ج 7 ، ص : 29
قال وفعله أبو بكر ، فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن : أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر ،
وفى الصحيحين عن على كرم اللّه وجهه : ما كنت لأقيم على أحد حدا فيموت وأجد فى نفسى شيئا إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته (أي دفعت ديته) وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يسنّه ،
وفى صحيح مسلم أن عثمان أتى بالوليد وقد صلى الصبح ركعتين ، وقال أزيدكم وشهد عليه الشهود أنه شرب الخمر ، فأمر بجلده وعلىّ كرم اللّه وجهه يعدّ حتى بلغ الأربعين فقال أمسك ، ثم قال جلد النبي وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكلّ سنّة وهذا أحب إلىّ (يريد الأربعين)
وقوله كل سنة أي إنه جرى العمل به فعلا ، ولا يعارض ذلك قوله إن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يسن حد الخمر ، لأن ضربه أربعين مرة واحدة لا يعد سنة محددة له ، لأنه قد خالف ذلك فى بعض الأحيان لكنه صار سنة بجرى أبى بكر عليه.
والخلاصة - إن العقاب المشروع على شرب الخمر هو الضرب الذي يراد منه إهانة الشارب وزجره وتنفير الناس منه ، وإن الضرب أربعين أو ثمانين كان اجتهادا من الخلفاء ، فاختار أبو بكر الأربعين وعمر الثمانين بموافقته لاجتهاد عبد الرحمن بن عوف بتشبيهه بحد قذف المحصنات ،
وقد روى الدار قطنى عن على كرم اللّه وجهه قال : إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وعلى المفترى ثمانون جلدة.
[سورة المائدة (5) : الآيات 94 الى 96]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)(7/29)
ج 7 ، ص : 30
تفسير المفردات
الابتلاء : الاختبار ، والصيد : ما صيد من حيوان البحر ومن حيوان البر الوحشية للأكل ، وقوله تناله أيديكم ورماحكم ، يراد به كثرته وسهولة أخذه. وروى عن ابن عباس أن ما يؤخذ بالأيدى صغاره وفراخه ، وما يؤخذ بالرماح كباره ، ليعلم اللّه أي ليعاملكم معاملة المختبر الذي يريد أن يعلم الشيء وإن كان علام الغيوب ، والحرم :
واحده حرام للذكر والأنثى ، تقول هو رجل حرام وامرأة حرام أي محرمة بحج أو عمرة والنعم والأنعام من الإبل والبقر والضأن ، والعدل (بِالْفَتْحِ) المعادل للشىء والمساوى له مما يدرك بالعقل (وبالكسر) المساوى له مما يدرك بالحس ، والوبال من الوبل والوابل : وهو المطر الثقيل ، وطعام وبيل ثقيل ، ويقال للأمر الذي يخاف ضرره هو وبال ، والبحر : المراد به الماء الكثير الذي يوجد فيه السمك كالأنهار والآبار والبرك ونحوها ، وصيد البحر : ما يصاد منه مما يعيش فيه عادة ، وطعامه ما قذف به إلى ساحله ، والسيارة : جماعة المسافرين يتزودون منه ، وتحشرون : تجمعون وتساقون إليه.
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه عن تحريم ما أحلّ من الطيبات ثم استثنى الخمر والميسر - استثنى هنا مما يحل الصيد فى حال الإحرام وأوجب جزاء على قتله ، وبين أن صيد البحر وطعامه حلال ، وقد نزلت هذه الآية عام الحديبية حيث ابتلاهم اللّه بالصيد(7/30)
ج 7 ، ص : 31
وهم محرمون وكثر عندهم حتى كان يغشاهم فى رحالهم فيتمكنون من صيده أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) أي يا أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله : ليختبرنكم اللّه بإرسال كثير من الصيد يسهل عليكم أخذ بعضه بأيديكم وبعضه برماحكم.
ووجه الابتلاء فى ذلك أن الصيد طعام لذيذ تشتد الحاجة إليه فى الأسفار الطويلة كالسفر إلى الجهات النائية ، إلى أن سهولة تناوله تغرى به ، إذ ترك مالاينال إلا بمشقة لا يدل على التقوى والخوف من اللّه كما يدل عليه ترك ما ينال بسهولة.
(لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) أي يبتليكم اللّه حال إحرامكم ، ليعلم من يخافه غائبا عن نظر الناس غير مراء ولا خائف من إنكارهم ، فيترك أخذ شيء من الصيد ويختار شظف العيش على لذة اللحم خوفا من اللّه تعالى وطاعة له فى خفيته.
والخلاصة - إنه تعالى يريد أن يعاملكم معاملة المختبر الذي يريد أن يعلم الشيء وإن كان هو عالما به ، تربية لكم وتزكية لنفوسكم وتطهيرا لها.
(فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي فمن اعتدى بأخذ شىء من ذلك الصيد بعد ذلك البيان الذي أخبركم اللّه تعالى به قبل حصوله ، فله عذاب شديد فى الآخرة ، إذ هو لم يبال باختبار اللّه له ، بل انتهك حرمة نواهيه ، وأبان أنه لا يخافه بالغيب ، بل يخاف لوم المؤمنين وتعذيرهم إذا هو أخذ شيئا من الصيد بمرأى منهم ومسمع كما هو دأب المنافقين الذين يراءون الناس ولا يذكرون اللّه إلا قليلا.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي يا أيها الذين صدقوا اللّه ورسوله لا تقتلوا الصيد الذي بينه لكم وهو صيد البر دون صيد البحر وأنتم محرمون بحج أو عمرة(7/31)
ج 7 ، ص : 32
(وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) أي ومن قتل شيئا من الصيد وهو محرم قاصدا قتله فعليه جزاء من الأنعام مماثل لما قتله فى هيئته وصورته إن وجد ،
فقد روى الدار قطنى عن جابر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « فى الضبع إذا أصابه المحرم كبش ، وفى الظبى شاة ، وفى الأرنب عناق. »
: (الأنثى من ولد المعز قبل أن تبلغ سنة)
« وفى اليربوع جفرة »
(الأنثى من ولد الضأن التي بلغت أربعة أشهر)
وأخرج ابن أبى شيبة عن جابر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « الضبع صيد ، فإذا أصابه المحرم ففيه جزاء كبش مسنّ وتؤكل » .
وإن لم يوجد المماثل من النعم فقيمته حيث صيد أو فى أقرب الأماكن إليه.
وقتل المحرم بحج أو عمرة للصيد حرام بالإجماع لنفس الآية ، وأكل المحرم مما صاده من ليس بمحرم جائز ، لما
روى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم والصحابة أكلوا مما أهدى إليهم من لحم الحمار الوحشي.
والصيد الذي نهت عنه الآية هو كل حيوان وحشي يؤكل لحمه ، فلا جزاء فى قتل الأهلى ولا ما لا يؤكل لحمه من السباع والحشرات ومنها الفواسق الخمس التي ورد الإذن بقتلها وهى الغراب والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور ، وألحق مالك بالكلب العقور الذئب والسبع والنمر والفهد ، لأنها أشد منه ضررا.
(يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي يحكم بالجزاء من النعم وكونه مثل المقتول من الصيد رجلان من أهل العدالة والمعرفة من المؤمنين.
ووجه الحاجة إلى حكم العدلين أن المماثلة بين النعم والصيد مما يخفى على أكثر الناس ، وما لا مثل له بوجه من الوجوه يحكمان فيه بالقيمة.
(هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) أي إن ذلك الجزاء يكون هديا يصل إلى الكعبة ويذبح فى جوارها حيث تؤدى المناسك ويفرّق لحمه على مساكين الحرم.
(أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) أي فعلى من قتل الصيد وهو محرم متعمدا جزاء من النعم مماثل له ، أو كفارة طعام مساكين ، أو ما يعادل(7/32)
ج 7 ، ص : 33
ذلك الطعام من الصيام ، روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال : إذا قتل المحرم شيئا من الصيد فعليه فيه الجزاء ، فإن قتل ظبيا أو نحوه فعليه ذبح شاة تذبح بمكة ، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين ، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ، فإن قتل أيّلا (من بقر الوحش) فعليه بقرة ، فإن لم يجدها صام عشرين يوما ، وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحو ذلك فعليه بدنة من الإبل ، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا فإن لم يجد صام ثلاثين يوما والطعام مدّ مدّ يشبعهم.
(لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) أي أوجبنا ما أوجبنا من الجزاء أو الكفارة كى يذوق وبال أمره ، أي سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام إما بدفع الغرم وإما بالعمل ببدنه بما يتعبه ويشق عليه.
(عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) لكم من الصيد فى حال الإحرام قبل أن تراجعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وتسألوه عن جوازه.
(وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) أي ومن عاد إلى قتل الصيد وهو محرم بعد ورود النهى فإن اللّه ينتقم ممن أصر على الذنب ، فهو ينكل به ويبالغ فى عقوبته وله العزة والمنعة.
(وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) أي واللّه غالب على أمره فلا يغلبه العاصي ، ذو انتقام ومبالغة فى العقوبة ممن أصرّ على الذنب.
والآية صريحة فى أن الجزاء الدنيوي إنما يمنع عقاب الآخرة إذا لم يتكرر الذنب ، فإن تكرر استحق صاحبه الجزاء فى الدنيا والعقاب فى الآخرة.
(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) أي وأحل لكم ما صيد من البحر ثم مات وما قذفه البحر ميتا ، وروى هذا عن ابن عباس وابن عمر وقتادة.
والخلاصة - إن المراد بطعامه عندهم ما لا عمل للإنسان فيه ولا كلفة فى اصطياده كالذى يطفو على وجهه والذي يقذف به إلى الساحل والذي ينحسر عنه الماء وقت الجزر ، ولا فرق بين حيه وميته(7/33)
ج 7 ، ص : 34
(مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) أي منفعة لمن كان منكم مقيما فى بلده يستمتع بأكله وينتفع به ، ومتعة للسائرين والمسافرين من أرض إلى أرض يتزودونه فى سفرهم مليحا (سردين وفسيخ).
(وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) أي وحرم عليكم ما صدتم فى البر وأنتم محرمون ، لا ما صاده غيركم ولا ما صدتموه قبل إحرامكم.
(وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي واخشوا اللّه واحذروه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه ، وفيما نهاكم عنه من جميع ما تقدم من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وإصابة صيد البر وقتله فى حال إحرامكم وفى نحو ذلك ، فإن إليه مصيركم ومرجعكم فيعاقبكم بمعصيتكم ويثيبكم على طاعتكم.
[سورة المائدة (5) : آية 97]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
تفسير المفردات
الكعبة فى اللغة : البيت المكعب أي المربع ، والقيام : ما يقوم به أمر الناس ، ويصلح ، والشهر الحرام : ذو الحجة ، والهدى : ما يهدى إلى الحرم من الأنعام توسعة على فقرائه ، والقلائد أي ذوات القلائد من الهدى وهى الأنعام التي كانوا يقلدونها إذا ساقوها هديا ، وخصها بالذكر لعظم شأنها.
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه فى الآية السالفة المحرم عن الاصطياد - بين هنا أن البيت الحرام كما أنه سبب لأمن الوحش والطير - هو سبب لأمن الناس من الآفات والمخاوف ، وسبب لحصول الخيرات والسعادات فى الدنيا والآخرة.(7/34)
ج 7 ، ص : 35
الإيضاح
(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) أي إن اللّه تعالى جعل الكعبة التي هى البيت الحرام قياما لمن يقيمون بجوارها ولمن يحجون إليها أي سببا لقيام مصالحهم ومنافعهم - ذلك بأن مكة بلد لا ضرع فيه ولا زرع ، وقلما يوجد فيه ما يحتاج إليه أهله ، فجعل اللّه الكعبة معظمة فى القلوب ، يرغب الناس جميعا فى زيارتها والسفر إليها من كل فج ، وصار ذلك سببا فى إسباغ النعم على أهلها - إجابة لدعاء إبراهيم صلوات اللّه عليه كما حكاه اللّه عنه بقوله : « رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ » .
إلى أنها كانت قياما للناس فى دينهم بما جعل فيها من المناسك العظيمة والطاعات التي هى من أسباب حط خطيئاتهم ورفع درجاتهم.
إلى أن أهلها صاروا بسبب الكعبة أهل اللّه وخاصته والسادة المعظمين إلى يوم القيامة ، كما صاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم ، فقد كان العرب يتقاتلون ويغير بعضهم على بعض إلا فى الحرم حتى لو لقى الرجل قاتل أبيه أو ابنه فى الحرم لم يتعرض له ، ولو جنى أعظم الجنايات لم يتعرّض له كما قال تعالى « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ » .
وكذلك جعل الشهر الحرام سببا لقيام الناس ، لأن العرب كان يقتل بعضهم بعضا ، ويغير بعضهم على بعض فى سائر الأشهر حتى إذا دخل الشهر الحرام زال الخوف وقدروا على الأسفار والتجارات وصاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم ، وكانوا يحصّلون فيه من الأقوات ما يكفيهم طول العام ، ولو لاه لتفانوا من الجوع والشدة.
وكذلك جعل الهدى سببا لقيام الناس ، لأنه يهدى إلى البيت ويذبح ويفرّق لحمه على الفقراء فيكون نسكا للمهدى وقياما لمعيشة الفقراء.(7/35)
ج 7 ، ص : 36
وكذلك جعل القلائد قياما للناس ، إذ أن من قصد البيت فى الشهر الحرام لم يتعرض له أحد ، ومن قصده فى غير الشهر الحرام ومعه هدى وقلّده وقلد نفسه من لحاء شجر الحرم لم يتعرض له أحد ، لأن اللّه أوقع فى قلوبهم تعظيم البيت ، فكل من قصده أو تقرب إليه صار آمنا من جميع الآفات والمخاوف.
(ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي ذلك التدبير اللطيف لأجل أن تتفكروا فى أنه تعالى يعلم ما فى العالم العلوي والسفلى ، وأن علمه محيط بكل شىء.
والخلاصة - إن ذلك لم يكن إلا لحكمة بالغة صادرة عن علم بخفايا الأمور وغاياتها ، فكان دليلا على أنه سبحانه يعلم ما فى السموات وما فى الأرض من أسباب الرزق ونظام الخلق وغير ذلك ، وأنه عليم بكل شىء فلا تخفى عليه خافيه.
وقد عجزت جميع الأمم فى القديم والحديث عن تأمين الناس فى قطر من الأقطار فى زمن معين من كل سنة بحيث لا يقع فيه قتل ولا قتال ولا عدوان.
[سورة المائدة (5) : الآيات 98 الى 100]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
المعنى الجملي
بعد أن أرشدنا فى الآية السابقة إلى بعض آيات علمه فى خلقه التي بها جعل البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد - نبهنا فى هذه إلى أن العليم بكل شىء لا يمكن أن يترك الناس سدى ، فهو لم يحلقهم عبثا - ومن ثم لا يليق بحكمته وعدله(7/36)
ج 7 ، ص : 37
أن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ولا أن يسوّى بين الطيب والخبيث فيجعل البرّ كالفاجر والمصلح كالمفسد ، بل لا بد من الجزاء بالحق ، لذلك جاءت هذه الآيات ترغيبا لعباده وترهيبا لهم ، ووعدا ووعيدا.
الإيضاح
(اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي اعلموا أن ربكم الذي لا يخفى عليه شىء من سرائر أعمالكم وعلانيتها وهو محصيها عليكم ، شديد العقاب لمن دسّى نفسه بالشرك والفسوق والعصيان ، وغفار لذنوب من أطاعه وأناب إليه رحيم به ، فلا يؤاخذه بما فرط منه قبل الإيمان ، ولا بما يعمله من السوء بجهالة إذا بادر إلى التوبة وأصلح عمله ، بل يستر ذنبه ويمحوه فلا يبقى له أثر مع إيماله وعمله الصالح كما يستر الماء القدر القليل بما يغمره من الماء النقي الكثير.
وفى تقديم العقاب على المغفرة والرحمة إيماء إلى أن العقاب قد ينتهى بالمغفرة والرحمة ، لأن رحمته تعالى سبقت غضبه كما ورد فى صحيح الحديث ، ومن ثم يغفر كثيرا لمن ظلم نفسه ، قال تعالى : « وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ » .
وبعد أن أبان سبحانه أن الجزاء بيد اللّه العليم بكل شىء ، ذكر وظيفة الرسول فقال :
(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) أي ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم بالإنذار بالعقاب بين يدى عذاب شديد ، والإعذار إليكم بما يقطع حججكم - إلا أن يؤدى الرسالة ثم إلينا الثواب على الطاعة ، وعلينا العقاب على المعصية ، ولا يخفى علينا المطيع لأوامرنا ، والعاصي التارك للعمل بها ، إذ لا يغيب عنا شىء من ضمائر الصدور وظواهر أعمال النفوس ، فخليق بكم أن تتقونى ولا تعصوا أمرى.
