من الطعام والشراب والصلة ، ثم أطلق على كل عطاء ، والمراد به هنا الثواب والجزاء ، الأدنى : أي الأقرب ، والمراد به عذاب الدنيا ، فإنه أقرب من عذاب الآخرة وأقل منه ، وقد ابتلاهم اللّه بسنى جدب وقحط أهلكت الزرع والضرع ، والعذاب الأكبر : عذاب يوم القيامة.
المعنى الجملي
لما بيّن حالى المجرمين والمؤمنين - عطف على ذلك سؤال العقلاء : هل يستوى الفريقان ؟ وبين أنهما لا يستويان ، ثم فصّل ذلك ببيان مآل كل منهما يوم القيامة.
الإيضاح
(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً ؟ لا يَسْتَوُونَ) أي أ فهذا الكافر المكذّب وعد اللّه ووعيده ، المخالف أمره ونهيه ، كهذا المؤمن باللّه المصدّق وعده ووعيده ، المطيع لأمره ونهيه - كلا - لا يستوون عند اللّه ولا يتعادل الكفار به والمؤمنون.
وخلاصة ذلك : أبعد ظهور ما بينهما من تفاوت بيّن يظن أن المؤمن الذي حكيت أوصافه كالكافر الذي ذكرت قبائح أعماله ؟ كلا - إن الفضل بينهما لا يخفى على ذى عينين.
ونحو الآية قوله : « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ »
وقوله :
« أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ » وقوله : « لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ » الآية.(21/115)
ج 21 ، ص : 115
وبعد أن نفى استواءهما أتبعه بذكر حال كل منهما على سبيل التفصيل :
(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أما الذين صدّقوا اللّه ورسوله وعملوا صالح الأعمال - فلهم مساكن فيها البساتين والدور ، والغرف العالية ، جزاء لهم على جليل أعمالهم ، وطيب أفعالهم التي كانوا يعملونها فى الدنيا.
(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي وأما الذين كفروا باللّه ، واجترموا الشرور والآثام ، فمساكنهم التي يأوون إليها فى الآخرة ، ويستريحون فيها هى النار ، وبئس القرار.
وفى هذا ضرب من التهكم بهم ، إذ جعلت النار ملجأ ومستراحا لهم يستريحون إليها ، فهو كقوله : « فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ » .
ثم بين حالهم فيها ونفورهم منها ، فقال :
(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) أي كلما شارفوا الخروج منها ، وظنوا أنه قد تيسر لهم ذلك ، وهم بعد فى غمراتها أعيدوا فيها ، ودفعوا إلى قعرها.
روى أن لهب النار يضربهم فيرتفعون إلى أعلاها ، حتى إذا قربوا من أبوابها ، وأرادوا أن يخرجوا منها يضربهم اللهب فيهوون إلى قعرها - وهكذا يفعل بهم أبدا.
قال الفضيل بن عياض : واللّه إنّ الأيدى لموثقة ، وإن اللهب ليرفعهم ، والملائكة تقمعهم.
ثم ذكر ما يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ :
(وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي ذوقوا عذابها الذي كنتم تكذبون فى الدنيا أن اللّه قد أعده لأهل الشرك به.
ثم بين أن عذاب الآخرة له مقدمات فى الدنيا لأن الذنب مستوجب لنتائجه عاجلا وآجلا ، فقال :(21/116)
ج 21 ، ص : 116
(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ولنبتلينهم بمصايب الدنيا وأسقامها وآفاتها من المجاعات والقتل ، ونحو ذلك ، عظة لهم ليقلعوا عن ذنوبهم قبل العذاب الأكبر ، وهو عذاب يوم القيامة.
ثم ذكر حال من قابل آيات اللّه بالإعراض ، بعد بيان حال من قابلها بالسجود والتسبيح والتحميد ، فقال :
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها ؟ ) أي لا أظلم ممن ذكّره اللّه بحججه ، وآي كتابه ورسله ، ثم أعرض عن ذلك كله ، ولم يتعظ به ، بل تناساه ، كأنه لا يعرفه.
ثم بين جزاءه على ذلك ، فقال :
(إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) أي إنا سننتقم أشد الانتقام من الذين اجترحوا السيئات ، واكتسبوا الآثام والمعاصي.
روى ابن جرير بسنده عن معاذ بن جبل قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « ثلاث من فعلهن فقد أجرم : من عقد لواء فى غير حق ، أو عقّ والديه ، أو مشى مع ظالم ينصره ، يقول اللّه : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) » .
[سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 25]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)(21/117)
ج 21 ، ص : 117
المعنى الجملي
لما ذكر سبحانه فى أول السورة الرسالة والتوحيد والبعث - عاد فى آخرها إلى ذكرها مرة أخرى ، فقال :
الإيضاح
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) المرية : الشك ، أي إنا آتينا موسى التوراة مثل ما آتيناك القرآن ، وأنزلنا عليك الوحى مثل ما أنزلناه عليه ، فلا تكن فى شك من لقائك الكتاب ، فأنت لست ببدع من الرسل كما قال تعالى :
« قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ » .
وذكر موسى من بين سائر الرسل لقرب عهده من النبي صلى اللّه عليه وسلم ووجود من كان على دينه بينهم إلزاما لهم ، ولم يذكر عيسى ، لأن اليهود ما كانوا يعترفون بنبوته ، والنصارى كانوا يقرون بنبوة موسى ، فذكر المجمع عليه.
وقد يكون ذكره لأن الآية جاءت تسلية لرسوله صلى اللّه عليه وسلم ، فإنه لما أتى بكل آية وذكّرهم بها ، وأعرض قومه عنها حزن حزنا شديدا ، فقيل له : تذكّر حال موسى ولا تحزن ، فإنه قد لقى مثل ما لقيت ، وأوذى كما أوذيت ، فإنّ من لم يؤمن به آذاه ، كفرعون وقومه ، ومن آمنوا به من بنى إسرائيل آذوه أيضا بالمخالفة له كقولهم :
« أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً » وقولهم : « فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا » ، وغيره من الأنبياء لم يؤذه إلا من لم يؤمن به.
(وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي وجعلنا الكتاب الذي آتيناه مرشدا لبنى إسرائيل إلى طريق الهدى كما جعلناك مرشدا لأمتك.
ونحو الآية قوله : « وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا » .(21/118)
ج 21 ، ص : 118
(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) أي وجعلنا من بنى إسرائيل رؤساء فى الخير ، يهدون أتباعهم وأهل القبول منهم ، بإذننا لهم وتقويتنا إياهم ، لأنهم صبروا على طاعتنا ، وعزفت أنفسهم عن لذات الدنيا وشهواتها ، وكانوا من أهل اليقين بحججنا وبما تبين لهم من الحق.
وفى ذلك إيماء إلى أن الكتاب الذي آتيناكه سيكون هداية للناس ، وسيكون من أتباعه أئمة يهدون مثل تلك الهداية.
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن ربك يقضى بين خلقه يوم القيامة فيما كانوا فيه فى الدنيا يختلفون من أمور الدين والثواب والعقاب ، فيدخل الجنة أهل الحق ، ويدخل النار أهل الباطل.
[سورة السجده (32) : الآيات 26 الى 27]
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)
المعنى الجملي
بعد أن أعاد ذكر الرسالة فى قوله : « وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ » أعاد هنا ذكر التوحيد مع ذكر البرهان عليه بما يرونه من المشاهدات التي يبصرونها.
الإيضاح
(أَ وَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ ؟ ) أي أو لم يبين لهم طريق الحق كثرة من أهلكنا من القرون الماضية الذين يمشون فى أرضهم ، ويشاهدون آثار هلاكهم كعاد وثمود وقوم لوط.(21/119)
ج 21 ، ص : 119
والخلاصة : أو لم يرشد هؤلاء المكذبين بالرسل ما أهلك اللّه قبلهم من الأمم الماضية بتكذيبهم لرسلهم ، ومخالفتهم إياهم فيما جاءوهم به من سبل الحق ، فلم يبق منهم باقية.
ونحو الآية قوله : « هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً » وقوله :
« فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا » وقوله : « فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ » .
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي إن فى خلاء مساكن القرون الذين أهلكناهم من أهلها لما كذبوا رسلنا وجحدوا بآياتنا ، وعبدوا غيرنا - لآيات لهم وعظات يتعظون بها لو كانوا من أولى الحجا.
(أَفَلا يَسْمَعُونَ ؟ ) عظاتنا وتذكيرنا إياهم ، وتعريفهم مواضع حججنا سماع تدبر وتفكر ليعتبروا بها.
وبعد أن بين قدرته على الإهلاك - أرشد إلى قدرته على الإحياء ليبين أن النفع والضر بيده تعالى ، فقال :
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ) الأرض الجرز : هى التي جرز نباتها وقطع ، إما لعدم الماء ، وإما لأنه رعى وأكل ، يقال : ناقة جروز إذا كانت تأكل كل شىء ، ورجل جروز أي أكول :
أي ألم يشاهد هؤلاء المكذبون بالبعث بعد الموت ، والنشر بعد الفساد - أنا بقدرتنا نسوق الماء إلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها ، فنخرج به زرعا أخضر تأكل منه ما شيتهم وتتغذى به أجسامهم ، فيعيشون به ؟ .
(أَ فَلا يُبْصِرُونَ ؟ ) أي أفلا يرون ذلك بأعينهم ، فيعلموا أن القدرة التي بها فعلنا ذلك لا يتعذر عليها أن تحيى الأموات وتنشرهم من قبورهم ، وتعيدهم بهيئاتهم التي كانوا عليها قبل موتهم ؟ .(21/120)
ج 21 ، ص : 120
[سورة السجده (32) : الآيات 28 الى 30]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
تفسير المفردات
الفتح : أي الفصل فى الخصومة بيننا وبينكم ، وينظرون : أي يمهلون ويؤخرون.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت الرسالة والتوحيد - عطف على ذلك ذكر الحشر ، وبذلك صار ترتيب آخر السورة متناسقا مع ترتيب أولها ، فقد ذكر الرسالة فى أولها بقوله (لِتُنْذِرَ قَوْماً) وفى آخرها بقوله (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) وذكر التوحيد فى أولها بقوله (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وفى آخرها بقوله (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) وقوله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ) وذكر الحشر فى أولها بقوله (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) وفى آخرها بقوله :
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ ؟ ).
الإيضاح
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ؟ ) أي ويقول المشركون على طريق الاستهزاء والاستبعاد : متى تنصر علينا أيها الرسول كما تزعم ، ومتى ينتقم اللّه منا ؟
وما نراك وأصحابك إلا مختفين خائفين أذلة - إن كنتم صادقين فى الذي تقولون من أنا معاقبون على تكذيبنا الرسول ، وعبادة الآلهة والأوثان ، وهم ولا شك لا يستعجلونه إلا لاستبعادهم حصوله وإنكارهم إياه ، وتكذيبهم له.
وقد أمر اللّه نبيه أن يجيبهم عن استبعادهم موبخا لهم بقوله :(21/121)
ج 21 ، ص : 121
(قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي قل لهم : إذا حل بكم بأس اللّه وسخطه فى الدنيا وفى الآخرة لا ينفعكم إيمانكم الذي تحدثونه فى هذا اليوم ، ولا تؤخّرون للتوبة والمراجعة.
والخلاصة : لا تستعجلوه ولا تستهزئوا ، فكأنى بكم وقد حل ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان ، واستنظرتم حلول العذاب ، فلم تنظروا.
ثم ختم السورة بأمر رسوله بالإعراض عنهم ، وانتظار الفتح بينه وبينهم ، فقال :
(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) أي فأعرض عن هؤلاء المشركين ، ولا تبال بهم ، وبلّغ ما أنزل إليك من ربك ، وانتظر ما اللّه صانع بهم ، فإنه سينجزك ما وعد ، وسينصرك على من خالفك ، إنه لا يخلف الميعاد ، وهم منتظرون يتربصون بكم الدوائر كما قال « أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ » .
وسترى عاقبة صبرك عليهم ، وعلى أداء رسالة ربك ، بنصرك وتأييدك ، وسيجدون نحب ما ينتظرون فيك ، وفى أصحابك من وبيل عقاب اللّه لهم ، وحلول عذابه بهم.
والحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات(21/122)
ج 21 ، ص : 122
مجمل ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الموضوعات
(1) إثبات رسالة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وبيان أن مشركى العرب لم يأتهم رسول من قبله.
(2) إثبات وحدانية اللّه ، وأنه المتصرف فى الكون ، المدبر له على أتم نظام وأحكم وجه.
(3) إثبات البعث والنشور ، وبيان أنه يكون فى يوم كألف سنة مما تعدون.
(4) تفصيل خلق الإنسان فى النشأة الأولى ، وبيان الأطوار التي مرت به ، حتى صار بشرا سويا.
(5) وصف الذلة التي يكون عليها المجرمون يوم القيامة ، وطلبهم الرجوع إلى الدنيا لإصلاح أحوالهم ، ورفض ما طلبوا لعدم استعدادهم للخير والفلاح.
(6) تفصيل أحوال المؤمنين فى الدنيا ، وذكر ما أعده اللّه لهم من النعيم ، والثواب العظيم فى الآخرة.
(7) استعجال الكفار لمجئ يوم القيامة استبعادا منهم لحصوله.(21/123)
ج 21 ، ص : 123
سورة الأحزاب
هى مدنية نزلت بعد آل عمران.
وآيها ثلاث وسبعون.
ووجه اتصالها بما قبلها تشابه مطلع هذه وخاتمة السالفة ، فإن تلك ختمت بأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بالإعراض عن الكافرين ، وانتظار عذابهم ، وهذه بدئت بأمره عليه الصلاة والسلام بالتقوى ، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين واتباع ما أوحى إليه من ربه مع التوكل عليه.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3)
تفسير المفردات
قال طلق بن حبيب : التقوى أن تعمل بطاعة اللّه على نور من اللّه ترجو ثواب اللّه ، وأن تترك معصية اللّه على نور من اللّه مخافة عذاب اللّه ، وتوكل على اللّه : أي فوّض أمورك إليه ، الوكيل : الحافظ للأمور.
المعنى الجملي
أخرج ابن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال : إن أهل مكة ، ومنهم الوليد بن المغيرة ، وشيبة بن ربيعة دعوا النبي صلى اللّه عليه وسلم أن(21/124)
ج 21 ، ص : 124
يرجع عن قوله : على أن يعطوه شطر أموالهم ، وخوّفه المنافقون واليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه ، فنزلت الآيات.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ) أي يا أيها النبي خف اللّه بطاعته ، وأداء فرائضه ، وواجب حقوقه عليك ، وترك محارمه ، وانتهاك حدوده.
والخلاصة : يا أيها المخبر عنا ، المأمون على وحينا ، اثبت على تقوى اللّه ، ودم عليها.
ولما وجّه إلى رسوله صلى اللّه عليه وسلم الأمر بتقوى الولىّ الودود - أتبعه بالنهى عن الالتفات نحو العدو الحسود ، فقال :
(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) أي ولا تطع الكافرين الذين يقولون لك : اطرد عنا أتباعك من ضعفاء المؤمنين ، حتى نجالسك ، والمنافقين الذين يظهرون لك الإيمان والنصيحة ، وهم لا يألونك وأصحابك إلا خبالا ، فلا تقبل لهم رأيا ، ولا تستشرهم مستنصحا بهم ، فإنهم أعداؤك ، ويودون هلاكك ، وإطفاء نور دينك.
روى أنه لما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة تابعه ناس من اليهود نفاقا وكان يلين لهم جانبه ، ويظهرون له النصح خداعا فحذره اللّه منهم ، ونبهه الى عداوتهم.
ثم علل ما تقدم بقوله :
(إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي إن اللّه عليم بما تضمره نفوسهم ، وما الذي يقصدونه من إظهار النصيحة ، وبالذي تنطوى عليه جوانحهم ، حكيم فى تدبير أمرك ، وأمر أصحابك ، وسائر شئون خلقه ، فهو أحق أن تتبع أوامره وتطاع.
والخلاصة : إنه تعالى هو العليم بعواقب الأمور ، الحكيم فى أقواله وأفعاله ، وتدبير شئون خلقه.(21/125)
ج 21 ، ص : 125
ثم أكد وجوب الامتثال بأن الآمر لك هو مرّ بيك فى نعمه ، الغامر لك بإحسانه ، فهو الجدير أن يتّبع أمره ، ويجتنب نهيه ، فقال :
(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي واعمل بما ينزله عليك ربك من وحيه ، وآي كتابه.
ثم علل ذلك بما يرغّبه فى اتباع الوحى ، وبما ينأى به عن طاعة الكافرين والمنافقين ، فقال :
(إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي إن اللّه خبير بما تعمل أنت وأصحابك ، لا يخفى عليه شىء منه ، ثم يجازيكم على ذلك بما وعدكم به من الجزاء.
ثم أمر رسوله بتفويض أموره إليه وحده ، فقال :
(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي وفوض أمورك إليه وحده ، واعتمد عليه فى شئونك.
(وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) أي وكفى به حافظا ، يوكل إليه جميع الشئون ، فلا تلتفت فى شىء من أمرك إلى غيره.
والخلاصة : حسبك اللّه ، فإنه إن أراد لك نفعا لم يدفعه عنك أحد ، وإن أراد ضرا لم يمنعه منك أحد.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 4 الى 5]
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)(21/126)
ج 21 ، ص : 126
تفسير المفردات
جعل : أي خلق ، ويقال : ظاهر الرجل من زوجته إذا قال لها : أنت علىّ كظهر أمي ، يريدون أنت محرمة علىّ كما تحرم الأم ، وكانوا فى الجاهلية يجرون على المظاهر منها حكم الأم ، والأدعياء : واحدهم دعىّ ، وهو الذي تدّعى بنوته ، وقد كانت تجرى عليه أحكام الابن فى الجاهلية وصدر الإسلام ، السبيل : أي طريق الحق ، أقسط : أي أعدل ، ومواليكم : أي أولياؤكم فيه.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه نبيه بتقواه ، والخوف منه ، وحذّره من طاعة الكفار والمنافقين ، والخوف منهم - ضرب لنا الأمثال ليبين أنه لا يجتمع خوف من اللّه وخوف من سواه ، فذكر أنه ليس للإنسان قلبان حتى يطيع بأحدهما ويعصى بالآخر ، وإذا لم يكن للمرء إلا قلب واحد ، فمتى اتجه لأحد الشيئين صدّ عن الآخر ، فطاعة اللّه تصدّ عن طاعة سواه ، وأنه لا تجتمع الزوجية والأمومة فى امرأة ، والبنوة الحقيقية والتبني فى إنسان.
روى الشيخان والترمذي والنسائي فى جماعة آخرين عن ابن عمر رضى اللّه عنهما « أن زيد بن حارثة مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) الآية ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : أنت زيد ابن حارثة بن شراحيل.
وكان من خبره أنه سبى من قبيلته كلب وهو صغير ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فلما تزوجها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهبته له ، ثم طلبه أبوه وعمه فخيّر بين أن يبقى مع رسول اللّه ، وأن يذهب مع أبيه ، فاختار البقاء مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأعتقه وتبناه ، وكانوا يقولون زيد بن محمد فلما تزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زينب ، وكانت زوجا لزيد وطلقها قال المنافقون : تزوج محمد امرأة ابنه ،(21/127)
ج 21 ، ص : 127
وهو بنهي عن ذلك ، فنزلت الآية لنفى أن يكون للمتبنّى حكم الابن حقيقة فى جميع الأحكام التي تعطى للابن.
الإيضاح
(ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) كان أهل مكة يقولون : إن معمرا الفهرىّ له قلبان لقوة حفظه ، وروى أنه كان يقول : إن لى قلبين أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد ، وكانت العرب تزعم أن كل أريب له قلبان ، فأكذب اللّه فى هذه الآية قوله وقولهم :
(وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) أي ولم يجعل اللّه لكم أيها الرجال نساءكم اللائي تقولون لهن : أنتنّ علينا كظهور أمهاتنا - أمهاتكم ، بل جعل ذلك من قبلكم كذبا وألزمكم عقوبة.
وقد كان الرجل فى الجاهلية متى قال هذه المقالة لامرأته صارت حراما عليه حرمة مؤيدة ، فجاء الإسلام ومنع هذا التأييد ، وجعل الحرمة مؤقتة ، حتى يؤدى كفّارة (غرامة) لانتهاكه حرمة الدين ، إذ حرم ما أحل اللّه.
(وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) أي ولم يجعل اللّه من ادعى أحدكم أنه ابنه ، وهو ابن غيره - ابنا له بدعواه فحسب.
وفى هذا إبطال لما كان فى الجاهلية وصدر الإسلام من أنه : إذا تبنى الرجل ابن غيره أجريت عليه أحكام الابن النسبي ، وقد تبنىّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل البعثة زيد بن حارثة ، والخطّاب عامر بن ربيعة وأبو حذيفة سالما.
ثم أكد ما سبق بقوله :
(ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي هذا الذي تقدم من قول الرجل لامرأته : أنت علىّ كظهر أمي ، ودعاء من ليس بابنه أنه ابنه إنما هو قولكم بأفواهكم ، لا حقيقة له ، فلا تصير الزوجة أمّا ، ولا يثبت بهذا الدعاء دعوى النسب.(21/128)
ج 21 ، ص : 128
(وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي واللّه هو الصادق ، الذي يقول الحق وبقوله يثبت نسب من أثبت نسبه ، وبه تكون المرأة أمّا إذا حكم بذلك ، وهو يبين لعباده سبيل الحق ، ويهديهم إلى طريق الرشاد ، فدعوا قولكم ، وخذوا بقوله عز اسمه.
وخلاصة ما سلف :
(1) إنه لم ير فى حكمته أن يجعل للإنسان قلبين ، لأنه إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر ، فأحدهما يكون نافلة غير محتاج إليه ، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك ، وهذا يؤدى إلى التناقض فى أعمال الإنسان ، فيكون مريدا للشىء كارها له ، وظانا له موقنا به فى حال واحدة ، وهذا لن يكون.
(2) إنه لم ير أن تكون المرأة أما لرجل وزوجا له ، لأن الأم مخدومة ، مخفوض لها الجناح ، والمرأة مستخدمة فى المصالح الزوجية على وجوه شتى.
(3) لم يشأ فى حكمته أن يكون الرجل الواحد دعيّا لرجل وابنا له ، لأن البنوة نسب أصيل عريق ، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير ، ولا يجتمع فى الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل.
ولما ذكر أنه يقول الحق فصل هذا الحق بقوله :
(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ) أي انسبوا أدعياءكم الذين ألحقتم أنسابهم بكم - لآبائهم ، فقولوا : زيد بن حارثة ، ولا تقولوا زيد بن محمد ، فذلك أعدل فى حكم اللّه وأصوب من دعائكم إياهم لغير آبائهم.
(فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) أي فإن أنتم أيها الناس لم تعرفوا آباء أدعيائكم من هم ؟ حتى تنسبوهم إليهم ، وتلحقوهم بهم فهم إخوانكم فى الدين إن كانوا قد دخلوا فى دينكم ومواليكم إن كانوا محرّرين أي قولوا : هو مولى فلان ، ولهذا قيل لسالم بعد نزول الآية : مولى حذيفة ، وكان قد تبناه من قبل.(21/129)
ج 21 ، ص : 129
(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) أي ولا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين قبل النهى أو بعده نسيانا أو سبق لسان.
(وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) ولكن الجناح والإثم عليكم فيما فعلتموه عامدين.
وخلاصة ما سلف : إنه لا إثم عليكم إذا نسبتم الولد لغير أبيه خطأ غير مقصود ، كأن سهوتم أو سبق لسانكم بما تقولون ، ولكن الإثم عليكم إذا قلتم ذلك متعمدين.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه قال فى الآية : « لو دعوت رجلا لغير أبيه ، وأنت ترى أنه أبوه لم يكن عليك بأس ، ولكن ما تعمدت وقصدت دعاءه لغير أبيه » .
(وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان اللّه ستارا لذنب من ظاهر من زوجته ، وقال الزور والباطل من القول ، وذنب من ادعى ولد غيره ابنا له إذا تابا ورجعا إلى أمر اللّه وأنتهيا عن قيل الباطل بعد أن نهاهما رحيما بهما فلا يعاقبهما على ذلك بعد توبتهما.
[سورة الأحزاب (33) : آية 6]
(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه فيما سلف : أن الدعىّ ليس ابنا لمن تبناه ، فمحمد صلى اللّه عليه وسلم ليس أبا لزيد بن حارثة ، ثم أعقب ذلك بالإرشاد إلى أن المؤمن أخو المؤمن فى الدين ، فلا مانع أن يقول إنسان لآخر : أنت أخى فى الدين - أردف ذلك بيان أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم ليس أبا لواحد من أمته ، بل أبوته عامة ، وأزواجه أمهاتهم وأبوته أشرف من أبوة النسب لأن بها الحياة الحقيقية ، وهذه بها الحياة الفانية ، بل(21/130)
ج 21 ، ص : 130
هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فإذا حضهم على الجهاد ونحوه ، فذلك لارتقائهم الروحي ، فإذا كيف يستأذن الناس آباءهم وأمهاتهم حين أمرهم صلى اللّه عليه وسلم بغزوة تبوك ، وهو أشفق عليهم من الآباء ، بل من أنفسهم.
روى البخاري عن أبى هريرة قال : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به فى الدنيا والآخرة ، اقرءوا إن شئتم (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فأيّما مؤمن ترك مالا ، فلترثه عصبته من كانوا ، ومن ترك دينا أو ضياعا (عيالا) فليأتنى ، فأنا مولاه » .
وفى الصحيح أن عمر رضى اللّه عنه قال : « يا رسول اللّه ، واللّه لأنت أحب إلىّ من كل شىء إلا من نفسى ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك ، فقال : يا رسول اللّه ، واللّه لأنت أحب إلىّ من كل شىء ، حتى من نفسى ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : الآن يا عمر » .
الإيضاح
(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي النبي أشد ولاية ونصرة لهم من أنفسهم ، فإنه عليه الصلاة والسلام لا يأمرهم إلا بما فيه خيرهم وصلاحهم ، ولا ينهاهم إلا عما يضرهم ويؤذيهم فى دنياهم وآخرتهم ، أما النفس فإنّها أمارة بالسوء ، وقد تجهل بعض المصالح ، وتخفى عليها بعض المنافع.
ومما يلزم هذا أن يكون حكمه نافذا فيهم ، مقدّما على ما يختارونه لأنفسهم ، كما قال : « فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً » .
وخلاصة ذلك : إنه تعالى علم شفقة رسوله صلى اللّه عليه وسلم على أمته ، وشدة نصحه لهم ، فجعله أولى بهم من أنفسهم.
(وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي هن منزلات منزلة الأمهات فى الحرمة والاحترام ،(21/131)
ج 21 ، ص : 131
والتوقير والإكرام ، وفيما عدا ذلك هن كالأجنبيات ، فلا يحل النظر إليهن ، ولا إرثهن ولا نحو ذلك.
وكان التوارث فى بدء الإسلام بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين ، فكان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوى رحمه للأخوّة التي آخى بينهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين الهجرة ، فقد آخى بين أبى بكر رضى اللّه عنه ، وخارجة بن زيد ، وآخى بين عمر وشخص آخر ، وآخى بين الزبير وكعب بن مالك ، فغيّر اللّه الحكم بقوله :
(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) أي وأولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الدين ، وحق المهاجرين بحق الهجرة فيما كتبه اللّه وفرضه على عباده.
والخلاصة : إن هذه الآية أرجعت الأمور إلى نصابها ، وأبطلت حكما شرع لضرورة عارضة فى بدء الإسلام ، وهو الإرث بالتآخى فى الدين ، والتآخى حين الهجرة بين المهاجرين والأنصار حين كان المهاجرىّ يرث الأنصارىّ دون قرابته وذوى رحمه.
ثم استثنى من ذلك الوصية ، فقال :
(إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) الأولياء هنا المؤمنون والمهاجرون والمعروف الوصية أي إلا أن توصوا لهؤلاء بوصية ، فهم أحق بها من القريب الوارث.
ثم بين أن هذا الحكم هو الأصل فى الإرث ، وهو الحكم الثابت فى كتابه الذي لا يغيّر ولا يبدل ، فقال :
(كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي إن هذا الحكم ، وهو أن أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض - حكم من اللّه مقدر مكتوب فى الكتاب الذي لا يبدل ولا يغير ، وإن كان قد شرع غيره فى وقت ما لمصلحة عارضة ، وحكمة بالغة ، وهو يعلم أنه سيغيره إلى ما هو جار فى قدره الأزلى ، وقضائه التشريعي.(21/132)
ج 21 ، ص : 132
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 الى 8]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه فيما سلف أحكاما شرعها لعباده ، وكان فيها أشياء مما كان فى الجاهلية ، وأشياء مما كان فى الإسلام ، ثم أبطلت ونسخت - أتبع ذلك بذكر ما فيه حث على التبليغ ، فذكر أخذ العهد على النبيين أن يبلّغوا رسالات ربهم ، ولا سيما أولو العزم منهم ، وهم الخمسة المذكورون فى الآية ، كما ذكر فى آية أخرى سؤال اللّه أنبياءه عن تصديق أقوامهم له ، ليكون فى ذلك تبكيت للمكذبين من الكفار ، فقال : « يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ » .
الإيضاح
(وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي واذكر أيها الرسول العهد والميثاق الذي أخذه اللّه على أولى العزم الخمسة بقية الأنبياء ليقيمنّ دينه ، ويبلغنّ رسالته ، ويتناصرنّ كما قال فى آية أخرى :
« وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ، قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي ؟ قالُوا أَقْرَرْنا. قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ » .
(وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) بسؤالهم عما فعلوا حين الإرسال كما قال :
« وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ » .
وقد جرت العادة أن الملك إذا أرسل رسولا ، وأمره بشىء وقبله كان ذلك ميثاقا(21/133)
ج 21 ، ص : 133
عليه ، فإذا أعلمه بأنه سيسأله عما يقول ويفعل كان ذلك تغليظا للميثاق ، حتى لا يزيد ولا ينقص فى الرسالة.
ثم بين علة أخذ الميثاق على النبيين ، فقال :
(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) أي وأخذنا من هؤلاء الأنبياء ميثاقهم كيما أسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم ، وما فعل أقوامهم فيما أبلغوهم عن ربهم من الرسالة.
(وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) أي ليسأل الصادقين عن صدقهم ، وأعدّ لهم ثوابا عظيما ، ويسأل الكاذبين عن كذبهم ، وأعدّ لهم عذابا أليما.
غزوة الأحزاب - وقعة الخندق
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 27]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)(21/134)
ج 21 ، ص : 135
تفسير المفردات
المراد بالجنود هنا : الأحزاب ، وهم قريش يقودهم أبو سفيان ، وبنو أسد يقودهم طليحة ، وغطفان يقودهم عيينة بن حصن ، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطّفيل ، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السّلمى ، وبنو النّضير من اليهود ، ورؤساؤهم حيىّ ابن أخطب ، وأبناء أبى الحقيق ، وبنو قريظة من اليهود أيضا سيدهم كعب بن أسد ، وكان بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد فنبذه كعب بسعى حيىّ ، وكان مجموع جيوش الأعداء عشرة آلاف أو نحو ذلك ، والجنود التي لم تروها : هى الملائكة من فوقكم : أي من أعلى الوادي من جهة المشرق ، وكانوا بنى غطفان ، ومن أسفل منكم : أي من أسفل الوادي من قبل المغرب ، وكانوا قريشا ومن شايعهم ، وبنى كنانة وأهل تهامة ، زاغت الأبصار : أي انحرفت عن مستوى نظرها حيرة ودهشة ، وبلغت القلوب الحناجر : يراد به فزعت فزعا شديدا ، ابتلى المؤمنون : أي اختبروا وامتحنوا ، وزلزلوا زلزالا شديدا : أي اضطربوا اضطرابا شديدا من الفزع وكثرة العدوّ ، والذين فى قلوبهم مرض : قوم كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشّبه عليهم لقرب عهدهم بالإسلام ، إلا غرورا : أي إلا وعد غرور لا حقيقة له يثرب : من أسماء المدينة ، لا مقام لكم : أي لا ينبغى لكم الإنامة هاهنا ، عورة : أي ذات عورة لأنها خالية من الرجال فيخاف عليها سرق السّرّاق ، والأقطار : واحدها قطر وهو الناحية والجانب ، والفتنة :(21/135)
ج 21 ، ص : 136
الردة ومقاتلة المؤمنين ، آتوها : أي أعطوها ، وما تلبثوا بها : أي وما أقاموا بالمدينة ، يعصمكم : أي يمنعكم ، المعوّقين : أي المثبطين عن القتال مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، هلم إلينا : أي أقبلوا إلينا ، والبأس : الشدة ، والمراد به هنا الحرب والقتال ، أشحة : واحدهم شحيح أي بخيل بالنّصرة والمنفعة ، تدور أعينهم : أي تدير أعينهم أحداقهم من شدة الخوف ، سلقوكم : أي آذوكم بالكلام ، بألسنة حداد : أي ألسنة دربة سلطة تفعل فعل الحديد ، أشحة على الخير : أي بخلاء حريصين على مال الغنائم ، أحبط اللّه أعمالهم : أي أبطلها لإضمارهم الكفر ، لو أنهم بادون فى الأعراب : أي خارجون إلى العدو مقيمون بين أهله ، أسوة : أي قدوة ، والمراد به المقتدى به ، قضى نحبه :
أي فرغ من نذره ووفى بعهده ، وصبر على الجهاد حتى استشهد كحمزة ، ومصعب بن عمير ، والغيظ : أشد الغضب ، وكفى اللّه المؤمنين القتال : أي وقاهم شره ، عزيزا : أي غالبا مستوليا على كل شىء ، ظاهروهم : أي عاونوهم ، من أهل الكتاب : أي من بنى قريظة ، من صياصيهم : أي من حصونهم واحدها صيصية وهى كل ما يمتنع به قال الشاعر :
فأصبحت الثيران صرعى وأصبحت نساء تميم يبتدرن الصياصيا
وقذف : أي ألقى ، والرعب : الخوف الشديد.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه عباده بتقواه ، وعدم الخوف من سواه - ذكر هنا تحقيق ما سلف فأبان أنه أنعم على عباده المؤمنين ، إذ صرف عنهم أعداءهم وهزمهم حين تألّبوا عليهم عام الخندق.
وتفصيل هذا على ما قاله أرباب السير :
أن نفرا من اليهود قدموا على قريش فى شوال سنة خمس من الهجرة بمكة ، فدعوهم إلى حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقالوا لهم : إن دينكم خير من دينه ، ثم جاءوا غطفان وقيسا وعيلان ، وحالفوا جميع هؤلاء أن يكونوا معهم عليه ، فخرجت هذه القبائل ومعها قادتها وزعماؤها.(21/136)
ج 21 ، ص : 137
ولما سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمسيرهم أمر المسلمين بحفر خندق حول المدينة بإشارة سلمان الفارسي ، وعمل فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون وأحكموه وكان رسول اللّه يرتجز بكلمات ابن رواحة ، ويقول :
اللهم لو لا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبّت الأقدام إن لاقينا وفى أثناء العمل برزت لهم صخرة بيضاء فى بطن الخندق فكسرت حديدهم وشقّت عليهم ، فلما علم بها صلى اللّه عليه وسلم أخذ المعول من سلمان وضربها به ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها (جانبى المدينة) حتى كأنه مصباح فى جوف بيت مظلم فكبّر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون وهكذا مرة ثانية وثالثة فكانت تضىء وكان التكبير ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ضربت ضربتى الأولى فبرق البرق الذي رأيتم فأضاء لى منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب ، وأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتى الثانية ، فبرق البرق الذي رأيتم أضاء لى منها قصور قيصر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب ، فأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة عليها ثم ضربت الثالثة فبرق البرق الذي قد رأيتم أضاء لى منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب ، فأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة عليها ، فأبشروا فاستبشر المسلمون ، وقالوا : الحمد للّه الذي صدقنا وعده فقال المنافقون : ألا تعجبون ؟ يمنّيكم ويعدكم الباطل ، ويخبركم أنه ينظر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا ، فنزل : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) إلخ ، ونزل :
(قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) الآية.
ولما اجتمع هؤلاء الأحزاب الذين حزّبهم اليهود ، وأتوا إلى المدينة رأوا الخندق حائلا بينهم وبينها ، فقالوا : واللّه هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها ، ووقعت(21/137)
ج 21 ، ص : 138
مصادمات بين القوم كرّا وفرّا ، فمن المشركين من كان يقتحم الخندق فيرمى بالحجارة ، ومنهم من كان يقتحمه بفرسه فيهلك.
ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر من غطفان أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأعلمه أنه أسلم وأن قومه لم يعلموا بذلك ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : إنما أنت فينا رجل واحد ، فخذّل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة ، فأتى قريظة وقال لهم : لا تحاربوا مع قريش وغطفان إلا إذا أخذتم منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم تقيّة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا ، لأنهم رجعوا وسئموا حربه ، وإنكم وحدكم لا تقدرون عليه ، وذهب إلى قريش وإلى غطفان ، فقال لهم : إن اليهود يريدون أن يأخذوا منكم رهنا يدفعونها لمحمد ، فيضرب أعناقهم ، ويتحدون معه على قتالكم ، لأنهم ندموا على ما فعلوا من نقض العهد وتابوا ، وهذا هو المخرج الذي اتفقوا عليه.
وحينئذ تخاذل اليهود والعرب ، ودبّ بينهم دبيب الفشل. ومما زاد فى فشلهم أن بعث اللّه عليهم ريحا فى ليلة شاتية شديدة البرد ، فجعلت تكفئ قدورهم ، وتطرح آنيتهم.
وقد قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة يصلى على التّل الذي عليه مسجد الفتح ، ثم يلتفت ويقول : هل من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ؟ فعل ذلك ثلاث مرات ، فلم يقم رجل واحد ، من شدة الخوف ، وشدة الجوع ، وشدة البرد ، فدعا حذيفة بن اليمان وقال : ألم تسمع كلامى منذ الليلة ؟ قال حذيفة : فقلت يا رسول اللّه منعنى أن أجيبك الضّر والقرّ ، قال : انطلق حتى تدخل فى القوم ، فتسمع كلامهم وتأتينى بخبرهم. اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، حتى تردّه إلىّ ، انطلق ولا تحدث شيئا حتى تأتينى ، فانطلق حذيفة بسلاحه ، ورفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يده يقول : يا صريخ المكروبين ، ويا مجيب المضطرين ، اكشف همّى وغمى وكربى ، فقد ترى حالى وحال أصحابى فنزل جبريل وقال : إن اللّه قد سمع دعوتك ، وكفاك هول عدوك ، فخر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على(21/138)
ج 21 ، ص : 139
ركبتيه ، وبسط يديه ، وأرخى عينيه ، وهو يقول : شكرا شكرا كما رحمتنى ورحمت أصحابى ، وذهب حذيفة إلى القوم ، فسمع أبا سفيان يقول : يا معشر قريش ، إنكم واللّه ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخفّ ، وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من هذه الريح ما ترون ، فارتحلوا فإنى مرتحل ، فلما رجع أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فضحك حتى بدت أنيابه فى سواد الليل.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) أي تذكروا أيها المؤمنون نعم اللّه التي أسبغها عليكم حين حوصرتم أيام الخندق ، وحين جاءتكم جنود الأحزاب من قريش وغطفان ، ويهود بنى النضير الذين كانوا أجلاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المدينة إلى خيبر ، فأرسلنا عليهم ريحا باردة فى ليلة باردة أحصرنهم ، وسفت التراب فى وجوههم ، وأمر ملائكته ، فقلعت الأوتاد ، وقطعت الأطناب ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور ، وما جت الخيل بعضها فى بعض ، وقذف الرعب فى قلوب الأعداء ، حتى قال طليحة بن خويلد الأسدى : إن محمدا قد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء ، فانهزموا من غير قتال.
قال حذيفة بن اليمان وقد بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليأتى بخبر القوم :
خرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت فى ضوء نار لهم توقد ، وإذا رجل أدهم ضخم (أبو سفيان) يقول : الرحيل الرحيل لا مقام لكم ، وإذا الرجل فى عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبرا ، فو اللّه إنى لأسمع صوت الحجارة فى رحالهم وفرشهم ، والريح تضربهم ثم رجعت نحو النبي صلى اللّه عليه وسلم فلما صرت فى منتصف الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بنحو عشرين فارسا معتمّين قالوا : أخبر صاحبك أن اللّه قد كفاك القوم.(21/139)
ج 21 ، ص : 140
والخلاصة : إنه تعالى يمتنّ على عباده المؤمنين بذكر النعم التي أنعم بها عليهم ، إذ صرف عنهم أعداءهم حين تألبوا عليهم وتحزبوا عام الخندق.
(وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) أي وكان اللّه عليما بجميع أعمالكم من حفركم للخندق ، وترتيب وسائل الحرب لإعلاء كلمته ، ومقاساتكم من الجهد والشدائد ما لا حصر له ، بصيرا بها لا يخفى عليه شىء منها ، وهو يجازيكم عليها « وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً » .
ثم زاد الأمر تفصيلا وبيانا ، فقال :
(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي حين جاءتكم الأحزاب من أعلى الوادي من جهة المشرق ، وكانوا من غطفان ، ومن تابعهم من أهل نجد ، ومن بنى قريظة والنضير من اليهود ، ومن أسفله من قبل المغرب ، وكانوا من قريش ، ومن شايعهم من الأحابيش ، وبنى كنانة وأهل تهامة.
(وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) أي وحين مالت الأبصار عن سننها ، وانحرفت عن مستوى نظرها حيرة ودهشة ، وخاف الناس خوفا شديدا ، وفزعوا فزعا عظيما ، وظنوا مختلف الظنون ، فمنهم مؤمن مخلص يستنجز اللّه وعده فى إعلاء دينه ونصرة نبيه ، ويقول : هذا ما وعدنا اللّه ورسوله ، ومنهم منافق وفى قلبه مرض يظن أن محمدا وأصحابه سيستأصلون ، ويستولى المشركون على المدينة ، وتعود الجاهلية سيرتها الأولى ، إلى نحو ذلك من ظنون لا حصر لها تجول فى قلوب المؤمنين والمنافقين ، على قدر ما يكون القلب عامرا بالإخلاص مكتوبا له السعادة أو متشككا فى اعتقاده ليست له عزيمة صادقة.
ثم ذكر أن هذه الشدائد محّصت المؤمنين ، وأظهرت المنافقين.
(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً) أي حين ذاك اختبر اللّه المؤمنين ومحصنهم أشد التمحيص ، فظهر المخلص من المنافق ، والراسخ الإيمان من المتزلزل ، واضطربوا اضطرابا شديدا من الفزع وكثرة العدو.(21/140)
ج 21 ، ص : 141
(وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) أي وحين قال المنافقون كمعتّب بن قشير ، والذين فى قلوبهم ضعف فى الإيمان لقرب عهدهم بالإسلام : ما وعدنا اللّه ورسوله من الظفر والنصر على العدو إلا وعدا باطلا بغرّنا به ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به ، ويسلخنا عن دين آبائنا ، ويقول : إن هذا الدين سيظهر على الدين كله ، وإنه سيفتح لنا فارس والروم ، وها نحن أولاء قد حصرنا هاهنا حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته.
(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) أي وحين قالت جماعة من المنافقين كعبد اللّه بن أبىّ وأصحابه : يا أهل المدينة ليس هذا المقام بمقام لكم فارجعوا إلى منازلكم ليكون ذلك أسلم لكم من القتل.
وقد يكون المعنى : لا مقام لكم فى دين محمد فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الشرك وأسلموا محمدا إلى أعدائه.
(وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) أي ويطلب جماعة منهم من النبي صلى اللّه عليه وسلم الرجوع إلى بيوتهم وتركهم للقتال ، وهم بنو حارثة ، معتذرين بمختلف المعاذير كقولهم : إن بيوتنا مما يلى العدو ذليلة الحيطان يخاف عليها من السرّاق ، والحقيقة أنهم كاذبون فيما يقولون ، وهم مضمرون غير ذلك.
ثمّ بين السبب الحقيقي لهذه المقالة ، فقال :
(إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) أي وما يريدون بالاستئذان إلا الفرار من القتال والهرب من عسكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعدم مساعدة المؤمنين.
ثم بين وهن الدين وضعفه فى قلوبهم إذا ذاك ، وأنه معلق بخيط دقيق ينقطع بأدنى هزة ، فقال :
(وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) أي ولو دخل عليهم الأحزاب من جوانب بيوتهم ، ثم طلبوا إليهم أن يرتدوا عن دينهم ويرجعوا إلى شركهم بربهم - لفعلوا ذلك مسرعين من شدة الهلع والجزع.(21/141)
ج 21 ، ص : 142
وفى هذا إيماء إلى أن الإيمان لا قرار له فى نفوسهم ، ولا أثر له فى قلوبهم ، فهو لا يستطيع مقابلة الصعاب ، ولا مقاومة الشدائد ، فلا تعجب لاستئذانهم وطلبهم الهرب من ميدان القتال.
والخلاصة : إن شدة الخوف والهلع الذي تمكن فى قلوبهم مع خبث طويتّهم ، وإضمارهم النفاق - تحملهم على الإشراك باللّه والرجوع إلى دينهم عند أدنى صدمة تحصل لهم من العدو ، فإيمانهم طلاء ظاهرى لا أثر له فى نفوسهم بحال ، فلا عجب إذا هم تسللوا لواذا ، وبلغ الخوف من نفوسهم كل مبلغ.
ثم بين أن لهم سابقة عهد بالفرار وخوف اللقاء من الكماة ، فقال :
(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) أي ولقد كان هؤلاء المستأذنون وهم بنو حارثة قد هربوا يوم أحد وفرّوا من لقاء عدوهم ، ثم تابوا وعاهدوا اللّه ألا يعودوا إلى مثلها وألا ينكثوا على أعقابهم حين قتالهم مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
ثم بين ما للعهد من حرمة فقال :
(وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا) أي وعهد اللّه يسأل عن الوفاء به يوم القيامة ويجازى عليه.
ثم أمر اللّه رسوله أن يقول لهم : إن فراركم لا يؤخر آجالكم ، ولا يطيل أعماركم ، فقال :
(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) أي قل لهؤلاء المستأذنين الفارّين من قتال العدو ومنازلته فى الميدان : لن ينفعكم الهرب ولا يدفع عنكم ما أبرم فى الأزل من موت أحدكم حتف أنفه ، أو قتله بسيف ونحوه فإن المقدّر كائن لا محالة والأجل إن حضر لم يتأخر بالفرار ، وكان علىّ يقول عند اللقاء : دهم الأمر ، وتوقّد الجمر.(21/142)
ج 21 ، ص : 143
أىّ يومى من الموت أفرّ يوم لا يقدر أم يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجى الحذر
(وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا) أي وإن نفعكم الفرار بأن دفع عنكم الموت فمتّعتم لم يكن ذلك التمتع إلا قليلا ، فإن أيام الحياة وإن طالت قصيرة ، فعمر تأكله الدقائق قليل وإن كثر ، وللّه درّ أحمد شوقى إذ يقول :
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوانى
ولما كانوا ربما يقولون : بل ينفعنا لأنا طالما رأينا من هرب فسلم ، ومن ثبت فاصطلم - أمره اللّه بالجواب عن هذا ، فقال :
(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) أي قل لهم : لا أحد يستطيع أن يمنع عنكم شرا من قتل أو بلاء قدره اللّه عليكم ، أو يؤتيكم خيرا إن لم يكن أراده لكم.
