ج 10 ، ص : 29
تفسير المفردات
حسبك : أي كافيك ما يهمّك ، والتحريض : الحث على الشيء ، لا يفقهون :
أي لا يدركون حكمة الحرب وما يقصد بها من سعادة فى الدنيا والآخرة ، والضعف (بالفتح والضم) يشمل المادي والمعنوي ، وقيل هو بالضم لما يكون فى البدن ، وبالفتح لما يكون فى الرأى والعقل والنفس.
المعنى الجملي
بعد أن أمر اللّه رسوله بالجنوح للسلم إذا جنح لها الأعداء وربما كان جنوحهم لها مظنّة الخداع والمكر ، ووعده أن يكفيه أمرهم إذا أرادوا التوسل بالصلح إلى الحرب وضروب الإيذاء والشر ، وامتن عليه بتأييده له بنصره وبالمؤمنين ، إذ سخرهم له وألف بين قلوبهم باتباعه - قفّى على ذلك بوعده بكفايته له ولهؤلاء المؤمنين الذين ألف قلوبهم فى حالى الحرب والسلم وجعل هذا تقدمة لأمره بتحريضهم على القتال حين الحاجة إليه ، كما إذا بدأ العدو بالحرب أو نقض العهد أو خان فى الصلح.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي إن اللّه تعالى كاف لك كل ما يهمك من أمر الأعداء وغيرهم ، وكاف لمن أيدك من المؤمنين.
ونحو الآية قوله : « الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وقوله : قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ » .
وإذا كان دأب المؤمنين أن يقولوا « حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ » فأجدر بأنبيائه أن يكونوا أكمل توحيدا وتوكلا عليه من غيرهم ولا سيما خاتم أنبيائهم.(10/29)
ج 10 ، ص : 30
والمراد بالمؤمنين جماعتهم من المهاجرين والأنصار ولا سيما من شهد منهم بدرا.
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) أي حرض المؤمنين على القتال ورغّبهم فيه لدفع عدوان الكفار من إعلاء كلمة الحق والعدل وأهلهما على كلمة الباطل والظلم وأنصارهما ، إذ ذاك من ضرورات الاجتماع البشرى وسنة التنازع فى الحياة والسيادة.
والخلاصة - حثّهم على ما يقيهم أن يكونوا حرضا أو يكونوا من الهالكين بعدوان الكافرين عليهم وظلمهم إياهم إذا رأوهم ضعفاء مستسلمين.
(إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي إن يوجد منكم عشرون صابرون يغلبوا بتأثير إيمانهم وصبرهم وفقههم مائتين من الكافرين الذين جرّدوا من هذه الصفات الثلاث ، وهذا عدة منه تعالى وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكافرين بعون اللّه وتأييده.
والخلاصة - ليصبرنّ الواحد لعشرة ، فجماعة المؤمنين الصابرين ترجح جماعة الكافرين بهذه النسبة العشرية ، سواء قلوا أو كثروا ، بحيث يؤمرون بقتالهم وعدم الفرار منهم إذا بدءوهم بالقتال.
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي أنتم تغلبونهم وهم بهذه النسبة بسبب أنهم قوم لا يفقهون ما تفقهون من حكمة الحرب وما يراد بها من مرضاة اللّه عز وجل فى إقامة سننه العادلة وإصلاح حال عباده بالعقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة ومن وجوب مراعاة أحكامه وسننه بإعداد كل ما يستطاع من قوة ، ومن كون غاية القتال عند المؤمنين إحدى الحسنيين النصر والغنيمة الدنيوية ، أو الشهادة والسعادة الأخروية.
وحالهم يخالف حالكم فى كل ما تقدم ، ولا سيما منكرى البعث والجزاء منهم كمشركى العرب فى ذلك العصر ، واليهود الذين أعمتهم المطامع المادية وحب(10/30)
ج 10 ، ص : 31
الشهوات ، فهم أحرص على الحياة منكم لعدم اعتقادهم بسعادة أخروية ، إلى أن أهل الكتاب يظنون أنهم يحصلون عليها بنسبهم وشفاعة أنبيائهم.
وفى الآية إيماء إلى أن من شأن المؤمنين أن يكونوا أعلم من الكافرين بكل ما يتعلق بحياة البشر وارتقاء الأمم ، ومن ثم كانت المائة منهم دون العشرة من المؤمنين الصابرين.
وهكذا كان المسلمون فى العصور الأولى حين كانوا يعملون بهداية دينهم وكانوا بها أرباب ملك واسع وعز وجاه عريض ودانت لهم الشعوب الكثيرة ، حتى إذا ما تركوا هذه الهداية زال مجدهم وسؤددهم وذهب ريحهم ونزع منهم أكثر ذلك الملك.
وبعد أن بين المرتبة العليا التي ينبغى أن تكون للمؤمنين ، قفّى على ذلك ببيان مادونها من مرتبة الضعف فقال :
(الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)
روى البخاري عن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال : لما نزلت « إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين » شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم ألا يفرّ الواحد من عشرة ، فجاء التخفيف فقال : « الآن خفف اللّه عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين » قال : فلما خفف اللّه عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم.
وبهذا الحديث استدل العلماء على وجوب ثبات الواحد المسلم إذا قاوم رجلين من الكفار وتحريم الفرار عليه منهما ، سواء طلباه أو طلبهما ، وسواء وقع ذلك وهو واقف فى الصف مع العسكر أو لم يكن هناك عسكر.
والخلاصة - إن أقلّ حال للمؤمنين مع الكفار فى القتال أن ترجح المائة منهم على المائتين والألف على الألفين ، وإن هذه رخصة خاصة بحال الضعف كما كان الحال فى الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات وهو وقت غزوة بدر حين كان المؤمنون(10/31)
ج 10 ، ص : 32
لا يجدون ما يكفيهم من القوت ولم يكن لديهم إلا فرس واحد ، وأنهم خرجوا بقصد لقاء العير غير مستعدين للحرب ، وكانوا أقل من ثلث المشركين الكاملى الاهبة والعدّة.
ولما كملت للمؤمنين القوة كانوا يقاتلون عشرة أضعافهم أو أكثر وينتصرون عليهم ، وما تم لهم فتح ممالك الفرس والروم وغيرهم إلا بذلك.
وكان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى عهده ومن بعده القدوة فى ذلك فقد كان الجيش الذي أرسل إلى مؤتة من مشارف الشام للقصاص ممن قتلوا رسوله الحارث ابن عمير الأزدى ثلاثة آلاف وكان الجيش الذي قاتلهم من الروم ومتنصرة العرب مائة وخمسين ألفا.
وقوله بإذن اللّه : أي بمعونته وتوفيقه ، وبمعنى الآية قوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ » .
وفى ذلك إيماء إلى أن من سنن اللّه فى الغلب أن يكون للصابرين على غيرهم ، وفى هذا تحذير للمؤمنين أن يغتروا بدينهم ويظنوا أن الإيمان وحده يقتضى النصر والغلب وإن لم يقترن بالصفات اللازمة لكماله ، ومن أهمها وأعظمها الصبر والعلم بحقائق الأمور ومعرفة سنن اللّه فى خلقه.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 69]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)(10/32)
ج 10 ، ص : 33
تفسير المفردات
الأسرى : واحدهم أسير ، وهو من الأسر وهو الشد بالإسار أي القدّ من الجلد ، وكان من يؤخذ من العسكر فى الحرب يشد لئلا يهرب ، ثم صار يطلق على أخيذ الحرب وإن لم يشدّ ، والإتخان فى كل شىء : قوّته وشدته ، يقال قد أثخنه المرض إذا اشتدت قوته عليه ، وكذلك أثخنته الجراح ، والثخانة الغلظ ، فكل شىء غليظ فهو ثخين ، والعرض : ما يعرض ولا يدوم سمى به حطام الدنيا لأنه حدث قليل اللبث ، ومسكم : أي أصابكم ، وفيما أخذتم : أي لأجل ما أخذتم من الفداء.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما ينبغى أن يكون عليه المؤمنون فى حال الغزو والجهاد أمام أعدائهم الكافرين من الصبر والثبات على القتال ، ومن تفضيل السلم إذا جنح العدو إليها - قفى على ذلك بذكر أحكام الأسرى لأن أمورهم يفصل فيها بعد القتال غالبا كما وقع فى وقعة بدر وكما يقع فى كل زمان.
روى ابن أبى شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن ابن مسعود قال : « لما كان يوم بدر جىء بالأسارى ، فقال أبو بكر رضى اللّه عنه يا رسول اللّه قومك وأهلك استبقهم لعل اللّه أن يتوب عليهم ، وقال عمر يا رسول اللّه كذّبوك وأخرجوك وقاتلوك ، قدّمهم فاضرب أعناقهم ، وقال عبد اللّه بن رواحة رضى اللّه عنه أنت فى واد كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا ، فقال العباس رضى اللّه عنه وهو يسمع ما يقول : أقطعت رحمك ؟
فدخل النبي صلى اللّه عليه وسلم ولم يردّ عليهم شيئا ، فقال أناس : يأخذ بقول أبى بكر ، وقال أناس : يأخذ بقول عمر ، وقال أناس : يأخذ بقول عبد اللّه بن رواحة ، فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : إن اللّه ليلين قلوب زجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن اللّه سبحانه ليشدّد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة مثلك(10/33)
ج 10 ، ص : 34
يا أبا بكر مثل إبراهيم قال « فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام قال : « إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » ومثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام إذ قال « رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ » وإن مثلك يا عمر مثل نوح عليه السلام قال : « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً » أنتم عالة فلا يفلتنّ أحد إلا بفداء أو ضرب عنق - فقال عبد اللّه رضى اللّه عنه يا رسول اللّه إلا سهيل بن بيضاء فإنى سمعته يذكر الإسلام ، فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فما رأيتنى فى يوم أخوف من أن تقع علىّ الحجارة منى فى ذلك اليوم ، حتى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا سهيل بن بيضاء فأنزل اللّه تعالى (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ) إلى آخر الآيتين » .
وروى أحمد من حديث ابن عباس قال : « لما أسروا الأسارى (يعنى يوم بدر) قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأبى بكر وعمر : ما ترون فى هؤلاء الأسارى ؟
فقال أبو بكر يا رسول اللّه هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون قوة لنا على الكفار ، وعسى اللّه أن يهديهم للإسلام فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما ترى يا ابن الخطاب ؟ قال لا واللّه لا أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكننى أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فتمكن عليا من عقيل (أخيه) فيضرب عنقه ، وتمكننى من فلان - نسيب لعمر - فأضرب عنقه ، ومكّن فلانا من فلان قرابته ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها ، فهوى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت.
فلما كان من الغد جئت فإذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان ، قلت يا رسول اللّه أخبرنى من أىّ شىء تبكى أنت وصاحبك ؟ فإن وجدت(10/34)
ج 10 ، ص : 35
بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
أبكى للذى عرض علىّ أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة - شجرة قريبة منه - وأنزل اللّه عز وجل (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ).
وفى هذا الحديث تصريح بأن الذين طلبوا منه صلى اللّه عليه وسلم اختيار الفداء كثيرون ، وإنما ذكر فى أكثر الروايات أبو بكر رضى اللّه عنه ، لأنه أول من أشار بذلك ، ولأنه أكبرهم مقاما.
وروى ابن المنذر عن قتادة قال : أراد أصحاب محمد الفداء يوم بدر ففادوهم بأربعة آلاف ، أربعة آلاف.
الإيضاح
(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أي ما كان من شأن نبى من الأنبياء ولا من سنته فى الحرب أن يكون له أسرى يتردد أمره فيهم بين المنّ والفداء إلا بعد أن يثخن فى الأرض أي إلا بعد أن يعظم شأنه فيها ويتم له الغلب والقوة بقتل أعدائه ، لأن الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتال والقتل كما قال :
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
إلى أن كثرة القتل توجد الرعب وشدة المهابة ، وذلك يمنع من الجرأة والإقدام على ما لا ينبغى ، ومن ثم أمر اللّه به.
وخلاصة ذلك - أن اتخاذ الأسرى إنما يكون خيرا ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحق والعدل - ففى المعركة الواحدة يإثخانهم لأعدائهم من المشركين والمعتدين ، وفى الحالة العامة التي تعم كل معركة وكل قتال فبإثخانهم فى الأرض بالقوة العامة والسلطان الذي يرهب الأعداء.(10/35)
ج 10 ، ص : 36
(تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي تريدون عرض الدنيا الفاني الزائل وهو المال الذي تأخذونه من الأسرى فداء لهم ، واللّه يريد لكم ثواب الآخرة الباقي بما يشرعه لكم من الأحكام الموصلة إليه ما دمتم تعملون بها ، ويدخل فى ذلك الاستعداد للقتال بقدر الاستطاعة إرادة الإثخان فى الأرض والسيادة فيها لإعلاء كلمة الحق وإقامة العدل.
وفى ذلك إنكار لعمل وقع من جمهور المؤمنين على خلاف تلك القاعدة التي تقتضيها الحكمة والرحمة ، وما كان للنبى صلى اللّه عليه وسلم إقرار مثل هذا العمل ، ومن ثم عاتبهم اللّه على ما فعلوا بعد بيان سنة النبيين ، كما عاتب رسوله أيضا.
(وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ومن ثم يجعل أولياءه يغلبون أعداءه ويتمكنون منهم قتلا وأسرا ، ويطلق لهم أخذ الفداء ، ولكنه يؤخر ذلك إلى أن يكثروا ويعزّوا ، ونحو الآية قوله : « وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ » .
ولا تتم لهم العزة إلا بتقديم الإثخان فى الأرض والسيادة فيها على المنافع العرضية بمثل فداء الأسرى من المشركين وهم فى عنفوان قوتهم وكثرتهم.
وعلى هذه القاعدة جرت الدول العسكرية فى العصر الحديث ، فإذا رأت من البلاد التي تحتلها أدنى بادرة من المقاومة بالقوة نكلت بأهلها أشد التنكيل ، فتخرّب البلاد وتقتل الأبرياء مع المشاغبين ، بل لا تتعفف من قتل النساء والأطفال بنيران المدافع وقذائف الطائرات والدبابات.
ولكن الإسلام - وهو دين الرحمة والعدل - لا يبيح شيئا من ذلك.
(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولو لا كتاب من اللّه سبق فى علمه الأزلى ألا يعذبكم والرسول فيكم وأنتم تستغفرونه من ذنوبكم - لمسكم بسبب ما أخذتم من الفداء عذاب عظيم.
أخرج ابن المنذر عن نافع عن ابن عمر قال : « اختلف الناس فى أسارى بدر ، فاستشار النبي صلى اللّه عليه وسلم أبا بكر وعمر ، فقال أبو بكر فادهم ، وقال عمر(10/36)
ج 10 ، ص : 37
اقتلهم ، فقال قائل : أرادوا قتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهدم الإسلام ويأمره أبو بكر بالفداء ، وقال قائل : لو كان فيهم أبو عمر أو أخوه ما أمر بقتلهم.
فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقول أبى بكر ففاداهم فنزل (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) فقال رسول اللّه : إن كاد ليمسّنا فى خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم ، ولو نزل العذاب ما أفلت إلا عمر » .
وبعد أن عاتبهم على أخذ الفداء أباح لهم أكل ما أخذوه ، وعدّه من جملة الغنائم التي أباحها لهم فى أول السورة فقال :
(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً) أي فكلوا مما غنمتم من الفدية حال كونه حلالا بإحلاله لكم ، طيبا فى نفسه لا خبث فيه مما حرم لذاته كالدم ولحم الخنزير.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ) فى أن تعودوا إلى أكل شىء من أموال الناس كفارا كانوا أو مؤمنين من قبل أن يحلّه لكم ربكم.
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه غفور لذنبكم بأخذ الفداء وإيثار جمهوركم لعرض الدنيا على ما يقتضيه إيثار الآخرة من طلب الإثخان أولا لإعزاز الحق وأهله بإذلال الشرك وكبت حزبه ، رحيم بكم إذ أباح لكم ما أخذتم ، وأباح لكم الانتفاع به.
وخلاصة ما تقدم - إنه ليس من سنة الأنبياء ، ولا مما ينبغى لأحد منهم أن يكون له أسرى يفاديهم أو يمنّ عليهم إلا بعد أن يكون له الغلب والسلطان على أعدائه وأعداء اللّه الكافرين ، لئلا يفضى أخذه فداء الأسرى إلى ضعف المؤمنين وقوة أعدائهم وجرأتهم عليهم ، وما فعله المؤمون من مفاداة أسرى بدر بالمال كان ذنبا سببه إرادة جمهورهم عرض الحياة الدنيا قبل الإثخان الذي تقتضيه الحكمة بإعلاء كلمة اللّه تعالى ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، ولو لا كتاب من اللّه سبق من عدم عقابهم على ذنب أخذ الفداء قبل إذنه تعالى وعلى خلاف سنته - لمسهم عذاب عظيم فى أخذهم ذلك ، وإنه أحل لهم ما أخذوا وغفر لهم ذنبهم بأخذه قبل إحلاله لهم ، اللّه غفور رحيم.(10/37)
ج 10 ، ص : 38
[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 71]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
المعنى الجملي
لما أخذ الرسول صلى اللّه عليه وسلم الفداء من الأسرى شق عليهم أخذ أموالهم ، فأنزل اللّه هذه الآية استمالة لهم وترغيبا فى الإسلام ببيان ما فيه من خيرى الدنيا والآخرة ، وتهديدا وإنذارا لهم ببقائهم على الكفر وخيانته صلى اللّه عليه وسلم وبشارة للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، بحسن العاقبة والظفر له ولمن تبعه من المؤمنين.
روى أن الآية نزلت فى العباس وعقيل بن أبى طالب ونوفل بن الحارث ، وكان العباس أسيرا يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس ، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر ، فلم تبلغه النوبة حتى أسر ، فقال العباس :
كنت مسلما إلا أنهم أكرهونى ، فقال عليه الصلاة والسلام : إن يكن ما تذكره حقا فاللّه يجزيك ، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا ، قال العباس فكلمت رسول اللّه أن يرد ذلك الذهب علىّ فقال : أمّا شىء خرجت لتستعين به علينا فلا ، قال : وكلفنى الرسول فداء ابن أخى عقيل بن أبى طالب عشرين أوقية ، وفداء نوفل بن الحارث ، فقال العباس :
تركتنى يا محمد أتكفف قريشا ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : لا أدرى ما يصيبنى ؟
فإن حدث بي حادث فهو لك ولعبد اللّه وعبيد اللّه والفضل ، فقال العباس :
وما يدريك ؟ قال أخبرنى ربى ، قال فأنا أشهد أنك صادق ، وأن لا إله إلا اللّه وأنك(10/38)
ج 10 ، ص : 39
عبده ورسوله ، واللّه لم يطلع عليه أحد إلا اللّه ، ولقد دفعته إليها فى سواد الليل ، ولقد كنت مرتابا فى أمرك ، فأما إذ أخبرتنى بذلك فلا ريب.
قال العباس : فأبدلنى اللّه خيرا من ذلك ، لى الآن عشرون عبدا ، وإنّ أدناهم ليضرب فى عشرين ألفا ، وأعطانى زمزم وما أحب أن لى بها جميع أموال مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربى.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ، إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) أي قل للذين فى أيديكم من الأسرى الذين أخذتم منهم الفداء :
إن كان اللّه تعالى يعلم أن فى قلوبكم الآن إيمانا أو سيظهر فى حينه - كما يدّعى بعضكم - يعطكم إذ تسلمون ما هو خير لكم مما أخذه المؤمنون منكم من الفداء بما تشاركونهم فى المغانم وغيرها من النعم التي وعد المؤمنون بها.
روى أبو الشيخ عن ابن عباس : أن العباس وأصحابه قالوا للنبى صلى اللّه عليه وسلم :
آمنا بما جئت به ونشهد أنك رسول اللّه فنزل (إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) الآية.
(وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ويغفر لكم ما كان من الشرك وما استتبعه من السيئات والأوزار ، واللّه غفور لمن تاب من كفره وذنوبه ، رحيم بالمؤمنين فيشملهم بعنايته وتوفيقه ويعدّهم للسعادة فى الدنيا والآخرة.
وفى ذلك من الحضّ على الإسلام والدعوة إليه ما لا يخفى.
(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ) أي وإن يريدوا خيانتك بإظهار الميل إلى الإسلام والرغبة عن قتال المسلمين ، فلا تخف مما عسى أن يكون من خيانتهم وعودتهم إلى القتال ، فإنهم قد خانوا اللّه من قبل ، فنقضوا الميثاق الذي أخذه على البشر بما أقامه على وحدانيته من الدلائل العقلية والكونية ، وبما آتاهم من العقل الذي يتدبرون به سنن اللّه فى خلقه.(10/39)
ج 10 ، ص : 40
(فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) يقال مكنه من الشيء وأمكنه منه. أي فمكنك أنت وصحبك منهم بنصرك عليهم ببدر مع التفاوت العظيم بين قوتك وقوتهم وعددك وعددهم ، وهكذا سيمكنك ممن يخونونك من بعد.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فهو يعلم ما ينتوونه وما يستحقونه من عقاب ، حكيم يفعل ما يفعل بحسب ما تقتضيه حكمته البالغة ، فينصر المؤمنين ويظهرهم على الكافرين.
وفى الآية من العبر :
(1) إنه يجب على المؤمنين ترغيب الأسرى فى الإيمان ، وإنذارهم عاقبة الخيانة إذا ثبتوا على الكفر وعادوا إلى البغي والعدوان.
(2) إن فيها بشارة للمؤمنين باستمرار النصر وحسن العاقبة فى كل قتال يقع بينهم وبين المشركين ما داموا محافظين على أسباب النصر المادية والمعنوية التي علمت مما تقدم.
روى البخاري عن أنس « أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى ترك فداء عمه العباس رضى اللّه عنه وكان فى أسرى المشركين يوم بدر فقالوا : ائذن لنا فنترك لابن أختنا العباس فداءه (كانت جدته أنصارية) فقال صلى اللّه عليه وسلم : واللّه لا تذرون منه درهما » .
وقد كان فداء الأسير أربعين أوقية ذهبا ، فجعل على العباس مائة أوقية وعلى عقيل ثمانين ، فقال له العباس : أ للقرابة صنعت هذا ؟ قال : فأنزل اللّه تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ، إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) الآية فقال العباس (بعد إسلامه) وددت لو كان أخذ منى أضعافها لقوله تعالى (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) اه.
وبعد أن ذكر تلك القواعد الخاصة بالحرب والسلم وما يجب أن يعمل مع الأسرى ختم السورة بولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة وما يلزم ذلك ،(10/40)
ج 10 ، ص : 41
وولاية الكافرين بعضهم لبعض ، ثم أمر بالمحافظة على العهود والمواثيق مع الكفار ما دام العهد محفوظا غير منبوذ ولا منكوث فقال :
[سورة الأنفال (8) : الآيات 72 الى 75]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
المعنى الجملي
قسم اللّه المؤمنين اربعة أقسام ، وبين حكم كل منها ومنزلته من بينها :
(1) المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر - إلى صلح الحديبية.
(2) الأنصار الذين كانوا بالمدينة وآووا النبي صلى اللّه عليه وسلم والمهاجرين عند هجرتهم إليهم.
(3) المؤمنون الذين لم يهاجروا.
(4) المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.(10/41)
ج 10 ، ص : 42
الإيضاح
(1) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي هؤلاء الكلمة هم المؤمنون الذين هجروا أوطانهم فرارا بدينهم من فتنة المشركين إرضاء لربهم ونصرا لرسوله صلى اللّه عليه وسلم ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل اللّه :
أي بذلوا الجهد بقدر الوسع ، واقتحموا المشاق.
أما ما كان من بذل الأموال فهو قسمان :
(ا) ما ينفق فى التعاون والهجرة والدفاع عن دين اللّه ونصر دينه وحماية رسوله.
(ب) ما يكون بسخاء الأنفس بترك ما تركوه فى أوطانهم عند خروجهم منها.
وما كان من بذل الأنفس فهو أيضا ضربان :
(ا) قتال الأعداء وعدم المبالاة بكثرة عددهم وعددهم.
(ب) ما يكون قبل القتال من احتمال المشاق ومغالبة الشدائد والصبر على الاضطهاد والهجرة من البلاد ، وما يصحب ذلك من سغب وتعب ونحو ذلك.
(2) (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) أي والذين آووا الرسول ومن هاجر من أصحابه ونصروهم وأمنوهم من المخاوف ، فقد كانت يثرب ملجأ المهاجرين ، شاركهم أهلها فى أموالهم وآثروهم على أنفسهم وقاتلوا من قاتلهم وعادوا من عاداهم ، ومن جراء هذا جعل اللّه حكمهم حكم المهاجرين فى قوله :
(أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي يتولى بعضهم من أمر الآخرين ما يتولونه من أمر أنفسهم حين الحاجة إلى التعاون والتناصر فى القتال وما يتعلق به من الغنائم لأن حقوقهم ومرافقهم مشتركة ، ويجب عليهم كفاية المحتاج ، وإغاثة المضطر منهم.
(3) (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) الولاية بفتح الواو وكسرها ، وقيل هى بالفتح خاصة بالنصرة والمعونة والنسب والدين ، وبالكسر فى الإمارة وتولى الأمور العامة ، لأنها من قبيل الصناعات والحرف ،(10/42)
ج 10 ، ص : 43
أي إن المؤمنين المقيمين فى أرض المشركين وتحت سلطانهم وحكمهم ، ودارهم دار حرب وشرك لا يثبت لهم شىء من ولاية المؤمنين الذين فى دار الإسلام ، إذ لا سبيل إلى نصر أولئك لهم.
أما من أسره الكفار من دار الإسلام فله حكم أهل هذه الدار ، ويجب على المسلمين السعى فى فكاكهم بقدر ما يستطيعون من الحول والقوة ، بل يجب بذل هذه الحماية لأهل الذمة أيضا.
(وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي إنه لا ولاية لكم عليهم إلا إذا قاتلهم الكفار أو اضطهدوهم لأجل دينهم وطلبوا نصركم عليهم ، فعليكم أن تساعدوهم بشرط أن يكون الكفار حربيين لا عهد بينكم وبينهم ، أما إن كانوا معاهدين فيجب الوفاء بعهدهم ولا تباح خيانتهم وغدرهم بنقض العهود والمواثيق.
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فعليكم أن تقفوا عند حدوده ، وأن تراقبوه وتتذكرو اطلاعه على أعمالكم ، وتتوخّوا فيها الحق والعدل وتتقوا الهوى الذي يصد عن ذلك.
وبهذه المحافظة على العهود والمواثيق سرا وجهرا امتازت الشريعة الإسلامية على الشرائع الوضعية ، فشعار أهلها الوفاء بالعهود والبعد عن الخيانة والغدر.
وإن أعظم دول المدنية فى العصر الحاضر تنقض عهودها جهرة متى وجدت الفرصة سانحة ، ولا سيما عهودها للضعفاء ، وتتخذها خداعا مع الأقوياء ، وما أكثر ما تنقضها بالتأويل والتحايل فى التفسير إذا رأت فى ذلك مصلحتها ، حتى قال رئيس الدولة الألمانية :
ما المعاهدات إلا قصاصات ورق ، وقال بسمارك أكبر ساسة هذه الدولة : المعاهدات حجة القوى على الضعيف ، وأبرع الساسة فى التفصّى منها بالتأويل هم الإنكليز.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي فى النصرة والتعاون على قتال المشركين ،(10/43)
ج 10 ، ص : 44
فهمفى جملتهم فريق واحد تجاه المسلمين. وإن كانوا شيعا يعادى بعضهم بعضا ، ولم يكن فى الحجاز حين نزلت هذه السورة إلا المشركون واليهود ، وكان اليهود يتولون المشركين وينصرونهم على النبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين ، ونقضوا العهود التي كانت بينه وبينهم فقاتلهم حتى أجلاهم من خيبر.
(إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) أي إن لم تفعلوا ما شرع لكم من ولاية بعضكم لبعض ، ومن تناصركم وتعاونكم تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض عليكم ، ومن الوفاء بالعهود والمواثيق مع الكفار إلى أن ينقضى عهدهم وينبذوه على سواء - يقع من الفتنة والفساد فى الأرض ما فيه أعظم الضرر عليكم بتخاذلكم الذي يفضى إلى فشلكم وظفر الأعداء بكم واضطهادكم فى دينكم بصدكم عنه كما وقع ذلك بضعفائكم بمكة قبل الهجرة.
ثم فضل اللّه المهاجرين والأنصار على غيرهم فقال :
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي هؤلاء المهاجرون والأنصار هم المؤمنون حق الإيمان وأكمله دون من لم يهاجر وأقام بدار الشرك ولم يغز مع المسلمين عدوهم.
ثم وعدهم بحسن العاقبة فقال :
(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي لهم مغفرة تامة من ربهم تمحو ما فرط منهم من السيئات ، ورزق كريم فى دار الجزاء ، لأنهم قد تركوا الأهل والوطن وبذلوا النفس والمال وأعرضوا عن سائر اللذات الجسمانية ، وعملوا ما يقربهم من ربهم فى دار النعيم.
(4) (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) أي والذين تأخر إيمانهم وهجرتهم عن الهجرة الأولى وهاجروا وجاهدوا معكم أعداءكم - فأولئك منكم أي فيلتحقون بالمهاجرين الأولين والأنصار وبما تقدم من الولاية والجزاء.
وفى جعلهم منهم دليل على فضل السابقين على اللاحقين يرشد إلى ذلك قوله(10/44)
ج 10 ، ص : 45
تعالى « لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى » وقوله : « وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » .
ولا يخفى ما فى الآية من ترغيب فى الإيمان والهجرة.
(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ) أولو الأرحام : هم أصحاب القرابات ، والأرحام واحدها رحم (بزنة قفل وكتف) وأصله رحم المرأة وهو موضع تكوين الولد ، سمى به الأقارب لأنهم من رحم واحد ، أي وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض وأحق من المهاجرين والأنصار الأجانب بالتعاون والتناصر ، وبالتوارث فى دار الهجرة فى ذلك العهد وفى كل عهد ، وقوله : فى كتاب اللّه ، أي فى حكمه الذي كتبه على عباده المؤمنين ، وأوجب به عليهم صلة الأرحام والوصية بالوالدين وذى القربى.
والخلاصة - إن القريب ذا الرحم أولى من غيره من المؤمنين بولاء قريبه وبره ومقدم عليه فى جميع الولايات المتعلقة به كولاية النكاح وصلاة الجنازة وغيرها ، وإذا وجد قريب وبعيد يستحقان البر والصلة فالقريب أولى كما قال تعالى : « وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ »
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « ابدأ بنفسك فتصدّق عليها ، فإن فضل شىء فلأهلك ، فإن فضل شىء عن أهلك فلذى قرابتك ، فإن فضل عن ذى قرابتك شىء فهكذا وهكذا » ،
أي فللمستحق من الأجانب.
(إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي فهو سبحانه إنما شرع لكم هذه الأحكام فى الولاية العامة والخاصة والعهود والمواثيق وصلة الأرحام وأحكام القتال والغنائم وسنن التشريع(10/45)
ج 10 ، ص : 46
والأحكام - عن علم واسع محيط بكل شىء من مصالحكم الدينية والدنيوية ، ونحو الآية قوله : « وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ » .
زادنا اللّه علما بفقه كتابه ، ووفقنا للعمل بأحكامه وآدابه ، وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، إنه هو السميع المجيب.
موضوعات السور المكية والمدنية
تقدم أن قلنا فى آخر سورة البقرة : إن أمهات المسائل التي ذكرت فى السور المكية هى :
أصول الإيمان من الاعتقاد بوحدانية اللّه والتصديق بالوحى والرسالة والبعث والجزاء ، وقصص الرسل مع أقوامهم ، ثم أصول التشريع العامة والآداب والفضائل الثابتة ، وجاء فى أثناء ذلك محاجة المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بتلك الأصول ودحض شبهاتهم وإبطال ضلالاتهم والنعي على خرافاتهم.
وأمهات ما جاء فى السور المدنية - قواعد التشريع التفصيلية ، ومحاجّة أهل الكتاب ببيان ما ضلوا فيه من هداية كتبهم ورسلهم ، فكثر فى سورة البقرة محاجة اليهود ، وكثر فى سورة آل عمران محاجة النصارى ، وكثر فى سورة المائدة محاجة الفريقين ، وكثر فى سورة النساء الأحكام المتعلقة بالمنافقين ، وكثر فى سورة التوبة فضائح المنافقين.
أهم ما تشتمل عليه سورة الأنفال من الأحكام
(1) تعليل أفعاله وأحكامه بمصالح الخلق كقوله : « وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ » وقوله : « وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ » .(10/46)
ج 10 ، ص : 47
(2) كفاية. اللّه تعالى رسوله مكر مشركى قريش فى مكة حين ائتمارهم على حبسه طيلة حياته أو نفيه من بلده أو قتله كما قال سبحانه : « وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ » (3) امتناع تعذيب المشركين ما دام الرسول فيهم كما قال : « وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ » .
(4) استغاثة الرسول ربه وإمداده بالملائكة كما قال : « إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ » (5) كراهة مجادلة الرسول فيما يأمر به ويرغّب فيه من أمور الدين ومصالح المسلمين بعد أن تبين لهم أنه الحق كما قال « يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ » .
أما المجادلة والمراجعة فى المصالح الحربية والسياسية قبل أن يتبين الحق فيها فمحمودة ، إذ بها تتم المشاورة التي عمل بها النبي صلى اللّه عليه وسلم فى مواطن كثيرة.
(6) إن من شأن صادق الإيمان أن يتوكل على اللّه ، أي يكل إليه أموره وحده ، فلا يتكل على مخلوق مربوب لخالق مثله ، فكل المخلوقات سواء فى الخضوع لسننه ، ومن شأن المؤمن المتوكل أن يطلب كل شىء من سببه خضوعا لسننه فى نظام خلقه ، فإذا جهل الأسباب أو عجز عنها وكل أمره فيها إلى ربه داعيا أن يعلمه ما جهل منها ، وأن يسخر له ما عجز عنه من جماد وحيوان أو إنسان كما قال : « وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » وبين فائدة ذلك بقوله : « وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » .
(7) إن الظلم فى الأمم يقتضى عقابها فى الدنيا بالضعف والانحلال الذي قد يفضى إلى الزوال أو فقد الاستقلال ، وإن هذا العقاب يقع على الأمة بأسرها لا على مقترفى الظلم وحدهم كما قال : « وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً » .(10/47)
ج 10 ، ص : 48
(8) إن الافتتان بالأموال والأولاد مدعاة لضروب من الفساد ، فإن حب المال والولد من الغرائز التي يعرض للناس فيها الإسراف إذا لم تهذب بهدى الدين وحسن التربية والتعليم كما قال : « وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ »
.
(9) إن تقوى اللّه فى الأعمال العامة والخاصة تكسب صاحبها ملكة يفرق بها بين الحق والباطل والخير والشر كما قال : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً » .
(10) إن تغير أحوال الأمم وتنقلها فى الأطوار من نعم إلى نقم أو بالعكس أثر طبيعى لتغييرها ما بأنفسها من العقائد والأخلاق والآداب « ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ » .
(11) وجوب إعداد الأمة بكل ما تستطيع من قوة لقتال أعدائها ، وذلك يشمل السلاح ، وهو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة ، وقد كثرت أنواعه من برى وبحرى وهوائى ، ومرابطة الفرسان فى ثغور البلاد لإرهاب الأعداء وإخافتهم من عاقبة التعدي على الأمة ومصالحها أو على أفرادها « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ » .
(12) تفضيل السلم على الحرب إذا جنح لها العدو لأن الحرب ضرورة من ضرورات الاجتماع تقدر بقدرها « وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ » .
(13) المحافظة على الوفاء بالعهد والميثاق فى الحرب والسلم ، وتحريم الخيانة سرا وجهرا : « وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ » .
(14) وجوب معاملة ناقضى العهد بالشدة التي يكونون بها عبرة ونكالا لغيرهم(10/48)
ج 10 ، ص : 49
تمنعهم من الجرأة والإقدام على العودة لمثل ذلك « فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ » .
(15) جعل الغاية من القتال الديني حرية الدين ومنع الفتنة فيه حتى لا يرجع المشركون أحدا عن دينه « وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » .
(16) اتقاء التنازع والتفرق حال القتال لأنه سبب الفشل وذهاب القوة ، « وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ » وقد جرت على ذلك الدول فى العصر الحديث ، فإنها تبطل تنازع الأحزاب زمن الحرب وتكتفى بالشورى العسكرية التي شرعها الإسلام وعمل بها النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فى غزوة بدر ، وفرضت عليه فى غزوة أحد « وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ » .
(17) منع اتخاذ الأسرى ومفاداتهم بالمال فى حال الضعف ، وجواز ذلك حين الإثخان فى الأرض بالقوة والعزة والسيادة ، مع ترغيب الأسرى فى الإيمان وإنذارهم أن يخونوا المسلمين بعد إطلاقهم بمن أو فداء.(10/49)
ج 10 ، ص : 50
سورة التوبة - سورة براءة
عدد آيها ثلاثون ومائة ، وهى مدنية ، ولها أسماء كثيرة : منها الفاضحة لما تضمنته من ذكر أسرار المنافقين وأنبائهم بما فى قلوبهم من الكفر وسوء النيات ، والمدمدمة والمخزية.
وقد نزل معظمها بعد غزوة تبوك ، وهى آخر غزواته صلى اللّه عليه وسلم ، وقد كان الاستعداد لها وقت القيظ زمن العسرة ، وفى أثنائها ظهر من علامات نفاق المنافقين ما كان خفيّا من قبل.
وأولها نزل سنة تسع بعد فتح مكة ، فأرسل النبي صلى اللّه عليه وسلم عليا ليقرأها على المشركين فى الموسم.
روى البخاري عن البراء بن عازب قال : آخر آية نزلت « يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ » وآخر سورة نزلت براءة.
ووجه المناسبة بينها وبين ما قبلها - أنها كالمتممة لها فى معظم ما فى أصول الدين وفروعه ، وفى التشريع الذي جلّه فى أحكام القتال والاستعداد له ، وأسباب النصر فيه ، وأحكام المعاهدات والمواثيق من حفظها ونبذها عند وجود المقتضى لذلك ، وأحكام الولاية فى الحرب وغيرها بين المؤمنين بعضهم مع بعض ، والكافرين بعضهم مع بعض ، وأحوال المؤمنين الصادقين والكفار والمذبذبين من المنافقين ومرضى القلوب ، فما بدىء به فى الأولى أتم فى الثانية - وهاك أمثله على ذلك :
(1) تفصيل الكلام فى قتال المشركين وأهل الكتاب.
(2) ذكر فى الأولى صدّ المشركين عن المسجد الحرام ، وأنهم ليسوا بأوليائه ، وجاء فى الثانية « ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ » إلى آخر الآيات (3) ذكرت العهود فى سورة الأنفال ، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها.(10/50)
ج 10 ، ص : 51
(4) ذكر فى سورة الأنفال الترغيب فى إنفاق المال فى سبيل اللّه ، وجاء ذلك بأبلغ وجه فى براءة.
(5) جاء فى الأولى ذكر المنافقين والذين فى قلوبهم مرض - وفصل ذلك فى الثانية أتمّ تفصيل.
[تنبيه ] لم يكتب الصحابة ولا من بعدهم البسملة فى أولها ، لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من السور ، وقيل رعاية لمن كان يقول إنها مع الأنفال سورة واحدة.
وقيل لأنها جاءت لرفع الأمان والابتداء بالبسملة مذكورا فيها اسم اللّه موصوفا بالرحمة يوجبه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 4]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
تفسير المفردات
البراءة : من برىء من الدّين إذا أسقط عنه ، ومن الذنب ونحوه : إذا تركه وتباعد عنه ، والمعاهدة : عقد العهد بين فريقين على شروط يلتزمونها ، وكان كل فريق يضع يمينه فى يمين الآخر ويوثقونها بالأيمان ، ومن جراء ذلك سميت أيمانا فى قوله تعالى :(10/51)
ج 10 ، ص : 52
(إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي لا عهود لهم ، والسياحة فى الأرض : الانتقال والتجوال فيها ، ويراد بها هنا حرية الانتقال مع الأمان مدة أربعة أشهر لا يعرض المسلمون لهم فيها بقتال ، وقوله : غير معجزى اللّه ، أي لا تفوتونه بالهرب والتحصن والخزي : الذل والفضيحة بما فيه عار ، والأذان : الإعلام بما ينبغى أن يعلم ، ويوم الحج الأكبر : هو يوم النحر الذي تنتهى فيه فرائض الحج ويجتمع فيه الحاج لإتمام مناسكهم ، ثم لم ينقصوكم شيئا ، أي من شروط الميثاق فلم يقتلوا أحدا منكم ولم يضروكم ، ولم يظاهروا : أي لم يعاونوا.
المعنى الجملي
بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم خاتم النبيين بالإسلام وأقام بناء دعوته على أساس البراهين المقنعة ، ومنع الإكراه على الدخول فيه والحمل على قبوله بالقوة فقاومه المشركون وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه ، ولم يكن أحد يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب إلا بتأمين حليف أو قريب ، فهاجر منهم عدد كثير إلى بلاد الحبشة وإلى جهات كثيرة مرة بعد أخرى ، ثم اشتد إيذاؤهم للرسول حتى ائتمروا فى دار الندوة علنا على حبسه أو نفيه أو قتله ، ورجحوا آخر الأمر قتله ، فأمره اللّه بالهجرة إلى المدينة وصار يتبعه من قدر عليها ، وقد وجدوا بها أنصارا يحبون اللّه ورسوله ، ويحبون من هاجر إليهم ويؤثرونهم على أنفسهم ، وكانت الحال بينهم وبين المشركين حال حرب بطبيعة الحال ومقتضى المألوف فى ذلك العصر ، وعاهد النبي صلى اللّه عليه وسلم أهل الكتاب من اليهود والنصارى على السّلم والتعاون بينهم ، فخانوا ونقضوا العهد وظاهروا المشركين عليه وعاهد المشركين فى الحديبية على السّلم والأمان عشر سنين بشروط كانت منتهى السخاء عن قوة وعزة ، لاعن ضعف وقله ، حبّا للسلم ونشر الدعوة بالإقناع والحجة فدخلت خزاعة فى عهده صلى اللّه عليه وسلم كما دخلت بكر فى عهد قريش ، ثم عدت الثانية على الأولى وأعانتها قريش بالسلاح(10/52)
ج 10 ، ص : 53
ناقضين العهد ، فكان ذلك سبب عودة الحرب بينه وبينهم إلى أن كان فتح مكة ، وبه خضدت شوكة الشرك وذل أهله ، ولكنهم مازالوا يحاربون حيث قدروا ، ودلت التجارب أنه لا عهود لهم ولا يؤمن غدرهم فى حالى القوة والضعف ، ولا يستطيع المسلمون أن يعيشوا معهم بحكم المعاهدات ويأمن كل شر الآخر ما داموا على شركهم ولا سيما وقد سبقهم إلى نقض العهد من كانوا أجدر منهم بالوفاء وهم أهل الكتاب.
من جرّاء هذا جاءت هذه السورة بنبذ عهودهم المطلقة وإتمام عهودهم المؤقتة لمن استقام عليها ، فحاربهم النبي صلى اللّه عليه وسلم وتم له الغلب عليهم ومحا الشرك من جزيرة العرب ودانت كلها للإسلام : « إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ » .
الإيضاح
(بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي هذه براءة آتية من اللّه ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ، كما يقال : هذا كتاب من فلان إلى فلان. نسبه إلى اللّه ورسوله من قبل أنه تشريع جديد شرعه اللّه وأمر رسوله يتنفيذه ونسب معاهدة المشركين إلى جماعة المؤمنين وإن كان الرسول هو الذي عقد العهد لأنه عقده بوصف كونه الإمام والقائد لهم ، وهو عقد ينفذ بمراعاتهم له وعملهم بموجبه ، فجمهور المؤمنين هم الذين ينفذون أحكام المعاهدات ، وللقوّاد من أهل الحل والعقد الاجتهاد فيما لا نص فيه منها ومن أحكام الحرب والصلح ونحوها.
قال البغوي : لما خرج النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف ، وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأمره اللّه بنقض عهودهم ، وذلك قوله عز وجل « وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ » اه. قال الحافظ ابن كثير : اختلف المفسرون فى هذه الآية اختلافا كثيرا ، فقال قائلون : هذه الآية لذوى العهود المطلقة غير المؤقتة ، ومن(10/53)
ج 10 ، ص : 54
له عهد دون أربعة أشهر ، فيكمل له أربعة أشهر ، فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كانت ، لقوله تعالى : « فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ » ولما سيأتى
فى الحديث : « ومن كان بينه وبين رسول اللّه عهد فعهده إلى مدته »
وهذا أحسن الأقوال وأقواها واختاره ابن جرير رحمه اللّه اه.
(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) هذا خطاب من اللّه للمؤمنين مبيّن لما يجب أن يقولوه للمشركين الذين برىء اللّه ورسوله من عهودهم ، أي قولوا لهم : سيروا فى الأرض وأنتم آمنون لا يتعرض لكم أحد من المسلمين بقتال مدة أربعة أشهر تبتدئ من عاشر ذى الحجة من سنة تسع للهجرة وهو يوم النحر الذي بلّغوا فيه هذه الدعوة ، وتنتهى فى عاشر شهر ربيع الآخر من سنة عشر.
والحكمة فى تحديد هذه المدة أن يكون لديهم فسحة من الوقت للنظر والتفكر فى عاقبة أمرهم ، والتخير بين الإسلام والاستعداد للقتال ، إذا هم أصروا على شركهم وعدوانهم ، وهذا منتهى ما يكون من السجاحة والرحمة والإعذار إلى أعدى أعدائه المحاربين ، حتى لا يقال إنه أخذهم على غرة.
(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) أي واعلموا أنكم لن تعجزوا اللّه ولن تفوتوه فتجدوا مهربا منه إذا أنتم أصررتم على شرككم وعدوانكم للّه ورسوله ، بل سيسلط المؤمنين عليكم ويؤيدهم بنصره الذي وعدهم به ، والعاقبة للمتقين فقد جرت سنة اللّه بخزي الكافرين منكم ومن غيركم فى معاداتهم وقتالهم لرسله فى الدنيا والآخرة كما جاء فى مشركى مكة ومن نحا نحوهم : « كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ، فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ » .
(وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) أي هذا إعلام من اللّه ورسوله بالبراءة من عهود المشركين وسائر خرافات(10/54)
ج 10 ، ص : 55
شركهم وضلالهم فى وقت يسهل فيه ذلك التبليغ والإعلام ، وهو يوم الحج الأكبر يوم النحر الذي فيه تنتهى فرائض الحج ، ويجتمع الحجاج لإتمام مناسكهم وسننهم فى منى.
ثم أكد ما يجب أن يبلّغوه بلا تأخير بقوله :
(فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي قولوا لهم : فإن تبتم ورجعتم عن شرككم وعن خيانتكم وغدركم بنقض العهد وقبلتم هدى الإسلام ، فذلك خير لكم فى الدنيا والآخرة ، لأن فى هدايته سعادتكم فيهما.
(وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ) أي وإن أعرضتم عن إجابة الدعوة إلى التوبة فاعلموا أنكم غير سابقيه سبحانه ولا فائتيه فلن تفلتوا من حكم سننه ووعده لرسله وللمؤمنين بالنصر والغلب كما قال : « وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » .
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي وبشر أيها الرسول الكريم من جحد رسالتك ولم يؤمن باللّه وملائكته واليوم الآخر بعذاب أليم فى الآخرة.
وهذا من أنباء الغيب التي لا تعلم إلا بوحي من اللّه عز وجل ، واستعمال البشارة فيما يسوء ويكره ضرب من التهكم كما لا يخفى.
(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) أي لا تمهلوا الناكثين للعهود فوق أربعة أشهر ، إلا الذين عاهدتموهم ثم لم ينكثوا عهدهم ، فلا تجروهم مجرى الناكثين فى المسارعة إلى قتالهم ، بل أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم بشرط ألا ينقصوا شيئا من شروط الميثاق ولا يضاروكم ، ولا يعاونوا عليكم أحدا من أعدائكم ، كما عدت بنو بكر على خزاعة فى غيبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فظاهرتهم قريش بالسلاح.
وفى ذلك إيماء إلى أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام مادام العهد معقودا ، وإلى أن العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته ، وإلى أن من شروط وجوب الوفاء به محافظة العدو المعاهد لنا على ذلك العهد بحذافيره بنصه وفحواه ، فإن نقص شيئا منه وأخلّ بغرض من أغراضه عدّ ناقضا له كما قال : (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً)(10/55)
ج 10 ، ص : 56
ويدخل فى الإخلال مظاهرة أحد من الأعداء على المسلمين ، لأن المقصد من المعاهدات ترك قتال كل من الفريقين المتعاهدين للآخر وحرية التعامل بينهما.
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين يتقون نقض العهد وخفر الذمم وسائر المفاسد التي تخل بالنظام وتمنع جريان العدل بين الناس وفى ذلك إيماء إلى أن مراعاة حقوق العهد تدخل فى حدود التقوى ، وإلى أن التسوية بين الوفىّ والغادر منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا.
وقد ورد فى تنفيذ أمر اللّه بهذه البراءة والأذان بها : أي التبليغ العلنى أحاديث
فى الصحاح أشهرها « أن النبي صلى اللّه عليه وسلم جعل أبا بكر رضى اللّه عنه أميرا على الحج سنة تسع وأمره أن يبلغ المشركين الذين يحضرون الحج أنهم يمنعون منه بعد ذلك العام ، ثم أردفه بعلىّ كرم اللّه وجهه ليبلغهم عنه نبذ عهودهم المطلقة وإعطاءهم مهلة أربعة أشهر لينظروا فى أمرهم ، وأن العهود المؤقتة أجلها نهاية وقتها ، ويتلو عليهم الآيات المتضمنة لنبذ العهود وما يتعلق بها من أول سورة براءة ، وهى نحو أربعين آية.
وقد كان من عادة العرب أن العهود ونبذها إنما تكون من عاقدها أو أحد عصبته القريبة ، وأن عليّا اختص بذلك مع بقاء إمارة الحج لأبى بكر ، وكان يساعده على ذلك بعض الصحابة كأبى هريرة.
روى البخاري ومسلم عن أبى هريرة قال : بعثني أبو بكر فى تلك الحجة فى مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ثم أردف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعلى بن أبى طالب وأمره أن يؤذن ببراءة ، وألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان.(10/56)
ج 10 ، ص : 57
[سورة التوبة (9) : الآيات 5 الى 6]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)
تفسير المفردات
انسلاخ الأشهر : انقضاؤها والخروج منها ، يقال : سلخ فلان الشهر وانسلخ منه ، قال تعالى : « وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ » وقال شاعرهم :
إذا ما سلخت الشهر أهلكت مثله كفى قاتلى سلخى الشهور وإهلالى
والحرم : واحدها حرام ، وهى الأشهر التي حرّم اللّه فيها قتالهم فى الأذان والتبليغ بقوله : « فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ » وقوله : وخذوهم ، أي بالأسر ، والأخيذ : الأسير ، واحصروهم : أي امنعوهم من الخروج واحبسوهم ، والمرصد :
الموضع الذي يرقب فيه العدو ، يقال رصدت فلانا أرصده : إذا ترقبته ، أي اقعدوا لهم على كل مرصد ، واستجاره : طلب جواره ، أي حمايته وأمانه ، وقد كان من عادات العرب حماية الجار والدفاع عنه حتى يسمّون النصير : جارا ، وأجره : أي ، أمنه ، ومأمنه : أي مسكنه الذي يأمن فيه ، وهو دار قومه ، وقوله : لا يعلمون أي ما الإسلام وما حقيقته ، فلابد من إعطاء الأمان حتى يفهموا الحق ولا يبقى لهم معذرة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه الأذان العام بالبراءة من عهود المشركين وسائر خرافاتهم وضلالاتهم على الوجه الذي سبق تفصيله ، قفّى على ذلك بذكر ما يجب أن يفعله المسلمون معهم حين انقضاء الأجل المضروب لهم والأمان الذي أعطى لهم للضرب فى الأرض.(10/57)
ج 10 ، ص : 58
الإيضاح
(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي فإذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرم عليكم فيها قتال المشركين ، فافعلوا معهم كل ما ترونه موافقا للمصلحة من تدابير الحرب وشئونها ، لأن الحال بينكم وبينهم عادت إلى حال الحرب بانقضاء أجل التأمين الذي منحتموه ، وذلك بعمل أحد الأمور الآتية :
(1) قتلهم فى أي مكان وجدوا فيه من حلّ وحرم.
(2) أخذهم أسارى ، وقد أبيح هنا الأسر الذي حظر فى سورة الأنفال بقوله :
« ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ » لأن الإثخان وهو الغلب والقوة والسيادة قد وجد.
(3) حصرهم وحبسهم حيث يعتصمون بمعقل أو حصن ، بأن يحاط بهم ويمنعوا من الخروج والانفلات حتى يسلموا وينزلوا على حكمهم بشرط ترضونه أو بدون شرط.
(4) القعود لهم كل مرصد : أي مراقبتهم فى كل مكان يمكن الإشراف عليهم فيه ، ورؤية تجوالهم وتقلّبهم فى البلاد.
وهذه الآية تسمى آية السيف ، إذ جاء الأمر فيها بالقتال وقد كان مؤجّلا ومنسا إلى أن يقوى المسلمون ، وكان الواجب عليهم فى حال الضعف الصبر على الأذى.
(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن تابوا عن الشرك الذي يحملهم على عداوتكم وقتالكم ودخلوا فى الإسلام بأن نطقوا بالشهادتين ، وأقاموا الصلاة المفروضة كما تقيمونها فى الأوقات الخمسة والصلاة مظهر الإيمان وأكبر أركانه ، وهى مطلوبة من الغنى والفقير والأمير والمأمور. وهى حق اللّه على عباده تزكّى أنفسهم وتهذب أخلاقهم وتؤهلهم للقيام بحقوق عباده « إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ » وآتوا الزكاة المفروضة فى أموال الأغنياء(10/58)
ج 10 ، ص : 59
للفقراء والمصالح العامة - فخلّوا سبيلهم واتركوا لهم طريق حريتهم بالكف عن قتالهم إذا كانوا مقاتلين ، وبالكف عن حصرهم إذا كانوا محاصرين ، وبالكف عن رصد مسالكهم إلى البيت الحرام وغيره إذا كانوا مراقبين ، واللّه يغفر لهم ما سبق من الشرك وغيره من سيئاتهم ويرحمهم فيمن يرحم من عباده ، وقد جاء فى الأثر « الإسلام يجبّ ما قبله » .
وفى الآية إيماء إلى أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يوجبان لمن يؤديهما حقوق المسلمين من حفظ الدم والمال إلا بما يوجب عليه الشرع من جناية تقتضى حدا معلوما أو جريمة توجب تعزيرا أو تغريما.
روى الشيخان عن عبد اللّه بن عمر مرفوعا « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه ، وأن محمدا رسول اللّه ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على اللّه » .
والخلاصة - إن اشتراط الأشياء الثلاثة للكف عن قتال المشركين للتحقق من دخولهم فى جماعة المسلمين بالفعل ، والتزامهم شرائع الإسلام وإقامة شعائره ، إذ مقتضى الشهادة الأولى ترك عبادة غير اللّه ، ومقتضى الشهادة الثانية طاعة الرسول فيما يبلغه عن اللّه تعالى ، واكتفى من أركان الإسلام بالصلاة التي تجب فى اليوم والليلة خمس مرات ، لأنها الرابطة الدينية الروحية الاجتماعية بين المسلمين ، وبالزكاة لأنها الرابطة المالية الاجتماعية ، فمن أقامهما كان أجدر بإقامة غيرهما (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم إلا من طلب منكم الأمان ليعلم ما أنزل اللّه وأمر به من دعوة الإسلام ، فإن بعض المشركين لم تبلغهم الدعوة بلاغا مقنعا ولم يسمعوا شيئا من القرآن ، أو لم يسمعوا منه ما تقوم به الحجة عليهم ، فأعرضوا وعادوا الداعي وقاتلوه ، لأنه جاء بتفنيد ما هم عليه من الشرك ، وتسفيه ما كان عليه آباؤهم منه.
والخلاصة - وإن استأمنك أيها الرسول أحد من المشركين لكى يسمع كلام اللّه(10/59)
ج 10 ، ص : 60
ويعلم منه حقيقة ما تدعو إليه ، أو ليلقاك وإن لم يذكر سببا - فأجره وأمّنه على نفسه وأمواله لكى يسمع أو لكى يراك ، فإن هذه فرصة للتبليغ والاستماع ، فإن اهتدى وآمن عن علم واقتناع فذاك ، وإلا فالواجب أن تبلغه المكان الذي يأمن به على نفسه ويكون حرا فى عقيدته ، حيث لا يكون للمسلمين سلطان عليه ، وتعود حال الحرب إلى ما كانت عليه من غير غدر.
والمراد بالسماع أن يسمع المقدار الذي تقوم به الحجة ويتبين به بطلان الشرك وحقيقة التوحيد والبعث وصدق الرسول فى تبليغه عن اللّه ، فإنه إذا ألقى إليه السمع لا يلبث أن يظهر له الحق إذا لم تصده العصبيّة والعدوان للداعى ، فإن لم يفعل ذلك كان له شأنه وكانت له حريته ، ولكنه يمنع من مساكنة المسلمين فى دار الإسلام وهو على هذه الحال.
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) أي إن ما ذكر من إجارة المستجير من المشركين إلى أن يسمع كلام اللّه من جراء أنهم قوم جاهلون لا يدرون ما الكتاب وما الإيمان ، وما أعرضوا إلا عن جهل وعصبية واغترار بالقوة وإصرار على الجفوة. فإذا هم شعروا بضعفهم وصدق وعد اللّه بنصر المؤمنين عليهم ، وأعدّهم ذلك للعلم بما كانوا يجهلون ، وطلبوا الأمان لهذا السبب أو لغرض آخر يترتب عليه إمكان تبليغهم الدعوة وإسماعهم كلام اللّه - أجيبوا إلى ذلك لأن هذه الطريق المثلى لتعليمهم وهدايتهم ، والرسول صلوات اللّه عليه إنما أرسل مبشرا ونذيرا.
وفى الآية إيماء إلى أن التقليد فى الدين غير كاف ، وأنه لا بد من النظر والاستدلال ، لأنه لو كان كافيا لوجب ألا يهمل الكافر ، بل يقال له : إما أن تؤمن وإما أن نقتلك ، فأمهلناه ليحصل له النظر والاستدلال فإن ظهر على المشرك علامات القبول للحق ببحثه عن الدليل والتفكير فيه أمهل وترك ، وإن ظهر أنه معرض عن الحق لم يلتفت إليه ووجب تبليغه إلى مأمنه.(10/60)
ج 10 ، ص : 61
[سورة التوبة (9) : الآيات 7 الى 8]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8)
تفسير المفردات
ظهر عليه : غلبه وظفر به ، ورقب الشيء رعاه وحاذره لأن الخائف يرقب العقاب ويتوقعه ، ومنه فلان لا يرقب اللّه فى أموره : أي لا ينظر إلى عقابه ، فيركب رأسه فى المعصية ، والإلّ : القرابة. قال ابن مقبل :
أفسد الناس خلوف خلفوا قطعوا الإلّ وأعراق الرّحم
والذمة والذمام : العهد الذي يلزم من ضيّعه الذمّ ، وكان خفر الذمام ونقض العهد عندهم من العار ، فاسقون : أي خارجون من قيود العهود والمواثيق متجاوزون لحدود الصدق والوفاء ، من قولهم : فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر براءة اللّه ورسوله من المشركين وإمهالهم أربعة أشهر يسيحون فى الأرض أحرارا ، ثم ذكر دعوتهم إلى التوبة من الشرك وإنذارهم سوء العاقبة ، ثم أمر بما يترتب على النبذ وهو عود حال الحرب معهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم التي وقّتت بها ، بمناجزة المشركين بكل أنواع القتال المعروفة فى ذلك العصر من قتل وأسر وحصر وقطع طرق الوصول عليهم ، إلا من يستجير بالرسول ليسمع كلام اللّه فإنه يجار حتى يسمعه - قفى على ذلك ببيان أن هذا النبذ وما يترتب عليه إنما هو معاملة للأعداء بمثل ما عاملوا به المؤمنين أو دونه.(10/61)
ج 10 ، ص : 62
الإيضاح
(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) المراد من المشركين الناكثون للعهد ، لأن البراءة إنما هى فى شأنهم ، أي بأى حال يكون لهؤلاء المشركين عهد معتدّ به عند اللّه وعند رسوله يستحق أن يراعى ويحافظ عليه إلى إتمام المدة بحيث لا يتعرض لهم على حسبه قتلا وأخذا ، وحالهم ما بين فى الآية التالية - إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة.
(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهود إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام وهم بنو كنانة وبنو ضمرة ، لأنهم ممن كان قد أقام على عهده ولم يدخل فى نقض ما كان بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية من العهد.
(فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أي فهؤلاء تربصوا بهم ولا تقتلوهم ما استقاموا لكم على العهد ، إذ لا يجوز أن يكون نقضه من قبلكم.
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين يتقون الغدر ونقض العهد ، وهؤلاء المعاهدون المذكورون هنا : هم المذكورون أولا بقوله : إلا الذين عاهدتم من المشركين إلخ ، وإنما أعيد ذكرهم هنا ، لبيان أنه يجب أن تكون الاستقامة على العهد مرعيّة من الطرفين المتعاقدين إلى نهاية مدته ، وبيان استباحة نبذ عهد الذين لا يستقيمون للمعاهد لهم إلا عند العجز عن الغدر حتى إذا ما قدروا عليه نقضوا عهده أو نقصوا منه كما فعلت قريش فى نقض عهد الحديبية بمظاهرتهم لحلفائهم من بنى بكر على خزاعة أحلاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) أي كيف يكون للمشركين غير هؤلاء الذين جربتم وفاءهم - عهد مشروع عند اللّه مرعىّ الوفاء عند رسوله - وحالهم المعروفة من أخلاقهم وأعمالهم أنهم إن يظهروا عليكم فى القوّة والغلب ، لا يرقبوا اللّه ولا القرابة فى نقض العهد والميثاق.(10/62)
ج 10 ، ص : 63
والخلاصة - إنه لا عهد لمن كان له عهد وغدر فيه ، وكذا من لا عهد له منهم لأنهم لشدة عداوتهم للمؤمنين لم يقيّدوا أنفسهم معهم بعهد سلم مطلق ولا مؤقت.
ثم بين ما تنطوى عليه جوانحهم من الضغينة للمؤمنين فقال :
(يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) أي هم يخادعونكم حال الضعف بما يفوهون به من كلام معسول يرون أنه يرضيكم سواء أ كان عهدا أم وعدا أم أيمانا مؤكدة ، وقلوبهم مملوءة ضغنا وحقدا « يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ » فهم إن ظهروا عليكم نكثوا العهود وحنثوا بالإيمان وفتكوا بكم بقدر ما يستطيعون.
وإنما يفعلون ذلك لأن أكثرهم خارجون من قيود العهود والمواثيق متجاوزون لحدود الصدق والوفاء ، فليس لهم مروءة رادعة ، ولا عقيدة وازعة ، ولا يتعفّفون عن الغدر وعما يجر إلى سوء الأحدوثة وثلم العرض.
وإنما وصف الأكثر ، لأنهم هم الناكثون الناقضون لعهودهم ، وأقلهم الموفون الذين استثناهم اللّه تعالى وأمر المؤمنين بالاستقامة لهم ما استقاموا لهم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 9 الى 10]
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر غلبة الفسق والخروج من الفضائل الفطرية والتقليدية على أكثرهم حتى مراعاة القرابة والوفاء ونحوهما مما يمدح عندهم - أردف ذلك بذكر السبب فى هاتين الآيتين.(10/63)
ج 10 ، ص : 64
الإيضاح
(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أي استبدلوا بآيات اللّه الدالة على توحيده بالعبادة ، وعلى الوحى والرسالة وما فيها من الهداية للناس ، وعلى البعث والجزاء على الأعمال - ثمنا قليلا من حطام الدنيا ، وهو ما هم فيه من رخاء العيش وكثرة الأموال ، فصدوا بسبب هذا الشراء الخسيس أنفسهم عن الإسلام وما يقتضيه من الوفاء وصدوا غيرهم أيضا ، وجعله قليلا لأنه زائل غير باق وما عند اللّه باق دائم وهو خير وأبقى ، لأن ما عندهم قليل بالنظر إلى ما عند غيرهم.
روى أن أبا سفيان لما أراد حمل قريش وحلفائها على نقض عهد الحديبية صنع لهم طعاما استمالهم به فأجابوه إلى ما طلب.
(إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي قبح عملهم الذي يعملونه من اشتراء الكفر بالإيمان والضلالة بالهدى ، والصد عن دين اللّه وما جاء به رسوله من البينات والهدى.
(لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) أي ومن أجل هذا الكفر لا يرعون فى مؤمن يقدرون على الفتك به قرابة تقتضى الود ، ولا ذمة توجب الوفاء بالعهد ، ولا ربّا يحرّم الخيانة والغدر ، فذنب المؤمن عندهم أنه لا ينقض عهدا ولا يستحل غدرا ولا يقطع رحما.
(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) أي المتجاوزون للغاية القصوى من الظلم ، والعلة فى هذا رسوخهم فى الشرك وكراهتهم للإيمان وأهله ، فلا علاج لهم إلا الرجوع عن الكفر والاعتصام بالإيمان والتمسك بفضائل الأخلاق وما يقتضيه الإيمان من صالح الأعمال.
[سورة التوبة (9) : الآيات 11 الى 12]
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)(10/64)
ج 10 ، ص : 65
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه عداوة المشركين للمؤمنين - أردف ذلك بما سيكون من أمرهم بعد ذلك وهو لا يعدو أحد أمرين فصّلها فى هاتين الآيتين.
الإيضاح
(1) (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فإن رجع هؤلاء المشركون الذين أمرتكم بقتالهم عن شركهم باللّه ، إلى الإيمان به وبرسوله وأنابوا إليه وأطاعوه ، فأقاموا الصلاة أي أدّوها بشروطها وأركانها ، وآتوا الزكاة المفروضة فهم إخوانكم فى الدين الذي أمركم به ، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم ، وبهذه الأخوّة يزول كل ما كان بينكم من إحن وعداوات ، ولا تعارف أجمل من التعارف فى المساجد لإقامة الصلوات وأداء الصدقات بمواساة الغنى للفقير ، وهذه المزية الدنيوية كانوا محرومين منها ، إذ كان بعضهم حربا لبعض إلا ما كان من عهد أو جوار.
(وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي وإنا نبين حجج اللّه وأدلته على خلقه لقوم يعلمون ما نبين لهم بعد أن نشرحها مفصلة فيفقهونها ، دون الجهال الذين لا يعقلون عن اللّه بيانه ومحكم آياته.
(2) (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) يقال نكث الغزل والحبل : حلّ الخيوط التي تألّف منها وأرجعها إلى أصلها ، والأيمان العهود وقد كان كل من العاقدين للعهد يضع يمينه فى يمين الآخر.
أي وإن نكث هؤلاء ما أبرمته أيمانهم من الوفاء بالعهد الذي عقدوه معكم ، وعابوا دينكم واستهزءوا به وصدّوا الناس عنه ، ومن ذلك الطعن فى القرآن وفى النبي(10/65)
ج 10 ، ص : 66
صلى اللّه عليه وسلم كما كان يفعل شعراؤهم الذين أهدر النبي صلى اللّه عليه وسلم دماءهم فقاتلوهم فهم أئمة الكفر وحملة لوائه المقدّمون على غيرهم بزعمهم ، فهم الأجدر بالقتل والقتال.
(إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي إن عهودهم لا قيمة لها. فهى مخادعة لسانية لا يقصد الوفاء بها كما قال سبحانه « يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ » فما أسرع ما تنقض إذا وجدت الفرصة سانحة.
(لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) أي قاتلوهم رجاء أن ينتهوا بقتالكم إياهم عن الكفر ونكث الأيمان ونقض العهود والعودة إلى قتالكم كلما قدروا عليه.
وفى ذلك إيماء إلى أن القتال لا يكون اتباعا لهوى النفس ، أو إرادة منافع الدنيا من السلب والنهب وإرادة الانتقام ، وهذه ميزة الإسلام ، إذ جعل الحرب ضرورة لإرادة منع الباطل وتقرير الحق.
[سورة التوبة (9) : الآيات 13 الى 15]
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه يقتال أئمة الكفر - ذكر السبب الذي يبعث على قتالهم ، ولعل اللّه قد علم أن فى نفس جماعة من المؤمنين كرها لقتال من بقي من المشركين بعد فتح(10/66)
ج 10 ، ص : 67
مكة وظهور الإسلام لأمنهم من ظهورهم عليهم ورجائهم فى إيمانهم ، وعلم أنه يوجد من المنافقين من يزيّنون لهم ذلك ، واللّه يريد أن تطهر جزيرة العرب من خرافات الشرك وأدران الوثنية ، ويمحّص المؤمنين من النفاق ومثالبه.
من جراء هذا أعاد الكرة بإقامة الأدلة على وجوب قتال الناكثين للعهد المعتدين عليهم بالحرب الذين بدءوهم بالقتال وهمّوا بإخراج الرسول أو حبسه أو قتله.
الإيضاح
(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ؟ ) أي قاتلوا هؤلاء المشركين لأسباب ثلاثة :
(1) إنهم نكثوا الأيمان التي حلفوها لتأكيد عهدهم الذي عقدوه مع النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه على ترك القتال عشر سنين يأمن فيها الفريقان على أنفسهم ، ويكونون فيها أحرارا فى دينهم ، لكنهم لم يلبثوا أن ظاهروا حلفاءهم بنى بكر على خزاعة حلفاء النبي صلى اللّه عليه وسلم ليلا بالقرب من مكة على ماء يسمى الهجير ، وكان هذا من أفظع أنواع الغدر ، ولما علم بذلك
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « لا نصرت إن لم أنصركم »
وتجهز إلى مكة سنة ثمان من الهجرة.
(2) إنهم هموا بإخراج الرسول صلى اللّه عليه وسلم من وطنه أو حبسه حتى لا يبلغ رسالته ، أو قتله بأيدى عصبة من بطون قريش ليتفرق دمه فى القبائل ، فتتعذر المطالبة به ، وإلى ذلك يشير قوله تعالى : « وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ » .
(3) إنهم بدءوا بقتال المؤمنين فى بدر حين قالوا بعد العلم بنجاة عيرهم : لا ننصرف حتى نستأصل محمدا وأصحابه ونقيم فى بدر أياما نشرب الخمر وتعزف على رءوسنا القيان ، وكذا فى أحد والخندق وغيرهما.(10/67)
ج 10 ، ص : 68
وبعد أن أورد البراهين والحجج الموجبة لقتالهم قال :
(أَ تَخْشَوْنَهُمْ ؟ ) أي أبعد هذا كله تتركون قتالهم خوفا منكم وجبنا ؟ .
(فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي فاللّه أحق أن تخشوا مخالفة أمره وترك مخالفة عدوه ، إذ المؤمن حق الإيمان لا يخشى إلا اللّه ، لأنه يعلم أنه هو الذي بيده النفع والضر ، ولا يقدر أحد على مضرة أو نفع إلا بمشيئته ، فان خشى غيره بمقتضى سننه تعالى فى أسباب الضر والنفع ، فلا ترجح خشيته على خشية اللّه ، بأن تحمله على عصيانه ومخالفة أمره ، بل يرجّح خشيته تعالى على خشية غيره.
وهذا احتجاج آخر على جماعة المسلمين الذين لا يخلو أن يكون بينهم جماعة من المنافقين ومرضى القلوب الذين يكرهون القتال إذا لم توجبه الضرورة كما قال :
« كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ » أو رجاء انتشار الإسلام بدونه بعد فتح مكة والطائف وهدم دولة الشرك.
وخلاصة ما سلف - إنه بعد تلك الحجج التي تقدم ذكرها ، لم يبق من سبب يمنع قتالهم إلا الخشية لهم والخوف من قتالهم ، وخشية اللّه أحق وأجدر إن كنتم مؤمنين حقا ، كيف وقد نصركم اللّه عليهم فى مواطن كثيرة مع ضعفكم وقوتهم وقلّتكم وكثرة عديدهم.
وفى الآية إيماء إلى أن المؤمن يجب أن يكون أشجع الناس وأعلاهم همة ولا يخشى إلا اللّه وبعد أن أقام الأدلة على وجوب قتالهم ، وفنّد الشبه المانعة من ذلك - أمرهم به أمرا صريحا مع وعده لهم بالنصر وإظهار المؤمنين عليهم ، وهذه العدة من أخبار الغيب فى وقعه معينة ، وقد صدق اللّه وعده فقال :
(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) أي قاتلوهم كما أمرتكم ، فإنكم إن فعلتم ذلك يعذبهم اللّه بأيديكم ويمكّنكم من رقابهم قتلا ، ومن صدورهم ونحورهم طعنا ، ويخزهم بذلّ الأسر والقهر والفقر لمن لم(10/68)
ج 10 ، ص : 69
يقتل منهم ، وينصركم عليهم حتى لا تقوم لهم قائمة بعد هذا ، فلا يعودون إلى قتالكم كما كان شأنهم بعد وقعة بدر ، ويشف صدوركم مما نالوا منكم من الأذى ولم تكونوا تستطيعون دفعه - وقد كان فى صدورهم من موجدة القهر والذل ما لا شفاء له إلا بهذا النصر عليهم - وهؤلاء المؤمنون هم الذين غدر بهم المشركون كخزاعة وغيرها ممن كانوا فى دار الشرك عاجزين عن الهجرة.
وروى عن ابن عباس أنهم بطون من اليمن وسبأ قدموا إلى مكة وأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيرا ، فبعثوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يشكون إليه فقال صلى اللّه عليه وسلم « أبشروا فإن الفرج قريب » .
(وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) الذي كان قد وقر فيها من غدر المشركين وظلمهم ، ومن طال تأذيه من خصمه ثم مكنه اللّه منه على أحسن الوجوه وأكملها فإنه يعظم سروره ويصير ذلك سببا لقوة النفس وصدق العزيمة.
وهذا الخزي والتعذيب الذي سينزله بهم لا يعمهم ، بل هو خاص بمن استحوذ عليهم الكفر ، فلم يبق فيهم استعداد للإيمان.
(وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي وأما غيرهم فسيتوب اللّه عليهم من شركهم ويوفقهم للإيمان ويتقبله منهم ، وهو العليم بما لا تعلمون من استعدادهم فى الحال والاستقبال ، الحكيم فيما يشرع لهم من الأحكام لإقامة دينه وإظهاره على الدين كله.
ومن سننه تعالى تفاوت البشر فى العقائد والأخلاق والأعمال ، وقابلية التحول من حال إلى حال بما يطرأ عليهم من الأسباب والمؤثرات بحسب المقادير الإلهية الثابتة بآيات التنزيل ونظم الاجتماع.
[سورة التوبة (9) : آية 16]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)(10/69)
ج 10 ، ص : 70
تفسير المفردات
الوليجة : ما يلج فى الأمر أو القوم مما ليس منه أو منهم كالدّخيلة ، ويطلق على الواحد والكثير ، ويراد بها هنا بطانة السوء من المنافقين والمشركين.
المعنى الجملي
كان الكلام فى الآيات التي قبل هذه فى بيان حال المشركين من مواصلتهم ما بدءوا به من قتال المؤمنين لأجل دينهم ، وقتال المؤمنين لهم على الوجه الذي قامت به الحجج الناصعة على كون المؤمنين على الحق فى هذا القتال والكلام الآن فى بيان حال جماعة المسلمين وشأنهم فى الجهاد الحق الذي يتوقف عليه تمحيصهم من ضعف الإيمان والهوادة فى حقوق الإسلام.
الإيضاح
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) الخطاب هنا لجماعة المسلمين الذين من بينهم منافقون ومرضى القلوب يثبّطون عن القتال.
والمعنى - هل جاهدتم المشركين حق الجهاد ، وأمنتم عودتهم إلى قتالكم كما بدءوكم أول مرة ، وأمنتم نكث من عاهدتم منهم لأيمانهم كما نكثوا من قبل ؟ وهل علمتم أنهم تركوا الطعن فى دينكم وصدّ الناس عنه كما هو دأبهم منذ ظهور الإسلام وهل نسيتم ما اعتذر به المنافقون الذين تخلّفوا عن الخروج مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك من أعذار ملفّقة كاذبة ، وما كان من تثبيط من خرج منهم معكم عن القتال ؟
أم حسبتم أن تتركوا وشأنكم بغير فتنة ولا امتحان ، ولم يتبين الخلّص من المجاهدين منكم الذين لم يتخذوا لأنفسهم بطانة من المشركين(10/70)
ج 10 ، ص : 71
الذين يحادون اللّه تعالى بالشرك به ، ويحادون الرسول بالصدّ عن دعوته ، ويقاتلون المؤمنين أنصار اللّه ورسوله - من المنافقين الذين يطلعون أولئك الولائج على أسرار الملة ويقفونهم على سياسة الأمة كما يفعل المنافقون فى كل زمان.
ونحو الآية قوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ » .
وقد عبر سبحانه عن عدم ظهور هؤلاء المجاهدين وتميزهم من المنافقين وضعفاء الإيمان - بعدم علمه بهم ، لأن عدم علمه بالشيء دليل على عدم وجوده.
ولا يظهر هؤلاء الممتازون إلا بالابتلاء بالشدائد كما جاء فى قوله : « أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ » .
(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) الآن وبعد ذلك وقبله ، محيط بكل شىء علما ، وقد مضت سنته تعالى بأن التكليف الذي يشق على الأنفس هو الذي يمحصّ ما فى القلوب ويطهّر السرائر بقدر ما فيها من حسن الاستعداد ، ويبرز السرائر الخبيثة ويظهر سوء استعدادها.
وخلاصة المعنى - أ ظننتم أن تتركوا قبل أن يتم التمحيص والتمييز بين الصادقين فى جهادهم والكاذبين فاسدى السريرة ومتّخذى الوليجة ، وهو لم يعلم الصادقين فى الجهاد لأنهم لم يتميزوا من غيرهم بالفعل ، وما لا يعلم اللّه وجوده فلا وجود له ، إذ لا يخفى عليه شىء من أمركم ، وهو الخبير بكل ما تعملون.
[سورة التوبة (9) : الآيات 17 الى 18]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)(10/71)
ج 10 ، ص : 72
تفسير المفردات
المساجد : واحدها مسجد ، وهو مكان السجود ثم صار اسما للبيت الذي يعبد فيه اللّه وحده كما قال : « وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً » وعمارة المسجد :
تطلق تارة على لزومه والإقامة فيه للعبادة ، أو لخدمته بتنظيفه أو ترميمه أو نحو ذلك ، وتطلق أخرى على زيارته للعبادة فيه ، ومنها النسك المخصوص المسمى بالعمرة.
المعنى الجملي
بعد أن فتح المسلمون مكة وأدال اللّه للتوحيد من الشرك وللحق من الباطل ، وزالت ولاية المشركين عن المسجد الحرام وطهّره الرسول صلى اللّه عليه وسلم مما كان فيه من الأصنام ، بقي عليه أن يطهره من العبادات الباطلة التي كان المشركون يأتونها فيه ويبين لهم أن المسلمين أحق به منهم ، ومن ثم آذنهم بنبذ عهودهم وأمر عليّا أن يتلو عليهم أوائل سورة براءة على مسامع وفودهم يوم الحج الأكبر من سنة تسع للهجرة ، وكان مما يتضمنه هذا البلاغ العام أن يعلموا أن عبادتهم الشركية ستمنع من المسجد الحرام بعد ذلك العام ، فنادى علىّ وأعوانه فى يوم النحر بمعنى : لا يحج بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان.
وإنما أمهلهم هذا العام من قبل أن فيهم أرباب عهد مع المسلمين ، كان من شروطه ألا يمنع أحد الفريقين الآخر من دخول المسجد الحرام - إلى أنه كان يتعذر منع من لا عهد لهم بدون قتال فى أرض الحرم ، إذ لا يمكن التمييز بين المشرك والمسلم ولا المعاهد من غيره إلا بعد وصولهم إلى البيت وشروعهم فى الطواف فيه.
لهذا كله ناسب أن يذكر بعد نبذ العهود وإعلام جماهيرهم به قبل تنفيذه بزمن(10/72)
ج 10 ، ص : 73
منع عبادة الشرك من المسجد الحرام وإبطال ما كان المشركون يدّعونه ويفخرون به من حق عمارته ، مع تيئيسهم من الاشتراك فيها ، وهذا هو ما تضمنته الآيتان الكريمتان المذكورتان هنا.
روى عن ابن عباس أنه قال : لما أسر العباس يوم بدر عيّره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ له على فى القول ، فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا! فقال على كرم اللّه وجهه : أ لكم محاسن ؟ فقال نعم : إننا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقى الحاج فأنزل اللّه : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ) الآية.
الإيضاح
(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) أي ما كان من شأن المشركين ولا مما ينبغى لهم أن يعمروا مساجد اللّه التي منها المسجد الأعظم وهو بيته الحرام بالإقامة فيه للعبادة أو الخدمة والولاية عليه ، ولا أن يزوروه حجاجا أو معتمرين ، وقد شهدوا على أنفسهم بالكفر قولا وعملا بعبادتهم للأصنام والاستشفاع بها والسجود لما وضعوه منها فى البيت عقب كل شوط من طوافهم ، وقولهم حينئذ : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك.
إذ فى عملهم هذا جمع بين الضدين ، فإن عمارة البيت الحسية إنما تكون لعمارته المعنوية بعبادته تعالى وحده ، وذلك لا يقع إلا من المؤمن الموحّد لكنهم يشركون به غيره ويساوونه ببعض خلقه فى العبادة.
وخلاصة ذلك - إنهم يجمعون بين أمرين لا يعقل الجمع بينهما على وجه صحيح ، عمارة البيت الحرام بزيارته للحج أو العمرة ، والكفر بربه بمساواته ببعض خلقه من الأصنام والأوثان.(10/73)
ج 10 ، ص : 74
وقوله : شاهدين على أنفسهم ، أي إنهم كفروا كفرا صريحا معترفا به لا تمكن المكابرة فيه.
والمراد بالعمارة الممنوعة عن المشركين للمساجد الولاية عليها والاستقلال بالقيام بمصالحها كأن يكون الكافر ناظرا للمسجد وأوقافه ، أما استخدام الكافر فى عمل لا ولاية فيه كنحت الحجارة والبناء والنجارة فلا يدخل فى ذلك.
وللمسلمين أن يقبلوا من الكافر مسجدا بناه كافر أو أوصى ببنائه أو ترميمه إذا لم يكن فى ذلك ضرر دينى ولا سياسى ، كما لو عرض اليهود الآن على المسلمين أن يعمروا المسجد الأقصى بترميم ما كان قد تداعى من بنائه ، أو بذلوا لذلك مالا لم يقبل منهم ، لأنهم يطمعون فى الاستيلاء على هذا المسجد ، فربما جعلوا ذلك ذريعة لادعاء حق لهم فيه.
(أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي أولئك المشركون الكافرون باللّه وبما جاء به رسوله قد بطلت أعمالهم التي يفخرون بها من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج وقرى الضيف وصلة الرحم ونحو ذلك مما كانوا يعملونه فى دنياهم ، فلم يبق له أثر ما فى صلاح أنفسهم ما داموا مقيمين على الشرك ومفاسده.
ونحو الآية قوله : « وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » وقوله :
« وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ » .
(وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) أي وهم مقيمون فى دار العذاب إقامة خلود وبقاء لكفرهم الذي أحبط أحسن أعمالهم ودسّى أنفسهم حتى لم يبق لها أدنى استعداد لجوار ربهم فى دار الكرامة والنعيم.
(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) أي إن المستحقين لعمارة المساجد هم الجامعون بين الإيمان باللّه على الوجه(10/74)
ج 10 ، ص : 75
الذي بيّنه فى كتابه من توحيده واختصاصه بالعبادة والتوكل عليه ، والإيمان باليوم الآخر الذي يحاسب اللّه فيه عباده ويجزى كل نفس ما كسبت ، مع إقامة الصلاة المفروضة على وجه جامع بين أركانها وآدابها ، وتدبر تلاوتها وأذكارها ، وبذا تكسب من يقيمها مراقبة ربه وخشيته والخشوع إليه ، وإعطاء زكاة الأموال لمستحقيها من الفقراء والمساكين ، وخشية اللّه دون غيره مما لا ينفع ولا يضر كالأصنام وغيرها مما عبد من دون اللّه خوفا من ضرره أو رجاء نفعه.
(فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي فأولئك الذين يجمعون بين الأركان الهامة من أركان الإسلام هم الذين يرجون أن يكونوا من المهتدين إلى ما يحب اللّه ويرضيه من عمارة المساجد حسا ومعنى بحسب سننه تعالى فى أعمال البشر وتأثيرها فى نفوسهم ، وبذا يستحقون عليها الجزاء فى جنات النعيم ، لا أولئك المشركون الذين يجمعون بين أضدادها من الإيمان بالطاغوت والشرك باللّه والكفر بما جاء به رسوله ، وينفقون أموالهم للصد عن سبيل اللّه ، ومنع الناس من الإسلام.
هذا ، وقد ورد فى عمارة المساجد أحاديث كثيرة ،
فقد روى الشيخان والترمذي عن عثمان رضى اللّه عنه أنه لما بنى مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولامه الناس قال إنكم أكثرتم ، وإنى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « من بنى للّه مسجدا يبتغى به وجه اللّه بنى اللّه له بيتا فى الجنة » .
وروى أحمد عن ابن عباس مرفوعا « من بنى للّه مسجدا ولو كمفحص (الموضع الذي تفحص التراب عنه وتكشفه لتبيض فيه) قطاة لبيضها - بنى اللّه له بيتا فى الجنة » .
وروى الشيخان وأبو داود وابن ماجه : أن امرأة كانت تقمّ المسجد - تكنسه - فماتت ، فسأل عنها النبي صلى اللّه عليه وسلم فقيل له ماتت ، فقال : أفلا كنتم آذنتموني بها لأصلّى عليها دلّونى على قبرها ، فأتى قبرها فصلى عليها.
و
روى أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبى سعيد قال : قال رسول اللّه(10/75)
ج 10 ، ص : 76
صلى اللّه عليه وسلم : « إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان » وتلا (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ) » الآية.
[سورة التوبة (9) : الآيات 19 الى 22]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
تفسير المفردات
السقاية : الموضع الذي يسقى فيه الماء فى المواسم وغيرها ، وسقاية العباس : موضع بالمسجد الحرام يستقى فيه الناس ، وهو حجرة كبيرة فى جهة الجنوب من بئر زمزم لا تزال ماثلة إلى الآن ، وقد يراد بالسقاية الحرفة كالحجابة وهى سدانة البيت ، والسقاية والحجابة أفضل مآثر قريش وقد أقرّهما الإسلام ،
وفى الحديث : « كل مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدمىّ إلا سقاية الحاج وسدانة البيت » .
وقد كانت قريش تسقى الحاج الزبيب المنبوذ فى الماء ، وكان يليها العباس بن عبد المطلب فى الجاهلية والإسلام.
المعنى الجملي
هذه الآيات مكملة لما قبلها مبينة أن عمارة المسجد الحرام للمسلمين دون المشركين ، وأن إسلامهم أفضل مما كان يفخر به المشركون من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج فيه.(10/76)
ج 10 ، ص : 77
روى مسلم وأبو داود عن النعمان بن بشير قال : « كنت عند منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى نفر من أصحابه فقال رجل منهم : ما أبالى ألا أعمل للّه عملا بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج ، وقال آخر بل عمارة المسجد الحرام ، وقال آخر بل الجهاد فى سبيل اللّه خير مما قلتم ، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأستفتيه فيما اختلفتم فيه ، فدخل بعد الصلاة فاستفتاه فأنزل اللّه (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ - إلى قوله - وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) » .
الإيضاح
(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ ) الخطاب فى الآية للمؤمنين الذين تنازعوا - أىّ الأعمال أفضل - والمراد - إنه لا ينبغى أن تجعلوا أهل السقاية والعمارة فى الفضيلة كمن آمن باللّه واليوم الآخر وجاهد فى سبيل اللّه ، فإن السقاية والعمارة وإن كانتا من أعمال البر والخير فأصحابهما لا يدانون أهل الإيمان والجهاد فى علو المرتبة وشرف المقدار ، وقد صرح بهذا فى قوله :
(لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ) أي لا يساوى الفريق الأول الفريق الثاني لا فى صفته ولا فى عمله فى حكم اللّه ولا فى مثوبته وجزائه عليه لا فى الدنيا ولا فى الآخرة ، فضلا عن أن يفضله كما يزعم كبراء مشركى قريش الذين كانوا يتبجحون بخدمة البيت ويستكبرون على الناس بها.
(وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا يهديهم إلى الحق فى أعمالهم ولا إلى الحكم العدل فى أعمال غيرهم ، إذ ليس من سننه تعالى فى أخلاق البشر وأعمالهم أن يهدى الظالم إلى شىء من ذلك ، ومن أقبح الظلم تفضيل خدمة حجارة البيت وحفظ مفتاحه وسقاية الحاج على الإيمان باللّه وحده ، إذ به تطهر الأنفس من أدناس الشرك وخرافاته ، وعلى الإيمان باليوم الآخر الذي يزع النفس عن البغي والظلم ويحبب(10/77)
ج 10 ، ص : 78
إليها الحق والعدل ، ويرغّبها فى الخير وعمل البر ابتغاء مرضاة اللّه لا للفخر والرياء ، وعلى الجهاد فى سبيل اللّه بالنفس والمال لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
ثم بين سبحانه مراتب فضلهم إثر بيان عدم استوائهم هم والمشركين الظالمين فقال :
(الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ) أي هم أعظم درجة وأعلى مقاما فى مراتب الفضل والكمال فى حكم اللّه وأكبر مثوبة من أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الذين رأى بعض المسلمين أن عملهم إياهما من أفضل القربات بعد الإسلام.
فالذين نالوا فضل الهجرة والجاد بنوعيه النفسي والمالى أعلى مرتبة وأعظم كرامة ممن لم يتصف بهما كائنا من كان ، ويدخل فى ذلك أهل السقاية والعمارة.
(وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) أي وأولئك المؤمنون المهاجرون المجاهدون هم الفائزون بمثوبة اللّه وكرامته دون من لم يكن مستجمعا لهذه الصفات الثلاث وإن سقى الحاج وعمر المسجد الحرام ، فإن ثواب المؤمن على هذين العملين دون ثوابه على الهجرة والجهاد ، ولا ثواب للكافر عليهما فى الآخرة ، فإن الكفر باللّه ورسله واليوم الآخر يحبط الأعمال البدنية وإن فرض فيها حسن النية.
ثم فصل سبحانه ذلك الفوز العظيم وبينه بقوله :
(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ. خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي يبشرهم ربهم فى كتابه على لسان رسوله ، وعلى لسان ملائكته حين الموت ، برحمة منه ورضوان كامل من لدنه لا يشو به سخط ، وجنات تجرى من تحتها الأنهار ، ولهم فيها نعيم مقيم لا يزول على عظمه وكماله حال كونهم خالدين فيها أبدا.
(إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي إن ما عند اللّه من الأجر على الإيمان وصالح العمل الذي من أشقه الهجرة والجهاد عظيم لا يقدر قدره إلا اللّه الذي تفضل به ومنحه لعباده المكرمين ، ولا سيما على الإيمان الكامل الباعث على هجر الوطن ومفارقة الأهل(10/78)
ج 10 ، ص : 79
والسكن ، وعلى إنفاق المال الذي هو أحب شىء إلى النفس ، وعلى بذل النفس التي هى أعز شىء على الإنسان.
فما أجدرهم أن يبشرهم بأنواع من الأجر والجزاء ما بين روحى وجسمانى فالأول الرحمة والرضوان. والرضوان هو نهاية الإحسان وهو أعلى النعيم وأكمل الجزاء كما يدل على ذلك قوله : « وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ » .
وما
رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ؟ فيقولون ، لبّيك ربّنا وسعديك ، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ، فيقولون ربّنا وأىّ شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده أبدا » .
والثاني : هو النعيم المقيم فى جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا.
[سورة التوبة (9) : الآيات 23 الى 24]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)
تفسير المفردات
استحب كذا وأحبه : بمعنى ، والظلم : وضع الشيء فى غير موضعه ، والعشيرة :(10/79)
ج 10 ، ص : 80
ذوو القرابة الأدنون الذين من شأنهم التعاون والتناصر ، والاقتراف : الاكتساب ، وكساد التجارة : ضد رواجها ، والتربص : الانتظار ، وأمره : عقوبته إن عاجلا أو آجلا.
المعنى الجملي
لما أعلن اللّه براءته وبراءة رسوله من المشركين وآذنهم بنبذ عهودهم بعد أن ثبت أنه لا عهد لهم - عزّ ذلك على بعض المسلمين ، وتبرّم به ضعفاء الإيمان وكان أكثرهم من الطّلقاء الذين أعتقهم النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة ، وكان موضع الضعف نصرة القرابة وعصبية النسب ، إذ كان لا يزال لكثير منهم أولو قرابة من المشركين يكرهون قتالهم ويتمنّون إيمانهم ، بل كان لبعض ضعفاء الإيمان وليجة وبطانة منهم.
من أجل هذا بين اللّه فى هاتين الآيتين أن فضل الإيمان والهجرة والجهاد ونيل ما بشر اللّه به أهله من رحمته ورضوانه ودخول جناته - لا يكمل إلا بترك ولاية الكافرين وإيثار حب اللّه ورسوله والجهاد فى سبيله على حب الوالد والولد والأخ الزوج والعشيرة والمال والسكن.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) أي لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء تنصرونهم فى القتال وتظاهرون لأجلهم الكفار أو تطلعونهم على أسرار المؤمنين وما يستعدون به لقتال المشركين إن أصرّوا على الكفر وآثروه على الإيمان ، فإن فى ذلك قوة للمشركين على قتال المؤمنين وحضدا لشوكتهم وقد حدث ذلك منذ ظهور الإسلام إلى نزول هذه السورة ، فقد كتب حاطب بن أبى بلتعة وهو من أهل بدر وقد استخفّته نعرة القرابة إلى مشركى مكة خفية يعلمهم بما عزم عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم من قتالهم ، ليتخذ له بذلك(10/80)
ج 10 ، ص : 81
يدا عندهم يكافئونه عليها بحماية ما كان له عندهم من قرابة ، وفى ذلك نزلت سورة الممتحنة للنهى عن موالاة أعداء اللّه وأعدائهم.
(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي ومن يتولهم وهم على تلك الحال فأولئك المتولون لهم هم الظالمون لأنفسهم ولجماعتهم بوضعهم الموالاة فى غير موضعها ، فهم قد وضعوا الولاية فى موضع البراءة ، والمودّة فى محل العداوة ، وقد حملهم على هذا الظلم نعرة القرابة وحميّة الجاهلية.
ونحو الآية قوله فى سورة الممتحنة : « لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ » .
وبعد أن بين ما وصل إليه حالهم من الإخلال بالإيمان انتقل إلى بيان سبب ذلك فقال :
(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) أي قل لهم وإن كنتم تفضّلون حظوظ الدنيا وشهواتها من الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة على حب اللّه ورسوله والجهاد فى سبيله الذي وعدتم عليه أنواع السعادة الأبدية فى الآخرة ، فانتظروا حتى يأتى أمر اللّه : أي عقوبته التي تحل بكم عاجلا أو آجلا.
وقد ذكر سبحانه الأمور الداعية إلى مخالطة الكفار وحصرها فى أربعة :
(1) مخالطة الأقارب وذكر منهم الآباء والأبناء والإخوان والأزواج ، ثم ذكر الباقي بلفظ العشيرة.
(2) الميل إلى إمساك الأموال المكتسبة.(10/81)
ج 10 ، ص : 82
(3) الرغبة فى تحصيل الأموال وتثميرها بالتجارة.
(4) الرغبة فى الأوطان والدور التي بنيت للسكنى.
وخلاصة ذلك - إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أولى عندكم من طاعة اللّه وطاعة رسوله ومن المجاهدة فى سبيله ، فتربصوا بما تحبون حتى يأتى اللّه بعقوبة من عنده عاجلة أو آجلة.
ولا يخفى ما فى ذلك من الوعيد والتهديد ، ومن الإيماء إلى أنه إذا وقع التعارض بين مصالح الدين ومصالح الدنيا وجب على المسلم نبذ الثانية وإلقاؤها وراءه ظهريا.
وبتفصيل ما تقدم فى الآية نجد أنها حوت أمورا ثمانية من أفضل ما يحب.
(ا) حب الأبناء للآباء وهو غريزى فى النفوس فالولد بضعة من أبيه يرث بعض صفاته وطبائعه من جسمية وخلقية ، وقد كان العرب يتفاخرون بآبائهم فى أسواقهم وفى معاهد الحج كما قال تعالى حاثا على ذكره : « فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً » .
(ب) حب الآباء للأبناء وهو غريزى أيضا ، وحب الوالد للولد أقوى وأبقى من عكسه ، فهو يحرص على بقائه كما يحرص على نفسه أو أشد ، ويحرم نفسه كثيرا من الطيبات إيثارا له بها فى حاضر أمره ومستقبله ، ويكابد الأهوال ويركب الصعاب ، ويقوم بتربيته وتعليمه ، إذ هو مناط الآمال وزينة الحياة كما قال تعالى :
« الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا » .
(ج) حب الإخوة وهو يلى فى المرتبة حب البنوة والأبوة ، وهو حب يقتضيه التناصر والتعاون فى الكفاح فى الحياة ، والبيوت التي سلمت فطرة أهلها وكرمت أخلاقهم يحبون إخوتهم كأنفسهم وأولادهم ، ويوقّرون كبيرهم ، ويرحمون صغيرهم ، ويكفلون من يتركه أبوه صغيرا فيتربى مع أولادهم كأحدهم.
(د) حب الزوجة وبالزوجية يتحد بشران يتمم وجود كل منهما وجود الآخر(10/82)
ج 10 ، ص : 83
وينتجان بشرا مثلهما ، ومن ثم امتن اللّه علينا به فقال : « وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » .
(ه) حب العشيرة ، وهو حب عصبية وتعاون وولاية ونصر فى مواطن القتال والنزال والذّود عن الحمى والحريم ، وهو يكون على أشده فى أهل البداوة ومن على مقربة منهم من أهل الحضر.
(و) حب الأموال المقترفة : أي المكتسبة ، وهو أقوى من حب الأموال الموروثة ، لأن عناء النفس فى جمعها يجعل لها فى قلبه منزلة لا تكون لما يجىء من المال عفوا.
(ز) حب التجارة التي يخشى كسادها فى حال الحرب ، وقد كان لبعض المسلمين من أهل مكة تجارة يخشون كسادها فى ذلك الحين ، لأن أكثر مستهلكيها كانوا من المشركين ، وكانت أسواقها تنصب فى موسم الحج ، وقد منع منه المشركون بنص الآيات السابقة واللاحقة.
(ح) حب المساكن الطيبة المرضية ، وقد كان لبعض المسلمين دور حسنة فى مكة كانوا يتمتعون فيها بالإقامة والسكنى لما فيها من المرافق وأسباب الراحة.
فهذه الثمانية الأنواع من الحب تجعل القتال مكروها مبغوضا لدى النفوس فوق ماله من بغض بمقتضى ذاته كما قال تعالى : « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ » .
أما حبه تعالى فيجب أن يكون فوق هذه الأنواع لفضله وإحسانه بالإيجاد والإعدام وتسخير منافع الدنيا للناس ، وهو يتفاوت بتفاوت معارف الإنسان فى آلاء اللّه فى خلقه وإدراك ما فيها من الإبداع والإتقان : « قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ » .(10/83)
ج 10 ، ص : 84
وكذلك حب رسوله يجب أن يكون فوق هذه أيضا ، فإنه صلى اللّه عليه وسلم كان المثل الأعلى فى أخلاقه وآدابه ، وقد أرسله اللّه هداية للعالمين إلى يوم الدين.
(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي الخارجين من حدود الدين والشريعة ومن سلامة الفطرة إلى فساد الطباع ، ومن نور العقل إلى ظلمة الجهل والتقليد.
وقد جرت سنته تعالى أن يكون الفاسقون محرومين من الهداية الفطرية التي يهتدى إلى معرفتها الإنسان بالعقل السليم والوجدان الصحيح ، ومن ثم فهم يؤثرون حب القرابة والمنفعة الطارئة كالمال والتجارة على حب اللّه ورسوله والجهاد فى سبيله.
هذا وقد جاءت أحاديث كثيرة فى فضل حب اللّه ورسوله ، منها ما
رواه الشيخان من حديث أنس مرفوعا « ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا للّه ، وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يقذف فى النار »
وعنه أيضا « لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين »
وما
رواه البخاري عن عبد اللّه بن هشام قال : « كنا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر :
لأنت أحبّ إلىّ من كل شىء إلا نفسى التي بين جنبىّ ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم :
لا والذي نفسى بيده حتى أكون أحبّ إليك من نفسك التي بين جنبيك. فقال عمر :
فإنه الآن ، واللّه لأنت أحب إلىّ من نفسى ، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم :
الآن يا عمر » .
والوسيلة إلى هذه المعرفة والحب كثرة الذكر والفكر وتدبر القرآن والتزام أحكام الشرع.
والذكر الحق هو ذكر القلب مع حسن النية وصحة القصد وتأمل سنن اللّه وآياته فى الخلق وأن تذكر حين رؤية كل شىء من صنع اللّه ، وسماع كل صوت من مخلوقات اللّه ، أنه يسبح بحمده تعالى ويدل على قدرته وحكمته ورحمته.(10/84)
ج 10 ، ص : 85
ومن أقام فرائض اللّه كما أمر ، وترك معاصيه كما نهى ، فإنه يصل بفضل اللّه إلى المقام الذي أشار إليه
فى الحديث القدسي « وما تقرب إلىّ عبدى بشىء أحبّ إلى مما افترضته عليه ، ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشى بها » رواه البخاري.
[سورة التوبة (9) : الآيات 25 الى 27]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
تفسير المفردات
المواطن : واحدها موطن ، وهو مقر الإنسان ومحل إقامته كالوطن والمراد بالموطن هنا مشاهد الحرب ومواقعها ، وحنين : واد على ثلاثة أميال من الطائف ، وغزوته تسمى غزوة أوطاس وغزوة هوازن ، والإغناء : إعطاء ما يدفع الحاجة ، والرّحب : السعة ، ومدبرين : أي هاربين لا تلوون على شىء ، والسكينة : الهيئة النفسية التي تحصل من سكون النفس واطمئنانها ، وهى ضد الانزعاج ، وقد تطلق على الرزانة والوقار.
المعنى الجملي
جاءت هذه الآيات لإقامة الحجة على صدق ما قبلها من النهى والوعيد وأن الخير ولمصلحة للمؤمنين فى ترك ولاية أولى القربى من الكافرين ، وفى إيثار حب اللّه(10/85)
ج 10 ، ص : 86
ورسوله والجهاد فى سبيله على حب أولى القربى والعشيرة والمال والسكن ونحوها مما يحب - إذ أبان فيها أن نصر اللّه للمؤمنين فى المواطن الكثيرة لم يكن بقوة العصبية ولا بقوة المال ولا بما يشترى به من الزاد والعتاد ، بل كان بفضل اللّه عليهم بهذا الرسول الذي جاءهم بذلك الدين القويم ، وأن هزيمتهم وتوليهم يوم حنين كان ابتلاء لهم على عجبهم بكثرتهم ورضاهم عنها ، ونصرهم من بعد ذلك كان بعناية خاصة من لدنه ، ليتذكروا أن عنايته تعالى للمؤمنين بالقوة المعنوية لا بالكثرة العددية وما يتعلق بها.
الإيضاح
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) أي لقد نصركم اللّه أيها المؤمنون فى أماكن حرب توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم ، ومشاهد تلتقون فيها أنتم وهم فى صعيد واحد للطعان والنزال إحقاقا للحق وإظهارا لدينه.
روى أبو يعلى عن جابر أن عدد غزواته صلى اللّه عليه وسلم إحدى وعشرون ، قاتل بنفسه فى ثمان : بدر وأحد والأحزاب والمصطلق وخيبر ومكة وحنين والطائف.
وبعوثه وسراياه ست وثلاثون ، واختار جمع من العلماء أن المغازي والسرايا كلها ثمانون ولم يقع فى بعضها قتال ، ونصرهم فى كل قتال ، إما نصرا كاملا وهو الأكثر وإما نصرا مشوبا بشىء من التربية على ذنوب اقترفوها كما فى أحد ، إذ نصرهم أولا ثم أظهر عليهم العدو لمخالفتهم أمر القائد الأعظم فى أهم أوامر الحرب وهو حماية الرماة لظهورهم ، وكما فى حنين من الهزيمة فى أثناء المعركة والنصر التام فى آخرها.
(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) أي ونصركم أيضا فى يوم حنين وهو اليوم الذي أعجبتكم فيه كثرتكم إذ كنتم اثنى عشر ألفا وكان الكافرون أربعة آلاف فقط ، فقال قائل منكم :
لن نغلب اليوم من قلة ، فشق ذلك على النبي صلى اللّه عليه وسلم فكانت الهزيمة :
أي فكانت الهزيمة عقوبة على هذا الغرور والعجب وتربية للمؤمنين حتى لا يغتروا بالكثرة(10/86)
ج 10 ، ص : 87
مرة أخرى ، فإنها ليست إلا أحد الأسباب المادية الكثيرة المؤدية للنصر.
ومعنى قوله : فلم تغن عنكم شيئا إلخ - أن تلك الكثرة التي غرتكم لم تكن بكافية لانتصاركم ولم تدفع عنكم شيئا من عار الغلب والهزيمة ، وضاقت عليكم الأرض على رحبها وسعتها ، فلم تجدوا وسيلة للنجاة إلا الهرب والفرار من العدو فولّيتموه ظهوركم منهزمين لا تلوون على شىء.
(ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) أي ثم أفرغ اللّه سكينة من لدنه على رسوله (بعد أن عرض له الأسف والحزن على أصحابه حين وقوع الهزيمة لهم) فما ازداد إلا ثباتا وشجاعة وإقداما - وعلى المؤمنين الذين ثبتوا معه وأحاطوا ببغلته الشهباء - وعلى سائر المؤمنين الصادقين فأذهب روعهم وأزال حيرتهم وأعاد إليهم ما كان قد زلزل من ثباتهم وشجاعتهم ، وخصوصا حين سمعوا نداءه ونداء عمه العباس إذ دعاهم بأمره - وأنزل مع هذه السكينة جنودا من الملائكة لم تروها بأبصاركم ، بل وجدتم أثرها فى قلوبكم بما عاد إليها من رباطة الجأش وشدة البأس - وعذب الذين كفروا بالقتل والسبي والأسر ، وذلك هو جزاء الكافرين فى الدنيا ما داموا يستحبون الكفر على الإيمان ويعادون أهله ويقاتلونهم عليه.
ونحو الآية قوله : « قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ » (ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ثم يتوب اللّه بعد هذا التعذيب الذي يكون فى الدنيا على من يشاء من الكافرين فيهديهم إلى الإسلام إذا لم تحط بهم خطيئات الشرك وخرافاته ، ولم يختم على قلوبهم بالإصرار على الجحود والتكذيب ، وهو غفور لهم يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي ، رحيم بهم يتفضل عليهم ويثيبهم بالأجر والجزاء.(10/87)
ج 10 ، ص : 88
وفد هوازن وإسلامهم وغنائهم
روى البخاري عن المسور بن مخرمة « أن ناسا منهم جاءوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وقالوا : يا رسول اللّه أنت خير الناس وأبرّ الناس وقد سبى أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا ، (وقد سبى يومئذ ستة آلاف وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى) فقال عليه الصلاة والسلام : إن عندى من ترون ، إنّ خير القول أصدقه ، اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم ، قالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئا ، فقام النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : هؤلاء جاءونا مسلمين ، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال ، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا ، فمن كان بيده شىء وطابت به نفسه أن يرده فشأنه ، ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه ، قالوا رضينا وسلّمنا ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : إنا لا ندرى لعل فيكم من لا يرضى ، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا ، فرفعت إليه العرفاء أنهم قد رضوا » . [سورة التوبة (9) : آية 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
تفسير المفردات
النجس : من نجس الشيء إذا كان قذرا غير نظيف والاسم النجاسة ، وقال الراغب :
النجاسة : القذارة ، وهى ضربان : ضرب يدرك بالحاسة ، وضرب يدرك بالبصيرة ، وهذا ما وصف اللّه به المشركين فقال إنما المشركون نجس ، ويقال نجّسه ، إذا جعله نجسا ، ونجّسه : أزال نجسه ومنه تنجيس العرب ، وهو شىء كانوا يفعلونه من تعليق عوذة على الصبى ليدفعوا عنه نجاسة الشيطان ، والناجس والنجيس : داء خبيث لا دواء له اه.(10/88)
ج 10 ، ص : 89
والعيلة : الفقر ، يقال عال الرجل يعيل عيلا وعيلة إذا افتقر فهو عائل ، وأعال :
كثر عياله ، وهو يعول عيالا كثيرين : أي يمونهم ويكفيهم أمر معاشهم ، والفضل :
العطاء والتفضل.
المعنى الجملي
لما أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم أبا بكر حين أمّره على الحج سنة تسع من الهجرة أن يبلّغ الناس أنه لا يحج بعد هذا العام مشرك ، ثم أمر عليا أن يتبع أبا بكر فيقرأ على الناس أول سورة براءة يوم الحج الأكبر وينبذ إليهم عهدهم ، وأن اللّه برىء من المشركين ورسوله - قال ناس يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدة لا نقطاع السبل وفقد الحمولات ، فنزلت هذه الآية لدفع تلك الشبهة فقال سبحانه « وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ » .
قال ابن عباس : كان المشركون يجيئون إلى البيت ويجيئون معهم بالطعام يتّجرون فيه ، فلما نهوا أن يأتوا البيت قال المسلمون : فمن أين لنا الطعام ؟ فأنزل اللّه « وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً » الآية. قال فأنزل اللّه عليهم المطر وكثر خيرهم حين ذهب المشركون عنهم ، وأسلم أهل اليمن وجاءهم الناس من كل فجّ.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) أي إن المشركين أنجاس فاسدو الاعتقاد يشركون باللّه ما لا يضر ولا ينفع ، فيعبدون الرجس من الأوثان والأصنام ، ويدينون بالخرافات والأوهام ، ويأكلون الميتة والدم وهى أقذار حسية ويستحلون القمار والزنا ويستبيحون الأشهر الحرم وهى أرجاس معنوية - من أجل هذا لا تمكنوهم بعد هذا العام أن يدخلوا المسجد الحرام بدخول أرض الحرم ، فضلا عن دخول البيت نفسه وطوافهم فيه عراة يشركون بربهم فى التلبية ، وإذا صلوا لم تكن صلاتهم إلا مكاء وتصدية.(10/89)
ج 10 ، ص : 90
وبلاد الإسلام فى حق الكفار أقسام ثلاثة :
(1) الحرم ، ولا يجوز لكافر أن يدخله بحال لظاهر الآية ، وبذلك قال الشافعي وأحمد ومالك ، فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام فى الحرم لا يأذن له فى دخوله بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم ، وأبو حنيفة - يجيز للمعاهد دخول الحرم بإذن الخليفة أو نائبه.
(2) الحجاز ، وهو ما بين عدن إلى ريف العراق فى الطول ، ومن جدّة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضا ، ويجوز للكافر دخولها بالإذن.
ولكن لا يقيمون فيها أكثر من ثلاثة أيام.
روى مسلم عن ابن عمر أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول « لاخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلما »
وفى رواية لمسلم ، وأوصى فقال : « أخرجوا المشركين من جزيرة العرب » فلم يتفرغ لذلك أبو بكر وأجلاهم عمر فى خلافته ،
وأخرج مالك فى الموطأ « لا يجتمع دينان فى جزيرة العرب » .
وعن جابر قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون فى جزيرة العرب ، ولكن فى التحريش بينهم » .
(3) سائر بلاد الإسلام ، ويجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان ، ولكن لا يدخل المساجد إلا بإذن مسلم.
(وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) أي وإن خفتم فقرا بسبب قلة جلب الأقوات ، وضروب التجارات التي كان يجلبها المشركون من أرباب المزارع فى الشعاب والوديان من البلاد ذات البساتين والمزارع كالطائف وأرباب المتاجر - فسوف يغنيكم اللّه من فضله ، وفضله كثير ، فقد صاروا بعد الإسلام ومنع المشركين من الحرم أغنى مما كانوا قبل ذلك ، فقد تعددت وسائل الغنى فيما بعد ، وصدق اللّه وعده فأسلم أهل اليمن وصاروا يجلبون لهم الطعام ، وأسلم أولئك المشركون ولم يبق أحد منهم يمنع من الحرم ، ثم جاءتهم الثروة من كل جانب بما فتح اللّه عليهم من البلاد(10/90)
ج 10 ، ص : 91
فكثرت الغنائم وتوجه إليهم الناس من كل فج ، ومهد اللّه لهم سبل الرزق من إمارة وتجارة وزراعة وصناعة ، وكان نصيب مكة من ذلك عظيما بكثرة الحاج وأمن طرق التجارة.
وقيد هذا الغنى بمشيئته التي لا يشك مؤمن فى حصول ما تتعلق به ، لتقوية إيمانهم بربهم واتكالهم عليه دون كسبهم وحده وإن كانوا مأمورين به ، لأنه من سننه فى خلقه ، ولكن لا يجوز أن ينسوا توفيقه وتأييده لهم فهو الذي نصرهم وأغناهم وسيزيدهم نصرا وغنى.
(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي إنه عليم بما يكون من مستقبل أمركم فى الغنى والفقر ، حكيم فيما يشرعه لكم من أمر ونهى كأمركم بقتال المشركين بعد انقضاء عهودهم ، ونهيكم عن قرب المشركين للمسجد الحرام بعد هذا العام ، ونهيكم عن اتخاذ آبائكم وإخوانكم منهم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان.
[سورة التوبة (9) : آية 29]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29)
تفسير المفردات
يقال : فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينا وعقيدة ، ودين الحق : هو الدين الذي أنزله اللّه على أنبيائه ، والجزية ضرب من الخراج يضرب على الأشخاص لا على الأرض ، وجمعها جزى (بالكسر) واليد : السعة والقدرة ، والصّغار والصغر : ضد الكبر ويكون فى الأمور الحسية والمعنوية ، وللمراد به هنا الخضوع لأحكام الإسلام وسيادته التي بها تصغر أنفسهم لديهم بفقد الملك وعجزهم عن مقاومة الحكم.(10/91)
ج 10 ، ص : 92
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أحكام المشركين فى إظهار البراءة من عهودهم ، وفى إظهار البراءة منهم فى أنفسهم ، وفى وجوب مقاتلتهم وإبعادهم عن المسجد الحرام - قفّى على ذلك بحكم قتال أهل الكتاب وبيان الغاية منه ، وفى ذلك توطئة للكلام فى غزوة تبوك مع الروم من أهل الكتاب والخروج إليها فى زمن العسرة والقيظ ، وما يتعلق بها من فضيحة المنافقين وهتك حجب كفرهم وتمحيص المؤمنين ، وإن كان النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يقاتل فيها الروم لما سيأتى بعد.
روى ابن المنذر عن ابن شهاب قال : أنزلت فى كفار قريش والعرب (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) ونزلت فى أهل الكتاب (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ - إلى قوله - حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) فكان أول من أعطى الجزية أهل نجران قبل وفاته عليه الصلاة والسلام.
روى ابن أبى شيبة وأبو الشيخ عن الحسن قال : « قاتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل هذه الجزيرة من العرب على الإسلام لم يقبل منهم غيره ، وكان أفضل الجهاد ، وكان بعده جهاد على هذه الآية فى شأن أهل الكتاب (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) الآية ، وعلى الجملة فالقتال الواجب فى الإسلام إنما شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها ، ومن ثم اشترط أن تقدم عليه الدعوة إلى الإسلام.
والناظر إلى غزواته صلى اللّه عليه وسلم يرى أنها كلها كانت دفاعا عن الدعوة ، وكذلك كانت حروب الصحابة فى الصدر الأول ، ثم كان القتال بعد ذلك ضرورة من ضرورات الملك والدولة ، ومع ذلك فقد كان الإسلام فيها مثال الرأفة والرحمة والعدل(10/92)
ج 10 ، ص : 93
الإيضاح
(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي قاتلوا أهل الكتاب ، إذ هم جمعو أربع صفات هى العلة فى عداوتهم للاسلام ، ووجوب خضوعهم لحكمه ما داموا فى داره إذ لو أجيز لهم حمل السلاح لأفضى ذلك إلى قتال المسلمين فى دارهم ومساعدة من يهاجمهم فيها كما فعل يهود المدينة وما حولها بعد تأمين النبي صلى اللّه عليه وسلم لهم ، وجعلهم حلفاء له ، وأجاز لهم الحكم فيها بينهم بشرعهم ، وسمح لهم بالعبادة على النحو الذي يريدون ، وكذلك فعل مع نصارى الروم فى حدود البلاد العربية.
وهذه الأمور الأربعة التي أسند إليهم تركها هى أصول كل دين إلهى ، ومن ثم أمر بقتال الذين لا يقيمونها وهى :
(1) إنهم لا يؤمنون باللّه ، وقد شهد القرآن بأن اليهود والنصارى فقدوه بهدم أساسه وهو التوحيد ، إذ هم قد اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه ، يشرّعون لهم العبادات ويحرمون ويحللون فيتبعونهم ، وبذا أشركوهم فى الربوبية ، ومنهم من أشرك به فى الألوهية كالذين قالوا عزير ابن اللّه ، والذين قالوا : المسيح ابن اللّه ، أو هو اللّه.
(2) إنهم لا يؤمنون باليوم الآخر ، إذ هم يقولون إن حياة الآخرة حياة روحانية محضة يكون فيها الناس كالملائكة ، لكنا نؤمن بأن الإنسان لا تنقلب حقيقته ، بل يبقى مؤلفا من جسد وروح ، ويتمتع بنعيم الأرواح والأجساد.
ولا يوجد فيما بين أيدى اليهود والنصارى من التوراة نصوص صريحة فى البعث والجزاء بعد الموت ، بل فيها إشارات غير صريحة فى ذلك.
(3) إنهم لا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله ، فاليهود لا يحرمون ما حرم فى شرعهم(10/93)
ج 10 ، ص : 94
الذي جاء به موسى ونسخ بعضه عيسى ، ولا يلتزمون العمل بما حرّم ، فقد استحلوا أكل أموال الناس بالباطل كالربا وغيره ، واتبعوا عادات المشركين فى القتال والنفي ومفاداة الأسرى ، والنصارى استباحوا ما حرّم عليهم فى التوراة مما لم ينسخه الإنجيل ، فأباحوا جميع محرمات الطعام والشراب إلا ما ذبح للأصنام ، فقد ثبت فى كتبهم أن اللّه حرم عليهم الشحوم فأذابوها وباعوها وأكلوا أثمانها ، وحرّم عليهم أشياء كثيرة فأحلوها.
(3) إنهم لا يدينون دين الحق ، إذ أن ما يتقلدونه إنما هو دين تقليدى وضعه لهم أساقفتهم وأحبارهم بآرائهم الاجتهادية وأهوائهم المذهبية ، لا دين الحق الذي أو حاه اللّه إلى عيسى وموسى عليهما السلام.
فاليهود لم يحفظوا ما استحفظوا من التوراة التي كتبها موسى وكان يحكم بها هو والنبيون من بعده ، إلى أن عاقبهم اللّه بتسليط البابليين عليهم فجاسوا خلال الديار وأحرقوا الهيكل وما فيه من الأسفار وسبوا بقية السيف منهم وأجلوهم عن وطنهم إلى أرض من استعبدهم فدانوا لشريعة غير شريعتهم.
ولما أعادوهم إلى أوطانهم وكانوا قد فقدوا نصوص التوراة وحفظوا بعضها دون بعض - كتبوا ما حفظوا من شريعة الرب ممزوجا بما دانوا به من شريعة ملك بابل كما أمرهم كاهنهم عزرا (عزير) ثم هم بعد ذلك حرّفوا وبدلوا ولم يقيموها كما أمروا ، والنصارى لم يحفظوا كل ما بلّغهم عيسى عليه السلام من العقائد والوصايا والأحكام القليلة الناسخة لبعض أحكام التوراة الشديدة ، وذلك هو دين اللّه الحق.
وكتب كثير منهم تواريخ أودعوا فيها ما عرفوه من ذلك ومن غيره ، وجاءت المجامع الرسمية بعد ثلاثة قرون فاعتمدت أربعة أناجيل من نحو نيّف وسبعين إنجيلا رفضتها وجعلتها غير قانونية.
وإلى ما تقدم فى أهل الملتين الإشارة بقوله : « فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ،(10/94)
ج 10 ، ص : 95
وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ »
.
من هذا النص يعلم أن كلا من اليهود والنصارى نسى حظا مما ذكرهم به نبيهم ، ولم يعملوا بالبعض الآخر ، فأكثر عباداتهم من وضع أحبارهم.
ولقب - أهل الكتاب - والذين أوتوا الكتاب - وإن كان عاما - خص به اليهود والنصارى ، لأنهم هم الذين كانوا مخالطين ومجاورين للأمة العربية ومعروفين لديها كما قال تعالى مخاطبا مشركى العرب « أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ » .
(حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) أي قاتلوا من ذكروا حين وجود ما يقتضى القتال كالاعتداء عليكم أو على بلادكم أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم أو تهديد منكم وسلامتكم كما فعل بكم الروم وكان ذلك سببا لغزوة تبوك - إلى أن تأمنوا عدوانهم بإعطائكم الجزية بشرط أن تكون صادرة عن يد أي من قدرة واسعة فلا يظلموا ولا يرهقوا ، وأن يخضعوا لسيادتكم وحكمكم ، وبذا يسهل السبيل لاهتدائهم إلى الإسلام بما يشاهدون من عدلكم وفضائلكم التي يرونها رأى العين.
فإن أسلموا عمّ الهدى والعدل ، وإن لم يسلموا وأعطوا الجزية وجب تأمينهم وحمايتهم والدفاع عنهم وإعطاؤهم حريتهم فى دينهم ومعاملتهم بالعدل والمساواة كالمسلمين « لهم ما لنا وعليهم ما علينا » .
ويحرم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم ما لا يطيقون ، ويسمّون حينئذ أهل الذمة ، إذ كل هذه الحقوق تكون لهم بمقتضى ذمة اللّه وذمة رسوله.(10/95)
ج 10 ، ص : 96
أما الذين يعقد بيننا وبينهم صلح بعهد وميثاق يعترف به الطرفان فيسمّون المعاهدين أو أهل العهد.
وأول من سن الجزية كسرى أنو شروان ، قال أبو حنيفة الدّينورى : إنه وظّف الجزية على أربع طبقات ، وأسقطها عن أهل البيوتات والمرازبة والأساورة والكتاب ومن كان فى خدمة الملك ، ولم يلزم أحدا لم تأت له عشرون سنة أو جاوز الخمسين.
وقد اقتدى به عمر بن الخطاب حين افتتح بلاد الفرس ولم يكن هو بأول واضع لها.
وهاك عهدا كتبه أحد قواد عمر بن الخطاب لرزبان وأهل دهستان :
« هذا كتاب من سويد بن مقرّن لرزبان صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان ، إن لكم الذمة وعلينا المنعة. على أن عليكم من الجزاء فى كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم ، ومن استعنّا به منكم فله جزاؤه فى معونته عوضا عن جزائه ، ولكم الأمان على أنفسكم وأموالكم ومللكم وشرائعكم ولا يغيّر شىء من ذلك.
شهد بذلك سواد بن قطبة وهند بن عمر وسماك بن مخرمة وعتيبة بن النهاس » .
وكتب عتبة بن فرقد أحد عمال عمر بن الخطاب قال : « هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين لأهل أذربيجان سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم ، ومن حشر منهم فى سنة (أرسل لميدان القتال) وضع عنه جزاء تلك السنة ، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك » .
والجزية التي وضعها عمر على الفقراء من أهل الذمة اثنا عشر درهما ، وعلى الأوساط أربعة وعشرون ، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعون.(10/96)
ج 10 ، ص : 97
[سورة التوبة (9) : الآيات 30 الى 33]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
تفسير المفردات
عزير : هو الذي يسميه أهل الكتاب عزرا ، وينتهى نسبه إلى العازار بن هارون عليه السلام ، ويضاهئون : أي يشابهون ويحاكون ، وقاتلهم اللّه : جملة أصلها الدعاء ثم كثر استعمالها حتى قيلت على وجه التعجب فى الخير والشر وهم لا يريدون الدعاء ، والإفك : صرف الشيء عن وجهه ، يقال أفك فلان أي صرف عقله عن إدراك الحقائق ، ورجل مأفوك العقل ، والأحبار واحدهم حبر (بالفتح والكسر) وهو العالم من أهل الكتاب ، والرهبان : واحدهم راهب ، وهو لغة الخائف ، وعند النصارى هو المتبتل المنقطع للعبادة ، والإرادة : القصد إلى الشيء ، وقد تطلق على ما يفضى إليه وإن لم يرده فاعله فيقال فى الرجل المسرف المبذّر : يريد أن يخرب بيته أي أن تبذيره يفضى إلى ذلك فكأنه يقصده ، لأن فعله فعل من يقصد ذلك ، ونور اللّه : هو دين الإسلام ، وأظهره على الشيء : جعله فوقه مستعليا عليه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فى الآيات السالفة أنهم لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر على الوجه الصحيح - قفّى على ذلك بشرح ذلك المجمل فى هذه الآيات ، فنقل عنهم أنهم أثبتوا(10/97)
ج 10 ، ص : 98
للّه ابنا ، وهذا بمنزلة الشرك باللّه فإن طرق الشرك مختلفة ، وأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا يحرّمون ويحللون ، وأنهم يسعون فى إبطال الإسلام وإخفاء الدلائل الدالة على صدق رسوله وصحة دينه.
الإيضاح
(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ) عزير كاهن يهودى وكاتب شهير سكن بابل حوالى سنة 457 ق م أسس المجمع الكبير وجمع أسفار الكتاب المقدس وأدخل الأحرف الكلدانية عوضا من العبرانية القديمة ، وألف أسفار الأيام ، وعزرا ، ونحميا وعلى الجملة فعصره هو ربيع الدين اليهودي ، وهو جدير أن يكون ناشر الشريعة اليهودية ، فقد أحياها بعد أن نسيت ، ومن أجل هذا فاليهود يقدّسونه حتى إن بعض يهود المدينة أطلق عليه لقب (ابن اللّه).
وإسناد هذا القول إليهم جملة وإن كان قد صدر من بعضهم - مبنى على أن الأمة تعدّ متكافلة فى شئونها العامة ، فما يفعله بعض الفرق أو الجماعات يكون له تأثير فى جملتها ، والمنكر الذي يفعله بعضهم إذا لم ينكره عليه جمهورهم ويزيلوه يؤاخذون به كلهم كما قال تعالى : « وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً » .
وما مثل ذلك إلا مثل الأوبئة التي تحدث فى الشعب بكثرة الأقذار وإهمال مراعاة القواعد الصحية - لا يعدى بها من تلبس بها فحسب ، بل تنتشر العدوى فى الشّعب جميعه.
روى ابن إسحاق وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضى اللّه عنه قال : أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس ابن قيس ومالك بن الصيف فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن اللّه ؟
والمشهور عند المؤرخين حتى مؤرخى أهل الكتاب أن التوراة التي كتبها(10/98)
ج 10 ، ص : 99
موسى عليه السلام ووضعها فى تابوت العهد أو بجانبه قد فقدت قبل عهد سليمان عليه السلام ، فانه لما فتح التابوت فى عهده لم يوجد فيه غير اللوحين الذين كتبت فيهما الوصايا العشر كما جاء فى سفر الملوك الأول ، وأن عزرا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد السبي بالحروف الكلدانية ممزوجة ببقايا اللغة العبرانية التي نسى اليهود معظمها ، ويقول أهل الكتاب إن عزرا كتبها كما كانت بوحي أو بإلهام من اللّه.
وخلاصة ما سلف - إن جميع أهل الكتاب يدينون لعزير فى مستند دينهم وأصل كتبهم المقدسة عندهم ، وإن كان هذا المستند ضعيفا ، فقد جاء فى ترجمة عزرا من دائرة المعارف البريطانية : إنه لم يعد إليهم الشريعة التي أحرقت فحسب ، بل أعاد جميع الأسفار العبرية التي كانت أتلفت وأعاد سبعين سفرا غير قانونية (أبو كريف) ثم قال كاتب الترجمة : وإذا كانت هذه الأسطورة الخاصة بعزرا هذا قد كتبها من كتبها من المؤرخين بأقلامهم من تلقاء أنفسهم ولم يستندوا فى شىء منها إلى كتاب آخر ، فكتّاب هذا العصر يرون أن أسطورة عزرا قد اختلقها أولئك الرواة اختلاقا اه. (وقالت النصارى المسيح ابن اللّه) وهذا قول للقدماء منهم كانوا يريدون به المحبوب أو المكرّم ، ثم سرت إليهم وثنية الهنود فاتفقت كلمتهم على أنه ابن اللّه حقيقة وعلى أن ابن اللّه بمعنى (اللّه) وبمعنى (روح القدس) إذ هذه الثلاثة عندهم واحد حقيقة ، وهذا تعليم الكنائس الذي قررته المجامع الرسمية بعد المسيح وتلاميذه بثلاثة قرون - وقد خالف فى ذلك خلق كثير منهم يسمّون الموحدين أو العقليين ، ولكن الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستنتية لا تعتدّ بنصرانيتهم ولا بدينهم.
وكلمة (ثالوث) تطلق عندهم على وجود أقانيم ثلاثة معا فى اللاهوت تعرف بالأب والابن والروح القدس ، وهذا هو تعليم الكنيسة الكاثوليكية والشرقية والبروتستانتية وهو المطابق لنصوص الكتاب المقدس.(10/99)
ج 10 ، ص : 100
وعقيدة التثليث وألوهية المسيح مع مخالفتهما للعقل ليس لهما أصل فى كتب الأنبياء لا قطعى ولا ظنى ، وكتب العهد الجديد كذلك ليست نصا فيهما على أن هذه لا يوثق بها ، فإن النصارى قد أضاعوا أكثر ما كتب من إنجيل المسيح فى عصره ، ثم رفضت مجامعهم الرسمية بعد دخول التعاليم الوثنية فيهم من قبل الرومانيين أكثر ما وجد عندهم من الأناجيل التي كانت تعد بالعشرات واعتمدت أربعا منها فحسب ، وهذا مصداق قوله تعالى « وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ » .
(ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) أي هذا الذي قالوه فى عزير والمسيح قول تلوكه الألسنة فى الأفواه ، لا يؤيده برهان ولا يتجاوز حركة اللسان ، بل البرهان دالّ على عكسه لاستحالة إثبات الولد لمن هو برىء عن الحاجة واتخاذ الصاحبة.
وفى معنى الآية قوله : « وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ، إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً » .
(يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي يشابهون فيها قول الذين كفروا من قبلهم وهم مشركو العرب الذين قالوا مثل هذا القول ، إذ قالوا : الملائكة بنات اللّه.
وقد علم من تاريخ قدماء الوثنيين فى الشرق والغرب أن عقيدة الابن للّه والحلول والتثليث كانت معروفة عند البراهمة والبوذيين فى الهند والصين واليابان وقدماء الفرس والمصريين واليونان والرومانيين ، فبيان القرآن الكريم لهذه الحقيقة التي لم يكن أحد من العرب ولا ممن حولهم يعرفها - بل لم تظهر إلا فى هذا الزمان - معجزة من معجزاته الكثيرة التي تظهر على مر الزمان ، وتصدّقها المشاهدة والعيان.
(قاتَلَهُمُ اللَّهُ) تعجب من شناعة قولهم ، وقد شاع استعمالها فى ذلك ، وتستعمل فى المدح أيضا فيقال : قاتله اللّه ما أفصحه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أن المراد لعنهم اللّه.
(أَنَّى يُؤْفَكُونَ ؟ ) أي كيف يصرفون توحيد اللّه وتنزيهه ، وبه تجزم(10/100)
ج 10 ، ص : 101
العقول ، وبلّغه عن اللّه كل رسول - إلى قول لا يقبله عقل ، فما المسيح وعزير إلا مخلوقان من مخلوقات اللّه الذي خلق هذا الكون العظيم ودبّر أمره ، ولا ينبغى لواحد من هذه المخلوقات أن يجعل لخالقه ومدبر شئونه ولدا من جنسه ، مع علمه بأنه كان يأكل ويشرب ويتعب ويتألم « وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ » .
ثم فصل قوله قبل يضاهئون قول الذين كفروا من قبل بقوله :
(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) أي اتخذ كل من اليهود والنصارى رؤساء الدين فيهم أربابا ، فاليهود اتخذوا أحبارهم وهم علماء الدين أربابا بما أعطوهم من حق التشريع فيهم وإطاعتهم فيه ، والنصارى اتخذوا قساوستهم ورهبانهم : أي عبادّهم الذين يخضع لهم العوام أربابا كذلك.
والرهبان عند النصارى أدنى طبقات رجال الدين ، فاتخاذهم أربابا يقتضى بالأولى أن يتخذوا من فوقهم من الأساقفة والمطارنة والبطاركة ، إذ الرهبان يخضعون لتشريع هؤلاء الرؤساء مدونا كان أو غير مدون ، والعوام يخضعون لتشريع الرهبان ولو غير مدون ، سواء قالوه تبعا لمن فوقهم أو من تلقاء أنفسهم لثقتهم بدينهم.
وانفرد النصارى باتخاذهم المسيح ربا وإلها يعبدونه ، ومنهم من يعبد أمه عبادة حقيقية ويصرحون بذلك ، وجميع الكاثوليك والأرثوذكس يعبدون تلاميذه ورسله وغيرهم من القديسين فى عرفهم ، ويتوسلون بهم ، ويتخذون لهم الصور والتماثيل فى كنائسهم ، ولكنهم لا يسمون هذا عبادة.
واليهود لم يقتصروا فى دينهم على أحكام التوراة ، بل أضافوا إليها من الشرائع ما سمعوه من رؤسائهم من قبل أن يدوّنوه فى المشنة والتّلمود ، ثم دونوه فكان هو الشرع العام وعليه العمل عندهم.
والنصارى غيّر رؤساؤهم جميع أحكام التوراة الدينية والدنيوية واستبدلوا بها شرائع أخرى فى العبادات والمعاملات جميعا ، وزادوا حق مغفرة الذنوب لمن شاءوا(10/101)
ج 10 ، ص : 102
وحرمان من شاءوا من رحمة اللّه وملكوته ، واللّه يقول : « وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ؟ » وزادوا القول بعصمة البابا في تفسير الكتب الإلهية ، ووجوب طاعته فى كل ما يأمر به من الطاعات ، وينهى عنه من المحرمات.
روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير عن عدىّ بن حاتم رضى اللّه عنه أنه لما بلغته دعوة الرسول صلى اللّه عليه وسلم فرّ إلى الشام وكان قد تنصر فى الجاهلية ، فأسرت أخته وجماعة من قومه ثم منّ رسول اللّه عليها وأعطاها فرجعت إلى أخيها ورغبته فى الإسلام وفى القدوم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقدم عدى المدينة وكان رئيسا فى قومه طىء (وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم) فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يقرأ (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه) قال فقلت : إنهم لم يعبدوهم فقال : (بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلّوا الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم).
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا عدىّ ما تقول ؟ أ يضرك أن يقال اللّه أكبر ؟
فهل تعلم شيئا أكبر من اللّه ما يضرك ؟ أ يضرك أن يقال لا إله إلا اللّه ، فهل تعلم إلها غير اللّه ؟
ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق قال فلقد رأيت وجهه استبشر ، ثم قال :
إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون.
(وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) أي اتخذوا رؤساءهم أربابا من دون اللّه ، والربوبية تستلزم الألوهية ، إذ الرب هو الذي يجب أن يعبد وحده ، والحال أنهم ما أمروا على لسان موسى وعيسى ومن اتبعهما فيما جاءا به من عند اللّه ، إلا أن يعبدوا ويطيعوا فى الدين إلها واحدا بما شرعه لهم وهو ربهم ورب كل شىء ومليكه.
ثم علل الأمر بعبادة إله واحد فقال :
(لا إله إلا هو) أي لا إله غيره فى حكم الشرع وفى نظر العقل ، وإنما اتخذ المشركون آلهة من دونه بالرأى والهوى جهلا بصفات الألوهية ، إذ ظنوا أن لبعض(10/102)
ج 10 ، ص : 103
المخلوقات سلطانا غيبيا وقدرة على الضر والنفع من غير طريق الأسباب للمسخرة للخلق مثل ماللّه إما بالذات وإما بالوساطة والشفاعة لديه.
(سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزيها له عن شركهم فى ألوهيته بدعاء غيره معه أو من دونه ، وفى ربوبيته بطاعة الرؤساء فى التشريع الديني بدون إذنه.
وأمره تعالى بعبادته وحده على لسان موسى عليه السلام جاء فى مواضع من التوراة ، منها أول الوصايا العشر التي جاءت فى سفر الخروج (أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية لا يكن لك آلهة أخرى أمامى ، لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورا مما فى السماء من فوق ولا مما فى الأرض من تحت ، ولا مما فى الماء تحت الأرض ، لا تسجد لهن ، ولا تعبدهن ، لأنى أنا الرب إلهك له غيور) إلخ.
وأمره بعبادته على لسان عيسى كثير أيضا ، من ذلك ما رواه يوحنا فى إنجيله (وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته).
(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ) أي يريد اليهود والنصارى أن يطفئوا نور اللّه وهو دين الإسلام الذي أرسل به جميع رسله ، وأفاضه على البشر بما أوحاه على موسى وعيسى وغيرهما من رسله ، وأتمه وأكمله ببعثه خاتم النبيين محمد صلى اللّه عليه وسلم - بالطعن فى الإسلام والصد عنه بالباطل بمثل تلك الأقوال فى عزير والمسيح ، وبما ابتدعه لهم الرؤساء من التشريع حتى صار التوحيد الذي به هو محض الشرك عندهم ، وصار المربوب ربا على تفاوت بين فرقهم فى ذلك.
وهكذا عادى أهل الكتاب الإسلام منذ البعثة المحمدية ، وقصدوا إبطاله والقضاء عليه بالحرب والقتال ناحية ، وبالطعن وإفساد العقائد من ناحية أخرى ، وكل من الأمرين أرادوه لإطفاء نوره.
(وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) ببعثة محمد خاتم النبيين الذي أرسله إلى الخلق أجمعين(10/103)
ج 10 ، ص : 104
وجعل آيته الكبرى وهى القرآن علمية عقلية وكفل حفظها إلى آخر الزمان ، وبين لهم فيه ما يحتاجون إليه من عقائد يؤيدها البرهان ، وتبطل بها عبادة الإنسان للإنسان ، فضلا عن الأصنام الأوثان ، وعبادات تتزكى بها النفس وتطهر من كل رجس ، وتجعل كفاية الأغنياء للفقراء حقوقا إلهية ويبطل ثوابها المنّ والأذى ، وآداب تطبع فى الأنفس الفضائل ، وتشريع يجمع بين الرحمة والعدل والمساواة بين جميع الناس فى الحق.
وخلاصة ما سلف - إنهم يريدون أن يطفئوا نور اللّه الذي شرعه لهداية عباده وركنه الركين ، وأساسه المتين توحيد الربوبية والألوهية ، فتحوّلوا عنه إلى الشرك والوثنية ، واللّه لا يريد إلا أن يتم هذا النور الذي هو كنور القمر فيجعله بدرا كاملا يعم نوره الأرض كلها.
(وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ذلك بعد تمامه كما كانوا يكرهونه من قبل حين بدء ظهوره ، فهم يكيدون له ويفترون عليه ويطعنون فيه ، وفيمن جاء به ويحاولون إخفاءه.
أما اليهود فكانوا فى أول الإسلام أشد الناس عداوة لأهله ، فهم فى ذلك كمشركى العرب سواء.
ولما عجزوا عن إطفاء نوره بمساعدة المشركين على النبي صلى اللّه عليه وسلم قصدوا إطفاء نوره ببثّ البدع فيه وتفريق كلمة أهله كما فعل عبد اللّه بن سبأ من ابتداع التشيّع لعلى كرم اللّه وجهه والغلوّ فى ذلك وإلقاء الشقاق بين المسلمين ، ثم فى الفتنة بين علىّ ومعاوية ، ولو لا ذلك لما قتل أولئك الألوف من صناديد المسلمين ، ثم ما كان من منافقيهم من الإسرائيليات الكاذبة التي لا تزال مبثوثة فى تضاعيف كتب التفسير والحديث والتاريخ.
وأما النصارى فقد كان الحبشة منهم أول من أظهر المودة لهم ، وأكرم النجاشي من لجأ إليه من مهاجريهم ، ومنعهم من تعدى المشركين عليهم ، ثم انقلب الأمر بعد انتشار الإسلام وراء جزيرة العرب ، فتودد اليهود للمسلمين لأنهم أنقذوهم من ظلم النصارى واستعبادهم ، وصار نصارى أوربة المستعمرون للممالك الشرقية هم الذين(10/104)
ج 10 ، ص : 105
يقاتلون المسلمين ويعادونهم دون نصارى هذه البلاد ، لأنهم رأوا من عدل المسلمين ما فضّلوهم به على الروم الذين كانوا يظلمونهم ويحتقرونهم - إلى أن جاءت الحروب الصليبية فغلا نصارى أوربا فى عداوة المسلمين ولا يزال الأمر كذلك فى هذا العصر كما هو العصر كما هو مشاهد معروف.
ثم بين إتمام نوره فقال :
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ) أي إنه تعالى كفل إتمام هذا النور بإرسال رسوله الأكمل بالهدى والدين الحق الذي لا يغيّره دين آخر ولا يبطله شىء آخر.
ثم ذكر الغاية من إرسال محمد خاتم النبيين بدين الحق فقال :
(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي ليعلى هذا الدين ويرفع شأنه على جميع الأديان بالحجة والبرهان ، والهداية والعرفان ، والسيادة والسلطان ، ولم يكن لدين من الأديان مثل ما للإسلام من التأثير الروحي والعقلي والمادي والاجتماعى والسياسى.
روى أحمد عن عدى بن حاتم رضى اللّه عنه قال : « دخلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا عدى أسلم تسلم ، قلت إنى من أهل دين ، قال أنا أعلم بدينك منك ، فقلت أنت أعلم بديني منى ؟ قال نعم. أ لست من الرّكوسية (دين بين الصابئة والنصرانية) وأنت تأكل مرباع قومك (والمرباع ما كان يأخذه رئيس القوم من الغنائم وهو من عادات الجاهلية) قلت بلى (قال فإن هذا لا يحل لك فى دينك) قال فلم يعد أن قالها فتواضعت لها ، قال : أما إنى أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام ؟ تقول إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له وقد رمتهم العرب ، أتعرف الحيرة ؟ قلت لم أرها ولكن سمعت بها. قال فوالذى نفسى بيده ليتمّن اللّه هذا الدين حتى تخرج الظّعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولتفتحنّ كنوز كسرى ابن هرمز. قلت كسرى بن هرمز ؟ قال نعم كسرى بن هرمز ، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد » .(10/105)
ج 10 ، ص : 106
قال عدىّ : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسى بيده لتكونن الثالثة ، لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالها.
(وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ذلك الإظهار ، وقد وصفهم بالشرك بعد أن وصفهم بالكفر للدلالة على أنهم جمعوا بين الكفر بالرسول وتكذيبه ، والشرك باللّه.
وفى الجملتين إخبار بأن إتمام اللّه لدينه وإظهاره جميع الأديان سيكون بالرغم من جميع الكفار المشركين منهم وغير المشركين.
[سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 35]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
تفسير المفردات
أكل الأموال : يراد به أخذها والتصرف فيها بسائر وجوه الانتفاع ، والصد :
المنع ، وسبيل اللّه. هى طريق معرفته الصحيحة وعبادته القويمة ، وأساس ذلك التوحيد والتنزيه ، والكنز هنا : خزن الدنانير والدراهم فى الصناديق ، أو دفنها فى التراب مع الامتناع عن الإنفاق فيما شرعه اللّه من البر والخير ، ويحمى عليها : أي تضرم عليها النار الحامية حتى تصير مثلها.(10/106)
ج 10 ، ص : 107
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه فى الآيات السالفة أن اليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه ، وأنهم ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا فعبدوا غيره من دونه - قفّى على ذلك بذكر سيرة جمهرة هؤلاء الرؤساء الدينيين فى معاملاتهم مع الناس ، ليعرف المسلمون حقيقة أحوالهم والدواعي التي تحملهم على إطفاء نور اللّه ، ببيان أن أكثرهم عباد شهوات وأرباب أهواء وذوو أطماع وحرص على أموال الناس بالباطل ، وأنه ما حملهم على مقاومة الإسلام إلا خوف ضياع تلك اللذات ، وفوات تلك الشهوات.
ثم أوعد الباخلين الذين يكنزون الذهب والفضة فى صناديقهم ولا ينفقونها فى سبل البر والخير - بالعذاب الأليم فى نار جهنم يوم يحمى على تلك الأموال المكنوزة فتصير كالنار التهابا ثم تكوى بها الجباه والجنوب والظهور ويقال لهم : هذا جزاء صنيعكم فى الدنيا ، صنعتموه البائس الفقير لتتمتعوا به فكان جزاؤكم أن صار وبالا عليكم وميسما تكتوون به على جنوبكم وظهوركم فلم تنتفعوا به فى دين ولا دنيا.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي إن كثيرا من الأحبار والرهبان أشربت قلوبهم حبّ المال والجاه ، فمن أجل حب الأول أكلوا أموال الناس بالباطل ، ومن أجل حب الثاني صدوا عن سبيل اللّه ، فإنهم لو أقروا بصدق محمد صلى اللّه عليه وسلم وصحة دينه لزمهم أن يتابعوه فيبطل حكمهم وتزول حرمتهم ، ومن ثم كانوا يبالغون فى المنع من متابعته وصد الناس عنه.
وأكل الأموال بالباطل : أخذها بغير حق شرعى ويقع ذلك على صور مختلفة منها :(10/107)
ج 10 ، ص : 108
(1) أخذها رشوة لأجل الحكم أو المساعدة على إبطال حق أو إحقاق باطل ، ويقوم به صاحب السلطة الدينية أو المدنية ، رسمية كانت أو غير رسمية.