وفى هذا وعيد شديد وتهديد لمن يخالف أوامر اللّه ويعصيه. كما أن فيه إبطالا لما عليه أهل الشرك والضلال من الخوف من معبوداتهم الباطلة والتماس الخلاص والنجاة من العذاب بشفاعتها.(7/37)
ج 7 ، ص : 38
والخلاصة - إن الرسول ليس عليه إلا البلاغ لدين اللّه وشرعه ، وبعدئذ يكون المبلغون هم المسئولين عند اللّه ، واللّه الذي يعلم ما يبدون وما يكتمون من العقائد والأقوال والأفعال ، وهو الذي يجازيهم بحسب علمه المحيط بكل ذرة فى الأرض والسموات ، ويكون جزاؤه حقا وعدلا ويزيد بعد ذلك من إحسانه عليه وفضله ، فاطلبوا سعادتكم من أنفسكم وخافوا منها عليها.
وما ورد من الشفاعة فى الآخرة فهو دعاء من النبي صلى اللّه عليه وسلم يستجيبه اللّه فيظهر عقبه ما سبق به علمه واقتضته حكمته بحسب ما جاء فى كتابه ، دون أن يكون مؤثرا فى علم اللّه ولا فى إرادته ، فالحادث لا يؤثر فى القديم.
وبعد أن بين سبحانه أن الجزاء منوط بالأعمال أراد أن يبين ما يتعلق به الجزاء من صفات الأعمال والعاملين لها وأرشد إلى أن هناك حقيقتين مختلفتين يترتب على كل منهما ما يليق بها من الجزاء فقال :
(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) أي قل أيها الرسول مخاطبا أمتك : لا يستوى الرديء والجيد من الأشياء والأعمال والأموال ، فلا يتساوى الضار والنافع ولا الفاسد والصالح ، ولا الحرام والحلال ، ولا الظالم والعادل فلكل منها حكم يليق به عند اللّه الذي يضع كل شىء فى موضعه بحسب علمه.
(وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) أي ولو أعجبك أيها السامع كثرة الخبيث من الناس أ ومن الأموال المحرمة لسهولة تناولها والتوسع فى التمتع بها كأكل الربا والرشوة والخيانة.
والخلاصة - إنهما لا يستويان لا فى أنفسهما ولا عند اللّه ، ولو فرض أن كثرة الخبيث أعجبتك وغرّتك ، فصرت بعيدا عن إدراك تلك الحقيقة - وهى أن القليل من الحلال خير من كثير الحرام حسن عاقبة فى الدنيا والآخرة أ لا ترى أن القليل الجيد من الغذاء أو المتاع خير من الكثير الرديء الذي لا يغنى غناءه ولا يفيد فائدته ، بل ربما يضر ويؤذى صاحبه.(7/38)
ج 7 ، ص : 39
فكذلك الحال بالنسبة إلى الناس ، فالقليل الطيب منهم خير من الكثير الخبيث ، فطائفة قليلة من شجعان المؤمنين تغلب الطائفة الكثيرة من الجبناء المتخاذلين ، وجماعة قليلة من ذوى البصيرة والرأى تأتى من الأعمال ما يعجز عنه الكثير من أهل الحمق والبلاهة ، فالعبرة بالصفة لا بالعدد ، والكثرة لا تكون خيرا إلا بعد التساوي فى الصفات الفاضلة.
(فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي فاتقوا اللّه يا أرباب العقول الراجحة ، واحذروا أن يستحوذ عليكم الشيطان ، فتغتروا بكثرة المال الخبيث وكثرة أهل الباطل والفساد من الخبيثين ، فتقوى اللّه هى التي تجعلكم من الطيبين وبها يرجى أن تكونوا من المفلحين الفائزين بخيرى الدنيا والآخرة.
وخص أولى الألباب بالاعتبار لأنهم هم أهل الروية والبصر بعواقب الأمور التي ترشد إليها مقدماتها بعد التأمل فى حقيقتها وصفاتها ، أما الأغرار الغافلون فلا يفيدهم وعظ واعظ ولا تذكير مذكّر فلا يعتبرون بما يرون بأعينهم ولا بما يسمعون بآذانهم ، كما يشاهد ويرى من حال كثير من الأغنياء الذين ذهبت أموالهم الكثيرة التي جمعت من الحرام ، وحال الدول التي ذهب ريحها بخلوها من فضيلتى العلم والخلق وورثها من كانوا أقل منهم رجالا ومالا إذ كانوا أفضل منهم أخلاقا وأعمالا.
[سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 102]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه وظيفة الرسول وأنها تبليغ الرسالة وبيان شرع اللّه ودينه فحسب ، وبذا تبرأ ذمته - ناسب أن يصرح بأن الرسول قد أدى وظيفة البلاغ الذي(7/39)
ج 7 ، ص : 40
كمل به الإسلام - وأنه لا ينبغى للمؤمنين أن يكثروا عليه من السؤال ، لئلا يكون ذلك سببا لكثرة التكاليف التي يشق على الأمة احتمالها ، فيسرع إليها الفسوق عن أمر ربها.
روى أن هذه الآية نزلت من جرّاء أن قوما كانوا يسألون النبي صلى اللّه عليه وسلم امتحانا له أحيانا ، واستهزاء أحيانا أخرى ، فيقول له بعضهم من أبي ؟ ويقول بعضهم إذا ضلت ناقته أين ناقتى ؟ ونحو ذلك.
روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وغيرهم عن أنس بن مالك قال : « خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها وقال فيها :
لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ، قال فغطّى أصحاب رسول اللّه وجوههم.
لهم حنين وبكاء مرتفع من الصدر ، فقال رجل من أبي ؟ قال فلان فنزلت هذه الآية
(لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) »
وروى ابن جرير عن قتادة فى قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية.
قال فحدّثنا أن أنس بن مالك حدّثه « أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة ، فخرج عليهم ذات يوم ، فصعد المنبر فقال : (لا تسألونى اليوم عن شىء إلا بينته لكم) فأشفق أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يكون بين يدى أمر قد حضر ، فجعلت لا ألتفت لا يمينا ولا شمالا إلا وجدت كل رجل لافّا رأسه فى ثوبه يبكى ، فأنشأ رجل كان يلاحى فيدعى إلى غير أبيه ، فقال : يا نبيّ اللّه من أبى ؟ قال :
(أبوك حذافة) قال ثم قام عمر فقال : رضينا با للّه ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا أعوذ با للّه من شر الفتن. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لم أر فى الخير والشر كاليوم قط ، صوّرت لى الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط » .
قال الزهري : فقالت أمّ عبد اللّه بن حذافة : ما رأيت ولدا أعق منك ، أ كنت تأمن أن أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رءوس الناس ؟ فقال واللّه لو ألحقنى بعبد أسود للحقته.(7/40)
ج 7 ، ص : 41
وروى مسلم عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : « أيها الناس قد فرض اللّه عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل أ كلّ عام يا رسول اللّه ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم ثم قال : ذرونى ما تركتكم ، فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) »
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أي يا أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله : لا تسألوا عن أشياء من أمور الدين ودقائق التكاليف ، أو من الأمور الغيبية أو الأسرار الخفيّة أو غير ذلك مما يحتمل أن يكون إظهارها سببا للمساءة فيما بشدة التكاليف وكثرتها ، وإما بظهور حقائق تفضح أهلها.
(وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) أي وإن تسألوا عن جنس تلك الأشياء التي من شأنها أن يكون إبداؤها مما يسوءكم حين ينزّل القرآن فى شأنها أو حكمها لأجل فهم ما نزّل إليكم ، فإن اللّه بيديه لكم على لسان رسوله.
قال الحافظ ابن كثير : أي لا تستأنفوا السؤال عنها ، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق ،
وقد ورد فى الحديث : « أعظم المسلمين جرما من سأل عن شىء لم يحرّ لم فحرم من أجل مسألته »
ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها بينت الكم حينئذ لاحتياجكم إليها وخلاصة ذلك - تحريم السؤال عن الأشياء التي من شأن إبدائها أن يسوء السائلين إلا فى حال واحدة وهى أن يكون قد نزل فى شأنها شىء من القرآن فيه إجمال وأردتم السؤال عن بيانه ليظهر لكم ظهورا لا مراء فيه كما وقع فى مسألة تحريم الخمر بعد نزول آية البقرة.(7/41)
ج 7 ، ص : 42
(عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي إن هذه الأشياء مما نهيتم عن السؤال عنها ، لأنها مما عفا اللّه عنها بسكوته فى كتابه وعدم تكليفكم إياها فاسكتوا عنها أيضا ، ومما يؤيد هذا
حديث أبي ثعلبة الخشني قال صلى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحدّ حدودا فلا تعتدوها ، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها » .
وقد يكون المعنى - عفا اللّه عما كان من مسألتكم قبل النهى فلا يعاقبكم عليها لسعة مغفرته وحلمه ، فيكون هذا كقوله فى الآية الأخرى « عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ » وقوله : « إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ » .
(قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) أي قد سأل هذه المسائل (أي أمثالها) قوم من قبلكم ثم أصبحوا بعد إبدائها كافرين بها ، فإن من أكثر الأسئلة عن الأحكام الشرعية من الأمم السالفة لم يعملوا بما بين لهم منها ، بل فسقوا عن أمر ربهم وألقوا شرعهم وراءهم ظهريا استثقالا للعمل به ، وأدّى ذلك إما إلى استنكاره ، وإما إلى جحود كونه من عند اللّه ، وسواء أ كان هذا أم ذاك فهو كفران به ، انظر إلى قوم صالح فإنهم بعد أن سألوا الآيات وأجيبوا إلى ما طلبوا لم يؤمنوا بما أوتوا بل كفروا فاستحقوا الهلاك فى الدنيا قبل عذاب الآخرة.
[سورة المائدة (5) : الآيات 103 الى 104]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)(7/42)
ج 7 ، ص : 43
تفسير المفردات
البحيرة - الناقة التي يبحرون أذنها أي يشقونها شقا واسعا ، وكانوا يفعلون بها ذلك إذا نتجت خمسة أبطن وكان الخامس أنثى كما روى عن ابن عباس.
والسائبة - الناقة التي تسيّب بنذرها لآلهتهم فترعى حيث شاءت ، ولا يحمل عليها شىء ، ولا يجزّ صوفها ولا يحلب لبنها إلا لصيف.
والوصيلة - الشاة التي تصل أخاها ، فقد كانوا إذا ولدت الشاة ذكرا كان لآلهتهم ، وإذا ولدت أنثى كانت لهم ، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم.
والحامى - الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن ، فيقولون حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى.
المعنى الجملي
بعد أن نهى فى الآية السابقة عن تحريم ما أحل اللّه بالنذر أو بالحلف باسم اللّه تنسكا وتعبدا مع اعتقاد إباحته فى نفسه ، وعن الاعتداء فيه ، ونهى أن يكون المؤمن سببا لتحريم شىء لم يكن اللّه قد حرمه ، أو شرع حكم لم يكن اللّه قد شرعه ، بأن يسأل الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن شىء مما سكت اللّه عنه عفوا وفضلا.
ناسب بعد هذا أن يبين ضلال أهل الجاهلية فيما حرموه على أنفسهم وما شرعوه لها بغير إذن من ربهم وما قلد فيه بعضهم بعضا على جهلهم ، كما بين بطلان التقليد ومنافاته للعلم والدين(7/43)
ج 7 ، ص : 44
الإيضاح
(ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) أي ما بحر اللّه بحيرة ، ولا سيّب سائمة ، ولا وصل وصيلة ، ولا حمى حاميا ، أي ما شرع ذلك ولا أمر به وما جعله دينا لهم ، وهذا رد وإبطال لما كان يفعله أهل الجاهلية فى جاهليتهم.
(وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) إذ يفعلون ما يفعلون ويزعمون أن اللّه يأمرهم بهذا ، وأول من سنّ لأهل الشرك تلك السنن الرديئة ، وغيّر دين اللّه دين الحق وأضاف إليه أنه هو الذي حرم ما حرموا وأحل ما أحلوا افتراء على اللّه الكذب واختلاقا عليه - وهو عمرو بن لحىّ الخزاعىّ ، فهو الذي غيّر دين إبراهيم وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامى.
أخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لأكتم بن الجون « يا أكتم عرضت علىّ النار ، فرأيت فيها عمرو بن لحىّ ابن قمعة ، بن حنذف يجرّ قصبه (القصب : المعى وجمعه الأقصاب) فى النار ، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك ، فقال أكتم أخشى أن يضرنى شبهه يا رسول اللّه.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا ، إنك مؤمن وهو كافر ، إنه أول من غيّر دين إسماعيل وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامى » .
(وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أنهم يفترون على اللّه الكذب بتحريم ما حرموا على أنفسهم ، وأن ذلك من أعمال الكفر ، بل يظنون أنهم يتقربون به إليه ولو بالوساطة.
لأن آلهتهم التي يسيبون باسمها السوائب ويتركون لها ما حرموه على أنفسهم ، ليست إلا وسطاء بينهم وبين اللّه بزعمهم ، تشفع لهم عندهم وتقربهم إليه زلفى.
والعبرة من هذا أن كل مبتدع فى الدين بتحريم طعام أو غيره ، وتسييب عجل لسيد البدوي أو سواه ، وسنّ ورد أو حزب يضاهى به المشروع من شعائر الدين ، ونحو ذلك من العبادات التي لم تؤثر عن الشارع ، زاعما أنه جاء بما يتقرب به للّه تعالى(7/44)
ج 7 ، ص : 45
وينال به رضاه ، فقد ضاهى بعمله عمل عمرو بن لحىّ ، لأن اللّه لا يعبد إلا بما شرعه على لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، فلا عبادة ولا تحريم إلا بنص ، وليس لأحد أن يزيد أو ينقص برأى ولا قياس.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل اللّه فى القرآن من الأحكام المؤيدة بالحجج والبراهين ، وإلى الرسول المبلغ لها والمبين لمجملها فاتبعوه فيها ، أجابوا من يدعونهم إلى ذلك حسبنا ما وجدنا آباءنا يعملون به ، ونحن لهم تبع وهم لنا أئمة وقادة. فرد اللّه عليهم قولهم :
(أَ وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ؟ ) أي أ يكفيهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الشرائع ولا يهتدون سبيلا إلى المصالح ، سواء أ كانت دينية أم دنيوية ، ولا يعرف ما يكفى الأفراد والأمم إلا بالعلم الصحيح الذي يميز به بين الحق والباطل ، فأولئك قوم أميون يتخبطون فى ظلمات من الوثنية وخرافات من معتقدات الجاهلية ، فمن وأد للبنات إلى سلب ونهب وإغارات من بعضهم على بعض ، ومن قتال تشتجر فيه الرماح ، إلى عداوة وبغضاء تملأ السهول والبطاح ، ومن ظلم لليتامى والنساء إلى تفنن فى الشعوذة وضروب السحر والكهانة.
ونحو الآية قوله تعالى : « وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ؟ » .
[سورة المائدة (5) : آية 105]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
المعنى الجملي
بعد أن نعى سبحانه على المشركين ما هم عليه من جهل وعناد ، وطغيان وفساد ، وأنهم لم ينتفعوا بإعذار ولا إنذار ، بل بقوا مصرّين على جهلهم ، سادرين فى ضلالهم(7/45)
ج 7 ، ص : 46
أمر المؤمنين بأن يهتموا بإصلاح أنفسهم بالعلم النافع والعمل الصالح ، وأبان لهم أنهم إذا أصلحوا أنفسهم ، وقاموا بما أوجب اللّه عليهم من علم وعمل وتعليم وإرشاد فلا يضيرهم بعد ذلك ضلال من ضل وحاد عن الصراط السوي ، وسار سادرا فى غلواء الجهل والتقليد ، وتنكب عن جادة الحق.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) أي احفظوا أنفسكم من المعاصي ، وانظروا فيما يقرّبها من ربها ، ويخلّصها من عقابه ، ولا يضرّكم ضلال غيركم إذا أنتم اهتديتم « وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى » .
(إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إليه وحده رجوعكم ورجوع من ضل عما اهتديتم إليه فينبئكم عند الحساب بما كنتم تعملون فى الدنيا ويجزيكم به.
روى ابن كثير « أن أبا بكر قام فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) وإنكم تضعونها على غير موضعها ، وإنى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن يعمهم اللّه بعقاب » .
وروى الترمذي عن أبي أمية الشيباني قال : « أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت ما تصنع فى هذه الآية ؟ قال أيّة آية ؟ قلت قول اللّه تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قال أما واللّه لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحّا مطاعا ، وهوى متّبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوامّ ، فإن من ورائكم أياما الصابر فيهن مثل القابض على الجمر ، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم » .(7/46)
ج 7 ، ص : 47
وروى ابن جرير عن ابن عقال قال : قيل لابن عمر لو جلست فى هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ، فإن اللّه قال (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) فقال ابن عمر :
إنها ليست لى ولا لأصحابى لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « ألا ليبلغ الشاهد الغائب » فكنا نحن الشهود وأنتم الغيّب ، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم » .
والخلاصة - إن الرواة من السلف متفقون على أن المؤمن لا يكون مهتديا إذا أصلح نفسه ولم يهتم بإصلاح غيره بأن يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر وأن ذلك فرض لاهوادة فيه.