والخلاصة : هل احترزتم فى جميع أعمالكم عن سوء فنفعكم الاحتراز ، أو اجتهد غيركم فى منع الخير عنكم فتمّ له ما أراد ؟ .
وإجمال القول : إن النفع والضر بيده سبحانه ، وليس لغيره فى ذلك تصريف ولا تبديل.
ثم أكد هذا بقوله :
(وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي ولا يجد هؤلاء المنافقون وليا ينفعهم غير اللّه ، ولا نصيرا يدفع السوء عنهم.
وبعد أن أخبر سبحانه رسوله صلى اللّه عليه وسلم بمقالة المنافقين لأهل المدينة ، وأمره بوعظهم - حذّرهم بدوام علمه بمن يخون اللّه ورسوله بقوله :
(قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) أي إن ربك أيها الرسول ليعلم حق العلم من يثبّطون الناس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويصدونهم(21/143)
ج 21 ، ص : 144
عنه ، وعن شهود الحرب معه نفاقا منهم وتخذيلا عن الإسلام ، ويعلم الذين يقولون لأصحابهم وخلطائهم من أهل المدينة : تعالوا إلى ما نحن فيه من الظلال والثمار ، ودعوا محمدا فلا تشهدوا معه مشهدا ، فإنا نخاف عليكم الهلاك.
قال قتادة : كان المنافقون يقولون لإخوانهم من ساكنى المدينة من الأنصار :
ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس (يريدون أنهم قليلو العدد) ولو كانوا لحما لا لتهمهم أبو سفيان وأصحابه ، فدعوه فإنه هالك.
(وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا) أي ولا يأتون الحرب إلا زمنا قليلا ، فقد كانوا لا يأتون المعسكر إلا ليراهم المخلصون ، فإذا غفلوا عنهم تسللوا لواذا وعادوا إلى بيوتهم ثم ذكر بعض معايبهم من البخل والخوف والفخر الكاذب ، فقال :
(1) (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) أي بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة ، فهم لا يودون مساعدتكم لا بنفس ولا بمال.
(2) (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي فإذا بدأ الخوف بكرّ الشجعان وفرّهم فى ميدان القتال - رأيتهم ينظرون إليك وقد دارت أعينهم فى رءوسهم فرقا وخوفا كدوران عين الذي قرب من الموت وغشيته أسبابه ، فإنه إذ ذاك يذهب لبّه ، ويشخص بصره ، فلا يتحرك طرفه.
(3) (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) أي فإذا كان الأمن تكلموا فصيح الكلام ، وفخروا بما لهم من المقامات المشهودة فى النجدة والشجاعة ، وهم فى ذلك كاذبون.
قال قتادة : أمّا عند الغنيمة فأشح قوم وأسوؤه مقاسمة ، يقولون : أعطونا أعطونا قد شهدنا معكم ، وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذ له للحق ا ه.
ثم بين ما دعاهم إلى بسط ألسنتهم فيهم ، فقال :(21/144)
ج 21 ، ص : 145
(أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أي هم بخلاء حريصون على الغنائم إذا ظفر بها المؤمنون ، لا يريدون أن يفوتهم شىء مما وصل إلى أيديهم.
والخلاصة : إنهم حين البأس جبناء ، وحين الغنيمة أشحاء.
أفي السلم أعيار جفاء وغلظة وفى الحرب أمثال النساء العواتك
وبعد أن وصفهم بما وصفهم به من دنىء الصفات - بيّن ما دعاهم إليها ، وهو قلة ثقتهم باللّه لعدم تمكن الوازع النفسي فى قلوبهم ، فقال :
(أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ) أي هؤلاء الذين بسطت أوصافهم لم يصدّقوا اللّه ورسوله ، ولم يخلصوا له العمل ، لأنهم أهل نفاق ، فأبطل اللّه أعمالهم ، وأذهب أجورها ، وجعلها هباء منثورا.
(وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) أي وكان ذلك الإحباط هيّنا على اللّه لا يبالى به إذ هم قوم فعلوا ما يستوجبه ويستدعيه ، فاقتضت حكمته أن يعاملهم بما يقتضيه عدله وتدل عليه حكمته.
ثم أبان مقدار الجبن والهلع الذي لحق بهم ، فقال :
(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي هم من شدة الهلع والخوف ، وعظيم الدهشة والحيرة ، لا يزالون يظنون أن الأحزاب من غطفان وقريش لم يرحلوا ، وقد هزمهم اللّه ورحلوا ، وتفرقوا فى كل واد.
وإجمال القول : إنهم لما لم يقاتلوا لجبنهم ، وضعف إيمانهم ، فكأنهم غائبون ، فظنوا أن الأحزاب لم يرحلوا ، وقد كانوا راحلين منهزمين لا يلوون على شىء.
(وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أي وإن يأت الأحزاب ويعودوا مرة أخرى تمنّوا أن لو كانوا مقيمين فى البادية بعيدين عن المدينة ، حتى لا ينالهم أذى ولا مكروه ، ويكتفون بأن يسألوا عن أخباركم كل قادم من جانب المدينة ، وفى هذا كفاية لديهم لجبنهم ، وخور عزائمهم.
(وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا) أي ولو كان هؤلاء المنافقون فيكم فى الكرة(21/145)
ج 21 ، ص : 146
السابقة ، ولم يرجعوا إلى المدينة ، وكان القتال قتال جلاد وكرّ وفرّ ، وطعن وضرب ، ومحاربة بالسيوف ، ومبارزة فى الصفوف - ما قاتلوا إلا قتالا يسيرا رياء وخوفا من العار ، لا قتالا يحتسبون فيه الثواب من اللّه وحسن الأجر.
وبعد أن فصّل أحوالهم ، وشرح نذالتهم ، وعظيم جبنهم - عاتبهم أشد العتب ، وأبان لهم أنه قد كان لهم برسول اللّه معتبر لو اعتبروا ، وأسوة حسنة لو أرادوا التأسى ، فقال :
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) أي إن المثل العالية ، والقدوة الحسنة ماثلة أمامكم لو شئتم ، فتحتذون الرسول فى أعماله ، وتسيرون على نهجه لو كنتم تبتغون ثواب اللّه ، وتخافون عقابه إذا أزفت الآزفة ، وعدم النصير والمعين ، إلا العمل الصالح ، وكنتم تذكرون اللّه ذكرا كثيرا ، فإن ذكره يؤدى إلى طاعته ، ويحقق الائتساء برسوله.
وخلاصة ذلك : هلا اقتديتم بالرسول ، وتأسيتم بشمائله ؟ .
ولما ذكر سبحانه حال المنافقين - ذكر حال المؤمنين حين لقاء الأحزاب ، فقال :
(وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) أي ولما أبصر المؤمنون الصادقون المخلصون للّه فى القول والعمل - الأحزاب الذين أدهشت رؤيتهم العقول ، وتبلبلت لها الأفكار ، واضطربت الأفئدة - قالوا : هذا ما وعدنا اللّه ورسوله من الابتلاء والاختبار الذي يعقبه النصر فى نحو قوله : « أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ » وقوله : « أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ »
وقول الرسول صلى اللّه عليه وسلم : « سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم ، والعاقبة لكم عليهم »
وقوله : « إنهم سائرون إليكم تسعا أو عشرا » أي فى آخر تسع ليال أو عشر من حين الإخبار.(21/146)
ج 21 ، ص : 147
وصدق اللّه ورسوله فى النصرة والثواب ، كما صدق اللّه ورسوله فى البلاء والاختبار ، ومازادهم ذلك إلا صبرا على البلاء ، وتسليما للقضاء ، وتصديقا بتحقيق ما كان اللّه ورسوله قد وعدهم.
ثم وصف سبحانه بعض الكملة من المؤمنين الذين صدقوا عند اللقاء ، واحتملوا البأساء والضراء ، فقال :
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) أي ومن المؤمنين باللّه ، المصدقين برسوله ، رجال أوفوا بما عاهدوا اللّه عليه من الصبر فى اللأواء وحين البأساء ، فاستشهد بعض يوم بدر ، وبعض يوم أحد ، وبعض فى غير هذه المواطن ، ومنهم من ينتظر قضاءه والفراغ منه كما قضى من مضى منهم على الوفاء للّه بعهده ، وما غيّروه وما بدلوه.
أخرج الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي فى جماعة آخرين عن أنس قال : « غاب عمى أنس بن النضر عن بدر ، فشق عليه ، وقال : أول مشهد شهده رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غبت عنه ، لئن أرانى اللّه تعالى مشهدا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما بعد ليرينّ اللّه تعالى ما أصنع ، فشهد يوم أحد ، فاستقبله سعد بن معاذ رضى اللّه عنه ، فقال : يا أبا عمرو إلى أين ؟ قال : واها لريح الجنة أجدها دون أحد ، فقاتل حتى قتل ، فوجد فى جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية ، ونزلت هذه الآية :
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) إلخ.
وروى صاحب الكشاف أن رجالا من الصحابة نذروا أنهم إذا لقوا حربا مع رسول اللّه ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا ، وهم عثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد اللّه ، وسعيد بن زيد ، وحمزة ومصعب بن عمير ، وجمع غيرهم.
ثم بيّن العلة فى هذا الابتلاء والتمحيص ، فقال :
(لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)(21/147)
ج 21 ، ص : 148
أي إنه سبحانه إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال ليميز الخبيث من الطيب ، ويظهر أمر كل منهما جليا واضحا كما قال : « وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ » وقال : « ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ » ثم يثيب أهل الصدق منهم بصدقهم بما عاهدوا اللّه عليه ، ووفائهم له به ، ويعذب المنافقين الناقضين لعهده ، المخالفين لأوامره ، إذا استمروا على نفاقهم حتى يلقوه ، فإن تابوا ونزعوا عن نفاقهم ، وعملوا صالح الأعمال غفر لهم ما أسلفوا من السيئات ، واجترحوا من الآثام والذنوب.
ولما كانت رحمته ورأفته بخلقه هى الغالبة قال :
(إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي إنه تعالى من شأنه الستر على ذنوب التائبين والرحمة بهم ، فلا يعاقبهم بعد التوبة ، وفى هذا حثّ عليها فى كل حين ، وبيان نفعها للتائبين.
ثم رجع يحكى بقية القصص وفصّل ذلك تتميما للنعمة التي أشار إليها إجمالا بقوله :
« فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها » ووسط بينهما بإيضاح ما نزل بهم من الطامة التي تحير العقول والأفهام ، والداهية التي نزلت فيها الأقدام ، وما صدر من من الفريقين المؤمنين وأهل الكفر والنفاق من الأحوال والأقوال ، لإظهار عظمة النعمة ، وإبانة جليل خطرها ، ومجيئها حين اشتداد الحاجة إليها فقال :
(وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) أي فأرسلنا ريحا وجنودا لم تروها ، ورددنا الذين كفروا باللّه ورسوله من قريش وغطفان بغمّهم ، بفوت ما أمّلوا من الظفر ، وخيبتهم فيما كانوا طمعوا فيه من الغلبة والنصر على محمد وصحبه ، إذ لم يصيبوا مالا ولا إسارا ، ولم يحتج المؤمنون إلى منازلتهم ومبارزتهم لإجلائهم عن بلادهم ، بل كفى اللّه المؤمنين القتال ، ونصر عبده ، وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده. فلا شىء بعده.(21/148)
ج 21 ، ص : 149
روى الشيخان من حديث أبى هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول « لا إله إلا اللّه وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، فلا شىء بعده » .
ورويا أيضا عن عبد اللّه بن أوفى قال : « دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الأحزاب فقال : اللهم منزّل الكتاب ، سريع الحساب ، اهزم الأحزاب ، اللهم اهزمهم وزلزلهم » .
وروى محمد بن إسحاق أنه لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ، ولكنكم تغزونهم »
وقد تحقق هذا فلم تغزهم قريش بعد ذلك ، بل كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يغزوهم حتى فتح اللّه تعالى مكة.
(وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) أي وكان اللّه عزيزا بحوله وقوته ، فردّهم خائبين لم ينالوا خيرا.
ولما قص أمر الأحزاب وذكر ما انتهى إليه أمرهم ذكر حال من عاونوهم من اليهود فقال :
(وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ) أي وأنزل اللّه يهود بنى قريظة الذين عاونوا الأحزاب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من حصونهم بعد أن نقضوا العهد بسفارة حيىّ بن أخطب النضيري ، إذ لم يزل بزعيمهم كعب بن أسد حتى نقض العهد وكان مما قاله له : جئتك بعزّ الدهر ، أتيتك بقريش وأحابيشها ، وغطفان وأتباعها ، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه ، فقال له كعب :
بل واللّه جئتنى بذلّ الدهر ، ويحك يا حيىّ إنك مشئوم ، فدعنا منك ، فلم يزل يفتل له فى الذورة والغارب (يخادعه) حتى أجابه ، واشترط له حيىّ إن ذهب الأحزاب ولم يكن من أمرهم شىء أن يدخل معهم فى الحصن فيكون أسوتهم.
ولما أيد اللّه المؤمنين وكبت أعداءهم وردهم خائبين ورجعوا إلى المدينة ووضع الناس(21/149)
ج 21 ، ص : 150
السلاح - أوحى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن انهض إلى بنى قريظة من فورك ، فأمر الناس بالسير إليهم ، وكانوا على أميال من المدينة بعد صلاة الظهر
وقال صلى اللّه عليه وسلم « لا يصلينّ أحد منكم العصر إلا فى بنى قريظة »
فسار الناس فأدركتهم الصلاة ، فصلى بعض فى الطريق ، وقال آخرون : لا نصليها إلا فى بنى قريظة فلم يعنّف واحدا من الفريقين.
(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) أي
وألقى الرعب فى قلوبهم حين نازلهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة ، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس لأنهم كانوا حلفاءهم ، فأحضره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال له : إن هؤلاء نزلوا على حكمك فاحكم فيهم بما شئت ، فقال رضى اللّه عنه : وحكمى نافذ فيهم ؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « نعم » فقال إنى أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم وأموالهم ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « لقد حكمت فيهم بحكم اللّه وحكم رسوله » ثم أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالأخاديد فخدّت فى الأرض وجيء بهم مكتوفى الأيدى فضربت أعناقهم وكانوا ما بين سبعمائة وثمانمائة وسبى من لم ينبت منهم مع النساء ، وسبى أموالهم.
والخلاصة - إنه قذف الرعب فى قلوبهم ، حتى أسلموا أنفسهم للقتل ، وأهليهم وأموالهم للأسر.
(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) أي وأورثكم مزارعهم ونخيلهم ، ومنازلهم وأموالهم التي ادّخروها ، وما شبتهم من كل ثاغية وراغية ، وأرضا لم تطئوها وهى الأرضون التي سيفتحها المسلمون حتى يوم القيامة ، قاله عكرمة واختاره أبو حيان.
(وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) أي وكان اللّه قديرا على أن يورّثكم ذلك ، وعلى أن ينصركم عليهم ، إذ لا يتعذر عليه شىء أراده ، ولا يمتنع عليه فعل شىء شاءه.(21/150)
ج 21 ، ص : 151
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 30]
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)
تفسير المفردات
زينة الدنيا : زخرفها ونعيمها ، فتعالين : أي أقبلن باختياركن واخترن أحد الأمرين ، أمتعكن : أي أعطكن المتعة ، وهى قميص وغطاء للرأس وملحفة - ملاءة - بحسب السعة والإقتار ، وأسرحكن : أي أطلقكن ، سراحا جميلا : أي طلافا من غير ضرار ولا مخاصمة ولا مشاجرة ، بفاحشة : أي فعلة قبيحة كنشوز وسوء خلق واختيار الحياة الدنيا وزينتها على اللّه ورسوله ، مبينة : أي ظاهرة القبح من قولهم : بيّن كذا بمعنى ظهر وتبين ، ضعفين : أي ضعفى عذاب غيرهن أي مثليه ، يسيرا : أي هيّنا لا يمنعه عنه كونهن نساء النبي ، بل هذا سبب له.
المعنى الجملي
بعد أن نصر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم ، فردّ عنه الأحزاب ، وفتح عليه قريظة والنضير ، ظن أزواجه رضى اللّه عنهن أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم فقعدن حوله وقلن يا رسول اللّه : بنات كسرى وقيصر فى الحلي والحلل ، والإماء والخول - الخدم والحشم - ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق ، وآلمن قلبه الشريف بمطالبهن من توسعة الحال ومعاملتهن معاملة نساء الملوك وأبناء الدنيا من التمتع بزخرفها من المأكل والمشرب ونحو ذلك فأمره اللّه تعالى أن يتلو عليهن ما نزل فى شأنهن :(21/151)
ج 21 ، ص : 152
روى أحمد عن جابر رضى اللّه عنه قال : « أقبل أبو بكر رضى اللّه عنه يستأذن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، والناس ببابه جلوس ، والنبي صلى اللّه عليه وسلم جالس فلم يؤذن له ، ثم أقبل عمر رضى اللّه عنه فاستأذن فلم يؤذن له ، ثم أذن لأبى بكر وعمر رضى اللّه عنهما فدخلا ، والنبي صلى اللّه عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو ساكت ، فقال عمر لأكلمنّ النبي صلى اللّه عليه وسلم لعله يضحك ، قال :
يا رسول اللّه! لو رأيت ابنة زيد - امرأة عمر - سألتنى النفقة آنفا فوجأت عنقها ، فضحك النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال « هنّ حولى يسألننى النفقة » فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها ، وقام عمر إلى حفصة ، كلاهما يقول : تسألان النبي صلى اللّه عليه وسلم ما ليس عنده ، فنهاهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلن : واللّه لا نسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده ، وأنزل اللّه عز وجل الخيار ، فبدأ بعائشة رضى اللّه عنها فقال لها إنى أذكر لك أمرا ما أحب أن تعجلى فيه حتى تستأمرى أبويك ، قالت وما هو ؟ فتلا عليها : « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ » الآية. قالت عائشة رضى اللّه عنها : أ فيك أستأمر أبوىّ ؟ بل أختار اللّه تعالى ورسوله ، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت ، فقال صلى اللّه عليه وسلم « إن اللّه تعالى لم يبعثنى معنّفا ولكن بعثني معلّما ميسرا ، لا تسألنى امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها » رواه مسلم والنسائي.
ثم وعظهن بعد أن اخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة وخصهن بأحكام يجدر بمثلهن أن يستمسكن بها لما لهنّ من مركز ممتاز بين نساء المسلمين ، لأنهن أمهات المؤمنين ، وموضع التجلّة والكرامة ، إلى أنهن فى بيت صاحب الدعوة الإسلامية ، ومنه انبعث نور الهدى والطهر والعفاف ، فأجدر بهن أن يكنّ المثل العليا فى ذلك ، ويكنّ قدوة يأتسى بهن نساء المؤمنين جميعا ، ويا لها منقبة أوتيت لهن دون سعى ولا إيجاف منهن ، بل هى منحة أكرمهن اللّه بها ، فله الحمد فى الآخرة والأولى.(21/152)
ج 21 ، ص : 153
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا) أي يا أيها الرسول قل لأزواجك : اخترن لأنفسكن إحدى خلتين : أولاهما أن تكنّ ممن يحببن لذّات الدنيا ونعيمها والتمتع بزخرفها فليس لكنّ عندى مقام ، إذ ليس عندى شىء منها ، فأقبلن علىّ أعطكن ما أوجب اللّه على الرجال للنساء من المتعة عند فراقهم إياهن بالطلاق ، تطييبا لخاطرهن وتعويضا لهن عما لحقهن من ضرر بالطلاق ، وهى كسوة تختلف بحسب الغنى والفقر واليسار والإقتار كما قال تعالى : « وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ » ثم أسرحكن وأطلقن على ما أذن اللّه به وأدّب به عباده بقوله :
« إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ » وكان عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومئذ تسع نسوة : خمس من قريش : عائشة وحفصة وأمّ حبيبة وسودة وأم سلمة رضى اللّه عنهن وأربع من غير القرشيات : زينب بنت جحش الأسدية ، وميمونة بنت الحرث الهلالية ، وصفيّة بنت حيىّ بن أخطب النضيرية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية.
وحين نزلت هذه الآية عرض عليهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك وبدأ بعائشة وكانت أحبّ أهله إليه فخيّرها وقرأ عليها القرآن فاختارت اللّه ورسوله والدار الآخرة ، ففرح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم تابعها بقية نسائه.
ثم ذكر ثانية الخلتين فقال :
(وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) أي وإن كنتن تردن رضا اللّه ورضا رسوله وثواب الدار الآخرة فأطعنهما فإن اللّه أعد للمحسنات منكن فى أعمالهن القولية والفعلية ثوابا عظيما تستحقر الدنيا وزينتها دونه ، كفاء إحسانهن.(21/153)
ج 21 ، ص : 154
والخلاصة - أنتنّ بين أحد أمرين : أن تقمن مع الرسول وترضين بما قسم لكن وتطعن اللّه ، وأن يمتعكن ويفارقكن إن لم ترضين بذلك.
وبعد أن خيرهن واخترن اللّه ورسوله - أتبع ذلك بعظتهن وتهديدهن إذا هن فعلن ما يسوء النبي صلى اللّه عليه وسلم وأوعدهن بمضاعفة العذاب فقال :
(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) أي من يعص منكن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ويطلب ما يشق عليه ويضق به ذرعا ويغتم لأجله - يضاعف لها العذاب يوم القيامة ضعفين ، أي تعذب ضعفى عذاب غيرها ، لأن قبح المعصية منهن أشد ، ومن ثم كان ذم العقلاء للعالم العاصي أشد منه للجاهل العاصي ، وكان ذلك سهلا يسيرا على اللّه الذي لا يحابى أحدا لأجل أحد ، إذ كونهن نساء رسوله ليس بمغن عنهن شيئا ، بل هو سبب لمضاعفة العذاب.
روى أن رجلا قال لزين العابدين رضى اللّه عنه : إنكم أهل بيت مغفور لكم ، فغضب وقال : نحن أحرى أن يجرى فينا ما أجرى اللّه فى أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم من أن نكون كما قلت ، إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر ، ولمسيئنا ضعفين من العذاب وقرأ هذه الآية والتي بعدها.
وإلى هنا تم ما أردنا من تفسير هذا الجزء من كلام ربنا القديم ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله ، والحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات.
وكان الفراغ من مسودّته صبيحة يوم الثلاثاء لسبع بقين من جمادى الآخرة من سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية بحلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية.(21/154)
ج 21 ، ص : 155
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 5 جدال المشركين بالغلظة ، وجدال أهل الكتاب بالحسنى 5 فى الحديث « لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم 6 الحكمة فى كون الرسول أميا.
6 لا يكذب بالقرآن إلا من يستر الحق بالباطل.
7 فى الحديث « ما من نبى إلا وقد أعطى ما آمن على مثله البشر » .
8 طلب المشركون من النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يأتيهم 10 أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم أن يقول للمشركين كفى 12 استعجال المشركين لنزول العذاب.
12 بيان جهلهم فى هذا الاستعجال.
13 الأمر بالهجرة عند خوف الفتنة فى الدين.
15 الموت فى كل حين ينشد الكفنا.
15 جزاء المؤمنين الصالحين الصابرين المتوكلين.
17 المشركون لا ينكرون أن اللّه خالق السموات والأرض.
17 سعة الرزق وضيقه بحسب السنن التي وضعت فى الكون 19 الدنيا لعب ولهو ، والحياة الحقة هى دار الآخرة.