(2) أخذها بالربا وهو فاش عند اليهود ، ومنه ما يحلّه رجال الدين ، وإن كانوا يحرمونه فى الفتوى وكتب التشريع ، وأحبارهم يفتونهم بأكل الربا من غير الإسرائيليين ويأكلونه معهم مستحلين له بنص توراتهم المحرفة بدلا من نهيهم عنه وهو (لا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا شىء مما يقرض بربا ، للأجنبى تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرضه بربا ، لكى يباركك الرب إلهك فى كل ما تمتد إليه يدك فى الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها).
وكذلك عند النصارى ، وقد وضع لهم الأساقفة أحكاما للربا والقروض فيما يسمونه اللاهوت الأدبى ، فأباحوا فيه بعض الربا دون بعض.
(3) أخذ سدنة قبور الأنبياء والصالحين والمعابد التي بنيت بأسمائهم - هدايا ونذورا ، والوقف على الدير أو الكنيسة قربة عندهم كالوقف على المسجد عندنا ، فأخذ المال وإعطاؤه لبناء المعابد مشروع فى كل دين ، لكن البدعة الوثنية أن يوضع فى المعبد قبر أو صورة أو تمثال فيه صاحبه مع اللّه تارة ومن دونه أخرى ، وينذر له وحده حينا ومع اللّه آخر ، فهذه بدع تتبرأ منها أديان الأنبياء جميعا ، والنفقة فيها من الباطل ، وآكلوها من رؤساء الدين وسدنة المعابد من الذين يأكلون أموال الناس بالباطل.
(4) بذلها لمن يعتقدون فيهم الصلاح والزهد فى الدنيا ليدعوا لهم ويشفعون عند اللّه فى قضاء حاجاتهم وشفاء مرضاهم ، اعتقادا منهم أن اللّه يستجيب دعاءهم ولا يردّ شفاعنهم ، أو لظنهم أن اللّه قد أعطاهم تصرفا فى الكون يقضون به الحاجات من دفع الضر عمن شاءوا وجلب الخير لمن أحبوا ، وتأولها لهم الرؤساء الدينيون الضالون وقالوا إنها لا تنافى التوحيد الذي جاء به الرسل.(10/108)
ج 10 ، ص : 109
(5) أخذها جعلا على مغفرة الذنوب ، ويتوسلون إلى ذلك بما يسمونه سر الاعتراف ، فيأتى الرجل أو المرأة لدى القسيس أو الراهب الذي يأذن له الرئيس الأكبر بسماع أسرار الاعتراف ومغفرة الذنوب ، فيخلو به أو بها فيقص عليه الخاطئ ما عمل من الفواحش والمنكرات بأنواعها لأجل أن يغفرها له ، وهم يعتقدون أن ما يغفره هؤلاء يغفره اللّه.
وهذا الجعل يتفاوت ثروة المشترين من الملوك والأمراء وكبار الأغنياء فمن دونهم ، ويعطون بالمغفرة صكوكا يحملونها ليلقوا بها اللّه تعالى.
وتلك الطقوس خاصة بالأرثوذكس والكاثوليك ، وكانت هذه من الأسباب التي أدت إلى الانقلاب الكبير الذي يسمونه الإصلاح (البر وتستانت) إذ ترتب على هذه العقيدة فساد كبير فى استباحة الفواحش والمعاصي ، وقد كان الاعتراف أولا بلا ثمن ، ولكن رجال الدين جعلوه وسيلة لسلب الأموال والغنى بغير وجه صحيح.
(6) أخذهم للأموال على فتاوى لتحليل الحرام وتحريم الحلال إرضاء لشهوات الملوك وكبار الأغنياء ، أو الانتقام من أعدائهم ، أو بظلم رعاياهم ، فهم يعملون ضروبا من الحيل والتأويلات يصورون بها الوقائع بغير صورها ومن ثم خاطب اللّه أحبار اليهود خطاب احتجاج وتوبيخ بقوله : « قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ » .
(7) أخذها من أموال مخالفيهم فى الجنس أو الدين خيانة وسرقة ونحو ذلك كما قال تعالى : « وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ » .(10/109)
ج 10 ، ص : 110
وفى سرد ما خالف اليهود فيه الحق وادعوا أنه مشروع لهم يقول البوصيرى :
وبأن أموال الطوائف حللّت لهم ربا وخيانة وغلوّا
وصدهم عن سبيل اللّه هو منعهم الناس عن معرفة اللّه معرفة صحيحة ، وعبادته على الوجه الذي يرضيه ، ولا عجب فهم مشركون غير موحدين كما علمت مما سلف ، فهم لا يعبدون اللّه بما شرعه اللّه ، بل بما شرعه البشر ، واليهود قد كفروا بالمسيح وهو المصلح الأكبر فى شريعتهم ، والنصارى يعبدون المسيح وأمه والقديسين ، وجلّ عبادتهم من صلاة وصيام لم تكن فى عهد المسيح. ومن أنكى طرقهم فى الصد الطعن فى النبي الأعظم والكتاب الكريم ، وإفسادهم عقائد النشء فى المدارس التي يتعلمون فيها ، ولا يخفى ما لذلك من سوء الأثر فى الدين والأخلاق والاجتماع.
(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي وكل من يكنز الذهب والفضة ، ولا يخرج منهما الحقوق الواجبة ، سواء أ كان من الأحبار والرهبان أم كان من المسلمين ، ويؤيد هذا أن يزيد بن وهب قال : مررت بأبى ذر بالرّبذة (موضع بين مكة والمدينة) فقلت يا أبا ذر ما أنزلك هذه البلاد ، فقال : كنت بالشام فقرأت : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) فقال معاوية هذه الآية نزلت فى أهل الكتاب ، فقلت إنها فينا وفيهم ، فصار ذلك سببا للوحشة بينى وبينه ، فكتب إلىّ عثمان أن أقبل إلىّ ، فلما قدمت المدينة انحرف الناس عنى كأنهم لم يرونى من قبل ، فشكوت ذلك إلى عثمان ، فقال لى تنحّ قريبا ، فقلت إنى واللّه لن أدع ما كنت أقول.
ومعنى قوله : ولا ينفقونها فى سبيل اللّه أي ولا يؤدون ركاتها ، فقد أخرج مالك والشافعي عن ابن عمر قال : ما أدّى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وما لم تؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا.
وأخرج ابن عدى والخطيب عن جابر رضى(10/110)
ج 10 ، ص : 111
اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « أىّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز »
و
أخرج ابن أبى شيبة وأبو داود والحاكم عن ابن عباس قال : « لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) كبر ذلك على المسلمين وقالوا ما يستطيع أحد منا ألا يبقى لولده ما لا بعده ، فقال عمر : أنا أفرّج عنكم فانطلق وتبعه ثوبان فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا نبىّ اللّه إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية فقال : إن اللّه لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب بها ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض المواريث عن أموال تبقى بعدكم ، فكبّر عمر رضى اللّه عنه ، ثم قال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : ألا أخبرك بخير ما يكنز ؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها الرجل سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته » .
(يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) أي أخبرهم بعذاب أليم يصيبهم فى ذلك اليوم الذي يحمى فيه على تلك الأموال المكنوزة فى نار جهنم ، أي بأن توضع وتضرم عليها النار الحامية حتى تصير مثلها.
وفى الآية إيماء إلى أنه يحمى عليها بأعيانها ، واللّه قادر على إعادتها ، وأمور الآخرة من عالم الغيب فلا ندرك كنهها ولا صفتها ، فنفوض الأمر فيها إلى عالم الغيب وعلينا الاعتبار بما فيها من إصلاح النفس وتهذيب الأخلاق.
روى مسلم عن أبى هريرة مرفوعا « ما من رجل لا يؤدى زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره »
وروى عنه « من آتاه اللّه ما لا فلم يؤدّ زكاته مثل له شجاع (ذكر الحيات) أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه (العظمان الناتئان تحت الأذنين) يقول : أنا مالك ، أنا كنزك ، ثم تلا صلى اللّه عليه وسلم (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) » .
(فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) وخصت هذه الأعضاء دون بقية الجسد ، لأنهم بالوجوه يستقبلون الناس وأساريرهم منبسطة غبطة لعظم الثروة ، ويستقبلون(10/111)
ج 10 ، ص : 112
الفقراء ، ووجوههم منقبضة من العبوس ، لينفروا ويحجموا عن السؤال ولأن الجنوب والظهور كانوا يتقلبون بها على سرر النعمة اضطجاعا واستلقاء ويعرضون بها عن لقاء المساكين وطلاب الحاجات ، فلا يكون لهم فى جهنم استراحة فيما سوى الوقوف إلا بالانكباب على الوجوه كما قال : « يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ » .
(هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) أي تقول لهم ملائكة العذاب الذين يتولون كيهم :
هذا ما كنزتم لمنفعة أنفسكم فكان سبب مضرتها وتعذيبها ، أو هذا الميسم الذي تكوون به هو المال الذي كنزتموه لأنفسكم لتنفردوا بالتمتع به.
(فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) أي فذوقوا وبال كنزكم له وإمساككم إياه عن النفقة فى سبيل اللّه.
وخلاصة هذا - إن ما كنتم تظنونه من منفعة كنزه لأنفسكم لا يشارككم فيها أحد ، قد كان لكم ضرا وعليكم ضدا ، فقد صار فى الدنيا لغيركم ، وعذابه فى الآخرة لأحقابكم.
وإن من أكبر أسباب الضعف الظاهر الذي نراه فى المسلمين عامة حتى تمكن أعداؤهم من سلب ملكهم ويحاولون صدهم عن دينهم - بخل أغنيائهم ، إذ لو وجهوا همهم لإنشاء المدارس والمصانع والمعامل لتعليم النشء والعلوم الدينية والدنيوية من فنون الحرب وصنع الأسلحة لأمكنهم أن يخرجوا للأمة رجالا يحفظون الدين والملك ويعيدون إليها مجدها الزائل ، ويجذبون المعتدين عليها إلى الإسلام ويدخلونهم فيه أفواجا أفواجا.(10/112)
ج 10 ، ص : 113
[سورة التوبة (9) : الآيات 36 الى 37]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)
تفسير المفردات
الشهور : واحدها شهر ، وهو اسم للهلال سميت به الأيام ، والكتاب : هو اللوح المحفوظ كما قال تعالى « عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى » والحرم :
واحدها حرام ، من الحرمة بمعنى التعظيم ، والدين : الشرع ، والقيم : أي الصحيح المستقيم الذي لا عوج فيه ، وكافة : أي جميعا ، والنسيء من نسأ الشيء ينسؤه نسأ ومنسأة : إذا أخره ، أي الشهر الذي أنسئ تحريمه : أي أخر عن موضعه.
المعنى الجملي
هذه الآيات عود على بدء إلى الكلام فى أحوال المشركين ، وقد كان الكلام فى قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية - من قبيل الاستطراد اقتضاه ما قبله ، وهو حكم قتال المشركين ومعاملتهم.
الإيضاح
(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي إن مبلغ عدة الشهور اثنا عشر شهرا فيما كتبه اللّه وأثبته من نظام سير القمر وتقديره منازل منذ خلق السموات والأرض على هذا الوضع المعروف لنا من ليل ونهار إلى الآن.(10/113)
ج 10 ، ص : 114
والمراد بقوله : يوم خلق السموات والأرض ، الوقت الذي خلقهما فيه باعتبار تمامه ونهايته فى جملته وهو ستة أيام من أيام التكوين باعتبار تفصيله وخلق كل منهما وما فيهما.
وقوله : فى كتاب اللّه ، أي فى نظام الخلق والتقدير والسنن الإلهية فيه ، أو فى حكمه التشريعي كحرمة الأشهر الحرم ، وكون الحج أشهرا معلومات ، وكون ما يتعلق بالشهور من الفرائض والسنن : كالحج والصيام وعدة المطلقات والرضاع ، فالمعتبر فيه الأشهر القمرية ، ومن حكمة ذلك أنه يجعل الصيام والحج يدور فى جميع أجزاء السنة ، ومنها ما يشقّ فيه أداؤهما ، ومنها ما يسهل فيه ذلك.
(مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) أي منها أربعة فرض اللّه احترامها وحرّم فيها القتال على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ونقلت العرب ذلك عنهما بالتواتر القولى والعملي وإن كانت قد أخلت بذلك أحيانا اتباعا لأهوائها ، وهذه الأشهر منها ثلاثة متواليات ، وهى ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ، وواحد فرد وهو رجب.
روى أحمد عن أبى بكرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم خطب فى حجة الوداع بمنى فى أوسط أيام التشريق قال : « ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ، ثم قال : ألا أىّ يوم هذا ؟
قلنا اللّه ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال أليس يوم النحر ، قلنا بلى. ثم قال : أىّ شهر هذا ؟ قلنا اللّه ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، ثم قال : أليس ذا الحجة ؟ قلنا بلى ، ثم قال : أىّ بلد هذا ، قلنا اللّه ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : أ ليست البلدة ؟
قلنا بلى قال فإن دماءكم وأموالكم - وأحسبه قال - وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا ، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا لا ترجعوا بعدي ضلّالا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا هل بلّغت ؟ ألا فليبلّغ الشاهد منكم الغائب ، فلعل من يبلّغه يكون أوعى له من بعض من سمعه » .(10/114)
ج 10 ، ص : 115
(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي ما ذكر من عدة الشهور وتقسيمها إلى حرم وغيرها وعدد الحرم منها - هو الحق الذي يدان اللّه تعالى به دون النسيء.
وقد يكون المعنى - ذلك هو الشرع الصحيح الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل فى الحج وغيره ، وما يتعلق بالأشهر من الأحكام ، وقد تمسكت العرب به وراثة منهما حتى إن الرجل يلقى فيها قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له بسوء على شدتهم فى أخذ الثأر وضراوتهم بسفك الدماء.
(فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي فلا تظلموا فى الأشهر الحرم أنفسكم باستحلال حرامها ، فإن اللّه عظّمها وعظم حرمتها.
وقد خصّ بعض الأزمنة وبعض الأمكنة بأحكام من العبادات تقتضى ترك المحرمات فيها تنشيطا للنفوس على زيادة العناية بما يزكّيها ويطهرها ، فقد جرت عادة الإنسان أن يسأم الاستمرار على حال واحدة تشق عليه ، ومن ثم جعل اللّه العبادات الدائمة خفيفة لا مشقة فى أدائها كالصلوات الخمس ، وخصّ يوم الجمعة بوجوب الاجتماع العام لصلاة ركعتين وسماع خطبتين تذكيرا وموعظة حسنة تقوّى فى المؤمن حب الخير والتعاون على البر والتقوى ، وخص رمضان بوجوب صيامه فى كل سنة ، وخص أياما معدودات من ذى الحجة بأداء مناسك الحج ، وجعل ما قبلها وما بعدها من الأيام الحرم استعدادا للسفر لأداء النسك ، وحرم مكة وما حولها فى جميع السنة لتأمين الحج والعمرة التي تؤدّى فى كل وقت ، وحرم رجب فى وسط السنة لتقليل شرور القتال وتخفيف أوزاره ولتسهيل السفر لأداء العمرة فيه.
(وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) أي قاتلوهم جميعا وكونوا يدا واحدة على دفع عدوانهم وكفّ أذاهم كما يقاتلونكم كذلك ، ذاك أنهم إنما يقاتلونكم لدينكم وإطفاء نوره لا للانتقام ولا للعصبية ولا لكسب المال كما هو دأبهم فى قتال قويّهم لضعيفهم ، فأنتم حينئذ أجدر وأولى بالاتحاد لدفع العدوان وجعل كلمة اللّه هى العليا ، وكلمة الشيطان هى السفلى ، واللّه عزيز حكيم.(10/115)
ج 10 ، ص : 116
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بنصرهم ومعونتهم وتوفيقهم لما فيه خيرهم وصلاحهم ، فمن يتق الظلم والعدوان فى الأرض وأسباب الفشل والخذلان فى القتال من تفرق الكلمة واختلاف الأهواء ومخالفة سنن اللّه فى الاجتماع - يكن اللّه معه ، ومن كان اللّه معه فلا يغلبه أحد.
(إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ) المراد بالنسيء تأخير حرمة شهر إلى آخر.
بيان هذا أن العرب ورثت من ملة إبراهيم وإسماعيل تحريم القتال فى الأشهر الحرم لتأمين الحج وطرقه ، ولما طال عليهم الأمد غيروا وبدلوا فى المناسك وفى تحريم الأشهر ولا سيما المحرم ، إذ كان يشق عليهم ترك القتال وشن الغارة ثلاثة أشهر متواليات ، فأحلوا شهر المحرم وأنسئوا تحريمه إلى صفر لتبقى الأشهر الحرم أربعة كما كانت ، وفى ذلك مخالفة للنص ولحكمة التحريم.
وقد كان من عادتهم فى ذلك أن يقوم رجل من كنانة فى أيام منى حيث يجتمع الحجيج فيقول : أنا الذي لا يردّ لى قضاء ، فيقولون صدقت ، فأخّر عنا حرمة المحرم واجعلها فى صفر ، فيحل لهم المحرم ، وبذلك يجعل الشهر الحرام حلالا ، ثم صاروا ينسئون غير المحرم ويسمون النسيء باسم الأصل ، فتتغير أسماء الشهور كلها.
وبذلك يعلم أن النسيء تشريع دينى ملتزم غيّروا به ملة إبراهيم اتباعا للهوى وسوء التأويل ، ومن ثم سماه اللّه زيادة فى الكفر ، أي إنه كفر بشرع دين لم يأذن به اللّه زائد على شركهم باللّه وكفرهم به ، إذ حق التشريع له وحده ، فمنازعته فى ذلك شرك فى ربوبيته ، وهم يضلون به سائر الكفار الذين يتبعونهم فيه ويظنون أنهم لم يخرجوا به عن ملة إبراهيم ، إذ واطئوا عدة ما حرم اللّه من الشهور فى ملته ولم يزيدوا ولم ينقصوا وإن قدموا وأخروا مع أن المقصد فى ذلك العدد والتخصيص لا مجرد العدد ، وإذ لم يفعلوا ذلك فقد استحلوا ما حرم اللّه.(10/116)
ج 10 ، ص : 117
(زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) أي زين لهم الشيطان أعمالهم بهذه الشبهة الباطلة ، إذ اكتفوا بالعدد ولم ينقصوا منه شيئا ولم يدركوا حكمة التخصيص بالأشهر المعينة.
(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) إلى الحكمة فى أحكام شرعه وجعلها مبنية على مصالح الناس فى دينهم ودنياهم أفرادا وجماعات ، فالهداية الموصلة إلى سعادة الدارين من آثار الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ » .
وأما الكافرون فيتبعون أهواءهم وما يوسوس لهم به الشيطان فيوقعهم فى الشقاء والخسران.
[سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 40]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
تفسير المفردات
النفر والنفور : الفرار من الشيء أو الإقدام عليه بخفة ونشاط ، يقال نفرت الدابة والغزال نفورا ، ونفر الحجيج من عرفات نفرا ، واستنفر الملك العسكر إلى القتال(10/117)
ج 10 ، ص : 118
وأعلن النفير العام فنفروا خفافا وثقالا ، والتثاقل : التباطؤ ، وهو من الثقل المقتضى للبطء ، والمتاع : ما يتمتع به من لذات الدنيا ، والغار : النقب العظيم فى الجبل والمراد به هنا غار جبل ثور. والصاحب : هو أبو بكر رضى اللّه عنه ، والسكينة : سكون النفس واطمئنانها وهو ضد الانزعاج والاضطراب ، وكلمة اللّه : هى التوحيد ، وكلمة الذين كفروا :
هى الشرك والكفر.
المعنى الجملي
الكلام من هنا إلى آخر السورة كلام فى غزوة تبوك وما لا بسا من هتك ستر المنافقين وضعفاء الإيمان وتطهير قلوب المؤمنين من عوامل الشقاق ، إلا آيتين جاءتا فى آخرها وإلا ما جاء فى أثنائها من بعض الحكم والأحكام جريا على سنة القرآن فى أسلوبه الذي اختص به.
ومناسبة الآيات لما قبلها أن الكلام السابق كان فى حكم القتال مع اليهود وبيان حقيقة أحوالهم من خروجهم من هداية الدين فى العقائد والأعمال والفضائل التي تهذب النفوس وتزكيها ، والكلام هنا فى غزوة تبوك والمراد بها قتال الروم وأتباعهم من عرب الشام وجميعهم نصارى ، وبهذا استبان ارتباط الآيات بما قبلها.
وتبوك موضع فى منتصف الطريق بين المدينة ودمشق ، فهى تبعد عن الأولى 610 ك وعن الثانية 692 ك وكان السبب فى هذه الغزوة ما بلغ المسلمين من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة - من أن الروم جمعت جموعا معهم لخم وجذام وغيرهم من متنصرة العرب حتى وصلت طلائعهم إلى البلقاء بإمرة قائد عظيم منهم يدعى قباذ وعدد جنده أربعون ألفا ، فندب النبي صلى اللّه عليه وسلم الناس للخروج لقتالهم وأعلمهم الجهة التي يغزونها.
وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام للتجارة ، فقال : يا رسول اللّه هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها ، ومائتا أوقية (من الفضة) فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم « لا يضر(10/118)
ج 10 ، ص : 119
عثمان ما عمل بعدها »
ثم خرج لمقابلتهم ، ولما لم يجد من يقاتله عاد ولم يهاجم شيئا من بلاد الشام ، وكان ذلك فى رجب سنة تسع.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) ؟
الخطاب للمؤمنين فى جملتهم تربية لهم بما لعله وقع من منافقيهم وضعفائهم - أي يا أيها الذين آمنوا ما الذي عرض لكم مما يخل بالإيمان أو بكماله من التثاقل والتباطؤ عن النهوض بما طلب منكم ، وإخلادكم إلى الراحة واللذة ، حين قال لكم الرسول انفروا فى سبيل اللّه لقتال الروم الذين تجهزوا لقتالكم والقضاء على دينكم الحق الذي هو سبيل سعادتكم ؟ .
فآية صدق الإيمان بذل النفس والمال فى سبيل اللّه كما قال : « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ » .
وكان من أسباب تثاقلهم أمور :
(ا) إن الزمن كان وقت حر شديد.
(ب) إنهم كانوا قريبى عهد بالرجوع من غزوتى الطائف وحنين.
(ح) إنهم كانوا فى عسرة شديدة وجهد جهيد من قلة الطعام.
(د) إن موسم الرطب بالمدينة قد تم صلاحه ، وآن وقت تلطف الحر ، لأن رجبا وافق أكتوبر فى تلك السنة.
روى ابن جرير عن مجاهد قال : أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وبعد حنين وبعد الطائف ، أمروا بالنفير فى الصيف حين اخترفت النخل (اجتنى ثمرها) وطابت الثمار واشتهوا الظلال وشق عليهم المخرج فقالوا منا الثقيل وذو الحاجة والضيعة والشغل والمنتشر به أمره فى ذلك كله.(10/119)
ج 10 ، ص : 120
وكان من دأب النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا خرج إلى غزوة أن يورّى بغيرها لما تقتضيه المصلحة من الكتمان إلا فى هذه الغزوة فقد صرح بها ليكون الناس على بصيرة لبعد الشقة وقلة الزاد والظهر.
وكانت حكمة اللّه فى إخراجهم - وهو يعلم أنهم لا يلقون فيها قتالا - تمحيص المؤمنين وخزى المنافقين وفضيحتهم فيما كانوا يسرّون من الكفر وتربص الدوائر بالمؤمنين.
(أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) أي أرضيتم بلذات الدنيا الناقصة الفانية بدلا من سعادة الآخرة الكاملة الباقية ؟ ومن يفعل ذلك فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
(فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) أي فما هذا الذي تتمتعون به فى الدنيا مشوبا بالمنغصات والآلام إذا قيس بما فى الآخرة من النعيم المقيم ، والرضوان من المولى إلا شىء قليل لا يرضى عاقل أن يتقبله بدلا منه.
روى أحمد ومسلم والترمذي عن المسور أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « واللّه ما فى الدنيا فى الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه فى اليم ثم يرفعها ، فلينظر بم يرجع » ؟
أي إن نعيم الدنيا فى قلته وقلة زمنه إذا قيس إلى نعيم الآخرة الطويل الأمد كانت تلك حاله.
(إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي إن لم تخرجوا إلى ما دعاكم الرسول صلى اللّه عليه وسلم للخروج إليه - يعذبكم عذابا أليما فى الدنيا يهلككم به كقحط وغلبة عدو ، ويستبدل بكم قوما غيركم يطيعونه ويطيعون رسله ، لأنه قد وعد بنصره ، وإظهار دينه على الدين كله (ولن يخلف اللّه وعده).
وقد جرت سنته بأن الأمم التي لا تدافع عن نفسها ولا تحمى ذمارها ، لابقاء لها ، وتكون طعاما للآكلين ، وغذاء شهيا للمستعمرين.(10/120)
ج 10 ، ص : 121
(وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) أي ولا تضروا اللّه شيئا من الضرر فى تثاقلكم عن طاعته ونصرة دينه ، فهو الغنى عنكم فى كل أمر ، وهو القاهر فوق عباده ، وكل من فى السموات والأرض مسخر بأمره ، ولكن قد جعل للبشر شيئا من الاختيار ليكون حجة عليهم فيما سيلقون من الجزاء على أعمالهم.
(وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي واللّه قادر على كل شىء ، فهو يقدر على إهلاككم والإتيان بغيركم (إن أصررتم على عصيان رسوله وتثاقلتم عن الدفاع عن حوزة دينه) ممن يجاهدون فى سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم ولا يخشون فى الحقلومة اللائمين كما قال :
« وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ » .
ثم رغبهم ثانية فى الجهاد فأبان لهم أنه تعالى المتوكل بنصره - على أعداء دينه - أعانوه أو لم يعينوه وهو قد فعل ذلك به وهو فى قلة من العدد والعدو فى كثرة ، فكيف وهو من العدد فى كثرة والعدو فى قلة فقال :
(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا) أي إن لم تنصروا الرسول الذي استنصركم فى سبيل اللّه على من أرادوا قتاله من أعداء اللّه وأعداء رسوله - فسينصره اللّه بقدرته وتأييده ، كما نصره حين أجمع المشركون على الفتك به واضطروه إلى الخروج والهجرة حال كونه أحد اثنين وثانيهما أبو بكر فى غار جبل ثور حين كان يقول لصاحبه إذ رأى منه أمارة الحزن : لا تخف ولا تحزن إن اللّه معنا بنصره ومعونته وحفظه وتأييده فلن يعلم بنا المشركون ولن يصلوا إلينا.
روى البخاري ومسلم من حديث أنس قال : « حدثنى أبو بكر قال : كنت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم فى الغار فرأيت آثار المشركين ، فقلت يا رسول اللّه لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا تحت قدمه ، فقال عليه الصلاة والسلام : يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما »(10/121)
ج 10 ، ص : 122
وخلاصة ذلك - إلا تنصروه بالنّفر لما استنفركم له ، فإن اللّه قد ضمن له النصر فهو ينصره كما نصره فى الوقت الذي اضطره المشركون إلى الهجرة ، حين كان ثانى اثنين فى الغار وكان صاحبه قد ساوره الحزن فقال له : لا تحزن إن اللّه معنا ، ونحن لا نكلّف أكثر مما فعلنا من الاستخفاء.
(فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) أي فأنزل اللّه طمأنينته التي يسكن عندها القلب على رسوله وقوّاه بجنود من عنده وهم الملائكة الذين أنزلهم يوم بدر والأحزاب وأحد ، وقيل بل هم ملائكة أيده بهم فى حال الهجرة يسترونه هو وصاحبه عن أعين الكفار ويصرفونها عنهما ، فقد خرج والشبان المتواطئون على قتله وقوف ولم ينظروه.
(وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا) أي وجعل كلمة الشرك والكفر هى السفلى ، وكلمة اللّه وهى دينه المبنى على أساس توحيده تعالى والمشتمل على الأحكام والآداب الفاضلة ، والخالي من شوائب الشرك وخرافات الوثنية - هى العليا بظهور نور الإسلام وإزالة سيادة المشركين فى تلك الجزيرة بعد كفاح طويل دارت فيه الدائرة عليهم : « وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا » .
(وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي واللّه غالب على أمره ، حكيم إذ يضع الأشياء فى مواضعها وقد نصر رسوله بعزته وأظهر دينه على الأديان كلها بحكمته ، وأذل من ناوأه من المشركين.
[سورة التوبة (9) : آية 41]
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)(10/122)
ج 10 ، ص : 123
المعنى الجملي
بعد أن توعد من لم ينفروا مع الرسول وتثاقلوا حين استنفرهم - أتبعه بالأمر الجزم الذي لا هوادة فيه ، فأوجب النفير العام على كل فرد ، فلا عذر لأحد فى التخلف وترك الطاعة.
الإيضاح
(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا) الخفاف واحدها خفيف ، والثقال واحدها ثقيل ، وهما يكونان فى الأجسام وصفاتها من صحة ومرض ونحافة وسمن ونشاط وكسل ، وشباب وكبر ، ويكونان فى الأسباب والأحوال كالقلة والكثرة فى المال ، ووجود الراحلة وعدم وجودها ، ووجود الشواغل أو انتفائها.
أي انفروا على كل حال من يسر أو عسر وصحة أو مرض وغنى أو فقر وقلة العيال أو كثرتهم أو غير ذلك مما ينتظم فى مساعدة الأسباب أو عدم مساعدتها بعد الإمكان والقدرة فى الجملة.
فإذا أعلن النفير العام وجب الامتثال إلا حال العجز التام ، وهو ما بينه اللّه تعالى فى قوله : « لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ » .
ويؤيد هذا التعميم فى عموم الأحوال قول أبى أيوب الأنصاري وقد شهد المشاهد كلها إلا غزاة واحدة : قال اللّه (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا) فلا أجدنى إلا خفيفا أو ثقيلا ، وروى عن أبى راشد الحرّانى قال : وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص - وقد فضل عنها من عظمه - يريد الغزو ، فقلت قد أعذر اللّه إليك ، فقال أبت علينا سورة البعوث (يريد براءة) انفروا خفافا وثقالا.(10/123)
ج 10 ، ص : 124
وقد فهم سلفنا الصالح القرآن على هدى النبي وعمله ففتحوا البلاد وسادوا العباد ، لكن بعد أن انحرفوا عن هديه وتدبر معانيه واكتفوا بتلاوته والتغني بألفاظه ذلوا وضعفوا واستكانوا وسادتهم الشعوب الأخرى وتقوض ملكهم من أطرافه وأصبحوا من المستضعفين وصاروا عبيدا لأعدائهم.
(وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي وجاهدوا أعداءكم الذين يقاتلون فى سبيل الطاغوت ويفسدون فى الأرض ، وابذلوا أموالكم وأنفسكم فى إقامة ميزان العدل وإعلاء كلمة الحق.
فمن استطاع منكم الجهاد بماله ونفسه وجب عليه ذلك ، ومن قدر على أحدهما وجب عليه ما كان فى مقدرته.
وقد كان المسلمون فى الصدر الأول ينفقون على أنفسهم من أموالهم ويبذلونها لغيرهم إن استطاعوا كما فعل عثمان رضى اللّه عنه فى تجهيز جيش العسرة فى هذه الغزوة ، وكما فعل غيره من ذوى اليسار من الصحابة.
ولما أصبح فى بيت المال فضلة من المال بكثرة الغنائم صار الملوك والسلاطين يجهزون الجيوش من بيت المال ، وكذلك تفعل الآن الدول المتمدينة ، فتخصص جزءا من المال كل عام للنفقات الحربية من برية وبحرية ، ويزداد هذا المال إذا دعت الحاجة إلى زيادته ، بل قد يجعلون أموال الدولة كلها ومرافقها وقفا على المصالح الحربية ، وقد كان المسلمون أحق منهم بذلك وأجدر.
(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي ذلكم الذي أمرتم به من النفر والجهاد الذي هو الوسيلة فى حفظ كيان الأمم وعلو كلمتها - خير لكم فى دينكم ودنياكم أما فى الدين فلا سعادة إلا لمن ينصر الحق ويقيم العدل باتباع هدى الدين والعمل بالشرع الحكيم.
وأما فى الدنيا فإنه لا عز للأمم ولا سيادة لها إلا بالقوة الحربية التي هى وسيلة لدفاع العدو وكبح جماحه.(10/124)
ج 10 ، ص : 125
(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تعلمون ذلك علما يبعث على العمل ، فانفروا وجاهدوا ، وقد علم فضل ذلك المؤمنون الصادقون فامتثلوا أمره واهتدوا بهديه.
ولما أمرهم بالنفر تخلف بعض المنافقين لأعذار ضعيفة ، وتخلف ناس آخرون من المؤمنين فأنزل اللّه فى أثناء السفر قوله :
[سورة التوبة (9) : الآيات 42 الى 43]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43)
تفسير المفردات
العرض : ما يعرض للمرء من منفعة ومتاع مما لا ثبات له ولا بقاء وليس فى الوصول إليه كبير عناء ، ويقال سير قاصد وسفر قاصد : أي هين لا مشقة فيه من القصد وهو الاعتدال.
والشقة : الطريق لا تقطع إلا بعناء ومشقة ، والعفو : التجاوز عن التقصير وترك المؤاخذة عليه.
المعنى الجملي
بعد أن رغبهم سبحانه فى الجهاد فى سبيل اللّه ، وبين أن فريقا منهم تباطئوا وتثاقلوا - قفى على ذلك ببيان أن فريقا منهم تخلفوا عنه مع كل ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد وطفقوا ينتحلون الأعذار الواهية ، ويستأذنونه صلى اللّه عليه وسلم فى القعود والتخلف ليأذن لهم.(10/125)
ج 10 ، ص : 126
الإيضاح
(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ) أي لو كان ما دعوتهم إليه منفعة قريبة المنال ليس فى الوصول إليها كبير عناء ، وسفرا هينا لا تعب فيه ، لا تبعوك وأسرعوا بالنفر إليه ، إذ حب المنافع المادية والرغبة فيها طبيعى فى الإنسان ، ولا سيما إذ كانت سهلة المأخذ قريبة المنال وكان من يسعى إليها ممن لا يوقنون باليوم الآخر وما فيه من الثواب المقيم والأجر العظيم كأولئك المنافقين.
(وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) أي ولكنك استنفرتهم إلى موضع بعيد وكلفتهم سفرا شاقا ، لأنك استنهضتهم وقت الحر وزمن القيظ ، وحين الحاجة إلى الكنّ ، فتخلفوا جبنا وحبّا للراحة والسلامة.
(وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) أي وسيحلفون لك عند رجوعك من غزوة تبوك كما قال : « يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ » قائلين لو استطعنا الخروج إلى الجهاد وانتفت الأعذار المانعة منه لخرجنا معكم ، فما كان تخلفنا إلا اضطرارا.
(يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) أي يهلكون أنفسهم بإيقاعهم فى العذاب بامتهان اسم اللّه بالحلف الكاذب لستر نفاقهم وإخفائه ، تأييدا للباطل بالباطل ، وتقوية للإجرام بالإجرام ،
روى أنه صلى اللّه عليه وسلم قال : « اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع » .
(وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فى حلفهم باللّه وقولهم لو استطعنا لخرجنا معكم ، فهم كانوا للخروج مطيقين ، إذ كانوا أصحاء الأبدان أقوياء الأجسام ذوى يسرة فى المال.
ثم عاتب اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم فى إذنه لمن تخلف عنه من المنافقين حين شخص إلى تبوك لغزو الروم فقال :
(عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) أي عفا عنك ما أدى إليه اجتهادك من الإذن لهم حين استأذنوك وكذبوا عليك فى الاعتذار.
(لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ؟ ) أي لأى شىء أذنت لهم بالقعود والتخلف كما أرادوا ، وهلا(10/126)
ج 10 ، ص : 127
تريثت فى الإذن لهم وتوقفت عنه حتى ينجلى أمرهم وينكشف حالهم ، وإلى ذلك الإشارة بقوله :
(حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) أي حتى يتبين لك الفريقان ، فتعامل كلّا بما ينبغى أن يعامل به ، فإن الكاذبين لا يخرجون ، أذنت لهم أو لم تأذن ، فكان من الأجدر بك أن تتلبّث فى الإذن أو تمسك عنه اختبارا لحالهم.
روى عن مجاهد فى قوله (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ؟ ) هم ناس قالوا استأذنوا رسول اللّه ، فإن أذن لكم فاقعدوا ، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا. وعن قتادة فى قوله (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) لقد كانوا يستطيعون الخروج ، ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم وزهادة فى الجهاد.
[سورة التوبة (9) : الآيات 44 الى 46]
لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46)
المعنى الجملي
تقدم أن قلنا إن هذه السورة تسمى الفاضحة ، لأنها فضحت أنواع النفاق وكشفت أحوال المنافقين ، ومن ثم نقل البغوي وغيره عن ابن عباس رضى اللّه عنه أنه قال : لم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة ، والمراد أنه لم يكن يعرفهم كلهم ويعرف شئونهم بهذا التفصيل حتى نزلت.
وهذه الآيات أول ما نزل فى التفرقة بين المنافقين والمؤمنين فى القتال.(10/127)
ج 10 ، ص : 128
الإيضاح
(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي ليس من شأن المؤمنين باللّه الذي كتب عليهم القتال ، وباليوم الآخر الذي يوفى فيه كل عامل جزاء ما عمل ، أن يستأذنوك أيها الرسول فى أمر الجهاد فى سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم إذا جدّ ما يدعو إلى ذلك ، بل يقدمون عليه عند وجوبه من غير استئذان كما قال : « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ » بل هم يستعدون له وقت السلم بإعداد القوة ورباط الخيل.
وهم بالأولى لا يستأذنوك فى التخلف عنه بعد إعلان النفر العام ، وأقصى ما قد يقع من فريق منهم هو التثاقل والتباطؤ إذا كان النصر بعيدا.
روى عن أبى هريرة رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه فى سبيل اللّه يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعا طار على متنة يبتغى القتل والموت فى مظانّه إلخ » .
والمراد أن خير أعمال الرجل أن يعدّ فرسه رباطا فى سبيل اللّه ، كلما سمع صيحة لقتال ، أو فزعة (أي دعوة للإغاثة) طار على فرسه يبتغى القتل والموت فى مظانه ، أي المواضع التي يظن أنه يلقى القتل فيها.
(وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) أي واللّه عليم بمن خافه فاتقاه باجتناب ما يسخطه وفعل ما يرضيه بالمسارعة إلى طاعته فى غزو عدوه وجهادهم بماله ونفسه ، وليس من دأبهم أن يستأذنوا بالتخلف كراهة للقتال.
وفى الآية إيماء إلى أنه لا ينبغى الاستئذان فى أداء شىء من الواجبات ولا فضائل العادات كقرى الضيف وإغاثة الملهوف وسائر أعمال المعروف.
ثم صرح بما فهم من الكلام السابق زيادة فى التوكيد والتقرير فقال :
(إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) أي إنما يستأذنك فى التخلف عن الجهاد معك من غير عذر من(10/128)
ج 10 ، ص : 129
لا يصدّقون باللّه ولا يقرّون بتوحيده ولا باليوم الآخر ، فهؤلاء يرون بذل المال مغرما يفوّت عليهم بعض المنافع ، وهم لا يرجون ثوابا عليه كما يرجو المؤمنون ، ويرون الجهاد بالنفس آلاما ومتاعب ، وقد وقع لهم الريب والشك فى الدين من قبل ، فلم تطمئنّ به قلوبهم ، ولم تذعن له نفوسهم ، فهم متحيّرون فى أمرهم مذبذبون فى عملهم ، يوافقون المؤمنين فيما يسهل أداؤه من عبادات الإسلام من صلاة وصيام ، ويلتمسون الخلاص فيما يشق عليهم من تكاليفه ، ويعتذرون بالمعاذير الكاذبة للهرب من القيام بشىء منها.
وقد جاء فى بعض الروايات أن عدد هؤلاء كان تسعة وثلاثين رجلا.
(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) أي ولو صحت بيتهم للخروج لاستعدوا له وأخذوا الأهبة من زاد وراحلة ونحو ذلك مما يحتاج إليه المسافر لمثل هذا السفر البعيد وقد كانوا مستطيعين لذلك ولم يفعلوا.
(وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) الانبعاث : توجيه الإنسان أو الحيوان إلى الشيء بقوة كبعث الرسل وبعث الموتى ، والتثبيط : التعويق عن الأمر والمنع منه.
أي كره اللّه نفرهم وخروجهم مع المؤمنين لما فيه من الضرر العائق لهم عما أحبه من نصرهم ، فثبطهم بما أحدث فى قلوبهم من المخاوف التي هى مقتضى سننه من تأثير النفاق فيها ، ومن ثم لم يعدّوا للخروج عدته ، لأنهم لم يريدوه ، وإنما أرادوا بالاستئذان ستر ما عزموا عليه من المخالفة والعصيان.
(وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) أي وقال لهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم ذلك بعبارة تدل على السخط لا على الرضا ، أي اقعدوا مع الأطفال والزّمنى والعجزة والنساء وهم قد حملوه على ظاهره لموافقته لما يريدون.(10/129)
ج 10 ، ص : 130
[سورة التوبة (9) : الآيات 47 الى 48]
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48)
تفسير المفردات
الخبال : الاضطراب فى الرأى والفساد فى العمل ، كضعف القتال والخلل فى النظام ، ويقال وضع الرجل إذا عدا مسرعا ، وأوضع راحلته إذا حملها على الإسراع ، وخلال الأشياء : ما يفصل بينها من فروج ونحوها ، والفتنة : التشكيك فى الدين والتخويف من الأعداء ، وسماعون لهم : أي ضعفاء العزيمة يسمعون قولهم ، وتقليب الشيء :
تصريفه فى كل وجه من وجوهه والنظر فى كل ناحية من أنحائه والمراد أنهم دبروا الحيل والمكايد ودوّروا الآراء فى كل وجه لإبطال دينك.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن استئذانهم فى التخلف عن القتال إنما كان سترا لنفاقهم وتغطية لعصيانهم - قفّى على ذلك ببيان المفاسد التي كانت تنجم من خروجهم لو خرجوا وحصرها فى أمور ثلاثة :
(1) الاضطراب فى الرأى وفساد النظام (2) تفريق الكلمة بالسعي فيما بينكم بالميمة.
(3) إن فيكم ناسا من ضعفاء الإيمان يسمعون كلامهم ويقبلون قولهم.(10/130)
ج 10 ، ص : 131
الإيضاح
(1) (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا) أي لو خرج هؤلاء المنافقون المستأذنون فى القعود معكم ، ما زادوكم قوة ومنعة وإقداما كما هو الشأن فى القوى المتحدة فى العقيدة والمصلحة ، بل زادوكم اضطرابا فى الرأى وضعفا فى القتال ومفسدة للنظام ، كما حدث مثل ذلك فى غزوة حنين ، فقد ولّى المنافقون الأدبار فى أول المعركة وولى على إثرهم ضعفاء الإيمان من طلقاء فتح مكة ، ومن ثم اضطرب نظام الجيش ، فولّى أكثر المؤمنين معهم بلا تدبر ولا تفكير كما هو الشأن فى مثل هذه الأحوال.
(2) (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) أي ولأسرعوا فى الدخول فيما بينكم سعيا فى النميمة وتفريق الكلمة ، يبغون بذلك تثبيطكم عن القتال وتهويل أمر العدو وإيقاع الرعب فى قلوبكم.
(3) (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي وفيكم ناس من ضعفاء الإيمان أو ضعفاء العزم يسمعون كلامهم ، فإذا ألقوا إليهم شيئا مما يوجب ضعف العزائم قبلوه وفتروا بسببه عن القيام بأمر الجهاد كما ينبغى.
ووجه العتاب على الإذن فى قعودهم مع ما قص اللّه تعالى من المفاسد التي تترتب على خروجهم - أنهم لو قعدوا بغير إذن منه لظهر نفاقهم بين المسلمين بادىء ذى بدء ، فلم يستطيعوا مخالطتهم ولا السعى فيما بينهم بالأراجيف وقالة السوء التي يقبح أثرها ، وتسوء عاقبتها.
(وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) علما يحيط بظواهرهم وبواطنهم وأعمالهم ما تقدم منها وما تأخر ، وبما هم مستعدون له فى كل حال مما وقع ومما لم يقع ، فأحكامه فيهم على علم تامّ لاظن فيه ولا اجتهاد كالجتهاد الرسول صلى اللّه عليه وسلم فى الإذن لهم ، والذي تثبت هذه الآية أنه شر لا خير فيه وهو ضعف لا قوة ، ولكنه صلى اللّه عليه وسلم لم يكن يعلم أنهم لا يخرجون إذا لم يأذن لهم ، فهذا من أخبار الغيب التي لا يعلمها إلا اللّه ، وهو لم يعلمه قبل نزول هذه الآيات.(10/131)
ج 10 ، ص : 132
وقد كان من حكمة اللّه فى تربية رسوله وتكميله أن يبين له بعض الحقائق بعد اجتهاده فيها لتكون أوقع فى نفسه ونفس أتباعه فيحرصوا على العمل بها ، ولا يحكموا أهواءهم فيها ، وكذلك كان السلف الصالح يسيرون على نهجه ، ويهتدون بهديه.
(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ) أي ولقد ابتغى هؤلاء المنافقون إيقاع الفتنة فى المسلمين وتفريق شملهم من قبل هذه الغزوة فى غزوة أحد حين اعتزلهم عبد اللّه بن أبىّ ابن سلول زعيم المنافقين بثلث الجيش فى موضع يسمى الشوط بين المدينة وأحد ، وطفق يقول للناس : أطاع النبي الولدان ومن لا رأى له ، فعلام نقتل أنفسنا ؟ ، وكان من رأيه عدم الخروج إلى أحد فرجع بمن اتبعه من المنافقين ، وكاد يتبعه بنو سلمة وبنو حارثة فيرجعون ولكن عصمهما اللّه من الفتنة.
وكان دأب المنافقين أن يدبروا له الحيل والمكايد ليبطلوا أمره ، فكان لهم ضلع مع اليهود وضلع مع المشركين فى كل ما فعلا من عداوته وقتال المؤمنين - حتى جاء النصر الذي وعده ربه وظهر دين اللّه وعلا شرعه بالتنكيل باليهود الغادرين الناكثين للعهود ، والنصر على المشركين بفتح مكة ودخول الناس فى الإسلام أفواجا وهم كارهون لذلك ، حتى لقد كانوا يمنون أنفسهم بظهور المشركين على المؤمنين فى حنين وعودة الشرك إلى قوته.
وفى الآيتين تسلية لرسوله صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين عن تخلف المنافقين وبيان ما ثبطهم اللّه تعالى لأجله ، وفيه هتك أستارهم وإزاحة أعذارهم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 49 الى 52]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)(10/132)
ج 10 ، ص : 133
المعنى الجملي
هذه الآيات سيقت لبيان أقوال قالها المنافقون ، بعضها قيلت جهرا ، وبعضها أكنّوه فى أنفسهم ، وأعذار سيعتذرون بها غير ما سبق منهم ، وشئون أخرى لهم أكثرها من أنباء الغيب.
الإيضاح
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) أي ومن المنافقين ناس يستأذنونك فى التخلف عن القتال حتى لا يفتتنوا بنساء الروم.
روى ابن أبى حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد اللّه رضى اللّه عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لجد بن قيس « يا جدّ هل لك فى جلاد بنى الأصفر ؟ قال جدّ ، وكان من شيوخ المنافقين : أ تأذن لى يا رسول اللّه فإنى رجل أحب النساء وإنى أخشى إن أنا رأيت نساء بنى الأصفر أن أفتتن ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو معرض عنه (قد أذنت لك) فنزلت الآية » .
وقد ردّ اللّه شبهته وشبهة من وافقه عليها بقوله :
(أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي فليعلموا أنهم بمقالتهم هذه سقطوا وتردّوا فى هاوية(10/133)
ج 10 ، ص : 134
الفتنة ، حين اعتذروا بالمعاذير الكاذبة ، من حيث يزعمون اتقاء التعرض للإثم بالنظر إلى جمال نساء الروم ، وشغل القلب بمحاسنهن (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي وإن النار لمطيفة بمن كفر باللّه وجحد آياته وكذّب رسله ، جامعة لهم يوم القيامة ، وكفى بها نكالا ووبالا.
وهذا وعيد لهم على الفتنة التي تردّوا فيها ، وبيان لأن عقابهم بإحاطة جهنم بهم عقاب على الكفر الذي حملهم على ذلك الاعتذار ، وإنما تحيط النار بمن أحاطت بهم خطاياهم حتى لا رجاء فى توبتهم منها كما قال تعالى « بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ » .
(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) الحسنة ما يسرّ النفس حصوله من غنيمة ونصر ونحوهما : أي إن كل ما يسرك من النصر والغنيمة كما حدث يوم بدر - يورثهم كآبة وحزنا لفرط حسدهم وعداوتهم.
(وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) أي وإن تصبك شدة كانكسار جيش كما حدث يوم أحد - يقولوا معجبين بآرائهم حامدين ما صنعوا ، قد تلافينا ما يهمنا من الأمر بالحذر والحزم كما هو دأبنا ، إذ تخلفنا عن القتال ولم نلق بأيدينا إلى الهلاك ، وينصرفوا عن الموضع الذي يقولون فيه هذا القول وهم فرحون فرح البطر والشماتة.
روى ابن أبى حاتم عن جابر بن عبد اللّه رضى اللّه عنه قال : جعل المنافقون الذين تخلفوا فى المدينة يشيعون أخبار السوء عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ويقولون إنهم جهدوا فى سفرهم وهلكوا ، فبلغهم بعد ذلك كذب خبرهم وعافية النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فساءهم ذلك فأنزل اللّه (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) الآية.
(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا) أي قل أيها الرسول لأولئك المنافقين(10/134)
ج 10 ، ص : 135
الذين يفرحون بمصابك وتسوءهم نعمتك : لن يصيبنا إلا ما خطّ لنا وكتب فى اللوح المحفوظ بحسب سننه تعالى فى خلقه من نصر وغنيمة أو تمحيص وشهادة ، ولا يتغير ذلك بموافقتكم أو مخالفتكم ، فالأمور كلها بقضائه تعالى.
(هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي هو ناصرنا ومتولى أمورنا بتوفيقنا ونصرنا ، ونحن نلجأ إليه ونتوكل عليه ، فلا نيأس عند شدة ، ولا نبطر عند نعمة ، كما قال سبحانه فى بيان سننه تعالى فى خلقه (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها ، ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ).
ومن حق المتوكل على اللّه وحده أن يقوم بما أوجبه عليه فى شرعه ، ويهتدى بسننه فى خلقه ، من الأخذ بأسباب النصر المادية والمعنوية كإعداد العدّة واتقاء التنازع الذي يولّد الفشل ويفرّق الكلمة ، ثم بعد ذلك يكل الأمر إليه فيما لا تصل إليه الأيدى من الأسباب ويتوقف عليه حصول النجاح.
ويقابل التوكل بهذا المعنى اتكال الماديين على حولهم وقوتهم وحدها ، حتى إذا أدركهم العجز خانهم الصبر وأدركهم اليأس حين حلول البأس ، واتكال ذوى الأوهام الذين يتعلقون بالأمانى والأحلام ، حتى إذا ما استبان لهم فساد أوهامهم نكصوا على أعقابهم وكفروا بوعد ربهم بنصر المؤمنين ، وهو إنما وعد أولياءه لا أولياء الشيطان ، وذوى الخرافات والأوهام.
(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا ، فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) أي قل لهم : أيها الجاهلون ، هل تنتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين النصر أو الشهادة ، ونحن نتربص بكم إحدى السّوءيين أن يصيبكم ربكم بقارعة سماوية لا كسب لنا فيها ، كما فعل بالأمم المكذّبة لرسلها ، أو أن يأذن لنا بقتالكم إن أغراكم الشيطان بإظهار كفركم ، فتربصوا(10/135)
ج 10 ، ص : 136
بنا إنا معكم متربصون من عاقبتنا وعاقبتكم إن أصررتم على كفركم وظهر أمركم ، فنحن على بينة من ربنا ولا بينة لكم ، فإذا لقى كل منا ومنكم ما يتربصه ، لا نشاهد إلا ما يسوءكم ولا تشاهدون إلا ما يسرنا.
والدين لا يأمر بقتل المنافق ما دام يظهر الإسلام ويقيم الصلاة ويؤتى الزكاة.
[سورة التوبة (9) : الآيات 53 الى 55]
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه اعتذار المنافقين بالمعاذير الكاذبة ، وتعللاتهم الباطلة فى التخلف عن القتال ، وذكر ما يجول فى نفوسهم من كراهتهم للرسول صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين ، وأنهم يتربصون بهم الدوائر - قفى على ذلك ببيان أن نفقاتهم على الجهاد فى هذه الحال طوعا أو كرها لن يتقبلها اللّه ولا ثواب لهم عليها ، لما يبطنونه فى صدورهم من الكفر والفسوق عن أمر اللّه ، فهم إن فعلوا شيئا من أركان الدين فإنما يفعلونه رئاء الناس وخوفا على أنفسهم من الفضيحة إذا هم تركوها ، وأن أموالهم الكثيرة إنما هى عذاب لهم فى الدنيا والآخرة.
الإيضاح
(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المنافقين : أنفقوا من أموالكم ما شئتم فى الجهاد أو فى غيره من(10/136)
ج 10 ، ص : 137
النفقات التي أمر اللّه بها وحث فى شرعه عليها حال الطوع تقية وحفظا للنفس ، وكرها وخوفا من العقوبة ، فمهما أنفقتم فلن يتقبّل منكم ما دمتم فى شك مما جاء به الرسول من الدين والجزاء على الأعمال فى الآخرة ، لأنكم قوم فاسقون أي خارجون من دائرة الإيمان ، واللّه إنما يتقبل من المؤمنين.
(وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) أي وما منع قبول نفقاتهم إلا كفرهم باللّه وصفاته على الوجه الحق ، وكفرهم برسالة رسوله وما جاء به من الهدى والبينات.
(وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى ) أي ولا يصلون إلا رياء وتقيّة ، لا إيمانا بوجوبها ، ولا قصدا إلى ثوابها واحتسابا لأجرها ، ولا تكميلا لأنفسهم بما شرعه اللّه لأجلها ، لأنهم لا يأتونها إلا وهم متثاقلون كسالى لا تنشرح لها نفوسهم ولا تنشط لها أبدانهم.
(وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) أي ولا ينفقون أموالهم فى مصالح الجهاد وغيره إلا وهم كارهون لذلك غير طيبة به أنفسهم ، لأنهم يعدون هذه النفقات مغارم تضرب عليهم ينتفع بها المؤمنون وهم ليسوا منهم ، فلا نفع لهم بما أنفقوا لا فى الدنيا وهو واضح ولا فى الآخرة ، إذ لا يؤمنون بها.
ولما كان من أقوى أسباب إعراضهم عن آيات اللّه كثرة المال وطغيان الغنى بين سبحانه سوء عاقبة المال لهم فقال :
(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) الإعجاب بالشيء السرور به مع الافتخار واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه ، والخطاب لكل من سمع القول أو بلغه.
أي فلا تعجبك أيها السامع أموالهم ولا أولادهم التي هى من أكبر النعم وأجلها ، ولا يجولنّ بخاطرك أنهم - وقد حرموا ثوابها فى الآخرة - صفا لهم نعيمها فى الدنيا ، وإلى هذا أشار بقوله سبحانه :(10/137)
ج 10 ، ص : 138
(إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بما ينالهم بسببها من التنغيص والحسرة.
أما الأموال فلأنهم يلاقون النّصب والتعب فى جمعها واكتسابها ، ويلاقون ما هو أشد من ذلك فى حفظها وصونها من الهلاك ، فالمشغوف بالمال يكون أبدا فى تعب الحفظ والصون ، وهو مع ذلك لا ينتفع إلا بالقليل منها كما قال عليه الصلاة والسلام « مالك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت » .
وأما الأولاد فإنهم يرون أنهم قد نشئوا فى الإسلام واطمأنت به قلوبهم ، فهم يجاهدون فى سبيل اللّه بأنفسهم وأموالهم ، وربما ماتوا فى الغزو - فيجزعون أشد الجزع ، إذ لا يعتقدون شهادتهم ، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وأن الاجتماع بهم قريب كما يعتقد المؤمنون.
(وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) أي ويموتون ويهلكون وهم كافرون ، فيعذبون بها فى الآخرة إثر ما عذّبوا بها فى الدنيا ، لموتهم على الكفر الذي يحبط أعمالهم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 56 الى 57]
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
تفسير المفردات
الفرق (بالتحريك) الخوف الشديد الذي يفرق بين القلب وإدراكه ، والملجأ :
المكان الذي يلجأ إليه الخائف ليعتصم به كحصن أو قلعة أو جزيرة فى بحر أو قنّة فى جبل ، والمغارات : واحدها مغارة وهى الكهف فى الجبل يغور فيه الإنسان ويستتر والمدّخل (بالتشديد) السرب فى الأرض يدخله الإنسان بمشقة ، والجماح : السرعة التي تتعذر مقاومتها.(10/138)
ج 10 ، ص : 139
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن المنافقين يظهرون غير ما يضمرون ، فإذا هم طلبوا الإذن خوف الفتنة كانوا كاذبين ، وذكر أنهم يتمنّون أن تدور الدوائر على المؤمنين قفّى على ذلك بذكر غلوّهم فى النفاق وأنهم لا يتحرّجون أن يحلفوا الأيمان الفاجرة لستر نفاقهم خوف الفضيحة ، وأنهم يتمنون أن يجدوا أىّ السبل للبعد عن المؤمنين ، فيلجئوا إليها مسرعين.
الإيضاح
(وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) أي ويحلفون باللّه لكم كذبا إنهم منكم فى الدين والملة وهم ليسوا من أهل دينكم وملتكم بل هم أهل شك ونفاق ، ولكنهم يخافونكم فيقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم.
(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) أي إنهم لشدة كرمهم للقتال معكم ، ولبغض معاشرتهم إياكم ، ولعظيم الخوف من ظهور نفاقهم لكم يتمنون الفرار منكم والعيش فى مكان يعتصمون به من انتقامكم منهم ، فلو استطاعوا السكنى فى الحصون والقلاع ، أو فى كهوف الجبال ومغاراتها ، أو فى أنفاق الأرض وأسرابها - لولّوا إليه مسرعين كالفرس الجموح لا يردّهم شىء.
وإنما وصفهم اللّه سبحانه بتلك الأوصاف ، لأنهم إنما أقاموا بين أظهر أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع كفرهم ونفاقهم وعداوتهم لهم ، لأنهم كانوا بين عشيرتهم وفى دورهم وأموالهم ، ولم يقدروا على ترك ذلك وفراقه ، فصانعوا القوم بالنفاق ودافعوا عن أنفسهم وأموالهم وأولادهم بإخفاء الكفر ودعوى الإيمان ، وفى أنفسهم ما فيها من البغض لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولأهل الإيمان به وبالغ الحقد عليهم.(10/139)
ج 10 ، ص : 140
[سورة التوبة (9) : الآيات 58 الى 59]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59)
تفسير المفردات
اللمز : العيب والطعن فى الوجه ، والهمز : الطعن فى الغيبة ، ورغبه ورغب فيه :
أحبه ، ورغب عنه : كرهه ، ورغب إليه : طلبه وتوجه إليه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه أن المنافقين لا يتحرجون عن كاذب الأيمان إذا وجدوا فى ذلك طريقا لخدعة المؤمنين فى تصديقهم بأنهم مؤمنون كما هم مؤمنون كى يأمنوا جانبهم ، وأنهم يجدّون فى البعد عنهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا - أردف ذلك بذكر سوأة أخرى من سوءاتهم وهى أنهم يتمنّون الفرص للطعن على النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى يواقعوا الريب فى قلوب ضعفاء الإيمان من المسلك الذي يوافق أهواءهم ، وقد وجدوا من ذلك قسمة الصدقات والمغانم ، فولجوا هذا الباب وقالوا ما شاءوا أن يقولوا.
روى البخاري والنسائي عن أبى سعيد الخدري رضى اللّه عنه قال : « بينما النبي صلى اللّه عليه وسلم يقسم قسما إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال اعدل يا رسول اللّه ، فقال : ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ فقال عمر بن الخطاب : ائذن لى أن أضرب عنقه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة فنزلت فيهم (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) الآية » .(10/140)
ج 10 ، ص : 141
وروى ابن جرير عن داود بن أبى عاصم قال : « أتى النبىّ صلى اللّه عليه وسلم بصدقة فقسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت ورأى ذلك رجل من الأنصار فقال ما هذا بالعدل فنزلت هذه الآية.
ومجموع الروايات يدل على أن أشخاصا من منافقى المدينة قالوا ذلك لحرمانهم من العطية ، ولم يقله أحد من المهاجرين ولا من الأنصار الأولين الذين بايعوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فى منى.
الإيضاح
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) أي ومن المنافقين من يعيبك ويطعن عليك فى قسمة الصدقات وهى أموال الزكاة المفروضة ، إذ يزعمون أنك تحابى فيها وتؤتى من تشاء من الأقارب وأهل المودة ولا تراعى العدل فى ذلك.
ثم بين سبحانه أسباب هذا اللمز وأن منشأه حرصهم على حطام الدنيا فقال :
(فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا) أي فإن أعطوا ولو بغير حق كأن أظهروا الفقر كذبا واحتيالا ، أو أعطوا لتأليف قلوبهم - رضوا بهذه القسمة واستحسنوا فعلك.
(وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) أي وإن لم يعطوا منها فاجئوك بالسخط وإن لم يكونوا مستحقين للعطاء ، إذ لاهمّ لهم إلا المنفعة الدنيوية ونيل حطام الدنيا.
(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ) أي ولو أنهم رضوا ما أعطاهم اللّه من الغنائم وغيرها وأعطاهم رسوله بقسمة الغنائم والصدقات كما أمره اللّه ، وقالوا اللّه يكفينا فى كل حال ، وسيعطينا من فضله بما يرد علينا من الغنائم والصدقات ، لأن فضله لا ينقطع ، ورسوله لا يبخص أحدا منا شيئا يستحقه فى شرع اللّه ، وقالوا إنا إلى اللّه نرغب فى أن يوسع علينا من فضله فيغنينا عن الصدقة وغيرها من صلات الناس والحاجة إليهم - لو فعلوا ذلك لكان خيرا لهم من الطمع فى غير مطمع ومن همز الرسول ولمزه.(10/141)
ج 10 ، ص : 142
والخلاصة - إنهم لو رضوا من اللّه بنعمته ، ومن الرسول بقسمته ، وعلّقوا أملهم بفضل اللّه وكفايته ، وبما سينعم به عليهم فى مستأنف الأيام ، وبأن الرسول يعدل فى القسمة لكان فى ذلك الخير كل الخير لهم.
وفى ذلك إيماء إلى أن المؤمن يجب أن يكون قانعا بكسبه وما يناله بحق من صدقة ونحوها مع توجيه قلبه إلى ربه ، ولا يرغب إلا إليه فى الحصول على رغائبه التي وراء كسبه وحقوقه الشرعية.
[سورة التوبة (9) : آية 60]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
تفسير المفردات
الصدقة : هى الزكاة الواجبة على النقد والأنعام والزرع والتجارة ، والفقير ، من له مال قليل دون النصاب (أقل من اثنى عشر جنيها) والمسكين من لا شىء له فيحتاج للمسألة لقوته وكسوته ، والعامل عليها : هو الذي يولّيه السلطان أو نائبه العمل على جمعها من الأغنياء ، والمؤلفة قلوبهم : هم الذين يراد استمالة قلوبهم إلى الإسلام أو التثبيت فيه ، وفى الرقاب : أي وللإنفاق فى إعانة الأرقاء لفكاكهم من الرق ، والغارمين : أي الذين عليهم غرامة من المال تعذر عليهم أداؤها ، وفى سبيل اللّه :
أي وفى الطريق الموصل إلى مرضاة اللّه ومثوبته ، والمراد بهم كل من سعى فى طاعة اللّه وسبل الخيرات كالغزاة والحجاج الذين انقطعت بهم السبل ولا مورد لهم من المال وطلبة العلم الفقراء ، وابن السبيل : هو المسافر الذي بعد عن بلده ولا يتيسر له إحضار شىء من ماله فهو غنى فى بلده ، فقير فى سفره ، فريضة من اللّه : أي فرض اللّه ذلك فريضة ليس لأحد فيها رأى.(10/142)
ج 10 ، ص : 143
الإيضاح
مصارف الزكاة والأشخاص الذين تعطى لهم أصناف ثمانية :
(1) (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) أي إنما تعطى زكاة النقد أو النّعم أو التجارة أو الزرع للفقراء الذين يحتاجون إلى مواساة الأغنياء ، لعدم وجود ما يكفيهم من المال بحسب حالهم.
(2) (وَالْمَساكِينِ) وهم أسوأ حالا من الفقراء لقوله تعالى : « أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ » أي ألصق جلده بالتراب فى حقرة استتر بها مكان الإزار ، وبطنه به لشدة الجوع وذلك منتهى الضر والشدة.
(3) (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) وهم الذين يبعثهم السلطان لجبايتها أو حفظها ، فيشمل الجباة (المحصّلين) وخزنة المال (مديرى الخزائن) وهم يأخذون منهاعمالتهم على عملهم لا على فقرهم.
روى أحمد والشيخان أن ابن السعدي المالكي قال : استعملني عمر على الصدقة ، فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لى بعمالة ، فقلت إنما عملت للّه ، فقال : خذ ما أعطيت فإنى عملت على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعمّلنى (أعطانى العمالة) فقلت مثل قولك ، فقال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل فكل وتصدّق » .
(4) (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) وهم قوم يراد استمالتهم إلى الإسلام ، أو تثبيتهم فيه ، أو كفّ شرهم عن المسلمين ، أو رجاء نفعهم فى الدفاع عنهم أو نصرهم على عدوّ لهم ، وهم أصناف ثلاثة :
(ا) صنف من الكفار يرجى إيمانهم بتأليف قلوبهم كصفوان بن أمية الذي
وهب له النبي صلى اللّه عليه وسلم الأمان يوم فتح مكة وأمهله أربعة أشهر لينظر فى أمره وأعطاه إبلا محمّلة ، فقال هذا عطاء من لا يخشى الفقر ،
وروى أنه قال : واللّه(10/143)
ج 10 ، ص : 144
لقد أعطانى وهو أبغض الناس إلىّ ، فما زال يعطينى حتى إنه لأحبّ الناس إلى ، وقد حسن إسلامه.
(ب) صنف أسلم على ضعف ، ويرجى بإعطائه تثبيته وقوة إيمانه ومناصحته فى الجهاد كالذين أعطاهم النبي صلى اللّه عليه وسلم العطايا الوافرة من غنائم هوازن ، وهم بعض الطلقاء من أهل مكة الذين أسلموا وكان منهم المنافق ومنهم ضعيف الإيمان ، وقد ثبت أكثرهم بعد ذلك وحسن إسلامهم.
(ح) صنف من المسلمين فى الثغور وحدود بلاد الأعداء يعطون لما يرجى من دفاعهم عمن وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو.
ويرى أبو حنيفة أن سهم هؤلاء قد انقطع بإعزاز اللّه الإسلام ، واحتج بأن مشركا جاء يلتمس من عمر مالا فلم يعطه وقال (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وبأنه لم ينقل أن عثمان وعليا أعطيا أحدا من هذا النوع.
(5) (وَفِي الرِّقابِ) أي وللإنفاق فى فك الرقاب بإعانة المكاتبين من الأرقاء فى فك رقابهم من لرق ، أو لشراء العبيد واعتقاقهم ، وهذا من أكبر الإصلاح البشرى الذي هو المقصود من رحمة الإسلام وعدله.
روى أحمد والبخاري عن البراء بن عازب قال : « جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال : دلنى على عمل يقربنى من الجنة ويبعدنى من النار ، فقال : أعتق النّسمة وفكّ الرقبة ، فقال يا رسول اللّه أو ليسا واحدا ؟ قال لا : عتق الرقبة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين بثمنها » .
(6) (وَالْغارِمِينَ) وهم الذين عليهم ديون ركبتهم وتعذر عليهم أداؤها. وقد كان العرب إذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة فى دية أو غيرها قام أحدهم فتبرع بالتزام ذلك والقيام به حتى ترتفع تلك الفتنة الثائرة ، وكانوا إذا علموا أن واحدا منهم التزم غرامة أو تحمل حمالة بادروا إلى معونته على أدائها وإن لم يسأل ، وكانوا يعدون سؤال المساعدة على ذلك فخرا لا ذلا.(10/144)
ج 10 ، ص : 145
فعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال : « تحملت حمالة فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أسأله فيها ، فقال أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ، ثم قال يا قبيصة : إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمّل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش ، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من أهل الحجا من قومه : لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ، فما سواها من المسألة يا قبيصة فسحت يأكلها صاحبها سحتا » رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود.
(7) (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) وسبيل اللّه هو الطريق الموصل إلى مرضاته ومثوبته ، والمراد به الغزاة والمرابطون للجهاد ، وروى عن الإمام أحمد أنه جعل الحج من سبيل اللّه ويدخل فى ذلك جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد ونحو ذلك.
والحق أن المراد بسبيل اللّه مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد كتأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج وإن لم يوجد مصرف آخر ، وليس منها حج الأفراد لأنه واجب على المستطيع فحسب.
(8) (وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المنقطع عن بلده فى سفر لا يتيسر له فيه شىء من ماله إن كان له مال ، فهو غنى فى بلده ، فقير فى سفره ، فيعطى لفقره العارض ما يستعين به على العودة إلى بلده.
وفى ذلك عناية بالسياحة وتشجيع عليها على شرط أن يكون سفره فى غير معصية ، ويكون هذا من أسباب التعاون على البر والتقوى ، وعدم التعاون على الإثم والعدوان.
وسهولة طرق الوصول فى العصر الحاضر ونقل الأخبار فى الزمن القليل جعلت نقل المال من بلد إلى آخر ميسورا بلا كلفة ، فيسهل على الغنى أن يجلب ماله فى أي وقت أراد ، وإلى أي مكان طلب.(10/145)
ج 10 ، ص : 146
(فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) أي إنما الصدقات لمن ذكر من أصناف المحتاجين ، وفيما ذكر من مصالح الأمة فريضة من اللّه لهم أوجبها عليكم.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي واللّه عليم بأحوال الناس ومقدار حاجتهم ، حكيم فيما يشرعه لهم تطهيرا لأنفسهم وتزكية لها ، وشكرا لخالقهم على ما أنعم به عليهم كما قال :
« خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها » .
[سورة التوبة (9) : آية 61]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61)
تفسير المفردات
الأذى : ما يؤلم الحي المدرك فى بدنه أو فى نفسه ولو ألما خفيفا ، يقال أذى بكذا أذى وتأذى تأذيا إذا أصابه مكروه يسير ، والأذن : هو الذي يسمع من كل أحد ما يقول فيقبله ويصدّقه ، ويقولون رجل أذن : أي يسرع الاستماع والقبول ، ويؤمن للمؤمنين : أي يصدقهم لما علم فيهم من علامات الإيمان الذي يوجب عليهم الصدق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن من دلائل نفاقهم الطعن فى أفعاله صلى اللّه عليه وسلم كإيذاء الذين لمزوه فى قسمة الصدقات - قفى على ذلك بذكر من طعن فى أخلاقه وشمائله الكريمة بقولهم إن محمدا أذن نحلف له فيصدقنا.
روى ابن إسحاق وابن المنذر عن ابن عباس قال : « كان نبتل بن الحارث يأتى(10/146)
ج 10 ، ص : 147
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيجلس إليه فيسمع منه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين ، وهو الذي قال لهم إنما محمد أذن ، من حدثه شيئا صدقه فأنزل اللّه الآية » .
و
روى أنه اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن صامت ومخشّ بن حمير ووديعة بن ثابت فأرادوا أن يقعوا فى النبي صلى اللّه عليه وسلم فنهى بعضهم بعضا وقالوا نخاف أن يبلغ محمدا فيقع بكم ، وقال بعضهم : إنما محمد أذن نحلف له فيصدقنا فنزل (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) الآية.
الإيضاح
(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) أي ومن المنافقين جماعة يؤذون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويعيبونه ويقولون هو أذن سامعة : أي يسمع من كل أحد ما يقوله ويقبله ويصدقه ، وهم يريدون بذلك أنه سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع دون أن يتدبر فيه ويميز بين ما هو جدير بالقبول لوجود أمارات الصدق فيه ، وما لا ينبغى قبوله ، وهذا عيب فى الملوك والرؤساء لما يترتب عليه من تقريب المنافقين وإبعاد الناصحين ، وإنما قالوا ذلك لأنه كان عليه الصلاة والسلام يعاملهم بأحكام الشريعة كما يعامل عامة المؤمنين بالبناء على الظاهر ، فظنوا أنه يصدق كل ما يقال له.
(قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي إنه أذن ولكنه نعم الأذن ، لأنه أذن خير لا كما تزعمون ، فهو لا يقبل مما يسمعه إلا ما يعتقد أنه الحق وما فيه المصلحة للخلق ، وليس بأذن فى سماع الباطل كالكذب والنميمة والجدل والمراء ، وإذا سمعه من غير أن يستمع إليه لا يقبله ولا يصدق ما لا يجوز تصديقه كما هو شأن الملوك والزعماء الذين يتقرب إليهم أهل الأهواء بالسعاية لإبعاد الناصحين المخلصين عنهم ، وحملهم على إيذاء من يبتغون إيذاءه.
ثم بين سبحانه المراد من أذن الخير بقوله :
(يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي يصدق باللّه وبما يوحى إليه مما فيه خيركم وخير(10/147)
ج 10 ، ص : 148
غيركم ، ويصدق المؤمنين الصادقي الإيمان من المهاجرين والأنصار ، لما علمه من آيات إيمانهم الذي يوجب عليهم الصدق فيما يحدثونه به.
وفى هذا إيماء إلى أنه لا يؤمن لهؤلاء المنافقين إيمان تسليم ولا يصدقهم فى أخبارهم وإن وكدوها بالإيمان اغترار بلطفه وأدبه صلى اللّه عليه وسلم ، إذ كان لا يواجه أحدا بما يكره ، وبمعاملته إياهم كما يعامل أمثالهم من عامة أصحابه.
(وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي وهو رحمة للذين آمنوا منكم إيمانا صحيحا صادقا ، إذ كان سبب هدايتهم إلى ما فيه سعادتهم فى الدنيا والآخرة ، لا لمن أظهر الإسلام وأسرّ الكفر نفاقا ، إذ هو نقمة عليه فى الدارين.
(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي والذين يؤذون الرسول بالقول أو بالفعل فجزاؤهم العذاب الشديد الإيلام.
وفى هذه الآية وما فى معناها دليل على أن إيذاء الرسول صلى اللّه عليه وسلم كفر إذا كان فيما يتعلق برسالته ، لأن ذلك ينافى الإيمان. وأما إيذاؤه فى شئونه البشرية والعادات الدنيوية فحرام لا كفر كإيذاء الذين كانوا يطيلون المكث فى بيوته لدى نسائه بعد الطعام وفيهم نزل : « إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ » وإيذاء الذين كانوا يرفعون أصواتهم فى ندائه ويسمونه باسمه كما قال تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ » .
وإيذاؤه صلى اللّه عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى كإيذائه فى حال حياته كالخوض فى أبويه وآل بيته بما يعلم أنه يؤذيه لو كان حيا ، فالإيمان به صلى اللّه عليه وسلم مانع من تصدى المؤمن لما يعلم أو يظن أنه يؤذيه صلوات اللّه عليه إيذاء ما ، فهذا الذنب من أكبر الذنوب ومعصية من أعظم المعاصي.(10/148)
ج 10 ، ص : 149
[سورة التوبة (9) : الآيات 62 الى 63]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
تفسير المفردات
المحادّة من الحد : وهو طرف الشيء كالمشاقة من الشق (بالكسر) وهو الجانب ، ونصف الشيء المنشق منه ، وهما بمعنى المعاداة من العدوة (بالضم) وهى جانب الوادي لأن العدو يكون فى غاية البعد عمن يعاديه عداء البغض بحيث لا يتزاوران ولا يتعاونان فكأن كلا منهما فى شق وعدوة غير التي فيها الآخر ، إذ هما على طرفى نقيض ، وهكذا المنافقون يكونون فى الجانب المقابل للجانب الذي يحب اللّه لعباده والرسول لأمته من الحق والخير والعمل الصالح.
المعنى الجملي
روى ابن المنذر عن قتادة قال : « ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال فى شأن المتخلفين فى غزوة تبوك الذين نزل فيهم ما نزل : واللّه إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا ، وإن كان ما يقول محمد حقا لهم شر من الحمر ، فسمعها رجل من المسلمين فقال : واللّه إن ما يقول محمد لحق ، ولأنت شر من الحمار ، وسعى بها الرجل إلى نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبره ، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال : (ما حملك على الذي قلت ؟ ) فجعل يتلعن (يلعن نفسه) ويحلف باللّه ما قال ذلك ، وجعل الرجل المسلم يقول :
اللهم صدق الصادق وكذّب الكاذب فأنزل اللّه (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) الآية » .
الإيضاح
(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) هذا خطاب للمؤمنين أي يحلفون لكم إنهم ما قالوا ما نقل عنهم مما يورث أذاة النبي صلى اللّه عليه وسلم ليرضوكم ، وقد كان من دأبهم(10/149)
ج 10 ، ص : 150
أن يتكلموا بما لا ينبغى أن يقال ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالأيمان ليعذروهم ويرضوا عنهم.
وفى كثرة الاعتذار والحلف للمؤمنين فى كل ما يعلمون أنهم متهمون به من قول أو فعل ليرضوهم فلا يخبروا الرسول صلى اللّه عليه وسلم - دليل على أنهم شعروا بظهور نفاقهم وافتضاح أمرهم.
(وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) أي والحال أن اللّه ورسوله أحق بالإرضاء من المؤمنين ، فإن المؤمنين قد يصدقونهم فيما يحلفون عليه إذا لم يكن كذبهم فيه ظاهرا معلوما باليقين ، ولكن اللّه لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، فيوحى إلى رسوله صلى اللّه عليه وسلم من أمور الغيب ما فيه المصلحة للمؤمنين.
وفى التعبير بيرضوه دون يرضوهما إشعار بأن إرضاء رسوله هو عين إرضائه تعالى ، لأنه إرضاء له فى اتباع ما أرسله به.
(إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) أي إن كانوا مؤمنين كما يدّعون ويحلفون - فليرضوا اللّه ورسوله وإلا كانوا كاذبين.
وفى الآية عبرة للمنافقين فى زماننا وفى كل زمان ، إذ يحلفون حين الحاجة إلى تأكيد أخبارهم فيما يحاولون به إرضاء الناس ، وبخاصة الملوك والوزراء الذين يتقربون إليهم فيما لا يرضى ربهم ، بل فيما يسخطه بأخس الوسائل وأقذر السبل.
ثم وبخهم على ما أقدموا عليه مع علمهم بوخامة عاقبته بقوله :
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها) أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الأمر الحق الذي لا شك فيه أن من يحادد اللّه ورسوله بتعدي حدوده أو يلمز الرسول فى أعماله كقسمة الصدقات ، أو فى أخلاقه وشمائله كقولهم هو أذن - فجزاؤه جهنم يصلاها يوم القيامة خالدا فيها أبدا لا مخلص له منها.(10/150)
ج 10 ، ص : 151
(ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) أي ذلك العذاب هو الذل والهوان العظيم الذي يصغر دونه كل خزى وذل فى الحياة الدنيا.
[سورة التوبة (9) : الآيات 64 الى 66]
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66)
تفسير المفردات
الحذر : الاحتراز والتحفظ مما يخشى ويخاف منه ، والإخراج : إظهار الشيء الخفي المستتر كإخراج الحب والنبات من الأرض ، والخوض : الدخول فى البحر أو فى الوحل ، وكثر استعماله فى الباطل لما فيه من التعرض للأخطار ، والاعتذار :
الإدلاء بالعذر ، وهو ما يراد به محو أثر الذنب وترك المؤاخذة عليه من عذر الصبى يعذره أي ختنه تطهيرا له بقطع عذرته أي قلفته ، والطائفة : الجماعة من الناس والقطعة من الشيء : يقال ذهبت طائفة من الليل ومن العمر ، وأعطاه طائفة من ماله.
المعنى الجملي
جاءت هذه الآيات لبيان حال من أحوال المنافقين كشفت عنها غزوة تبوك ، أخرج ابن أبى شيبة وابن أبى حاتم عن مجاهد أن المنافقين كانوا يقولون القول فيما بينهم ثم يقولون عسى ألا يفشى علينا هذا. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : كانت هذه السورة تسمى الفاضحة فاضحة المنافقين ، وكان يقال لها المنبئة لأنها أنبأت بمثالبهم وعوراتهم.(10/151)
ج 10 ، ص : 152
الإيضاح
(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) أي يحذر المنافقون أن تنزّل على المؤمنين سورة تخبرهم بما فى قلوبهم أي قلوب المنافقين وتهتك عليهم أستارهم وتفشى أسرارهم.
وهذا الحذر والإشفاق أثر طبيعى للشك والارتياب ، إذ هم كانوا شاكين مرتابين فى الوحى ورسالة الرسول ولم يكونوا موقنين بشىء من الإيمان ولا من الكفر ، فهم مذبذبون لا هم بالمؤمنين الموقنين ، ولا بالكافرين الجازمين بالكفر ، ولو كانوا على واحد منهما لما خطر لهم الخوف على بال ، إذ تكون قلوبهم مطمئنة بأحد الأمرين.
والخلاصة - إنهم يحذرون أن تنزل سورة فى شأنهم وبيان حالهم ، فتكون فى ذلك فضيحتهم وكشف عوراتهم وإنذارهم ما قد يترتب عليه من عقابهم.
(قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) أي قل لهم : استهزئوا فإن اللّه سينزل على رسوله ما يفضحكم به ويبيّن أمركم.
ونحو الآية قوله : « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ » .
ولا يخفى ما فى هذا من التهديد والوعيد على فعلهم ، وكونه سببا لإخراجه تعالى ما يحذرون ظهوره من مخبئات سرائرهم.
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) أي إنك إن سألتهم عن أقوالهم هذه يعتذرون عنها بأنهم لم يكونوا فيها جادّين ولا منكرين ، بل هازلين لاعبين للتسلى والتلهي ، وكانوا يظنون أن هذا عذر مقبول لجهلهم أن اتخاذ الدين هزوا ولعبا كفر محض كما قال تعالى : « فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ » وقال : « فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ » .(10/152)
ج 10 ، ص : 153
ويدخل فى عموم الآية المبتدعون فى الدين ، والذين يخوضون فى الداعين إلى الكتاب والسنة ويستهزئون بهم لاعتصامهم بهما.
أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة قال : « بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى غزوته إلى تبوك ، إذ نظر إلى أناس بين يديه يقولون : أ يرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها ؟ هيهات هيهات ، فأطلع اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم على ذلك ، فقال : (احبسوا على هؤلاء الركب) فأتاهم فقال قلتم كذا وقلتم كذا. قالوا يا نبى اللّه إنما كنا نخوض ونلعب ، فأنزل اللّه فيهم ما تسمعون » .
(قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ ؟ ) أي قل لهم : إن الخوض واللعب فى صفات اللّه وشرعه وآياته المنزلة استهزاء بها. إذ كل ما يلعب به فهو مستخف به ، وكل مستخف به فهو مستهزأ به.
وقصارى ذلك - ألم تجدوا ما تستهزئون به فى خوضكم ولعبكم إلا اللّه وآياته ورسوله فقصرتم ذلك عليهما ، فهل ضاقت عليكم سبل القول ، فلم تجدوا ما تخوضون فيه وتلعبون غير هذا ، ثم بعدئذ تظنون أن معاذيركم بمثل هذا تقبل وتدلون بها بلا خوف ولا خجل.
(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي لا تذكروا هذا العذر لدفع هذا الجرم ، لأن الإقدام على الكفر لأجل اللعب لا ينبغى أن يكون ، فاعتذاركم إقرار بذنبكم فهو كما يقال : عذر أقبح من الذنب.
(إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) أي إن نعف عن بعضكم لتوبتهم وإنابتهم إلى ربهم كمخشّ بن حمير نعذب بعضا آخر لإجرامهم وإصرارهم عليه.
وخلاصة ذلك - إن من تاب من كفره ونفاقه عفى عنه ، ومن أصر عليه وأظهره عوقب به.(10/153)
ج 10 ، ص : 154
[سورة التوبة (9) : الآيات 67 الى 70]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
تفسير المفردات
بعضهم من بعض : أي متشابهون فيه وصفا وعملا كما تقول أنت منى وأنا منك أي أمرنا واحد لا افتراق بيننا ، والمنكر : إما شرعى وهو ما يستقبحه الشرع وينكره ، وإما فطرى : وهو ما تستنكره العقول الراجحة والفطر السليمة لمنافاته للفضائل والمنافع الفردية والمصالح العامة ، وضده المعروف فى كل ذلك ، وقبض الأيدى : يراد به الكف عن البذل ، وضده بسط اليد ، نسوا اللّه : أي تركوا أوامره حتى صارت بمنزلة المنسيّ ، فنسيهم : أي فجازاهم على نسيانهم بحرمانهم من الثواب على ذلك فى الآخرة ، والفاسقون : أي الخارجون عن الطاعة ، المنسلخون عن فضائل الإيمان ، والوعد : يستعمل فى إعطاء الخير والشر والنافع والضار ، والوعيد خاص بالشر ،(10/154)
ج 10 ، ص : 155
واللعن : الإبعاد من الرحمة والإهانة والمذلة ، والمقيم : الثابت الذي لا يتحول ، بخلاقهم :
أي بنصيبهم من ملاذ الدنيا ، وخضتم : أي دخلتم فى الباطل ، وحبط العمل : فسد وذهبت فائدته ، والخسارة فى التجارة : تقابل الربح فيها ، وأصحاب مدين : قوم شعيب ، والمؤتفكات واحدها مؤتفكة من الائتفاك : وهو الانقلاب بجعل أعلى الشيء أسفله بالخسف ، وهى قرى قوم لوط.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه فى هذه الآيات أنواعا وضروبا من قبائح المنافقين كان ذكرانهم وإناثهم يفعلونها ، وقرنها بالوعيد الشديد بما أعد لهم من الجزاء فى زمرة إخوانهم الكفرة الذين من قبلهم على ما كانوا يقترفون من الفساد والإفساد ، وتلاه بضرب المثل الذي يشرح حالهم لبيان السنن العامة فى روابط الاجتماع وآثار الأخلاق فى تلك الروابط.
الإيضاح
(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي إن أهل النفاق رجالا ونساء يتشابهون فى صفاتهم وأخلاقهم وأعمالهم كما قال تعالى فى آل إبراهيم وآل عمران « ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ » وقال الشاعر :
تلك العصا من هذه العصيّه هل تلد الحيّة إلا حيّه
ثم بين ذلك التشابه فقال :
(يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) أي إن بعضهم يأمر بعضا بالمنكر كالكذب والخيانة وإخلاف الوعد ونقض العهد كما
جاء فى الحديث : « آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان » رواه الشيخان عن أبى هريرة.(10/155)
ج 10 ، ص : 156
وينهون عن المعروف كالجهاد وبذل المال فى سبيل اللّه للقتال كما حكى اللّه عنهم بقوله « هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا » .
واقتصر من منكراتهم الفعلية على الامتناع عن البذل ، لأنه شرها وأضرها وأقواها دلالة على النفاق كما أن الإنفاق فى سبيل اللّه أقوى دلائل الإيمان.
(نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) أي نسوا أن يتقربوا إليه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ولم يعد يخطر ببالهم أن له عليهم حق الطاعة والشكر ، واتبعوا أهواءهم ووساوس الشيطان ، فجازاهم على ما فعلوا بحرمانهم من لطفه وتوفيقه فى الدنيا ، ومن الثواب فى الآخرة.
(إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي إن المنافقين الناكبين عن الصراط المستقيم إلى سبيل الشيطان هم أكثر الناس فسوقا وخروجا من جميع الفضائل ، حتى من الكفار الذين يعتقدون صحة عقائدهم الباطلة ، فهم لا يبلغون مبلغهم فى الفسوق والخروج من طاعة اللّه والانسلاخ من فضائل الفطر السليمة.
ثم بين سبحانه ما أعدّ لهم ولأمثالهم من العقاب جزاء لهم على أعمالهم فقال :
(وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي وعد اللّه هؤلاء جميعا نار جهنم يصلونها ما كثين فيها أبدا.
وقدم المنافقين فى الوعيد على الكفار للإيذان بأنهم وإن أظهروا الإيمان وعملوا أعمال الإسلام - شر من الكفار ، ولا سيما المتدينين منهم بأديان محرّفة أو منسوخة كأهل الكتاب.
(هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي إن نار جهنم فيها من الجزاء ما يكفيهم عقابا لهم فى الآخرة على أعمالهم ، وعليهم لعنة اللّه فى الدنيا والآخرة بحرمانهم من رحمته التي لا يستحقها إلا المؤمنون الصادقون ، ولهم عذاب مقيم غير عذاب جهنم كالسّموم الذي يلفح وجوههم ، والحميم الذي يصهر ما فى بطونهم ، والضريع الذي(10/156)
ج 10 ، ص : 157
لا يسمن ولا يغنى من جوع ، وحرمانهم من لقاء اللّه وكرامته والحجاب دون رؤيته كما قال : « كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ. ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ » .
(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) أي أنتم أيها المنافقون المؤذون للّه ورسوله صلى اللّه عليه وسلم. والمؤمنين كأولئك المنافقين الذين خلوا من قبلكم فى أقوام الأنبياء فتنثم بأموالكم وأولادكم وغررتم بدنياكم كما فتنوا وغرّوا بها ، ولكنهم كانوا أشد منكم قوة وأكثر منكم أموالا وأولادا ، وقد كان جلّ مطلبهم وسعيهم هو التمتع بنصيبهم وحفظهم الدنيوي من الأموال والأولاد ، فأطغتهم الدنيا وأغرتهم لذاتها ، ولم يكن لهم مقاصد شريفة من الحياة كالتى يقصدها أهل الإيمان باللّه ورسله والدار الآخرة من إعلاء كلمة الحق وإقامة ميزان العدل والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
(فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) أي وقد سلكتم أيها المنافقون سبيلهم فى الاستمتاع بخلاقكم ، فأنتم فعلتم بدينكم ودنياكم كما فعل الذين كانوا من قبلكم ، ولم تفضلوا عليهم بشىء من الاسترشاد بكلام اللّه وهدى رسوله ، إذ لم تعملوا شيئا من الفضائل التي تزكى النفوس وتجعلها أهلا للسعادة ، فكنتم أجدر بالعقاب منهم ، لأنهم أوتوا من القوة والأموال فوق ما أوتيتم ، ولم يروا من آيات اللّه ما رأيتم.
والخلاصة - إنكم حذوتم حذوهم وسلكتم سبيلهم مع توافر الدواعي على فعل ضد ما تعملون.
(وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) أي ودخلتم فى الباطل كما دخلوا على ما بين حالكم وحالهم من الفوارق التي كانت تقتضى أن تكونوا أهدى منهم سبيلا.
(أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي إن أولئك المستمتعين بخلاقهم وحظهم والخائضين فى الباطل حبطت أعمالهم الدنيوية(10/157)
ج 10 ، ص : 158
فكان ضررها أكبر من نفعها لهم ، لإسرافهم وإفسادهم فى الأرض ، وكذلك أعمالهم الدينية فى الآخرة من عبادات وصلة رحم وصدقة وقرى ضيف ، فلم يكن لهم أجر عليها ينقذهم من عذاب النار ويدخلهم الجنة ، إذ شرط قبولها فى الآخرة الإيمان والإخلاص ، فهم خسروا فى مظنة الربح والمنفعة.
ونحو الآية قوله : « هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ؟ » .
ثم نبههم وحذرهم سوء عاقبة أعمالهم فقال :
(أَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ) أي ألم يأت أولئك المنافقين والكفار الذين كانوا فى عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم خبر الأمم الذين كانوا من قبلهم حين عصوا رسلهم وخالفوا أمر ربهم فأخذهم العذاب كالطوفان الذي أغرق قوم نوح ، والريح العقيم التي أهلكت عادا قوم هود ، والصيحة التي أخذت ثمود ، والعذاب الذي هلك به النّمروذ الذي حاول إحراق إبراهيم ، والخسف الذي نزل بقرى قوم لوط وهم فيها.
وما كان من سنة اللّه ولا من مقتضى عدله وحكمته أن يظلمهم بما حل بهم من العذاب ، وقد أعذرهم وأنذرهم ليجتنبوه ، ولكن كانوا يظلمون أنفسهم بجحودهم وعنادهم وعدم مبالاتهم بإنذار رسلهم.
وقد ضرب هذا المثل للكافرين برسالته صلى اللّه عليه وسلم والمنافقين ، ليبين لهم أن سنة اللّه فى عباده واحدة لا ظلم فيها ولا محاباة ، فلابد أن يحلّ بهم من العذاب مثل ما حل بأمثالهم من أقوام الرسل إن لم يتوبوا.
وقد أهلك اللّه تعالى أكابر الجاحدين المعاندين منهم فى أول غزوة وهى غزوة بدر ، ثم خذل من بعدهم فى سائر الغزوات ، وما زال المنافقون يكيدون له فى السر حتى فضحهم اللّه بهذه السورة ، فتاب أكثرهم ومات زعيمهم عبد اللّه بن أبىّ بغيظه وكفره ولم تقم للنفاق قائمة من بعده.(10/158)
ج 10 ، ص : 159
وبهذا التمحيص كانت أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس.
نشر اللّه بها أعلام دينه حتى سادت العالم جميعه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 71 الى 72]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه أفعال المنافقين الخبيثة وذكر ما أعده لهم من العذاب فى الدنيا والآخرة - قفّى على ذلك بذكر صفات المؤمنين الذين زكت نفوسهم وطهرت سرائرهم وما أعده لهم من الثواب الدائم والنعيم المقيم.
الإيضاح
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) الولاية ضد العداوة ، وتشمل ولاية النصرة وولاية الأخوة والمودة ، ونصرة النساء تكون فيما دون القتال من الأعمال المتعلقة بتعبئة الجيوش من الأمور المالية والبدنية ، وكان نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم ونساء أصحابه يخرجن مع الجيش يسقين الماء ويجهزن الطعام ويحرضن على القتال ويرددن المنهزم من الرجال قال حسان :
تظلّ جيادنا متمطّرات تلطّمهن بالخمر النساء
وقال فى وصف المؤمنين : بعضهم أولياء بعض ، وفى وصف المنافقين بعضهم(10/159)
ج 10 ، ص : 160
من بعض - لأن المؤمنين بينهم أخوة ومودة وتعاون وتراحم حتى شبه النبي صلى اللّه عليه وسلم جماعتهم بالجسد الواحد ، وبالبنيان يشد بعضه بعضا ، وبينهم ولاية النصرة فى الدفاع عن الحق والعدل وإعلاء كلمة اللّه.
أما المنافقون فيشبه بعضهم بعضا فى الشكوك والذبذبة وما يتبعها من الجبن والبخل وهما يمنعان من التناصر ببذل النفس والمال ، وقصارى أمرهم التعاون بالكلام وما لا يشق من الأعمال ، ومن ثم أكذب اللّه منافقى المدينة فى وعدهم لليهود حلفاتهم بنصرهم على النبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين إذا قاتلوهم فى قوله : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً ، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ » .
(يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وصف اللّه المؤمنين فى هذه الآية بصفات خمس تضادّ مثلها فى المنافقين.
(ا) إنهم يأمرون بالمعروف والمنافقون يأمرون بالمنكر.
(ب) إنهم ينهون عن المنكر والمنافقون ينهون عن المعروف ، وهاتان الخصلتان هما سياج الفضائل ومنع فشوّ الرذائل.
(ح) إنهم يؤدون الصلاة على أقوم وجه وأكمله بخشوع وإخبات للّه وحضور القلب فى مناجاته ، والمنافقون إذا قاموا إلى الصلاة قاموا وهم كسالى يراءون الناس.
(د) إنهم يعطون الزكاة المفروضة عليهم وما وفّقوا له من التطوع ، والمنافقون يقبضون أيديهم ، والمنافقون وإن كانوا يصلون ، لم يكونوا يقيمون الصلاة ، وكانوا يزكون وينفقون ولكن خوفا أو رياء لا طاعة للّه تعالى كما قال سبحانه : « وَما مَنَعَهُمْ(10/160)
ج 10 ، ص : 161
أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ »
.
(ه) إنهم يستمرون على الطاعة بترك ما نهوا عنه وفعل ما أمروا به بقدر الطاقة ، وبضد ذلك المنافقون فإنهم فاسقون خارجون عن حظيرة الطاعة كما تقدم.
ثم ذكر ما يكون لهم من حسن العاقبة وعظيم الجزاء على جميل أعمالهم فقال :
(أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) أي إنه تعالى يتعدهم برحمته فى الدنيا والآخرة باستمرارهم على طاعته وطاعة رسوله ، ويقابل هذا نسيانه تعالى للمنافقين ولعنه إياهم.
(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إنه تعالى عزيز لا يمتنع عليه شىء من وعده ولا وعيده حكيم لا يضع شيئا منهما فى غير موضعه.
وبعد أن بيّن صفاته ورحمته لهم إجمالا - بين ما وعدهم به من الجزاء المفسّر لرحمته تقصيلا فقال :
(وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) الجنات : البساتين الملتفة الأشجار التي تجنّ ما تحتها : أي تغطيه وتستره ، وجريان الأنهار من تحت أشجارها مما يزيد جمالها ، والمساكن الطيبة فى جنات عدن هى الدور والخيام التي يطيب لساكنيها المقام فيها لاحتوائها على ما يطلبون من الأثاث والرياش والزينة التي بها تتم راحة المقيم فيها وسروره ، والعدن : الإقامة والاستقرار ، يقال عدن فى مكان كذا إذا أقام فيه وثبت ، فجنات عدن هى جنات الإقامة والخلود كقوله : « جَنَّةُ الْخُلْدِ - جَنَّةُ الْمَأْوى » وقيل إنه منزل من منازل دار النعيم كالفردوس الذي هو أوسط الجنة أو أعلاها.
روى عن أبى هريرة « إن فى الجنة مائة درجة أعدها اللّه للمجاهدين فى سبيله ، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، ومنه تفجّر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن » .(10/161)
ج 10 ، ص : 162
(وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) رضوان اللّه هو مقام رؤيته تعالى التي تكمل بها معرفته والإنسان جسد وروح ، ففى الجنات ومساكنها أعلى النعيم الجسماني ، ورضوان اللّه هو أعلى النعيم الروحاني.
(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الوعد بالنعيم الجسماني والروحاني هو الفوز العظيم الذي يجزى به المؤمنون المخلصون ، لا غيره من حظوظ الدنيا الفانية التي يتكالب عليها الكفار والمنافقون.
وقد ورد فى وصف الجنة ودرجاتها أحاديث بعضها موضوع ، وبعضها منكر ، ومن ذلك ما روى عن أبى هريرة وعمران بن حصين أنهما قالا لمن سألهما : على الخبير سقطت ، وأنهما سألا عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذكرا وصفا طويلا ، منه أنه يوجد هناك ألوف من البيوت فى كل منها ألوف من الحور العين ، وهو حديث منكر من دسائس الوضاعين ككعب الأحبار وغيره. قال ابن القيم : لم يثبت فى نساء الجنة حديث صحيح بأكثر من زوجين لكل رجل.
[سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 74]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)
تفسير المفردات
الجهاد ، والمجاهدة : استفراغ الجهد والوسع فى مدافعة العدو ، وهو ثلاثة أضرب :
مجاهدة العدو الظاهر. مجاهدة الشيطان. مجاهدة النفس والهوى ، ويشير إلى هذه(10/162)
ج 10 ، ص : 163
كلها قوله تعالى : « وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ - وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »
وقال صلى اللّه عليه وسلم « جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم »
وقال « جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم »
والجهاد باللسان : إقامة الحجة والبرهان ، والجهاد باليد : الجهاد بالسيف وكل الوسائل الحربية والغلظة : الخشونة والشدة فى المعاملة ، وهى ضد اللين. ونقم منه الشيء : أنكره وعابه عليه.
المعنى الجملي
بعد أن وصف اللّه تعالى المؤمنين بشريف الصفات ، ووعدهم بأجزل الثواب وأرفع الدرجات - أعاد الكرّة إلى تهديد المنافقين وإنذارهم بالجهاد كالكفار المجاهرين بكفرهم إذا هم استرسلوا فى إظهار ما ينافى الإسلام من الأقوال والأفعال كالقول الذي قالوه وأنكروه بعد أن أظهره اللّه عليه وكذبهم فى إنكارهم.
وجهادهم ألا يعاملوا معاملة المؤمنين الصادقين ، فيقابلون بالغلظة والتجهم لا بالطلاقة والبشر إلى نحو ذلك مما سيذكر بعد.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي ابذل أيها النبي جهدك فى مقاومة هاتين الطائفتين اللتين تعيشان بين ظهرانيك بمثل ما يبذلان من جهد فى عداوتك ، وعاملهما بالغلظة والشدة التي توافق سوء حالهما.
وقد اتفق الأئمة على أن المنافقين يعاملون بأحكام الشريعة كالمسلمين الصادقين ، فلا يقاتلون إلا إذا ارتدوا أو بغوا على جماعة المسلمين بالقوة أو امتنعوا من إقامة شعائر الإسلام وأركانه. وعن ابن عباس رضى اللّه عنه قال : جهاد الكفار بالسيف ، وجهاد المنافقين باللسان : أي بالحجة والبرهان.(10/163)
ج 10 ، ص : 164
وكان كفار اليهود يؤذون النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى بتحريف السلام عليه بقولهم (السام عليكم) ، والسام الموت فيقول : (وعليكم) ثم تكرر نقضهم للعهد حتى كان من أمرهم ما تقدم ذكره ، وكان يعامل المنافقين باللطف واللين بناء على حكم الإسلام الظاهر ، فجرّأهم هذا على أذاه بنحو قولهم (هُوَ أُذُنٌ) فأمره اللّه فى هذه الآية بالغلظة على الفريقين فى جهاده التأديبى لهم ، لأن أمثالهم لا علاج له إلا هذا كما قال :
ووضع النّدى فى موضع السيف بالعلا مضرّ كوضع السيف فى موضع الندى
وهو جهاد فيه مشقة عظيمة ، لأنه موقف وسط بين رحمته ولينه للمؤمنين المخلصين ، وشدته فى قتاله لأعدائه المحاربين ، يجب فيه إقامة العدل واجتناب الظلم ، وأثر عن عمر أنه قال : « أذلّوهم ولا تظلموهم » .
وفى هذه الغلظة تربية للمنافقين وعقوبة لهم يرجى أن تكون سببا فى هداية من لم يطبع الكفر على قلبه وتحط به خطايا نفاقه ، فتقطيب وجهه صلى اللّه عليه وسلم فى وجوههم تحقير لهم يتبعه فيه المؤمنون ، ومن ير أنه محتقر بين قومه وأبناء جنسه من الرئيس وغيره يضق صدره ، ويحاسب نفسه ويثب إلى رشده ويتب إلى ربه.
وهذه السياسة الحكيمة كانت سبب توبة أكثر المنافقين وإسلام ألوف الألوف من الكافرين.
(وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي لا مأوى لهم يلجئون إليه إلا دار العذاب التي لا يموت من أوى إليها ، ولا يحيا حياة طيبة ، وبئس المصير هى « إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً » .
والخلاصة - إنهم قد اجتمع لهم عذابان : عذاب الدنيا بالجهاد والغلظة ، وعذاب الآخرة بأن تكون جهنم مأواهم.
ثم ذكر سبحانه الجرائم الموجبة لجهادهم كالكفار ، وهى أنهم أظهروا الكفر بالقول وهموا بشرّ ما يغرى به من الفعل ، وهو الفتك برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،(10/164)
ج 10 ، ص : 165
وقد أظهره اللّه عليه وأنبأه بأنهم سينكرونه إذا سألهم ويحلفون على إنكارهم ليصدقهم كدأبهم من قبل ، فقد كانوا يحلفون للمؤمنين ليرضوهم كما قال تعالى « اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً » ويخوضون فى آيات اللّه وفى رسوله استهزاء خرجوا به من الإيمان الذي يدّعونه إلى الكفر الذي يكتمونه فقال :
(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا ، وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) أي يحلفون باللّه إنهم ما قالوا تلك الكلمة التي نسبت إليهم ، واللّه يكذبهم ويثبت أنهم قد قالوا كلمة الكفر التي رويت عنهم ، ولم يذكر القرآن هذه الكلمة لأنه لا ينبغى ذكرها ، ولئلا يتعبد المسلمون بتلاوتها ، وأصح ما قيل فيها ما
رواه ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضى اللّه عنه قال : « كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالسا فى ظل شجرة فقال : إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان ، فإذا جاء فلا تكلّموا ، فلم يلبثوا أن طلع رجل أرزق فدعاه رسول اللّه فقال له : علام تشتمنى أنت وأصحابك ؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا باللّه ما قالوا ، فتجاوز عنهم فأنزل اللّه : يحلفون باللّه ما قالوا » الآية.
أما همّهم بما لم ينالوا فهو اغتيال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى العقبة منصرفه من تبوك - ذاك أنه
لما رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قافلا من تبوك إلى المدينة ، حتى إذا كان ببعض الطريق مكر برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ناس من المنافقين فتآمروا أن يطرحوه من عقبة فى الطريق ، فلما بلغوا العقبة أرادوا أن يسلكوها معه ، فلما غشيهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخبر خبرهم فقال : من شاء منكم أن يأخذ ببطن الوادي فإنه أوسع لكم. وأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العقبة وأخذ الناس ببطن الوادي إلا النفر الذين هموا بالمكر برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإنهم لما سمعوا بذلك استعدوا وتلثّموا وقد هموا بأمر عظيم ، وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حذيفة ابن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه ، وأمر عمارا أن يأخذ بزمام الناقة ، وأمر حذيفة أن يسوقها ، فبينما هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه ، فغضب(10/165)
ج 10 ، ص : 166
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأمر حذيفة أن يردهم ، وأبصر حذيفة غضب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرجع ومعه محجن ، واستقبل وجوه رواحلهم فضربها ضربا بالمحجن وأبصر القوم وهم متلثمون ولا يشعر إلا أن ذلك فعل المسافر ، فأرعبهم اللّه سبحانه حين أبصروا حذيفة وظنوا أن مكرهم قد ظهر عليه فأسرعوا حتى خالطوا الناس ، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلما أدركه قال : « اضرب الراحلة يا حذيفة وامش أنت يا عمار وراءها » فأسرعوا حتى استووا بأعلاها ، فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لحذيفة « هل عرفت من هؤلاء الركب أحدا ؟ » قال حذيفة عرفت راحلة فلان وفلان ، وقال : كانت ظلمة الليل وغشيتهم وهم متلثمون ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « هل علمتم ما كان شأن الركب وما أرادوا ؟ » قالوا : لا واللّه يا رسول اللّه ، قال : « فإنهم مكروا ليسيروا معى حتى إذا طلعت فى العقبة طرحونى منها » قالوا : أولا تأمر بهم يا رسول اللّه إذا فنضرب أعناقهم ؟ قال « أكره أن يتحدث الناس ويقولوا : إن محمدا قد وضع يده فى أصحابه » فسماهم لهما وقال : « اكتماهم » .
والصحيح فى عددهم ما
رواه مسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « فى أمتى اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل فى سم الخياط ، ثمانية منهم تكفيكهم الدّبيلة (خرّاج ودمّل كبير يظهر فى الجوف يقتل صاحبه كثيرا) سراج من النار يظهر فى أكتافهم حتى ينجم من صدورهم »
أي كأنه سراج من النار.
(وَ ما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي وما أنكر هؤلاء المنافقون من أمر الإسلام وبعثة الرسول صلى اللّه عليه وسلم فيهم شيئا يقتضى الكراهة والهم بالانتقام - إلا إغناء اللّه تعالى إياهم ورسوله من فضله بالغنائم التي هى عندهم أحب الأشياء لديهم فى هذه الحياة ، وكانوا كسائر الأنصار فقراء فأغناهم اللّه(10/166)
ج 10 ، ص : 167
ببعثة الرسول ونصره وبما آتاه من الغنائم كما وعده ، ومن ثم
قال صلى اللّه عليه وسلم للأنصار « كنتم عالة فأغناكم اللّه بي » .
(فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ) أي فإن يتوبوا من النفاق وما يصدر عنه من مساوى الأقوال والأفعال ، يكن ذلك المتاب خيرا لهم فى الدنيا والآخرة ، أما فى الدنيا فيما فيه من التوكل على اللّه والرضا بقضائه ، والصبر على بلائه ، والعمل لما فيه السعادة فى الآخرة ومعاشرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومشاهدة فضائله وأخوّة المؤمنين بعضهم لبعض وما فيها من الودّ والوفاء الكامل والإيثار على النفس إلى نحو ذلك.
وأما فى الآخرة فبما علمت مما وعد اللّه به المؤمنين من الجنات التي تجرى من تحتها الأنهار والمساكن الطيبة.
(وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي وإن أعرضوا عما دعوا إليه من التوبة وأصروا على النفاق وما ينشأ منه من المساوى الخلقية والنفسية - يعذبهم اللّه عذابا أليما فى الدنيا بما يلازم قلوبهم من الخوف والهلع كما قال سبحانه « لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ » وقال :
« يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ » فهم فى جزع دائم وهمّ ملازم.
وأما فى الآخرة فحسبك ما تقدم من وعيدهم بتلك النار التي تطلع على الأفئدة.
(وَ ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي وما لهم فى الأرض كلها من يتولى أمورهم ولا من ينصرهم ويدافع عنهم ، إذ من خذله اللّه فلا يقدر أحد أن يجيره.
أما فى الدنيا فقد أغلقت فى وجوههم الأبواب ، فقد خص اللّه ولاية الأخوة والمودة والنصرة بالمؤمنين والمؤمنات دون المنافقين والمنافقات ، وقد قضى الإسلام على جوار الجاهلية وعلى أحلافهم من أهل الكتاب فى الحجاز بالقتل والجلاء.
وأما فى الآخرة فقد تظاهرت النصوص على أنه لاولىّ ولا ظهير للكفار والمنافقين.(10/167)
ج 10 ، ص : 168
[سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 78]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)
المعنى الجملي
هذه الآيات بيان لحال طائفة أخرى من المنافقين أغناهم اللّه بعد فقر وإملاق ، وقد كانوا يلجئون إلى اللّه وقت البأساء والضراء فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له والطاعة لشرعه إذا هو كشف ضرهم وأغناهم بعد فقرهم ، فلما استجاب دعاءهم نكصوا على أعقابهم وكفروا النعمة وهضموا حقوق الخلق - ومثل هؤلاء يوجدون فى كل زمان ومكان.
الإيضاح
(وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ومن المنافقين من أعطى اللّه عهده وميثاقه لئن أغناه من فضله مالا وثروة ليشكرنّ له نعمته بالصدقة منها ، وليعملنّ عمل أهل الصلاح بأموالهم من صلة الرحم به والإنفاق فى سبيل اللّه : كإعداد العدة للجهاد وبذل المستطاع لخير الأمة وسعادتها بما يرقى بها فى مختلف شئونها.
(فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي فلما رزقهم وأعطاهم ما طلبوا - بخلوا بما آتاهم وأمسكوه فلم يتصدقوا منه بشىء ، وتولوا وانصرفوا عن الاستعانة به على الطاعة وإصلاح حالهم وحال أمتهم كما عاهدوا اللّه عليه ، ولم يكن(10/168)
ج 10 ، ص : 169
ذلك التولي عارضا طارئا ، بل تولوا بكل ما أوتوا من قوة بحافز نفسىّ ملك عليهم أمرهم ومنعهم عن التصدق ، بحيث إذا ذكّروا بما يجب عليهم لا يذكرون ، وإذا دعوا لا يستجيبون.
(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) قال الليث : يقال أعقبت فلانا ندامة إذا صيرت عاقبة أمره كذلك كما قال الهذلي :
أودى بنىّ وأعقبونى حسرة بعد الرّقاد وعبرة لا تقلع
أي أعقبهم ذلك البخل والتولي بعد العهد الموثّق بأوكد الأيمان نفاقا فى قلوبهم متمكنا منها وملازما لها إلى يوم الحساب فى الآخرة لأنه لا رجاء معه فى التوبة.
ثم ذكر سببين هما من أخص أوصاف المنافقين - إخلاف الوعد والكذب فقال :
(بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) أي إن سنة اللّه فى البشر قد جرت بأن العمل بما يقتضيه النفاق يمكّن النفاق فى القلب ويقويه ، كما أن العمل بمقتضى الإيمان يزيد الإيمان قوة ورسوخا فى النفس ، وهكذا جميع الأخلاق والعقائد تقوى وترسخ بالعمل الذي يصدر منها.
فهؤلاء لما كان قد رسخ فى نفوسهم خلف الوعد واستمرار الكذب - مكّن ذلك النفاق فى قلوبهم بمقتضى سننه وتقديره.
أخرج ابن جزير وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس فى قوله (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ) الآية : أن رجلا من الأنصار يقال له ثعلبة أتى مجلسا فأشهدهم قال : لئن آتاني اللّه من فضله آتيت كل ذى حق حقه وتصدقت وجعلت منه للقرابة ، فابتلاه اللّه فآتاه من فضله ، فأخلف ما وعده ، فأغضب اللّه بما أخلفه ما وعده ، فقص اللّه شأنه فى القرآن اه.
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يعلنون غير ما يسرّون ، ويتناجون فيما بينهم بالإثم والعدوان ولمز الرسول - أن اللّه يعلم السر الكامن فى أعماق نفوسهم الذي يخصون به من يثقون به(10/169)
ج 10 ، ص : 170
ممن هو مشارك لهم فى النفاق ، وأن اللّه يعلم الغيوب كلها لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء ، فكيف يكذبون على اللّه فيما يعاهدونه به وعلى الناس فيما يحلفون عليه باسمه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 79 الى 80]
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)
تفسير المفردات
لمزه : عابه ، والمطّوّع : أي المتطوع ، وهو من يؤدى ما يزيد على الفريضة ، والصدقات : واحدها صدقة ، والجهد (بالضم والفتح) الطاقة : وهى أقصى ما يستطيعه الإنسان ، وسخر منه : استهزأ به احتقارا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه بخل المنافقين وشحهم بأموالهم حتى بعد أن عاهدوا اللّه على الصدقة إذا آتاهم من فضله - أردف ذلك ببيان أنهم لم يقتصروا فى جرمهم على هذا الحد ، بل جاوزوا ذلك إلى لمز المؤمنين وذمهم فى صدقاتهم غنيهم وفقيرهم ، وأنهم لهذا قد وصلوا إلى حدّ لم يعد لهم فيه أدنى حظ من الإسلام ، ولا أدنى نفع من استغفار الرسول ودعائه لهم لرسوخهم فى الكفر باللّه ورسوله وعدم الرجاء فى إيمانهم.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبى مسعود البدري قال : « لما أمرنا بالصدقة(10/170)
ج 10 ، ص : 171
كنا نتحامل (يحمل بعضنا لبعض بالأجر) فجاء أبو عقيل (اسمه الحبحاح) بنصف صاع وجاء إنسان بأكثر منه ، فقال المنافقون : إن اللّه غنى عن صدقة هذا ، وما فعل الآخر هذا إلا رياء. فنزلت (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) الآية » .
وروى ابن جرير عن عكرمة قال : « حثّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الصدقة فى غزوة تبوك فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف ، وقال : يا رسول اللّه مالى ثمانية آلاف جئتك بنصفها وأمسكت نصفها فقال « بارك اللّه لك فيما أمسكت وفيما أعطيت » وتصدق يومئذ عاصم بن عدى بماثة وسق (ثلاثمائة وعشرين رطلا) من تمر وجاء أبو عقيل بصاع من تمر ، الحديث.
الإيضاح
(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ) أي أولئك هم الذين يلمزون المتطوعين من المؤمنين ويعيبونهم فى أمر الصدقات التي هى أظهر آيات الإيمان ، ويذمونهم فى أكمل فضائلهم ويقولون ما فعلوها لوجه اللّه وإنما فعلوها رئاء الناس.
فلمزهم هنا فى مقدارها وصفة أدائها لا فيها نفسها ، واللمز هناك فى قسمتها ،
وقد جاء فى بعض الروايات « أن النبي صلى اللّه عليه وسلم حث على الصدقة فجاء عمر بصدقة ، وجاء عثمان بصدقة عظيمة وكثير من أصحابه بصدقات ، فقال المنافقون : ما أخرج هؤلاء صدقاتهم إلا رياء ، وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليذكّر بنفسه » .
(وَ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) أي ويلمزون الذين لا يجدون إلا جهدهم : أي الفقراء الذين تصدقوا بقليل هو مبلغ جهدهم وآخر طاقتهم ، فيستهزئون بهم احتقارا لما جاءوا به وعدّا له من الحماقة والجنون.
وخص هؤلاء بالذكر وإن كانوا داخلين فى المتطوعين ، لأن مجال لمزهم عند المنافقين أوسع ، والسخرية منهم أشد ، وهم أهل الإجلال والإكبار والأحق بالثناء عند المؤمنين.(10/171)
ج 10 ، ص : 172
(سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) أي فجازاهم اللّه بمثل ذنبهم ، فجعلهم سخرية للمؤمنين وللناس أجمعين بفضيحتهم فى هذه السورة ببيان مخازيهم وعيوبهم.
(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تقدم بيانه فى هذه السورة بهذا اللفظ وغيره.
ثم بين سبحانه عقابهم وسوّاهم بالكافرين فقال :
(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) أي إن تدع لهؤلاء المنافقين وتسأل اللّه أن يستر عليهم ذنوبهم بالعفو عنها وترك فضيحتهم بها أو لا تدع فلن يستر اللّه عليهم ولن يعفو عنهم ، ولكنه يفضحهم على رءوس الأشهاد يوم القيامة.
ويراد بالسبعين فى مثل هذا الأسلوب الكثرة لا العدد المعين ، فالمراد أنك مهما أكثرت من الاستغفار لهم فلن يستجاب لك فيهم ، وقد كان صلى اللّه عليه وسلم يستغفر لهم رجاء أن يهديهم اللّه فيتوب عليهم ويغفر لهم ، كما كان يدعو للمشركين كلما اشتد إيذاؤهم له
ويقول « اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون » رواه ابن ماجه.
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي من أجل جحودهم وحدانية اللّه وعدم إيقانهم بما وصف به تعالى نفسه من العلم بالسر والنجوى وسائر الغيوب ، وجحودهم وحيه لرسوله صلى اللّه عليه وسلم وبما أوجبه من اتباعه ، وجحودهم بعثه للموتى وجزاءهم على أعمالهم - لم يعف عن ذنوبهم ولا غما دسّوا به أنفسهم من الآثام والمعاصي.
(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي إن سنة اللّه قد جرت فيمن أصروا على فسوقهم وتمردوا فى نفاقهم وأحاطت بهم خطاياهم - أن يفقدوا الاستعداد للتوبة والإيمان فلا يهتدون إليهما سبيلا.(10/172)
ج 10 ، ص : 173
[سورة التوبة (9) : الآيات 81 الى 83]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83)
تفسير المفردات
الفرح : الشعور بارتياح النفس وسرورها ، والخلاف والمخالفة بمعنى ، ويستعمل خلافه بمعنى بعده ، يقال جلست خلاف فلان وخلفه : أي بعده ، ومنه : « وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا » والمخلفون من خلّف فلانا : أي تركه خلفه ، ويفقهون : أي يعقلون ، والخالف : المتخلف.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر بعض سوءات المنافقين من اعتذارهم للمؤمنين عن الخروج معهم للقتال ولمزهم فى قسمة الصدقات وفى إعطائها ، عاد إلى الكلام فى ذكر حال الذين تخلفوا عن القتال فى غزوة تبوك وظلّوا فى المدينة ، وبيان ما يجب من معاملة هؤلاء بعد الرجوع إليها ، وقد نزل ذلك أثناء السفر.
الإيضاح
(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ) أي فرح المخلفون من هؤلاء المنافقين الذين تركهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند خروجه إلى غزوة تبوك بقعودهم فى بيوتهم مخالفين اللّه ورسوله ، وإنما فرحوا بذلك لأنهم لا يؤمنون بما فى الخروج معه من أحر عظيم لا تذكر معه راحة القعود فى البيوت شيئا.(10/173)
ج 10 ، ص : 174
(وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) أي وقالوا لإخوانهم فى النفاق إغراء لهم بالثبات على المنكر وتثبيطا لعزائم المؤمنين : لا تنفروا فى الحر ، قل لهم أيها الرسول مفنّدا آراءهم ومسفّها أحلامهم : نار جهنم التي أعدها اللّه لمن عصاه وعصى رسوله أشد حرا من تلك الأيام فى أوائل فصل الخريف ، إذ هذا الحر مما تحتمله الجسوم ولا يلبث أن يخفّ ويزول ، ونار جهنم حرها شديد دائم يلفح الوجوه وينضج الجلود ، فهم لو كانوا يعقلون ذلك ويعتبرون به لما خالفوا وقعدوا ولما فرحوا بقعودهم بل لحزنوا وبكوا كما فعل المؤمنون الذين أرادوا الخروج والنفقة فعجزوا.
(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي إن الأجدر بهم بحسب ما تقتضيه حالهم وتستوجبه جريمتهم أن يضحكوا قليلا ويبكوا كثيرا لو كانوا يفقهون ما فاتهم بالتخلف من أجر ، وما سيحملونه فى الآخرة من وزر ، وما يلاقونه فى الدنيا من خزى وضرّ ، جزاء لهم على ما اجترحوا من العصيان ، وارتكبوا من الإثم والبهتان ، وكما يدين الفتى يدان.
ونحو الآية
قوله صلى اللّه عليه وسلم « لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا :
يظهر النفاق ، وترتفع الأمانة ، وتقبض الرحمة ، ويتّهم الأمين ، ويؤتمن غير الأمين ، أناخ بكم الشّرف الجون (الشرف بضمتين جمع أشارف وهى الناقة الكبيرة السن ، والجون السود) الفتن كأمثال الليل المظلم » .
ثم بين ما يجب أن يعاملوا به فى الدنيا قبل الآخرة مما يقتضى تركهم للفرح والغبطة فى دنياهم بالتمتع بأحكام الإسلام فقال :
(فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) أي فإن ردك اللّه من سفرك هذا إلى طائفة من المنافقين المتخلفين ، فاستأذنوك ليخرجوا معك فى غزاة أو غيرها مما تخرج لأجله ، فقل لهم : لن تخرجوا معى أبدا ولن يكون لكم أبدا شرف الصحبة بالخروج معى للجهاد فى سبيل اللّه(10/174)
ج 10 ، ص : 175
ما دمت ودمتم ، ولن تقاتلوا معى عدوا لا بالخروج والسفر إليهم ولا بغير ذلك كأن يهاجم للمؤمنون فى عقر دارهم كما حدث يوم وقعة الأحزاب.
ثم بين سبب النهى عن صحبتهم فقال :
(إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) أي إنكم رضيتم لأنفسكم بخزي القعود أول مرة دعيتم فيها إلى الخروج ، إذ طلب إليكم أن تنفروا فلم تنفروا وعصيتم اللّه ورسوله ، فاقعدوا أبدا مع الذين تخلفوا عن النّفر من الأشرار المفسدين الذين خرجوا عن سبيل المهتدين ، وربما كان المراد بالخالفين الصبيان والعجزة والنساء الذين لا يكلفون القيام بشرف الجهاد دفاعا عن الحق وإعلاء لكلمة اللّه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 84 الى 85]
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85)
المعنى الجملي
بعد أن أمر اللّه رسوله بإهانة المنافقين وإذلالهم بمنعهم من الخروج معه إلى الغزوات - قفّى على ذلك بذكر إهانة أخرى لهم وهى منع الرسول أن يصلى على من مات منهم بعد إعلامه بحقيقة أمرهم ، وفى مقدمتهم زعيمهم الأكبر عبد اللّه بن أبىّ والاثنا عشر الذين أرادوا اغتيال الرسول صلى اللّه عليه وسلم.
الإيضاح
(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) أي ولا تصل أيها الرسول بعد الآن على أحد من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج معك ، ولا تتولّ دفنه والدعاء له بالتثبيت كما تقوم على قبور المؤمنين عند دفنهم.(10/175)
ج 10 ، ص : 176
روى أبو داود والحاكم والبزار عن عثمان رضى اللّه عنه قال : كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال « استغفروا لأخيكم وسلوا له التّثبيت فإنه الآن يسأل » .
ثم بين سبب نهيه عن الصلاة عليهم فقال :
(إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) أي لأنهم كفروا وماتوا وهم خارجون من حظيرة الإسلام مفارقون أمر اللّه ونهيه.
روى أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال : سمعت عمر يقول لما توفّى عبد اللّه بن أبىّ : دعى رسول اللّه للصلاة عليه فقام عليه فلما وقف قلت :
أتصلي على عدو اللّه عبد اللّه بن أبىّ القائل كذا وكذا ، والقائل كذا وكذا ؟ أعدّد أيامه ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبتسم حتى إذا أكثرت قال : « يا عمر أخّر عنى ، إنى قد خيّرت : قد قيل لى - استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اللّه لهم - فلو أعلم أنى إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها » ثم صلى عليه ومشى معه حتى قام على قبره إلى أن فرغ منه فعجبت لى ولجراءتى على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واللّه رسوله أعلم ، فو اللّه ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان « ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره » فما صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه اللّه عز وجل.
وقد حكم كثير من العلماء كالقاضى أبى بكر الباقلاني وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم بعدم صحة هذا الحديث لمخالفته للآية من وجوه :
(1) جعل الصلاة على ابن أبىّ سببا لنزول الآية ، وسياق القرآن صريح فى أنها نزلت فى سفر غزوة تبوك سنة ثمان ، وابن أبىّ مات فى السنة التي بعدها.
(2) قول عمر للنبى صلى اللّه عليه وسلم : وقد نهاك ربك أن تصلى عليه - يدل على أن النهى عن هذه الصلاة سابق لموت ابن أبىّ - وقوله بعده - فصلى عليه(10/176)
ج 10 ، ص : 177
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه تعالى (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ) الآية - صريح فى أنه نزل بعد موته والصلاة عليه.
(3) قوله إنه صلى اللّه عليه وسلم قال : إن اللّه خيره فى الاستغفار لهم وعدمه ، إنما يظهر التخيير لو كانت الآية كالحديث ولم يكن فيها التصريح بأنه لن يغفر اللّه لهم بسبب كفرهم ، فأوفيها للتسوية لا للتخيير.
وهناك روايات أخرى فى الصلاة على ابن أبىّ من طريق ابن عمرو من طريق جابر.
وإنما ذكرنا هذا الحديث مع ما علمت من رأى أئمة الحديث فيه وحكمهم بأنه لا يقبل لما ذكروا من الأسباب - لأنه قلما يخلو تفسيره من ذكره ، وقل أن تجد من يشير إلى شىء مما يدل على ضعفه واضطرابه لمخالفته لظاهر الآية ، فرأينا أن نجعلك على بينة من أمره إذا أنت قرأته.
ثم أكد ما تقدم من النهى عن الاغترار بالأموال والأولاد لأن الأمر جدّ خطير يحتاج إلى التوكيد إذ هما أعظم الأشياء جذبا للقلوب ، وجلبا للخواطر للاشتغال بالدنيا ، فيجب التحذير منهما مرة بعد أخرى فقال :
(وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) قد جاء مثل هذا النص فيما سبق إلا أن زيادة (لا) فى الآية السابقة للنهى عن الإعجاب بكل من الأموال والأولاد على حدته ، وهو شامل لمن كانت له إحدى المزيتين أو كلاهما ، والنهى فى هذه الآية عن الإعجاب بها مجتمعين وهذا أدعى إلى الإعجاب بهما.
[سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 89]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)(10/177)
ج 10 ، ص : 178
تفسير المفردات
الطّول (بالفتح) : الغنى والثروة ، وقد يراد به الفضل والمنة ، وذرنا : أي دعنا واتركنا ، والخوالف : واحدها خالفة ومثله خالف ، وهو من لا خير فيه ولاغناء عنده ، والطبع على القلوب : الختم عليها وعدم قبولها لشىء جديد.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن المنافقين عملوا الحيل والتمسوا المعاذير للتخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والقعود عن الغزو - قفى على ذلك بأن أبان أنه إذا أنزلت سورة فيها أمر بالإيمان والجهاد مع الرسول استأذن أولو الثروة والقدرة منهم فى التخلف عن الغزو وقالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : دعنا نكن مع الضعفاء والزمنى العاجزين عن القتال.
الإيضاح
(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) أي إنه كلما أنزلت سورة تدعو المنافقين ببعض آياتها إلى الإيمان باللّه والجهاد مع رسوله صلى اللّه عليه وسلم - استأذنك أولو المقدرة على الجهاد المفروض عليهم بأموالهم وأنفسهم - فى التخلف عن الجهاد وقالوا دعنا نكن مع القاعدين فى بيوتهم من الضعفاء والزمنى العاجزين عن القتال والصبيان والنساء غير المخاطبين به.(10/178)
ج 10 ، ص : 179
ونحو الآية قوله : « وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ؟ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ » .
وفى هذا تصريح بجبنهم ورضاهم لأنفسهم بالمذلة والهوان.
(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) أي رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف من النساء اللواتى ليس عليهن فرض الجهاد ، وهذا منتهى الجبن وتعافه النفس الكريمة التي لا ترضى بالمذلة.
ثم بين العلة فى قبولهم هذا الذل فقال :
(وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي إن اللّه قد ختم على قلوبهم فلا تقبل جديدا من العلم والمواعظة غير ما استقر فيها واستحوذ عليها وصار وصفا لازما لها ، لأن النفاق قد أثر فيها بحسب سنة اللّه فى الارتباط بين العقائد والأعمال ، فهم لا يفهمون ما أمروا به ، فهم تدبر واعتبار فيعملوا به.
(لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي ولكن الرسول والذين آمنوا به وكانوا معه فى كل المهامّ الدينية لا يفارقونه - جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وقاموا بالواجب خير قيام عملا بداعي الإيمان وأمر اللّه فى القرآن.
(وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي وأولئك المجاهدون فى سبيل اللّه لهم الخيرات التي هى ثمرات الإيمان والجهاد من شرف النصر ومحو كلمة الكفر وإعلاء كلمة اللّه وإقامة الحق والعدل والتمتع بالمغانم والسيادة فى الأرض ، دون المنافقين الجبناء الذين ألفوا الذلة والهوان ولم يكونوا أهلا للقيام بهذه الأعباء ، وأولئك هم الفائزون بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة دون المنافقين الذين حرموا منهما بنفاقهم بما له من الأثر فى الأثر فى أخلاقهم وأعمالهم.
(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) تقدم شرح هذا فى آيات سابقة.(10/179)
ج 10 ، ص : 180
[سورة التوبة (9) : آية 90]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)
تفسير المفردات
المعذّر : من عذّر فى الأمر إذا قصّر فيه وتوانى ولم يجدّ وهو يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له ، وقد يكون أصله المعتذرون من اعتذر ، والمعتذر إما صادق أو كاذب ، والأعراب : هم سكان البدو ، وكذبوا اللّه ورسوله : أي أظهروا الإيمان بهما كذبا ، يقال : كذبته نفسه إذا حدثته بالأمانى والأوهام التي لا يبلغها ، وكذبته عينه إذا أرته ما لا حقيقة له.
المعنى الجملي
بعد أن بين حال منافقى الحضر فى المدينة - أردف ذلك ذكر حال الأعراب من البدو الذين طلبوا الإذن بالتخلف والذين تخلفوا بغير إذن.
الإيضاح
(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) أي وجاء الذين يطلبون من النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يأذن لهم فى التخلف عن الخروج إلى تبوك امتثالا للنفير العام من أولى التعذير.
قال الضحاك : هم رهط عامر بن الطفيل جاءوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا نبى اللّه : إنا إن غزونا معك أغارت طيىء على نسائنا وأولادنا وأنعامنا ، فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أنبأنى اللّه من أخباركم وسيغنى اللّه عنكم.
واختلفت الروايات بين قائل بصدقهم فى الاعتذار ، وقائل بكذبهم فيه ، وظاهر كلام ابن عباس أنهم صادقون فى اعتذارهم ، وعليه يكون المراد بالذين كذبوا اللّه ورسوله جماعة غيرهم من المنافقين.(10/180)
ج 10 ، ص : 181
(وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي وقعد عن القتال وعن المجيء للاعتذار الذين أظهروا الإيمان بهما كذبا وإيهاما على غير اعتقاد صادق ، قال أبو عمرو بن العلاء : كان كلا الفريقين مسيئا ، قوم تكلفوا عذرا بالباطل وهم الذين عناهم اللّه بقوله : وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ وقوم تخلفوا من غير عذر فقعدوا جرأة على اللّه تعالى ، فأوعد المكذبين وبعض المعتذرين بقوله :
(سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي سيصيب الذين كذبوا اللّه ورسوله من المنافقين والكاذبين من المعتذرين الذين فى قلوبهم مرض - عذاب أليم فى الدنيا والآخرة.
[سورة التوبة (9) : الآيات 91 الى 93]
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر المعذرين والذين كذبوا اللّه ورسوله ، وذكر وعيدهم على سوء صنيعهم - قفى على ذلك بذكر أصناف ثلاثة أعذارها مقبولة ، ثم أردف هذا بذكر شر الأعذار وهو استئذان الأغنياء.(10/181)
ج 10 ، ص : 182
الإيضاح
(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) أي إن التكليف بالغزو ساقط عن أصناف ثلاثة :
(1) الضعفاء وهم من لا قوة لهم فى أبدانهم تمكنهم من الجهاد كالشيوخ والعجزة والنساء والصبيان وذوى العاهات التي لا تزول كالكساح والعمى والعرج.
(2) المرضى وهم من عرضت لهم أمراض لا يتمكنون معها من الجهاد ، وعذرهم ينتهى إذا شفوا منها.
(3) الفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون منه على أنفسهم إذا ما خرجوا ، ولا ما يكفى عيالهم.
وقد كان المؤمنون يجهزون أنفسهم للقتال ، فالفقير ينفق على نفسه ، والغنى ينفق على نفسه وعلى غيره بقدر سعته كما فعلوا فى غزوة تبوك.
والخلاصة - إن هذه الأصناف الثلاثة لا حرج عليهم : أي لا ضيق عليهم ولا إثم فى قعودهم عن الجهاد الواجب على شرط أن ينصحوا للّه ورسوله : أي يخلصوا للّه فى الإيمان وللرسول فى الطاعة بعمل كل ما فيه مصلحة للأمة الإسلامية ولا سيما المجاهدين منها من كتمان السر والحث على البر ومقاومة الخائنين فى السر والجهر.
روى مسلم عن تميم الداري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « الدين النصيحة - قالوا لمن يا رسول اللّه ؟ قال : للّه ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم » .
وروى البخاري ومسلم عن جابر قال : « بايعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم » .
(ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) السبيل : الطريق أي ليس لأحد أدنى طريق يسلكها لمؤاخذتهم ، فكل السبل مسدودة دون الوصول إليهم.
وقد جاء هذا الأسلوب كثيرا فى الكتاب الكريم ، وهو عام فى كل من(10/182)
ج 10 ، ص : 183
أحسن عملا من أعمال البر والتقوى كما قال تعالى : « بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ » .
وقد تفضل الشارع الحكيم فجازى المحسن بأضعاف إحسانه ولم يؤاخذ المسيء إلا بقدر إساءته.
والخلاصة - إن كل ناصح للّه ورسوله فهو محسن ، ولا سبيل إلى مؤاخذة المحسن وإيقاعه فى الحرج.
ثم قفّى ذلك بذكر الصفح عنهم والتجاوز عن سيئاتهم فقال :
(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي وهو سبحانه كثير المغفرة واسع الرحمة يستر على المقصرين ضعفهم فى أداء الواجبات ما داموا مخلصين النصح للّه ورسوله ، ويدخلهم فى زمرة الصالحين من عباده.
أما المنافقون المسيئون فلا يغفر لهم ولا يرحمهم إلا إذا تابوا وأقلعوا عن النفاق الذي كان سببا فى ارتكاب هذه الآثام.
(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) يقال حمله على البعير أو غيره أركبه إياه أو أعطاه إياه ليركبه ، وكأنّ الطالب لظهر يركبه يقول لمن يطلب منه : احملني.
أي لا حرج على من ذكروا أولا ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم على الرواحل فيخرجوا معك ، فلم تجد ما تحملهم عليه ، وهؤلاء وإن دخلوا فى عموم الذين لا يجدون ما ينفقون للجهاد لفقدهم الرواحل - قد خصوا بالذكر اعتناء بشأنهم وجعلهم كأنهم قسم مستقل.
(تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) أي انصرفوا من مجلسك وهم يبكون بكاء شديدا يصحبه حزن عميق ، فكانت أعينهم تمتلىء دمعا يتدفق من جوانبها حزنا وأسفا على أنهم لا يجدون ما ينفقون ولا ما يركبون فى خروجهم معك للجهاد فى سبيل اللّه وابتغاء مرضاته.(10/183)
ج 10 ، ص : 184
روى ابن جرير عن ابن عباس قال : « أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس أن ينبعثوا غازين ، فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد اللّه بن مغفل المزني فقالوا يا رسول اللّه احملنا فقال : (واللّه لا أجد ما أحملكم عليه) فأنزل اللّه (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) الآية ، وكانوا يسمون البكائين.
وفى رواية أنهم ما سألوه إلا الحملان على البغال ، وفى رواية أنهم سألوه الزاد والماء ، ولا مانع من وقوع كل هذا فى هذه الغزوة الكبيرة ، ولكن الذين فى الآية هم طلاب الرواحل.
وعدم وجود ما يحملون عليه يدخل فيه مراكب النقل البرية والبحرية والهوائية فى هذا العصر ، ويتحقق العذر بفقد ما يحتاج إليه منها فى كل سفر بحسبه ، ويفقد العذر بوجوده.
ولما بين من لا سبيل عليهم فى تلك الحال - ذكر من عليهم السبيل فقال :
(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ) أي إنما الطريق الموصل للمؤاخذة والمعاقبة بالحق على من يطلبون الإذن فى القعود عن الجهاد والتخلف عن الغزو وهم أغنياء يستطيعون إعداد العدة من زاد وراحلة ونحو ذلك.
ثم ذكر السبب فى استحقاقهم المؤاخذة فقال :
(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) أي رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف والخالفين من النساء والأطفال والمعذرين من المفسدين.
(وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي وأحاطت بهم خطاياهم وذنوبهم بحسب سنن اللّه فى أمثالهم ، فهم لا يعلمون حقيقة أمرهم ولا سوء عاقبتهم ، وما هو سبب ذلك من أعمالهم ، فهم قد رضوا بالمهانة فى الدنيا بانتظامهم فى سلك النساء والأطفال - إلا أنّ تخلف الأفراد عن القتال الذي تسعى إليه الشعوب والأمم يعد من مظاهر الخزي والعار ، وقد جعله الدين من أقوى آيات الكفر والنفاق.(10/184)
ج 10 ، ص : 185
وأما سوء عاقبتهم فيكفى فيه فضيحتهم فى هذه السورة كفاء إحجامهم عن الجهاد فى سبيله. وما أعده لهم من العذاب العظيم والخزي والنكال فى نار الجحيم.
اللهم يا مقلّب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا لدى هول الموقف والحساب ، واجعلنا ممن أخلصوا ال ؟ ؟ ؟ ؟ السر والنجوى ، واحشرنا فى زمرة الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وسلام على المرسلين ، والحمد للّه رب العالمين.
وقد كان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء فى الحادي عشر من ذى القعدة سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة بمدينة حلوان من أرباض القاهرة ، وله الحمد أولا وآخرا.(10/185)
ج 10 ، ص : 186
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 4 الغنيمة. الفيء.
النفل 5 الحكمة فى تقسيم الخمس 9 الثبات قوة معنوية 10 التنازع مدعاة الفشل 13 الملائكة يلهمون المؤمنين ما يثبت قلوبهم 17 اللّه لا يحابى بعض الشعوب بنسبها وفضل أجدادها 18 عقاب اللّه جار على سننه المطردة فيها 21 استعمال القسوة مع ناقضى العهود لا بد منه للعظة والاعتبار 24 الحرب ليست محبوبة عند اللّه ولا عند رسوله 25 الاستعداد للحرب يمنع الحرب 28 التآلف من أقوى وسائل التعاون والتناصر 30 حث المؤمنين على القتال 32 من سنن اللّه أن يكون الغلب للصابرين 35 عتاب اللّه لنبيه على أخذ الفداء يوم بدر 38 أخذ الفداء من عمه العباس يوم بدر 40 ترغيب الأسرى فى الإيمان وإنذارهم عاقبة الخيانة 43 امتازت الشريعة الإسلامية بحفظ العهود والمواثيق 53 أمر اللّه نبيه بنبذ عهود المشركين(10/186)
ج 10 ، ص : 187
الصفحة المبحث 55 الوفاء بالعهود من فرائض الإسلام 67 الأمر بقتال المشركين لأسباب ثلاثة 75 ما ورد فى عمارة المساجد 80 الأمور الداعية إلى مخالفة الكفار 84 محبة اللّه ورسوله 86 بعوث النبي صلى اللّه عليه وسلم وسراياه 90 بلاد الإسلام فى حق الكفار أقسام ثلاثة 93 الأمور التي دعت إلى قتال المشركين 98 من عزير ؟
100 عقيدة التثليث 105 حديث بين عدى بن حاتم والنبي صلى اللّه عليه وسلم 107 أكل أموال الناس بالباطل على صور 110 كل مال أديت زكاته فليس بكنز 114 ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض 116 إنما النسيء زيادة فى الكفر 118 غزوة تبوك 119 أسباب تثاقلهم عن القتال فى غزوة العسرة 122 إنزال الملائكة مدد للمؤمنين يوم بدر 124 الأمر بجهاد الأعداء بالأموال والأنفس 126 عتاب الرسول فى إذنه لمن تخلف من المنافقين فى غزوة تبوك 128 ليس من شأن المؤمن أن يستأذن الرسول فى أمر الجهاد بالأنفس والأموال 130 المفاسد التي تنجم من وجود المنافقين فى الجيش(10/187)
ج 10 ، ص : 188
الصفحة المبحث 132 من تربية اللّه لرسوله أن يبين الحقائق بعد اجتهاده 134 كان المنافقون يشيعون قالة السوء عن الرسول والمؤمنين 135 التوكل على اللّه حقا يقوم بما أوجبه عليه فى شرعه 137 أوصاف المنافقين 140 لمزهم للنبى صلى اللّه عليه وسلم فى قسمته الصدقات 142 مصارف الزكاة 147 كان المنافقون يؤذون النبي صلى اللّه عليه وسلم ويقولون هو أذن 148 إيذاء الرسول فى شأن الرسالة كفر وفى غيرها حرام 150 من يحاد اللّه ورسوله فله نار جهنم خالدا فيها أبدا 152 كانوا يستهزئون باللّه ورسوله ويقولون إنا كنا لاعبين هازلين 159 أقسام الولاية 163 المنافقون يعاملون بأحكام الشريعة كالمؤمنين الصادقين 164 طلب إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم الغلظة فى معاملة الكفار والمنافقين تربية لهم وعبرة لغيرهم 165 همّ المنافقين باغتيال الرسول عند منصرفه من تبوك 168 من المنافقين من عاهد اللّه لئن أيسر ليتصدق ثم أخلف 171 حث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الصدقة فى غزوة تبوك 176 ما صلى رسول اللّه على منافق بعد ابن أبىّ 180 استئذان المعذرين من الأعراب 182 لا حرج على الضعفاء ولا على المرضى فى القعود عن القتال(10/188)
ج 11 ، ص : 3
الجزء الحادي عشر
[تتمة سورة البراءة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التوبة (9) : الآيات 94 الى 96]
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96)
تفسير المفردات
الغيب : ما غاب عنك علمه ، والشهادة : ما تشهده وتعرفه ، الانقلاب : الرجوع ، رجس : أي قذر يجب الإعراض عنه.(11/3)
ج 11 ، ص : 4
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عزّ اسمه من يستحقون اللوم والمؤاخذة من المعذّرين ، ومن لا سبيل إلى مؤاخذتهم وعدم الحرج عليهم - ذكر فى هذه الآيات ما سيكون من أمر المنافقين الذين تخلفوا فى المدينة وما حولها عن غزوة تبوك مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم بعد عودتهم.
الإيضاح
(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) أي سيعتذر إليكم أيها المؤمنون أولئك الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ، وهم أغنياء أصحاء لا عذر لهم عن التخلف عن الغزو وغيره من سيئاتهم عند رجوعكم من السفر.
(قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) أي قل لهم أيها الرسول : لا تعتذروا إنا لن نصدّقكم فى معاذيركم أبدا ولن نطمئنّ إليكم.
ثم بين السبب فى عدم تصديقهم فقال :
(قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) أي قد أنبأنا اللّه بوحيه إلى رسوله بعض أخباركم التي تسرّونها فى ضمائركم وهى مخالفة لظواهركم التي تعتذرون بها ، ونبأ اللّه هو الحق الذي لا شك فيه ، ومن عرف الحق لا يقبل الباطل ولا يصدّق الكاذب.
وإنما قال نبأنا ولم يقل نبأنى إيماء إلى أنه أمره أن ينبّىء بذلك أصحابه ولم يكن هذا النبأ خاصا به ، كما أن اعتذارهم للجميع يقتضى أن يكونوا كلهم عالمين بما فضحهم اللّه به ، وفى هذا من التشهير بهم والخزي لهم ما لا خفاء فيه.
(وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أي وسيرى اللّه عملكم ورسوله فيما بعد ، وهو الذي سيدلّ : إما على إصراركم على النفاق أو على التوبة والإنابة إلى ربكم ، وأما أقوالكم فلا يعتدّ بها مهما وكدتموها بالأيمان ، فإن أنتم تبتم وأنبتم إلى ربكم وشهد لكم عملكم بصلاح طويّتكم ، فإن اللّه يتقبل منكم توبتكم ، ويغفر لكم حوبتكم ، ويعاملكم(11/4)
ج 11 ، ص : 5
الرسول بما يعامل به المؤمنين الذين أخلصوا وصدقوا وشهدت لهم أعمالهم بذلك ، وإن أنتم أبيتم إلا الإصرار على النفاق وإلا الاعتماد على رواج سوق الكذب بتلك الأيمان التي تحلفونها فسيعاملكم الرسول بما أمره اللّه به من جهادكم والإغلاظ عليكم كإخوانكم الكفار المجاهرين.