ولكن هذه الفريضة تسقط إذا فسد الناس فسادا لا يرجى معه تأثير الوعظ والإرشاد ، أو فسادا يؤدى إلى إيذاء الواعظ المرشد ، بأن يعلم أو يظن ظنا قويا بأن لا فائدة من نصحه ، أو بأنه سيؤذى إذا هو أمر بمعروف أو نهى عن منكر ، ويحرم عليه ذلك إذا أدى إلى الوقوع فى التّهلكة.
[سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)(7/47)
ج 7 ، ص : 48
تفسير المفردات
الشهادة : قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة ، وضربتم فى الأرض :
سافرتم ، وتحبسونهما : تمسكونهما وتمنعونهما من الانطلاق والهرب ، وارتبتم : شككتم فى صدقهما فيما يقران به ، ومن الآثمين : العاصين ، وعثر من العثور على الشيء : وهو الاطلاع عليه من غير سبق طلب له ، وأعثره عليه : وقفه عليه وأعلمه به من حيث لم يكن يتوقع ذلك
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السالفة أن المرجع إليه بعد الموت ، وأنه لا بد من الحساب والجزاء يوم القيامة - أرشدنا إثر ذلك إلى الوصية قبل الموت وأنه تجب العناية بالإشهاد عليها حتى لا تضيع على مستحقيها.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال : « كان تميم الداري وعديّ بن بدّاء رجلين نصرانيين يتّجران إلى مكة فى الجاهلية ويطيلان الإقامة بها ، فلما هاجر النبي صلى اللّه عليه وسلم حوّلا متجرهما إلى المدينة ، فخرج بديل مولى عمرو بن العاص تاجرا حتى قدم المدينة ، فخرجوا جميعا تجارا إلى الشام حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل ، فكتب وصية بيده ثم دسها فى متاعه وأوصى إليهما ، فلما مات فتحا متاعه فأخذا منه شيئا ثم حجراه كما كان ، وقدما المدينة على أهله فدفعا متاعه ففتح أهله متاعه فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به ، وفقدوا شيئا فسألوهما عنه فقالوا هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا ، فقالوا لهما هذا كتابه بيده ، قالوا ما كتمنا له شيئا ، فترافعوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ(7/48)
ج 7 ، ص : 49
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
- إلى قوله إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يستحلفوهما فى دبر صلاة العصر با للّه الذي لا إله إلا هو ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا ، فمكثا ما شاء اللّه أن يمكثا ، ثم ظهر معهما إناء من فضة منقوش مموّه بالذهب فقال أهله هذا من متاعه ، قالا نعم ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا فكرهنا أن نكذب نفوسنا ، فترافعوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت الآية (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) فأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم رجلين من أهل البيت أن يحلفا على ما كتما وغيّبا ويستحقانه » .
ثم إن تميما الداري أسلم وبايع النبي صلى اللّه عليه وسلم وكان يقول صدق اللّه ورسوله ، أنا أخذت الإناء ، ثم قال يا رسول اللّه إن اللّه يظهرك على أهل الأرض كلها فهب لى قرية عبنون من بيت لحم وهى القرية التي ولد فيها عيسى ، فكتب له بها كتابا ، فلما قدم عمر الشام أتاه تميم بكتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال عمر : أنا حاضر ذلك فدفعها إليه.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي الشهادة المشروعة بينكم فى ذلك هى شهادة اثنين من رجالكم من ذوى العدل والاستقامة يشهدهما الموصى على وصيته ، فيشهدان بذلك عند الحاجة ، وقوله منكم أي من المؤمنين.
(أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أي أو شهادة اثنين آخرين من غير المسلمين إن كنتم مسافرين ونزلت بكم مقدمات الموت وعلاماته وأردتم الإيصاء ، ولا يخفى ما فى الآية من تأكيد الوصية والإشهاد عليها.
(تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) المراد بالصلاة صلاة العصر ، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم حلّف عديا وتميما بعدها ، ولأن العمل قد جرى عليه ، فكان التحليف فيه(7/49)
ج 7 ، ص : 50
هو المعروف ، ولأنه هو الوقت الذي يقعد فيه الحكام للفصل فى المظالم والدعاوى ، إذ يكون الناس قد فرغوا من معظم أعمال النهار ، وروى عن ابن عباس أن الشهيدين إذا كانا غير مسلمين ، فالمراد بالصلاة صلاة أهل دينهما.
(فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي وتستقسمون الشاهدين وتطلبون حلفهما على الوصية ، إن شككتم فى صدقهما فيقسمان ، أما الأمين فيصدق بلا يمين.
(لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ) أي يقسمان بقولهما لا نشترى بيمين اللّه ثمنا ولو كان المقسم له من أقاربنا : أي لا نجعل يمين اللّه كالسلعة التي تبذل لأجل ثمن ينتفع به فى الدنيا.
ونحو الآية قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ » .
والخلاصة - أن يقول الحالف : إنه يشهد للّه بالقسط ولا يصدّه عن ذلك ثمن يبتغيه لنفسه ، ولا مراعاة قريب له إن فرض أن فى إقراره وقسمه نفعا له - أي ولو اجتمعت هاتان الفائدتان.
(وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ) أي ويقولان فى يمينهما أيضا : ولا نكتم الشهادة التي أوجبها اللّه وأمر أن تقام له كما قال « وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ » .
(إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) أي إنا إذا فعلنا ذلك واشترينا بالقسم ثمنا أو راعينا به قريبا بأن كذبنا فيه لمنفعة لأنفسنا أو لذوى قرابتنا ، أو كتمنا شهادة اللّه كلا أو بعضا لكنا من المتحملين للإثم المستحقين للجزاء عليه.
فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان) أي فإن اتفق وحصل الاطلاع على أن الشهيدين الحالفين استحقا إثما بكذب فى الشهادة أو بالخيانة أو بكتمان شىء من التركة فى حال ائتمانهما عليها أو كتمان فى الشهادة - فالواجب حينئذ أن تردّ اليمين إلى الورثة بأن يقوم رجلان آخران(7/50)
ج 7 ، ص : 51
مقامهما من أولياء الميت الوارثين له وهذان الرجلان الوارثان ينبغى أن يكونا هما الأوليين بالميت أي الأقربين الأحقين بإرثه إن لم يمنع من ذلك مانع.
وعلى هذا فالأوليان فاعل استحق ومفعوله محذوف يقدّر بنحو قولنا ما أوصى به أو ما تركه : أي من الورثة الذين استحق الأوليان من بينهم ما أوصى به.
(فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا) المراد بالشهادة اليمين كما فى قوله تعالى : « فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ » أي فيحلفان با للّه لأيماننا على خيانة الشهيدين اللذين حلفا على وصية ميتهما أحق وأصدق من أيمانهما ، وأنهما ما اعتديا عليهما بتهمة باطلة.
(إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي ويقولان فى يمينهما إنا إذا اعتدينا الحق فحلفنا مبطلين كاذبين - لنكونن من الظالمين لأنفسهم بتعريضها لسخط اللّه وانتقامه.
ثم بين سبحانه الحكمة فى شرع هذه الشهادة وهذه الأيمان فقال :
(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) أي ذلك الذي شرعناه من تكليف المؤتمن على الوصية أن يقوم على مرأى من الناس ويشهد بعد الصلاة ويقسم الأيمان المغلظة ، أدنى الطرق وأقربها إلى أن يؤدى الشهداء الشهادة على وجهها بلا تبديل ولا تغيير ، تعظيما للّه ورهبة من عذابه ورغبة فى ثوابه أو خوفا من الفضيحة التي تعقب استحقاقهما الإثم فى الشهادة برد أيمان الورثة بعد أيمانهم تكون مبطلة لها ، إذ من لم يمنعه خوف اللّه وتعظيمه أن يكذب لضعف دينه يمنعه خوف الخزي والفضيحة بين الناس.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي واتقوا اللّه وراقبوه فى أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبة ، وأن تخونوا من ائتمنكم ، واسمعوا ما يقال لكم وما توعظون به سمع إجابة وقبول لهذه الأحكام وغيرها ، فإن لم تتقوا كنتم فاسقين عن أمر اللّه مطرودين من هدايته مستحقين لعقابه.(7/51)
ج 7 ، ص : 52
وقد استنبط العلماء من هاتين الآيتين فوائد وأحكاما نذكر أهمها فيما يلى :
(1) الحديث على الوصية وعدم التهاون فى أمرها فى سفر أو حضر.
(2) الإشهاد عليها لتثبيت أمرها والرجاء فى تنفيذها.