21 كان المشركون إذا اشتدّ بهم الخوف دعوا اللّه ، وإذا أمنوا 21 معرفة اللّه فى فطرة كل إنسان.
22 الامتنان على قريش بسكنى حرم اللّه.
23 مثوى الكافرين جهنم وبئس القرار.
23 الذين اهتدوا يزيدهم اللّه هدى.
24 الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك.
25 خلاصة ما تضمنته سورة العنكبوت.
26 الصلة بين سورتى العنكبوت والروم.
27 فرح المشركين بغلبة فارس للروم.
27 الخطر الذي قدّمه أبو بكر لمن ناحبه.
28 الحروف المقطعة فى أوائل السور.
28 غلبة الروم لفارس كما وعد اللّه ، وفرح المؤمنين بذلك. 29 الكافرون غافلون عن الآخرة.
30 الأدلة متظاهرة فى الأنفس والآفاق على وحدانية اللّه.
32 يوم تقوم الساعة يتفرق الناس ، ففريق فى الجنة وفريق 34 ما يوصل إلى الجنة ويبعد عن النار.
36 صفات الإله المستحق للثناء والتقديس.
37 الأدلة على البعث والإعادة فى خلق الإنسان.
39 الأدلة فى الأكوان المشاهدة والعوالم المختلفة.
42 فى الحديث « كذّبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك » إلخ 43 ضرب الأمثال على الوحدانية 45 أمره صلى اللّه عليه وسلم بعدم المبالاة بأمر المشركين 46 العقل الإنسانى كصحيفة بيضاء قابلة لكل نقش 47 فى الحديث « اعبد اللّه كأنك تراه » إلخ.
47 اختلف أهل الأديان فرقا وشيعا.
51 أمره صلى اللّه عليه وسلم بالإنفاق على ذوى القربى 54 تهديد المشركين بالنظر إلى أن من كان قبلهم كانت عاقبتهم 58 الأدلة على وجود الخالق ووحدانيته.
60 البرهان على البعث والنشور.
64 من الأدلة على وجود الخالق تنقل الإنسان فى أطوار مختلفة 66 يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة.
67 يوم القيامة لا ينفع الظالمين معاذيرهم عما فعلوا 68 الرسول أدى واجبه ومن خالفه فهو معاند.
69 أمره صلى اللّه عليه وسلم بتلقى المكاره بصدر رحب وسعة 70 خلاصة ما احتوت عليه سورة الروم من الموضوعات 71 المناسبة بين سورتى الروم ولقمان.
72 القرآن هدى ورحمة للمحسنين.
73 ما كان يفعله النضر بن الحارث عند سماع القرآن.
74 آراء العلماء فى سماع الغناء.(21/155)
ج 21 ، ص : 156
75 جواز استعمال الطبل والدفّ فى إعلان النكاح.
77 الاستدلال على وحدانية اللّه.
78 حكمة لقمان.
79 عظة لقمان لابنه.
82 وصيته سبحانه بحسن معاملة الوالدين.
82 تأكيد الوصية بالأم خاصة.
83 حديث سعد بن أبى وقاص مع أمه.
84 وصية لقمان لابنه بإقامة الصلاة.
85 تحذيره لابنه من تصعير الخد مرحا.
86 الأمر بغضّ الصوت.
89 تقليد المشركين للآباء والأجداد.
90 حال المستسلم المفوض أمره إلى اللّه.
92 المشركون يقرون بأن خالق السموات والأرض هو اللّه.
94 عظمة اللّه لا يحيط بها أحد.
97 الدلائل الأرضية على وحدانية اللّه سبحانه.
98 الأمر بتقوى اللّه وخشيته خوفا من ذلك اليوم الذي لا ينفع.
99 التحذير من غرور الدنيا والشيطان.
100 خمس لا يعلمهن إلا اللّه.
101 مجمل سورة لقمان.
102 وجه اتصال السجدة بلقمان.
104 الأيام الستة التي خلق اللّه فيها العالم.
105 ماذا يراد باليوم الذي هو كألف سنة ؟ .
105 أطوار خلق الإنسان.
106 استبعاد المشركين للبعث وأسباب ذلك.
108 حال المشركين حين معاينة العذاب.
110 علامات أهل الإيمان.
115 مآل المؤمن والكافر.
116 انتقام اللّه من المجرمين. 118 أدلة التوحيد.
120 استبعاد المشركين حصول النصر للنبى صلى اللّه عليه وسلم 122 مجمل ما اشتملت عليه سورة السجدة.
123 سورة الأحزاب.
124 أمر النبي بتقوى اللّه ونهيه عن طاعة الكافرين والمنافقين.
125 أمر النبي بالتوكل عليه وتفويض الأمور إليه وحده.
126 لا يجتمع خوف من اللّه وخوف من سواه.
127 لا تجتمع الزوجية والأمومة فى امرأة.
129 أبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم للمؤمنين أشرف لهم من أبوّة 130 قال عمر : يا رسول اللّه لأنت أحب إلىّ من كل شىء إلخ 131 كان التوارث فى بدء الإسلام بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين 132 أخذ الميثاق على الرسل.
133 غزوة الأحزاب - وقعة الخندق.
137 سياسة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحسن تدبيره فى هذه الموقعة 140 الشدائد تمحص المؤمن وتظهر نفاق المنافق.
141 تحريض المنافقين للجند بالفرار من الموقعة.
142 لا ينفع حذر من قدر.
143 النفع والضر بيد اللّه.
144 ذكر معايب المنافقين.
145 وصف المنافقين.
146 حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب.
147 بعض الكملة من المؤمنين الذين صدقوا عند اللقاء.
148 كفى اللّه المؤمنين القتال.
149 ذكر ما حل باليهود بعد الموقعة.
150 اليهود أسلموا أنفسهم للقتل ، وأهليهم وأموالهم للأسر.
151 تخيير النبي صلى اللّه عليه وسلم لنسائه.
152 وعظ نساء النبي وتخصيصهن بأحكام يجدر بمثلهن أن(21/156)
ج 22 ، ص : 3
الجزء الثاني والعشرون
[تتمة سورة الأحزاب ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأحزاب (33) : آية 31]
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31)
شرح المفردات
يقنت : أي يخشع ويخضع ، وأعتدنا : هيأنا وأعددنا ، كريما : أي سالما من الآفات والعيوب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر زيادة عقابهن إذا أتين بفاحشة مبينة ، أتبعه بذكر ثوابهن إذا هن عملن صالح الأعمال - مع ما هيأه لهن من الرزق الكريم فى الدنيا والآخرة ، ففى الدنيا يوفّقن إلى إنفاق ما يرزقن على وجه يكون لهن فيه عظيم الأجر والثواب ، ولا يخشين من أجله العقاب ، وفى الآخرة يرزقن ما لا يحدّ ولا يوصف من غير نكد ولا كدر.(22/3)
ج 22 ، ص : 4
الإيضاح
(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ)
أي ومن تطع منكنّ اللّه ورسوله وتعمل صالح الأعمال نضاعف لها الأجر والمثوبة ، لكرامتها علينا بوجودها فى بيت النبوة ومنزل الوحى ونور الحكمة وعين الهداية.
(وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) أي وزيادة على هذا أعددنا لها الكرامة فى الدنيا والآخرة ، أما فى الدنيا فلأنها تكون مرموقة بعين الغبطة لدى نساء العالمين ، منظورا إليها نظرة المهابة والإجلال ، وأما فى الآخرة فلها رفيع الدرجات ، وعظيم المنازل عنده تعالى فى جنات النعيم.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 32 الى 34]
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34)
تفسير المفردات
أصل أحد وحد بمعنى الواحد وهو فى النفي عام للمذكر والمؤنث ، والواحد والكثير :
أي لستنّ كجماعة واحدة من جماعات النساء ، فإذا استقرئت أمّة النساء جماعة جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن فى الفضل والمسابقة ، والاتقاء بمعنى الاستقبال ، وهو بهذا المعنى معروف فى اللغة قال النابغة :
سقط النّصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتّقتنا باليد(22/4)
ج 22 ، ص : 5
أي استقبلتنا باليد قاله أبو حيان فى البحر ، ومنه قوله تعالى : « أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ » : فلا تخضعن بالقول : أي فلا تجبن بقول خاضع ليّن ، أي إذا استقبلتن أحدا فلا تلنّ الكلام ولا ترققنه ، مرض : أي ريبة وفجور ، قولا معروفا : أي حسنا بعيدا من الريبة غير مطمع لأحد ، قرن : من قرّ يقرّ من باب علم وأصله اقررن دخله الحذف ، والتبرج : إبداء المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره ، والجاهلية الأولى :
هى الجاهلية القديمة جاهلية الكفر قبل الإسلام ، وهناك جاهلية أخرى هى جاهلية الفسوق فى الإسلام ، والرجس : فى الأصل الشيء القذر والمراد به هنا الإثم المدنّس للعرض ، واذكرن ما يتلى فى بيوتكن : أي وعظن الناس بما يتلى فى بيوتكنّ ، وآيات اللّه : هى القرآن ، والحكمة : هى السنة وحديث الرسول.
المعنى الجملي
بعد أن أذكر ما اختص به أمهات المؤمنين من مضاعفة العذاب والثواب ، أردف ذلك بيان أن لهن مكانة على بقية النساء ، تم نهاهن عن رخامة الصوت ولين الكلام إذا هن استقبلن أحدا حتى لا يطمع فيهن من فى قلبه نفاق ، ثم أمرهن بالقرار فى بيوتهن ونها هن عن إظهار محاسنهن كما يفعل ذلك أهل الجاهلية الأولى ، ثم أمرهنّ بأهمّ أركان الدين ، وهو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة اللّه ورسوله فيما يأمر وينهى ، لأنه تعالى أذهب الآثام عن أهل البيت وطهرهم تطهيرا ، ثم أمرهن بتعليم غيرهن القرآن وما يسمعنه من النبي صلى اللّه عليه وسلم من السنة.
الإيضاح
(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) أي يا نساء النبي إذا استقصيت النساء جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن فى الفضل والكرامة.
والخلاصة - إنه لا يشبهكن أحد من النساء ولا يلحقكنّ فى الفضيلة والمنزلة.(22/5)
ج 22 ، ص : 6
(إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً) أي إذا استقبلتن أحدا من الرجال فلا ترقّقن الكلام فيطمع فى الخيانة من فى قلبه فساد وريبة من فسق ونفاق ، وقلن قولا بعيدا عن الريبة غير مطمع لأحد.
وتفسير الاتقاء بهذا المعنى أبلغ فى مدحهن ، إذ لم يعلق فضلهن على التقوى ، ولا نهيهن عن الخضوع بها إذ هن متقيات للّه فى أنفسهن ، والتعليق يقتضى بظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى قاله فى البحر ، وقال فى الكشاف : إن المعنى إن أردتن التقوى ، أو إن كنتن متقيات ا ه ، يريد إن اتقيتن مخالفة حكم اللّه تعالى ورضا رسوله صلى اللّه عليه وسلم.
وإجمال هذا - خاطبن الأجانب بكلام لا ترخيم فيه للصوت ولا تخاطبنهم كما تخاطبن الأزواج.
ولما أمرهن بالقول المعروف أتبعه بذكر الفعل فقال :
(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) أي الزمن بيوتكن ، فلا تخرجن لغير حاجة ، وهو أمر لهن ولسائر النساء ،
أخرج الترمذي والبزّار عن ابن مسعود أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « إن المرأة عورة فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان ، وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهى فى قعر بيتها » .
(وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ) أي ولا تبدين زينتكن ومحاسنكن للرجال كما كان النساء يفعلن ذلك فى الجاهلية قبل الإسلام.
وبعد أن نهاهن عن الشر أمرهن بالخير فقال :
(وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي وأدّين الصلاة على الوجه القيّم المعتبر شرعا ، وأعطين زكاة أموالكن كما أمركن اللّه.
وخص هاتين العبادتين بالذكر لما لهما من كبير الآثار فى طهارة النفس وطهارة المال.(22/6)
ج 22 ، ص : 7
وأطعن اللّه ورسوله فيما تأتين وما تذرن ، واجعلن نصب أعينكن اتباع الأوامر وترك النواهي.
ثم ذكر السبب فى هذه الأوامر والنواهي على وجه عام فقال :
(إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) إنما يريد اللّه ليذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت الرسول ويطهركم من دنس الفسق والفجور الذي يعلق بأرباب الذنوب والمعاصي.
وأهل بيته صلى اللّه عليه وسلم من كان ملازما له من الرجال والنساء والأزواج والإماء والأقارب ، وكلما كان المرء منهم أقرب وبالنبي أخصّ وألزم كان بالارادة أحق وأجدر.
وعن ابن عباس قال : « شهدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تسعة أشهر يأتى كل يوم باب على بن أبى طالب عند وقت كل صلاة فيقول : « السلام عليكم ورحمة اللّه ، إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ، الصلاة يرحمكم اللّه ، كل يوم خمس مرات » .
ثم بين ما أنعم به عليهن من أن بيوتهن مهابط الوحى بقوله :
(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) أي واذكرن نعمة اللّه عليكن ، بأن جعلكن فى بيوت تتلى فيها آيات اللّه وما ينزل على الرسول من أحكام الدين ولم ينزل به قرآن ، فاحمدن اللّه على ذلك واشكرنه على جزيل فضله عليكن.
ولا يخفى ما فى هذا من الحث على الانتهاء والائتمار فيما كلّفنه ، كما لا يخفى ما فى تسمية ما نزل عليه من الشرائع بالحكمة ، إذ فيه الحكمة فى صلاح المجتمع فى معاشه ومعاده ، فمن استمسك به رشد ، ومن تركه ضلّ عن طريق الهدى ، وسلك سبيل الردى.
(إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) أي إن اللّه كان ذا لطف بكنّ إذ جعلكن فى البيوت التي تتلى فيها آياته وشرائعه ، خبيرا بكنّ إذ اختار كن لرسوله أزواجا.(22/7)
ج 22 ، ص : 8
[سورة الأحزاب (33) : آية 35]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
تفسير المفردات
الإسلام : الانقياد والخضوع لأمر اللّه ، والإيمان : التصديق بما جاء عن اللّه من أمر ونهى ، والقنوت : هو الطاعة فى سكون ، والصبر : تحمل المشاق على المكاره والعبادات والبعد عن المعاصي ، والخشوع : السكون والطمأنينة ، أعد اللّه لهم مغفرة :
أي هيأ لهم مغفرة تمحو ذنوبهم ، وأجرا عظيما : أي نعيما عند ربهم يوم القيامة.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه نساء نبيه صلى اللّه عليه وسلم بأشياء ونهاهن عن أخرى ، ذكر هنا ما أعد للمسلمين والمسلمات من الأجر والكرامة عنده فى الدار الآخرة. روى أحمد عن عبد الرحمن بن شيبة قال : « سمعت أم سلمة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم تقول :
قلت للنبى صلى اللّه عليه وسلم : ما لنا لا نذكر فى القرآن كما يذكر الرجال ؟ قالت فلم يرعنى منه ذات يوم إلا نداؤه على المنبر ، وأنا أسرّح رأسى فلففت شعرى ثم خرجت إلى حجرة من حجرهن فجعلت سمعى عند الجريد فإذا هو يقول على المنبر يا أيها الناس إنّ اللّه يقول فى كتابه : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) - إلى قوله :
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) » .(22/8)
ج 22 ، ص : 9
الإيضاح
ذكر اللّه سبحانه الأوصاف التي يستحق بها عباده أن يمحو عنهم زلاتهم ويثيبهم بالنعيم المقيم عنده وهى :
(1) إسلام الظاهر بالانقياد لأحكام الدين فى القول والعمل.
(2) إسلام الباطن بالتصديق التام والإذعان لما فرض الدين من الأحكام وهذا هو الإيمان.
(3) القنوت وهو دوام العمل فى هدوء وطمأنينة كما قال : « أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ؟ » وقال : « يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ » .
فالإسلام والانقياد مرتبة تعقبها مرتبة الإذعان والتصديق وينشأ عن مجموعهما القنوت والخشوع.
(4) الصدق فى الأقوال والأعمال ، وهو علامة الإيمان كما أن الكذب أمارة النفاق ، فمن صدق نجا ،
وفى الحديث « عليكم بالصدق فإنه يهدى إلى البر ، وإن البر يهدى إلى الجنة ، وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدى إلى الفجور ، وإن الفجور يهدى إلى النار »
(5) الصبر على المكاره وتحمل المشاقّ فى أداء العبادات وترك الشهوات.
(6) الخشوع والتواضع للّه تعالى بالقلب والجوارح ابتغاء ثوابه وخوفا من عقابه كما
جاء فى الحديث « اعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك »
(7) التصدق بالمال والإحسان إلى المحاويج الذين لا كسب لهم ولا كاسب ،
وقد ثبت فى الصحيح « سبعة يظلهم اللّه فى ظله يوم لا ظل إلا ظله .. ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه »
وفى حديث آخر « والصدقة تطفئ الخطية كما يطفىء الماء النار »(22/9)
ج 22 ، ص : 10
(8) الصوم فإنه نعم العون على كسر الشهوة كما
روى ابن ماجه من قوله صلى اللّه عليه وسلم « والصوم زكاة البدن »
أي إنه يزكّيه ويطهره من الأخلاط الرديئة طبعا وشرعا ،
وجاء عنه صلى اللّه عليه وسلم « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليهبالصوم فإنه له وجاء » .
(9) حفظ الفروج عن المحارم والآثام كما جاء فى الآية الأخرى : « وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ » .
(10) ذكر اللّه ذكرا كثيرا بالألسنة والقلوب ، روى عن مجاهد أنه قال :
لا يكتب الرجل من الذاكرين اللّه كثيرا حتى يذكر اللّه تعالى قائما وقاعدا ومضطجعا.
وأخرج النسائي وابن ماجه وأبو داود وغيرهم عن أبى سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصلّيا ركعتين كانا تلك الليلة من الذاكرين اللّه كثيرا والذاكرات »
: روى عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : « سبق المفردون ، قالوا وما المفردون ؟ قال الذاكرون اللّه كثيرا والذاكرات » .
وروى أحمد عن سهل بن معاذا الجهني عن أبيه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « إن رجلا سأله فقال : أىّ المجاهدين أعظم أجرا يا رسول اللّه ؟ قال صلى اللّه عليه وسلم أكثرهم للّه تعالى ذكرا ، قال فأىّ الصائمين أكثر أجرا ؟ قال صلى اللّه عليه وسلم أكثرهم للّه عز وجل ذكرا ، ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل ذلك يقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أكثرهم للّه ذكرا ، فقال أبو بكر لعمر رضى اللّه عنهما :
ذهب الذاكرون بكل خير ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : أجل » .
هؤلاء الذين جمعوا هذه الأوصاف يمحو عنهم ذنوبهم ويؤتيهم الأجر العظيم فى جنات النعيم.(22/10)
ج 22 ، ص : 11
قصة زينب بنت جحش
زواجها لزيد بن حارثة مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، طلاقها منه ، زواجها لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لإبطال عادة جاهلية ، وهى إعطاء المتبنّى حكم الابن فى حرمة زواج امرأته بعد طلاقها.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 الى 40]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)
تفسير المفردات
تقول ما كان لفلان أن يفعل كذا : أي لا ينبغى له ، والخيرة : الاختيار ، مبينا :
أي ظاهر الانحراف عن سنن الصواب ، أنعم اللّه عليه : أي بالإسلام ، وأنعمت عليه :(22/11)
ج 22 ، ص : 12
أي بالعتق ونيل الحرية ، واتق اللّه : أي فى أمرها ولا تطلقها ضرارا ، وتخشى الناس :
أي تخاف من اعتراضهم وقولهم إن محمدا تزوج امرأة ابنه ، والوطر : الحاجة والمراد أنه لم يبق له بها حاجة الزوجية فطلقها ، زوجنا كها : أي جعلناها زوجة لك ، والحرج : المشقة ، فرض له : أي قدّر من قولهم فرض للجند كذا أي قدر لهم ، سنة اللّه : أي سن اللّه ذلك سنة ، خلوا : أي مضوا ، قدرا مقدورا : أي مقضيا وكائنا لا بد منه
المعنى الجملي
بعد أن أمر اللّه نبيه أن يخير زوجاته بين البقاء معه والتسريح سراحا جميلا وفهم من هذا أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم لا يريد ضررا لغيره ، فمن كان ميله إلى شىء مكّنه منه وترك حظ نفسه لحظ غيره - ذكر هنا أن زمام الاختيار ليس بيد الإنسان فى كل شىء كما أعطى ذلك للزوجات ، بل هناك أمور لا اختيار لمؤمن ولا مؤمنة فيها وهى ما حكم اللّه فيه ، فما أمر به فهو المتّبع ، وما أراد النبي صلى اللّه عليه وسلم فهو الحق ، ومن خالفهما فقد ضل ضلالا مبينا.
وقد نزلت هذه الآيات فى زينب بنت جحش بنت عمة النبي صلى اللّه عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب وقد خطبها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة فأبت وأبى أخوها عبد اللّه بن جحش فنزل : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إلخ فلما نزلت قالا رضينا يا رسول اللّه فأنكحها إياه وساق عنه إليها مهرها ستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدّا من طعام وثلاثين صاعا من تمر.
والحكمة فى هذا الزواج الذي لم يبال فيه النبي بإباء زينب ورغبتها عن زيد ، أن التصاق الأدعياء بالبيوت واتصالهم بأنسابها كان أمرا تدين به العرب وتعده أصلا ترجع إليه فى الحسب والشرف ، وكانوا يعطون ، الدعىّ جميع حقوق الأبن وجرون عليه الأحكام التي يعطونها للابن حتى الميراث وحرمة النسب - فأراد اللّه(22/12)
ج 22 ، ص : 13
محو ذلك بالإسلام حتى لا يعرف إلا النسب الصريح ومن ثم قال فى أول السورة « وما جعل أدعياء كم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم واللّه يقول الحقّ وهو يهدى السّبيل. ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند اللّه » وبهذا حرم على المسلمين أن ينسبوا الدعىّ إلى من تبناه ، وأن يكون للمتبنّى إلا حق المولى والأخ فى الدين وحظر عليهم أن يقتطعوا له من حقوق الابن لا قليلا ولا كثيرا.
وما رسخ فى النفوس بحكم العادة لا يمكن التخلص منه إلا بإرادة قوية تسخر بسلطانها ، ولا تجعل لها حكما فى الأعمال إذا كانت المصلحة فى خلاف ذلك ، ومن ثم ألهم اللّه رسوله أن يلغى هذا الحكم بالعمل كما ألغى بالقول فى أحد عتقاه. ومن ثمّ أرغم بنت عمته لتتزوج بزيد وهو متبناه ليكون هذا الزواج مقدمة لتشريع إلهى جديد.
ذلك أنه بعد أن تزوجها زيد شمخت بأنفها عليه وجعلت تفخر عليه بنسبها ، فاشتكى منها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المرة بعد المرة وهو عليه السلام يغلبه الحياء فى تنفيذ حكم اللّه ويقول لزيد : أمسك عليك زوجك واتق اللّه ، إلى أن غلب حكم اللّه وسمح لزيد بطلاقها ، ثم تزوجها بعد ذلك ليمزّق حجاب تلك العادة كما قال : « لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا » ثم أكد هذا بقوله : « ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً »
الإيضاح
(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) أي ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللّه ورسوله قضاء أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم ويخالفوا أمر اللّه ورسوله وقضاءهما ويعصياهما(22/13)
ج 22 ، ص : 14
والخلاصة - لا ينبغى لمؤمن ولا مؤمنة أن يختارا أمرا قضى الرسول بغيره ثم أكد ما سلف بقوله :
(وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً) أي ومن يعص اللّه ورسوله فيما امرا ونهيا فقد جار عن قصد السبيل وسلك غير طريق الهدى والرشاد ، وقد علمت فيما سلف سبب نزول هذه الآية.