وفى هذا إيماء إلى الرغبة فى توبتهم حين سنوح الفرصة.
(ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم تردون يوم القيامة إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم ما تكتمون وما تظهرون ، فينبئكم حينئذ بما كنتم تعملون ويجازيكم عليه بما تستحقون وهو ما أوعدكم به فى كتابه الكريم فى هذه السورة وفى غيرها « إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ » .
وفى الآية إيماء إلى أنه ينبغى تحامى كل ما يعتذر منه من ذنب أو تقصير ، و
قد ورد فى الحديث « إياك وما يعتذر منه » .
ثم أكد ما سبق من نفاقهم بقوله :
(سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي سيؤكدون لكم اعتذارهم بما يحلفون به من كاذب الأيمان إذا انقلبتم من سفركم ورجعتم إليهم لتعرضوا عن العتب عليهم والتوبيخ لهم على قعودهم مع الخالفين من العجزة والنساء والأطفال وعلى البخل بالنفقة والمال.
(فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي فأعرضوا عنهم إعراض الإهانة والتحقير ، لا إعراض الصفح وقبول العذر. روى مقاتل أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال حين قدم المدينة « لا تجالسوهم ولا تكلموهم » .
ثم علل هذا بقوله :
(إِنَّهُمْ رِجْسٌ) أي إن فى نفوسهم قدرا معنويا يجب الاحتراس منه خوف سريان عدواه ، وميل النفوس إليه ، كما يحترز صاحب الثوب النظيف من الأقذار الحسّية التي ربما تصيبه إذا لم يحتط لها.(11/5)
ج 11 ، ص : 6
(وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي وملجؤهم الأخير نار جهنم جزاء لهم بما كسبوا فى الدنيا من أعمال النفاق وغيرها مما دنس نفوسهم ، وزادهم رجسا على رجسهم.
ثم زاد فى تأكيد نفاقهم فقال :
(يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) أي يحلفون لكم لتستديموا معاملتهم بظاهر إسلامهم ، وهذا أهمّ الأغراض لديهم ، فلا حظّ لهم من إظهار الإسلام سواه ، ولو كان إسلامهم عن يقين واعتقاد لكان غرضهم الأول إرضاء اللّه ورسوله.
(فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي فإن ترضوا عنهم كما أرادوا ، وساعدتموهم على ما طلبوا فإن رضاكم عنهم لا يجديهم نفعا ، فإن اللّه ساخط عليهم بسبب فسوقهم وخروجهم عن أمره ونهيه.
وفى هذا إيماء إلى نهى المخاطبين عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم الكاذبة وأن من يرضى عنهم من المؤمنين يكون فاسقا مثلهم محروما من رضوان اللّه ، وأن من يتوب منهم ويرضى اللّه ورسوله يخرج من حدود سخطه ويدخل فى حظيرة مرضاته ولا يعدّ حينئذ فاسقا.
روى عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت فى الجدّ بن قيس ومعتّب بن قشير وأصحابهما من المنافقين وكانوا ثمانين رجلا ، أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم المؤمنين لما رجعوا إلى المدينة بألا يجالسوهم ولا يكلموهم.
وقال قتادة : إنها نزلت فى عبد اللّه ابن أبىّ فإنه حلف للنبى صلى اللّه عليه وسلم بعد عودته ألا يتخلف عنه أبدا وطلب أن يرضى عنه فلم يفعل.
[سورة التوبة (9) : الآيات 97 الى 99]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)(11/6)
ج 11 ، ص : 7
تفسير المفردات
الأعراب : اسم لبدو العرب : واحده أعرابى والأنثى أعرابية ، والعرب اسم لهذا الجيل الذي ينطق بهذه اللغة بدوه وحضره : واحده عربى ، والمغرم : الغرامة والخسران ، من الغرام بمعنى الهلاك ، والدائرة : ما يحيط بالشيء والمراد بها ما لا محيص منه من تصاريف الأيام ونوائبها التي تحيط شرورها بالناس ، والدائرة أيضا : النائبة والمصيبة ، والسوء : اسم لما يسوء ويضر ، والقربات : واحدها قربة ، وهى فى المنزلة والمكانة كالقرب فى المكان والقرابة فى الرحم ، والصلوات : واحدها صلاة ، ويراد بها الدعاء.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أحوال العرب مؤمنيهم ومنافقيهم ، بين فى هذه الآيات الثلاث أحوال الأعراب مؤمنيهم ومنافقيهم كذلك.
الإيضاح
(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ) أي إن طبيعة البداوة اقتضت أمرين :
(1) إن كفارهم ومنافقيهم أشد كفرا ونفاقا من أمثالهم من أهل الحضر ، ولا سيما من يقيم منهم فى المدينة ، فهم أغلظ طباعا وأقسى قلوبا ، لأنهم يقضون جلّ أعمارهم فى رعى الأنعام وحمايتها من ضوارى الوحوش - إلى أنهم محرومون من العلوم الكسبية والآداب الاجتماعية.
(2) إنهم أحق وأحرى من أهل الحضر بألا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على(11/7)
ج 11 ، ص : 8
رسوله من الهدى والبينات فى كتابه وما آتاه من الحكمة التي بيّن بها تلك الحد تارة بالقول وأخرى بالفعل.
وكان صحابته فى المدينة وما حولها يتلقّون عنه الكتاب حين نزوله ويشهدون سنته فى العمل به ، ويرسل عمّاله إلى البلاد التي افتتحت يبلغون الناس القرآن ويحكمون به وبسنة رسوله المبيّنة له - وكل هذا لم يكن مستطاعا لأهل البوادي ، ومن ثم كان الجهل فيهم أكثر لحال المعيشة البدوية.
روى أبو داود والبيهقي عن أبى هريرة مرفوعا « من بدا جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى أبواب السلطان افتتن ، وما ازداد أحد من سلطانه قربا إلا ازداد من اللّه بعدا »
ذاك أن السلاطين قلما يرضون عمن يصارحهم القول ويؤثرهم بالنصح ولا يزداد قربا منهم إلا المراءون الذين يعينونهم على الظلم ويثنون عليهم بالباطل.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي واسع العلم بشئون عباده وأحوالهم من إيمان وكفر وإخلاص ونفاق ، تامّ الحكمة فيما شرعه لهم ، وفى جزائهم من نعيم مقيم ، أو عذاب أليم.
(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) أي ومن الأعراب ناس كانوا ينفقون أموالهم فى الجهاد رياء وتقيّة ، ويعدّون ذاك من المغارم التي يجب على المرء أداؤها طوعا أو كرها لدفع المكروه عن أنفسهم أو عن قومهم ولا منفعة لهم فيها لا فى الدنيا وهو واضح ، ولا فى الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالبعث ، قال الضحاك : وهم بنو أسد وغطفان.
(وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي وينتظرون أن تحل بكم نوائب الزمان وأحداثه التي تدور بالناس وتحيط بهم ، فتبدّل قوتكم ضعفا وانتصاركم هزيمة ، فيستريحوا من أداء هذه المغارم لكم ، إذ يستغنون عن إظهار الإسلام نفاقا ، وقد كانوا يتوقعون ظهور المشركين واليهود على المؤمنين ، فلما أعيتهم الحيل صاروا ينتظررن موت النبي صلى اللّه عليه وسلم ظنا منهم أن الإسلام يموت بموته.
(عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) هذا دعاء عليهم بنحو ما يتربصون به المؤمنين ، أي عليهم(11/8)
ج 11 ، ص : 9
وحدهم الدائرة السوءى تحيط بهم دون المؤمنين الذين يتربصونها بهم وليس للمؤمنين عاقبة إلا ما يسرهم من نصر اللّه وتوفيقه لهم ، وما يسوء أعداءهم من خذلان وخيبة وتعذيب لهم فى الدنيا قبل الآخرة.
(وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي واللّه سميع لما يقولونه مما يعبر عن شعورهم واعتقادهم فى نفقاتهم إذ تحدثوا بذلك فيما بينهم ، عليم بما يضمرونه فى سرائرهم ، وسيحاسبهم على ما يسمع ويعلم من قول وفعل ويجزيهم به.
وبعد أن بيّن حال المنافقين من الأعراب - ذكر حال المؤمنين الصادقين منهم فقال :
(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي ومن الأعراب من يؤمن باللّه ويثبت له القدرة وكمال التصرف فى الكون ، واليوم الآخر الذي تجازى فيه كل نفس بما كسبت ، قال مجاهد : هم بنو مقرّن من مزينة ، وهم الذين قال اللّه فيهم « وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ » .
(وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) أي ويتخذ ما ينفقه وسيلة لأمرين :
(1) القربات والزلفى عند اللّه تعالى جدّه.
(2) صلوات الرسول أي أدعيته ، إذ كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم ، ولم يجىء فى نصوص الدين انتفاع أحد بعمل غيره إلا الدعاء وما يكون المرء سببا فيه كالولد الصالح والسنة الحسنة يتّبع فيها.
وسميت الصلوات الشرعية بهذا الاسم من قبل أن الدعاء وهو المعنى اللغوي لها هو روحها ومخها وسرها الذي به تتحقق العبودية على أتمّ وجوهها.
وقد بين اللّه جزاءهم على ما انطوت عليه نفوسهم من صدق الإيمان وإخلاص النية فى الإنفاق فى سبيل اللّه فأخبر بقبول نفقتهم وإثابتهم عليها فقال :
(أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) أي ألا إن تلك النفقة التي اتخذت قد تقبلها اللّه وأثاب عليها بما وعد به فى قوله :(11/9)
ج 11 ، ص : 10
(سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ) أي سيرحمهم اللّه برحمته الخاصة بمن رضى عنهم ، وهى هدايتهم إلى الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى جنات النعيم ، والمراد بإدخالهم فى الرحمة أن تكون محيطة بهم شاملة لهم وهم مغمورون فيها ، وهذا أبلغ فى إثباتها لهم من مثل قوله : « يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ » .
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه واسع المغفرة والرحمة لمن يخلصون فى أعمالهم ، فهو يغفر لهم ما فرط منهم من ذنب أو تقصير ، ويرحمهم بهدايتهم إلى خير العمل وحسن المصير.
[سورة التوبة (9) : الآيات 100 الى 102]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
تفسير المفردات
رضى اللّه عنهم : أي قبل طاعتهم ، ورضوا عنه : أي بما أسبغ عليهم من النعم الدنيوية والدينية ، ومردوا : أي مرنوا وحذقوا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات - قفى على ذلك بذكر منازل أعلى من منازلهم ، وهى منازل السابقين من المهاجرين والأنصار(11/10)
ج 11 ، ص : 11
ثم ذكر بعدهم حال طائفة من المنافقين هى شر الجميع مرنت على النفاق وحذقت فنونه ، وحال طائفة أخرى بين المنزلتين خلطت سيىء العمل بأحسنه ، وهؤلاء يرجى لهم التوبة والغفران من ربهم.
الإيضاح
(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) ذكر اللّه فى هذه الآية ثلاث طبقات من الأمة هى خيرها :
(1) السابقون الأولون من المهاجرين ، وهم الذين هاجروا قبل صلح الحديبية ، وقد كان المشركون يضطهدون المؤمنين ويقاتلونهم فى دار الهجرة وما حولها ولا يمكّنون أحدا من الهجرة متى كان ذلك فى طاقتهم ، ولا منجاة للمؤمنين من شرهم إلا بالفرار أو الجوار ، فالذين هاجروا فى ذلك الحين كانوا من المؤمنين الصادقين ، وأفضل هؤلاء الخلفاء الأربعة ثم العشرة الذين بشرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم بالجنة.
(2) السابقون الأولون من الأنصار ، وهم الذين بايعوا النبي صلى اللّه عليه وسلم عند العقبة فى منى فى المرة الأولى سنة إحدى عشرة من البعثة ، وكانوا سبعة ، وفى المرة الثانية ، وكانوا سبعين رجلا وامرأتين.
(3) الذين اتبعوا هؤلاء السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فى الهجرة والنصرة حال كونهم محسنين فى أفعالهم وأقوالهم ، فإذا اتبعوهم فى ظاهر الإسلام كانوا منافقين مسيئين غير محسنين فى هذا الاتباع ، وإذا اتبعوهم محسنين فى بعض أعمالهم ومسيئين فى بعض كانوا مذنبين.
(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أي هؤلاء جميعا رضى اللّه عنهم فى إيمانهم وإسلامهم ، فقبل طاعتهم وتجاوز عن زلّاتهم ، وبهم أعز الإسلام ونكّل بأعدائه من المشركين وأهل الكتاب ، ورضوا عنه بما أسبغ عليهم من نعمه الدينية والدنيوية فأنقذهم من الشرك ، وهداهم من الضلال ، وأعزهم بعد الذل ، وأغناهم بعد الفقر.(11/11)
ج 11 ، ص : 12
(وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) هذا الوعد الكريم تقدم فى آيات سابقة فى هذه السورة وغيرها ، ولا شك أن نعيم الجنة الخالد بين روحانى وبدنىّ فوز أيّما فوز.
والخلاصة - إن هذه الطبقات الثلاث قد استبق أفرادها الصراط ، وشهد لهم ربّهم بالمغفرة والتجاوز عن كل ذنب ، وما عاد يؤثّر فى كمال إيمانهم شىء ، لأن نورهم يمحو كل ظلمة تطرأ على أحد منهم بإلمامه بذنب.
وبعد أن بيّن كمال إيمان تلك الطبقات الثلاث ورضاه عنهم - بين حال منافقى أهل المدينة ومن حولها فقال (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) أي إن بعض الأعراب الذين حولكم منافقون.
قال البغوي والواحدي : هم من قبائل جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار ، وكانت منازلهم حول المدينة ، وذلك لا يمنع أن يكون فيهم مؤمنون صادقون دعا لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم ومدحهم
فقد روى الشيخان عن أبى هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأشجع وعفار موالى اللّه تعالى ورسوله لا موالى لهم غيره » ،
وعنه أيضا أنه صلى اللّه عليه وسلم قال : « أسلم سالمها اللّه ، وغفار غفر اللّه لها أما إنى لم أقلها ، لكن قالها اللّه تعالى » .
وكذلك من أهل المدينة نفسها ناس منافقون ، من الأوس والخزرج سوى من أعلم اللّه رسوله بهم فى هذه السورة بما صدر منهم من أقوال وأفعال تنافى الإيمان.
هؤلاء وهؤلاء مرنوا على النفاق وحذقوه حتى بلغوا الغاية فى إتقانه ، فلا يشعر أحد به ، إذ هم يتقون جميع الأمارات والشبه التي تدل عليه.
(لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) أي لا تعرفهم أيها الرسول الكريم بفطنتك ودقيق فراستك لحذقهم فى التقيّة وتباعدهم عن مثار الشبهات ، بل نحن نعلمهم بأعيانهم ، وهؤلاء أخفى نفاقا ممن قال اللّه فيهم : « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ(11/12)
ج 11 ، ص : 13
يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ »
.
وهؤلاء لم يعلمه اللّه أعيانهم ولا فضحهم بأقوال قالوها ولا بأفعال فعلوها كما فضح غيرهم فى هذه السورة ، لأنهم يتحامون ما يكون شبهة فى إيمانهم ، وضررهم مقصور عليهم لا يعدوهم إلى سواهم.
والحكمة فى إخبارنا بحالهم أن يعلموا هم أنفسهم أن اللّه عليم بما يسرون من نفاقهم ، ويحذروا أن يفضحهم اللّه كما فضح سواهم ، وليتوب منهم من يتوب قبل أن يحل بهم ما أوعدهم به ربهم بقوله :
(سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) أي سنعذبهم فى الحياة الدنيا مرتين : أولاهما ما يصيبهم به من المصايب وانتظار الفضيحة بهتك أستارهم. وثانيتهما آلام الموت وزهوق أنفسهم وهم كافرون ، وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم فى ذلك الحين ، ثم يردون يوم القيامة إلى عذاب جهنم وبئس المصير.
والخلاصة - إنهم يعذبون فى الدنيا بالعذاب الباطن بتوبيخ الضمائر وعذاب الخوف من الفضيحة على رءوس الأشهاد فى الظاهر ، ثم عذاب النار وبئس القرار.
وجملة القول - إن المنافقين فريقان : فريق عرفوا بأقوال قالوها وأعمال عملوها ، وفريق مردوا على النفاق وحذقوه حتى لا يشعر أحد بشىء يستنكره منهم.
وهذان الفريقان يوجدان فى كل عصر ، فما من قطر من الأقطار إلا منى أهله بأعوان وأنصار منهم يزعمون أنهم يخدمون أمتهم من طريق استمالة الغاصب واسترضائه ، وأنه لولاهم لتمادى فى ظلمه وهضم حقوق الأمة ولم يقف عند حد ، ومنهم من يخدمون المستعمرين خدمة خفية لا تشعر بها الأمة لأنهم مرنوا على النفاق.
وأشد المنافقين مرودا على النفاق أعوان الملوك المستبدين الذين يلبسون الباطل لباس الحق ويروجونه فى أعين الجماهير خدمة لأولئك الملوك.(11/13)
ج 11 ، ص : 14
(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) أي وهناك فريق آخر ممن حولكم من الأعوان ومن أهل المدينة ليسوا منافقين ولا من السابقين الأولين ، بل من المذنبين الذين خلطوا الصالح من العمل بالسيىء منه ، والسيّء بالصالح ، فلم يكونوا من الصالحين الخلص ولا من الفاسقين ، فهم قد آمنوا وعملوا الصالحات واقترفوا بعض السيئات كالذين تخلفوا عن الخروج إلى غزوة تبوك من غير عذر صحيح ولم يستأذنوا كاستئذان المرتابين ولم يعتذروا بالكذب كالمنافقين ، ثم كانوا حين قعودهم ناصحين للّه ورسوله شاعرين بذنوبهم خائفين من ربهم.
وقد بين سبحانه حالهم بقوله :
(عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أي إنهم محل الرجاء لقبول اللّه توبتهم بتوفيقهم للتوبة الصحيحة التي هى سبب المغفرة والرحمة - وإنما يكون ذلك بالعلم بقبح الذنب وسوء عاقبته ، وتوبيخ الضمير حين تصور سخط اللّه والخوف من عقابه - ثم الإقلاع عنه بباعث هذا الألم ، والعزم على عدم العود إلى قترافه ، والعزم على العمل بضده ليمحو أثره من نفسه.
ثم علل هذا بقوله :
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه تعالى يقبل توبتهم ، لأنه كثير المغفرة للتائبين ، واسع الرحمة للمحسنين.
وفى معنى الآية قوله : « وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى » وقوله : « إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ » .
قال جماعة من العلماء : إن هذه الآية أرجى آية فى القرآن فى توقع رحمة اللّه للمذنبين الذين يجترحون السيئات ثم يتوبون إلى ربهم ويقلعون عن ذنوبهم.
روى البخاري عن سمرة بن جندب أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « أتانى الليلة أي فى المنام ملكان فابتعثانى فانتهيا بي إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء ، وشطر كأقبح ما أنت راء ، قالا لهم اذهبوا فقعوا فى ذلك النهر ، فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء(11/14)
ج 11 ، ص : 15
عنهم فصاروا فى أحسن صورة ، قالا لى هذه جنة عدن وهذا منزلك ، قالا وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا لقد تجاوز اللّه عنهم » .
ولا شك أن هذا تمثيل فى الرؤيا لتجميل العمل الصالح للنفس وتشويه العمل القبيح لها ، ولتطهيرها بالتوبة وصالح العمل حتى تكون كلها جميلة وأهلا للكرامة بعد أن تبعث كلها فى الصورة التي كانت عليها قبل التوبة ، وقد شبه النبي صلى اللّه عليه وسلم الصلوات الخمس بنهر جار يفيض على عتبة الإنسان كل يوم خمس مرات فهل يبقى عليها وسخا أو قذرا ؟ .
وفى الحديث : « أتبع السيئة الحسنة تمحها » .
[سورة التوبة (9) : الآيات 103 الى 105]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
تفسير المفردات
الصدقة : ما ينفقه المؤمن قربة للّه ، والتزكية ، من قولهم رجل زكىّ : أي زائد الخير والفضل قاله فى الأساس ، والصلاة : الدعاء ، والسكن : ما تسكن إليه النفس وترتاح من أهل ومال ومتاع ودعاء وثناء.
المعنى الجملي
جاءت هذه الآيات فى بيان فوائد صدقة الأموال والحث عليها وقبول التوبة لمن قصّر فى الجهاد فى سبيل اللّه بماله ونفسه.(11/15)
ج 11 ، ص : 16
روى ابن جرير أن أبا لبابة وأصحابه (ممن تخلفوا وتابوا وسيأتى ذكرهم) جاءوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين أطلقوا فقالوا يا رسول اللّه هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا فقال « ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا » فأنزل اللّه (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) فلما نزلت أخذ الثلث من أموالهم فتصدق به عنهم.
وهذا النص - وإن كان سببه خاصا - عام فى الأخذ ، يشمل خلفاء الرسول من بعده ومن بعدهم من أئمة المسلمين وفى المأخوذ منهم وهم المسلمون الموسرون ، ومن ثم قاتل أبو بكر الصديق وسائر الصحابة مانعى الزكاة من أحياء العرب حتى أدّوا الزكاة كما كانوا يؤدونها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،
وقال : « واللّه لو منعونى عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأفاتلنهم على منعه » .
الإيضاح
(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) أي خذ أيها الرسول من أموال هؤلاء ومن غيرهم من سائر أموال المؤمنين على اختلاف أنواعها من نقد وأنعام وأموال تجارة ، صدقة بمقدار معين فى الزكاة المفروضة أو بمقدار غير معين فى زكاة التطوع تطهرهم بها من دنس البخل والطمع والقسوة على الفقراء البائسين ، وتزكى أنفسهم بها وترفعهم إلى منازل الأبرار بفعل الخيرات حتى يكونوا أهلا للسعادة الدنيوية والأخروية.
وقد نسبت التزكية إلى اللّه فى قوله : « وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ، وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ » لأنه الخالق الموفق للعبد لفعل ما تزكو به نفسه وتصلح.
ونسبت إلى رسول اللّه فى قوله : « هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ » .(11/16)
ج 11 ، ص : 17
لأنه هو المربى للمؤمنين على ما تزكو به نفوسهم ، ويعلوا قدرها باتباعهم سنته العملية والقولية وبيانه لكتاب اللّه ، فهو القدوة الحسنة لهم.
ونسبت إلى الفاعل لها فى نحو قوله : « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها » وقوله : « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى » لأنه قد فعل ما كان سببا فى طهارة نفسه وزكاتها من صدقات ونحوها من أعمال البر.
وأما النهى عن تزكية النفس فى قوله : « فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى » وقوله : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ » فذاك فى تزكية النفس بدعوى اللسان فقط دون عمل يؤيدها.
(وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) أي وادع أيها الرسول للمتصدقين واستغفر لهم ، فإن دعاءك واستغفارك سكن لهم يذهب به اضطراب نفوسهم وتطمئن قلوبهم بقبول توبتهم ، ويرتاحون إلى قبول اللّه صدقاتهم بأخذك لها ووضعها فى مواضعها.
والصلاة من اللّه على عباده رحمته لهم ، ومن ملائكته استغفارهم كما قال تعالى :
« إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً » ومن المؤمنين على النبي صلى اللّه عليه وسلم دعاؤهم له بما أمرهم به فى الصلاة بعد التشهد الأخير كالدعاء المأثور
(اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد).
(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي واللّه سميع لاعترافهم بذنوبهم ، وسميع لدعائك سماع قبول وإجابة ، عليم بندمهم وتوبتهم منها وإخلاصهم فى صدقاتهم وطيب أنفسهم بها ، عليم بما فيه الخير والمصلحة لهم وهو الذي يثيبهم عليها.
وقد روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن أبى أوفى قال : كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : « اللهم صلّ على فلان » فأتاه أبى بصدقته فقال « اللهم صلّ على آل أبى أوفى » .(11/17)
ج 11 ، ص : 18
وفى هذا إيماء إلى أن المراد بالصدقة ما يعمّ الفريضة وغيرها ، وإلى أنه صلى اللّه عليه وسلم كان مواظبا على هذا الدعاء ، ومن ثم قيل إن هذا الأمر للوجوب وهو خاصّ به صلى اللّه عليه وسلم.
فوائد الصدقات فى إصلاح المجتمع الإسلامى
الصدقات تطهّر أنفس الأفراد من أرجاس البخل ، والدناءة والاثرة ، والطمع والجشع ، وتبعدهم عن أكل أموال الناس بالباطل من خيانة وسرقة وغصب وربا ، وغير ذلك : فإن من يتعود بذل بعض ما فى يده أو ما أودعه فى خزائنه فى سبيل اللّه ابتغاء مرضاته ومغفرة ذنوبه - يكن أرفع نفسا من أن يأخذ مال غيره بغير حق ، وإذا طهرت أنفس الأفراد وزكت بالعلم والتقوى وهما ثمرة الإيمان طهرت جماعة المؤمنين من أرجاس الرذائل الاجتماعية التي هى مثار التحاسد والتعادي والبغي والعدوان والفتن والحروب ، فإن الأموال قوام الحياة المعيشية للفرد والمجتمع ، فهى مثار التنازع والتخاصم ، ومن ثم أوجب الدين على أصحاب الأموال من النفقات والصدقات ما يجعل الثروات وسيلة للسلام لا إلى الخصام.
وقد جمع الإسلام بين مصالح الروح والجسد للوصول إلى السيادة فى الدنيا والسعادة فى الآخرة ، فهو وسط بين اليهودية المفرطة فى حب المال ، والنصرانية الروحانية الزاهدة ، فمن أهمّ مقاصده الإصلاحية فى الاجتماع البشرى هداية الناس إلى العدل فى أمر المال ليبتعدوا عن شر طغيان الأغنياء على الفقراء ، ونصوص الدين فى هذا الباب هى الغاية التي لا يطمح مصلح فى التطلع إلى ما بعدها ، وهى هادمة لمزاعم من يفتات على الإسلام من أرباب الجهل والهوى.
وقد فرضت الزكاة المطلقة فى أول الإسلام وكانت اشتراكية ، والباعث عليها القلوب والضمائر لا إكراه الحكام ، ثم جعلت معينة محدودة عند ما صار للإسلام دولة.
وسر الوضع الأول أن جماعة المسلمين فى مكة قبل الهجرة كانوا محصورين ،(11/18)
ج 11 ، ص : 19
ومنهم الموسر والمعسر وصاحب الثروة وذو الفقر المدقع ، فوجب أن يقوم أغنياؤهم بكفالة فقرائهم وجوبا دينيا إذا كانت الزكاة المعينة لا تكفيهم.
ولا شك أن الأسس الإصلاحية للمال التي وضعها الإسلام لا يتسنى لأقدر الأمم المالية فى العصر الحاضر أن تضع خيرا منها ، انظر إليه تره حرّم الربا والقمار ، لما أنهما يوجدان التنازع والتخاصم بين الناس وإن كان فيهما بعض المكاسب ، وأوجب الحجر على السفهاء فى أموالهم صيانة لها عن الضياع فيما يضرهم ويضر أمتهم ، وفرض النفقة الزوجية والنفقة على ذوى القرابة من ذوى الحاجة ، وذم الإسراف والتبذير والبخل والجشع والتقتير ومدح القصد والاعتدال فى النفقة على النفس والعيال ، وأباح الزينة والطيبات من الرزق بشرط اجتناب الإسراف حفظا للثروة من الضياع وبعدا عن الأمراض والأدواء البدنية ، وجعل زكاة النقدين الواجبة هى ربع العشر أي 1 - 40 وهو أوسط ربح تدفعه المصارف المالية لمودعى نقودهم فيها للاستغلال.
انظر إلى الثروة فى مصر نقدا وتجارة وتأمل مقدار ربع العشر الواجب فيها فى كل عام لفقرائها ومرافقها العامة ، ثم قدّر فى نفسك إذا هى قامت بالواجب الديني عليها فى الزكاة ، هل يكون فيها فقر مدقع أو شقاء بين أفراد الأمة ، هل تتصور أن تنتشر فيها الأمراض المعدية أو يخيم على أفرادها الجهل ، أو ترتكب فيها جنايات السرّاق وقطاع الطرقات وذوى الخيانة والغدر ، أظن أن الجواب على ذلك : لا.
وقد جاء فى الكتاب والسنة الترغيب فى بذل المال فى سبيل البر وجعله علامة من علامات الإيمان الموجبة لثواب الرحمن والدخول فى غرفات الجنان ، ولم يجىء مثل ذلك فى أي نوع من أنواع البر وضروب الإحسان.
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) أي ألم يعلم أولئك التائبون من ذنوبهم أن اللّه هو الذي يقبل توبة التائبين من عباده ، ولم يجعل ذلك لأحد من خلقه لا رسول ولا من دونه.
وفى الآية حضّ على التوبة والصدقة والترغيب فيهما.(11/19)
ج 11 ، ص : 20
(وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) أي يتقبلها ويثيب عليها ويضاعف ثوابها كما وعد بذلك فى قوله : « إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ » .
(وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي إنه تعالى هو الذي يقبل التوبة إثر التوبة من المذنبين الذين ينيبون إلى ربهم ، وأنه هو الرحيم بالتائبين الذي يثيبهم على ما قدموا من عمل ، ويمنعهم الخوف أن يصرّوا على ذنب كما قال تعالى فى وصف المتقين « وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ »
وجاء فى الحديث « ما أصرّ من استغفر وإن عاد فى اليوم سبعين مرة » رواه الترمذي ،
وروى الشيخان عن أبى هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال « ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب - ولا يقبل اللّه إلا الطيب - إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة ، فتربو فى كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربىّ أحدكم فلوّه أو فصيله »
والحديث تمثيل لحال الصدقة المقبولة عند اللّه.
(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي وقل لهم أيها الرسول اعملوا لدنياكم وآخرتكم ، لأنفسكم وأمتكم ، فالعمل هو مناط السعادة ، لا الاعتذار عن التقصير ولا دعوى الجدّ والتشمير ، وسيرى اللّه عملكم خيرا كان أو شرا ، فيجب عليكم أن تراقبوه فى أعمالكم وتتذكروا أنه عليم بمقاصدكم ونياتكم ، فجدير بمن يؤمن به أن يتقيه فى السر والعلن ويقف عند حدود شرعه ، وسيراه رسوله والمؤمنون ويزنونه بميزان الإيمان الذي يفرق بين الإخلاص والنفاق ، وهم شهداء على الناس.
روى أحمد والبيهقي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « لو أن أحدكم يعمل فى صخرة صماء ليس لها باب ولا كوّة لأخرج اللّه عمله للناس كائنا ما كان » .
وفى الآية إيماء إلى أن مرضاة جماعة المؤمنين القائمين بحقوق الإيمان تلى مرضاة اللّه ورسوله ،
وفى حديث أنس رضى اللّه عنه قال : « مرّوا بجنازة فأثنوا عليها خيرا(11/20)
ج 11 ، ص : 21
فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : وجبت ثم مرّوا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال وجبت فقال عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه : ما وجبت ؟ قال : هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة ، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار ، أنتم شهداء اللّه فى الأرض » .
وقال ابن عباس ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن.
(وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي وستردّون يوم القيامة إلى من يعلم سرائركم وعلانيتكم ، ومن لا يخفى عليه شىء من بواطن أموركم وظواهرها فيعرفكم أعمالكم ثم يجازيكم عليها بحسن الثواب أو سوء العذاب.
[سورة التوبة (9) : آية 106]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
تفسير المفردات
مرجون ومرجئون وبهما قرىء : أي مؤخرون ، يقال أرجأت الأمر وأرجيته :
أي أخرته.
المعنى الجملي
كان المتخلفون عن الجهاد فى غزوة تبوك أقساما ثلاثة :
(1) المنافقون الذين مردوا على النفاق ، وهم أكثر المتخلفين.
(2) المؤمنون الذين اعترفوا بذنوبهم وتابوا وزكّوا توبتهم بالصدقة وطلب دعاء الرسول واستغفاره فتاب اللّه عليهم.
(3) المؤمنون الذين حاروا فى أمرهم ولم يعتذروا للرسول صلى اللّه عليه وسلم لأنهم لا عذر لهم ، وأرجئوا توبتهم فأرجأ اللّه الحكم القاطع فى أمرهم لأسباب ستذكر بعد.(11/21)
ج 11 ، ص : 22
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة : هم الثلاثة الذين خلّفوا عن التوبة ، وهم مرارة ابن الربيع ، وكعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، قعدوا عن غزوة تبوك فى جملة من قعد كسلا وميلا إلى الدعة والتمتع بطيب الثمار ، والتفيؤ بالظلال لا شكّا ونفاقا ، وكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري ، كما فعل أبو لبابة وأصحابه ، وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون ، فنزلت توبة الأولين قبل توبة هؤلاء وأرجئت توبة هؤلاء حتى نزلت آية التوبة « لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ » إلخ.
(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ) أي ومن المتخلفين ناس آخرون مؤخرون لحكم اللّه فى أمرهم ، وهم أولئك النفر الذين سبق ذكرهم وكانوا تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع الهمّ باللحاق به ولم يتيسر لهم ولم يكن تخلفهم عن نفاق ، فلما قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم قالوا لا عذر لنا إلا الخطيئة ولم يعتذروا له صلى اللّه عليه وسلم كما فعل أبو لبابة وأصحابه من الذين ربطوا أنفسهم فى سوارى المسجد فنزل فيهم قوله تعالى.
(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ) الآية فنهى الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن مجالستهم وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن إلى أهلهن إلى أن نزل قوله (لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) الآية.
(إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أي إن أمرهم دائر بين هذين : التعذيب والتوبة وقد أبهم الأمر عليهم وعلى الناس فلا يدرون ماذا ينزل بهم ؟ هل تنفع توبتهم فيتوب اللّه عليهم كما تاب على الذين اعترفوا بذنوبهم ، أو يحكم بعذابهم فى الدنيا والآخرة كما حكم على الخالفين من المنافقين ؟
وحكمة إبهام الأمر إثارة الغم والحزن فى قلوبهم لتصحّ توبتهم.
وحكمة إبهامه على الرسول والمؤمنين تركهم مكالمتهم ومخالطتهم ، تربية للفريقين على ما يجب أن يعامل به أمثالهم ممن يؤثرون الراحة ونعمة العيش على طاعة اللّه ورسوله(11/22)
ج 11 ، ص : 23
والجهاد لاعلاء كلمة الحق ودفع عدوان أهل الباطل عن المؤمنين.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي واللّه عليم بما يصلح حال عباده ويربّيهم ويزكيهم أفرادا وجماعات ، حكيم فيما يشرعه لهم من الأحكام المفيدة لهذا الصلاح إذا عملوا بها :
ومن هذه الحكمة إرجاء النص على توبتهم فى كتابه ، كما أن تكرار تلاوتها فى مختلف الأوقات مما يوقع فى قلوب المؤمنين الرهبة والخوف ويفيدهم عظة وتهذيبا.
[سورة التوبة (9) : الآيات 107 الى 110]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
تفسير المفردات
الضرار والمضارّة : محاولة إيقاع الضرر ، والإرصاد : الانتظار والترقب مع العداوة يقال رصدته : أي قعدت له على طريقه أترقبه ، وأرصدت هذا الجيش للقتال ، وهذا الفرس للطراد ، ولا تقم أي لا تصلّ ، والتأسيس : وضع الأساس للبناء ليقوم عليه ويرفع ، والتقوى : اسم لما يرضى اللّه ويقى من سخطه ، وشفا أي حرف والجرف(11/23)
ج 11 ، ص : 24
(بضمتين) : جانب الوادي ونحوه ، والهار والهائر كالشاك والشائك : الضعيف المتداعى للسقوط ، وانهار : سقط ، والريبة : من الرّيب ، وهو اضطراب النفس وتردد الوهم والحيرة ، وتقطع : أي تفرق أجزاء.
المعنى الجملي
هذه الآيات نزلت فى بيان مكيدة من مكايد المنافقين لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وللمؤمنين ، وذكرت هنا لما فيها من العبرة والعظة والذكرى بإيهام عطفها على من أرجا اللّه الحكم فى أمرهم ليتعظ أولئك الغافلون من المؤمنين المغرورين بمسجد الضرار ومتخذيه ويخافوا أن يؤاخذوا بمشايعتهم لهم ولو بصلاتهم معهم فى مسجدهم.
روى فى سبب نزول الآيات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب ، كان قد تنصّر وقرأ علم أهل الكتاب وكان له منزلة كبيرة فيهم ، فلما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا واجتمع عليه المسلمون وعلت كلمة الإسلام وأظهره اللّه على أهل الشرك خرج فارّا إلى مكة وألبّ المشركين على النبي صلى اللّه عليه وسلم فى وقعة أحد وخاطب قومه الأنصار ليستميلهم إلى نصره فسبوه وردوه أقبح رد ، ولما فرغ الناس من الموقعة فر إلى هرقل ملك الروم يستنصره فوعده وحباه وكتب أبو عامر إلى جماعة من قومه من أهل النفاق أنه سيقدم بجيش يقاتل به محمدا ويغلبه ، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يأوى إليه من يقوم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك ، فشرعوا فى بناء مسجد مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموا بناءه وفرغوا منه قبل خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك ، وجاءوا فسألوه أن يصلى فى مسجدهم ليكون ذلك ذريعة إلى تقريره لإثباته ، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة فى الليلة الشاتية فعصمه اللّه من الصلاة فيه فقال : « إنا على جناح سفر ، ولكن إذا رجعنا إن شاء اللّه » .(11/24)
ج 11 ، ص : 25
ولما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين فى مسجدهم (مسجد قباء) الذي أسس من أول يوم على التقوى ، فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى ذلك المسجد من يهدمه قبل مقدمه المدينة وأمر أن يتّخذ كناسة تلقى فيها القمامة إهانة لأهله.
الإيضاح
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ).
روى أن الذين اتخذوا هذا المسجد كانوا اثنى عشر رجلا من منافقى الأوس والخزرج ، وقد بين اللّه الأغراض التي لأجلها بنى ، وهى :
(1) مضارة المؤمنين من أهل مسجد قباء الذي بناه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مقدمه من مكة مهاجرا قبل وصوله إلى المدينة.
(2) تقوية الكفر وتسهيل أعماله من فعل وترك ، كتمكين المنافقين من ترك الصلاة هناك مع خفاء ذلك على المؤمنين لعدم اجتماعهم فى مسجد واحد ، والتشاور فيما بينهم فى الكيد لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والطعن فيه إلى نحو أولئك من مقاصد المنافقين.
(3) التفريق بين المؤمنين المقيمين هنالك ، فإنهم كانوا يصلون جميعا فى مسجد قباء ، وفى ذلك حصول التعارف والتآلف والتعاون وجمع الكلمة وهى أهم مقاصد الإسلام الاجتماعية ، ومن ثم كان تكثير المساجد وتفريق الجماعة منافيا لأغراض الدين ومراميه ، ومن الواجب أن يصلى المسلمون الجمعة فى مسجد واحد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، فإن تفرقوا عمدا كانوا آثمين.
ومن هذا يعلم أن بناء المساجد لا يكون قربة يتقبلها اللّه إلا إذا دعت الحاجة(11/25)
ج 11 ، ص : 26
إلى ذلك ، ولم يكن سببا لتفريق جماعتهم ، فكثير من المساجد المتقاربة فى القاهرة وغيرها من الأمصار الأخرى لم تبن لوجه اللّه بل كان الباعث على ينائها الرياء واتباع الأهواء من جهلة الأفراد والأثرياء وعدم نصح العلماء لهم.
(4) الانتظار والترقب لمن حارب اللّه ورسوله أن يجىء محاربا فيجد مكانا مرصدا له ، وقوما راصدين مستعدين للحرب معه ، وهم أولئك المنافقون الذين بنوا هذا المسجد مرصدا لذلك.
(وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي وليحلفن ما أردنا ببنائه إلا الخصلة التي تفوق غيرها فى الحسن ، وهى الرفق بالمسلمين وتيسير صلاة الجماعة على أولى العجز والضعف ومن يحبسهم المطر منهم ، ليصدقهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم وليصلى معهم ، واللّه يعلم إنهم لكاذبون فى إيمانهم لأنهم ما بنوه إلا للسوءى وضرار مسجد قباء.
(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) أي لا تقم فى هذا المسجد للصلاة أبدا.
(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) أي إن مسجدا قصد ببنائه منذ وضع أساسه فى أول يوم تقوى اللّه بإخلاص العبادة له وجمع المؤمنين فيه على ما يرضيه من التعارف والتعاون على البر والتقوى - هو أحق من غيره أن تقوم فيه أيها الرسول مصليا بالمؤمنين.
والسياق يدل على أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء ، ولكن
روى أحمد ومسلم والنسائي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل عنه فأجاب بأنه مسجده الذي فى المدينة
، والآية لا تمنع إرادة كل من المسجدين ، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم قد بنى كلا من المسجدين ووضع أساسه على التقوى من أول يوم شرع فيه ببنائه.
(فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) أي فيه رجال يعمرونه بإقامة الصلاة وذكر اللّه وتسبيحه فيه بالغدو والآصال ، ويحبون أن يتطهروا بذلك مما يعلق بأنفسهم من أوضار الذنوب والآثام ، كما تطهر المتخلفون منهم من غزوة تبوك بالتوبة والصدقات ، ويتبع(11/26)
ج 11 ، ص : 27
العمارة المعنوية بالعكوف فيه للصلاة وغيرها - الطهارة الحسية للثوب والبدن ، وطهارة الوضوء والاغتسال.
والخلاصة - إن التطهر يشمل الطهارتين النفسية والبدنية ، والروايات وردت بكل منهما ، والأولى إرادتهما معا.
(وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) أي الذين يبالغون فى طهارة الروح والجسد لحبهم إياهما ، لأنهم يرون فيهما الكمال الإنسانى ، فمن ثم يبغضون نجاسة البدن والثوب ، وأشد منهما بغضا لهم نجاسة النفس وخبثها بالإصرار على فعل المعاصي والتخلق بذميم الأخلاق كالرياء فى الأعمال إذ هو فعل المنافقين ، والشح بالأموال أو بالأنفس فى سبيل اللّه ابتغاء لمرضاته.
وحب اللّه إياهم من صفات كماله ، إذ العالم بتفاوت الأشياء فى الحسن والقبح والكمال والنقص يكون من صفاته حب الكمال والحق والخير وبغض أضدادها.
وحبه تعالى منزه عن مشابهته حبنا كتنزه ذاته وسائر صفاته عن مشابهة ذواتنا وصفاتنا ، ويظهر أثر حبه لعباده فى أخلاقهم وأعمالهم ومعارفهم وآدابهم كما أشار إليه
الحديث القدسي الذي رواه البخاري « ولا يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به » الحديث.
وفى معنى الآية ما جاء فى عظة نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم وأمرهن باتباع أوامره ونواهيه بما يليق بما لهن من مكانة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتعليم ذلك بقوله :
« إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً » .
(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ ، أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) هذا بيان مستأنف للفرق بين مقاصد أهل مسجد التقوى وهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأنصاره ، ومقاصد أهل مسجد الضرار الذي زادوا به رجسا إلى رجسهم.(11/27)
ج 11 ، ص : 28
والأساس على شفا الجرف الهارى ، مثل يضرب لما يكون فى منتهى الوهي والانحلال والإشراف على الزوال ، أي أ فمن أسس بنيانه الذي يتخذه موطنا لراحته وهناء معيشته ويتقى به العوامل الجوية ، وعدوان الكائنات الحية على أمتن الأسس وأقواها على مصابرة العواصف والسيول وصد الهوامّ والوحوش - خير بنيانا ، أم من أسس بنيانه على أوهى القواعد وأقلها بقاء واستمساكا فكانت عرضة للانهيار فى كل حين من ليل أو نهار ؟ .
وقد ضرب اللّه مثل البنيان على تينك الصفتين لبيان حال الفريقين المتقدمين من صدق الإيمان ، والنفاق والارتياب ، أي أ فمن كان مؤمنا صادقا يتقى اللّه فى جميع أحواله ويبتغى مرضاته فى جميع أعماله ، قاصدا تزكية نفسه وإصلاح سريرته - خير أم من هو منافق مرتاب ، يبتغى بأعماله الضرر والضرار وتقوية أعمال الكفر وموالاة الكفار وتفريق جماعة المؤمنين والإرصاد لمساعدة من حارب اللّه ورسوله مع ما يكون لعمله فى الدنيا من العار والفضيحة والخزي والبوار ، وفى الآخرة من الانهيار فى النار.
وخلاصة المثل - بيان ثبات الإسلام وقوته وسعادة أهله به وثمرته فى أعمالهم وجزائهم عليه برضوان اللّه عنهم ، وبيان ضعف الباطل واضمحلاله ووهيه وقرب زواله وخيبة صاحبه وسرعة انقطاع آماله ، وبيان أن شر أعمال أهله المنافقين ، ما اتخذوه من مسجد الضرار لمفاسده الأربع المتقدمة.
فالإيمان وما يلزمه من صالح العمل هو الثابت ، والنفاق وما يستلزمه من فاسد العمل هو الباطل الزاهق بحكم ناموس الاجتماع وبقاء الأصلح فى الوجود ، وقد صدق اللّه وعده وثبّت المؤمنين بالقول الثابت ، وهداهم إلى العمل الصالح ففتحوا البلاد وأقاموا سبل الحق والعدل ، وأهلك المنافقين ، وقد جرت سنته فى كل زمان ومكان أن يكون الفوز حليف أهل الحق ، والخيبة لأهل الباطل ما استمسكوا به ، ولم يقلعوا عنه.(11/28)
ج 11 ، ص : 29
(وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي مضت سنته تعالى ألا يكون الظالم مهتديا فى أعماله إلى الحق والعدل ولا إلى الرحمة والفضل :
(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) أي لا يزال بنيانهم سبب ريبة وشك فى الدين ، لأنهم يظهرون فيه حال قيامه ما فى قلوبهم من آثار الكفر والنفاق ويدبرون أمورهم ويتشاورون فى ذلك ويلقى بعضهم إلى بعض ما سمعوا من أسرار المؤمنين مما يزيدهم ريبة وشكا فى الدين ، وحين أمر صلى اللّه عليه وسلم بتخريبه وهدمه ثقل ذلك عليهم وعظم خوفهم وارتابوا فى أمرهم : أ يتركون على حالهم أم يؤمر بهم فيقتلون وتنهب أموالهم ، إلى أنهم اعقدوا أنهم كانوا محسنين فى البناء ، فلما أمر بتخريبه أصبحوا شاكين فى أمره ، ولأى سبب كان ذلك.
ولا يزال هذا شأنهم فى جميع الأحوال إلا حال تقطع القلوب أفلاذا وصيرورتها جذاذا ، فتكون غير قابلة للإدراك.
وفى هذا إيماء إلى أن تمكن الريبة فى قلوبهم وإضمار الشرك بحيث لا يزول منها ماداموا أحياء.
والخلاصة - إنه لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا سببا للقلق واضطراب النفس وإن ذلك لا يزول ما دامت القلوب سالمة - أما إذا تفرقت قطعا وتقطعت أجزاء بقتلهم فحينئذ يسلون عنه.
وقد يكون المراد : إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي واللّه عليم بكل شىء ، حكيم فى أفعاله ، ومن حكمته أن بيّن حال المنافقين وأظهر ما خفى من أمرهم لتعرفوا كنه الحقيقة فى ذلك.(11/29)
ج 11 ، ص : 30
[سورة التوبة (9) : الآيات 111 الى 112]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فضائح المنافقين بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك ، وأصناف المقصّرين من المؤمنين ، أردف ذلك بذكر حال المؤمنين الصادقين فى إيمانهم البالغين فيه حد الكمال ، وبذا تمّ معرفة جميع أحوال المؤمنين.
الإيضاح
(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) هذا ترغيب فى الجهاد على أبلغ وجه وأحسن صورة. فقد مثل اللّه إثابة المؤمنين على بذل أنفسهم وأموالهم فى سببله بتمليكهم الجنة التي هى دار النعيم والرضوان الدائم السرمدي تفضلا منه تعالى وكرما - بصورة من باع شيئا هو له لآخر - وعاقد عقد البيع هو رب العزة والمبيع هو بذل الأنفس والأموال ، والثمن هو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وجعل هذا العقد مسجلا فى الكتب السماوية ، وناهيك به من صكّ لا يقبل التحلل والفسخ ، وفى هذا منتهى الربح والفوز العظيم ، وكل هذا لطف منه تعالى وتكريم لعباده المؤمنين ، فهو المالك لأنفسهم إذ هو الذي خلقها ، ولأموالهم إذ هو الذي رزقها ، ولهذا قال الحسن : اشترى أنفسا هو خلقها ، وأموالا هو رزقها ، إلا أنه تعالى غنى عن أنفسهم وأموالهم والمبيع والثمن له وقد جعله بفضله وكرمه لهم.
روى ابن أبى حاتم وابن مردويه عن جابر قال : نزلت هذه الآية على رسول اللّه(11/30)
ج 11 ، ص : 31
صلى اللّه عليه وسلم وهو فى المسجد فكبّر الناس فى المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفى ردائه على عاتقه فقال : يا رسول اللّه أنزلت فينا هذه الآية ، قال « نعم » فقال الأنصاري : بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل.
وأخرج ابن جرير أن عبد اللّه بن رواحة قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة العقبة اشترط لنفسك ولربك فقال : « أشترط لربى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسى أن تمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ، قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال : الجنة ، قال ربح البيع لا نقيل ولا نستقبل ، فنزلت الآية » .
و
أخرج ابن سعد فى طبقاته عن عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت ، أن سعد ابن زرارة أخذ بيد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة العقبة فقال : يا أيها الناس هل تدرون علام تبايعون محمدا ؟ إنكم تبايعونه على أن تحاربوا العرب والعجم والجن والإنس كافة. فقالوا نحن حرب لمن حارب ، وسلم لمن سالم. فقال يا رسول اللّه اشترط علىّ. فقال : « تبايعوني على أن تشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأنى رسول اللّه ، وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة ، والسمع والطاعة ، ولا تنازعوا الأمر أهله ، وتمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم » قالوا نعم. قال قائل الأنصار : نعم هذا لك يا رسول اللّه ، فما لنا ؟
قال « الجنة والنصر » .
وأخرج ابن سعد عن الشّعبى قال : « انطلق النبي صلى اللّه عليه وسلم بالعباس ابن عبد المطلب وكان ذا رأى إلى السبعين من الأنصار عند العقبة ، فقال العباس ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة ، فإن عليكم للمشركين عينا ، وإن يعلموا بكم يفضحوكم فقال قائلهم : يا محمد سل لربك ما شئت ، ثم سل لنفسك ولأصحابك ما شئت ، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على اللّه وعليكم إذا فعلنا ذلك ؟ ، فقال : أسألكم لربى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأسألكم لنفسى وأصحابى أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم ، قال : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال : الجنة » فكان الشعبي إذا حدّث هذا الحديث قال : ما سمع الشّيب والشباب بخطبة أقصر ولا أبلغ منها.(11/31)
ج 11 ، ص : 32
وروى ابن مردويه عن أبى هريرة مرفوعا « من سل سيفا فى سبيل اللّه فقد بايع اللّه »
وروى ابن أبى حاتم عن الحسن قال : « ما على ظهر الأرض مؤمن إلا وقد دخل فى هذه البيعة »
وفى رواية « اسعوا إلى بيعة بايع اللّه بها كل مؤمن. إنّ اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم » .
ثم بين صفة تسليم البيع فقال :
(يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) أي إنهم يقاتلون فى سبيل الحق والعدل التي توصل إلى مرضاة اللّه تعالى ببذل أنفسهم وأموالهم فيكونون إما قاتلين لأعدائه الصادين عن سبيله ، وإما مقتولين شهداء فى هذه السبيل ، ولا فرق بين القاتل والمقتول فى الفضل والمثوبة عند اللّه ، فكل منهما كان فى سبيله ولم يكن رغبة فى سفك الدماء ، ولا حبّا للأموال ولا توسلا إلى ظلم العباد كما يفعل الذين يقاتلون لأغراض الدنيا من الملوك والأمراء.
(وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) أي وعدهم وعدا أوجبه على نفسه وجعله حقا وأثبته فى التوراة والإنجيل ، وضياعه منهما فى النسخ التي بين يدى أهل الكتاب لا يضير فى ذلك لأنه قد ضاع منهما كثير وحرّف بعضهما لفظا ومعنى ، ويكفى إثبات القرآن لذلك وهو المهيمن عليهما.
(وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ؟ ) أي لا أحد أوفى بعهده وأصدق فى إنجاز وعده من اللّه ، إذ لا يمنعه من ذلك عجز عن الوفاء ولا يعرض له تردد ولا رجوع عما يريد إمضاءه من شأنه.
(فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) أي فإذا كان الأمر على هذه الحال فأظهروا السرور على ما فزتم به من الجنة.
(وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي وذلك الفوز الذي لا فوز أعظم منه ، وما يتقدمه من النصر والسيادة والملك لا يعد فوزا إلا بكونه وسيلة لإقامة الحق والعدل.(11/32)
ج 11 ، ص : 33
وفى هذا الأسلوب من التأكيد واستحقاق المجاهدين للثواب ما لا يخفى ، إذ جعلهم مالكين معه ومبايعين له ومستحقين الثمن الذي بايعهم به ، وأكد لهم أمر الوفاء وإنجاز وعده.
وعن جعفر الصادق أنه قال : ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها.
يريد أن الذي يقتل أو يموت فى سبيل اللّه بذل بدنه الفاني ، لا روحه الباقي.
ثم وصف اللّه هؤلاء المكملة من المؤمنين الذين باعوا أنفسهم وأموالهم بجنته بصفات هى :
(1) (التَّائِبُونَ) أي هم الراجعون إلى اللّه بتركهم كل ما يبعد عن مرضاته ، وتوبة الكفار هى رجوعهم عن الكفر الذي كانوا عليه كما قال : « فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ » وتوبة المنافق تكون بترك نفاقه ، وتوبة العاصي من معصيته تكون بالندم على ما حصل منه والعزم على عدم العود لمثله كتوبة من تخلف عن غزوة تبوك من المؤمنين ، وتوبة المقصّر فى شىء من البر وعمل الخير تكون بالاستزادة منه ، وتوبة من يغفل عن ربه تكون بالإكثار من ذكره وشكره.
(2) (الْعابِدُونَ) للّه المخلصون فى جميع عباداتهم ، فلا يتوجهون إلى سواه بدعاء ولا استغاثة ولا يتقربون إلى غيره بعمل قربان ولا طلب مثوبة فى الآخرة.
(3) (الْحامِدُونَ) للّه فى السراء والضراء ،
روى عن عائشة رضى اللّه عنها قالت : كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذ أتاه الأمر يسرّه قال « الحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات » وإذا أتاه الأمر يكرهه قال : « الحمد للّه على كل حال » .
(4) (السَّائِحُونَ) فى الأرض لغرض صحيح كعلم نافع للسائح فى دينه أو دنياه ، أو نافع لقومه وأمته ، أو النظر فى خلق اللّه وأحوال الأمم والشعوب للاعتبار والاستبصار وقد حث اللّه كثيرا على السير فى الأرض والضرب فيها كما قال « أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ » .(11/33)
ج 11 ، ص : 34
وعلى السفر والسياحة لطلب الرزق الحلال من تجارة وغيرها.
والإسلام الذي يجيز سفر النساء فى الغزوات - وهن غير مكلّفات - بالقتال للمساعدة عليه بتهيئة الطعام والشراب وتضميد الجراح فهو بالأولى يجيز صحبتهن فى سائر الأسفار ، وفى ذلك إحصان لكل من الزوجين ومنع لهما عن التطلع إلى الأجنبى.
وفسر بعضهم السياحة بالصيام لما
روى عن عائشة : « سياحة هذه الأمة الصيام »
لأن الصوم يعوق عن اللذات كما أن السياحة كذلك غالبا.
(5 ، 6) (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) فى صلواتهم المفروضة ، وخصا بالذكر لما فيهما من الدلالة على التواضع والعبودية والتذلل للّه سبحانه.
(7 ، 8) (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي الداعون إلى الإيمان وما يتبعه من أعمال البر والخير ، والناهون عن الشرك وما بسبيله من المعاصي والسيئات.
(9) (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) أي الحافظون لشرائعه وأحكامه التي بيّن فيها ما يجب على المؤمنين اتباعه وما يحظر عليهم فعله منها ، وكذا ما يجب على أئمة المسلمين وأولى الأمور منهم إقامته وتنفيذه بالعمل فى أفراد المسلمين وجماعتهم إذا أخلّوا بما يجب عليهم حفظه منها.
ثم ذكر جزاءهم على ذلك فقال :
(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وبشر أيها الرسول المؤمنين المتصفين بهذه الصفات بخيرى الدنيا والآخرة.
وخصت تلك الخلال بالذكر لأن بها تكون المحافظة على حدود اللّه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 116]
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116)(11/34)
ج 11 ، ص : 35
تفسير المفردات
الأوّاه : الكثير التأوّه والتحسر ، أو الخاشع الكثير الدعاء والتضرع إلى ربه ، وقيل إنها كلمة حبشية الأصل ، ومعناها المؤمن أو الموقن ، وأصل التأوه : قول أوه أو آه أو نحوهما مما يقوله الحزين أو أوه بكسر الهاء وضمها وفتحها ، وآه بالكسر منونا وغير منون ، والحليم : الذي لا يستفزه الغضب ولا يعبث به الطيش ولا يستخفه هوى النفس ، ومن لوازم ذلك الصبر والثبات والصفح والتأنى فى الأمور واتقاء العجلة فى الرغبة والرهبة
المعنى الجملي
كان الكلام من أول السورة إلى هنا براءة من الكفار والمنافقين فى جميع الأحوال ، وهنا بين أنه يجب البراءة من أمواتهم وإن قربوا غاية القرب كالأب والأم ، ثم ذكر السبب الذي لأجله استغفر إبراهيم لأبيه وهو وعده بالاستغفار بقوله « لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ » فلما أصرّ على كفره تبرأ منه ، وبعدئذ بين رحمته بعباده وأنه لا يعاقبهم على شىء إلا بعد بيان شاف لما يعاقبون عليه.
أخرج أحمد وابن أبى شيبة والبخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم عن سعيد بن المسيّب عن أبيه قال « لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد اللّه بن أبى أمية ، فقال : « أي عمّ قل لا إله إلا اللّه ، كلمة أحاج لك بها عند اللّه » فقال أبو جهل وعبد اللّه بن أبى أمية : أ ترغب عن ملة عبد المطلب ؟
فلم يزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعرضها عليه ، ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول لا إله إلا اللّه فقال(11/35)
ج 11 ، ص : 36
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « واللّه لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك » فأنزل اللّه (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) وأنزل اللّه فى أبى طالب فقال لرسوله صلى اللّه عليه وسلم : « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ »
وقد كان موت أبى طالب بمكة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات ، ومن ثم استبعد بعض العلماء أن تكون نزلت فى أبى طالب ، وأجاب آخرون بأن الذي حصل قد يكون أحد أمرين :
(1) إنها نزلت عقب موته ثم ألحقت بهذه السورة المدنية لمناسبتها لأحكامها الخاصة بالبراءة من الكفار وفضيحة المنافقين.
(2) إنها نزلت مع غيرها من براءة مبينة لحكم استغفار الرسول صلى اللّه عليه وسلم له ، وقد كان من ذلك الحين إلى نزول الآية يستغفر لأبى طالب ، فإن التشديد على الكفار ، والبراءة منهم إنما جاء فى هذه السورة وفى الآية إيماء إلى تحريم الدعاء لمن مات على كفره بالمغفرة والرحمة ، أو بوصفه بذلك كقولهم المغفور له والمرحوم فلان ، كما يفعله بعض جهلة المسلمين من الخاصة والعامة.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود عن أبى هريرة قال : « أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ، ثم قال : استأذنت ربى أن أستغفر لها فلم يأذن لى ، وأستأذنت أن أزور قبرها فأذن لى فزوروا القبور فإنها تذكّركم الموت » .
الإيضاح
(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) أي ما كان من شأن النبي ولا مما ينبغى أن يصدر منه من حيث هو نبىّ ، ولا من شأن المؤمنين ، ولا مما يجوز أن يقع منهم أن يدعوا اللّه طالبين منه المغفرة للمشركين.
(وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى ) أي ولو كان لهم حق البر وصلة الرحم ، وكانت عاطفة القرابة تقتضى الحدب والإشفاق عليهم.(11/36)
ج 11 ، ص : 37
(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي من بعد ما ظهر لهم بالدليل أنهم من أصحاب النار ، بأن ماتوا على الكفر ، أو بأن نزل وحي يسجل عليهم ذلك كإخباره تعالى عن بعض الجاحدين المعاندين بنحو قوله : « سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ » ؟ .
وخلاصة ذلك - إن النبوة والإيمان الصادق لا يبيحان الاستغفار للمشركين فى كل حال ، حتى ولو كانوا أولى قربى إذا ظهر لهم بالدليل أنهم من أصحاب الجحيم.
ثم أجاب عن سؤال قد يختلج بالخاطر مما تقدم ، فيقال كيف يمنع النبي والمؤمنون من الاستغفار لأقربائهم وقد استغفر إبراهيم لأبيه فقال :
(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) أي وما استغفر إبراهيم لأبيه آزر بقوله (وَاغْفِرْ لِأَبِي ، إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) أي وفّقه للإيمان واهده إلى سبيله - إلا عن موعدة وعدها إياه بقوله : « سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي » أي لا أملك لك هداية ولا نجاة ، وإنما أملك أن أدعو اللّه لك.
وقد وفّى إبراهيم بما وعد ، ولم يكن إلا وفيا كما شهد اللّه له بقوله : « وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى » .
(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) أي لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما مات تبين له أنه عدو للّه فتبرأ منه ، قال ابن عباس ، وقيل تبين له ذلك بوحي من اللّه فتبرأ منه ومن قرابته وترك الاستغفار له ، إذ هذا مقتضى الإيمان كما قال تعالى :
« لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ » الآية.
ثم بين السبب الذي حمل إبراهيم على الوعد بالاستغفار لأبيه مع شكاسته له وسوء خلقه معه كما يؤذن بذلك قوله : « لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا » فقال :(11/37)
ج 11 ، ص : 38
(إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) أي إن إبراهيم لكثير المبالغة فى خشية اللّه والخضوع له ، صبور على الأذى والصفح عن زلّات غيره عليه.
(وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) أي وما كان من سنن اللّه فى خلقه ولا من رحمته وحكمته أن يصف قوما بالضلال ويجرى عليهم أحكامه بالذم والعقاب بعد إذ هداهم إلى الإيمان ، وشرح صدورهم للإسلام - بقول يصدر منهم عن غير قصد أو عمل يحدث منهم باجتهاد خاطئ.
(حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) من الأقوال والأفعال بيانا واضحا بوحي صراحة أو دلالة.
(إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى عليم بجميع الأشياء ، ومن جملتها حاجة الناس إلى البيان ، فهو يبين لهم مهمات الدين بالنص القاطع ، حتى لا يضل فيه اجتهادهم بأهواء أنفسهم ، ومن أجل هذا لم يؤاخذ إبراهيم فى استغفاره لأبيه قبل أن تتبين له حاله ، وكذلك لا يؤاخذ النبي والذين آمنوا بما سبق لهم من الاستغفار لوالديهم وأولى القربى منهم قبل هذا التبيين لحكم اللّه تعالى.
ولما منعهم من الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولى قربى ، وذلك يستدعى التبرؤ منهم وعدم انتظار النصرة من أحد - بين أن النصر لا يكون إلا من جهته تعالى فقال :
(إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي إنه تعالى مالك كل موجود ، ومتولى أمره فى السموات والأرض ، وهو الذي يهب الحياة بمحض قدرته ومشيئته ومقتضى سننه فى التكوين ، ويميت من يشاء حين انقضاء أجله ، وليس لكم أيها المؤمنون من يتولى أموركم ، ولا من ينصركم على عدوكم غير اللّه تعالى ، فلا تحيدوا عن هدايته فيما نهاكم عنه من الاستغفار لأولى القربى الذين هم أهل الولاية والنصرة من ذوى الأرحام ، ولا فى غير ذلك من أوامره ونواهيه.(11/38)
ج 11 ، ص : 39
[سورة التوبة (9) : الآيات 117 الى 119]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
تفسير المفردات
العسرة : الشدة والضيق ، وزاغ : مال ، الرّحب : السعة ، ولجأ إلى الحصن وغيره : لاذ إليه واعتصم به ، الرأفة : العناية بالضعيف والرفق به ، والرحمة : السعى فى إيصال المنفعة.
المعنى الجملي
بعد أن استقصى سبحانه أحوال المتخلفين عن غزوة تبوك على النحو الذي سلف - عاد مرة أخرى إلى الكلام فى توبتهم جيا على سنة القرآن الكريم فى تفريق الآيات فى الموضوع الواحد ، لأنه أفعل فى النفس وأشد تأثيرا فى القلب وأجدى فى تجديد الذكرى وأدنى ألا يسأم التالي لها فى الصلاة وغيرها. إلى أنه مناسب لما قبله من النهى عن الاستغفار للمشركين ، إذا كلّ مما يتاب منه ، وكلّ عثرة يطلب منها الصفح والعفو.
الإيضاح
(لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) أي لقد تفضل سبحانه وعطف على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار فتجاوز عن هفوات صدرت(11/39)
ج 11 ، ص : 40
منهم فى هذه الغزوة وغيرها لبلائهم الحسن فيها ، ولأنهم لم يصروا على شىء منها.
وقد كانت هفواتهم على سنن الطباع البشرية واجتهاد الرأى فيما لم يبينه اللّه بيانا قطعيا بحيث يعد مخالفه عاصيا ، وقد فسر ابن عباس التوبة على النبي صلى اللّه عليه وسلم هنا بقوله فى سياق هذه الغزوة « عفا اللّه عنك - لم أذنت لهم ؟ » أي إن التوبة كانت من اجتهاد لم يقره اللّه عليه إذ غيره كان خيرا منه ، وتوبة المهاجرين والأنصار ، وهم خلّص المؤمنين كانت من تثاقلهم فى الخروج حتى ورد الأمر الحتم والتوبيخ على التثاقل إلى الأرض ، ومنهم من كان ذنبه السماع للمنافقين فيما كانوا يبغون من فتنة المؤمنين.
وتوبة اللّه على عباده توفيقهم للتوبة وقبولها منهم ، وإنما يتوبون من ذنب ، وما كل ذنب معصية للّه عز وجل.
(الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) أي الذين اتبعوه ولم يتخلفوا عنه وقت الشدة والضيق ، وكانت عسرة فى الزاد إذ كان الوقت نهاية فصل الصيف الذي نفدت فيه مئونتهم من التمر ، وأول فصل الخريف الذي بدأ فيه إرطاب الموسم الجديد ، ولا يمكن حمل شىء منه ، فكان يكتفى الواحد منهم أو الاثنان بالتمرة الواحدة من التمر القديم ومنه المدوّد واليابس ، ومنهم من تزوّد بالشعير المسوس والإهالة (الشحم المذاب) الزنخة المتغيرة الرائحة - وعسرة فى الماء حتى كانوا ينحرون البعير على قلة الرواحل ليعتصروا الفرث الذي فى كرشه ويبلّوا به ألسنتهم - وعسرة فى الظهر (فى الإبل) حتى كان العشرة يتعقبون بعيرا واحدا - وعسرة فى الزمن إذ كان فى حرارة القيظ (شدة الحر).
قال جابر بن عبد اللّه رضى اللّه عنه فى ساعة العسرة : عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء ، وقال ابن عباس لعمر رضى اللّه عنهم : حدّثنا من شأن ساعة العسرة ، فقال : خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك فى قيظ شديد فنزلنا منزلا(11/40)
ج 11 ، ص : 41
فأصابنا فيه عطش شديد ، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى إن كان الرجل لينحر بعيره ليعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده ، فقال أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه :
يا رسول اللّه إن اللّه قد عودك فى الدعاء خيرا فادفع لنا ، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سالت السماء فأهطلت ثم سكنت فملئوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
(مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أي إنه تاب على المؤمنين كافة من بعد ما كاد يزيغ بعضهم عن الإيمان وهم الذين تخلفوا لغير علة النفاق ، وهم الذين وصفهم اللّه بأنهم عملوا عملا صالحا وآخر سيئا واعترفوا بذنوبهم ، فقبل اللّه توبتهم كما ذكر فيما سلف.
(ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) هذا تكرير للتوكيد كما يقال عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه ، فيدل ذلك على أنه عفو متأكد بلغ الغاية القصوى من القدرة والكمال.
ثم علل قبول توبتهم بقوله :
(إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي إن ربهم رءوف رحيم بهم ، فلا يهملهم بأن ينزع الإيمان منهم بعد ما أبلوا فى اللّه وأبلوا مع رسوله وصبروا فى البأساء والضراء.
(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) أي ولقد تاب اللّه على الثلاثة الذين خلّفوا عن الخروج إلى تبوك مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهم المرجون لأمر اللّه ، وتقدم أنهم ثلاثة : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع.
(حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي خلفوا عن التوبة حتى شعروا بأن الأرض قد ضاقت عليهم على رحبها وسعتها بالخلق جميعا خوفا من العاقبة وجزعا من إعراض النبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين عنهم ، وهجرهم إياهم فى المجالسة والمحادثة.
وهذا مثل للحيرة فى الأمر ، كأنهم لا يجدون فيها مكانا يقّرون فيه قلقا وجزعا مما هم فيه ، قال قائلهم :
كأنّ فجاج الأرض وهى فسيحة على الخائف المطلوب كفّة حابل
ثم ترقى وانتقل من ضيق الأرض عليهم إلى ضيقهم فى أنفسهم فقال :(11/41)
ج 11 ، ص : 42
(وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) أي وضاقت أنفسهم على أنفسهم ، لما كانوا يشعرون به من ضيق صدورهم بامتلائها بالهمّ والغم حتى لا متسع فيها لشىء من البسط والسرور ، فكأنهم لا يجدون لأنفسهم مكانا ترتاح إليه وتطمئن به.
(وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أي واعتقدوا أنه لا ملجأ من غضب اللّه ورسوله ، إلا إليه تعالى بالتوبة والاستغفار ورجاء رحمته ، وقد أعرض عنهم رسوله البرّ الرحيم بأصحابه ، فلم يكونوا يستطيعون أن يطلبوا دعاءه واستغفاره - إلى أنه صلى اللّه عليه وسلم لا يشفع فى الدنيا ، ولا فى الآخرة إلا لمن ارتضى اللّه أن يشفع لهم.
(ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أي ثم عطف عليهم وأنزل قبول توبتهم.
(لِيَتُوبُوا) ويرجعوا إليه بعد إعراضهم عن هدايته ، واتباع رسوله صلى اللّه عليه وسلم.
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي إنه تعالى كثير القبول لتوبة التائبين ، الواسع الرحمة للمحسنين ، المتفضل عليهم بضروب النعم مع استحقاقهم لأعظم أنواع العقاب.
وكان من حديث هؤلاء الثلاثة ما
حدثه كعب قال : « لما قفل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سلّمت عليه فرد علىّ كالمغضب بعد ما ذكرنى وقال : « ليت شعرى ما خلّف كعبا » فقيل له ما خلّفه إلا حسن برديه والنظر فى عطفيه فقال :
« معاذ اللّه ما أعلم إلا فضلا وإسلاما » ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب أو بعيد ، فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهن ، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع (جبل بالمدينة) أبشر يا كعب بن مالك فخررت ساجدا ، وكنت كما وصفني ربى و(ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) وتتابعت البشارة ، فلبست ثوبى وانطلقت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإذا هو جالس فى المسجد وحوله المسلمون فقام إلىّ طلحة بن عبد اللّه يهرول حتى صافحنى وقال : لتهنك توبة اللّه ، فلن أنساها لطلحة ،(11/42)
ج 11 ، ص : 43
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يستنير استنارة القمر ، أبشر يا كعب بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك ثم تلا علينا الآية » .
وفى هذه القصة عبرة للمؤمنين تخشع لها قلوبهم وتفيض لها عبراتهم ، وقد كان لإمام أحمد لا يبكيه شىء من القرآن كما تبكيه هذه الآيات.
انظر إلى هذا وتأمل قسوة قلوب الجاهلين المغرورين ، الذين يقترفون الفواحش والمنكرات ، ويتركون الفرائض ويصرون على ما فعلوا وهم يعلمون ولا يتوبون إلى اللّه ولا هم يذّكرون ، وإذا وعظهم الواعظ وجدهم بين جازم بالمغفرة والعفو عنه ، ومتكل على شفاعة الشافعين له ، ومنهم من يحفظ من أخبار مكفرات الذنوب مما لا أصل له فى الدين ، أو له أصل يراد به تكفير الصغائر بشرط اجتناب الكبائر ، كما قال تعالى :
« إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ » .
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أي يا أيها الذين آمنوا باللّه ورسوله اتقوا اللّه وراقبوه بأداء فرائضه واجتناب نواهيه ، وكونوا فى الدنيا من أهل ولايته وطاعته تكونوا فى الآخرة مع الصادقين فى الجنة ، ولا تكونوا مع المنافقين الذين يتنصلون من ذنوبهم بالكذب ويؤيدونه بالحلف.
أخرج الحاكم عن ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : « إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ، ولا يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له ، اقرءوا إن شئتم : يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين »
وأخرج البيهقي مرفوعا « إن الصدق يهدى إلى البرّ ، وإن البر يهدى إلى الجنة ، وإن الكذب يهدى إلى الفجور ، وإن الفجور يهدى إلى النار ، إنه يقال للصادق : صدق وبرّ ، ويقال للكاذب : كذب وفجر ، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند اللّه صدّيقا ، ويكذب حتى يكتب عند اللّه كذابا » .
ولا رخصة فى الكذب إلا لضرورة من خديعة حرب ، أو إصلاح بين اثنين ، أو رجل يحدّت امرأته ليرضيها ، أي فى التحبب إليها بوصف محاسنها ورضاه عنها ، لا فى مصالح الدار والعيال وغيرها.(11/43)
ج 11 ، ص : 44
أخرج ابن أبى شيبة وأحمد عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب فى خديعة حرب أو صلاح بين اثنين أو رجل يحدث امرأته ليرضيها » .
ولا شك أن فى المعاريض ما يغنى العاقل عن الكذب كما
جاء فى الحديث « إن فى المعاريض لمندوحة عن الكذب »
[سورة التوبة (9) : الآيات 120 الى 121]
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121)
تفسير المفردات
رغب فى الشيء : أحبه وآثره ، ورغب عنه : كرهه ، وقد جمع بينهما فى الآية.
والظمأ : شدة العطش ، والنصب : الإعياء والتعب ، والمخمصة : الجوع الشديد ، والغيظ : الغضب ، ونيلا : أي أسرا وقتلا وهزيمة ، والوادي : كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عزّ اسمه توبته على المتخلفين الذين حسنت نياتهم ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون - أكد هنا وجوب متابعة الرسول والغزو معه لما فيه من الأجر العظيم ، وحظر تخلف أحد عنه إلا بإذنه.(11/44)
ج 11 ، ص : 45
الإيضاح
(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) أي لا ينبغى لأهل المدينة حاضرة الإسلام ومقر الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ولا من حولهم من الأعراب كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم - أن يتخلفوا عن رسول اللّه ، فى غزو فى سبيل اللّه كما فعل بعضهم فى غزوة تبوك ، ولا فى غيره من شئون الأمة ومصالح الملة ، ولا أن يفضّلوا أنفسهم على نفسه فيرغبوا فى الراحة والسلامة ولا يبذلوها فيما يبذل فيها نفسه الشريفة ، بل عليهم أن يصحبوه فى البأساء والضراء وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط ، علما بأنها أعز نفس على اللّه وأكرمها ، فإذا تعرضت مع كرامتها للخوض فى شدة وهول وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له ، ولا يكترث لها أصحابها فضلا عن أن يربأوا بأنفسهم عن متابعتها ، ويضنّوا بها على ما سمح بنفسه عليه.
والخلاصة - إن المتخلّف يفضل نفسه ويؤثرها على نفس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم التي لا يكمل إيمان أحد حتى يحبه أكثر من حبه لنفسه.
وفى ذلك نهى شديد عن عملهم ، وتوبيخ لهم عليه ، وتهيج لمتابعته صلى اللّه عليه وسلم بأنفة وحمّية.
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) أي لم يكن لهم حق التخلف ، بل يجب عليهم الاتباع بسبب أن كل ما يصيبهم فى جهادهم من أذى وإن كان قليلا كظمأ لقلة الماء ، أو نصب لبعد الشّقة ، أو لقلة الظهر ، أو مجاعة لقلة الزاد ، ومن إيذاء للعدو وإن صغر كوطء أرضه الذي يعده استهانة بقوته فيغيظه أن تمسّه أقدام المؤمنين أو حوافر خيولهم ، أو النيل منه بجرح أو قتل أو أسر أو هزيمة أو غنيمة - إلا كتب لهم بكل واحد مما ذكر عمل صالح يجزى عليه بالثواب العظيم ، وما أكثر هذه الأعمال الصالحات التي تشمل كل حركة من بطشة يد أو وطأة قدم أو عروض جوع أو عطش أو نحو ذلك.(11/45)
ج 11 ، ص : 46
وفى الآية إيماء إلى أن من قصد خيرا كان سعيه فيه من قيام أو قعود أو مشى أو كلام أو نحو ذلك مشكورا مثابا عليه ، وإلى أن المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك الجيش فى الغنيمة لأن وطء ديارهم مما يغيظهم ، ولقد أسهم النبي صلى اللّه عليه وسلم لا بنى عامر وقد قدما بعد تقضّى الحرب.
ثم علل هذا الأجر العظيم بقوله :
(إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي إن اللّه لا يدع محسنا أحسن فى عمله فأطاعه فيما أمره وانتهى عما نهاه عنه - أن يجازيه على إحسانه ويثيبه على صالح عمله ، ومن ثم كتب لمن أطاعه من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب الثواب على كل ما فعلوا فلم يضع لهم أجرا على عمل عملوه.
(وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) أي كذلك شأنهم فيما ينفقون فى سبيل اللّه صغر أو كبر ، قلّ أو كثر ، وفى كل واد يقطعونه فى سيرهم غادين أو رائحين - إلا كتب لهم أجرهم على ذلك جزاء لهم على عملهم ولا يترك شىء منه أو ينسى.
(لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ليجزيهم بكتابته فى صحف أعمالهم كأحسن ما يجزيهم على خير أعمالهم التي كانوا يعملونها ، وهم مقيمون فى منازلهم.
وخلاصة ذلك - إنه تعالى يجزيهم بكل عمل مما ذكر جزاء أحسن من جزائهم على أعمالهم الجليلة فى غير الجهاد بالمال والنفس ، بأن تكون النفقة الصغيرة فيه كالنفقة الكبيرة فى غيره من أنواع المبرات ، والمشقة القليلة فيه كالمشقة الكبيرة فما عداه من الأعمال الصالحات.(11/46)
ج 11 ، ص : 47
[سورة التوبة (9) : آية 122]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
تفسير المفردات
نفر : خرج للقتال ، ولو لا : كلمة تفيد الحضّ والحث على ما يدخل عليها إذا كان مستقبلا ، واللوم على تركه إذا كان ماضيا ، فإن كان مما يمكن تلافيه فربما أفاد الأمر به ، والفرقة : الجماعة الكثيرة ، والطائفة : الجماعة القليلة ، وتفقه : تكلف الفقاهة والفهم وتجشم مشاق تحصيلها ، وأنذره : خوّفه ، وحذره : تحرز منه.
المعنى الجملي
هذه الآية جاءت متممة لأحكام الجهاد مع بيان حكم العلم والتفقه فى الدين من قبل أنه وسيلة للجهاد بالحجة والبرهان ، وهو الركن الركين فى الدعوة إلى الإيمان وإقامة دعائم الإسلام ، ولم يشرع جهاد السيف إلا ليكون حماية وسياجا لتلك الدعوة من أن تلعب بها أيدى المعتدين من الكافرين والمنافقين.
روى الكلبي عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أنه قال : لما شدّد اللّه على المتخلفين قالوا لا يتخلف منا أحد عن جيش أو سرية أبدا ففعلوا ذلك وبقي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحده فنزل (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ) الآية.
الإيضاح
(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) أي وما كان شأن المؤمنين ولا مما يطلب منهم أن ينفروا جميعا فى كل سرية تخرج للجهاد ، فإنه فرض كفاية متى قام به بعض سقا(11/47)
ج 11 ، ص : 48
عن الباقين ، لا فرض عين على كل شخص ، وإنما يجب ذلك إذا خرج الرسول واستنفرهم للجهاد.
(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) أي فهلا نفر للقتال من كل فرقة كبيرة منهم ، كأهل بلد أو قبيلة طائفة وجماعة ليتسنى لهم : أي للمؤمنين فى جملتهم التفقه فى الدين ، بأن يتكلف الباقون فى المدينة الفقاهة فى الدين بما يتجدد نزوله على الرسول صلى اللّه عليه وسلم من الآيات وما يكون منه صلى اللّه عليه وسلم من بيانها بالقول والعمل ، فيعرف الحكم مع حكمته ، ويوضح المجمل بالعمل به ، ولينذروا قومهم الذين نفروا للقاء العدو إذا رجعوا إليهم : أي ليجعلوا أهمّ قصد لهم من الفقاهة إرشاد هؤلاء وتعليمهم ، وإنذارهم عاقبة الجهل وترك العمل بما علموا ، رجاء أن يخافوا اللّه ويحذروا عاقبة عصيانه ، وأن يكون جميع المؤمنين علماء بدينهم قادرين على نشر دعوته والحجاج عنه وبيان أسراره للناس ، لا أن يوجهوا أنظارهم إلى الرياسات والمناصب العالية والترفع عن سواد الناس وكسب المال والتشبه بالظلمة والجبارين فى ملابسهم ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضا.
وفى الآية إشارة إلى وجوب التفقه فى الدين والاستعداد لتعليمه فى مواطن الإقامة وتفقيه الناس فيه بالمقدار الذي تصلح به حالهم فلا يجهلون الأحكام الدينية العامة التي يجب على كل مؤمن أن يتعرفها ، والناصبون أنفسهم لهذا التفقه على هذا القصد لهم عند اللّه من سامى المراتب ما لا يقل فى الدرجة عن المجاهد بالمال والنفس فى سبيل إعلاء كلمة اللّه والذود عن الدين والملة ، بل هم أفضل منهم فى غير الحال التي يكون فيها الدفاع واجبا عينيا على كل شخص.
[سورة التوبة (9) : آية 123]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)(11/48)
ج 11 ، ص : 49
المعنى الجملي
لما أمر سبحانه فيما سبق بقتال المشركين كافة - أرشدهم فى هذه الآية إلى طريق السداد فى هذا الباب ، وهو أن يبدءوا بقتال من يليهم ثم ينتقلوا إلى الأبعد فالأبعد وهكذا ، وقد فعل النبي صلى اللّه عليه وسلم وصحابته كذلك ، فقد حارب قومه ثم انتقل إلى غزو سائر العرب ثم إلى غزو الشام ، ولما فرغ صحابته من الشام دخلوا العراق وكذلك فى أمر الدعوة فقد قال تعالى : « وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » ثم أمر بالدعوة العامة وقتال من يقف فى طريقها من المشركين فقال : « قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ » .
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أي قاتلوا الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام ، ذاك أن القتال إنما شرع لتأمين الدعوة إلى الدين والدفاع عن أهله ، وقد كانت الدعوة موجهة إلى الأقرب فالأقرب من الكفار كما قال تعالى لرسوله :
« لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها » .
وهذا الترتيب أولى لوجوه كثيرة : منها قلة النفقات ، والحاجة فيه إلى الدواب والآلات ، وسهولة معرفة حال الأقرب من الأسلحة والعسكر ، ولأن ترك الأقرب والاشتغال بالأبعد لا يؤمن معه من هجوم العدو على الذراري والضعفاء ، ومن ثم كان هذا هو الطريق المتبع فى الدعوة والنفقات والصدقات وما يدار فى المجالس من شراب ونحوه ، فكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يعطى من على يمينه وإن لم يكن أفضل الجالسين ثم الذي يليه ثم الذي يليه ، وقال للأعرابى الذي كان يمديده إلى الجوانب البعيدة من المائدة « كل مما يليك » .
(وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) الغلظة - مثلثة - : الشدة والخشونة ، أي وليجدوا فيكم(11/49)
ج 11 ، ص : 50
جرأة وصبروا على القتال وعنفا فى القتل والأسر ونحو ذلك كما قال : « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ » .
والغلظة فى زمن الحرب مما تقتضيه الطبيعة والمصلحة ، لما فيها من شدة الزجر والمنع عن القبيح.
وفى الآية إيماء إلى أنه قد يحتاج حينا إلى الرفق واللين ، وأخرى إلى العنف والشدة ، لا أن يقتصر على الغلظة فحسب فإن ذلك مما ينفّر ويوجب تفرق الناس عنهم ، وإنما أمروا بذلك فى القتال وما يتصل بالدعوة إلى الإسلام ، للإرشاد إلى أنه يجب أن تكون حالهم فى الأمور العامة مبنية على الرفق والعدل والتؤدة فى المعاملة ومن ثم صار ذلك من أخصّ صفات المسلمين.
(وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي واعلموا أن اللّه معكم بالمعونة والنصر إذا اتقيتموه وراعيتم أحكامه وسننه ، وابتعدتم عن التقصير فى أسباب النصر والغلب من إعداد العدة المناسبة للزمان والمكان التي عناها اللّه بقوله « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ » ومن الثبات والصبر ، والطاعة وحسن النظام ، وترك التنازع والاختلاف ، وكثرة ذكر اللّه والتوكل عليه فيما وراء الأسباب والسنن المعروفة
[سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 127]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)(11/50)
ج 11 ، ص : 51
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ضروبا من مخازى المنافقين كتخلفهم عن غزوة تبوك وتعلقهم لذلك بالأيمان الفاجرة - ذكر هنا ضروبا أخرى من تلك المثالب كتهكمهم بالقرآن وتسللهم لو إذا حين سماعه ، وهذا آخر ما نزل مما يبين تأثير القرآن فيهم وفى المؤمنين.
الإيضاح
(وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) أي وإذا أنزل اللّه تعالى على رسوله صلى اللّه عليه وسلم سورة من سور كتابه الكريم ، فمن المنافقين من يقول لإخوانه على سبيل الاستهزاء هذه المقالة ليثبتوا على النفاق ، أو يقول لمن يلقاه من المؤمنين مشكّكا لهم : (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) السورة (إِيماناً) أي يقينا بحقية القرآن والإسلام وصدق الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، أي أيكم زادته تصديقا جازما مقترنا بإذعان النفس وخضوعها ، وأشعرته بلزوم العمل بها لتيقنه بصدق الرسول الذي أنزلت عليه.
والإيمان على هذا النحو يزيد بنزول القرآن فى عهد الرسول ولا سيما من يحضر نزوله ويسمعه منه ، وكذا يزيد بسماعه من غيره فى قلب المؤمن قوة إذعان ورغبة فى العمل والقرب من اللّه.
قال تعالى مجيبا عن هذا السؤال مبينا حالهم وحال المؤمنين فقال :
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي فأما المؤمنون فيزيدهم نزول القرآن زيادة اليقين واطمئنان القلب ، ويزيدهم قوة فى العمل به والتقرب إلى ربهم ، وهم يستبشرون بنزولها لما يرجون من خير هذه الزيادة ، بتزكية أنفسهم وسعادتهم فى الدنيا والآخرة.
(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) أي وأما الذين فى قلوبهم شك وارتياب دعاهم إلى النفاق بإسرار الكفر وإظهار(11/51)
ج 11 ، ص : 52
الإسلام ، فزادتهم كفرا ونفاقا مضموما إلى كفرهم ونفاقهم السابق ، واستحوذ ذلك عليهم واستحكم فيهم إلى أن ماتوا على الكفر والنفاق على مقتضى سننه تعالى فى تأثير الأعمال فى صفات النفس وتغيير هواجس الفكر.
ثم عجّب من حالهم وقد كان لهم زاجر فيما يرون فقال :
(أَ وَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ؟ ) أي أ يجهلون هذا ويغفلون عن حالهم فيما يعرض لهم عاما بعد عام من ضروب الابتلاء والاختبار التي تظهر استعداد النفوس للإيمان والكفر والتفرقة بين الحق والباطل ، وينظرون إلى الآيات الدالة على صدق الرسول صلى اللّه عليه وسلم فى كل ما أخبر به من نصر اللّه لمن اتبعه وخذلان أعدائه ووقوع ما أنذرهم به ، ومن إنباء اللّه بما فى قلوبهم وفضيحتهم بما يكتمون من أعمالهم.
(ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي ثم هم مع كل هذا تمر عليهم الأعوام تلو الأعوام ولا يتوبون من نفاقهم ولا يتعظون بما يحلّ بهم من العذاب ، أ فبعد هذا برهان على قلة الاستعداد للإيمان وانطفاء نور الفطرة ، وللّه در القائل :
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفمّ طعم الماء من سقم
وبعد أن بين حال تأثير إنزال السورة فى المنافقين وهم غائبون عن مجلس الرسول صلى اللّه عليه وسلم - بيّن حالهم وهم فى مجلسه صلى اللّه عليه وسلم حين نزولها واستماع تلاوته لها فقال :
(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) أي وإذا أنزلت سورة وهم فى المجلس تسارقوا النظر وتغامزوا بالعيون ، على حين تخشع أبصار المؤمنين وتنحنى رءوسهم ، وتشاوروا فى الانسلال من المجلس خفية ، لئلا يفتضحوا بما يظهر عليهم من سخرية وإنكار قائلا بعضهم لبعض :
(هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ؟ ) أي هل يراكم الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، أو المؤمنون إذا قمتم من المجلس.(11/52)
ج 11 ، ص : 53
(ثُمَّ انْصَرَفُوا) أي ثم انصرفوا جميعا عن مجلس الوحى متسللين لواذا كراهة منهم لسماعه وانتظارا لسنوح فرصة الغفلة عنهم ، فكلما لمح أحد منهم غفلة عنه انصرف.
(صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) أي صرف اللّه قلوبهم عن الإيمان الصادق والاسترشاد بآيات كتابه إلى ما فى ملكوت السموات والأرض من دلائل قدرته.
وهذه الجملة : إما إخبار بذلك ، أو دعاء عليهم به ، والمآل فى هذه واحد فى كلامه تعالى.
(بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي ذلك الصرف بسبب أنهم قوم فقدوا فهم الحقائق وما يترتب عليها من الأعمال ، فلا يفقهون ما يسمعون من الآيات لعدم تدبرها والتأمل فى معانيها مع موافقتها للعقل وهدايتها إلى الحق والعدل. لأنهم وطّنوا أنفسهم على الإعراض عن كل ما جاء به من غير بحث ولا تأمل ، أحق هو أم باطل ، أخير هو أم شر ؟ وأنى لمثل هؤلاء - وتلك حالهم - أن يهتدوا بنزول الآيات والسور ؟ .
[سورة التوبة (9) : الآيات 128 الى 129]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
تفسير المفردات
من أنفسكم : أي من جنسكم ، وعزيز : أي شاقّ ، والعنت : المشقة ولقاء المكروه الشديد ، والحرص : شدة الرغبة فى الحصول على مفقود ، وشدة عناية بموجود ، والرأفة : الشفقة ، والرحمة : الإحسان.(11/53)
ج 11 ، ص : 54
المعنى الجملي
لما أمر اللّه رسوله فى هذه السورة أن يبلغ الخلق تكاليف شاقة يعسر تحملها إلا على من خصّ بوجوه التوفيق والكرامة - ختمها بما يوجب تحملهم تلك ، التكاليف فبيّن أن هذا الرسول منهم ، فما يحصل له من عز وشرف فهو عائد إليهم ، إلى أنه يشقّ عليه ضررهم ، وتعظم رغبته فى إيصال خيرى الدنيا والآخرة إليهم فهو كالطبيب المشفق والأب الرحيم عليهم ، والطبيب الحاذق ربما أقدم على علاج يصعب تحمله ، والأب الرحيم ربما ركن إلى ضروب من التأديب يشق على النفس احتمالها كما قال :
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم
قال أبىّ بن كعب رضى اللّه عنه : إن هاتين الآيتين آخر ما نزل من القرآن ، لكن روى الشيخان عن البراء بن عازب أنه قال : آخر آية نزلت « يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ » وآخر سورة نزلت براءة ، وعن ابن عباس : آخر آية نزلت (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) وكان بين نزولها وموته صلى اللّه عليه وسلم ثمانون يوما.
الإيضاح
(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي لقد جاءكم أيها العرب رسول من جنسكم ، والآية بمعنى قوله « هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ » .
ذاك أن منّته على قومه أعظم ، وحجته بكتابه أنهض ، وأولى قومه به قبيلته قريش ثم عشيرته الأقربون بنو هاشم وبنو المطلب ، ولو لم يؤمن به وبكتابه العرب لما آمن العجم ، وقد وجه دعوته إلى الأقرب فالأقرب ، فآمن العرب بدعوته مباشرة ، وآمن العجم بدعوة العرب ، والعرب آمنوا بفهم القرآن وبيانه له صلى اللّه عليه وسلم بالتبليغ والعمل وبما شاهدوا من آيات اللّه فى شخصه.(11/54)
ج 11 ، ص : 55
وقد امتنّ اللّه عليه وعلى قومه بالقرآن المجيد فقال « وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ » أي وإنه لشرف لك ولهم تذكرون به فى العالم ويدوّن لكم فى بطون الكتب والدفاتر :
وإنما قاومه أكابر قومه أنفه واستكبارا عن اتباعه ، إذ هم يرونه دونهم - إلى أن فى اتباعه إقرارا بكفرهم وكفر آبائهم الذين يفاخرون بهم ، إلى أنهم لم يكونوا على ثقة من فوزه ونيلهم باتباعه مجد الدنيا وسعادة الآخرة.
(عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي شديد عليه عنتكم ولقاؤكم المكروه لأنه منكم ، فليس من الهين عليه أن تكونوا فى الدنيا أمة ذليلة يعنتها أعداؤها بالسيطرة عليها والتحكم فيها ، ولا أن تكونوا فى الآخرة من أصحاب النار التي وقودها الناس والحجارة (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي حريص على اهتدائكم وصلاح شأنكم كما قال اللّه تعالى « وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ » .
(بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي هو شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين ، فكل ما يدعو إليه من العمل بشرائع اللّه فهو دليل على ثبوت هذه الصفات له ، وكل شاق منها كالجهاد فهو منجاة مما هو أشق منه.
وعن ابن عباس رضى اللّه عنه أنه قال فى قوله (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إنه ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى اللّه عليه وسلم مضريّها وربيعيها ويمانيها - يريد أن نسبه تشعب فى جميع قبائل العرب وبطونها.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ) أي فإن تولوا وأعرضوا عن الإيمان بك والاهتداء بما جئتهم به ، فقل حسبى اللّه فإنه يعينك عليهم ويكفيك أمر توليهم وما يتبعه من عداوتهم وصدهم عن سبيله ، وقد بلّغت وما قصرت.
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود سواه ألجأ إليه بالدعاء والإعانة ، وهو الكافي والمعين.
(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي عليه وحده توكلت فلا أكل أمرى فيما أعجز عنه إلى غيره.(11/55)
ج 11 ، ص : 56
(وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) العرش مركز تدبير أمور الخلق كما قال تعالى « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ » وعظمته بعظمة الرب الذي استوى عليه ، وعظمة الملك الكبير الذي هو مركز تدبيره ، وعظمة العرش والملك فى الملأ الأعلى وفيما دونه هى مظهر عظمة اللّه سبحانه وتعالى ، ودليل على أنه وحده الإله الحق الذي لا ينبغى أن يعبد غيره ولا يتوكل على سواه ، وهو المالك للعالم كله والمدبر لهم.
روى أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن زيد بن ثابت فى جمع القرآن وكتابته فى عهد أبى بكر أنه قال : حتى وجدت من سورة التوبة آيتين عند خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى آخرها - يريد أنه لم يجدهما مكتوبتين عند ما جمع المكتوب فى الرقاع والأكتاف والعسب إلا عنده ، وقد كانتا محفوظتين معروفتين للكثير كما صرح بذلك فى الروايات الأخرى
فقد أخرج ابن أبى داود فى المصاحف عن عباد بن عبد اللّه بن الزبير قال : أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ - إلى قوله وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) إلى عمر فقال : من معك على هذا ؟ فقال : لا أدرى واللّه إلا أنى أشهد لسمعتهما من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ووعيتهما وحفظتهما ، فقال عمر : وأنا أشهد لسمعتهما من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، لو كانت ثلاث آيات لجعلتهما سورة على حدة ، فانظروا سورة من القرآن فألحقوها بها ، فألحقت فى آخر براءة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر أن رجلا من الأنصار جاء بهما عمر ، فقال عمر لا أسألك عليها بينة أبدا ، كذلك كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرؤها.
ومن هذه الروايات يعلم أن الآيتين كانتا محفوظتين مشهورتين ، إلا أنهم اختلفوا فى موضعهما ففى بعضها أنهما آخر سورة براءة بالتوقيف من النبي صلى اللّه عليه وسلم وفى بعضها أنهما وضعتا بالرأى والاجتهاد ، ولكن المعتمد هو الأول ، لأن من حفظ التوقيف حجة على من لم يحفظ.(11/56)
ج 11 ، ص : 57
قال الحافظ بن حجر فى شرح البخاري : إن زيدا لم يكن يعتمد فى جمع القرآن على علمه ولا يقتصر على حفظه ، واكتفاؤه بخزيمة وحده إنما كان لأنه لم يجدهما مكتوبتين عند غيره ، وإن كانتا محفوظتين عنده وعند غيره ، وحسبك دليلا على ذلك قوله :
إنهم كانوا يسمعون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرؤها ، فهو صريح فى أن البحث عمن كتبها فقط اه.
فجملة القول إن الآيتين كانتا محفوظتين ومكتوبتين ومعروفتين لكثير من الصحابة وإنما اختلفوا حين الجمع فى موضع كتابتهما حتى شهد من شهد أن النبي صلى اللّه عليه وسلم هو الذي وضعهما فى آخر سورة براءة ، وفاقا لقول أبىّ بن كعب وهو أحد الذين تلقّوا القرآن كله مرتبا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وكذا زيد بن ثابت وكان عدد المختلفين فى موضعهما قليلا ، فلما كتبتا فى المصاحف وافق الجميع على وضعهما هذا ، ولم يروا أىّ اعتراض على ذلك ممن كتبوا لأنفسهم مصاحف اعتمدوا فيها على حفظهم كابن مسعود رضى اللّه عنه.(11/57)
ج 11 ، ص : 58
سورة يونس
مكية إلا الآيات 40 ، 94 ، 95 ، 96 نزلت بعد سورة الإسراء وقبل سورة هود ، وعدد آيها تسع ومائة ، وموضوعها يدور على إثبات أصول التوحيد وهدم الشرك وإثبات الرسالة والبعث والجزاء وما يتعلق بذلك من مقاصد الدين وأصوله ، وهى موضوعات السور المكية.
ووجه مناسبتها لما قبلها أن السابقة ختمت بذكر رسالة النبي صلى اللّه عليه وسلم واختتمت بها هذه ، وأن جلّ تلك فى أحوال المنافقين وما كانوا يقولونه وما كانوا يفعلونه حين نزول القرآن ، وهذه فى أحوال الكفار وما كانوا يقولونه فى القرآن.
وليس التناسب بين السور سببا فى هذا الترتيب الذي بينهما ، فكثيرا ما نرى سورتين بينهما أقوى تناسب فى موضوع الآيات ، وقد فصل بينهما كما فعل بسورتى الهمزة واللهب وموضوعهما واحد ، وقد يجمع بينهما تارة أخرى كما فعل بين سور الطواسين ، وسور آل حاميم ، وسورتى المرسلات والنبأ.
ومن الحكمة فى الفصل بين القوية التناسب فى المعاني - أنه أدنى إلى تنشيط تالى القرآن وأبعد به عن الملل وأدعى له إلى التدبر ، ولهذه الحكمة عينها تفرّق مقاصد القرآن فى السورة الواحدة كالعقائد والأحكام العملية والحكم الأدبية والترغيب والترهيب والأمثال والقصص ، والعمدة فى كل ذلك التوقيف والسماع.
[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2)(11/58)
ج 11 ، ص : 59
تفسير المفردات
الكتاب : هو القرآن العظيم ، والحكيم : ذو الحكمة ، لاشتمال الكتاب عليها ، والوحى : الإعلام الخفىّ لامرىء بما يخفى على غيره ، والإنذار : الإخبار بما فيه تخويف ، والتبشير : الإعلام المقترن بالبشارة بحسن الجزاء ، والصدق : يكون فى الأقوال ويستعمل فى الأفعال ، فيقال صدق فى القتال إذا وفّاه حقه ، وكذب فيه إذا لم يفعل ذلك ، ويطلق على الإيمان والوفاء وسائر الفضائل ، وجاء فى التنزيل : مقعد صدق ، ومدخل صدق ، ومخرج صدق ، وقدم صدق ، ويراد بالقدم هنا السابقة والتقدم والمنزلة الرفيعة ، سحر : أي يؤثّر فى القلوب ويجذب النفوس فهو جار مجرى السحر ، ومبين : ظاهر.
الإيضاح
(الر) هذه الحروف تقرأ ساكنة غير معربة هكذا : ألف. لام ، راء. والأخير منها غير مهموز ، والحكمة فى مجيئها أول السورة تنبيه السامع إلى ما يتلى عليه بعدها لأجل العناية بفهمه حتى لا يفوته شىء مما يسمع ، فهى من وادي حروف التنبيه نحو (ألا) و(ها) الداخلة على اسم الإشارة.
(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي تلك آيات الكتاب المحكم الذي أحكمه اللّه وبينه لعباده كما قال جل شأنه : « الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ » ذاك أنه كتاب أحكمت معانيه ومبانيه ، وهو هاد لمتدبّره وواعيه.
(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) أي عجيب من أمرهم أن ينكروا إنزال الوحى على رجل من جنسهم ويتخذوه أعجوبة بينهم يتفكهون بها ويستغربون شأنها ، كأن مشاركتهم له فى البشرية يمنع اختصاص اللّه إياه بما شاء من العلم ، وهو بمعنى قوله تعالى حكاية عنهم « أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا » وقوله : « لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً » .(11/59)
ج 11 ، ص : 60
وهذه الشبهة التي تمسكوا بأذيالها قد سبق إليها أقوام الأنبياء قبلهم كما جاء فى قصة نوح وهود من سورة الأعراف « أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ؟ » .
وقد يكون وجه العجب كونه من أفنائهم من جهة المال كما جاء على لسانهم وحكاه اللّه عنهم « لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ » وحكى عنهم أنهم قالوا : العجب أن اللّه تعالى لم يجد رسولا إلا يتيم أبى طالب.
فإن كانوا قد عنوا الأول ، فهو عجب عاجب ، لأن بعث الملك إنما يتسنى إذا كان المبعوث إليهم ملائكة كما قال تعالى منكرا عليهم ذلك « قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا » .
وإن كانوا أرادوا الثاني فهو أغرب منه ، لأن مدار الاصطفاء للإيحاء هو التبريز فى إحراز الفضائل ونيل المكرمات ، وللنبى صلى اللّه عليه وسلم فى ذلك القدح المعلّى فقد شهر من بينهم بالأمانة والصدق وحسن السمعة وبلوغ الغاية فى الكمالات ، وللّه در القائل :
خلقت مبرّأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
وكما قال الآخر :
ولو صوّرت نفسك لم تزدها على ما فيك من كرم الطباع
وليس للتقدم فى حظوظ الدنيا ولا للسبق فى رياساتها مدخل فى ذلك لا بقبيل ولا دبير ، ولا قليل ولا كثير ، فليس الغنى سببا للقرب والزلفى عند اللّه كما قال تعالى :
« وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى » .
(أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) أي أوحينا إليه بأن أنذر الناس كافة وأعلمهم بالتوحيد والبعث وسائر مقاصد الدين مع التخويف بعاقبة ما هم فيه من كفر وضلال.(11/60)
ج 11 ، ص : 61
(وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي وبشر الذين آمنوا بما أوحيناه إليك بأن لهم أعمالا صالحة استوجبوا بها الثواب منه تعالى ، ومنزلة رفيعة نالوها بصدق القول وحسن النية.
(قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) أي فلما أتاهم بوحي اللّه وتلاه عليهم قال المنكرون لتوحيد اللّه ورسالة رسوله : إن هذا الذي جاء به محمد لسحر مبين أي ظاهر واضح يبين لكم أنه مبطل فيما يدعيه.
وجعلوه سحرا لأنه خارق للعادة فى تأثيره فى القلوب وجذبه النفوس إلى الإيمان به واحتقار الحياة ولذاتها فى سبيل اللّه.
وخلاصة ذلك - إنه كلام مزخرف حسن الظاهر لكنه واضح البطلان فى الحقيقة.
وقد كذبوا فى تسميته سحرا ، لأن السحر ما يكون بأسباب خفيّة يتعلمها بعض الناس من بعض إما بالحيل والشعوذة ، وإما باستخدام خواص طبيعية علمية مجهولة للجماهير ، وإما بتأثير قوى النفس وتوجيه الإرادة ، وجميعها من الأمور التي يشترك فيها الكثير من العارفين بها ، والقرآن ليس بسحر يؤثّر بالعلم والصناعة ، بل هو أقوال مشتملة على آداب عالية وتشريع حكيم فيه مصلحة للناس ، معجز فى أسلوبه ونظمه ومعانيه ، أتى على لسان محمد صلى اللّه عليه وسلم ليبلغه للناس ، ولم يكن ليقدر على شىء من مثله ، وبهذا ثبت أنه نبى من عند اللّه ، وأن ما جاء به وحي من لدنه.
[سورة يونس (10) : الآيات 3 الى 4]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)(11/61)
ج 11 ، ص : 62
تفسير المفردات
الخلق : لغة التقدير ، واليوم لغة الوقت الذي يحدّه حدث يحدث فيه وإن كان ألوف السنين من أيام هذه الأرض الفلكية التي وجدت بعد خلق الليل والنهار ، والعرش : مركز التدبير ولا نعلم كنهه ولا صفته ، والتدبير : النظر فى أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود ، وتدبير الأمر ، أو القول : هو التفكر فيما وراءه وما يراد منه وينتهى إليه ، والقسط : العدل ، والحميم : الماء الشديد الحرارة.
المعنى الجملي
بعد أن افتتح سبحانه السورة بذكر آيات الكتاب ، وأنكر على الناس عجبهم أنه يوحى إلى رجل منهم يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب ، وينذرهم على الكفر والمعاصي بالعقاب - قفى على ذلك بذكر أمرين :
(1) إثبات أن لهذا العالم إلها قادرا نافذ الحكم بالأمر والنهى يفعل ما يشاء وهو العليم الخبير.
(2) إثبات البعث بعد الموت والجزاء على الأعمال من ثواب وعقاب وهما اللذان أخبر بهما الأنبياء.
الإيضاح
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي إن ربكم هو اللّه الذي خلق العوالم السماوية التي فوقكم ، وهذه الأرض التي تعيشون على ظهرها فى ستة أزمنة قد تمّ فى كل زمن منها طور من(11/62)
ج 11 ، ص : 63
أطوارها وقدرها بمقادير أرادها ، ثم استوى على عرشه الذي جعله مركز هذا التدبير لهذا الملك العظيم ، استواء يليق بعظمته وجلاله ، يدبر أمر ملكه بما اقتضاه علمه من النظام واقتضته حكمته من الإحكام ، ولا يستنكر من رب هذا الخلق المدبر لأمور عباده أن يفيض ما شاء من علمه على من اصطفى من خلقه ، ما يهديهم به لما فيه كمالهم من عبادته وشكره ، وبذلك تصلح أنفسهم وتطهر قلوبهم وتستنير أفئدتهم ، لتتم لهم بذلك الحياة السعيدة فى الدنيا والنعيم المقيم فى الآخرة ، كما لا يستنكر أن هذا الوحى منه عزّ وجل إذ هو من كمال تقديره وتدبيره ولا يقدر عليه سواه.
(ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي لا يوجد شفيع يشفع لأحد عنده تعالى إلا من بعد إذنه ، والآية بمعنى قوله سبحانه « مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ » وقد جاء فى كتابه تعالى أنه لا يشفع أحد عنده بإذنه إلا من ارتضاه للشفاعة كما قال : « يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا » ومن أذن له بالشفاعة لا يشفع إلا لمن رضى له الرحمن لإيمانه وصالح عمله كما قال : « وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى » .
وفى هذا إيماء لدحض العقيدة التي كان يعتقدها مشركو العرب ومقلدوهم من أهل الكتاب من أن الأصنام والأوثان وعبادة المقربين من الملائكة والبشر يشفعون لهم عند اللّه بما يدفع عنهم الضرر ويجلب لهم النفع كما حكى اللّه عن عبدة الأصنام قولهم « ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى » .
وفى هذه العقيدة حجة عليهم إذ يقال لهم - إنكم إذا كنتم تؤمنون بأن للّه شفعاء من أوليائه وعباده المقربين يشفعون لكم بما يقربكم إليه زلفى. وهو قول عليه تعالى بغير علم - فما بالكم تنكرون وتعجبون أن يوحى إلى من يشاء ويصطفى من عباده من يعلّمهم ما يهديهم إلى العمل الموصل إلى السعادة والهادي إلى طريق الرشاد.
(ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) أي ذلكم الموصوف بالخلق والتقدير والحكمة والتدبير والتصرف فى أمر الشفاعة يأذن بها لمن يشاء - هو اللّه ربكم المتولى شؤونكم فاعبدوه(11/63)
ج 11 ، ص : 64
وحده ولا تشركوا به شيئا ولا تشركوا معه أحدا لا فى شفاعة ولا غيرها ، فالشفعاء لا يملكون لكم من دونه نفعا ولا ضرا ، بل هو الذي يملك ذلك وحده وهو قد هداكم إلى أسباب النفع والضر الكسبية بالعقول والمشاعر التي سخرها لكم ، وإلى أسباب النفع والضر الغيبية بوحيه ، فلا تطلبوا نفعا ولا ضرا إلا بالأسباب التي سخرها لكم ، وما تعجزون عنه أو تجهلون أسبابه ، فادعوه فيه تعالى وحده يحصل لكم ما فيه ترغبون ، أو يدفع عنكم ما تكرهون.
(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أ تجهلون هذا الحق الواضح فلا تتذكرون أن الذي خلق السموات والأرض ، وانفرد بتدبير هذا العالم هو الذي يجب أن يعبد ولا يعبد سواه ، وذلك هو مقتضى الفطرة ، والإعراض عنه غفلة يجب التنبيه إليها.
وفى ذلك إيماء إلى أنه لا ينبغى أن نوجه وجوهنا شطر قبور الأولياء والصالحين ونشد الرحال إلى من بعد منهم ونتقرب إليهم بالنذور ونطوف بهم كما يطوف الحاج بيت اللّه الحرام ، داعين متضرعين خاشعين نطلب منهم ما عجزنا عنه بكسبنا من دفع ضر أو جلب نفع ، وكيف نتذكر هذه الآيات وأمثالها التي تجعل العبادة خاصة به تعالى وما الدعاء إلا مخ العبادة وروحها وأجلى مظاهرها كما جاء فى الأثر « الدعاء مخ العبادة » .
ولكن أكثر العلماء وجمهرة الناس يتأولون هذه العبادة ويسمونها توسلا واستشفاعا ، والأسماء لا تغير من قيمة الحقائق شيئا ، فذلك بعينه هو ما كان يدّعيه المشركون وأهل الكتاب « ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى » .
(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) أي إلى ربكم وحده دون غيره من معبوداتكم وشفعائكم وأوليائكم ترجعون جميعا بعد الموت وفناء هذا العالم الذي أنتم فيه لا يتخلف منكم أحد.
(وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا) أي وعد اللّه ذلك وعدا حقا لا خلف فيه.
(إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي إن شأنه تعالى أن يبدأ الخلق وينشئه حين التكوين ، ثم يعيده فى نشأة أخرى بعد انحلاله وفنائه.(11/64)
ج 11 ، ص : 65
وقد اتفق العلماء جميعا ما ديّهم وروحيهم على أن الأرض وجميع الأجرام السماوية قد وجدت بعد أن لم تكن وإن كانوا لا يزالون يبحثون عن كيفية تلك النشأة والقوة المتصرفة فى أصل مادتها.
وهم جميعا متفقون على توقع خراب هذه الأرض والكواكب المرتبطة بها فى هذا النظام الشمسى الجامع لها بأن تصيب الأرض قارعة من الأجرام السماوية تبسّها بسّا فتكون هباء منبثا.
وها هو ذا قد حصل البدء بالفعل والإعادة أهون من البدء ، فمن قدر على البدء يكون أقدر على الإعادة كما قال فى سورة الروم : « وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ » .
ومما يقرّب ذلك أن علماء الطبيعة أثبتوا أن هذه الأجساد الحية فى انحلال وتجدد دائمين فما ينحل منها ويبخر فى الهواء أو يموت فى داخل الجسم ثم يخرج منه تحلّ محله موادّ حية جديدة حتى يفنى جسد كل حيوان فى سنين قليلة ويتجدد غيره.
(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) أي إنه تعالى يعيدهم لأجل جزائهم بالعدل ، فيعطى كل عامل حقه من الثواب الذي جعله لعمله ، وهذا المعنى قد جاء فى آيات كثيرة كقوله : « وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً » وقوله : « وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ » .
والعدل فى الأمور كلها مما يتطلبه الإيمان كما قال : « لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ » وقال : « قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ » .
والجزاء بالعدل لا يمنع أن يزيدهم ربهم شيئا من فضله ويضاعف لهم كما وعد على ذلك فى آيات أخرى ، منها قوله : « لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ » وقوله : « لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ » .
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي إن(11/65)
ج 11 ، ص : 66
الكافرين لهم من الجزاء شراب من حميم يقطع أمعاءهم وعذاب شديد الألم بسبب ما كانوا يعملون من أعمال الكفر المستمرّة إلى الموت كدعاء غير اللّه من الأوثان والأصنام ، وسائر المعاصي التي يزينها لهم الشيطان ويصدهم بها عن الإيمان.
وتعليل الرجوع إليه تعالى بأنه لجزاء المؤمنين الصالحين ، بيان منه بأنه المقصود بالذات ، إذ هو الذي يكون به منتهى كمال الارتقاء البشرى للذين زكّوا أنفسهم وطهروا قلوبهم وأخبتوا إلى ربهم فيلقى من عمل الصالحات من النعيم المادي ما هو خال من الشوائب التي تخالطه فى نعيم الدنيا ، ومن النعيم الروحي (وهو رضوان اللّه الأكبر) مما لا يعلم كنهه فى هذه الحياة أحد كما قال « فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ »
وجاء فى الحديث القدسي « أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر » رواه البخاري.
وأما جزاء الكافرين الظالمين لأنفسهم وللناس على تدسيتهم لأنفسهم بالكفر والخطايا ، فليس من المقاصد التي اقتضتها الحكمة الإلهية فى خلق الإنسان ، ولكنها مقتضى العدل ومقتضى مشيئته تعالى فى ارتباط الأسباب بالمسببات والعلل بالمعلولات.
[سورة يونس (10) : الآيات 5 الى 6]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
تفسير المفردات
الضوء والنور : بمعنى واحد لغة ، والضوء أقوى من النور استعمالا بدليل هذه الآية ، وقيل الضوء لما كان من ذاته كالشمس والنار ، والنور لما كان مكتسبا من(11/66)
ج 11 ، ص : 67
غيره ، ويدل على ذلك قوله : « وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً » والسراج : نوره من ذاته ، والضياء والضوء ما أضاء لك ، وشعاع الشمس مركب من ألوان النور السبعة التي ترى فى قوس السحاب فهو سبعة أضواء ، وقد كشف ترقى العلوم الفلكية عن ذلك ، وكان الناس يجهلونه عصر التنزيل ، والتقدير : جعل الشيء أو الأشياء على مقادير مخصوصة فى الذات أو الصفات أو الزمان أو المكان كما قال :
« وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً » وقال : « وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ » والمنازل : واحدها منزل ، وهو مكان النزول ، وهى ثمانية وعشرون منزلا معروفة لدى العرب بأسمائها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه الآيات الدالة على وجوده ، وهو خلق السموات والأرض على ذلك النظام المحكم - ذكر هنا أنواعا من آياته الكونية الدالة على ذلك وعلى أنه خلقها على غاية من الإحكام والإتقان ، وهو تفصيل لما تقدم وبيان له على وجه بديع وأسلوب عجيب.
الإيضاح
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) أي إن ربكم الذي خلق السموات والأرض - هو الذي جعل الشمس مضيئة نهارا والقمر منيرا ليلا ، ودبّر أمور معاشكم هذا التدبير البديع ، فأجدر به وأولى أن يدبّر أمور معادكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
(وقدره منازل) أي وقدر سير القمر فى فلكه منازل ينزل كل ليلة فى واحد منها لا يجاوزها ولا يقصر دونها وهى ثمانية وعشرون يرى القمر فيها بالأبصار ، وليلة أو ليلتان يحتجب فيهما فلا يرى.
(لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي لتعلموا بما ذكر من صفة النيرين وتقدير(11/67)
ج 11 ، ص : 68
المنازل حساب الأوقات من الأشهر والأيام لضبط عباداتكم ومعاملاتكم المالية والمدنية ، ولو لا هذا النظام المشاهد لتعذر العلم بذلك على الأميين من أهل البدو والحضر إذ حساب السنين والشهور الشمسية لا يعلم إلا بالدراسة ، ومن ثم جعل الشارع الحكيم الصوم والحج وعدة الطلاق بالحساب القمري الذي يعرفه كل أحد بالمشاهدة ، ولعبادتى الصيام والحج حكمة أخرى وهى دورانهما فى جميع فصول السنة ، فيعبد المسلمون ربهم فى جميع الأوقات من حارة وباردة ومعتدلة.
وقد حث الشارع على الانتفاع بالحساب الشمسى بنحو قوله : « الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ » وقوله : « وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ » .
(ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ما خلق اللّه الشمس ذات ضياء تفيض أشعتها على كواكبها التابعة لها فتنبعث الحرارة فى جميع الأحياء ، وبها يبصر الناس جميع المبصرات ويقومون بأمور معايشهم وسائر شئونهم ، وما خلق القمر ذا نور مستمد من الشمس تنتفع به السيارة فى سيرهم ، وقدره منازل يعرف بها الناس السنين والشهور ، ما خلق ذلك إلا مقترنا بالحق الذي تقتضيه الحكمة والمنفعة لحياة الخلق ونظام معايشهم فلا عبث فيه ولا خلل ، فكيف يعقل بعد هذا أن يخلق هذا الإنسان ويعلمه البيان ويعطيه من كمال الاستعداد ما لم يعط غيره ، ثم يتركه بعد ذلك سدى يموت ويفنى ولا يعود ويبعث ، لتجزى كل نفس بما كسبت فيجزى المتقون بصالح أعمالهم ، والمشركون والظالمون المجرمون بكفرهم وجرائمهم كما قال تعالى : « أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ؟ » .
(يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي يبين الدلائل من حكم الخلق على رسوله مفصلة منوعة من كونية وعقلية لقوم يعلمون دلالة الأدلة ويميزون بين الحق والباطل باستعمال عقولهم فى فهم هذه الآيات فيجزمون بأن من خلق النيّرين على هذا النظام البديع لا يمكن أن يخلق الإنسان سدى.(11/68)
ج 11 ، ص : 69
(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي فى حدوثهما وتعاقبهما بمجىء كل منهما خلقة للآخر وفى طولهما وقصرهما بحسب اختلاف مواقع الأرض من الشمس ، وما لهما من نظام دقيق بحسب حركة الشمس اليومية والسنوية ، وفى طبيعة كل منهما وما يصلح فيه من نوم وسكون وعمل دنيوى ودينى (وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من أحوال الجماد والنبات والحيوان ، ويدخل فى ذلك أحوال الرعود والبروق والسحاب والأمطار ، وأحوال البحار من مدّ وجزر ، وأحوال المعادن العجيبة فى تركيبها وأوضاعها المختلفة إلى نحو ذلك مما ذكر فى علم المواليد الثلاثة.
(لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) أي لدلائل عظيمة على وجود الصانع ووحدانيته وحكمته فى الإبداع والإتقان وفى تشريع العقائد والأحكام - لقوم يتقون مخالفة سننه تعالى فى التكوين وسننه فى التشريع ، فلله سنن فى حفظ الصحة من خالفها مرض ، وله سنن فى تزكية الأنفس من خالفها وأفسدها بارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن جوزى على ذلك فى الآخرة أشد الجزاء.
[سورة يونس (10) : الآيات 7 الى 10]
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10)
تفسير المفردات
قال فى المصباح : رجوته : أمّلته أو أردته قال تعالى « لا يَرْجُونَ نِكاحاً » أي لا يريدونه ، ويستعمل بمعنى الخوف لأن الراجي يخاف ألا يدرك ما يرجوه ، وقيل(11/69)
ج 11 ، ص : 70
الرجاء مجرد التوقع الذي يشمل ما يسرّ وما يسوء ، واللقاء : الاستقبال والمواجهة ، والاطمئنان : سكون النفس إلى الشيء وارتياحها به ، والمأوى : الملجأ الذي يأوى إليه المتعب أو الخائف أو المحتاج من مكان آمن أو إنسان نافع ، وقد أطلق على الجنة فى ثلاث آيات ، وعلى النار فى بضع عشرة آية ، والدعوى : الدعاء ، وهو للناس النداء والطلب المعتاد بينهم فى دائرة الأسباب المسخرة لهم ، وللّه هو دعاؤه وسؤاله والرغبة فيما عنده مع الشعور بالحاجة إليه والضراعة له فيما لا يقدر عليه أحد من خلقه من دفع ضر أو جلب نفع ، سبحانك : أي تنزيها لك وتقديسا ، والتحية : التكرمة بقولهم حياك اللّه ، أي أطال عمرك والسلام : السلامة من كل مكروه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الأدلة على وجوده تعالى من خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ، وأثبت بذلك البعث والجزاء على الأعمال يوم العرض والحساب - قفى على هذا بذكر حال من كفر به وأعرض عن البينات الدالة عليه ، وحال المؤمنين الذين عملوا الصالحات موقنين بلقاء ربهم - ثم ذكر جزاء كلّ من الفريقين.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) أي إن الذين لا يتوقعون لقاءنا فى الآخرة للحساب والجزاء على الأعمال لإنكارهم للبعث ، ورضوا بالحياة الدنيا بدلا من الآخرة فقصروا كل همهم من الحياة على الحصول على أغراضهم منها ، وسكنت نفوسهم إلى شهواتها ولذاتها.
(وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) فلا يتدبرون منها ما نزل على رسولنا وما حوته من عبر ومواعظ ومعاد وحكم ، ولا يتفكرون فى صحائف الكون وما فيها من حكمته وسننه فى الخلق ، وبهذا شاركوا الفريق الأول فى الشغل بالدنيا عن الآخرة ، ومن ثم لم يستعدوا لحسابنا وما يعقبه من نعيم مقيم ، وعذاب أليم.(11/70)
ج 11 ، ص : 71
(أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي أولئك الذين سلف ذكرهم مأواهم فى الآخرة النار جزاء ما اجترحوا من السيئات طوال حياتهم ، فهم قد دنسوا أنفسهم بشرور الوثنية وظلمات الشهوات الحيوانية فلم يعد لنور الحق والخير مكان فيها ، ومن ثم لا يجدون ملجأ بعد هول الحساب إلا جهنم دار العذاب.
وبعد أن أبان جزاء الفريق الأول كان من الواضح أن تستشرف نفس القارئ والسامع إلى جزاء الفريق الثاني فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) أي إن الذين آمنوا بما يجب الإيمان به ولم يغفلوا عن الآيات التي غفل عنها الغافلون ورجوا لقاء ربهم وخافوا حسابه وعقابه ، يهديهم ربهم بسبب إيمانهم صراطه المستقيم فى كل ما يعملون وينتهى ذلك بهم إلى دخول الجنة التي أعدها لعباده المخبتين.
وفى هذا إيماء إلى أن الإيمان والعمل الصالح هما سبب الهداية والفوز برفيع الدرجات والوصول إلى أقصى الغايات.
(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي تجرى من تحت غرفهم فى الجنات ومن تحت الأشجار.
(دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي إنهم يبدءون كل دعاء وثناء عليه تعالى يناجونه به بهذه الكلمة (سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ) أي تنزيها وتقديسا لك يا اللّه ، وأن تحيتهم فيها كلمة (سَلامٌ) الدالة على السلامة من كل مكروه ، وهى تحية المؤمنين فى الدنيا.
وهذه التحية تكون منه عز وجل حين لقائه كما قال فى سورة الأحزاب : « تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ » ومن الملائكة لهم عند دخول الجنة كما قال : « وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ » وتكون منهم بعضهم لبعض كما قال :
« لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً » .(11/71)
ج 11 ، ص : 72
وإن آخر كل حال من أحوالهم من دعاء يناجون به ربهم ، ومطلب يطلبونه من إحسانه وكرمه (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) كما أنه أول ثناء عليه حين دخولها كما قال « وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ » كما أنه آخر كلام الملائكة كما قال : « وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ ، وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » .
فعلى كل مؤمن أن يستعدّ لها بتزكية نفسه وترقية روحه ، ويعلم أنه لن يكون أهلا لها إلا بالعمل ومجاهدة النفس والهوى ، لا بالتوسلات للأولياء والتمني لشفاعتهم كما قال تعالى : « لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً » .
وروى عن أبىّ بن كعب مرفوعا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم « إن أهل الجنة إذا قالوا - سبحانك اللهم ، أتاهم ما يشتهون »
وكذلك روى مثله عن بعض التابعين - فالكلمة إذا علامة بين أهل الجنة وخدمهم على إحضار الطعام وغيره فإذا أكلوا حمدوا اللّه تعالى.
[سورة يونس (10) : الآيات 11 الى 12]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12)(11/72)
ج 11 ، ص : 73
تفسير المفردات
تعجيل الشيء.
تقديمه على أوانه المقدر له أو الموعود به ، والاستعجال به : طلب التعجيل له ، والعجلة من غرائز الإنسان كما قال تعالى « خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ » فاستعجاله بالخير لشدة حرصه على منافعه وقلة صبره عنها ، واستعجاله بالضر لا يكون من دأبه بل بسبب عارض كالغضب والجهل والعناد والاستهزاء والتعجيز ، أو للنجاة مما هو شر منه ، وقضاء الأجل : انتهاؤه ، ونذر : نترك ، والطغيان : مجاوزة الحد فى الشر من كفر وظلم وعدوان ، والعمه : التردد والتحير فى الأمر أو فى الشر ، ومرّ : أي مضى فى طريقته التي كان عليها من الكفر بربه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر تعجب القوم من تخصيص محمد بالنبوة ، وأزال هذا التعجب بقوله « أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ » ثم ذكر دلائل التوحيد والبعث والجزاء - ذكر هنا جوابا عن شبهة كانوا يقولونها أبدا وهى : اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فى ادعاء الرسالة فأمطر علينا حجارة من السماء.
وخلاصة الجواب أنه لا مصلحة لهم فى إيصال الشر إليهم إذ لو أوصله إليهم لماتوا وهلكوا ، ولا صلاح فى إماتتهم ، فربما آمنوا بعد ذلك أو خرج من صلبهم من يكون مؤمنا.
الإيضاح
(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي ولو يعجل اللّه للناس إجابة دعائهم فى الشر وفيما عليهم فيه مضرة فى نفس أو مال كاستعجال مشركى مكة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالعذاب الذي أنذرهم نزوله بهم كما حكى اللّه عنهم من نحو قوله « وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ(11/73)
ج 11 ، ص : 74
الْمَثُلاتُ »
وقوله « وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ، وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً » وقوله « وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ » .
كاستعجالهم بالخير الذي يطلبونه بدعاء اللّه أو بعلاج الأسباب التي يظنون أنها قد تأتى به قبل أوانه ، لقضى أجلهم قبل وقته الطبيعي كما هلك الذين كذبوا الرسل واستعجلوهم بالعذاب من قبلهم.
ولكن اللّه أرحم بهم من أنفسهم ، وقد بعث محمدا صلى اللّه عليه وسلم بالهداية الدائمة ، وقضى بأن يؤمن به قومه العرب ويحملوا دينهم إلى العجم ، وأنه يعاقب المعاندين من قومه فى الدنيا بما فيه تأديب لهم كما بين ذلك بقوله « قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ » ويؤخر عذاب سائر الكافرين إلى يوم القيامة ، ولم يقض بإهلاكهم واستئصالهم ، بل يذرهم إلى نهاية آجالهم كما قال :
(فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي فنترك الذين لا يرجون لقاءنا ممن تقدم ذكرهم فيما هم فيه من طغيان فى الكفر والتكذيب ، يترددون فيه متحيرين لا يهتدون سبيلا للخروج منه ، ولا نعجل لهم العذاب فى الدنيا بالاستئصال حتى يأتى أمر اللّه فى جماعتهم بنصر رسوله صلى اللّه عليه وسلم عليهم ، وفى أفرادهم بقتل بعضهم وموت بعض ، ومأواهم النار وبئس القرار ، إلا من تاب وآمن منهم.
وقد يكون المراد : ولو يعجل اللّه للناس الشر الذي يستعجلونه بما يقترفونه من ظلم وفساد فى الأرض لأهلكهم كما جاء فى قوله « وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ » ومن هذا دعاؤهم على أنفسهم حين اليأس ، ودعاء بعضهم على بعض حين الغضب كما قال « وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ » أي وما دعاء الكافرين بربهم أو بنعمه فيما يخالف شرعه وسننه فى خلقه إلا فى ضياع لا يستجيبه اللّه لهم لحلمه عليهم ورحمته بهم.(11/74)
ج 11 ، ص : 75
(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) أي إن الإنسان إذا أصابه من الضر ما يشعر فيه بشدة ألم أو خطر على نفسه كغرق ومسغبة وداء عضال دعانا ملحّا فى كشفه عند اضطجاعه لجنبه أو قعوده فى كسر بيته أو قيامه على قدميه حائرا فى أمره ، ولا ينسى حاجته إلى رحمة ربه مادام يشعر بمسّ الضر ويعلم من نفسه العجز عن النجاة منه ، وقدم من هذه الحالات الثلاث ما يكون الإنسان أشد عجزا وشعوره بالحاجة إلى ربه أقوى ثم التي تليها ثم التي تليها.
(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) أي فلما كشفنا عنه ضره الذي دعانا إليه حال شعوره بعجزه عن كشفه بنفسه أو بغيره من الأسباب - مرّ ومضى فى طريقه التي كان عليها من الغفلة عن ربه والكفر به كأن الحال لم تتغير ولم يدعنا إلى شىء ولم نكشف عنه ضرا.
(كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي مثل هذا الطريق من معرفة اللّه والإخلاص فى دعائه وحده فى الشدة ، ونسيانه والكفر به بعد كشفها ، زين للمشركين من طغاة مكة وغيرهم ما كانوا يعملون من أعمال الشرك ، حتى بلغ من عنادهم للرسول صلى اللّه عليه وسلم واستهزائهم بما أنذرهم من عذاب أن استعجلوه به فقالوا اللهم ربنا أمطر علينا حجارة من السماء.
[سورة يونس (10) : الآيات 13 الى 14]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
تفسير المفردات
القرون : الأمم ، واحدها قرن ، وهم القوم المقترنون فى زمن واحد ،
وجاء فى الحديث الشريف « خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم »
والخلائف : واحدها خليفة ، وهو من يخلف غيره فى شىء ، وننظر : نشاهد ونرى.(11/75)
ج 11 ، ص : 76
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه فى الآيات السالفة أنهم كانوا يتعجلون العذاب ، وذكر أنه لا صلاح لهم فى إجابة دعائهم ، ثم ذكر أنهم كاذبون فى هذا الطلب إذ لو نزل بهم الضر جأروا وتضرعوا إلى اللّه فى كشفه وإزالته.
بين هنا ما يجرى مجرى التهديد ، وهو أنه تعالى قد ينزل بهم عذاب الاستئصال كما حدث للأمم قبلهم حتى يكون ذلك رادعا لهم وزاجرا عن هذا الطلب.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) الخطاب إلى قوم النبي صلى اللّه عليه وسلم وأهل وطنه مكة ، أي ولقد أهلكنا كثيرا من الأمم قبلكم بسبب ظلمهم.
والآية بمعنى قوله « وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً » وهلاك اللّه للأمم بالظلم ضربان :
(1) ضرب بعذاب الاستئصال للأقوام الذين بعث اللّه تعالى فيهم رسلا لهدايتهم بالإيمان والعمل الصالح كقوم نوح وعاد وثمود ، فعاندوا الرسل فأنذروهم عاقبة الجحود والعناد بعد مجيئهم بالآيات الدالة على صدقهم.
(2) ضرب بعذاب هو مقتضى سنته تعالى فى نظم الاجتماع البشرى ، فالظلم مثلا سبب لفساد العمران وضعف الأمم ، ولاستيلاء القوية على الضعيفة كما قال « وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ » - وهو إما ظلم الأفراد لأنفسهم بالفسوق والإسراف فى الشهوات المضعفة للأبدان المفسدة للأخلاق ، وإما ظلم الحكام الذي يفسد بأس الأمة ويهن من قوتها.
(وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي أهلكناهم لما ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالبينات الدالة على صدقهم.(11/76)
ج 11 ، ص : 77
(وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي وما كان من شأنهم ولا من مقتضى استعدادهم أن يؤمنوا لأنهم قد مرنوا على الكفر وصار ديدنهم حب الشهوات واللذات من الجاه والرياسة والظلم والفسق والفجور.
(كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي ومثل هذا العذاب الشديد وهو الاستئصال نجزيه لكل قوم مجرمين.
وفى هذا وعيد شديد لأهل مكة على تكذيبهم الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه.
(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي ثم جعلناكم خلائف فى الأرض من بعد أولئك الأقوام بما آتيناكم فى هذا الدين من أسباب الملك والحكم ، إذ فى شريعتكم ما به سعادة الأمة فى دينها ودنياها.
وفى الآية بشارة لهذه الأمة بأنها ستخلفهم فى الأرض إذا آمنت به واتبعت النور الذي أنزل معه كما قال « وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ » ولقد صدق اللّه وعده فملكهم ملك الأكاسرة والقياصرة والفراعنة وكثير من الأمم غيرها.
(لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أي لنرى ماذا تعملون فى خلافتكم فنجازيكم به بمقتضى سنتنا فيمن قبلكم ، كما قال « لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا » وجاء فى الأثر « إن الدنيا خضرة حلوة ، وإن اللّه مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون » وقال قتادة :
صدق اللّه ربنا ، ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا ، فأروا اللّه من أعمالكم خيرا بالليل أو النهار.
وفى ذلك إيماء إلى أن هذه الخلافة منوطة بالأعمال حتى لا يغتروا بماسينالونه ويظنوا أنه باق لهم وأنهم يتفلتون من سننه تعالى فى الظالمين.(11/77)
ج 11 ، ص : 78
[سورة يونس (10) : الآيات 15 الى 17]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
المعنى الجملي
بعد أن بدأ سبحانه السورة بذكر الكتاب الحكيم وإنكار المشركين الوحى على رجل منهم ، ثم أقام الحجة على الوحى والتوحيد والبعث بخلق العالم علويّه وسفليّه ، وبطبيعة الإنسان وتاريخه وغرائزه - أعاد هنا الكلام فى شأن الكتاب نفسه ، وتفنيد ما اقترحه المشركون على الرسول صلى اللّه عليه وسلم بشأنه ، وحجته البالغة عليهم فى كونه وحيا من عند اللّه تعالى.
الإيضاح
(وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) أي وإذا تتلى على هؤلاء المشركين آيات الكتاب الذي أنزل إليك حال كونها بارزات فى أعلى أسلوب من البيان ، دالات على الحق ، ساطعات الحجة والبرهان قالوا لمن يتلوها عليهم ، وهو الرسول صلى اللّه عليه وسلم : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، أي ائت بكتاب آخر نقرؤه ليس فيه ما لا نؤمن به من البعث والجزاء على الأعمال ، ولا ما نكرهه من ذم آلهتنا والوعيد على عبادتها ، أو بدّله بأن تجعل بدل الآية المشتملة على الوعيد آية أخرى ، ولم يكن مقصدهم من هذا إلا أن يختبروا حاله بمطالبته بالإتيان بقرآن غيره فى جملة ما بلّغهم من سوره فى أسلوبها ونظمها ، أو بالتصرف فيه بالتغيير والتبديل لما يكرهونه منه من تحقير آلهتهم وتكفير آبائهم حتى إذا(11/78)
ج 11 ، ص : 79
فعل هذا أو ذاك كانت دعواه أنه كلام اللّه أوحاه إليه دعوى لا يعوّل عليها ، وكان قصارى أمره أنه امتاز عنهم بنوع من البيان خفيت عليهم أسباب معرفته ، ولم يكن بوحي من اللّه كما يزعمه.
(قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) أي قل لهم أيها الرسول إنه ليس من شأنى ولا مما تجيزه لى رسالتى أن أبدله من تلقاء نفسى ومحض رأيى وخالص اجتهادي.
ثم أكد ما قبله فقال :
(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) أي ما أتبع فيه إلا تبليغ ما يوحى إلىّ والاهتداء بهديه ، فإن بدّل اللّه منه شيئا بنسخه بلغت عنه ما أراد ، وما علىّ إلا البلاغ.
ثم علل ما سبق بقوله :
(إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إنى أخاف إن فعلت أىّ عصيان ، عذاب يوم عظيم الشأن ، ألا وهو يوم القيامة ، فكيف بي إذا عصيته بتبديل كلامه اتباعا لأهوائكم.
ثم لقّنه اللّه الجواب عن الشق الأول وهو التغيير لأهميته بقوله :
(قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) يقال دريته ودريته به ، أي علمته ، أي قل لهم لو شاء اللّه ألا أتلو عليكم هذا القرآن ما تلوته عليكم ، فإنما أتلوه بأمره وتنفيذ مشيئته ولو شاء اللّه ألا يعلمكم به بإرسالى إليكم لما أرسلنى ولما أدراكم به ، ولكنه شاء أن يمنّ عليكم بهذا العلم النافع لتهتدوا به وتكونوا بهدايته خلائف فى الأرض ، وهذا لن يكون بكتاب آخر كما قال « وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » فهو قد أنزله عالما بأن فيه كل ما يحتاج إليه البشر من الهداية وأسباب السعادة.
(فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) أي فقد مكثت بين ظهرانيكم عمرا طويلا من قبله وهو أربعون سنة لم أتل عليكم سورة من مثله ولا آية تشبه آياته ، لا فى العلم والهداية ، ولا فى البيان والبراعة.(11/79)
ج 11 ، ص : 80
(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تعقلون أن من عاش أربعين سنة لم يقرأ كتابا ولم يلقّن من أحد علما ولم يتقلد دينا ولم يمارس أساليب البيان وأفانين الكلام من شعر ونثر وخطابة وفخر وعلم وحكمة - لا يمكنه أن يأتى بمثل هذا القرآن المعجز لكم ولجميع الدارسين لكتب الأديان ، فكيف تقترحون علىّ أن آتى بقرآن غيره.
وقد كان أكثر أنبياء بنى إسرائيل قبل نبوتهم على شىء من العلم كما قال تعالى فى موسى « وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً » وقال فى يحيى « وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا » .
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي إن شر أنواع الظلم والإجرام فى البشر شيئان :
(1) افتراء الكذب على اللّه ، وذلك بما اقترحتموه على الإتيان بقرآن غيره.
(2) التكذيب بآيات اللّه بما اجترحتموه من السيئات.
وقد نعيت عليكم الثاني منهما ، فكيف أرضى لنفسى الأول وهو شر منه ، وإنّ أهم أغراض رسالتى الإصلاح ، ولأجله أحتمل المشاقّ ، وأقبل فى سبيله كل إرهاق ، فلا فائدة لى فى هذا الإجرام.
(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) أي إنه لا يفوز الذين اجترموا الكفر فى الدنيا إذا لقوا ربهم ولا ينالون الفلاح.
[سورة يونس (10) : آية 18]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)(11/80)
ج 11 ، ص : 81
المعنى الجملي
بعد أن بين فى الآيات السالفة أنهم طلبوا منه أحد أمرين : إما الإتيان بقرآن غير هذا أو تبديله لأن فيه نبذا لآلهتهم وطعنا فيها وتسفيها لآرائهم فى عبادتها - نعى عليهم هنا عبادة الأصنام وبين لهم حقارة شأنها إذ لا تستطيع نفعا ولا ضرا ، فكيف يليق بالعاقل أن يعبدها من دون اللّه ، ويجعل لها الشفاعة عنده وليس لديهم برهان على ما يدّعون ، سبحانه وتعالى عما يشركون.
الإيضاح
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) أي ويعبدون ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا من الأصنام وغيرها حال كونهم متجاوزين ما يجب من عبادته تعالى وحده فهم يعبدونه ويعبدون معه غيره كما قال تعالى « وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ » .
وفى الآية إيماء إلى أن سبب عبادتها وضلالهم فيما يدّعون هو اعتقادهم فيها القدرة على الضر والنفع ، فرد عليهم خطأهم بأنه وحده هو القادر على نفع من يعبده وضر من يشرك بعبادته غيره فى الدنيا والآخرة.
وقد دل تاريخ البشر فى كل طور من أطواره على أن كل ما عبده من دون اللّه من صنم أو وثن فإنما عبده لاعتقاده فيه القدرة على النفع والضر بسلطان له فوق الأسباب المعروفة كعبادته للأوثان المتخذة من الحجارة أو الخشب والأصنام المصنوعة من المعادن والحجارة أو غير المصنوعة كاللات ، وهى صخرة كانت بالطائف يلتّ عليها السويق عظّمت حتى عبدت ، أو الأشجار كالعزّى معبودة قريش.
(وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ) أي ويقولون فى سبب عبادتهم لهم مع اعتقادهم أنهم لا يملكون الضر والنفع بأنفسهم إيمانهم بأن الرب الخالق هو اللّه تعالى ، وهؤلاء شفعاء عنده ونحن إنما نعبدهم ونعظم هيا كلهم ونطيّبها بالعطر ونقدم لهم النذور(11/81)
ج 11 ، ص : 82
ونهلّ لهم عند ذبح القرابين بذكر أسمائهم وبدعائهم والاستغاثة بهم ، لأنهم يشفعون لنا عند اللّه ويقربوننا إليه زلفى ويدفعون بجاههم عنا البلاء ويعطوننا ما نطلب من النعماء.
وقد روى عكرمة أن النضر بن الحارث قال : إذا كان يوم القيامة شفعت لى اللات والعزّى.
فأساس عقيدة الشرك أن جميع ما يطلب من اللّه لا بد أن يكون بوساطة المقربين عنده ، إذ هم لا يمكنهم التقرب من اللّه والحظوة عنده بأنفسهم لأنها مدنّسة بالمعاصي - أما الموحدون فيعتقدون أنه يجب على العاصي أن يتوجه إلى اللّه وحده تائبا إليه طالبا مغفرته ورحمته.
(قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي قل لهم أيها الرسول مبينا لهم كذبهم ومنكرا عليهم افتراءهم على ربهم : أ تخبرون اللّه بشىء لا يعلمه من أمر هؤلاء الشفعاء فى السموات من ملائكته وفى الأرض من خواص خلقه ، ولو كان له شفعاء يشفعون لكم عنده لكان أعلم بهم منكم ، إذ لا يخفى عليه شى فى الأرض ولا فى السماء ، فإذا هؤلاء لا وجود لهم عنده ، وأنكم قد اتخذتم ذلك قياسا على ما ترونه من الوساطة عند الملوك الجاهلين بأمور رعيتهم والعاجزين عن تنفيذ مشيئتهم فيهم ، بدون وساطة الوزراء وذوى المكانة فيهم.
وبهذا ثبت بطلان الشرك فى الألوهية وهو عبادة غير اللّه مهما يكن المعبود ، وبطلان الشرك فى الربوبية بادعاء وساطة المعبود فى الخلق والتدبير ، أو الشفاعة عند اللّه إذ ليس لمعبود بذاته ولا بتأثير خاص له عند خالقه يحمله على نفع من شاء ولا ضر من شاء أو كشف ضر عنه كما يعتقده عباد الأولياء من البشر إلى اليوم ، فكل ذلك للرب وحده ولا يعلم إلا بوحيه ، فادعاء ذلك لغيره كذب لا مستند له.
وفى هذا حجة أيّما حجة على زوار الأضرحة والقبور الذين يقولون : إن هؤلاء(11/82)
ج 11 ، ص : 83
الأولياء أحياء عند ربهم كالشهداء ، فهم يضرون وينفعون لا كالأصنام ، وقد جهلوا أن اللّه يقول للنصارى إن المسيح لا يملك لهم ضرا ولا نفعا بعبادتهم له مع ما آتاه من المعجزات ، وأظن أن الأمر لا يبلغ بهم أن يجعلوا السيد البدوي وسيدنا الحسين والسيدة زينب أفضل عند اللّه ولا أقرب منه.
وقد أمر اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يخبر الناس بأنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا « قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ » .
(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه ربنا وعلا علوا كبيرا عما يشركون به من الشفاعة والوسطاء وما يفترونه عليه من أنّ لأحد من خلقه وساطة عنده وشفاعة لديه تقرب إليه زلفى ، ففى هذا تحقير لمقام الربوبية والألوهية وتشبيه الرب بعبيده من الملوك الجاهلين.
وفى هذا إيماء إلى أن شئون الرب وسائر ما فى عالم الغيب لا يعلم إلا بخبر الوحى ومن ذلك اتخاذ الشفعاء والوسطاء عنده ، فيكون كفرا صراحا.
[سورة يونس (10) : آية 19]
وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
المعنى الجملي
بعد أن أقام الأدلة على فساد عبادة الأصنام ، وبين سبب هذه العبادة - ذكر هنا بيان ما كان عليه الناس من الوحدة فى الدين وما صاروا إليه من الاختلاف والفرقة فيه.
الإيضاح
(وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) أي إن الناس جميعا كانوا أمة واحدة على فطرة الإسلام والتوحيد ثم اختلفوا فى الأديان ، وإلى ذلك الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه » .(11/83)
ج 11 ، ص : 84
فبعث اللّه فيهم النبيين والمرسلين لهدايتهم وإزالة الاختلاف بكتاب اللّه ووحيه ، ثم اختلفوا فى الكتاب أيضا بغيا بينهم واتباعا لأهوائهم.