(3) بيان أن الأصل فى الشاهدين عليها أن يكونا مؤمنين موثوقا بعدالتهما.
(4) بيان أن إشهاد غير المسلمين على الوصية جائز مشروع ، لأن مقصد الشارع منها إذا لم يمكن أداؤه على وجه الكمال فلا يترك البتة.
(5) شرعية اختيار الأوقات التي تؤثّر فى قلوب الشهود ومقسمى الأيمان رجاء أن يصدقوا ويبرّوا فيها.
(6) التغليظ على الحالف بصيغة اليمين بأن يقول فيه ما يرجى أن يكون رادعا للحالف عن الكذب.
(7) إن الأصل فى أخبار الناس وشهاداتهم أن تكون مصدّقة مقبولة ، ومن ثمّ شرط فى تحليف الشاهدين الارتياب فى خبرهما.
(8) شرعية تحليف الشهود إذا ارتاب الحكام والخصوم فى شهادتهم ، وهو الذي عليه العمل الآن فى أكثر الأمم وقد حتمته القوانين الوضعية لكثرة ما يقع من شهادة الزور.
(9) شرعية رد اليمين إلى من قام الدليل على ضياع حق له بيمين صار حالفها خصما له.
(10) إذا احتيج إلى قيام بعض الورثة فى أمر يتعلق بالتركة فأولاهم بذلك أقربهم إليه.
[سورة المائدة (5) : الآيات 109 الى 115]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)(7/52)
ج 7 ، ص : 53
تفسير المفردات
روح القدس : هو ملك الوحى الذي يؤيد اللّه به الرسل بالتعليم الإلهى والتثبيت فى المواطن التي من شأن البشر أن يضعفوا فيها ، والكتاب : كل ما يكتب ، والحكمة :
العلم الصحيح الذي يبعث الإنسان على نافع العمل مع الفقه لأسرار ما يعمل ، والتوراة :
ما أوحاه اللّه إلى موسى من الشرائع والأحكام ، والإنجيل : ما أوحاه إلى عيسى ،(7/53)
ج 7 ، ص : 54
والخلق : التقدير أي جعل الشيء بمقدار معين ، ويستعمل فى إيجاد اللّه الأشياء بتقدير معين فى علمه ، والأكمه : من ولد أعمى ، وقد يطلق على من عمى بعد الولادة أيضا ، والسحر : تمويه وتخييل به يرى الإنسان الشيء على غير حقيقته ، والحواريون واحدهم حوارىّ وهو من أخلص سرا وجهرا فى المودّة ، وحواريو الأنبياء : المخلصون لهم ، والمائدة : الخوان الذي عليه الطعام أو الطعام نفسه ، ويستطيع أي يطيع ويرضى :
والعيد ، تارة يراد به الفرح والسرور ، وتارة يراد به الموسم الديني أو المدني الذي يجتمع له الناس فى يوم معين من السنة للعبادة أو لأمر من أمور الدنيا ، وآية منك : أي علامة على صدقى فى دعوى نبوتى.
الإيضاح (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ ؟ ) أي اذكر أيها الرسول يوم يجمع اللّه الرسل فيقول ما ذا أجبتم ؟ أي أىّ إجابة أجبتم ؟ أ إجابة إيمان وإقرار ؟ أم إجابة إنكار واستكبار ؟ فهو سؤال عن نوع الإجابة لا عن الجواب ما ذا كان ، والمراد من سؤال توبيخ أممهم وإقامة الحجة على الكافرين منهم.
وهذا السؤال للرسل من وادي سؤال الموءودة فى قوله تعالى « وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ » فى أن كلا منهما وجه فيه السؤال إلى الشاهد دون المتهم للتوبيخ والإنكار على الفعل ، وليوم القيامة مواقف ، فى بعضها يشهد الرسل على أممهم ، وفى بعض آخر يسأل اللّه الأمم كما يشاهد لدى قضاة التحقيق ، فقد يسأل الخصم حينا والشهود حينا آخر ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى : « فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ » .
ومن قبل أن اللّه تعالى يسأل كلا من الفريقين عما هو أعلم به ، وكان الرسل صلوات اللّه عليهم على علم يقينى بما سئلوا عنه - كان جوابهم الآتي الدال على نفى العلم عن أنفسهم وتفويضه إلى علام الغيوب فى أول عهدهم بالسؤال - لأحد أمرين :(7/54)
ج 7 ، ص : 55
أو لهما ما اختاره ابن عباس من أنهم قالوا ذلك لنقصان علمهم بالنسبة إلى علمه تعالى ، فاللّه يعلم ما أظهروا وما أضمروا وهم لا يعلمون إلا ما أظهروا ، فعلمه أنفذ من علمهم.
وثانيهما أن ما يفاجئهم من هول ذلك اليوم. وفزعه يذهلهم عن الجواب ، إذ ينسون أكثر الأمور ، وهنالك يقولون لا علم لنا ، فإذا عادت إليهم قلوبهم يشهدون لأممهم ونقل هذا عن الحسن ومجاهد والسّدّى ، وذلك فى قوله تعالى : (قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).
خلاصة هذا على رأى ابن عباس أن المراد نفى علم الإحاطة والشمول الخاص باللّه تعالى بدليل قولهم أنت علام الغيوب أي كثير العلم بكثرة المعلومات.
وبعد أن ذكر سؤال الرسل وجوابهم إجمالا بين سؤال واحد منهم بالتفصيل وجوابه لإقامة الحجة على من يدعون اتباعه ، ولكن قدم قبل هذا ما خاطب به هذا الرسول من بداية نعمته عليه وآياته التي كانت سببا فى فتنة الناس به فقال :
(إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) أي اذكر إنعامى عليك وعلى والدتك حين تأييدى إياك بروح القدس وتكليمك الناس فى المهد بما يبرىء أمك من قول الآثمين الذين أنكروا عليها أن يكون لها غلام من غير زوج يكون أبا له ، وذلك قوله : « إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبارَكاً » وكهلا حين بعثت فيهم رسولا تقيم عليهم الحجة بما ضلوا فيه عن الصراط السوي.
وفائدة هذا القصص تنبيه النصارى الذين كانوا عصر التنزيل إلى قبح مقالتهم وسوء معتقدهم ، لأن طعن سائر الأمم كان مقصورا على الأنبياء ، وطعن هؤلاء تعدى إلى جلال اللّه وكبريائه ، إذ وصفوه بما لا يليق به من اتخاذ الزوجة والولد.
(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي واذكر نعمتى عليك بتعليمك وتوفيقك لقراءة الكتب والعلم النافع لك فى الدين والدنيا ولا سيما التوراة والإنجيل(7/55)
ج 7 ، ص : 56
(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ، فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) أي واذكر نعمتى عليك إذ تجعل قطعة من الطين مثل هيئة الطير فى شكلها ومقادير أعضائها فتنفخ فيها بعد ذلك فتكون طيرا بإذن اللّه وتكوينه ، فأنت تفعل التقدير والنفخ ، واللّه هو الذي يكوّن الطير.
وفى قوله بإذنى إشارة إلى أن المسيح لم يعط هذه القوة دائما بحيث جعل السبب الروحي مطردا كالأسباب الجسمانية ، بل كانت هذه الآية كغيرها لا تقع إلا بإذن من اللّه وتأييده.
(وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ، وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) جاء فى كتب العهد الجديد أنه أبرأ كثيرا من العمى والبرص وأحيا ثلاثة أموات :
(1) ابن أرملة وحيد كانوا يحملونه على النعش ، فلمس النعش وأمر الميت أن يقوم منه فقام ، فقال الشعب : قد قام فينا نبى عظيم وافتقد اللّه شعبه إنجيل لوقا.
(2) ابنة رئيس ماتت ودعاه لإحيائها فجاء بيته وقال للجمع تنحّوا فإن الصبية لم تمت لكنها نائمة فضحكوا عليه ، فلما أخرج الجمع دخل وأمسك بيدها فقامت الصبية - إنجيل متى.
(3) عازر الذي كان يحبه جدا ويحب أختيه مريم ومرثا كما يحبونه ففى إنجيل يوحنا أنه كان مات فى بيت عنيا ووضع فى مغارة فجاء المسيح وكان له أربعة أيام فرفع عينيه إلى فوق وقال : (أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لى ، وأنا علمت أنك فى كل حين تسمع لى ، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتنى) وما قال هذا : صرخ بصوت عظيم لعازر هلمّ خارجا ، فخرج الميت إلخ. وتعيين كل فعل بالإذن للدلالة على أنه ما وقع شىء منها إلا بمشيئة اللّه وقدرته وتيسيره.
(وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي واذكر نعمتى عليك حين كففت عنك بنى إسرائيل(7/56)
ج 7 ، ص : 57
فلم يتمكنوا من قتلك وصلبك ، وقد كانوا أرادوا ذلك ، وقال الكافرون منهم ما هذا إلا ساحر ، وما جاء به من البينات لم يكن إلا سحرا ظاهرا ، وليس من جنس ما جاء به موسى ، على أنه متله أو أظهر منه.
والخلاصة - أنهم لا يعتدّون بما جاء على يديه من الآيات وخوارق العادات ، ولا يؤمنون به وإن جاء بآيات أخرى ، إذ لم يكن طعنهم لشبهات تتصل بها بل كان عنادا ومكابرة ، ومن ثم ادّعوا أن السحر صنعته ، والتمويه وقلب الحقائق دأبه وعادته.
(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ، قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) الوحى فى اللغة : الإشارة السريعة الخفية ، والإعلام بالشيء بسرعة وخفاء ، والمراد به هنا ما يلقيه اللّه فى نفوس الأحياء من الإلهام كما فى قوله : « وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً » وقوله « وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ » وهكذا ألقى اللّه فى قلوب الحواريين الإيمان به وبرسوله عيسى عليه السلام ، أي واذكر نعمتى عليك حين ألهمت الحواريين أن يؤمنوا بك وقد كذبك جمهور بنى إسرائيل وجعلتهم أنصارا لك يؤيدون دعوتك وينشرون شريعتك ، وقد حكى اللّه عنهم أنهم قالوا آمنا أي با للّه وبرسوله عيسى عليه السلام وأشهدوا اللّه على أنفسهم أنهم مسلمون أي مخلصون فى إيمانهم مذعنون لأوامره وتاركون لنواهيه.
ثم ذكر كلاما منقطعا عما قبله ليبين ما جرى بينه عليه السلام وبين قومه عقب حكاية ما صدر من الحواريين من المقالة المعدودة من نعم اللّه عليه ، فقال :
(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) أي اذكر للناس وقت قول الحواريين لعيسى : يا عيسى هل يرضى ربك ويختار أن ينزل علينا مائدة من السماء إذا نحن سألناه أو سألته ذلك ؟
وفسر بعضهم الاستطاعة بمعنى القدرة وقالوا إن هذا السؤال لا يصدر عن مؤمن صحيح الإيمان وأجابوا عن ذلك بعدة أجوبة :(7/57)
ج 7 ، ص : 58
(1) إن هذا السؤال لأجل اطمئنان القلب بإيمان العيان لا للشك فى قدرة اللّه على ذلك ، كما سأل إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم رؤية كيفية إحياء الموتى ليطمئن قلبه بإيمان الشهادة والمعاينة مع إقراره بإيمانه بذلك الغيب.
(2) إنه سؤال عن الاستطاعة بحسب الحكمة الإلهية أي هل ينافى الحكمة أن ينزل علينا مائدة من السماء ، فإن ما ينافى الحكمة لا يقع وإن كان مما تتعلق به القدرة كعقاب المحسن على إحسانه وإثابة الظالم على ظلمه.
(3) إن المراد هل تستطيع سؤال ربك.
(قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي قال لهم عيسى اتقوا اللّه أن تقترحوا عليه أمثال هذه المقترحات التي كان سلفكم يقترحها على موسى ، لئلا تكون فتنة لكم فإن من شأن المؤمن الصادق ألا يجرب ربه باقتراح الآيات.
وقد يكون المعنى - اتقوا اللّه وقوموا بما يوجبه الإيمان من العمل والتوكل عليه تعالى عسى أن يوفقكم إلى ذلك.
(قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي قالوا نطلبها لفوائد :
(1) إننا نريد أن نأكل منها لأننا محتاجون إلى الطعام ، فإن الجوع قد غلبنا ولا نجد طعاما آخر.
(2) إننا إذا شاهدنا نزولها ازداد اليقين وقويت الطمأنينة ، إذ ينضم علم المشاهدة باللمس والذوق والشم إلى علم السمع منك وعلم النظر والاستدلال.
(3) أن نكون من الشاهدين على هذه الآية عند بنى إسرائيل الذين لم يحضروها ، أو من الشاهدين للّه بكمال القدرة ولك بالنبوة ، وبذا يؤمن المستعد للإيمان ويزداد الذين آمنوا إيمانا.
(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي إن عيسى عليه السلام(7/58)
ج 7 ، ص : 59
لما علم صحة قصدهم وأنهم لا يريدون تعجيزه ولا اقتراح آية - دعا اللّه بهذا الدعاء وناداه بالاسم الكريم الدال على الألوهية والقدرة والحكمة إلى نحو أولئك من صفات الكمال ، ثم باسم الرب الجامع لمعنى الملك والتدبير والتربية والإنعام.
أي يا اللّه يا مالك أمرنا ومتولى تربيتنا أنزل علينا مائدة سماوية يراها هؤلاء المقترحون بأبصارهم وتتغذي بها أبدانهم ، وتكون عيدا خاصا بنا معشر المؤمنين دون غيرنا بأول من آمن منا وآخر من آمن ، واجعلها علامة من لدنك ترشد القوم إلى صحة دعوتى وصدق نبوتى ، وارزقنا منها ومن غيرها ما به تتغذى أجسامنا ، فأنت خير الرازقين ترزق من تشاء بغير حساب.
ومن محاسن هذا الدعاء أنه أخر ذكر الفائدة المادية للمائدة عن ذكر فائدتها الدينية الروحية ، بعكس ما فعله الحواريون ، إذ قدموا الأكل على غيره من الفوائد الأخرى.
(قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) أي وعد اللّه عيسى بإنزال المائدة مرة أو مرارا لكنه رتب شرطا على هذا الوعد فقال :
(فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي إن من يكفر منكم بعد نزول هذه الآية التي اقترحتموها ، وجاءت بطريق لا لبس فيه ولا شك ، فإنى أعذبه عذابا شديدا لا أعذب مثله أحدا من سائر كفار العالمين ، لأن عقاب المخطئ أو الكافر يكون بقدر تأثير الخطيئة أو الكفر فى نفسه ، والبعد فيه عن الشبهة والعذر ، وأي شبهة أو عذر لمن يرى الآيات من رسوله تترى ، ثم يقترح آية خاصة تشترك فى العلم بها حواسه جميعا وينتفع بها فى دنياه قبل آخرته ، فيعطى ما طلب ، ثم ينكص بعد ذلك كله على عقبيه ويكون من الكافرين.
وللعلماء فى الطعام الذي نزل فى المائدة آراء : فقيل هو خبز وسمك ، وقيل خبز ولحم ، وقيل كان ينزل عليهم طعاما أينما ذهبوا كما كان ينزل المنّ على بنى إسرائيل كما رواه ابن جرير عن ابن عباس.(7/59)
ج 7 ، ص : 60
وجاء فى إنجيل يوحنا أنه كان يطعم الألوف فى عيد الفصح من خمسة أرغفة وسمكتين - أكل منها أول ذلك الجمع كآخره.
[سورة المائدة (5) : الآيات 116 الى 120]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذه الآيات فى تعداد النعم التي أنعم بها سبحانه على عيسى ، وفى إلهامه للحواريين الإيمان به وبرسوله ، وفى طلب الحواريين من عيسى إنزال مائدة من السماء ثم طلب عيسى من ربه إجابة مطلبهم ، وإخبار اللّه تعالى بأنه أجابهم إلى ما طلبوا.(7/60)
ج 7 ، ص : 61
ولا يزال الكلام فى هذه الآيات مع عيسى أيضا ، ففيها سؤال من اللّه على مرأى من قومه توبيخا وتقريعا لهم على افترائهم ، وإجابة من عيسى عن ذلك فيها تنصل من ذلك الذنب العظيم الذي اقترفوه بعده وهو القول بالتثليث ، ثم إخبار من اللّه بما ينجّى الإنسان من عذاب يوم القيامة ، مع بيان أن ما فى السموات والأرض كله مملوك له وفى قبضته يتصرف فيه بعدله وحكمته وهو القادر على كل شىء لا شريك له يمنعه إن أعطى ، أو يلزمه بالإعطاء إن منع.