ونحو الآية قوله : « فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » .
ثمّ ذكّر اللّه نبيه بما وقع منه ليزيده تثبيتا على الحق ، وليدفع عنه ما حاك فى صدور ضعاف العقول ومرضى القلوب فقال :
(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ) أي واذكر أيها الرسول حين قولك لمولاك الذي أنعم اللّه عليه فوفّقه للاسلام ، وأنعمت عليه بحسن تربيته وعتقه وتقريبه منك : أمسك عليك زوجك زينب ، واتق اللّه فى أمرها ، ولا تطلقها ضرارا ، وتعللا بتكبرها وشموخا بأنفها ، فإن الطلاق يشينها ، وربما لا يجد بعدها خيرا منها.
وفى التعبير بأنعمت عليه إيماء إلى وجه العتب بذكر الحال التي تنافى ما صدر منه عليه السلام من إظهار خلاف ما فى نفسه ، إذ هذا إنما يكون حين الاستحياء والاحتشام ، وكلاهما مما لا ينبغى أن يكون مع زيد مولاه (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) أي وأنت تعلم أن الطلاق لا بد منه ، بما ألهمك اللّه أن تمتثل أمره بنفسك لتكون أسوة لمن معك ولمن يأتى بعدك ، وإنما غلبك فى فى ذلك الحياء وخشية أن يقولوا تزوج محمد مطلّقة متبناه ، فأنت تخفى فى نفسك ما اللّه به من الحكم الذي ألهمك (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) أي وتخاف من اعتراض الناس واللّه(22/14)
ج 22 ، ص : 15
الذي أمرك بهذا كله أحق وحده بأن تخشاه ، فكان عليك أن تمضى فى الأمر قدما ، تعجيلا لتنفيذ كلمته وتقرير شرعه.
ثم زاد الأمر بيانا بقوله :
(فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) أي فلما قضى زيد منها حاجته وملّها ثم طلقها جعلناها زوجا لك ، لترتفع الوحشة من نفوس المؤمنين ولا يجدوا فى أنفسهم حرجا من أن يتزوجوا نساء كنّ من قبل أزواجا لأدعيائهم.
(وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) أي وكان ما قضى اللّه من قضاء كائنا لا محالة أي إن قضاء اللّه فى زينب أن يتزوجها رسول اللّه كائن ماض لا بد منه.
روى البخاري والترمذي « أن زينب رضى اللّه عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم تقول : زوجكن أهلوكنّ وزوّجنى اللّه تعالى من فوق سبع سموات » وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال : « كانت تقول للنبى صلى اللّه عليه وسلم إنى لأدلّ عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدلّ بهن : إن جدى وجدك واحد ، وإنى أنكحك اللّه إياى من السماء ، وإن السفير لجبريل عليه السلام » .
ثم أكد ما سلف بقوله :
(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ) أي ليس على النبي حرج فيما أحل اللّه له من نكاح امرأة من تبناه بعد فراقه إياها.
ثم بين أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ليس بدعا فى الرسل فيما أباح له من الزوجات والسراري فقال :
(سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) أي إن اللّه سن بك أيها الرسول سنة أسلافك من الأنبياء الذين مضوا من قبل فيما أباح لهم من الزوجات والسراري ، فقد كان لسليمان وداود وغيرهما عدد كثير منهن.
وفى هذا ردّ على اليهود الذين عابوه صلى اللّه عليه وسلم (وحاشاه) بكثرة الأزواج.(22/15)
ج 22 ، ص : 16
(وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً) أي وكان أمر اللّه الذي يقدره كائنا لا محالة وواقعا لا محيد عنه ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
ثم وصف الذين خلوا بصفات الكمال والتقوى وإخلاص العبادة له وتبليغ رسالته فقال :
(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ) أي هؤلاء الذين جعل محمد متبعا سنتهم وسالكا سبيلهم هم الذين يبلغون رسالات ربهم إلى من أرسلوا إليهم ، ويخافون اللّه فى تركهم تبليغ ذلك ، ولا يخافون سواه.
والخلاصة - كن من أولئك الرسل الكرام ، ولا تخش أحدا غير ربك ، فإنه يحميك ممن يريدك بسوء أو يمسك بأذى.
(وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً) أي وكفى اللّه ناصرا ومعينا وحافظا لأعمال عباده ومحاسبا لهم عليها.
ولما تزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زينب قالوا تزوج حليلة ابنه فأنزل اللّه :
(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) أي ما كان لك أن تخشى أحدا من الناس بزواج امرأة متبناك لا ابنك ، فإنك لست أبا لأحد من الناس ، ولكنك رسول اللّه فى تبليغ رسالته إلى الخلق ، فأنت أب لكل فرد فى الأمة فيما يرجع إلى التوقير والتعظيم ووجوب الشفقة عليهم كما هو دأب كل رسول مع أمته.
وخلاصة ذلك - ليس محمد بأب لأحد منكم أبوة شرعية يترتب عليها حرمة المصاهرة ونحوها ، ولكنه أب للمؤمنين جميعا فيما يجب عليهم من توقيره وإجلاله وتعظيمه كما أن عليه أن يشفق عليهم ويحرص على ما فيه خيرهم وفائدتهم فى المعاش والمعاد وما فيه سعادتهم فى الدنيا والآخرة.(22/16)
ج 22 ، ص : 17
أولاد النبي صلى اللّه عليه وسلم
ولد للنبى صلى اللّه عليه وسلم من خديجة ثلاثة ذكور : القاسم والطيب والطاهر ، وماتوا صغارا لم يبلغ أحد منهم الحلم ، وولد له إبراهيم من مارية القبطية ومات رضيعا ، وولد له من خديجة أربع بنات : زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة ، والثلاث الأول متن فى حياته صلى اللّه عليه وسلم. وماتت فاطمة بعد أن قبض صلى اللّه عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بستة شهور.
(وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فيعلم من الأجدر بالبدء به من الأنبياء ، ومن الأحق بأن يكون خاتمهم ، وبعلم المصالح فى ذلك.
ونحو الآية قوله : « اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ » .
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 44]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما ينبغى أن يكون عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم مع ربه من تقواه وإخلاصه له فى السر والعلن ، وما ينبغى أن يكون عليه مع أهله وأقار به من راحتهم وإيثارهم على نفسه فيما يطلبون كما يومئ إلى ذلك قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) إلخ ، أرشد عباده إلى تعظيمه تعالى وإجلاله بذكره والتسبيح له بكرة وأصيلا ، فهو الذي يرحمهم ، وملائكته يستغفرون لهم ، كى يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، وكان بعباده المؤمنين رحيما.(22/17)
ج 22 ، ص : 18
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً) أي أيها الذين صدقوا اللّه ورسوله ، اذكروا اللّه بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم ذكرا كثيرا فى جميع أحوالكم جهد الطاقة ، لأنه المنعم عليكم بأنواع النعم ، وصنوف المنن.
(وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي ونزهوه عما لا يليق به طرفى النهار ، لأن وقت البكرة وقت القيام من النوم وهو يعدّ كأنه حياة جديدة بعد موت ، ووقت الأصيل وقت الانتهاء من العمل اليومي ، فيكون الذكر شكرا له على توفيقه لأداء الأعمال ، والقيام بالسعي على الأرزاق فلم يبق إلا السعى إلى ما يقربه من ربه بالعمل للآخرة.
ثم ذكر السبب فى هذا الذكر والتسبيح فقال :
(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) أي إن ربكم الذي تذكرونه الذكر الكثير وتسبحونه بكرة وأصيلا - هو الذي يرحمكم ويثنى عليكم فى الملإ من عباده ، وتستغفر لكم ملائكته.
وفى هذا من التحريض على ذكره والتسبيح له مالا يخفى.
(لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي إنه برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم - أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان.
(وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) فى الدنيا والآخرة ، أما فى الدنيا فانه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم ، وبصصّرهم الطريق الذي حاد عنه سواهم من الدعاة إلى الكفر ، وأما فى الآخرة فإنه آمنهم من الفزع الأكبر وأمر الملائكة أن يتلقوهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار ، وهذا ما أشار إليه بقوله :
(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) أي تحييهم الملائكة بذلك إذا دخلوا الجنة ، كما قال تعالى : « وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ » .(22/18)
ج 22 ، ص : 19
(وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) أي وهيأ لهم ثوابا حسنا فى الآخرة يأتيهم بلا طلب بما يتمتعون به من لذات المآكل والمشارب والملابس والمساكن فى فسيح الجنات مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 48]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه تأديبه لنبيه فى ابتداء السورة ، وذكر ما ينبغى أن يكون عليه مع أهله - ذكر ما ينبغى أن يكون عليه مع الخلق كافة.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي يا أيها الرسول إنا بعثناك شاهدا على من بعثت إليهم تراقب أحوالهم ، وترى أعمالهم ، وتتحمل الشهادة بما صدر منهم من تصديق وتكذيب ، وسائر ما يفعلون من الهدى والضلال ، وتؤدّى ذلك يوم القيامة ، وأرسلناك مبشرا لهم بالجنة إن صدّقوك ، وعملوا بما جئتهم به من عند ربك ، ومنذرا لهم بالنار يدخلونها فيعذبون فيها إن هم كذبوك وخالفوا ما أمرتهم به ونهيتهم عنه.
(وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) أي وداعيا الخلق إلى الإقرار بوحدانيته تعالى ، سائر ما يجب له من صفات الكمال ، وإلى عبادته ، ومراقبته فى السر والعلن -(22/19)
ج 22 ، ص : 20
وسراجا منيرا يستضىء بك الضالون فى ظلمات الجهل والغواية ، ويقتبس من نورك المهتدون ، فيسلكون مناهج الرشد والسعادة.
(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً) أي وراقب أحوال أمتك ، وبشر المؤمنين بأن لهم فضلا كبيرا على سائر الأمم ، فإنهم سيغيّرون نظم المجتمع من ظلم وجور إلى عدل وصلاح ، ويدخلون الأمم المتعثّرة فى أثواب الضلال ، فى زمرة الأمم التي عليها صلاح البشر فى مستأنف الزمان.
أخرج ابن جرير وعكرمة عن الحسن أنه قال : لما نزل قوله : « لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ » قالوا : يا رسول اللّه قد علمنا ما يفعل بك فماذا يفعل بنا ؟
فأنزل اللّه : « وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً » .
ولما أمره اللّه بما يسرّ نهاه عما يضر ، فقال :
(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) أي ولا تطع قول كافر ولا منافق فى أمر الدعوة ، وألن الجانب فى التبليغ ، وارفق فى الإنذار ، واصفح عن أذاهم ، واصبر على ما ينالك منهم ، وفوّض أمورك إلى اللّه ، وثق به فإنه كافيك جميع من دونك ، حتى يأتيك أمره وقضاؤه ، وهو حسبك فى جميع أمورك ، وكالئك وراعيك.
[سورة الأحزاب (33) : آية 49]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)
تفسير المفردات
النكاح هنا : العقد ، والمس معروف والمراد به قربان المرأة ، ومن أدب القرآن الكريم التعبير عنه بالملامسة والمماسة ، والقربان والتغشى والإتيان ، والعدة : الشيء(22/20)
ج 22 ، ص : 21
المعدود ، وعدّة المرأة : الأيام التي بانقضائها يحل بها التزوج ، فمتعوهن : أي أعطوهن المتعة ، وهى قميص وخمار (ما تغطى به المرأة رأسها) وملحفة (ما تلتحف به من قرنها إلى قدمها - ملاية) سرحوهن : أي أخرجوهن من منازلكم ، سراحا جميلا : أي إخراجا مشتملا على ليّن الكلام خاليا من الأذى.
المعنى الجملي
أدب اللّه نبيه بمكارم الأخلاق بقوله : يا أيها النبي اتق اللّه ، وثنى بتذكيره بحسن معاملة أزواجه بقوله : يا أيها النبي قل لأزواجك ، وثلث بذكر معاملته لأمته بقوله :
يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ، وكان كلما ذكر للنبى مكرمة ، وعلمه أدبا ذكر للمؤمنين ما يناسبه ، فأرشد المؤمنين فيما يتعلق بجانبه تعالى بقوله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ، وفيما يتعلق بما تحت أيديهم من الزوجات بقوله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ، وفيما يتعلق بمعاملتهم لنبيهم بقوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلخ ، وقوله :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
الإيضاح
أي يا أيها الذين آمنوا إذا عقدتم على المؤمنات وتزوجتموهن ثم طلقتموهن من قبل المسيس ، فلا عدّة لكم عليهن بأيام يتربصن بها تستوفون عددها ، ولكن اكسوهن كسوة تليق بحالهن إذا خرجن وانتقلن من بيت إلى آخر ، ويختلف ذلك باختلاف البيئة والبلد الذي تعيش فيه المرأة ، وأخرجوهن إخراجا جميلا ، فهيئوا لهن من المركب والزاد وجميل المعاملة ما تقرّ به أعينهن ويسرّ به أهلوهن ، ليكون فى ذلك بعض السلوة مما لحقهن من أذى بقطع العشرة التي كنّ ينتظرن دوامها ، ومن الخروج من بيوت كن يرجون أن تكون هى المقام إلى أن يلاقين ربهن أو تموت عنهن بعولتهن.
روى البخاري عن سهل بن سعد وأبى أسيد رضى اللّه عنهما قالا : « إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تزوج أميمة بنت شراحيل ، فلما أن دخلت عليه بسط يده إليها ،(22/21)
ج 22 ، ص : 22
فكأنها كرهت ذلك ، فأمر أبا أسيد أن يجهزّها ويكسوها ثوبين رازقيين
(ضرب من الثياب مشهور فى ذلك الحين).
[سورة الأحزاب (33) : آية 50]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50)
تفسير المفردات
الأجور هنا : المهور ، وما ملكت يمينك : أي ما أخذته من المغانم ، خالصة لك :
أي هى خاصة بك ، حرج : أي ضيق ومشقة
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) أي يا أيها النبي إنا أحللنا لك الأزواج اللاتي أعطيتهن مهورهن ، وقد كان مهره عليه الصلاة والسلام لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونصفا أي خمسمائة درهم إلا أم حبيبة بنت أبى سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشي رحمه اللّه أربعمائة دينار.
(وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ) أي وأحللنا لك الإماء اللواتى سبيتهن فملكتهن بالسباء ، وصرن لك من الفيء بفتح اللّه عليك ، وقد ملك صفية بنت حيى ابن أخطب فى سبى خيبر ، ثم أعتقها ، وجعل صداقها عتقها ، وجويرية بنت الحارث(22/22)
ج 22 ، ص : 23
من بنى المصطلق أعتقها ، ثم تزوجها ، وملك ريحانة بنت شمعون النضرية ، ومارية أم إبراهيم ، وكانتا من السراري.
(وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) أي وأحللنا لك بنات عمك وبنات عماتك ، وبنات خالك وبنات خالاتك المهاجرات معك دون من لم يهاجرن.
روى السّدّى عن أبى صالح عن أم هانئ قالت : « خطبنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فاعتذرت إليه ، فعذرنى ثم أنزل اللّه تعالى : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ - إلى قوله - اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) قالت : فلم أكن أحل له ، ولم أكن ممن هاجر معه ، كنت من الطلقاء » .
(وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وأحللنا لك التمتع بالمرأة المؤمنة التي تهب نفسها لك بلا مهر إن أردت ذلك.
وهذه الإباحة خاصة لك من دون المؤمنين ، فلو وهبت امرأة نفسها لرجل وجب عليه لها مهر مثلها ، كما حكم بذلك رسول اللّه فى بروع بنت واشق لما فوضت نفسها ومات عنها زوجها فحكم لها بصداق مثلها.
والموت والدخول سواء فى تقرير مهر المثل ، وثبوت مهر المثل فى المفوّضة لغير النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فأما هو فلا يجب عليه للمفوّضة شىء لو دخل بها ، لأن له أن يتزوج بغير صداق ولا ولىّ ولا شهود ، كما فى قصة زينب بنت جحش رضى اللّه عنها.
(قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي قد علم اللّه ما ينبغى فرضه على المؤمنين فى أزواجهم من شروط العقد ، وأنه لا تحل لهم امرأة بلفظ الهبة ، وبدون شهود ، وفى الإماء بشراء أو غيره أن تكون ممن تحل لمالكها كالكتابية بخلاف الوثنية والمجوسية - وهذه الجملة معترضة بين ما سلف وما سيأتى :(22/23)
ج 22 ، ص : 24
ثم ذكر العلة فى اختصاصه عليه الصلاة والسلام بما تقدم من الأحكام بقوله :
(لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) أي أحللنا لك ذلك حتى لا يكون عليك حرج وضيق فى نكاح من نكحت من الأصناف السالفة (وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان ربك غفورا لك ، ولأهل الإيمان بك ، رحيما بك وبهم أن يعاقبهم على سالف ذنب صدر منهم بعد توبتهم.
[سورة الأحزاب (33) : آية 51]
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51)
تفسير المفردات
ترجى : أي تؤخر من الإرجاء وهو التأخير ، وقرىء ، ترجىء وتؤرى : أي تضم وتضاجع ، ابتغيت : أي طلبت ، عزلت : أي تجنبت ، أدنى : أي أقرب ، تقرّ.
أي تسرّ.
الإيضاح
(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) أي تؤخر مضاجعة من تشاء من نسائك ، وتضاجع من تشاء ، ولا يجب عليك قسم بينهن ، بل الأمر فى ذلك إليك ، على أنه كان يقسم بينهن.
(وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) أي ومن دعوت إلى فراشك ، وطلبت صحبتها ممن عزلت عن نفسك بالطلاق ، فلا ضيق عليك فى ذلك.
والخلاصة : إنه لا ضير عليه إذا أراد إرجاع من طلقها من قبل.(22/24)
ج 22 ، ص : 25
روى ابن جرير عن أبى رزين قال : « لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقهن ، فقلن : يا رسول اللّه اجعل لنا من مالك ، ومن نفسك ما شئت ، ودعنا كما نحن فنزلت هذه الآية ، فأرجأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعضهن ، وآوى إليه بعضهن وكان ممن آوى إليه عائشة ، وحفصة ، وزينب ، وأم سلمة ، وكان يقسم بينهن سواء ، وأرجأ منهن خمسا : أم حبيبة ، وميمونة ، وسودة ، وصفية ، وجويرية ، فكان لا يقسم بينهن ما شاء » .
ثم بين السبب فى الإيواء والإرجاء ، وأنه كان ذلك فى مصلحتهن ، فقال :
(ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) أي إنهن إذا علمن أن اللّه قد وضع عنك الحرج فى القسم ، فإن شئت قسمت ، وإن شئت لم تقسم لا جناح عليك فى أىّ ذلك فعلت ، وأنت مع هذا تقسم لهن اختيارا منك لا وجوبا عليك - فرحن بذلك ، واستبشرن به ، واعترفن بمنتك عليهن فى قسمك لهن ، وتسويتك بينهن ، وإنصافك لهن ، وعدلك بينهن.
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) من الميل إلى بعضهن دون بعض مما لا يمكن دفعه ، ومن الرضا بما دبر له فى حقهن من تفويض الأمر إليه صلى اللّه عليه وسلم.
روى أحمد عن عبد اللّه بن يزيد عن عائشة قالت : كان رسول اللّه يقسم بين نسائه فيعدل ، ثم يقول : « اللهم هذا فعلى فيما أملك فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك »
يعنى القلب ، وزيادة الحب لبعض دون بعض.
وفى هذا حث على تحسين ما فى القلوب ، ووعيد لمن لم يرض منهن بما دبر اللّه له من ذلك ، وفوضه إلى مشيئته ، وبعث على تواطؤ قلوبهن ، والتصافي بينهن ، والتوافق على رضا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.
(وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً) أي وكان اللّه عليما بالسرائر ، حليما فلا يعاجل أهل الذنوب بالعقوبة ، ليتوب منهم من شاء له أن يتوب ، وينيب من ذنوبه من ينيب.(22/25)
ج 22 ، ص : 26
[سورة الأحزاب (33) : آية 52]
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنه لم يوجب على نبيه القسم لنسائه ، وأمره بتخييرهن فاخترن اللّه ورسوله - أردف ذلك ذكر ما جازاهم به من تحريم غيرهن عليه ومنعه من طلاقهن بقوله :
(وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ).
الإيضاح
تتضمن الآية الكريمة حكمين : ألا يتزوج عليه السلام غيرهن ، ولا أن يستبدل بهن غيرهن ، وإلى ذلك أشار بقوله :
(1) (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) أي لا يحل لك النساء من بعد هؤلاء التسع اللاتي فى عصمتك اليوم كفاء اختيارهن اللّه ورسوله وحسن صنيعهن فى ذلك.
أخرج أبو داود فى ناسخه وابن مردويه والبيهقي فى سننه عن أنس قال : « لما خيّرهن فاخترن اللّه ورسوله صلى اللّه عليه وسلم قصره سبحانه عليهن » .
وروى عن ابن عباس أنه قال فى الآية : (حبسه اللّه تعالى عليهن كما حبسهنّ عليه).
(2) (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) أي ولا يحل لك أن تستبدل بهن أزواجا غيرهن ، بأن تطلق واحدة منهن وتنكح بدلها أخرى مهما كانت بارعة فى الحسب والجمال إلا ما ملكت يمينك منهن ، وقد ملك بعدهن مارية القبطية أهداها له المقوقس فتسرّاها وأولدها إبراهيم ومات رضيعا وفى الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد زواجها ،
وقد روى أبو داود أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : « إذا خطب أحدكم المرأة ، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل »
وعن المغيرة بن شعبة قال : « خطبت امرأة فقال لى النبي(22/26)
ج 22 ، ص : 27
صلّى اللّه عليه وسلم : هل نظرت إليها ؟ قلت لا. قال : انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما » .
(وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) أي وكان اللّه حافظا ومطلعا على كل شىء ، عليما بالسر والنجوى ، فاحذروا تجاوز حدوده ، وتخطى حلاله إلى حرامه.
آية الحجاب ، وما فيها من أحكام وآداب
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 54]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54)
تفسير المفردات
إناه : أي نضجه : يقال أنى الطعام يأنى أنى أي أدرك وحان نضجه ، وفيه لغات :
إنى بكسر الهمزة وأنى بفتحها مقصورا وممدودا قال الحطيئة :
وأخّرت العشاء إلى سهيل أو الشّعرى فطال بي الأناء
فانتشروا : أي فتفرقوا ولا تلبثوا ، مستأنسين لحديث ، أي مستمعين له ، متاعا :(22/27)
ج 22 ، ص : 28
أي شيئا تتمتعون به من ماعون وغيره ، أطهر لقلوبكم : أي أكثر تطهرا من الخواطر الشيطانية التي تخطر للرجال فى أمر النساء وللنساء فى شأن الرجال.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال النبي صلى اللّه عليه وسلم مع أمته بقوله : « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً » أردف ذلك بيان حال المؤمنين مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم إرشادا لما يجب عليهم نحوه من الاحترام والتعظيم فى خلوته وفى الملإ ، فأبان أنه يجب عدم إزعاجه إذا كان فى الخلوة بقوله : « لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ » إلخ.
وأنه يجب إجلاله إذا كان فى الملإ بقوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً » .
روى أن هذه الآية نزلت يوم تزوج النبي صلى اللّه عليه وسلم زينب بنت جحش
فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن مردويه والبيهقي عن أنس قال : « لما تزوج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ، ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر ، فجاء النبي صلى اللّه عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس ، ثم إنهم قاموا فانطلقت فأخبرت النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بينى وبينه فأنزل اللّه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ) الآية.