(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي ولو لا كلمة حق سبقت من ربك فى جعل الجزاء العام فى الآخرة لعجّله لهم فى الدنيا بإهلاك المبطلين المعتدين.
وفى الآية وعيد شديد على احتلاف الناس المؤدى إلى العدوان والشقاق ، ولا سيما الاختلاف فى الكتاب الذي أنزل لإزالة الشقاق.
[سورة يونس (10) : آية 20]
وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
المعنى الجملي
بعد أن حكى سبحانه عن المشركين إنكارهم للوحى إلى بشر مثلهم ورد عليهم مقالتهم بالحجج التي تثبت بطلان شركهم وإنكارهم للبعث ، ثم حكى عنهم مطالبة الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالإتيان بقرآن غير هذا الذي يدل فى نظمه وأسلوبه وعلومه وهدايته على أنه وحي من كلام اللّه - حكى عنهم فى هذه الآية الاحتجاج على إنكار نبوته بعدم إنزال آية كونية غير القرآن مع ما فيه من الآيات العلمية والعقلية الدالة على النبوة والرسالة ثم رد على ذلك.
الإيضاح
(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي قالوا مرارا وتكرارا ولا يزالون يقولون : هلا أنزل على محمد صلى اللّه عليه وسلم آية كونية كآيات الأنبياء الذين يحدثنا عنهم كنوح وشعيب وهود ، وقد جاء هذا الاقتراح هنا مجملا وأجاب عنه جوابا مجملا(11/84)
ج 11 ، ص : 85
لأن كلا منهما سبق مفصلا فى سور أخرى كقوله فى سورة الفرقان : « وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها » وحكى عنهم أنهم طالبوه بواحدة من بضع آيات وعلّقوا إيمانهم على إجابة مطلبهم فقال : « وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ » .
فلقنه اللّه الرد عليهم بقوله : « وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ » أي وما صرفنا عن إرسال الآيات التي اقترحوها إلا تكذيب الأولين كعاد وثمود بها ، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك واستوجبوا عذاب الاستئصال كما مضت بذلك سنتنا ، وقد قضينا ألا نستأصلهم لأنهم أمة خاتم النبيين الباقية وأنه هو رحمته العامة الشاملة ، وفيهم من يؤمن أو يولد له من يؤمن ، وقد آتى اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم آيات علمية وكونية ولكنه لم يجعلها حجة على رسالته ولا أمره بالتحدي بها ، بل كانت لضرورات استدعتها كاستجابة بعض أدعيته صلى اللّه عليه وسلم كشفاء المرضى وإشباع العدد الكثير من الطعام القليل فى غزوة بدر وغزوة تبوك ، وتسخير اللّه السحاب لإسقاء المسلمين ، وتثبيت أقدامهم التي كانت تسيخ فى الرمل ببدر.
وعلى الجملة فحجة النبي صلى اللّه عليه وسلم على نبوته هى كتابه المعجز بهدايته وعلومه.
روى الشيخان والترمذي عن أبى هريرة مرفوعا « ما من نبى إلا وقد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه اللّه إلىّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة »(11/85)
ج 11 ، ص : 86
(فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) أي إن ما اقترحتموه وزعمتم أنه من لوازم النبوة وعلّقتم إيمانكم بنزوله من الغيب الذي لا يعلمه إلا اللّه ولا علم لى به ، فإن كان قدّر إنزال آية علىّ فهو يعلم وقتها وينزلها فيه ، ولا أعلم إلا ما أوحاه إلىّ.
(فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لما يفعله اللّه بي وبكم ، فقد اجترأتم على جحود الآيات واقتراح غيرها ، والآية بمعنى قوله : « قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ » وقد جاء تفسير ما ينتظره وينتظرونه منه فى قوله فى آخر هذه السورة « فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ، قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ » .
وفى الآية إنذار بما سيحل بهم من العذاب بخذلانهم ونصر الرسل عليهم فى الدنيا وما وراءها من عذاب الآخرة.
[سورة يونس (10) : الآيات 21 الى 23]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)(11/86)
ج 11 ، ص : 87
تفسير المفردات
أصل الذوق : إدراك الطعم بالفم ، ويستعمل فى إدراك الأشياء المعنوية كالرحمة والنعمة والعذاب والنقمة ، والمكر : التدبير الخفىّ الذي يفضى بالممكور به إلى ما لا يتوقعه ومكره تعالى تدبيره الذي يخفى على الناس بإقامة سننه وإتمام حكمه فى نظام العالم ، وكله عدل وحق ، فإن ساء الناس سمّوه شرا ، وإن كان جزاء عدلا ، والرسل هنا :
الكرام الكاتبون من الملائكة ، والتسيير : جعل الشيء أو الشخص يسير بتسخيره تعالى أو إعطائه ما يسير عليه من دابة أو سفينة ، والفلك : السفينة أو السفن واحد وجمع ، والطيب : من كل شىء ما يوافق الغرض والمنفعة ، يقال رزق طيب ونفس طيبة وشجرة طيبة ، والعاصف : الذي يعصف الأشياء ويكسرها ، يقال ريح عاصف وعاصفة ، وأحيط به هلك كما يحيط العدو بعدوه فيسدّ عليه سبل النجاة ، والبغي :
مازاد على القصد والاعتدال ، من بغى الجرح إذا زاد حتى ترامى إلى الفساد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه أن القوم طلبوا من الرسول صلى اللّه عليه وسلم آية أخرى سوى القرآن ، وذكر جوابا عن هذا بأنه مما لا يملك ذلك لأن هذا من الغيب الذي استأثر بعلمه ، قفّى على ذلك بجواب آخر ، وهو أن أولئك المشركين لا يقنعون بالآيات إذا رأوها بأعينهم ، بل يكابرون حسّهم ولا يؤمنون ، إذ من عاداتهم اللجاج والعناد فكثيرا ما جاءتهم الآيات الكونية الدالة على وحدانية اللّه فى أفعاله ، ثم هم يمكرون فيها ولا تزيدهم إلا ضلالا.(11/87)
ج 11 ، ص : 88
الإيضاح
(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) أي وإذا رزقنا المشركين باللّه فرجا بعد كرب ورخاء بعد شدة أصابتهم ، بادروا إلى المكر وأسرعوا بالمفاجأة به فى مقام الشكر ، فإذا كانت الرحمة مطرا أحيا الأرض وأنبت الزرع ودرّ به اللبن بعد جدب وقحط أهلك الحرث والنسل ، نسبوا ذلك إلى الكواكب أو الأصنام ، وإذا كانت نجاة من هلكة وأعوزهم معرفة عللها وأسبابها علّلوها بالمصادفات ، وإذا كان سببها دعاء نبىّ أنكروا إكرام اللّه له ، وتأييده بها كما فعل فرعون وقومه عقب آيات موسى ، وكما فعل مشركو مكة إثر القحط الذي أصابهم بدعاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم رفع عنهم بدعائه عليه الصلاة والسلام فما زادهم ذلك إلا كفرا وجحودا.
روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن مسعود رضى اللّه عنه « أن قريشا لما استعصوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسنى سيدنا يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام والميتة من الجهد وحتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع ، فأنزل اللّه تعالى « فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ » فجاء أبو سفيان إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا محمد إنك جئت تأمرنا بصلة الرحم ، وإن قومك قد هلكوا فادع اللّه لهم ، فدعا لهم فكشف اللّه عنهم العذاب ومطروا فعادوا الى حالهم ومكرهم الأول يطعنون فى آيات اللّه ويعادون رسوله صلى اللّه عليه وسلم ويكذّبونه » .
(قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً) أي قل لهم : إن اللّه أسرع منكم مكرا ، فهو قد دبّر عقابكم وهو موقعه بكم قبل أن تدبّروا كيف تعملون فى إطفاء نور الإسلام ، وقد سبق فى تدبيره لأمور العالم وتقديره للجزاء على الأعمال قبل وقوعها أن يعاقبكم على مكركم فى الدنيا قبل الآخرة ، وهو عليم بما تفعلون لا تخفى عليه خافية.(11/88)
ج 11 ، ص : 89
(إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) أي إن الحفظة من الملائكة الذين وكلهم اللّه بإحصاء أعمال الناس وكتبها للحساب عليها فى الآخرة يكتبون ما تمكرون به.
وفى ذلك تنبيه إلى أن ما دبّروا ليس بخاف عليه تعالى ، وإلى أن انتقامه واقع بهم لا محالة.
وعلينا أن نعتقد بأن الملائكة تكتب الأعمال كتابة غيبية لم يكلفنا اللّه تعالى بمعرفة صفتها ، وإنما كلفنا أن نؤمن بأن له نظاما حكيما فى إحصاء أعمالنا لأجل أن نراقبه فيها فنلتزم الحق والعدل والخير ونجتنب أضدادها.
ثم ضرب مثلا من أبلغ أمثال القرآن ليظهر لهم ويتضح به ما هم عليه فقال :
(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي أنه تعالى هو الذي وهبكم القدرة على السير فى البر وسخر لكم الإبل والدواب ، وفى البحر بما سخر لكم من السفن التي تجرى فى البحر والقطر التجارية والسيارات ، وفى الهواء بالطائرات التي تسير فى الجوّ.
(حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي حتى إذا كنتم فى الفلك التي سخرناها لكم وجرت بمن فيها بسبب ريح مواتية لهم فى جهة سيرهم ، وفرحوا بما هم فيه من راحة وانتعاش وتمتع بمنظره الجميل وهوائه العليل - جاءت ريح شديدة قوية فاضطرب البحر وتموّج سطحه كله فتلقاهم من جميع الجوانب والنواحي بتأثير الريح ، واعتقدوا أنهم هالكون لا محالة بإحاطة الموج بهم ، فبيما يهبط الريح العاصف بهم فى الحج البحر حتى كأنهم سقطوا فى هاوية إذا به يثب بهم إلى أعلى كأنهم فى قمّة الجبل الشاهق - فإذا ما نزلت بهم نذر العذاب ، وتقطعت بهم الأسباب ، دعوا اللّه مخلصين له الدين ليكشف عنهم ما حل بهم ولا يتوجهون معه إلى ولىّ ولا شفيع ممن كانوا يتوسلون بهم إليه حال الرخاء. وقد صمموا العزيمة على طاعته وقالوا ربنا لئن أنجيتنا من هذه التهلكة(11/89)
ج 11 ، ص : 90
لنكونن من جماعة الشاكرين ، ولا نتوجه فى تفريج كروبنا وقضاء حاجتنا إلى وثن ولا صنم ، ولا إلى ولىّ ولا نبىّ.
وفى الآية إيماء إلى أن الناس جبلوا على الرجوع إلى اللّه حين الشدائد ، ولكن من لا يحصى عددهم من المسلمين فى هذا العصر لا يدعون حين أشد الأوقات حرجا إلا الميتين من الأولياء والصالحين ، كالسيد البدوي والرفاعي والدسوقى والمتولى وأبى سريع وغيرهم ويتأول ذلك لهم بعض العلماء ويسمونه توسلا أو نحو ذلك.
قال السيد حسن صديق الهندي فى تفسيره [فتح الرحمن ] : فيا عجبا لما حدث فى الإسلام من طوائف يعتقدون فى الأموات ، فإذا عرضت لهم فى البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ولم يخلصوا للّه كما فعله المشركون كما تواتر ذلك إلينا تواترا يحصل به القطع. فانظر هداك اللّه ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية ، وأين وصل بها أهلها ، وإلى أين رمى بهم الشيطان ؟ وكيف اقتادهم وتسلط عليهم حتى انقادوا له انقيادا ما كان يطمع فى مثله ولا فى بعضه من عباد الأصنام « إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ » اه.
وقال الآلوسى فى تفسيره : وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم فى برّ أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع ، ولا يرى ولا يسمع ، فمنهم من يستغيث بأحد الأئمة. ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة ، ولا ترى فيهم أحدا يخص مولاه بتضرعه ودعاه ، ولا يكاد يمرّ له ببال أنه لو دعا اللّه تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال ، فباللّه تعالى عليك قل لى : أىّ الفريقين أهدى سبيلا ، وأىّ الداعيين أقوم قيلا ، وإلى اللّه المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة ، وتلاطمت أمواج الضلالة ، واتّخذت الاستعانة بغير اللّه للنجاة ذريعة ، وخرقت سفينة الشريعة اه.
(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي فلما نجاهم مما نزل بهم من الشدة والكربة فاجئوا الناس فى الأرض التي يعيشون فيها بالبغي عليهم والظلم لهم مع الإمعان فى ذلك والإصرار عليه.(11/90)
ج 11 ، ص : 91
وفى قوله : بغير الحق - تأكيد للواقع وتذكير بقبحه وسوء حال أهله ، أو لبيان أنه بغير حق عندهم أيضا بأن يكون ظلما ظاهرا لا يخفى على أحد قبحه كما جاء فى قوله :
« وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ » .
وبعد أن حكى المثل خاطب البغاة فى أي مكان كانوا وفى أي زمان وجدوا منبها واعظا فقال :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي يا أيها الغافلون عن أنفسكم ، أما كفا كم بغيا على المستضعفين منكم اغترارا بقوتكم وكبريائكم ، إنما بغيكم فى الحقيقة على أنفسكم ، لأن عاقبة وباله عائدة إليكم ، وإنما تتمتعون ببغيكم متاع الحياة الدنيا الزائلة وهى تنقضى سراعا ، والعقاب باق ، وأقله توبيخ الضمير والوجدان.
(ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم إنكم ترجعون إلينا بعد هذا التمتع القليل فننبئكم بما كنتم تعملون من البغي والظلم والتمتع بالباطل ونجازيكم به.
وفى الآية إيماء إلى أن البغي مجزىّ عليه فى الدنيا والآخرة ، أما فى الدنيا فلقوله :
إنما بغيكم على أنفسكم ، ولما
جاء فى الحديث الذي رواه الإمام أحمد والبخاري « ما من ذنب أجدر أن يعجل اللّه لصاحبه العقوبة فى الدنيا مع ما يدّخر له فى الآخرة من البغي وقطيعة الرحم »
، والذي
رواه أنس رضى اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « ثلاث هن رواجع على أهلها : المكر والنّكث والبغي ، ثم تلا : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) - (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) - و(فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ).
وأما فى الآخرة فكفى دلالة على ذلك ما أفادته الآية من التهديد والوعيد.
والخلاصة - إن البغي وهو أشنع أنواع الظلم يرجع على صاحبه - لما يولّد من العداوة والبغضاء بين الأفراد ولما يوقد من نيران الفتن والثورات فى الشعوب ، انظر إلى من يبغى على مثله تجده قد خلق له عدوا أو أعداء ممن يبغى عليهم.
ولا شك أن وجود الأعداء ضرب من العقوبة ، فهم يقتصون لأنفسهم منه بكل(11/91)
ج 11 ، ص : 92
الوسائل التي يقدرون عليها - وإن هم لم يفعلوا ذلك فإنه يرى فى أعينهم من أنواع الحنق والغضب ما لا يخفى عليه فيتأجج قلبه حسرة وندامة على ما فعل ، ويود أن لو لم يكن قد خلق لنفسه هذه الحزازات والضغائن المتغلغلة فى النفوس.
[سورة يونس (10) : آية 24]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
المعنى الجملي
لما كان سبب بغى الناس فى هذه الدنيا هو إفراطهم فى حبها والتمتع بزينتها - ضرب بذلك مثلا يصرف العاقل عن الغرور بها ، ويرشده إلى الاعتدال فى طلبها والكفّ عن التوسل فى الحصول على لذّاتها بالبغي والظلم والفساد فى الأرض - فشبه حال الدنيا وقد أقبلت بنعيمها وزينتها وافتتن الناس بها بعد أن تمكّنوا من الاستمتاع بها ، ثم أسرع ذلك النعيم فى التقضي وانصرم غبّ إقباله واغترار الناس به ، بحال ما على الأرض من أنواع النبات يسوق اللّه إليها المطر ، فيلتفّ بعضها على بعض وتصبح بهجة للناظرين ، ثم لا تلبث أن تنزل بها فجأة جائحة تستأصلها وتجعلها حطاما كأن لم تكن بالأمس.
الإيضاح
(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) أي إنما صفة الحياة فى صورتها ومآلها كصفة ماء نزل من السماء(11/92)
ج 11 ، ص : 93
فأنبتت به الأرض أزواجا شتى من النبات تشابكت واختلط بعضها على كثرتها واختلاف ألوانها وأنواعها من أصناف شتى تكفى الناس فى أقواتهم ومراعى أنعامهم.
(حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) أي حتى إذا كانت الأرض بها فى خضرتها السندسية وألوان أزهارها المختلفة (كعروس حلّيت بالذهب والجواهر والحلل المختلفة الألوان ذات البهاء والبهجة ، وازينت بها فى ليلة زفافها) وظن أهلها أنهم قادرون على التمتع بثمراتها متمكنون من ادّخار غلاتها.
(أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أي نزل بها فى تلك الحال أمرنا المقدر لهلاكها فجاءتها جائحة وضرب زرعها بعاهة كجراد أو صقيع شديد أو ريح سموم ليلا وهم نائمون ، أو نهارا وهم غافلون فجعلناها كالأرض المحصودة التي قطعت واستؤصل زرعها ولم يبق منه شى ، أو كأنها لم تنبت ولم تكن زروعها نضرة بالأمس.
وجاء هذا المعنى فى قوله : « أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ » .
(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي كهذا المثل الواضح الذي يمثل حال الدنيا وغرور الناس مع سرعة زوالها وتعلق الآمال بها - نفصل الآيات الدالة على حقيقة التوحيد وأصول التشريع والآداب والمواعظ وتهذيب الأخلاق. وكل ما فيه صلاح للناس فى معاشهم ومعادهم لمن يستعمل عقله ويزن أعماله بموازين الحكمة.
وقد غفل الناس عن الهداية بهذه الآيات وأمثالها. واهتدى بها الشعب العربي فخرج من خرافة شركه إلى نور التوحيد والعلم والحضارة. ثم اهتدى بدعوته الملايين من الشعوب الأخرى فشار كوه فى السعادة والنعيم ، ولم يكن للمسلمين الآن حظ منها إلا التمتع بحسن ترتيلها فى بعض المواسم والمآتم ولم يخطر لهم ببال أن يتدبروا معانيها وأن يهتدوا بهديها - وهم لو فعلوا ذلك لعلموا أن كل ما يشكو منه الناس من العداوات(11/93)
ج 11 ، ص : 94
القومية والحروب الدولية والرذائل النفسية. والشقاء الذي عمت جرثومته البشر ، إنما سببه التنافس فى متاع هذه الحياة ، ولو التزموا القصد والاعتدال فى مطالبهم منها وصرفوا همهم فى قوة الدولة وإعلاء كلمة اللّه والاستعداد للآخرة لسعدوا فى الدارين ونالوا رضاء اللّه فى الحالتين.
[سورة يونس (10) : الآيات 25 الى 27]
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27)
تفسير المفردات
دار السلام : هى الجنة ، والسلام : السلامة من جميع الشوائب والنقائص والأكدار ، ورهقه : غشيه وغلب عليه حتى غطّاه وحجبه ، وقوله : « ولا ترهقنى من أمرى عسرا » أي لا تكلفنى ما يشق علىّ ويعسر ، والقتر : الدخان الساطع من الشّواء والحطب ، وكذا كل غبرة فيها سواد ، والعاصم : المانع.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه غرور المشركين الجاهلين بمتاع الدنيا وضرب لهم الأمثال على ذلك - قفى على هذا بالترغيب فى الآخرة ووصف حال المحسنين والمسيئين فيها فقال :(11/94)
ج 11 ، ص : 95
الإيضاح
(وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) أي ذلك الإيثار لمتاع الدنيا والغرور بها هو ما يدعو إليه الشيطان ، فيوقع متّبعيه فى جهنم دار النكال والوبال واللّه يدعو عباده إلى دار السلام ، إذ يأمرهم بما يوصّل إليها.
(وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي ويهدى من يشاء إلى الطريق الموصّل إليها بلا تعويق ، لأنه طريق مستقيم لا عوج فيه وهو الإسلام : عقائده وفضائله وأحكامه.
وأصل الهداية الدلالة بلطف ، وهى إما بالتشريع ببيانه وتفصيله للناس عامة ، وإما بالتوفيق للسير على سنن الدين والاستقامة عليه ، وهى خاصة بالمستعدين للعمل به ، ومن ثم قيدها بالمشيئة.
(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) أي للذين أحسنوا أعمالهم فى الدنيا المثوبة الحسنى أي التي تزيد فى الحسن على إحسانهم وهى مضاعفتها بعشرة أمثالها أو أكثر ، وجاء هذا المعنى فى قوله : « لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى » أي ولهم زيادة على هذه الحسنى فوق ما يستحقون على أعمالهم بعد مضاعفتها.
وقد ورد من طرق عدة أن هذه الزيادة هى النظر إلى وجه اللّه الكريم وذلك هو أعلى مراتب الكمال الروحي الذي لا يصل إليه إلا المحسنون العارفون فى الآخرة.
(وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) أي ولا يغشى وجوههم شىء مما يغشى الكفرة من الغبرة التي فيها سواد ، ولا أثر هوان ولا كسوف بال.
(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي أولئك الذين هذه صفتهم هم أصحاب الجنة وسكانها وهم ساكنون فيها أبدا ، فهى لا تبيد فيخافوا زوال نعيمهم ، ولا هم بمحرجين منها ، فتنغّص عليهم لذاتهم.
(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) أي والذين عملوا السيئات فى الدنيا(11/95)
ج 11 ، ص : 96
فعصوا اللّه فيها وكفروا به وبرسوله صلى اللّه عليه وسلم ، جزاء سيئة من عملهم السيء الذي عملوه فى الدنيا بمثلها من عقاب اللّه فى الآخرة جزاء وفاقا ، ولا يزادون على ما يستحقونه من العذاب شيئا.
(وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي وتغشاهم ذلة الفضيحة وكسوف الخزي بما يظهره حسابهم من شرك وظلم وزور وفجور.
(ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ) أي ما لهم من اللّه من مانع يمنعه إذا هو عاقبهم أو يحول بينه وبينهم ، كالذين اتخذوهم فى الدنيا شركاء وزعموهم شفعاء ، فذلك هو اليوم الذي تتقطع فيه الأسباب التي كانت تفيد فى الدنيا « يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ » .
(كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) أي كأنما ألبست وجوههم قطعا من أديم الليل حال كونه حالكا مظلما لابصيص فيه من نور القمر الطالع ولا النجم الثاقب ، فتشقها قطعة بعد قطعة فصارت ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض.
(أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي أولئك الذين لهم تلك الصفات هم أصحاب النار هم فيها خالدون لا يبرحونها لأنه ليس لهم مأوى سواها.
وقد جاء فى معنى هذه الآيات فى وصف الفريقين قوله : « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ » وقوله : « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ » .
[سورة يونس (10) : الآيات 28 الى 30]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)(11/96)
ج 11 ، ص : 97
تفسير المفردات
الحشر : الجمع من كل جانب إلى موقف واحد ، ومكانكم : كلمة يراد بها التهديد والوعيد ، أي الزموا مكانكم ، وزيلنا : فرقنا وميزنا ، وتبلو : تختبر ، وأسلفت : قدّمت وضل : ضاع وذهب.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه وتعالى جزاء الذين كسبوا السيئات وما يكون لهم من الذلة والهوان - قفّى على ذلك بذكر اليوم الذي يحصل فيه هذا الجزاء.
الإيضاح
(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) أي واذكر أيها الرسول الكريم لكلام الفريقين الذين أحسنوا الحسنى ، والذين كسبوا السيئات - يوم نحشرهم جميعا بلا تخلف أحد فى موقف الحساب.
(ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) أي ثم نقول لمن أشرك منهم بعد طول مكث لا يكلّمون بشى ء - الزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم لا تبرحوه حتى تنظروا ما يفعل بكم ويفصل بينكم فيما كان من سبب عبادتكم إياهم والحجة التي يدلى بها كل فريق منكم.
وفى هذا وعيد شديد ، وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد ، وتقريع بكون هذا معظم سيئاتهم.
(فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) أي ففرقنا بين الشركاء ومن أشركوهم مع اللّه سبحانه وتعالى(11/97)
ج 11 ، ص : 98
وميزّنا بعضهم من بعض ، كما يميز بين الخصوم عند الحساب ويراد بهذا التفريق تقطيع ما كان بينهم فى الدنيا من صلات وروابط وبيان خيبة ما كان للمشركين فى الشركاء من آمال.
(وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) أي وقال شركاؤهم : ما كنتم تخصوننا بالعبادة ، وإنما كنتم تعبدون أهواءكم وشياطينكم التي كانت تقوّيكم ، وتتخذون تماثيلنا هياكل لمنافعكم وأغراضكم ، والمعبود الحق هو الذي يعبد ، لأنه صاحب السلطان الأعلى على الخلق وبيده النفع والضر.
(فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي فكفى اللّه شهيدا وحكما بيننا وبينكم ، فهو العليم بحالنا وحالكم.
(إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) أي إننا كنا فى غفلة عن عبادتكم لا ننظر إليها ولا تفكّر فيها.
(هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) أي فى موقف الحساب تختبر كل نفس من عابدة ومعبودة ، ومؤمنة وجاحدة ، ما قدمت فى حياتها الدنيا من عمل ، وما كان لكسبها فى صفاتها من أثر ، خير أو شر ، بما ترى من الجزاء عليه ، فهو ثمرة طبيعية له ، لا شأن فيه لولىّ ولا شفيع ، ولا معبود ولا شريك.
(وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) أي وأرجعوا إلى اللّه الذي هو مولاهم الحق ، دون ما اتخذوا من دونه بالباطل من الأولياء والشفعاء ، والأنداد والشركاء.
وقد جاء هذا المعنى فى آيات كثيرة كقوله : « إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ » وقوله :
« إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ » وقوله : « وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ » .
(وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وضاع عنهم ما كانوا يفترون عليه من الشفعاء والأولياء ، فلم يجدوا أحدا ينصرهم ولا ينقذهم من هول ذلك الموقف كما قال :
« يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ » وقد تكرر هذا المعنى فى آيات(11/98)
ج 11 ، ص : 99
كثيرة ، منها ما جاء مجملا ، ومنها ما جاء مفصلا ، فمنها ما يسأل اللّه فيه العابدين ، ومنها ما يسأل فيه المعبودين ، ومنها ما عين فيه اسم الملائكة والجن والشياطين.
[سورة يونس (10) : الآيات 31 الى 33]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33)
المعنى الجملي
بعد أن بين جنايات المشركين على أنفسهم ، وبين فساد معتقداتهم وما سيلقونه من الجزاء على ما فعلوا - قفى على ذلك بإقامة الحجج على المشركين فى إثبات التوحيد والبعث ، ثم أردفه بإثبات النبوة والرسالة والقرآن :
الإيضاح
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ؟ ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المعاندين من أهل مكة : من يرزقكم من السماء بما ينزله عليكم من الأمطار ، ومن الأرض بما ينبته من شتى النباتات من نجم وشجر تأكلون منه وتأكل أنعامكم ؟
(أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) أي وقل لهم من يملك ما تتمتعون به من حاستى السمع والبصر ؟ وأنتم بدونهما لا تدرون شيئا من أمور العالم ، وتكون الأنعام والهوامّ بل الشجر خيرا منكم باستغنائها عمن يقوم بضرورات معاشها.
وخص هاتين الحاستين بالذكر لأن عليهما مدار الحياة الحيوانية وكمال الحياة الإنسانية ، إذ بهما تحصيل العلوم الأولية(11/99)
ج 11 ، ص : 100
وخلاصة ذلك - من خلق هذه الحواس ووهبها للناس وحفظها مما يعتريها من الآفات ؟ ولا شك أن الجواب عن ذلك السؤال لا حاجة فيه إلى الفكر ، فإن هم تأملوا فى ذلك ازدادوا علما وإعجابا بإنعام اللّه بهما ، وإيمانا بأنه لا يقدر غيره على إيجادهما.
(وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) أي ومن ذا الذي بيده أمر الموت والحياة فيخرج الحي من الميت والميت من الحي فيما تعرفون من المخلوقات وما لا تعرفون ، فاللّه هو الذي يخرج النبات من الأرض الميتة بعد إحيائه إياها بماء المطر النازل عليها من السماء كما قال تعالى : « أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ » .
وعلامة الحياة فى النبات النموّ ، وفى الحيوان النمو والإحساس والحركة بالإرادة ، ولم يكونوا يصفون أصول الإحياء بالحياة كالحب والنوى وبيض الحيوان ومنيّه ، ومن ثم مثلوا إخراج الحي من الميت والميت من الحي بخروج النخلة من النواة والطائر من البيضة وعكسهما ، وهو تفسير صحيح عند علماء اللغة ، غير صحيح عند علماء المواليد الثلاثة ، وبه تحصل الدلالة على قدرة اللّه وحكمته وتدبيره ورحمته لدى المخاطبين.
وإذا كان أرباب الفنون أثبتوا أن فى أصول النبات كالبذور والنوى والبيض والمنىّ حياة ، فهم يثبتون أيضا أن أصول الأحياء فى الأرض كلها خرجت من مادة ميتة ، فقد قالوا إن الأرض كانت كتلة نارية ملتهبة انفصلت من الشمس ثم صارت ماء ، ثم نبتت اليابسة فى الماء ثم تكوّن من الماء النبات والحيوان فى أطوار شتى وقالوا ، أيضا إن الغذاء من الطعام الميت الذي يحرق بالنار ويتولد منه الدم ، ومن هذا الدم يكون البيض والمنى المشتملان على مادة الحياة ، وقالوا أيضا : إن بعض مواد البدن الحية تموت وتخرج منه مع البخار والعرق وغيرهما مما يفرزه البدن ، وتتجدد فيه مواد جديدة تحل محل ما خرج منها وفنى.
والخلاصة - إن علماء المواليد قالوا : الحىّ لا يخرج إلا من حى ، ولكن الحياة الأولى هى من خلق اللّه الحي بذاته المحيي لغيره.(11/100)
ج 11 ، ص : 101
(وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي ومن يلى تدبير أمر الخليقة جميعا بما أودعه فى كل منها من السنن وقدّره من النظام.
(فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ) أي فسيجيبون عن هذه الأسئلة الخمسة بلا تلعثم ولا تلكّؤ بأن فاعل هذا كله هو اللّه رب العالم كله ومليكه - إذ لا جواب غيره وهم لا يجحدون ذلك ولا ينكرونه.
(فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أي فقل لهم أيها الرسول الكريم : أفلا تتقون سخطه وعقابه لكم بشرككم وعبادتكم لغيره ممن لا يملك لكم ضرا ولا نفعا.
(فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ) أي فذلكم المتصف بكل تلك الصفات السالفة هو اللّه المربى لكم بنعمه والمدبر لأموركم ، وهو الحق الثابت بذاته الحي المحيي لغيره المستحق للعبادة دون سواه.
(فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) أي فماذا بعد الرب الحق الثابتة ربوبيته إلا الضلال أي الباطل الضائع المضمحل ، فالذى يفعل تلك الأمور هو الرب الحق ، وعبادته وحده هى الهدى ، وما سواها من عبادة الشركاء والوسطاء ضلال ، وكل من يعبد غيره معه فهو مشرك مبطل ضال.
(فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ؟ ) أي فكيف تتحولون عن الحق إلى الباطل وعن الهدى إلى الضلال ؟ مع علمكم بما كان به اللّه هو الرب الحق ، فما بالكم تقرّون بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية فتتخذون مع اللّه آلهة أخرى.
(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) أي مثل ذلك الذي حقّت به كلمة ربك من وحدة الربوبية والألوهية ، وكون الحق ليس بعده لمن تنكّب عنه إلا الضلال - حقت كلمة ربك : أي وعيده على الذين خرجوا من حظيرة الحق ، وهو توحيد الألوهية والربوبية وهداية الدين الحق.(11/101)
ج 11 ، ص : 102
(أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي هى أنهم لا يؤمنون بما يدعوهم إليه رسلنا من التوحيد والهدى مهما تكن الآية بيّنة ، والحجة ظاهرة قوية.
وليس المراد أنه يمنعهم من الإيمان بالقهر ، بل هم يمتنعون منه باختيارهم لفقدهم نور البصيرة واستقلال العقل فلا يتوجهون إلى التمييز بين الحق والباطل ، والهدى والضلال لرسوخهم فى الكفر ، واطمئنانهم به بالتقليد كما قال تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ » .
[سورة يونس (10) : الآيات 34 الى 36]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36)
المعنى الجملي
هذا ضرب آخر من الحجة أقامه سبحانه دليلا على توحيده وبطلان الإشراك به جاء بطريق السؤال للتوبيخ وإلزام الخصم ، فإن الكلام إذا كان ظاهرا جليا ، ثم ذكر على سبيل الاستفهام وفوّض الجواب إلى المسئول ، يكون أوقع فى النفس وأبلغ فى الدلالة على الغرض.(11/102)
ج 11 ، ص : 103
الإيضاح
(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي قل لهم أيها الرسول :
هل أحد من شركائكم الذين عبدتموهم مع اللّه أو من دون اللّه من الأصنام أو الأرواح الحالّة فيها كما تزعمون ، أو الكواكب السيارة أو غيرها من الأحياء كالملائكة والجن ، من له هذا التصرف فى الكون ببدء الخلق فى طور ثم إعادته فى طور آخر ؟ .
ولما كانوا لا يجيبون عن هذا السؤال كما أجابوا عن الأسئلة الأولى لإنكارهم للبعث والمعاد ، لقّن اللّه رسوله الجواب فقال :
(قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) إذ القادر على بدء الخلق يكون قادرا على إعادته بالأولى ، وهم ينكرون إعادة الأحياء الحيوانية دون الأحياء النباتية ، إذ هم يشاهدون بدء خلق النبات فى الأرض حين ما يصيبها ماء المطر فى فصل الشتاء وموته بجفافها فى فصل الصيف والخريف ، ثم إعادته بمثل ما بدأه مرة بعد أخرى ، ويقرون بأن اللّه هو الذي يفعل البدء والإعادة ، لأنهم يشاهدون كلا منهما وهم لا يسلمون إلا بما يرون بأعينهم أو يلمسونه بأيديهم.
وقد أمر اللّه رسوله أن يرشدهم إلى جهلهم وينبههم للتفكير فى أمرهم فقال :
(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي فكيف تصرفون من الحق الذي لا محيد عنه ، وهو التوحيد إلى الضلال البيّن ، وهو الإشراك وعبادة الأصنام ، وذلك من دواعى الفطرة وخاصة العقل حين تفكيره فى المصير.
ثم جاء باحتجاج آخر على ما ذكره إلزاما لهم عقب الإلزام الأول ، فسألهم عن شأن من شئون الربوبية المقتضى لاستحقاق الألوهية وتوحيد العبادة الاعتقادية والعملية فقال :
(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) أي قل لهم أيها الرسول : هل من(11/103)
ج 11 ، ص : 104
أولئك الشركاء من يهدى إلى الحق بوجه من وجوه الهداية التي بها تتم حكمة الخلق.
كما يدل على ذلك قوله (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ).
والهداية أنواع - هداية الغريزة والفطرة التي أودعها اللّه فى الإنسان والحيوان ، وهداية الحواس من سمع وبصر ونحو ذلك ، وهداية التفكير والاستدلال بوساطة هذه الوسائل ، وهداية الدين ، وهو للنوع البشرى فى جملته بمثابة العقل للأفراد ، وهداية التوفيق الموصل بالفعل إلى الغاية بتوجيه النفس إلى طلب الحق وتسهيل سبله ومنع الصوارف عنه.
ولما كانوا لا يستطيعون أن يدّعوا أن أحد من أولئك الشركاء يهدى إلى الحق لا من ناحية الخلق ولا من ناحية التشريع ، لقن اللّه رسوله الجواب فقال :
(قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ) أي قل هو اللّه سبحانه الذي يهدى إلى الحق دون غيره بما نصب من الأدلة والحجج ، وأرسل من الرسل ، وأنزل من الكتب ، وهدى إلى النظر والتدبّر ، وأعطى من الحواس.
(أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى ) قرأ يعقوب وحفص يهدى بكسر الهاء ، وتشديد الدال وأصله يهتدى ، أي أ فمن يهدى إلى الحق وهو اللّه أحق أن يتّبع فيما يشرّعه ، أم من لا يهدى غيره ولا يهتدى بنفسه إلا أن يهديه غيره وهو اللّه تعالى ، إذ لا هادى غيره.
ويدخل فيمن نفى عنهم الهداية ممن اتخذوا شركاء - المسيح عيسى بن مريم وعزير والملائكة. وهؤلاء كانوا يهدون إلى الحق بهداية اللّه ووحيه كما قال تعالى فى سورة الأنبياء « وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا » .
(فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ؟ ) أي أىّ شىء أصابكم وماذا حلّ بكم حتى اتخذتم هؤلاء شركاء وجعلتموهم وسطاء بينكم وبين ربكم الذي لا خالق ولا رازق ولا هادى لكم سواه ، كيف تحكمون بجواز عبادتهم وشفاعتهم عنده بدون إذنه.
وفى هذا تعجيب من حالهم وسوء صنيعهم وقبيح فعلهم.(11/104)
ج 11 ، ص : 105
وبعد أن أقام الحجج على توحيد الربوبية والألوهية ، بيّن حال المشركين الاعتقادية فقال :
(وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) أي إن أكثرهم لا يتبعون فى شركهم وعبادتهم لغير اللّه ، ولا فى إنكارهم للبعث وتكذيبهم للرسول عليه الصلاة والسلام إلا ضربا من ضروب الظن قد يكون ضعيفا كأن يقيسوا غائبا على شاهد ، ومجهولا على معروف ويقلدون الآباء اعتقادا منهم أنهم لا يكونون على باطل فى اعتقادهم ، ولا ضلال فى أعمالهم وقليل منهم كان يعلم أن ما جاء به الرسول صلى اللّه عليه وسلم هو الحق والهدى وأن أصنامهم وسائر معبوداتهم لا تضرّ ولا تنفع ، ولكنهم يجحدون بآيات اللّه ، ويكذبون رسوله صلى اللّه عليه وسلم عنادا واستكبارا وخوفا على زعامتهم أن تضيع سدى فيصبحون تابعين بعد أن كانوا متبوعين.
ثم بين حكم اللّه فى الظن فقال :
(إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) الحق هو الثابت الذي لا ريب فى ثبوته وتحققه أي إن الشك لا يقوم مقام اليقين في شىء ولا ينتفع به حيث يحتاج إلى اليقين.
وخلاصة ذلك - إن الظن لا يجعل صاحبه غنيّا بعلم اليقين فيما يطلب فيه ذلك كالعقائد الدينية ، وبهذا تعلم أن إيمان المقلد غير صحيح.
(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) أي إن اللّه عليم بما كانوا يعملون بمقتضى اعتقاداتهم الظنية والقطعية ، فهو يحاسبهم ويجازيهم على كل عمل منها ، كتكذيبهم للرسول صلى اللّه عليه وسلم مع قيام الأدلة القطعية على صدقه ، واتباعهم للظن كالتقليد باتباع الآباء والأجداد.
وفى الآية إيماء إلى أن أصول الإيمان تبنى على اليقين دون الظن ، فالعلم المفيد للحق ما كان قطعيا من كتاب أو سنة ، وهو الدين الذي لا يجوز للمسلمين التفرق والاختلاف فيه ، وما دونه مما لا يفيد إلا الظن فلا يؤخذ به فى الاعتقاد وهو متروك(11/105)
ج 11 ، ص : 106
للاجتهاد فى الأعمال ، اجتهاد الأفراد فى الأعمال الشخصية ، واجتهاد أولى الأمر فى القضاء مع سلوك طريق الشورى حتى يتحقق العدل والمساواة فى المصالح العامة.
[سورة يونس (10) : الآيات 37 الى 39]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عزّ اسمه الأدلة على أن القرآن من عنده ، وأن محمدا صلى اللّه عليه وسلم عاجز كغيره عن الإتيان بمثله ، ثم أتى بالحجج على بطلان شركهم واتباع أكثرهم لأدنى الظن وأضعفه فى عقائدهم - عاد إلى الكلام فى تفنيد رأيهم فى الطعن على القرآن بمقتضى هذا الظن الضعيف لدى الأكثرين منهم ، والجحود والعناد من الأقلين كالزعماء والمستكبرين.
الإيضاح
(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي لا يصح ولا يعقل أن يفتريه أحد على اللّه من دونه وينسبه إليه ، إذ لا يقدر على ذلك غيره عز وجل ، فإن ما فيه من علوم عالية ، وحكم سامية ، وتشريع عادل ، وآداب اجتماعية ، وأنباء بالغيوب الماضية والمستقبلة ليس فى طوق البشر ولا هو داخل تحت قدرته وفى حيّز مكنته ، ولئن سلم أن بشرا فى مكنته ذلك فلن يكون إلا أرقى الحكماء والأنبياء والملائكة ، ومثل هذا لن يفترى على اللّه شيئا.(11/106)
ج 11 ، ص : 107
ولقد ثبت أن أشد أعداء النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وهو أبو جهل قال : إن محمدا لم يكذب على بشر قط ، أ فيكذب على اللّه ؟ .
(وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ولكن كان تصديق الذي تقدمه من الوحى لرسل اللّه تعالى بالإجمال كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات اللّه عليهم بدعوته إلى أصول الدين الحق من الإيمان باللّه واليوم الآخر وصالح الأعمال بعد أن نسى بعض هذا بقية أتباعهم وضلّوا عن بعض ، ولم يكن محمد النبي الأمى يعلم شيئا من ذلك لو لا الوحى عن ربه.
(وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) أي وتفصيل ما كتب وأثبت من الشرائع والأحكام والعبر والمواعظ وشئون الاجتماع.
(لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا ينبغى لعاقل أن يرتاب فيه لوضوح برهانه ، لأنه الحق والهدى.
(مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي من وحيه لا افتراء من عند غيره ولا اختلافا كما قال :
« وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً » .
وبعد أن أبان أنه أجلّ وأعظم من أن يفترى لعجز الخلق عن الإتيان بمثله.
انتقل إلى حكاية زعم هؤلاء الجاهلين والمعاندين الذين قالوا : إن محمدا صلى اللّه عليه وسلم قد افتراه وفنّد مزاعمهم وتعجّب من حالهم وشنيع مقالهم وتحداهم أن يأتوا بمثله فقال :
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ما كان ينبغى أن تقولوا إن محمد صلى اللّه عليه وسلم افتراه من عند نفسه واختلقه ، إذ لو كان الأمر كما تقولون وأنه اختلقه وافتراه ، فأتوا بسورة مثله فى نظمه وأسلوبه وعلمه مفتراة فى موضوعها ، لا تلتزمون أن تكون حقا فى أخبارها ، فإن لسانه لسانكم ، وكلامه كلامكم ، وأنتم أشد مرانا وتمرسا للنثر والنظم منه ، واطلبوا من يعينكم على ذلك من دون اللّه ، ولن تستطيعوا أن تفعلوا شيئا ، فإن جميع الخلق عاجزون عن(11/107)
ج 11 ، ص : 108
هذا « قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً » إن كنتم صادقين فى زعمكم أنه مفترى.
وإذ قد عجزتم عن ذلك مع شدة تمرّسكم ، ولم يوجد فى كلام أولئك الذين نصبت لهم المنابر فى سوق عكاظ ، وبهم دارت رحى النظم والنثر ، وتقضّت أعمارهم فى الإنشاء والإنشاد مثله - فهو ليس من كلام البشر ، بل هو من كلام خالق القوى والقدر.
ومن البين أنه ما كان لعاقل مثله - صلى اللّه عليه وسلم أن يتحداهم هذا التحدي لو لم يكن موقنا أن الإنس والجن لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن فى جملته ولا بسورة مثله ، إذ لو كان هو الذي أنشأه وألّفه لمصلحة الناس برأيه لكان عقله وذكاؤه يمنعانه من الجزم بعجز عقلاء الخلق من العوالم الظاهرة والباطنة عن الإتيان بسورة مثل ما أتى هو به.
إذ العاقل الفطن يعلم أن ما يمكنه من الأمر قد يمكن غيره ، بل ربما وجد من هو أقدر منه عليه.
والخلاصة - إن محمد صلى اللّه عليه وسلم كان على يقين بأنه من عند ربه ، وأنه صلى اللّه عليه وسلم كغيره لا يقدر على الإتيان بمثله.
ثم انتقل من إظهار بطلان ما قالوه فى القرآن بتحدّيه لهم - إلى إظهار بطلانه ببيان أن كلامهم ناشىء من عدم علمهم بحقيقة أمره واختبار حاله فقال :
(بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) أي بل هم سارعوا إلى تكذيبه من غير أن يتدبروا ما فيه ويقفوا على ما احتوى عليه من الأدلة والبراهين الدالة على أنه كما وصف آنفا ، ومن قبل أن يعلموا أنه ليس مما يمكن أن يؤتى بمثله.
(وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي ولم يأتهم إلى الآن ما يئول إليه ويكون مصداقا له بالفعل ويقع ما أخبر به من الأمور المستقبلة.(11/108)
ج 11 ، ص : 109
وخلاصة ذلك - أنهم على إعجاز القرآن من جهة اللفظ والمعنى والإخبار بالغيب - قد أسرعوا فى تكذيبه قبل أن يتدبروا أمره أو ينتظروا وقوع ما أخبر به - وفى تكذيب الشيء قبل علمه المتوقع حصوله - شناعة وقصر نظر لا تخفى على عاقل ، وفيه دليل على أنهم مقلدون.
(كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي مثل هذا التكذيب بلا تدبر ولا تأمل كذب الذين من قبلهم من مشركى الأمم رسلهم بما لم يحيطوا بعلمه قبل أن يأتيهم تأويله من عذاب اللّه الذي أوعدهم به.
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أي فانظر أيها الرسول الكريم كيف كان عاقبة الظالمين لأنفسهم بتكذيب رسلهم ، لتعلم مصير من ظلموا أنفسهم من بعدهم ، وهذه العاقبة هى التي بينها اللّه فى قوله : « فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » .
وقد أنذر اللّه قوم محمد صلى اللّه عليه وسلم بمثل ما نزل بالأمم قبلهم فى الدنيا بهذه الآية وغيرها من هذه السورة ، كما أنذرهم عذاب الآخرة وكذبه المعاندون المقلدون فى كل ذلك ظنا منهم أنه لا يقع.
[سورة يونس (10) : الآيات 40 الى 41]
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه فى الآية السالفة أنهم كذبوا بالقرآن قبل أن يأتيهم تأويله وقبل أن يحيطوا بعلمه - قفّى على ذلك بذكر حالهم بعد أن يأتيهم التأويل المتوقع ، وبيّن أنهم حينئذ يكونون فريقين : فريق يؤمن به ، وفريق يستمر على كفره وعناده.(11/109)
ج 11 ، ص : 110
الإيضاح
(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي ومن هؤلاء المكذبين من يؤمن به حين إتيان تأويله وظهور حقيقته بعد أن سعوا فى معارضته ورازوا قواهم فيها فتضاءلت دونها.
(وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) أي ومنهم من يصرّ على الكفر ويستمر عليه.
(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) أي وربك أعلم بمن يفسدون فى الأرض بالشرك والظلم والبغي ، لفقدهم الاستعداد للإيمان ، وهؤلاء سيعذبهم فى الدنيا ويخزيهم وينصركم عليهم ، ويجزيهم فى الآخرة لفسادهم وسوء معتقداتهم.
(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) أي وإن أصروا على تكذيبك فقل لى عملى ، وهو البلاغ المبين والإنذار والتبشير ، وما أنا بمسيطر ولا جبّار ، ولكم عملكم وهو الظلم والفساد الذي تجزون به يوم الحساب كما قال تعالى : « هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ » .
(أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم ، وهذا كقوله : « قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي ، وَأَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ »
[سورة يونس (10) : الآيات 42 الى 44]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
المعنى الجملي
بعد أن أنبأ اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم بأن من قومه من لا يؤمن به لا حالا ولا استقبالا ، بل يصرّون على التكذيب بعد ما جاءتهم البينات ، وكان ذلك من(11/110)
ج 11 ، ص : 111
شأنه صلى اللّه عليه وسلم أن يثير عجبه ويجعله يطيل الحزن والأسف إن لم يؤمنوا بهذا الحديث - ذكر سبب هذا ، وهو أنهم قوم طبع اللّه على قلوبهم وفقدوا الاستعداد للإيمان ، فلا وسيلة له صلى اللّه عليه وسلم فى إصلاح حالهم ، ولا قدرة له على هدايتهم.
الإيضاح
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) أي ومن المكذبين ناس يصيخون بأسماعهم إذا قرأت القرآن أو بينت ما فيه من أصول الشرائع والأحكام ، ولكنهم لا يسمعون إذ يستمعون ، فهم لا يتدبرون القول ولا يتفقهون ما يراد منه ، بل جلّ همهم أن يتسمعوا غرابة نظمه وجرس صوته بترتيله ، كمن يستمع إلى الطائر يغرّد على غصن الشجرة ليتلذذ بصوته لا ليفهم ما يغرد به ، وقد وصف اللّه حالهم فى آي أخرى فقال :
«
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ » وقال : « وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً » .
والآن نرى من المسلمين من يستمع إلى قراءة القرآن من قارئ حسن الصوت للتلذذ بترتيله وتوقيع صوته لا لينتفع بعظاته وعبره ، ولا ليفهم عقائده وأحكامه.
(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) أي إن السماع النافع للمستمع هو الذي يعقل به ما يسمعه ويفقهه ويعمل به ، ومن فقد هذا كان كالأصم الذي لا يسمع ، وإنك أيها الرسول الكريم لم تؤت القدر على إسماع الصم الذين فقدوا حاسة السمع حقيقة فكذلك لا تستطيع أن تسمع إسماعا نافعا من فى حكمهم وهم الذين لا يعقلون ما يسمعون ولا يفقهون معناه فيهتدوا به وينتفعوا بعظاته.
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) أي ومنهم من يتجه نظره إليك حين تقرأ القرآن(11/111)
ج 11 ، ص : 112
ولكنه لا يبصر ما آتاك اللّه من نور الإيمان والخلق العظيم وأمارات الهدى والتزام الصدق.
(أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) أي إنك أيها الرسول الكريم كما لا تقدر على هداية العمى بدلائل البصر الحسية ، لا تقدر على هدايتهم بالدلائل العقلية ، ولو كانوا فاقدين لنعمة البصيرة التي تدركها.
وخلاصة ما تقدم - إن هداية الدين كهداية الحس لا تكون إلا للمستعدّ بهداية العقل ، وإن هداية العقل لا تحصل إلا بتوجيه النفس وصحة القصد ، وهؤلاء قد انصرفت نفوسهم عن استعمال عقولهم استعمالا نافعا فى الدلائل البصرية والسمعية لإدراك أىّ مطلب من المطالب الشريفة التي وراء شهواتهم وتقاليدهم.
(إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) يراد بالظلم هنا المعنى الذي تدل عليه اللغة وهو نقص ما تقتضى الخلقة الكاملة وجوده كما فى قوله : « كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً » أي إنه لم يكن من سنن اللّه تعالى فى خلقة أن ينقصهم شيئا من الأسباب التي يهتدون باستعمالها إلى ما فيه خيرهم من إدراكات وإرشاد إلى الحق بإرسال الرسل ونصب الأدلة التي توصلهم إلى سعادتهم فى الدنيا والآخرة.
(وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي إنهم يظلمون أنفسهم وحدها دون غيرها ، لأن عقاب ظلمهم واقع عليها ، فهم يجنون عليها بكفرهم بما أنعم اللّه عليهم من هدايات المشاعر والعقل والدين بعدم استعمالها فيما خلقت لأجله من اتباع الحق فى الاعتقاد والهدى فى الأعمال ، وذلك هو الصراط المستقيم الموصل لسعادة الدارين.
[سورة يونس (10) : آية 45]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45)(11/112)
ج 11 ، ص : 113
المعنى الجملي
لما وصف اللّه هؤلاء المشركين بترك التدبر والإصغاء وتكذيبهم للرسول صلى اللّه عليه وسلم والقرآن قبل أن يأتيهم تأويله - قفّى على ذلك بالوعيد بما سيكون لهم من الجزاء على هذا يوم القيامة.
الإيضاح
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) الساعة يضرب بها المثل فى القلة : أي وأنذرهم أيها الرسول يوم يجمعهم اللّه بالبعث بعد الموت ويسوقهم إلى مواقف الحساب والجزاء ، وكأنهم لم يلبثوا فى الدنيا إلا مدة قليلة ثم تقضّت.
وخلاصة ذلك - إن هذه الدنيا التي غرّتهم بمتاعها الحقير الزائل قصيرة الأمد ستزول بموتهم ، وسيقدّرون يوم القيامة قصرها بساعة من النهار لا تسع لأكثر من التعارف.
والآية بمعنى قوله : « كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ ، لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ » . وقوله : « وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ، كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ » . وقوله : « قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ؟ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ ، قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ » .
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)
أي إن هؤلاء آثروا الحياة القصيرة المنغّصة بالأكدار السريعة الزوال على الحياة الأبدية بما فيها من النعيم المقيم ، فلم يستعدوا لها ويعملوا الأعمال الصالحة التي تزكى نفوسهم وتهذب أرواحهم ، فخسروا السعادة فيها وما كانوا مهتدين فيما اختاروه لأنفسهم من إيثار الخسيس الزائل على النفيس الخالد.(11/113)
ج 11 ، ص : 114
[سورة يونس (10) : الآيات 46 الى 56]
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55)
هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه وتعالى فى الآية السالفة أن هؤلاء المشركين الذين كذبوا بلقاء اللّه تعالى قد خسروا وما كانوا مهتدين ، وهذا يتضمن تهديدا ووعيدا بالعذاب الذي سيلقونه فى الدنيا والآخرة - قفّى على ذلك ببيان أن بعض هذا العذاب ستراه(11/114)
ج 11 ، ص : 115
أيها الرسول الكريم وتقرّ عينك برؤيته ، وبعض آخر سيكون لهم يوم الجزاء ، وهو عليم بما فعلوه فيجازيهم به قدر ما يستحقون.
الإيضاح
(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أي وإن أريناك بعض ما نعدهم من العقاب فى الدنيا ، فذاك الذي يستحقونه وهم له أهل ، وقد أراه ما نزل بهم من القحط والمجاعة بدعائه صلى اللّه عليه وسلم عليهم ، ونصره عليهم نصرا مؤزّرا فى أول معركة هاجمه بها رؤساؤهم وصناديدهم وهى غزوة بدر فقتلّهم وشرّدهم شر تقتيل وتشريد ، وكذلك فعل بهم صلى اللّه عليه وسلم فى غيرها من الغزوات حتى فتح عاصمتهم أمّ القرى ودخل الناس فى الدين أفواجا.
(أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) أي أو نتوفينك هم قبل أن نريك ذلك فيهم فمصيرهم بكل حال إلينا ، وآنئذ سيلقون من الجزاء ما يعلمون به صدق وعيدنا.
(ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) فيجزيهم به على علم وشهادة حق.
وقد جاء بمعنى الآية قوله : « فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ » وقوله. « وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ » .
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) أي إنه تعالى رحمة بعباده وإزالة للحجة جعل لكل أمة من الأمم الخالية رسولا بعثه فيها وقت الحاجة إليه ، ليبين لهم ما يجب عليهم من الإيمان به وباليوم الآخر وما ينجيهم من العقاب فى ذلك اليوم وهو العمل الصالح الذي يكون سببا فى سعادتهم فى الدارين.
وفى الآية دليل على أن اللّه تعالى قد أرسل إلى كل جماعة من الأمم السالفة رسولا وما أهمل أمة قط ، ويدل على ذلك قوله : « وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ » وقوله : « وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا » وقوله : « رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ » .(11/115)
ج 11 ، ص : 116
(فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي فإذا جاء رسولهم وبلّغهم ما يجب عليهم معرفته من أمور دينه ، لم يبق لهم حينئذ عذر فى مخالفته ، فهنالك فى يوم الحساب يقضى اللّه تعالى بينهم بالعدل ولا يظلمون فى قضائه شيئا مما سيحل بهم من عذاب لا يكون ظلما لهم ، لأنه من قبل أنفسهم وهم الذين دنسوها بسيء الأعمال فاستحقوا على ذلك شديد العقاب.
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقول كفار قريش للرسول صلى اللّه عليه وسلم ومن اتبعه من المؤمنين مكذبين له فيما أخبرهم به من نزول العذاب بالأعداء والنصرة للأولياء : متى يقع هذا الوعد الذي تعدوننا به إن كنتم صادقين فى قولكم : إن اللّه تعالى سينتقم لكم منا وينصركم علينا : أي فى نحو ما جاء فى قوله :
« حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً » وقوله :
« قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً » .
وقد لقن اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم الجواب عن هذا السؤال بقوله :
(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) أي قل أيها الرسول لمن يستعجل الوعيد ويقول لك متى هذا الوعد. إنى بشر رسول لا أملك لنفسى فضلا عن غيرى شيئا من التصرف فى الضر فأدفعه عنها ، ولا شيئا من النفع فأجلبه لها من غير طريق الأسباب التي يقدر عليها غيرى ، وليس منها إنزال العذاب بالكفار المعاندين ولا بذل النصر والمعونة للمؤمنين ، لكن ما شاء اللّه تعالى من ذلك يكون متى شاء ولا شأن لى فيه ، لأنه خاص بمقام الربوبية دون الرسالة التي من وظيفتها التبليغ لا التكوين.
وقد جاء فى معنى الآية قوله : « قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » .(11/116)
ج 11 ، ص : 117
(لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي لكل أمة من الأمم الذين أصرّوا على تكذيب رسولهم أجل لعذابهم يحلّ بهم عند حلوله لا يتعداهم إلى أمة أخرى ، إذا جاء ذلك الأجل فلا يملك رسولهم من دون اللّه تعالى أن يقدمه ولا أن يؤخره ساعة عن الزمان المقدر له وإن قلّت.
قال فى فتح البيان : وفى هذا أعظم وازع وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجّيراه المناداة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو الاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا اللّه سبحانه وتعالى وكذلك من صار يطلب من الرسول صلى اللّه عليه وسلم ما لا يقدر على تحصيله إلا اللّه سبحانه وتعالى فإن هذا مقام رب العالمين الذي خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين ، ورزقهم وأحياهم فكيف يطلب من نبىّ من الأنبياء أو ملك من الملائكة أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه غير قادر عليه ويترك الطلب من رب الأرباب القادر على كل شىء الخالق الرازق المعطى المانع.
وحسبك ما فى الآية من موعظة ، فإن هذا سيد ولد آدم وخاتم الرسل يأمره اللّه بأنه يقول لعباده « لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً » فكيف يملكه لغيره ، وكيف يملكه غيره ممن رتبته دون رتبته ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته ؟ .
فيا عجبا لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين صاروا تحت أطباق الثرى ، ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا اللّه عزّ وجل ، كيف لا يتّعظون لما وقعوا فيه من الشرك ، ولا يتنبهون لما حل بهم من المخالفة لمعنى لا إله إلا اللّه ، ومدلول « قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ » .
وأعجب من هذا إطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء ولا ينكرون عليهم ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى ، بل إلى ما هو أشد منها ، فإن أولئك يعترفون بأن اللّه سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق ، المحيي المميت ، الضار النافع ، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند اللّه ومقربين لهم إليه وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على(11/117)
ج 11 ، ص : 118
الضر والنفع وينادونهم تارة على الاستقلال وتارة مع ذى الجلال (وكفاك من شر سماعه) واللّه ناصر دينه ومطهّر شريعته من أوضار الشرك وأدناس الكفر.
وقد توسل الشيطان أخزاه اللّه تعالى بهذه الذريعة إلى ما تقرّ به عينه ويثلج به صدره من كفر كثير من هذه الأمة المباركة « وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً » إنّا للّه وإنّا إليه راجعون اه.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً) أي قل لهم أيها الرسول : أخبرونى عن حالكم وما يمكنكم أن تفعلوه إن أتاكم عذا به الذي تستعجلون به فى وقت مبيتكم بالليل أو وقت اشتغالكم بلهوكم ولعبكم أو بأمور معاشكم بالنهار.
(ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) أي أىّ نوع من العذاب يستعجل منه المجرمون الكذابون ؟ أ عذاب الدنيا أم عذاب يوم القيامة ؟ وأيا ما استعجلوا فهو حماقة وجهالة.
(أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) أي أ يستعجل مجرموكم بالعذاب الذين هم أحق بالخوف منه بدل الإيمان الذي يدفعه عنهم ثم إذا وقع بالفعل آمنتم به حين لا ينفع الإيمان ، إذ هو قد صار ضروريا بالمشاهدة والعيان ، لا تصديقا للرسول عليه السلام.
(آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) أي وقيل لكم على سبيل التوبيخ آلآن آمنتم به اضطرارا ، وقد كنتم به تستعجلون تكذيبا به واستكبارا.
(ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي ثم قيل للذين ظلموا أنفسهم بالكفر بالرسالة والوعد والوعيد تجرعوا عذاب اللّه الدائم لكم أبدا بحيث لا فناء له ولا زوال.
ثم بين أن هذا العذاب جزاء ما صنعوا فى الدنيا فقال :
(هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ؟ ) أي لا تجزون إلا بما كنتم تكسبون باختياركم من الكفر والظلم والفساد فى الأرض والعزم على الثبات عليه وعدم التحول عنه ، وليس فى هذا الجزاء شىء من الظلم ، لأنه أثر لازم لما عملوا فلم يعودوا أهلا للكرامة وجوار المولى فى جنة الخلد.(11/118)
ج 11 ، ص : 119
(وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ؟ ) أي ويسألونك أيها الرسول أن تنبئهم عن هذا العذاب الذي تعدهم به فى الدنيا والآخرة أحق إنه سيقع جزاء على ما كنا نكسبه من المعاصي فى الدنيا ، أم هو إرهاب وتخويف فحسب ؟ .
(قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) إي بكسر الهمزة وسكون الياء كلمة يجاب بها عن كلام سبق بمعنى نعم ، وأعجزه الأمر : فاته ، أي نعم أقسم لكم بربي إنه لحق واقع ماله من دافع ، وما أنتم بواجدى من يوقع العذاب بكم عاجزا عن إدراككم وإيقاعه بكم.
وخلاصة ذلك - إنه حين ينزل بكم عذابه لستم بفائتيه سبحانه بهرب أو امتناع بل أنتم فى قبضته وسلطانه ، إذا أراد فعل ذلك بكم فاتقوه فى أنفسكم أن يحل بكم غضبه.
روى أحمد والشيخان عن أنس قال : « بينما نحن مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى المسجد إذ دخل رجل على جمل فأناخه فى المسجد ثم عقله ثم قال : أيكم محمد ؟
قلنا هذا الرجل الأبيض المتكئ ، فقال : أبن عبد المطلب ؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم قد أجبتك ، فقال إنى أسألك فمشدّد عليك فى المسألة فلا تجد علىّ فى نفسك ، قال سل ما بدا لك ، فقال أسألك بربك ورب من قبلك : آللّه أرسلك إلى الناس كلهم ؟
قال : اللهم نعم ، قال : أنشدك اللّه : آللّه أمرك أن تصلى الصلوات الخمس فى اليوم والليلة ؟ قال : اللهم نعم ، قال : أنشدك اللّه : آللّه أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة ؟
قال : اللهم نعم قال أنشدك اللّه ، آللّه أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا ؟ قال : اللهم نعم ، قال آمنت بما جئت به ، وأنا رسول من ورائي من قومى ، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بنى سعد بن بكر » .
و
فى رواية أحمد أنه قال أيضا : « آللّه أمرك أن تأمرنا أن نعبده ولا نشرك به شيئا وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدونها معه ؟ قال : اللهم نعم ، وأنه كان أشعر داغديرتين وأن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : إن صدق ذو العقيصتين يدخل الجنة » .
وذكر أنه خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن قال :(11/119)
ج 11 ، ص : 120
بئست اللات والعزّى ، قالوا مه (أي كفّ عن هذا!) يا ضمام ، اتق البرص والجذام ، اتق الجنون ، قال : ويلكم إنهما واللّه ما يضرّان ولا ينفعان ، إن اللّه قد بعث إليكم رسولا وأنزل كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه ، وأنى أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه ، فو اللّه ما أمسى فى ذلك اليوم فى حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما.
ثم ذكر ما فى هذا اليوم من الأهوال فقال :
(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) أي ولو أن لكل نفس كفرت باللّه - جميع ما فى الأرض من أنواع الملك وصنوف النعم وأمكنها أن تجعله فداء لها من ذلك العذاب الأليم الذي تعانيه - لافتدت به ولم تدّخر منه شيئا.
(وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) إسرار الشيء : إخفاؤه وكتمانه ، وإسرار الحديث : خفض الصوت به ، والندم والندامة : ما يجده الإنسان فى نفسه من الألم والحسرة عقب كل فعل يظهر له ضرره ، وقد يجهر به بالكلام كما قال تعالى :
«
يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ » أو يخفيه ويكتمه حين لا يجد فائدة من إعلانه أو اتقاء للشّماتة أو الإهانة. أي وأسر أولئك الذين ظلموا غمّهم وأسفهم على ما فعلوا من الظلم حين معاينة العذاب بأبصارهم إذ برزت لهم نار جهنم وأيقنوا أنهم مواقعوها لا مصرف لهم عنها ، فما مثلهم إلا مثل من يقدّم للصلب يثقله ما نزله به من الخطب الجلل ، ويغلب عليه الحزن الفادح فيخرسه ، ولا يستطيع أن ينطق ببنت شفة ويبقى جامدا مبهوتا لا حراك به.
ثم بين أنه لا ظلم اليوم فقال :
(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي وقضى اللّه بينهم وبين خصومهم بالحق والعدل ، وخصومهم هم الرسل والمؤمنون بهم ، وكذلك من أضلّوهم وظلموهم من المرءوسين والضعفاء الذين كانوا يغرونهم بالكفر ويصدّونهم عن الإيمان.
وجاء فى معنى هذه الآية قوله فى سورة سبأ « وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ » وقوله :(11/120)
ج 11 ، ص : 121
َوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً »
وقوله :
« وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا » .
ثم أتبع ما تقدم بالدليل على قدرته على إنفاذ حكمه وإنجاز وعده ، وكون الظالمين لا يعجزونه ولا يستطيعون منه مهربا فقال :
(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه تعالى مالك السموات والأرض وكل من فيهما من العقلاء وغيرهم ، فليس للكافرين به شىء يملكونه فيفتدون به أنفسهم من ذلك العذاب ، بل الأشياء كلها للّه الذي إليه عقابهم جزاء ما كسبت أيديهم.
والخلاصة - فليتذكر من نسى ، وليتنبّه من غفل ، وليعلم من جهل ، أن للّه وحده جميع ما فى العوالم العلوية والعوالم الأرضية يتصرف فيها كيف يشاء ، ولا يملك أحد من دونه شيئا من التصرف والفداء ، فى يوم البعث والجزاء.
ثم أكد ما سلف بقوله :
(أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي إن كل ما وعد به على ألسنة رسله حق لا ريب فيه ، لأنه وعد المالك القادر على كل شىء ولا يعجزه شىء ، ولكن أكثر الكفار منكرى البعث والجزاء لا يعلمون أمر الآخرة لغفلتهم عنها وقصور أنظارهم عن الوصول إلى ما يكون فيها.
ثم أقام الدليل على قدرته على ذلك فقال :
(هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي إنه تعالى هو المحيي المميت ، لا يتعذر عليه فعل ما أراد من الإحياء والإماتة ، ثم إليه ترجعون حين يحييكم بعد موتكم ويحشركم إليه للحساب والجزاء بأعمالكم.(11/121)
ج 11 ، ص : 122
[سورة يونس (10) : الآيات 57 الى 58]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
تفسير المفردات
العظة : الوصية بالحق والخير ، واجتناب الباطل والشر ، بأساليب الترغيب والترهيب التي يرقّ لها القلب ، فتبعث على الفعل أو الترك ، والشفاء : الدواء ، والهدى بيان الحق المنقذ من الضلال ، ويكون فى الاعتقاد بالحجة والبرهان ، وفى العمل ببيان المصالح والحكم ، والرحمة : الإحسان ، وفضل اللّه : هو توفيقهم لتزكية أنفسهم بالموعظة والهدى ، ورحمته : هى الثمرة التي نتجت من ذلك ، وبها فضلوا جميع الناس.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الأدلة على أسس الدين الثلاثة وهى الوحدانية والرسالة والبعث - قفى على ذلك بذكر التشريع العملي وهو القرآن الكريم ، وقد أجمل مقاصد هذا التشريع فى أمور أربعة :
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي قل لهم أيها الرسول : قد جاءكم كتاب جامع لكل ما تحتاجون إليه من المواعظ الحسنة التي تصلح أخلاقكم وأعمالكم ، والشفاء للأمراض الباطنية والهداية الواضحة للصراط المستقيم الذي يوصل إلى سعادة الدنيا والآخرة ، والرحمة الخاصة للمؤمنين من رب العالمين.
والخلاصة - إن الآية الكريمة أجملت إصلاح القرآن الكريم لأنفس البشر فى أربعة أمور :
(1) الموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب بذكر ما يرقّ له القلب فيبعثه على الفعل أو الترك.(11/122)
ج 11 ، ص : 123
وقد جاء فى معنى الآية قوله : « وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ » وقوله : « هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ » .
(2) الشفاء لما فى القلوب من أدواء الشرك والنفاق وسائر الأمراض التي يشعر من أحبّها بضيق الصدر كالشك فى الإيمان والبغي والعدوان وحب الظلم وبغض الحق والخير.
(3) الهدى إلى طريق الحق واليقين والبعد من الضلال فى الاعتقاد والعمل.
(4) الرحمة للمؤمنين وهى ما تثمر لهم هداية القرآن وتفيضه على قلوبهم ، ومن آثارها بذل المعروف وإغاثة الملهوف وكف الظلم ومنع التعدي والبغي.
وإجمال ذلك - إن موعظة القرآن وشفاءه لما فى الصدور من أمراض الكفر والنفاق وجميع الرذائل وهداه إلى الحق والفضائل موجّهات إلى أمة الدعوة وهم جميع الناس ، والمؤمنون قد اختصّوا بما تثمره هذه الصفات الثلاث من الرحمة لأنهم هم الذين ينتفعون بها.
ثم أمر اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يبلغ المؤمنين بأنه يحق لهم أن يفرحوا بفضل اللّه عليهم بنعمة الإيمان وبالرحمة الخاصة بهم الجامعة لكل ما ذكر قبلها من مقاصد الشريعة فقال :
(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) أي قل لهم ليفرحوا بفضل اللّه وبرحمته أي إن كان شىء فى الدنيا يستحق أن يفرح به فهو فضل اللّه ورحمته.
روى ابن مردويه وأبو الشيخ عن أنس مرفوعا « فضل اللّه القرآن ، ورحمته أن جعلكم من أهله » .
وعن الحسن والضحاك وقتادة ومجاهد « فضل اللّه الإيمان ، ورحمته القرآن » .
(هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي إن الفرح بهما أفضل وأنفع مما يجمعونه من الذهب والفضة والأنعام والحرث والخيل المسومة وسائر خيرات الدنيا ، لأنه هو سبب السعادة فى الدارين. وتلك سبب السعادة فى الدنيا الزائلة فحسب. فقد نال المسلمون فى العصور(11/123)
ج 11 ، ص : 124
الأولى بسببه الملك الواسع والمال الكثير مع الصلاح والإصلاح مما لم يتسنّ لغيرهم من قبل ولا من بعد.
وبعد أن جعلوا ديدنهم جمع المال ومتاع الدنيا ووجهوا همتهم إليه وتركوا هداية القرآن فى إنفاقه والشكر عليه ذهبت دنياهم من أيديهم إلى أيدى أعدائهم.
[سورة يونس (10) : الآيات 59 الى 60]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60)
المعنى الجملي
بعد أن أقام سبحانه وتعالى الأدلة العقلية على إثبات الوحى والرسالة - قفى على ذلك بذكر فعل من أفعالهم لا ينكرونه ولا يجادلون فى وجوده وهو يثبت صحة وجودهما.
ذاك أن التشريع بالتحليل والتحريم هو حق اللّه تعالى وحده وأن الأصل فى الأرزاق وسائر الأشياء التي ينتفع بها الإباحة ، فتحريم بعض الأشياء وتحليل بعض إما بأمره تعالى بوساطة رسله وأنتم تنكرونه وتزعمون أنه محال ، وإما بالافتراء على اللّه وهو الذي يلزمكم بإنكار الأول ، إذ لا واسطة بينهما.
الإيضاح
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا) أي قل لهؤلاء المشركين : أخبرونى أيها الجاحدون للوحى والرسالة - أ هذا الذي أفاضه اللّه عليكم من فضله وإحسانه من رزق تعيشون به من نبات وحيوان ، فجعلتم بعضه حراما وبعضه حلالا وقد تقدم تفصيل ذلك فى سورة الأنعام فقال « وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ(11/124)
ج 11 ، ص : 125
وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا »
إلخ وقوله فى سورة المائدة :
« ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ » .
(قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) أي قل لهم إن حق التحريم والتحليل لا يكون إلا للّه ، فهل اللّه هو الذي أذن لكم بذلك بوحي من عنده ؟ أم أنتم على اللّه تفترون بزعمكم أنه حرم ما حرمتم وحلّل ما حلّلتم.
والخلاصة - إنه لا مندوحة لكم من الاعتراف بأحد الأمرين ، إما دعوى الإذن من اللّه لكم بالتحريم والتحليل ، وذلك اعتراف بالوحى ، وأنتم تنكرونه وتزعمون أنه محال ، وإما الافتراء على اللّه وهو الذي يلزمكم إذا أنكرتم الأول.
وبعد أن سجل سبحانه وتعالى عليهم جريمة افتراء الكذب على اللّه ، قفى عليه بالوعيد مع الإيماء إلى ما يكون من سوء حالهم وشدة عقابهم يوم القيامة فقال :
(وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أىّ شىء ظنهم فى ذلك اليوم الذي تجزى فيه كل نفس ما عملت ؟ أ يظنون أنهم يتركون بلا عقاب على جريمة افتراء الكذب على اللّه وتعمده فيما هو خاص بربوبيته ونزاع له فيها وشرك به كما قال : « أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ » وقال : « وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ » .
(إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أي إن اللّه ذو فضل على الناس فى كل ما خلقه لهم من الرزق ، وكل ما شرع لهم من الدين ، ومن ذلك أن جعل الأصل فيما أنزله إليهم من الرزق الإباحة ، وأن جعل حق التحريم والتحليل له وحده كيلا يتحكم فيهم أمثالهم من عباده كمن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه ، وهو سبحانه لم يحرم عليهم إلا ما كان ضارّا بهم ، وحصر محرمات الطعام فى أمور معينة.(11/125)
ج 11 ، ص : 126
(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) ذلك الفضل كما يجب كما قال تعالى : « وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ » ومن ثم تراهم يحرّمون ما لم يحرمه اللّه ويكفرون نعمه فيغالون فى الزهد وترك الزينة والطيبات من الرزق ، أو يسرقون فى الأكل والشرب والزينة ابتغاء الشهرة والتكبر على الناس ، مع أن الإسلام يأمر بالاعتدال كما قال تعالى :
« لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ » .
أخرج أحمد عن أبى الأحوص عن أبيه قال : « أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا رثّ الهيئة فقال : هل لك مال ؟ . قلت : نعم ، قال : من أىّ المال ؟ قلت :
من كل المال ، من الإبل والرقيق والخيل والغنم. فقال : إذا آتاك اللّه مالا فلير أثر نعمته عليك وكرامته » .
و
أخرج البخاري والطبراني عن زهير بن أبى علقمة مرفوعا « إذا آتاك اللّه مالا فلير عليك ، فإن اللّه يحب أن يرى أثره على عبده حسنا ، ولا يحب البؤس ولا التباؤس » .
[سورة يونس (10) : آية 61]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61)
تفسير المفردات
الشأن : الأمر العظيم ، وجمعه شئون ، تقول العرب : ما شأن فلان ، أي ما حاله ، وأفاض فى الشيء أو من المكان : اندفع فيه بقوة أو بكثرة ، وعزب الرجل بإبله يعزب أي بعد وغاب فى طلب الكلأ ، والذرة : النملة الصغيرة ، وبها يضرب المثل فى الصغر(11/126)
ج 11 ، ص : 127
والخفة ، وتطلق على الدقيقة من الغبار الذي يرى فى ضوء الشمس الداخل من الكوى إلى البيوت ، والكتاب : هو اللوح المحفوظ.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فى سابق الآيات أن فضله على عباده كثير ، وأن الواجب عليهم أن يشكروه بدوام طاعته وترك معصيته ، وأن القليل منهم هم الشاكرون - قفى على ذلك بتذكيرهم بإحاطة علمه بشئونهم وأعمالهم ما دق منها وما عظم فى جميع ملكوت السموات والأرض حتى يحاسبوا أنفسهم على تقصيرهم فى ذكره وشكره وعبادته.
الإيضاح
(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) أي وما تكون أيها الرسول الكريم فى أمر من أمورك الهامة ، خاصة كانت أو عامة مما تعالج بها شئون الأمة بدعوتها إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، إنذارا لها وتبشيرا وتعليما وعملا.
(وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) أي وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن أنزل عليك تعبدا به أو تبليغا له.
وفى التعبير بالشأن وهو الأمر ذو البال دلالة على أن جميع أموره صلى اللّه عليه وسلم كانت عظيمة حتى ما كان منها من مجرى العادات ، لأنه صلى اللّه عليه وسلم كان فيها قدوة صالحة.
وبعد أن خاطب رسوله صلى اللّه عليه وسلم - انتقل إلى خطاب الأمة كلها فى شئونها وأعمالها فقال :
(وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) أي ولا تعملون(11/127)
ج 11 ، ص : 128
أىّ عمل ، خيرا كان أو شرا ، شكرا كان أو كفرا ، وإن كان كمثقال الذرة ، إلا كنا رقباء عليكم إذ تخوضون فيه ، فنحفظه عليكم ونجازيكم به.
(وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي وما يبعد عن علمه ولا يخفى عليه أقل شىء يبلغ وزنه ثقل ذرة فى الوجود السفلى والعلوي.
وفى التعبير بالإفاضة دليل على أن ما يفيض الإنسان مهتمّا به مندفعا فيه - جدير بألا يغفل عن مراقبة ربه فيه واطلاعه عليه ، وكذلك فى التعبير بيعزب الدالّ على الخفاء والبعد دليل على أن ما شأنه أن يغيب ويبعد عنا من أعمالنا لا يغيب عن علمه تعالى ، وقدم ذكر الأرض لأن الكلام مع أهلها.
ثم أكد سبحانه ما سبق وبيّن إحاطة علمه بكل شىء فقال :
(وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي ولا شىء أصغر من الذرة مما لا تبصرونه من دقائق الكون وخفاياه ، ولا أكبر من ذلك وإن عظم مقداره كعرشه تعالى ، إلا وهو معلوم له ومحصى عنده فى كتاب عظيم الشأن وهو الكتاب الذي كتب فيه مقادير الموجودات كلها إكمالا للنظام وبيانا لضبط جميع الأعمال.
وفى معنى الآية قوله : « فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ. وَما لا تُبْصِرُونَ » .
وفى ذلك إشارة إلى أن فى الوجود أشياء لا تدركها الأبصار. وقد أثبت العلم الحديث بوساطة الآلات التي تكبّر الأشياء أضعافا مضاعفة (المكروسكوبات) أن هناك أشياء لا يمكن رؤيتها إلا إذا كبرت عن حقيقتها آلاف المرات كالجراثيم (المكروبات) ولم تكن تخطر على البال فى عصر التنزيل ، وقد ظهرت للناس الآن فهى من روائع الإعجاز العظيمة الدالة على أنه من كلام العليم الخبير.(11/128)
ج 11 ، ص : 129
[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 64]
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
تفسير المفردات
الأولياء : جمع ولىّ من الولي : وهو القرب يقال تباعد بعد ولى : أي بعد قرب ، وأولياء اللّه هم المؤمنون المتقون ، والبشرى : هى الخبر السارّ الذي تنبسط به بشرة الوجه فتتهلل وتبرق أساريره.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه لعباده سعة علمه ، ومراقبته لعباده ، وإحصاء أعمالهم وجزاءهم عليها ، وذكّرهم بما يجب عليهم من شكره على تفضله عليهم - ذكر هنا حال الشاكرين المتقين الذين لهم حسن الجزاء يوم القيامة.
الإيضاح
(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن أولياء اللّه الذين يتولونه بإخلاص العبادة له وحده والتوكل عليه ولا يتخذون له أندادا يحبونهم كحبه ، ولا يتخذون من دونه وليا ولا شفيعا يقربهم إليه زلفى - لا خوف عليهم - فى الآخرة مما يخاف منه الكفار والفساق والظالمون من أهوال الموقف وعذاب الآخرة كما قال تعالى « لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ » ولا هم يحزنون من لحوق مكروه أو ذهاب محبوب ، ولا يعتريهم ذلك فيها ، لأن مقصدهم نيل رضوان اللّه المستتبع للكرامة والزلفى ، ولا ريب فى حصول ذلك ولا خوف من فواته بموجب الوعد الإلهى.(11/129)
ج 11 ، ص : 130
وكذلك فى الدنيا لا يخافون مما يخاف منه غيرهم من الكفار وضعفاء الإيمان وعبيد الدنيا من مكروه يتوقع كما قال تعالى : « فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » .
(الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) التقوى - هى اتقاء كل ما لا يرضى اللّه من ترك واجب وفعل محرم ، واتقاء مخالفة سنن اللّه تعالى فى خلقه من أسباب الصحة والقوة والنصر والعزة وسيادة الأمة ، أي أولياء اللّه الذين جمعوا بين الإيمان الصحيح باللّه وملائكته وكتبه ، وملكة التقوي له عز وجل وما تقتضيه من عمل.
َهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ)
أي لهم البشرى فى الحياة الدنيا بالنصر وحسن العاقبة فى كل أمر - وباستخلافهم فى الأرض ما أقاموا شرع اللّه وسننه ونصروا دينه وأعلوا كلمته ، وبإلهام الحق والخير كما
ورد من حديث ابن مسعود مرفوعا عند الترمذي والنسائي « إن للشيطان لمّة بابن آدم وللملك لمّة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من اللّه ، فليحمد اللّه تعالى ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان »
وفى الآخرة بما أشارت إليه الآية الكريمة : « إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا ، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ » .
تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ)
أي لا تغيير ولا خلف فى مواعيده تعالى ، ومن جملتها بشارة المؤمنين المتقين بجنات النعيم والخير العميم.
لِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
أي ذلك الذي ذكر من البشرى بسعادة الدارين هو الفوز الذي ليس بعده فوز ، لأنه ثمرة الإيمان الحق والتقوى فى حقوق اللّه وحقوق الخلق.(11/130)
ج 11 ، ص : 131
[سورة يونس (10) : الآيات 65 الى 67]
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
تفسير المفردات
العزة : الغلبة والقوة ، والخرص : الحزر والتقدير للشىء الذي لا يجرى على قياس من وزن أو كيل أو زرع كحرص الثمر على الشجر والحب فى الزرع ، ويستعمل بمعنى الكذب أيضا لأنه يغلب فيه الحزر والتخمين ، والمبصر : ذو الإبصار ، تقول العرب :
أظلم الليل وأبصر النهار وأضاء.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه لرسوله صلى اللّه عليه وسلم صفة أوليائه وما بشرهم به ووعدهم فى الدنيا والآخرة ، وفى هذا إيماء إلى الوعد بنصره ونصر من آمن به من أوليائه وأنصار دينه على ضعفهم وفقرهم ، وكان أعداؤهم يغترون بقوتهم فى مكة بكثرتهم ، وكانوا لغرورهم بها يكذبون بوعد اللّه ، وكان ذلك مما يحزنه كما قال : « قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ » .
قفّى على ذلك بتسليته له صلى اللّه عليه وسلم على ما يلقاه من أذى أعدائه ، وتبشيره بالنصر والعزة والوعيد لأعدائه.(11/131)
ج 11 ، ص : 132
الإيضاح
(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) أي لا تحزن لقولهم ولا تبال بما يتفوّهون به فى شأنك مما لا خير فيه.
(إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) أي لأن الغلبة والقهر للّه تعالى لا يملك أحد من دونه شيئا منها ، فهو يهبها لمن يشاء ويحرمها من يشاء وليست للكثرة دائما كما يدعون « كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ » وقد وعد اللّه بها رسله والذين آمنوا بهم واتبعوهم من أوليائه كما قال : « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ » وقال :
« وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ » .
(هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي هو السميع لما يقولون من تكذيب بالحق وادعاء للشرك فيكافئهم على ذلك ، وهو العليم بما يفعلون من إيذاء وكيد ، فهو مذلّهم ومحبط أعمالهم.
ثم أقام الدليل على كون العزة للّه جميعا وكون الجزاء بيده فقال :
(أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي ألا إن للّه كل من فى السموات والأرض عبيدا مملوكين له ، لا مالك لشىء من ذلك سواه ، فكيف يكون إلها معبودا ما يعبده هؤلاء المشركون من الأوثان والأصنام ، والعبادة للمالك دون المملوك ، وللرب دون المربوب.
ثم بين أنه لا شريك له أبدا.
(وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ) أي إن هؤلاء المشركين الذين يعبدون غير اللّه تعالى بدعائهم فى الشدائد واستغاثتهم فى النوازل والتقرب إليهم بالقرابين والنذور - لا يتبعون شركاء له فى الحقيقة يدبرون أمور العباد ويكشفون الضر عنهم ، إذ لا شريك له.
ثم أكد ما سلف وزاده بيانا فقال :
(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي ما يتبعون فى الحقيقة فيما يقولون(11/132)
ج 11 ، ص : 133
إلا الظن فى دعواهم أنهم أولياء للّه وشفعاء عنده ، فهم يقيسونه على ملوكهم الظالمين المتكبرين الذين لا يصل إليهم أحد من رعاياهم إلا بوسائل حجّابه ووزرائه ووسائطه.
ثم زاد ذلك توكيدا بقوله :
(وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي وما هم فى اتباع هذا الظن الذي لا يغنى من الحق شيئا إلا متخرصون قائلون بغير علم بما يقولون.
والخلاصة - إنهم إنما اتبعوا ظنونهم الفاسدة وأوهامهم الباطلة ، فقاسوا الرب فى تدبير أمور عباده على الملوك ، وجهلوا أن أفعاله تعالى إنما تجرى بمقتضى مشيئته الأزلية وفق علمه الذاتي وحكمته البالغة العادلة ، وأن جميع أوليائه وأنبيائه وملائكته عبيد مملوكون له : « أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً » أي إن أقرب أولئك الذين يدعونهم ويتوسلون إليه بهم كالمسيح والملائكة ومن دونهم - يتوسلون إليه راجين خائفين لا كأعوان الملوك الذين لا ينتظم أمر ملكهم بدونهم.
ثم أقام البرهان على مضمون ما قبله من نفى الشركاء له فى الخلق والتقدير ، والشفعاء عنده حين التصرف والتدبير فقال :
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي هو الذي جعل لكم الوقت قسمين بمقتضى علمه ومشيئته بدون مساعد ولا شفيع ، فجعل الليل مظلما لأجل أن تسكنوا فيه بعد طول التعب والنصب والحركة للمعاش ، وجعل النهار مضيئا ذا إبصار لتنتشروا فى الأرض وتقوموا بجيمع أعمال العمران والكسب والشكر للرب. وقد جاء بمعنى الآية قوله تعالى : « وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ » .
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي إن فى اختلاف الليل والنهار وحال أهلهما فيهما لدلائل وآيات على أن المعبود بحق هو الذي خلق الليل والنهار وخالف بينهما -(11/133)
ج 11 ، ص : 134
لقوم يسمعون ما يتلى عليهم من التذكير بحكمته تعالى ووجه النعمة فى ذلك ، سماع تدبر وعظة لما يسمع.
وقد جاء بمعنى الآية قوله تعالى : « قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » .
[سورة يونس (10) : الآيات 68 الى 70]
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
تفسير المفردات
الولد : يستعمل مفردا وجمعا ، وقد يجمع على أولاد وولدة وإلدة بالكسر فيهما ، وسبحان كلمة تنزيه وتقديس ، وتستعمل للتعجب ، والسلطان : الحجة والبرهان.
المعنى الجملي
بعد أن حكى سبحانه وتعالى أن من المشركين من اتخذوا الأوثان والأصنام شفعاء عنده - قفى على ذلك بذكر ضرب آخر من أباطيلهم ، وهو زعمهم أنه تعالى جدّه اتخذ ولدا ، وتلك مقالة اشترك فيها المشركون واليهود والنصارى على السواء.(11/134)
ج 11 ، ص : 135
الإيضاح
(قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) أي وقال المشركون : الملائكة بنات اللّه ، وقالت اليهود عزير ابن اللّه ، وقالت النصارى المسيح ابن اللّه.
(سُبْحانَهُ) أي تنزه ربنا عما لا يليق بربوبيته وألوهيته ، ويمكن أن يكون المعنى - عجيب أن تصدر منهم تلك الكلمة الحمقاء.
ثم أكد هذا التنزيه بقوله :
(هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إن اللّه غنى عن خلقه جميعا ، فإن كل ما فى الوجود من العالم العلوي والسفلى ملك له ولا حاجة له إلى شىء منه وجميعه فى حاجة إليه ، ولا يجانسه شىء منه ، فالإنسان يحتاج إلى الولد إما للنصرة والمعونة وإما للاعتزاز به لدى الأهل والعشيرة ، وإما لأنه زينة يلهو به فى صغره ويفخر به فى كبره ، وإما للحاجة إليه فى قضاء مصالحه أو لانتظار رفده وبره حين عجزه أو فقره ، وإما لبقاء ذكره بعد موته ، واللّه غنىّ عن كل ذلك ، ولا حاجة له إلى شىء من هذه المنافع فهو مستغن أزلا وأبدا.
(إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) أي ليس عندكم من الدلائل والبراهين ما يؤيد صحة هذا القول الذي تقولونه بلا علم ولا وحي إلهى.
ثم أكد ما سلف بقوله : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أ تقولون على اللّه قولا لا تعلمون حقيقته وتنسبون إليه تعالى ما لا يجوز إضافته إليه ، ولا سيما بعد مجىء ما ينقضه من الأدلة العقلية والوحى الإلهى.
وفى الآية إيماء إلى أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة ، وأن العقائد الدينية لا بد فيها من دليل قاطع ، وأن التقليد فيها غير سائغ.
(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) أي قل لهم إن الذين يفترون على اللّه الكذب بنسبة الشركاء إليه ، أو باتخاذه ولدا لنفسه أو بدعوى أن(11/135)
ج 11 ، ص : 136
الأولياء يطلعون على أسرار خلقه ويتصرفون فى ملكه ، لا يفوزون بالتمتع بالنعيم بشفاعة الولد أو الشركاء الذين اتخذوهم له تعالى ، ولا ينجون من عذاب الآخرة.
(مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي هؤلاء لهم متاع فى الدنيا حقير يتلهّون به فى حياة قصيرة هى الحياة الدنيا ، إذ مهما يبلغ هذا المتاع من العظمة ككثرة مال أو عظم جاه فهو قليل بالنسبة إلى ما عند اللّه فى الآخرة للصادقين المتقين - ثم يرجعون إلى ربهم بالبعث بعد الموت وما فيه من أهوال الحشر والحساب ، فيذيقهم العذاب الشديد بسبب كفرهم بآياته وبالافتراء عليه وتكذيب رسله بعد أن قامت عليهم الحجة.
وفى الآية إيماء إلى أن ما يظن أنه فلاح بالحصول على منافع الدنيا المادية والمعنوية فهو لا يعتد به بالنسبة إلى ما عند اللّه من حظ عظيم ، ونعيم مقيم.
[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 73]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
تفسير المفردات
النبأ : الخبر له خطر وشأن ، والمقام : الإقامة والمكث ، والإجماع العزيمة على الأمر عزما لا تردد فيه كما قال شاعرهم :(11/136)
ج 11 ، ص : 137
أجمعوا أمرهم بليل فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
والغمة : الستر واللبس ، يقال إنه لفى غمة من أمره : إذا لم يهتد له ، وقضاء الأمر :
أداؤه وتنفيذه ، قال تعالى « فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ » . والإنظار : التأخير والإمهال ، خلائف ، أي يخلفون الذين هلكوا بالغرق ، المنذرون : المخوّفون باللّه وعذابه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه عناد المشركين لرسوله صلى اللّه عليه وسلم وتكذيبهم له بعد أن قامت البراهين على صدقه - قفى على ذلك بذكر أقوام الرسل قبله تسلية له صلى اللّه عليه وسلم وبيانا بأن قومه لم يكونوا بدعا فى عنادهم وتكذيبهم له بل سبقهم فى مثل فعلهم كثير من سالفى الأمم وكانت العاقبة فوز الرسل عليهم ، وأتم اللّه لهم النصر ، فلعل أولئك القوم يتدبرون حالهم فينزجروا بما فيه مزدجر لهم ويعترفوا بصدقه صلى اللّه عليه وسلم ويؤمنوا به قبل أن تفوت الفرصة السانحة فيندمون ، ولات ساعة مندم.
الإيضاح
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ) أي واقرأ أيها الرسول على المشركين من أهل مكة وغيرهم فيما أوعدتهم به من عقاب اللّه لهم على مقتضى سننه فى المكذبين لرسله من قبلك - خبر نوح حين قال لقومه يا قوم إن كان قد شق عليكم قيامى فيكم بالدعوة إلى عبادة ربكم وتذكيرى إياكم بآياته الدالة على وحدانيته ووجوب عبادته - فإننى وقد وكلت أمرى إلى اللّه الذي أرسلنى واعتمدت عليه وحده بعد أن أديت رسالته بقدر طاقتى.
(فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) أي فأعدّوا أمركم واعزموا على ما تقدمون عليه فى أمرى مع شركائكم الذين تعبدونهم من دون اللّه كما أدعو ربى وأتوكل عليه.(11/137)
ج 11 ، ص : 138
(ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أي ثم لا يكن أمركم الذي تعتزمونه خفيّا عليكم فيه حيرة ولبس ، بل كونوا على بصيرة كيلا تتحولوا عنه.
(ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) أي ثم أدوا إلىّ ذلك الأمر بعد إجماعه واعتزامه ، وبعد استبانته التي لا غمة فيها ولا التباس بأن تنفذوه بالفعل بعد استيفاء مقدماته كلها ، ولا تمهلونى بتأخير هذا القضاء.
والخلاصة - إن نوحا طلب إلى قومه على كثرتهم وقوتهم أن يفعلوا ما استطاعوا من الإيقاع به ، مطالبة المدلّ ببأسه وقوته ، المعتصم بإيمانه بوعد ربه وتوكله عليه ، فأمرهم بإجماع أمرهم بصادق العزيمة وقوة الإرادة ، وأن يضموا إلى هذه القوة النفسية قوة الإيمان بشركائهم وآلهتهم ، وألا يكون فى أمرهم الذي أجمعوا عليه شىء من الغمة والخفاء الذي قد يوجب الوهن والتردد فى التنفيذ.
(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي فإن أعرضتم عن تذكيرى بعد دعائى إياكم وتبليغ رسالة ربى إليكم فلن يضرنى ، فإنى لم أسألكم على ما دعوتكم إليه أجرا ولا جزاءا ، وما جزاء عملى وثوابى إلا على ربى الذي أرسلني إليكم ، فهو يوفينى إياه ، آمنتم أو توليتم ، وأمرت أن أكون من المنقادين بالفعل لما أدعوكم إليه.
(فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أي فأصروا على تكذيبه بعد أن أقام عليهم الحجة بقوله وعمله على حقيقة دعوته ، فنجيناه هو ومن آمن معه فى السفينة التي كان يصنعها بأمرنا.
(وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أي وجعلنا الذين نجينا مع نوح فى السفينة خلائف فى الأرض من قومه الذين كذبوه بعد أن أنذرناهم فأغرقناهم وحقت عليهم كلمة ربك.
فانظر أيها الرسول بعين بصيرتك وعقلك كيف كانت عاقبة الذين أنذرهم رسولهم(11/138)
ج 11 ، ص : 139
وقوع عذاب اللّه بهم وأصروا على تكذيبه ، وهكذا تكون عاقبة من يصرّون على تكذيبك من قومك ، وعاقبة المؤمنين المتقين لك.
[سورة يونس (10) : آية 74]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
تفسير المفردات
الطبع على القلوب : هو عدم قبولها شيئا غير ما رسخ فيها واستحوذ عليها ، والمعتدى : المتجاوز حدود الحق والعدل اتباعا لهوى النفس وشهواتها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه قصص نوح مع قومه وبيّن عاقبة أمرهم حين كذبوه ونصر اللّه له عليهم ، بيّن هنا عبرة أخرى من عبر مكذبى الرسل وسنة من سننه فيهم ، عسى أن يعتبر بها أهل مكة فيعلموا أن للّه سننا لا تبديل فيها ولا تحويل فيتقوا مثل تلك العاقبة التي حلّت بمن قبلهم من المكذبين من قوم نوح وغيرهم ، واتقاؤه فى مكنتهم وهو بأيديهم يمكنهم أن يجتنبوه ويبتعدوا عن أسبابه كالكفر والاعتداء والظلم ونحوها.
الإيضاح
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي ثم بعثنا من بعد نوح رسلا مثله إلى أقوامهم الذين كانوا مثل قومه فى تكذيب رسلهم فقد أرسل هود إلى عاد ، وصالح إلى ثمود ، ولم يرسل رسول منهم إلى كل الأقوام الذين كانوا فى زمانه إلا شعيبا فإنه أرسل إلى قومه أهل مدين وإلى جيرانهم أصحاب المؤتفكة فقد كانوا متحدين معهم لغة ووطنا ، فجاء كل رسول منهم قومه بالحجج الدالة على صدقه فى رسالته بحسب ما يتسنى لهم فهمه من الأدلة العقلية والحسية.(11/139)
ج 11 ، ص : 140
(فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي فما استقام لقوم من أولئك الأقوام أن يؤمن المتأخر منهم بما كذب به المتقدم من قبل ممن كان مثله فى سبب كفره وهو استكبار الرؤساء وتقليد الدهماء.
(كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) أي مثل هذا الطبع وعلى ذلك النهج نطبع على قلوب المعتدين أمثالهم فى كل قوم كقومك إذ كانوا مثلهم فى اللجاج والعتوّ والاستكبار فى الأرض « وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا » .
[سورة يونس (10) : الآيات 75 الى 78]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78)
تفسير المفردات
الملأ : أشراف القوم الذين يجتمعون على رأى ، ولفته عن كذا : صرفه.
المعنى الجملي
أفردت قصة موسى وهارون مع فرعون وملئه وفصلت تفصيلا وافيا لما لها من شديد الخطر وعظيم الأثر ، إذ فيها من العبرة أن قوة الحق تثلّ العروش وتهدّ أركان الباطل وإن علا أصحابه ، فقد كان الفلج والظفر لموسى على ذلك الطاغية الذي قال أنا ربكم الأعلى ، وانتهى أمره بالغرق وصار مثلا للآخرين.(11/140)
ج 11 ، ص : 141
الإيضاح
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل صلوات اللّه عليهم موسى وهارون إلى فرعون مصر وأشراف قومه وخصهم بالذكر لأن قومهم القبط كانوا تبعا لهم يكفرون بكفرهم ويؤمنون بإيمانهم إن آمنوا ويرجعون إليهم فى إقامة المصالح والمهمات ، مؤيدين له بآياتنا التسع المبينة فى سورة الأعراف ، فأعرضوا عن الإيمان كبرا وعلوا مع علمهم بأن ما جاءا به هو الحق لما كانوا عليه من العلم بصناعة السحر ولكنهم كانوا راسخين فى الإجرام والظلم والفساد فى الأرض كما قال تعالى « وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ » .
(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) أي فلما جاءهم موسى بالحجج والبينات الدالة على الربوبية والألوهية قالوا من فرط عتوّهم وعنادهم : إن هذا لسحر واضح لمن رآه وعاينه.
(قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا ؟ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) أي قال لهم موسى على وجه الإنكار والتوبيخ : أ تقولون للحق الواضح الظاهر وهو أبعد الأشياء عن السحر الذي هو باطل حين جاءكم دون أن تتروّوا وتتدبروا فيه : إنه سحر وما ترونه بأعينكم من آيات اللّه وترجف له قلوبكم من عظمته لا يمكن أن يكون سحرا من جنس ما تعرفونه وتصنعونه بأيديكم ، وقد مضت سنة اللّه بأن السحرة لا يفوزون فى الأمور الهامة كالدعوة لدين ، والتأسيس لملك ، وذلك ما تتهموننى به على ضعفى وقوتكم ، فإن السحر شعوذة لا تلبث أن تفتضح وتزول.
وبعد أن أفحمهم بحجته ولم يجدوا ردّا مقنعا اضطروا إلى التشبث بذيل التقليد للآباء والأجداد ، وتلك حجة العاجز المضعوف فى رأيه ، ذى الخطل فى تصرفه ، فلم يكن منهم إلا تلك المقالة.(11/141)
ج 11 ، ص : 142
(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) أي قالوا له منكرين : ما جئتنا إلا لتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا من ديننا ، لنتبع دينك وتكون لك ولأخيك كبرياء الرياسة الدينية وما يتبعها من كبرياء الملك والعظمة الدنيوية التابعة لها فى أرض مصر كلها ، وما نحن بمتّبعين لكما اتباع إيمان وإذعان فيما يخرجنا من دين آبائنا الذي تدين به عامتنا ، وتتمتع بكبريائه خاصتنا ، وهم الملك وأشراف قومه.
والخلاصة - إنه لا غرض لك من تلك الدعوة إلا هذا وإن لم تعترف به وقد وجهوا الخطاب أوّلا لموسى لأنه هو الداعي لهم ، وأشركوا معه أخاه فى فائدة الدعوى والغرض منها وهى الكبرياء فى الأرض لأنهما سيشتركان فيها.
[سورة يونس (10) : الآيات 79 الى 82]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
المعنى الجملي
كانت الآيات الماضية فى ذكر الحوار بين موسى وفرعون - وهنا ذكر ما فعل فرعون فى مقاومة دعوة موسى لصدّ الناس عن اتباعه باعتبار أنه ساحر ، فأحضر السحرة ليقاوموا عمله ، ويتغلبوا عليه فيبطلوا حجته.(11/142)
ج 11 ، ص : 143
الإيضاح
(وَ قالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) أي قال لملئه بعد أن يئس من إلزامه بالقول : اعملوا على دفع حجته بالفعل ، فأتونى بكل ساحر عليم بفنون السحر ، حاذق ماهر فيها.
(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) أي فأتوا بهم فلما جاءوا قال لهم موسى هذه المقالة بعد أن خيّروه بين أن يلقى ما عنده أوّلا أو يلقوا ما عندهم كما جاء ذلك فى سورتى الأعراف وطه - ليظهر الحق ويبطل الباطل.
(فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) أي فلما ألقوا حبالهم وعصيّهم السحرية قال لهم موسى غير مكترث بهم ولا بما صنعوا : إن هذا الذي فعلتم وألقيتموه أمام النظّارة هو السحر ، لا ما جئت به من الآيات البينات من عند اللّه وقد سماه فرعون وملؤه سحرا.
(إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ) أي إن اللّه سيظهر بطلانه بما يظهره على يدىّ من المعجزة حتى يظهر للناس أنه صناعة لا آية خارقة للعادة ، وحجة واضحة على بطلان حجتى.
ثم علل ما قال ببيان سنن اللّه فى تنازع الحق والباطل والصلاح والفساد فقال :
(إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ، وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي إن اللّه لا يجعل عمل المفسدين صالحا للبقاء ، فيقوّيه بالتأييد الإلهى ويديمه ، بل يزيله ويمحقه ، ويثبت الحق الذي فيه صلاح الخلق وينصره على ما يعارضه ما يعارضه من الباطل بكلماته التكوينية ، وهى مقتضى إرادته التشريعية التي يوحيها إلى رسله ، ومن ثم سينصر موسى على فرعون وينقذ قومه من عبوديته.
(وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أي ولو كره كل من اتصف بالإجرام كفرعون وملئه.
[سورة يونس (10) : الآيات 83 الى 87]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)(11/143)
ج 11 ، ص : 144
تفسير المفردات
الذرية فى اللغة : صغار الأولاد ، وتستعمل فى الصغار والكبار عرفا ، والفتون :
الابتلاء والاختبار الشديد للحمل على الفعل أو الترك ، والمراد هنا الاضطهاد والتعذيب ، والعلو : القهر والاستبداد ، ومسلمين : أي مذعنين مستسلمين ، وتبوأ الدار : اتخذها مباءة ومسكنا يبوء ويرجع إليها كلما فارقها لحاجة ، والقبلة : ما يقابل الإنسان ويكون تلقاء وجهه ، ومنه قبلة الصلاة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما فعله فرعون لمقاومة دعوة سيدنا موسى - قفى على ذلك بذكر ما كان من بنى إسرائيل مع موسى توطئة لإخراجهم من أرض مصر.
الإيضاح
(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) أي إن إصرار فرعون وقومه على الكفر بموسى بعد خيبة السحرة وظهور حقّه على باطلهم ثم عزمه على قتله ، كما جاء فى قوله : « وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ » .(11/144)
ج 11 ، ص : 145
كل هذا أوقع الرعب والخوف فى قلوب بنى إسرائيل قوم موسى فما آمن له إلا ذرية من قومه ، وهم الأحداث والشبان وكانوا خائفين من فرعون وأشراف قومهم الجبناء المرائين الذين هم عرفاؤهم عند فرعون فيما يطلب منهم - أن يضطهدوهم ويعذبوهم ليرتدّوا عن دينهم.
(وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) أي وإن فرعون لشديد العتوّ قوى القهر فى أرض مصر فهو جدير بأن يخاف منه كما حكى اللّه عنه بقوله :
« وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ؟ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ » كما أنه من المسرفين المتجاوزين الحد فى الظلم والفساد بالقتل وسفك الدماء وغمص الحق واحتقار الخلق ، ومن ثم ادعى الربوبية واسترقّ أسباط الأنبياء.
(وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) أي وقال موسى لمن آمن من قومه وقد رأى خوفهم من الفتنة والاضطهاد : إن كنتم آمنتم باللّه حق الإيمان فعليه توكلوا ، وبوعده فثقوا إن كنتم مستسلمين مذعنين ، إذ لا يكون الإيمان يقينا إلا إذا صدّقه العمل وهو الإسلام ، وليس فى الآية دلالة على إيمان جميع قومه ، إذ الإيمان باللّه غير الإيمان لموسى المتضمن معنى الإسلام والاتباع الذي أشير إليه بقوله : « إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ » فهم قد طلبوا منه بعد ما نجاهم من الغرق أن يجعل لهم آلهة من الأصنام ثم اتخذوا العجل المصنوع وعبدوه.
(فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فقالوا على الفور ممتثلين أمره حين علموا أن إنجاز الوعد موقوف على ذلك : على اللّه توكلنا ، ودعوا بأن يحفظهم ربهم من فتنة القوم الظالمين.
ذاك أن التوكل على اللّه وهو أعظم علامات الإيمان لا يكمل إلا بالصبر على الشدائد ، والدعاء لا يستجاب إلا إذا كان مقرونا باتخاذ الأسباب بأن تعمل ما تسطيع عمله ، وتطلب إلى اللّه أن يسخّر لك ما لا تستطيع.(11/145)
ج 11 ، ص : 146
وخلاصة ما قالوا - ربنا لا تسلّطهم علينا فيفتنونا ، ولا تفتنا بهم فنتولى عن اتباع نبينا أو نضعف فيه فرارا من شدة ظلمهم لنا ، ولا تفتنهم بنا فيزدادوا كفرا وعنادا وظلما بظهورهم علينا ويظنوا أنهم على الحق ونحن على الباطل.
وقد دلت التجارب على أن سوء حال المؤمنين من ضعف أو فقر تجعلهم موضعا لافتتان الكفار بهم ، باعتقاد أنهم خير منهم كما جاء فى قوله : « وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ » ؟ .
(وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي وبحنا برحمتك فخلّصنا من أيدى القوم الكافرين قوم فرعون ، لأنهم كانوا يستعبدونهم ويستعملونهم فى المهن الحقيرة ، ومثل هذا قوله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم والدين آمنوا معه : « رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » .
(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) أي وقلنا لهما : اتخذا لقومكما بيوتا فى مصر تكون مساكن وملاجىء تعتصمون بها.
(وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي واجعلوا بيوتكم متقابلة فى وجهة واحدة.
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فيها متجهين إلى جهة واحدة ، لأن الاتحاد فى الاتجاه يساعد على اتحاد القلوب.
(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بحفظ اللّه إياهم من فتنة فرعون وملئه الظالمين لهم وتنجيتهم من ظلمهم.
وإنما خص موسى بالتبشير لأن بشارة الأمة وظيفة صاحب الشريعة ، وأشرك معه هرون فى أمر قومهما بالتبوؤ لأنه مما يتولاه الرؤساء بتشاور بينهم ، فهو تدبير عملى يقوم به هو ووزيره المساعد على تنفيذه.(11/146)
ج 11 ، ص : 147
[سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 89]
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89)
تفسير المفردات
الزينة : الحلل والحلىّ والأثاث والرياش والماعون ، والأموال : ما وراء ذلك من الذهب والفضة والأنعام والزروع ونحو ذلك ، والطّمس : الإزالة ، يقال طمس الأثر وطمسته الريح : إذا زال ، والشد على القلب : الطبع عليه وقسوته حتى لا ينشرح للإيمان.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه جبروت فرعون وملئه وخوف بنى إسرائيل من بطشهم وأنهم امتنعوا لأجل ذلك عن الإيمان ، إلا قليلا من شبانهم استجابوا لدعوة موسى بعد حثّ لهم وتحريض على الإيمان وطلب موسى من بنى إسرائيل أن يتخذوا بيوتا لهم بمصر يقيمون فيها مراسم دينهم ، ثم بشّرهم بالفوز والغلبة والنصر - قفّى على ذلك بدعوة موسى على فرعون وقومه مع ذكر السبب الذي دعاه إلى ذلك ، وهو الجحود والعناد لدعوته ، لما أوتوه من بسطة النعمة التي أبطرتهم ، فتركوا الدين وراءهم ظهريا.
الإيضاح
(وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي وقال موسى بعد أن أعدّ قومه بنى إسرائيل للخروج من مصر على قدر ما يستطيع من الإعداد الديني والدنيوي ، وغرس فى قلوبهم الإيمان وحب العزة والكرامة ونحو(11/147)
ج 11 ، ص : 148
ذلك ، وتوجه إلى اللّه أن يتم أمره : ربنا إنك أعطيت فرعون وأشراف قومه وكبراءه زينة من حلىّ وحلل وآنية وماعون وأثاث ورياش وأموالا كثيرة من صامت وناطق أي من ذهب وفضة وزروع وأنعام يتمتعون بها وينفقون منها فى حظوظهم وشهواتهم.
(رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أي لتكون عاقبة ذلك إضلال عبادك عن السبيل الموصلة إلى مرضاتك باتباع الحق والعدل وصالح العمل.
وقد جرت سنة اللّه بأن كثرة الأموال تورث الكبرياء والخيلاء والبطر والطغيان وتخضع رقاب الناس لأربابها كما قال تعالى : « إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى » .
وقد أثبت البحث والتنقيب فى نواويس قبور المصريين التي كشفت حديثا ، وفيما حفظ فى دور الآثار المصرية وغيرها من العواصم الأوربية ، ما يشهد بكثرة تلك الأموال ووجود أنواع من الزينة والحلي لم تكن لتخطر على البال ، ويدل على أرقى أنواع المدنية والحضارة التي لا تضارعها مدنية العصر الحاضر مع ما بلغه العلم والرقى العقلي فى الإنسان.
(رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي ربنا امحق أموالهم بالآفات التي تصيب زروعهم والجوائح التي تهلك أنعامهم وتنقص مكاسبهم فيذوقوا ذل الحاجة ، واطبع على قلوبهم وزدها قسوة على قسوتها وإصرارا وعنادا ، فيستحقوا شديد عقابك ، ولا يؤمنوا إلا إذا رأوا عذابك ، ولا ينفعهم إيمانهم إذ ذاك.
وسبب غضبة موسى أنه عرض عليهم آيات اللّه وبيناته عرضا مكررا ، وردد عليهم المواعظ والنصائح ردحا من الزمن ، وحذرهم عذاب اللّه وانتقامه ، وأنذرهم عاقبة ما هم عليه من الكفر والضلال المبين ، ثم لم يزدهم ذلك إلا كفرا وعتوا واستكبارا فى الأرض ، ولم يبق له مطمع فيهم وعلم بالاختبار أنه لا يكون منهم إلا الضلال ، وأن إيمانهم كالمحال - فاشتد عليهم ومقتهم ودعا عليهم بما علم أنه لا يكون غيره ، إذ لم يبق له فيهم حيلة ، وأنهم لا يستأهلون إلا أن يخذلوا ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون فيه ، ويسيرون قدما فى طريق الغى والهلاك.(11/148)
ج 11 ، ص : 149
وخلاصة ذلك - كأنه قيل فليثبتوا على ضلالهم وليطبع اللّه على قلوبهم فلا يؤمنوا ، وما علىّ منهم ، هم أهل لذلك وأحق به ، وما مثله إلا مثل قول الأب المشفق على ولده الذي انحرف عن جادّة الاستقامة ولم يقبل منه نصيحة : فلتمض فى غوايتك ولتعث فى الأرض فسادا ، وهو لا يريد غوايته بل حردا وغضبا عليه.
وقد روى أن موسى دعا بهذا الدعاء وهرون عليه السلام كان يؤمّن على دعاء أخيه ، ومن ثم قال تعالى :
(قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي قال لهما عز اسمه قد قبلت دعوتكما فى فرعون وملئه وأموالهم ، فامضيا لأمرى واثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة إلى الحق ، ومن إعداد شعبكما للكفاح والجلاد والخروج من مصر ، ولا تسلكا سبيل الذين لا يعلمون سنتى فى خلقى ، فيستعجلا الأمر قبل ميقاته ، ويستبطئا وقوعه فى حينه.
وفى سفر الخروج من التوراة ما بدل على استجابة دعاء موسى ، فقد كانت تنزل النوازل على مصر وأهلها ، فيلجأ فرعون إلى موسى حين كل نازلة منها ليدعوا ربه فيكشفها عنهم فيؤمنوا به ، حتى إذا كشفها قسّى الرب قلب فرعون فأصر على كفره ، وما قاله المفسرون فى تفسير الطمس على الأموال فهو من ترّهات الأباطيل الإسرائيلية التي روّجها كعب الأحبار وأمثاله ممن كان مقصدهم صدّ اليهود عن الإسلام بما يرونه فى تفسيره مخالفا لما هو متفق عليه عندهم وعند غيرهم من المؤرخين فى وقائع عملية وأمور حسية.
[سورة يونس (10) : الآيات 90 الى 92]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)(11/149)
ج 11 ، ص : 150
تفسير المفردات
يقال : جاز المكان وجاوزه وتجاوزه : إذا قطعه حتى خلفه وراءه ، ويقال تبعته حتى أتبعته إذا كان قد سبقك فلحقته ، المسلمين : أي المنقادين لأمره ، وننجيك :
نجعلك على نجوة من الأرض ، والنجوة : المكان المرتفع من الأرض ، والآية :
العبرة والعظة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه مادار من الحوار بين موسى وفرعون ، وذكر ما أتى به موسى من الحجج والبينات الدالة على صدقه وغلبه لسحرة فرعون ولم يزده ذلك إلا كبرا وعتوّا ، فدعا عليه بالطمس على الأموال والشد على القلوب ، وذكر استجابة اللّه دعوته - قفّى على ذلك بذكر خاتمة القصة وهو ما كان من تأييد اللّه لموسى وأخيه على ضعفهما وقوة فرعون وقومه ، إذ كانت دولته أقوى دول العالم فى عصره.
الإيضاح
(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي جاوز بنو إسرائيل البحر بمعونته تعالى وقدرته وحفظه وكان آية من آياته لنبيه موسى عليه السلام بفرقه تعالى بهم البحر وانفلاقه لهم ، فلحقهم فرعون وجنوده ظالمين عادين عليهم ، ليفتكوا بهم أو يعيدوهم إلى مصر ليسوموهم سوء العذاب ويجعلوهم(11/150)
ج 11 ، ص : 151
عبيدا لهم ، وخاض البحر وراءهم حتى إذا أشرف على الغرق قال آمنت أنه لا إله بحق إلا الرب الذي آمنت به جماعة بنى إسرائيل بدعوة موسى ، وأنا ممن أذعنوا لأمره بعد ما كان منى من جحود بآياته وعناد لرسوله.
وكرر المعنى الواحد بثلاث عبارات حرصا منه على القبول المفضى إلى النجاة ، ولكن هيهات فقد فات الوقت وجاء الإيمان حين اليأس وهو لا يجدى فتيلا ولا قطميرا - وهذا ما بينه سبحانه بقوله موبخا له.
(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أي وقيل له أ تسلم الآن حين يئست من الحياة وأيقنت بالممات ؟ وقد عصيت قبل ذلك وكنت من المفسدين فى الأرض الظالمين للعباد ، فدعواك الإسلام الآن لا تقبل ، فقد صار إسلامك اضطرارا لا اختيارا.
وخلاصة المعنى - آلآن تقرّ للّه بالعبودية ، وتستسلم له بالذلة وتخلص له الألوهية ، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك فأسخطته على نفسك ، وكنت من المفسدين فى الأرض الصادّين عن سبيله ، فهلا أقررت بما أقررت به الآن وباب التوبة لك منفتح.
(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) أي فاليوم نجعلك على نجوة من الأرض ببدنك ينظر إليك من كذّب بهلاكك ، لتكون عبرة لمن بعدك من الناس يعتبرون بك فينزجرون عن معصية اللّه والكفر به والسعى فى الأرض بالفساد.
ووجه العبرة فى ذلك - أنه يكون شاهدا على صدق وعد اللّه لرسله ، ووعيده لأعدائهم كطغاة مكة التي أنزلت هذه الآيات لإقامة حجج اللّه عليهم قبل غيرهم.
(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) أي وإن كثيرا من الناس لفى غفلة عن حججنا وأدلتنا على أن العبادة له وحده خالصة ، فهم يمرون عليها وهم عنها معرضون ، فلا يتفكرون فى أسبابها ونتائجها وحكم اللّه فيها.(11/151)
ج 11 ، ص : 152
وفى ذلك إيماء إلى ذم الغفلة وعدم التفكر فى أسباب الحوادث وعواقبها واستبانة سنن اللّه فيها للعظة والاعتبار.
ووا أسفا قد صار من نزل فيهم القرآن من بينهم بل فى مقدمتهم وهو حجة عليهم وهو منهم براء.
[سورة يونس (10) : آية 93]
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
تفسير المفردات
مبوأ صدق : أي منزلا صالحا مرضيا. وأصل الصدق ضد الكذب ، ولكن جرت عادة العرب أنهم إذا مدحوا شيئا أضافوه إلى الصدق فقالوا مكان صدق إذا كان كاملا فى صفته صالحا للغرض المقصود منه ، كأنهم أرادوا أن كل ما يظهر فيه من الخير فهو صادق ، والعلم هنا علم الدين.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه خاتمة فرعون وجنوده - قفى على ذلك بذكر عاقبة بنى إسرائيل ، وفى هذا عبرة لمكذبى محمد صلى اللّه عليه وسلم والجاحدين من قومه المفترين بقوتهم وكثرتهم وثروتهم - فقد كان فرعون وقومه أكثر منهم عددا وأشد قوة وأوفر ثروة ، وقد جعل اللّه سننه فى المكذبين واحدة ، ففكّروا أيها المكذبون فى عاقبة أمركم وتدبروا مليّا خوف أن يحل بكم مثل ما حل بهم ، وهاهو ذا أهلك أكثر زعمائهم وجعل العاقبة لأتباعه المؤمنين وأعطاهم أعظم ملك فى العالمين.(11/152)
ج 11 ، ص : 153
الإيضاح
(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي ولقد أسكناهم منزلا مرضيا وهو منزلهم من بلاد الشام الجنوبية وهى بلاد فلسطين ، وهو بمعنى قوله « وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها » .
(وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي ورزقناهم من اللذائذ فيها ، وقد جاء وصفها فى كتبهم بأنها تفيض لبنا وعسلا ، وفيها كثير من الغلات والثمرات والأنعام وصيد البر والبحر.
(فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي فما اختلف بنو إسرائيل إلا بعد ما علموا بقراءة التوراة والوقوف على أحكامها ، ذلك أنهم كانوا قبل أن يبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم مجمعين على نبوته والإقرار به وبمبعثه غير مختلفين فيه بالنعت الذي كانوا يجدونه مكتوبا عندهم ، فلما جاءهم ما عرفوا كفر به بعض وآمن آخرون.
(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي إن هذا النوع من الاختلاف لا سبيل لإزالته فى دار الدنيا ، بل سيقضى اللّه بينهم فى الآخرة ، فيميّز المحقين من المبطلين ، ويدخل الأولين الجنة والآخرين النار وبئس القرار.
[سورة يونس (10) : الآيات 94 الى 97]
{ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) }(11/153)
ج 11 ، ص : 154
المعنى الجملي
بعد أن قص سبحانه قصص الأنبياء السالفين وما لا قوه من أقوامهم من العناد والجحود والاستكبار والعتو ، وفى كل حال كان النصر حليف المؤمنين والخذلان نصيب الظالمين - قفّى على ذلك بذكر صدقه فيما قال ووعد وأوعد ، وكون ذلك سنة اللّه فى المكذبين قبل ، وسيكون ذلك فيهم من بعد وليس فى هذا سبيل للافتراء والشك وقد ساق ذلك بطريق التلطف فى الأسلوب ، فوجه الكلام إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم والمراد قومه فجاء على نحو قولهم : إياك أعنى واسمعي يا جارة ، وقد جاء مثل هذا فى قوله تعالى « لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ » وقوله : « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ » .
الإيضاح
(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ)
المراد بالكتاب جنسه أي الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل ، أي فإن كنت أيها الرسول فى شك مما قلناه فى تلك الشواهد من قصة هود ونوح وموسى وغيرهم فرضا وتقديرا ، فاسأل الذين يقرءون كتب الأنبياء كاليهود والنصارى ، فإنهم يعلمون أن ما أنزلناه إليك حق لا يستطيعون إنكاره.
وقد جرت عادة العرب أن يقدّروا الشك فى الشيء ليبنوا عليه ما ينفى احتمال وقوعه فيقول أحدهم لابنه : إن كنت ابني فكن شجاعا ، وجاء من هذا قول المسيح عليه السلام مجيبا ربه تعالى عن سؤاله إياه « أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ » فهو عليه السلام يعلم أنه لم يقله ولكنه يفرضه ليستدل على ذلك بأنه لو قاله لعلمه اللّه منه ، ويجرى العلماء فى محاوراتهم بينهم وبين نظرائهم(11/154)
ج 11 ، ص : 155
أو بينهم وبين تلاميذهم على هذا النمط ، فيشككونهم فيما لا شك فيه عندهم ، ليبنوا على ذلك أحكاما أخرى فيقولون : إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة إلى متساويين أي إن كون الخمسة زوجا يستلزم ذلك ، وهذا لا يدل على أن الخمسة زوج وهكذا ما فى الآية فهو يدل على أنه لو حصل الشك لكان الواجب هو فعل كذا وكذا ، وليس فيها دليل على وقوعه.
(لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) الامتراء : الشك والتردد ، أي لقد جاءك الحق الواضح بأنك رسول اللّه ، وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحة ذلك ويجدون نعتك فى كتبهم ، فلا تكونن من الشاكين فى صحة ذلك.
وهذا النهى وما بعده يدلان على أن فرض الشك والسؤال فيما قبلهما تعريض بالشاكين والمكذبين له من قومه ممن لم تستنر بصيرتهم بنبوته صلى اللّه عليه وسلم فأظهروا الإيمان بألسنتهم ولم يثبت فى قلوبهم فهم فى شك فيه.
(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ)
أي ولا تكونن أيها الرسول ممن كذب بآيات اللّه وحججه فى الأكوان مما يدل على وحدانيته وقدرته على إرسال الرسل لهداية البشر فتكونن ممن خسروا أنفسهم بالحرمان من الإيمان وما يتبعه من سعادة الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين ، فالشك والامتراء فيما أنزل إليك كالتكذيب بآيات اللّه جحودا بها وعنادا ، كلاهما سواء فى الخسران ، لحرمان الجميع من الهداية بها ، والوصول إلى السعادة فى الدارين.
(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) أي إن الذين ثبتت عليهم كلمة ربك بعذابهم بحسب سننه تعالى فى خلقه بفقدهم الاستعداد للاهتداء لا يؤمنون لرسوخهم فى الكفر والطغيان ، وإحاطة خطاياهم بهم ، وإعراضهم عن آيات اللّه التي خلقها فى الأكوان ، بما يرشد إلى وحدانيته وكمال قدرته.
(وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي ولو جاءتهم كل آية من(11/155)
ج 11 ، ص : 156
الآيات الكونية كآيات موسى عليه السلام التي اقترحوا مثلها عليك ، والآيات المنزلة عليك كآيات القرآن العقلية الدالة بإعجازها على أنها من عند اللّه وعلى حقّية ما تدعوهم إليه وتنذرهم به ، حتى يروا العذاب الأليم بأعينهم ويذوقوه حين ينزل بهم ، فيكون إيمانهم اضطرارا لا اختيارا منهم ، فلا يترتب عليه عمل منهم يطهرهم ويزكيهم ويقال لهم إذ ذاك « آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ » .
[سورة يونس (10) : الآيات 98 الى 100]
فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100)
تفسير المفردات
لولا : كلمة تفيد التحضيض والتوبيخ كهلا ، والمراد بالقرية أهلها وهو كثير الاستعمال بهذا المعنى ، والخزي : الذل والهوان ، والحين : مدة من الزمن والمراد بها العمر الطبيعي الذي يعيشه كل شخص ، والإذن بالشيء : الإعلام بإجازته والرخصة فيه ورفع الحجر عنه والرجس : لغة الشيء القبيح المستقذر ، والمراد به هنا العذاب.
المعنى الجملي
هذه الآيات الثلاث تكملة لما قبلها ، وبيان لسنن اللّه تعالى فى الأمم مع رسلهم ، وفى خلق البشر مستعدين للإيمان والكفر والخير والشر ، وفى تعلق مشيئة اللّه وحكمته بأفعاله وأفعال عباده ووقوعها وفقهما ، فبعد أن بين أن الذين حقت عليهم كلمة(11/156)
ج 11 ، ص : 157
ربك لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم - أتبعه بذكر هذه الآيات للدلالة على أن قوم يونس آمنوا بعد كفرهم ، وانتفعوا بذلك الإيمان.
الإيضاح
(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها) أي فهلا كان أهل قرية من قرى أقوام أولئك الرسل آمنوا بعد دعوتهم وإقامة الحجة عليهم ، فنفعهم إيمانهم قبل وقوع العذاب الذي أنذروا به.
وخلاصة ذلك - إنه لم يؤمن قوم منهم بحيث لم يشذ منهم أحد.
(إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) يونس عليه السلام بعث فى أهل نينوى بأرض الموصل ، وكانوا أهل كفر وشرك ، فدعاهم إلى الإيمان باللّه وحده وترك ما يعبدون من الأصنام فأبوا عليه وكذبوه ، فأخبرهم أن العذاب مصبّحهم بعد ثلاث ليال - فلما كانت الليلة الثالثة ذهب عنهم من حوف الليل ، فلما أصبحوا تغشاهم العذاب ، فلما أيقنوا بالهلاك طلبوا نبيهم فلم يجدوه فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا إلى ربهم وأخلصوا النية فرحمهم واستجاب دعاءهم وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب.
والخلاصة - إن قوم يونس لما آمنوا قبل وقوع العذاب بهم بالفعل وكانوا علموا بقربه من خروج نبيهم - صرفنا عنهم عذاب الذل والهوان فى الدنيا بعد ما أظلّهم وكاد ينزل بهم ، ومتعناهم بمتاعها إلى زمن معلوم وهو الوقت الذي يعيش فيه كل منهم بحسب سنن اللّه فى استعداد بنيته ومعيشته.
وفى ذلك تعريض بأهل مكة وإنذار لهم ، وحض على أن يكونوا كقوم يونس الذين استحقوا العذاب بعنادهم ، حتى إذا أنذرهم نبيهم بقرب وقوعه وخرج من بينهم اعتبروا وآمنوا قبل اليأس وقبل أن ينزل بهم البأس.(11/157)
ج 11 ، ص : 158
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) أي ولو شاء ربك أن يؤمن أهل الأرض كلهم جميعا لآمنوا بأن يلجئهم إلى الإيمان قسرا ، أو يخلقهم مؤمنين طائعين كالملائكة لا استعداد فى فطرتهم لغير الإيمان.
وجاء فى معنى الآية قوله « وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا » وقوله « وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً » .
وخلاصة ذلك - أنه لو شاء ربك ألا يخلق الإنسان مستعدا بفطرته للخير والشر والإيمان والكفر ، ومرجحا باختياره لأحد الأمور الممكنة على ما يقابله بإرادته ومشيئته - لفعل ذلك ، ولكن اقتضت حكمته أن يخلقه هكذا يوازن باختياره بين الإيمان والكفر ، فيؤمن بعض ويكفر آخرون.
(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي إن هذا ليس بمستطاع لك ولا من وظائف الرسالة التي بعثت بها أنت وسائر الرسل الكرام كما قال تعالى « إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ » وقال « وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ » وقال « لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ » .
(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)
أي وما كان لنفس بمقتضى ما أعطاها اللّه من الاختيار والاستقلال فى الأفعال ، أن تؤمن إلا بإرادة اللّه ومقتضى سننه فى الترجيح بين المتقابلين ، فالنفس مختارة فى دائرة الأسباب والمسببات ، ولكنها غير مستقلة فى اختيارها استقلالا تاما - بل مقيدة بنظام السنن والأقدار الإلهية.
(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أي وإذا كان كل شىء بإذنه وتيسيره ومشيئته التي تجرى بقدره فهو يجعل الإذن وتيسير الإيمان للذين يعقلون آياته ويوازنون بين الأمور ، فيختارون خير الأعمال ويتقون شرها ، ويرجّحون أنفعها على أضرها بإذنه تعالى وتيسيره ، ويجعل الخذلان والخزي المرجح للكفر والفجور على الذين لا يعقلون ولا يتدبرون ، إذ هم لخطل رأيهم وسلوك سبيل الهوى يرجحون الكفر على الإيمان والفجور على التقوى.(11/158)
ج 11 ، ص : 159
[سورة يونس (10) : الآيات 101 الى 103]
قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أن سننه فى نوع الإنسان ، أن خلقه مستعدا للإيمان والكفر والخير والشر ، ولم يشأ أن يجعله على طريقة واحدة إما الكفر وحده وإما الإيمان وحده وإنك أيها الرسول لا تقدر على جعله على غير ذلك - بين هنا أن مدار سعادته على استعمال عقله فى التمييز بين الخير والشر. وما على الرسول إلا التبشير والإنذار وبيان الطريق المستقيم الذي يوصل إلى السعادة ، وما الدين الا مساعد للعقل على حسن الاختيار إذا أحسن النظر والتفكر اللذين أمر اللّه بهما.
فليحذر أولئك القوم أن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المكذبين ، فإن سنننا لا تغيير فيها ولا تبديل ، فننجى رسلنا والذين آمنوا معهم ونهلك من كذبهم وندخله سواء الجحيم.
الإيضاح
(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي قل أيها الرسول لمن تحرص على هدايتهم من قومك : انظروا بأبصاركم وبصائركم ماذا فى السموات والأرض من كواكب نيرات ، ثوابت وسيارات ، وشمس وقمر ، وليل ونهار ، وسحاب ومطر ، وهواء وماء ، وليل ونهار ، وإيلاج أحدهما فى الآخر حتى يطول هذا ويقصر ذاك وما أنزل اللّه من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، وأخرج فيها من أفانين الثمار والزروع والأزاهير وصنوف النبات ، وماذرأ فيها من دواب مختلفة الأشكال والألوان والمنافع ، وما فيها من جبال وسهول وقفار وعمران ، وما فى البحر من عجائب وهو مسخّر(11/159)
ج 11 ، ص : 160
مذلّل للسالكين ، يحمل سفنهم ويجرى بها برفق بتسخير القدير العليم الذي لا إله غيره ولا رب سواه « وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ » إنه يريكم كل هذه الآيات ثم أنتم تشركون.
(وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) تغنى : تنفع وتفيد ، والنذر واحدها نذير ، أي إن الآيات الكونية على ظهور دلالتها ، والرسل على بلاغة حجتها ، لا تجدى نفعا لقوم لا يتوقع إيمانهم ، لأنهم لم يوجهوا أنظارهم إلى الاعتبار بالآيات والاستدلال بها على ما تدل عليه من وحدانية اللّه وقدرته. والاعتبار بسننه فى خلقه والاستفادة منها فيما يزكّى النفس ويرفعها عن الأرجاس والأدناس.
(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) يقول اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم محذّرا مشركى قومه من حلول عاجل نقمة ربهم بهم وقد حل بمن قبلهم من سائر الأمم الخالية التي سلكت فى تكذيب رسله وجحودهم مسلكهم : هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون بما جئتهم به من عند اللّه تعالى إلا يوما يعاينون فيه من عذاب اللّه مثل أيام أسلافهم الذين كانوا على مثل ما هم عليه من الشرك والتكذيب.
والخلاصة - إنهم لا ينتظروا إلا مثل وقائعهم مع رسلهم مما بلغهم مبدؤه وغايته.
(قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أي قل لهم منذرا مهدّدا : انتظروا عقاب اللّه ونزول سخطه بكم ، إنى من المنتظرين هلاككم بالعقوبة التي تحل بكم ، وإنى على بينة بما وعد اللّه به وصدق وعده للمرسلين ، وإن الذين يصرّون على الجحود والعناد سيكونون من الهالكين.
(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي إن سنتنا فى رسلنا مع أقوامهم الذين يبلغونهم الدعوة ، ويقيمون عليهم الحجة ، وينذرونهم سوء عاقبة التكذيب ، فيؤمن بعض ويصر آخرون على الكفر - أن نهلك المكذبين وننجى رسلنا والذين آمنوا بهم.(11/160)
ج 11 ، ص : 161
(كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) أي ومثل هذا الإنجاء ننجى المؤمنين معك أيها الرسول ونهلك المصرين على تكذيبك ، وعدا حقا علينا لا نخلفه كما قال تعالى « سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا » .
[سورة يونس (10) : الآيات 104 الى 107]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الأدلة على صدقه فى رسالته وصحة الدين الذي جاء به ، وبسطها غاية البسط حتى لم يبق فيها مجال للشك - قفّى على ذلك بالأمر بإظهار دينه ، وبإظهار الفارق بينه وبين ما هم عليه من عبادة الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع وبيان أن الذي بيده النفع والضر هو اللّه الذي خلقهم. وبيده تصريف أمورهم.
الإيضاح
(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي قل لهم أيها(11/161)
ج 11 ، ص : 162
الرسول إن كنتم فى شك من دينى الذي أدعوكم إليه ولم يتبين لكم أنه الحق ، فاسمعوا وصفه ، واعرضوه على عقولكم ، وانظروا فيه ، لتعلموا أنه لا مدخل فيه للشك ، إنى لا أعبد الحجارة التي تعبدونها من دون إلهكم وخالقكم ، بل أعبد اللّه الذي يقبض الخلق فيميتهم إذا شاء ، وينفعهم ويضرهم إذا أراد ، ومثل هذا هو الحقيق بأن يعبد وأن يخاف وأن يتّقى دون من لا يقدر على شىء من ذلك.
وفى ذلك تعريض لطيف وإيماء إلى أن مثل هذا الدين لا يشكّ فيه ، وإنما ينبغى أن تشكّوا فيما أنتم عليه من عبادة الأصنام التي لا تعقل ولا تضر ولا تنفع ، إذ عبادة الخالق لا يستنكرها ذو والفطرة السليمة ، أما عبادة الأصنام فيستنكرها كل ذى لبّ وعقل سليم.
وقد أمرت أن أكون من المؤمنين الذين وعدهم اللّه بالنجاة من عذابه ، وينصرهم على أعدائهم واستخلافهم فى الأرض.
(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) أي وأمرت أن أكون من المؤمنين ، وأمرت أن أقيم وجهى للدين القيم الذي لا عوج فيه حال كونى حنيفا أي مائلا عن غيره من الشرك والباطل ، وذلك بالتوجه إلى اللّه وحده فى الدعاء وغيره بدون التفات إلى شىء سواه ونحو الآية قوله « إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ » .
فمن توجه قلبه إلى غيره فى عبادة من العبادات ولا سيما مخّ العبادة وروحها وهو الدعاء فهو عابد له مشرك باللّه.
ثم نهى رسوله عن ضد ذلك فقال :
(وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي ولا تكونن ممن يشرك فى عبادة ربه الآلهة والأنداد كأرباب الديانات الوثنية الباطلة الذين يجعلون بينهم وبين اللّه حجابا من الوسطاء والأولياء والشفعاء يوجهون قلوبهم إليهم عند الشدة تصيبهم والحاجة تستعصى عليهم ، ليضوا لهم حاجتهم إما بأنفسهم أو بشفاعتهم ووساطتهم عند ربهم ، فإن فعلت ذلك كنت من الهالكين.(11/162)
ج 11 ، ص : 163
(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) أي ولا تدع أيها الرسول غيره تعالى دعاء عبادة لا على سبيل الاستقلال ولا على سبيل الاشتراك بوساطة الشفعاء - مالا ينفعك فى الدنيا ولا فى الآخرة ، ولا يضرك إن تركت دعاءه ولا إن دعوت غيره.
(فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) أي فإن فعلت هذا ودعوت غيره كنت فى هذه الحال من الذين ظلموا أنفسهم ، ولا ظلم لها أكبر من الشرك باللّه تعالى ، فدعاؤه وحده أعظم العبادات ، ودعاء غيره شرك وظلم للنفس ، لإضافة التصرف إلى مالا يصدر منه ، فهو وضع للشىء فى غير موضعه.
وقد جاء فى معنى الآية آيات كثيرة متفرقة فى السور لانتزاع هذا الشرك من قلوب السواد الأعظم من الناس ، وقد انتزع من قلوب الذين أخذوا دينهم من كتاب ربهم ، وكانت عبادتهم له دعاءه بالغدوّ والآصال والليل والنهار ، وفيها نعى على الذين هجروا تدبر القرآن وتلقّوا عقائدهم من الآباء والأمهات والمعاشرين الأميين الجاهليين فتوجهوا إلى القبور فزيّنوها بالسرج والمصابيح ودعوها من دون اللّه وتقربوا إليها بالهدايا والنذور لتكشف عنهم الضر وتعطيهم ما يرجون من النفع ، ويتأولون هذه الآيات الكثيرة فيزعمون أنها خاصة بعبادة الأصنام والنذر للأوثان ، والتعظيم للصلبان كأن الشرك باللّه جائز من بعض المخلوقين دون بعض.
ثم أكد سبحانه المعنى السالف ودحض شبهة الذين يدعون غير اللّه ، لأنهم طالما استفادوا من دعائهم والاستغاثة بهم فشفيت أمراضهم وكشف الضر عنهم فقال :
(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) أي وإن يمسسك اللّه أيها الإنسان بضر كمرض يصيبك بمخالفة سننه فى حفظ الصحة ، أو نقص فى الأموال والثمرات بأسباب لك فيها عبرة ، أو ظلم يقع عليك من غيرك ، فلا كاشف له إلا هو ، وقد جعل سبحانه للأشياء أسبابا يعرفها خلقه بتجاربهم ككشف الأمراض بمعرفة أسبابها ومعرفة خواصّ العقاقير التي تداوى بها ، فعلينا أن نطلبها من الأسباب ونأتى البيوت من الأبواب ، ونتوجه إلى اللّه وحده ، وندعوه مخلصين له ، متوكلين عليه.(11/163)
ج 11 ، ص : 164
(وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي وإن يردك ربك برخاء ونعمة وعافية فلا يقدر أحد أن يحول بينك وبين فضله الذي تعلقت به إرادته تعالى ، فما شاء كان حتما ، فلا يرجى خير ونفع إلا من فضله ، ولا يخاف ردّ ما يريده. فهو يصيب بالخير من يشاء من عباده بكسب أو بغير كسب ، وبسبب ما قدّره فى السنن العامة وبغير سبب ، ففضله تعالى على عباده عام بعموم رحمته ، بخلاف الضر فإنه لا يقع إلا بسبب من الأسباب الخاصة بكسب العبد أو العامة فى نظام الخلق كالأمراض التي تعرض بترك أسباب الصحة والوقاية جهلا أو تقصيرا ، وفساد العمران وسقوط الدول الذي يقع بترك العدل وكثرة الظلم.
(وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي وهو الغفور لذنوب من تاب وأناب من عباده من كفره وشركه إلى الإيمان به وطاعته ، الرحيم بمن آمن به منهم فلا يعذبه بعد التوبة ، ولو لا مغفرته الواسعة ورحمته العامة لأهلك الناس جميعا بذنوبهم فى الدنيا قبل الآخرة كما قال تعالى : « وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ » وقال : « وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ » .
[سورة يونس (10) : الآيات 108 الى 109]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)
المعنى الجملي
بعد أن قرر سبحانه دلائل التوحيد والنبوة والمعاد - ختم السورة بهذا البلاغ للناس كافة بمقتضى البعثة العامة ، وهو إجمال لما تقدم من التفصيل فيها.(11/164)
ج 11 ، ص : 165
الإيضاح
(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قل لهم أيها الرسول مخاطبا جميع الناس ، من حضر منهم فسمع هذه الدعوة منك ومن ستبلغه عنك. قد جاءكم الحق المبيّن لحقيقة هذا الدين ، وقد أوحى به إلى رجل منكم ، وكان خفيا عنكم بما جهل من دعوة الرسل السالفين أو حرّف وبدل ، ففصّله هذا الكتاب العربي المبين.
(فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي فمن سلك سبيل الحق وصدّق بما جاء من عند اللّه فى كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فإنما فائدة ذلك عائدة إليه ، لأنه يفوز بالسعادة فى دنياه ودينه ، وذلك إنما يكون بعمله لا بعمل غيره ، ولا بتأثيره بشفاعته أو وساطته.
(وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي ومن اعوجّ عن الحق الذي أتاه من عند اللّه وأعرض عن كتابه وعن آياته فى الأنفس والآفاق ، فإنما وبال ضلاله على نفسه ، بما يفوته من فوائد الاهتداء فى الدنيا ، وما يصيبه من العذاب على كفره وجرائمه فى الآخرة (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي وما أنا بموكّل من عند اللّه بأموركم ، ولا بمسيطر عليكم ، فأكرهكم على الإيمان ، وأمنعكم بقوتي من الكفر والعصيان ، ولا أملك لكم ضرا ولا نفعا ، وما أنا إلا رسول مبلغ إليكم أمر ربكم ، بشير لمن اهتدى ، ونذير لمن ضل وغوى ، وقد أعذر من أنذر.
(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ) أي واتبع أيها الرسول وحي اللّه الذي أنزله إليك فى كتابه ، واعمل به وعلّمه أمتك ، واصبر على ما يصيبك من الأذى والمكاره وعلى ما ينالك من قومك ، حتى يقضى اللّه بينك وبين المكذبين لك ، وينجز لك ما وعدك.(11/165)
ج 11 ، ص : 166
(وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) أي وهو خير القاضين ، وأعدل الفاصلين ، فهو لا يحكم إلا بالحق ، وغيره قد يحكم بالباطل ، إما لجهله بالحق أو مخالفته له باتباع الهوى ، وقد امتثل رسوله أمر ربه ، وصبر حتى حكم اللّه بينه وبين قومه ، وأنجز وعده له صلى اللّه عليه وسلم ولمن اتبعه من المؤمنين ، فاستخلفهم فى الأرض ، وجعلهم الأئمة الوارثين ما أقاموا الدين.
وغير خاف ما فى هذه الآيات من التسلية لنبيه ووعده للمؤمنين ووعيده للكافرين.(11/166)
ج 11 ، ص : 167
سورة هود عليه السلام
وهى مكية كالتى قبلها ، وعدد آيها ثلاث وعشرون ومائة ، نزلت بعد سورة يونس ، وتصمنت ما تضمنته تلك من أصول الإسلام ، وهى التوحيد والنبوة والبعث والحساب والجزاء.
وفصّل فيها ما أجمل فى سابقتها من قصص الرسل عليهم السلام وهى مناسبة لها فى فاتحتها وخاتمتها وتفصيل الدعوة فى أثنائها ، فقد افتتحتا بذكر القرآن بعد (الر) وذكر رسالة النبي المبلغ عن ربه ، وبيان أن وظيفة الرسول إنما هى التبشير والإنذار وفى أثنائهما ذكر التحدي بالقرآن والرد على الذين زعموا أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم قد افتراه ، ومحاجّة المشركين فى أصول الدين ، وختمتا بخطاب الناس بالدعوة إلى ما جاء به الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ثم أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم فى الأولى بالصبر حتى يحكم اللّه بينه وبين الكافرين ، وفى الثانية بانتظار هذا الحكم منه تعالى مع الاستقامة على عبادته والتوكل عليه.
وعلى الجملة فقد أجمل فى كل منهما ما فصل فى الأخرى مع فوائد انفردت بها كل منهما ، فقد اتفقتا موضوعا فى الأكثر واختلفتا نظما وأسلوبا مما لا مجال للشك فى أنهما من كلام الرحمن ، الذي علم الإنسان البيان.
[سورة هود (11) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)(11/167)
ج 11 ، ص : 168
تفسير المفردات
(الر) تقدم أن قلنا إنها حرف تنبيه كألا وتقرأ بأسمائها ساكنة فيقال : (ألف لام ، را) وإحكام البناء كالقصر والحصن : إتقانه حتى لا يقع فيه خلل ، وتفصيل العقد بالفرائد : جعل خرزة أو مرجانة بلون بين كل خرزتين من لون آخر ، والمتاع :
كل ما ينتفع به فى المعيشة وحاجة البيوت ، والأجل المسمى : هو العمر المقدر.
المعنى الجملي
جاءت هذه الآيات فى أصول الدين وهى القرآن وما بيّن فيه من توحيد اللّه وعبادته وحده والإيمان برسله والبعث والجزاء فى اليوم الآخر.
الإيضاح
(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) أي هذا كتاب عظيم الشأن جليل القدر ، جعلت آياته محكمة النظم والتأليف واضحة المعاني ، لا تقبل شكا ولا تأويلا ولا تبديلا ، كأنها الحصن المنيع الذي لا يتطرق إليه خلل - وجعلت فصولا متفرقة فى سورة ، تبين حقائق العقائد والأحكام والمواعظ وجميع ما أنزل له الكتاب من الحكم والفوائد ، فكأنها العقد المفصّل بالفرائد ، ولا عجب فقد أنزلت من لدن حكيم يقدر حاجة عباده ، ويعطيهم ما فيه الخير لهم ، خبير بعواقب ذاك ومصادره وموارده.
(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) أي أحكمت وفصلت بألا تعبدوا إلا اللّه ، أي نزل هذا القرآن المحكم المفصّل لعبادة اللّه وحده لا شريك له ،(11/168)
ج 11 ، ص : 169
وهذا كقوله : « وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ » وقوله : « وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ » وقل للناس إنى من عند اللّه نذير ينذركم عقابه ، ويبشركم ثوابه على طاعته والإخلاص له.
وهذا بيان لوظيفة الرسالة ، ومبيّن لدعوة الرسول صلى اللّه عليه وسلم.
(وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي واسألوه أن يغفر لكم ما كان منكم من أعمال الشرك والكفر والإجرام ، ثم ارجعوا إليه بإخلاص العبادة له دون سواه مما تعبدون من دونه من الأصنام والأوثان فإن فعلتم ذلك واستغفرتم من كل ذنب وتبتم من الإعراض عن هدايته وتنكّب سننه ، يمتعكم فى دنياكم متاعا حسنا فيرزقكم من زينة الدنيا وينسألكم فى آجالكم إلى الوقت الذي قضى عليكم فيه الموت وهو العمر المقدر لكم فى علمه المكتوب فى نظام الخليقة وسنن الاجتماع البشرى فى عباده ، ولا يقطعه بعذاب الاستئصال ولا بفساد العمران ولا ينقصه ما ينقص من أدمن على الشرك والمعاصي.
ذاك أن اللّه ما حرم إلا الأشياء الضارة بالعقل أو بالصحة أو بنظام الاجتماع المالى أو البدني ، وإنما يكمل ضررها بإصرار فاعليها عليها ، فاذا أقلعوا عنها وندموا على ما فعلوا وبادروا إلى التوبة من قريب ، امتنع ذلك الفساد.
وهذه سنة مطردة فى ذنوب الأمم ، وهى فيها أظهر من ذنوب الأفراد ، فالمشاهد أن الأمم التي تصرّ على الظلم والفسوق والعصيان يهلكها اللّه تعالى فى الدنيا بالضعف والشقاق وخراب العمران حتى تزول منعتها وتتمزق وحدتها.
(وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي وإن تجتنبوا الشرك وتؤمنوا باللّه وتستغفروه يمتعكم متاعا حسنا تكونون به خير الأمم نعمة وقوة وعزة ويعط كل ذى فضل من علم وعمل جزاء فضله ، أما فى الآخرة فهو مطّرد دائما ، وأما فى الدنيا فقد يكون ناقصا مشوبا بأكدار ، ولا يكون مطردا لقصر أعمار الأفراد.(11/169)
ج 11 ، ص : 170
(وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) أي وإن توليتم وأعرضتم عما دعوتكم إليه من عبادة اللّه وحده وعدم عبادة غيره ، فإنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير الهول شديد البأس ، فيصيبكم مثل ما أصاب أقوام الرسل الذين عاندوهم وأصروا على تكذيبهم وعصيانهم ، أو قريب منه بعد نصر الرسول والمؤمنين.
(إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إليه تعالى رجوعكم بعد موتكم جميعا أمما وأفرادا لا يتخلّف منكم أحد ، وحينئذ تلقون جزاءكم بالعدل والقسطاس ، وهو سبحانه قدير على كل شىء.
[سورة هود (11) : آية 5]
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5)
تفسير المفردات
ثنى الشيء : عطف بعضه على بعض فطواه ، وإثناء الثوب : إطواؤه ، وثناه عنه :
لواه وحوّله ، وثناه عليه : أطبقه وطواه ليخفيه فيه ، وثنى عنانه عنّى : تحول وأعرض ، والاستخفاء : محاولة الخفاء ، واستغشى الثوب تغطّى به كما قال حكاية عن نوح عليه السلام : « وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً » .
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنهم إن أعرضوا حاق بهم عذاب يوم كبير - بين فى هذه الآية حالهم وصفتهم العجيبة الدالة على إعراض الحيرة والعجز ومنتهى الجهل.(11/170)
ج 11 ، ص : 171
الإيضاح
(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أي إن هؤلاء الكافرين الكارهين لدعوة التوحيد يحنون ظهورهم وينكسون رءوسهم كأنهم يحاولون طىّ صدورهم على بطونهم حين سماع القرآن ليستخفوا منه صلى اللّه عليه وسلم حين تلاوته فلا يراهم حين نزول هذه القوارع على رءوسهم ، روى ابن جرير وغيره أن ابن شداد قال : كان أحدهم ذا مر بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ثنى صدره كيلا يراه أحد.
(حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي إن ثنى صدورهم وتنكيس رءوسهم ليستخفوا من الداعي لهم إلى توحيد ربهم لا يغنى عنهم شيئا ، فإن ربهم يعلم ما يسرون ليلا حين يستغشون ثيابهم فيغطون بها جميع أبدانهم ، ثم ما يعلنون نهارا.
(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إنه تعالى عليم بأسرار الصدور وخواطر القلوب ، فاحذروا أن يطلع عليكم ربكم وأنتم مضمرون فى صدوركم الشك فى شىء من توحيده أو أمره أو نهيه.
والحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
تمت مسودة هذا الجزء فى السادس والعشرين من ذى الحجة سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف هجرية بمدينة حلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية.(11/171)
ج 11 ، ص : 172
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 8 من أتى أبواب السلطان افتتن 8 من الأعراب من كان يظن أن الصدقات مغارم ، ومنهم من كان يظن أنها قربات عند اللّه 11 المسلمون ثلاث طبقات 12 من أهل المدينة ناس مردوا على النفاق 13 المنافقون فريقان 16 خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها 17 كان الرسول يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم 18 فوائد الصدقات فى إصلاح المجتمع الإسلامى 18 فرضت الزكاة فى أول الإسلام مطلقة 20 ما أصر من استغفر وإن عاد فى اليوم سبعين مرة 21 كان المتخلفون عن الجهاد فى غزوة تبوك أقساما ثلاثة 25 الأغراض التي لأجلها بنى مسجد الضرار 27 حب اللّه للمتطهرين 31 بيعة العقبة 33 المؤمنون الكملة 36 النبوة والإيمان الصادق لا يبيحان الاستغفار للمشركين فى حال 40 غزوة العسرة 43 لا يرخص فى الكذب إلا فى ثلاث(11/172)
ج 11 ، ص : 173
الصفحة المبحث 44 فى المعاريض ما يغنى عن الكذب 48 وجوب التفقه فى الدين والاستعداد لتعليمه 54 الأب الرحيم ربما لجأ إلى ضروب من التأديب يشق على النفس احتمالها 60 ليس الغنى سببا للزلفى والقرب من اللّه 61 ليس القرآن بسحر 63 العرش مركز تدبير هذا الملك العظيم 64 لا ينبغى أن نوجه وجوهنا شطر قبور الأولياء والصالحين 65 الإعادة أهون من البدء 67 منازل القمر وسيلة لمعرفة عدد السنين والحساب 71 تحية أهل الجنة 72 لا يكون المؤمن أهلا للجنة إلا بالعمل ومجاهدة النفس والهوى 74 لو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة 75 الإنسان عند الشدة يدعو ربه وعند الرخاء ينساه 76 هلاك اللّه للأمم ضربان 80 شر الظلم افتراء الكذب على اللّه والتكذيب بآياته 82 الشرك ضربان شرك فى الربوبية وشرك فى الألوهية 83 شئون الرب وسائر ما فى عالم الغيب لا تعلم إلا بوحي 84 معجزة النبي صلى اللّه عليه وسلم هى كتابه المعجز 88 دعا رسول اللّه على المشركين فقال : اللهم أنزل عليهم سنين كسنى يوسف 90 الناس الآن أشد من المشركين إشراكا فإذا نزلت بهم ضائقة دعوا الأموات وقد كان المشركون يدعون اللّه فى مثل هذا 91 ثلاث هن رواجع على أهلها - المكر. والنكث. والبغي(11/173)
ج 11 ، ص : 174
الصفحة المبحث 92 مثل الحياة الدنيا فى القرآن 94 صفات المحسن والمسيء يوم القيامة 95 وعد اللّه المحسن بالحسنى وزيادة وأوعد الذين كسبوا السيئات بسيئة مثلها 98 لا شفيع ولا ناصر يوم القيامة 100 علامة الحياة فى النبات والحيوان 102 الأدلة على بطلان الشرك 105 أصول الإيمان تبنى على اليقين دون الظن 106 ما فى القرآن ليس فى طوق البشر أن يأتى بمثله 107 تحدّيهم أن يأتوا بسورة مثله 108 إسراعهم فى تكذيبهم قبل أن يتدبروا معناه 110 النبي ليس بمسيطر ولا جبار 111 المسلمون الآن يسمعون القرآن لترتيله لا لتدبر معانيه 112 هداية اللّه لا تكون إلا للمستعد لها 113 الدنيا كساعة من نهار 115 ما ترك اللّه أمة بلا رسول 116 المشركون كانوا يستعجلون العذاب 117 عجبا لقوم يطلبون الحاجات ممن دفنوا تحت أطباق الثرى 119 حديث ضمام بن ثعلبة مع النبي صلى اللّه عليه وسلم 120 يتمنى الظالم أن يكون له فداء فى ذلك اليوم 122 القرآن عظة وشفاء وهدى ورحمة 124 التحليل والتحريم للّه وحده 125 جزاء المفترين على اللّه الكذب يوم القيامة(11/174)
ج 11 ، ص : 175
الصفحة المبحث 127 اللّه رقيب وشهيد على أعمال المرء فى هذه الحياة 128 لا يغيب عن ربنا مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء 129 أولياء اللّه 130 للشيطان لمة وللملك لمة 130 الذين يتوسلون بهم يتوسلون إلى ربهم راجين خائفين 130 قال المشركون الملائكة بنات اللّه وقالت اليهود عزير ابن اللّه وقالت النصارى المسيح ابن اللّه 135 العقائد الدينية لا بد فيها من دليل قاطع والتقليد فيها غير سائغ 137 مقالة نوح لقومه 141 حين جاء موسى بالآيات البينات قال فرعون وقومه - إن هذا إلا سحر مبين - 141 الساحر لا يفوز بمطلوب 142 قالوا لموسى ما غرضك من هذه الدعوة إلا امتلاك البلاد 143 مقالة موسى للسحرة 145 الدعاء لا يستجاب إلا مع اتخاذ الأسباب 146 كان المصريون يستعملون بنى إسرائيل فى المهن الحقيرة 148 دعوة موسى على المصريين فى ذلك الحين 151 غرق فرعون فى بحر القلزم 153 عاقبة بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر 157 قوم يونس لما آمنوا 158 لو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا 160 لا تغنى الآيات والنذر لمن لا يفكر فيها 162 الإله الذي ينبغى أن يعبد 163 لا يكشف الضر إلا رب العالمين 165 الرسول ليس بمسيطر ولا جبار(11/175)
ج 12 ، ص : 3
الجزء الثاني عشر
[تتمة سورة هود]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة هود (11) : الآيات 6 الى 8]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8)
تفسير المفردات
الدابة : اسم لكل نسمة حية تدبّ على الأرض زحفا ، أو على قوائم ثنتين فأكثر ، وغلب عرفا على ما يركب من الخيل والبغال والحمير ، والدبّ والدبيب : الانتقال لخفيف البطيء كدبيب الطفل والشيخ المسنّ والعقرب والمستقر : مكان الاستقرار(12/3)
ج 12 ، ص : 4
من الأرض ، والمستودع : حيث كان مودعا قبل الاستقرار فى صلب أو رحم أو بيضة ، والعرش : مركز نظام الملك ومصدر التدبير ، والبلاء : الاختبار والامتحان ، والأمة :
الطائفة أو المدة من الزمن كما قال تعالى : « وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ » وأصلها الجماعة من نوع واحد أو دين واحد أو زمن واحد ، مصروفا عنهم : أي مدفوعا ومجبوسا ، وحاق :
نزل وأحاط.
المعنى الجملي
بعد أن بين فى الآيات السالفة شمول قدرته تعالى لكل شىء وإحاطة علمه بما يسرون وما يعلنون بما فى الصدور - قفى على فى ذلك بذكر ما يهمّ الناس من آثار قدرته ومتعلقات علمه ، وهو ما يتعلق بحياتهم وشئونهم المختلفة ، ثم بذكر خلقه للعالم كله ، ومكان عرشه قبل هذا من ملكه ، وبلاء البشر بذلك ليظهر أيّهم أحسن عملا ، ثم بعثه إياهم بعد الموت لينالوا جزاء أعمالهم مع إنكار الكفار لذلك وطلب استعجال العذاب الذي أوعدهم به مع بيان أنه واقع بهم لا محالة إن أصرّوا على كفرهم.
الإيضاح
(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها) أي وما من دابة من أي نوع من أنواع الدواب فى الأرض إلا على اللّه رزقها ، لا فرق فى ذلك بين الجنّة (المكروبات) التي لا ترى بالأبصار ، وبين ضخام الأجسام ، والوسطى بين هذه وتلك ، وقد أعطى كلا خلقه المناسب لمعيشته ، ثم هداه إلى تحصيل غذائه بالغريزة والفطرة ، وللّه تعالى حكم فى خلق كل نوع منها ، فإن خفى علينا أمر خلق الحيات والسنانير ونحوها ، فلنا أن نقول مثلا إنه لولاها لضاقت الأرض بكثرة إحيائها ، أو لأنتنت من كثرة أمواتها.
ومعنى كفالته تعالى لرزقها أنه سخره لها وهداها إلى طلبه وتحصيله كما قال :
« رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى » وقد علم بنصوص القرآن وسنن(12/4)
ج 12 ، ص : 5
اللّه فى الخلق وأسباب الرزق أن مشيئته تعالى لا تكون إلا بمقتضى سننه فى ارتباط الأسباب بالمسببات مع الحكمة فى ذلك ، لا أنه يأتيها بمحض قدرته سواء طلبته أم لا.
(وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) أي ويعلم حيث تستقر وتقيم ، وحيث كانت مودعة إلى حين ، ويرزقها فى كلتا الحالين.
(كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي كل الدواب وأرزاقها ومستقرها ومستودعها ثابت مرقوم فى كتاب مبين أي فى لوح محفوظ كتب اللّه فيه مقادير الخلق كلها.
(وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي فى ستة أيام من أيام اللّه فى الخلق والتكوين وما شاء من الأطوار ، لا من أيامنا فى هذه الدار التي وجدت بهذا الخلق لا قبله ، فلا يصح أن تقدر أيام اللّه بأيامنا ، ويؤيد هذا قوله تعالى : « وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ » وقوله : « تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ » .
وقد أثبت علماء الفلك أن أيام غير الأرض من الكواكب التابعة لنظام شمسنا تختلف عن أيام هذه الأرض فى طولها بحسب أجرامها وأبعادها وسرعتها فى دورانها ، وأن أيام التكوين بخلقه تعالى من الدخان الذي يعبرون عنه بالسديم شموسا مضيئة تتبعها كواكب منيرة - يقدر اليوم منها بألوف الألوف من سنينا هذه.
(وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) أي وكان سرير ملكه فى أثناء هذا الطور من خلق هذا العالم أو من قبله على الماء ، وعرش الرحمن من عالم الغيب الذي لا ندركه بحواسنا ، لا نستطيع تصويره بأفكارنا ، فلا نعلم كنه استوائه عليه ولا صدور تدبيره لأمر هذا الملك العظيم ، ومن ثم روى عن أمّ سلمة رضى اللّه عنها وعن مالك وربيعة قولهم :
الاستواء معلوم ، والكيف مجهول.
ومن الآية نعلم أن الذي كان دون العرش من مادة الخلق قبل تكوين السموات والأرض هو الماء الذي جعله اللّه أصلا لخلق جميع الأحياء كما قال : « أَوَلَمْ يَرَ(12/5)
ج 12 ، ص : 6
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ؟ »
أي إنه يجب عليهم أن يعلموا أن السموات والأرض كانتا مادة واحدة متصلة لا فتق فيها ولا انفصال ، وهى ما تسمى لدى علماء الفلك السديم ، ويسميها القرآن الدخان ، ففتقناهما بفصل بعضهما من بعض فكان منها ما هو سماء ومنها ما هو أرض ، وجعلنا من الماء كل شىء حى ، أفلا يؤمنون بأن الرب الذي خلق كل هذا هو الذي يعبد وحده ولا يشرك به شىء ، وأنه قادر على إعادة الخلق كما بدأه أول مرة ؟
والخلاصة - إن الماء أصل جميع الأحياء وهو الذي يتنزل إليه أمر التدبير والتكوين.
ثم علل خلقه بما ذكر ببعض حكمه الخاصة بالمكلفين المخاطبين بالقرآن فقال :
(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أي ليجعل ذلك ابتلاء واختبارا لكم فيظهر أيّكم أحسن إتقانا لما يعمله لنفسه وللناس ، ذاك أنه تعالى سخر لنا ما فى الأرض وجعلنا مستعدين لإبراز ما أودعه فيها من منافع وفوائد مادية ومعنوية ، ومستعدين للإفساد والضرر ، ليجزى كل عامل بما يعمل ، وإنما يتم ذلك ويظهر فى الآخرة.
(وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ولئن أخبرت هؤلاء المشركين أن اللّه سيبعثهم بعد مماتهم كما بدأهم ، ليجزيهم فيما بلاهم به كما قال : « لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى » ليجيبنّك الذين كذبوا بلقاء اللّه قائلين : ما هذا الذي جئتنا به من هذا القرآن لتسحرنا لطاعتك وتمنعنا عن لذات الدنيا - إلا سحر بين ظاهر تسحر به العقول وتسخّر به الضمائر والقلوب وبعد أن ذكر ما يقوله المنكرون للبعث ذكر ما يقوله المنكرون لإنذار الرسول صلى اللّه عليه وسلم إياهم عذاب الدنيا والآخرة بتكذيبهم له فقال :
(وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ ؟ ) أي ولئن أخرنا(12/6)
ج 12 ، ص : 7
عنهم عذابنا الذي توعّدهم به الرسول صلى اللّه عليه وسلم إلى حين من الزمن مقدر فى علمنا وهو مقتضى سنتنا فى خلقنا ، وبيناه فى كتابنا بقولنا « لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ » ليقولن استهزاء ، أي شىء يمنع هذا العذاب من الوقوع إن كان حقا.
(ثم توعدهم نزوله فقال أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) أي ألا إن له يوما يأتيهم فيه حين تنتهى المدة المضروبة دونه ، ويومئذ لا يصرفه صارف ، ولا يحبسه حابس.
(وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وسيحيط بهم يومئذ من كل جانب ما كانوا يستهزئون به من العذاب قبل وقوعه ، فلا هو يصرف عنهم ، ولا ينجون منه.
[سورة هود (11) : الآيات 9 الى 11]
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
تفسير المفردات
الإذاقة هنا : الإعطاء القليل ، والنزع : السلب والحرمان ، واليئوس : شديد اليأس من عود تلك النعمة ، والكفور : كثير الكفران والجحود لما سلف عليه من النعم ، والنعماء والنعمة والنّعمى : الخير والمنفعة ، ويقابلها الضراء والضّر ، وفرح : بطر مغتر بهذه النعمة ، فخور : متعاظم على الناس بما أوتى من النعم ، مشغول بذلك عن القيام بشكرها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه خلق السموات والأرض ليبلو الإنسان أ يشكر أن يكفر ؟ - قفّى على ذلك بذكر طبيعة الإنسان فى ذلك ، وهى أنه إذا أصابته نعماء ثم نزعت منه(12/7)
ج 12 ، ص : 8
قنط من روح اللّه وكفر بها ، وإذا أذاقه نعمة بعد بؤس بطر وفخر - هكذا شأن الإنسان - إلا من صبر وشكر وعمل صالحا.
الإيضاح
(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) أي ولئن أعطينا الإنسان نوعا من أنواع النعم كرخاء عيش وبسطة رزق وصحة وأمن وولد بارّ ، رحمة مبتدأة منا أذقناه لذاتها فكان شديد الاغتباط بها ، ثم سلبنا ذلك بما يحدث من الأسباب التي قدرها اللّه فى الخليقة كالمرض والموت والعسر ، إنه ليظل فى هذه الحال شديد اليأس من الرحمة ، قاطعا للرجاء من عود تلك النعمة ، كثير الكفران لغيرها من النعم التي لا يزال يتمتع بها فضلا عما سلف منها.
والخلاصة - إنه يجمع بين اليأس بعودة ما نزع منه والكفر بما بقي له ، لحرمانه من فضيلتى الصبر والشكر.
(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) أي ولئن كشفنا عنه الضراء التي أصابته وحل محلها نعماء ، كشفاء من مرض ، وزيادة قوة ، وخروج من عسر إلى يسر ، ونجاة من خوف وذل ، إنه ليقولن : ذهب ما كان يسوءنى من المصايب والضراء ولن يعود ، وما هى إلا سحابة صيف قد تقشّعت ، وعلىّ أن أنساها وأتمتع بتلك اللذات ، وإنه حينئذ لشديد الفرح بما يهيجه البطر بتلك النعمة ، وإنه ليغالى فى الفخر والتعالي على الناس والاحتقار لمن دونه فيها.
والخلاصة - أنا إذا منحنا هذا الإنسان اليئوس الكفور نعماء أذقناه لذتها بعد ضراء مسته باقترافه أسبابها لم يقابلها بشكر اللّه عليها ، بل يبطر ويفخر على الناس ولا يقوم بما يجب عليه من مواساة البائسين الفقراء وعمل الخير لبنى الإنسان كفاء ما هو متمتع به من تلك النعم.
ثم استثنى سبحانه من جنس الإنسان فيما ذكر من حاليه السالفتين قبل الصابرين الذين يعملون الصالحات فقال :(12/8)
ج 12 ، ص : 9
(إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي إلا الذين صبروا على ما أصابهم من الضراء إيمانا باللّه واحتسابا للأجر عنده ، وعملوا الصالحات حينما يكشفها ويبدّل النعماء بها ويشكره باستعمالها فيما يرضيه من عمل البر والخير لعباده ، أولئك لهم مغفرة من ربهم تمحو ما علق بأنفسهم من ذنب أو تقصير ، وأجر كبير فى الآخرة على ما وفّقوا لعمله من بر وخير كثير.
والخلاصة - إن الإنسان وإن كان مؤمنا حق الإيمان لا يسلم من ضيق صدر حين حلول الضراء والمصايب ، وذلك مما ينافى كمال الرضا ، كما لا يسلم حين النعماء من شىء من الزّهو والتقصير فى الشكر ، فيغفر له كل منهما بصبره وشكره وإنابته إلى ربه.
وقد جاء بمعنى الآية قوله تعالى : « وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ » .
ووصف الأجر بالكبير - لما حواه من نعيم سر مدى وأمن من العذاب ورضا من اللّه عز وجل ونظر إلى وجهه الكريم « وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ » .
[سورة هود (11) : الآيات 12 الى 14]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
تفسير المفردات
لعل هنا للاستفهام الإنكارى الذي يفيد النهى ، وضيق الصدر : يراد به الغم والحزن ، والكنز : ما يدّخر من المال فى الأرض ، والوكيل : الرقيب الحفيظ للأمور ،(12/9)
ج 12 ، ص : 10
الموكّل بحراستها ، والاستجابة للداعى : إجابته ، والإسلام : الإذعان والخضوع والانقياد :
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه فى بدء السورة قولهم فى القرآن : إنه سحر مبين ، وأنهم يستغشون ثيابهم كى لا يسمعوه - قفّى على ذلك بذكر تكذيبهم للرسول صلى اللّه عليه وسلم والقرآن وبيان أن همه وحزنه صلى اللّه عليه وسلم قد بلغ من كلامهم كل مبلغ ، ثم أعقبه بتحدّيه لهم بالقرآن كى يأتوا بعشر سور مثله ، حتى إذا ما عجزوا علم أنه وحي من عند اللّه.
روى عن ابن عباس أن الآية نزلت حين قال رؤساء مكة : يا محمد اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا ، وقال آخرون : ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوّتك فقال لا أقدر على ذلك.
الإيضاح
(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) أي أ فتارك أنت أيها الرسول بعض ما يوحى إليك ، مما يشقّ سماعه على المشركين من الأمر بالتوحيد والنهى عن الشرك والإنذار والوعيد لهم ، والنعي على معبوداتهم وتسفيه أحلامهم ، وضائق به صدرك أن تبلّغهم إياه كما أنزل.
ذاك أنهم كانوا يتهاونون به فيضيق صدره أن يلقى إليهم ما لا يقبلون وما يضحكون منه ، فاستحثه سبحانه على أداء الرسالة وعدم المبالاة باستهزائهم ، وطرح مقالاتهم الساخرة وراءه ظهريا.
وخلاصة ذلك - تحمّل أخف الضررين وهو تحمل سفاهتهم ، على ترك بعض الوحى والوقوع فى الخيانة فيه(12/10)
ج 12 ، ص : 11
(أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ)
أي كراهة أن يقولوا :
هلا أعطاه ربه كنزا من عنده يغنيه ويمتاز به عن غيره ، أو جاء معه ملك يؤيده فى دعوته كما حكى اللّه عنهم فى سورة الفرقان « وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها » .
وجملة المعنى - إن عنادهم وجحودهم وإعراضهم عن الإيمان وشدة اهتمامك بأمرهم مما من شأنه أن يقتضى ضيق الصدر بحسب الطباع البشرية أو أن يخطر على البال ترك بعض الوحى ، ولو لا عصمتنا إياك وتثبيتنا لك لاجترحت ذلك واستسلمت لما لمثله جرت العادة ، ولكن اللّه حفظك حتى تؤدى رسالته وترحم العالمين بنور نبوتك كما قال : « وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا » .
وقد جاء بمعنى الآية قوله تعالى : « فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً » وقوله : « وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ » وقوله : « المص. كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ » .
(إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي ليس عليك إلا إنذارهم بما أوحى إليك غير مبال بما يصدر منهم ويطلق ألسنتهم ، واللّه هو الرقيب على عباده وليس عليك من أعمالهم شىء.
وقد جاء بمعنى الآية قوله : « لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ » وقوله « فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ » وقوله : « نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ » .(12/11)
ج 12 ، ص : 12
وبعد أن ذكر ضيق صدره لتكذيب المشركين له ، قفى على ذلك بذكر ما قالوه فى القرآن فقال :
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي بل أ يقول هؤلاء المشركون من أهل مكة إن محمدا قد افترى هذا القرآن ؟ فقل لهم إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا بعشر سور مثله مفتريات من عند أنفسكم لا تدّعون أنها من عند اللّه ، فإنكم أهل اللّسن والبيان والمران على المفاخرة بالفصاحة والبلاغة وفنون الشعر والخطابة ، ولم يسبق لى مع العمر الطويل الذي عشته بينكم أن أزاول شيئا من ذلك ، فإن كان من كلام البشر فأنتم على مثله أقدر ، وإنكم لتعلمون أنى لم أكذب على بشر قط ، فكيف أفترى على اللّه ، وإن زعمتم أن لى من يعيننى على تأليفه ووصفه ، فادعوا من استطعتم ممن تعبدون غير اللّه ، ومن جميع خلقه ليساعدوكم على الإتيان بهذه السور العشر ، ولتكن مثله مفتريات تشتمل على مثل ما فيه من تشريع دينى ومدنى وحكم ومواعظ ، وآداب وأنباء غيبية إخبارا عن ماض ، وأنباء غيبية إخبارا عن مستقبل ، بمثل هذا النظام البديع والأسلوب البالغ حد الإعجاز ، والبلاغة الساحرة للألباب ، والسلطان الحاكم على الأنفس والأرواح - إن كنتم صادقين فى دعواكم.
والخلاصة - إن مشركى مكة المعاندين لم يجدوا شهة فى القرآن بعد شبهة السحر التي لم تجد آذانا صاغية عند العرب ، لأنهم أرباب الفصاحة واللسن فعرفوا فضله على سائر الكلام - إلا زعمهم أن محمدا قد افتراه جملة وليس بوحي من عند اللّه ، فتحداهم بالإتيان بعشر سور مثله فى النظم والأسلوب ، محتوية على التشريع القيّم من دينى ومدنى وسياسى ، وحكم ومواعظ وآداب ، وكلّفهم دعوة من استطاعوا من دون اللّه ليظاهروهم ويعاونوهم على ذلك ، فعجزوا ولم يجدوا من فصحائهم من يستجيب لهم ، فقامت الحجة عليهم وعلى غيرهم إلى يوم الدين ، وهذا معنى قوله :
(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ) أي فإن لم يستجب لكم من(12/12)
ج 12 ، ص : 13
تدعونهم من دون اللّه ليعاونوكم على الإتيان بالعشر السور المماثلة للقرآن من فحول الكتاب ومصاقع الخطباء وعلماء أهل الكتاب العارفين أخبار الأنبياء ، فاعلموا أنما أنزل على محمد صلى اللّه عليه وسلم بمقتضى علم اللّه وإرادته أن يبلغه لعباده على لسان رسوله ولا يقدر عليه محمد ولا غيره ممن تدّعونه زورا أنهم أعانوه ، لأنه من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا من أعلمه اللّه به.
(وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي واعلموا أنه لا إله يعبد بحق إلا هو ، إذ من خصائص الإله أن يعلم ما لا يعلمه غيره ، وأن يعجز من عداه عن مثل ما يقدر عليه.
(فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي فهل أنتم بعد أن قامت عليكم الحجة داخلون فى الإسلام الذي أدعوكم إليه بهذا القرآن ، مؤمنون بما فيه من عقائد ووعد ووعيد وأحكام وحكم وآداب.
والخلاصة - إنه لم يبق لكم بعد أن دحضت شبهتكم وانقطعت معاذيركم إلا جحود العناد وإعراض الاستكبار ، والعاقل المنصف لا يرضى لنفسه بمثل هذا دعاء المشركين.
افتراء النبي صلى اللّه عليه وسلم للقرآن
افتراء القرآن يشمل ناحيتين :
(1) افتراء فى جملته بإسناده إلى اللّه ادعاء أنه من كلامه أوحاه إليه.
(2) افتراء أخبار الغيب التي يدّعى أنها من عند اللّه ولا يعلمها إلا هو وبها استدل على نبوته ، وقد حكى اللّه عنهم ادعاء الأمرين فى سورة الفرقان بقوله : « وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً » .
وأساطير الأولين : هى قصصهم وأكاذيبهم التي سطروها ، وكانت العرب تسلّى نفسها عن جهلها بالأديان والتواريخ بزعمهم أنها أساطير الأولين.(12/13)
ج 12 ، ص : 14
وأنباء الغيب ضربان :
(ا) أنباء الغيب الماضية ، وتشمل قصص الرسل مع أقوامهم ، وأخبار التكوين كخلق السموات والأرض وما بينهما كخلق الإنسان والجانّ.
(ب) أنباء الغيب الآتية ، وتشمل وعد اللّه بنصره لرسله والمؤمنين وجعل العاقبة لهم واستخلافهم فى الأرض وخذلان أعدائهم الكافرين ، والقيامة والبعث والحساب والجزاء على العقائد والأعمال ، وقد كانوا ينكرون ذلك ويستبعدونه.
ما حوته قصص القرآن
إن فى قصص القرآن لأشعة من ضياء العلم والهدى جاءت على لسان كهل أمي لم يكن منشئا ولا راوية ولا حافظا ، ويمكن أن بحمل أغراضها فيما يلى :
(1) بيان أصول الدين المشتركة بين جميع الأنبياء من الإيمان باللّه وتوحيده وعلمه وحكمته وعدله ورحمته والإيمان بالبعث والجزاء.
(2) بيان أن وظيفة الرسل تبليغ وحي اللّه لعباده فحسب ، ولا يملكون وراء ذلك نفعا ولا ضرا :
(3) بيان سنن اللّه فى استعداد الإنسان النفسي والعقلي لكل من الإيمان والكفر والخير والشر.
(4) بيان سنن اللّه فى الاجتماع وطباع البشر وما فى خلقه للعالم من الحكمة.
(5) آيات اللّه وحججه على خلقه فى تأييد رسله.
(6) نصائح الأنبياء ومواعظهم الخاصة بكل قوم بحسب حالهم كقوم نوح فى غوايتهم وغرورهم ، وقوم فرعون وملئه فى ثروتهم وعتوهم ، وقوم عاد فى قوتهم وبطشهم ، وقوم لوط فى فحشهم.
فإن أمكن أن يكون كل هذا حديثا مفترى ، فان مفتريه يكون أكمل منهم جميعا علما وعملا وهداية وإصلاحا ، فما أجدرهم أن يتبعوه ، وما أحقهم أن يهتدوا بهديه ،(12/14)
ج 12 ، ص : 15
ولن يكشف حقيقة أمره إلا من يستطيع أن يأتى بحديث مثله ولو مفترى فى صورته وموضوعه ، فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين.
ومن المعلوم أن الاحتذاء والاتباع ، أهون من الابتداء والابتداع.
ولكن افتراء الأمى لهذه العلوم الإلهية والنفسية والتشريعية محال ، فقد عجز عن مثلها حكماء العلماء - أ فهكذا يكون الافتراء ، والحديث المفترى الذي ينهى عنه العقلاء وفى التحدي بهذه السور العشر توسيع على المنكرين إن حدثتهم أنفسهم أن يتصدّوا لمعارضته ، لكنهم لم يستطيعوا فقامت عليهم وعلى غيرهم الحجة إلى يوم القيامة.
[سورة هود (11) : الآيات 15 الى 16]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16)
تفسير المفردات
نوف إليهم : أي نوصّل إليهم ، ولا يبخسون : لا ينقصون ، وحبط : أي فسد وبطل ولم ينتفعوا به.
المعنى الجملي
بعد أن أقام الحجة على حقية دعوة الإسلام ، وعلى أن القرآن من عند اللّه وليس بالمفترى من عند محمد صلى اللّه عليه وسلم كما يدعيه المشركون - قفّى على ذلك ببيان أن الباعث لهم على المعارضة والتكذيب ليس إلا شهواتهم وحظوظهم الدنيوية والإسلام يدعو إلى إيثار الآخرة على الأولى.(12/15)
ج 12 ، ص : 16
الإيضاح
(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) أي من كان حظهم من الدنيا التمتع بلذاتها من طعام وشراب ، وزينتها من اللباس والأثاث والرياش والأموال والأولاد دون استعداد للحياة الآخرة بعمل البر والإحسان وتزكية النفس بعمل الطاعات بباعث الإيمان - نؤد إليهم ثمرات أعمالهم وافية تامة بحسب سنتنا فى الأسباب ولا ينقصون شيئا من نتاج كسبهم لأجل كفرهم ، إذ مدار الأرزاق فيها على الأعمال لا على النيات والمقاصد ، وإن كان لهداية الدين أثر فى ذلك كالاستقامة والصدق ، واجتناب الخيانة والزور والغش ونحو ذلك.
والخلاصة - إن جزاء الأعمال فى الدنيا منوط بأمرين : كسب الإنسان ، وقضاء اللّه وقدره به ، وأما جزاء الآخرة فهو بفعل اللّه تعالى بلا وساطة أحد.
« وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً » .
(أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي هؤلاء الذين لا همّ لهم إلا الدنيا وزينتها ، ليس لهم فى الآخرة إلا النار ، لأن الجزاء فيها على الأعمال كالجزاء فى الدنيا ، وهم لم يعملوا للآخرة شيئا ، فإن العمل لها يكون بتزكية النفس بالإيمان وعمل الفضائل - وبالتقوى باجتناب المعاصي والرذائل ، وما صنعوه فيها مما ظاهره البر والإحسان كالصدقة وصلة الرحم ونحو ذلك لم يكن تزكية لأنفسهم تقرّبهم إلى ربهم ، بل كان لأغراض نفسية من شهواتها كالرياء والسمعة والاعتزاز بذوي القرابة على الأعداء ولو بالباطل ، فلا أجر له فيها وقد انقطع أثره الدنيوي.
وقد جاء فى معنى الآية قوله تعالى : « مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ(12/16)
ج 12 ، ص : 17
وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا »
وقوله صلى اللّه عليه وسلم « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه » .
والخلاصة - أن الدين يبيح التمتع بالطيبات من المآكل والمشارب ، ويبيح الزينة فى غير سرف ولا خيلاء ، على شريطة ألا يجعلها المرء كل همه فى الحياة ، فيحتقر المواهب الإنسانية من عقلية وروحية وهى التي سما بها الإنسان على غيره من المخلوقات ، ألا ترى أن الثور يفضله فى كثرة الأكل ، والبعير فى كثرة الشرب ، والعصفور فى كثرة السّفاد ، والطاوس فى الزينة ولمعان اللباس.
[سورة هود (11) : آية 17]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17)
تفسير المفردات
البينة : ما يتبين به الحق كالبرهان فى الأمور العقلية ، والنصوص فى الأمور النقلية ، والتجارب فى الأمور الحسية ، والشهادة فى القضاء ، ويتلوه : يتبعه ، والشاهد :
هو القرآن ، والموعد : مكان الوعد وهى النار يردها كما قال : « لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ » والمرية : الشك(12/17)
ج 12 ، ص : 18
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه مآل من كان يريد الدنيا وزينتها ولا يهتمّ بالآخرة وأعمالها - قفى على ذلك بذكر من كان يريد الآخرة ويعمل لها ، وكان على بينة من ربه فى كل ما يعمل ومعه شاهد يدل على صدقه ، وهو القرآن ، ومآل من أنكر صحته وكفر به.
الإيضاح
(أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) أي أ فمن كان على نور وبصيرة فى دينه ويؤيده نور غيبى يشهد بصحته وهو القرآن المشرق النور والهدى ، ويؤيده شاهد آخر جاء من قبله. وهو الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام حال كونه إماما متّبعا فى الهدى والتشريع ، ورحمة لمن آمن وعمل به من بنى إسرائيل (وشهادة موسى لهذا النبي الكريم شهادة مقال بالبشارة بنبوته ، وشهادة حال وهى التشابه بين رسالتيهما) - أي أ فمن كان على هذه الأوصاف كمن يريد الحياة الفانية وزينتها الموقوتة ، ويظل محروما من الحياة العقلية والروحية التي توصل إلى سعادة الآخرة الباقية.
ونحو الآية قوله : « أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ » وإجمال المعنى - أ فمن كان كامل الفطرة والعقل ، وعرف حقيقة الوحى وهو القرآن وما فيه من نور وهداية ، وعرف تأييده بالوحى السابق الذي اهتدى به بنو إسرائيل ، فتظاهرت لديه الحجج الثلاث فى الهداية (كمال الفطرة ، ونور القرآن والوحى الذي أنزل على موسى) كمن حرم من ذلك وكان همه مقصورا على الحياة الفانية ولذاتها.
(أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي أولئك الذين جمعوا بين البينة الوهبية ، والبينة الكسبية النقلية ، يؤمنون بهذا القرآن إيمان يقين وإذعان ، على علم بما فيه من الهدى والفرقان ، فيجزمون بأنه ليس بالمفترى من دون اللّه ولم يكن من شأنه أن يكون كذلك.(12/18)
ج 12 ، ص : 19
(وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) أي ومن يكفر بهذا القرآن فيجحد أنه من عند اللّه ممن تحزبوا من أهل مكة وزعماء قريش للصدّ عنه. قال مقاتل هم بنو أمية وبنو المغيرة بن عبد اللّه المخزومي وآل طلحة بن عبيد اللّه ، والذين سيتحزبون لمثل ذلك من أهل الكتاب - فإنه يصير إلى جهنم من جرّاء تكذيبه لوعيده الذي جاء فى نحو قوله « أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ » .
(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي فلا تكن أيها المكلف فى شك من أمر هذا القرآن إنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه آتيا من ربك وخالقك الذي يربّيك بما تكمل به فطرتك ، ويوصلك إلى سعادتك فى دنياك وآخرتك.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي ولكن أكثر الناس لا يؤمنون هذا الإيمان الكامل ، أما المشركون منهم فلاستكبار زعمائهم ورؤسائهم ، وتقليد مرءوسيهم وعامتهم لهم ، وأما أهل الكتاب فلتحريفهم دين أنبيائهم وابتداعهم فيه.
[سورة هود (11) : الآيات 18 الى 24]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24)(12/19)
ج 12 ، ص : 20
تفسير المفردات
الأشهاد : واحدهم شاهد ، واللعنة : الطرد من الرحمة ، والصدّ عن سبيل اللّه :
الصرف عنه ، والعوج : الالتواء ، ومعجزين فى الأرض ، أي لا يمكنهم أن يهربوا من عذابه ، وضل : أي غاب ، ولا جرم : أي حقا ، وأخبتوا : أي خشعوا وخضعوا وأصله من الخبت ، وهو الأرض المطمئنة.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فيما سبق أن الناس فريقان : فريق يريد الدنيا وزينتها وفريق على بينة من ربه ، قفّى على ذلك ببيان حال كل من الفريقين فى الدنيا وما يكون عليه فى الآخرة.
الإيضاح
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) أي لا أحد أظلم لنفسه ولغيره ممن افترى على اللّه كذبا فى أقواله أو أفعاله ، أو أحكامه أو صفاته ، أو فى اتخاذ الشفعاء والأولياء له بدون إذنه أو فى زعم أنه اتخذ له ولدا من الملائكة كالعرب الذين قالوا الملائكة بنات اللّه ، والنصارى الذين قالوا المسيح ابن اللّه ، أو فى تكذيب ما جاء به رسله من دينه لصدّ الناس عن سلوك سبيله.(12/20)
ج 12 ، ص : 21
(أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ، أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) أي ويوم القيامة تعرض أعمال هؤلاء وأقوالهم على ربهم لمحاسبتهم ، ويقول الذين يقومون للشهادة عليهم من الملائكة والأنبياء وصالحى المؤمنين : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم بالافتراء عليه ، ويفضحونهم بهذه الشهادة المقرونة باللعنة الدالة على خروجهم من محيط الرحمة.
وقد جاء فى معنى الآية قوله تعالى : « إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ »
وفى حديث ابن عمر فى الصحيحين وغيرهما : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « إن اللّه يدنى المؤمن حتى يضع كنفه عليه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له : أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ فيقول : رب أعرف ، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى فى نفسه أنه قد هلك قال فإنى سترتها عليك فى الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ، ثم يعطى كتاب حسناته. وأما الكافر والمنافق فيقول :
الأشهاد (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ، أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) » .
(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي إن الظالمين هم الذين يمنعون الناس ويصرفونهم عن سبيل اللّه (وهى دينه القيم وصراطه المستقيم) ويصفونها بالعوج والالتواء لينّفروا الناس منها ، والحال أنهم كافرون بالآخرة لا يؤمنون ببعث ولا جزاء.
(أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) أي إن هؤلاء الذين يصدون عن سبيل اللّه لم يكونوا بالذين يعجزون ربهم بهربهم منه فى الأرض إذا أراد عقابهم ، بل هم فى قبضته وملكه ، لا يمتنعون منه إذا أرادهم ولا يفوتونه هربا إذا طلبهم ، ولم يكن لهم أنصار ينصرونهم من دونه ويحولون بينهم وبينه إذا هو عذّبهم ، ويضاعف لهم العذاب من أجل ضلالهم وإضلالهم.(12/21)
ج 12 ، ص : 22
ثم بين علة هذه المضاعفة بقوله :
(ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) أي ما كانوا يستطيعون إلقاء أسماعهم إلى القرآن إصغاء لدعوة الحق ، لاستحواذ الباطل على أنفسهم ورين الكفر والظلم على قلوبهم ، كما حكى اللّه عنهم بقوله : « وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ » وما كانوا يبصرون ما يدل على صدقه فى الأنفس وفى الآفاق.
وإجمال المعنى - إنهم لشدة انهماكهم فى الكفر واتباع الهوى والشهوات صاروا يكرهون الحق والهدى ، فيثقل عليهم سماع ما يبينه من الآيات السمعية وما يثبته من الآيات البصرية ، فهم قد ختم اللّه على سمعهم وعلى أبصارهم فلا يسمعون الحق سماع منتفع ولا يبصرون حجج اللّه إبصار مهتد.
(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)
أي أولئك الذين هذه صفتهم هم الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة اللّه ، بافترائهم عليه واشتراء الضلالة بالهدى ، وبطل كذبهم بادعاء أن له شركاء وشفعاء يقربونهم إليه زلفى ، ثم سلك بما كانوا يدعونه من دون اللّه غير مسلكهم إذ سلك بهم إلى جهنم وصارت آلهتهم عدما لأنها كانت فى الدنيا أحجارا أو خشبا أو نحاسا ، وذلك هو ضلالهم وبعدهم عنهم.
(لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي حقا إنهم فى الآخرة أشد الناس خسرانا ، إذ هم قد اعتاضوا عن نعيم الجنان ، بحميم آن ، وعن شرب الرحيق المختوم ، بسموم وحميم ، وظلّ من يحموم ، وعن الحور العين ، بطعام من غسلين ، وعن قرب الرحمن ، بعقوبة الملك الديان.
وبعد أن بين حال الكافرين وأعمالهم ومآلهم ، بيّن حال المؤمنين وعاقبة أمرهم فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي إن الذين صدقوا اللّه ورسوله وعملوا فى الدنيا الأعمال الصالحة ، فأتوا(12/22)
ج 12 ، ص : 23
بالطاعات وتركوا المنكرات ، وخشعت نفوسهم واطمأنت إلى ربهم - أولئك هم قطّان الجنة الذين لا يخرجون منها ولا يموتون ، بل هم ما كثون فيها أبدا.
(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) أي مثل فريقى الكافرين والمؤمنين وصفتهما الحسية التي تطابق حالهما كمثل الأعمى الفاقد لحاسة البصر فى خلقته ، والأصم الفاقد لحاسة السمع الذي حرم وسائل العلم والمعرفة الإنسانية والحيوانية ، ومن هو كامل حاستى السمع والبصر ، فهو يستمد العلم من آيات اللّه فى خلقه بما يسمع من القرآن وبما يرى فى الأكوان ، وهما وسيلتا العلم والهدى لعقل الإنسان.
(هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ ؟ ) أي هل يستوى الفريقان صفة وحالا ومآلا ؟ كلا ، إنهما لا يستويان ، أ تغفلون عن ذلك المثل الجلى الواضح أفلا تتذكرون ما بينهما من التباين والاختلاف فتعتبروا به ؟
وإجمال المعنى - إنه شبه الكافرين بالعمى الذين لا يستعملون أبصارهم فيما يفضلون به الحيوان العجم من فهم آيات اللّه التي تزيدهم علما وهدى ، وبالصمّ الذين لا يسمعون داعى اللّه إلى الرشاد والهدى فيجيبونه ويهتدون به ، وشبه المؤمنين الذين انتفعوا بأسماعهم وأبصارهم واهتدوا إلى الجنة وتركوا ما كانوا خابطين فيه من كفر وضلال ، بحال من هو سميع بصير فيهتدى بسمعه إلى ما يبعده من مواضع الهلاك ، ويهتدى ببصره بواسطة النور حين السير فى الظلام.
قصة نوح عليه السلام
[سورة هود (11) : الآيات 25 الى 27]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27)(12/23)
ج 12 ، ص : 24
تفسير المفردات
الملأ : الأشراف والزعماء وأراذل : واحدهم أرذل ، وهو الخسيس الدنيء ، وبادى الرأى : أي ظاهره قبل التأمل فى باطنه ، وفضل : أي زيادة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر بعثة النبي الكريم ، وأثبت بالبرهان أنه رسول من رب العالمين ، وأن القرآن وحي من الرحمن الرحيم ، قفىّ على ذلك بقصص الأنبياء قبله ليبين لقومه أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم ليس بدعا من الرسل وأنه إنما بعث بمثل ما بعث به من قبله من الدعوة إلى عبادة اللّه وحده والإيمان بالبعث والجزاء ، فحاله معهم كحال من قبله من الرسل عليهم السلام مع أقوامهم جملة وتفصيلا كما قال : « سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا » .
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه قائلا لهم إنى لكم نذير من اللّه أنذركم بأسه على كفركم به ، فآمنوا به وأطيعوا أمره.
ثم فسر هذا الإنذار بقوله :
(أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أي بألا تعبدوا إلا اللّه ولا تشركوا به شيئا ، وكانوا أول من أشرك باللّه واتخذوا الأنداد ، وكان هو أول رسول أرسله اللّه إلى أهل الأرض.(12/24)
ج 12 ، ص : 25
ثم علل هذا بقوله :
إنى أخاف عليكم إلخ ، أي إن لم تخصوه بالعبادة وتفردوه بالتوحيد وتخلعوا ما دونه من الأنداد والأوثان - أخف عليكم من اللّه عذاب يوم مؤلم عقابه وعذابه ، لمن عذّب فيه.
وقد أجابوه عن مقالته بأربع حجج داحضة ظنا منهم أنها تكفى فى رد دعوته.
(1) (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) أي إن الأشراف والزعماء بادروا إلى الجواب بقولهم : ما أنت إلا بشر مثلنا فى الجنس لا مزية لك علينا تجعلنا نطيعك ونذعن لنبوتك.
(2) (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) أي وإنا لم نر متبعيك إلا الأخساء كالزرّاع والصناع ومن فى حكمهم فى المكانة الاجتماعية ، بادى الرأى قبل التأمل فى عواقبه ، والنظر فى مستنده ، وترجيح العقل له ، وهذا مما يرجح رد الدعوة والتولي عنها.
(3) (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي وما نرى لك ولمن اتبعك أدنى امتياز عنا من قوة أو كثرة أو علم أو أصالة رأى يحملنا على اتباعكم ويجعلنا ننزل عن جاهنا ومالنا ونكون نحن وأنتم سواء.
(4) (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) أي بل إنا نرجح الحكم عليك وعليهم بالكذب ، فأنت كاذب فى دعوى النبوة ، وهم كاذبون فى تصديقك ، وهذه الشبهة الأخيرة طعن على نوح عليه السلام أشركوا فيها أتباعه ولم يجابهوه بها وحده كما أنهم جعلوها ظنا ولم يجزموا بها ، لأن ذلك كاف فى رد دعوته ، وعدم الدخول فى دينه.
[سورة هود (11) : الآيات 28 الى 31]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)(12/25)
ج 12 ، ص : 26
تفسير المفردات
أرأيتم : أي أخبرونى ، والبينة. ما يتبين به الحق ، وعميت : أخفيت ، وطرده :
أبعده ونحّاه ، وتجهلون : أي تسفهون عليهم ، وهو من الجهالة التي تضادّ العقل والحلم ، وتذكرون أصله تتذكرون ، وزرى على فلان زراية : عابه واستهزأ به.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقالتهم وطعنهم فى نوح عليه السلام بتلك الشبه السالفة ، قفى على ذلك بدحض نوح لها ، ورد شبهات أخرى قد تكون صدرت منهم ولم يحكها ، لعلها من الرد عليها ، وربما لم يقولوها وإن كان كلامهم يستلزمها ، وهذا من خواصّ أسلوب الكتاب الكريم ، وسرّ من أسرار بلاغته.
الإيضاح
(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أي قال يا قومى : أخبرونى ماذا ترون وماذا تقولون ، إن كنت على حجة فيما جئتكم به من ربى يتبين لى بها أنه الحق من عنده ، لا من عندى ومن كسبى البشرى الذي تشاركوننى فيه ، وآتاني رحمة من عنده وهى النبوة وتعاليم الوحى التي هى سبب رحمة(12/26)
ج 12 ، ص : 27
خاصة لمن يهتدى بها ، فحجبها عنكم جهلكم وغروركم بالمال والجاه فلم تتبينوا منها ما تدل عليه من التفرقة بينى وبينكم ، فمنعتم فضل اللّه عنى بحرمانى من النبوة.
(أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) أي أ نكرهكم على قبولها وأنتم معرضون عنها غير متدبرين لها ، كلا ، إنا لا نفعل ذلك ، بل نكل أمركم إلى اللّه حتى يقضى فى أمركم ما يرى ويشاء ، وما علىّ إلا البلاغ.
وهذا أول نصّ فى دين اللّه على أنه لا ينبغى أن يكون الإيمان بالإكراه.
وفى هذه الآية إثبات لنبوته عليه السلام ، وردّ لإنكارهم لها وتكذيبه ومن معه فيها ، وإبطال لشبهتهم فى أنه بشر مثلهم ، وقد فاتهم أن المساواة فى البشرية لا تقتضى استواء أفراد الجنس فى الكمالات والفضائل ؟ فالمشاهدة والتجارب تدل على التفاوت العظيم بين أفراد البشر فى العقل والفكر والرأى والأخلاق والأعمال ، حتى إن الواحد منهم ليأتى بضروب من الإصلاح لقومه بالعلم والعمل يعجز عن مثلها الألوف من الناس فى أجيال كثيرة.
والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عرا
فما بالك بمن يختصهم اللّه من عباده بما شاء مما لا كسب لهم فيه كالأنبياء والرسل الكرام.
(وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) أي لا أسألكم على نصيحتى لكم ودعوتكم إلى توحيد اللّه وإخلاص العبادة له إلا خيركم ومصلحتكم ولا أريد بذلك مالا فأكون متهما فيه عندكم لمكانة حبّ المال من أنفسكم واعتزازكم به علىّ وعلى الفقراء من أتباعى ، فما أجري على ذلك إلا على اللّه الذي أرسلنى ، فهو الذي يجازينى ويثيبنى عليه.
ومثل هذه المقالة قد صدرت من جميع الأنبياء بعده ، فجاءت على لسان هود وصالح وشعيب ومحمد ، صلوات اللّه عليهم أجمعين كما ترى ذلك فى سورة الشعراء محكيا عنهم.(12/27)
ج 12 ، ص : 28
(وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ليس من شأنى ولا بالذي يكون منى أن أبعد من يؤمن بي ، وأنحّيه عنى احتقارا له على أىّ حال كانت صفته.
وفى هذا إيماء إلى الجواب عن قولهم (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) وقد روى أنهم قالوا له يا نوح إن أحببت أن نتبعك فاطرد هؤلاء ، فإنا لن نرضى أن نكون نحن وهم فى الأمر سواء.
ثم علل الامتناع من طردهم بقوله :
(إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي إن هؤلاء الذين تسألوننى طردهم - صائرون إلى ربهم وهو سائلهم عما كانوا يعملون فى الدنيا ، ولا يسألهم عن حسبهم وشرفهم.
(وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) أي تجهلون ما يمتاز به البشر بعضهم عن بعض من اتباع الحق والتحلي بالفضائل وعمل البر والخير ، وتظنون أن الميزة إنما تكون بالمال والجاه.
وقد جاء هذا المعنى فى قصته من سورة الشعراء : « قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ. قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ. وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ » .
(وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) أي ويا قوم لا أجد أحدا يمنع عنى ما أستحقه من عقاب اللّه إن طردتهم بعد إيمانهم واتباعهم إياى فيما بلغتهم - فإن ذلك ظلم عظيم يستحق شديد العقاب مهما تكن صفة من اجترحه كما قال فى سورة الأنعام :
« فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ » .
(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أفلا تتفكرون فيما تقولون ، وهو ظاهر الخطأ لائحه فتنتهوا عنه ؟ ، فإن لهم ربّا ينصرهم وينتقم لهم.
(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ) أي ولا أقول لكم بادعائى للنبوة والرسالة إن عندى خزائن رزق اللّه : (أنواع رزقه التي يحتاج إليها عباده للانفاق منها)(12/28)
ج 12 ، ص : 29
أتصرّف فيها بغير وسائل الأسباب المسحرة لسائر الناس ، فأنفق على نفسى وعلى من تبعني بالتصرف فيها بخوارق العادات ، بل أنا وغيرى فى الكسب سواء ، إذ ذلك ليس من موضوع الرسالة ولا من خصائص النبي ، ولو كان كذلك لا تبع الناس الرسل لأجلها. بل الغاية من بعث الرسل تزكية الأنفس بمعرفة اللّه وعبادته ، وتأهيلها لمثوبته فى دار كرامته ، ورضاه عنها يوم لا ينفع مال ولا بنون.
(وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) فلا أمتاز عن سائر البشر بعلم ما لا يصل إليه علمهم الكسبي من مصالحهم ومنافعهم ومضارهم فى معايشهم وكسبهم ، فأخبر بها أتباعى ليفضلوا عليكم ، ومن ثم أمر اللّه نبيه أن يقول لقومه : « قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ » (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) من الملائكة أرسلت إليكم فأكون كاذبا فيما أدعى ، بل أنا بشر مثلكم أمرت بدعائكم إلى اللّه وقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم.
وفى هذا دحض لشبهتهم ، إذ زعموا أن الرسول من اللّه إلى البشر يجب أن يفضلهم ويمتاز عنهم ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن يكون ملكا يعلم ما لا يعلمه البشر ، ويقدر على ما لا يقدر عليه البشر.
(وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً) أي ولا أقول للذين اتبعونى وآمنوا باللّه وحده ، وأنتم تنظرون إليهم نظرة استصغار واحتقار فتزدريهم أعينكم لفقرهم ورثاثة حالهم : لن يؤتيهم اللّه خيرا وهو ما وعدوه على الأيمان والهدى من سعادة الدنيا والآخرة.
(اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) أي اللّه أعلم بما فى صدورهم وبما آتاهم من الإيمان على بصيرة ، ومن اتباع رسوله بإخلاص وصدق سريرة ، لا كما زعمتم من اتباعهم إياى بادى الرأى بلا بصيرة ولا علم.
(إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي إنى إذا قضيت على سرائرهم بخلاف ما أبدته لى ألسنتهم على غير علم منى بما فى نفوسهم أكون ظالما لهم بهضم حقوقهم.(12/29)
ج 12 ، ص : 30
[سورة هود (11) : الآيات 32 الى 34]
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
تفسير المفردات
أصل الجدال. هو الصراع وإسقاط المرء صاحبه على الجدالة وهى الأرض الصّلبة ثم استعمل فى المخاصمة والمنازعة بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب ، والنصح :
تحرّى الخير والصلاح للمنصوح له ، والإخلاص فيه قولا وعملا ، والإغواء : الإيقاع فى الغى ، وهو الفساد الحسى والمعنوي ، والإجرام : الفعل القبيح الضارّ الذي يستحق فاعله العقاب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه شبهاتهم فى رفض نبوة نوح عليه السلام وردّ نوح عليهم بما فيه مقنع لهم لو كانوا يعقلون ، ذكر هنا مقالتهم التي تدل على العجز والإفحام ، وأن الحيل قد ضاقت عليهم فلم يجدوا للرد سبيلا ، وفى ذلك إيماء إلى أن الجدال فى تقرير أدلة التوحيد والنبوة والمعاد وفى إزالة الشبهات عنها هى وظيفة الأنبياء ، والتقليد والجهل والإصرار على الباطل والإنكار والجحود هو ديدن الكفار المعاندين.(12/30)
ج 12 ، ص : 31
الإيضاح
(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي قال قومه له : قد حاججتنا فأكثرت جدالنا واستقصيت فيه فلم تدع حجة إلا ذكرتها حتى مللنا وسئمنا ولم يبق لدينا شىء نقوله كما قال فى سورة نوح حكاية عنه :
« قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً. فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً » أي فأتنا بما تعدنا من عذاب اللّه الدنيوي الذي تخافه علينا وهو الذي أراده بقوله (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) إن كنت صادقا فى دعواك أن اللّه يعاقبنا على عصيانه فى الدنيا قبل عقاب الآخرة.
(قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي قال لهم نوح حين استعجلوا العذاب : يا قوم إن هذا العذاب بيد اللّه لا أملكه وهو الذي يأتيكم به إن تعلقت مشيئته فى الوقت الذي تقتضيه حكمته ، ولستم بفائتيه هربا منه إن أخره لحكمة يعلمها ، وهو واقع لا محالة متى شاء ، لأنكم فى ملكه وسلطانه ، وقدرته نافذة عليكم.
(وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) أي إن نصحى لكم لا ينفعكم بمجرد إرادتى له فيما أدعوكم إليه ، بل يتوقف نفعه على إرادة اللّه تعالى له ، وقد مضت سنته كما دلت عليه التجارب أن النصح إنما يقبله المستعد للرشاد ، ويرفضه من غلب عليه الغى والفساد ، باجتراحه أسبابه من غرور بغنى وجاه ، أو باتباع هوى وحب شهوات ، تمنع من طاعة اللّه تعالى.
والخلاصة - إن معنى إرادة اللّه إغواءهم اقتضاء سننه فيهم أن يكونوا من الغاوين لا خلقه للغواية فيهم ابتداء من غير عمل منهم ولا كسب لأسبابها ، فإن الحوادث مرتبطة بأسبابها والنتائج متوقفة على مقدماتها.
(هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي هو مالك أموركم ومدبرها بحسب سننه المطردة(12/31)
ج 12 ، ص : 32
فى الدنيا ، ولكل شىء عنده قدر ، ولكل قدر أجل ، وإليه ترجعون فى الآخرة فيجازيكم بما كنتم تعملون من خير وشر ، ولا تظلمون نقيرا.
[سورة هود (11) : آية 35]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
المعنى الجملي
قال مقاتل وغيره : هذه الآية معترضة فى قصة نوح حكاية لقول مشركى مكة فى تكذيب هذه القصص. وللجمل والآيات المعترضة فى القرآن حكم وفوائد ، منها تنبيه الأذهان ومنع السآمة وتجديد النشاط بالانتقال من غرض إلى آخر والتشويق إلى سماع بقية الكلام ، ومن المتوقع هنا أن يخطر فى بال المشركين حين سماع ما تقدم من هذه القصة أنها مفتراة ، لاستغرابهم هذا السبك فى الجدال ، والقوة فى الاحتجاج فكان إيراد هذه الآية تجديد للرد عليهم وتجديدا لنشاطهم.
الإيضاح
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي بل أ يقول مشركو مكة : إن محمد افترى خبر قوم نوح.
فأمره اللّه أن يجيبهم بقوله :
(قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي) أي إن كنت افتريته على اللّه كما تزعمون فما عليكم فى ذلك من بأس ، إنما إثم ذلك وعقابه علىّ ، ومن كان يؤمن أن هذا إجرام يعاقب عليه فاعله ، فما الذي يحمله على اقترافه ؟ .
(وَأَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) أي كما أنى برىء من آثامكم وذنوبكم ، فحكم اللّه العدل أن يجزى كل امرئ بعمله كما قال : « وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى » .(12/32)
ج 12 ، ص : 33
[سورة هود (11) : الآيات 36 الى 39]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39)
تفسير المفردات
ابتأس : اشتد بؤسه وحزنه ، والفلك : السفينة ، ويطلق على الواحد والجمع ، والمراد بالأعين هنا : شدة الحفظ والحراسة ، وسخر منه : استهزا به ، ويخزيه : يذله ويفضحه : ومقيم : أي دائم :
المعنى الجملي
بعد أن أخبر سبحانه أن نوحا قد أكثر فى حجاجهم وجدالهم ، وأنه كلما ازداد فى ذلك زادوا عتوّا وطغيانا حتى تعجلوا منه العذاب وقالوا له : ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين - قفّى على ذلك بذكر ما أيأسه من إيمانهم وأعلمه بأن ذلك كالمحال الذي لا يكون فالجدال والحجاج معهم عبث ضائع ، فلن يؤمن منهم إلا من قد حصل منه إيمان من قبل. فإياك أن تغتمّ على ما كان منهم من تكذيب فى تلك الحقبة الطويلة ، فقد حان حينهم وأزف وقت الانتقام منهم.
الإيضاح
(وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي وأوحى اللّه إلى نوح بعد أن استعجل قومه العذاب ، ودعا عليهم دعوته(12/33)
ج 12 ، ص : 34
التي حكاها اللّه عنه « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً » : أنه لن يؤمن أحد منهم فيتّبعك على ما تدعوه إليه إلا من قد آمن من قبل فيظل على إيمانه فلا يشتدنّ عليك البؤس والحزن بعد اليوم ، بما كانوا يفعلون فى السنين الطوال من العناد والإيذاء والتكذيب لك ولمن آمن معك ، فأرح نفسك بعد الآن من جدالهم ومن إعراضهم واحتقارهم ، فقد آن زمن الانتقام ، وحان حين العذاب.
(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) أي واصنع الفلك الذي سننجيك ومن آمن معك فيه وأنت محروس ومراقب برعايتنا ، أي إننا حافظوك فى كل آن ، فلا يمنعك من حفظنا مانع ، وملهموك ومعلموك بوحينا كيف تصنعه ، فلا يعرضنّ لك خطأ فى صنعته ولا فى وصفه.
ونحو الآية قوله لموسى « وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي » وقوله لمحمد صلى اللّه عليه وسلم « وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا » .
(وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي ولا تراجعنى فى شىء من أمرهم من دفع العذاب عنهم وطلب الرحمة لهم ، فقد حقت عليهم كلمة العذاب وقضى عليهم بالإغراق.
والخلاصة - لا تأخذنك بهم رأفة ولا شفقة.
(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) أي وشرع يصنع الفلك وكلما مر عليه جماعة من كبراء قومه استهزءوا به وضحكوا منه ، وتنادروا عليه ظنا منهم أنه أصيب بالهوس والجنون.
روى أنهم قالوا له : أ تحولت نجارا بعد أن كنت نبيّا ، وليس ذلك بالغريب منهم فإنه ما من أحد يسبق أهل عصره بما فوق عقولهم من قول أو فعل إلا سخروا منه قبل أن يكتب له النجاح فيه.(12/34)
ج 12 ، ص : 35
(قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) أي قال نوح مجيبا لهم عن سخريتهم ، إن تسخروا منا اليوم وتستجهلونا لرؤيتكم ما لا تتصورون له فائدة ، فإنا نسخر منكم كما تسخرون جزاء وفاقا ، نسخر منكم اليوم لجهلكم ، وغدا لما سيحلّ بكم.
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي فإن كنتم لا تعلمون اليوم فائدة ما نعمل وما له من عاقبة محمودة فسوف تعلمون بعد تمامه من يأتيه عذاب يفضحه ويجلب له العار والخزي فى الدنيا وهو عذاب الغرق ، ويحل عليه عذاب دائم فى الآخرة بعد ذلك ، وكل ما فى الدنيا فهو هيّن لين بالنسبة إلى ما يكون فى الآخرة لانقضائه وزواله ، وبقاء ذاك ودوامه.
[سورة هود (11) : الآيات 40 الى 44]
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
تفسير المفردات
الفور والفوران : الارتفاع القوى ، يقال فى الماء إذا نبع وجرى ، وإذا غلا(12/35)
ج 12 ، ص : 36
وارتفع ، والمراد منه هنا اشتداد غضب اللّه على أولئك المشركين الظالمين لأنفسهم وللناس ، وحلول وقت انتقامه منهم ، والتنور : ما يخبز فيه الخبز ، اتفقت فيه لغة العرب والعجم وأهل بيت الرجل : نساؤه وأولاده وأزواجهم ، ومجريها ومرساها : أي إجراؤها وإرساؤها ، ومعزل : أي مكان عزلة وانفراد ، وآوى : أي ألجأ ، وعصمه : حفظه ، والبلع : ازدراد الطعام والشراب بسرعة ، وغاض الماء غار فى الأرض ونضب ، والجودي : جبل بالموصل.
المعنى الجملي
هذه الآيات غاية لما ذكر قبلها من الاستعداد لهلاكهم ، ومقابلة السخرية بغير ابتئاس ولا ضجر.
الإيضاح
(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ) أي حتى إذا جاء وقت أمرنا بهلاكهم ، ونبع الماء من التنور وارتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها ، وكان ذلك علامة لنوح عليه السلام ، والأقرب أن يكون المراد من التنور وجه الأرض ، ويكون المعنى حتى إذا نبع الماء من وجه الأرض.
(قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي حتى إذا أمرنا قلنا لنوح آنئذ : احمل فى السفينة من كل نوع من أنواع الحيوان زوجين اثنين ذكرا وأنثى ، لتبقى بعد غرق سائر الأحياء فتتناسل ويبقى نوعها على الأرض.
(وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ) أي واحمل فيها أهل بيتك ذكرانا وإناثا إلا من سبق عليه القول بأنهم من المغرقين بسبب ظلمهم كما قال : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) واحمل من صدقك واتبعك من قومك.
(وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) منهم ، قيل إنهم كانوا ثمانية : نوحا عليه السلام وأهله(12/36)
ج 12 ، ص : 37
وأبناءه الثلاثة وأزواجهم ، ولم يبين اللّه ورسوله لنا عددهم ، فحصره فى عدد معين من قبيل الحدس والتخمين ، كما لم يبين لنا أنواع الحيوان التي حملها ولا كيف حملها وأدخلها السفينة ، وقد فصل ذلك فى سفر التكوين.
(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها) أي فحملهم نوح وقال اركبوا فيها باسم اللّه جريانها وإرساؤها ، فهو الذي يتولّى ذلك بحوله وقوته ، وحفظه وعنايته ، وقد يكون المعنى : إن نوحا أمرهم بأن يقولوها كما يقولها على تقدير : اركبوا فيها قائلين باسم اللّه أي بتسخيره وقدرته مجراها حين تجرى ، ومرساها حين يرسيها ، لا بحولنا ولا بقوتنا.
(إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن ربى لواسع المغفرة لعباده حيث لم يهلكهم بذنوبهم ، بل يهلك الكافرين الظالمين منهم ، رحيم بهم إذ سخر لهم هذه السفينة لنجاة بقية الإنسان والحيوان من هذا الطوفان الذي اقتضته مشيئته.
أخرج الطبراني وغيره عن الحسن بن على رضى اللّه عنه أنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « أمان لأمتى من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا : باسم اللّه الملك الرحمن الرحيم (بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها) الآية » .
(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) أي هى تجرى بهم فى موج يشبه الجبال فى علوه وارتفاعه وامتداده ، ومن كابد ما يحدث فى البحار العظيمة من الأمواج حين ما تهيجها الرياح الشديدة عرف أن المبالغة فى هذا التشبيه غير بعيدة ، فإن السفينة لترى كأنها تهبط فى غور عميق كواد سحيق يرى البحر من جانبيه كجبلين عظيمين يكادان يطبقان عليها ، وبعد هنيهة يرى أنها قد اندفعت إلى أعلى الموج كأنها فى شاهق جبل تريد أن تنقضّ منه ، والملاحون يربطون أنفسهم بالحبال على ظهرها وجوانبها لئلا يجرفهم ما يفيض من الموج عليها.
ثم بين أن نوحا دعته الشفقة على ابنه فناداه كما أشار إلى ذلك بقوله :
(وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ : يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ)(12/37)
ج 12 ، ص : 38
أي وناداه حين الركوب فى السفينة ، وقبل أن تجرى بهم ، وكان فى مكان منعزل بعيد عن أبيه وإخوته ومن آمن من قومه ، يا بنى اركب معنا الفلك ولا تكن مع الكافرين الذين قضى عليهم بالهلاك.
فردّ ابنه عليه :
(قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) أي قال سأصير إلى جبل أتحصن به من الماء فيحفظنى من الغرق :
فأجابه نوح مبيّنا له خطأه :
(قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ، وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) أي قال نوح لابنه لا شىء يعصم أحدا فى هذا اليوم العصيب من عذاب اللّه الذي قضاه على الكافرين ، فليس الأمر أمر ماء يتّقى بالأسباب العادية ، وإنما هو انتقام من أشرار العباد الذين أشركوا باللّه وظلموا أنفسهم وظلموا الناس بطغيانهم فى البلاد ، لكنه يحفظ من رحم ويعصمه ، وقد اختص بهذه الرحمة من حملهم فى السفينة ، وكان الماء قد بدأ يرتفع أثناء الحديث حتى حال بين الولد ووالده فكان من المغرقين الهالكين.
وقد وصف سبحانه هذا الطوفان فى سورة القمر قال : « كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ، فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ، فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ، وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ ، وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ » .
وإنه لمنظر تشيب من هوله الولدان ، ماء ينهمر من السماء انهمارا ، وأرض تتفجر فتفيض ماء ثجاجا يصير بحرا متلاطم الأمواج ، تغطت من تحته الأرض بجبالها ووديانها ،(12/38)
ج 12 ، ص : 39
وخفيت من فوقه السماء بكواكبها وشمسها ، وكانت عليه السفينة كما كان عرش اللّه على الماء فى بدء التكوين.
ثم ذكر ما حدث بعد هلاكهم مبينا قدرته تعالى فقال :
(وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي وجاء نداء من الملأ الأعلى خوطبت به الأرض والسماء : يا أرض ابلعي ماءك الذي عليك والذي تفجر من باطنك ، ويا سماء كفّى عن المطر ، فلم يلبث أن غاض الماء امتثالا للأمر ، وقضى الأمر بإهلاك الظالمين واستقرت السفينة راسية على جبل الجودي ، وقيل هلاكا وسحقا للظالمين ، وبعدا لهم من رحمة اللّه بما كان من ظلمهم وفقدهم الاستعداد للتوبة والرجوع إلى اللّه عز وجل.
[سورة هود (11) : الآيات 45 الى 49]
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)(12/39)
ج 12 ، ص : 40
المعنى الجملي
الآيات الثلاث الأولى تبين أن حكم اللّه فى خلقه العدل بلا محاباة لولىّ ولا نبى ، وأن الأنبياء قد يجوز عليهم الخطأ فى الاجتهاد ويعدّ ذلك ذنبا بالنظر إلى مقامهم الرفيع ومعرفتهم بربهم ، وذلك ما عرض له نوح عليه السلام من الاجتهاد فى أمر ابنه الذي تخلّف عن السفينة فكان من المغرقين ، كما أن فى الآية الأخيرة استدلالا على نبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم وطلب صبره على أذى قومه.
الإيضاح
(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ، وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) أي ونادى نوح ربه إثر ندائه لابنه الذي تخلف عن السفينة ودعاه إليها فلم يستجب ، فقال يا رب إن ابني هذا من أهلى الذي وعدتني بنجاتهم إذ أمرتنى بحملهم فى السفينة ، وإن وعدك الحق الذي لا خلف فيه ، وأنت خير الحاكمين بالحق ، كما قلت « وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ » فحكمك يصدر عن كمال العلم والحكمة فلا يعرض له الخطأ ولا الحيف والظلم.
والخلاصة - إن نوحا كان يريد أن ينجو ابنه الذي تخلف عن السفينة من الغرق بعد أن دعاه إليها ، ومن البيّن أن هذا الدعاء لا بد أن يكون بعد المحاورة مع ابنه قبل أن يحول بينهما الموج.
(قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) أي قال تعالى : يا نوح إنه ليس من أهلك الذين أمرتك أن تحملهم فى الفلك لإنجائهم ، وقد بين سبحانه سبب ذلك بأنه ذو عمل غير صالح : أي فهو يتنكّب الصلاح ويلتزم الفساد.(12/40)
ج 12 ، ص : 41
(فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي فلا تسألنى فى شىء ليس لك به علم صحيح ، وقد سمى دعاءه سؤالا ، لأنه تضمن ذكر الوعد بنجاة أهله ، ومارتبه عليه من طلب نجاة ولده.
وفى الآية إيماء إلى أنه لا يجوز الدعاء بطلب ما هو مخالف لسنن اللّه فى خلقه بإرادة قلب نظام الكون لأجل الداعي ، ولا بطلب ما هو محرم شرعا ، وإنما يجوز الدعاء بتسخير الأسباب والتوفيق فيها والهداية إلى العلم بالمجهول من السنن والنظام ، لنكثر من عمل الخير ، ونزيد من عمل البر والإحسان.
(إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي إنى أنهاك أن تكون من زمرة من يجهلون ، فيسألونه تعالى أن يبطل حكمته وتقديره فى خلقه ، إجابة لشهواتهم وأهوائهم فى أنفسهم أو أهليهم أو محبيهم.
وفى ذلك دليل على أن من أكبر الجهالات أن نسأل بعض الصالحين والأولياء ما نهى اللّه عنه نبيّا من أولى العزم من رسله أن يسأله إياه ، فإن ذلك يقضى بأن اللّه يعطيهم ما لم يعط مثله لرسله.
ثم ذكر طلب نوح المغفرة من ربه على ما فرط منه من السؤال فقال حاكيا عنه :
(قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي قال نوح رب إنى ألتجئ إليك وأحتمى بك من أن أسألك بعد الآن شيئا لا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة ، وإن لم تغفر لى ذنب هذا السؤال الذي سوّلته لى الرحمة الأبوية وطمعى فى الرحمة الربانية ، وترحمنى بقبول توبتى برحمتك التي وسعت كل شى ء - أكن من الخاسرين فيما حاولته من الربح بنجاة أولادى كلهم وسعادتهم بطاعتك وأنت أعلم بهم منى.
والعبرة فى الآية من وجوه :
(1) إن ما سأله نوح لابنه لم يكن معصية للّه تعالى خالف فيها أمره أو نهيه ، وإنما(12/41)
ج 12 ، ص : 42
كان خطأ فى اجتهاد بنية صالحة ، وعدّ هذا ذنبا ، لأنه ما كان ينبغى لمثله من أرباب العلم الصحيح اللائق بمنزلته من ربه ، ومثل هذا الاجتهاد لم يعصم منه الأنبياء ، فهم يقعون فيه أحيانا ليشعروا بحاجتهم إلى تأديب ربهم وتكميله إياهم حينا بعد حين.
(2) إنه لا علاقة للصلاح بالوراثة والأنساب ، بل يختلف ذلك باختلاف استعداد الأفراد وما يحيط بهم من البيئة والآراء والمعتقدات ، ولو كان للوراثة تأثير كبير لكان جميع أولاد آدم سواء ، ولكان سلائل أبناء نوح المؤمنين الذين نجوا معه فى السفينة كلهم مؤمنين.
(3) إنه تعالى يجزى الناس فى الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم ، لا بأنسابهم ، ولا يحابى أحدا منهم لأجل الآباء والأجداد وإن كانوا من الأنبياء والمرسلين.
(4) إن من يغترّ بنسبه ولا يعمل ما يرضى ربه ، ويزعم أنه أفضل من العلماء العاملين والأولياء الصالحين ، فهو جاهل بكتاب ربه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي قال الذي بيده ملكوت كل شىء ومدبر أمر العالم كله لنوح ، بعد أن انتهى الطوفان ، وأقلعت السماء عن المطر ، وابتلعت الأرض ماءها وصارت السكنى على الأرض والعمل عليها سهلا ممكنا : يا نوح اهبط من الجودي الذي استوت عليه السفينة ، ممتّعا بسلام وتحية. منا كما قال تعالى « سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ » وبركات فى المعايش والأرزاق تفيض عليك وعلى من معك فى السفينة وعلى ذريات يتناسلون منهم ويتفرقون فى الأرض فيكونون أمما مستقلا بعضها من بعض ، ومنهم أمم آخرون من بعدهم سنمتعهم فى الدنيا بالأرزاق والبركات ، ولا يصيبهم لطف من ربهم ورحمة منه كما يصيب المؤمنين ، فإن الشيطان سيغويهم ويزين لهم الشرك والظلم والبغي ، ثم يمسهم العذاب الأليم فى الدنيا والآخرة ، لأنهم لا يحافظون(12/42)
ج 12 ، ص : 43
على السلام ، بل يبغى بعضهم على بعض لتفرقهم واختلافهم فى هداية الدين التي بعث بها المرسلون ، ويكون جزاؤهم فى الآخرة النار وبئس القرار.
ثم ذكر لنبيّه صلى اللّه عليه وسلم أن هذا قصص من عالم الغيب لا يعرفه هو ولا قومه من قبل فقال : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) أي هذا القصص الذي قصصته عليك من خبر نوح وقومه من أخبار الغيب التي لم تشهدها حتى تعلمها ، نوحيها إليك نحن فنعرّفكها تفصيلا ، وما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل الوحى الذي نزل مبيّنا لها ، وربما كان يعلمها هو وقومه على سبيل الإجمال.
(فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) أي فاصبر على القيام بأمر اللّه وتبليغ رسالته وما تلقى من قومك من أذى كما صبر نوح على قومه ، فإن سنة اللّه فى رسله وأقوامهم أن تكون العاقبة بالفوز والنجاة للمتقين الذين يجتنبون المعاصي ويعملون الطاعات ، فأنتم الفائزون المفلحون ، والمصرّون على عداوتكم هم الخاسرون الهالكون.(12/43)
ج 12 ، ص : 44
تتمة لقصة نوح عليه السلام
هل كان الطوفان عامّا أو خاصا ؟
سئل الأستاذ الإمام محمد عبده فى ذلك فأجاب بما يلى :
ليس فى القرآن نص قاطع على عموم الطوفان ولا على عموم رسالة نوح عليه السلام ، وما ورد من الأحاديث على فرض صحة سنده فهو آحاد لا يوجب اليقين ، والمطلوب فى تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن إذا عدّ اعتقادها من عقائد الدين.
وأما المؤرخ ومريد الاطلاع فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوى أو المؤرخ أو صاحب الرأى ، وما يذكره المؤرخون والمفسرون فى هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية أو عدم الثقة بها ، ولا تتخذ دليلا قطعيا على معتقد دينى.
من أجل هذا كانت هذه المسألة موضوع نزاع بين أهل الأديان وأهل النظر فى طبقات الأرض ، وموضوع خلاف بين مؤرخى الأمم.
فأهل الكتاب وعلماء الأمة الإسلامية على أن الطوفان كان عاما لكل الأرض ، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر ، واحتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة فى أعالى الجبال ، لأن هذه الأشياء مما لا تتكون إلا فى البحر ، فظهورها فى رءوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات ، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض.
ويزعم غالب أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عامّا ، ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها ، غير أنه لا يجوز لمسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عاما لمجرد احتمال التأويل فى آيات الكتاب العزيز ، بل على كل من يعتقد بالدين ألا ينفى شيئا مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها وينصرف عنها إلى التأويل إلا بدليل عقلى يقطع بأن الظاهر غير مراد ، والوصول إلى ذلك فى مثل هذه المسألة يحتاج(12/44)
ج 12 ، ص : 45
إلى بحث طويل وعناء شديد. وعلم غزير فى طبقات الأرض وما تحتوى عليه ، وذلك يتوقف على علوم شتى عقلية ونقلية ، ومن هذى برأيه بدون علم يقينىّ فهو مجازف لا يسمع له قول ، ولا يسمح له ببثّ جهالاته ، واللّه ورسوله أعلم اه بتصرف.
وخلاصة هذا - إن ظواهر القرآن والأحاديث تدل على أن الطوفان كان عامّا شاملا لقوم نوح الذين لم يكن فى الأرض غيرهم فيجب اعتقاده ، ولكنه لا يقتضى أن يكون عاما للأرض ، إذ لا دليل على أنهم كانوا يملئون الأرض ، وكذلك وجود الأصداف والحيوانات البحرية فى قنن الجبال لا يدل على أنها من أثر ذلك الطوفان ، بل الأقرب أنه كان من أثر تكوّن الجبال وغيرها من اليابسة فى الماء ، فإن صعود الماء إلى الجبال أياما معدودة لا يكفى لحدوث ما ذكر فيها.
ولما كانت هذه المسألة التاريخية ليست من مقاصد الدين لم يبينها بنص قطعى ، ومن ثم نقول إنه ظاهر النصوص ولا نتخذه عقيدة دينية قطعية ، فإن أثبت علم طبقات الأرض (الجيلوجيا) خلافه فلا يضيرنا ، لأنه لا ينقض نصّا قطعيا عندنا.
حادثة الطوفان
فى القرآن والتوراة والتاريخ القديم
ذكرنا فيما سلف أن أحداث التاريخ وضبط وقائعه وأزمنتها وأمكنتها ليس من مقاصد القرآن ، وأن ما فيه من قصص الرسل مع أقوامهم فإنما هو بيان لسنة اللّه فيهم.
وذكرنا أيضا أن قصة نوح عليه السلام جاءت فى عدة سور فى كل سورة منها ما ليس فى سائرها ، ولم يذكر من حادثة الطوفان إلا ما فيه العبرة والموعظة.
وجاءت هذه القصة فى سفر التكوين فى أربعة فصول ذكر فى أولها سبب الطوفان وهو فى جملته على نحو ما جاء فى القرآن الكريم إلا أن الأسلوب على نحو أساليب التوراة ، وذكر فى الرابع منها رجوع المياه من الأرض بالتدريج واستقرار الفلك على جبل أراراط ثم خروج نوح ومن معه من السفينة.(12/45)
ج 12 ، ص : 46
وقد ورد فى تواريخ أكثر الأمم القديمة ذكر الطوفان ، منها ما هو موافق لما فى سفر التكوين ، ومنها ما هو مخالف له فروى اليونان خبرا عن الطوفان أورده أفلاطون قال : إن كهنة المصريين قالوا لسولون (الحكيم اليوناني) إن السماء أرسلت طوفانا غيّر وجه الأرض ، وروى عن قدماء الفرس طوفان أغرق اللّه به الأرض بما انتشر فيها من الفساد والشر بفعل (اهريمان) إله الشر ، وقالوا إن هذا الطوفان فار أولا من تنورالعجوز (زول كوفه) إذ كانت تخبز خبزها فيه ، ولكن المجوس أنكروا عموم الطوفان وقالوا إنه كان خاصا بإقليم العراق وانتهى إلى حدود كردستان.
عمر نوح عليه السلام
جاء فى الكتاب الكريم فى سورة العنكبوت : « وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ » .
وجاء فى سفر التكوين نحو من هذا ، وقد اشتبه الأمر على الناس فى أزمنة مختلفة حتى زعم بعضهم أن السنة عند المتقدمين أقل من السنة عند أهل القرون المعروفة بعد تدوين التاريخ ، ولا دليل على هذا.
والذي يظهر أن أعمار آدم وذريته إلى ما قبل الطوفان أو قبل ما كشف من آثار التاريخ لا تقاس بما عرف بعد ذلك ، لأن معيشة الإنسان الفطرية كانت أسلم للأبدان وأقل توليدا للأمراض : وقول اللّه هو الحق ويجب الإيمان به على كل حال ، قال الشاعر :
نجيت يا رب نوحا واستجبت له فى فلك ماخر فى اليمّ مشحونا
وعاش يدعو بآيات مبيّنة فى قومه ألف عام غير خمسينا
قصة هود عليه السلام
[سورة هود (11) : الآيات 50 الى 52]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)(12/46)
ج 12 ، ص : 47
المعنى الجملي
هذا القصص ذكر فى سورة الأعراف بأسلوب ونظم يخالف ما هنا ، وفى كل منهما من العظة والعبرة ما ليس فى الآخر ، وسيأتى فى السور التالية بسياق آخر.
وقد جاء فى بعض الروايات أن هودا أول من تكلم بالعربية ، فهو أول رسول عربى من ذرية نوح ، وآخر رسول هو محمد صلى اللّه عليه وسلم وهو عربى أيضا.
الإيضاح
(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) أي وأرسلنا إلى عاد الأولى أخاهم فى النسب والوطن هودا فقال لهم :
يا قوم اعبدوا اللّه ما لكم من إله غيره فلا تعبدوا من دونه وثنا ولا صنما ، فما أنتم فى عبادتكم غيره من الأنداد والشركاء إلا مفترون الكذب عليه بتسميتكم إياهم شفعاء تتقربون بهم أو بقبورهم أو بصورهم وتماثيلهم وترجون النفع وكشف الضر عنكم بجاههم عنده.
(يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من إخلاص العبادة للّه والبراءة من الأوثان أجرا فتتهمونى بأنى أريد المنفعة لنفسى ، ما ثوابى الذي أرجوه على تبليغى إياكم إلا على اللّه الذي خلقنى على الفطرة السليمة مبرّأ من هذه البدع الوثنية التي ابتدعها قوم نوح حين صنعوا التماثيل لحفظ ذكرى الصالحين ، فزيّن لهم الشيطان تعظيم هذه التماثيل فعبدوها ، أفلا تعقلون ما يقال لكم فتميزوا بين ما يضر وما ينفع ، وإنى لكم ناصح أمين فلا أغشكم فيما أدعوكم إليه.(12/47)
ج 12 ، ص : 48
(وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) السماء هنا : المطر ، والمدرار : الكثير الدرور ، وأصله فى كثرة درّ اللبن ، يقال درّت الشاة تدرّ فهى دار : أي كثر فيض لبنها ، أي يا قوم استغفروا ربكم من الشرك ثم أخلصوا له التوبة ، يرسل عليكم المطر متتابعا من غير ضرر (وقد كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمائر) ويزدكم عزّا إلى عزكم وقد كانوا يهتمون بذلك ويفخرون على الناس ، وقد بسط اللّه لهم الأجسام وأعطوا القوة فيها كما قال تعالى : « فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ » .
(وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) أي ولا تعرضوا عما دعوتكم إليه مما ربما كان سببا فى نعيم العيش وسعة الرزق وزيادة القوة ، وأنتم مصرون على ما أنتم عليه من الإجرام.
[سورة هود (11) : الآيات 53 الى 57]
قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)(12/48)
ج 12 ، ص : 49
المعنى الجملي
بعد أن ذكر تبليغ هود عليه السلام قومه دعوة ربه ، ذكر هنا ردّ قومه لتلك الدعوة فى جحودهم للبينة ، ثم إنذاره لهم.
الإيضاح
(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أي قالوا يا هود : ما جئتنا بحجة واضحة تدل على صحة دعواك أنك مرسل من عند اللّه ، وقد قالوا ذلك عنادا منهم وجحودا للحق ، وما نحن بتاركي عبادة آلهتنا بسبب قولك الذي لا بيّنة عليه ، وما نحن بمصدقين ما جئت به.
ثم بالغوا فى الردّ وقالوا :
(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) أي لا نجد من قول نقوله فيك إلا أن بعض آلهتنا أصابك بمسّ من جنون أو خبل لإنكارك لها وصدّك إيانا عن عبادتها.
والخلاصة - إن ما تقوله لا يصدر إلا عمن أصيب بشىء اقتضى خروجه عن قانون العقل ، فلا يعتدّ به لأنه من قبيل الخرافات والهذيانات التي لا تصدر إلا عن المجانين فكيف نؤمن بك ؟ .
والخلاصة - إنهم ترقوا فى حجاجهم من سيئ إلى أسوأ ، إذ قالوا أولا ما جئتنا بالبينة : ثم نفوا تصديقهم له مع كونه مما يقبل التصديق ، ثم نفوا عنه تلك المرتبة أيضا.
ثم ذكر رده عليهم على طريق الحكاية.
(قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).
هذا جواب منه عن مقالتهم وهو يتضمن جملة أمور :
(1) البراءة من إشراكهم الذي اقترفوه ولا حقيقة له.(12/49)
ج 12 ، ص : 50
(2) إشهاد اللّه على ذلك ثقة منه بأنه على بيّنة من ربه.
(3) إشهادهم أيضا على ذلك إعلاما منه بعدم مبالاته بهم وبما يزعمون من قدرة شركائهم على إيذائه وضرره :
(4) طلبه منهم أن يجمعوا كلهم على الكيد له والإيقاع به بلا إمهال ولا تأخير إن استطاعوا.
وفى هذا دليل واضح على أنه لا يخافهم ولا يخاف آلهتهم ، وقد صدرت مثل هذه المقالة عن نوح عليه السلام إذ قال « فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ » كما لقن اللّه نبيه مثل هذا بقوله « قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ » .
(5) عدم الخوف منهم ومن آلهتهم ، إذ وكل أمر حفظه وخذلانهم إلى ربه وربهم ، ومالك أمره وأمرهم ، المتصرف فى كل مادب على وجه الأرض والمسخر له وهو سبحانه مطلع على أمور العباد ، مجاز لهم بالثواب والعقاب ، كاف لمن اعتصم به ، وهو لا يسلّط أهل الباطل من أعدائه على أهل الحق من رسله ولا يفوته ظالم.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) أي فإن استمررتم على ما أنتم عليه من التولّى والإعراض وأبيتم إلا تكذيبى ، فقد أبلغتكم رسالة ربى التي أرسلنى بها إليكم ، وليس علىّ غير البلاغ وقد لزمتكم الحجة وحقت عليكم كلمة العذاب.
(وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي إن اللّه يهلككم ويستخلف فى دياركم وأموالكم قوما آخرين.
(وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) بتوليكم عن الإيمان ، فإنه غنىّ عنكم وعن إيمانكم ، وهو بمعنى قوله « إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ، وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ » .
(إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي إن ربى رقيب على كل شىء قائم بالحفظ(12/50)
ج 12 ، ص : 51
عليه على ما اقتضته سننه وتعلقت به إرادته ، ومن ذلك أنه ينصر رسله ويخذل أعداءهم إذا أصروا على الكفر بعد قيام الحجة عليهم.
[سورة هود (11) : الآيات 58 الى 60]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه إصرار قوم هود على العناد والعتوّ وتكذيب هود فيما جاء به من الآيات - ذكر هنا عاقبة أمره وأمرهم ، وأنه تعالى أصابه برحمة من لدنه ، وأنزل بهم العذاب الغليظ ، كفاء كفرهم بآياته وعصيان رسله.
الإيضاح
(وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ أي ولما نزل عذابنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة من لدنا وميزناهم عن الكافرين فيما نزل بهم من ذلك العذاب الغليظ ، وهو الريح العقيم التي لا تذر من شىء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ، كما فصل ذلك فى سورة القمر بقوله : « إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ، تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ » .
ثم ذكر سبب ما نزل بهم من البلاء فقال :
(وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي وقد أحللنا بهم نقمتنا ، لأنهم جحدوا بآيات ربهم وحججه ، وعصوا رسله الذين(12/51)
ج 12 ، ص : 52
أرسلهم إليهم للدعاء إلى توحيده واتباع أمره ، وهم وإن كانوا قد عصوا رسولا واحدا فإن عصيان واحد منهم عصيان للجميع ، لأنه ما كان إلا لنفى الرسالة نفسها بدعوى أن الرسول لا يكون بشرا.
وقد اتبع سوادهم ودهماؤهم كل جبار عنيد من رؤسائهم الطغاة العتاة المستبدين الذين يأبون الحق ولا يذعنون له وإن قام عليه الدليل.
(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ولحقت بهم لعنة فى هذه الدنيا ، فكان كل من علم بحالهم ومن أدرك آثارهم ، وكل من بلّغه الرسل من بعدهم خبرهم يلعنونهم ، وتلحقهم أيضا يوم القيامة حين ما يلعن الأشهاد الظالمين أمثالهم :
قال قتادة : تتابعت عليهم لعنتان من اللّه ، لعنة فى الدنيا ولعنة فى الآخرة.
ثم أكد كفرهم بشهادته عليهم فقال :
(أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أي إن عادا كفروا نعمه عليهم بجحودهم بآياته وتكذيبهم لرسله كبرا وعنادا.
(أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) هذا دعاء عليهم بالهلاك والبعد من الرحمة ، وهو تسجيل عليهم باستحقاقه وإعلام بدوامه.
قصة صالح عليه السلام
[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 63]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)(12/52)
ج 12 ، ص : 53
تفسير المفردات
أعمرته الأرض واستعمرته إياها : إذا فوضت إليه عمارتها ، والريب ، الظن والشك يقال رابنى الشيء يريبنى : إذا جعلك شاكا ، وغير تخسير : أي غير إيقاع فى الخسران باستبدال الشرك بالتوحيد.
المعنى الجملي
جاء هذا القصص فى بيان دعوة صالح لقومه ثمود وردهم لها بعد احتجاجه عليهم ، وصالح هو الرسول الثاني من العرب ، ومساكن قبيلته ثمود - الحجر وهى بين الحجاز والشام وسيأتى ذكر قصصهم فى سورة الشعراء والنمل والقمر والحجر وغيرها ، وفى كل منها من الموعظة والعبرة ما لا يغنى عنه غيره.
الإيضاح
(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) الكلام فى هذا كالكلام فى نظيره السابق فى تبليغ هود عليهما السلام.
(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي ابتدأ خلقكم منها ، فهى المادة الأولى التي خلق منها آدم أبو البشر ، ثم خلقكم أنتم من سلالة من طين بالوسائط ، فإن النطفة التي تتحول إلى علقة ثم إلى مضغة ، ثم إلى هيكل عظمى يحيط به لحم - أصلها دم. والدم من الغذاء وهو إما من نبات الأرض ، وإما من اللحم الذي يرجع إلى النبات بعد طور أو أكثر.
(وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) أي جعلكم عمّارا لها فقد كانوا زرّاعا وصبناعا وبنائين كما جاء فى الآية الأخرى « وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ » .
والخلاصة - إنه هو المنشئ لخلقكم والممدّ لكم بأسباب العمران والنعم فى الأرض فلا ينبغى أن تعبدوا فيها غيره ، فهو ذو الفضل عليكم ، وشكرانه واجب عليكم بإخلاص العبادة له وحده.(12/53)
ج 12 ، ص : 54
(فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي فاسألوه أن يغفر لكم ما تقدم من ذنوبكم بإشراككم به سواه ، وبما اجترحتم من الآثام ، ثم ارجعوا إليه بالتوبة كلما فرط منكم ذنب عسى أن يغفر لكم.
(إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) أي قريب من عباده لا يخفى عليه استغفارهم ولا الباعث عليه ومجيب لدعاء من دعاه وسأله إذا كان مؤمنا مخلصا.
ونحو الآية ما تقدم فى سورة البقرة من قوله « وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ » .
ثم ذكر ما ردوا به عليه.
(قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) أي قد كنت عندنا موضع الرجاء لمهام أمورنا لما لك من رجاحة عقل وأصالة رأى ، ولحسبك ونسبك قبل هذه الدعوة التي تطلب بها إلينا أن نبدل ديننا زعما منك أنه باطل ، فالآن قد انقطع رجاؤنا منك ثم ذكروا أسباب انقطاع رجائهم بقولهم :
1 - (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) أي عجيب منك أن تنهانا عن عبادة ما كان يعبد آباؤنا من قبلنا ، وقد سرنا نحن على نهجهم ولم ينكره أحد علينا ولم يستقبحه ، فكيف تنكره ؟ .
2 - (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) أي وإنا لفى شك من دعوتك إلى عبادته تعالى وحده دون أن نتوسل إليه بأحد من الشفعاء المقربين عنده ، ولا أن نعظم ما وضعه آباؤنا لهم من صور وتماثيل تذكّرنا بهم ، فكل هذا يوجب الريب والتهمة وسوء الظن وعدم الطمأنينة إلى دعوتك.
فأجابهم صالح :
(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً) أي أخبرونى عن حالى معكم إن كنت على برهان وبصيرة من ربى مالك أمرى وآتاني من قبله رحمة خاصة من عنده جعلنى بها نبيّا مرسلا إليكم.(12/54)
ج 12 ، ص : 55
(فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ؟ ) أي فمن يمنعنى من عذابه إذا أنا كتمت الرسالة ، أو كتمت ما يسوءكم من بطلان عبادة الأصنام والأوثان تقليدا لآبائكم - أي لا أحد يدفع ذلك عنى فى هذه الحال فلا أبالى إذا بقطع رجائكم فىّ ولا بما أنتم فيه من شك وريب فى أمرى.
ثم ذكر مآل أمره إذا هو اتبعهم فقال :
(فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) أي فما تزيدوننى باتقاء سوء ظنكم وارتيابكم غير إيقاعى فى الخسران بإيثار ما عندكم على ما عند اللّه واشتراء رضاكم بسخطه تعالى.
[سورة هود (11) : الآيات 64 الى 68]
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)
تفسير المفردات
الآية : المعجزة الدالة على صدق نبوته ، وذروها : اتركوها ، وعقر الناقة بالسيف :
قطع قوائمها به أو نحرها ، والتمتع : التلذذ بالمنافع ، والدار : البلد كما يقال ديار بكر :
أي بلادهم ، وكذب فلانا حديثا وكذبه الحديث : أي كذب عليه فيه ، والوعد :
خبر موقوت كأن الواعد قال للموعود إننى أفي به فى وقته ، فإن وفى فقد صدق ولم يكذبه ، وأصل الأخذ : التناول باليد ، ثم استعمل فى الأشياء المعنوية كأخذ الميثاق(12/55)
ج 12 ، ص : 56
والعهد وفى الإهلاك ، والصيحة : الصوت الشديد والمراد بها هنا صيحة الصاعقة ، وجاثمين : أي ساقطين على وجوههم مصعوفين لم ينج منهم أحد ، وغنى بالمكان :
أقام فيه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن قومه قالوا له إننا لفى شك مما تدعونا وسألوه الآية على ما دعاهم إليه - ذكر هنا أنه قال لهم إن آيته على رسالته هى الناقة ، وأن من يمسها بسوء يصيبه عذاب أليم.
الإيضاح
(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً) أي يا قومى هذه ناقة ممتازة عن سائر الإبل بما ترون من أكلها وشربها وجميع شئونها ، قد جعلها اللّه لكم آية بينة منه تدل على صدقى وعلى إهلاككم إن أنتم خالفتم أمره فيها.
(فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ) أي فاتركوها تأكل مما فى الأرض من المراعى وليس عليكم مؤنتها.
(وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) أي ولا يمسها أحد منكم بأذي فيأخذكم عذاب عاجل لا يتأخر عن مسكم إياها بسوء إلا يسيرا.
ثم ذكر أنهم لم يستمعوا نصحه فقال :
(فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) أي فكذبوه فعقروها فقال لهم صالح : استمتعوا بحياتكم فى دار الدنيا ثلاثة أيام ، وهذا الأجل الذي أجّلتم وعد من اللّه وعدكم حين انقضائه بالهلاك ونزول العذاب ، لم يكذبكم فيه من أعلمكم ذلك.
ثم ذكر وقوع ما أوعدوا به فقال :
(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ)(12/56)
ج 12 ، ص : 57
أي فلما جاء ثمود عذابنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة خاصة منا ، ونجيناهم من عذاب ذلك اليوم ونكاله باستئصالهم من الوجود وبما يتبعه من سوء الذكر والطرد من رحمة اللّه.
ثم بيّن عظيم قدرته على التنكيل بأمثالهم من المشركين فقال :
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) أي إن ربك أيها الرسول الذي فعل هذا بهم قادر أن يفعل مثل ذلك بقومك إذا أصروا على الجحود ، إذ لا يعجزه شىء ، وهو الغالب على أمره.
ثم ذكر مآل أمرهم وشديد عقابه بهم فقال :
(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ)
أي فأخذتهم صيحة الصاعقة التي نزلت بهم فأحدثت رجفة فى القلوب وزلزلة فى الأرض وصعقوا بها جميعا فانكبّوا على وجوههم لم ينج منهم أحد.
(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) أي كأنهم لسرعة زوالهم وعدم بقاء أحد منهم لم يقيموا فى ديارهم البتة ، وما سبب هذا إلا أن كفروا بآيات ربهم فجحدوها ، ألا بعدا وهلاكا لهم.
بشارة الملائكة لابراهيم وامرأته بإسحاق
[سورة هود (11) : الآيات 69 الى 73]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)(12/57)
ج 12 ، ص : 58
تفسير المفردات
فما لبث : أي ما أبطأ ، وحنيذ : أي مشوىّ بالرضف وهى الحجارة المحماة ، ولا تصل إليه : أي لا تمتد للتناول ، ونكره وأنكره : ضد عرفه ، وأوجس القلب فزعا :
أحسّ به ، ولوط : هو ذلك النبي الكريم ، وهو ابن أخى إبراهيم وأول من آمن به ، ويا ويلتنا : أصلها يا ويلى : وهى كلمة تقال حين يفجأ الإنسان أمر مهمّ من بليّة أو فجيعه أو فضيحة على جهة التعجب منه أو الاستنكار له أو الشكوى منه ، والبعل : الزوج وجمعه بعولة ، وأمر اللّه : قدرته وحكمته ، وحميد : أي تحمد أفعاله ، ومجيد : أي كثير الخير والإحسان.
الإيضاح
(وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى ) أي ولقد جاءت رسلنا من الملائكة ، واختلفت الرواية فيهم ، فعن عطاء إنهم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام ، وعن غيره إنهم جبريل وسبعة أملاك معه ، ومثل هذا لا يعلم إلا بتوقيف من الوحى ولم يثبت ، والبشرى : البشارة بالولد لقوله : « فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ » الآية وقوله فى الذاريات : « وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ » .
(قالُوا سَلاماً) أي قالوا : نسلم عليك سلاما.
(قالَ سَلامٌ) أي قال : عليكم سلام.
(فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) أي فما أبطأ أن جاءهم بعجل مشوىّ على الحجارة المحماة (وقد اهتدى البشر إلى شيى اللحم من صيد وغيره على الحجارة المحماة بحر الشمس قديما قبل الاهتداء إلى إنضاجه بالنار).(12/58)
ج 12 ، ص : 59
وجاء فى سورة الذاريات : « فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ. فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ » وفى هذا دليل على أنه كان مشويّا معدا لمن يجىء من الضيوف ، وربما كان قد شوى عند وصولهم بلا إبطاء ولا تريث.
(فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي فلما رأى إبراهيم أيديهم لا تمتد إلى الطعام الذي قدم إليهم نكر ذلك منهم ووجده على غير ما يعهد من الضيوف (فالعادة قد جرت أن الضيف إذا لم يطعم مما قدّم إليه ظنّ أنه لم يجىء بخير وأنه يحدّث نفسه بشر) وأحس فى نفسه خوفا وفزعا ، حين شعر أنهم ليسوا بشرا وربما كانوا من ملائكة العذاب.
(قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) أي قالوا له حين علموا ما يساور قلبه من الخوف : لا تخف ، فنحن لا نريد بك سوءا ، وإنما أرسلنا إلى قوم لوط لإهلاكهم ، وكانت ديارهم قريبة من دياره ، وجاء فى سورة الحجر أنه صارحهم بالخوف فطمأنوه وبشروه بغلام عليم ، وكذا فى سورة الذاريات.
(وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ) أي وكانت امرأة إبراهيم واقفة للخدمة فضحكت سرورا بالأمن من الخوف ، أو لقرب عذاب قوم لوط لكراهتها لسيرتهم الخبيثة.
(فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) أي فبشرناها بالتبع لبشارة إبراهيم بإسحاق ، ومن بعد إسحاق يعقوب أي إنه سيكون لإسحاق ولد أيضا كما قال تعالى :
« وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ » :
(قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً ؟ إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ) أي قالت سارّة لما بشرت بإسحاق : كيف ألد وقد بلغت السن التي لا يلد من كان قد بلغها من الرجال والنساء ، وهذا زوجى شيخا كبيرا لا يولد لمثله ، إن هذا الذي بشرتمونا به لشىء عجيب مخالف لسنن اللّه التي سلكها فى عباده.
وقد جاء فى سفر التكوين (إن إبراهيم كان عمره يومئذ مائة سنة ، وإن زوجه(12/59)
ج 12 ، ص : 60
سارة كانت ابنة تسعين سنة) ومثلها لا يلد ، بل الغالب أن ينقطع حيض المرأة فى سن الخمسين فيبطل استعدادها للحمل والولادة ، على أنها كانت عقيما كما فى سورة الذاريات.
وربما كانت زوجه سارة علمت من حال زوجها بعد ولادة هاجر لابنه إسماعيل بمدة قليلة أو كثيرة أنه أصبح غير مستعد لمباشرة النساء ، أو كانت تعتقد كما يعتقد أن مثله فى تلك السن لا يولد له.
(قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أي قالوا لها : لا ينبغى لك أن تعجبى من شىء يصدر عن أمر اللّه الذي لا يعجزه شىء كما قال : « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » .
واللّه الخالق للسنن ، والواضع لنظام الأسباب هو الذي أراد أن يستثنى منها واقعة بعينها يجعلها من آياته لحكمة من حكمه أرادها لبعض عباده.
(رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) أي رحمة اللّه وبركاته الكثيرة عليكم يا أهل بيت النبوة تتوارث فى نسلكم إلى يوم القيامة ، وما تلك بأول آية لإبراهيم فقد نجّاه من نار قومه الظالمين ، وآواه إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين.
(إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) أي إنه جل ثناؤه مستحق لجميع المحامد ، حقيق بالخير والإحسان.
[سورة هود (11) : الآيات 74 الى 76]
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
تفسير المفردات
الروع : (بالفتح) الخوف والفزع : (وبالضم) النفس ، والحليم : الذي لا يحب المعاجلة بعقاب ، والأوّاه : الكثير التأوه مما يسوء ويؤلم ، والمنيب الذي يرجع إلى اللّه فى كل أمر ، وغير مردود : أي غير مدفوع لا بجدال ولا بشفاعة.(12/60)
ج 12 ، ص : 61
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه بعض ما جرى بين إبراهيم والملائكة ، وصل به بعضا آخر كالتتمة له.
الإيضاح
(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) أي فلما سرّى عن إبراهيم وانكشف له ما أوجس منه الخيفة ، إذ علم أن هؤلاء الرسل من ملائكة العذاب ، وجاءته البشرى بالولد واتصال النسل أخذ يجادل رسلنا فيما أرسلناهم به من عقاب قوم لوط (وجعلت مجادلتهم مجادلة للّه لأنها مجادلة فى تنفيذ أمره) وهذه المجادلة قد فصلت فى سورة العنكبوت فجاء فيها :
«
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ. قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ » .
كما جاءت هذه المجادلة فى الفصل الثامن عشر من سفر التكوين من التوراة ففيه :
(إن الرب ظهر لإبراهيم وهو جالس فى باب الخيمة ، فظهر له ثلاثة رجال فاستضافهم وأتى لهم بعجل وخبز ملّة فأكلوا وبشروه بالولد ، فسمعت امرأته سارة فضحكت وتعجبت لكبرها وانقطاع عادة النساء عنها فقال الرب لإبراهيم لما ذا ضحكت سارة ، هل يستحيل على الرب شىء ؟ ... وانصرف الرجال (أي الملائكة) من هناك وذهبوا نحو سدوم (قرية قوم لوط) وإبراهيم لم يزل قائما أمام الرب فتقدم إبراهيم وقال :
أفتهلك البارّ مع الأثيم ؟ عسى أن يكون هناك خمسون بارا فى المدينة ، أ فتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارا الذين فيه ؟ فقال الرب إن وجدت فى سدوم خمسين بارا فإنى أصفح عن المكان كله من أجلهم ، ثم كلمه إبراهيم مثل هذا فى خمسة وأربعين ثم فى أربعين ثم فى ثلاثين ثم فى عشرين ثم فى عشرة ، والرب يعده فى كل من هذه(12/61)
ج 12 ، ص : 62
الأعداد بأنه من أجلهم لا يهلك القوم ... وذهب الرب عند ما فرغ من الكلام مع إبراهيم إلى مكانه) اه.
(إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) أي إنه جادل الملائكة فى عذاب قوم لوط ، لأنه كان حليما لا يعجل بالانتقام من المسيء ، كثير التأوّه مما يسوء الناس ويؤلمهم ، يرجع إلى اللّه فى كل أموره.
(يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) أي يا إبراهيم أعرض عن الجدال فى أمر قوم لوط والاسترحام لهم ، إنه قد نفذ فيهم القضاء وحقت عليهم الكلمة بالهلاك وحلول البأس الذي لا يرد عن القوم المجرمين ، وإنهم آتيهم عذاب لا سبيل إلى دفعه ورده بجدل ولا شفاعة ولا بغيرهما.
وفى هذه الآية عبرة لمن يتخذ من اللّه أندادا من أوليائه ، ويزعم أنهم يتصرفون فى الكون كما يريدون ولا يردّ لهم طلب كما قال : « لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ » وفيها أكبر رد عليهم فيما يتخرصون به ، فهذا جدّ الأنبياء وأفضلهم بعد محمد صلى اللّه عليه وسلم وهو إبراهيم نهاه اللّه عن التعرض لما قضى به فأراده.
قصة لوط عليه السلام
[سورة هود (11) : الآيات 77 الى 80]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)(12/62)
ج 12 ، ص : 63
تفسير المفردات
سىء بهم : أي وقع فيما ساءه وغمه بمجيئهم ، الذرع والذراع : منتهى الطاقة ، يقال مالى به ذرع ولا ذراع : أي مالى به طاقة ، ويقال ضقت بالأمر ذرعا إذا صعب عليك احتماله ، والعصيب : الشديد الأذى ، ويقال هرع وأهرع (بالبناء للمفعول) : إذا حمل على الإسراع ، وقال الكسائي لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة من برد أو غضب أو حمّى أو شهوة ، ولا تخزون : أي لا تخجلوني ، والضيف يطلق على الواحد والجمع ، والرشيد : ذو الرشد والعقل ، لو أن لى يكم قوة : أي على الدفع بنفسي ، أو آوى إلى ركن شديد من أرباب العصبيات القوية الذين يحمون اللاجئين ويجيرون المستجيرين.
الإيضاح
فى سفر التكوين : إن لوطا عليه السلام ابن هرون أخى إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم وأنه هاجر معه من مسقط رأسهما (أور الكلدانيين) فى العراق إلى أرض الكنعانيين وسكن إبراهيم فى أرض كنعان ، ولوط فى سدوم بالأردن ، ويظن بعض الباحثين أن بحيرة لوط غمر موضعها بعد الخسف ، ويقال إن الباحثين فى العصر الحاضر عثروا على آثارها.
(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) أي ولما جاءت ملائكتنا لوطا ساءه مجيئهم ، وعجز عن احتمال ضيافتهم ، لما كان يتوقعه من اعتداء قومه عليهم كعادتهم (وقد روى أنهم جاءوه بشكل غلمان حسان الوجوه) وقال هذا يوم شديد شرّه ، عظيم بلاؤه.(12/63)
ج 12 ، ص : 64
(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) أي وجاء لوطا قومه يهرولون كأن سائقا يسوقهم مما بهم من طلب الفاحشة.
(وَ مِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي ومن قبل هذا المجيء كانوا يعملون السيئات الكثيرة التي أفظعها ما أنكرته الفطر البشرية والشرائع الإلهية والوضعيه ، وهو إتيان الرجال شهوة من دون النساء ومجاهرتهم بها فى أنديتهم كما حكى اللّه عنهم بقوله : « أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ » (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) فتزوجوهن ، أراد ببناتى بنات قومه لأن النبي فى قومه كالوالد فى عشيرته كما قال ابن عباس ، ويدخل فيهن نساؤهم المدخول بهن وغيرهن من المعدّات للزواج ، ومراده أن الاستمتاع بهن بالزواج أطهر من التلوث برجس اللواط ، فإنه يكبح جماح الشهوة مع الأمن من الفساد.
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) أي فاخشوا اللّه واحذروا عقابه فى إتيانكم الفاحشة التي تطلبونها ولا تذلونى وتمتهنونى بفضيحتي فى ضيوفى فإن إهانة الضيوف إهانة للمضيف وفضيحة لهم.
(أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) أي أليس منكم رجل ذو رشد وحكمة ينهى من أرادوا ركوب الفاحشة من ضيوفى ، فيحول بينهم وبين ما يريدون.
(قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ) أي لقد علمت من قبل أنه ليس لنا - فى بناتك من رغبة فى تزوّجهن فتصرفنا بعرضهن علينا عما نريده ، وقد يكون المعنى - لقد علمت الذي لنا فى نسائنا اللواتى تسميهن بناتك من حق الاستمتاع وما نحن عليه معهن ، فلا ينبغى عرضك إياهن علينا لتصرفنا عما نريده.
(وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) أي وإنك لتعرف حق المعرفة ما نريد من الاستمتاع بالذكران ، وإننا لا نؤثر عليه شيئا.
والخلاصة - إنهم أجمعوا أمرهم على فعل ما يريدون.(12/64)
ج 12 ، ص : 65
(قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) أي قال لوط لقومه حين أبوا إلا المضىّ لما قد جاءوا له من طلب الفاحشة وأيس من أن يستجيبوا له إلى شىء مما عرض عليهم : لو أن لى بكم قوة بأنصار تنصرنى عليكم وأعوان تعيننى ، أو أنضم إلى عشيرة تجيرنى منكم لحلت بينكم وبين ما جئتم تريدونه منى فى أضيافى.
[سورة هود (11) : الآيات 81 الى 83]
قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
تفسير المفردات
السرى : (بالضم) والإسراء فى الليل : كالسير فى النهار ، والقطع من الليل :
الطائفة منه ، والسجيل : الطين المتحجر كما جاء فى الآية الأخرى « حِجارَةً مِنْ طِينٍ » .
وقال الراغب : هو حجر وطين مختلط أصله فارسىّ فعرّب ، ومنضود : أي وضع بعضه على بعض وأعد لعذابهم ، ومسومة : أي لها سومة (بالضم) أو علامة خاصة فى علم ربك.
المعنى الجملي
بعد أن بين عز اسمه ما يدل على أن لوطا كان قلقا على أضيافه مما يوجب الفضيحة لهم ، وذلك قوله : « لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ » ذكر هنا أن الرسل بشروه بأن قومه لن يصلوا إلى ما هموا به ، وأن اللّه مهلكهم ومنجيه مع أهله من العذاب.(12/65)
ج 12 ، ص : 66
الإيضاح
(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) أي قالت الملائكة للوط بعد أن رأوا شديد الكرب الذي لحقه بسببهم وتمنيه أن يجد قوة تدفعهم عن أضيافه : إنا رسل ربك أرسلنا لإهلاكهم وتنجيتك من شرهم.
(لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) ولا إلى ضيفك بمكروه ، فهوّن عليك الأمر ، وحينئذ طمس اللّه أعينهم فلم يعودوا يبصرون لوطا ولا من معه كما جاء فى سورة القمر : « وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ » فانقلبوا عميا يتخبطون لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم وصاروا يقولون : النجاء النجاء فإن فى بيت لوط قوما سحرة.
(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي فاخرج من هذه القرى أنت وأهلك ببقية من الليل تكفى لتجاوز حدودها ، وجاء فى سورة الذاريات : « فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ » .
(وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي ولا ينظر أحد إلى ما وراءه ليجدّوا فى السير أو لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقّوا لهم ، وجاء فى سورة الحجر : « وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ » .
(إِلَّا امْرَأَتَكَ) فقد كان ضلعها مع القوم وكانت كافرة خائنة.
(إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) أي إنه مصيبها ذلك العذاب الذي أصابهم ومقضىّ عليها بذلك ، فهو واقع لا بد منه.
ثم علل الإسراء ببقية من الليل فقال :
(إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) أي موعد عذابهم الصبح ابتداء من طلوع الفجر إلى الشروق كما جاء فى سورة الحجر « فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ » .
ثم أكد ما سبق فأجاب عن استعجال لوط لهلاكهم فقال :
(أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) أي أليس موعد الصبح بموعد قريب لم يبق له إلا ليلة واحدة فانج فيها بأهلك.(12/66)
ج 12 ، ص : 67
وحكمة تخصيص هذا الوقت أنهم يكونون مجتمعين فى مساكنهم فلا يفلت منهم أحد.
(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) أي فلما جاء أمرنا بالعذاب وقضاؤنا فيهم بالهلاك قلبنا قراها كلها وخسفنا بها الأرض.
وقد جرت سنة اللّه أنه إذا أراد خسف أرض فى جهة ما أحدث تحتها فراغا بتفاعل الأبخرة التي فى جوفها فيندكّ الجزء الأعلى وينهدم ويغور إلى أسفل إما عموديا إن كان الفراغ بقدر ما انخسف من الأرض وإما مائلا إلى جانب من الجوانب إن كان الفراغ تحته أوسع ، وفى بعض هذه الحالات يكون عاليها سافلها ويرجع بعض علماء طبقات الأرض (الجيولوجيا) أن قرى قوم لوط خسف بها تحت الماء المعروف ببحيرة لوط أو بحر لوط ، وقد عثر الباحثون على بعض آثارها من عهد قريب.
وقد روى المفسرون فى خسفها من الخرافات ما لم يثبته نقل ولا يقبله عقل ، فقالوا إن جبريل عليه السلام قلعها من تخوم الأرض بجناحه وصعد بها إلى عنان السماء حتى سمع أهل السماء أصوات الكلاب والدجاج ونهيق الحمير ، ثم قلبها قلبا مستويا فجعل عاليها سافلها ، مع أن المشاهدة فى هذا العصر أثبتت أن الطائرات المطاردة التي تحلّق فى الجو تصل فقط إلى حيث يخفّ ضغط الهواء وتستحيل الحياة حينئذ ، ومن ثم يضعون فيها من أو كسجين الهواء ما يكفى استنشاقه وتنفسه للحياة فى طبقات الجوّ العليا ثم يصعدون فيها وقد أشار الكتاب الكريم إلى ما يكون للتصعيد فى جو السماء من التأثير فى ضيق الصدر وعسر التنفس بقوله : « فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ » .
(وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) أي وأمطرنا عليهم قبل القلب أو فى أثنائه حجارة من سجيل : أي من طين متحجر كما جاء فى سورة الذاريات : « لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ » ومثل هذا المطر يحدث(12/67)
ج 12 ، ص : 68
عادة بإرسال اللّه تعالى ريحا شديدة تحمل بعض الأحجار من المستنقعات أو الأنهار فتلقيها حيث يشاء اللّه.
وهذا السجيل قد نضد وتراكب بعضه فى أثر بعض بحيث يقع طائفة بعد طائفة ، وقد وضع على تلك الأحجار سومة : أي علامة خاصة فى علم ربك بحيث لا تصيب غير أهلها.
وقد يكون المعنى : إنه سخرها عليهم وحكّمها فى إهلاكهم بحيث لا يمنعها شىء ، من قولهم : سوّمت فلانا فى الأمر إذا حكّمته فيه وخلّيته وما يريد ، لا تثنى له يد فى تصرفه.
ويرى بعض المفسرين أن التسويم كان حسيا بخطوط فى ألوانها أو بأمثال الخواتيم عليها أو بأسماء أهلها ، وكل ذلك من أمور الغيب التي لا تثبت إلا بسلطان ونص من خاتم الرسل ، وأنى هو ؟ .
(وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) أي وما هذه القرى التي حل بها العذاب بمكان بعيد عنكم أيها المشركون من أهل مكة الظالمون لأنفسهم بتكذيبك والمماراة فيما تنذرهم به ، بل هى قريبة منكم على طريقكم فى رحلة الصيف إلى الشام كما قال فى سورة الصافات :
« وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ »
أي وإنكم لتمرون على آثارهم ومنازلهم فى أسفاركم وقت النهار وبالليل ، أفلا تعتبرون بما حل بهم.
وفى هذا عبرة للظالمين فى كل زمان وإن اختلف العذاب باختلاف الأحوال وأنواع الظلم كثرة وقلة ومقدار أثره فى الأمة من إفساد عام أو خاص.
قصة شعيب عليه السلام(12/68)
ج 12 ، ص : 69
[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 86]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
المعنى الجملي
تقدم ذكر قصة شعيب فى سورة الأعراف ، وذكرت هنا مرة أخرى ، وقد جاء فى كل موضع منهما من العظات والأحكام والحكم ما ليس فى الآخرة مع الإحكام فى السبك وحسن الرّصف ، والسلامة من التعارض والاختلاف والتفاوت.
الإيضاح
(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) أي وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا.
(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي فلما أتاهم قال يا قوم اعبدوا اللّه وحده ولا تعبدوا معه غيره ، فما لكم من إله إلا هو.
وقد جرت سنة الأنبياء أن يبدءوا بالدعوة إلى التوحيد ، لأنه جذر شجرة الإيمان ، ثم يتبعونه فالأهم بالأهم فيما يرون لدى أقوامهم ، ومن ثم ثنى بالنهى عن نقص الكيل والميزان ، لأن أهل مدين اعتادوا ذلك فقال :
(وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) أي ولا تنقصوا الناس حقوقهم فى مكيالكم وميزانكم كما هى عادتكم ، وقد جاء مثل هذا النهى فى قوله :
« وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ » أي ينقصون.
(إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) أي إنى أراكم بثروة وسعة فى الرزق تغنيكم عن الدناءة فى بخس حقوق الناس وأكل أموالهم بالباطل بما تنقصون لهم من المبيع فى مكيل أو موزون(12/69)
ج 12 ، ص : 70
وكانوا تجارا مطففين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم ينقصون المكيال والميزان.
إلا أن فى هذا كفرانا لنعمة اللّه عليكم ، إذ كان يجب عليكم شكرانها بالزيادة على سبيل الصدقة والإحسان.
(وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) أي وإنى أخشى عليكم يوما يحيط بكم عذابه إذا أنتم أصررتم على شرككم باللّه بعبادة غيره ، وكفرتم بنعمه بنقص المكيال والميزان.
وهذا العذاب إما فى الدنيا بعذاب الاستئصال ، وإما فى يوم القيامة.
(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أي ويا قوم أتمّوهما بالعدل بلا زيادة ولا نقصان.
وقد أمرهم بالواجب بعد أن نهاهم عن ضده لتأكيده وللتنبيه إلى كون عدم التعمد للنقص لا يكفى لتحرّى الحق ، بل يجب معه تحرى الإيفاء بالعدل والسوية من غير زيادة ولا نقص ، وإن كان التيقن من ذلك لا يكون إلا بزيادة طفيفة ، وتعمدها فى الكيل والوزن للناس سخاء وفضيلة يمدح فاعلها عليها ، وفي الاكتيال أو الوزن عليهم طمع فهو رذيلة مذمومة.
(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) البخس : النقص فى كل الأشياء ، يقال بخسه ماله وبخسه علمه وفضله ، أي لا تظلموا الناس أشياءهم ، وذلك يشمل ما للأفراد وما للجماعات من مكيل وموزون ومعدود ومحدود بحدود حسية وحقوق مادية أو معنوية.
(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) الإفساد تعطيل يشمل مصالح الدنيا وأمور الدين وأخلاق النفس وصفاتها ، وكل ذلك فاش فى عصرنا أي لا تفسدوا فى الأرض وأنتم تتعمدون الإفساد ، وإنما اشترط فى النهى تعمد الإفساد ، لأن بعض ما هو إفساد فى الظاهر قد يراد به الإصلاح أو دفع أخف الضررين كما يقع فى الحرب من قطع(12/70)
ج 12 ، ص : 71
الأشجار أو فتح سدود الأنهار أو إحراق بعض الغابات ، وكما فعل الخضر عليه السلام للسفينة التي كانت لمساكين يعملون فى البحر ، لأجل منع الملك الظالم الذي وراءهم من أخذها إذا أعجبته.
وهذا نهى عام يشمل غير ما سبق ، كقطع الطرق ، وتهديد الأمن ، وقطع الشجر ، وقتل الحيوان ، ونحو ذلك.
(بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ما يبقى لكم بعد إيفاء الكيل والميزان من الربح الحلال خير لكم مما تأخذونه بالتطفيف ونحوه من الحرام ، إن كنتم مؤمنين به حق الإيمان ، فالإيمان يطهّر النفس من رذيلة الطمع ويحلّيها بفضيلة السخاء والكرم.
(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي وما أنا بالذي أستطيع أن أحفظكم من القبائح ، وإنما أنا ناصح مبلّغ ، وقد أعذرت إذ أنذرت ، ولم آل جهدا فى ذلك.
[سورة هود (11) : الآيات 87 الى 90]
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)(12/71)
ج 12 ، ص : 72
تفسير المفردات
الحليم : ذو الأناة والتروّى الذي لا يتعجل بأمر قبل الثقة من فائدته ، والرشيد :
الذي لا يأمر إلا بما استبان له من الخير والرشد ، والمخالفة : أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر فى قوله أو فعله أو حاله ، يقال خالفنى فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مولّ عنه ، وخالفنى عنه إذا ولى عنه وأنت قاصد له ، وأناب إلى اللّه : رجع إليه ، وجرم الذنب أو المال : كسبه ، ورحيم : عظيم الرحمة للمستغفرين ، ودود : كثير اللطف والإحسان إليهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أمر شعيب لقومه بعبادة اللّه وحده وعدم النقص فى الكيل والميزان ذكر هنا ردهم على كلا الأمرين ، فردوا على الأول بأنهم إنما ساروا على منهج آبائهم وأسلافهم فى التدين والإيمان ، وردوا على الثاني بأنهم أحرار فى أموالهم يتصرفون فيها بما يجلب لهم المصلحة فيها.
ثم أعاد النصح لهم بأنه لا يريد لهم إلا الإصلاح ، وأنه يخشى أن يصيبهم ما أصاب الأمم فيهم كقوم نوح أو قوم هود وما الأحداث التي اجتاحت قوم لوط ببعيدة عنكم ، فعليكم أن تتوبوا إلى ربكم ، عله أن يرحمكم ، فهو واسع الرحمة ، محب لمن تاب وأناب إليه.
الإيضاح
(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا ؟ ) أي أ صلاتك التي هى من نتاج الوسوسة وفعل المجانين تأمرك بأن نترك ما سار عليه آباؤنا جيلا إثر جيل من عبادة الأوثان والأصنام ، وإنما جعلوه مأمورا مع أن الصادر عنه إنما هو الأمر بعبادة اللّه وغيرها من الشرائع ، لأنه عليه السلام لم يكن يأمرهم من تلقاء نفسه بل بوحي من ربه ويبلغهم أنه مأمور بذلك ، وإسناد الأمر إلى الصلاة دون غيرها من العبادات لأنه كان(12/72)
ج 12 ، ص : 73
كثير الصلاة معروفا بذلك حتى إنهم كانوا إذا رأوه يصلّى تغامزوا وتضاحكوا ، فكانت هى من بين الشعائر ضحكة لهم.
(أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) أي أو أن نترك فعلنا ما نشاء فى أموالنا من التطفيف وغيره من التنمية والاستغلال والتصرف فى الكسب بما نستطيع من الحذق والاحتيال والخديعة ، فما ذاك إلا حجر على حريتنا وتحكّم فى إرادتنا وذكائنا.
والخلاصة - إنهم ردوا عليه الناحيتين الدينية والدنيوية بما رأوا من شبه مزيّفة ، وحجج آفنة.
ثم أتبعوا ذلك بما يدل على السخرية والهزء به فقالوا :
(إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) أي أنت ذو الجهالة والسفاهة فى الرأى ، والغواية فى الفعل بهوس الصلاة ، لكنهم عكسوا القضية تهكما واستهزاء كما يقال للبخيل :
لو رآك حاتم لاقتدى بك فى سخائك.
(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي قال يا قوم أخبرونى عن شأنى وشأنكم إن كنت على حجة واضحة من ربى ومالك أمرى فيما دعوتكم إليه وما أمرتكم به ونهيتكم عنه فكان وحيا منه لا رأيا منى.
(وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) فى كثرته وفى صفته وقد كان ذلك بالحلال بلا تطفيف مكيال ولا ميزان ولا بخس لحق أحد من الناس ، فما أقوله لكم صادر عن تجربة فى الكسب الطيب وما فيه من خير وبركة ، لا عن آراء نظرية ممن ليست له خبرة - فماذا أقول غير الذي قلت عن وحي من ربى وعن تجربة فى مالى هل يسعنى بعد هذا التقصير فى التبليغ والكتمان لأوامر اللّه.
(وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي وما أريد بنهي إياكم عما أنهاكم عنه من البخس والتطفيف أن أقصده بعد ما ولّيتم عنه ، فأستبدّ به دونكم مؤثرا لنفسى عليكم ، بل أنا مستمسك به قبلكم.
(إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) أي ما أريد إلا الإصلاح بالنصيحة والموعظة(12/73)
ج 12 ، ص : 74
ما استطعت إلى ذلك سبيلا لا آلو فيها جهدا ، وليس ذلك عن هوى ولا منفعة خاصة ، ولو لا ذلك ما فعلته.
وفى ذلك إيماء إلى إثبات عقله ورشده وحكمته ، وإبطال لتهكمهم ، واستهزائهم بتلقيبهم إياه (بالحليم الرشيد).
(وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) التوفيق الفوز والفلاح فى كل عمل صالح وسعى حسن ، وحصول ذلك يتوقف على كسب العامل وطلبه من الطريق الموصّل إليه ، وتيسير الأسباب التي يسهل معها الحصول عليه ، وذلك إنما يكون من اللّه وحده ، أي وما توفيقى لإصابة الحق والصواب فى كل ما آتى وما أذر إلا بهداية اللّه تعالى ومعونته.
(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي عليه توكلت فى أداء ما كلّفنى من تبليغكم ما أرسلت به لا على حولى وقوتى ، وإليه أرجع فى كل ما أهمنى فى الدنيا ، وهو الذي يجازينى على أعمالى فى الآخرة.
والخلاصة - إنه لا يرجو منهم أجرا ولا يخشى منهم ضيرا.
(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) أي لا تحملنكم عداوتى وبغضي وفراق الدين الذي أنا عليه على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر باللّه وعبادة الأوثان وبخس الناس فى المكيال والميزان ، فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح من الغرق أو قوم هود من العذاب أو قوم صالح من الرجفة.
(وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) زماما ولا مكانا أي إن لم تعتبروا بمن ذكرنا قبل لقدم عهد أو بعد مكان فاعتبروا بهؤلاء ، فإنهم بمرأى منكم ومسمع.
وقد يكون المعنى - ليسوا ببعيد منكم فى الكفر والمساوى فاحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بهم من العذاب.
(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي واطلبوا من ربكم المغفرة مما أنتم عليه من عبادة الأوثان وبخس الناس حقوقهم فى المكيال والميزان ، ثم ارجعوا إلى طاعته والانتهاء إلى أمره ونهيه.(12/74)
ج 12 ، ص : 75
(إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) أي إن ربى رحيم بمن تاب وأناب إليه أن يعذبه بعد التوبة ، كثير الود والمحبة ، فيحب من يتوب ويرجع إليه.
وفى الآية إرشاد إلى أن الندم على فعل الفساد والظلم بالتوبة واستغفار الرب تعالى من أسباب خير الدنيا وخير الآخرة.
[سورة هود (11) : الآيات 91 الى 95]
قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
تفسير المفردات
الفقه : الفهم الدقيق المؤثّر فى النفس الباعث على العمل ، والرهط : الجماعة من الثلاثة إلى السبعة أو العشرة ، لرجمناك : لقتلناك بالرمي بالحجارة ، بعزيز : أي ذى عزة ومنعة ، واتخذه ظهريا (بالكسر والتشديد) أي جعله نسيا منسيا لا يذكر كأنه غير موجود ، ومحيط : أي محص ما تعملون ، وعلى مكانتكم : على غاية تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ، يقال مكُن مكانة : إذا تمكن أبلغ تمكن ، وارتقبوا :
أي وانتظروا ، والصيحة : أي صيحة العذاب ، وجاثمين : أي باركين على ركبهم مكبّين على وجوههم ، وغنى بالمكان : أقام به ، وبعدا : أي هلاكا لهم.(12/75)
ج 12 ، ص : 76
المعنى الجملي
بعد أن جادلوه أوّلا بالتي هى أحسن ، وعمّيت عليهم العلل ، وضاقت بهم الحيل ، ولم يجدوا للمحاورة ثمرة - تحوّلوا إلى الإهانة والتهديد ، وجعلوا كلامه من الهذيان والتخليط الذي لا يفهم معناه ، ولا تدرك فحواه ، فقابلهم بالإنذار بقرب الوعيد ، ونزول العذاب الشديد.
الإيضاح
(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) أي ما نعلم حقيقة كثير مما تقول وتخبرنا به ، من بطلان عبادة آلهتنا ، وقبح حرية التصرف فى أموالنا ، ومجىء عذاب يحيط بنا ، وإصابتنا بمثل الأحداث التي أصابت من قبلنا ، كأنّ أمرها بيدك ، يصيب بها ربك من يشاء لأجلك.
(وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) لا قوة لك ولا قدرة على شىء من الضر والنفع ، ولا تستطيع أن تمتنع منا إن أردنا أن نبطش بك.
(وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) أي ولو لا عشيرتك الأقربون لقتلناك بالحجارة حتى تدفن فيها.
(وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أي وما أنت بذي عزة ومنعة تحول بيننا وبين رجمك ، وإنما نعزّ رهطك على قلتهم لأنهم منا وعلى ديننا الذي نبذته وراء ظهرك وأهنته ، ودعوتنا إلى تركه لبطلانه فى زعمك.
فوبخهم شعيب على سفاهتهم كما حكى سبحانه عنه.
(قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ) أي قال يا قوم : أرهطى أعز عليكم وأكرم من اللّه حتى كان امتناعكم عن رجمى بسبب انتسابي إليهم ، وأنهم رهطى لا بسبب انتسابي إلى اللّه تعالى الذي أدعوكم إليه بأمره.
(وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أي واستخففتم بربكم فجعلتموه خلف ظهوركم ،(12/76)
ج 12 ، ص : 77
لا تأمرون لأمره ، ولا نخافون عقابه ، ولا تعظمونه حق التعظيم ، وكان القوم يؤمنون باللّه ويشركون به سواه. وأكثر الناس اليوم لا يراقبون اللّه فى أقوالهم ولا فى أعمالهم.
فيرجوه إذا أحسنوا ، ويخافوه إذا أساءوا ، ويتسابقوا إلى الإحسان ابتغاء مرضاته :
(إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي إن ربى محيط علمه بعملكم فلا يخفى عليه شىء منه وهو مجازيكم عليه ، وأما رهطى فلا يستطيعون لكم ضرا ولا نفعا.
ولا يخفى ما فى ذلك من التهديد والوعيد.
ثم هددهم مرة أخرى فقال :
(وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي ويا قوم اعملوا ما استطعتم على منتهى تمكنكم فى قوتكم وعصبيتكم.
وخلاصة ذلك - اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقّة وسائر ما لا خير فيه ، وهذا كلام من واثق بقوته بربه ، وضعف قومه على كثرتهم ، وإدلالهم عليه ، وتهديدهم له بقوتهم.
(إِنِّي عامِلٌ) على مكانتى على قدر ما يؤيدنى اللّه به من وسائل التأييد والتوفيق.
(سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) أي سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويذله ، أنا أم أنتم ؟ ومن هو كاذب فى قوله ، ومن هو صادق منى ومنكم - وهذا تصريح منه بالوعيد بعد التلميح بالأمر بالعمل المستطاع تعجيزا لهم.
(وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) أي وانتظروا ما أقول لكم من حلول ما أعدكم به وظهور صدقه ، إنى مرتقب منتظر.
ثم ذكر أنه كان صادقا فى وعيده لهم فحل بهم سوء العذاب فقال :
(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي ولما جاء أمرنا بعذابهم الذي أنذروه نجينا رسولنا شعيبا والذين آمنوا به فصدّقوه على ما جاءهم به من عند ربهم برحمة خاصة بهم.
(وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) أي وأخذت أولئك(12/77)
ج 12 ، ص : 78
الظالمين بسبب ظلمهم صيحة العذاب كالتى أخذت ثمود فأصبحوا جميعا باركين على ركبهم مكبين على وجوههم فى ديارهم.
(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) أي كأنهم لم يقيموا فيها متصرفين فى أطرافها متقلبين فى أكنافها.
ثم دعا عليهم بالهلاك فقال :
(أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) أي هلاكا لهم وبعدا من رحمة اللّه كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته بإنزال سخطه بهم.
والخلاصة - إن اللّه أرسل على كل من ثمود ومدين صاعقة ذات صوت شديد فرجفت أرضها ، وزلزلت من شدتها ، وخروا ميتين ، وكانت صاعقتها أشد من الصاعقة التي أخذت بنى إسرائيل حين قالوا (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) وقد أحياهم اللّه عقبها ، لأن هذه تربية لقوم نبىّ فى حضرته ، وتلك صاعقة كانت عذاب خزى لمشركين ظالمين معاندين أنجى اللّه نبىّ كل منهما ومؤمنيهما قبلها.
قصة موسى وفرعون
[سورة هود (11) : الآيات 96 الى 99]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
تفسير المفردات
الآيات : هى الآيات التسع المعدودة فى سورة الإسراء والمفصّلة فى سورة الأعراف وغيرها ، والسلطان المبين : هو ما آتاه اللّه من الحجة البالغة فى محاوراته مع فرعون(12/78)
ج 12 ، ص : 79
وملئه ، والملأ : أشراف القوم وزعماؤهم ، وما أمر فرعون : أي ما شأنه وتصرفه ، برشيد : أي بذي رشد وهدى ، وقدم يقدم (كنصر ينصر) : تقدم ، فأوردهم النار :
أي أدخلهم إياها ، والورد بلوغ الماء فى مورده من نهر وغيره ، والمورود : الماء والمراد به هنا النار ، وأتبعوا : أي وألحقت به لعنة ، والرفد : (بالكسر) : العطاء والعون فيقال رفده وأرفده : أعانه وأعطاه ، والمرفود : المعطى.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه فى هذه الآيات قصص موسى مع فرعون وملئه للإعلام بأن عاقبة فرعون وأشراف قومه اللعنة والهلاك ككفار أولئك الأقوام الظالمين وإن كان عذاب الخزي وهو الغرق فى البحر لم يعمّ جميع قومه ، بل لحق من اتبع موسى وسار أثره للأسباب التي سلف ذكرها فى سورة الأعراف.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي ولقد أرسلنا موسى إلى فرعون وملئه مصحوبا بآيات بينات دالة على توحيد اللّه ، وفيها السلطان المبين ، والحجة الواضحة على صدق نبوته ، وإنما خص الملأ بالذكر وقد أرسل إلى قومه جميعا ، لأنهم أهل الحل والعقد والاستشارة فى دولته ، ويعهد إليهم يتنفيذ ما يقرره من الأمور ، فغيرهم يكون تبعا لهم فى كل ما يأتون ويذرون.
(فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) فى كل ما قرره من الكفر بموسى وردّ ما جاءهم به من عند اللّه ، وتشديد الظلم على بنى إسرائيل بتقتيل أبنائهم واستحياء نسائهم إلى نحو أولئك مما جاء فى السور الأخرى مفصلا.
(وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي وما شأنه وتصرفه بصالح حميد العاقبة ، بل هو محض غىّ وضلال ، ظلم وفساد ، لغروره بنفسه ، وكفرانه بربه ، وطغيانه فى حكمه.(12/79)
ج 12 ، ص : 80
ثم ذكر جزاءه مع قومه فى الآخرة فقال :
(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) أي يتقدم قومه يوم القيامة ويكونون تبعا له كما كانوا تابعين فى الدنيا إلا من آمن ، فيوردهم جهنم معه : أي يدخلهم إياها.
وقد ورد أن آله يعرضون على النار منذ ماتوا صباحا ومساء من كل يوم كما قال تعالى : « وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ » .
(وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) أي وبئس الورد الذي يردونه النار ، لأن وارد الماء إنما يرده لتبريد كبده وإطفاء غلّته من حر الظمأ ، ووارد النار يحترق فيها احتراقا.
قال ابن عباس رضى اللّه عنه فى الآية : الورود الدخول وقد ذكر فى أربعة مواضع :
فى هود « وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ » وفى مريم « وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها » وفى الأنبياء « حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ » وفى مريم أيضا « وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً » وكان يقول : واللّه ليردنّ جهنم كلّ برّ وفاجر « ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا » .
(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وألحقت بهم لعنة عظيمة ممن بعدهم من الأمم ، ويوم القيامة أيضا يلعنهم أهل الموقف جميعا فهى تابعة لهم حيثما ساروا ، ودائرة أينما داروا.
والآية بمعنى قوله : « وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ » وقد سمى اللّه هذه اللعنات رفدا تهكّما بهم فقال :
(بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) أي بئس العطاء المعطى هذه اللعنة التي أتبعوها فى الدنيا والآخرة.(12/80)
ج 12 ، ص : 81
وفى الآيات من العبرة أن فى البشر فراعنة كثيرين يغوون الناس ويستعبدونهم ، فيطيعونهم ويذلّون لهم ذل العبيد ، ولا تفيدهم هداية القرآن شيئا. ومنهم من يدّعون الإسلام ولا يفقهون قول اللّه لرسوله فى آية مبايعة النساء (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ)
وقوله صلى اللّه عليه وسلم « لا طاعة لأحد فى معصية اللّه إنما الطاعة فى المعروف » .
العبرة بقصص الأمم الظالمة وبما آل إليه أمرها
[سورة هود (11) : الآيات 100 الى 102]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص الأمم الماضية والقرون السالفة مع الرسل الذين أرسلوا إليهم ، نبه إلى ما فى ذكرها من عظة واعتبار بقوله : (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) فالسامع لها والقارئ يلين قلبه ، وتخضع نفسه ، فيحمله ذلك على النظر والاعتبار بها - إلى ما فى إخباره صلى اللّه عليه وسلم بها من غير مطالعة كتب ولا مدارسة مع معلّم ، من عظيم الدلالة على نبوته ، إذ أن هذا لا يكون إلا بوحي من العلي الأعلى أتاه به روح القدس.
الإيضاح
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) أي ذلك الذي قصصناه عليك بعض أخبار لأمم الماضية ، وأهمّ أطوار اجتماعها فى المدائن والقرى من قوم نوح ومن بعدهم ، نقصه(12/81)
ج 12 ، ص : 82
عليك فى هذا القرآن ، لتتلوه على الناس ويتلوه المؤمنون آناء الليل وأطراف النهار إنذارا وتبليغا عنا.
(مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) أي من تلك القرى ما بقيت آثارها ماثلة كالزرع القائم فى الأرض كقوم صالح ، ومنها ما عفت ودرست آثارها كالزرع المحصود الذي لم يبق منه بقية فى الأرض كقرى قوم لوط.
(وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي وما كان إهلاكهم بغير جرم استحقوا به الهلاك ، ولكن ظلموا أنفسهم بشركهم وإفسادهم فى الأرض وإصرارهم على ذلك حتى لم يبق فيهم استعداد لقبول الحق ، ولو بقوا زمانا ما ازدادوا إلا ظلما وفجورا وفسادا فى الأرض كما قال نوح عليه السلام : « إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً » وقد بالغ رسلهم فى وعظهم وإرشادهم فما زادهم ذلك إلا عتوّا واستكبارا ، وأنذروهم بالنّذر فما زادهم ذلك إلا إصرارا وعنادا ، ثقة منهم بأن آلهتهم تدفع عنهم كل مخوف.
وتبعد عنهم كل محذور ، جهلا منهم بما كانوا يعملون ، ومن ثم قال :
(فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي فما نفعتهم ولا دفعت بأس اللّه عنهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون اللّه ويطلبون منها أن تدفع عنهم الضر بنفسها أو بشفاعتها عنده - لما جاء عذاب ربك تصديقا لما أنذرهم به رسله.
(وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) يقال تبّبه تتبيبا : أهلكه ، وتبّ فلان وتبت يده : خسر أو هلك ، وتبّا لفلان : دعاء عليه بالهلاك ، أي وما زادوهم إلا هلاكا وتدميرا ، إذ أنهم باتكالهم عليهم ازدادوا كفرا وإصرارا على الظلم والفساد ، ظنا منهم أنهم ينتقمون لهم من الرسل كما حكى اللّه تعالى عن بعضهم قوله : « إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ » .(12/82)
ج 12 ، ص : 83
(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي ومثل ذلك الأخذ بالعذاب وعلى نهجه وطريقه ، أخذ ربك أهل القرى وهى متلبّسة بالظلم ، فذلك عقاب لا مفرّ منه ولا مهرب.