الإيضاح
أدب اللّه عباده بآداب ينبغى أن يتخلقوا بها ، لما فيها من الحكم الاجتماعية والمزايا العمرانية فقال :
(1) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ(22/28)
ج 22 ، ص : 29
ناظِرِينَ إِناهُ)
أي أيها الذين آمنوا باللّه ورسوله لا تدخلوا بيوت نبيه إلا أن تدعوا إلى طعام تطعمونه غير منتظرين إدراكه ونضجه.
وخلاصة ذلك - إنكم إذا دعيتم إلى وليمة فى بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فلا تدخلوا البيت إلا إذا علمتم أن الطعام قد تم نضجه ، وانتهى إعداده ، إذ قبل ذلك يكون أهل البيت فى شغل عنكم ، وقد يلبسن ثياب البذلة والعمل فلا يحسن أن تروهنّ وهنّ على هذه الحال ، إلى أنه ربما بدا من إحداهن ما لا يحل النظر إليه.
(2) (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) أي ولكن إذا دعاكم الرسول صلى اللّه عليه وسلم فادخلوا البيت الذي أذن لكم بدخوله ، فإذا أكلتم الطعام الذي دعيتم إلى أكله فتفرقوا واخرجوا ولا تمكثوا فيه لتتبادلوا ألوان الحديث وفنونه المختلفة.
أخرج عبد بن حميد عن الربيع عن أنس قال : كانوا يتحينون فيدخلون بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فيجلسون فيتحدثون ليدرك الطعام فأنزل اللّه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية.
وأخرج ابن أبى حاتم عن سليمان بن أرقم قال : نزلت هذه فى الثقلاء ومن ثم قيل هى آية الثقلاء ثم علل ذلك بقوله :
(إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) أي إن ذلك اللّبث والاستئناس والدخول على هذا الوجه كان يؤذى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، لأنه كان يمنعه من قضاء بعض حاجه ، إلى ما فيه من تضييق المنزل على أهله ، لكنه كان يستحيى من إخراجكم ومنعكم مما يؤذيه ، واللّه لم يترك الحق وأمركم بالخروج.
وفى هذا إيماء إلى أن اللبث يحرم على المدعو إلى طعام بعد أن يطعم إذا كان فى ذلك أذى لرب البيت ، ولو كان البيت غير بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فالتثقيل مذموم فى كل مكان ، محتقر لدى كل إنسان.(22/29)
ج 22 ، ص : 30
وعن عائشة وابن عباس رضى اللّه عنهما « حسبك فى الثقلاء أن اللّه عز وجل لم يحتملهم » .
وعلى الجملة فللدعوة إلى المآدب نظم وآداب خاصة أفردت بالتأليف ولا سيما فى العصر الحديث.
وجعلوا التحلل منها وترك اتباعها مما لا تسامح فيه.
(3) (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي وإذا سألتم أزواج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونساء المؤمنين اللواتى لسن لكم بأزواج ، شيئا تتمتعون به من ماعون وغيره فاطلبوا منهن ذلك من وراء ستر بينكم وبينهن.
أخرج البخاري وابن جرير وابن مردويه عن أنس رضى اللّه عنه قال : قال عمر ابن الخطاب رضى اللّه عنه : يا رسول اللّه يدخل عليك البرّ والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فأنزل اللّه آية الحجاب فى صبيحة عرس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بزينب بنت جحش فى ذى القعدة سنة خمس من الهجرة ، وهى مما وافق تنزيلها قول عمر كما فى الصحيحين عنه قال : وافقت ربى عز وجل فى ثلاث ، قلت :
يا رسول اللّه لو اتّخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فأنزل اللّه : « وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى » وقلت : يا رسول اللّه إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن فأنزل اللّه آية الحجاب ، وقلت لأزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم لما تمالأن عليه فى الغيرة « عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ » فنزلت كذلك.
ثم بين سبب ما تقدم بقوله :
(ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) أي ذلك الدخول بالإذن وعدم الاستئناس للأحاديث أطهر لقلوبكم وقلوبهن من وساوس الشيطان والريب ، لأن العين رسول القلب ، فإذا لم تر العين لم يشته القلب ، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر ، وعدم الفتنة(22/30)
ج 22 ، ص : 31
حينئذ أظهر ، وجاء في الأثر « النظر سهم مسموم من سهام إبليس » وقال الشاعر :
والمرء مادام ذاعين يقلّبها فى أعين العين موقوف على الخطر
يسرّ مقلته ما ساء مهجته لا مرحبا بانتفاع جاء بالضرر
ولما ذكر ما ينبغى من الآداب حين دخول بيت الرسول أكده بما يحملهم على ملاطفته وحسن معاملته بقوله :
(وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) أي وما كان ينبغى لكم أن تفعلوا فى حياته صلّى اللّه عليه وسلم فعلا يتأذى به ويكرهه كاللبث والاستئناس للحديث الذي كنتم تفعلونه ، فإن الرسول يسعى لخيركم ومنفعتكم في دنياكم وآخرتكم ، فعليكم أن تقابلوا بالحسنى كفاء جليل أعماله.
ولما كان صلّى اللّه عليه وسلم قد قصر عليهن قصرهن اللّه عليه بقوله :
(وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) أي ولا تنكحوا أزواجه أبدا من بعد مفارقتهن بموت أو طلاق ، زيادة في شرفه ، وإظهارا لعظمته وجلاله ، ولأنهن أمهات المؤمنين ، والمرء لا يتزوج أمه.
ثم بين السبب فيما تقدم بقوله :
(إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً) أي إن ذلك الإيذاء وزواج نسائه من بعده أمر عظيم ، وخطب جلل ، لا يقدر قدره غير اللّه تعالى.
ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد وعظيم التهديد على هذا العمل - إلى ما فيه من تعظيم شأن الرسول وإيجاب حرمته حيا وميتا.
ثم بالغ في الوعيد وزاد في التهديد بقوله :
(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) أي إن ما تكنّه ضمائركم ، وتنطوى عليه سرائركم ، فاللّه يعلمه ، إذ لا تخفى عليه خافية « يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ » ثم يجازيكم بما صدر منكم من المعاصي البادية والخافية.
والكلام وإن كان عاما بظاهره فالمقصود ما يتعلق بزوجاته عليه الصلاة والسلام.(22/31)
ج 22 ، ص : 32
وسبب نزول الآية أنه لما نزلت آية الحجاب قال رجل : أنهى أن نكلّم بنات أعمامنا إلا من وراء حجاب ؟ لئن مات محمد لنتزوجنّ نساءه.
و
أخرج جويبر عن ابن عباس « أن رجلا أنى بعض أزواج النبي فكلمها وهو ابن عمها ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : لا تقومنّ هذا المقام بعد يومك هذا ، فقال يا رسول اللّه إنها ابنة عمى ، واللّه ما قلت منكرا ولا قالت لى ، قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : قد عرفت ذلك : إنه ليس أحد أغير من اللّه تعالى ، وإنه ليس أحد أغير منى ، فمضى ثم قال :
ما يمنعنى من كلام ابنة عمى ؟ لأتزوجنّها من بعده ، فأنزل اللّه الآية ، فأعتق الرجل رقبة ، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل اللّه وحج ماشيا لأجل كلمته » .
وروى أن بعض المنافقين قال حين تزوج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أم سلمة بعد أبى سلمة وحفصة بعد خنيس بن حذافة : ما بال محمد يتزوج نساءنا ؟ واللّه لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه فنزلت.
[سورة الأحزاب (33) : آية 55]
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن نساء النبي لا يكلّمن إلا من وراء حجاب - أردف ذلك استثناء بعض الأقارب ونساء المؤمنين والأرقاء ، لما في الاحتجاب عن هؤلاء من عظيم المشقة ، للحاجة إلى الاختلاط بهؤلاء كثيرا.
روى أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب : أو نحن يا رسول اللّه نكلمهنّ من وراء حجاب ؟ فنزلت.(22/32)
ج 22 ، ص : 33
الإيضاح
لا إثم على أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلم في ترك الحجاب حين دخول آبائهن ، سواء أ كان الأب أبا من النسب أم من الرضاع ، أو أبنائهن نسبا أو رضاعا ، أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن أو أبناء أخواتهن ، أو النساء المسلمات القربى منهن والبعدى ، أو ما ملكت أيمانهن من العبيد ، لما في الاحتجاب عنهن من المشقة ، لأنهم يقومون بالخدمة عليهن.
واخشين اللّه في السر والعلن فإنه شهيد على كل شىء ، لا تخفى عليه خافية ، وهو يجازى على العمل خيرا أو شرا.
والخلاصة - إن اللّه شاهد عليكم عند اختلاء بعضكم ببعض ، فخلوتكم مثل ملئكم ، فاتقوه فيما تأتون وما تذرون.
[سورة الأحزاب (33) : آية 56]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر وجوب احترام النبي حال خلوته بقوله : « لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ » أردف ذلك بيان ماله من احترام في الملإ الأعلى بقوله : « إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ » وفي الملإ الأدنى بقوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً » .
الإيضاح
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) الصلاة من اللّه الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار ، فالمعنى كما قال ابن عباس : إن اللّه يرحم النبي ، والملائكة يدعون له ويطلبون له المغفرة.(22/33)
ج 22 ، ص : 34
وقد أخبر اللّه سبحانه عباده بمنزلة عبده ونبيه في الملإ الأعلى ، بأنه يثنى عليه لدى ملائكته المقربين ، وأن ملائكته يصلون عليه طالبين له المغفرة من ربه.
وقد أمرنا بأن نصلى عليه بقوله :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أي يا أيها الذين آمنوا ادعوا له بالرحمة ، وأظهروا شرفه بكل ما تصل إليه قدرتكم ، من حسن متابعته ، والانقياد لأمره ، فى كل ما يأمر به ، والصلاة والسلام عليه بألسنتكم.
روى البخاري بسنده عن كعب بن عجرة قال : « قيل يا رسول اللّه أما السلام عليك فقد عرفنا ، فكيف الصلاة ؟ قال : قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد » .
روى عبد اللّه بن أبى طلحة عن أبيه « أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم جاء ذات يوم والبشرى ترى في وجهه ، فقلنا إنا لنرى البشرى في وجهك ، فقال : جاءنى جبريل فقال : يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول : أما يرضيك أن لا يصلى عليك أحد من أمتك إلا صلّيت عليه عشرا ، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلّمت عليه عشرا »
[سورة الأحزاب (33) : آية 57]
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57)
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه باحترام نبيّه في بيته وفي الملإ - نهى عن إيذاء اللّه ، بمخالفة أوامره ، وارتكاب زواجره ، وإيذاء رسوله بإلصاق عيب أو نقص به.(22/34)
ج 22 ، ص : 35
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ) فيرتكبون ما حرمه من الكفر وسائر أنواع المعاصي ، ومنهم اليهود الذين قالوا « يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ » والنصارى الذين قالوا « الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ » والمشركون الذين قالوا : الملائكة بنات اللّه ، والأصنام شركاؤه ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
(وَرَسُولَهُ) كالذين قالوا هو شاعر ، هو كاهن ، هو مجنون إلى نحو ذلك من مقالاتهم ، فمن آذاه فقد آذى اللّه ، ومن أطاعه فقد أطاع اللّه.
(لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي طردهم من رحمته ، وأبعدهم من فضله في الدنيا ، فجعلهم يتمادون في غيهم ، ويدسّون أنفسهم ، ويستمرئون سبل الغواية والضلالة التي ترديهم في النار ، وبئس القرار ، وفي الآخرة حيث يصلون نارا تشوى الوجوه.
(وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) أي وهيأ لهم عذابا يؤلمهم ، ويجعلهم في مقام الزراية والاحتقار ، والخزي والهوان.
ولما كان من أعظم أذى رسوله أذى من تابعه ، بين ذلك بقوله :
[سورة الأحزاب (33) : آية 58]
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58)
تفسير المفردات
بغير ما اكتسبوا : أي بغير جناية يستحقون بها الأذى ، والبهتان : الكذب الذي يبهت الشخص لفظاعته ، وإثما مبينا : أي ذنبا واضحا بينا.
الإيضاح
أي إن الذين ينسبون إلى المؤمنين والمؤمنات ما لم يعملوه ، وما هم منه براء - قد اجترحوا كذبا فظيعا ، وأتوا أمرا إدّا ، وذنبا ظاهرا ليس له ما يسوّغه أو يقوم مقام العذر له.(22/35)
ج 22 ، ص : 36
روى الضحاك عن ابن عباس قال : أنزلت في عبد اللّه بن أبىّ وناس معه قذفوا عائشة رضى اللّه عنها فخطب النبي صلّى اللّه عليه وسلم وقال : « من يعذرنى من رجل يؤذينى ويجمع في بيته من يؤذينى ؟ » .
وروى أبو هريرة « أنه قيل يا رسول اللّه ما الغيبة ؟ قال ذكرك أخاك بما يكره ، قيل أ رأيت إن كان في أخى ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه » .
و
روى عن عائشة أنها قالت : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لأصحابه : « أىّ الربا أربى عند اللّه ؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم ، قال أربى الربا عند اللّه استحلال عرض امرئ مسلم ، ثم قرأ (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) » .
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 59 الى 62]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)
تفسير المفردات
الجلابيب : واحدها جلباب وهى الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار ، يدنين : أي يرخين ويسدلن يقال للمرأة إذا زل الثوب عن وجهها أدنى ثوبك على وجهك ، أدنى : أي أقرب ، أن يعرفن : أي يميزن عن الإساءة ، مرض : أي ضعف إيمان(22/36)
ج 22 ، ص : 37
بانتها كهم حرمات الدين ، والمرجفون : هم اليهود الذين كانوا يلفقون أخبار السوء وينشرونها عن سرايا المسلمين وجندهم ، وهو من الإرجاف وهو الزلزلة وصفت بها الأخبار الكاذبة لكونها مزلزلة غير ثابتة ، لنغرينك بهم : أي لنسلطنك عليهم ولنحرشنّك بهم ، ملعونين : أي مبعدين من رحمة اللّه ، ثقفوا : أي وجدوا ، خلوا :
أي مضوا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن من يؤذى مؤمنا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ، زجرا لهم عن الإيذاء - أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلم بأن يأمر بعض المتأذين بفعل ما يدفع الإيذاء عنهم في الجملة من التستر والتميز بالزي واللباس حتى يبتعدوا عن الأذى بقدر المستطاع.
روى أنه لما كانت الحرائر والإماء في المدينة يخرجن ليلا لقضاء الحاجة في الغيطان وبين النخيل بلا فارق بين الحرائر والإماء ، وكان في المدينة فساق يتعرضون للإماء وربما تعرضوا للحرائر ، فإذا كلّموا في ذلك قالوا حسبناهن إماء - فطلب من رسوله أن يأمر الحرائر أن يخالفن الإماء في الزي والتستر ، ليتما يزن ويهبن ، فلا يطمع فيهن طامع.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) طلب سبحانه من نبيه صلّى اللّه عليه وسلم أن يأمر النساء المؤمنات المسلمات ، وبخاصة أزواجه وبناته ، بأن يسدلن عليهن الجلابيب إذا خرجن من بيوتهن ليتميزن عن الإماء.
روى على بن طلحة عن ابن عباس قال : أمر اللّه نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطّين وجوههن من فوق رءوسهنّ بالجلابيب ويبدين عينا واحدة.
وعن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) خرج نساء الأنصار كأن رءوسهن الغربان من السكينة ، وعليهن أكسية سود يلبسنها.(22/37)
ج 22 ، ص : 38
وإجمال ذلك - إن على المسلمة إذا خرجت من بيتها لحاجة أن تسدل عليها ملابسها بحيث تغطى الجسم والرأس ولا تبدى شيئا من مواضع الفتنة كالرأس والصدر والذراعين ونحوها.
ثم علل ذلك بقوله :
(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) أي ذلك التستر أقرب لمعرفتهن بالعفة فلا يتعرّض لهن ، ولا يلقين مكروها من أهل الريبة ، احتراما لهن منهم ، فإن المتبرجة مطموع فيها ، منظور إليها نظرة سخرية واستهزاء ، كما هو مشاهد في كل عصر ومصر ، ولا سيما في هذا العصر الذي انتشرت فيه الخلاعة ، وكثر الفسق والفجور.
(وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وربك غفار لما عسى أن يكون قد صدر من الإخلال بالستر ، كثير الرحمة لمن امتثل أمره معهن ، فيثيبه عظيم الثواب ، ويجزيه الجزاء الأوفى.
ولما كان الأذى إنما يحصل من أهل النفاق ومن على شاكلتهم حذّرهم بقوله :
(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا) أي لئن لم يكفّ أهل النفاق الذين يستسرّون الكفر ويظهرون الإيمان ، وأهل الرّيب الذين غلبتهم شهواتهم ، وركنوا إلى الخلاعة والفجور وأهل الإرجاف في المدينة الذين ينشرون الأخبار الملفّقة الكاذبة التي فيها إظهار عورات المؤمنين وإبراز ما استكنّ من خفاياهم كضعف جنودهم وقلة سلاحهم وكراعهم ونحو ذلك مما في إظهاره مصلحة للعدو وخضد لشوكة المسلمين - لنسلطنك عليهم ، وندعونّك إلى قتالهم وإجلائهم عن البلاد ، فلا يسكنون معك فيها إلا قليلا وتخلو المدينة منهم بالموت أو الإخراج.
والخلاصة - إن اللّه سبحانه قد توعد أصنافا ثلاثة من الناس بالقتال والقتل أو النفي من البلاد وهم :(22/38)
ج 22 ، ص : 39
(1) المنافقون الذين يؤذون اللّه سرّا.
(2) من في قلوبهم مرض فيؤذون المؤمنين باتباع نسائهم.
(3) المرجفون الذين يؤذون النبي صلّى اللّه عليه وسلم بنحو قولهم : غلب محمد ، وسيخرج محمد من المدينة ، وسيؤخذ أسيرا إلى نحو ذلك مما يراد به إظهار ضعف المؤمنين ، وسخط الناس منهم.
ثم بين مآل أمرهم من خزى الدنيا وعذاب الآخرة فقال :
(مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا) أي في ذلك الوقت القليل الذي يجاورونك فيه يكونون مطرودين من باب اللّه وبابك ، وإذا خرجوا لا ينفكون عن المذلة ، ولا يجدون ملجأ ، بل أينما يكونوا يطلبوا ويؤخذوا ويقتّلوا تقتيلا.
ثم بين أن هذا الحكم عليهم وعلى أمثالهم بنحو هذا هو شرعة اللّه في أشباههم من قبل ، فهو ليس ببدع فيهم كما قال :
(سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) أي إن سنته تعالى فى المنافقين في كل زمان إذا استمروا في كفرهم وعنادهم ولم يرجعوا عما هم عليه أن يسلط عليهم أهل الإيمان فيذلوهم ويقهروهم ، وهذه السنة لا تغير ولا تبدل ، لابتنائها على الحكمة والمصلحة ، ولا يقدر غيره على تغييرها.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 63 الى 68]
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67)
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)(22/39)
ج 22 ، ص : 40
تفسير المفردات
الساعة : يوم القيامة ، وما يدريك : أي وأىّ شىء يعلمك وقت قيامها ، سعيرا :
أي نارا مستعرة متقدة ، سادتنا : أي ملوكنا ، وكبراءنا : أي علماءنا ، ضعفين من العذاب : أي مثلى عذابنا لأنهم ضلوا وأضلوا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال هذه المئات الثلاث في الدنيا وأنهم يلعنون ويهانون ويقتلون ، عطف على ذلك ذكر حالهم في الآخرة ، فذكّرهم بيوم القيامة ، وبيّن ما يكون لهم فى هذا اليوم.
الإيضاح
(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) أي يكثر الناس هذا السؤال ، متى تقوم الساعة ؟
فالمشركون يسألون عن ذلك استعجالا لها على طريق التهكم والاستهزاء والمنافقون يسألون سؤال المتعنت العالم بما يجيب به الرسول ، واليهود يسألون سؤال امتحان واختبار ، ليعلموا أ يجيب بمثل ما في التوراة من ردّ أمرها إلى اللّه أم يجيب بشىء آخر ؟
فلقنه اللّه الجواب عن هذا بجعل ردّ ذلك إليه فقال :
(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ) الذي أحاط علمه بكل شىء ، ولم يطلع عليها ملكا مقرّبا ولا نبيا مرسلا.
ثم أكد نفى علمها عن أحد غيره بقوله :
(وَما يُدْرِيكَ) أي وأىّ شىء يعلمك وقت قيامها ؟ أي لا يعلمك به أحد أبدا.
ثم أخبر عن قرب وقوعها بقوله :
(لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) أي لعلها توجد وتحقق بعد وقت قريب.(22/40)
ج 22 ، ص : 41
ونحو الآية قوله : « اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ » وقوله : « اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ » وقوله : « أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ » .
وفي هذا تهديد للمستعجلين المستهزئين ، وتبكيت للمتعنتين والممتحنين.
ثم بين حال السائلين عنها ، المنكرين لها ، بقوله :
(إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً. خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي إن اللّه أبعد الكافرين به من كل خير ، وأقصاهم من كل رحمة ، وأعد لهم في الآخرة نارا تتقد وتتسعر ليصليهموها ، ماكثين فيها أبدا إلى غير نهاية.
ثم أيأسهم من وجود ما يدفع عنهم العذاب من الولىّ والنصير بقوله :
(لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي لا يجدون حينئذ من يستنقذهم من السعير ، وينجيهم من عذاب اللّه ، بشفاعة أو نصرة كما هى الحال في الدنيا لدى الظلمة ، إذ ربما وجد النصير والشفيع الذي يخلّص فيها من الورطات ، ويدفع المصايب والنكبات.
(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) أي لا يجدون وليا ولا نصيرا حين تصرّف وجوههم فيها من جهة إلى أخرى كاللحم يشوى في النار أو يطبخ في القدر ، فيدور به الغليان من جهة إلى أخرى ، ويقولون إذ ذاك على طريق التمني : ليتنا أطعنا اللّه في الدنيا ، وأطعنا رسوله فيما جاءنا به من أمر ونهى ، فما كنا نبتلى بهذا العذاب ، بل كنا مع أهل الجنة في الجنة - فيالها من حسرة وندامة ، ما أعظمها وأجلها.
ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم
ونحو الآية قوله : « وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا » وقوله : « رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ » .
ثم ذكر بعض معاذيرهم بإلقائهم التبعة على من أضلّوهم من كبرائهم وسادتهم بقوله :(22/41)
ج 22 ، ص : 42
(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) أي وقال الكافرون يومئذ وهم في جهنم : ربنا إنا أطعنا أئمتنا في الضلالة وكبراءنا في الشرك فأضلونا السبيل ، وأزالونا عن محجة الحق وطريق الهدى من الإيمان بك والإقرار بوحدانيتك والإخلاص لطاعتك في الدنيا.
وفي هذا إحالة الذنب على غيرهم كما هى عادة المذنب يفعل ذلك وهو يعلم أنه لا يجديه نفعا.
ثم ذكر أنهم يدعون ربهم على طريق التشفي ممن أوردهم هذا المورد الوخيم ، أن يضاعف لهم العذاب ، إذ كانوا سبب ضلالهم ، ووقوعهم في بلواهم ، وإن كانوا يعلمون أن ذلك لا يخلّصهم مما هم فيه ، فقالوا :
(رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) أي ربنا عذّبهم مثلى عذابنا الذي تعذبنا به : مثلا على ضلالهم ، ومثلا على إضلالهم إيانا ، واخزهم خزيا عظيما واطردهم من رحمتك.
روى الشيخان عن عبد اللّه بن عمرو أن أبا بكر قال : يا رسول اللّه علّمنى دعاء أدعو به في صلاتى ، قال : « قل اللهم إنى ظلمت نفسى ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لى مغفرة من عندك وارحمني ، إنك أنت الغفور الرّحيم » .