وفى هذا إنذار وتحذير من سوء عاقبة الظلم لكل قرية ظالمة فى كل زمان ومكان (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) أي إن أخذه وجيع قاس لا يرجى منه الخلاص.
روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبى موسى الأشعري رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « إن اللّه تعالى ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ : « وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ »
فليعتبر الظالمون بهذا ، ولا يغترّوا بالدين الذي ينتسبون إليه دون أن يعملوا ما يرفع عنهم غضب ربهم ونقمته ، فربما كان ذلك إملاء منه تعالى واستدراجا لهم.
العظة بعذاب الآخرة
[سورة هود (11) : الآيات 103 الى 109]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)(12/83)
ج 12 ، ص : 84
المعنى الجملي
بعد أن ذكر العبرة فى إهلاك الأمم الظالمة فى الدنيا - ذكر هنا العبرة بجزاء الآخرة للأشقياء والسعداء ، فالألون يصلون النار التي لهم فيها شهيق وزفير ، والآخرون يمتعون بالجنة التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين وهم فيها خالدون.
الإيضاح
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) أي إن فيما قصه اللّه من إهلاك أولئك الأمم وبيان سنته فى عاقبة الظالمين ، لحجة بيّنة وعبرة ظاهرة لمن يخاف عذاب الآخرة يعتبر بها فيتقى الظلم فى الدنيا على سائر ضروبه ، إذ يعلم أن من عذّب الظالمين فى الدنيا قادر أن يعذبهم فى الآخرة ، وأن ما حاق بهم فى دار الفناء ، أنموذج لما يكون لهم فى دار البقاء.
والماديون فى هذا العصر وفى عصور سابقة كما حكاه البيضاوي عن بعض أهل عصره يقولون : إن الطوفان والصاعقة وخسف الأرض كل أولئك قد حدث بأسباب طبيعية لا بإرادة اللّه واختياره لتربية الأمم - ويكفى فى الرد عليهم أن يقال : إن حدوث هذه الأشياء وغيرها بالأسباب الموافقة لسنن اللّه فى نظام العالم هو المراد بالقضاء والقدر فى القرآن الكريم ، واللّه تعالى أحدث هذه الأسباب فى أوقات معينة بحكمته لعقاب تلك الأمم بها ، ولم تكن من قبيل المصادفات.
والدليل على ذلك أن أولئك الرسل أنذروا أقوامهم بحدوثها قبل أن لم تكن ، ومنهم من ذكر وقتها على سبيل التعيين والتحديد ، وهكذا يفعل اللّه بالظالمين فى كل(12/84)
ج 12 ، ص : 85
زمان وإن لم يكن فيهم من ينذرهم بوقوع ما يحل بهم اكتفاء بإنذار القرآن كما قال :
« وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ » .
(ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) أي ذلك اليوم الذي يقع فيه عذاب الآخرة يوم يجمع له الناس كلهم ليحاسبوا على ما عملوا ثم يوفّوا جزاءهم بالعدل والقسطاس.
(وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) أي وذلك يوم يشهده الخلائق جميعا من الإنس والجن والملائكة وغيرهم.
(وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) أي وما نؤخر ذلك اليوم إلا لانتهاء مدة معلومة فى علمنا لا تزيد ولا تنقص ، وهى انتهاء مدة الدنيا ، وكل شىء معدود محدود فهو قريب ، ولم يطلع اللّه أحدا من خلقه على معرفة ذلك اليوم.
(يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي فى ذلك الحين الذي يجىء فيه اليوم المعين لا تتكلم نفس من الأنفس الناطقة إلا بإذنه تعالى ، إذ لا يملك أحد فيه قولا ولا فعلا إلا بإذنه كما قال تعالى : « يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً » وقال : « هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ » وقال : « يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً » .
(فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) أي فمن يجمع فى ذلك اليوم شقى مستحق للعذاب الأليم الذي أوعد به الكافرون ، وسعيد مستحق لما وعد به المتقون ، من الثواب والنعيم الدائم.
والأطفال والمجانين لا يدخلون فى هذا التقسيم لعدم التكليف - ويدخل فيه من استوت حسناتهم وسيئاتهم من المؤمنين ، ومن تغلب سيئاتهم ويعاقبون عليها إلى حين ثم يدخلون الجنة ، لأنهم من فريق السعداء باعتبار العاقبة. فالسعداء درجات ، والأشقياء دركات.(12/85)
ج 12 ، ص : 86
روى الترمذي وأبو يعلى وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه قال : لما نزلت « فمنهم شقى وسعيد » قلت : يا رسول اللّه فعلام نعمل ؟ على شىء قد فرغ منه أو على شىء لم يفرغ منه قال : « بل على شىء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ، ولكن كلّ ميسر لما خلق له »
و
روى عن على كرم اللّه وجهه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه كان فى جنازة فأخذ عودا فجعل ينكت فى الأرض فقال : « اعملوا فكل ميسر لما خلق له » وقرأ : « فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى »
والمراد أن اللّه يعلم الغيب وأنه يعلم المستقبل كله بجميع أجزائه وأطرافه ، ومنه عمل العاملين وما يترتب على كل عمل من الجزاء بحسب وعده ووعيده فى كتابه المنزل وكتابته للمقادير ، والنبي صلى اللّه عليه وسلم علمنا أن الجزاء بالعمل ، وأن كل إنسان ميسر له ومسهل عليه ما خلقه اللّه لأجله من سعادة الجنة ، أو شقاوة النار ، وأن ما وهبه من الاستعداد والعزيمة يكون له تأثير فى تربية النفس توجيهها إلى ما تعتقد أن فيه سعادتها وخيرها.
ثم فصل جزاء الفريقين فقال :
(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) الزفير تنفس الصّعداء من الهم والكرب إذا امتد واشتد وسمع صوته ، والشهيق النشيج فى البكاء إذا اشتد تردده فى الصدر وارتفع به الصوت ، أي فأما الذين شقوا فى الدنيا بما كانوا يعملون من أعمال الأشقياء لفساد عقيدتهم الموروثة وسوء القدوة فى العمل حتى أحاطت بهم خطيئاتهم وانطفأ نور الفطرة من أنفسهم ، فلهم فى النار التي هى مستقرهم ومثواهم زفير وشهيق من حرج صدورهم وضيق أنفاسهم وشدة كروبهم.
(خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي ما كثين فيها مكث خلود وبقاء مدة دوام السموات التي تظلهم والأرض التي تقلّهم ، والمراد التأبيد ونفى الانقطاع على منهج قولهم : لا أفعله ما بدا كواكب ، وما أضاء الفجر ، وما تغنّت حمامة ، والنصوص متظاهرة على تأبيد قرارهم فيها.(12/86)
ج 12 ، ص : 87
وسماء كل من أهل الجنة والنار ما هو فوقهم ، وأرضهم ما هم مستقرون عليه وهو تحتهم ، كما قال تعالى « يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ » وقال ابن عباس والسّدّى والحسن : لكلّ أرض وسماء.
(إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أي إن هذا الخلود دائم إلا ما شاء ربك من تغيير فى هذا النظام فى طور آخر ، إذ أنه إنما وضع بمشيئته وسيبقى كذلك ، ويراد بمثل هذا فى سياق الأحكام القطعية الدلالة على تقييد تأبيدها بمشيئته تعالى فقط ، لا لإفادة عدم عمومها كما فى قوله : « قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ » أي لا أملك شيئا من ذلك بقدرتي إلا ما شاء اللّه أن يملكنيه منه بتسخير أسبابه وتوفيقه ، ونحو ذلك قوله : « سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ » أي إنه تعالى ضمن لنبيه حفظ القرآن الذي يقرئه إياه وعصمه ألا ينسى منه شيئا كما هو مقتضى الضعف البشرى إلا أن يكون بمشيئة اللّه فهو وحده القادر على ذلك.
(إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ومشيئته تعالى إنما تتعلق بما سبق به علمه واقتضته حكمته ، وما كان كذلك لم يكن إخلافا لشىء من وعده ولا من وعيده كخلود أهل النار فيها.
(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) المجذوذ : المقطوع ، من جذّه إذا قطعه أو كسره ، وهو كقوله :
«
لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ » أي إن هذا الجزاء هبة منه وإحسان دائم غير مقطوع ، وقد كثر وعد اللّه تعالى للمؤمنين المحسنين بأنه يزيدهم من فضله ، وبأنه يضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها ، وبأكثر من ذلك إلى سبعمائه ضعف ، وبأنه يجزيهم بالحسنى ، وبأحسن مما عملوا - ولم يوعد بزيادة جزاء الكافرين والمجرمين على ما يستحقون ، بل أوعدهم بأنه يجزيهم بما عملوا ، وبأن السيئة بمثلها وهم لا يظلمون ، وبأنه لا يظلم أحدا ، وهذا الجزاء وهو الخلود فى النار أثر طبيعى لتدسية النفس بالكفر والظلم والفساد.(12/87)
ج 12 ، ص : 88
وبعد أن شرح سبحانه أقاصيص عبدة الأوثان ، ثم أتبعه بأحوال الأشقياء والسعداء ، أنذر أعداء النبي صلى اللّه عليه وسلم والمشركين من قومه بما حل بالأمم المهلكة من العذاب فقال :
(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) أي إذا كان أمر الأمم المشركة الظالمة فى الدنيا ثم فى الآخرة كما قصصناه عليك ، فلا تكن فى أدنى ريب مما يعبد قومك هؤلاء فى عاقبته بمقتضى تلك السنن التي لا تبديل لها.
وفى ذلك تسلية له صلى اللّه عليه وسلم ووعيد لقومه كما لا يخفى.
ثم بين حالهم فى عبادتهم وجزاءهم عليها فقال :
(ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ ، وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) أي إنهم أشبهوا آباءهم فى الجهل والتقليد فهم مقلدون لهم ، وإنا لمعطوهم نصيبهم من جزاء أعمالهم فى الدنيا وافيا تامّا لا ينقص منه شىء كما وفينا آباءهم الأولين من قبل فأعمال الخير التي يعملونها فى الدنيا كبرّ الوالدين وصلة الأرحام وإغاثة الملهوف يوفون جزاءهم عليها بسعة الرزق وكشف الضر جزاء تاما وافيا ولا يجزون عليها فى الآخرة ، ومثل هذا الجزاء متاع عاجل لا يلبث أن يزول.
[سورة هود (11) : الآيات 110 الى 111]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
المعنى الجملي
بعد أن ذكّر مشركى مكة بأقوام غلب عليهم الكفر والجحود ولم يؤمن إلا القليل منهم ، فوفّاهم جزاء أعمالهم فى الدنيا وسيوفيهم جزاءهم فى الآخرة - ذكّرهم فى هاتين(12/88)
ج 12 ، ص : 89
الآيتين بقوم موسى الذين آتاهم الكتاب فاختلفوا فيه ، وأن مثل الذين يختلفون من أمته فى الكتاب مثل هؤلاء.
الإيضاح
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي فاختلف فى الكتاب وكونه من عند اللّه فآمن به قوم وكفر به آخرون ، فلا تبال باختلاف قومك فيما آتيناك من القرآن كقولهم « لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ » وزعمهم أن القرآن مفترى.
(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) الكلمة هى كلمة القضاء بتأخير العذاب إلى الأجل المسمى بحسب الحكمة الداعية إلى ذلك ، أي ولو لا ما تقدم من حكم اللّه بتأخير إهلاك البغاة المثيرين للاختلاف فيه بأهوائهم ، وإبقاء المعتصمين بالوحدة والاتفاق على هدايته ، لأهلكهم ، كما أهلك الذين ردوا دعوة الرسل جحودا وعنادا.
(وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي وإن المكذبين به منهم لفى شك موقع فى الريب والاضطراب ، فلا يدرون أحق هو أم باطل.
وجاء فى معنى الآية قوله « شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ، كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ، اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ. وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ، وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ، وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ » والذين أورثوا الآيات بعد من تقدم ذكرهم من الأنبياء هم اليهود والنصارى وقد عرض لهم من الشك والريب فى كتبهم ما لم يكن فى عهد(12/89)
ج 12 ، ص : 90
سلفهم ، إذ أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام قد فقدت فى إحراق البابليين لهيكل سليمان ، والنصارى كانوا أشد اختلافا فى كتبهم ومذاهبهم.
(وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي وإن كل أولئك المختلفين الذين قصصنا عليك قصصهم ليوفيهم ربك جزاء أعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، إذ لا يخفى عليه شىء منها.
[سورة هود (11) : الآيات 112 الى 113]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113)
المعنى الجملي
بعد أن بين أمر المختلفين فى التوحيد والنبوة ، وأطنب فى وعدهم ووعيدهم أمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم ومن تاب معه بالاستقامة وهى كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل والأخلاق الفاضلة.
الإيضاح
(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) أي فالزم الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه واثبت عليه ، وكذلك فليستقم من تاب من الشرك وآمن معك ، ولا تنحرفوا عما رسم لكم بتجاوز حدوده غلوّا فى الدين ، فإن الإفراط فيه كالتفريط كلاهما زيغ عن الصراط المستقيم.
وفى هذا إيماء إلى وجوب اتباع النصوص فى الأمور الدينية من عقائد وعبادات واجتناب الرأى وبطلان التقليد فيها.(12/90)
ج 12 ، ص : 91
وإيضاح هذا - إن تحكيم العقل البشرى فى الخوض فى ذات اللّه وصفاته وفيما دون ذلك من عالم الغيب كالملائكة والعرش والجنة والنار - تجاوز لحدوده ، فإن اكبر العلماء والفلاسفة عقولا عجزوا إلى اليوم عن معرفة كنه أنفسهم وأنفس ما دونهم من المخلوقات صغيرها وكبيرها حتى الحشرات منها كالنحل والنمل ، فأنىّ لهم أن يعرفوا كنه ذات اللّه وصفاته أو معرفة حقيقة ملائكته وغيرهم من جند اللّه ؟ .
ولما خرج متأخر والأمة عن هدى سلفهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان زاغوا فكانوا : « مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ » فسقط بعضهم فى خيال التشبيه ، وبعضهم فى خيال التعطيل.
ولو كانوا قد نهجوا نهج السابقين لتجنبوا أسباب الخلاف والتفرق فى الدين الذي أوعد اللّه أهله بالعذاب العظيم وبرأ رسوله منهم.
والواجب التزام كتاب اللّه وما فسرته به سنة رسوله صلى اللّه عليه وسلم من العبادات العملية بدون تحكم بالرأى والقياس ، والمعاملات على النحو الذي بينه الكتاب والسنة على السنن القويم دون تأويل ولا تخريج لهما على غير ما يفهم من ظاهرهما.
أما الاختلاف فيما عدا ذلك من أمور القضاء والسياسة وأمور المعاش من زراعات وتجارات فهو أمر طبيعى لا يمكن الغنى عنه ، فلولاه لما تقدمت شئون الحياة ، ولما حصل التنافس لدى أرباب المهن والصناعات ، ولما جدّ كل يوم بدع جديد (موضه) ولكان الناس دائما على الفطرة الأولى ، وأنّي لعقل الإنسان أن يسمتر على حال واحدة وقد أوتى الخلافة فى الأرض وحسن استعمارها ، وبهذا وحده فضل الملائكة وللّه فى خلقه شئون.
وقد بين سبحانه لنا المخرج إذا حدث بيننا الخلاف فى الدين فقال : « فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ » الآية وقد فسر ذلك النبي صلى اللّه عليه(12/91)
ج 12 ، ص : 92 وسلم
بقوله لمعاذ بن جبل حين ولاه القضاء فى اليمين « بم تقضى ؟ قال بكتاب اللّه. قال فإن لم تجد ؟ قال فبسنة رسوله. قال فإن لم تجد ؟ قال أجتهد رأيى - فأقرّه على ذلك » .
وهذا هو الاستقامة فى الدين التي بها فى يرقى المرء إلى أعلى عليين ، وقد حثّ اللّه رسوله عليها فى هذه الآية وحث موسى وهارون عليها فقال : « قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما » .
ومدح من اتصفوا بها ووعدهم بالخير والفلاح فى الآخرة فقال : « إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » .
وروى مسلم عن سفيان الثقفي قال : « قلت يا رسول اللّه قل لى فى الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال : (قل آمنت باللّه ثم استقم) » .
(إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي إنه تعالى بصير بعملكم ومحيط به فيجزيكم به ، فاتقوه أن يطلع عليكم وأنتم عاملون بخلاف أمره.
ونظير هذه الآية قوله « فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ ، اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ » .
(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) الركون إلى الشيء : الاعتماد عليه ، وركن الشيء : جانبه الأقوى ، وما تتقوى به من ملك وجند وغيره ومنه قوله تعالى « فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ » والمراد من الظالمين هنا أعداء المؤمنين الذين يؤذونهم ويفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردّوهم عنه ، فهم بمعنى الذين كفروا فى الآيات الكثيرة ، وتمسكم النار ، أي تصيبكم ، أي لا تستندوا إلى الذين ظلموا من قومكم المشركين ولا من غيرهم فتجعوهم ركنا لكم(12/92)
ج 12 ، ص : 93
تعتمدون عليه فتقروهم على ظلمهم وتوالوهم فى شئونكم الحربية وأعمالكم الدينية ، فإن الظالمين بعضهم أولياء بعض.
وخلاصة ذلك - لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم رضيتم عن أعمالهم ، فإن فعلتم ذلك أصابتكم النار التي هى جزاء الظالمين بسبب ركونكم إليهم والاعتزاز بهم والاعتماد عليهم ، والركون إلى الظلم وأهله ظلم « وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » .
وليس لكم فى هذه الحال التي تركنون فيها إليهم غير اللّه وليّا ينقذكم ويخلصكم من عذابه ، ثم لا تنصرون : أي لا ينصركم اللّه لأن الذين يركنون إلى الظالمين يكونون منهم وهو لا ينصر الظالمين كما قال « وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ » بل تكون عاقبتكم الحرمان مما وعد اللّه رسله ومن ينصره من المؤمنين.
والخلاصة - إن الركون إلى الظالمين المنهي عنه هو الاعتماد على أعداء المؤمنين الذين يفتنونهم ويصدونهم عن دينهم ، ويؤيده ما روى عن ابن عباس رضى اللّه عنه أنه فسر الظلم هنا بالشرك ، والذين ظلموا بالمشركين ، وقيل إنها عامة فى الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم ، ولو فرضنا أن سبب النزول هم المشركون ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ومن ابتلى بمخالطة الظلمة فليزن أقوالهم وأفعالهم بميزان الشرع ، فإن زاغوا عن ذلك فعلى أنفسهم قد جنوا ، وطاعتهم واجبة على كل من دخل تحت أمرهم ونهيهم فى كل ما يأمرون به ما لم يكن فى معصية اللّه ، فمن أمروه أن يدخل فى شىء من الأعمال التي وكلها إليهم كالمناصب الدينية ونحوها فليدخل فيه إذا وثق من نفسه القدرة على القيام به ، إلى أنه يجب الأخذ على أيدى الظالمين عامة وعلى أئمة الجور والأمراء خاصة ويجب تغيير المنكر أولا باليد فإن لم يستطع ذلك فباللسان ، وإلا فبالقلب ، وذلك أضعف الإيمان ،
روى الإمام أحمد وأصحاب السنن عن أبى بكر أنه قام فحمد اللّه(12/93)
ج 12 ، ص : 94
وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية - يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم حتى أتى على آخر الآية ، ألا وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أو شك اللّه أن يعمهم بعقابه ، ألا وإنى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول « إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمهم اللّه بعقابه » .
[سورة هود (11) : الآيات 114 الى 115]
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
تفسير المفردات
طرف الشيء : الطائفة منه والنهاية ، فطرفا النهار : الغدو والعشى. وروى عن الحسن وقتادة والضحاك أنهما صلاة الصبح والعصر ، والزلف واحدها زلفة وهى الطائفة من أول الليل لقربها من النهار ، وقال الحسن : هما زلفتان صلاة المغرب وصلاة العشاء ، وذكرى : عبرة وعظة ، وللذاكرين : أي المعتبرين المتعظين.
المعنى الجملي
بعد أن أمر رسوله بالاستقامة وعدم تجاوز ما رسمه الدين ، وعدم الركون إلى أولى الظلم - أمره هنا بأفضل العبادات وأجلّ الفضائل التي يستعان بها على ما سلف.
الإيضاح
(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) أي أدّها على الوجه القويم وأدمها فى طرفى النهار من كل يوم ، وفى زلف من الليل ، ونظير هذه الآية قوله فى سورة(12/94)
ج 12 ، ص : 95
طه « وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى » والتسبيح عام يشمل الصلاة وغيرها.
والآية الصريحة فى أوقات الصلوات الخمس قوله تعالى « فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ » فالمساء ما بين الظهر والمغرب وهو صلاة العصر ، وصلاة المغرب العشاء الأولى ، وصلاة العتمة العشاء الآخرة التي يزول عندها الشفق وهو آخر أثر لنور النهار.
وخصت الصلاة بالذكر لأنها أس العبادات المغذّية للإيمان والمعينة على سائر الأعمال.
ثم بين فائدة الأمر السابق وحكمته فقال :
(إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) أي إن الأعمال الحسنة تكفر السيئات وتذهب المؤاخذة عنها ، لما فيها من تزكية النفس وإصلاحها ، فتمحو منها تأثير الأعمال السيئة فى النفس وإفسادها لها ، والمراد بالحسنات ما يعم الأعمال الصالحة جميعا حتى ما كان منها تركا لسيئة كما قال تعالى « إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً »
وجاء فى الحديث الشريف « وأتبع السيئة الحسنة تمحها »
والمراد بالسيئات الصغائر لأن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة بدليل ما
رواه مسلم « الصلوات الخمس كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر » .
(ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) أي إن فيما ذكر من الوصايا السابقة من الاستقامة والنهى عن الطغيان والركون إلى الذين ظلموا وإقامة الصلاة فى تلك الأوقات ، لعبرة للمتعظين الذين يراقبون اللّه ولا ينسونه ، وخصهم بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بها.
(وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي ووطّن نفسك على احتمال المشقة فى سبيل ما أمرت به ، وما نهيت عنه فى هذه الوصايا وفى غيرها ، فإن اللّه لا يضيع أجر من أحسن عملا بل يوفيه ثواب عمله من غير بخس له.
وفى الآية إيماء إلى أن الصبر من باب الإحسان.(12/95)
ج 12 ، ص : 96
[سورة هود (11) : الآيات 116 الى 119]
فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
تفسير المفردات
لو لا : كلمة تفيد التحضيض والحث على الفعل ، والقرون واحدهم قرن : وهو الجيل من الناس ، قيل هو ثمانون سنة ، وقيل سبعون ، وشاع تقديره بمائة سنة ، والبقية :
ما يبقى من الشيء بعد ذهاب أكثره ، واستعمل كثيرا فى الأنفع والأصلح ، لأن العادة قد جرت بأن الناس ينفقون أردأ ما عندهم ويستبقون الأجود ، ويقال أترفته النعمة أي أبطرته وأفسدته ، وكلمة ربك : أي قضاؤه وأمر
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عاقبة الأمم المكذبة لرسلها فى الدنيا والآخرة وإنذار قومه صلى اللّه عليه وسلم بهم ، وبيّن ما يجب عليه وعلى من آمن به وتاب معه من الاستقامة والصلاح واجتناب أهل الظلم والفساد.
ذكر هنا بيان السنن العامة فى إهلاك الأمم الذين قص اللّه قصصهم وأمثالهم ممن عصوا رسل ربهم بعد أن أنذروهم عقابه ، ووعدوهم إذا أطاعوهم ثوابه.(12/96)
ج 12 ، ص : 97
الإيضاح
(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) أي فهلا وجد من أولئك الأقوام الذين أهلكناهم بظلمهم وفسادهم فى الأرض جماعة أو لو عقل ورأى وصلاح ينهونهم عن الفساد فى الأرض باتباع الهوى والشهوات التي تفسد عليهم أنفسهم ومصالحهم ، فيحولون بينهم وبين الفساد ، ومن سنة اللّه ألا يهلك قوما إلا إذا عمّ الفساد والظلم أكثرهم.
(إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) أي ولكن كان هناك قليل من الذين أنجيناهم مع رسلهم منبوذين لا يقبل نهيهم وأمرهم مهددين مع رسلهم بالإبعاد والأذى.
(وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) أي واتبع الظالمون وهم الأكثرون ما رزقناهم من أسباب الترف والنعيم فبطروا واستكبروا وصدوا عن سبيل اللّه ، وكانوا ذوى جرائم بما ولده الترف والنعيم ، فكان هو المسخّر لعقولهم ، وبذا رجّحوا ما أتوا على اتباع الرسل.
وخلاصة ذلك - إن العقول السليمة كافية لفهم ما فى دعوة الرسل من الخير والصلاح لو لم يمنع استعمال هدايتها الافتتان بالترف والنعيم بدلا من القصد والاعتدال فيه وشكر المنعم عليه ، وقد هدت التجارب إلى أن الترف هو الباعث على الفسوق والعصيان والظلم والإجرام ، ويظهر ذلك بديئا فى الرؤساء والسادة ، ومنهم ينتقل إلى الدهماء والعامة فيكون ذلك سببا فى الهلاك بالاستئصال ، أو فى فقد العزة والاستقلال ، وتلك هى سنة اللّه فى خلقه كما قال : « وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً »
.
ثم بين سبحانه ما يحول بين الأمم وإهلاكها فقال :
(وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) الظلم هو الشرك أي إنه تعالى ليس من سنته أن يهلك القرى بشرك أهلها ماداموا مصلحين فى أعمالهم الاجتماعية والعمرانية والمدنية ، فلا يبخسون الناس حقوقهم كما فعل قوم شعيب ، ولا يبطشون بالناس(12/97)
ج 12 ، ص : 98
بطش الجبارين كقوم هود ، ولا يذلّون لمتكبر جبار كقوم فرعون ولا يرتكبون الفواحش ويقطعون السبيل ويأتون فى ناديهم المنكر كقوم لوط ، بل لا بد أن يضموا إلى الشرك الإفساد فى الأعمال والأحكام ، ويفعلوا الظلم المدمّر للعمران ، ومن ثم قالوا : الأمم تبقى مع الكفر ولا تبقى مع الظلم والجور ، ويؤيد هذا ما
أخرجه الطبراني والديلمي وابن مردويه عن جرير بن عبد اللّه قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسأل عن تفسير هذه الآية فقال : « وأهلها ينصف بعضهم بعضا » .
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) أي ولو شاء ربك أيها الرسول الكريم ، الشديد الحرص على إيمان قومك ، الحزين من أجل إعراض أكثرهم عن إجابة دعوتك واتباع هديك - لجعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة لا اختيار لهم فيما يفعلون ، فكانوا فى حياتهم الاجتماعية أشبه بالنمل والنحل ، وفى حياتهم الروحية أشبه بالملائكة مفطورين على طاعة اللّه واعتقاد الحق وعدم الميل إلى الزيغ والجور ، لكنه تعالى خلقهم كاسبين لا ملهمين ، وعاملين بالاختيار لا مجبورين ولا مضطرين وجعلهم متفاوتين فى الاستعداد وكسب العلم ، وكانوا فى أطوارهم الأولى لا اختلاف بينهم ، ثم لما كثرت وتنوعت حاجاتهم وكثرت مطالبهم ظهر فيهم الاستعداد للاختلاف كما قال تعالى : « وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا » .
(وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أي ولا يزالون مختلفين فى شئونهم الدنيوية والدينية بحسب استعدادهم الفطري ، إلا من رحم اللّه منهم فإنهم يتفقون على حكم كتابه فيهم وهو الذي عليه مدار جمع كلمة الأمة ووحدتها.
(وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي ولمشيئته تعالى فيهم الاختلاف والتفرق فى علومهم ومعارفهم وآرائهم ، وما يتبع ذلك من الإرادة والاختيار فى الأعمال - خلقهم ، وبهذا كانوا خلفاء فى الأرض ، ومن ذلك اختلافهم فى الدين والإيمان والطاعة والعصيان ، وبذا كانوا مظهر لأسرار خلقه الروحية والجسدية أو المادية والمعنوية ، وقال ابن عباس(12/98)
ج 12 ، ص : 99
خلقهم فريقين فريقا يرحم فلا يختلف ، وفريقا لا يرحم فيختلف ، فذلك قوله :
« فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ » .
والخلاصة - إن الناس فريقان : فريق اتفقوا فى الدين فجعلوا كتاب اللّه حكما بينهم فيما اختلفوا فيه فاجتمعت كلمتهم وكانوا أمة واحدة فرحمهم اللّه ووقاهم شر الاختلاف فى الدنيا وعذاب الآخرة ، وفريق اختلفوا فى الدين كما اختلفوا فى منافع الدنيا فكان بأسهم بينهم شديدا فذاقوا عقاب الاختلاف فى الدنيا وأعقبه جزاؤهم فى الآخرة ، فحرموا من رحمة اللّه بظلمهم لأنفسهم ، لا بظلم منه تعالى لهم.
(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي قد سبق فى قضائه وقدره وحكمته النافذة أن ممن خلقه من يستحق الجنة ، ومنهم من يستحق النار ، وأن الجنة والنار لا بد أن يملآ من عالمى الجن والإنس الذين لا يهتدون بما أرسل به رسله وبما أنزل عليهم من كتبه لهداية المكلفين والحكم بين المختلفين.
[سورة هود (11) : الآيات 120 الى 123]
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
تفسير المفردات
القص : تتبع أثر الشيء للإحاطة به كما قال تعالى : « وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ » والنبأ : الخبر الهام ، ونثبت : أي نقوّى ونجعل فؤادك راسخا كالجبل ، على مكانتكم : أي على تمكنكم واستطاعتكم.(12/99)
ج 12 ، ص : 100
المعنى الجملي
بعد أن قص عز وجل قصص أشهر الأنبياء مع أممهم الماضين - بين هنا ما لذلك من فائدة لرسوله وللمؤمنين وهى تثبيت الفؤاد والعظة والاعتبار ، ثم أمر رسوله بالعبادة والتوكل عليه وعدم المبالاة بعداوة المشركين والكيد له
الإيضاح
(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) أي وكل نبأ من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم ، وما جرى لهم من المحاجات والخصومات ، وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى ، وكيف نصر اللّه حزبه وخذل أعداءه الكافرين ، نقصّه عليك على وجهه لفائدتين :
(1) (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي ما به يقوى فؤادك ويكون ثابتا كالجبل لتقوم بأعباء الرسالة ونشر الدعوة ، لما لك من الأسوة بإخوانك المرسلين.
(2) (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي وإن فى هذه ، الأنباء بيان الحق الذي دعا إليه الرسل وهو اعتقاد أنه تعالى واحد مع إخلاص العبادة له وحده والتوبة إليه وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وفيها موعظة وذكرى للذين يتعظون بما حلّ بأولئك الأمم من عقاب ، وبيان أن ذلك إنما نالهم بسبب الظلم والفساد.
(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي وقل للكافرين الذين لا يؤمنون فلا يتعظون : اعملوا على ما فى مكنتكم وعلى قدر ما تستطيعون من مقاومة الدعوة وإيذاء الداعي والمستجيبين له.
وفى هذا تهديد ووعيد لهم بما يلقونه من العذاب جزاء ما كسبت أيديهم.
(إِنَّا عامِلُونَ) على مكانتنا وعلى قدر ما نستطيع من الثبات على الدعوة وتنفيذ أمر اللّه وطاعته.(12/100)
ج 12 ، ص : 101
(وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أي وانتظروا بنا ما تتمنّونه من انتهاء أمرنا إما بموت أو غيره مما تحدّثون به أنفسكم كما حكى اللّه عنهم فى قوله : « أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ » إنا منتظرون أن ينزل بكم مثل ما نزل بأمثالكم من عقابه تعالى بعذاب من عنده أو بأيدى المؤمنين ، وأن يكفل لنا النصر والغلبة وتكون كلمة اللّه هى العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ، واللّه عزيز حكيم ، وقد أنجز وعده ونصر رسوله وأيده ، ونظير الآية قوله تعالى : « فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ » .
(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه سبحانه يعلم كل ما هو غائب عن علمك أيها الرسول وعن علمهم ، مما هو فى السموات والأرض ، وهو المالك المتصرف فيه ، وهو العالم بكل ما سيقع فيهما والعالم بوقته الذي يقع فيه.
(وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) فأمرك وأمرهم لا محالة راجع إليه ، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
(فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) أي وإذا كان أمر كل شىء يرجع إليه فاعبده بإخلاص الدين له وحده ، وادع إلى طاعته واتباع أمره بالحكمة والموعظة الحسنة ، وتوكل عليه فيما لا يدخل فى مكنتك واستطاعتك مما ليس لك سبيل إلى الحصول عليه ، إذ لا يدخل تحت كسبك ولا تناله يدك. والتوكل لا يجدى نفعا بغير العبادة والأخذ بالأسباب المستطاعة ، وبدون ذلك يكون من التمني الكاذب ، والعبادة لا تكمل إلا بالتوكل إذ به يكمل التوحيد والإخلاص له تعالى.
روى أحمد والترمذي وابن ماجه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال « الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على اللّه الأمانى » .
وخلاصة ذلك - امتثل ما أمرت به وداوم على التبليغ والدعوة وتوكل عليه فى سائر أمورك ولا تبال بالذين لا يؤمنون ولا يضيق صدرك بهم.(12/101)
ج 12 ، ص : 102
(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت أيها النبي ومن اتبعك من المؤمنين من عبادته والتوكل عليه والصبر على أذى المشركين فيوفيكم جزاءكم فى الدنيا والآخرة ، وعما يعمل المشركون من الكيد لكم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا وسيجزيهم على أعمالهم يوم تجزى كل نفس بما كسبت ، وقد صدق اللّه وعده ، ونصر عبده ، وأظهر دينه على الدين كله.
ربنا لا تزع قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، وصل ربنا على خير خلقك محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين ، والحمد للّه رب العالمين.
بيان بإجمال للمقاصد الدينية التي حوتها هذه السورة
قد اشتملت هذه السورة على ما اشتملت عليه سابقتها من أصول الدين ومبادئه العامة التي لا يكون المؤمن مؤمنا حقا إلا إذا سلك سبيلها ونهج نهجها ، ومن ذلك :
(1) التوحيد وهو ضربان :
(ا) توحيد الألوهية - وهو أول ما دعا إليه محمد صلى اللّه عليه وسلم ودعا إليه كل رسول قبله ، وهو عبادته تعالى وحده وعدم عبادة أحد معه كما قال : « أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ » فعبادة غيره من الأصنام كحجر وشجر وكوكب أو بشر ولىّ أو نبى أو شيطان أو ملك إذا توجه العبد إليها توجها تعبديا ابتغاء النفع أو كشف الضر فى غير الأسباب التي سخرها اللّه لجميع الناس - كل ذلك كفر لا فرق بينه وبين عبادة الأصنام أو الأوثان إذ جميع ما عدا اللّه فهو عبد وملك له لا يتوجّه بالعبادة إليه.
(ب) توحيد الربوبية - أي اعتقاد أن اللّه وحده هو الخالق المدبر لهذا الكون والمتصرف فيه على مقتضى حكمته ونظام سنته وتسخيره الأسباب لمن شاء بما شاء ، وكان أكثر المشركين من العرب ومن قبلهم يؤمنون بأن الرب الخالق المدبر واحد ، ولكن يقولون بتعدد الآلهة التي يتقرّب بها إليه توسلا وطلبا للشفاعة عنده.
(2) إثبات رسالته صلى اللّه عليه وسلم بالقرآن بتحديهم بالإتيان بعشر سور مثله(12/102)
ج 12 ، ص : 103
مفتريات ودعوة من استطاعوا من دون اللّه لمظاهرتهم وإعانتهم على الإتيان بها إن كانوا صادقين ، وقوله بعد ذلك : « فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ » وما جاء فى قوله : « تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا » .
(3) جاءت آيات البعث والجزاء فى القرآن لدعوة المشركين إلى الإيمان والاستدلال بها على قدرة الخالق ، ولتذكير المؤمنين به للترغيب والترهيب والموعظة والجزاء كما جاء فى قوله : « إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » وقوله :
« وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ » .
(4) إهلاك الأمم بالظلم كما جاء فى قوله لخاتم رسله : « ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ » وقوله : « وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ » .
(5) سنته تعالى فى ضلال الناس وغوايتهم - بأن يكونا بارتكاب أسبابهما من الأعمال الاختيارية والإصرار عليها إلى أن تتمكن من صاحبها وتحيط به خطيئته حتى يفقد الاستعداد للهدى والرشاد.
(6) من طباع البشر العجل والاستعجال لما يطلب من النفع والخير وما ينذر به من الشر كما قال : « وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ » .
(7) سنته تعالى فى تكوين الخلق وأنه كان أطوارا فى أزمنة مختلفة بنظام محكم ولم يكن شىء منه فجائيا بلا تقدير ولا ترتيب كما قال تعالى : « وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ » فكلمة الخلق معناها التقدير المحكم الذي تكون فيه الأشياء على مقادير متناسبة ثم أريد بها الإيجاد التقديري فالسموات السبع(12/103)
ج 12 ، ص : 104
المرئية للناظرين والأجرام السماوية قائمة بسنن دقيقة النظام ، وما فيها من البسائط والمركّبات الغازية والسائلة والجامدة كذلك ، والكون فى جملته قائم بسنة عامة فى ربط بعضه ببعض وحفظ نظامه ، بأن يبنى بعضه على بعض وهو ما يسميه العلماء الجاذبية العامة والجاذبية الخاصة.
(8) إن الطغيان والركون إلى الظالمين من أمهات الرذائل كما قال : « وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ » .
(9) الاختلاف فى طبائع البشر ، فيه فوائد ومنافع علمية وعملية وعملية لا تظهر مزاياه بدونها ، وفيه مضار وشرور أكبرها التفرق والتعادي به ، وقد شرع اللّه لهم الدين لتكميل فطرتهم والحكم بينهم فيما اختلفوا فيه بكتابه الذي لا مجال فيه للاختلاف ، فاستحق الذين يحكّمونه فيما يتنازعون فيه رحمته وثوابه ، والذين يختلفون فيه سخطه وعقابه.
(10) اتباع الإتراف وما فيه من الفساد والإجرام - ذلك أن مثار الظلم والإجرام الموجب لهلاك الأمم هو اتباع أكثرها لما أترفوا فيه من أسباب النعيم والشهوات واللذات ، والمترفون هم مفسدو الأمم ومهلكوها.
وقد علم هذا المهتدون الأولون بالقرآن من الخلفاء الراشدين والسلف الصالحين فكانوا مثلا صالحا فى الاعتدال فى المعيشة أو تغليب جانب الخشونة والشدة على الإتراف والنعمة ففتحوا الأمصار وأقاموا دولة عز على التاريخ أن يقيم مثلها باتباع هدى القرآن وبيان السنة له وبذلك خرجوا من ظلمات الجهالة إلى نور العلم والعرفان ، ثم أضاعها من خلف من بعدهم من متبعى الإتراف ، وكيف ضلّوا بعد أن استفادوا الفنون والعلوم والملك والسلطان ، وللّه الأمر من قبل ومن بعد.
(11) إقامة الصلاة فى أوقاتها من الليل والنهار ، لأن الحسنات يذهبن السيئات ، وأعظم الحسنات الروحية الصلاة لما فيها من تطهير النفس وتزكية الروح.(12/104)
ج 12 ، ص : 105
(12) النهى عن الفساد فى الأرض ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وهما سياج الدين والأخلاق والآداب.
(13) سننه تعالى فى اختبار البشر لإحسان أعمالهم كما قال : « لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا » .
(14) أول أتباع الرسل والمصلحين هم الفقراء كما حكى عن قوم نوح « وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ » .
(15) التنازع بين رجال المال ورجال الإصلاح فى حرية الكسب المطلقة أو تقييد الكسب بالحلال ومراعاة الفضيلة.
(16) من سننه تعالى جعل العاقبة للمتقين وذلك هو الأساس الأعظم فى فوز الجماعات الدينية والسياسية والأمم والشعوب فى مقاصدها وغلبها لخصومها ومناوئيها.
(17) بيان أن الاختلاف فى الدين ضرورى للعباد كما قال : « وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ » .
(18) بيان أن نهى أولى الأحلام عن الفساد يحفظ الأمة من الهلاك كما قال :
« فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ »(12/105)
ج 12 ، ص : 106
سورة يوسف عليه السلام
تقدمة لتفسير سورة يوسف
رأينا أن نقدّم لك أيها القارئ صورة موجزة تبين لك حال هذا النبي الكريم والعبرة من ذكر قصته فى القرآن العظيم ، لتكون ذكرى للذاكرين ، وسلوة للقارئين والسامعين.
يوسف الصديق : مثل كامل فى عفّته
يوسف عليه السلام آية خالدة على وجه الدهر ، تتلى فى صحائف الكون بكرة وعشيا ، تفسّر طيب نجاره وطهارة إزاره ، وعفته فى شبابه ، وقوّته فى دينه ، وإيثاره لآخرته على دنياه ، وأفضل هداية تمثل للنساء والرجال المثل العليا فى العفة والصيانة التي لا تتم لأحد من البشر إلا بصدق الإيمان باللّه ومراقبته له فى السر والعلن.
وسورته منقبة عظمى له ، وآية بينة فى إثبات عصمته ، وأفضل مثل عملى يقتدى به النساء فالرجال ، فبتلاوتها يشعر القارئ بما للشهوة الخسيسة على النفس من سلطان ويسمع بأذنه تغلب الفضيلة فى المؤمن على كل رذيلة ، بقوة الإرادة ووازع الشرف والعصمة ففيها أحسن الأسوة للمؤمنين من الرجال والنساء ، فيها قصة شاب كان من أجمل الناس صورة ، وأكملهم بنية ، يخلو بامرأة ذات منصب وسلطان وهى سيدة له وهو عبدها ، يحملها الافتتان بجماله على أن تذلّ نفسها له ، وتخون بعلها فتراوده عن نفسه (وقد جرت العادة حتى فى الطبقات الدنيا منزلة وتربية أن يكون النساء مطلوبات لا طالبات) فيسمعها من حكمته ، ويريها من كماله وعفته ما هو أفضل درس فى الإيمان باللّه والاعتصام بحبله المتين ، وفى حفظه أمانة سيده الذي أحسن مثواه فيقول : « إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ » فتشعر حينئذ بالذل والمهانة ، والتفريط فى الشرف والصيانة ، وتحقير مقام السيادة والكرامة.
إلا أن فيها أعظم دليل على صبره وحلمه وأمانته وعدله ، وحكمته وعلمه ، وعفوه وإحسانه ، فكفى شاهدا على صبره أن إخوته حسدوه فألقوه فى غيابة الجب وأخرجته(12/106)
ج 12 ، ص : 107
السيارة وباعوه بيع العبيد ، وكادت له امرأة العزيز فزجّ فى السجن فصبر على أذى الإخوة وكيد امرأة العزيز ومكر النسوة ، إذ علم ما فى الفاحشة من مفاسد ، وما فى العدل والإحسان من منافع ومصالح ، فآثر الأعلى على الأدنى فاختار عقوبة الدنيا بالسجن على ارتكاب الإثم ، وكانت العاقبة أن نجّاه اللّه ورفع قدره ، وأذل العزيز وامرأته ، وأقرت المرأة والنسوة ببراءته ، ومكّن له فى الأرض وكانت عاقبته النصر ، والملك والحكم ، والعاقبة للمتقين ، قال سبحانه : « وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ » .
وأما عدله وأمانته وعلمه وحكمته فقد ظهرت جليّا حين تولى الحكم فى مصر أيام السبع السنين العجاف التي أكلت الحرث والنسل وكادت توقع البلاد فى المجاعات ، ثم الهلاك المحقق لو لا حكمته وعدله بين الناس والسير بينهم بالسوية وعلى الصراط المستقيم بلا جنف ولا ميل مع الهوى.
ما فى قصص يوسف من عبرة
إن فى هذه القصة لعبرة أيّما عبرة لعلية القوم وساداتهم ، رجالهم ونسائهم ، مجّانهم وأعفائهم ، من نساء ورجال ، فإن امرأة العزيز لم تكن من قبل غويّة ولا كانت فى سيرتها غير عادية ، لكنها ابتليت بحب هذا الشاب الفاتن الذي وضعه عزيز مصر فى قصره ، وخلّى بينه وبين أهله ، فأذلت نفسها له ، بمراودته عن نفسه فاستعصم وأبى وآثر مرضاة ربه ، فشاع فى مصر دورها وقصورها ذلها له ، وإباؤه عليها كما قال سبحانه « وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ » .
وقد ذكرنها بالوصف (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ) دون الاسم الصريح استعظاما لهذا الأمر منها ، ولا سيما وزوجها عزيز مصر أو رئيس حكومتها ، وقد طلبت الفاحشة من مملوكها(12/107)
ج 12 ، ص : 108
وفتاها الذي هو فى بيتها وتحت كنفها ، وذلك أقبح لوقوعها منها ، وهى السيدة وهو المملوك وهو التابع وهى المتبوعة ، وقد جرت العادة بأن نفوس النسوة تعزف عن مثل هذه الدناءة ولا ترضى لنفسها بهذه الذلة التي تشعر بالمساواة لا بالسيادة ، وبالضعة لا بالعظمة وللّه فى خلقه شئون.
وقد تضمن وصف النسوة لها بهذا الوصف أنها لم تقتصد فى حبها ولا فى طلبها.
أما الأولى فقولهن فيها : « قَدْ شَغَفَها حُبًّا » أي قد وصل حبه إلى شغاف قلبها (الغشاء المحيط به) وغاض فى سويدائه كما قال شاعرهم :
اللّه يعلم أن حبّك منّى فى سواد الفؤاد وسط الشغاف
وأما الثاني فقولهن : « تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ » .
فلما سمعت بهذا المكر القولى قابلتهن عليه بمكر فعلىّ فقد جمعتهن وأخرجته عليهن ، فلم يشعرن إلا وأحسن خلق اللّه قد طلع عليهن بغتة ، فراعهن ذلك الحسن الفتّان ، وفى أيديهن مدى يقطعن بها مما يأكلنه فقطّعن أيديهن وهن لا يشعرن بما فعلن مأخوذات بذلك الحسن كما جاء فى قوله سبحانه : « فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ، وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ » .
فلما هددته بالسجن والإذلال بعد أن هتك سترها وكاشفت النسوة فى أمرها وتواطأن معها على كيدها - آثر عليه السلام الاعتقال فى السجن على ما يدعونه إليه من الفحش والخنا : « قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ. فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » .(12/108)
ج 12 ، ص : 109
وإنه ليستبين من هذا القصص أن امرأة العزيز كانت مالكة لقياد زوجها الوزير الكبير ، تصرفه كيف شاءت وشاء لها الهوى ، إذ كان فاقدا للغيرة كأمثاله من كبراء لدنيا صغار الأنفس عبيد الشهوات.
قال فى الكشاف عند ذكر ما رأوا من الشواهد الدالة على براءته : وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها ، وفتلها منه فى الذروة والغارب ، وكان مطواعة لها ، وجملا ذلولا زمامه فى يدها ، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات وعمل برأيها فى سجنه لإلحاق الصغار به كما أوعدته ، وذلك لما أيست من طاعته ، وطمعت فى أن يذلله السجن ويسخره لها اه.
وإنا لنستخلص من هذه القصة الأمور التالية :
(1) أن النقم قد تكون ذريعة لكثير من النعم ، ففى بدء القصة أحداث كلها أتراح ، أعقبتها نتائج كلها أفراح.
(2) أن الإخوة لأب قد توجد بينهم ضغائن وأحقاد ربما تصل إلى تمنى الموت أو الهلاك أو الجوائح التي تكون مصدر النكبات والمصايب (3) أن العفة والأمانة والاستقامة تكون مصدر الخير والبركة لمن تحلى بها ، والشواهد فيها واضحة ، والعبرة منها ماثلة ، لمن اعتبر وتدبر ونظر بعين الناقد البصير.
(4) إن أسها ودعامتها هو خلوة الرجل بالمرأة فهى التي أثارت طبيعتها وأفضت بها إلى إشباع أنوثتها ، والرجوع إلى هواها وغريزتها ، ومن أجل هذا حرم الدين خلوة الرجل بالمرأة وسفرها بغير محرم ، و
فى الحديث « ما اجتمع رجل وامرأة إلا والشيطان ثالثهما » .
وإنا لنرى فى العصر الحاضر أن الداء الدوىّ ، والفساد الخلقي ، الذي وصل إلى الغاية (وكلنا نلمس آثاره ، ونشاهد بلواه) ما بلغ إلى ما نرى إلا باختلاط الرجال بالنساء فى المراقص والملاهي ، والاشتراك معهم فى المفاسد والمعاصي كمعاقرة الخمور ، ولعب القمار فى أندية الخزي والعار ، وسباحة النساء مع الرجال فى الحمامات المشتركة.(12/109)
ج 12 ، ص : 110
وبعد فهل لهذه البلوى من يفرّج كربتها ، وهل لهذا الليل من يزيل ظلامه ، وهل لهذه الجراح من آس وهل لهذه الفوضى من علاج ، ولهذه الطامة من يقوم بحمل عبئها عن الأمة ويكون فيه من الشجاعة ما يجعله يرفع الصوت عاليا بالنزوع عن تلك الغواية ويرد أمر المجتمع والحرص على آدابه إلى ما قرره الدين وسار عليه سلف المسلمين المتقين :
فيصلح أمره وتزهو الفضيلة وتنشأ نابتة جديدة تقوم على حراسة الدين فى بلاد المسلمين وللّه الأمر من قبل ومن بعد.
هدانا اللّه إلى سبيل الفلاح ، وسدد خطانا إلى طريق النجاح ، إنه نعم المولى ونعم النصير.(12/110)
ج 12 ، ص : 111
سورة يوسف عليه السلام
هى مكية ، وآياتها إحدى عشرة ومائة ، والمناسبة بينها وبين سورة هود أنها متممة لما فيها من قصص الرسل والاستدلال بذلك على كون القرآن وحيا من عند اللّه دالا على رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم خاتم النبيين ، والفرق بين القصص فيها وفيما قبلها ، أن السابق كان قصص الرسل مع أقوامهم فى تبليغ الدعوة والمحاجة فيها وعاقبة من آمن منهم ومن كذبوهم لإنذار مشركى مكة ومن تبعهم من العرب.
وأما هذه السورة فهى قصة نبى ربى فى غير قومه قبل النبوة وهو صغير السن حتى بلغ أشده واكتهل فنبىء وأرسل ودعا إلى دينه ثم تولى إدارة الملك لقطر عظيم فأحسن الإدارة والسياسة فيه وكان خير قدوة للناس فى رسالته وفى جميع ما دخل فيه من أطوار الحياة وتصريف أمورها على أحسن ما يصل إليه العقل البشرى ، ومن أعظم ذلك شأنه مع أبيه وإخوته آل بيت النبوة ، وكان من حكمة اللّه أن يجمعها فى سورة واحدة ، ومن ثم كانت أطول قصة فى القرآن الكريم.
[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3)
المعنى الجملي
جاءت فاتحة هذه السورة كفاتحة سورة يونس ، خلا أن القرآن وصف هنا بالمبين وهناك بالحكيم ذلك أن موضوع الأولى قصص نبى تقلبت عليه صروف الزمان بين نحوس وسعود كان فى جميعها خير أسوة ، وموضوع الثانية أصول الدين من توحيد اللّه(12/111)
ج 12 ، ص : 112
وإثبات الوحى والرسالة والبعث والجزاء ، وهذه يناسبها الوصف بالحكمة.
وروى عن سعد بن أبى وقاص فى سبب نزولها أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غبر يتلو القرآن زمانا على أصحابه فقالوا يا رسول اللّه لو قصصت علينا فيكون فى ذلك ترويج لنفوسنا وإحاطة بما يتضمنه من عبر وعظات.
الإيضاح
(الر) تقدم الكلام فى هذا بما فيه الكفاية.
(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي آيات هذه السورة هى آيات الكتاب البين الظاهر بنفسه ، والمظهر لما شاء اللّه من حقائق الدين وأحكام التشريع وخفايا الملك والملكوت وأسرار النشأتين والمرشد إلى مصالح الدنيا وسبيل الوصول إلى سعادة الآخرة (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي إنا أنزلنا هذا الكتاب على النبي العربي ، ليبين لكم بلغتكم العربية ما لم تكونوا تعلمونه من أحكام الدين وأنباء الرسل والحكمة وشئون الاجتماع وأصول العمران وأدب السياسة ، لتعقلوا معانيه وتفهموا ما ترشد إليه من مطالب الرّوح ومدارك العقل وتزكية النفس وإصلاح حال الجماعات والأفراد بما فيه سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم.
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) أي نحن نقص عليك ونحدثك أحسن ما يقصّ ويتحدث عنه موضوعا وفائدة ، لما يتضمنه من العبر والحكم ، بإيحائنا إليك هذه السورة من القرآن الكريم ، إذ هى الغاية فى بلاغتها وتأثيرها فى النفس وحسن موضوعها ، وقد كنت من قبل ذلك فى زمرة الغافلين عنه من قومك الأميين الذين لا يخطر فى بالهم التحديث بأخبار الأنبياء وأقوامهم وبيان ما كانوا عليه من دين وشرع كيعقوب وأولاده وهم فى بداوتهم ولا ما كان فيه المصريون الذين جاء يوسف إليهم من حضارة وترف ،(12/112)
ج 12 ، ص : 113
ولا ما حدث له فى بعض بيوتات الطبقة الراقية ، ولا حاله فى سياسة الملك وإدارة شئون الدولة وحسن تنظيمها.
[سورة يوسف (12) : الآيات 4 الى 6]
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
تفسير المفردات
لأبيه : هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ،
روى أحمد والبخاري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب ابن إسحق بن إبراهيم » .
أحد عشر كوكبا : هم إخوته وكانوا أحد عشر نفرا ، والشمس والقمر :
أبوه وأمه ، والسجود : من سجد البعير ، إذا خفض رأسه لراكبه حين ركوبه ، وكان من عادة الناس فى تحية التعظيم بفلسطين ومصر وغيرهما الانحناء مبالغة فى الخضوع والتعظيم ، وقد استعمله القرآن فى انقياد كل المخلوقات لإرادة اللّه وتسخيره ، ولا يكون السجود عبادة إلا بالقصد والنية للتقرب إلى من يعتقد أن له عليه سلطانا غيبيا فوق سلطان الأسباب المعهودة ، وقص الرؤيا : الإخبار بها على وجه الدقة والإحاطة ، وكاد له إذا دبر الكيد لأجله لمضرّته أو لمنفعته كما قال « كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ » .
والاجتباء من جبيت الشيء : إذا حصّلته لنفسك والتأويل : الإخبار بما يئول إليه الشيء فى الوجود ، وسميت الرؤيا أحاديث باعتبار حكايتها والتحديث بها ، والآل أصلها(12/113)
ج 12 ، ص : 114
أهل ، وهو خاص بمن لهم شرف وخطر فى الناس كآل النبي صلى اللّه عليه وسلم وآل الملك.
المعنى الجملي
هذه الآيات الثلاث فى قصّ يوسف رؤياه على أبيه وهو صغير ، وفيما أجابه به أبوه من منعه عن قصه لإخوته خيفة الحسد والكيد له ، وفى تعبير تلك الرؤيا له ، وما فيها من البشارة وحسن العاقبة وأنه سيكون له شأن عند اللّه وعند الناس ، وقد شغف أبوه بحبه وتعلّق به أمله وكان ذلك بدءا لما جدّله من أحداث ضر وبؤس ، ثم عاقبة حميدة كانت ذكرى للذاكرين وعبرة للمتقين ، ولم يذكر ذلك إلا فى أواخر السورة ، وقد احتذى هذا الأسلوب كثير ممن وضعوا كتب القصص (الروايات) فتراهم يبدءون بذكر نبأ هامّ يشغل بال القارئ ويحيره فى فهم علله وأسبابه وما يزالون يتدرجون به من حال إلى حال ومن شرح معمّى وكشف خفّى رويدا رويدا بأناة وحذق حتى يشرحوا ذلك النبأ فى نهاية القصص.
الإيضاح
(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) أي قال يوسف لأبيه يعقوب إنى رأيت فى منامى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر لى سجّدا ، وقد علم أبوه أن هذه رؤيا إلهام ، لا أضغاث أحلام ، تثيرها فى النوم الهواجس والأفكار ، وأن يوسف سيكون له شأن عظيم وسلطان يسود به أهله حتى أباه وأمه وإخوته ، وخاف أن يسمع إخوته ما سمعه ويفهموا ما فهمه ، فيحسدوه ويكيدوا لإهلاكه ، ومن ثم نهاه أن يقص عليهم رؤياه كما دل على ذلك قوله :
(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) أي لا تخبر(12/114)
ج 12 ، ص : 115
إخوتك بما رأيت فى منامك خيفة أن يحسدوك فيحتالوا للإيقاع بك بتدبير يحكّمونه بالتفكير والرؤية.
ثم بين السبب النفسي لهذا الكيد بقوله :
(إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي إن الشيطان عدو لآدم وبنيه ، قد أظهر لهم عداوته فاحذر أن يغرى إخوتك بك بحسدهم لك إن أنت قصصت عليهم رؤياك ، إذ من دأبه أن ينزغ بين الناس حين تعرض لهم داعية من هوى النفس ولا سيما الحسد الغريزي فى فطرة البشر ، وقد أرشد إلى هذا يوسف بقوله « مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي » .
(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي وكما أراك ربك الكواكب والشمس والقمر سجّدا لك ، يجتبيك لنفسه ويصطفيك على آلك وغيرهم بفيض إلهى يكملك به بأنواع من المكرمات بلا سعى منك فتكون من المخلصين من عباده.
(وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي ويعلمك من علمه اللّدنى تأويل الرّؤيا وتعبيرها أي تفسيرها بالعبارة والإخبار بما تئول إليه فى الوجود كما حكى اللّه قول يوسف لأبيه « هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا » .
وتعليم اللّه تعالى يوسف التأويل : إعطاؤه إلهاما وكشفا لما يراد ، أو فراسة خاصة فيها ، أو علما أعم من ذلك كما يدل عليه قوله لصاحبى السجن « لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي » .
(وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) أي ويتم نعمته عليك باجتبائه إياك واصطفائك بالنبوة والرسالة والملك ، وعلى أبيك وإخوتك وذريتهم بإخراجهم من البدو وتبوئهم مقاما كريما فى مصر ثم فى تسلسل النبوة فى أسباطهم حينا من الدهر.
(كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) أي كما أتم النعمة من قبل هذا العهد على جدك وجد أبيك ، وقدم إبراهيم لأنه الأشرف منهما والعرب وغيرها تفعل ذلك وقد كانوا يقولون للنبى صلى اللّه عليه وسلم يا ابن عبد المطلب.(12/115)
ج 12 ، ص : 116
وقد قال يعقوب ذلك لما كان يعلمه من وعد اللّه لإبراهيم باصطفاء آله وجعل النبوة والكتاب فى ذريته ، وما علمه من رؤيا يوسف وأنه الحلقة الأولى فى السلسلة النبوية التي ستكون من بعده من أبنائه.
(إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي إن ربك عليم بمن يصطفيه ومن هو أهل للفضل والنعمة فيسخّر له الأسباب التي تبلغ به الغاية إلى ما يريده له ، حكيم فى تدبيره فيفعل ما يشاء جريا على سنن علمه وحكمته.
وخلاصة ما تقدم - إن يعقوب عليه السلام فهم من هذه الرؤيا فهما جمليّا كل ما بشر به ابنه يوسف الرائي لها ، وأما كيد إخوته له إذا قصها عليهم فقد استنبطه من طبع البشر وعداوة الشيطان له ، ثم قفّى على ذلك ببشارته بما تدل عليه الرؤيا من اجتباء ربه ومن تأويل الأحاديث وهو الذي سيكون وسيلة بينه وبين الناس فى رفعة قدره وعلوّ مقامه وإتمام نعمته عليه بالنبوة والرسالة كما كان ذلك لأبويه من قبله.
[سورة يوسف (12) : الآيات 7 الى 10]
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10)
المعنى الجملي
صدّر سبحانه هذا القصص بمقدمتين : أولاهما فى وصف القرآن وكونه تنزيلا من عند اللّه دالّا على رسالة من أنزل عليه وكون النبي صلى اللّه عليه وسلم كان من قبله(12/116)
ج 12 ، ص : 117
غافلا عما جاء فيه لا يدرى منه شيئا. ثانيتهما رؤيا يوسف وما فهمه منها أبوه فهما جمليّا وبنى عليه تحذيره وإنذاره وما يستهدف له من كيد إخوته ثم تبشيره بحسن العاقبة ، ثم بنى على الأولى قوله بعد تمام القصة « ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ » وبنى على الثانية قوله لأبيه بعد دخولهم عليه وسجودهم له « يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا » .
الإيضاح
(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) أي لقد كان فى قصة يوسف وإخوته لأبيه عبر أيما عبر دالة على قدرة اللّه وعظيم حكمته وتوفيق أقداره ولطفه بمن اصطفى من عباده ، وتربيته لهم ، للسائلين عنها الراغبين فى معرفة الحقائق والاعتبار بها ، فإنهم هم الذين يعقلون الآيات ويستفيدون منها.
تأمل : تر أن إخوة يوسف لو لم يحسدوه لما ألقوه فى غيابة الجب ، ولو لم يلقوه فيها لما وصل إلى عزيز مصر ، ولو لم يعتقد العزيز بصادق فراسته أمانته وصدقه لما أمّنه على بيته ورزقه وأهله ، ولو لم تراوده امرأة العزيز عن نفسه ويستعصم منها لما ظهرت نزاهته ولو لم تفشل فى كيدها وكيد صويحباتها لما ألقى فى السجن ، ولو لم يسجن ما عرفه ساقى ملك مصر وعرف صدقه فى تعبير الرؤيا وإرشاد ملك مصر إليه فآمن به وجعله على خزائن الأرض ، ولو لم يتبوأ هذا المنصب ما أمكنه أن ينقذ أبويه وإخوته وأهله أجمعين من الجوع والمخمصة ويأتى بهم إلى مصر فيشاركوه فيما ناله من عز وبذخ ورخاء عيش ونعيم عظيم ، وما من مبدإ من هذه المبادئ إلا كان ظاهره شرا مستطيرا ، ثم انتهى إلى عاقبة كانت خيرا وفوزا مبينا.
فتلك ضروب من آيات اللّه فى القصة لمن يريد أن يسأل عن أحداثها الحسية الظاهرة وعلومها الباطنة كعلم يعقوب بتأويل رؤيا يوسف وعلمه بكذبهم فى دعوى أكل الذئب له ، ومن شمه لريح يوسف منذ فصلت العير من أرض مصر ذاهبة إلى(12/117)
ج 12 ، ص : 118
أرض كنعان ، ومن رؤية برهان ربه ، ومن كيد اللّه له ليأخذ أخاه بشرع الملك ، ومن علمه بأن إلقاء قميصه على أبيه يعيده بصيرا بعد عمى بقي كثيرا من السنين.
(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي إن فى شأنهم لعبرة حين قالوا : ليوسف وأخوه شقيقه بنيامين أحب إلى أبينا منا فهو يفضّلهما علينا بمزيد محبة على صغرهما وقليل نفعهما ، ونحن رجال أشداء أقوياء نقوم بكل ما يحتاج إليه من أسباب الرزق والكفاية.
(إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إن أبانا لقد أخطأ فى إيثاره يوسف وأخاه من أمه علينا بالمحبة ، وهو قد ضل طريق العدل والمساواة ضلالا بيّنا لا يخفى على أحد ، فكيف يفضّل غلامين ضعيفين لا يقومان له بخدمة نافعة على العصبة أولى القوة والكسب والحماية عن الذمار.
وفى الآية من العبرة وجوب عناية الوالدين بمداراة الأولاد وتربيتهم على المحبة واتقاء وقوع التحاسد والتباغض بينهم واجتناب تفضيل بعضهم على بعض بما يعده المفضول إهانة له ومحاباة لأخيه بالهوى.
(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) أي قال إخوة يوسف بعضهم لبعض : اقتلوا يوسف حتى لا يكون لأبيه أمل فى لقائه ، أو انبذوه فى أرض بعيدة عن العمران بحيث لا يهتدى إلى العودة إلى أبيه إن هو سلم من الهلاك.
(يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) أي يخل لكم وجه أبيكم من شغله بيوسف فيكن كل توجهه إليكم وكل إقباله عليكم ، بعد أن تخلو الديار ممن يشغله عنكم أو يشارككم فى عطفه وحبه وتكونوا من بعد قتله قوما صالحين تائبين إلى اللّه مصلحين لأعمالكم بما يكفّر إثمها مع عدم التصدي لمثلها ، وبذا يرضى عنكم أبوكم ويرضى عنكم ربكم.
(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) الجب : البئر غير المبنية بالحجارة ، وغيابته : ما يغيب عن رؤية البصر(12/118)
ج 12 ، ص : 119
من قعره ، والسيارة جماعة المسافرين الذين يسيرون فى الأرض من مكان إلى آخر للتجارة أو غيرها.
أي قال قائل منهم وهو روبين : لا تقتلوا يوسف وألقوه فى قعر البئر حيث يغيب خبره فيلتقطه بعض المسافرين ويأخذوه إلى حيث ساروا فى الأقطار البعيدة ، وبذا يتم لكم ما تريدون ، وهو إبعاده عن أبيه إن كنتم فاعلين ما هو المقصد لكم بالذات ، إذ لا شك أن قتله لا يعنيكم لذاته ، فعلام تسخطون خالقكم باقتراف جريمة القتل والغرض يتم بدونها وجاء فى سفر التكوين من التوراة أن روبين مكربهم إذ كان يريد إخراجه من الجب وإرجاعه إلى أبيه فإنهم وضعوه فى بئر لا ماء فيها ، فمرت بها سيارة من تجار العرب مسافرة إلى مصر ، فاقترح عليهم يهوذا إخراجه وبيعه لهم ، إذ لا فائدة لهم من قتله وهو من لحمهم ودمهم ففعلوا.
[سورة يوسف (12) : الآيات 11 الى 14]
قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14)
تفسير المفردات
الناصح : المشفق المحب للخير ، والرّتع : الاتساع فى الملاذ ، والمراد باللعب لعب المسابقة والانتضال بالسهام ونحوهما مما يتدرّب به لمقاتلة الأعداء وتعليم فنون الحرب ، والحزن : ألم النفس من فقد محبوب أو وقوع مكروه ، والخوف : ألم النفس من توقع مكروه قبل وقوعه ، والعصبة : الجماعة التي تعصب بها الأمور ، وتكفى بآرائها الخطوب وخاسرون : ضعفاء عاجزون. أو هالكون لاغناء عندهم ولا نفع.(12/119)
ج 12 ، ص : 120
المعنى الجملي
هذا بيان جىء به لبيان ما كادوا به أباهم بعد أن ائتمروا بيوسف ليرسله معهم ، وفيه إيماء إلى أنه كان يخافهم عليه ، ولو لا ذلك ما قال لهم تلك المقالة التي أظهروا فيها أنهم فى غاية المحبة والشفقة له.
الإيضاح
(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) أي قالوا له : لم تخافنا عليه ونحن نحبه ونريد الخير به ونخلص النصح له ؟ وكانوا قد شعروا منه بهذا بعد ما كان من رؤيا يوسف ، وربما علموا بهذا منه.
(أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أي أرسله معنا غداة غد حين نخرج كعادتنا إلى المرعى فى الصحراء يشاركنا فى الرياضة والأنس والسرور وأكل الفواكه والبقول وغيرهما مما يطيب ، وقد كان أكثر لعب أهل البادية السباق والصراع والرمي بالعصى والسهام إن وجدت ، وإنا لحافظوه من كل أذى يصيبه.
(قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) أي قال مجيبا لهم : إنى ليحزننى ويقض على مضجعى أن تذهبوا به معكم إلى الصحراء خيفة أن يأكله الذئب وأنتم لا تشعرون به ، لاشتغالكم عن مراقبته وحفظه بلعبكم ، ولعله لو لم يذكر هذا لهم لما خطر ببالهم أن يقع ، ولكن شدة الحذر والاحتياط هو الذي جعله يقول ذلك.
(قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) أي قالوا له واللّه لئن اختطفه منا الذئب فى الصحراء ونحن جماعة شديدة البأس تكفى بنا الخطوب وتدفع مهمات الأمور - إنا إذا لهالكون ولا غناء عندنا ولا نفع ولا ينبغى أن يعتدّ بنا ويركن إلينا.(12/120)
ج 12 ، ص : 121
[سورة يوسف (12) : الآيات 15 الى 18]
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18)
تفسير المفردات
أجمعوا : أي عزموا عزما لا تردد فيه ، وأوحينا إليه : أي ألهمناه كما فى قوله :
« وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى » والعشاء : من الغروب إلى العتمة : أي حين يخالط سواد الليل بقية بياض النهار ، والاستباق : تكلف السبق فى العدو أو فى الرمي ، والمتاع :
فضل الثياب وماعون الطعام والشراب ، ومؤمن : أي مصدق ، وسولت : زينت وسهّلت ، والصبر الجميل : ما لا شكوى فيه إلى الخلق ، على ما تصفون : أي من هذه المصيبة وعظيم الرزء.
المعنى الجملي
جاءت هذه الآيات الأربع لبيان ما اعتزموا عليه ونفذوه بالفعل وما اعتذروا به لأبيهم من كذب ، وما قابلهم به من تكذيب وصبر واستعانة باللّه عز وجل.
الإيضاح
(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي فلما ذهب به إخوته من عند أبيه بعد مراجعتهم له وقد عزموا عزما(12/121)
ج 12 ، ص : 122
إجماعيا لا تردد فيه على إلقائه فى غيابة الجب ، نفذوا ذلك وحينئذ أوحينا إليه وحيا إلهاميا تطييبا لقلبه وتثبيتا لنفسه : لا تحزن مما أنت فيه ، فإن لك من ذلك فرجا ، ومخرجا حسنا ، وسينصرك اللّه عليهم ، ويرفع درجتك ، وستخبرهم بما صنعوا وهم لا يشعرون بأنك يوسف.
وفى هذا إيماء إلى أنه سيخلص من هذه المحنة ويصيرون تحت سلطانه وقهره.
(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ. قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) أي جاءوه وقت العشاء حين خالط سواد الليل بياض النهار - حال كونهم يبكون ليقنعوه بما يريدون قائلين له : إنا ذهبنا من موضع اجتماعنا نتسابق ونترامى بالنبال ، وتركنا يوسف عند ثيابنا وأزوادنا ليحفظها ، إذ لا يستطيع مجاراتنا فى استباقنا الذي يرهق القوى فأكله الذئب ، إذ بعدنا عنه ولم نسمع استغاثته ولا صراخه ، ونحن نعلم أنك لا تصدقنا ولو كنا عندك صادقين ، فكيف وأنت تتهمنا فى ذلك ؟ ولك العذر فى هذا لغرابة ما وقع ، وعجيب ما اتفق لنا فى ذلك الأمر.
(وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي إنهم جاءوا بقميصه ملطّخا ظاهره بدم غير دم يوسف ، وهم يدّعون أنه دمه ، ليشهد بصدقهم ، فكان دليلا على كذبهم ، ومن ثم قال : (عَلى قَمِيصِهِ) ليستبين للقارىء والسامع أنه موضوع وضعا متكلّفا ، إذ لو كان من افتراس الذئب لتمزّق القميص ، وتغلغل الدم فى كل قطعة منه ، ومن أجل هذا كله لم يصدقهم وقال : هيهات ، ليس الأمر كما تدعون ، بل سهلت لكم أنفسكم الأمّارة بالسوء أمرا نكرا وزيّنته فى قلوبكم فطوعته لكم حتى اقترفتموه ، وسأصبر صبرا جميلا على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه حتى يفرّجه اللّه بعونه ولطفه ، وإنى أستعين به على أن يكفينى شر ما تصفون من الكذب.(12/122)
ج 12 ، ص : 123
[سورة يوسف (12) : الآيات 19 الى 20]
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
تفسير المفردات
السيارة : الرفقة تسير معا ، والوارد : الذي يرد الماء ليستقى للقوم ، وأسروه : أي أخفوه من الناس ، والبضاعة : القطعة من المال يفرز للاتجار به ، وشرى الشيء : باعه واشتراه : ابتاعه ، والبخس : الناقص والمعيب كما قال « وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ » والمراد هنا الحرام أو الظلم لأنه بيع حر.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن إخوة يوسف أجمعوا أمرهم على إلقائه فى غيابة الجب ونفّذوا ذلك ، ذكر هنا طريق خلاصه من تلك المحنة بمجىء قافلة من التجار ذاهبة إلى مصر ، فأخرجوه من البئر وباعوه فى مصر بثمن بخس
الإيضاح
(وَ جاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي وجاءت ذلك المكان قافلة تسير من مدين إلى مصر فأرسلوا واردهم الذي يجلب لهم الماء للاستسقاء فأرسل دلوه ودلّاه فى ذلك الجب فتعلق به يوسف ، ولما خرج ورآه قال مبشّرا جماعته السيارة : يا بشرى هذا غلام أي آن وقت البشرى فاحضرى ، كما يقال يا أسفا ويا حسرتا إذا وقع ما هو سبب لذلك فاستبشرت به السيارة وأخفوه من الناس ، لئلا يدّعيه أحد من أهل ذلك المكان لأجل أن يكون يضاعة لهم من جملة تجارتهم ، واللّه عليم بما يعمله هؤلاء السيارة وما يعمله إخوة يوسف ،(12/123)
ج 12 ، ص : 124
فلكل منهم مقصد خاص فى يوسف ، فالسيارة يدّعون بالباطل أنه عبد لهم فيتجرون به ، وإخوة يوسف يريدون إخفاءه عن أبيه ويدّعون أن الذئب قد أكله ، وذلك كيد بالباطل ، ليمضى فيه وفيهم حكمه السابق فى علمه ، وليرى إخوة يوسف ويوسف وأبوه قدرته تعالى على تنفيذ ما أراد.
وفى هذا تذكير من اللّه لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم وتسلية له على كان يلقى من أقربائه وأنسبائه المشركين من الأذى فكأنه يقول له : اصبر على ما نالك فى اللّه ، فإنى قادر على تغيير ذلك ، كما قدرت على تغيير ما لقى يوسف من إخوته ، وسيصير أمرك إلى العلوّ عليهم كما صار أمر يوسف مع إخوته إذ صار سيدهم.
(وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) أي وباعه السيارة فى مصر بثمن قليل ناقص عن ثمن مثله من الدراهم القليلة التي تعد عدّا ولا توزن وزنا ، وكانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية (أربعين درهما) فما فوقها ويعدون ما دونها ، ومن ثم يعبرون عن القليل بالمعدود ، وفى سفر التكوين من التوراة أن إخوته قرروا بيعه للاسماعيلين أي للعرب ، وقد أخرجه من الجب جماعة من أهل مدين وباعوه لهم ، وكان الذين باعوه من الراغبين عنه الذين يبغون الخلاص منه ، لئلا يظهر من يطالبهم به لأنه حر ، والثمن لم يكن مقصودا لهم حين بيعه ومن ثم قنعوا بالبخس منه.
[سورة يوسف (12) : الآيات 21 الى 22]
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)(12/124)
ج 12 ، ص : 125
تفسير المفردات
المثوى : مكان الثواء والإقامة ، مكنا ليوسف : أي جعلنا له مكانة رفيعة فى أرض مصر ، من تأويل الأحاديث : أي بعض تعبير الرؤيا التي عمدتها رؤيا الملك وصاحبى السجن ، وغالب على أمره. أي لا يمنع عما يشاء ولا ينازع فيما يريد ، وأشده : هو رشده وكمال قوته باستكمال نموه الجسماني والعقلي حكما أي حكما صحيحا يزن به الأمور بميزان صادق ، وعلما بحقائق الأشياء.
المعنى الجملي
هاتان الآيتان مبدأ قصص يوسف فى بيت العزيز الذي اشتراه ، وفيهما بيان تمكين اللّه له وتعليمه تأويل الأحاديث وإيتائه حكما وعلما وشهادة من اللّه له بأنه من زمرة المحسنين.
الإيضاح
(وَ قالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ) لم يبين الكتاب الكريم اسم الذي اشتراه فى مصر ولا منصبه ولا اسم امرأته ، لأن ذلك لا يهم فى العبرة من القصة ولا يزيد فى العظة ، ولكن لقبه النسوة فيما يأتى (بالعزيز) وهو اللقب الذي لقب به يوسف بعد أن تولى إدارة الملك فى مصر ، والظاهر أنه لقب أكبر وزراء الملك ، وفى سفر التكوين أنه كان رئيس الشرط وحامية الملك ، وناظر السجون ، وأن اسمه فوطيفار وقد تفرس هذا الوزير فيه أصدق الفراسة ، إذ وصّى امرأته بإكرام مثواه أي بحسن معاملته فى كل شئونه حتى يكون كواحد منهم ولا يكون كالعبيد والخدم.
وخلاصة ما قال - أحسنى تعهده ، وانظري فيما يقتضيه إكرام الضيف على أبلغ وجه وأتمه.(12/125)
ج 12 ، ص : 126
وروى عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال : أفرس الناس ثلاثة : عزيز مصر حين قال لامرأته (أَكْرِمِي مَثْواهُ) والمرأة التي قالت لأبيها (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) الآية وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب رضى اللّه عنهما.
ثم بين علة إكرامه برجائه فيه وعظيم أمله فى جليل مساعدته فقال :
(عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي علّه أن ينفعنا فى أمورنا الخاصة إذا تدرّب فيها وعرف مواردها ومصادرها أو شئون الدولة العامة لما يلوح عليه من مخايل الذكاء والنجابة ، أو نتبناه ونقيمه مقام الولد فيكون قرة عين لنا ووارثا لما لنا ومجدنا ، إذا تم رشده ونضج عقله. وفى الآية إيماء إلى شيئين.
(1) إن العزيز كان عقيما.
(2) إنه كان صادق الفراسة ثاقب الفكر ، فقد استدل من كمال خلقه وخلقه على أن حسن عشرته وكرم وفادته وشرف تربيته مما يكمل استعداده الفطري ، فالتجارب دلت على أنه لا يفسد الأخلاق شىء أكثر مما تفسدها البيئة الفاسدة وسوء القدوة (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي وعلى ذلك النحو من التدبير جعلنا ليوسف مكانة عالية فى أرض مصر كان مبدؤها عطف العزيز عليه ورجاءه فيه ، فوقع له فى بيته ثم فى السجن من الأحداث ما كان سببا فى اتصاله بساقى الملك ثم بالملك نفسه.
(وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي ولنعلمه بعض تعبير الرؤيا ، ومعرفة حقائق الأمور ، مما ينتهى إلى غاية التمكين لدى الملك ، حتى ليقول له : « اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ » ويقول له الملك « إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ » (وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي واللّه غالب على كل أمر يريده ، فلا يغلب على شىء منه ، بل يقع كما أراد « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ »
فما حدث من إخوة يوسف له وما فعله مسترقّوه وبائعوه وما وصّى به الذي اشتراه امرأته من إكرام مثواه ، وما وقع له مع هذه المرأة من الأحداث ومن دخوله السجن - قد كان من الأسباب التي أراد اللّه تعالى له بها التمكين(12/126)
ج 12 ، ص : 127
فى الأرض ، ولكن أكثر الناس يأخذون الأمور بظواهرها كما زعم إخوة يوسف أنه لو أبعد يوسف عنهم خلالهم وجه أبيهم وكانوا من بعده قوما صالحين ، وقوله : أكثر الناس ، إيماء إلى أن الأقل يعلمون ذلك كيعقوب عليه السلام ، فإنه يعلم أن اللّه غالب على أمره ، فهاهى ذى أقواله السابقة واللاحقة صريحة فى ذلك ، ولكن علمه إجمالي لا تفصيلى ، إذ لا يحيط بما تخبئه الأقدار.
وبعد أن بيّن سبحانه أن إخوة يوسف أساءوا إليه وصبر على تلك الشدائد حتى مكن اللّه له فى أرض مصر ، بين هنا أنه آتاه الحكم والعلم حين استكمال سن الشباب وبلوغ الأشد ، وأن ذلك جزاء منه سبحانه على إحسانه فى سيرته فقال عز اسمه :
(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) أي ولما بلغ سن رشده وكمال قوته باستكمال نموه البدني والعقلي ، وهبناه حكما صحيحا فيما يعرض له من مهامّ الأمور ، ومشكلات الحوادث ، مقرونا بالحق والصواب ، وعلما لدنيا وفكر يا بما ينبغى أن تسير عليه الأمور.
وقدر الأطباء هذه السن بخمس وعشرين سنة ، وقد أثبت علماء الاجتماع أن الاستعداد الإنسانى يظهر رويدا رويدا حتى إذا ما بلغ المرء خمسا وثلاثين سنة وقف عند هذا الحد ولم يظهر فيه شىء جديد غير ما ظهر من بدء سن التمييز إلى هذه السن ولهذا قال ابن عباس إنها ثلاث وثلاثون سنة.
(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي ومثل ذلك الجزاء العظيم نجازى به المتحلين بصفة الإحسان الذين لم يدنسوا أنفسهم بسيئات الأعمال ، فنؤتيهم نصيبا من الحكم بالحق والعدل ، وعاما يظهره القول الفصل ، إذ يكون لذلك الإحسان تأثير فى صفاء عقولهم ، وجودة أفهامهم ، وفقههم لحقائق الأشياء غيرما يستفيدون بالكسب من غيرهم ، ولا يتهيأ مثل ذلك للمسيئين فى أعمالهم المتبعين لأهوائهم وطاعة شهواتهم.(12/127)
ج 12 ، ص : 128
[سورة يوسف (12) : الآيات 23 الى 25]
{ وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) }
تفسير المفردات
راودته على الأمر مراودة : طلبت منه فعله مع المخادعة ، فالمراود يتلطف فى طلبه تلطف المخادع ويحرص عليه ، وقال الراغب : المراودة أن تنازع غيرك فى الإرادة فتريد منه غير ما يريد كما قال إخوة يوسف (سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي نحتال عليه ونخدعه عن إرادته ليرسل بنيامين معنا ، وهيت لك بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء وضمها أي أي هلم أقبل وبادر ، وقد روى أنها لغة عرب حوران ، واختيرت لأنها أخص ما يؤدى المراد مع النزاهة الكاملة ، ومعاذ اللّه : أي أعوذ وأتحصن باللّه من أن أكون من الجاهلين الفاسقين ، وهمت به : أي همت لتبطش به لعصيانه أمرها ، وهمّ بها ليقهرها فى الدفع عما أرادته ويرد عنفها بمثله ، وبرهان ربه : إما النبوة التي تلى الحكم والعلم اللذين آتاه اللّه إياهما بعد بلوغ الأشد ، وإما مراقبة اللّه تعالى ورؤية ربه متجليا له ناظرا إليه كما
جاء فى الحديث فى تفسير الإحسان « أن تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك »
والمخلصون : هم الذين اجتباهم اللّه واختارهم لطاعته ، واستبقا الباب :
اى تسابقا إلى الباب وقصد كل منهما سبق الآخر إليه ، فهو ليخرج وهى لتمنعه من الخروج ، وقدّت قميصه من دبر : أي قطعته طولا من خلف ، وألفيا : أي وجدا.(12/128)
ج 12 ، ص : 129
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه وصية العزيز لامرأته بإكرام مثواه ، وعلل ذلك بحسن الرجاء فيه ثم بين عنايته سبحانه به وتمهيد سبل كماله بتمكينه فى الأرض - ذكر هنا مراودة امرأته له ونظرها إليه بغير العين التي نظر بها زوجها إليه وأرادت منه غير ما أراده هو وما أراد اللّه من فوقهما وأعدت العدة لذلك فغلقت الأبواب فهرب منها إلى باب المخدع فقدّت قميصه من خلف ووجدا زوجها بالباب الخارجي فبادرت إلى اتهامه بالسوء إلى أن استبانت براءته.
الإيضاح
(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) أي وخادعت امرأة العزيز يوسف عن نفسه ورواغته ، ليريد منها ما تريد هى منه مخالفا لإرادته وإرادة ربه ، واللّه غالب على أمره ، قال فى الكشاف : كأن المعنى خادعته عن نفسه ، أي فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن شىء لا يريد إخراجه من يده وهو يحتال أن يأخذه منه ، وهى عبارة عن التمحل فى مواقعته إياها اه.
(وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) أي وأحكمت إغلاق باب المخدع الذي كانا فيه وباب البهو الذي يكون أمام الغرف فى بيوت العظماء وباب الدار الخارجي وربما كان هناك غيرها.
(وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) أي وقالت هلمّ أقبل ، وزيدت كلمة (لَكَ) لبيان المخاطب كما يقولون : سقيا لك ورعيا لك ، وهذا الأسلوب هو الغاية فى الاحتشام فى التعبير ، وقد يكون هناك ما زادته من إغراء وتهييج مما تقتضيه الحال. وما نقل من الإسرائيليات عنها وعنه من الوقاحة فكذب ، فمثل هذا لا يعلم إلا من اللّه أو من الرواية الصحيحة عنها أو عنه ، ولا يستطيع أحد أن يدّعى ذلك.
(قالَ مَعاذَ اللَّهِ)
أي أعوذ باللّه عز وجل وألتجئ إليه مما تريدين منى فهو يعيذنى أن أكون من الجاهلين كما سيأتى من قوله « وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ » .(12/129)
ج 12 ، ص : 130
(إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) أي إنه سيدى المالك لرقبتى ، قد أحسن معاملتى فى إقامتى عندك وأوصاك بإكرام مثواى ، فلا أجزيه بالإحسان إساءة وأخونه فى أهله ، ثم علل ما صنع بقوله :
(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي إنه تعالى لا يفلح الظالمين لأنفسهم والظالمين للناس بخيانة وتعدّ على الأعراض لا فى الدنيا ببلوغ الإمامة والرياسة ولا فى الآخرة بالوصول إلى رضوان اللّه تعالى ودخول جنات النعيم.
وفى هذا إيماء إلى الاعتزاز به ، والأمانة لسيده ، والتعريض بخيانة امرأته ، واحتقارها بما أضرم نار الغيظ فى صدرها.
(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) أي ولقد همت بأن تبطش به ، إذ عصى أمرها وخالف مرادها وهى سيدته وهو عبدها ، وقد استذلت له بدعوته إلى نفسها بعد أن احتالت عليه بمراودته عن نفسه ، وكلما ألحّت عليه ازداد عتوّا واستكبارا ، معتزا عليها بالديانة والأمانة ، والترفع عن الخيانة ، وحفظ شرف سيده وهو سيدها ، ولا علاج لهذا إلا تذليله بالانتقام ، وهذا ما شرعت فى تنفيذه أو كادت بأن همت بالتنكيل به.
(وَهَمَّ بِها) لدفع صيالها عنه وقهرها بالبعد عما أرادته.
(لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أي ولكنه رأى من ربه فى سريرة نفسه ما جعله يمتنع من مصاولتها واللجوء إلى الفرار منها.
والخلاصة - إن الفارق بين همها وهمه ، أنها أرادت الانتقام منه شفاء لغيظها إذ فشلت فيما تريد ، وأهينت بعتوه واستكباره وإبائه لما أرادت ، وأراد هو الاستعداد الدفاع عن نفسه ، وهمّ بها حين رأى أمارة وثوبها عليه ، فكان موقفهما موقف المواثبة والاستعداد للمضاربة ، ولكنه رأى من برهان ربه وعصمته ما لم تر مثله إذ ألهمه أن الفرار من هذا الموقف هو الخير الذي به تتم حكمته فيما أعده له ، فاستبقا باب الدار وكان من أمرهما ما يأتى بيانه فيما بعد ، هذا خلاصة رأى نقله ابن جرير وأيده الفخر الرازي وأبو بكر الباقلاني.(12/130)
ج 12 ، ص : 131
ويرى غيرهم من المفسرين أن المعنى أنها همت بفعل الفاحشة ولم يكن لها معارض ولا ممانع ، وهمّ هو بمثل ذلك ، ولو لا أن رأى برهان ربه لاقترفها.
وقد فنّده بعض العلماء لوجوه :
(1) إن الهم لا يكون الا بفعل للهامّ ، والوقاع ليس من أفعال المرأة حتى تنهم به ، وإنما نصيبها منه قبوله ممن يطلبه منها بتمكينه منه.
(2) إن يوسف لم يطلب منها هذا الفعل حتى يسمى قبولها لطلبه ورضاها بتمكينه همّا لها ، فالآيات قبل هذه وبعدها تبرئه من ذلك بل من وسائله ومقدماته.
(3) إنه لو وقع ذلك لوجب أن يقال (ولقد هم بها وهمت به) لأن الهم الأول هو المقدم بالطبع وهو الهم الحقيقي والهم الثاني متوقف عليه.
(4) إنه قد علم من هذه القصة أن هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلبا جازما ومصرّة عليه ، فلا يصح أن يقال إنها همت به ، إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه ، بل الأنسب فى معنى الهمّ هو ما فسرناه به أوّلا ، وذلك لإرادة تأديبه بالضرب.
وقد روواهنا أخبارا من الإسرائيليات عن تهتك المرأة وتبذلها مما لا يقع مثله من أوقح الفساق الذين تجردوا من جلابيب الحياء فضلا عمن ابتلى بالمعصية أول مرة من سليمى الفطرة الذين لم تغلبهم ثورة الشهوة الجامحة على حيائهم الفطري وحيائهم من نظر ربهم إليهم (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) أي جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك لنصرف عنه دواعى ما أرادت به من السوء وما راودته عليه قبله من الفحشاء - بعصمة منا تحول دون تأثير دواعيهما الطبيعية فى نفسه ، حتى لا يخرج من جماعة المحسنين إلى جماعة الظالمين الذين ذمهم وشهد هو فى رده عليها بأنهم لا يفلحون ، وقال : لنصرف عنه السوء والفحشاء ، ولم يقل لنصرفه عن السوء والفحشاء ، لأنه لم يعزم عليهما بل لم يتوجه إليهما فيصرف عنهما.
(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) أي إنه من جماعة المخلصين وهم آباؤه الذين أخلصهم بهم وصفّاهم من الشوائب وقال فيهم « وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ(12/131)
ج 12 ، ص : 132
أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ. إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ ».
(وَاسْتَبَقَا الْبابَ) أي تسابقا إلى الباب ففر يوسف من أمامها هاربا إليه طالبا النجاة منها مرجحا الفرار على الدفاع الذي لا تعرف عاقبته ، وتبعته هى تبغى إرجاعه حتى لا يفلت من يدها ، وهى لا تدرى إذا هو خرج إلى أين يذهب ، ولا ماذا يقول ولا ما يفعل ؟ لكنها أدركته.
(وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) أي جذبته من ردائه وشدت قميصه فانقدّ.
(وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) أي وجدا زوجها عند الباب ، وقد كان النساء فى مصر يلقبن الزوج بالسيد ، ولم يقل سيدهما لأن استرقاق يوسف غير شرعى ، وهذا كلام ربه العليم بأمره ، لا كلام من استرقّه.
(قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ)
أي وحينئذ خرجت مما هى فيه بمكرها وكيدها ، وقالت لزوجها متنصلة من جرمها وقاذفة يوسف :
ما جزاء من أراد بأهلك شيئا يسوءك صغيرا كان أو كبيرا إلا سجن يعاقب به ، أو عذاب مؤلم موجع يؤد به ويلزمه الطاعة.
قال الرازي : وفى هذا القول ضروب من الحيل.
(1) إيهام زوجها أن يوسف قد اعتدى عليها بما يسوءها ويسوءه.
(2) إنها لم تصرح بجرمه حتى لا يشتد غضبه ويقسو فى عقابه. كأن يبيعه أو يقصيه عن الدار ، وذلك غير ما تريد.
(3) إنها هددت يوسف وأنذرته بما يعلم منه أن أمره بيدها ليخضع لها ويطيعها.
(4) إنها قالت. إلا أن يسجن والمراد منه أن يسجن يوما أو أقل على سبيل التخويف فحسب ، أما الحبس الدائم فكان يقال فيه : (يجب أن يجعل من المسجونين) ألا ترى أن فرعون حين هدد موسى قال (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ).(12/132)
ج 12 ، ص : 133
وجملة القول فى هذا - أن يوسف عليه السلام كان قوى الإرادة لا يمكّن غيره أن يحتال عليه ويصرفه عن رأيه ويجعله خاضعا له ، ومن ثم لم تستطع امرأة العزيز أن تحوّل إرادته إلى ما تريد بمراودتها ، ولا عجب فى ذلك فهو فى وراثته الفطرية والمكتسبة ومقام النبوة عن آبائه الأكرمين ، وما اختصه به ربه من تربيته والعناية به وما شهد له به من العرفان والإحسان والاصطفاء ، وما صرف عنه من دواعى السوء والفحشاء - فى مكان مكين وحرز حصين من أن تتطلع نفسه إلى اجتراح السيئات ، وارتكاب المنكرات ، فكل ما صوّروه به من الصور البشعة الدالة على الميل إلى الفجور إنما هو من فعل زنادقة اليهود ، ليلبسوا على المسلمين دينهم ، ويشوّهوا به تفسير كلام ربهم ولا يغّرّنك إسناد تلك الروايات إلى بعض الصحابة والتابعين فهى موضوعة عليهم ، ولا ينبغى أن يعتدّ بها ، لأن نصوص الدين تنبذها ، إلى أنه من علم الغيب فى قصة لم يعلم اللّه رسوله غير ما قصه عليه فى هذه السورة ، وكفى بهذا دلالة على وضعها.
تحقيق زوجها وحكم قريبها وظهور براءة يوسف
[سورة يوسف (12) : الآيات 26 الى 29]
قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فى الآيات السابقة مخادعتها ليوسف عن نفسه وتغليقها الأبواب وهربه منها إلى الباب وجذبها لقميصه ورؤية سيدها لذلك الحادث واتهامها ليوسف(12/133)
ج 12 ، ص : 134
بإرادة السوء منها - ذكر هنا تبرئة يوسف لنفسه وحكم قريبها فى القضية بعد بعد بحث وتشاور بين زوجها وأهلها ، ثم علم الزوج ببراءة يوسف وثبوت خطيئتها.
الإيضاح
(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) أي هى طلبتنى فامتنعت وفررت كما ترى ، وقد قال هذه المقالة وهتك سترها خوفا على النفس والعرض ، ولا شك أن هذه حال تحتاج إلى بحث وتشاور وأخذ وردّ لم يبينه لنا الكتاب الكريم وإن كان لا بد أن يحصل حتما كما هو مقتضى العادة والعقل ، لأن المقصد من القصة بيان نزاهة يوسف وفضائله لتكون عبرة لغيره.
وكانت الأمارات دالة على صدق يوسف لوجوه :
(1) إن يوسف كان مولى لها ، وفى مجرى العادة أن المولى لا يجرؤ أن يتسلط على سيدته ويتشدد إلى مثل هذا.
(2) إنهم رأوا يوسف يعدو عدوا شديدا ليخرج ، ومن يطلب امرأة لا يخرج على هذا النحو.
(3) إنهم رأوا الزينة قد بدت على وجه المرأة ، ولم يكن لها من أثر على وجه يوسف.
(4) إنهم لم يشاهدوا من أخلاق يوسف فى تلك الحقبة الطويلة ما يؤيد مثل هذه التهمة أو يقوى الظن عليه بأنه هو الطالب لا الهارب.
وقد أظهر اللّه لبراءته ما يقوّى تلك الدلائل الكثيرة التي تظاهرت على أن بدء الفتنة كانت منها لامنه وأنها هى المذنبة لا هو وذلك ما أشار إليه بقوله :
(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي وحكم ابن عمّ لها مستدلا بما ذكر ، وكان عاقلا حصيف الرأى فقال : قد سمعنا جلبة وضوضاء ورأينا(12/134)
ج 12 ، ص : 135
شق القميص إلا أنا لا ندرى أيّكما كان قدام صاحبه ، فإن كان شق القميص من قدام فصدقت فى دعواها أنه أراد بها سوءا ، إذ الذي يقبله العقل أنه لما وثب عليها أخذت بتلابيبه فجاذبها فانقدّ قميصه وهما يتنازعان ويتصارعان ، وهو من الكاذبين فى دعواه أنها راودته فامتنع وفرّ هاربا فتبعته وجذبته تريد إرجاعه ، وإن كان قميصه قدّ من الخلف فكذبت فى دعواها أنه هجم عليها يريد ضربها ، وهو من الصادقين فى قوله :
أنه فرّ هاربا منها.
روى أن هذا الشاهد كان صبيا فى المهد وأيدوه بما نقل عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال « تكلم أربعة وهم صغار : ابن ما شطة فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم »
وما
روى عن أبى هريرة قال « عيسى بن مريم وصاحب يوسف وصاحب جريج تكلموا فى المهد »
وهذا موقوف لا يصلح الاحتجاج به ، والأول قد ضعفه رجال الحديث ، إلا أنه لو نطق الطفل بهذا لكان قوله كافيا فى تفنيد زعمها دون حاجة إلى الاستدلال بتمزيق القميص ، لأنه من الدلائل الظنية ، وكلامه فى المهد من الدلائل اليقينية ، وأيضا لو كان كذلك لما كان هناك داع إلى قوله :
من أهلها الذي ينفى التحامل عليها ويمنع إرادة الضربها ، وأيضا فإن لفظ (الشاهد) لا يقع عرفا إلا على من تقدمت معرفته لما يشهد وإحاطته به.
(فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) أي فلما نظر إلى القميص ورأى الشق من الخلف أيقن بصدق قوله واعتقد كذبها ، وقال إن هذا محاولة للتنصل من جرمها باتهامها له بضروب الكيد المعروفة عن النساء ، فهو سنة عامة فيهن ، فهن يجتهدن فى التبري من خطاياهن ما وجدن إلى ذلك سبيلا ، وكيد النساء عظيم لا قبل للرجال به ، ولا يفطنون لحيلهن حتى يدفعوها قدر المستطاع ، ولا شك أن هذه شهادة من قريب لها لا يتهم بالتحامل عليها ولا بظلمها وتجريحها برميها بما هى منه براء.
(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) أي يا يوسف(12/135)
ج 12 ، ص : 136
أعرض عن ذكر هذا الكيد الذي حصل ولا تتحدث به ، كى لا ينتشر أمره بين الناس ولا تخف من تهديدها وكيدها لك ، وأنت أيتها المرأة توبى إلى ربك ، واستغفري لذنبك ، إنك كنت من زمرة المجرمين الذين يتعمدون ارتكاب الخطايا ويجترحون السيئات وهم مصرّون عليها.
حديث النسوة فى المدينة ومكر امرأة العزيز بهن
[سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 35]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
تفسير المفردات
فتاها : عبدها ورقيقها ، والشغاف : الغلاف المحيط بالقلب ويقال شغفت فلانا إذا أصبت شغاف قلبه ، كما يقال : كبدته إذا أصبت كبده ، والضلال : الحيدة عن طريق(12/136)
ج 12 ، ص : 137
الرشد وسنن العقل ، بمكرهن : أي بقولهن ، وسمى ذلك مكرا لأنهن كن يردن إغضابها كى تعرض عليهن يوسف لتبدى عذرها فيفزن بمشاهدته ، وأعتدت : أعدّت وهيأت ، والمتكأ : ما يجلس عليه من كراسى وأرائك ، وأكبرنه : أعظمنه ودهشن من جماله الرائع ، وقطّعن أيديهن : أي جرحنها ، حاش للّه أي تنزيها للّه أن يكون هذا المخلوق العجيب من جنس البشر ، واستعصم : استمسك بعروة عصمته التي ورثها عمن نشئوا عليها ، الصاغرين : أي الأذلة المقهورين ، وأصب إليهن : أمل إلى موافقتهن على أهوائهن ، والجاهلين : أي السفهاء الذين يرتكبون القبائح ، فاستجاب له : أي أجاب دعاءه ، وبدا : ظهر ، والآيات هى الشواهد الدالة على براءته عليه السلام ، والحين :
وقت من الزمن غير محدود.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه تحقيق زوجها فى الحادث وحكم أحد أقاربها بما رأى ، وقد استبان منه براءة يوسف ، ذكرهنا أن الأمر قد استفاض فى بيوت نساء الوزراء والكبراء فأحببن أن يمكرن بها ، لتريهن هذا الشاب الذي فتنها جماله ، وأذلها عفافه وكماله ، حتى راودته عن نفسه وهو فتاها ، ودعته إلى نفسها فردها وأباها خشية للّه وحفظا لأمانة السيد المحسن إليه أن يخونه فى أعز شىء لديه - عله بعد هذا يصبو إليهن ويجذبه جمالهن ويكون له فيهن رأى غير ما رآه فيها ، فإنه قد ألف جمالها قبل أن يبلغ الأشد ، وكان ينظر إليها نظر العبد إلى سيدته ، أو الولد إلى والدته.
الإيضاح
(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) لم يشر الكتاب الكريم إلى عددهن ولا إلى صفاتهن ، لأن العبرة ليست فى حاجة إلى ذلك ، والذي يقتضيه العرف ومجرى العادة أنه عمل(12/137)
ج 12 ، ص : 138
جماعة قليلة من بيوتات كبار الدولة يعهد منهن فى العرف أن يأتمرون ويتفقن على الاشتراك فى مثل هذا المكر ، إذ نساء البيوت الدنيا أو الوسطى لا تتجه أنظارهن إلى الإنكار على امرأة العزيز كبير وزراء الدولة ، ولا إلى مشاركتها فى سلب عشيقها ولا إلى التمتع بجماله الساحر ، وحادث مثل هذا جدير بأن ينتقل من بيت إلى بيت بوساطة الخدم ، ويكون الشغل الشاغل للنساء فى مجالسهن الخاصة وسمرهن فى البيوت ، وخلاصته :
(امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) وهذا كلام يقال للإنكار والتعجب من حصوله لوجوه عدة :
(1) إنها امرأة العزيز الأكبر فى الدولة ، ولها المنزلة السامية بين نساء العظماء.
(2) إن الذي تراوده عن نفسه هو فتاها ورقيقها.
(3) إنها قد بلغ بها الأمر أن جادت بعفتها فكانت هى المراودة والطالبة لا المراودة المطلوبة.
(4) إنها وقد شاع ذكرها فى المدينة لم ينثن عزمها عما تريد ، بل لا تزال مجدّة فى نيل مرغوبها ، والحصول على مطلوبها ، كما يفيد ذلك قولهن (تُراوِدُ) وهو فعل يدل على الاستمرار فى الطلب.
ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم :
(قَدْ شَغَفَها حُبًّا) أي قد شق حبّه شغاف قلبها أي غلافه المحيط به وغاص فى سويدائه ، فملك عليها أمرها ، فلا تبالي بما يكون من عاقبة تهتكها ، ولا بما يصير إليه حالها.
ثم زادوا ذلك تأكيدا بقولهم :
(إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إنا لنعلم أنها غائصة فى مهاوى الضلالة البينة البعيدة عن طريق الهدى والرشاد ، ولم يكن قولهن هذا إنكارا للمنكر ، ولا كرها للرذيلة ، ولا نصرا للفضيلة ، بل قلنه مكرا وحيلة ، ليصل الحديث إليها ، فيحملها ذلك(12/138)
ج 12 ، ص : 139
على دعوتهن ، والرؤية بأبصارهن ما يكون فيه معذرة لها فيما فعلت. وذلك منهن مكر لا رأى ، وقد وصلن إلى ما أردن كما قال تعالى :
(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) أي فلما سمعت مقالتهن التي يردن بها إغضابها حتى تريهن يوسف إبداء لمعذرتها فينلن ما يبغين من رؤيته ، وقد كان من المتوقع أن تسمع ذلك ، لما اعتيد بين الخدم من التواصل والتزاور ، وهن ما قلنه إلا لتسمعه ، فإن لم يتم لهن ما أردن احتلن فى إيصاله ، وقد كان ما أردن كما قال :
(أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) أي مكرت بهن كما مكرن بها ، ودعتهن إلى الطعام فى دارها ، وهيأت لهن ما يتكئن عليه من كراسى وأرائك كما هو المعروف فى بيوت العظماء ، وكان ذلك فى حجرة المائدة ، وأعطت كل واحدة منهن سكينا ، لتقطع بها ما تأكل من لحم وفاكهة.
(وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) أي وأمرته بالخروج عليهن ، وفى هذا إيماء إلى أنه كان فى حجرة فى داخل حجرة المائدة التي كن فيها محجوبا عنهن ، وقد تعمدت إتماما للحيلة والمكر بهن أن يفجأهن وهن مشغولات بما يقطعنه ويأكلنه علما منها بما يكون لهذه المفاجأة من الدهشة ، وقد تم لها ما أرادت كما يشير إلى ذلك قوله :
(فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) أي فخرج عليهن فلما رأينه أعظمنه ودهشن لذلك الجمال البارع وذهلن فقطّعن أيديهن بدلا من تقطيع ما يأكلن ذهولا عما يعملن أي فجرحنها بما فى أيديهن من السكاكين ، لفرط دهشتهن وخروج حركات الجوارح عن منهاج الاختيار ، حتى لم يشعرن بما عملن ، ولا أ لمن لما نالهن من أذى ، واستعمال القطع بمعنى الجرح كثير فى كلامهم فيقولون كنت أقطع اللحم فقطعت يدى ، يريدون فأخطأتها فجرحت يدى حتى كدت أقطعها.
(وَ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) أي وقلن هذا على نهج التعجب والتنزيه للّه تعالى أن يكون هذا الشخص الذي لم يعهد مثاله فى جماله ولا فى عفته من النوع الإنسانى ، إن هو إلا ملك تمثل فى تلك الصورة البديعة التي تخلب الألباب وتدهش الأبصار.(12/139)
ج 12 ، ص : 140
روى عن زيد بن أسلم من مفسرى السلف : أعطتهن أترنجا (ثمر من نوع الليمون الحامض كبير مستطيل يؤكل بعد إزالة قشرته) وعسلا فكن يحززن بالسكين ويأكلنه بالعسل ، فلما قيل له : اخرج عليهن خرج ، فلما رأينه أعظمنه وتهيمّن به حتى جعلن يحززن أيديهن بالسكين وفيها الترنج ولا يعقلن ولا يحسبن إلا أنهن يحززن الأترنج ، قد ذهبت عقولهن مما رأين وقلن حاش للّه ما هذا بشرا ، أي ما هكذا يكون البشر ، ما هذا إلا ملك كريم.
(قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أي حينئذ قالت لهن : إذا كان الأمر ما رأيتنّ بأعينكن ، وما أكبرتن فى أنفسكن ، وما فعلتن بأيديكن ، وما قلتن بألسنتكن ، فذلكن هو الذي لمتنّنى فيه ، وأسرفتن فى لومى وتعنيفى ، وقلتن فيما قلتن ، فما يوسف بالعبد العبراني ، أو المملوك الكنعانى ، ولا بالخادم الصعلوك الذي شغف مولاته حبا وغراما ، وراودته عن نفسه ضلالا منها وهياما ، بل هو ملك تجلّى فى صورة إنسان ، فماذا أنتن قائلات فى أمرى ، وهو المالك لسمعى وبصرى ، وإنى لأراه بشرا سويا ، إنسيا لا جنيا ، وجسدا لا ملكا روحانيا ، فأتصبّاه بكل ما أملك من كلام عذب ، فلا بصبو إلىّ ، ولا يظهر نحوى عطفا ، ولا يرفع إلىّ طرفا.
(وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أي ولقد راودته عن نفسه فامتنع عما أرادته منه ، واستمسك بعروة العصمة التي ورثها عمن نشئوا عليها ، ولا عجب فإنّ نظره إلى اللّه لم يدع فى قلبه البشرى مكانا خاليا لنظرات هذه العاشقة التي شغفها حبا.
(وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي ولئن لم يفعل ما آمره به مستقبلا كما لم يفعله ماضيا : ليسجنن وليكونن من الأذلة المقهورين ، فإن زوجى لا يخالف لى رغبة ، ولا يعصينى فى أمر وسيعاقبه بما أريد ، ويلقيه فى غيابات السجون ، ويجعله كغيره من العبيد بعد إكرام مثواه وجعله كولده.
وفى ذلك إيماء إلى أنها ستشدد العقوبة عليه أكثر مما توعدت به أوّلا ، فهناك أنذرته بسجن قد يكون على أخف صورة وأقلها ، وعذاب بأهون أنواعه وألطفها كحبس(12/140)
ج 12 ، ص : 141
فى حجرة الدار ، أو لطمة على خديه تزيل منها الاحمرار ، وهنا أنذرته بسجن مؤكد وذل وصغار تأباه الأنفس الكريمة كنفس يوسف عليه السلام فأشقّ الأعمال أهون على كرام الناس من الهوان والصغار.
وفى هذا التهديد من ثقتها بسلطانها على زوجها مع علمه بآمرها واستعظامه لكيدها ، ما كان من حقه أن يجعل يوسف يخاف من تنفيذ إرادتها ويثبت لديه عدم غيرته عليها كما هو الحال لدى كثير من العظماء المترفين العاجزين عن إحصان أزواجهن والمحرومين من نعمة الأولاد منهن.
وربما تكون مبالغتها فى تهديده بمحضر من هؤلاء النسوة لما فى قلبها منه من غل وجوى بظهور كذبها وصدقه ، وتصميمه على عصيان أمرها ، ولتظهر ليوسف أنها ليست فى أمرها على خيفة من أحد فتضيق عليه الحيل ، ولينصحنه فى موافقتها ويرشدنه إلى الخلاص من عذابها.
يا للّه! إن هذا لموقف يهدّ الجبال الراسيات ، وتدبير لا قبل لأشد العزائم على احتماله ، فامرأة ما كرة هتكت سترها ، وكاشفت نسوة بلدها بما تسر وتعلن من أمرها ، ونسوة تواطأن معها على الكيد له كما كادت له من قبل بمراودته عن نفسه ، ولا سبيل إلى دفع هذه الضراء ، وإبعاد تلك اللأواء ، إلا بمعونة من ربه ، وحفظه من نزغات الشيطان وكلاءة الرحمن ، ومن ثم جرى على لسانه ما أكنه جنانه :
(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) أي قال ربى أنت العليم بالسر والنجوى ، والقدير على كشف تلك البلوى : إن السجن الذي هددت به والمكث فى بيئة المجرمين على شظف العيش ورقة الحال - أحب إلى نفسى مما يدعو إليه أولئك النسوة من الاستمتاع بهن فى ترف القصور ، والاشتغال بحبهن عن حبك وبقربهن عن قربك.
وفى قوله مما يدعوننى إليه إيماء إلى أنهن خوفنه مخالفتها ، وزينّ له مطاوعتها فقلن له : أطع مولاتك وأنلها ما تهوى ، لتكفى شرها ، وتأمن عقوبتها.(12/141)
ج 12 ، ص : 142
(وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ) أي وإن لم تبعد عنى شراك كيدهن وتثبّتنى على ما أنا عليه من العصمة ، أمل إلى موافقتهن على أهوائهن وأقع فى شباك صيدهن وأرتع فى حمأة غوايتهن ، وقد لجأ يوسف إلى ألطاف ربه ، وسلك سبيل المرسلين من قبله ، فى فزعهم إلى مولاهم لينيلهم الخيرات ، ويبعد عنهم الشرور والموبقات ، وإظهارهم أن لا طاقة لهم إلا بمعونته سبحانه مبالغة فى استدعاء لطفه وعظيم كرمه ومنه.
(وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي من السفهاء الذين تستخفهم الأهواء والشهوات ، فيجنحون إلى ارتكاب الموبقات واجتراح السيئات ، فمن يعش بين هؤلاء النسوة الماكرات المترفات لا مهرب له من الجهل إلا أن تعصمه بما هو فوق الأسباب والسنن العادية.
وفى هذا إيماء إلى أنه ما صبا إليهن ، ولا أحب أن يعيش معهن ، بل سأل ربه أن يديم له ما عوده من كشف السوء عنه فى قوله « كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ » .
(فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ) أي فأجاب له ربه دعاءه الذي تضمنه قوله : وإلا تصرف عنى كيدهن إلخ فصرف عنه كيدهن وعصمه من الجهل والسفه باتباع أهوائهن.
(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إنه هو السميع لدعاء من تضرع إليه وأخلص الدعاء له ، العليم بصدق إيمانهم وبما يصلح أحوالهم.
وفى هذا إرشاد إلى أن ربه حرسه بعنايته فى جميع أطواره وشئونه ، ورباه أكمل تربية وما خلّاه ونفسه فى أهون أموره.
(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) أي ثم ظهر للعزيز وامرأته ومن يهمه أمرهما كالشاهد الذي شهد عليها من أهلها - من الرأى ما لم يكن(12/142)
ج 12 ، ص : 143
ظاهرا لهم من قبل - بعد أن رأوا من الآيات ما اختبروه بأنفسهم وشهدوه بأعينهم ، مما يدل على أن يوسف لم يكن إنسانا كالذين عرفوا في أخلاقه وعفته واحتقاره للشهوات واللذات التي يتمتع بها سكان القصور ، وفى إيمانه بأن ربه لن يتركه بل يكلؤه بعين عنايته ، ويحرسه بوافر رعايته ، وقد استبان لهم ذلك من وجوه :
(1) إن افتنان سيدته فى مراودته وجذبها خلسات نظره لم تؤثر فى ميل قلبه إليها ، بل ظل معرضا عنها متحاهلا لها حتى إذا ما صارحته بما تريد استعاذ بربه ورب آبائه ، وعيّرها بالخيانة لزوجها.
(2) إنها لما غضبت وهمت بالبطش به هم بمقاومتها والبطش بها ، ولم يمنعه إلا ما رأى فى دخيلة نفسه من برهان ربه الذي يدل على أن ربه صارف عنه السوء والفحشاء.
(3) إنها حين اتهمته بالتعدي عليها شهد شاهد من أهلها أنها كاذبة فى اتهامها إياه وهو صادق فيما ادعاه من مراودتها إياه عن نفسه بدلالة القميص على ذلك.
كل هذا أثبت لهم أن بقاءه فى هذه الدار بين ربتها وصديقاتها مثار فتنة لا تدرك غايتها ، وأن الحكمة هو تنفيذ رأيها الأول بسجنه لإخفاء ذكره وكف ألسنة الناس عنها فى أمره ، وأقسموا ليسجننه حتى حين دون نقيد بزمن معين ليروا ماذا يكون فيه من تأثير السجن وحديث الناس عنه.
وفى تنفيذ هذا العزم دلالة على ما كان لهذه المرأة الماكرة من سلطان على زوجها تقوده كيف شاءت ، حتى فقد الغيرة عليها ، فهو يجرى وراء هواها ، ويستجلب رضاها ، حتى أنساه ذلك ما رأى من الآيات وعمل برأيها فى سجنه لإلحاق الهوان والصغار به حين أيست من طاعته وطمعت فى أن يذلله السجن لأمرها ويقف به عند مشيئتها.(12/143)
ج 12 ، ص : 144
[سورة يوسف (12) : الآيات 36 الى 38]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانة مكر النسوة بامرأة العزيز لتريهن يوسف ، ثم مكر امرأة العزيز بهن حتى قطّعن أيديهن وقلن فى يوسف ما قلن من وصف جماله ، ثم إظهار امرأة العزيز المعذرة لنفسها فيما فعلت ، وعزمها على سجنه إن لم يكن مطواعا لها ، ثم حماية اللّه له من كيدها بعد دعائه إياه ، ثم تدبير مؤامرة بين العزيز وامرأته وأهلها على إدخاله السجن مع كل ما رأوا من الآيات حتى ينسى الناس هذا الحديث وتسكن تلك الثائرة فى المدينة.
ذكر هنا تنفيذهم لما عزموا عليه من إدخالهم إياه السجن ، وما كان من لطف اللّه به إذ أتاه من علم تعبير الرؤيا ما يستطيع به أن يعبر لكل حالم عما يراه ، ويخبر كل أحد عما يسأله عنه مما لم يكن حاضرا لديه وما سيأتى له من طعام وشراب ونحو ذلك ، ثم ذكر قول يوسف إن هذا كله نعمة من نعم الإيمان باللّه عليه وعلى آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب.(12/144)
ج 12 ، ص : 145
الإيضاح
(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) أي فسجنوه ودخل معه فتيان مملو كان من غلمان ملك مصر أحدهما خبازه والآخر ساقيه - لخيانة نسبت إليهما كانت ستودى بحياته ، وبعد أن استقر بيوسف المقام فى السجن - سأله من فيه عن عمله فقال إنى أعبر الرؤى ، فقال أحد الفتيين لصاحبه تعالى فلنجرّ به وكان من شأنهما معه ما قصه اللّه علينا بقوله (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) أي قال صاحب شرابه : إنى رأيت فى المنام أنى أعصر خمرا أي عنبا ليكون خمرا ، إذ الخمر لا يعصر ، وقيل إن عرب غسان وعمّان يسمون العنب خمرا. روى أنه قال رأيت حبلة من كرم حسنة لها ثلاثة أغصان فيها عناقيد فكنت أعصرها وأسقى الملك.
(وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) أي وقال الآخر وهو الخباز ، وقد روى أنه قال : رأيت أنى أخرج من مطبخ الملك وعلى رأسى ثلاث سلال فيها خبز والطير تأكل من أعلاه.
(نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) أي قال كل واحد منهما : نبئنى بتأويل ما رأيت أي بتفسيره الذي يئول إليه فى الخارج إذا كان حقا لا أضغاث أحلام.
ثم بينا له ثقتهما به فقالا :
(إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي الذين يحسنون تأويل الرؤيا ، وما قالا هذا إلا بعد أن رأيا من سعة علمه وحسن سيرته مع أهل السجن ما جعله كعبة قصادهم وقبلة استفتائهم.
وقد يكون المعنى : إنا نراك من الذين يحسنون بمقتضى غريزتهم ، ويريدون الخير للناس وإن لم يكن لهم فيه منفعه خاصة لهم.
وقد وجد يوسف عليه السلام من ثقة السائلين بعلمه وفضله واهتمامهما بما يسمعان من تأويله لرؤياهما ما جعله يحدثهما بما هو المهم عنده وهو دعوتهما وجميع من فى السجن(12/145)
ج 12 ، ص : 146
إلى توحيد اللّه ، ولكنه جعل فى صدر كلامه ما يطمئنهم على الثقة بصدقه ، وذلك بإظهار ما منّ اللّه به عليه من تعليمه ما شاء من أمور الغيب ، وأقرب ذلك إلى اقتناعهم ما يختص بمعيشتهم ، ومن ثم جعله بدء الحديث معهم كما حكى سبحانه عنه.
(قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) أي قال لهما لا يأتيكما طعام إلا أخبرتكما به وهو عند أهله وبما يريدون من إرساله وما ينتهى إليه بعد وصوله إليكما روى أن رجال الدولة كانوا يرسلون إلى المجرمين طعاما مسموما يقتلونهم به ، وأن يوسف أراد هذا من كلامه.
وفى ذلك إيماء إلى أنه أوتى علم الغيب ، وهذا يجرى مجرى قول عيسى عليه السلام : « وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ » .
ومن هذا يعلم أن وحي الرسالة جاءه وهو فى السجن ، وبذلك تحقق قوله :
« رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ » كما أن وحي الإلهام جاءه حين إلقائه فى غيابة الجب كما تقدم ذكره ، وكأنه سبحانه جعل فى كل محنة منحة ، وفى كل ما ظاهره أنه بلاء نعمة.
(ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) أي ذلكما الذي أنبأتكما به بعض ما علمنى ربى بوحي منه إلى لا بكهانة ولا عرافة ولا ما يشبه ذلك من تعليم بشرى يلتبس به الحق بالباطل ويشتبه فيه الصواب بالخطأ.
(إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) القوم هنا الكنعانيون وغيرهم من سكان أرض الميعاد ، والمصريون الذين هو بينهم فقد كانوا يعبدون آلهة منها الشمس ويسمونها (رع) ومنها عجلهم (أبيس) ومنها فراعنهم ، وكان التوحيد خاصا بحكمائهم وعلمائهم ، ومعنى تركها أنه ترك دخولها واتباع أهلها من عبدة الأوثان على كثرة أهلها ، وفى ذلك لفت لأنظارهما لأن يتركا تلك الملة التي هم عليها.
والمعنى - إنى برئت من ملة من لا يصدق باللّه ولا يقر بوحدانيته وأنه خالق السموات والأرض وما بينهما.(12/146)
ج 12 ، ص : 147
(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي وهم يكفرون بالآخرة والحساب والجزاء على الوجه الذي دعا إليه الأنبياء ، إذ أنهم كانوا يصورون حياة الآخرة على صور مبتدعة ، منها أن فراعنتهم يعودون إلى الحياة الآخرة بأجسادهم المحنطة ويرجع إليهم الحكم والسلطان كما كانوا فى الدنيا ، ومن ثم كانوا يضعون معهم فى مقابرهم جواهرهم وحليهم ، ويبنون الأهرام لحفظ جئثهم وما معهم ، ولهم معتقدات أخرى فى تلك الحياة لا تشا كل ما جاء عنها على ألسنة الرسل عليهم السلام.
(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أي واتبعت ملة آبائي الذين دعوا إلى التوحيد الخالص وهم إبراهيم وإسحق ويعقوب ، وفى ذكر ذلك ترغيب لصاحبيه فى الإيمان والتوحيد وتنفير لهما عما هما فيه من الشرك والضلال.
ثم بين أساس الملة التي ورثها عن أولئك الآباء الكرام فكانت يقينا له بقوله :
(ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ) أي لا ينبغى لنا معشر الأنبياء أن نشرك باللّه شيئا فنتخذه ربا مدبرا معه ولا إلها معبودا من الملائكة أو البشر كالفراعنة ، فضلا عما دونهما من البقر كالعجل أبيس أو من الشمس والقمر ، أو ما يتخذ من التماثيل والصور لهذه الآلهة.
(ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ) أي عدم الإشراك من فضل اللّه علينا ، إذ هدانا إلى معرفته وتوحيده فى ربوبيته وألوهيته ، بوحيه وآياته فى الأنفس والآفاق ، وعلى الناس بإرسالنا إليهم ، ننشر فيهم الدعوة ، ونقيم عليهم الحجة ، فنهديهم سبيل الرشاد ، ونبين لهم محجة الصواب ، ونبعدهم عن طرق الغواية والضلال.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) نعم اللّه عليهم ، فيشركون به أربابا وآلهة من خلقه ، يذلون أنفسهم بعبادتهم ، وهم مخلوقون للّه مثلهم أو أدنى منهم.(12/147)
ج 12 ، ص : 148
[سورة يوسف (12) : الآيات 39 الى 40]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)
المعنى الجملي
بعد أن أبطل يوسف عليه السلام ما هما عليه من الشرك فيما سلف ، وذكر أنه قد اتبع ملة آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب ، وبين أن هذا فضل من اللّه ومنة عليهم وعلى الناس ، وكثير من الناس لا يشكرون الخالق لهذه النعم فيعبدوه وحده دون أن يشركوا به أحدا - دعاهما هنا إلى التوحيد الخالص وأيده بالبرهان الذي لا يجد العقل محيصا من التسليم به والإقرار بصحته فقال :
الإيضاح
(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) أي يا صاحبىّ فى السجن ، وناداهما بعنوان الصحبة فى هذه الدار التي هى دار الأشجان وموضع الهموم والأحزان ، وفيها تصفو المودة وتخلص النصيحة ليصغيا إلى مقاله ، ويقبلا على استماع ما يلقى إليهما به ، فالآذان حينئذ مرهفة ، والقلوب قد انصرفت عن الدنيا ولذاتها ، وتفرغت لعالم آخر غير ما يشغل الناس من زبرج هذه الحياة وزخرفها.
(أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) هذا استفهام لتقرير ما يذكر بعده وتوكيده ، والمراد بالتفرق فى الذوات والصفات المعنوية التي ينعتونهم بها ، والصفات الحسية التي يصورها لهم بها الكهنة والرؤساء من رسوم منقوشة ، وتماثيل منصوبة ، فى المعابد والهياكل ، والقهار : الغالب على أمره الذي لا يغلبه أحد.(12/148)
ج 12 ، ص : 149
والمعنى - أ أرباب كثيرون هذا شأنهم فى التفرق والانقسام ، وما يقتضيه ذلك من التنازع والاختلاف فى الأعمال والتدبير الذي يفسد النظام - خير لكما ولغيركما فيما تطلبون من كشف الضر وجلب النفع وكل ما تحتاجون فيه إلى المعونة من عالم الغيب ، أم اللّه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا ينازع ولا يعارض فى تصرفه وتدبيره ، وله القدرة التامة والإرادة العامة ، وهو المسخر لجميع القوى والنواميس الظاهرة التي تقوم بها نظم العوالم السماوية والأرضية من نور وهواء وماء ، والغائبة عنا كالملائكة والشياطين مما كان الجهل بحقيقتها هو سبب عبادتها والقول بربوبيتها ؟ ولا شك أن الجواب عن هذا مما لا يختلف فيه عاقل ، فلا خير فى تفرق المعبودات التي لا تستطيع ضرّا فى الأرض والسموات.
ثم بين لهما أن ما يعبدونه ويسمونه آلهة إنما هى جعل منهم ، وتسمية من تلقاء أنفسهم ، تلقاها خلف عن سلف ليس لها مستند من العقل ولا الوحى السماوي فقال :
(ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي ما تعبدون من دون الواحد القهار إلا أسماء لمسميات وضعتموها أنتم وآباؤكم من قبلكم ونحلتموها صفات الربوبية وأعمالها ، وما هى بأرباب تخلق وترزق ، وتضر وتنفع ، ما أنزل اللّه حجة وبرهانا على أحد من رسله بتسميتها أربابا ، حتى يقال إنكم تتبعونها تعبدا له وحده وطاعة لرسله.
والخلاصة - إنها تسمية لا دليل عليها من نقل سماوى فتكون أصلا من أصول الإيمان ، ولا دليل عليها من عقل فتكون من نتاج الحجة والبرهان.
(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ما الحكم الحق فى الربوبية والعبادة إلا للّه وحده يوحيه لمن اصطفاه من رسله ولا يمكن بشرا أن يحكم فيه بهواه ورأيه ، ولا بعقله واستدلاله ، ولا باجتهاده واستحسانه ، وهذه قاعدة اتفقت عليها كل الأديان ، دون اختلاف فى الأمكنة والأزمان.
ثم بين ما حكم به اللّه فقال :
(أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي أمر ألا تعبدوا غيره ولا تدعوا سواه ، فله وحده(12/149)
ج 12 ، ص : 150
اركعوا واسجدوا ، وإليه وحده توجهوا حنفاء غير مشركين به شيئا من ملك من الملائكة ولا ملك من الملوك الحاكمين ، ولا شمس ولا قمر ولا نجم ولا شجر ، ولا حيوان كالعجل أبيس لدى المصريين.
فالمؤمن الصادق الإيمان لا يذل ولا يخزى لأحد غير اللّه مما خلق ، بدعاء ولا استغاثة ولا طلب فرج من ضيق ، لإيمانه بأنه هو الرب المدبر لكل شىء ، وأن كل ما سواه فهو خاضع لسلطانه ، ولا يملك لنفسه ولا لغيره غير ما أعطاه من القوى ، فإليه وحده الملجأ فى كل ما يعجز عنه الإنسان أو يجهله من الأسباب ، وإليه المصير فى الجزاء على الأعمال يوم يقوم الحساب.
(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي إن تخصيصه بالعبادة هو الدين الحق الذي لا عوج فيه ، والذي دعا إليه جميع الرسل ، ودلّت عليه براهين العقل والنقل.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن ذلك هو الدين الحق الذي لا اعوجاج فيه ، لا ما ساروا عليه تبعا لآبائهم الوثنيين من الاعتقاد بأرباب متفرقين.
وقد خفيت هذه الحقيقة على كثير ممن يدعون اتباع القرآن ، فتراهم يتوجهون إلى غير اللّه من الأولياء والصلحاء إذا مسهم الضر ، ويدعونهم خاشعين متذللين ، ويسمونهم شفعاء ووسائل عند اللّه ، وما هذا إلا مثل فعل من قبلهم من المشركين ، فليس لهم من صفات الربوبية أدنى حظ ، ولا من صفات الألوهية أقل نصيب.
وبعد أن بين لهما الحق فى مسألة التوحيد وعبادة اللّه وحده شرع فى إنبائهما عما استنبآه عنه فقال :
[سورة يوسف (12) : الآيات 41 الى 42]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)(12/150)
ج 12 ، ص : 151
تأويل يوسف عليه السلام رؤيا صاحبى السجن ووصيته للناجى منهما
الإيضاح
(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما) وهو الساقي الذي رأى أنه يعصر خمرا ، ولم يعيّنه ثقة بدلالة الحال ، ورعاية لحسن الصحبة.
(فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) أي فيسقى سيده ومالك رقبته. وقد روى أن يوسف قال له فى تعبير رؤياه : ما أحسن ما رأيت ، أما الكرمة فهى الملك وحسنها حسن حالك عنده ، وأما الأغصان الثلاثة فثلاثة أيام تمضى فى السجن ثم تخرج وتعود إلى عملك.
(وَأَمَّا الْآخَرُ) وهو الذي رأى أنه يحمل خبزا تأكل الطير منه.
(فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) أي الطير الكواسر كالحدأة والرّخمة ونحوهما روى أنه عليه السلام قال له : ما رأيت من السلال الثلاث ، فثلاثة أيام تمر ثم تخرج فتصلب.
(قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) الاستفتاء فى اللغة : السؤال عن المشكل المجهول والفتوى جوابه : أي إن الأمر الذي يهمكما ويشكل عليكما وتستفتيانى فيه قد بتّ فيه وانتهى حكمه.
وهذه الفتوى من يوسف عليه السلام زائدة على تعبير رؤياهما داخلة فى باب المكاشفة والإنباء عن الغيب ، قالها لهما ليثقا بقوله ، ويعلما أنه إنما قالها بوحي من ربه ، وأن الملك قد حكم فى أمرهما بما قاله.
(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) وهو الذي أول له رؤياه بأنه يسقى ربه خمرا ، وتأويلها يدل على نجاته دلالة ظنية لا قطعية ، وقد يكون هذا بناء على وحي فيكون(12/151)
ج 12 ، ص : 152
الظن بمعنى اليقين وهو كثير فى القرآن الكريم كما قال : « الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ » وقال : « إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ » .
(اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أي اذكرني لدى سيدك الملك بما رأيت منى وما سمعت وعلمت من أمرى ، علّه ينصفنى ممن ظلمنى ويخرجنى من ضائقة السجن ، ومما هو جدير أن يذكره به دعوته إياهم إلى التوحيد وتأويله للرؤيا ، وإنباؤهم بكل ما يأتيهم من طعام وشراب وغيرهما قبل إتيانه وفتياه التي أفتى بها.
(فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أي فأنسى الشيطان ذلك الساقي الناجي تذكر إخبار ربه أي أن يذكر يوسف للملك.
(فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) منسيا مظلوما ، والبضع من ثلاث إلى تسع ، وأكثر ما يطلق على السبع وعليه الأكثرون فى مدة سجن يوسف.
[سورة يوسف (12) : الآيات 43 الى 49]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)(12/152)
ج 12 ، ص : 153
تفسير المفردات
السمان : واحدها سمين وسمينة ، والعجاف : واحدها عجفاء أي هزيلة ضعيفة ، والسنابل : واحدها سنبلة وهى ما يكون فيها الحب ، واليابس من السنبل : ما آن حصاده ، وعبرت الرؤيا وعبّرتها (بالتخفيف والتشديد) فسرتها ببيان المعنى الحقيقي المراد من المعنى المثالي كمن يعبر النهر بالانتقال من ضفّة إلى أخرى ، والأضغاث : واحدها ضغث وهو الحزمة من النبات ، والأحلام واحده حلم (بضمتين وبالتسكين للتخفيف) :
ما يرى فى النوم ، وهو قد يكون واضح المعنى كالأفكار التي تكون فى اليقظة ، وقد يكون مهوّشا مضطربا فهو يشبّه بالتضاغيث كأنه مؤلف من حزم مختلفة من العيدان والحشائش التي لا تناسب بينها ، واذكر : تذكر (أصله اذتكر) ، والدأب : استمرار الشيء على حال واحدة يقولون هو دائب بفعل كذا إذا استمر فى فعله ، فذروه : أي اتركوه وادخروه. والشداد الصعاب التي تشتد على الناس. وتحصنون أي تحرزون وتدخرون للبذر ، وأغاثه : أعانه ونجاه ، وغوّث الرجل : قال : واغوثاه ، واستغاث ربه : استنصره وسأله الغوث ، ويعصرون : أي ما من شأنه أن يعصر كالزيت من الزيتون والشيرج من السمسم ، والأشربة من القصب والنخيل والعنب.
المعنى الجملي
رؤيا ملك مصر وتأويل يوسف عليه السلام لها
ذكر المؤرخون أن ملك مصر فى عهد يوسف كان من ملوك العرب الذين يسمون بالرعاة (الهكسوس) وأنه قد رأى رؤيا عجز الكهنة والعلماء ورجال الدولة عن تأويلها ،(12/153)
ج 12 ، ص : 154
وقالوا أضغاث أحلام ، وكان من هذا أن لجئوا إلى يوسف فى تأويل الرؤيا ، وبه تم اتصاله بالملك وتعيينه وزيرا له.
الإيضاح
(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) أي إنى رأيت فيما يرى النائم رؤيا جلية كأنى أراها الآن ، سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان ، ورأيت سبع سنبلات خضر قد انعقد حبّها ، وسبعا أخر يابسات قد استحصدت وأدركت ، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها فجمع الكهنة والعلماء وقال :
(يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أي عبّروها لى وبيّنوا حكمها وما تئول إليه ، إن كنتم تعبرون الرؤى وتبينون المعنى الحقيقي المراد من المعنى المثالي ، فيكون حالكم حال من يعبر النهر من ضفة إلى أخرى.
(قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) أي قالوا هذه رؤيا من نوع أضغاث الأحلام : أي الأحلام المختلطة من خواطر وأخيلة يتصورها الدماغ فى النوم فلا تومىء إلى معنى معيّن مقصود ، وما نحن بأولى علم بتأويل مثل هذه الأحلام المضطربة ، بل نحن نعلم غيرها من الأحلام المفهومة المعقولة.
وقد يكون مرادهم نفى العلم بجنس الأحلام لأنها مما لا يعلم أو مما لا يكون له معنى تدل عليه تلك الصور المتخيلة فى النوم كما هو رأى الماديين الآن.
وقد كان حديث الملك فى رؤياه مع كهنته وعلمائه ورجال دولته مذكرا للذى نجا من الفتيين بيوسف وحسن تعبيره للرؤى بعد أن مضى على ذلك ردح من الزمان كما يشير إلى هذا ما بعده :
(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) أي إنّ عجز الملأ كان فرصة سانحة للذى نجا من الفتيين أن يخبر الملك بأن فى الحبس رجلا صالحا(12/154)
ج 12 ، ص : 155
عالما كثير الطاعة - خبيرا بتأويل الرؤى ، فإن أنت أذنت لى مضيت إليه وجئتك بالجواب (وكان ذلك الفتى تذكر بعد مدة من الزمن وصية يوسف له بأن يذكره عند سيده الملك فأنساه الشيطان ذلك) فأرسلوه إليه فجاءه فاستفتاه فيما عجزوا عنه وقال :
(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) أي يا يوسف البالغ غاية الكمال بصدقك فى أقوال وأفعالك وتأويل الأحاديث وتعبير الأحلام ، أفتنا فى ذلك المنام الذي رآه الملك ، وإنى لأرجو أن يحقق اللّه أملك بالخروج من السجن وانتفاع الملك وملئه بفضلك وعلمك ، (قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ) أي قال يوسف للملك وملئه مبينا لهم ما يجب عليهم أن يعملوه لتلافى ما تدل عليه الرؤيا من الخطر على البلاد وأهلها قبل وقوع تأويلها ، من زراعة القمح سبع سنين متوالية بلا انقطاع ثم بادخار ما يحصد منه فى كل زرعة فى سنابله على طريق تحفظه من السوس بتسرب الرطوبة إليه حتى يكون القمح لغذاء الناس والتبن للدواب حين الحاجة إليه ، إلا قليلا من ذلك تأكلونه فى كل سنة مع الاقتصاد والاكتفاء بما يسد الحاجة ويكفى دفع المخمصة ، وهذه السنون السبع هى تأويل البقرات السبع السمان.
أما السنبلات الخضر فعلى حقيقتها فى كون كل سنبلة تأويلا لزرع سنة.
(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ) أي ثم تأتى بعد ذلك سبع سنين كلهن جدب وقحط ، يأكل أهلها كل ما ادخرتم فى تلك السنين لأجلهم ، إلا قليلا مما تحزنون وتدخرون للبذر ، ونسبة الأكل إلى السنين هو ما جرت به عادتهم فيقولون أكلت هذه السنة كل شىء ولم تبق لنا خفا ولا حافرا ولا سبدا ولا لبدا : أي لا شعرا ولا صوفا.
فهذا تأويل البقرات السبع العجاف وأكلهن للسبع السمان ، وللسنبلات اليابسات.(12/155)
ج 12 ، ص : 156
(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أي ثم يعقبهم بعد تلك الشدائد عام فيه يغاث الناس : أي يغيثهم اللّه من تلك الشدة أتم إغاثة ويعينهم بجميع أنواع المعونة ، فتغلّ البلاد وتكثر المحصولات بجميع أنواعها ويعصرون ما من شأنه أن يعصر من العنب والقصب والزيتون والسمن ونحوها من الفواكه.
وخلاصة ذلك - إن العام يكون عام خصب وإقبال ، ويكون للناس فيه ما يبغون من النعمة والإتراف ، والإنباء بهذا العام زائد على تأويل الرؤيا ولم يعرفه يوسف على التخصيص والتفصيل إلا بوحي من اللّه عز وجل.
[سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 52]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52)
طلب الملك ليوسف وتريثه فى الإجابة
حتى يحقق حادثة النسوة
بعد أن رجع الرسول إلى الملك وملئه وأبلغهم ما قاله يوسف عليه السلام ، فهموا منه سعة علمه وحسن تدبيره لدى ذلك الخطب الجلل الذي سيحل بالبلاد ، فطلب الملك رؤيته ليتحقق بنفسه صدق ما فهمه من كلامه ، إذ ليس الخبر كالخبر وليس السماع كالمشاهدة ، وذلك هو الرأى والحزم.(12/156)
ج 12 ، ص : 157
الإيضاح
(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) كى أستمع كلامه وأعرف درجة عقله وأعلم تفضيل رأيه (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) وبلّغه أمر الملك وطلب إليه إنفاذه.
(قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) البال : هو الأمر الذي يبحث عنه ويهتم به : أي ارجع إلى سيدك قبل شخوصى إليه ومثولى بين يديه ، وسله عن حال النسوة اللاتي قطّعن أيديهن ليعرف حقيقة أمره ، إذ لا أود أن آتيه وأنامتهم بقضية عوقبت من أجلها بالسجن وقد طال مكثى فيه دون تعرف الحقيقة ولا البحث فى صميم التهمة.
(إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى هو العالم بخفيّات الأمور ، وهو الذي صرف عنى كيدهن فلم يمسسنى منه سوء.
وقد دل هذا التريث والتمهل من يوسف عليه السلام عن إجابة طلب الملك له حتى تحقق براءته على جملة أمور :
(1) جميل صبره وحسن أناته ، ولا عجب فمثله ممن لقى الشدائد جدير به أن يكون صبورا حليما ، ولا سيما ممن ورث النبوة كابرا عن كابر ،
وقد ورد فى الصحيحين مرفوعا « ولو لبثت فى السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي » ،
وفى رواية أحمد « لو كنت أنا لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر »
(2) عزة نفسه وصون كرامته ، إذ لم يرض أن تكون التهمة بالباطل عالقة به ، فطلب إظهار براءته وعفته عن أن يزنّ بريبة أو تحوم حول اسمه شائبة السوء.
(3) إنه عفّ عن اتهام النسوة بالسوء والتصريح بالطعن عليهن حتى يتحقق الملك بنفسه حين ما يسألهن عن السبب فى تقطيع الأيدى ويعلم ذلك منهن حين الإجابة.
(4) إنه لم يذكر سيدته معهن وهى السبب فى تلك الفتنة الشعواء وفاء لزوجها ورحمة بها ، وإنما اتهمها أولا دفاعا عن نفسه حين وقف موقف التهمة لدى سيدها وبعد أن طعنت فيه.(12/157)
ج 12 ، ص : 158
(قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) الخطب الشأن العظيم الذي يقع فيه التخاطب إما لغرابته وإما لإنكاره ، ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : « قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ » وقوم موسى : « فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ » أي إن الرسول بعد أن أبلغ الملك قول يوسف : إنه لا يخرج من السجن استجابة لدعوته حتى يحقق قصة النسوة - جمعهن وسألهن : ما خطبكن الذي حملكن على مراودته عن نفسه :
هل كان عن ميل منه إليكن ، وهل رأيتن منه مواتاة واستجابة بعدها ، وماذا كان السبب فى إلقائه فى السجن مع المجرمين.
(قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) أي معاذ اللّه. ما علمنا عليه سوءا يشينه ويسوءه لا قليلا ولا كثيرا.
(قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ : الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) حصحص : ظهر بعد أن كان خفيا أي إن الحق فى هذه القضية كان فى رأى من بلغهم - موزّع التبعة بيننا معشر النسوة وبين يوسف ، لكل مناحصة بقدر ما عرض فيها من شبهة ، والآن قد ظهر الحق فى جانب واحد لا خفاء فيه ، وهن قد شهدن بما علمن شهادة نفى ، وهأنذا أشهد على نفسى شهادة إيجاب.
(أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) لا أنه راودنى ، بل استعصم وأعرض عنى.
(وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) فى قوله حين افتريت عليه : هى راودتنى عن نفسى ، والذي دعاها إلى هذا الاعتراف مكافأة يوسف على ما فعله من رعاية حقها وتعظيم جانبها وإخفاء أمرها حيث قال : (ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) ولم يعرض لشأنها.
وفى هذا الاعتراف شهادة مريحة من امرأة العزيز ببراءة يوسف من كل الذنوب ، وطهارته من كل العيوب.
(ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) أي ذلك الاعتراف منى بالحق له ، والشهادة بالصدق الذي علمته منه ، ليعلم أنى لم أخنه بالغيب عنه منذ سجن إلى الآن ، فلم أنل(12/158)
ج 12 ، ص : 159
من أمانته ، أو أطعن فى شرفه وعفته ، بل صرحت لأولئك النسوة بأنى راودته عن نفسه فاستعصم ، وهأنذا أقر بهذا أمام الملك ورجال دولته وهو غائب عنا.
(وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) أي لا ينفذه بل يبطله وتكون عاقبته الفضيحة والنكال ، ولقد كدنا له فصرف ربه عنه كيدنا ، وسجنّاه فبرأه اللّه وفضح مكربا ، حتى شهدنا على أنفسنا فى مثل هذا الحفل الرهيب والمقام المنيف ببراءته من كل العيوب ، وسلامته من كل سوء.
وعلى الجملة فالتحقيق أسفر عن أن يوسف كان مثل الكمال الإنسانى فى عفته ونزاهته لم يمسسه سوء من فتنة أولئك النسوة ، وأن امرأة العزيز أقرّت فى خاتمة المطاف بذنبها فى مجلس الملك إيثارا للحق وإثباتا لبراءة يوسف عليه السلام.
نسألك سبحانك الهداية والتوفيق ، وأن تسدد خطانا إلى أقوم طريق ، بمنك وكرمك وجزيل معونتك ، إنك نعم المولى ونعم النصير.
وصل ربنا على محمد وآله ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وقد كان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة لثمان بقين من صفر من سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وألف هجريه.(12/159)
ج 12 ، ص : 160(12/160)
ج 12 ، ص : 161
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 5 كان عرش اللّه على الماء فى أثناء خلق العالم قبل تكوين السموات والأرض.
6 الماء أصل جميع الأحياء.
7 استعجال المشركين للعذاب 8 الإنسان محروم من فضيلتى الصبر والشكر.
11 كان الرسول صلى اللّه عليه وسلم يضيق صدره لعناد المشركين وجحودهم لدعوته.
12 دعواهم أن القرآن مفترى وليس بوحي من عند اللّه.
14 قصص القرآن والأغراض منه.
15 حكمة التحدي بعشر سور.
17 الدين يبيح التمتع بالطيبات ويبيح الزينة فى غير سرف ولا خيلاء.
27 الإيمان لا يكون بالإكراه.
29 الرسول لا يعلم الغيب.
38 دعوة نوح لابنه إلى الإيمان.
41 لا يجوز الدعاء بما يخالف سنن اللّه فى الخلق.
42 لا علاقة للصلاح بالوراثة والنسب.
من يغتر بنسبه ولا يعمل بما يرضى ربه فهو جاهل بكتابه.
43 قصص القرآن من عالم الغيب.
44 هل كان الطوفان عاما أو خاصا 45 حادث الطوفان فى القرآن والتوراة والتاريخ القديم.
46 عمر نوح عليه السلام.(12/161)
ج 12 ، ص : 162
الصفحة المبحث 56 آية صالح نافته.
57 الصيحة التي أهلكت بها ثمود.
بشارة الملائكة لإبراهيم وامرأته بإسحاق 59 سرور الملائكة بإبراهيم حين إهلاك قوم لوط.
ولد إسحاق لإبراهيم وسنه مائة سنة وكانت سن امرأته تسعين.
60 الفرق بين الروع (بالضم) والروع (بالفتح).
61 مجادلة إبراهيم للملائكة فى سفر التكوين من التوراة.
66 أمر لوط بالسرى ليلا.
70 الإفساد تعطيل شامل لمصالح الدين والدنيا.
77 تهديد قوم شعيب له بالرجم.
78 آيات موسى التسع.
85 الناس يوم القيامة فريقان.
88 إنذار المشركين بحلول العذاب بهم كما حلّ بسالف الأمم.
91 تحكيم العقل البشرى فى الخوض فى ذات اللّه وصفاته تجاوز لحدوده.
الاختلاف فى أمور القضاء والسياسة وأمور المعاش أمر طبيعى.
92 أمر الرسول بالاستقامة.
93 الاستعانة بالظلمة رضا بأعمالهم.
يجب الأخذ على أيدى الظلمة وأئمة الجور.
95 الصلاة أس العبادات المغذية للإيمان.
96 السنن العامة فى إهلاك الأمم.
97 العقول السليمة تكفى لفهم ما فى دعوة الرسل من الخير.
اللّه لا يهلك أمة لشركها ما دام أهلها مصلحين.(12/162)
ج 12 ، ص : 163
الصفحة المبحث 98 لو شاء اللّه لجعل الناس على دين واحد.
100 فى قصص الرسل مع أممهم تثبيت لفؤاده صلى اللّه عليه وسلم وبيان لوجه الحق فى دعوته 105 أتباع الرسل هم الفقراء.
106 يوسف الصديق مثل كامل فى عفته وصبره.
107 ما فى قصص يوسف من عبرة 112 قصص يوسف أحسن القصص.
113 قصص يوسف رؤياه على أبيه.
114 نهى أبيه له عن إخبار إخوته بهذه الرؤيا.
118 تآمر إخوة يوسف على الفتك به وتدبير المكيدة له.
119 خوف يعقوب على يوسف مع ذكر السبب فى ذلك.
121 إلقاء يوسف فى الجب.
122 ادعاؤهم أن الذئب قد أكله ومجيئهم بدم كذب تصديقا لذلك 123 عثور السيارة عليه فى الجب وفرحهم به.
124 بيعه فى مصر بثمن بخس دراهم معدودة.
125 شراء رئيس وزراء مصر له وأمر زوجه بإكرامه 126 كان عزيز مصر عقيما وكان صادق الفراسة.
127 علم اللّه يوسف الحكم الصحيح فيما يعرض له من مشكلات الأمور.
128 مراودة امرأة العزيز له عن نفسها.
129 امتناعه عن إجابة طلبها.
130 رأى ابن جرير والفخر الرازي فى تفسير آية المراودة.
131 رأى الجمهور فى تفسيرها ثم تفنيد ذلك بالأدلة.
132 شكوى المرأة لزوجها من يوسف ؟ ؟ ؟ ونحيلها فى ذلك.
133 تحقيق زوجها للحادث وحكم قريبها ببراءة يوسف.(12/163)
ج 12 ، ص : 164
الصفحة المبحث 134 الأمارات الدالة على صدق يوسف.
135 هل كان شاهد يوسف صبيا ؟ .
136 حديث النسوة فى المدينة ومكر امرأة العزيز بهن.
138 تعجب النسوة من حصول الحادث لأسباب.
139 تدبيرها المحكم للكيد بهن.
140 سلواها بما يكون معذرة ؟ ؟ ؟ لها فى ظنها.
تهديدها إياه بالسجن إن لم يجبها إلى ما تطلب.
141 دعاؤه ربه أن يصرف عنه كيد النسوة.
142 استجابة ربه لدعائه.
تصميمهم على سجنه مع ظهور براءته.
144 تعبيره الرؤى لمن فى السجن.
148 عظته للمسجونين وطلبته منهم الإيمان باللّه وحده 150 صادق الإيمان لا يذل إلا للّه.
151 تعبيره رؤيا ساقى الملك وخبازه.
152 رؤيا الملك فى المنام وطلبه تعبيرها.
تأويل الكهنة لها.
153 تأويل يوسف لها.
156 طلب الملك ليوسف وتريثه فى الإجابة.
157 الأسباب التي حملته على التريث فى إجابة الطلب.
158 اعتراف المرأة ببراءة يوسف.
159 ما أسفر عنه التحقيق.(12/164)
ج 13 ، ص : 1
الجزء الثالث عشر
[تتمة سورة يوسف ]
تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم احمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الثالث عشر(13/1)
ج 13 ، ص : 2(13/2)
ج 13 ، ص : 3
الجزء الثالث عشر بسم اللّه الرحمن الرحيم
[سورة يوسف (12) : آية 53]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
المعنى الجملي
هذه الآية الكريمة من تتمة إقرار امرأة العزيز كما اختاره أبو حيان فى البحر ، ويؤيده عطفه على ما قبله ، وقد جعلت أول الجزء الثالث عشر ، لأن تقسيم القرآن إلى الأجزاء الثلاثين قد لوحظ فيه مقادير الكلم العددى دون المعاني.
الإيضاح
(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) أي وما أبرئ نفسى من دعوى عدم خيانتى إياه بالغيب بعد أن وجهت إليه اقتراف الذنب وقلت : « ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ » ، وأودعته السجن وعرف الناس خاصتهم وعامتهم ذلك ، وكأنها بذلك تريد التنصّل مما كان.(13/3)
ج 13 ، ص : 4
(إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أي إن النفس البشرية لكثيرة الأمر بعمل السوء ، لما فيها من دواعى الشهوات الجسمية والأهواء النفسية ، بما ركب فيها من القوى والآلات لتحصيل اللذات ، وما يوسوس الشيطان ويزيّنه لها من النزغات ، ومن ذلك أن حرّضت زوجى على سجن يوسف وقد كان ذلك مما يسوءه ، فالعفيف النزيه لا يرضى أن يزنّ بالريبة كما يسوء زوجى ، إذ لا يرضى أن يكون عرضه مضغة للأفواه ، وحديث الناس فى أنديتهم وأسمارهم.
(إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) أي إلا نفسا رحمها ربى فصرف عنها السوء والفحشاء بعصمته كنفس يوسف عليه السلام.
ثم عللت ما سلف بقولها :
(إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن ربى عظيم المغفرة ، فيغفر ما يعترى النفوس بمقتضى طباعها ، إذ ركب فيها الشهوات الجسمية والأهواء النفسية.
تولية يوسف رئيسا لحكومة مصر
وما وقع لإخوته معه حينئذ
[سورة يوسف (12) : الآيات 54 الى 55]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
المعنى الجملي
بعد انتهاء التحقيق فى أمر النسوة وظهور براءة يوسف من كل سوء ، طلب الملك إحضاره إليه من السجن بعد أن وفّى له بما اشترط لمجيئه - فلما جاءه وسمع كلامه فهم من فحوى حديثه ، ومن أمانته على مال العزيز وعرضه وحسن تصرفه ، ومن سيرته الحسنة(13/4)
ج 13 ، ص : 5
فى السجن ، ومن علمه وفهمه فى تأويله للرؤيا ، ومن حرصه على إظهار شرفه وكرامته فى مسألة النسوة ما دل على أنه أهل لأن يرفع إلى أعلى المراتب ، ويولّى أسمى المناصب وذلك هو ما فعله الملك لحصافة رأيه وبصره بأقدار الرجال ، ولم يصرفه عن ذلك كونه غريبا أو فقيرا أو مملوكا ، كما تشير إلى ذلك الآيتان.
الإيضاح
(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أي وقال الملك أحضروه من السجن إلىّ بعد أن وفيت له بما طلب : أجعله خالصا لى وموضع ثقتى ، فلا يشاركه أحد فى إدارة ملكى ولا تكون وساطة بينه وبينى. وقد جرت عادة الملوك أن يجعلوا الأشياء النفيسة خالصة لهم دون غيرهم ، قال ابن عباس : إن الرسول أتاه فقال ألق عنك ثياب السجن ، والبس ثيابا جددا ، وقم إلى الملك ، فدعا له أهل السجن ودعا لهم وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فلما أتاه رآه غلاما حدثا ، فقال أ يعلم هذا رؤياى ولم يعلمها السحرة والكهنة ؟ وأقعده قدامه ، وقال لا تخف وألبسه طوقا من ذهب وثيابا من حرير وأعطاه دابة مسرجة مزيّنة كدابة الملك وضرب الطبل بمصر - إن يوسف خليفة الملك.
(فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ : إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) أي فأتوه به فلما كلمه وسمع ما أجاب به ، قال له إنك لدينا ذو مكانة سامية ، ومنزلة عالية ، وأمانة تامة ، فأنت غير منازع فى تصرفك ، ولا متهم فى أمانتك.
وفى هذا إيماء إلى أن الحوار بين المتخاطبين يظهر معارف الإنسان وأخلاقه ، وآدابه وجميع شمائله ، فيقدره من يعرف أقدار الرجال ويزنهم بفضائلهم ومزاياهم.
والظاهر أن الملك كلمه مشافهة بدون ترجمان ، لأن يوسف كان قد عرف اللغة المصرية من العزيز وامرأته بمحادثته إياهما ومع حاشية الوزير من حين قدم مصر ، ومن محادثته صاحبيه فى السجن.
وقد تكون اللغة التي كان يتكلم بها يوسف لغة جده إبراهيم وأولاده وحفدته وكانوا من العرب القحطانيين ثم تفرعت من هذه العربية الإسماعيلية فالمصرية والعبرانية(13/5)
ج 13 ، ص : 6
والسريانية ، وكان ملوك مصر وكبراء حكامها فى ذلك العهد من أولئك العرب وهم الذين يسمون بالرعاة (الهكسوس).
ويقول المؤرخون إن ملك مصر فى ذلك العهد كان يسمى الوليد بن الريان.
(قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) الخزائن واحدها خزانة وهى ما تخزن فيه غلات الأرض ونحوها ، أي قال ولّنى خزائن أرضك كلها ، واجعلنى مشرفا عليها ، لأنقذ البلاد من مجاعة مقبلة عليها تهلك الحرث والنسل.
ثم ذكر سبب طلبه فقال :
(إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) أي إنى شديد الحفظ لما يخزن فيها ، فلا يضيع منه شىء ، أو يوضع فى غير موضعه ، عليم بوجوه تصريفه وحسن الانتفاع به.
وقد طلب إدارة الأمور المالية ، لأن سياسة الملك وتنمية العمران وإقامة العدل فيه تتوقف عليها ، وقد كان مضطرا إلى تزكية نفسه فى ذلك حتى يثق به الملك ويركن إليه فى تولية هذه المهامّ.
وما أضاع كثيرا من الممالك الشرقية فى القرون الأخيرة إلا الجهل والتقصير فى النظام المالى وتدبير الثروة وحفظها فى الدولة والأمة.
روى أن الملك لما كلمه وقص عليه رؤياه وعبرها له ، قال ما ترى أيها الصدّيق ؟
قال تزرع فى سنى الخصب زرعا كثيرا وتبنى الخزائن وتجمع فيها الطعام بقصبه وسنبله فإنه أبقى له ، ويكون القصب علفا للدواب ، فإذا جاءت السنون العجاف بعت ذلك فيحصل لك مال عظيم ، فقال الملك ومن لى بهذا ومن يجمعه ويبيعه لى ويكفينى العمل فيه ؟ قال اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم.
[سورة يوسف (12) : الآيات 56 الى 57]
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)(13/6)
ج 13 ، ص : 7
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه إجابة الملك له بأنه أصبح لديه مكينا أمينا وطلب يوسف منه أن يجعله على خزائن الأرض يصرفها بحسب ما يرى من التدبير والنظام والدّراية والإحكام.
ذكر هنا أنه أجابه إلى مطلبه وجعله وزيرا فى دولته يتصرف فى شئونها لحسن تدبيره وثاقب رأيه ، وذلك جار على سنن اللّه فى خلقه ، فلن ينال الرياسات العليا ، والمناصب الرفيعة ، إلا من يؤتيه اللّه من المواهب ما يجعله قادرا على ضبط الأعمال وإقامة النظام وحسن السياسة والكياسة فى تصريف الأمور.
الإيضاح
(وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) أي ومثل هذا التمكين الذي سلف ذكر أسبابه ومقدماته ، فقد ذكرنا أن إخوة يوسف لو لم يحسدوه ما ألقوه فى غيابة الجب ، ولو لم يلقوه لما وصل إلى عزيز مصر ، ولو لم يعتقد العزيز بفراسته وأمانته وصدقه لما أمّنه على بيته وماله وأهله ، ولو لم تراوده امرأة العزيز عن نفسه ويستعصم لما ظهرت نزاهته وعرف أمرها ، ولو لم تخبّ فى كيدها وكيد صواحباتها ما ألقي فى السجن لإخفاء هذا الأمر ، ولو لم يسجن لما عرفه ساقى الملك وعرف علمه وفضله وصدقه فى تعبير الرؤيا ، ولو لم يعرف ذلك منه الساقي ما عرفه ملك مصر ولم يجعله على خزائن الأرض ، فما من حلقة من هذه السلسلة إلا كانت متممة لما بعدها ، وبإذن اللّه كانت سببا للوصول إلى ما يليها ، فكلها فى بدايتها كانت شرا وخسرا ، وفى عاقبتها فوزا ونصرا مبينا ، ومهدت للتمكين لدى ملك مصر.
فكما مكّن له فى ذلك مكن له فى أرض مصر ، وقد جىء به مملوكا فأصبح مالكا ذا نفوذ وأمر ونهى لا ينازعه منازع فيما يراه ويختاره ، وصار الملك يصدر عن رأيه ولا يعترض عليه فيما يرى بما أعده اللّه تعالى له من تحلية بالصبر واحتمال الشدائد ، والأمانة والعفة وحسن التصرف والتدبير للأمور.(13/7)
ج 13 ، ص : 8
(نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) أي نخص برحمتنا من إعطاء الملك والرياسة والغنى والصحة ونحوها من نشاء من عبادنا ، بمقتضى ما وضعنا من السنن فى الأسباب الكسبية مع موافقتها للأحداث الكونية ، ومراعاة النظم الاجتماعية ، والفضائل الخلقية.
(وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي ولا نضيع أجر من أحسنوا فى أعمالهم بشكران هذه النعم ، بل نأجرهم عليها سعادة وهناءة ، وقد بذلنا تلك النعم لمن يطلبها متى أتى الأمور من أبوابها ، وسار على مقتضى السنن التي وضعناها.
أما من يسيئون التصرف فيها فتصيبهم المنغّصات ، وتتوالى عليهم المكدّرات فالمسرفون لا يلبثون أن ينالهم الفقر والعدم ، والظالمون يثيرون أضغان المظلومين ، وذوو الخيلاء والبطر يكونون محتقرين ، وقلما يصيب المحسنين الشاكرين من ذلك شىء وإن نالهم منه شىء يكن هيّنا عليهم وهم عليه صبر.
وفى الآية إيماء إلى أنه ما أضاع صبر يوسف على أذى إخوته وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز بل كان جزاؤه ما مكّن له فى الأرض ولدي ملك مصر :
(وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي إن أجر الآخرة وهو نعيمها يكون للمؤمنين المتقين ، وهو خير لهم من أجر الدنيا لأهلها وإن بلغوا سلطان الملك ، فإنّ ما أعده لأولئك ليتضاءل أمامه كل ما فيها من مال وجاه وزينة ، ولا شبهة فى أن من يجمعون بين السعادتين يكون فضل اللّه عليهم أعظم ، إذ هم أعطوا حقها من الشكر وقاموا بما يجب عليهم نحو خالقهم من طاعته وترك معصيته.
روى الشيخان عن أبى صالح عن أبى هريرة قال : « قال فقراء المهاجرين للنبى صلى اللّه عليه وسلم يا رسول اللّه ذهب أهل الدثور (واحدها دثر بالفتح : المال الكثير) بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، قال ما ذاك ؟ قالوا يصلّون كما نصلى ويصومون كما نصوم ويتصدقون كما نتصدق ويعتقون ولا نعتق ، قال صلى اللّه عليه وسلم : أ فلا أعلمكم شيئا تدركون به من سقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم ، إلا من(13/8)
ج 13 ، ص : 9
صنع مثلكم ؟ قالوا بلى يا رسول اللّه قال : تسبّحون وتكبّرون وتحمدون اللّه دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة » قال أبو صالح : فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ » .
[سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 62]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
تفسير المفردات
المعرفة والعرفان : معرفة الشيء بتفكر فى أثره ، وضده الإنكار ، وجهزهم : أي أوقر ركائبهم بما جاءوا لأجله ، وجهاز السفر : أهبته وما يحتاج إليه فى قطع المسافة ، ومثله جهاز الميت والعروس (بالكسر والفتح وبهما قرئ) أو فى الشيء : جعله وافيا تاما ، المنزلين : أي المضيفين للضيوف ، نراود : أي نخادع ونستميل برفق ، لفاعلون :
أي لقادرون على ذلك ، لفتيانه : أي غلمانه الكيالين ، بضاعتهم : أي التي اشتروا بها الطعام وكانت نعالا وأدما ، والبضاعة : المال الذي يستعمل للتجارة ، والرحال : واحدها رحل : وهو ما يوضع على ظهر الدابة وفوقه متاع الراكب وغيره ، وانقلبوا : أي رجعوا.
المعنى الجملي
جاء فى سفر التكوين من التوراة أن يوسف عليه السلام حين ولى الوزارة طفق(13/9)
ج 13 ، ص : 10
يعد العدة ويأخذ الأهبة لتنفيذ التدابير التي بقي بها البلاد من خطر المجاعة التي جاءت فى تأويل رؤياه للملك ، وكان من ذلك أن بنى الأهراء العظيمة وخزن فيها الحبوب التي استكثر منها مدة سنى الخصب السبع الأولى ، فلما جاءت السبع الشداد وعم القحط مصر وغيرها من الأقطار القريبة منها ولا سيما أقربها إليها وهى فلسطين من بلاد الشام ، واشتهر لدى أهلها ما فعله يوسف فى مصر من حسن التدبير حتى كثرت فيها الغلال وأصبح يبيع ما زاد على حاجة أهلها للأقطار المجاورة لها أمر يعقوب عليه السلام أولاده أن يرحلوا إلى مصر ويأخذوا معهم ما يوجد فى بلادهم من بضاعة ونقد فضة ويشتروا به قمحا لأن المجاعة أو شكت أن تقضى عليهم فنفّذوا ما أراد وكان بينهم وبين يوسف ما قصه اللّه علينا في كتابه الكريم.
الإيضاح
(جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) ممتارين حين أصاب أرض كنعان وبلاد الشام ما أصاب مصر ، وكان قد حل بآل يعقوب ما حل بأهلها فدعا أبناءه ما عدا بنيامين فقال لهم يا بنى قد بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا إليه واقصدوه واشتروا منه ما تحتاجون إليه فخرجوا حتى قدموا مصر.
(فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) وهو فى مجلس ولايته ، لأن أمر الميرة وشراء الغلال كان بيده ورهن أمره.
(فَعَرَفَهُمْ) حين دخلوا عليه بلا تردد ، إذ كان عددهم وشكلهم وزيّهم لا يزال عالقا بخياله لنشوئه بينهم ولا سيما ما قاساه منهم فى آخر عهده بهم ، وربما كان عمال يوسف وعبيده قد سألوهم عن أمرهم قبل أن يدخلوهم عليه وأخبروه بأوصافهم والبيئة التي رحلوا منها.
(وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) لنسيانهم له بطول العهد ، وتغير شكله بدخوله فى سن الكهولة ولما كان عليه من عظمة الملك وزيّه وشارته ، وما كان من حاجتهم إلى برّه وعطفه.(13/10)
ج 13 ، ص : 11
فكل أولئك مما يحول دون التثبت من معارف وجهه ، ولا سيما أنهم كانوا يظنون أنه قد هلك أو طوّحت به طوائح الأيام ، ولو كانوا قد فطنوا لبعض ملامحه وتذكروه بها لربما عدوه مما يتشابه فيه بعض الناس ببعض العادات ، وبخاصة أنه لم يكن يدور بخلدهم أن أخاهم قد وصل إلى ذلك المركز السامي.
(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أي ولما أوقر ركائبهم بما جاءوا لأجله من الميرة والطعام وجهزهم بما سوى ذلك من الزاد وبما يحتاج إليه المسافرون عادة على قدر طاقتهم وبيئتهم.
(قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) هو شقيقه بنيامين ، وسبب ذلك أن يوسف ما كان يعطى لأحد إلا حمل بعير ، وقد كان إخوته عشرة فأعطاهم عشرة أحمال فقالوا إن لنا أبا شيخا كبيرا وأخا آخر بقي معه ، وإن أباهم لتقدم السن به وشدة حزنه لا يستطيع الحضور ، وإن أخاهم بقي فى خدمة أبيه ، ولا بد لهما من شىء من الطعام فجهز لهما بعيرين آخرين ، وقال لهم جيئونى بأخيكم لأراه.
وفى سفر التكوين أنه كان استنبأهم عن أنفسهم متنكرا لهم ، إذ عرفهم ولم يعرفوه واتهمهم بأنهم جواسيس جاءوا ليروا عورة البلاد ، فأنكروا ذلك وأخبروه خبرهم ، فقالوا نحن عبيدك اثنا عشر أخا ونحن بنو رجل واحد فى أرض كنعان ، وهذا الصغير عند أبينا اليوم ، والواحد مفقود ، فقال لهم يوسف ، ذلك ما كلمتكم به قائلا ، جواسيس أنتم ، بهذا تمتحنون ، وحياة فرعون لا تخرجون من هنا إلا بمجىء أخيكم الصغير إلى هنا. فدعوا رهينا عندى وأتونى بأخيكم من أبيكم ، فاقترعوا فأصابت القرعة شمعون فخلفوه عنده. ثم أمر يوسف أن تملأ أوعيتهم قمحا وترد فضة كل واحد إلى عدله وأن يعطوا زادا للطريق ، ففعل لهم هكذا اه.
(أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أي أتمه ولا أبخسه وأزيدكم حمل بعير لأجل أخيكم.
(وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) أي وأنا على هذا خير المضيفين لضيوفه ، فقد أحسن ضيافتهم وجهزهم بالزاد الكافي لهم مدة سفرهم ومن هذا يعلم أن رواية اتهامهم بالتجسس ضعيفة على كونها لا تليق بمن دون الصديق النبي وهو يعلم بطلانها ، إلا أن تكون ذريعة لغرض صحيح كاتهامهم بالسرقة.(13/11)
ج 13 ، ص : 12
(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) أي فإذا عدتم تمتارون لأهلكم ولم يكن معكم منعتم من الكيل فى بلادي فضلا عن إيفائه وإكماله الذي كان لكم بأمرى.
(وَلا تَقْرَبُونِ) أي ولا تقربونى بدخول بلادي فضلا عن الإحسان فى الإنزال والضيافة.
وفى ذلك إيماء إلى أنهم كانوا على نية الامتيار مرة بعد أخرى ، وأن ذلك كان معلوما عليه السلام ، والظاهر أن ما فعله معهم كان بوحي ، وإلا فالبرّ كان يقتضى أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه ، ولعل اللّه أراد تكميل أجر يعقوب فى محنته ، وهو الفعال لما يريد فى خلقه.
(قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي سنجتهد ونختال على أن ننزعه من يده ونحوّله عن إرادته فى إبقائه عنده إلى إرادتنا وإرادتك ، ونقنعه بإرساله معنا كما تحب.
(وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) ذلك لا محالة ولا نتوانى فيه.
(وَقالَ لِفِتْيانِهِ) أي غلمانه الكيالين.
(اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) أي اجعلوا بضاعتهم التي اشتروا بها الطعام ، وكانت نعالا وجلودا ، فى أمتعتهم من حيث لا يشعرون :
(لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ) أي لكى يعرفوا لنا حق إكرامهم بإعادتها إليهم وجعل ما أعطيناهم من الغلة مجانا بلا ثمن ، إذا هم رجعوا إلى أهلهم وفتحوا متاعهم فوجدوها فيه.
ثم علل معرفتهم للبضاعة المردودة إليهم بقوله :
(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلينا طمعا فى برنا ، فإن العوز إلى القوت من أقوى الدواعي إلى الرجوع :
[سورة يوسف (12) : الآيات 63 الى 64]
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)(13/12)
ج 13 ، ص : 13
الإيضاح
(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) أي قالوا حين رجوعهم إلى أبيهم : إن عزيز مصر أصدر أمره بمنع الكيل لنا فى المستقبل إن لم نحضر معنا أخانا بنيامين فقال : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي).
(فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) من الطعام ما نحتاج إليه بقدر عددنا ونكون قد وفّينا له بما شرط علينا ، والعرب تقول كلت له الطعام إذا أعطيته ، واكتلت منه وعليه إذا أخذت منه أو توليت الكيل بنفسك.
(وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) فى ذهابه وإيابه ، فلا يناله مكروه تخافه ، وكأنهم كانوا يعتقدون أن أباهم لا بد أن يرفض إجابتهم خوفا عليه من أن يحدث له مثل ما حدث ليوسف بدافع الحسد من قبل ، فكان جوابه لهم ما حكى اللّه سبحانه عنه.
(قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) أي هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل ، تغيّبونه عنى وتحولون بينى وبينه ، وقد قلتم مثل هذا الكلام فى يوسف إذ ضمنتم حفظه وقلتم (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ثم خنتم فى عهدكم وكذبتم فأضعتم يوسف ، فأنتم لا يوثق لكم بوعد ، ولا يطمأنّ منكم إلى عهد ، فما أشبه الليلة بالبارحة.
(فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً) أي فأنا أتوكل على اللّه فى حفظ بنيامين لا على حفظكم.
(وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فأرجو أن يرحمنى بحفظه ، ولا يبتلينى بفقده ، كما ابتلاني من قبل يفقد أخيه يوسف ، فرحمته واسعة ، وفضله عظيم.
وهذا كما ترى ، فيه ميل منه إلى الإذن والإرسال ، لما رأى من شدة الحاجة إلى ذلك ، ولأنه لم ير فيما بينهم وبين بنيامين من الحقد والحسد مثل ما شاهد بينهم وبين يوسف ، وفيه من التوكل على اللّه ما لا خفاء فيه.(13/13)
ج 13 ، ص : 14
[سورة يوسف (12) : الآيات 65 الى 66]
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
تفسير المفردات
المتاع : ما ينتفع به والمراد هنا وعاء الطعام ، والبضاعة : ثمن ما كانوا أعطوه من الطعام ، ونمير أهلنا : أي نجلب لهم الميرة (بالكسر) وهى الطعام يجلبه الإنسان من بلد إلى بلد ، كيل بعير : أي حمل جمل ، فكيل بمعنى مكيل ، ويسير : أي قليل لا يكثر على سخائه كما جاء فى قوله : « وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً » أو سهل لا عسر فيه كما فى قوله : « وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً » والموثق : العهد الموثّق ، إلا أن يحاط بكم :
أي إلا أن تغلبوا على أمركم ، أو إلا أن تهلكوا ، فإن من يحيط به العدو يهلك غالبا ، وكيل : أي مطلع رقيب ، فإن الموكّل بالأمر يراقبه ويحفظه.
الإيضاح
(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) أي ولما فتحوا أوعية طعامهم وجدوا فيها ما كان أعطوه من بضاعة ونقد ثمنا لما اشتروه من الطعام ، إذ أن يوسف أمر فتيانه أن يضعوها فى رحالهم وهم لا يعلمون ذلك.
(قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي ؟ ) أي ماذا نطلب وراء ما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الذي يوجب علينا امتثال أمره ومراجعته فى الحوائج ، وقد كانوا حدّثوا أباهم(13/14)
ج 13 ، ص : 15
بذلك على ما روى أنهم قالوا له إنا قدمنا على خير رجل وقد أنزلنا خير منزل وأكرم وفادتنا ولو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته.
ثم أكدوا صدق كلامهم بقولهم :
(هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) أي إن ما نقول فى وصفه ، ومزيد إحسانه ولطفه ، لنا من شواهد الحال ما هو دليل عليه ، فهذه بضاعتنا ردت إلينا تفضلا منه بعد أن أثقل كواهلنا بعظيم مننه وجميل عطفه.
وهم بهذا يؤمنون إلى أن ذلك كاف فى وجوب امتثال أمره والالتجاء إليه طلبا للمزيد من فضله ، فكل ما جئنا به على غلائه وعظم قيمته هو هبة منه وتفضل علينا.
(وَنَمِيرُ أَهْلَنا) أي فنحن ننتفع ببضاعتنا ونمير أهلنا بما نجلبه لهم من الميرة من مصر بلا ثمن.
(وَنَحْفَظُ أَخانا) بعنايتنا جميعا به ، على أننا لا نخشى شيئا من المخاوف التي تغلبنا عليه.
(وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) أي ونزيد على ما نأخذ لأنفسنا حمل جمل يكال لأخينا ، لأن يوسف كان يكيل لكل رجل حمل بعير اقتصادا فى الطعام ، فإذا حضر بنيامين زاد حملا له.
(ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي إن حمل البعير كيل سهل لا عسر فيه على ذلك المحسن الجواد ، أو هو قليل لا يكثر على سخائه وجوده ولا يشق عليه.
(قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ) أي لن أرسله معكم حتى تعطونى عهدا موثّقا بتأكيده بإشهاد اللّه عليه بالقسم به.
(لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) أي حتى تحلفوا باللّه لترجعنّ به على كل حال تعرض لكم ، إلا أن تهلكوا فيكون ذلك عندى عذرا على نحو ما جاء فى قوله :
«
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ » وقوله : « وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ » وقد يكون المعنى - إلا أن تغلبوا على أمركم وتقهروا فلا تقدرون على الرجوع ..(13/15)
ج 13 ، ص : 16
(فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي فلما أعطوه العهد الموثق الذي اشترطه عليهم ، قال : اللّه شهيد على ما قاله واشترطه ، وعلى ما أجابوه به : أي إنه سبحانه رقيب عليه وأمره موكول إليه ، فهو الذي يوفق للوفاء بالوعد والصدق فيما أعطوه من عهد.
[سورة يوسف (12) : الآيات 67 الى 68]
وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68)
الإيضاح
(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) أي وقال لهم يا بنى لا تدخلوا على هذا الوزير الكريم من باب واحد من أبواب الوصول إليه ، بل ادخلوا عليه متفرقين من أبواب متعددة ، لتروا بأعينكم ما يكون من تأثير كل طائفة منكم فى نفسه وما يظهر على أسارير وجهه وحركات عينيه حين رؤية شقيقه يدخل عليه مع طائفته ، إذ لا يعلم هذا إذا دخلوا عليه كلهم جماعة واحدة.
وقد يكون المراد لا تدخلوا عليه مجتمعين فيحسدكم الحاسدون أو يكيد لكم الكائدون ، فإذا حل بكم مكروه خشيت أن يصيبكم جميعا.
(وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ) أي وما أدفع عنكم بتدبيري من قضاء اللّه شيئا ، إذ لا يغنى حذر من قدر ، وهو لا يريد إلغاء الحذر بتاتا ، فإنه تعالى أمر به وقال « خُذُوا حِذْرَكُمْ » بل يريد أن هذا التدبير إنما هو تشبث بالأسباب العادية التي(13/16)
ج 13 ، ص : 17
لا تؤثر إلا بإذن اللّه تعالى ، وأن ذلك ليس بدافع للقدر بل هو استعانة باللّه تعالى وهرب منه إليه.
(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ما الحكم فى تدبير العالم ونظم الأسباب والمسببات إلا للّه وحده.
(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي عليه دون غيره ، ودون حولى وقوتى اعتمدت فى كل ما آتى وأذر.
وفى هذا إيماء إلى أنّ الأخذ فى الأسباب ومراعاة اتباعها لا ينافى التوكل ،
وقد جاء فى الخبر « اعقلها وتوكل » .
(وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) لا على أمثالهم من المخلوقين ولا على أنفسهم.
فعلى كل مؤمن أن يتخذ لكل أمر يقدم على عمله العدّة ، ويهيئ من الأسباب ما يوصل إليه على قدر طاقته ، ثم بعد ذلك يكل أمر النجاح فيه إلى اللّه ويطلب منه التوفيق والمعونة فى إنجازه ، فقد يكون من الأسباب ما يخفى عليه أو ما لا تصل إليه يده.
(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) وهى الأبواب المتفرقة.
(ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ) أي ما كان دخولهم على هذا النهج يدفع عنهم شيئا من المكروه الذي يحول دون رجوعهم ببنيامين ، ونسبتهم إلى السرقة ، وتضاعف المصيبة على يعقوب.
(إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) أي إن يعقوب كان عليما بأن الحذر لا يغنى من القدر ، ولكن كانت هناك حاجة تدور بخلده ، ما أراد أن يكاشف بها أحدا منهم وهى وراء الأسباب العادية فى الاحتياط بسلامة بنيامين والعودة به ، قضاها بوصيته لأولاده من حيث لا يفطنون لها ، وهى خوفه عليهم من العين ومن أن ينالهم مكروه من قبل ذلك.
(وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) أي وإنه لذو علم خاص به وبأمثاله من الأنبياء ، لما أعطيناه من علم الوحى وتأويل الرؤيا الصادقة ، واعتقاده أن الإنسان يجب عليه(13/17)
ج 13 ، ص : 18
فى كل أمر يحاوله أن يتخذ له من الأسباب ما يصل به إلى غرضه ويبلغ به إلى غايته ، ثم يتوكل بعد ذلك على اللّه فى تسخير ما لم يصل إليه علمه مما لا تتم المقاصد بدونه.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن الواجب الجمع بين أخذ العدة والسعى فى تحقيق الأسباب الصحيحة الموصلة إلى المراد ، وبين الاتكال على اللّه وهو ما فعله يعقوب عليه السلام ، ولا يكفى تحقق الأسباب وحدها للحصول عليه.
[سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 76]
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73)
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
تفسير المفردات
آوى إليه : أي ضم إليه ، والابتئاس : اجتلاب البؤس والشقاء ، والسقاية (بالكسر) وعاء يسقى به ، وبه كان يكال للناس الطعام ويقدر بكيلة مصرية 1/ 12(13/18)
ج 13 ، ص : 19
من الإردب المصري ، وهو الذي عبر عنه بصواع الملك ، وأذن مؤذن : أي نادى مناد ، من التأذين وهو تكرار الأذان والإعلام بالشيء الذي تدركه الأذن ، والعير : الإبل التي عليها الأحمال والمراد أصحابها ، زعيم : كفيل أجعله جزاء لمن يجىء به ، الكيد :
التدبير الذي يخفى ظاهره على المتعاملين به حتى يؤدى إلى باطنه المراد منه ، ودين الملك :
شرعه الذي يدين اللّه تعالى به.
الإيضاح
(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) أي ولما دخلوا عليه فى مجلسه الخاصّ بعد دخولهم باحة القصر من حيث أمرهم أبوهم ، ضم إليه أخاه الشقيق بنيامين ، وقد حصل ما كان يتوقع يعقوب أو فوق ما كان يتوقع من الحدب عليه والعناية التي خصه بها.
(قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) يوسف الذي فقد تموه صغيرا.
(فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فلا يلحقنك بعد الآن بؤس أي مكروه ولا شدة بسبب ما كانوا يعملون من الجفاء وسوء المعاملة بحسدهم لى ولك.
روى أنهم قالوا له : هذا أخونا قد جئناك به ، فقال لهم أحسنتم وأصبتم ، وستجدون أجر ذلك عندى ، فأنزلهم وأكرمهم ، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقى بنيامين وحده فبكى وقال لو كان أخى يوسف حيا لأجلسنى معه ، فقال يوسف بقي أخوكم وحيدا ، فأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكله ، وقال أنتم عشرة فلينزل كل اثنين منكم بيتا (حجرة) وهذا لاثانى له فيكون معى ، فبات يوسف يضمه إليه ويشمّ رائحته حتى أصبح وسأله عن ولده ، فقال لى عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لى هلك فقال له : أ تحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك ؟ قال من يجد أخا مثلك ؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له : إنى أنا أخوك إلخ.(13/19)
ج 13 ، ص : 20
(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) أي فلما قضى لهم حاجتهم ووفاهم كيلهم جعل الإناء الذي يكيل به الطعام فى رحل أخيه.
وفى قوله : جعل السقاية ، إيماء إلى أنه وضعها بيده ولم يكل ذلك إلى أحد من فتيانه كتجهيزهم الأول والثاني لئلا يطلعوا على مكيدته.
(ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) أي وقد افتقد فتيانه السقاية ، لأنها الصواع الذي يكيلون به للممتارين فلم يجدوها ، فأذن مؤذنهم بذلك أي كرر النداء به كدأب الذين ينشدون المفقود فى كل زمان ومكان قائلا :
(أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) أي يا أصحاب العير قد ثبت عندنا أنكم سارقون ، فلا ترحلوا حتى ننظر فى أمركم.
(قالُوا : وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ ؟ ) أي قال إخوة يوسف للمؤذن ومن معه :
أي شىء تفقدون ، وما الذي ضل عنكم فلم تجدوه ؟ .
(قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) أي نفقد الصواع الذي عليه شارة الملك.
(وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) أي ولمن أتى به حمل جمل من القمح ، وفى هذا دليل على أن عيرهم كانت الإبل لا الحمير.
(وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أي قال المؤذن وأنا كفيل بحمل البعير ، أجعله حلوانا لمن يحىء به ، سواء أ كان مفقودا أم جاء به غير سارقه.
(قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) أي قالوا لقد علمتم بما خبرتموه من أمرنا وسيرتنا من حين مجيئنا فى امتيارنا الأول وحين عودتنا إذ رددنا بضاعتنا التي ردت إلينا مع غيرها ، أننا ما جئنا لنفسد فى أرض مصر بسرقة ولا غيرها مما فيه تعدّ على حقوق الناس.
(قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) أي قال فتيان يوسف لهم فما جزاء سارقه إن كنتم كاذبين فى جحودكم للسرق وادعائكم البراءة والنزاهة ؟ .(13/20)
ج 13 ، ص : 21
(قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) أي جزاؤه أخذ من وجد فى رحله وظهر أنه هو السارق له وجعله عبدا لصاحبه ، وقوله :
(فَهُوَ جَزاؤُهُ) تقرير للحكم السابق وتأكيد له بإعادته ، كما تقول حق الضيف أن يكرم ، فهو حقه ، والقصد من الأول إفادة الحكم ، ومن الثاني إفادة أن ذلك هو الحق الواجب فى مثل هذا ، وقد كان الحكم فى شرع يعقوب أن يسترقّ السارق سنة.
(كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي مثل هذا الجزاء الأوفى نجزى الظالمين للناس بسرقة أمتعتهم وأموالهم فى شريعتنا ، فنحن أشد الناس عقابا للسراق.
وهذا تأكيد منهم بعد تأكيد لثقتهم ببراءة أنفسهم.
(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) أي فبدأ يوسف بتفتيش أوعيتهم التي تشتمل عليها رحالهم ابتعادا عن الشبهة وظن التهمة بطريق الحيلة.
(ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) أي ثم إنه بعد أن فرغ من تفتيش أوعيتهم فتش وعاء أخيه فأخرج السقاية منه.
(كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي مثل هذا الكيد والتدبير الخفىّ كدنا ليوسف ، وألهمناه إياه ، وأوحينا إليه أن يفعله.
ذلك أن الحكمة الإلهية اقتضت تربية إخوة يوسف وعقابهم بما فرطوا فى يوسف واستحقاقهم إتمام النعمة عليهم يتوقف على أخذه بطريق لا جبر فيه ولا تقتضيه شريعة الملك ، وبه يذوقون ألم فراق بنيامين ومرارته ، فيما لا لوم فيه على أحد غير أنفسهم ، ولن يكون هذا الحكم منهم إلا بوقوع شبهة السرقة على بنيامين من حيث لا يؤذيه ذلك ولا يؤلمه ، وقد أعلمه أخوه يوسف به وبغايته. وفى هذا إيماء إلى جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما ظاهره الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف شرعا ثابتا.
ثم علل ما صنعه اللّه من الكيد ليوسف بقوله :
(ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي وما كان له ولا مما تبيحه أمانته لملك مصر أن يخالف شرعه الذي فوض له الحكم به وهو لا يبيح استرقاق السارق ، فما كان(13/21)
ج 13 ، ص : 22
بالميسور له أخذ أخيه من إخوته ومنعه من الرحيل معهم إلا بحكمهم على أنفسهم بشريعة يعقوب التي تبيح ذلك.
ولما كانت هذه الوسيلة إلى تلك الغاية الشريفة منكرة بحسب الظاهر ، لأنها تهمة باطلة ، وكان من شأن يوسف أن يتباعد عنها ويتحاماها إلا بوحي من اللّه - بين أنه فعل ذلك بإذن اللّه ومشيئته فقال :
(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أي إنه فعل ذلك بإذن اللّه ووحيه ، لا أنه هو الذي اخترع هذه المكيدة.
(نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) أي نرفع من نشاء درجات كثيرة فى العلم والإيمان ونريه وجوه الصواب فى بلوغ المراد ، كما رفعنا درجات يوسف على إخوته فى كل شىء.
وفى هذا إيماء إلى أن العلم أشرف المقامات ، وأعلى الدرجات.
(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) أي وفوق كل عالم من هو أوسع إحاطة منه وأرفع درجة ، إلى أن يصل الأمر إلى من أحاط بكل شىء علما وهو فوق كل ذى علم.
وخلاصة ذلك - إن إخوة يوسف كانوا علماء إلا أن يوسف كان أعلم منهم.
[سورة يوسف (12) : الآيات 77 الى 79]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79)
الإيضاح
(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) أي قال إخوة يوسف ، إن(13/22)
ج 13 ، ص : 23
يسرق بنيامين فقد سرق أخوه يوسف من قبل ، فالسرقة جاءت وراثة من أمهما إذ هما لا ينفردان منا إلا بها. وفى قولهم هذا إيماء إلى أن الحسد لا يزال كامنا فى قلوبهم ، لاختلاف الأمهات ، ولمزيد محبة الأب لهما.
وأصح ما قيل فى سرقة يوسف مارواه ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا قال :
سرق يوسف عليه السلام صنما لجده أبى أمه من ذهب وفضة فكسره وألقاه فى الطريق فعيره بذلك إخوته.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كان أول ما دخل على يوسف عليه السلام من البلاء فيما بلغني أن عمته وكانت أكبر ولد إسحاق عليه السلام وكانت إليها منطقة إسحاق إذ كانوا يتوارثونها بالكبر ، وكان يعقوب حين ولد له يوسف عليه السلام قد حضنته عمته فكان معها ، فلم يحب أحد شيئا من الأشياء كحبها إياه حتى إذا ترعرع ووقعت نفس يعقوب عليه السلام عليه فأتاها فقال يا أخية سلمى إلىّ يوسف ، فو اللّه ما أقدر على أن يغيب عنى ساعة قالت : فو اللّه ما أنا بتاركته فدعه عندى أياما أنظر إليه ، لعل ذلك يسلينى عنه ، فلما خرج يعقوب من عندها عمدت إلى منطقة إسحاق عليه السلام فحزمتها على يوسف عليه السلام من تحت ثيابه ، ثم قالت فقدت منطقة إسحاق فانظروا من أخذها ومن أصابها ؟ فالتمست ثم قالت :
اكشفوا أهل البيت فكشفوهم فوجدوها مع يوسف عليه السلام ، فقالت واللّه إنه لسلم لى أصنع فيه ما شئت ، فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر فقال لها : أنت وذاك إن كان فعل فهو سلم لك ما أستطيع غير ذلك ، فأمسكته فما قدر عليه حتى ماتت.
وهذا هو الذي عناه إخوته بقولهم (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) وهذه الروايات لا يوثق بها كما لا يدل شيء منها على سرقة حقيقية.
(فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) أي فأضمر مقالتهم فى نفسه ولم يجبهم عنها.
(وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) أي ولم يؤاخذهم بها لا قولا ولا فعلا صفحا عنهم وحلما.(13/23)
ج 13 ، ص : 24
ثم فسر ما أسره بقوله :
(قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) أي قال فى نفسه أنتم شر فى مكانتكم ومنزلتكم ممن تعرضون به أو تفترون عليه ، إذ أنكم سرقتم من أبيكم أحب أولاده إليه وعرضتموه للهلاك ، والرق ، وقلتم لأبيكم قد أكله الذئب إلخ.
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أي واللّه أعلم منكم بما تصفونه به ، لأنه سبحانه هو العليم بحقائق الأشياء ، فيعلم كيف كانت سرقة الذي أحلتم سرقته عليه.
ثم أرادوا أن يستعطفوه ليطلق لهم أخاه بنيامين فيرجعوا به إلى أبيهم ، لأنه قد أخذ عليهم الميثاق بأن يردوه إليه.
(قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) طاعنا فى السن لا يكاد يستطيع فراقه وهو علالته التي يتعلل بها عن شقيقه الهالك ، أو هو كبير القدر جدير بالرعاية كما علمت مما سلف من قصصه ومن تعلقه به.
(فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) أي بدله فلسنا عنده بمنزلته فى المحبة والشفقة عنده.
ثم عللوا رجاءهم فى إجابته بقولهم :
(إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إلينا فى ميرتنا وضيافتنا وتجهيزنا ، فأتم إحسانك ، فما الإنعام إلا بالإتمام ، أو المعنى إن من عادتك الإحسان مطلقا ، فاجر على عادتك ولا تغيرها ، فنحن أحق الناس بذلك.
فأجابهم عن مقالتهم :
(قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) أي حاش للّه أن نأخذ إلا من وجدنا الصواع عنده ، لأنا قد أخذناه بفتواكم (مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) فلا يسوغ لنا أن نخلّ بموجبها.
ولم يقل إلا من سرق متاعنا اتقاء للكذب ، لأنه يعلم أنه ليس بسارق.
(إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) أي إنا إذا أخذنا غيره لظالمون من وجهين : مخالفة شرعكم ونص فتواكم ، ومخالفة شريعة الملك.(13/24)
ج 13 ، ص : 25
[سورة يوسف (12) : الآيات 80 الى 84]
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
تفسير المفردات
استيأسوا : أي يئسوا يأسا كاملا ، خلصوا : انفردوا عن الناس ، نجيا : أي متناجين متشاورين فيما يقولون لأبيهم ، كبيرهم : أي فى الرأى والعقل وهو يهوذا ، وموثقا : أي عهدا يوثق به وهو حلفكم باللّه ، فرطتم : قصرتم فى شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه ، أبرح : أفارق ، أمرا : أي كيدا آخر ، تولى : أعرض ، والأسف :
أشد الحزن والحسرة على ما فات ، كظيم : أي مملوء غيظا على أولاده ممسك له فى قلبه ، القرية : اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس وللناس جميعا ، ويستعمل فى كل واحد منهما قاله الراغب.
الإيضاح
(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) أي فلما استحكم اليأس فى أنفسهم من قبول العزيز لشفاعتهم واستعطافهم بعد أن أقام الحجة عليهم بشرعهم وفتواهم وأنه إن فعل(13/25)
ج 13 ، ص : 26
غيره يكون ظالما بمقتضى شريعتهم وشريعة ملك مصر - اعتزلوا الناس ولم يخالطوا أحدا ، وانفردوا للمناجاة والتشاور فى أمرهم.
وخلاصة ذلك - أن أولئك الإخوة العشرة بعد أن انتهى كبيرهم من استعطاف العزيز وعدم جدوى ما فعل ، غادر كل منهم رحله وانضم بعضهم إلى بعض وأدنى رأسه من رأسه وأرهفوا آذانهم للنجوى.
(قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ) أي قال كبيرهم عقلا ورأيا وهو يهوذا ، ألم تعلموا أيها القوم أن أباكم يعقوب قد أخذ عليكم عهد اللّه وميثاق لتردّنّه إليه إلا أن يحاط بكم ، وقد رأيتم كيف تعذر ذلك عليكم.
(وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) أي ومن قبل هذا قد قصرتم فى حفظ يوسف بعد وعدكم المؤكد بحفظه ، وكيف أن أباكم قد قاسى من أجله من الحزن ما قاسى.
(فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي) أي فلن أفارق أرض مصر حتى يأذن لى أبى بتركها والرجوع إليه وبنيامين فيها ، أو يحكم اللّه لى بامر من عنده مما هو غيب فى علمه ، كأن يترك العزيز لى أخى بإلهام منه تعالى أو بسبب آخر.
(وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأنه لا يحكم إلا بما هو الحق والعدل ، وهو المسخر للأسباب والمقدر للاقدار.
ثم أمرهم أن يقولوا لأبيهم ما يزيلون به التّهمة عن أنفسهم قال :
(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) صواع الملك فاسترقه وزيره العزيز القائم بالأمر فى مصر عملا بشريعتنا ، إذ نحن أنبأناه بها بعد أن استنبأنا إياها.
(وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) أي وما شهدنا عليه بالسرقة بسماع أو إشاعة أو تهمة بل ما شهدنا إلا بما علمنا ، إذ رأينا الصواع قد استخرج من متاعه.
(وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) فنعلم أنه سيسرق حين أعليناك المواثيق ، ولو كنا نعلم ذلك لما آتيناك العهد الموثق علينا.(13/26)
ج 13 ، ص : 27
(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) أي واسأل أهل القرية التي كنا نمتار فيها وهى مصر ، فقد اشتهر فيهم أمر هذه السرقة حتى لو سئلوا لشهدوا.
(وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) أي واسأل أصحاب العير الذين كانوا يمتارون معنا.
ثم أكدوا صدق مقالهم بقولهم :
(وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك به ، سواء أ سألت غيرنا أم لم تسأل ، إذ أن من عادتنا الصدق فلا نخبرك إلا به ولا نظنك فى مرية من هذا :
وبعد أن انتهى تعالى من سرد مقال كبيرهم عاد إلى ذكر مقال أبيهم فقال :
(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي فرجع الإخوة إلى أبيهم وقالوا له مالقنهم كبيرهم فلم يصدقهم فيما قالوا ، بل قال لهم بل زينت لكم أنفسكم كيدا آخر فنبذتموه ، ومما يقوّى ذلك عندى أنكم لقنتم هذا الرجل حكم شريعتنا وأفتيتموه به ، وليس ذلك من شريعته.
(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي فحالى على ما نالنى من فقده صبر جميل لا جزع فيه ولا شكاية لأحد ، بل أشكو إلى اللّه وحده وأعلق رجائى به.
(عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) أي أطلب من اللّه أن يرجع إلىّ يوسف وبنيامين والأخ الثالث الباقي بمصر ، وقد كان لديه إلهام بأن يوسف لم يمت وإن غاب عنه خبره.
(إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أي إنه العليم بوحدتى وفقدهم والحزن عليهم ، وله فينا حكمة بالغة ، وهو الحكيم فى أفعاله فيبتلى ويرفع البلاء على مقتضى سننه وحكمته فى تدبير خلقه ، وقد جرت سنته أن الشدة إذا تناهت جعل وراءها فرجا ، والمصيبة إذا عظمت جعل بعدها المخلص منها كما قال « فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً » .
(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم كراهة لما جاءوا به.
(وَ قالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) أي يا حزنى ويا حسرتى عليه أقبلى فهذا وقتك والحال(13/27)
ج 13 ، ص : 28
مقتضية لك ، فقد كنت أنتظر أن يأتونى من مصر ببشرى لقاء يوسف ، فخاب أملى وحل محله ذهاب ابني المسلّى عنه ، ولم يشرك معه بنيامين بالأسف عليه ، لأن مكان حب يوسف والرجاء فيه قد ملأ سويداء القلب وزواياه ، ومحل غيره دون ذلك.
(وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي أصابتهما غشاوة بيضاء غطت على البصر مع بقاء العصب الذي يدرك المبصرات سليما معافى ، قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا :
البياض المصحوب بضياع البصر غالبا معناه (الجلوكوما) والمعروف عند الاختصاصيين فى أمراض العيون أن أهم سبب لها هو التغيرات فى الأوعية الشعرية نتيجة لأسباب كثيرة ، من أهمها الانفعالات العصبية (كما يحدث فى زيادة ضغط الدم) لا سيما الحزن (الدكتور مار) اه.
(فَهُوَ كَظِيمٌ) أي مملوء غيظا على أولاده ، يردد حزنه فى جوفه ولا يتكلم بسوء والحزن عرض طبيعى للنفس ولا يذم شرعا إلا إذا بلغ بصاحبه أن يقول أو يفعل ما لا يرضى اللّه تعالى ، ومن ثم
قال النبي صلى اللّه عليه وسلّم عند موت ولده إبراهيم وقد جعلت عيناه تذر فان فقال له عبد الرحمن بن عوف وأنت يا رسول اللّه : « يا ابن عوف إنها رحمة » ثم أتبعها بأخرى فقال : « إن العين ، تدمع وإن القلب ليخشع ، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم محزون » رواه الشيخان وغيرهما.
وفى التفسير بالمأثور عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « إن داود عليه السلام قال : يا رب إن بنى إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فاجعلنى لهم رابعا ، فأوحى اللّه إليه أن : يا داود إن إبراهيم ألقى فى النار بسببى فصبر ، وتلك بلية لم تنلك ، وإن إسحاق بذل مهجة دمه بسببى فصبر ، وتلك بلية لم تنلك ، وإن يعقوب أخذ منه حبيبه فابيضّت عيناه من الحزن ، وتلك بلية لم تنلك »
قال الحافظ ابن كثير : وهذا حديث مرسل وفيه نكارة ، فإن الصحيح أن إسماعيل هو الذبيح اه(13/28)
ج 13 ، ص : 29
[سورة يوسف (12) : الآيات 85 الى 87]
قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)
تفسير المفردات
تفتأ : أي لا تفتأ بمعنى لا تزال. والحرض : المرض المشفى على الهلاك ، من الهالكين : أي الميتين ، البث فى الأصل : إثارة الشيء وتفريقه كبث الريح التراب ، ثم استعمل فى إظهار ما انطوت عليه النفس من الغم أو السر ، وتحسسوا : أي تعرفوا أخبار يوسف بحواسكم من سمع وبصر ، والرّوح : التنفس ، يقال أراح الإنسان إذا تنفس ، ثم استعمل للفرج والتنفيس من الكرب.
الإيضاح
(قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) أي قال ولد يعقوب الذين جاءوا من مصر حين قال يا أسفا على يوسف : تاللّه لا تزال تذكر يوسف وتلهج به حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه أو تموت من الغم.
وخلاصة ذلك - إنك الآن فى بلاء شديد ، ونخاف أن يحصل لك ماهو أكثر وأقوى منه ، وهم يريدون بذلك منعه من البكاء والأسف.
فأجابهم والتمس لنفسه معذرة على الحزن :
الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)
أي لا تلومونى وأنا لم أشك إليكم ولا إلى(13/29)
ج 13 ، ص : 30
أخذ من الخلق حزنى الذي أمضّني كتمانه ، فأفشيته بهذه الكلمة (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) بل شكوت ذلك إلى اللّه وحده.
َ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ)
أي وأنا أعلم فى ابتلائى بفراقه مع حسن عاقبته ما لا تعلمون ، فأعلم أنه حى يرزق ، وأن اللّه يجتبيه ويتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب ، وأنتم تظنون أن يوسف قد هلك ، وأن بنيامين قد سرق فاسترقّ ، وتحسبون أنى بحزني ساخط على قضاء اللّه فى شىء أمضاه ولا مرد له ، وأنا أعلم أن لهذا أجلا هو بالغه ، وإنى لأرى البلاء ينزل عليكم من كل جانب بذنوبكم وبتفريطكم فى يوسف من قبل ، وبأخيه الذي كان يسلينى عنه من بعده.
وعن ابن عباس فى تفسير الآية : أنا أعلم أن رؤيا يوسف حق وأننى سأسجد له.
(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) أي اذهبوا إلى مصر وتعرفوا أخبارهما بحواسكم من سمع وبصر حتى تكونوا على يقين من أمرهما.
(وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) أي لا تقنطوا من فرجه سبحانه وتنفيسه عن النفس هذا الكرب ، بما ترتاح إليه الروح ، ويطمئن به القلب.
(إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) بقدرته وسعة رحمته ويجهلون ماللّه فى عباده من حكم بالغة ولطف خفى ، فإذا لم يصلوا إلى ما يبتغون من كشف ضر أو جلب خير بخعوا أنفسهم (انتحروا) همّا وحزنا.
أما المؤمن حقا فلا تقنطه المصايب ولا الشدائد من رحمة ربه وتفريجه لكربه ، ومن ثم قال ابن عباس : إن المؤمن من اللّه تعالى على خير يرجوه فى البلاء ويحمده فى الرخاء.
[سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 93]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)(13/30)
ج 13 ، ص : 31
تفسير المفردات
الضر : أي ضر المجاعة من الهزال والضعف ، والمزجاة : الرديئة التي يدفعها التجار من أزجى الشيء وزجاه : إذا دفعه برفق كما قال : « أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً » وآثرك : أي اختارك وفضلك ، والخاطئ : هو الذي يأتى بالخطيئة عمدا ، والمخطئ :
من إذا أراد الصواب صار إلى غيره ، والخطء : الذنب ، وخطّأته : قلت له أخطأت ، ولا تثريب : أي لا لوم ولا تأنيب وثرّب فلان على فلان إذا عدد عليه ذنوبه ، ويأت بصيرا أي يصر بصيرا فى الحال ، أو يأت إلىّ وهو بصير.
الإيضاح
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) أي بعد أن قبلوا وصية أبيهم حين قال لهم اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ، وعادوا إلى مصر - دخلوا على يوسف عليه السلام فقالوا له يا أيها العزيز أصابنا الهزال والضعف لما نحن فيه من المجاعة وكثرة العيال وقلة الطعام وقد شكوا إليه رقة الحال وقلة المال وشدة الحاجة وغير ذلك مما يرقق القلب مع أن مقصدهم التحسس من يوسف وأخيه - ليروا تأثير الشكوى فيه ،(13/31)
ج 13 ، ص : 32
فإن رق قلبه لهم ذكروا ما يريدون وإلا سكتوا ، وقد كان أبوهم يرجّح أنه هو يوسف فأرادوا أن يروا تأثير هذا الاستعطاف فيه.
(وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أي ببضاعة رديئة يحتقرها التجار ويدفعونها احتقارا لها.
(فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) أي فأتمه كما تعودنا من جميل رعايتك وإحسانك.
(وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) بما تزيده على حقنا ببضاعتنا بعد أن تغمض عن رداءتها.
(إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) فيخلف ما ينفقون ويضاعف الأجر لهم.
وقد بالغوا فى الضراعة والتذلل ، لما كانوا يرون من تأثير ذلك فى ملامح وجهه ، وجرس صوته ، ومعالبة دمعه.
ثم بعد أن ذكر طريق تحسسهم ذكر ردّ يوسف عليهم.
(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) أي قال ما أعظم ما فعلتم بيوسف من قبل وبأخيه بنيامين من بعد على قرب العهد ، وما أقبح ما أقدمتم عليه ، كما يقال للمذنب هل تدرى من عصيت ، وهل تعرف من خالفت.
(إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) قبح ما فعلتموه فى حكم شرعكم ، وحقوق بر الوالدين وما يجب من رحمة القرابة والرحم.
وخلاصة ذلك - إنكم كنتم فى حال يغلب عليكم فيها الجهل بهذه الحقوق ، وبعاقبة البغي والعقوق.
وقد يكون المراد من الجهل الطيش والنّزق واتباع الهوى وطاعة الحسد والأثرة.
وقد قال لهم هذه المقالة تمهيدا لتعريفهم بنفسه ، إذ آن أن يصارحهم به بعد أن بلغ الكتاب أجله ، وبلغت به وبهم الأقدار غايتها ، ولم يبق بعد هذا إلا التصريح ، وتأويل رؤياه التي كانت السبب فى كل ما حدث من تلك الأفاعيل.
وقد ذكّر يوسف إخوته بذنوبهم تذكيرا مجملا قبل أن يتعرف إليهم بذكر(13/32)
ج 13 ، ص : 33
العذر وهو الجهل بقبح الذنب فى ذاته وبسوء عاقبته لتمكن نزغ الشيطان من أنفسهم الأمارة بالسوء ، وقد ذكرهم بطريق سؤال العارف المتجاهل على طريق التقرير لا التقريع والتوبيخ كما يدل عليه نفى التثريب والدعاء بالمغفرة.
قال صاحب الكشاف فى تفسير الآية : أتاهم من جهة الدين وكان حليما موفقا ، فكلمهم مستفهما عن معرفة وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب « فقال هل علمتم » قبح « ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون » لا تعلمون قبحه ، فلذلك أقدمتم عليه يعنى هل علمتم قبحه فتبتم إلى اللّه منه ؟ لأن علم القبح يدعو إلى الاستقباح ، والاستقباح يجر إلى التوبة ، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحا لهم فى الدين لا معاتبة وتثريبا ، إيثارا لحق اللّه على حق نفسه فى ذلك المقال الذي يتنفس فيه المكروب ، وينفث المصدور ، ويتشفى المغيظ المحنق ، ويدرك ثأره الموتور فلله أخلاق الأنبياء ما أوطأها وأسجحها ، وللّه حصا عقولهم ما أوزنها وأرجحها اه.
وكان سؤاله إياهم عما فعلوا بيوسف وأخيه وهو سؤال العارف بأمرهم فيه من البداءة إلى النهاية - مصدقا لما أوحاه اللّه إليه حين ألقوه فى غيابة الجب من قوله : « وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ » إذ يبعد أن يعرف هذا سواه ، فأرادوا أن يتثبتوا من ذلك ويستيقنوا به ، فوجهوا إليه سؤالا هو سؤال المتعجب المستغرب لما يسمع.
(قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ؟ ) أي قالوا من المؤكد قطعا أنك أنت يوسف - وقد عجبوا من أنهم يترددون عليه مدى سنتين أو أكثر وهم لا يعرفونه وهو يعرفهم ويكتم نفسه.
(قالَ أَنَا يُوسُفُ) الذي ظلمتمونى غاية الظلم ، وقد نصرنى اللّه فأكرمنى وأوصلنى إلى أسمى المراتب ، أنا ذلك العاجز الذي أردتم قتله بإلقائه فى غيابة الجب ، ثم صرت إلى ما ترون.
(وَهذا أَخِي) الذي فرّقتم بينى وبينه وظلمتموه ، ثم أنعم اللّه عليه بما تبصرون.(13/33)
ج 13 ، ص : 34
(قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا) فجمع بيننا بعد الفرقة ، وأعزنا بعد الذلة ، وآنسنا بعد الوحشة ، وخلّصنا مما ابتلينا به.
وفيه إيماء إلى أنه لا وجه لطلبكم بنيامين ، لأنه أخى لا أخوكم.
تنبيه
فإن قيل لم لم يعرّف يوسف إخوته بنفسه فى أول مرة ليبشروا أباهم به وبما هو عليه من حسن حال وبسطة جاه فيكون فى ذلك السرور كل السرور له ؟ فالجواب عن ذلك ما أجاب به ابن القيّم فى كتابه [الإغاثة الكبرى ] قال رحمه اللّه : لو عرّفهم بنفسه فى أول مرة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم ولم يحلّ ذلك المحلّ وهذه عادة اللّه فى الغايات العظيمة الحميدة ، إذا أراد أن يوصّل عبده إليها هيأ له أسبابا.
من المحن والبلايا والمشاقّ ، فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت وأهوال البرزخ والبعث والنشور والموقف والحساب والصراط ومقاساة تلك الأهوال والشدائد ، وكما أدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم إلى مكة ذلك المدخل العظيم بعد أن أخرجه الكفار ذلك المخرج ، ونصره ذلك النصر العزيز بعد أن قاسى مع أعداء اللّه ما قاساه. وكذلك ما فعل برسله كنوح وإبراهيم وموسى وهود وصالح وشعيب عليهم السلام.
فهو سبحانه يوصّل إلى الغايات الحميدة بالأسباب التي تكرهها النفوس وتشق عليها كما قال « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببا ما مثله سبب.
وبالجملة فالغايات الحميدة فى خبايا الأسباب المكروهة الشاقة ، كما أن الغايات المكروهة فى خبايا الأسباب المشتهاة المستلذة ، وهذا من حين خلق اللّه سبحانه الجنة وحفها بالمكاره والنار وحفها بالشهوات اه.(13/34)
ج 13 ، ص : 35
(إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي إن الحق الذي نطقت به الشرائع وأرشدت إليه التجارب هو : من يتق اللّه فيما به أمر وعنه نهى ، ويصبر على ما أصابه من المحن وفتن الشهوات والأهواء ، فلا يستعجل الأقدار بشىء قبل أوانه ، فإن اللّه لا يضيع أجره فى الدنيا ثم يؤتيه أجره فى الآخرة.
وفى الآية شهادة له من ربه بأنه من المحسنين المتقين اللّه ، وبأن من كان مطيعا لنفسه الأمارة بالسوء ومتبعا لنزغات الشيطان فإن عاقبته الخزي فى الدنيا والنكال فى الآخرة ، إلا من تاب وعمل صالحا ثم اهتدى.
(قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا) أي قال إخوة يوسف له : لقد فضلك اللّه علينا وآثرك بالعلم والحلم والفضل.
(وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) أي وما كنا في صنيعنا بك وتفريقنا بينك وبين أخيك إلا متعمدين للخطيئة ، ولا عذر لنا فيها عند اللّه ولا عند الناس.
وبعد أن قدّموا له المعذرة أجابهم بالصفح عما فعلوا.
(قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) أي لا لوم ولا تعنيف عليكم فى هذا اليوم الذي هو مظنّته ، ولكن لكم عندى الصفح والعفو. وهو إذا لم يثرّب أول لقائه واشتعال ناره ، فبعده أولى.
وقال السيد المرتضى : إن كلمة (اليوم) موضوعة موضع الزمان كله كقوله :
اليوم يرحمنا من كان يغبطنا واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا
كأنه أريد بعد اليوم اه.
(يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي يعفو اللّه لكم عن ذنبكم وظلمكم ويستره عليكم ، وهو أرحم الراحمين لمن أقلع عن ذنبه وأناب إلى طاعته بالتوبة من معصيته.
وقد تمثل النبي صلى اللّه عليه وسلّم بالآية يوم فتح مكة حين طاف بالبيت وصلى ركعتين ، ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب وقال : « ما ذا تظنون أنى فاعل بكم ؟(13/35)
ج 13 ، ص : 36
قالوا نظن خيرا ، أخ كريم وابن كريم ، فقال : وأنا أقول كما قال أخى يوسف (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) ، فخرجوا كأنما نشروا من القبور » . أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس والبيهقي عن أبى هريرة.
روى أن يوسف عليه السلام لما عرف نفسه إخوته سألهم عن أبيهم فقالوا ذهب بصره فعند ذلك أعطاهم قميصه وقال :
(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) الذي على بدني أو بيدي.
(فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) أي ألقوه على وجهه حين وصولكم إليه دون تأخير يصر بصيرا ، وقد علم هذا إما بوحي من اللّه ، وإما لأنه علم أن أباه ما أصابه ما أصابه إلا من كثرة البكاء وضيق النفس فإذا ألقى عليه قميصه شرح صدره وسر أعظم السرور ، وقوى بصره وزالت منه هذه الغشاوة التي رانت عليه ، والقوانين الطبية تؤيد هذا كما سيأتى بعد.
(وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) من الرجال والنساء والذراري وغيرهم ، وقد روى أن أهله كانوا سبعين رجلا وامرأة وولدا.
[سورة يوسف (12) : الآيات 94 الى 98]
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
تفسير المفردات
يقال فصل عن البلد : إذ انفصل وجاوز حيطانه ، وتفندون : أي تنسبونى إلى(13/36)
ج 13 ، ص : 37
الفند وهو فساد الرأى وضعف العقل والخرف من الكبر ، فى ضلالك : أي فى خطئك أو فى إفراطك فى حبه والإصرار على اللهج به ، وارتد : أي رجع.
الإيضاح
(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أي ولما انفصلت عير بنى يعقوب عن حدود مصر قافلة إلى أرض الشام ، قال أبو هم لمن حضره من حفدته ومن غيرهم : إنى لأشمّ رائحة يوسف كما عرفتها فى صغره ، لو لا أن تنسبونى إلى ضعف الرأى وفساد العقل وخرف الكبر ، لصدقتمونى فى أنى أجد رائحته حقيقة ، وأنه حى قد قرب موعد لقائه وبالتمتع برؤيته.
وروى عن ابن عباس أنه لما خرجت العير هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف ، قال « إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ » فوجد ريحه من ثمانية أيام ، وفى رواية من ثمانين فرسخا ، والمراد من مسافات بعيدة جدا.
(قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) أي قال حاضرو مجلسه : تاللّه إنك لفى خطئك الذي طال أمده باعتقادك أن يوسف حى يرحى لقاؤه وقد قرب.
ولا غرو فللخلىّ أن يقول فى الشجىّ ما شاء ، فأذنه عن العذل صماء :
سلوتى عنكم احتمال بعيد وافتضاحى بكم ضلال قديم
كل من يدّعى المحبة فيكم ثم يخشى الملام فهو مليم
قال قتادة فى تفسيرها : « تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ » أي من حب يوسف لا تنساه ولا تسلوه اه ، قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغى لهم أن يقولوها له.
(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) أي فلما جاء البشير وهو ابنه يهوذا الذي يحمل القميص من يوسف - وهو الذي حمل إليه قميصه الملطّخ بالدم الكذب ليمحو السيئة بالحسنة - ألقاه على وجه يعقوب فعاد من فوره بصيرا كما كان ، بل قد قيل إنه عادت إليه سائر قواه ، وليس ذلك بعجيب ولا منكر ، فكثيرا ما شفى(13/37)
ج 13 ، ص : 38
السرور من الأمراض وجدد قوى الأبدان والأرواح ، والتجارب وقوانين الطب شاهد صدق على صحة ذلك. قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا : لا تتحسن أعراض مرض (الجولكوما) أو شدة توتر العين أو تقف شدته إلا بالعلاج ، ومنه العمليات الجراحية ولكن شفاء سيدنا يعقوب بوضع القميص على وجهه هو معجزة من المعجزات الخارجة عن قدرة الإنسان ، وليس المهم هو القميص أو وضعه على وجهه ، فقد كان ذلك لتسهيل وقع المعجزة على الحاضرين فحسب ، ولكن المهم هو طريقة الشفاء وهى إرادة اللّه المنحصرة فى (كن فيكون) وهى خارجة عن كل السنن الطبيعية التي أمر الإنسان أن يتعلمها ، فعظمة المعجزة ليست فى النتيجة فحسب ولكن فى طريق الشفاء - وما أعظم إعجاز القرآن الذي وصف حالة مرضية خاصة وبين سببها ، ولم يكن يعلم العالم شيئا عن هذا المرض فى ذلك الوقت ولا بعده بزمن طويل اه.
وقد أجاب يعقوب من لاموه بما كان عليه من علم قطعى من ربه بصدق ما يقول :
(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ؟ ) أي قال لهم ألم أقل لكم حين أرسلتكم إلى مصر وأمرتكم بالتحسس ونهيتكم عن اليأس من روح اللّه : إنى أعلم بوحي اللّه لا من خطرات الأوهام ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه السلام - وقد ذكرهم الآن إذ عاد بصيرا بما كان قد قاله لهم حين ابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم.(13/38)
ج 13 ، ص : 39
نبذة فى تعليل شم يعقوب رائحة يوسف
أثبت العلم حديثا أن الريح تحمل الغبار وما فيه من قارة إلى أخرى ، فتحمله من إفريقية مثلا إلى أوروبا وهى مسافة أبعد مما بين مصر وأرض كنعان من بلاد الشام وهى بلا شك تحمل رائحة ماله منها رائحة ، ولكن الغريب شم البشر لها من المسافات البعيدة ، والإنسان إذا قيس بغيره من الوحوش والحشرات كان أضعف منها شما ، فالكلب ذو حاسة قوية فى الشم حتى ليدرّبه الآن رجال الشرطة ويستخدمونه فى حوادث الإجرام من قتل وسرقة لإثبات التهمة على المجرمين ، فيأتون بالكلب المعلّم فيشمّ المجرم ويخرجه من بين أشخاص كثيرين ، ويرى ذلك رجال القانون دليلا قويا على إثبات الجريمة على من يرشد إليه ، بل دليلا قاطعا فى بعض الدول.
والروائح منها القوى والضعيف ، ومن أضعفها رائحة جسم الإنسان وعرقه وما يصيب ثوبه منها ، ولكن ما نحن فيه من خوارق العادات ومن خواصّ عالم الغيب لا من السنن العادية والحوادث التي تتكرر من البشر.
وقد دلت الآية على أن يعقوب عليه السلام أخبر أنه وجد رائحة يوسف لما فصلت العير من أرض مصر ، فعلينا أن نؤمن به لأنه معصوم من الكذب ، وقد تبين صدقه بعد وليس بالواجب علينا أن نعرف كنهه أو نصل إلى معرفة سببه ، ولكن إذا نحن قلنا إنه لشدة تفكره فى أمر ولده وتذكره لرائحته حين كان يضمّه ويشمّه - شعر بتلك الرائحة قد عادت له سيرتها الأولى - لم يكن ذلك مجانبا للصواب ولا معارضا للعقل ولا ناقضا لما يثبته العلم ، أو قلنا بأنا نتقبل هذا بدون تعليل ولا تصوير لكيفية ذلك - لم نبعد ، عن العقل ولا عن العلم ، إذ لا خلاف بين العلماء فى أن ما يجهله الباحثون أضعاف ما يعرفونه.
وعلى الجملة فعلينا التسليم بما أخبر به دون حاجة للبحث فى كنهه أو صفته مادام ذلك داخلا فى حيز الإمكان.(13/39)
ج 13 ، ص : 40
(قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) أي قال أولاده وكانوا قد وصلوا إثر البشير : يا أبانا اسأل اللّه أن يغفر لنا ذنوبنا التي اجترحناها من عقوقك وإيذاء أخوينا ، إنا كنا متعمدين لهذه الخطيئة ، عاصين للّه ، ظانين أن نكون بعدها قوما صالحين.
الآن اعترفوا بذنوبهم كما اعترفوا ليوسف من قبل ، لكن يوسف بادر إلى الاستغفار لهم وهم لم يطلبوه منه ، وعليك أن تسمع جواب أبيهم الآتي :
(قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وعدهم بالاستغفار لهم فى مستأنف الزمان ، وعلل هذا بأن ربه واسع المغفرة والرحمة ، لا ينقطع رجاء المؤمن فيها وإن ظلم وأساء.
والفارق بين جواب يعقوب وجواب يوسف من وجوه كثيرة اقتضتها الحكمة :
(1) إن حال أبيهم معهم حال المربّى المرشد للمذنب ، لا حال المنتقم الذي يخشى أذاه وليس من حسن التربية ولا من طرق التهذيب أن يريهم أن ذنبهم هيّن لديه حتى يعجّل بإجابة مطلبهم بالاستغفار لهم.
(2) إن ذنبهم لم يكن موجها إليه مباشرة ، بل موجه إلى يوسف وأخيه ، ثم إليه بالتبع واللزوم ، إلى أنه ليس من العدل أن يستغفر لهم إلا بعد أن يعلم حالهم مع يوسف وأخيه ، ولم يكن يعقوب قد علم بعفو يوسف عنهم واستغفاره لهم.
(3) إن هذا ذنب كبير وإثم عظيم طال عليه الأمد ، وحدثت منه أضرار نفسية وخلقية وأعمال كان لها خطرها ، فلا يمّحى إلا بتوبة نصوح تجتث الجذور التي علقت بالأنفس ، والأرجاس التي باضت وأفرخت فيها.
فلا يحسن بعدئذ من المربى الحكيم أن يسارع إلى الاستغفار لمقترفها عقب طلبه حتى كأنها من هينات الأمور التي تغفر ببادرة من الندم ، ومن ثم تلبّث فى الاستغفار لهم إلى أجل ، ليعلمهم عظيم جرمهم ، ويعلمهم بأنه سوف يتوجه إلى ربه ويطلب لهم الغفران منه بفضله ورحمته.(13/40)
ج 13 ، ص : 41
(4) إن حال يوسف معهم كان حال القادر بل المالك القاهر مع مسىء ضعيف لديه ، عظم جرمه عليه ، فلم يشأ أن يكون الغفران بشفاعته ودعائه ، فآمنهم من خوف الانتقام تعجيلا للسرور بالنعمة الجديدة التي جعل اللّه أمرها بين يديه ، وليروا ويرى الناس فضل العفو عند القدرة ، وليكون لهم فى ذلك أحسن الأسوة ، وفى هذا من ضروب التربية أكبر العظة ، ولو أخر المغفرة لكانوا فى وجل مما سيحلّ بهم ، ولخافوا شر الانتقام ، فكانوا فى قلق دائم وتبلبل بال واضطراب نفس ، فكان توجسهم له عذابا فوق العذاب الذي هم فيه ، ولكن شاءت رحمته بهم أن يجعل السرور عاما والحياة الجديدة حافلة بالاطمئنان وقرة العين ، وهكذا شاءت الأقدار وشاء اللّه أن يكون ذلك وهو العليم الحكيم.
تأويل رؤيا يوسف من قبل
[سورة يوسف (12) : الآيات 99 الى 100]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
تفسير المفردات
آوى إليه أبويه : أي ضمهما إليه واعتنقهما ، ورفع أبويه : أي أصعدهما ، والعرش :
كرسى تدبير الملك لا كل سرير يجلس عليه الملك ، وخروا له سجدا : أي أهوى أبواه(13/41)
ج 13 ، ص : 42
وإخوته إلى الأرض وخروا له سجدا ، تأويل رؤياى : أي مآلها وعاقبتها ، وأصل النزغ : نخس الرائض الفرس بالمهماز لإزعاجه للجرى ، ثم قيل نزغه الشيطان كأنه نخسه ليحثّه على المعاصي ، ونزغ بين الناس : أفسد بينهم بالحث على الشر.
المعنى الجملي
بعد أن أخبر فيما سلف أن يوسف قال لإخوته ائتوني بأهلكم أجمعين - أخبر هنا أنهم رحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد مصر ، فلما أخبر يوسف بقرب مجيئهم خرج للقائهم ، وأمر الملك أمراءه وأكابر دولته بالخروج معه للقاء نبى اللّه يعقوب عليه السلام.
الإيضاح
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) فى العبارة حذف وإيجاز يفهم من سياق الكلام والمعنى - تفصيله بعد أن ذهب إخوة يوسف إلى أبيهم وأخبروه بمكانة يوسف فى مصر وأنه الحاكم المفوّض المستقل فى أمرها - أبلغوه أنه يدعوهم كلّهم للإقامة معه فيها والتمتع بحضارتها فرحلوا حتى بلغوها - ولما دخلوا على يوسف وكان قد استقبلهم فى الطريق فى جمع حافل احتفاء بهم ضم إليه أبويه واعتنقهما.
وظاهر الآية يدل على أن أمه كانت لا تزال حية ورجحه ابن جرير ، وقال جمع من المفسرين إن المراد بأبويه أبوه وخالته ، لأن أمه قد ماتت قبل ذلك فتزوج أبوه خالته.
(وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) أي وقال لهم ادخلوا بلاد مصر إن شاء اللّه آمنين على أنفسكم وأنعامكم من الجوع والهلاك ، فإن سنى القحط كانت لا تزال باقية ، وذكر المشيئة فى كلامه للتبرؤ من مشيئته وحوله وقوته إلى مشيئة اللّه الذي سخر ذلك لهم وسخر ملك مصر وأهلها له ثم لهم ، وهذا من شأن المؤمنين ولا سيما الأنبياء والصديقون.(13/42)
ج 13 ، ص : 43
وفى سفر التكوين من التوراة أن يوسف عليه السلام عرّف نفسه إلى إخوته عقب مجيئهم ببنيامين شقيقه وأرسلهم لاستحضار أبويه وأهلهم ، فجاءوا فأقطعهم أرض جاسان (إقليم الشرقية الآن) وأرسل إليهم العربات لتحملهم ، وأحمال الغذاء والثياب على الحمير ، فلما وصلوا إليها شد يوسف على مركبته وصعد ليلاقى إسرائيل أباه فى جاسان ، فلما ظهر له ألقى بنفسه على عنقه وبكى طويلا ، ثم استأذنهم ليذهب إلى فرعون ويخبره بمجيئهم ومكانهم ليقرّهم عليه ، لأنهم رعاة وأرض جاسان خصبة ففعل ، ثم أخذ وفدا منهم لمقابلة فرعون وأدخل أباه عليه فبارك فرعون.
ومن هذا يتبين أن هذا اللقاء كان هو الأول لهم ، وبعد لقاء فرعون قال لهم ادخلوا مصر ثم عاد بهم إلى قصره الخاص.
(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) أي أصعد أبويه إلى السرير الذي كان يجلس عليه لتدبير أمر الملك تكرمة لهما فوق ما فعله بالإخوة.
(وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) أي أهوى أبواه وإخوته وخروا له سجودا ، وكان ذلك تحية الملوك والعظماء فى عهدهم ، ومن ثم سجد يعقوب لأخيه عيسو حين تلاقيا بعد تفرق.
والسجود ليس عبادة بذاته ، وإنما يكون كذلك بالنية والتزام الصفة الشرعية فيه.
(وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) أي هذا السجود منكما ومن إخوتى الأحد عشر هو المآل والعاقبة التي آلت إليها رؤياى التي رأيتها من قبل فى صغرى « إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ » .
(قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) أي قد جعلها ربى حقيقة واقعة واستبان أنها لم تكن أضغاث أحلام ، فالكواكب الأحد عشر مثال إخوتى الأحد عشر ، وأنت وأمي مثال الشمس والقمر ، ولا بدع فى ذلك فهذه الأسرة هى التي حفظ اللّه بها ذرية إسحاق بن إبراهيم لتنشر دين التوحيد بين العالمين فكانت خير أسر البشر جميعا.(13/43)
ج 13 ، ص : 44
(وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) أي وقد أحسن بي ربى إذ أخرجنى من السجن وسما بي إلى عرش الملك ، وجاء بكم من البادية حيث كنتم تعيشون فى شظف العيش وخشونته ، ونقلكم إلى الحضر حيث تعيشون فى نعم الاجتماع ونشر الدين الحق ، وتتعاونون على ترقى العلوم والصناعات. ولم يذكر له إخراجه من الجب لوجوه :
(1) إنه ذكر آخر المحن المتصلة بنهاية النعم.
(2) إنه لو ذكر حادث الجب لكان فى ذلك تثريب لإخوته وقد قال (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ).
(3) إنه بعد خروجه منه صار عبدا لا ملكا.
(4) إنه بعد خروجه منه وقع فى مضارّة تهمة المرأة التي بسببها دخل السجن.
وعلى الجملة فالنعم الكاملة إنما حصلت بعد خروجه من السجن.
(مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أي من بعد أن أفسد الشيطان ما بينى وبين إخوتى من عاطفة الأخوّة ، وقطع ما بيننا من وشيجة الرحم ، وهيج الحسد والشر.
(إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) أي إن ربى عالم بدقائق الأمور رفيق بعباده ، فينفذ ما يشاء فى خلقه بحكمته البالغة ، فمن ذا الذي كان يدور بخلده أن الإلقاء فى الجب يعقبه الرق ، ويتلو الرق فتنة العشق ، ومن أجله يزجّ فى غيابات السجن ، ومن ذا إلى السيادة والملك.
(إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أي إنه هو العليم بمصالح عباده ، فلا تخفى عليه مبادئ الأمور وغايتها ، الحكيم الذي يفعل الأمور على وجه الحكمة والمصلحة ، فيجازى الذين أحسنوا بالحسنى ، ويجعل العاقبة للمتقين.
وبعد أن حمد يوسف ربه على لطفه فى مشيئته وعلمه وحكمته - تلا ذلك بالدعاء فقال :(13/44)
ج 13 ، ص : 45
طلب يوسف من ربه حسن الخاتمة
[سورة يوسف (12) : آية 101]
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
الإيضاح
(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) أي قال يوسف بعد ما جمع اللّه له أبويه وإخوته ، وبسط له من الدنيا ما بسط من الكرامة ، ومكن له فى الأرض : رب قد آتيتني ملك مصر وجعلتنى متصرفا فيها بالفعل وإن كان لغيرى بالاسم ، ولم يكن لى فيها حاسد ولا باغ إذ أجريت الأمور على سنن العدل ووفق الحكمة والسداد.
(وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي وعلمتنى ما أعبر به عن مآل الحوادث ومصداق الرؤيا الصحيحة فتقع كما قلت وأخبرت.
(فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما وخالقهما.
(أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي أنت متولى أمورى ومتكفّل بها ، أو أنت موال لى وناصرى على من عادانى وأرادنى بسوء ، وإن نعمك لتغمرنى فى الدنيا ، وسأتمتع بها بفضلك ورحمتك فى الآخرة ، ولا حول لى فى شىء منهما ولا قوة.
(تَوَفَّنِي مُسْلِماً) أي اقبضنى إليك مسلما ، وأتم لى وصية آبائي وأجدادى.
« وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ : يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ » .
(وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي وألحقنى بصالح آبائي إبراهيم وإسحاق ومن قبلهم من أنبيائك ورسلك ، واحشرني فى زمرتهم ، وهذا الدعاء بمعنى ما جاء فى سورة الفاتحة(13/45)
ج 13 ، ص : 46
« اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ » أي من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
فى ذكر هذا القصص إثبات لنبوة محمد عليه السلام
[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 104]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104)
الإيضاح
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي إن نبأ يوسف ووالده يعقوب وإخوته وكيف مكن ليوسف فى الأرض وجعل له العاقبة والنصر ، وآتاه الملك والحكمة ، فساس ملكا عظيما وأحسن إدارته وتنظيمه وكان خير قدوة للناس فى جميع ما دخل فيه من أطوار الحياة ، بعد أن أرادوا به السوء والهلاك حين عزموا أن يجعلوه فى غيابة الجب كل ذلك من أخبار الغيب الذي لم تشاهده ولم تره ، ولكنا نوحيه إليك لنثبّت به فؤادك ، فتصبر على ما نالك من الأذى من قومك ، ولتعلم أن من قبلك من الرسل لما صبروا على ما نالهم فى سبيل اللّه ، وأعرضوا عن الجاهلين فازوا بالظفر وأيّدوا بالنصر وغلبوا أعداءهم.
ثم أقام الدليل على كونه من الغيب بقوله :
(وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) أي وما كنت حاضرا عندهم ولا مشاهدا حين صحت عزائمهم على أن يلقوا يوسف فى غيابة الجب ، يبغون بذلك هلاكه والخلاص منه ، وهذا كقوله تعالى بعد سياق موسى : « وَما كُنْتَ بِجانِبِ(13/46)
ج 13 ، ص : 47
الطُّورِ إِذْ نادَيْنا »
الآية ، وقوله فى هذه القصة « وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا » الآية.
وخلاصة هذا - إن اللّه أطلع رسوله على أنباء ما سبق ، ليكون فيها عبرة للناس فى دينهم ودنياهم ، ومع هذا ما آمن أكثرهم ، ومن ثم قال :
(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) أي وما أكثر مشركى قومك ولو حرصت على أن يؤمنوا بك ويتّبعوا ما جئتهم به من عند ربك بمصدقيك ولا متّبعيك.
قال الرازي : إن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا ذكر هذه القصة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم على سبيل التعنت ، فلما ذكرها أصروا على كفرهم فنزلت هذه الآية ، وكأنه إشارة إلى ما ذكر اللّه تعالى فى قوله « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ » .
(وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي وما تسأل هؤلاء الذين ينكرون نبوتك على ما تدعوهم إليه من إخلاص العبادة لربك وطاعته وترك عبادة الأصنام والأوثان من أجر وجزاء منهم ، بل ثوابك وأجر عملك على اللّه.
والخلاصة - إنك لا تسألهم على ذلك ما لا ولا منفعة فيقولوا إنما تريد بدعائك إيانا إلى اتباعك أن ننزل لك عن أموالنا إذا سألتنا عن ذلك ، فحالك حال من سبقك من الرسل ، فهم لم يسألوا أقوامهم أجرا على التبليغ والهدى ، والقرآن ملىء بنحو هذا كما فى سورتى هود والشعراء وغيرهما.
وإذا كنت لا تسألهم على ذلك أجرا فقد كان حقا عليهم أن يعلموا أنك إنما تدعوهم إليه اتباعا لأمر ربك ونصيحة منك لهم.
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي هذا الذي أرسلك به ربك تذكير وموعظة لإرشاد العالمين كافة لالهم خاصة ، وبه يهتدون وينجون فى الدنيا والآخرة.
وفى الآية إيماء إلى عموم رسالته صلى اللّه عليه وسلّم.(13/47)
ج 13 ، ص : 48
غفلتهم عن التأمل فى الآيات
[سورة يوسف (12) : الآيات 105 الى 107]
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107)
تفسير المفردات
وكأين : بمعنى كثير ، والآية هنا : الدليل الذي يرشد إلى وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته ، يمرون عليها : يشاهدونها ، معرضون : أي لا يعتبرون بها ، والغاشية : العقوبة تغشاهم وتعمّهم ، بغتة : فجأة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن أكثر الناس لا يؤمنون مهما حرصت على إيمانهم ولا يتأملون فى الدلائل الدالة على نبوتك - ذكر هنا أن هذا ليس ببدع منهم ، فأكثرهم فى غفلة عن التفكر فى آيات اللّه ودلائل توحيده بما خلقه فى السموات من كواكب ثوابت وسيارات ، وأفلاك دائرات ، وفى الأرض من حدائق وجنات ، وجبال راسيات ، وبحار زاخرات ، وقفار شاسعات ، وحيوان ونبات :
وفى كل شىء له آية تدل على أنه واحد
الإيضاح
(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) أي وكم فى السموات والأرض من آيات دالة على توحيد اللّه وكمال علمه وقدرته من شمس وقمر ونجوم وجبال وبحار ونباتات وأشجار ، يمر عليها أكثر الناس وهم غافلون عما فيها(13/48)
ج 13 ، ص : 49
من عبرة ودلالة على توحيد ربها ، وأن الألوهية لا تكون إلا للواحد القهار الذي خلقها وخلق كل شىء فأحسن تدبيره.
وعلى الجملة فما فى السموات والأرض من عجائب وأسرار وإتقان وإبداع - ليدلّ أتم الدلالة على العلم المحيط والحكمة البالغة والقدرة التامة.
والذين يشتغلون بعلم ما فى السموات والأرض وهم غافلون عن خالقهما ، ذاهلون عن ذكره - يمتّعون عقولهم لذة العلم ، ولكن أرواحهم تبقى محرومة من لذة الذكر ومعرفة اللّه عزّ وجلّ ، إذ الفكر وحده إن كان مفيدا لا تكون فائدته نافعة فى الآخرة إلا بالذكر ، والذكر وإن أفاد فى الدنيا والآخرة لا تكمل فائدته إلا بالفكر ، فطوبى لمن جمع بين الأمرين فكان من الذين أوتوا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة ونجوا من عذاب النار فى الآخرة.
(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) أي وما يقر هؤلاء بأن اللّه هو الخالق كما قال « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ » إلا وهم مشركون به فى عبادتهم سواه من الأوثان والأصنام ومن زعمهم أن له ولدا ، تعالى عما يقولون.
قال ابن عباس هم أهل مكة آمنوا وأشركوا وكانوا يقولون فى تلبيتهم : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، وهذا هو الشرك الأعظم ، إذ يعبد مع اللّه غيره ،
وفى صحيح مسلم أنهم كانوا إذا قالوا لبيك لا شريك لك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم (قد ، قد)
أي حسب حسب لا تزيدوا على هذا ،
وفى الصحيحين عن ابن مسعود « قلت يا رسول اللّه : أىّ الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل للّه ندّا وهو خلقك » .
ومن درس تاريخ الأمم الماضية والحاضرة عرف كيف طرأ الشرك على الأمم ، وسرى فى عبادتهم سريان السّم فى الدّسم.
قال ابن القيم فى إغاثة اللهفان : وما زال الشيطان يوحى إلى عبّاد القبور منهم.(13/49)
ج 13 ، ص : 50
أن الدعاء عندها مستجاب ، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء لها والإقسام على اللّه بها مع أن شأن اللّه أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه - فإذا تقرر ذلك عندهم ، نقلهم منه إلى دعائه وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون اللّه ، واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه القناديل والستور ، ويطاف به ويستلم ويقبّل ويحجّ إليه ويذبح عنده ، فإذا تقرر هذا عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدا ومنسكا ، ورأوا أن ذلك أنفع لهم فى دنياهم وأخراهم ، وكل هذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم من تجديد التوحيد وألا بعبد إلا اللّه اه.
أما التوسل إلى اللّه بصالحى عباده كقولهم اللهم بجاه فلان عندك أو بحق فلان أو بحرمته أسألك أن تفعل كذا فلم ينقل عن أحد من سلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء ، وما أخرجه الطبراني من حديث فاطمة بنت أسد من قوله (بحق نبيك والأنبياء من قبلى) فقد طعن فيه رجال الحديث ، على أنه ليس فيه إلا الدعاء بحق النبيين فحسب ، وهو ما فضّلهم اللّه به على غيرهم من النبوة والرسالة وما وعدهم به من التمكين والنصر ، على أن حقوق الرسل وصلاح الصالحين ليست من أعمال السائل التي يستحق عليها الجزاء ولا رابطة تربطها بإجابة سؤاله.
(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ؟ ) أي أ فأمن هؤلاء الذين يؤمنون باللّه ربهم ويشركون به فى عبادته غيره ، أن تأتيهم عقوبة تغشاهم وتغمرهم ، أو تأتيهم الساعة فجأة حيث لا يتوقعون ، وهم مقيمون على شركهم ، وكفرهم بربهم ، فيخلدهم فى نار جهنم.
والآية كقوله « أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ؟ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ؟ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ ؟ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ » .(13/50)
ج 13 ، ص : 51
وقوله « أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ ؟ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ؟ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ؟ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ » .
وجاء فى الصحيحين عن أبى هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلّم قال : « ولتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته (الناقة ذات الدّر) فلا يطعمه ، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أحدكم أكلته (لقمته) إلى فيه فلا يطعمها »
والمراد من كل هذا أنها تبغت الناس وهم منهمكون فى أمور معايشهم فلا يشعرون إلا وقد أتتهم.
والحكمة فى إبهام وقتها أن الفائدة لاتتم إلا بذلك ، ليخشى أهل كل زمان إتيانها فى هذا الوقت ، فيحملهم الخوف على مراقبة اللّه تعالى فى أعمالهم فيلتزموا الحق ويتحرّوا الخير ويتقوا الشرور والمعاصي.
طريق النبي صلى اللّه عليه وسلّم الدعوة إلى التوحيد
[سورة يوسف (12) : الآيات 108 الى 109]
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109)
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أن أكثر الناس لا يفكرون فيما فى السموات والأرض من آيات ، ولا يعتبرون بما فيها من علامات ، تدل على أن اللّه هو الواحد الأحد ، الفرد(13/51)
ج 13 ، ص : 52
الصمد أمر رسوله أن يخبر الناس أن طريقه هى الدعوة إلى توحيد اللّه وإخلاص العبادة له وحده يدعوبها هو ومن اتبعه على بصيرة وبرهان.
الإيضاح
(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) أي قل أيها الرسول :
هذه الدعوة التي أدعو إليها ، والطريقة التي أنا عليها ، من توحيد اللّه وإخلاص العبادة له دون الأوثان والأصنام هى سنتى ومنهاجى ، وأنا على يقين مما أدعو إليه ولدىّ الحجة والبرهان على ما أقول ، وكذلك يدعو إليها أيضا من اتبعنى وآمن بي وصدقنى.
والآية كقوله : « ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ » .
(وَسُبْحانَ اللَّهِ) أي وأنزه اللّه وأعظمه من أن يكون له شريك فى ملكه ، أو أن يكون هناك معبود سواه ، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا : « تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً » .
(وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي وأنا برىء من أهل الشرك به ، لست منهم ولا هم منى وفى قوله : (عَلى بَصِيرَةٍ) إيماء إلى أن هذا الدين الحنيف لا يطلب التسليم بنظرياته ومعتقداته بحكايتها فحسب ، ولكنه دين حجة وبرهان ، فقد ذكر مذاهب المخالفين وكرّ عليها بالحجة ، وخاطب العقل ، واستنهض الفكر ، وعرض نظام الأكوان ، وما فيها من الإحكام والإتقان ، على أنظار العقول وطالبها بالإمعان فيها ، لتصل بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه ودعا إليه.
نقل البغوي عن ابن عباس فى تفسير قوله : « وَمَنِ اتَّبَعَنِي » يعنى أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلّم كانوا على أحسن طريقة ، وأقصد هداية ، معدن العلم ، وكنز الإيمان وجند الرحمن ، وعن ابن مسعود : أولئك أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلّم ، كانوا أفضل(13/52)
ج 13 ، ص : 53
هذه الأمة ، وأبرّها قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، اختارهم اللّه لصحبة نبيه ، ولإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم على إثرهم ، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم ، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم.
وقد كان من شبه منكرى نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلّم أن اللّه لو أراد إرسال رسول لبعث ملكا كما حكى عنهم سبحانه : « لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً » فرد سبحانه عليهم بقوله :
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ) فكيف عجبوا منك ولم يعجبوا ممن قبلك من الرسل.
ونظير هذا قوله : « وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ » وقوله : « وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ » وقوله : « قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ » الآية.
وهذه الشبهة ذكرت فى كثير من السور كالأعراف وإبراهيم والنحل والكهف والأنبياء والشعراء.
وقال الحافظ ابن كثير : يخبر تعالى أنه إنما أرسل رسله من الرجال لا من النساء ، وهذا قول الجمهور كما دل عليه سياق هذه الآية الكريمة ، فاللّه لم يوح إلى امرأة من بنات بنى آدم وحي تشريع اه.
وفى قوله : (مِنْ أَهْلِ الْقُرى ) أي من أهل الأمصار دون البوادي إيماء إلى أن سائر البلدان تتبعهم إذا آمنوا ، ولأن أهل البادية أهل جفاء ، يرشد إلى ذلك
قوله عليه السلام « من بدا جفا ، ومن اتبع الصيد غفل » .
ثم أتبع ذلك بتأنيهم وتهديدهم على تكذيبهم بالرسول صلى اللّه عليه وسلّم فقال :
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ؟ ) أي أ فلم يسر هؤلاء المشركون من كفار قريش ممن يكذبونك ويجحدون نبوتك وينكرون ما جئتهم به من توحيد اللّه وإخلاص العبادة له ، فينظروا فيما وطئوا من البلاد من أوقعنا بهم(13/53)
ج 13 ، ص : 54
من الأمم قبلهم كقوم لوط وصالح وسائر من عذبهم اللّه من الأمم ، وما أحللنا بهم من بأسنا بتكذيبهم رسلنا ، وجحودهم بآياتنا ، ويعتبروا بما حل بهم.
ثم رغّب فى العمل للآخرة فقال :
(وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) أي إن الدار الآخرة للذين آمنوا باللّه ورسله واتقوا الشرك به وارتكاب الآثام والمعاصي - خير من هذه الدار المشركين المنكرين للبعث المكذبين بالرسل والذين لا حظ لهم من هذه الحياة إلا التمتع بلذاتها.
فإن نعيمها البدني أكمل من نعيم الدنيا ، لدوامه وثباته ولخلوه عن المنغّصات والآلام ، فما بالك بنعيمها الروحي من لقاء اللّه ورضوانه وكمال معرفته.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ ؟ ) هذا الفرق أيها المكذبون بالآخرة ، أما إنكم لو عقلتم ذلك لآمنتم.
ثم ذكر سبحانه تثبيتا لفؤاده عليه السلام أن العاقبة لرسله ، وأن نصره تعالى ينزل عليهم حين ضيق الحال وانتظار الفرج كما قال : « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » وقال : « إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا » وأن نصره يأتيهم إذا تمادى المبطلون فى تكذيبهم فقال :
الفرج بعد الشدة
[سورة يوسف (12) : الآيات 110 الى 111]
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)(13/54)
ج 13 ، ص : 55
تفسير المفردات
الظن هنا : إما بمعنى اليقين وإما بمعنى الحسبان والتقدير ، والبأس : العقاب ، والألباب : العقول واحدها لب ، وسمى بذلك لكونه خالص ما فى الإنسان من قواه ، والعبرة : الحال التي يتوصل بها من قياس ما ليس بمشاهد بما هو بمشاهد.
الإيضاح
(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) أي وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحى إليهم من أهل القرى فدعوا من أرسلوا إليهم إلى توحيد اللّه وإخلاص العبادة له فكذبوا بما جاءوهم به ، وردوا ما أتوا به من عند ربهم ، حتى إذا يئس الرسل من إيمانهم ، لانهما كهم فى الكفر وتماديهم فى الطغيان من غير وازع ، وظنّت الأمم أن الرسل الذين أرسلوا إليهم قد كذبوهم فيما كانوا أخبروهم عن اللّه من وعده لهم النصر عليهم - جاءهم نصرنا.
وهذه سنة اللّه فى الأمم ، يرسل إليهم الرسل بالبينات ، ويؤيدهم بالمعجزات ، حتى إذا أعرضوا عن الهداية ، وعاندوا رسل ربهم ، وامتدّت مدة كيدهم وعدوانهم ، واشتد البلاء على الرسل واستشعروا بالقنوط من تمادى التكذيب وتراخى النصر - جاءهم نصر اللّه فجأة ، وأخذ المكذبين العذاب بغتة ، كالطوفان الذي أغرق قوم نوح ، والريح التي أهلكت عادا قوم هود ، والصيحة التي أخذت ثمود ، والخسف الذي نزل بقرى قوم لوط وهم فيها كما قال : « أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ ، أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » .
وفى هذا تذكير لكفار قريش بأن سنته تعالى فى عباده واحدة لا ظلم فيها ولا محاباة وأنهم إن لم ينيبوا إلى ربهم حل بهم من العذاب ما حل بأمثالهم من أقوام الرسل كما قال فى سورة القمر : « أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ ؟ » وقد نصر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلّم فى غزوة بدر وما بعدها من الغزوات ، وأهلك الجاحدين المعاندين من قومه.(13/55)
ج 13 ، ص : 56
روى البخاري بسنده عن عائشة رضى اللّه عنها قالت لابن أختها عروة بن الزبير وهو يسألها عن قول اللّه تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) الآية ، هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم ، فطال عليهم البلاء واستأخر عليهم النصر ، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم ، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم - جاءهم نصر اللّه عند ذلك.
وعن عائشة « أن النبي صلى اللّه عليه وسلّم قرأ وظنوا أنهم قد كذبوا » (مخففة) أخرجه ابن مردويه من طريق عكرمة ،
ونحوه عن ابن عباس قال : « يئس الرسل أن يستجيبوا لهم وظن قومهم أن الرسل كذبوهم بما جاءوهم به جاءهم نصرنا » ونحوه
« عن ابن مسعود قال « حفظت عن رسول اللّه فى سورة يوسف أنهم قد كذبوا مخففة » اه.
(فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) أي فنجى الرسل ومن آمن بهم من أقوامهم ، لأنهم بحسب ما وضع اللّه من تأثير الأعمال فى طهارة النفوس وزكائها - هم الذين يستحقون النجاة دون غيرهم كما قال : « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها » .
(وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) أي ولا يمنع عقابنا وبطشنا عن القوم الذين أجرموا فكفروا باللّه وكذبوا رسله ، وما أتوهم به من عند ربهم.
وقد جرت سنة اللّه أن يبلّغ الرسل أقوامهم ويقيموا عليهم الحجة ويندروهم سوء عاقبة الكفر والتكذيب ، فيؤمن المهتدون ، ويصرّ المعاندون ، فينجى اللّه الرسل ومن آمن من أقوامهم ويهلك المكذبين.
ولا يخفى ما فى الآية من التهديد والوعيد لكفار قريش ومن على شاكلتهم من المعاصرين للنبى صلى اللّه عليه وسلم.
(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) قص الخبر : حدّث به على أصح الوجوه وأصدقها ، من قولهم قص الأثر واقتصه إذا تتبّعه وأحاط به خبرا ، أي لقد كان فى قصص يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوته عبرة لذوى العقول الراجحة والأفكار الثاقبة ، لأنهم هم الذين يعتبرون بعواقب الأمور التي تدلّ عليها أوائلها ومقدماتها ، أما الأغرار الغافلون فلا يستعملون عقولهم فى النظر والاستدلالات ، ومن ثم لا يفيدهم النصح.(13/56)
ج 13 ، ص : 57
وجهة الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إنجاء يوسف بعد إلقائه فى غيابة الجب ، وإعلاء أمره بعد وضعه فى السجن ، وتمليكه مصر بعد أن بيع بالثمن البخس ، والتمكين له فى الأرض من بعد الإسار والحبس الطويل ، وإعزازه على من قصده بالسوء من إخوته ، وجمع شمله بأبويه وبهم بعد المدة الطويلة المدى ، والمجيء بهم من الشقة البعيدة النائية - إن الذي قدر على ذلك كله لقادر على إعزاز محمد صلى اللّه عليه وسلّم وإعلاء كلمته ، وإظهار دينه ، فيخرجه من بين أظهركم ، ثم يظهره عليكم ، ويمكن له فى البلاد ، ويؤيده بالجند والرجال ، والأتباع والأعوان ، وإن مرّت به الشدائد ، وأتت دونه الأيام والحوادث.
(ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ما كان هذا القصص حديثا يختلق ويفترى ، لأنه نوع أعجز حملة الأحاديث ورواة الأخبار - ممن لم يطالع الكتب ولم يخالط العلماء ، فهو دليل ظاهر ، وبرهان قاهر ، على أنه جاء بطريق الوحى والتنزيل. ومن ثم قال ولكن تصديق الذي بين يديه أي من الكتب السماوية التي أنزلها اللّه قبله على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والزبور ، أي تصديق ما عندهم من الحق فيها ، لا كل الذي عندهم ، فهو ليس بمصدّق لما عندهم من خرافات فاسدة ، وأوهام باطلة ، لأنه جاء لمحوها وإزالتها ، لا لإثباتها وتصديقها.
(وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ) من أمر اللّه ونهيه ، ووعده ووعيده ، وبيان ما يجب له تعالى من صفات الكمال وتنزهه عن صفات النقص ، وفيه قصص الأنبياء مع أقوامهم ، لما فيها من عبر وعظات وسائر ما بالعباد إليه حاجة.
وعلى الجملة ففى القرآن تفصيل كل شىء يحتاج إليه فى أمر الدين ، وقد أسهب فى موضع الإسهاب ، وأوجز حيث يكفى الإيجاز ، ففصّل الحق فى العقائد بالحجج والدلائل ، وفى الفضائل والآداب وأصول الشريعة وأمهات الأحكام ، بما به تصلح أمور البشر ، وشئون الاجتماع (وَهُدىً) أي وهو هدى لمن تدبّره ، وأمعن فى النظر فيه ، وتلاه حق تلاوته ، فهو مرشد إلى الحق وهاد إلى سبيل الرشاد وعمل الخير والصلاح ، فى الدين والدنيا.(13/57)
ج 13 ، ص : 58
(وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي وهو رحمة عامة للمؤمنين الذين تنفّذ فيهم شرائعه فى دينهم ودنياهم.
والخاضعون لها من غير المؤمنين يكونون فى ظلها آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ، أحرارا فى عقائدهم وعباداتهم ، مساوين للمؤمنين فى حقوقهم ومعاملاتهم ، يعيشون فى بيئة خالية من الفواحش والمنكرات التي تفسد الأخلاق وتعبث بالفضائل.
نسأل اللّه العظيم أن يجعلنا منهم فى الدنيا والآخرة ، وأن يحشرنا فى زمرة الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. يوم تسودّ وجوه وتبيضّ وجوه وأن يجعل خواتيمنا خير الخواتيم فى الدنيا والآخرة كما جعل خاتمة يوسف مع أبويه وإخوته كذلك.
إجمال ما جاء فى سورة يوسف
(1) قصص يوسف رؤياه على أبيه يعقوب.
(2) نهى يعقوب لولده عن قصّه قصصه على إخوته.
(3) تدبيرهم المكيدة ليوسف وإلقائه فى غيابة الجب.
(4) ادعاؤهم أن الذئب قدأ كله.
(5) عثور قافلة ذاهبة إلى مصر عليه والتقاطها له.
(6) بيعها إياه فى مصر بثمن بخس لعزيز مصر.
(7) وصية العزيز لامرأته بإكرام مثواه.
(8) مراودة المرأة له عن نفسها وإعداد الوسائل لذلك.
(9) تمنّعه من ذلك إكراما لسيده الذي أكرم مثواه.
(10) قدّها لقميصه وادعاؤها عليه أنه هو الذي أراد بها الفاحشة.
(11) شهادة شاهد من أهلها بما يحلى الحقيقة.
(12) افتضاح أمرها فى المدينة لدى النسوة.
(13) تدبيرها المكيدة لأولئك النسوة وإحكام أمرها.
(14) إدخاله السجن اتباعا لمشيئتها.(13/58)
ج 13 ، ص : 59
(15) تعبيره رؤيا فتيبن دخلا معه السجن (16) رؤيا الملك وطلبه تعبيرها (17) إرشاد أحد الفتيين للملك عن يوسف وأنه نعم المعبّر لها (18) طلب الملك إحضاره من السجن واستخلاصه لنفسه (19) توليته رئيسا للحكومة ومهيمنا على ماليتها (20) مجىء إخوة يوسف إليه وطلبه منهم أن يحضروا أخاهم لأبيهم (21) إرجاع البضاعة التي جاءوا بها.
(22) إحضارهم أخاه إليه بعد إعطائهم الموثق لأبيهم.
(23) طلب أبيهم أن يدخلوا المدينة من أبواب متعددة.
(24) إخبار يوسف لأخيه عن ذات نفسه.
(25) أذان المؤذن أن العير قد سرقوا.
(26) قول الإخوة إن أخاه قد سرق من قبل بعد حجزه عنده.
(27) طلب الإخوة من يوسف أن يأخذ أحدهم مكانه.
(28) وجود غشاوة على عينى يعقوب من الحزن.
(29) تعريف يوسف بنفسه لإخوته.
(30) حين جاء البشير بقميص يوسف ارتد يعقوب بصيرا.
(31) طلب الإخوة من أبيهم أن يستغفر لهم.
(32) رفع يوسف أبويه على العرش.
(33) قول يوسف لأبيه هذا تأويل رؤياى من قبل.
(34) دعاؤه بحسن الخاتمة.
(35) فى هذا القصص إثبات لنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلّم.
(36) تحذير المشركين من نزول العذاب بهم كما حدث لمن قبلهم.
(37) لم يرسل اللّه إلا رجالا وما أرسل ملائكة.
(38) نصر الرسل بعد الاستيئاس.
(39) فى قصص الرسل عبرة لأولى الألباب.(13/59)
ج 13 ، ص : 60
سورة الرعد
هى مدنية وآيها ثلاث وأربعون ، نزلت بعد سورة محمد ، ومناسبتها لما قبلها من وجوه :
(1) إنه سبحانه أجمل فى السورة السابقة الآيات السماوية والأرضية فى قوله :
« وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ » ثم فصلها هنا أتم تفصيل فى مواضع منها :
(2) إنه أشار فى سورة يوسف إلى أدلة التوحيد بقوله « أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ؟ » ثم فصل الأدلة هنا بإسهاب لم يذكر فى سالفتها.
(3) إنه ذكر فى كلتا السورتين أخبار الماضين مع رسلهم ، وأنهم لاقوا منهم ما لاقوا ، وأخذهم اللّه أخذ عزيز مقتدر ، وكتب الخزي على الكافرين ، والنصر لرسله والمؤمنين ، وفى ذلك تسلية لرسوله صلى اللّه عليه وسلّم وتثبيت لقلبه.
(4) جاء فى آخر السورة السابقة وصف القرآن بقوله : « ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » وفى أول هذه وهو قوله : « تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ » .
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
صفات القرآن
[سورة الرعد (13) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1)(13/60)
ج 13 ، ص : 61
الإيضاح
(المر) قلنا فيما سلف إن هذه الحروف فى أوائل السور حروف تنبيه كألا ونحوها وتقرأ بأسمائها ساكنة فيقال « ألف ، لام ، ميم ، را » كما قلنا إن كل سورة بدئت بهذه الحروف ففيها انتصار للقرآن ، وتبيان أن نزوله من عند اللّه حق لا شك فيه.
(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) أي آيات هذه السورة آيات القرآن البالغ حد الكمال المستغنى عن الوصف بين الكتب السماوية ، الجدير بأن يختص باسم « الكتاب » .
(وَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) أي وكل القرآن الذي أنزله إليك ربك حق لا شك فيه ، وهذا كالإجمال بعد التفصيل لما تقدم من وصف السورة بالكمال فكأنه سبحانه بعد أن أثبت لهذه السورة الرفعة والكمال عمم هذا الحكم فأثبته للقرآن جميعه ، فلا تختص به سورة دون أخرى.
وهذا الأسلوب جار على سنن العرب فى تخاطبهم فقد قالت فاطمة الأنمارية وقد سئلت عن بنيها ، أىّ بنيك أفضل ؟ (ربيعة ، بل عمارة ، بل قيس ، بل أنس ، ثكلتهم إن كنت أعلم أيّهم أفضل ، هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها) فبعد أن أثبتت الفضل لكل منهم على سبيل التعيين ، أجملت القول وأثبتت لهم الفضل جميعا.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي ولكن أكثر الناس لا يصدقون بما أنزل عليك من ربك ، ولا يقرون بهذا القرآن وما فيه من بديع الأمثال والحكم والأحكام التي تناسب مختلف العصور والأزمان والتي لو سار الناس على سننها لسعدوا فى الدنيا والآخرة وقد سلك المسلمون سبيلها فى عصورهم الأولى فكانوا خير أمة أخرجت للناس ، وامتلكوا أكثر المعمور فى ذلك الحين وثلّوا عروش كسرى والروم ودانت لهم الرقاب ، وساسوا الملك سياسة شهد لهم أعداؤهم بأنها كانت سياسة عدل ورفق ، وأخذ على يد الظالم لإنصاف المظلوم ، فللّه دين رفع من قدر أهله حتى أوصلهم(13/61)
ج 13 ، ص : 62
إلى السماكين ، ولكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا معالمه ، وألقوها وراءهم ظهريا فحاق بهم ما كانوا يكسبون ، وصاروا أذلة بعد أن كانوا أعزة ، ومستعبدين بعد أن كانوا سادة ، تابعين بعد أن كانوا متبوعين « إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ » والآية بمعنى قوله : « وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ » .
دلائل الوحدانية والقدرة
[سورة الرعد (13) : الآيات 2 الى 4]
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
تفسير المفردات
العمد : السواري واحدها عمود كأدم وأديم ، والتسخير : التذليل والطاعة ، والتدبير :
التصريف للأمور على وجه الحكمة ، والتفصيل : التبيين ، والآيات : هى الأدلة التي تقدم ذكرها من الشمس والقمر ، واليقين : العلم الثابت الذي لاشك فيه ، والمد :
البسط ، والرواسي : الثوابت المستقرة التي لا تتحرك ولا تنتقل واحدها راسية ، والأنهار(13/62)
ج 13 ، ص : 63
واحدها نهر : وهو المجرى الواسع من الماء ، زوجين اثنين : أي ذكر وأنثى ، والعرب تسمى الاثنين زوجين والواحد من الذكور زوجا لأنثاه ، والأنثى زوجا وزوجة لذكرها ، يغشى يغطى ، قطع : أي بقاع ، متجاورات : أي متقاربات ، جنات أي بساتين ، صنوان : هى النخلات يجمعها أصل واحد وتتشعب فروعها واحدها صنو ، وفى الحديث « عم الرجل صنو أبيه » والأكل (بضمتين وبتسكين الثاني) : ما يؤكل والمراد به التمر والحب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السالفة أن أكثر الناس لا يؤمنون ، أعقبه بذكر البراهين على التوحيد والمعاد فاستدل بأحوال السموات وأحوال الشمس والقمر وأحوال الأرض جبالها وأنهارها وأزهارها ونخيلها وأعنابها واختلاف ثمراتها وتنوّع غلاتها على وجود الإله القادر القاهر الذي بيده الخلق والأمر ، وبيده الضر والنفع ، وبيده الإحياء والإماتة ، وهو على كل شىء قدير.
الإيضاح
ذكر سبحانه أدلة على وجوده ووحدانيته وقدرته ، بعضها سماوى وبعضها أرضى ، وذكر من الأولى جملة أمور :
(1) (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) أي إنه تعالى خلق السموات مرفوعات عن الأرض بغير عمد ، بل بأمره وتسخيره ، على أبعاد لا يدرك مداها ، وأنتم ترونها كذلك بلا عمد من تحتها تسندها ، ولا علاقة من فوقها تمسكها ، وقد تقدم هذا بإيضاح فى سورة البقرة.
(2) (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي ثم استوى على عرشه الذي جعله مركز هذا التدبير العظيم استواء يليق بعظمته وجلاله ، يدبر أمر ملكه بما اقتضاه علمه من(13/63)
ج 13 ، ص : 64
النظام ، وإرادته وحكمته من إحكام وإتقان ، وقد سبق تفصيل هذا فى سورتى الأعراف ويونس.
(3) (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي وذلل الشمس والقمر وجعلهما طائعين لما أريد منهما لمنافع خلقه ، فكل منهما يسير فى منازله لوقت معين فالشمس تقطع فلكها فى سنة ، والقمر فى شهر لا يختلف جرى كل منهما عن النظام الذي قدر له ، وإليه الإشارة بقوله « وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها » وقوله « وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ » وإيضاح هذا ذكر فى سورتى يونس وهود ، وبعد أن ذكر هذه الدلائل قال :
(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي إنه تعالى يتصرف فى ملكه على أتم الحالات وأكمل الوجوه فهو يميت ويحيى ، ويوجد ويعدم ، ويغنى ويفقر ، وينزل الوحى على من يشاء من عباده ، وفى ذلك برهان ساطع على القدرة والرحمة ، فإن اختصاص كل شىء بوضع خاص وصفة معينة لا يكون إلا من مدبر اقتضت حكمته أن يكون كذلك ، فتدبيره لعالم الأجسام كتدبيره لعالم الأرواح ، وتدبيره للكبير كتدبيره للصغير ، لا يشغله شأن عن شأن ، ولا يمنعه تدبير شىء عن تدبير آخر كما هو شأن المخلوقات فى هذه الدنيا ، وكذلك هو دليل أيضا على أنه تعالى متعال فى ذاته وصفاته وعلمه وقدرته لا يشبه شيئا من مخلوقاته.
(يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي يلبس الموجودات ثوب الوجود بنظام محكم دقيق ، ويوجد بينها ارتباطات تجعلها كأنها سلسلة متصلة الحلقات لا انفصام لبعضها عن بعض فالمجموعة الشمسية من الشمس والقمر والكواكب مرتبطة فى حركاتها بنظام خاص بوساطة الجاذبية لا تحيد عن سننه ولا تجد معدلا عن السير فيه بحسب النهج الذي قدر لها ، ولا تزال كذلك حتى ينتهى العالم ، فيحدث حينئذ تغيير لأوضاعها ، واختلال لحركاتها : « إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ » .(13/64)
ج 13 ، ص : 65
وهكذا الموجودات الأرضية لها أسباب تعقبها مسببات بإذن الواحد الأحد ، فالزارع يحرث أرضه ويلقى فيها الحب ثم يسقيها ويضع فيها السّماد ويوإلى سقيها حتى تؤتى أكلها ، فإذا فقدت حلقة من تلك السلسلة باء صاحب الزرع بالخسران فلم يحصل على شىء أو حصل على القليل التافه الذي لا يعدل التعب والنّصب الذي فعله.
ثم أبان سبحانه أن هذا التدبير للأمور والتفصيل للآيات الدالين على القدرة الكاملة والحكمة الشاملة ، جاءا لحكمة اقتضتهما وهى الإيقان بالبعث لفضل القضاء ومجازاة كل عامل بما عمل : « يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه » فإما نعيم مقيم وإما عذاب أليم ، وإلى ذلك أشار بقوله :
(لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) أي رجاء أن تتحققوا أن من قدر على رفع السموات بغير عمد ودبر الأمر بإحكام ونظام - قادر على البعث والنشور وإحياء الموتى من القبور لفصل القضاء ثم ثواب كل عامل على ما عمل ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر فإما سعادة لا شقاء بعدها ، وإما نكال وعذاب تتبدل من هوله الجلود « كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها » وخلاصة هذه العبرة - إنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية العظيمة من الشمس والقمر وسائر الكواكب فى الجو بلا عمد ودبّر الأمور بغاية الإحكام والدقة ولم يشغله شأن عن شأن - ليس بالبعيد عليه أن يرد الأرواح إلى الأجساد ويعيد العالم إلى حياة أخرى حياة استقرار وبقاء لافناء بعدها ، وإذا أيقنتم بذلك ولّيتم معرضين عن عبادة الأصنام والأوثان ، وأخلصتم العبادة للواحد الديان ، وائتمرتم بوعده ووعيده ، وصدقتم برسله ، وبادرتم إلى اتباع أوامره وتركتم ما نهى عنه ، ففزتم بسعادة الدارين.
وبعد أن ذكر سبحانه الدلائل السماوية على وحدانيته وكمال قدرته أردفها بالأدلة الأرضية فقال :(13/65)
ج 13 ، ص : 66
(1) (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) أي جعلها متسعة ممتدة فى الطول والعرض ، لتثبت عليها الأقدام ، ويتقلب عليها الحيوان ، وينتفع الناس بخيراتها زرعها وضرعها ، وبما فى باطنها من معادن جامدة وسائلة ، ويسيرون فى أكنافها يبتعون رزق ربهم منها.
ولا شك أن الأرض لعظم سطحها هى فى رأى العين كذلك ، وهذا لا يمنع كرويتها التي قد قامت عليها الأدلة لدى علماء الفلك ولم يبق لديهم فيها ريب.
(2) (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) أي وأرساها بجبال راسيات شامخات لا تنتقل ولا تتحرك حتى لا تميد وتضطرب.
(3) (وَأَنْهاراً) أي وجعل فيها أنهارا جارية لمنافع الإنسان والحيوان ، فيسقى الإنسان ما جعل اللّه فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال ويجعلها لنفسه طعاما وفاكهة ، ويكون منها مادة حياته فى طعامه وشرابه وغذائه.
(4) (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ، جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي وجعل فيها من كل أصناف الثمرات زوجين اثنين ذكرا وأنثى حين تكوّنها ، فقد أثبت العلم حديثا أن الشجر والزرع لا يولدان التمر والحب إلا من اثنين ذكر وأنثى ، وعضو التذكير قد يكون مع عضو التأنيث فى شجرة واحدة كأغلب الأشجار ، وقد يكون عضو التذكير فى شجرة وعضو التأنيث فى شجرة أخرى كالنخل ، وما كان العضوان فيه فى شجرة واحدة إما أن يكونا معا في زهرة واحدة كالقطن ، وإما أن يكون كل منهما فى زهرة كالقرع مثلا.
(5) (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي يلبس النهار ظلمة الليل ، فيصير الجو مظلما بعد أن كان مضيئا ، فكأنه وضع عليه لباسا من الظلمة ، وكذلك يلبس الليل ضياء النهار فيصير الجو مضيئا ، وكل هذا لتتم المنافع للناس بالسكون والاستقرار أو بالبحث على المعايش والأرزاق كما قال : « أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً » وقال : « وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ » .(13/66)
ج 13 ، ص : 67
وبعد أن ذكر هذه الأدلة التي تشاهد رأى العين فى كل صباح ومساء وفى كل حين ووقت ، ذكر أن هذه الأدلة لا يلتفت إليها ولا يعتبر بها إلا من له فكر يتدبر به وعقل يهتدى به إلى وجه الصواب وينتقل من النظر فى الأسباب إلى مسبباتها فقال :
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فيما ذكر من عجائب خلق اللّه وعظيم قدرته التي خلق بها هذه الأشياء العظيمة - لدلائل وحججا لمن يتفكر فيها ويعتبر فيعلم أن الخالق لذلك هو القاهر فوق العباد ، وهو ذو الإرادة المطلقة والقدرة الشاملة ، فلا يعجزه إحياء من هلك من خلقه ، ولا إعادة من فنى منهم ، ولا ابتداع ما شاء ابتداعه ، ومن ثم لا تجوز العبادة إلا له ، ولا التذلل والخضوع إلا لسلطانه ، ولا ينبغى أن تكون لصنم أو وثن أو حجر أو شجر أو ملك أو نبى أو غير أولئك ممن سلب النفع والضر ، بل لا يستطيع صرف الأذى عن نفسه : « إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ. وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ » .
وقد روى « تفكروا فى آلاء اللّه ولا تتفكروا فى اللّه » .
(6) (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) أي وفى الأرض بقاع متجاورات متدانيات ، يقرب بعضها من بعض ، وتختلف بالتفاضل مع تجاورها ، فمن سبخة لا تنبت شيئا إلى أرض جيدة التربة تجاورها وتنبت أفضل الثمرات ومختلف النبات ، ومن صالحة للزرع دون الشجر ، إلى أخرى مجاورة لها تصلح للشجر دون الزرع ، إلى متدانية لهما تصلح لجميع ذلك ، ومنها الرّخوة التي لا تكاد تتماسك وهى تجاور الصّلبة التي لا تفتّتها المعاول وأدوات. التدمير من المفرقعات (الديناميت والقنابل) وكلها من صنع اللّه وعظيم تدبيره فى خلقه.
(وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ) أي وفيها بساتين من أشجار الكرم.
(وَزَرْعٌ) أي وفيها زرع من كل نوع وصنف من الحبوب المختلفة التي تكون فذاء للإنسان والحيوان.(13/67)
ج 13 ، ص : 68
(وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) أي وفيها نخيل صنوان يجمعها أصل واحد وتتشعب فروعها ، وغير صنوان أي متفرقات مختلفة الأصول.
(يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) أي يسقى كل ما ذكر من القطع والجنات والزرع والنخيل بماء واحد لا اختلاف فى طبعه ، ومع وجود أسباب التشابه نفضّل بمحض القدرة بعضا منها على بعض فى الثمرات شكلا وقدرا ، ورائحة وطعما ، وحلاوة وحموضة.
ثم بين أن مثل هذا لا يفكر فيه إلا من أوتى العقل الذي يفكر فى المقدمات والنتائج ، والأسباب والمسببات فقال :
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي إن فيما فصّل من الأحوال السالفة لآيات باهرة لقوم يعملون على قضية العقل ، فمن ير خروج الثمار المختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروائح فى تلك البقاع المتلاصقة ، مع أنها تسقى بماء واحد وتتشابه وسائل نموها - يجزم حتما بأن لذلك صانعا حكيما قادرا مدبرا لا يعجزه شىء ، وكذلك يعتقد بأن من قدر على إنشاء ذلك ، فهو قادر على إعادة ما بدأه أول مرة ، بل هو أهون منه لدى النظر والاعتبار.
إنكار المشركين للبعث والنبوة
[سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 7]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)(13/68)
ج 13 ، ص : 69
تفسير المفردات
العجب : تغير النفس حين رؤية ما يستبعد فى مجرى العادة ، والأغلال : واحدها غلّ ، وهو طوق من الحديد طرفاه فى اليدين ويحيط بالعنق ، والمثلات (بفتح فضم) واحدها مثلة (بفتح فضم) كسرة وهى العقوبة التي تترك فى المعاقب أثرا قبيحا كصلم أذن أو جدع أنف أو سمل عين ، والغفر : الستر بالإمهال وتأخير العقاب إلى الآخرة ، والمراد بالآية هنا الآيات الحسية كقلب عصا موسى حية وناقة صالح ، والإنذار :
التخويف ، والهادي : القائد الذي يقود الناس إلى الخير كالأنبياء والحكماء والمجتهدين.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر إنكارهم لوحدانيته تعالى مع وضوح الأدلة على ذلك ، من خلق السموات بلا عمد وتسخير الشمس والقمر يجريان إلى أجل مسمى ومن مد الأرض وإلقاء الجبال الرواسي فيها إلى آخر ما ذكر من الآيات الدالة على عظيم قدرته وبديع صنعه لمن يتأمل ويتفكر فى ذلك الملكوت العظيم - ذكر هنا إنكارهم للبعث والنشور على وضوح طريقه وسطوع دليله قياسا على ما يرون ويشاهدون ، فإن من قدر على خلق السموات والأرض وسائر العوالم على هذا النحو الذي يحار الإنسان فى الوصول إلى معرفة كنهه لا يعجز عن إعادته فى خلق جديد كما قال تعالى :
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ؟ » .(13/69)
ج 13 ، ص : 70
الإيضاح
(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ؟ ) أي وإن تعجب من عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع من الأصنام والأوثان بعد أن قامت الأدلة على التوحيد ، فأعجب منه تكذيبهم بالبعث واستبعادهم إياه بقولهم :
(أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ؟ ) أي أ ئذا فنينا وبلينا نعاد بعد العدم ، مع أنهم لا ينكرون قدرته تعالى على إيجادهم بداءة ذى بدء وتصويرهم فى الأرحام وتدبير شئونهم حالا بعد حال.
وقد تكرر هذا الاستفهام فى أحد عشر موضعا فى تسع سور من القرآن :
فى الرعد ، والإسراء ، والمؤمنون ، والنحل ، والعنكبوت ، والسجدة ، والصافات ، والواقعة ، والنازعات! وكلها تتضمن كمال الإنكار وعظيم الاستبعاد.
ثم وصف أولئك المنكرين للبعث فقال :
(أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) أي أولئك الذين جحدوا قدرة ربهم وكذبوا رسوله على ما عاينوا من آياته الكبرى التي ترشدهم إلى الإيمان وتهديهم سبيل الرشاد لو كانوا يبصرون - هم الذين تمادوا فى عنادهم وكفرهم ، فإن إنكار قدرته تعالى إنكار له لأن الإله لا يكون عاجزا.
(وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) أي وأولئك مقيدون بسلاسل وأغلال من الضلال تصدهم عن النظر فى الحق واتباع طريق الهدى والبعد عن الهوى كما قال :
كيف الرشاد وقد خلّفت فى نفر لهم عن الرشد أغلال وأقياد
وقد يكون المعنى - إنهم يوم القيامة عند العرض للحساب توضع الأغلال فى أعناقهم كما يقاد الأسير الذليل بالغل ، ويؤيده قوله تعالى : « إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ » .
(وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي وأولئك هم الماكثون فى النار دار(13/70)
ج 13 ، ص : 71
الذل والهوان لا يتحولون عنها ولا يبرحونها كفاء ما سولت لهم أنفسهم من سىء الأعمال وما اجترحوا من الموبقات والشرور والآثام : « كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ » .
وبعد أن ذكر تكذيبهم للرسول صلى اللّه عليه وسلّم فى إنكار عذاب يوم القيامة ذكر جحودهم لعذاب الدنيا الذي أوعدهم به ، وكانوا كلما هددهم بالعذاب قالوا له جئنا به وطلبوا منه إنزاله ، وهذا ما أشار إليه بقوله :
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ) أي ويستعجلونك بالعقوبة التي هددوا بها إذا هم أصروا على الكفر استهزاء وتكذيبا كما حكى اللّه عنهم فى قوله : « وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ » وفى قوله « وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ » وفى قوله « سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ » .
(قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي قبل الثواب والسلامة من العقوبة ، وكان صلى اللّه عليه وسلّم يعدهم على الإيمان بالثواب فى الآخرة وحصول النصر والظفر فى الدنيا.
(وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) أي ويستعجلونك بذلك مستهزئين بإنذارك منكرين وقوع ما تنذرهم به ، والحال أنه قد مضت العقوبات الفاضحة النازلة على أمثالهم من المكذبين المستهزئين ، فمن أمة مسخت قردة ، وأخرى أهلكت بالرجفة ، وثالثة أهلكت بالخسف إلى نحو أولئك.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) أي وإن ربك لذو عفو وصفح عن ذنوب من تاب من عباده فتارك فضيحته بها فى يوم القيامة ، ولو لا حلمه وعفوه لعاجلهم بالعقوبة حين اكتسابها كما قال « وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ » .
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) لمن يجترح السيئات وهو متماد فى غوايته سادر(13/71)
ج 13 ، ص : 72
فى آثامه ، وقد يعجل له قسطا منه فى الدنيا ويكون جزاء له على ما سولت له نفسه كما يشاهد لدى المدمنين على الخمور من اعتلال وضعف ومرض مزمن وفقر مدقع وذل وهوان بين الناس ، وفى المقامرين من خراب عاجل وإفلاس فى المال والذل بعد العز ، وربما اقتضت حكمته أن يؤجل له ذلك إلى يوم مشهود يوم يقوم الناس لرب العالمين فيستوفى قطّه هناك نارا تكوى بها الجباه والجنوب ، وتبدل الجلود غير الجلود ، وقد قرن المغفرة بالعقاب فى مواضع كثيرة من الكتاب الكريم ليعتدل الرجاء والخوف كقوله « إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ » وقوله « نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ » إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع الخوف والرجاء.
روى ابن أبى حاتم عن سعيد بن المسيّب قال : لما نزلت هذه الآية (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) إلخ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم « لو لا عفو اللّه وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش ، ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل واحد » .
وبعد أن ذكر طعنهم فى نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلّم لقوله بالحشر والمعاد ، ثم طعنهم فيه لأنه أنذرهم بحلول عذاب الاستئصال ذكر أنهم طعنوا فيه ، لأنه لم يأت لهم بمعجزة مبيّنة كما فعل الرسل من قبله فقال :
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي ويقول الذين كفروا تعنتا وجحودا : هلا يأتينا بآية من ربه كعصا موسى وناقة صالح ، فيجعل لنا الصفا ذهبا ويزيح عنا الجبال ويجعل مكانها مروجا وأنهارا ، وقد طلبوا ذلك ظنا منهم أن القرآن كتاب كسائر الكتب لا يدخل فى باب المعجزات التي أتى بها الرسل السالفون.
وقد رد اللّه عليهم الشبهة بقوله فى آية أخرى « وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ » أي إن سنتنا أن الآيات إن لم يؤمن بها من طلبوها أهلكناهم بذنوبهم ، ولم نشأ أن يحل بكم عذاب الاستئصال.(13/72)
ج 13 ، ص : 73
ولما كان النبي صلى اللّه عليه وسلّم راغبا فى إجابة مقترحاتهم حبا فى إيمانهم بيّن له وظيفته التي أرسل لأجلها فقال :
(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) أي إن مهمتك التي بعثت لها هى الإنذار من سوء مغبّة ما نهى اللّه عنه كدأب من قبلك من الرسل ، وليس عليك الإتيان بالآيات التي يقترحونها ابتغاء هدايتهم ، فأمر ذلك إلى خالقهم وهاديهم « ليس عليك هداهم ولكنّ اللّه يهدى من يشاء » ، « فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا » .
(وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) أي ولكل أمة قائد يدعوهم إلى سبل الخير ، فطره اللّه على سلوك طريقه بما أودع فيه من الاستعداد له بسائر وسائله ، وقد شاء أن يبعث هؤلاء الهداة فى كل زمان كى لا يترك الناس سدى. وأولئك هم الأنبياء الذين يرسلهم لهداية عباده ، فإن لم يكونوا فالحكماء والمجتهدون الذين يسيرون على سننهم ويقتدون بما خلفوا من الشرائع وفضائل الأخلاق وحميد الشمائل ، ويؤيده
قوله صلى اللّه عليه وسلّم « أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » .
اللّه عليم بكل شى ء
[سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 11]
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)(13/73)
ج 13 ، ص : 74
تفسير المفردات
الغيض : النقصان يقال غاض الماء وغضته كما قال « وَغِيضَ الْماءُ » بمقدار ، أي بأجل لا يتجاوزه ولا ينقص عنه ، والغائب : ما غاب عن الحس ، والشاهد :
الحاضر المشاهد ، الكبير : العظيم الشأن ، والمتعالي : المستعلى على كل شىء ، وأسر الشيء : أخفاه فى نفسه ، والمستخفى : المبالغ فى الاختفاء ، والسارب : الظاهر ، من قولهم سرب : إذا ذهب فى سربه (طريقه) معقبات ، أي ملائكة تعتقب فى حفظه وكلاءته واحدها معقبة ، من عقّبه : أي جاء عقبه ، من بين يديه ، أي قدّامه ، ومن خلفه ، أي من ورائه ، من أمر اللّه ، أي بأمره وإعانته ، وال ، أي ناصر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه إنكار المشركين للبعث واستبعادهم له كما حكى عنهم بقوله « أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ » ، إذ رأوا أن أجزاء الحيوان حين تفتّها وتفرقها يختلط بعضها ببعض ، وقد تتنائر فى بقاع شتى ونواح عدة ، وربما أكل بعض الجسم سبع وبعضه الآخر حدأة أو نسر ، وحينا يأكل السمك قطعة منه وأخرى يجرى بها الماء وتدفن فى بلد آخر ، أزال هذا الاستبعاد بأن الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء ، والذي يعلم الأجنّة فى بطون أمهاتها ، ويعلم ما هو مشاهد لنا أو غائب عنا يعلم تلك الأجزاء المتناثرة ومواضعها مهما نأى بعضها عن بعض ويضم متفرقاتها ويعيدها سيرتها الأولى :
الإيضاح
(اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ) من ذكر أو أنثى ، واحد أو متعدد ، طويل العمر أو قصيره كما قال « هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ » ، وقال « وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ » .(13/74)
ج 13 ، ص : 75
(وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) أي وما تنقصه الأرحام وما تزداده من عدد فى الولد ، فقد يكون واحدا وقد يكون اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة ، ومن جسده فقد يكون تامّا وقد يكون ناقص الخلق وهو المخدج ، ومن مدة الحمل فقد تكون أقل من تسعة أشهر وقد تكون تسعة إلى عشرة أشهر تقريبا ، فقد دل الإحصاء والبحث الذي عمل فى مستشفيات لندن على أن الجنين لا يستقر فى البطن وهو حى أكثر من 305 أيام ، وفى مستشفيات برلين على أنه لا يستقر أكثر من 308 ومن ثم جرت المحاكم الشرعية الآن على أن عدة المطلقة لا تكون أكثر من سنة بيضاء أي سنة قمرية أي 354 يوما ، وهو رأى فى مذهب مالك.
(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) أي ولكل شىء ميقات معيّن لا يعدوه زيادة ولا نقصا « فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون » .
وفى معنى الآية قوله تعالى « إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ »
وفى الحديث « إن إحدى بنات النبي صلى اللّه عليه وسلّم بعثت إليه رسولا : إن ابنا لها فى الموت ، وأنها تحب أن تحضره ، فبعث إليها يقول : « إن للّه ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكل شىء عنده بأجل مسمى ، فمرها فلتصبر ولتحتسب » .
(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي عالم ما هو غائب عنكم لا تدركه أبصاركم من عوالم لا نهاية لها ، فقد أثبت العلم حديثا أن هناك عوالم لا تراها العين المجردة بل ترى بالمنظار المعظم (التليسكوب) ومنها الجراثيم (المكروبات) التي تولد كثيرا من الأمراض التي قد يعسر شفاؤها أو يتعذر فى كثير من الأحوال كجراثيم السرطان والسل والزهري ، أو تشفى بعد حين كجراثيم الجدرىّ و(الدفتيريا) والحصبة ونحوها وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى « وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ » ، وما تشاهدونه وترونه بأعينكم « وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرّة فى الأرض ولا فى السّماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلّا فى كتاب مبين » .
(الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) أي هو العظيم الشأن الذي يجلّ عما وصفه به الخلق من صفات(13/75)
ج 13 ، ص : 76
المخلوقين ، المستعلى على كل شىء بقدرته وجبروته وهو وحده الذي له التصرف فى ملكوته.
وفى هذا إيماء إلى أنه تعالى قادر على البعث الذي أنكروه ، والآيات التي اقترحوها ، والعذاب الذي استعجلوه ، وإنما يؤخر ذلك لمصلحة لا يدركها البشر فيخفى عليه سرها.
وفى معنى الآية قوله « سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ » .
ثم بين أن علمه تعالى شامل لجميع الأشياء فقال :
(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) أي من أسر قوله وأخفاه ولم يتلفّظ به ، أو جهر به وأظهره فهو سواء عند اللّه يسمعه ولا يخفى عليه شىء منه كما قال « وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى » وقال « وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ »
قالت عائشة : سبحان الذي وسع سمعه الأصوات ، واللّه لقد جاءت المجادلة تشتكى زوجها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم وأنا فى جنب البيت وإنه ليخفى علىّ بعض كلامها فأنزل اللّه « قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ » .
(وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) أي مختف فى عقر داره فى ظلام الليل.
(وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) أي ظاهر ماش فى بياض النهار ، فكلاهما عند اللّه سواء ، وروى عن ابن عباس فى تفسير ذلك : هو صاحب ريبة مستخف بالليل ، وإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه برىء من الإثم.
(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي للإنسان ملائكة يتعاقبون عليه :
حرس بالليل وحرس بالنهار يحفظونه من المضارّ ويراقبون أحواله ، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ أعماله من خير أو شر ، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال ، صاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب(13/76)
ج 13 ، ص : 77
السيئات ، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه ، واحد من ورائه وآخر من قدامه ، فهو بين أربعة أملاك بالنهار وأربعة آخرين بالليل بدلا ، حافظان وكاتبان كما
جاء فى الحديث الصحيح « يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون فى صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم كيف تركتم عبادى ؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون » .
وإذا علم الإنسان أن هناك ملائكة تحصى عليه أعماله كان حذرا من وقوعه فى المعاصي خيفة أن يطلع عليه الكرام الكاتبون ويزجره الحياء عن الإقدام على فعل الموبقات كما يحذر من الوقوع فيها إذا حضر من يستحى منه من البشر ، وهو أيضا إذا علم أن كل عمل له فى كتاب مدّخر يكون ذلك رادعا له داعيا إلى تركه.
وليس أمر الحفظة بالبعيد عن العقل بعد أن أثبته الدين وبعد أن كشف العلم أن كثيرا من الأعمال العامة يمكن إحصاؤها بآلات دقيقة لا تدع منها شيئا إلا تحصيه ، فقد أصبحت المياه والكهرباء فى المدن تعدّ بالآلات (العدادات) فالمياه التي يشربونها ، والكهرباء التي يضيئون بها منازلهم تحصى وتعدّ كما يعدّ الدرهم والدينار ، وكذلك هناك آلات تحصى المسافات التي تقطعها السيارات فى سيرها ، وأخرى تحصى تيارات الأنهار ومساقط المياه إلى غير ذلك من دقيق الآلات التي لا تترك صغيرة ولا كبيرة من الأعمال إلا تكتبها وتحصيها.
وكلما تقدمت العلوم وكشفت ما كان غائبا عنا كان فى ذلك تصديق أيّما تصديق لنظريات الدين ، ووسيلة حافزة إلى الاعتراف بما جاء فيه مما يخفى على بعض الماديين الذين لا يقرّون إلا بما يرونه رأى العين ، ولا يذعنون إلا بما يقع تحت حسهم ، وبهذا يصدق قول القائل (الدين والعقل فى الإسلام صنوان لا يفترقان ، وصديقان لا يختلفان).
(يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أي هم يحفظونه بأمر اللّه وإذنه وجميل رعايته وكلاءته ، فكما جعل سبحانه للمحسوسات أسبابا محسوسة ربط بها مسبباتها بحسب ما اقتضته(13/77)
ج 13 ، ص : 78
حكمته ، فجعل الجفن سببا لحفظ العين مما يدخل فيها ، فيؤذيها ، كذلك جعل لغير المحسوسات أسبابا ، فجعل الملائكة أسبابا للحفظ ، وأفعاله تعالى لا تخلو من الحكم والمصالح.
وكذلك جعل لحفظ أعمالنا كراما كاتبين وإن كنا لا ندرى ما قلمهم وما مدادهم ؟
وكيف كتابتهم ؟ وأين محلهم ؟ وما حكمة ذلك ؟ مع أن علمه تعالى بأعمال الإنسان كاف فى الثواب والعقاب عليها ، وقد يكون من حكمة ذلك أنه إذا علم الإنسان أن أعماله محفوظة لدى الحفظة الكرام كان أجدر بالإذعان لما يلقاه من ثواب وعقاب يوم العرض والحساب.
ولمفسرى السلف أقوال فى الآية. قال ابن عباس : هم الملائكة تعقّب بالليل ، تكتب على ابن آدم ، ويحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، وذلك الحفظ من أمر اللّه وبإذن اللّه ، لأنه لا قدرة للملائكة ولا لأحد من الخلق أن يحفظ أحدا من أمر اللّه وبما قضاه عليه إلا بأمره وإذنه ، فإذا جاء قدر اللّه خلّوا عنه. وقال علىّ : ليس من عبد إلا ومعه ملائكة يحفظونه من أن يقع عليه حائط أو يتردى فى بئر أو يأكله سبع أو يغرق أو يحرق ، فإذا جاء القدر خلوّا بينه وبين القدر اه.
(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) أي إن اللّه لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية فيزيلها عنهم ويذهبها ، حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضا واعتداء بعضهم على بعض ، وارتكابهم للشرور والموبقات التي تقوّض نظم المجتمع ، وتفتك بالأمم كما تفتك الجراثيم بالأفراد.
روى أن أبا بكر قال : قال صلى اللّه عليه وسلّم « إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم اللّه تعالى بعقاب »
ويرشد إلى صحة هذا قوله تعالى :
« وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً » وقد بسطنا هذا فيما سلف فى مواضع متعددة ، وأشار إليه المحقق المؤرخ ابن خلدون فى مقدمة التاريخ وعقد له بابا جعل عنوانه [فصل فى أن الظلم مؤذن بخراب العمران ] واسترسل فيه على(13/78)
ج 13 ، ص : 79
المنهج المعروف عنه ، وضرب له الأمثلة بما حدث فى كثير من الأمم قبل الإسلام وبعده ، وبين أن الظلم قد ثلّ عروشها ، وأذل أهلها ، وجعلها طعمة للآكلين ، ومثلا للآخرين.
وفى حال الأمم الإسلامية اليوم وقد اجتثت من أطرافها وتحكم فيها أهل الغرب وأذلوها بعد أن استعمروها ، عبرة لمن تدبر وألقى السمع وهو شهيد ، والقرآن شاهد على صدق هذه النظرية ، كما قال : « إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ » وقوله « أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ » أي الصالحون لاستعمارها والانتفاع بخيراتها ، ما ظهر منها وما بطن.
(وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) أي وإذا أراد اللّه بقوم سوءا من مرض وفقر ونحوهما من أنواع البلاء بما كسبت أيديهم حين أخذوا فى الأسباب التي تصل بهم إلى هذه الغاية ، فلا يستطيع أحد أن يدفع ذلك عنهم ولا يردّ ما قدّره لهم.
وفى هذا إيماء إلى أنه لا ينبغى الاستعجال بطلب السيئة قبل الحسنة ، وطلب العقاب قبل الثواب ، فإنه متى أراد اللّه ذلك وأوقعه بهم فلا دافع له.
والخلاصة - إنه ليس من الحكمة فى شىء أن يستعجلوا ذلك.
(وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) أي ومالهم من دون اللّه سبحانه من يلى أمورهم ، فيجلب لهم النفع ويدفع عنهم الضر ، فالآلهة التي اتخذوها لا تستطيع أن تفعل شيئا من ذلك ، ولا تقدر على دفع الأذى عن نفسها فضلا عن دفعه عن غيرها.