[سورة الأحزاب (33) : آية 69]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69)
تفسير المفردات
الوجيه : هو ذو الجاه والمنزلة ، ومن يكون له من خصال الخير ما به يعرف ولا ينكر.(22/42)
ج 22 ، ص : 43
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أن من يؤذى اللّه ورسوله يلعنه اللّه في الدنيا والآخرة ، ولا شك أن هذا في الإيذاء الذي يؤدى إلى الكفر ، وقد حصره اللّه في النفاق ومرض القلب والإرجاف على المسلمين - أعقب ذلك بإيذاء دون ذلك لا يورث الكفر كعدم الرضا بقسمة النبي صلّى اللّه عليه وسلم للفىء ، ونهى الناس عنه أيضا ، وذكر أن بنى إسرائيل قد آذوا موسى ونسبوا إليه ما ليس فيه ، فبرأه اللّه منه ، لأنه ذو كرامة ومنزلة لديه ، فلا يلصق به ما هو نقص فيه
الإيضاح
يا أيها الذين آمنوا باللّه ورسوله ، لا تؤذوا الرسول بقول يكرهه ، ولا بفعل لا يحبه ، ولا تكونوا أمثال الذين آذوا موسى نبى اللّه فرموه بالعيب كذبا وباطلا ، فبرأه اللّه مما قالوه من الكذب والزور ، بما أظهر من الأدلة على كذبهم ، وقد كان موسى ذا وجاهة وكرامة عند ربه ، لا يسأله شيئا إلا أعطاه إياه.
ولم يعين لنا الكتاب الكريم ما قالوا في موسى ، ومن الخير ألا نعيّنه حتى لا يكون ذلك رجما بالغيب دون أن يقوم عليه دليل ، وقد اختلفوا فيه أهو عيب في بدنه كبرص ونحوه ، أم هو عيب في خلقه ؟ فقد رووا أن قارون حرّض بغيّا على قذفه بنفسها ، فعصمه اللّه من كذبها ، وقيل إنهم اتهموه بقتل هارون لما خرج معه إلى الطور ومات هناك ، ثم استبان لهم بعد أنه مات حتف أنفه.
روى الشيخان عن عبد اللّه بن مسعود قال : « قسم رسول اللّه ذات يوم قسما فقال رجل من الأنصار : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه اللّه فاحمرّ وجهه ثم قال : رحمة اللّه على موسى فقد أوذى بأكثر من هذا فصبر » .
وروى أحمد عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه « لا يبلّغنّى أحد عن أحد من أصحابى شيئا ، فإنى أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر » .(22/43)
ج 22 ، ص : 44
وعنه أيضا أنه قال : « أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مال فقسمه ، قال فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه : واللّه ما أراد محمد بقسمته وجه اللّه ولا الدار الآخرة.
قال فثبت حتى سمعت ما قالا ، ثم أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقلت :
يا رسول اللّه إنك قلت لنا : لا يبلغنى أحد عن أصحابى شيئا وإنى مررت بفلان وفلان وهما يقولان كذا وكذا ، فاحمرّ وجه رسول اللّه وشق عليه ثم قال : دعنا منك لقد أوذى موسى بأكثر من هذا فصبر » .
ومن هذا يتبين أن إيذاء موسى كان بالقدح في أعماله وتصرفاته ، لا بالعيب فى بدنه كما روى.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 70 الى 71]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)
تفسير المفردات
القول السديد : القول الصدق الذي يراد به الوصول إلى الحق ، من قولهم : سدد سهمه إذا وجهه للغرض المرمىّ ولم يعدل به عن سمته.
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه عن إيذاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بقول أو فعل ، أرشدهم إلى ما ينبغى أن يصدر منهم من الأقوال والأفعال التي تكون سببا في الفوز النجاة في الدار الآخرة ، والقرب من اللّه سبحانه والحظوة إليه.(22/44)
ج 22 ، ص : 45
الإيضاح
يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه أن تعصوه فتستحقوا بذلك عقوبته ، وقولوا في رسوله والمؤمنين قولا قاصدا غير جائر ، حقا غير باطل ، يوفقكم لصالح الأعمال ، ويغفر لكم ذنوبكم فلا يعاقبكم عليها.
ومن يطع اللّه ورسوله فيعمل بما أمره به وينته عما نهاه عنه ويقل السديد من القول فقد ظفر بالمثوبة العظمى والكرامة يوم العرض الأكبر.
والخلاصة - إنه سبحانه أمر المؤمنين بشيئين : الصدق في الأقوال ، والخير فى الأفعال ، وبذلك يكونون قد اتقوا اللّه وخافوا عقابه ، ثم وعدهم على ذلك بأمرين :
(1) إصلاح الأعمال إذ بتقواه يصلح العمل ، والعمل يرفع صاحبه إلى أعلى عليين ويجعله يتمتع بالنعيم المقيم في الجنة خالدا فيها أبدا.
(2) مغفرة الذنوب وستر العيوب والنجاة من العذاب العظيم.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
تفسير المفردات
العرض هنا : النظر إلى استعداد السموات والأرض ، والأمانة كل ما يؤتمن عليه المرء من أمر ونهى في شئون الدين والدنيا ، والمراد بها هنا التكاليف الدينية ، وسميت أمانة من قبل أنها حقوق أوجبها اللّه على المكلفين وائتمنهم عليها وأوجب عليهم تلقيها بالطاعة والانقياد وأمرهم بالمحافظة عليها وأدائها دون الإخلال بشىء منها ،(22/45)
ج 22 ، ص : 46
فأبيّن : أي كنّ غير مستعدات لها ، وحملها الإنسان : أي كان مستعدا لها ، إنه كان ظلوما : أي كثير الظلم لما غلب عليه من القوة الغضبية ، جهولا : أي كثير الجهل لعواقب الأمور ، لما غلب عليه من القوة الشهوية.
المعنى الجملي
بعد أن بين عز اسمه عظم شأن طاعة اللّه ورسوله ، وأن من يراعيها فله الفوز العظيم ، وأن من يتركها يستحق العذاب - أردف ذلك عظم شأن ما تنال به تلك الطاعة من فعل التكاليف الشرعية وأن حصولها عزيز شاقّ على النفوس ، ثم بيان أن ما يصدر منهم من الطاعة أو يكون منهم من إباء بعدم القبول والالتزام إنما يكون بلا جبر ولا إلزام.
الإيضاح
(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا) أي إنا لم نخلق السموات والأرض على عظم أجرامها وقوة أسرها مستعدة لحمل التكاليف بتلقى الأوامر والنواهي والتبصر فى شئون الدين والدنيا ، ولكن خلقنا الإنسان على ضعف منّته وصغر جرمه مستعدا لتلقيها والقيام بأعبائها ، وهو مع ذلك قد غلبت عليه الانفعالات النفسية الداعية إلى الغضب فكان ظلوما لغيره ، وركّب فيه حب الشهوات والميل إلى عدم التدبر فى عواقب الأمور ، ومن ثم كلفناه بتلك التكاليف لتكسر سورة تلك القوى وتخفف من سلطانها عليه وتكبت من جماحها حتى لا توقعه في مواقع الردى.
ثم بين عاقبة تلك التكاليف فقال :
(لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي وكان عاقبة حمل الإنسان لهذه الأمانة أن يعذب من خانها وأبى الطاعة(22/46)
ج 22 ، ص : 47
والانقياد لها من المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ، ويقبل توبة المؤمنين والمؤمنات إذا رجعوا إليه وأنابوا ، لتلافيهم ما فرط منهم من الجهل وعدم التبصر فى العواقب وتداركهم ذلك بالتوبة.
ثم علل قبوله لتوبتهم بقوله :
(وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان اللّه ستارا لذنوب عباده كثير الرحمة بهم ، ومن ثم قبل توبة من أناب إليه ، ورجع إلى حظيرة قدسه ، وأخلص له العمل ، وتلافى ما فرط منه من الزلات ، وأثابه على طاعته بالفوز العظيم.
نسألك اللهم أن تتوب علينا ، وتغفر لنا ما فرط منا من الزلات ، وتثيبنا بالفوز العظيم في الجنات ، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
تنبيه
ذكر سبحانه في هذه السورة الكثير من الشئون الزوجية وكيف تعامل الزوجات ، وقد رأينا أن نذكر هنا مسألتين كثر الخوض فيهما من أرباب الأديان الأخرى ومن نابتة المسلمين الذين تعلموا في مدارسهم وسمعوا كلام المبشرين ، ظنا منهم أنهم وجدوا مغمزا في الإسلام وأصابوا هدفا يصمى الدين ، ويجعل معتنقيه مضغة في أفواه السامعين وأنى لهم ذلك ، وليتهم فكروا وتأملوا ، قبل أن يتكلموا.
أرى العنقاء تكبر أن تصادا فعاند من تطيق له عنادا
(1) تعدد زوجاته صلّى اللّه عليه وسلم وكثرتهن بينما لم يبح مثل ذلك لأمته.
(2) إباحة تعدد الزوجات لعامة المسلمين.
ومن ثم وجب علينا أن نميط اللثام عن الأسباب التي دعت إلى كل منهما.
أسباب تعدد زوجاته صلّى اللّه عليه وسلم
قبل أن ندخل في تفاصيل البحث نذكر لك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم عاش مع خديجة خمسا وعشرين سنة لم يتزوج سواها ، وكانت سنه إذ ذاك ناهزت الخمسين ،(22/47)
ج 22 ، ص : 48
وكان قد تزوجها في شرخ شبابه ، إذ كانت سنه وقتئذ خمسا وعشرين سنة وكانت سنها أربعين وعاشا معا عيشا هنيا شعاره الإخلاص والوفاء ، وكانت من أكبر أنصاره على الكفار الذين سخروا منه وألحقوا به ضروبا شتى من الأذى ، ولم يشأ أن يتزوج غيرها مع ما كان يبيحه له عرف قومه ، بل ظل وفيّا لها حتى توفّيت ، فحزن عليها حزنا شديدا وسمى عام وفاتها عام الحزن ، ولم ينقطع عن ذكراها طوال حياته.
والآن حق علينا أن نذكر لك الأسباب التي حدت النبي صلّى اللّه عليه وسلم إلى التعدد ، وهى قسمان : أسباب عامة وأسباب خاصة :
الأسباب العامة
(1) إن رسالة النبي صلّى اللّه عليه وسلم عامة للرجال والنساء ، ومن التشريع ما هو مشترك بين الرجل والمرأة وما هو خاص بأحدهما ، وكلّ يحتاج في تلقينه إلى عدد ليس بالقليل لتفرق المرسل إليهم وكثرهم وقصر زمن حياة الرسول ، وكثرة الأحكام ، وإلا لم يحصل التبليغ على الوجه الأتم.
ومن الأحكام المتعلقة بالنساء ما تستحيى المرأة أن تعرفه من الرجل ، ويستحيى الرجل من تبليغه للمرأة ، ألا ترى إلى ما
روى عن عائشة رضى اللّه عنها أن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت للنبى صلّى اللّه عليه وسلم : كيف أغتسل من الحيض ؟ قال : خذى فرصة ممسّكة (قطعة قطن) فتوضئ - قالها ثلاثا وهو في كل ذلك يقول : سبحان اللّه عند إعادتها السؤال ، ثم أعرض عنها بوجهه استحياء ، فأخذتها عائشة وأخبرتها بما يريد النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
ومن ثم وجب أن يتلقى الأحكام الخاصة بالنساء من الرسول صلّى اللّه عليه وسلم عدد كثير منهن ، وهن يبلغن ذلك إلى النساء ، ولا يصلح للتلقى عنه إلا أزواجه ، لأنهن لهن خصائص تمكنهن من معرفة أغراض النبي دون تأفف ولا استحياء ،(22/48)
ج 22 ، ص : 49
يرشد إلى ذلك
قوله صلّى اللّه عليه وسلم « خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء »
يريد عائشة رضى اللّه عنها ، والعرب تقول امرأة حمراء أي بيضاء.
(2) إن المصاهرة من أقوى عوامل التآلف والتناصر كما هو مشاهد معروف ، والدعوة في أول أمرها كانت في حاجة ماسة إلى الإكثار من ذلك ، لا جتذاب القبائل إليه ومؤازرتهم له ، لذود عوادى الضالين ، وكف أذاهم عنه ، ومن ثم كان أكثر زوجاته من قريش سيدة العرب.
(3) إن المؤمنين كانوا يرون أن أعظم شرف وأمتن قربة إلى اللّه تعالى مصاهرتهم لنبيه وقربهم منه ، فمن ظفر بالمصاهرة فقد أدرك ما يرجو. ألا ترى أن عمر رضى اللّه عنه أسف جد الأسف حين فارق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ابنته وقال : لا يعبأ بعدها بعمر ، ولم ينكشف عنه الهم حتى روجعت ، وأن عليا كرم اللّه وجهه على اتصاله برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من طريق النسب وشرف اقترانه بالزهراء رغب في أن يزوجه أخته أم هانىء بنت أبى طالب ليتضاعف شرفه ولم يمنعها من ذلك إلا خوفها أن تقصّر فى القيام بحقوق الرسول مع خدمة أبنائها.
الأسباب الخاصة بزواج كل واحدة من أمهات المؤمنين
(1) تزوج النبي صلّى اللّه عليه وسلم بعد خديجة سودة بنت زمعة أرملة السكران ابن عمرو الذي أسلم واضطرّ إلى الهجرة إلى بلاد الحبشة هربا من اضطهاد المشركين ومات هناك وأصبحت امرأته بلا معين ، وهى أرمل رجل مات في سبيل الدفاع عن الحق ، فتزوجها النبي صلّى اللّه عليه وسلم وفاء لرجل غادر الأهل والأوطان احتفاظا بعقيدته ، وقد شاركته هذه الزوجة في أهوال التغريب والنفي ، وحماية لها من أهلها أن يفتنوها ، لأنها هاجرت مع زوجها على غير رغبتهم.
(2) تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية وعمرها زهاء خمسين عاما ، وكان زواجه منها سببا في دخول خالد بن الوليد في دين اللّه ، وهو المجاهد الكبير والبطل العظيم ،(22/49)
ج 22 ، ص : 50
وهو الذي غلب الروم على أمرهم فيما بعد ، وله في الإسلام أيام غرّ محجلة - إلى أن زواجها بالنبي صلّى اللّه عليه وسلم يسّر لذوى قرباها وسيلة للعيش فطعموا من جوع وأمنوا من مخوف وأثروا بعد فاقة.
(3) تزوج جويرية وكان أبوها الحارث بن ضرار سيد بنى المصطلق بن خزاعة جمع قبل إسلامه جموعا كثيرة لمحاربة النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، ولما التقى الجمعان عرض عليهم الرسول صلّى اللّه عليه وسلم الإسلام فأبوه فحاربهم حتى هزموا ووقعت جويرية فى سهم ثابت بن قيس ، فكاتبها على سبع أواق من الذهب فلم تر معينا لها غير النبي صلى اللّه عليه وسلم فجاءت إليه وأدلت بنسبها وطلبت حريتها فتذكر النبي صلّى اللّه عليه وسلم ما كان لأهلها من العز والسؤدد وما صاروا إليه بسوء التدبير والعناد ، فأحسن إليها وإلى قومها بأداء ما عليها من نجوم ، ثم تزوجها فقال المسلمون بعد أن اقتسموا بنى المصطلق : إن أصهار رسول اللّه لا يسترقّون ، وأعتقوا من بأيديهم من سبيهم ، وعلى إثر ذلك أسلم بنو المصطلق شكرا للّه على الحرية بعد ذل الكفر والأسر.
(4) تزوج السيدة عائشة مكافأة لأبى بكر الصديق ، إذ كان شديد التمسك برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مولعا بالتقرب منه ، فكان ذلك قرة عين لها ولأبويها وفخرا لذوى قرباها ، وكان عبد اللّه بن الزبير (ابن أختها) يفاخر بنى هاشم بذلك.
(5) تزوج أم المؤمنين حفصة بنت عمر مكافأة لزوجها الذي توفى مجروحا في موقعة بدر وفي تلك الحقبة كانت السيدة رقية بنت الرسول وزوج عثمان قد توفيت ، فعرض عمر ابنته على عثمان فأعرض عنها رغبة في أم كلثوم بضعة الرسول ليستديم له بذلك الشرف ، فعزّ هذا على عمر وأنفت نفسه فشكاه إلى أبى بكر فقال له لعلها تتزوج من هو خير منه ويتزوج من هى خير منها له (يريد زواج عثمان بأم كلثوم وزواج حفصة بالنبي صلّى اللّه عليه وسلم).
(6) تزوج صفية بنت حيىّ بن أخطب سيد بنى النّضير ، وكانت قد وقعت(22/50)
ج 22 ، ص : 51
فى السبي مع عشيرتها ، فأراد النبي صلّى اللّه عليه وسلم أن يتزوجها رأفة بها إذ ذلت بعد عزة ، واسترقّت وهى السيدة الشريفة عند أهلها ، وتأليفا لقومها حتى يدخلوا في كنف الإسلام ، وينضووا تحت لوائه.
(7) تزوج زينب بنت جحش الأسدية ، لإبطال عادة جاهلية كانت متأصلة عند العرب وهى التبني بتنزيل الدّعى منزلة الابن الحقيقي ، وإذا أراد اللّه إبطال هذه العادة جعل رسوله صلّى اللّه عليه وسلم أسوة حسنة في هذا ، فسعى في تزويج زيد مولاه بعد أن أعتقه بزينب ذات الحسب والمجد فأنفت هى وأخوها عبد اللّه ، وأبت أن تكون زوجا لدعىّ غير كفء ، فأنزل اللّه « وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ » فرضيا بقضاء اللّه ورسوله غير أنها كانت نافرة من هذا القرآن ، مترفعة عن زيد ، ضائقة به ذرعا ، فآثر فراقها ، فسأل الرسول الإذن في ذلك ،
فقال له : أمسك عليك زوجك واتق اللّه ،
وأخفى في نفسه ما اللّه مبديه من تزوجه منها بعد زيد ، وخشى أن يقول الناس : تزوج محمد من زيد ابنه.
ولما لم يبق لزيد فيها شىء من الرغبة طلقها ، فتزوجها النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، إبطالا لتلك العادة ، وهى إعطاء المتبنّى حكم لابن ، وقد تقدم تفصيل هذا في أثناء تفسير السورة بشىء من البسط والإيضاح.
ومما سلف يستبين لك أن ما يتقوله غير المنصفين من الغربيين من أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم خوّل لنفسه ميزة لم يعطها لأحد من أتباعه - لا وجه له من الصحة فإن زواجه بأمهات المؤمنين كان لأغراض اجتماعية اقتضتها الدعوة ، ودعا إليها حب النصرة ، ولا سيما إذا علم أنه لم يتزوج بكرا قط إلا عائشة ، وأن من أمهات المؤمنين من كن في سن الكهولة أو جاوزنها.(22/51)
ج 22 ، ص : 52
أسباب إباحة تعدد الزوجات في الإسلام
يجدر بذوي الحصافة في الرأى أن ينظروا إلى الأسباب التي دعت أن يبيح الإسلام تعدد الزوجات دون أن ينقموا عليه ذلك ، ويرموه بالقسوة ، فإن في بعضها ما هو موجب للتعدد لا مجيز له فحسب.
وهاك أهم الأسباب :
(1) قد تصاب المرأة أحيانا بمرض مزمن أو مرض معد يجعلها غير قادرة على القيام بالواجبات الزوجية ، فيضطر الرجل إلى أن يقترف ما ينافي الشرف والمروءة ويغضب اللّه ورسوله إن لم يبح له أن يتزوج بأخرى.
(2) دل الاستقراء على أن عدد النساء يربو على عدد الرجال ، لما يعانيه هؤلاء من الأعمال الشاقة التي تنهك القوى وتضوى الأجسام ، ولا سيما الحروب الطاحنة ، فإذا منع التعدد لا يجد بعض النساء أزواجا يحصنونهن ويقومون بشئونهن ، فيكثر الفساد ، ويلحق الأسر العار وتعضهن الحياة بأنيابها.
(3) حضت الشريعة الإسلامية على كثرة النسل ، لتقوى شوكة الإسلام ، وتعلو سطوته ، وتنفذ كلمته ، حتى ترهبه الأعداء ، وتتقيه الأمم المناوئة له ، ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا بإباحة تعدد الزوجات ، لأن المنع مفض إلى تناقص النسل ، ولا أدل على ذلك من أن عقلاء الأمم في الغرب أشفقوا على أممهم لما اعتراها من نقص في النسل بسبب منع التعدد من ناحية ، وإحجام كثير من شبانهم عن الزواج ، والاجتزاء بالسفاح ، فرارا من الحقوق الزوجية ، وأعباء الأولاد من ناحية أخرى ، ومن ثم لجأ كثير من الدول الغربية إلى ارتباط بعضهم ببعض بالحلف والعهود والمواثيق ، طلبا لنيل فائدة التكاثر ، وبذلك تبقى لهم السيادة الدولية.(22/52)
ج 22 ، ص : 53
(4) دل الإحصاء في كثير من البلاد الغربية على أن حظر تعدد الزوجات أدى إلى كثرة الأولاد غير الشرعيين مما حدا بعض المفكرين إلى النظر في توريثهم.
(5) كان من نتائج منع التعدد انتشار كثير من الأمراض الفتاكة التي أصابت الرجال والنساء والأطفال حتى عجز الطب عن مكافحتها وتغلغل الداء وعز الدواء ، مما جعل بعض البلاد تسن القوانين التي تمنع عقد الزواج إلا بعد إحضار صكّ رسمى بخلو الزوجين من الأمراض المعدية والأمراض التي تجعل النسل ضعيفا ضاويا لا يستطيع الكفاح في الحياة.
ما حوته السورة الكريمة من أغراض ومقاصد
(1) الأمر بتقوى اللّه وعدم طاعة الكافرين والمنافقين.
(2) وجوب اتباع ما ينزل به الوحى مع ضرب المثل لذلك.
(3) إبطال العادة الجاهلية وهى إعطاء المتبنّى حكم الابن ، وبيان أن الدين منه براء.
(4) إبطال التوريث بالحلف والتوريث بالهجرة ، وإرجاع التوريث إلى الرحم والقرابة.
(5) ذكر النعمة التي أنعم بها عليهم في وقعة الخندق بعد أن اشتد بهم الخطب.
(6) تخيير النبي نساءه بين شيئين : الفراق إذا أردن زينة الحياة الدنيا والبقاء معه إذا أحببن اللّه ورسوله والدار الآخرة.
(7) التشديد عليهن بمضاعفة العذاب إذا ارتكبن الفواحش ، ونهيهن عن الخضوع فى القول وأمرهن بالقرار في البيوت ، وتعليمهن كتاب اللّه وسنة رسوله ، ونهيهن عن التبرج.
(8) قصة زينب بنت جحش وزيد مولى رسوله صلّى اللّه عليه وسلم.(22/53)
ج 22 ، ص : 54
(9) ما أحل لنبيه من النساء وتحريم الزواج عليه بعد ذلك.
(10) النهى عن إيذاء المؤمنين للنبى صلّى اللّه عليه وسلم إذا دخلوا بيته لطعام ونحوه (11) الأمر بكلام أمهات المؤمنين من وراء حجاب إذا طلب منهن شىء إلا الآباء والأبناء والأرقاء.
(12) أمرهن بإرخاء الجلباب إذا خرجن لقضاء حاجة.
(13) تهديد المنافقين وضعاف الإيمان والمرجفين في المدينة.
(14) سؤال المشركين عن الساعة متى هى ؟
(15) النهى عن إيذاء النبي حتى لا يكونوا كبنى إسرائيل الذين آذوا موسى.(22/54)
ج 22 ، ص : 55
سورة سبأ
هى مكية إلا الآية السادسة مثها فمدنية ، وآيها أربع وخمسون نزلت بعد لقمان.
ووجه اتصالها بما قبلها :
(1) إن الصفات التي أجريت على اللّه في مفتتحها تشاكل الصفات التي نسبت إليه في مختتم السورة السالفة.
(2) إنه في السورة السابقة ذكر سؤال الكفار عن الساعة استهزاء ، وهنا حكى عنهم إنكارها صريحا ، وطعنهم على من يقول بالبعث ، وقال هنا ما لم يقله هناك.
[سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
تفسير المفردات
الحمد : هو الثناء على اللّه بما هو أهله ، والحكيم : الذي أحكم أمر الدارين ودبره بحسب ما تقتضيه الحكمة ، والخيبر : هو الذي يعلم بواطن الأمور وخوافيها ، يلج فى الأرض : أي يدخل فيها ، ويعرج : أي يصعد.
الإيضاح
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي الحمد الكامل للمعبود المالك لجميع ما في السموات وما في الأرض دون كل ما يعبدونه ودون كل شىء سواه ، إذ لا مالك لشىء من ذلك غيره.(22/55)
ج 22 ، ص : 56
والخلاصة - إن له عز وجل جميع ما في السموات وما في الأرض ، خلقا وملكا وتصرفا بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة.
ولما بين اختصاصه بالحمد في الدنيا أعقبه ببيان أن له وحده الحمد في الآخرة فقال :
(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) أي وله الحمد في الآخرة خالصا دون سواه على ما أنعم به فيها كما حكى عن أهلها من قولهم : « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ » وقولهم : « الحمد للّه الّذى أذهب عنّا الحزن إنّ ربّنا لغفور شكور. الّذى أحلّنا دار المقامة من فضله » .
(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) أي وهو المدبّر لشئون خلقه على ما تقتضيه الحكمة ، الخبير ببواطن الأمور ومكنوناتها.
ثم فصل بعض ما يحيط به علمه من الأمور التي نيطت بها مصالح عباده الدنيوية والأخروية فقال :
(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) أي يعلم ما يدخل في الأرض كالغيث ينفذ في موضع وينبع في آخر ، وكالكنوز والدفائن والأموات ، وما يخرج منها كالحيوان والنبات والغازات وماء العيون والمعادن التي مضى عليها آلاف السنين ، ومخلّفات الأمم ومصنوعاتهم كمخلفات المصريين القدماء ونقوش آشور وبابل وعجائب أهل سبأ وصناعاتهم ، مما استخرجه علماء العاديات من الأوربيين في القرن الماضي والعصر الحاضر ، ولا يزالون كل يوم يكشفون جديدا يدل على أن الشرق كان ذا مدنية وحضارة لا يدانيها أعظم ما يوجد في الغرب الآن في أرقى ممالكه.
(وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) كالملائكة والكتب والأرزاق والمطر والصواعق.
(وَما يَعْرُجُ فِيها) كالملائكة وأعمال العباد والأبخرة والدخان والطائرات والمطاود الجوية.
(وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) أي وهو مع كثرة نعمه وسبوغ فضله ، رحيم بعباده فلا يعاجل بعقوبة ، غفور لذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه.(22/56)
ج 22 ، ص : 57
[سورة سبإ (34) : الآيات 3 الى 6]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
تفسير المفردات
لا يعزب عنه : أي لا يفوته علمه ، مثقال ذرة : أي مقدار أصغر نملة ، والكتاب المبين : اللوح المحفوظ ، رزق كريم : أي حسن لا تعب فيه ولا منّ عليه ، معاجزين :
أي مسابقين يظنون أنهم يفوتوننا فلا نقدر عليهم ، رجز : أي عذاب شديد ، العزيز :
أي الذي يغلب ولا يغلب ، الحميد : أي المحمود في جميع شئونه ، وصراطه : هو التوحيد والتقوى.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أن له الحمد في الآخرة على ما أسدى إلى عباده من النعم ، أردف ذلك بيان أن كثيرا منهم ينكرها أشد الإنكار ، ويستهزئ بمن يثبتها ويعتقد أنها ستكون ، وقد بلغ من تهكمهم أنهم يستعجلون مجيئها ظنا منهم أن هذه خيالات بل أضغاث أحلام ، وقد ذكر أن مجيئها ضربة لازب ، لتجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر ، ثم أعقب هذا ببيان أن الناس فريقان : مؤمن بآيات ربه يرى أنها الحق(22/57)
ج 22 ، ص : 58
وأنها تهدى إلى الصراط المستقيم ، ومعاند جاحد بها يسعى في إبطالها ، ومآل أمره العذاب الأليم على ما دسّى به نفسه من قبيح الخلال.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) أي وقال الذين ستروا ما أرشدتهم إليه عقولهم من البراهين الدالة على قيام الساعة : إنه لا رجعة بعد هذه الدنيا ولا بعث ولا حساب ، إن هى إلا أرحام تدفع ، وأرض تبلع ، وما نحن بمبعوثين.
وقد أمر اللّه رسوله أن يرد عليهم مؤكدا لهم بطلان ما يدّعون.
(قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) أي قل لهم إنها وربى لآتية لا ريب فيها.
وهذه الآية إحدى آيات ثلاث أمر اللّه فيها رسوله أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد حين أنكره من أنكره من أهل الشرك والعناد ، فإحداهن في سورة يونس « وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ » وثانيتها فى سورة التغابن « زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا ، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ » وثالثتها ما هنا.
ثم وصف المولى نفسه بكامل العلم وعظيم الإحاطة بالموجودات مما يؤكد إمكان البعث فقال :
(عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي إن وقت مجيئها لا يعلمه سوى علام الغيوب الذي لا يغيب عن علمه شىء في السموات ولا في الأرض من ذرة فما دونها ولا ما فوقها ، أين كانت وأين ذهبت ، فكل ذلك محفوظ في كتاب مبين ، فالعظام وإن تلاشت ، واللحوم وإن تفرقت وتمزقت ، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرقت ، فيعيدها كما بدأها أول مرة وهو بكل شىء عليم.
ثم بين الحكمة في إعادة الأجسام وقيام الساعة بقوله :(22/58)
ج 22 ، ص : 59
(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي ببعثهم من قبورهم يوم القيامة ، ليثيب الذين آمنوا باللّه وعملوا بما أمرهم به وانتهوا عما نهاهم عنه وأولئك لهم مغفرة لذنوبهم من لدنه ، وعيش هنىء في الجنة لا تعب فيه ولا منّ عليه ، والخلاصة - إن الحكمة تقتضى وجودها ، وليس هناك مانع منها ، فالعلم المحيط بالغيب موجود ، فقد وجد المقتضى لوجودها ، وارتفع المانع من إتيانها.
(وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي وليجزى الذين سعوا في إبطال أدلتنا وحججنا عنادا منهم وكفرا ، وظنوا أنهم يسبقوننا بأنفسهم فلا نقدر عليهم بشديد العذاب في جهنم وبئس المهاد ، لما اجترحوا من السيئات ودسّوا به أنفسهم من قبيح الأعمال.
وإجمال ذلك - إن الساعة آتية لا محالة ، لينعم السعداء المؤمنون ، ويعذّب الأشقياء الكافرون.
ونحو الآية قوله : « أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ » وقوله : « لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ » .
ثم استشهد باعتراف أولى العلم ممن آمن من أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام وكعب وأضرابهما بصحة ما أنزل إليك ، ليردّ به على أولئك الجهلة الساعين في الآيات الذين أنكروا الساعة فقال :
(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي وقال الجهلة المنكرون للبعث والحشر والحساب - إنه لا رجعة بعد هذه الدنيا وقال العالمون من أهل الكتاب ومن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ومن يأتى من بعدهم من أمته : إن الذي أنزل إليك من ربك مثبتا لقيام الساعة ومجازاة كل عامل بما عمل من خير أو شر - هو الحق الذي لا شك فيه ، وأنه هو الذي(22/59)
ج 22 ، ص : 60
يرشد من اتبعه وعمل به إلى سبيل اللّه الذي لا يغالب ولا يمانع ، وهو القاهر لكل شىء والغالب له ، وهو المحمود على جميع أقواله وأفعاله وما أنزله من شرع ودين.
[سورة سبإ (34) : الآيات 7 الى 9]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
تفسير المفردات
تمزيق الشيء : تقطيع أوصاله وجعله قطعا قطعا ، يقال ثوب مزيق وممزوق ومتمزّق وممزّق ، ومنه قوله :
إذا كنت مأكولا فكن خير آكل وإلا فأدركنى ولما أمزّق
والافتراء : اختلاق الكذب ، والجنة : الجنون وزوال العقل ، كسفا :
قطعا واحدها كسفة ، منيب : أي راجع إلى ربه مطيع له.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أنهم أنكروا الساعة ورد عليهم ما قالوا وأكده كل التأكيد ، ثم ذكر ما يكون إذ ذاك من جزاء المؤمن بالثواب العظيم على ما عمل من صالح الأعمال ، وجزاء الساعي في تكذيب الآيات بالتعذيب في الجحيم على ما دسّى(22/60)
ج 22 ، ص : 61
به نفسه من اجتراح المعاصي وفاسد المعتقدات - أردف ذلك ذكر مقال للكافرين ذكروه تهكما واستهزاء ، ثم ذكر الدليل على صحة البعث بخلق السموات والأرض ، ثم توعدهم على تكذيبهم بأشد الوعيد ، لعلهم يرجعون عن عنادهم ، ويثوبون إلى رشادهم.
الإيضاح
(وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ؟ ) أي وقال قريش بعضهم لبعض ، تعجبا واستهزاء ، وتهكما وإنكارا : هل سمعتم برجل يقول : إنا إذا تقطعت أوصالنا ، وتفرقت أبداننا ، وبليت عظامنا ، نرجع كرة أخرى أحياء كما كنا ، ونحاسب على أعمالنا ، ثم نثاب على الإحسان إحسانا ، ويجزى على اجتراح الآثام آلاما ، بنار تلظى تشوى الوجوه والأجسام.
وخلاصة ذلك - إنه يقول : إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتا وعظاما ، وقطعتكم السباع والطير ، ستحيون وتبعثون ، ثم تحاسبون على ما فرط منكم من صالح العمل وسيئه ثم قال إن مقالا كهذا لا يصدر إلا من أحد رجلين.
(أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ؟ ) أي إن قوله هذا دائر بين أمرين : إما أن يكون قد تعمد الافتراء على اللّه أنه أوحى إليه ذلك ، أو أنه لبّس عليه كما يلبّس على المعتوه والمجنون.
وإجمال ذلك - إنه إما أن يكون مفتريا على اللّه وإما أن يكون مجنونا.
فرد اللّه عليهم مقالهم وأثبت لهم ما هو أشد وأنكى فقال :
(بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) أي ليس الأمر كما زعموا ولا كما ذهبوا إليه ، بل إن محمدا هو البرّ الرشيد الذي جاء بالحق ، وإنهم هم الكذبة الجهلة الأغبياء الذين بلغوا الغاية في اختلال العقل وأوغلوا في الضلال ، وبعدوا(22/61)
ج 22 ، ص : 62
عن الإدراك والفهم ، وليس هذا إلا الجنون بعينه ، وسيؤدى ذلك بهم إلى العذاب ، إذ هم قد أنكروا حكمة اللّه في خلق العالم وكذبوه في وعده ووعيده ، وتعرضوا لسخطه.
ثم ذكّرهم بما يعاينون مما يدل على كمال قدرته ، وفيه تنبيه لهم إلى ما يحتمل أن يقع لهم من القوارع التي تهلكهم ، وتهديد على ما اجترحوا من السيئات فقال :
(أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ؟ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي أ فلم ينظر هؤلاء المكذبون بالمعاد ، الجاحدون للبعث بعد الممات فيعلموا أنهم حيث كانوا فإن أرضى وسمائى محيطة بهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، فيرتدعوا عن جهلهم ، ويزدجروا عن تكذيبهم ، حذر أن نأمر الأرض فتخسف بهم أو نأمر السماء فتسقط عليهم كسفا ، فإنا إن نشأ أن نفعل ذلك بهم فعلنا ، لكنا نؤخره لحلمنا وعفونا.
وإجمال ذلك - إنه تعالى ذكّرهم بأظهر شىء لديهم يعاينونه حيثما وجدوا ، ولا يغيب عن أبصارهم حيثما ذهبوا ، وفيه الدليل على قدرته على البعث والإحياء ، فإن من قدر على خلق تلك الأجرام العظام لا تعجزه إعادة الأجسام ، فهى إذا قيست بها كانت كأنها لا شىء كما قال : « أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ » .
وفي هذا ما لا يخفى من التنبيه إلى مزيد جهلهم المشار إليه بالضلال البعيد.
ثم ذكر ما هو كالعلة في الحث على الاستدلال بذلك ، ليزيح إنكارهم بالبعث فقال :
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي إن في النظر إلى خلق السموات والأرض ، لدلالة لكل عبد فطن منيب إلى ربه على كمال قدرتنا على بعث الأجساد ووقوع المعاد ، لأن من قدر على خلق هذه السموات على ارتفاعها واتساعها ، وعلى هذه الأرض على انخفاضها وطولها وعرضها - قادر على إعادة الأجسام ، ونشر الرميم(22/62)
ج 22 ، ص : 63
من العظام ، كما قال « لخلق السّموات والأرض أكبر من خلق النّاس ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون » .
[سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
تفسير المفردات
فضلا : أي نعمة وإحسانا ، أوّبى معه : أي رجّعى معه التسبيح وردّديه ، وألنا له الحديد : أي جعلناه في يده كالشمع والعجين يصرّفه كما يشاء من غير نار ولا طرق ، وسابغات من السبوغ وهو التمام والكمال : أي دروعا كاملات ، قدّر : أي اقتصد ، والسرد : النسج : أي اجعل النسج على قدر الحاجة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن في خلق السموات والأرض آية لكل من أناب إلى اللّه ورجع إليه - أردف ذلك ذكر بعض من أنابوا إلى ربهم فأنعم عليهم بما آتاهم من الفضل المبين ، ومن جملتهم داود عليه السلام فقد جمع اللّه له النبوة والملك والجنود ذوى العدد والعدد ومنحه الصوت الرخيم ، فكان إذا سبح تسبح معه الجبال الراسيات ، وتقف له الطيور السارحات ، وعلمه سرد الدروع لتكون عدّة للمقاتلين وردءا للمجاهدين.(22/63)
ج 22 ، ص : 64
الإيضاح
(وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) أي ولقد أعطينا داود منا نعما ومننا فقلنا للجبال وللطير رجّعى معه التسبيح وردّ ديه إذا سبّح ، وذلك بأن تحمله عليه إذا تأمل عجائبها فهى له مذكّرات كما يذكّر المسبّح مسبحا آخر (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي وجعلنا الحديد في يده لينا يسهل تصويره وتصريفه كما يشاء ، فيعمل منه الدروع وآلات الحرب على أتم النظم وأحكم الأوضاع ، فيجعل حلقاتها على قدر الحاجة فلا هى بالضيقة فتضعف ولا تؤدى وظيفتها لدى الكر والفر والشد والجذب ، ولا هى بالواسعة التي ربما ينال صاحبها من خلالها الأذى ، وهذا تعليم من اللّه له في إجادة نسج الدروع.
قال قتادة : إن داود أول من عملها حلقا وكانت قبل ذلك صفائح فكانت ثقالا (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي واعمل يا داود أنت وآلك بطاعة اللّه فأجازيكم كفاء ما عملتم.
ثم علل هذا الأمر بقوله :
(إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي إنى مراقب لكم ، بصير بأعمالكم وأقوالكم ، لا يخفى على شىء منها.
وفي هذا ما لا يخفى من التنبيه والإغراء بإصلاح العمل والإخلاص فيه.
[سورة سبإ (34) : الآيات 12 الى 13]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13)(22/64)
ج 22 ، ص : 65
تفسير المفردات
غدوّها شهر : أي جريانها بالغداة مسيرة شهر ، ورواحها شهر : أي وجريانها بالعشي مسيرة شهر ، وأسلنا : أي أذبنا ، والقطر : النحاس المذاب ، ومن يزغ منهم عن أمرنا :
ى ومن يعدل عن طاعة سليمان ، عذاب السعير : أي العذاب الشديد في الدنيا ، والمحاريب واحدها محراب : وهو كل موضع مرتفع قال الشاعر :
وماذا عليه أن ذكرت أو أنسا كغزلان رمل في محاريب أقيال
والتماثيل : الصور ، والجفان واحدها جفنة : وهى القصعة ، والجوابى واحدها جابية وهى الحوض الكبير ، وقدور : واحدها قدر ، وراسيات : أي ثابتات على أثافيها لا تتحرك ولا تنزل عن أماكنها لعظمها ، الشكور : الباذل وسعه في الشكر قد شغل قلبه ولسانه وجوارحه به اعترافا واعتقادا وعملا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما منّ به على داود من النبوة والملك - أردف ذلك ذكر ما تفضل به على ابنه سليمان من تسخير الريح ، فتجرى من الغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر ، ومن منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر ، وإذابة النحاس على نحو ما كان لداود من إلانة الحديد وتسخير الجن عملة بين يديه يعملون له شتى المصنوعات من قصور شامخات وصور من نحاس وجفان كبيرة كالأحواض وقدور لا تتحرك لعظمها.
إذ كل منهما أناب إلى ربه ، وجال بفكره في ملكوت السموات والأرض ، وكان من المؤمنين المخبتين الذين هم على ربهم يتوكلون.(22/65)
ج 22 ، ص : 66
الإيضاح
عدّد سبحانه ما أنعم به على سليمان عليه السلام وهو أمور :
(1) (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أي وسخرنا لسليمان الريح تجرى بالغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر ، وتجرى بالرواح من منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر قال قتادة تفسيرا للآية : كانت الريح تقطع به عليه السلام من الغدو إلى الزوال مسيرة شهر ومن الزوال إلى الغروب مسيرة شهر. وقال الحسن البصري : كان يغدو على بساطه من دمشق فينزل بإصطخر يتغذى بها ، ويذهب رائحا من إصطخر فيبيت بكابل وبين دمشق وإصطخر شهر كامل للمسرع ، وبين إصطخر وكابل شهر كذلك.
(2) (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي وأذبنا له النحاس كما ألنا الحديد لداود ، فكان يعمل منه أعماله وهو بارد دون حاجة إلى نار ، وقد سال من معدنه فنبع نبوع الماء من الينبوع فلذلك سماه عينا.
(3) (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) أي وسخرنا له من الجن من يبنى له الأبنية وغيرها بقدرة ربه وتسخيره ، ومن يخرج منهم عن طاعته يذقه عذابا أليما في الدنيا.
وإنا لنوقن بصدق ما جاء به القرآن من استخدام سليمان للجن ولا نعلم كيف كان يستخدمهم في أعماله ، ولكن نشاهد آثار استخدامه لهم من المبانى الشاهقة ، والقصور العظيمة ، والتماثيل البديعة التي فصلها سبحانه بقوله :
(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) أي يعملون له ما يشاء من القصور الشامخة ، والصور المختلفة ، من النحاس والزجاج والرخام ونحوها ، والجفان الكبيرة التي تكفى لعشرات الناس ، قال الأعشى يمدح آل جفنة من الغساسنة بالشام.(22/66)
ج 22 ، ص : 67
نفى الذمّ عن آل المحلّق جفنة كجابية الشيخ العراقىّ تفهق
والقدور الثوابت في أماكنها التي لا تتحرك ولا تتحول لكبرها وعظمها.
(اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) أي وقلنا لهم : اعملوا يا آل داود بطاعة اللّه شكرا له على نعمه التي أنعمها عليكم في الدين والدنيا
روى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم صعد المنبر فتلا هذه الآية ثم قال « ثلاث من أوتيهن فقد أوتى مثل ما أوتى آل داود ، فقلنا ما هن ؟ فقال العدل في الرضا والغضب ، والقصد في الفقر والغنى ، وخشية اللّه فى السرّ والعلانية » أخرجه الترمذي.
والشكر كما يكون بالفعل يكون بالقول ويكون بالنية كما قال :
أفادتكم النعماء منى ثلاثة يدى ولسانى والضمير المحجبا
ثم ذكر السبب في طلب الشكر منهم فقال :
(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) أي وقليل من عبادى من يطيعنى شكرا لنعمتى ، فيصرف ما أنعمت به عليه فيما يرضينى ، وقد قيل : الشكور من يرى عجزه عن الشكر.
ونحو الآية قوله : « إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ » .
وعن عائشة رضى اللّه عنها « أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تفطّر قدماه ، فقلت له : أتصنع هذا وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال أ فلا أكون عبدا شكورا » أخرجه مسلم في صحيحه.
[سورة سبإ (34) : آية 14]
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)(22/67)
ج 22 ، ص : 68
تفسير المفردات
قضينا عليه : أي حكمنا عليه ، دابة الأرض : هى الأرضة (بفتحات) التي تأكل الخشب ونحوها ، والمنسأة : العصا من نسأت البعير إذا طردته ، قال الشاعر :
ضربنا بمنسأة وجهه فصار بذاك مهينا ذليلا
لأنها يطرد بها ، وخر : سقط ، وما لبثوا : أي ما أقاموا ، فى العذاب المهين : أي الأعمال الشاقة التي كلّفوا بها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه عظمة سليمان وتسخيره الريح والجن - أردف ذلك بيان أنه لم ينج أحد من الموت بل قضى عليه به ، تنبيها للخلق إلى أن الموت لا بد منه ولو نجا منه أحد لكان سليمان أولى بالنجاة.
الإيضاح
المعنى - إنا لما قضينا على سليمان بالموت لم يدل الجن على موته إلا الأرضة التي وقعت في عصاه من داخلها إذ بينما هو متكىء عليها وقد وافاه القضاء المحتوم انكسرت فسقط على الأرض واستبان للجن أنهم لا يعلمون الغيب كما كانوا يزعمون ، ولو علموه ما قاموا في الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها ظانين أنه حى.
والكتاب الكريم لم يحدد المدة التي قضاها سليمان وهو متوكىء على عصاه حتى علم الجن بموته ، وقد روى القصاصون أنها كانت سنة ، ومثل هذا لا ينبغى الركون إليه ، فليس من الجائز أن خدم سليمان لا يتنبهون إلى القيام بواجباته المعيشية من مأكل ومشرب وملبس ونحوها يوما كاملا دون أن يحادثوه في ذلك ويطلبوا إليه القيام بخدمته ، فالمعقول أن الأرضة بدأت العصا وسليمان لم يتنبه لذلك ، وبينما(22/68)
ج 22 ، ص : 69
هو متوكىء عليها حانت منيته ، وكانت الأرضة قد فعلت فعلها في العصا فانكسرت فجرّ على الأرض فعلمت الجن كذبها ، إذ كانت تدعى أنها تعلم الغيب ، إذ لو علمته ما لبثت هق نفسها في شاقّ الأعمال التي كلّفت بها.
[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 17]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17)
تفسير المفردات
سبأ : هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان : والمراد به هنا القبيلة ، والمسكن موضع السكنى وهو مأرب (كمنزل) من بلاد اليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام ، آية : أي علامة دالة على وجود اللّه ووحدانيته وقدرته على إيجاد الغرائب والعجائب ، جنتان : أي بستانان ، فأعرضوا : أي انصرفوا عن شكر هذه النعم ، والعرم : واحدها عرمة وهى الحجارة المركومة كخزان أسوان في وادي النيل لحجز المياه جنوبى النيل ، وكانت له ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض ، والمطر يجتمع أمام ذلك السد ، فيسقون من الباب الأعلى ثم الذي يليه ثم من الأسفل ، والأكل :
الثمر ، والخمط : كل شجرة مرة ذات شوك ، والأثل. الطرفاء ، وهو المعروف في مصر (بالأثل) والسدر : شجر النبق.(22/69)