واللّه در الأعرابى الذي رأى صنما يبول عليه الثعلب فثارت به حميّته فأمسكه وكسره إربا إربا وقال :
أربّ يبول الثّعلبان برأسه لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب
وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ » .(13/79)
ج 13 ، ص : 80
نعم اللّه على عباده
[سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 15]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15)
تفسير المفردات
البرق : ما يرى من النور لا معا خلال السحاب ، والرعد : هو الصوت المسموع خلال السحاب. وسببهما على ما بيّن فى العلوم الطبيعية - أن البرق يحدث من تقارب سحابتين مختلفى الكهربائية ، حتى يصير ميل إحداهما للاقتراب من الأخرى أشد من قوة الهواء على فصلهما فتهجم كل منهما على الأخرى بنور زاهر وصوت قوىّ شديد ، فذلك النور هو البرق. والصوت هو الرعد الذي نشأ من تصادم دقائق الهواء الذي تطرده كهربائية البرق أمامها ، والصواعق : واحدها صاعقة. وسببها أن السحب قد تمتلىء بكهربائية ، والأرض بكهربائية أخرى والهواء يفصل بينهما ، فإذا قاربت السحب وجه الأرض تنقص الشرارة الكهربائية منها فتنزل صاعقة تهلك الحرث والنسل ، والمجادلة : من الجدل وهو شدة الخصومة ، وأصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله ، كأن المجادلين يفتل كل منهما الآخر عن رأيه ، والمحال : أي أفتله المماحلة والمكايدة لأعدائه ، يقال محل فلان بفلان إذا كايده وعرّضه للهلاك ، وتمحل إذا تكلف فى استعمال الحيلة ، فى ضلال أي ضياع وخسار ، والظلال : واحدها ظل وهو(13/80)
ج 13 ، ص : 81
الخيال الذي يظهر للجرم ، والغدو : واحدها غداة كقنىّ وقناة وهى أول النهار ، والآصال ، واحدها أصيل : ما بين العصر والمغرب.
المعنى الجملي
بعد أن خوّف سبحانه عباده بأنه إذا أراد السوء بقوم فلا يدفعه أحد - أتبعه بذكر آيات تشبه النعم والإحسان حينا وتشبه العذاب والنقم حينا آخر.
روى « أن عامر بن الطّفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم بالمدينة وسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر فأبى عليهما ذلك ، فقال له عامر لعنه اللّه : أما واللّه لأملأنّها عليك خيلا جردا ورجالا مردا ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم : يأبى اللّه عليك ذلك وابنا قيلة (الأنصار من الأوس والخزرج) ثم إنهما همّا بالفتك برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ، فجعل أحدهما يخاطبه والآخر يستلّ سيفه ليقتله من ورائه ، فحماه اللّه تعالى منهما وعصمه ، فخرجا من المدينة وانطلقا فى أحياء العرب يجمعان لحربه ، فأرسل اللّه على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته ، وأرسل الطاعون على عامر فخرجت فيه غدّة كغدّة البكر ، فآوى إلى بيت سلوليّة وجعل يقول : (غدّة كغدّة البكر وموت فى بيت سلولية ، حتى مات) وأنزل اللّه فى مثل ذلك « ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون فى اللّه » .
الإيضاح
(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي إنه سبحانه يسخّر البرق فيخاف منه بعض عباده كالمسافر ومن فى جرينه التمر والزبيب للتجفيف ، ويطمع فيه من له فيه النفع كمن يرجو المطر لسقى زرعه ، وهكذا حال كل شىء فى الدنيا هو خير بالنظر إلى من يحتاج إليه فى أوانه ، وشر بالنظر إلى من يضره بحسب مكانه أو زمانه.
(وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) أي ويوجد السحب منشأة جديدة ممتلئة ماء فتكون ثقيلة قريبة من الأرض.
(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) أي إن فى صوت الرعد لدلالة على خضوعه وتنزيهه(13/81)
ج 13 ، ص : 82
عن الشريك والعجز ، كما يدل صوت المسبّح وتحميده على انقياده لقدرة ذلك الحكيم الخبير.
ونحو الآية قوله سبحانه : « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ » .
أخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر « كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم إذا سمع صوت الرعد والصواعق يقول : اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك » .
وأخرج ابن مردويه عن أبى هريرة : « أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم كان إذا هبّت الريح أو سمع صوت الرعد تغيّر لونه حتى يعرف ذلك فى وجهه ، ثم يقول للرعد : سبحان من سبّحت له ، وللريح : اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا » .
(وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) أي ويسبح الملائكة الكرام من هيبته وجلاله ، وينزهونه عن اتخاذ الصاحبة والولد.
(وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) إصابته بها فيهلكه.
(وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ) أي يجادلون فى شأنه تعالى ، وفيما وصفه به الرسول الكريم ، من كمال العلم والقدرة والتفرد بالألوهية وإعادة الناس للجزاء على أعمالهم يوم العرض والحساب.
وفى هذا تسلية لرسوله صلى اللّه عليه وسلّم فإنه لما نعى على كفار قريش عنادهم فى اقتراحهم الآيات الحسية كآيات موسى وعيسى عليهما السلام ، وإنكارهم كون الذي جاء به عليه السلام آية - سلّاه بما ذكر كأنه قال له : إن هؤلاء لم يقصروا جحدهم وإنكارهم على النبوّة بل تخطّوه إلى الألوهية ، ألا تراهم مع ظهور الآيات البينات على التوحيد يجادلون فى اللّه باتخاذ الشركاء وإثبات الأولاد له ، ومع إحاطة علمه وشمول قدرته ينكرون البعث والجزاء والعرض للحساب ، ومع شديد بطشه وعظيم سلطانه يقدمون على المكايدة والعناد فهوّن عليك ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.(13/82)
ج 13 ، ص : 83
(وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) أي وهو سبحانه لا يغالب ، فهو شديد البطش والكيد لأعدائه ، يأتيهم من حيث لا يحتسبون ولا يترقبون ، وهو القادر على أن ينزل عليهم عذابا من عنده لا يستطيعون حيلة لدفعه ولا قوة على ردّه ، لكنه يمهلهم لأجل معلوم بحسب ما تقتضيه الحكمة كما صح
فى الحديث : « إن ربك لا يهمل ولكن يمهل » .
ومثل الآية قوله : « وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ » وقوله : « وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ » .
قال : ابن جرير فى تفسير ذلك : واللّه شديد فى عقوبة من طغى عليه وعتا وتمادى فى كفره.
(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) أي له تعالى الدعاء والتضرع الواقع حيث ينبغى أن يكون ، والمجاب حين وقوعه ، أي إن إجابة ذلك له تعالى دون غيره.
وفى هذا وما قبله وعيد للكفار على مجادلتهم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم بحلول محاله بهم ، وتهديدهم بإجابة دعائه عليه السلام إن دعا عليهم. وقيل دعوة الحق كلمة التوحيد : أي للّه من خلقه أن يوحّدوه ويخلصوا له ، وإنه شرعها وأمر بها.
(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) أي والأصنام الذين يدعوهم المشركون وبتضرعون إليهم ويتجاوزون اللّه لا يجيبونهم بشىء مما يريدونه من نفع أو ضر إلا كما يجيب الماء لمن بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه ، والماء جماد لا شعور له ببسط الكفين ولا قبضهما ، فكيف يجيب دعاءه ، وهكذا أصنامهم لا تحير جوابا.
وخلاصة ذلك - إنه شبه آلهتهم حين استكفوا بهم ما أهمهم ، وهم لا يشعرون بشىء فضلا عن أن يجيبوا أحد بماء بمرأى من عطشان باسط كفيه إليه يناديه هلمّ أقبل إلىّ وهو لا يستطيع ردا ولا جوابا.(13/83)
ج 13 ، ص : 84
(وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي فى ضياع وخسار ، فإن دعوا اللّه لم يجبهم ، وإن دعوا الأصنام لم تستطع إجابتهم.
ثم بين عظيم قدرته تعالى فقال :
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) أي وينقاد لعظمته كل شىء ، فيخضع له الملائكة والمؤمنون من الثقلين طوعا فى الشدة والرخاء ، والكفار كرها فى حال الشدة كما جاء فى آيات كثيرة كقوله : « وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ » وقوله : « فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ » وقوله : « لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ » .
(وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي وتسجد أيضا ظلال من له ظل منهما بالغدوات والعشايا تبعا لانقياد الأجسام التي تشرق عليها الشمس ، ثم يصرفه اللّه تعالى بالمد والتقلص ، وتخصيص هذين الوقتين بالذكر لظهور الامتداد والتقلص فيهما ، أو المراد بهما الدوام كما جاء ذلك كثيرا فى استعمالاتهم.
إعادة الكلام فى الوحدانية
[سورة الرعد (13) : آية 16]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16)(13/84)
ج 13 ، ص : 85
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن كل من فى السموات والأرض خاضع لقدرته ، منقاد لإرادته بالغدو والآصال ، وفى كل وقت وحين ، طوعا أو كرها بحسب ما يريد - أعاد الكلام مع المشركين ليلزمهم الحجة ويقنعهم بالدليل ويضيق عليهم باب الحوار حتى لا يستطيعوا الفرار من الاعتراف بوحدانيته وشمول قدرته وإرادته وأنه لا معبود سواه ولا رب غيره.
الإيضاح
(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء الذين اتخذوا من دونه أولياء : من رب هذه الأجرام العلوية والسفلية التي تبهر العقول بجميل صنعها ، وكامل ترتيبها ووضعها ؟ .
(قُلِ اللَّهُ) أي قل لهم : الذي خلقها وأنشأها وسواها على أتم موضع وأحكم بناء هو اللّه ، وقد أمر عليه السلام ليجيب بذلك ، للاشارة إلى أنه هو وهم سواء فى ذلك الجواب الذي لا محيص منه ، وهم لا ينكرونه البتة كما قال تعالى : « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ » .
(قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا ؟ )
أي قل لهم بعد أن ثبت هذا لدينكم : فلم اتخذتم لأنفسكم من دون اللّه معبودات هى جمادات ، لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا ؟ فكيف تنفع غيرها أو تضر ؟ وإذا لم يكن لها القدرة على شىء من ذلك فعبادتها محض السفه الذي لا يرضاه لنفسه رشيد ، يزن أعماله بميزان الحكمة والمصلحة.
وخلاصة ذلك - أ فبعد أن علمتم أنه هو الخالق لهذا الخلق العظيم ، تتخذون من دونه أولياء هم غاية فى العجز ؟ وجعلتم ما كان يجب أن يكون سببا فى الاعتراف بالوحدانية وهو علمكم بذلك - سببا فى إشراككم به سواه من أضعف خلقه ، وهو بمعنى قوله : « إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ »(13/85)
ج 13 ، ص : 86
ثم ضرب مثلا للمشركين الذين يعبدون الأصنام والمؤمنين الذين يعترفون بأن لارب غيره ولا معبود سواه ، فقال :
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي قل لهم مصوّرا سخيف آرائهم مفنّدا قبيح معتقداتهم : هل يستوى الأعمى الذي لا يبصر شيئا ولا يهتدى لمحجة يسلكها إلا بأن يهدى بدليل والبصير الذي يهدى الأعمى لسلوك الطريق ؟ لا شك أن الجواب أنهما غير متساويين ، فكذلك المؤمن الذي يبصر الحق فيتّبعه ، ويعرف الهدى فيسلكه ، لا يستوى وإياكم ؟ وأنتم لا تعرفون حقا ، ولا تبصرون رشدا.
ثم ضرب مثلا للكفر والإيمان بقوله :
(أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) أي بل هل تستوى الظلمات التي لا ترى فيها الطريق فتسلك ، والنور الذي يبصر به الأشياء ، ويجلو ضوؤه الظلام - لا شك أن الجواب عن ذلك أنهما لا يستويان ، فكذلك الكفر باللّه صاحبه منه فى حيرة ، يضرب أبدا فى غمرة لا يهتدى إلى حقيقة ولا يصل إلى صواب ، والإيمان باللّه صاحبه منه فى ضياء ، فهو يعمل على علم بربه ومعرفة منه بأنه يثيبه على إحسانه ، ويعاقبه على إساءته ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ، ويكلؤه بعنايته فى كل وقت وحين ، فهو يفوّض أمره إليه إذا أظلمت الخطوب ، وتعقدت فى نظره مدلهمّات الحوادث.
(أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) أي بل أخلق أوثانكم التي اتخذتموها معبودات من دون اللّه ، خلقا كخلقه ، فاشتبه عليكم أمرها فيما خلقت وخلق اللّه ، فجعلتموها له شركاء من أجل ذلك - أم إنما بكم الجهل والبعد عن الصواب ، إذ لا يخفى على من له مسكة من العقل ، أن عبادة ما لا يضر ولا ينفع ، من الجهل بحقيقة المعبود ، ومن يجب له التذلل والخضوع ، والإنابة والزلفى والإخبات إليه ، وإنما الواجب عبادة من يرجى نفعه ويخشى عقابه وضرّه ، وهو الذي يرزقه ويمونه آناء الليل وأطراف النهار.
ثم ذكر فذلكة لما تقدم ، ونتيجة لما سبق من الأدلة والأمثال التي ضربت لها فقال :(13/86)
ج 13 ، ص : 87
(قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي قل مبينا لهم وجه الحق :
اللّه خالقكم وخالق أوثانكم وخالق كل شىء ، وهو الفرد الذي لا ثانى له ، الغالب على كل شىء سواه ، فكيف تعبدون غيره وتشركون به ما لا يضر ولا ينفع ؟ .
[سورة الرعد (13) : الآيات 17 الى 19]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19)
تفسير المفردات
الأودية : واحدها واد ، وهو الموضع الذي يسيل فيه الماء والفرجة بين الجبلين وقد يراد به الماء الجاري فيه ، بقدرها : أي بمقدارها المتفاوت قلة وكثرة بحسب تفاوت أمكنتها صغرا وكبرا ، واحتمل : أي حمل ، والزبد : ما يعلو وجه الماء حين الزيادة كالجب ، وما يعلو القدر عند غليانها ، والرابى : العالي المرتفع فوق الماء الطافي عليه ، والجفاء : ما رمى به الوادي من الزبد إلى جوانبه.
المعنى الجملي
بعد أن ضرب اللّه مثل البصير والأعمى للمؤمن والكافر ، ومثل النور والظلمات للإيمان والكفر - ضرب مثلين للحق فى ثباته وبقائه ، وللباطل فى اضمحلاله وفنائه(13/87)
ج 13 ، ص : 88
ثم بين مآل كل من السعداء والأشقياء وما أعدّ لكل منهما يوم القيامة ، وبين أن حاليهما لا يستويان عنده ، وأن الذي يعى تلك الأمثال ويعتبر بها إنما هو ذو اللب السليم ، والعقل الراجع ، والفكر الثاقب.
الإيضاح
(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) أي أنزل من السحاب مطرا فسالت مياه الأودية بحسب مقدارها فى الصغر والكبر ، فحمل السيل الذي حدث من ذلك الماء زبدا عاليا مرتفعا فوقه طافيا عليه - وهذا هو المثل الأول الذي ضربه اللّه للحق والباطل والإيمان والكفر.
(وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي ومن الذي يطرحه الناس فى النار من ذهب أو فضة وكذلك من سائر الفلزّات كالحديد والنحاس والرّصاص - زبد راب كما يطفو على الماء فى الأودية زبد مثله ، ويتّخذ من الذهب والفضة حلىّ ، ومن الحديد والرصاص والنحاس وما أشبه ذلك متاع وهو ما يتمتع به الناس كالأوانى والقدور وغيرها من آلات الحرث والحصد وأدوات المصانع وأدوات القتال والنزال ، وهذا هو المثل الثاني.
(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) أي وما مثل الحق والباطل إذا اجتمعا إلا مثل السيل والزبد ، فكما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة ونحوهما مما يسبك فى النار بل يذهب ويضمحل ، فالباطل لاثبات له ولا دوام أمام الحق.
ثم فصل هذا بقوله.
(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) أي فأما الزبد الذي يعلو السيل فيذهب فى جانبى الوادي ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح ، وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب ولا يرجع منه شىء ، وأما ما ينفع الناس من الماء والذهب والفضة فيمكث فى الأرض ، فالماء نشر به ونسقى به الأرض فينبت(13/88)
ج 13 ، ص : 89
جيد الزرع الذي ينتفع به الناس والحيوان ، والذهب والفضة نستعملها فى الحلي وصكّ النقود ، والحديد والنحاس ونحوهما نستعملها فى متاعنا من الحرث والحصد وفى المعامل والمصانع ووسائل الدفاع ونحو ذلك.
وخلاصة المثلين - أنه تعالى مثل نزول الحق وهو القرآن الكريم من حضرة القدس ، على القلوب الخالية منه ، المتفاوتة الاستعداد فى ملاحظته وحفظه ، وفى استذكاره وتلاوته ، وهو وسيلة الحياة الروحية والفضائل النفسية والآداب المرضية - بماء نزل من السماء فى أودية قاحلة لم يكن لها سابق عهد به ، وسال بمقدار اقتضت الحكمة أن يكون نافعا فى إحياء الأرض وما عليها ، جالبا لسعادة الإنسان والحيوان ، وكذلك جعله حلية تتحلى بها النفوس ، وتصل بها إلى السعادة الأبدية ، ومتاعا يتمتع به فى المعاش والمعاد ، ومثله بالذهب والفضة وسائر الفلزات التي يتخذ منها أنواع الآلات والأدوات ، وتبقى منتفعا بها ردحا طويلا من الزمن.
ومثّل الباطل الذي ابتلى به الكفرة لفقد استعدادهم لعمل الخير بما ران على قلوبهم من شرور المعاصي واجتراح الآثام - بالزبد الرابى الذي يطفو على الماء ، أو يخرج من خبث الحديد والنحاس والفضة والذهب ونحوها ويضمحل سريعا ويزول.
وقال الزجاج : مثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان له كمثل الماء المنتفع به فى نبات الأرض وحياة كل شىء ، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر ، لأنها كلها تبقى منتفعا بها ، ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء ، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به اه.
(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ) أي ومثل ضربنا لهذه الأمثال البديعة التي توضح للناس ما أشكل عليهم من أمور دينهم وتظهر الفوارق بين الحق والباطل والإيمان والكفر - نضرب لهم الأمثال فى كل باب حتى تستبين لهم طريق الهدى فيسلكوها وطرق الباطل فينحرفوا عنها ، وتتم لهم سعادة المعاش والمعاد ، ويكونوا المثل العليا(13/89)
ج 13 ، ص : 90
بين الناس : « كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر » .
و
فى الصحيحين عن أبى موسى الأشعري رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « إن مثل ما بعثني اللّه به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع اللّه بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا ، وأصابت طائفة منها أخرى إنما هى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ - فذلك مثل من فقه فى دين اللّه ونفعه اللّه بما بعثني به ونفع به الناس فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى اللّه الذي أرسلت به » .
وروى أحمد عن أبى هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قال : « مثلى ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن فى النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها - فذلك مثلى ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار ، هلّم عن النار فتغلبونى فتقتحمون فيها » .
وبعد أن بين سبحانه شأن كل من الحق والباطل فى الحال والمآل وأتم البيان ، شرع يبين حال أهلهما مآلا ترغيبا فيهما وترهيبا ، وتكملة لوسائل الدعوة إلى الحق والخير وتنفيرا عن سلوك طرق الباطل والشر فقال :
(1) (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى ) أي للذين أطاعوا اللّه ورسوله وانقادوا لأوامره وصدّقوا ما أخبر به فيما نزل عليه من عند ربه - المثوبة الحسنى الخالصة من الكدر والنّصب ، الدائمة المقترنة بالتعظيم والإجلال.
والآية بمعنى قوله : « لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ » وقوله : « وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً » .
(ب) (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ،(13/90)
ج 13 ، ص : 91
أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ)
أي والذين لم يطيعوا اللّه ولم يمتثلوا أوامره ولم ينتهوا عما نهى عنه لهم ألوان وأنواع من العذاب منها :
(1) إنهم من شدة ما يرون من هول العذاب لو استطاعوا أن يجعلوا ما فى الأرض جميعا ومثله معه فدية لأنفسهم لفعلوا ، فإن المحبوب أولا لكل إنسان هوذاته ، وما سواها فيحبّ لكونه وسيلة إلى مصالحها ، فإذا كان مالكا لهذا العالم كله ولما يساويه جعله فداء لنفسه.
وفى هذا من التهويل الشديد ومن سوء ما يلقاهم فى ذلك اليوم ، ما لا يخفى على من اعتبر وتذكر.
(2) سوء الحساب ، فيناقشون على الجليل والحقير ،
وفى الحديث « من نوقش الحساب عذب »
ذاك أن كفرهم أحبط أعمالهم ، وارتكابهم للشرور والآثام ران على قلوبهم وجعلها تستمرئ الغواية والضلالة ، وحبهم للدنيا جعلهم يعرضون عما يقربهم إلى اللّه زلفى فباءوا بالخسران والهوان والنكال.
(3) إن مأواهم جهنم وبئس المسكن مسكنهم يوم القيامة ، إذ أنهم غفلوا عما يقربهم إلى ربهم وينيلهم كرامته ورضوانه ، واتبعوا أهواءهم وانغمسوا فى لذاتهم فحقت عليهم كلمته (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
ونزل فى حمزة رضى اللّه عنه وأبى جهل كما روى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما قوله تعالى :
(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى ) أي لا يستوى من يعلم أن الذي أنزله اللّه عليك من ربك هو الحق الذي لا شك فيه ولا امتراء. ومن لا يعلم فهو أعمى ، لا يهتدى إلى خير يفهمه ، ولو فهمه ما انقاد إليه ولا صدقه ، فيبقى حائرا فى ظلمات الجهل وغياهب الضلالة.
قال قتادة : هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب اللّه وعقلوه ووعوه ، وهؤلاء كمن هو أعمى عن الحق ، فلا يبصره ولا يعقله اه.(13/91)
ج 13 ، ص : 92
(إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي إنما يعتبر بهذه الأمثال ويتعظ بها ، ويصل إلى لبّها وسرها ، إلا أولوا العقول السليمة ، والأفكار الرجيحة.
الجامع لصفات الخير كتبت له حسنى العقبى
[سورة الرعد (13) : الآيات 20 الى 24]
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
تفسير المفردات
يدرءون : أي يدفعون ، والعدن : الإقامة ، يقال عدن بمكان كذا : إذا استقر ، ومنه المعدن لمستقر الجواهر ، والدار : هى دار الآخرة.
المعنى الجملي
بعد أن ضرب اللّه الأمثال لمن اتبع الحق وسلك سبيل الرشاد ، ولمن ركب رأسه ، وسار فى سبل الضلالة لا يلوى على شىء ولا يقف لدى غاية - بيّن أن من جمع صفات الخير الآتية يكون ممن اتبعوا الحق ، وملكوا نواحى الإيمان ، وأقاموا دعائمه ، وهؤلاء قد كتب لهم حسنى العقبى والسعادة فى الدنيا والآخرة.(13/92)
ج 13 ، ص : 93
الإيضاح
(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ) أي الذين يوفون بما عقدوه على أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم وفيما بينهم وبين العباد ، وشهدت فطرهم فى هذه الحياة بصحته ، وأنزل عليهم فى الكتاب إيجابه.
قال قتادة : إن اللّه ذكر الوفاء بالعهد والميثاق فى بضع وعشرين موضعا من القرآن عناية بأمره واهتماما بشأنه.
(وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) أي الميثاق الذي وثقوه بينهم وبين ربهم من الإيمان به ، وبينهم وبين الناس من العقود كالبيع والشراء وسائر المعاملات والعهود التي تعاهدوا على الوفاء بها إلى أجل ،
وفى الحديث : « آية المنافق ثلاث : إذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر ، وإذا حدّث كذب » .
(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) أي والذين يصلون الرحم التي أمرهم اللّه بوصلها ، فيعاملون الأقارب بالمودة والحسنى ، ويحسنون إلى المحاويج وذوى الخلة منهم بإيصال الخير إليهم ودفع الأذى عنهم بقدر الاستطاعة ،
وعن أبى هريرة رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قال : « من سره أن يبسط له فى رزقه ، وأن ينسأ له فى أجله فليصل رحمه »
وإنساء الأجل : تأخيره ، وذلك بالبركة له فيه فكأنه قد زاد.
ويدخل فى ذلك جميع حقوق اللّه وحقوق عباده كالإيمان بالكتب والرسل ، ووصل قرابة المؤمنين بسبب الإيمان كالإحسان إليهم ، ونصرتهم ، والشفقة عليهم ، وإفشاء السلام ، وعيادة المرضى ، ومراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقة فى السفر إلى غير ذلك.
أخرج الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم « إن البر والصلة ليخفّفان سوء الحساب يوم القيامة ثم تلا : « وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ » .(13/93)
ج 13 ، ص : 94
(وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) الخشية : خوف مقرون بالتعظيم والعلم بمن تخشاه ، ومن ثم خص اللّه بها العلماء بدينه وشرائعه والعالمين بجلاله وجبروته فى قوله : « إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ » والمراد أنهم يخشون ربهم ويخافونه خوف مهابة وإجلال.
(وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) أي ويحذرون مناقشته إياهم الحساب ، وعدم الصفح لهم عن ذنوبهم ، فهم لرهبتهم جادون فى طاعته ، محافظون على اتباع أوامره وترك نواهيه.
(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) الصبر : حبس النفس عن نيل ما تحب ، أي والذين صبروا على ما تكرهه النفس ويثقل عليها من فعل الطاعات وترك الشهوات ، طلبا لرضا ربهم من غير أن ينظروا إلى جانب الخلق رياء وسمعة ، ولا إلى جانب أنفسهم زينة وعجبا.
(وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي أدّوها على ما رسمه الدين من خشوع القلب واجتناب الرياء والخشية للّه ، مع تمام أركانها وهيئآتها احتسابا لوجهه.
(وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي وأنفقوا بعض ما رزقناهم سرا فيما بينهم وبين ربهم ، وعلانية بحيث يراهم الناس ، سواء كان الإنفاق واجبا كالإنفاق على الزوجة والولد والأقارب الفقراء ، أم مندوبا كالإنفاق على الفقراء والمحاويج من الأجانب.
(وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي ويدفعون الشر بالخير ويجازون الإساءة بالإحسان فهو كقوله : « وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً » ومن ثم قال ابن عباس :
أي يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سوء غيرهم.
(أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) أي أولئك الذين وصفناهم بتلك المحاسن والكمالات التي بلغت الغاية فى الشرف والكمال - هم الذين لهم العقبى الحسنة فى الدار الآخرة.
ثم بين هذه العقبى فقال :(13/94)
ج 13 ، ص : 95
(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) أي تلك العقبى هى جنات إقامة ، يخلّدون فيها لا يخرجون منها أبدا.
ثم ذكر ما يكون فيها من الأنس باجتماع الأهل والمحبين الصالحين فقال :
(وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي ويجمع فيها بينهم وبين أحبابهم من الآباء والأزواج والأبناء ممن عمل صالحا لتقربهم أعينهم ، ويزدادوا سرورا برؤيتهم ، حتى لقد ورد أنهم يتذاكرون أحوالهم فى الدنيا فيشكرون اللّه على الخلاص منها.
وفى الآية إيماء إلى أنه فى ذلك اليوم لا تجدى الأنساب إذا لم يسعفها العمل الصالح ، فالآباء والأزواج والذرية لا يدخلون الجنة إلا بعملهم ، وقد أشار إلى ذلك الكتاب الكريم : « يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » .
وفى الحديث : أن النبي صلى اللّه عليه وسلّم وهو فى مرض موته قال لفاطمة : « يا فاطمة بنت محمد ، سلينى من مالى ما شئت ، لا أغنى عنك من اللّه شيئا » .
ثم ذكر ما لهم من الكرامة فيها بتسليم الملائكة عليهم فقال :
(وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) أي وتدخل عليهم الملائكة من هاهنا وهنا للتسليم عليهم ، والتهنئة بدخول الجنة ، والإقامة فى دار السلام ، فى جوار الصدّيقين والأنبياء والرسل الكرام.
(سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) أي قائلين لهم : أمان عليكم من المكاره والمخاوف التي تحيق بغيركم ، بما احتملتم من مشاقّ الصبر ومتاعبه والآلام التي لا قيتموها فى دار الحياة الدنيا.
(فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) أي فنعم عاقبة الدنيا الجنة.
أخرج ابن جرير « أن النبي صلى اللّه عليه وسلّم كان يأتى قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول : « سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار » ، وكذا كان يفعل « أبو بكر وعمر وعثمان رضى اللّه عنهم » .(13/95)
ج 13 ، ص : 96
[سورة الرعد (13) : آية 25]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أوصاف المتقين ، وما أعدّ لهم عنده فى دار الكرامة ، بما كان لهم من كريم الصفات وفاضل الأخلاق - بين حال الأشقياء وما ينتظرهم من العذاب والنكال ، وأتبع الوعد بالوعيد والثواب بالعقاب على سنة القرآن الدائبة فى مثل هذا « نبّى عبادى أنّى أنا الغفور الرّحيم. وأنّ عذابى هو العذاب الأليم » .
الإيضاح
وصف سبحانه الأشقياء بصفات هى السبب فى خسرانهم :
(1) (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) أي والذين ينقضون عهد اللّه الذي ألزمه عباده بما أقام عليه من الأدلة العقلية كالتوحيد والقدرة والإرادة والإيمان بالأنبياء والوحى ونحوها.
ونقضه إما بألا ينظروا فيه فلا يمكنهم العمل بموجبه ، وإما بأن ينظروا فيه ويعلموا صحته ثم هم بعد يعاندون فيه ولا يعملون بما علموه واعتقدوا صحته.
وقوله : من بعد ميثاقه أي من بعد اعترافهم به وإقرارهم بصحته.
(2) (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من الإيمان به وبجميع أنبيائه الذين جاءوا بالحق ، فآمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض ، وقطعوا الرحم وكانوا حربا على المؤمنين وعونا للكافرين ، ومنعوا المساعدات العامة التي توجب التآلف والمودة بين المؤمنين كما
جاء فى الحديث : « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا »
وجاء أيضا « المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى باقى الأعضاء بالسهر والحمى » .(13/96)
ج 13 ، ص : 97
(3) (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بظلمهم لأنفسهم وظلمهم لغيرهم بابتزاز أموالهم واغتصابها بلا حق ، وتهييج الفتن بين المسلمين وإثارة الحرب عليهم ، وإظهار العدوان لهم.
ثم حكم عليهم بما يستحقون بما دسّوا به أنفسهم فقال :
(أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي أولئك الذين اتصفوا بهذه المخازي وسىء الصفات ، لهم بسبب ذلك الطرد من رحمته ورضوانه ، والبعد من خيرى الدنيا والآخرة.
(وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي ولهم سوء العاقبة وهو عذاب جهنم ، جزاء وفاقا لما اجترحوه من السيئات ، وأتوا به من الشرور والآثام.
يبسط اللّه الرزق لبعض عباده ويقدر على آخرين لحكمة هو بها عليم
[سورة الرعد (13) : الآيات 26 الى 29]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
تفسير المفردات
يقدر : يضيّق كقوله « وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ » أي ضيّق ، والمراد أنه يعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شىء ، متاع : أي متعة قليلة لا دوام لها ولا بقاء ، وأناب :
أي رجع عن العناد ، وأقبل على الحق ، وتطمئن : أي تسكن وتخشع ، وطوبى لهم :
أي لهم العيش الطيب وقرة العين والغبطة والسرور ، والمآب : المرجع والمنقلب.(13/97)
ج 13 ، ص : 98
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن من نقض عهد اللّه من بعد ميثاقه ولم يقرّ بوحدانيته وأنكر نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلّم فهو ملعون فى الدنيا ومعذب فى الآخرة - بين هنا أنه تعالى يبسط الرزق لبعض عباده ويضيقه على بعض آخر على ما اقتضته حكمته وسابق علمه بعباده ، ولا تعلق لذلك بإيمان ولا كفر ، فربما وسع على الكافر استدراجا له وضيّق على المؤمن زيادة فى أجره ، ثم ذكر مقالة لهم كثر فى القرآن تردادها وهى طلبهم منه آية تدل على نبوته لإنكارهم أن يكون القرآن آية دالة على ذلك ، ثم ذكر حال المؤمنين المتقين ومآلهم عند ربهم فى جنات تجرى من تحتها الأنهار.
الإيضاح
(اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أي اللّه يوسع الرزق لمن يشاء من عباده ممن هو حاذق فى جمع المال ، وله من الحيلة فى الحصول على كسبه واستنباطه بشتى الوسائل ما يخفى على غيره ، ولا علاقة لهذا بإيمان وكفر ولا صلاح ومعصية.
(وَيَقْدِرُ) على من يشاء ممن هو ضعيف الحيلة فى كسبه ، وليس بالحوّل القلّب فى استنباط أسبابه ووسائله وما الغنى والفقر إلا حالان يمران على البرّ والفاجر كما يمر عليهما الليل والنهار والصباح والمساء.
ثم ذكر أن مشركى مكة بطروا بغناهم فقال :
(وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي وفرح الذين نقضوا العهد والميثاق ببسط الرزق فى الحياة الدنيا ، وعدّوه أكبر متاع لهم وأعظم حظوة عند الناس.
ثم بين لهم خطأهم فقال :
(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) أي وما نعيم الدنيا إذا قيس على نعيم(13/98)
ج 13 ، ص : 99
الآخرة إلا نزر يسير سريع الزوال فهو كعجالة الراكب وزاد الراعي ، فلا حق لهم فى البطر والأشر بما أوتوا من حظوظها ، وانتفعوا به من خيراتها ، فهم قد اعتزوا بالقليل السريع الزوال.
أخرج الترمذي عن المستورد قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم « ما الدنيا فى الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه فى اليمّ فلينظر بم يرجع ، وأشار بالسبابة »
وأخرج الترمذي وصححه عن ابن مسعود قال : « نام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم على حصير فقام وقد أثّر فى جنبه ، فقلنا يا رسول اللّه لو اتخذنا لك ، فقال مالى وللدنيا ، ما أنا فى الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها » .
ولما أبان أنهم قد انخدعوا بالسراب ، واكتفوا بالحباب ، ذكر ما ترتب على ذلك الغرور من اقتراحهم على رسوله صلى اللّه عليه وسلّم الآيات فقال :
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي ويقول الذين كفروا من أهل مكة كعبد اللّه بن أبىّ وأصحابه ، هلا أنزل على محمد آية كما أرسل على الأنبياء والرسل السابقين كسقوط السماء عليهم كسفا ، أو تحويل الصفا ذهبا ، أو إزاحة الجبال من حول مكة حتى يصير مكانها مروجا وبساتين إلى نحو أولئك من الاقتراحات التي حكاها القرآن عنهم كقولهم : « فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ » وكأنهم لفرط عنادهم وعظيم مكابراتهم قد ادّعوا أن ما أتى به من باهر الآيات كالقرآن وغيره ليس عندهم من الآيات التي توجب الإذعان والإيمان أو التي لا تقبل شكا ولا جدلا.
ثم أمر رسوله أن يبين لهم أن إنزال الآيات لا دخل له فى هداية ولا ضلال بل الأمر كله بيده.
(قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) أي إنه لا فائدة لكم فى نزول الآيات إن لم يرد اللّه هدايتكم فلا تشغلوا أنفسكم بها ، ولكن تضرّعوا إليه واطلبوا منه الهداية ، فإن الضلال والهداية بيده وإليه مقاليدها ، وادعوه أن يهيئ(13/99)
ج 13 ، ص : 100
لكم من أمره رشدا ، وأن يمهد لكم وسائل النجاة والسعادة ، ويدفع عنكم نزعات الشيطان ووساوسه ، لتظفروا بالحسنى فى الدارين.
والخلاصة - أن فى القرآن وحده غنى عن كل آية ، فلو أراد اللّه هدايتكم لصرف اختياركم إلى تحصيل أسبابها وكان لكم فيه مرشدا أيّما مرشد ، ولكن اللّه جعلكم سادرين فى الضلالة لا تلوون على شىء ، ولا ينفعكم إرشاد ولا نصح ، لسوء استعدادكم ، وكثرة لجاجكم وعنادكم ، ومن كانت هذه حاله فأنى له أن يهتدى ولو جاءته كل آية ؟
كما قال : « وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ » وقال : « إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ » وقال : « وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ » .
أما من أقبلوا إلى اللّه وتأملوا فى دلائله الواضحة ، وسلكوا طرقه المعبدة ، فاللّه ينير بصائرهم ويشرح صدورهم ، وهم لا بد واصلون إلى الفوز بالحسنى ، وحاصلون على السعادة فى الدنيا والآخرة ، وهم من أشار إليهم بقوله :
(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) أي هم الذين آمنوا وركنت قلوبهم إلى جانب اللّه وسكنت حين ذكره ، وإذا عرض لهم الشك فى وجوده ظهرت لهم دلائل وحدانيته فى الآيات ، وعجائب الكائنات ، فرضى به مولى ورضى به نصيرا ، ومن ثم قال :
(أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) أي ألا بذكر اللّه وحده تطمئن قلوب المؤمنين ، ويزول القلق والاضطراب من خشيته ، بما يفيضه عليها من نور الإيمان الذي يذهب الهلع والوحشة ، وهى بمعنى قوله فى الآية الأخرى : « ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ » .(13/100)
ج 13 ، ص : 101
فالمؤمنون إذا ذكروا عقاب اللّه ولم يأمنوا من وقوعهم فى المعاصي وجلت قلوبهم كما قال : « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ » وإذا ذكروا وعده بالثواب والرحمة سكنت نفوسهم واطمأنت إلى ذلك الوعد وزال منها القلق والوحشة.
وفى الآية إيماء إلى أن الكفار أفئدتهم هواء ، إذ لم تسكن نفوسهم إلى ذكره ، بل سكنت إلى الدنيا وركنت إلى لذاتها.
ثم بين سبحانه جزاء المطمئنين وثوابهم فقال :
(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) أي إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم الفرح وقرّة العين عند ربهم ، وحسن المآب والمرجع.
وفى هذا من الترغيب فى طاعته ، والتحذير من معصيته ، ومن شديد عقابه ، ما لا خفاء فيه.
وخلاصة ذلك - أن أهل الجنة منعمون بكل ما يشتهون كما جاء فى الحديث :
« فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر » .
محمد صلى اللّه عليه وسلّم ليس بدعا من الرسل
[سورة الرعد (13) : الآيات 30 الى 34]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)(13/101)
ج 13 ، ص : 102
تفسير المفردات
خلت : مضت ، متاب : مرجعى ، قطعت : شققت ، ييأس : يعلم وهو لغة هوازن قارعة رزية تقرع القلوب ، أمليت : أي أمهلت مدة طويلة فى أمن ودعة ، قائم :
رقيب ومتولّ للأمور ، تنبئونه : تخبرونه ، بظاهر من القول : أي بباطل منه لا حقيقة له فى الواقع. والسبيل : هو سبيل الحق وطريقه ، والواقي : الحافظ.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه طلبهم من رسوله صلى اللّه عليه وسلّم الآيات كما أنزل على الرسل السالفين كموسى وعيسى وغيرهم من النبيين والمرسلين ، وبين أن الهدى هدى اللّه ، فلو أوتوا من الآيات ما أوتوا ولم يرد اللّه هدايتهم فلا يجديهم ذلك فتيلا ولا قطميرا ذكر هنا أن محمدا ليس ببدع من الرسل وأن قومه سبقهم أقوام كثيرون ، وطلبوا الآيات من أنبيائهم ، وأجابوهم إلى ما طلبوا ، ولم تغنهم الآيات والنذر ، فكانت عاقبتهم البوار والنكال ، فأنزل على كل قوم من العذاب ما أتى عليهم جميعا ، وأصبحوا معه كأمس الدابر ولو أن كتابا تسيّر به الجبال عن أماكنها ، أو تشقّق به الأرض فتجعل أنهارا وعيونا ، لكان هذا القرآن الذي أنزلناه عليه ، ثم أبان أن اللّه تعالى قادر على الإتيان بما اقترحوه ، لكنه لم يرد ذلك ، لأنه لا ينتج المقصود من إيمانهم.(13/102)
ج 13 ، ص : 103
ثم أتبع ذلك بالتيئيس منه وبالتهديد بقارعة تحل بهم ، وبتسلية النبي صلى اللّه عليه وسلم على استهزائهم به.
أخرج ابن أبى شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال : قالت قريش لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن كنت نبيا كما تزعم فباعد جبلى مكة أخشبيها (اسمى الجبلين) هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة ، فإنها ضيقة حتى نزرع فيها ونرعى ، وابعث لنا آباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبى ، أو احملنا إلى الشام أو اليمين أو إلى الحيرة حتى نذهب ونجىء فى ليلة كما زعمت أنك فعلته فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس أنهم قالوا : سيّر بالقرآن الجبال ، قطّع بالقرآن الأرض ، أخرج به موتانا ، فنزلت.
الإيضاح
(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي كما أرسلنا إلى الأمم الماضية رسلا فكذبوهم ، كذلك أرسلناك فى هذه الأمة ، لتبليغهم رسالة اللّه إليهم ، وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا بأولئك ، فليحذر هؤلاء من حلول النقم بهم.
وخلاصة ذلك - إننا كما أرسلنا إلى أمم من قبلك وأعطيناهم كتبا تتلى عليهم ، أرسلناك وأعطيناك هذا الكتاب لتتلوه عليهم ، فلما ذا يقترحون غيره ؟ .
(وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) أي وحالهم أنهم كفروا بمن أحاطت بهم نعمه ، ووسعت كلّ شىء رحمته ، ولم يشكروا نعمه وفضله عليهم ، ولا سيما إحسانه إليهم بإرسالك وإنزال القرآن عليك. ، وهو الكفيل بمصالح الدنيا والآخرة كما قال تعالى :
« وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ » .
وكفرهم به أنهم جحدوه بتاتا أو أثبتوا له الشركاء.(13/103)
ج 13 ، ص : 104
(قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي قل لهم : إن الرحمن الذي كفرتم به هو خالقى ومتولّى أمرى ومبلغى مراتب الكمال. لا رب غيره ولا معبود سواه ، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
وعن قتادة قال : « ذكر لنا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم زمن الحديبية حين صالح قريشا كتب فى الكتاب : بسم اللّه الرحمن الرحيم. فقالت قريش : أما الرحمن فلا نعرفه ، وكان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم ، فقال أصحابه : دعنا نقاتلهم ، قال لا ، اكتبوا كما يريدون » اه.
(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي عليه لا على غيره توكلت فى جميع أمورى ، ولا سيما فى نصرتى عليكم.
(وَ إِلَيْهِ مَتابِ) أي وإليه وحده توبتى ، وهو بمعنى قوله : « وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ » وفى هذا بيان لفضل التوبة ومقدار عظمها عند اللّه ، وبعث للكفار على الرجوع عما هم عليه بأبلغ وجه وألطف سبيل ، إذ أمر بها عليه السلام وهو منزّه عن اقتراف الذنوب ، فتوبتهم وهم عاكفون على أنواع الكفر والمعاصي أحق وأجدر.
(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) أي ولو ثبت أن كتابا سيّرت بتلاوته الجبال وزعزعت من أماكنها كما فعل بالطور لموسى عليه السلام.
(أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) أي شققت وجعلت أنهارا وعيونا كما حدث للحجر حين ضربه موسى بعصاة.
(أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى ) أي أو كلم أحد به الموتى فى قبورهم بأن أحياهم بقراءته فتكلم معهم بعد كما وقع لعيسى عليه السلام - لو ثبت هذا الشيء من الكتب لثبت لهذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لما انطوى عليه من الآيات الكونية الدالة على بديع صنع اللّه فى الأنفس والآفاق ، واشتمل عليه من الحكم والأحكام التي فيها صلاح البشر وسعادتهم فى الدار الفانية والدار الباقية ، ومن قوانين العمران التي تكون خيرا لمتبعيها وفوزا لسالكيها ، ويجعل منهم خير أمة أخرجت(13/104)
ج 13 ، ص : 105
للناس ، وهذا بمعنى قوله : « لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ » .
خلاصة ذلك - لو أن ظهور أمثال ما اقترحوه مما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة ، لكان مظهر ذلك هو القرآن الذي لم يعدّوه آية واقترحوا غيره.
ولا يخفى ما فى هذا من تعظيم شأنه الكريم ، ووصفهم بسخف العقل ، وسوء التدبير والرأى ، وبيان أن تلك المقترحات لا ينبغى أن يؤبه لها ، ولا يلتفت إليها ، لأنها صادرة عن التشهّى والهوى ، والتمادي فى الضلال والمكابرة والعناد ، لا عن تقدير للأمور على وجهها الصحيح ، وتأمل فى حقائقها ، وما يجب أن يكون لها من الاعتبار.
ويجوز أن يكون المعنى - لو أن كتابا فعلت بوساطته هذه الأفاعيل العجيبة لما آمنوا به ، لفرط عنادهم وغلوهم فى مكابرتهم ، وهذا بمعنى قوله : « وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ » .
(بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) أي بل مرجع الأمور كلها بيد اللّه ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ومن يضلل فلا هادى له ، ومن يهد فما له من مضل.
وخلاصة ذلك - إن اللّه قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات ، لكن الإرادة لم تتعلق بذلك ، لعلمه أن قلوبهم لا تلين ، ولا يجدى هذا فائدة فى إيمانهم.
(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) أي ألم يعلم الذين آمنوا أن اللّه تعالى لو شاء هداية الناس أجمعين لهداهم ، فإنه ليس ثمة حجة ولا معجزة أنجع فى العقول من هذا القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية اللّه ، لكنه لم يشأ ذلك.
روى البخاري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قال : « ما من نبى إلا وقد أوتى ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه اللّه إلىّ فأرجو أن أكون(13/105)
ج 13 ، ص : 106
أكثرهم تابعا يوم القيامة »
يريد أن كل نبى انقرضت معجزته بموته ، وهذا القرآن حجة باقية على وجه الدهر ، لا تنقضى عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الردّ ، ولا يشبع منه العلماء.
(وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) أي ولا يزال الكافرون تصيبهم البلايا والرزايا ، من القتل والأسر ، والسلب والنهب ، بسبب تماديهم فى الكفر وتكذيبهم لك وإخراجك من بين أظهرهم.
(أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) أي أو تحل تلك القارعة قريبا من دارهم فيفزعون منها ويتطاير شررها إليهم.
(حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ) أي حتى ينجز اللّه وعده الذي وعدك فيهم ، بظهورك عليهم ، وفتحك أرضهم ، وقهرك إياهم بالسيف.
(إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي إن اللّه منجزك ما وعدك من النصر عليهم ، لأنه لا يخلف وعده كما قال : « فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ » .
ولما كان الكفار يسألون النبي صلى اللّه عليه وسلّم هذه الآيات على سبيل الاستهزاء والسخرية ، وكان ذلك يشق عليه ، ويتأذى منه ، أنزل اللّه تسلية له على سفاهة قومه قوله :
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي إن يستهزئ بك هؤلاء المشركون من قومك ويطلبوا منك الآيات تكذيبا لما جئتهم به فاصبر على أذاهم وامض لأمر ربك ، فلقد استهزأت أمم من قبلك برسلهم.
ثم بين سبحانه شأنه مع المكذبين فقال :
(فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي فتركتهم ملاوة أي مدة من الزمان فى أمن ودعة كما يملى للبهيمة فى المرعى.(13/106)
ج 13 ، ص : 107
(ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي ثم أحللت بهم عذابى ونقمتى حين تمادوا فى غيهم وضلالهم ، فانظر كيف كان عقابى إياهم حين عاقبتهم - ألم أذقهم أليم العذاب وأجعلهم عبرة لأولى الألباب ؟ .
وقد صدق اللّه وعده ، ونصر رسوله على عدوه ، فدخل فى دين اللّه من دخل ، ومن أبى قتل ، ودانت العرب كلها له ، وانضوت تحت لوائه ، وحقت عليهم كلمة ربك وفى هذا تعجيب مما حل بهم ، ودلالة على شدته وفظاعة أمره كما لا يخفى.
ثم ذكر سبحانه ما يجرى مجرى الحجاج عليهم ، وما فيه توبيخ لهم وتعجيب من عقولهم ، وكيف إنها وصلت إلى حد لا ينبغى لعاقل أن يقبله ولا يرضى به فقال :
(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) أي أ فمن هو قائم بحفظ أرزاق الخلق ومتولى أمورهم وعالم بهم وبما يكسبونه من الأعمال من خير أو شر ولا يعزب عنه شىء كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تسمع ولا تبصر ، ولا تدفع عن نفسها ولا عمن يعبدها ضرا ، ولا تجلب لهم نفعا.
وخلاصة ذلك - أنه لا عجب من إنكارهم لآياتك الباهرة مع ظهورها ، وإنما العجب كل العجب من جعلهم القادر على إنزالها المجازى لهم على إعراضهم عن تدبر معانيها - بقوارع تترى واحدة بعد أخرى يشاهدونها رأى العين - كمن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عن اتخاذه ربا يرجى نفعه ، أو يخشى ضره.
ونحو الآية قوله : « وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها » وقوله : « وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ » وقوله : « وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » .
ثم أكد هذا بقوله :
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) عبدوها معه من أصنام وأوثان وأنداد.
ثم أعقب ذلك بتوبيخ إثر توبيخ فقال :(13/107)
ج 13 ، ص : 108
(قُلْ سَمُّوهُمْ) أي صفوهم ، فهل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة ، وقد يكون المعنى ، سموهم من هم وما أسماؤهم ؟ فإنهم ليسوا ممن يذكر ويسمّى ، فإنما يسمى من ينفع ويضر.
(أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) أي بل أ تخبرونه بشركاء يستحقون العبادة لا يعلمهم ، أو تخبرونه بصفات لهم يستحقون لأجلها العبادة وهو لا يعلمها ، وفى هذا نفى لوجودها ، لأنها لو كانت موجودة لعلمها ، لأنه لا تخفى عليه خافية ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء.
(أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أي بل أ تسمونهم شركاء ظنا منكم أنهم ينفعون ويضرون كما تسمونهم آلهة كما قال : « إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى » .
وخلاصة حجاجه على المشركين - نفى الدليل العقلي والدليل النقلى على أحقية عبادتها - فبعد أن هدم قاعدة الإشراك بقوله : « أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ » زاد ذلك إيضاحا فقال : وليتهم إذ أشركوا بربهم الذي لا ينبغى أن يشرك به - أشركوا به من له حقيقة واعتبار ومن ينفع ويضر ، لا من لا اسم له فضلا عن المسمى ، بل من لا يعرف له وجود فى الأرض ولا فى السماء ، ويريدون أن ينبئوا عالم السر والنجوى بما لا يعلمه ، ثم زاد على ذلك فقال : وما تلك التسمية إلا بظاهر من القول من غير أن يكون تحتها طائل وما هى إلا أصوات جوفاء كثيرة المبانى خالية من المعاني.
(بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) أي دع هذا الحجاج وألق به جانبا ، فإنه لا فائدة فيه ، لأنه زيّن لهم كيدهم ، لاستسلامهم للشرك ، وتماديهم فى الضلال.
(وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) أي وصرفوا عن سبيل الحق ، بما زين لهم من صحة ما هم عليه.(13/108)
ج 13 ، ص : 109
(وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يخذله اللّه لسوء اعتقاده وفساد أعماله واجتراحه للآثام والمعاصي فلا هادى له يوفقه إلى النجاة ويوصله إلى طرق السعادة.
ونحو الآية قوله : « وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً » وقوله :
« إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ » .
ثم بين عاقبة أمرهم فقال :
(لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)
أي لهم عذاب شاق فى هذه الحياة بالقتل والأسر وسائر الآفات التي يصيبهم بها.
(وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ)
أي ولتعذيب اللّه إياهم فى الدار الآخرة أشد من تعذيبه إياهم فى الدنيا وأشق لشدته ودوامه.
ثم أيأسهم من صرف العذاب عنهم فقال :
(وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ)
أي وما لهم حافظ يعصمهم من عذاب اللّه ، إذ لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ، ولا يأذن لأحد فى الشفاعة لمن كفر به ومات على كفره.
[سورة الرعد (13) : الآيات 35 الى 39]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)(13/109)
ج 13 ، ص : 110
تفسير المفردات
المثل : الصفة والنعت ، والأكل : ما يؤكل ، والظل : واحد الظلال والظلول والأظلال ، والأحزاب : واحدهم حزب ، وهو الطائفة المتحزّبة : أي المجتمعة لشأن من الشئون كحرب أو عداوة أو نحو ذلك ، والمآب : المرجع ، والواقي. الحافظ ، والأجل :
الوقت والمدة ، والكتاب : الحكم المعين الذي يكتب على العباد بحسب ما تقتضيه الحكمة ، والمحو : ذهاب أثر الكتابة ، وأمّ الكتاب : أصله وهو علم اللّه تعالى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما أعده للكافرين من العذاب والنكال فى الدنيا والآخرة - أتبعه بذكر ثواب المتقين فى جنات تجرى من تحتها الأنهار ، ثم أردفه ذكر فرح المؤمنين من أهل الكتاب بما أنزل عليه من ربه ، وإنكار بعض منهم لذلك ، ثم حث الرسول صلى اللّه عليه وسلّم على القيام بحق الرسالة وتحذيره من مخالفة أوامره ، ثم ختم هذا بذكر الجواب عن شبهات كانوا يوردونها لإبطال نبوته صلى اللّه عليه وسلّم كقولهم : إنه كثير الزوجات ، ولو كان رسولا من عند اللّه لما اشتغل بأمر النساء.
وخلاصة الجواب - إن محمدا ليس ببدع من الرسل ، فكثير منهم كان له أزواج وذرية ولم يقدح ذلك فى رسالاتهم ، وكقولهم : إنه لو كان رسولا من عند اللّه لم يتوقف فيما يطلب منه من المعجزات ، فأجيبوا بأن أمر المعجزات مفوّض إلى اللّه إن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها ، ولا اعتراض لأحد عليه ، وقولهم : إن ما يخوفنا به من العذاب وظهور النصرة له ولقومه لم يتحقق بعد فليس بنبي ولا صادق فيما يقول ،(13/110)
ج 13 ، ص : 111
فأجيبوا عن ذلك بقوله : لكل أجل كتاب : أي لكل حادث وقتا معينا لا يتقدم عنه ولا يتأخر ، فتأخر المواعيد لا يدل على ما تدّعون.
الإيضاح
(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي فيما نقصّه عليك صفة الجنة التي وعد اللّه المتقين وأعطاهم إياها كفاء إخباتهم له وإنابتهم إليه ودعائهم إياه مخلصين له الدين لا شريك له (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) سارحة فى أرجائها وجوانبها يصرّفونها كيف شاءوا وأين أرادوا.
(أُكُلُها دائِمٌ) أي فيها الفواكه والمطاعم والمشارب التي لا تنقطع عنهم ولا تبيد.
(وَظِلُّها) كذلك ، فليس هناك حر ولا برد ، ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة كما قال تعالى : « لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً » .
وبعد أن وصف الجنة بهذه الصفات الثلاث - بين أنها مآل المتقين ومنتهى أمرهم فقال :
(تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي هذه الجنة عاقبة من اتّقوا ربهم فأقلعوا عن الكفر والمعاصي واجتراح السيئات ، وعنت وجوههم للحى القيوم ، وخافوا يوما تشيب من هوله الولدان ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب اللّه شديد.
ثم بين عاقبة الكافرين بعد ما بين عاقبة المتقين فقال :
(وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) أي وعاقبة الكافرين باللّه النار ، بما اقترفوا من الذنوب ودنسوا به أنفسهم من الآثام.
وفى الآية فتح باب الطمع على مصراعيه للمتقين ، وإقفاله بالرّتاج على الكافرين.
ثم بين أن أهل الكتاب انقسموا فئتين : فئة فرحت بنزول القرآن ، وفرقة أنكرته وكفرت ببعضه فقال :(13/111)
ج 13 ، ص : 112
(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن لما فى كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به كما قال تعالى : « الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ » وهم جماعة ممن آمن من اليهود كعبد اللّه ابن سلام وأصحابه ، ومن النصارى وهم ثمانون رجلا من الحبشة واليمن ونجران.
(وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) أي ومن جماعتهم الذين تحزّبوا وتألبوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم بالعداوة ككعب بن الأشرف والسيد والعاقب أسقفّى نجران وأشياعهم - من أنكر بعض القرآن وهو مالم يوافق ما حرفوه من كتابهم وشرائعهم.
ولما ذكر سبحانه اختلاف أهل الكتاب فى شأنه صلى اللّه عليه وسلّم - بين بإيجاز ما يحتاج إليه المرء ليفوز بالسعادتين فقال :
(قُلْ إِنَّم ا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ)
أي قل لهم صادعا بالحق ولا تكترث بمن ينكره إنى أمرت فيما أنزل إلىّ بأن أعبد اللّه وحده ولا أشرك به شيئا سواه ، وذلك ما لا سبيل إلى إنكاره وأطبقت عليه الشرائع والكتب كما قال : « يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً » وذلك ما دلت الدلائل التي فى الآفاق والأنفس على وجوب الإذعان له والاعتراف به.
وفى كل شىء له آية تدل على أنه واحد
(إِلَيْهِ أَدْعُوا) أي إلى طاعته وإخلاص العبادة له وحده أدعو الناس.
(وَإِلَيْهِ مَآبِ) أي وإليه وحده مرجعى ومصيرى ومصيركم للجزاء ، ولا خلاف بيننا فى هذا ، فالعجب لكم أن تنكروا المتفق عليه ، وتختلفوا فيما لا محل للخلاف فيه.
وهذه الآية جامعة لشئون النشأة الأولى والآخرة ، فقوله : « قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ » توحى إلى ما جاء به التكليف ، وقوله « إِلَيْهِ أَدْعُوا » تشير إلى مهامّ الرسالة ، وقوله : (وَإِلَيْهِ مَآبِ) تشير إلى البعث والجزاء للحساب يوم القيامة.(13/112)
ج 13 ، ص : 113
ثم بين سبحانه أنه أرسل رسوله بلغة قومه كما أرسل من قبله رسلا بلغات أقوامهم فقال :
(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) أي وكما أرسلنا قبلك المرسلين وأنزلنا عليهم الكتب ، أنزلنا عليك القرآن حكما عربيا بلسانك ولسان قومك ليسهل عليهم تفهم معناه واستظهاره. وسمى القرآن حكما : أي فصلا للأمر على وجه الحق - لأن فيه بيان الحلال والحرام وجميع ما يحتاج إليه المكلفون ليصلوا إلى السعادة فى الدنيا والآخرة.
وقد جاء بمعنى الآية قوله : « وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ » .
ثم إن أهل مكة دعوه إلى أمور يشاركهم فيها فقال :
(وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي ولئن اتبعت أهواء هؤلاء الأحزاب ابتغاء رضاهم ، كالتوجه إلى قبلتهم وعدم مخالفتهم فى شىء مما يعتقدونه.
(ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) أي ليس لك من دون اللّه ولىّ ولا ناصر ينصرك ، فينقذك منه إن هو أراد عقابك ، ولا واق يقيك عذابه إن شاء عذابك ، فاحذر أن تتبع أهواءهم وتنهج نهجهم.
وقد تقدم أن مثل هذا من وادي قولهم : (إياك أعنى واسمعي يا جاره) فهو إنما جاء لقطع أطماع الكافرين وتهييج المؤمنين على الثبات فى الدين لا للنبى صلى اللّه عليه وسلّم فهو بمكان لا يحتاج فيه إلى باعث ولا مهيّج.
ونزل : لما عابت اليهود رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم بكثرة النساء ، فقالوا لو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) أي وكما أرسلناك رسولا بشريا ، كذلك بعثنا المرسلين قبلك بشرا يأكلون الطعام ويمشون فى الأسواق ويأتون الزوجات ويولد لهم.(13/113)
ج 13 ، ص : 114
وفى الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قال : « أما أنا فأصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وآكل اللحم ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتى فليس منى » :
وقد كان من حكمة تعدد زوجاته أمهات المؤمنين أن اطلعن منه على الأحوال الخفيّة التي تكون بين الرجل والمرأة وعلمهن منه أحكامها ونشرنها بين المؤمنين ، وناهيك بأم المؤمنين عائشة وفيها
يقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم « خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء »
ومن ثم كانت أكثر من حدّث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم بعد أبى هريرة ، وأكثر من حدث عن شمائله وأحلاقه فى السر والعلن ، ومنها علم المسلمون كثيرا من أحكام دينهم ، وقد كان الصحابة رضوان اللّه عليهم يختلفون إليها للحديث والفتيا وكانت تحاجهم وتجادلهم ، وتلزمهم الحجة ولا يجدون معدلا عن التسليم برأيها.
وروى أن المشركين طعنوا فى نبوته لعدم إتيانه بما يقترحونه من الآيات فنزل قوله :
(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)
أي وما كان فى وسع رسول من الرسل أن يأتى من أرسل إليهم بمعجزة يقترحونها إلا متى شاء اللّه وعلم أن فى الإتيان بها حكما ومصالح لعباده ، وقد جاء من الآيات بما فيه عبرة لمن اعتبر ، وغناء لمن تفكر وتدبر ، ولكنهم أبوا إلا التمادي فى الغواية والضلال كما تقدم من مقال عبد اللّه بن أبى أمية.
والآيات المقترحة لا تأتى إلا على مقتضى الحكمة فى أزمان يعلمها اللّه ، وقد جعل لكل زمن من الأحكام ما فيه الصلاح والخير للناس ، ولا صلاح فيما اقترحوه ، وهل من الصلاح أن يرضع المراهق اللبن من ظئره ، وأن يجعل له مهد ينام فيه ؟
كذلك لا حكمة فى إنزال الآيات التي اقترحوها ، وهذا إيضاح قوله :
(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) أي لكل كتاب أجل أي لكل أمر كتبه اللّه أجل معين ووقت معلوم ، فلا آية من المقترحات بنازلة قبل أوانها ، ولا عذاب مما خوّفوا به بحاصل فى غير وقته ، ولا نبوة بحاصلة فى غير الزمان المقدر لها ، فموسى وعيسى(13/114)
ج 13 ، ص : 115
ومحمد عليهم السلام جاءوا فى أزمنة رأى اللّه الصلاح فى وجودهم فيها لا يتقدمون عنها ولا يتأخرون ، وهكذا انقضاء أعمار الناس ووقوع أعمالهم وآجالهم ، كلها كتبت فى آجال ومدد معينة لا تقديم فيها ولا تأخير.
ونحو الآية قوله (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ).
فما مثل الدنيا من كواكبها وشمسها وأرضها وزرعها إلا مثل مصنع رتّبت أعماله ، ووضعت عماله. فى حجر معينة ، ووزع بينهم العمل على نظم خاصة ، فى أوقات معينة ، ولهم مناهج يتبعونها ، فتراهم كل يوم يعملون وينصرفون من أماكنهم ثم يعودون إليها على نهج لا يتغير ولا يتبدل ، فالدنيا قد جعل اللّه لها نظاما على مقتضى الحقائق الثابتة التي تعلّق بها علمه ، وعلى هذا النظام جرت الشمس والقمر والكواكب وظهر النبات والحيوان وتعاقب الموت والحياة ، وظهرت نجوم وفنيت أخرى ، ونبت زرع وحصد آخر ومات نبى وقام آخر ، وامتد دين وانتشر ، وتقلّص دين ونسخ.
وكل كوكب من الكواكب التي تصلح للحياة كأرضنا كأنه صحيفة يكتب فيها ويمحى ، وذلك تابع لما فى المنهج الأصلى ، ومن ثم تتعاقب الأمم والأجيال والدول والنظم على قطر كمصر ، فيتعاقب عليه قدماء المصريين واليونان والرومان ، ولا شك أن كل هذا محو وإثبات على مقتضى المنهج المرسوم ، وهكذا تنسخ آية من القرآن ويؤتى بغيرها ، كما ينسخ زرع بزرع ، وليل بنهار ، وقوم بقوم ، ودين نبى بآخر فى ميقاته المعين فى علمه تعالى ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :
(يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) وقد أثر عن أئمة السلف فيها أقوال لا تناقض فيها بل هى داخلة فيما سلف :
(1) قال الحسن : يمحو اللّه من جاء أجله ويثبت من بقي أجله.
(2) وقال عكرمة : يمحو اللّه القمر ويثبت الشمس.
(3) وقال الربيع : يقبض اللّه الأرواح حين النوم ، فيميت من يشاء ويمحوه ويرجع من يشاء فيثبته (4) وقال السدى : يمحو اللّه القمر ويثبت الشمس.(13/115)
ج 13 ، ص : 116
(5) وقال آخرون : يمحو اللّه ما يشاء من الشرائع بالنسخ ، ويثبت ما يشاء.
فلا ينسخه ولا يبدله.
(6) وقال آخر : يمحو اللّه المحن والمصايب بالدعاء.
(وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) هو علم اللّه ، وجميع ما يكتب فى صحف الملائكة لا يقع حيثما يقع إلا موافقا لما يثبت فيه فهو أمّ لذلك ، فكأنه قيل يمحو ما يشاء محوه ويثبت ما يشاء وهو ثابت عنده فى علمه الأزلى الذي لا يكون شىء إلا وفق ما فيه.
[سورة الرعد (13) : الآيات 40 الى 43]
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)
تفسير المفردات
الأطراف : الجوانب ، المعقب : الذي يكرّ على الشيء فيبطله ، ويقال لصاحب الحق معقّب ، لأنه يقفو غريمه بالاقتضاء والطلب ، والمكر : إرادة المكروه فى خفية ، وعقبى الدار : أي العاقبة الحميدة ، والأم : أصل الشيء وما يجرى مجراه ، كأم الرأس للدماغ ، وأم القرى لمكة.
المعنى الجملي
سبق أن ذكر أنهم اقترحوا عليه الآيات استهزاء به وطلبوا استعجال السيئة التي توعدهم بها ، وكان صلى اللّه عليه وسلّم يتمنى وقوع بعض ما توعّدوا به ليكون زاجرا(13/116)
ج 13 ، ص : 117
لغيرهم ، ذكر هنا لرسوله أن وظيفته التبليغ ، ولا يهمه ما سينالهم من الجزاء فعلينا حسابهم ، وهل هم فى شك من حصول ما توعدناهم به وهم يرون بلادهم تنقص من جوانبها بفتح المسلمين لها وقتل أهلها وأسرهم وتشريدهم ، واللّه يحكم فى خلقه كما يريد ، وقد حكم للمسلمين بالعز والإقبال ، وعلى أعدائهم بالقهر والإذلال - ثم بين أن قومه ليسوا ببدع فى الأمم فقد مكر من قبلهم بأنبيائهم ولم يكن مكرهم ليضيرهم شيئا فكانت العاقبة للمتقين ، وأهلك اللّه القوم الظالمين ، وسيعلم الكافرون حين يحل بهم العذاب ، لمن حسن العاقبة ؟ ثم ذكر إنكار اليهود لرسالته وأمره بالجواب عن ذلك بأن اللّه شهد له بأنه صادق فيها ، فأيده بالأدلة والحجج ، وفى شهادته غنى عن شهادة أىّ شاهد آخر ، وكذلك شهد من آمن من أهل الكتاب بأنهم يجدون وصفه فى كتبهم.
الإيضاح
(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) أي إن أريناك أيها الرسول فى حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين باللّه من العقاب على كفرهم ، أو توفيناك قبل أن نريك ذلك ، فما عليك إلا تبليغ رسالة ربك ، لا طلب صلاحهم ولا فسادهم ، وعلينا محاسبتهم ومجازاتهم بأعمالهم ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، ونحو الآية قوله تعالى : « فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ. إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ. إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ » .
(أَ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها ؟ ) أي أشكّ أولئك المشركون من أهل مكة الذين يسألونك الآيات ، ولم يروا أنا نأتى الأرض فنفتحها لك أرضا بعد أرض ، ونلحقها بدار الإسلام ، ونذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاء ؟ أليس هذا مقدمة لما أوعدناهم بحصوله ، ونذيرا بما سيحل بهم من النكال والوبال فى الدنيا والآخرة لو تدبروا ، فما لهم عن التذكرة معرضين ؟ .(13/117)
ج 13 ، ص : 118
ونحو الآية قوله : « أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ ؟ » .
(وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) أي واللّه يحكم وحكمه النافذ الذي لا يردّ ، ولا يستطيع أحد أن يبطله ، وقد جرت سنته أن الأرض يستعمرها عباده الصالحون بالعدل فيها والسير على نهج المساواة وترك الظلم. وقد حكم للمسلمين بالعز والإقبال على ما وضع من السنن العامة ، وعلى أعدائهم بالإدبار وركود ريحهم ، لما سلكوه من الظلم والفساد فى الأرض (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فعمّا قريب سيحاسبهم فى الآخرة كفاء ما دنّسوا به أنفسهم ، وران على قلوبهم بارتكاب الآثام بعد أن يعذبهم فى الدنيا بالقتل والأسر ، فلا تستبطئ عقابهم ، فإنه آت لا محالة ، وكل آت قريب.
ثم بين أن قومه ليسوا ببدع فى الأمم ، فقد مكر كثير ممن قبلهم بأنبيائهم فأخذ اللّه أخذ عزيز مقتدر فقال :
(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وقد مكر كثير من كفار الأمم الماضية بأنبيائهم كما فعل نمرود بإبراهيم ، وفرعون بموسى ، واليهود بعيسى ، ثم دارت الدائرة على الظالمين ، وأهلك اللّه المفسدين.
وفى هذا تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ، وتصبير بأن العاقبة له لا محالة.
(فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) أي إن مكر الماكرين لا يضر إلا بإذنه تعالى ، ولا يؤثر إلا بتقديره ، فيجب ألا يكون الخوف إلا منه تعالى.
وفى هذا أمان له صلى اللّه عليه وسلّم من مكرهم.
(يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) فيعصم أولياءه ويعاقب الماكرين بهم ، ليوفى كل نفس جزاء ما كسبت.
وفى هذا ما لا يخفى من شديد الوعيد والتهديد للكافرين الماكرين.
ثم أكد هذا التهديد بقوله.(13/118)
ج 13 ، ص : 119
(وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) أي وسيعلم الكفار إذا قدموا إلى ربهم يوم لقيامة حين يدخل الرسول والمؤمنون الجنة ويدخلون النار ، لمن العاقبة المحمودة إذ ذاك ، وإن جهلوا ذلك من قبل ؟ .
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم أسقف من اليمن فقال له عليه السلام : هل تجدنى فى الإنجيل رسولا ؟ قال لا فأنزل اللّه تعالى :
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا)
أي ويقول الجاحدون لنبوتك ، الكافرون برسالتك ، لست رسولا من عند اللّه أرسلك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور وتدعوهم إلى عبادة إله واحد لا شريك له ، وتنقذهم من عبادة الأصنام والأوثان ، وتصلح حال المجتمع البشرى ، وتمنع عنه الظلم والفساد.
(قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي قل حسبى اللّه شاهدا بتأييد رسالتى ، وصدق مقالتى ، إذ أنزل علىّ هذا الكتاب الذي أعجز البشر قاطبة أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
(وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) وهم من أسلم من أهل الكتابين التوراة والإنجيل كعبد اللّه بن سلام وأضرابه فإنهم يشهدون بنعته فى كتابهم.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : كان من أهل الكتاب قوم يشهدون بالحق ويعرفونه ، منهم عبد اللّه بن سلام والجارود وتميم الداري وسلمان الفارسي رضى اللّه عنهم.
خلاصة هذه السورة
ترى مما تقدم فى تفسير هذه السورة أنها اشتملت على الأمور الآتية :
(1) إقامة الأدلة على التوحيد بما يرى من خلق السموات والأرض والجبال والأنهار والزرع والنبات على اختلاف ألوانه وأشكاله ، وهذا تفصيل لما أجمله فى السورة(13/119)
ج 13 ، ص : 120
قبلها من قوله : « وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ » .
(2) إثبات البعث ويوم القيامة ، والتعجب من إنكارهم له.
(3) استعجالهم العذاب من الرسول صلى اللّه عليه وسلّم ، وبيان أنه واقع بهم لا محالة كما وقع لمن قبلهم من الأمم الغابرة.
(4) بيان أن للإنسان ملائكة تحفظه وتحرسه وتكتب عليه ما يكتسبه من الحسنات والسيئات بأمر اللّه.
(5) ضرب الأمثال لمن يعبد اللّه وحده ولمن يعبد الأصنام بالسيل والزبد الرابى.
(6) بيان حال المتقين الذين يصلون ما أمر اللّه به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب وأقاموا الصلاة وأنفقوا فى السر والعلن ، وبيان مآلهم يوم القيامة.
(7) بيان حال الذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويفسدون فى الأرض وبيان مآلهم.
(8) إنكار الشركاء مع إقامة الأدلة على أن لا شريك للّه.
(9) وصف الجنة التي وعد بها المتقون وبيان أنها مآل المتقين ومآل الكافرين النار وبئس القرار.
(10) بيان أن كثيرا ممن أسلموا من أهل الكتاب يفرحون بما ينزل من القرآن ، إذ يرون فيه تصديقا لما بين أيديهم من الكتاب.
(11) بيان مهمة الرسول وأن خلاصة ما جاء به - عبادة اللّه وحده ، وعدم الشرك به ، ودعاؤه لجلب النفع ودفع الضر وأن إليه المرجع والمآب.
(12) بيان أن كل رسول أرسل بلغة قومه ليسهل عليهم قبول دعوته وفهمها.
(13) تحذير الرسول صلى اللّه عليه وسلّم وأمته من قبول دعوة المشركين من بعد ما جاءهم من العلم.(13/120)
ج 13 ، ص : 121
(14) إن جميع الرسل صلوات اللّه عليهم كان لهم أزواج وذرية.
(15) إن المعجزات ليست بمشيئة الرسل يأتون بها كلما أرادوا ، وإنما هى بإذن اللّه وإرادته.
(16) بيان أن هذه الحياة الدنيا إنما هى محو وإثبات ، وموت وحياة ، فيزيل اللّه قوما ويوجد آخرين ، وكل ذلك محفوظ فى علم الذي لا تغيير فيه ولا تبديل.
(17) إن مهمة الرسل إنما هى التبليغ ، أما الجزاء على مخالفة الأوامر فأمر ذلك إلى اللّه ، ولا يعنى الرسول أن يحصل فى زمنه أو بعد وفاته.
(18) إن انتقام اللّه من المكذبين قد بدأ فى حياة الرسول بقتل أعدائه وأسرهم وتشريدهم فى البلاد.
(19) إن مكر أولئك الكافرين بالرسول ليس ببدع جديد ، فكثير من الأمم السابقة مكروا بأنبيائهم ، وكان النصر حليف المتقين ، ونكّل اللّه بالقوم الظالمين.
(20) إلحاف الكافرين فى إنكار رسالته صلى اللّه عليه وسلّم ، مع بيان أن اللّه شهيد على ذلك بما أقام من الأدلة على صدقه ، وكذلك شهادة من آمن من أهل الكتاب بوجود أمارات رسالته صلى اللّه عليه وسلّم فى كتبهم وتبشيرها بها.(13/121)
ج 13 ، ص : 122
سورة إبراهيم عليه السلام
هى مكية وعدد آياتها ثنتان وخمسون.
وارتباطها بالسورة قبلها من وجوه :
(1) إنه قد ذكر سبحانه فى السورة السابقة أنه أنزل القرآن حكما عربيا ولم يصرح بحكمة ذلك وصرح بها هنا.
(2) إنه ذكر فى السورة السالفة قوله : « وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ » وهنا ذكر أن الرسل قالوا : « ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ » .
(3) ذكر هناك أمره عليه السلام بالتوكل على اللّه ، وهنا حكى عن إخوانه المرسلين أمرهم بالتوكل عليه جل شأنه.
(4) اشتملت تلك على تمثيل الحق والباطل ، واشتملت هذه على ذلك أيضا.
(5) ذكر هناك رفع السماء بغير عمد ومدّ الأرض وتسخير الشمس والقمر ، وذكر هنا نحو ذلك.
(6) ذكر هناك مكر الكفار وذكر مثله هنا ، وذكر من وصفه ما لم يذكر هناك.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِل َى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)(13/122)
ج 13 ، ص : 123
تفسير المفردات
الظلمات : الضلالات ، والنور : الهدى ، وإذن ربهم : تيسيره وتوفيقه ، والعزيز :
الغالب ، والحميد : المحمود المثنى عليه بحمده لنفسه أزلا وبحمد عباده له أبدا ، ويل :
هلاك ، يستحبون : يختارون ، سبيل اللّه : هو دينه الذي ارتضاه ، يبغونها : يطلبون لها ، عوجا : زيغا واعوجاجا ، واللسان : اللغة.
الإيضاح
(الر) تقدم أن بينا فى سورتى يونس وهود طريق قراءته والمعنى المراد منه بما أغنى عن إعادته هنا.
(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) أي هذا كتاب أنزلناه إليك أيها الرسول.
(لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي لتنقذ الناس من ظلمات الضلالة والكفر إلى نور الإيمان وضيائه ، وتبصّر به أهل الجهل والعمى ، سبل الرشاد والهدى ، بما اشتمل عليه من واضح الآيات البينات ، المرشدة إلى النظر فى حقائق الكون ، الدالة على وحدانية اللّه تعالى ، وأنه لا شريك له وأن الواجب عبادته وحده ، ثم دعاؤه لجلب النفع ، وكشف الضر ، وفيها أيضا سعادة البشر وصلاحهم فى الدنيا والآخرة.
(بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بتوفيقه ولطفه بهم ، بإرسال نور الهدى إلى قلوبهم ، فيسلكون طرق الفلاح والصلاح.
(إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي إلى الصراط المستقيم ، وهو الطريق الذي ارتضاه اللّه لخلقه وشرعه لهم ، وهو العزيز الذي لا يغالب ، المحمود فى جميع أفعاله وأقواله وأمره ونهيه.(13/123)
ج 13 ، ص : 124
ونحو الآية قوله : « اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ » الآية ، وقوله : « هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ » الآية.
ثم بين ما سلف بقوله :
(اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي هو اللّه المتصف بملك ما فيهما خلقا وتصرفا وتدبيرا.
وهذه الجملة الدالة على عظمة خالق الأكوان ، المنفرد بالعظمة والسلطان ، قد كرّرت فى كثير من سور الكتاب الكريم ، للتنبيه إلى أن من أهم مقاصد هذا الدين أن يكون فى المسلمين حكماء ربانيون ، يتفهمون حقائق هذا الكون ، ويدركون أسرار بدائعه ، ويستخرجون للناس ما فى باطن الأرض ، وينتفعون بما فى ظاهرها ، ويتأملون فيما فى السموات من بديع الصنع ، وما تقدمه لنا من الخير العميم الذي ينتفع منه الإنسان والحيوان ، فى مأكلهما ومشربهما ومسكنهما وسائر حاجاتهما ومرافقهما.
وجاء فى سورة يوسف قوله تعالى توبيخا للغافلين ، وحثا لهمم المستبصرين :
« وكأيّن من آية فى السّموات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون » .
ومع كل هذا فوا أسفا ، رأينا كثيرا من المسلمين الذين تتلى عليهم هذه الآية صباح مساء - يكتفون بمجرد تلاوتها والإيمان بها دون بحث ولا تفهم لمغزاها ولا المراد منها ، ولا استبصار بما تنطوى عليه من المقاصد والمرامى ، ولو كان ذلك كافيا لكان ذكر الخبز حين الجوع كافيا فى الشّبع ، والنظر إلى الماء كافيا فى الرّى.
ثم توعد الذين جحدوا آياته ، وكفروا بوحدانيته ، فقال :
(وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) أي وهلاك بشديد العذاب يوم القيامة لمن كفر بك ، ولم يستجب دعوتك ، بإخلاص التوحيد لخالق السموات والأرض ،(13/124)
ج 13 ، ص : 125
وترك عبادة من لا يملك لنفسه شيئا ، بل هو مملوك له تعالى لأنه بعض ما فى السموات والأرض.
ثم وصف سبحانه أولئك الكافرين بصفات ثلاث.
(1) (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) أي إن أولئك الكافرين يطلبون الدنيا ، ويعملون لها ويتمتعون بلذاتها ، ويقترفون الآثام ، ويرتكبون الموبقات ، ويؤثرون ذلك على أعمال الآخرة التي تقرّبهم إلى اللّه زلفى ، وينسون يوما تجازى فيه كل نفس بما عملت ، يوم يفرّ المرء من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه ، وفصيلته التي تؤويه ، ومن فى الأرض جميعا.
(2) (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي ويمنعون من تتجه عزأ : باللّه واتباع رسوله فيما جاء به من عند ربه ، أن يؤمنوا به ويتبعوه ، لما رين لهم الشيطان من سلوك سبيل الطغيان ، وران على قلوبهم من الفجور والعصيان ، والبعد عند كل ما يقرّب إلى الرحمن.
(3) (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي ويطلبون لها الزيغ والعوج وهى أبعد ما تكون من ذلك ، فيقولون لمن يريدون صدهم وإضلالهم عن سبيل اللّه ودينه ، إن ذلك الدين ناء عن الصراط المستقيم ، وزائغ عن الحق واليقين ، وإنك لتسمع كثيرا من الملحدين يقول إن القوانين الإسلامية فى الحدود والجنايات شديدة غاية الشدة وإنها تصلح للأمم العربية فى البادية ، لا للأمم التي أخذت قسطا عظيما من الحضارة : « كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلّا كذبا » فتلك شريعة دانت لها أمة غيّرت وجه البسيطة ، وملكت ناصية العالم ردحا من الزمان ، وكانت مضرب الأمثال فى العدل وترك الجور ، وثلّت عروش الأكاسرة والقياصرة ، وامتلكت بلادهم وأزالت عزهم وسلطانهم ، إلى أن غيّر أهلها معالمها فأركسهم اللّه بما كسبوا فبدّل عزهم ذلا ، وسعادتهم شقاء ، وتلك سنة اللّه ، أن الأرض يرثها عباده الصالحون لاستعمارها ، ثم حكم عليهم بما يستحقون فقال :(13/125)
ج 13 ، ص : 126
(أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي فهم باختيارهم لأنفسهم حب العاجلة ، وصدهم عن الدين ، وابتغائهم له الزيغ والعوج - فى ضلال بعيد عن الحق لا يرجى لهم فلاح ، وأنى لهم ذلك وقد كبّوا على وجوههم وزيّن لهم الفساد والغىّ ، فيرون حسنا ما ليس بالحسن ، وقبيحا ما ليس بالقبيح ؟ .
ثم بين سبحانه كمال نعمته وإحسانه إلى عباده ، فذكر أنه يرسل رسله إلى أقوامهم بلغاتهم ، كى لا يشق عليهم فهم الدين وحفظه فقال :
(وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) أي وما أرسلنا رسولا إلى أمة من الأمم من قبلك وقبل قومك إلا بلغة قومه الذين أرسلناه إليهم ، ليفهمهم ما أرسل به إليهم من أمره ونهيه بسهولة ويسر ، ولتقوم عليهم الحجة وينقطع العذر ، وقد جاء هذا الكتاب بلغتهم وهو يتلى عليهم ، فأى عذر لهم فى ألا يفقهوه ، وما الذي صدهم عن أن يدرسوه ، ليعلموا ما فيه من حكم وأحكام ، وحلال وحرام ، وإصلاح لنظم المجتمع ، ليسعدوا فى حياتيهم الدنيا والآخرة ؟ .
والنبي صلى اللّه عليه وسلّم وإن أرسل إلى الناس جميعا ، ولغاتهم متباينة ، وألسنتهم مختلفة ، فإرساله بلسان قومه أولى من إرساله بلسان غيرهم ، لأنهم يبينونه لمن كان على غير لسانهم ويوضحونه لهم ، حتى يصير مفهوما لهم كما فهمره ، ولو نزل بلغات من أرسل إليهم وبيّنه ولكل قوم بلسانهم لكان ذلك مظنة للاختلاف ، وفتحا لباب التنازع ، لأن كل أمة قد تدّعى من المعاني فى لسانها ما لا يعرفه غيرها ، وقد يفضى ذلك إلى التحريف والتصحيف ، بسبب الدعاوى الباطلة التي يقع فيها المتعصبون وبعد أن بين سبحانه أنه لم يكن للناس من عذر فى عدم فهم شرائعه - ذكر أن الهداية والإضلال بيده ومشيئته فقال :
(فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي إن الناس فريقان ، فريق هداه اللّه وأضاء نور قلبه وشرح صدره للإسلام فاتبع سبيل الرشاد وفريق رانت على قلبه(13/126)
ج 13 ، ص : 127
الغواية والضلالة ، بما اجترح من الآثام ، وأوغل فيه من المعاصي والذنوب ، وذلك كله بتقديره تعالى ومشيئته ، لا رادّ لقضائه ولا دافع لحكمه.
(وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو العزيز فلا يغلب مشيئته غالب ، الحكيم فى صنعه ، فلا يفعل إلا ما تقتضيه السنن العامة فى خلقه ، والنواميس التي وضعها لصلاح حال عباده وضلالهم : « سنّة اللّه الّتى قد خلت من قبل ولن تجد لسنّة اللّه تبديلا » .
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 الى 8]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
تفسير المفردات
الآيات : هى الآيات التسع التي أجراها اللّه على يده عليه السلام ، والظلمات :
الكفر والجهالات ، والنور : الإيمان باللّه وتوحيده وجميع ما أمروا به ، وذكرهم : أي عظهم ، وأيام اللّه : وقائعه فى الأمم السابقة ويقال فلان عالم بأيام العرب : أي بحروبها وملاحمها كيوم ذى قار ويوم الفجار قال عمرو بن كلثوم :
وأيام لنا غرّ طوال عصينا الملك فيها أن ندينا(13/127)
ج 13 ، ص : 128
والصبار. كثير الصبر ، والشكور كثير الكشر ، يسومونكم. يكلفونكم بلاء. أي ابتلاء واختبار ، وتأذن : أي آذن وأعلم ، وحميد مستوجب للحمد لذاته وإن لم يحمده أحد.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أنه أرسل نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، وأن فى هذا الإرسال نعمة له ولقومه - أتبع ذلك بذكر قصص بعض الأنبياء وتفصيل مالاقوه من أقوامهم من شديد الأذى والتمرد والعناد ، لما فى ذلك من التسلية له وجميل التأسي بهم ، وبيان أن المقصود من بعثة الرسل واحد وهو إخراج الخلق من ظلمات الضلالات إلى أنوار الهدايات.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي كما أرسلناك أيها الرسول وأنزلنا عليك الكتاب لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ، أرسلنا موسى إلى بنى إسرائيل وأيدناه بالآيات التسع التي سلف ذكرها فى سورة الأعراف وأمرناه بأن يدعوهم إلى الإيمان باللّه وتوحيده ليخرجوا من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى والإيمان.
(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) أي عظهم مرغّبا لهم بتذكيرهم بنعم اللّه عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل فى الأمم السابقة ، ليكون فى ذلك حافز لهم على العمل ويكون لهم بمن سلف أسوة - ومخوّفا موعدا بتذكيرهم بأس اللّه وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل من الأمم الغابرة كعاد وثمود ، ليكون لهم فى ذلك مزدجر وليحذروا أن يحل بهم مثل ما حل بغيرهم.
وأيام اللّه فى جانب موسى عليه السلام منها ما كان محنة وبلاء وهى الأيام التي كان فيها بنو إسرائيل تحت قهر فرعون واستعباده ، ومنها ما كانت نعمة كإنجائهم من عدوهم وفلق البحر لهم وإنزاله المنّ والسلوى عليهم.(13/128)
ج 13 ، ص : 129
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن فى ذلك التنبيه والتذكير لدلائل على وحدانية اللّه وقدرته لكل صبار فى المحنة والبلية ، شكور فى المنحة والعطية.
قال قتادة : نعم العبد عبد إذا ابتلى صبر ، وإذا أعطى شكر ، و
فى الحديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « إن أمر المؤمن كله عجب ، لا يقضى اللّه له قضاء إلا كان خيرا ، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له » .
وفى هذا إيماء إلى أن الإنسان فى هذه الحياة يجب أن يكون بين صبر وشكر أبدا ، لأنه إما فى مكروه يصبر عليه وإما فى محبوب يشكر عليه ، والوقت فى هذه الحياة ذهب ، فمتى ضاع من حياتنا زمن دون عمل نسدى فيه خدمة لأنفسنا ولديننا ووطننا فقد كفرنا النعمة ، وأضعنا الفرصة ، ولم نعتبر بما حل بمن قبلنا من الأمم الغابرة ، فليحذر كل امرئ أن يضيع حياته بلا عمل ، وليخف على وقت يضيع ، ثم بعده عذاب سريع.
ولما سمع موسى أمر ربه امتثله وأخذ يذّكر قومه بأيام اللّه كما حكى اللّه عنه فقال :
(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي واذكر لقومك حين قول موسى لقومه : يا قوم تذكروا إنعام اللّه عليكم إذ أنجاكم من فرعون وآله ، حين كانوا يذيقونكم العذاب ويكلفونكم من الأعمال ما لا يطاق مع القهر والإذلال ، ويذبحون أبناءكم ويبقون نساءكم على قيد الحياة ذليلات مستضعفات ، وهذا رز من أشد الأرزاء ، وأعظم ألوان البلاء ، قال شاعرهم :
ومن أعظم الرزء فيما أرى بقاء البنات وموت البنينا
وفى ذلك التذكير عبرة لهم لو يعتبرون.
(وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي وفيما ذكر ابتلاء واختبار عظيم من ربكم(13/129)
ج 13 ، ص : 130
لما فيه من نقمة التعذيب والإذلال وقتل الأولاد واستحياء البنات ، ثم نعمة الإنجاء من كل ذلك العسف والقهر ، فالابتلاء كما يكون بالنقمة يكون بالنعمة كما قال « وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ » وقال : « وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً » .
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) أي واذكروا يا بنى إسرائيل حين آذنكم ربكم وأعلمكم بوعده فقال :
(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) أي لئن شكرتم ما خوّلتكم من نعمة الإنجاء وغيرها بطاعتي فيما آمركم به وأنهاكم عنه لأزيدنكم من نعمى عليكم ، وقد دلت التجارب أن العضو الذي يناط به عمل كلما مرن عليه ازداد قوة ، وإذا عطل عن العمل ضمر وضعف ، وهكذا النعم إن استعملت فيما خلقت له بقيت ، وإن أهملت ذهبت.
أخرج البخاري فى تاريخه والضياء فى المختارة عن أنس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم « من ألهم خمسة لم يحرم خمسة - وفيها من ألهم الشكر لم يحرم الزيادة » .
والخلاصة - إن من شكر اللّه على ما رزقه وسّع عليه فى رزقه ، ومن شكره على ما أقدره عليه من طاعته زاد فى طاعته ، ومن شكره على ما أنعم عليه من صحة زاده اللّه صحة ، إلى نحو أولئك من النعم.
(وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) النعم وجحدتموها فلم تقوموا بواجب حقها عليكم من شكر المنعم بها.
(إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) بحرمانكم منها ، وسلبكم ثمراتها ، فى الدنيا والآخرة ، فتعذبون فى الدنيا بزوالها ، وفى الآخرة بعذاب لا قبل لكم به ،
وفى الحديث : « إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصبه » .
ثم بين سبحانه أن منافع الشكران ومضار الكفران لا تعود إلا إلى الشاكر أو الكافر بتلك النعم ، أما المعبود المشكور فهو متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يضره الكفر ، فلا جرم قال :(13/130)
ج 13 ، ص : 131
(وَ قالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي إن تجحدوا نعمة اللّه التي أنعمها عليكم ، ويفعل مثل فعلكم من فى الأرض جميعا ، فما أضررتم بالكفر إلا أنفسكم ، إذ حرمتموها من مزيد الإنعام ، وعرّضتموها للعذاب ، الشديد ، وإن اللّه غنى عن شكركم وشكر غيركم ، وهو المحمود وإن كفر به من كفر ، وهذا كقوله : « إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ » الآية ، وقوله : « فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ » .
وقد يكون موسى قال هذه المقالة حين عاين منهم دلائل العناد ، ومخايل الإصرار على الكفر والفساد ، وتيقن أنه لا ينفعهم الترغيب ، ولا التعريض بالترهيب.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 9 الى 12]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)(13/131)
ج 13 ، ص : 132
تفسير المفردات
الريبة : اضطراب النفس وعدم اطمئنانها بالأمر ، وفاطر السموات والأرض أي موجدهما على نظام بديع ، والسلطان. الحجة والبرهان.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما ذكّر به موسى قومه بما أولاهم به من نعمة ، ورفع عنهم من نقمة ، ثم ذكر وعده تعالى بالزيادة لمن شكر ، ووعيده بالعذاب لمن كفر ، ثم حذرهم بأن الكفران لا يضير ربهم ، وأنه غنى عن حمدهم وحمد من فى الأرض جميعا يذكّرهم بأيام اللّه فيمن قبلهم ، من الأمم السالفة والأجيال البائدة ، بأسلوب طلىّ ومقال جلىّ ، فذكر القول أوّلا على سبيل الإجمال ، ثم أتبعه بمحاورة بين الرسل وأقوامهم ، أقام فيها الرسل الحجة على أممهم ، ودحض ما تمسكوا به من الترّهات والأباطيل.
الإيضاح
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) أي ألم يأتكم خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل التي غاب عن الناس علمها ، وعند اللّه إحصاؤها.
ثم فصل هذا النبأ وفسره بقوله :
(جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي جاءتهم رسلهم بالمعجزات الظاهرة ، والبينات الباهرة ، وبين كل رسول لأمته طريق الحق ، ودعاهم إليه ، ليخرجهم من الظلمات إلى النور.(13/132)
ج 13 ، ص : 133
(فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) أي عضّوا بنان الندم غيظا لما جاءهم به الرسل ، وضجر لنفرتهم من استماع كلامهم ، إذ سفّهوا أحلامهم ، وشتموا أصنامهم ، وقد فعلت العرب مثل ذلك مع النبي صلى اللّه عليه وسلّم كما قال سبحانه : « عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ » .
وقال أبو عبيدة والأخفش ونعمّا قالا هو مثل ، والمراد أنهم لم يؤمنوا ولم يجيبوا ، والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت ، قد ردّ يده فى فيه.
(وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي إنا كفرنا بما زعمتم أن اللّه أرسلكم به ، من البينات التي أظهرتموها حجة على صحة رسالتكم ، وإنما يقصدون من الكفر بها الكفر بدلالتها على صدق رسالتهم.
(وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) أي وإنا لفى شك مما تدعوننا إليه من الإيمان باللّه ووحدانيته ، وجملة ما جئتم به من الشرائع.
وخلاصة مقالهم - إنهم جاحدون نبوتهم ، قاطعون بعدم صحتها ، لأن ما جاءوا به من التعاليم والشرائع مما يشكّ فى صدقه ، وأن اللّه سبحانه يدعو إلى مثله. فرد الرسل عليهم منكرين متعجبين من تلك المقالة الحمقاء كما أشار إلى ذلك عز اسمه بقوله :
(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ ؟ ) أي أ في وجود اللّه شك ، وكيف ذلك والفطرة شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به فالاعتراف به ضرورى لدى كل ذى رأى حصيف كما
جاء فى الحديث : « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه » .
ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب ، فتحتاج إلى النظر فى الأدلة الموصلة ، إلى ذلك ، ومن ثمّ وجه الرسل أنظار أممهم إلى هذه الأدلة فقالوا :
(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو الذي خلقهما وأبدعهما على غير مثال سابق ، ودلائل الحدوث ظاهرة عليهما ، فلا بد لهما من صانع وهو اللّه الذي لا إله إلا هو ، خالق(13/133)
ج 13 ، ص : 134
كل شىء وإلهه ومليكه ، وقد جاء هذا الوصف فى محاورات الأنبياء جميعا ، وهو نفس الوصف الذي جاء فى أول السورة على لسان نبينا صلى اللّه عليه وسلّم ، ومن هذا يعلم أن كل نبى جعل مطمح نظره توجه النفوس إلى علوم السموات والأرض.
ولما أقاموا الدليل على وجوده وصفوه بكمال الرحمة بقولهم :
(يَدْعُوكُمْ) إلى الإيمان به بإرساله إيانا ، لنخرجكم من ظلمات الوثنية ، إلى نور الوحدانية ، وإخلاص العبادة له ، وهو الواحد القهار.
(لِيَغْفِرَ لَك ُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)
أي يدعوكم لمغفرة بعض ذنوبكم ، وهى الذنوب التي بينكم وبين ربكم ، لا المظالم وحقوق العباد.
والمتتبع لأسلوب الكتاب الكريم يرى أن كل موضع ذكر فيه مغفرة الذنوب للكافرين جاء بلفظ (من) كقوله : « وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ » وقوله : « يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ » لأنه يخاطبهم فى أمر الإيمان وحده.
وفى المواضع التي يذكر فيها مغفرة الذنوب للمؤمنين تجىء بدون ذكر (من) كقوله : « ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ » لأن المغفرة منصرفة إلى المعاصي ومتوجهة إليها.
(وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت سماء اللّه ، وجعله منتهى أعماركم إن أنتم آمنتم به ، وإلا عاجلكم بالهلاك وعذاب الاستئصال ، جزاء كفرانكم بدعوة الرسل إلى التوحيد ، وإخلاص العبادة للواحد القهار.
ثم حكى سبحانه رد الأمم على مقالة الرسل ، وهو يتضمن ثلاثة أشياء :
(1) (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فلا فضل لكم علينا ، فلم خصصتم بالنبوة ، أطلعكم اللّه على الغيب ، وجعلكم مخالطين لزمرة الملائكة دوننا إلى أنه لو كان الأمر(13/134)
ج 13 ، ص : 135
كما تدّعون لوجب أن تخالفونا فى الحاجة إلى الأكل والشرب وقربان النساء وما شاكل ذلك.
(2) (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) ولا حجة لكم على ما تدّعون ، وليس من حصافة العقل أن نترك أمرا قبل أن يقوم الدليل على خطئه.
(3) (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة ظاهرة تدل على صحة ما تدّعون من النبوة ، أما ذكر السموات والأرض وعجائبهما فلسنا نحفل بهما ، والعجائب الأرضية والسماوية لا نعقلها ، والبشر لا يخضعون إلا لمن يأتى لهم بما هو خارج عن طور معتادهم ، وحينئذ يعظّمونه ويبجّلونه ، وهذه المشاهدات لا نرى فيها شيئا خارقا للعادة ، وإذا فلا إيمان ولا تسليم إلا بما هو فوق طاقتنا ، كقلب العصا حية ونقل الجبال وما إلى ذلك.
وبعد أن حكى عن الكفار شبهاتهم فى الطعن فى النبوة حكى عن الأنبياء جوابهم عنها فأجابوا عن الأولى والثانية بالتسليم ، لكن التماثل لا يمنع من اختصاص بعض البشر بمنصب النبوة ، لأن هذا منصب يمن اللّه به على من يشاء من عباده ، كما لا يمتنع من أن يخص بعض عباده بالتمييز بين الحق والباطل والصدق والكذب ، وأن يحرم الجمع العظيم منه ، وهذا ما أشار إليه بقوله :
(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وأجابوا عن الشبهة الثالثة بأن ما جئنا به حجة قاطعة وبينة ظاهرة على صدق رسالتنا ، وما اقترحتموه من الآيات فأمره إلى اللّه إن شاء أظهره وهو زائد على قدر الكفاية ، وذلك ما أومئوا إليه بقولهم :
(وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي بمشيئته وإرادته ، وليس ذلك فى قدرتنا.
وبعد أن أجابهم الأنبياء عن شبهاتهم أخذ المشركون يخوفونهم ويتوعدونهم بالانتقام منهم وإيذائهم قدر ما يستطيعون ، فقال لهم الأنبياء إنا لا نخاف تهديدكم(13/135)
ج 13 ، ص : 136
ولا وعيدكم ، بل نتوكل على اللّه ونعتمد عليه ، ولا نقيم لما تقولون وزنا ولا نأبه به ، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله حكاية عنهم :
(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فى دفع شرور أعدائهم عنهم ، وفى الصبر على معاداتهم.
ثم زادوا أمر التوكل توثيقا وتوكيدا فقالوا :
(وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) أي وكيف لا نتوكل على اللّه وقد هدانا إلى سبل المعرفة ، وأوجب علينا سلوك طريقها ، وأرشدنا إلى طريق النجاة ، ومن أنعم اللّه عليه بنعمة فليشكره عليها بالعمل بها.
(وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) أي ولنصبرنّ على إيذائكم بالعناد واقتراح الآيات ونحو ذلك مما لا خير فيه ، وندعوكم لعبادة اللّه وحده ، ليكون ذلك منا شكرا على نعمة الهداية.
ثم ختموا كلامهم بمدح التوكل وبيان أن إيذاءهم لا يثنيهم عن تبليغ رسالة ربهم فقالوا :
(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي وعلى اللّه وحده فليثبت المتوكلون على توكلهم وليحتملوا كل أذى فى جهادهم ، ولا يبالوا بما يصيبهم من أذى ولا بما يلاقون من صعاب وعقبات.
ومن عنده مال أو علم فلينفع به الناس وليكن كالنهر يسقى الزرع والشمس تضىء العباد ، وليصبر على أذى الناس كما صبر الأنبياء وأوذوا ، فالهداة ما خلقوا إلا ليعملوا فهم هداة بطباعهم ، ولذاتهم فى قلوبهم ومنهم تنتقل إلى الناس.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 الى 17]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)(13/136)
ج 13 ، ص : 137
تفسير المفردات
لتعودنّ : لتصيرن ، والملة : الدين والشريعة ، والمقام : موقف الحساب ، واستفتحوا :
أي طلبوا الفتح بالنصرة على الأعداء ، وخاب : هلك ، والجبار : العاتي المتكبر على طاعة اللّه ، والعنيد : المعاند للحق المخالف له ، ومن ورائه : أي من بعد ذلك ينتظره ، والصديد ما يسيل من جلود أهل النار ، يسيغه : أي يستطيبه يقال ساغ الشراب :
إذا جاز الحلق بسهولة ، يأتيه الموت : أي تأتيه أسبابه وتحيط به من كل جهة ، عذاب غليظ : أي شديد غير منقطع.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مادار من الحوار والجدل بين الرسل وأقوامهم ، وذكر الحجج التي أدلى بها الرسل ، وقد كان فيها المقنع لمن أراد اللّه له الهداية والتوفيق ، ومن كان له قلب يعى به الحكمة وفصل الخطاب - ذكر هنا أنهم بعد أن أفحموا لم يجدوا وسيلة إلا استعمال القوة مع أنبيائهم كما هو دأب المحجوج المغلوب فى الخصومة ، فخيروا رسلهم بين أحد أمرين إما الخروج من الديار : وإما العودة إلى الملة التي عليها الآباء والأجداد ، فأوحى اللّه إلى أنبيائه أن العاقبة لكم ، وستدور عليهم الدائرة ، وستحلّون محلهم فى ديارهم وسيعذبون فى الآخرة بنار جهنم ، ويرون ألوانا من العذاب لا قبل لهم بها.(13/137)
ج 13 ، ص : 138
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي وقال الذين كفروا باللّه لرسلهم حين دعوهم إلى توحيده تعالى وترك عبادة الأصنام والأوثان :
لنخرجنكم من بلادنا مطرودين منها ، إلا أن تعودوا فى ديننا الذي نحن عليه ، من عبادة الأصنام كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به : « لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا » الآية ، وكما قال قوم لوط : « أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ » الآية ، وقال إخبارا عن مشركى قريش : « وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها ، وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا » .
وخلاصة هذا - ليكونن أحد الأمرين لا محالة : إما إخراجكم ، وإما صيرورتكم فى ملتنا ملة الآباء والأجداد ، وهى عبادة الآلهة والأوثان ، وقد مكّن لهم فى ذلك أنهم كانوا كثرة وكان أهل الحق قلة ، كما جرت بذلك العادة فى كل زمان ومكان ، فإن الظّلمة يكونون متعاونين متعاضدين ، ومن ثم استطاعوا أن يبرموا هذا الحكم بلا هوادة ولا رفق ، كما هو شأن المعتزّ بقوته ، الذي لا يخشى اعتراضا ولا خلافا.
والأنبياء صلوات اللّه عليهم لم يكونوا فى ملتهم ولم يعبدوا الأصنام طيلة حياتهم ، لكنهم لما نشئوا بين ظهرانيهم ، وكانوا من أهل تلك البلاد ، ولم يظهروا فى أول أمرهم مخالفة لهم - ظنوا أنهم كانوا على دينهم.
ولما تمادت الأمم فى الكفر وتوعدوا الرسل بأخذهم بالشدة والإيقاع بهم - أوحى اللّه إليهم بإهلاك من كفربهم ، ووعدهم بالنصر والغلب على أعدائهم كما أشار إلى ذلك بقوله :
(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي فأوحى اللّه إلى رسله قائلا لهم : لنهلكن من تناهى فى الظلم من المشركين ، ولنسكننكم أرضهم وديارهم بعد إهلاكهم عقوبة لهم على قولهم : (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا).(13/138)
ج 13 ، ص : 139
وفى ذلك وعيد وتهديد للمشركين من قريش على كفرهم وجراءتهم على نبيه ، وتثبيت وأمر له بالصبر على ما يلقى من المكروه كما صبر من كان قبله من الرسل ، وبيان لأن عاقبة من كفر به الهلاك وعاقبته النصر عليهم كما قال : « سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ » وقال : « وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ » وقال : « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » .
ثم ذكر السبب فى نصرهم عليهم فقال :
(ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) أي هكذا أفعل بمن خاف مقامه بين يدىّ يوم القيامة ، وخاف وعيدي فاتقانى بطاعتي وتجنب سخطى - أنصره على من أراد به سوءا وبغى به مكروها من أعدائى ، وأورثه أرضه ودياره.
ثم بين أن كلا من الفريقين الأمم والرسل طلبوا المعونة والتأييد من ربهم وإلى ذلك أشار بقوله :
(وَاسْتَفْتَحُوا) أي واستفتحت الرسل على أممها أي استنصرت اللّه عليها ، واستفتحت الأمم على أنفسها كما قالوا : « اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ » .
ثم ذكر مآل المشركين وبيّن أن النصر للمتقين فقال :
(وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي وهلك كل متكبر مجانب للحق منحرف عنه.
(مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) أي ومن وراء الجبار العنيد جهنم أي هى له بالمرصاد تنتظره ، ليسكنها مخلدا فيها أبدا ، ويعرض عليها فى الدنيا غدوّا وعشيا إلى يوم التناد.
ثم بين شرابه فيها فقال :
(وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) أي ليس له فى النار شراب إلا ماء يخرج من جوفه وقد خالطه القيح والدم ، وخص بالذكر لأنه آلم أنواع العذاب.(13/139)
ج 13 ، ص : 140
ثم ذكر ألمه من ذلك الشراب فقال :
(يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) أي يتحساه جرعة بعد جرعة ، ولا يكاد يزدرده ، من شدة كراهته ، ورداءة طعمه ولونه ، وريحه وحرارته كما قال : « وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ » وقال : « وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ » .
ثم ذكر ما يحيط به من الأهوال فقال :
(وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) أي وتحيط به أسبابه من الشدائد وأنواع العذاب من كل جهة من الجهات من قدامه ومن خلفه ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله فى نار جهنم ، ليس منها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت ، لكنه لا يموت كما قال تعالى : « لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها » .
ثم أكد شدائدها وعظيم أهوالها فقال :
(وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) أي وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ أي مؤلم أغلظ من الذي قبله وأمرّ كما قال تعالى : « وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ » وقال : « وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ. هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ. وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ » .
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 20]
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)(13/140)
ج 13 ، ص : 141
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما سيلاقيه الكافرون فى هذا اليوم العصيب من سائر أنواع العذاب التي سلف وصفها - بين هنا أن ما عملوه فى الدنيا من صالح الأعمال لا يجديهم فتيلا ولا قطميرا ، فما أشبهه إذ ذاك برماد أطارته الريح فى يوم عاصف فذهبت به فى كل ناحية ، فهم لا يجدون من أعمالهم فيه شيئا ، ثم بين أن ذلك اليوم آت لا ريب فيه ، فإن من أنشأ السموات والأرض بلا معين ولا ظهير قادر على أن يفنيهم ويأتى بخلق سواهم ، وليس ذلك بعزيز ولا بممتنع عليه.
الإيضاح
(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) أي ما مثل أعمال الكافرين التي كانوا يعملونها فى الدنيا ويزعمون أنها تنفعهم يوم الجزاء - إلا كمثل رماد حملته الريح وأسرعت الذهاب به فى يوم عاصف فنسفته ولم تبق له أثرا ، فهم يوم القيامة لا يجدون منها شيئا ينفعهم عند اللّه فينجيهم من عذابه ، إذ لم يكونوا يعملونها للّه خالصة ، بل كانوا يشركون فيها الأصنام والأوثان :
والمراد من تلك الأعمال أعمال البر كالصدقة ، وصلة الرحم ، وبر الوالدين ، وإطعام الجائع ، وإغاثة الملهوف ، ونحو ذلك.
ثم أكد نفى فائدتها لهم إذ ذاك فقال :
(لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْ ءٍ) أي لا يقدرون يوم القيامة على شىء من أعمالهم فى الدنيا ، فلا يرون لها أثرا من ثواب أو تخفيف عذاب ، كما لا تنتفع بالرماد إذا أرسل عليه الريح فى يوم عاصف.
ونحو الآية قوله تعالى : « وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً » وقال : َثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ(13/141)
ج 13 ، ص : 142
قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ، وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ »
و
ورد في الصحيح عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت « يا رسول اللّه إن ابن جدعان كان فى الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين ، هل ذلك نافعه ؟ قال لا ينفعه ، لأنه لم يقل :
رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين » .
(ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي ذلك السعى والعمل على غير أساس ولا استقامة ، حتى فقدوا ثوابهم منه أحوج ما كانوا إليه ، هو الضلال البعيد عن طريق الحق والصواب.
ثم ذكر دليل وحدانيته فقال :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) أي ألم تعلم أيها الرسول أن اللّه أنشأ السموات والأرض بالحكمة وعلى الوجه الصحيح الذي يحق أن يخلقا عليه ، ومن قدر على خلقهما على أتم نظام وأحكم وضع بلا معين ولا ظهير ، فهو قادر على أن يفنيكم ويأتى بخلق جديد سواكم ، وما ذلك بممتنع ولا متعذر عليه ومثل الآية قوله : « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ، بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » .
وخلاصة ذلك - إنهم بعدوا فى الضلال وأمعنوا فى الكفر باللّه ، مع وضوح الآيات الدالة على قدرته الباهرة وحكمته البالغة ، وأنه هو الحقيق بأن يرجى ثوابه ويخشى عقابه.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 21 الى 23]
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)(13/142)
ج 13 ، ص : 143
تفسير المفردات
وبرزوا : أي صاروا بالبراز وهى الأرض المتسعة ، ويراد بها مجتمع الناس فى ذلك اليوم والضعفاء : واحدهم ضعيف ، ويراد به ضعيف الرأى والفكر ، والذين استكبروا :
هم رؤساؤهم الذين استنفروهم ، والتبع : واحدهم تابع كخادم وخدم ، مغنون : أي دافعون ، ومحيص : أي منجى ومهرب ، والسلطان : التسلط ، بمصر حكم : أي بمغيثكم ، يقال استصرخنى فأصرخته : أي استغاثني فأغثته.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما يلقاه الأشقياء فى ذلك اليوم من العذاب ، وذكر أن أعمالهم الطيبة التي كانت فى الدنيا أحبطت فلم تغن عنهم شيئا - ذكر هنا محاورة بين الاتباع المستضعفين والرؤساء المتبوعين ، وما يحدث فى ذلك الوقت من الخجل لهم ، ثم أردفها مناظرة وقعت بين الشيطان وأتباعه من الإنس. وبعد أن ذكر أحوال الأشقياء وبالغ فى بيانها وتفصيلها شرح أحوال السعداء وما أعد لهم من الثواب العظيم والأجر الجزيل.(13/143)
ج 13 ، ص : 144
الإيضاح
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) أي برزت الخلائق كلها برّها وفاجرها للّه الواحد القهار : أي اجتمعت فى براز من الأرض ، وهو المكان الذي ليس فيه شىء يستر أحدا.
(فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أي فقال الأتباع لقادتهم وسادتهم الذين استكبروا عن عبادة اللّه وحده وعن اتباع قول الرسل : إنا كنا تابعين لكم ، تأمروننا فنأتمر وتنهوننا فتنتهى.
(فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ) أي فهل تدفعون عنا اليوم شيئا من ذلك العذاب كما كنتم تعدوننا وتمنوننا فى الدنيا.
وقد حكى اللّه رد أولئك السادة عليهم.
(قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ) أي لو أرشدنا اللّه تعالى ، وأضاء أنوار بصائرنا وأفاض علينا من توفيقه ومعونته ، لأرشدناكم ودعوناكم إلى سبل الهدى ، ووجهنا أنظاركم إلى طريق الخير والفلاح ، ولكنه لم يهدنا فضللنا السبيل فأضللناكم.
ولما كان هذا القول منهم أمارة الجزع قالوا :
(سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) أي ليس لنا مهرب ولا خلاص مما نحن فيه إن صبرنا أو جزعنا.
وخلاصة ذلك - سيّان الجزع والصبر ، فلا نجاة لنا من عذاب اللّه.
وفى مثل الآية قوله : « وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ » وقوله : « رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً » .(13/144)
ج 13 ، ص : 145
ولما ذكر سبحانه المناظرة التي ستكون بين الاتباع والرؤساء أردفها المناظرة التي ستكون بين الشيطان وأتباعه حينئذ فقال :
(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) أي وقال إبليس مخاطبا أتباعه من الإنس ، بعد أن حكم اللّه بين عباده فأدخل المؤمنين فراديس الجنات ، وأسكن الكافرين سحيق الدركات.
(إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) أي إن اللّه وعدكم على ألسنة رسله بالبعث وجزاء كل عامل على عمله ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، ووعده حق وخبره صدق.
(وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) أي ووعدتكم أن لا جنّة ولا نار ، ولا حشر ولا حساب ، ولئن كانا فنعم الشفيع لكم الأصنام والأوثان ، فأخلقتكم موعدى إذ لم أقل إلا بهرجا من القول وباطلا منه ، فاتبعتمونى وتركتم وعد ربكم ، وهو وليّكم ومالك أمركم.
ونحو الآية قوله : « يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ، وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً » .
(وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي وما كان لى قوة وتسلط تجعلنى ألجئكم إلى متابعتى على الكفر والمعاصي.
(إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) أي ولكن بمجرد أن دعوتكم إلى الضلال بوسوستي وتزيينى ، أسرعتم إلى إجابتى ، واتبعتم شهوات النفوس ، وأطعتم الهوى ، وخضتم فى مسالك الردى.
(فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) لأنه ما كان منى إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة ، ولوموا أنفسكم ، إذا استجبتم لى باختياركم الذي نشأ عن سوء استعدادكم بلا حجة منى ولا برهان ، بل بتزيينى وتسويلى ، ولم تستجيبوا لربكم وقد دعاكم دعوة الحق المقرونة بالحجج والبينات.
(ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) أي ما أنا بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب فأزيل صراحكم ، وما أنتم بمغيثىّ مما أنا فيه من العذاب والنكال.(13/145)
ج 13 ، ص : 146
(إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) أي إنى جحدت اليوم أن أكون شريكا للّه فيما أشركتمونى فيه من قبل هذا اليوم أي فى الدنيا ، وه ذا كقوله : « وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ » .
ومعنى كفره بإشراكهم تبرؤه منه واستنكاره له ، وهذا كقوله تعالى : « إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ » .
(إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي قال إبليس ذلك ، قطعا لأطماع الكفار من الإغاثة والنجاة من العذاب ، وإنما حكى اللّه ذلك عنه ليكون تنبيها للسامعين ، وحضّا لهم على النظر فى عاقبة أمرهم ، والاستعداد لذلك اليوم الذي يقول فيه الشيطان ما يقول ، فيثوبوا إلى رشدهم ويرجعوا عن غيهم ويتذكروا هول ذلك الموقف ورهبته.
ولما جمع سبحانه فريقى السعداء والأشقياء فى قوله : « وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً » وبالغ فى وصف حال الأشقياء من وجوه كثيرة - ذكر حال السعداء وما أعد لهم من نعيم مقيم فى ذلك اليوم فقال :
(وَ أُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي وأدخل الذين صدقوا اللّه ورسوله ، فأقروا بوحدانيته تعالى ورسالة رسله ، وعملوا بطاعته ، فانتهوا إلى أمره ونهيه ، بساتين تجرى من تحتها الأنهار ماكثين فيها أبدا ، لا يتحولون عنها ولا يزولون منها.
(بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بتوفيقه تعالى ، إذ وجّه نفوسهم فى الدنيا لكسب الخيرات ، والميل إلى العمل بما يرضيه ويرضى رسوله ، وأنار بصائرهم للاعتقاد بأن يوم الجزاء آت لا ريب فيه ، فأعدّوا له العدّة ، فكان على اللّه بمقتضى وعده أن يدخلهم جناته كفاء ما جدّوا فى رضاه ، ونصبوا فى طاعته ، خوفا من هول ذلك اليوم العصيب.
(تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أي تحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم ، تعظيما لشأنهم وعناية بأمرهم ، وجاء فى هذا المعنى قوله تعالى فى وصف دخولهم الجنة : « حتّى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم » وقوله : « وَالْمَلائِكَةُ(13/146)
ج 13 ، ص : 147
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ »
وقوله : « وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً » كما يحييهم ربهم جلت قدرته إظهارا لرضاه عنهم ، وإجلالا وإكبارا لهم كما قال : « سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ » .
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 27]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)
تفسير المفردات
المثل : قول فى شىء يشبّه بقول فى شىء آخر ، لما بينهما من المشابهة ، ويوضح الأول بالثاني ، ليتم انكشاف حاله به ، ثابت : أي ضارب بعروقه فى الأرض ، فى السماء :
أي جهة العلو ، تؤتى أكلها : أي تعطى ثمرها ، بإذن ربها : أي بإرادة خالقها ، اجتثت :
أي استؤصلت وأخذت جثتها ، والقرار : الاستقرار ، القول الثابت : أي الذي ثبت عندهم وتمكن فى قلوبهم.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حال الأشقياء ومآل أمرهم وما يلاقونه من الشدائد والأهوال فى نار جهنم التي لا يجدون عنها محيصا ، وذكر أحوال السعداء وما ينالون من فوز عند ربهم - ضرب لذلك مثلا يبين حال الفريقين ويوضح الفرق بين الفئتين ، وبه ألبس المعنويات(13/147)
ج 13 ، ص : 148
لباس الحسيات ، ليكون أوقع فى النفس وأتم لدى العقل ، والأمثال لدى العرب هى المهيع المسلوك ، والطريق المتبع ، لإيضاح المعاني إذا أريد تثبيتها لدى السامعين ، والقرآن الكريم ملىء بها ، والسنة النبوية جرت على منهاجه ، فكثيرا ما تتبع المسائل الهامة بضرب الأمثال لها ، لتستقر فى النفوس ، وتنقش فى الصدور.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا) أي ألم تعلم أيها الإنسان علم اليقين ، كيف ضرب اللّه مثلا ووضعه الموضع اللائق به.
(كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) أي إن اللّه جلت قدرته شبه الكلمة الطيبة وهى الإيمان الثابت فى قلب المؤمن الذي يرفع به عمله إلى السماء كما قال : « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ » وتنال بركته وثوابه فى كل وقت ، فالمؤمن كلما قال لا إله إلا اللّه صعدت إلى السماء وجاءت بركتها وخيرها - بالشجرة الطيبة المثمرة الجميلة المنظر الشذّية الرائحة التي لها أصل راسخ فى الأرض به يؤمن قلعها وزوالها ، وفروعها متصاعدة فى الهواء (فيكون ذلك دليلا على ثبات الأصل ورسوخ العروق ، وعلى بعدها عن عفونات الأرض وقاذورات الأبنية) فتأتى الثمرة نقية خالية من جميع الشوائب ، وتثمر فى كل حين بأمر ربها وإذنه ، وإذا اجتمع لهذه الشجرة كل هذه المميزات كثر رغبة الناس فيها.
وخلاصة ذلك - إنه تعالى شبه كلمة الإيمان بشجرة ثبتت عروقها فى الأرض ، وعلت أغصانها إلى السماء ، وهى ذات ثمر فى كل حين ، ذاك أن الهداية إذا حلت قلبا فاضت منه على غيره ، وملأت قلوبا كثيرة ، فكأنها شجرة أثمرت كل حين ، لأن ثمراتها دائمة لا مقطوعة ولا ممنوعة ، وكل قلب يتلّقى عما يشاكله ، ويأخذ منه بسرعة أشد من سرعة إيقاد النار فى الهشيم ، أو سريان الكهرباء فى المعادن ، أو الضوء فى الأثير.(13/148)
ج 13 ، ص : 149
وقد روى عن ابن عباس أن الكلمة الطيبة هى قول « لا إله إلا اللّه » وأن الشجرة الطيبة : هى النخلة ،
وعن ابن عمر قال « كنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فقال :
أخبرونى عن شجرة تشبه الرجل المسلم لا يتحاتّ ورقها لا صيفا ولا شتاء وتؤتى أكلها كل حين بإذن ربها. قال ابن عمر فوقع فى نفسى أنها النخلة ، ورأيت أبابكر وعمر لا يتكلمان ، فكرهت أن أتكلم ، فلما لم يقولوا شيئا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم :
النخلة. فلما قمنا قلت لعمر : يا أبتاه ، واللّه لقد كان وقع فى نفسى أنها النخلة ، قال ما منعك أن تتكلم ؟ قلت لم أركم تتكلمون ، فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا ، قال عمر : لأن تكون قلتها أحبّ إلىّ من كذا وكذا » رواه البخاري.
ثم نبه سبحانه إلى عظم هذا المثل ليكون ذلك داعية تدبره ومعرفة المراد منه فقال :
(وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي إن فى ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير للناس ، لأن أنس النفوس بها أكثر ، فهى تخرج المعنى من خفىّ إلى جلىّ ، ومما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع ، وبها يطبق المعقول على المحسوس فيحصل العلم التام بالشيء الممثل له.
(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) أي ومثل كلمة الكفر وماشا كلها مثل شجرة خبيثة كالحنظل ونحوه مما ليس له أصل ثابت فى الأرض ، بل عروقها لا تتجاوز سطحها ، وقد اقتلعت من فوق الأرض ، لأن عروقها قريبة منه ، أو لا عروق لها فى الأرض ، فكما أن هذه لاثبات لها ولا دوام ، فكذلك الباطل لا يدوم ولا يثبت ، بل هو زائل ذاهب ، وثمره مرّكريه كالحنظل.
وما أقوى الحق وأثبته ، وأكثر نفعه للناس ، فهو ثابت الدعائم متين الأركان ، وما كل حين كالنخل.
والخلاصة - إن أرباب النفوس العالية وكبار المفكّرين هم أصحاب الكلمة الطيبة ، وعلومهم تعطى أممهم نعما ورزقا فى الدنيا ، وهى مستقرة فى نفوسهم ، وفروعها ممتدة(13/149)
ج 13 ، ص : 150
إلى العوالم العلوية والسفلية ، وتثمر كل حين لأبناء أمتهم ولغيرهم ، فيهتدى بها المؤمنون ، وما أشبههم بالنخلة التي لها أصل مستقر وفروع عالية وثمر دائم ويأكل الناس منها صيفا وشتاء.
وأرباب الشهوات والنفوس الضعيفة والمقلّدون فى العلم هم أصحاب الكلمة الخبيثة التي لا ثبات لها كالحنظل.
وبعد أن وصف الكلمة الطيبة بما سلف أخبر بفوز أصحابها ببغيتهم فى الدنيا والآخرة فقال :
(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) أي يثبتهم بالكلمة الطيبة التي ذكرت صفاتها العجيبة فيما سلف مدة حياتهم ، إذا وجد من يفتنهم عن دينهم ويحاول زللهم كما جرى لبلال وغيره من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ، وبعد الموت فى القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة ، وفى مواقف القيامة فلا يتلعثمون ولا يضطربون إذا سئلوا عن معتقدهم ولا تدهشهم الأهوال.
أخرج ابن أبى شيبة عن البراء بن عازب أنه قال فى الآية : التثبيت فى الحياة الدنيا إذا جاء الملكان إلى الرجل فى القبر فقالا له : من ربك ؟ قال ربى اللّه ، وقالا :
وما دينك ؟ قال دينى الإسلام ، وقالا وما نبيك ؟ قال نبي محمد صلى اللّه عليه وسلّم.
وعن عثمان بن عفان قال « كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال : « استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل » أخرجه أبو داود.
وقد وردت أحاديث كثيرة فى سؤال الملائكة للميت فى قبره وفى جوابه لهم ، وفى عذاب القبر وفتنته وليس هذا موضعها. نسأل اللّه التثبيت فى القبر وحسن الجواب بمنه وكرمه ، إنه على ما يشاء قدير.
وعلى هذا فالمراد بالحياة الدنيا مدة الحياة ، والآخرة يوم القيامة ، والعرض للحساب ، وبعد أن وصف الكلمة الخبيثة فى الآية المتقدمة بين حال أصحابها بقوله :(13/150)
ج 13 ، ص : 151
(وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) أي ويخلق فيهم الضلال عن الحق الذي ثبّت المؤمنين عليه بحسب إرادتهم واختيارهم ، لسوء استعدادهم وميلهم مع شهوات النفوس وتدسيتها بصنوف الشرور والمعاصي ، سنة اللّه فى عباده ، ولن تجد لسنة اللّه تبديلا.
والمراد بالظالمين هنا الكفار ، لأنهم ظلموا أنفسهم بتبديلهم فطرة اللّه التي فطر الناس عليها وعدم اهتدائهم إلى القول الثابت.
أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي عن ابن عباس رضى اللّه عنهما « إن الكافر إذا حضره الموت تنزل عليه الملائكة عليهم السلام يضربون وجهه ودبره ، فإذا دخل قبره أقعد فقيل له من ربك ؟ لم يرجع إليهم شيئا وأنساه اللّه تعالى ذكر ذلك ، وإذا قيل له من الرسول الذي بعث إليك ؟ لم يهتد له ولم يرجع إليه شيئا ، فذلك قوله تعالى : (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) » .
(وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ) أي وبيده تعالى الهداية والإضلال بحسب ما تقتضيه سننه العامة التي سنها فى عباده ، بحسب استعداد النفوس وقبولها لكل منهما ، فلا تنكروا قدرته على اهتداء من كان ضالا ولا ضلال من كان منكم مهتديا ، فإن بيده تصريف خلقه ، وتقليب قلوبهم ، يفعل فيهم ما يشاء.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 31]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31)
تفسير المفردات
البوار : الهلاك ، يقال رجل بائر وقوم بور كما قال : « وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً » ويصلونها : يقاسون حرها ، والأنداد : واحدهم ندّ وهو المثل والشبيه ، والمصير : المرجع ، والبيع : الفدية ، والخلال : المخالّة والصداقة.(13/151)
ج 13 ، ص : 152
المعنى الجملي
بعد أن ضرب عز اسمه الأمثال بيانا لحالى الفريقين ، وذكر ما يلهمه من التوفيق فى الدارين للسعداء ، وما ينال الأشقياء من الخذلان والإضلال ، جزاء ما كسبت أيديهم من تدسيتهم لأنفسهم باجتراحهم للشرور والآثام ، وبين أن كل ذلك يفعله على حسب ما يرى من الحكمة والمصلحة.
ذكر هنا الأسباب التي أوصلتهم إلى سوء العاقبة معجبا رسوله مما صنعوا من الأباطيل التي لا تكاد تصدر ممن له حظّ من الكفر والنظر ، ولم تكن هذه الطامة خصّيصى بهم ، بل كانت فتنة شعواء عمتهم جميعا « واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّة » .
ذاك أنهم بدلوا النعمة كفرا ، والشكر جحدا وإنكارا ، وليت البليّة كانت واحدة بل أضافوا إليها أخرى فاتخذوا اللّه الأنداد والشركاء ، ثم ثلّثوا بإضلال غيرهم فكانوا دعاة الكفر وأعوان الفتنة :
فلو كان همّ واحد لا حتملته ولكنه هم وثان وثالث
ومن ثم كانت عاقبتهم التي لا مرد لها العذاب الأليم فى جهنم وبئس المصير ثم بين لرسوله أن مثل هؤلاء لا تجدى فيهم العظة ، فذرهم يتمتعوا فى هذه الحياة حتى حين ، ثم لا بد لهم من النصيب المحتوم.
وبعد أن أمر الكافرين على سبيل الوعيد والتهديد بالتمتع بنعيم الدنيا ، أمر عباده المؤمنين بعدم المغالاة فى التمتع بها ، والجد فى مجاهدة النفس والهوى ، ببذل النفس والمال فى كل ما يرفع شأنهم ، ويقرّبهم من ربهم ، وينيلهم الفوز لديه فى يوم لا تنفع فيه فدية ولا صداقة ولا خلة : « يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى اللّه بقلب سليم » .
أخرج عطاء عن ابن عباس أن هؤلاء هم كفار مكة.
وأخرج الحاكم وابن جرير والطبراني وغيرهم عن على كرم اللّه وجهه أنه قال فى هؤلاء المبدّلين : هم الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة ، فأما بنو المغيرة فقطع اللّه تعالى دابرهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين.(13/152)
ج 13 ، ص : 153
الإيضاح
عدّد سبحانه الأسباب التي أوقعت هؤلاء الأشقياء ومن شايعهم فى سوء المنقلب وحصرها فى ثلاثة :
(1) (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً) أي ألم تعلم وتعجب من قوم بدّلوا شكر النعمة غمطا لها وجحودا بها ، كأهل مكة الذين أسكنهم اللّه حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شىء وجعلهم قوّام بيته ، وشرّفهم بإرسال رسوله محمد صلى اللّه عليه وسلّم من بينهم ، فكفروا بتلك النعمة فأصابهم الجدب والقحط سبع سنين دابا وأسروا يوم بدر ، وصفّدوا فى السلاسل والأغلال ، وقتل منهم العدد العديد من صناديدهم ورجالاتهم ممن كانوا يضنّون بهم ويحتفظون بمواضعهم ليوم كريهة وسداد ثغر.
(وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) أي وأحلوا من شايعهم على الكفر دار الهلاك الذي لاهلاك بعده.
ثم بين هذه الدار فقال :
(جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) أي هذه الدار هى جهنم دار العذاب التي يقاسون حر نارها ، وبئس المستقر هى لمن أراد اللّه به النكال والوبال.
(2) (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) أي واتخذوا اللّه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ليس كمثله شى ء - أندادا وشركاء من الأصنام والأوثان ، أشركوهم به فى العبادة كما قالوا فى الحجّ : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك.
(3) (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أي لتكون عاقبة أمر الذين شايعوهم على ضلالهم ، الصدّ والإعراض عن سبيله القويم ودينه الحنيف ، والوقوع فى حمأة الكفر والضلال.
ولما حكى اللّه عنهم هذه الهنات الثلاث ، تبديل النعمة ، واتخاذ الأنداد والأمثال ، وإضلال قومهم ، أمر نبيه أن يقول لهم على سبيل التهديد والوعيد : سيروا على ما أنتم عليه ، فإنه لا فائدة فى نصحكم وإرشادكم والعاقبة النار.(13/153)
ج 13 ، ص : 154
(قُلْ تَمَتَّعُوا) أي تمتعوا بما أنتم فيه سادرون مما سيؤدى بكم إلى مهاوى الهلاك ، من الكفران وعبادة الأوثان والأصنام والسعى فى إضلال الناس والصد عن سبيله.
ثم بين جزاءهم المحتوم فقال :
(فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) أي إن مرجعكم وموئلكم إليها كما قال : « نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ » وسمى اللّه تعالى ذلك تمتعا ، لأنهم تلذذوا به ، وأحسوا بغبطة وسرور كما يتلذذون بالمشتهيات من النعم ، وهذا الأسلوب التهكمى يستعمل فى التخاطب كثيرا فترى الطبيب يأمر مريضه بالاحتماء من بعض ما يضره ويؤذيه ، ثم لا يرى منه إلا تماديا فى الإعراض عن أوامره ، واتباعا لشهواته فيقول له :
كل ما تريد ، فإن مصيرك إلى الموت ، وما مراده من ذلك إلا التهديد ليرتدع ويقبل ما يقول. وكما يقال لمن سعى فى مخالفة السلطان : اصنع ما شئت ، فإن مصيرك إلى السيف.
وبعد أن هدد الكفار على انغماسهم فى اللذات ، أمر نبيه صلى اللّه عليه وسلّم أن يأمر خلّص عباده بإقامة العبادات البدنية ، وأداء الفرائض المالية فقال :
(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي قل لهم :
أقيموا الصلاة على وجهها ، وأدوها كما طلب ربكم ، فهى عماد الدين ، وهى التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وهى المصباح للمؤمن يستضىء به للقرب من ربه ، وأدوا الزكاة شكرا له على نعمه الجزيلة ، رأفة بعباده الفقراء سدا لخلتهم وإيجادا للتضامن والتعاون بين الإخوة فى الدين : « إنّما المؤمنون إخوة » .
(سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي أنفقوا ذلك فى السر والعلن ، ولكل منهما حال تستحب فيها وقد تقدم القول فى تفصيل ذلك.
(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) أي من قبل أن يأتى اليوم الذي لا تنفع فيه فدية ، ولا تجدى فيه صداقة ، فلا يشفع خليل ولا يصفح ، عن عقابه لمخالّته لصديقه ، بل هناك العدل والقسط كما قال : « فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ(13/154)
ج 13 ، ص : 155
وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا »
وقال : « أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ » .
أدلة التوحيد المنصوبة فى الآفاق والأنفس
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 الى 34]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
تفسير المفردات
السماء : السحاب ، وكل ما علا الإنسان فأظله فهو سماء ، والرزق : كل ما ينتفع به ، والتسخير : التيسير والإعداد ، والفلك : السفن ، دائبين : أي دائمين فى الحركة لا يفتران ، يقال دأب فى العمل إذا سار فيه على عادة مطردة كما قال : « تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً » آتاكم : أي أعطاكم ، لا تحصوها : لا تطيقوا حصرها ، والإحصاء : العد بالجصى ، وكان العرب يعتمدونه فى العد كاعتمادنا فيه على الأصابع ، ظلوم : أي لنفسه بإغفال شكر النعمة ، كفار : شديد الكفران والجحود لها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أحوال الكافرين لنعمه ، حين بدّلوا الشكر بالكفر ، واتخذوا اللّه أندادا ، فكان جزاؤهم جهنم وبئس المهاد ، ثم أمر المؤمنين بإقامة شعائر الدين من صلاة وزكاة ، شكرا لربهم على ما أوتوا من النعم ، وحثا لهم على الجهاد فى سبيل كما لهم ورقبهم ببذل النفس والنفيس وهو المال ، لتكمل لهم السعادة فى الدارين -(13/155)
ج 13 ، ص : 156
شرع يذكر الأدلة المنصوبة فى الآفاق والأنفس التي توجب على عباده المثابرة على شكره ودوام الطاعة له ، ويذكر النعم الجسام التي يتقلبون فى أعطافها آناء الليل وأطراف النهار ، ليكون فى ذلك حث لهم على التدبر فيما يأتون وفيما يذرون ، وفيه عظيم الدلالة على وجوب شكر الصانع لها ، كما فيه أشد التقريع للكافرين الذين أعرضوا عن النظر والتفكر فى تلك النعم ، فكان هذا داعية كفرها وجحودها ، وغمطها وكنودها.
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي اللّه الذي خلق لكم السموات والأرض ، هما أكبر خلقا منكم ، وفيهما من المنافع لكم ما تعلمون وما لا تعلمون ، وتقدم تفصيل هذا فى مواضع متعددة من كتابه الكريم.
(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) أي وأنزل من السماء غيثا أحيا به الشجر والزرع ، فأثمرت لكم رزقا تأكلون منه وتعيشون به.
والآية كقوله : « وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى » أي من ثمار وزروع مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع.
(وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أي وذلل لكم السفن بأن أقدركم على صنعها ، وجعلها طافية على وجه الماء ، تجرى عليه بأمره تعالى وسخر البحر لحملها ، ليقطع المسافرون بها المسافات الشاسعة من إقليم إلى إقليم لجلب ما هناك إلى هنا ونقل ما هنا إلى هناك.
(وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) تشق الأرض شقا من قطر إلى قطر ، لانتفاعكم بها حيث تشربون منها ، وتتخذون جداول تسقون بها زروعكم وجناتكم ، وما أشبه ذلك.
(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) أي دائمين فى الحركة ، لا يفتران إلى انقضاء عمر الدنيا كما قال : « لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ » وقال : « يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ(13/156)
ج 13 ، ص : 157
وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ »
.
(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يتعاقبان ، فالنهار لسعيكم فى أمور معاشكم وما تحتاجون إليه فى أمور دنياكم ، والليل لتسكنوا فيه كما جاء فى الآية الأخرى « وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ » فالشمس والقمر يتعاقبان ، والليل والنهار يتعارضان ، فتارة يأخذ هذا من ذاك فيطول ، ثم يأخذ الآخر من هذا فيقصر ، كما قال تعالى : « يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ » .
(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أي هيّألكم كل ما تحتاجون إليه فى جميع أحوالكم من كل الذي هو حقيق أن تسألوه ، سواء أ سألتموه أم لم تسألوه ، لأن هذه الدنيا قد وضع اللّه فيها منافع يجهلها الناس وهى معدّة لهم ، فلم يسأل اللّه أحد فى الأمم الماضية أن يعطيهم الطائرات والمغناطيس والكهرباء ، بل خلقها وأعطاها للناس بالتدريج ، ولم يزل هناك عجائب ستظهر لمن بعدنا.
(وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) أي لا تطيقوا عدّ أنواعها فضلا عن القيام بشكرها.
وفى صحيح البخاري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم كان يقول : « اللهم لك الحمد غير مكفىّ ولا مودّع ولا مستغنى عنه ربنا » .
وأثر عن الشافعي أنه قال : الحمد للّه الذي لا يؤدّى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها ، وقال شاعرهم :
لو كلّ جارحة منى لها لغة تثنى عليك بما أوليت من حسن
لكان مازاد شكرى إذ شكرت به إليك أبلغ فى الإحسان والمنن
(إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) أي إن الإنسان الذي بدل نعمة اللّه كفرا لشاكر غير من أنعم عليه ، فهو بذلك واضع للشكر فى غير موضعه - ذاك أن اللّه هو الذي أنعم عليه بما أنعم ، واستحق إخلاص العبادة له ، فعبد هو غيره وجعل له أندادا ليضل عن سبيله وذلك هو ظلمه ، وهو جحود لنعمه التي أنعم بها عليه ، لصرفه العبادة إلى غير من أنعم بها عليه ، وتركه طاعة من أنعم عليه.(13/157)
ج 13 ، ص : 158
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 41]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)
تفسير المفردات
واجنبنى : أي أبعدنى ، وأصل التجنب أن يكون الرجل فى جانب غير ما عليه غيره ، ثم استعمل فى البعد مطلقا ، وتهوى إليهم : أي تسرع شوقا وحبا ، ويقوم الحساب :
أي يثبت ويتحقق كما يقال قامت السوق والحرب : أي وجدتا.
المعنى الجملي
بعد أن نصب سبحانه الأدلة على أن لا معبود سواه ، وأنه لا يجوز بحال أن يعبد غيره ، وطلب إلى رسوله أن يعجب من حال قومه ، إذ بدّلوا نعمة اللّه كفرا ، وعبدوا لأوثان والأصنام.(13/158)
ج 13 ، ص : 159
ذكر هنا أن الأنبياء جميعا حثوا على ترك عبادة الأصنام ، فإبراهيم صلوات اللّه عليه وهو أبوهم نعى على قومه عبادتها ، وطلب إلى اللّه أن يجنبه وبنيه ذلك ، فإنها كانت سببا فى ضلال كثير من الناس ، وشكر اللّه على أن وهب له على كبره ولديه إسماعيل وإسحاق ، ثم ختم مقاله بأن يغفر له ولوالديه وللمؤمنين ذنوبهم عند العرض والحساب.
الإيضاح
(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) أي واذكر لقومك مذكّرا لهم بأيام اللّه خبر إبراهيم إذ قال : ربى المحسن إلىّ بإجابة دعائى ، اجعل مكة بلدا آمنا.
وقد أجاب اللّه تعالى دعاءه فجعله حرما لا يسفك فيه دم ، ولا يظلم فيه أحد ولا يصاد صيده ولا يختلى خلاه كما قال : « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ » (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) أي وباعدنى وبنىّ من أن نعبد الأصنام ، أي ثبتنا على ما نحن عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام.
وقد استجيب دعاؤه فى بعض بنيه دون بعض ولا ضير فى ذلك.
(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) أي يا رب إن الأصنام أزلن كثيرا من الناس عن طريق الهدى وسبيل الحق حتى عبدوهن وكفروا بك.
(فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن تبعني على ما أنا عليه من الإيمان بك ، وإخلاص العبادة لك والبعد عن عبادة الأوثان - فإنه مستنّ بسنتى وجار على طريقتى ، ومن خالف أمرى فلم يقبل منى ما دعوته إليه وأشرك بك ، فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بالتوبة عليه وهدايته إلى الصراط المستقيم.
(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) أي يا رب إنى أسكنت بعض ذريتى وهم أولاد إسماعيل بواد غير ذى زرع وهو وادي مكة عند بيتك الذي حرمت التعرض له والتهاون به وجعلت ما حوله حرما لمكانه.(13/159)
ج 13 ، ص : 160
(رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) أي إنما جعلته محرما ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده ويعمروه بذكرك وعبادتك.
(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) أي فاجعل قلوب بعض الناس محترقة شوقا إليهم.
(وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) أي وارزق ذريتى الذين أسكنتهم هناك من أنواع الثمار بأن تجبى إليهم ذلك من شاسع الأقطار ، وقد استجاب اللّه ذلك كما قال : « أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا » قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا فى كتابه (الإسلام والطلب الحديث) دعاء سيدنا إبراهيم يفسر ما قلناه ، وهو أن الدعاء سنة طبيعية لا أكثر ولا أقل ، فالنبى يدعو ربه ليلهم الناس حج البيت ، فهو يستعين بسنة طبيعية وهى إلهام الخالق لنا حج البيت مع أنه يعلم أن اللّه قادر على أن ينزل عليهم رزقا من السماء ، ولكن النبي ضرب لنا مثلا فى طريق استعمال الدعاء وقيمته ، فالدعاء لا يلغى سنة طبيعية ولا يأتى بالمعجزات ، ولكن الداعي يطلب من الخالق الهداية إلى إحدى السنن الطبيعية وسأضرب لك مثلا بالنسبة للمريض وعلاجه ، فقد أخبرنى البعض أن من يطلب الطبيب لا يستعين بالدعاء ، والحقيقة غير ذلك ، فالوالد الذي يدعو ربه لشفاء ولده ، لا فائدة من دعائه إذا كان ولده قد مات أو إذا كان مرضه مميتا حتما ، ولكن قد يكون للمرض طرق علاج خاصة ، أو يشفى من نفسه فى ظروف خاصة ، فالدعاء فى هذه الحال معناه إلهام المريض ومن حوله من طبيب وغيره استعمال الطريق المؤدى إلى الشفاء ، والطبيب يحتاج دائما إلى هذا الإلهام ، وكم من مرة يقف فى مفترق الطرق ولا يدرى أية ناحية يسلك ، وكل طريق سنة طبيعية تؤدى إلى نتيجة خاصة ، والدعاء هداية إلى السنة المؤدية إلى الشفاء ، وهكذا يكون الدعاء والتطبيب وكل أعمال الإنسان يكمّل بعضها بعضا وليست متناقضة ، فدعاء سيدنا إبراهيم معناه أن يلهم الناس بواسطة القوانين الطبيعية حج البيت ، وقد يقال ولكننا لا نشعر بإلهام من عند اللّه ، وكل أفعالنا نتيجة مباشرة لتفكيرنا ، والشخص الذي يحج(13/160)
ج 13 ، ص : 161
لا يشعر بإلهام أو شىء خفى ، ولكن الحقيقة أن أفعال الإنسان قد تكون نتيجة تفكيره واختباراته ويكون سبب حركاتها ظاهرا وقد تكون أفعاله غير منطبقة على تفكيره واختباراته ولكنه مع ذلك يندفع إلى العمل ، وكثيرا ما نشاهد أشخاصا لا يفكرون فى الحج مدة طويلة ، ولكن فجأة وبدون سبب ظاهر يصممون على الحج وينفذون إرادتهم ، وهذا العمل ظاهره الاختيار طبعا ولكنهم مدفوعون بقوة مسيطرة عليهم أشبه بالغريزة أو الوحى.
وقد أجاب اللّه إبراهيم إلى دعائه ، فألهم الناس الحج فى آلاف السنين وإلى ما شاء اللّه ، لا فى مدى حياته فحسب وفى هذا إظهار لقدرة الخالق وصدق وعده اه.
(لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) أي رجاء أن يشكروا تلك النعمة بإقامة الصلاة وأداء واجبات العبودية.
وفى هذا إيماء إلى أن تحصيل منافع الدنيا إنما هو ليستعان بها على أداء العبادات وتحصيل الطاعات ، وفى دعائه عليه السلام مراعاة للأدب والمحافظة على الضراعة وعرض الحاجة واجتلاب الرأفة ، ومن ثم منّ اللّه عليه بالقبول وإعطاء المسئول ، ولا بدع فى ذلك فهو خليل الرحمن وأبو الأنبياء جميعا.
(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) أي أنت تعلم ما تخفى قلوبنا حين سؤالك ما نسأل ، وما نعلن من دعائنا فنجهر به.
(وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي ولا يخفى على اللّه شىء يكون فى الأرض أو فى السماء ، لأن ذلك كله ظاهر متجلّ له ، لأنه مدبره وخالقه ، فكيف يخفى عليه.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) أي الحمد للّه الذي وهب لى وأنا آيس من الولد لكبر سنى - ولدين : إسماعيل وإسحاق.
(إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) أي إن ربى لسميع دعائى الذي أدعو به من قولى :
«
اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ » وقد كان إبراهيم سأله الولد(13/161)
ج 13 ، ص : 162
بقوله : « رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ » فلما استجاب اللّه دعاءه قال الحمد للّه إلخ.
(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) أي رب اجعلنى مؤديا ما ألزمتنى من فريضتك التي فرضتها علىّ.
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي واجعل أيضا ذريتى مقيمى الصلاة ، وقد خص الصلاة من بين فرائض الدين لأنها العنوان الذي يمتاز به المؤمن من غيره ، ولما لها من المزية العظمى فى تطهير القلوب بترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) المراد بالدعاء العبادة أي ربنا تقبل عبادتى كما جاء فى قوله :
« وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي » .
وجاء فى الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم : « إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ.
وقال ربّكم ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ » .
(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) أي ربنا اغفر لى ما فرط منى من الذنوب ولأبوىّ ، وقد روى عن الحسن أن أمه كانت مؤمنة : واستغفاره لأبيه كان عن موعدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه عدو اللّه تبرأ منه كما قال تعالى : « وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ » الآية ، وللمؤمنين بك ممن تبعني على الدين الذي أنا عليه ، فأطاعك فى أمرك ونهيك - يوم تحاسب عبادك فتجازيهم بأعمالهم إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 52]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46)
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51)
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)(13/162)