الإيضاح
(وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ؟ )
الخطاب فى هذه الآية للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، أي واذكر أيها الرسول للناس يوم يجمع اللّه الرسل فيسألهم جميعا عما أجابت به أممهم ، حين يقول لعيسى اذكر نعمتى عليك وعلى والدتك ... وحين يقول له بعد ذلك : أ أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين ؟ أي يسأله أ قالوا هذا القول بأمر منك أم هم افتروه وابتدعوه من عند أنفسهم ؟
ومعنى قوله من دون اللّه أي متجاوزين بذلك توحيد اللّه وإفراده بالعبادة ، وذلك إما أن يكون باتخاذ إله أو أكثر مع اللّه تعالى وهو الشرك ، إذ عبادة الشريك المتخذ غير عبادة اللّه خالق السموات والأرض ، سواء اعتقد المشرك أن هذا الشريك ينفع ويضر استقلالا ، أو اعتقد أنه ينفع ويضر بإقدار اللّه إياه وتفويضه بعض الأمر إليه فيما وراء الأسباب أو بالوساطة عند اللّه أي بما له من التأثير والكرامة على النفع والضر وهذا هو الأكثر الذي كان عليه مشركو العرب عند البعثة ، كما حكاه اللّه عنهم فى قوله : « وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ » وقوله : وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى » .(7/61)
ج 7 ، ص : 62
وقل أن يوجد من المشركين من يتخذ إلها غير اللّه متجاوزا بعبادته الإيمان با للّه الذي هو خالق الكون ومدبره فالإيمان الفطري الذي غرس فى نفوس البشر يرشد إلى أن تدبير الكون كله صادر عن قوة غيبية لا يدرك كنهها أحد ، فالموحدون أتباع الأنبياء يتوجهون بعباداتهم إلى رب هذه السلطة الغيبية وحده اعتقادا منهم أنه هو الفاعل الكامل التصرف ، وإن نسب الفعل إلى غيره فبإقدار اللّه إياه وتسخيره له بمقتضى سننه فى خلقه ، والمشركون يتوجهون إليه تارة وإلى بعض ما يستكبرون من خلقه تارة أخرى كالشمس والنجم والملائكة وبعض مخلوقات أخرى ، ويتوجهون أحيانا إليهما معا فيجعلون تلك المخلوقات المعظمة وسيلة إلى خالق الأكوان ومدبر الكائنات.
والخلاصة - إن اتخاذ إله من دون اللّه يراد به عبادة غيره سواء أ كانت خالصة لغيره أو شركة بينه وبين غيره ولو بدعاء هذا الغير والتوجه إليه ليكون واسطة عنده.
وقد نعى اللّه عليهم اتخاذ المسيح إلها فى مواضع عدة من هذه السورة ، وعبادة أمه كانت معروفة فى الكنائس الشرقية والغربية ، ثم أنكرت عبادتها فرقة البر وتستانس (إصلاح المسيحية) التي جاءت بعد الإسلام بزمن طويل.
وهذه العبادة منها ما هو صلاة ذات دعاء وثناء على المعبود ، ومنها ما هو استغاثة واستشفاع ، ومنها ما هو صيام ينسب إليها ويسمى بصيام العذراء ، وكل أولئك يقترن بخشوع وخضوع لذكرها ولصورها وتماثيلها واعتقاد السلطة الغيبية لها وأنها تنفع وتضر فى الدنيا والآخرة إما بنفسها أو بواسطة ابنها ويسمونها (والدة الإله).
والآية ترشد إلى أنهم اتخذوها هى وابنها إلهين (والاتخاذ غير التسمية) فيصدق بالعبادة وهى واقعة حتما.
(قالَ سُبْحانَكَ) التسبيح تنزيه اللّه تعالى عما لا يليق به ، وأصل الكلمة من السبح والسباحة ، وهى الذهاب السريع البعيد فى البحر أو البر ومنه فرس سبوح.
أي أنزهك يا اللّه عن أن يكون معك إله آخر ، وبذا أثبت له التنزيه عن المشاركة فى الذات والصفات.(7/62)
ج 7 ، ص : 63
ثم انتقل من هذا إلى تبرئة نفسه العالمة بالحق عن قول ما ليس بحق فقال :
(ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) أي ليس من شأنى ولا مما يصح أن يقع منى أن أقول قولا لا حق لى أن أقوله ، لأنك أيدتنى بالعصمة عن مثل هذا القول الباطل.
وهو بتنزيهه اللّه أوّلا أثبت أن ذلك القول الذي نسب إليه قول لا شائبة فيه من الحق وليس من شأنه ولا مما يقع من مثله.
وقد أكد هذا النفي مرة أخرى بحجة أخرى ارتقى فيها من برهان راجع إلى نفسه وهو عصمته عليه السلام إلى برهان أعلى راجع إلى ربه علام الغيوب فقال :
(إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ، تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ)
أي إن ذلك القول إن كان قد صدر منى فقد علمته ، إذ علمك واسع محيط بكل شىء ، فأنت تعلم ما أسره وأخفيه فى نفسى فكيف لا تعلم ما أظهرته ودعوت إليه وعلمه منى غيرى ؟
كما أنى لا أعلم ما تخفيه من علومك الذاتية التي لا ترشدنى إليها بالكسب والاستدلال ، لكنى أعلم ما تظهره لى بالوحى بواسطة ملائكتك المقربين إليك.
(إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي لأنك أنت المحيط بالعلوم الغيبية وحدك ، ما كان منها وما سيكون وما هو كائن ، وعلم غيرك مستمد من فيضك لا من ذاته ، فهو إما أن يناله بواسطة المشاعر والحواس أو العقل ، وإما أن يتلقاه هبة منك بالوحى والإلهام.
وبعد تنزيه ربه وتبرئة نفسه وإقامة البراهين على ذلك - بين حقيقة ما قاله لقومه ، إذ الشهادة عليهم لا تكون تامة كاملة إلا بإثبات ما يجب أن يكونوا عليه من أمر التوحيد بعد نفى ضده ، فقال :
(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ - أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي إنى ما قلت لهم فى شأن الإيمان وأساس الدين إلا ما أمرتنى بالتزامه اعتقادا وتبليغا لهم ، بأنك ربى وربهم وأننى عبد من عبادك مثلهم إلا أنك خصصتنى بالرسالة إليهم.(7/63)
ج 7 ، ص : 64
(وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) أي وكنت قائما عليهم أراقبهم وأشهد على ما يقولون وما يفعلون ، فأقر الحق وأنكر الباطل مدة وجودى بينهم.
(فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي فلما قبضتنى إليك كنت أنت الحفيظ عليهم دونى ، لأنى إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهرهم ، وأنت تشهد على كل شىء إذ لا يخفى عليك شىء.
وفى هذا إيماء إلى أن اللّه إنما عرّفه أفعال القوم ومقالتهم بعد ما قبضه إليه بقوله :
(أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ).
وقد تقدم فى هذه السورة ما يثبت براءة عيسى عليه السلام من مثل هذه المقالة ، وذلك قوله : « لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ، وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ».
وجاء فى إنجيل يوحنا (وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته).
ثم فوّض عليه السلام أمر الجزاء إليه تعالى فقال :
(إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن نغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) أي إن تعذب من أرسلتنى إليهم فبلّغتهم ما أمرتنى به من توحيدك وعبادتك فضلّ منهم من ضل وقالوا مالم أقله ، واهتدى منهم من اهتدى فلم يعبدوا معك سواك ، فإنهم عبادك وأنت الرحيم بهم ، ولست أنا ولا غيرى من الخلق بأرحم بهم منك ، وإنما تجزيهم بحسب علمك بما يظهرون وما يبطنون ، فأنت العليم بالمؤمن المخلص فى إيمانه ، وبمن أشرك بك غيرك أو بمن أطاعك وبمن عصاك وأنت عالم الغيب والشهادة تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون.(7/64)
ج 7 ، ص : 65
وإن تغفر فإنما تغفر لمن يستحق المغفرة ، وإنك أنت العزيز الغالب على أمره ، الحكيم فى تصرفه وصنعه ، فيضع كل جزاء وكل فعل فى موضعه.
وخلاصة المعنى - إنك إن تعذب فإنما تعذب من يستحق التعذيب ، وإن تغفر فإنما تغفر لمن هو أهل لذلك ، ومهما توقعه فيهم من عذاب فلا دافع له من دونك ، ومهما تمنحهم من مغفرة فلا يستطيع أحد حرمانهم منها بحوله وقوته ، لأنك أنت العزيز الذي يغلب ولا يغلب ، ويمنع من شاء ما شاء ولا يمنع ، وأنت الحكيم الذي تضع كل شىء موضعه ، فلا يمكن أحدا غيرك أن يرجعك عنه.
ومن هذا تعلم أن كلام عيسى عليه السلام لا يتضمن شيئا من الشفاعة لقومه ، ومما يؤيد هذا ما
رواه مسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص « أن النبي صلى اللّه عليه وسلم تلا قول اللّه تعالى فى إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم : « رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي » الآية ، وقول عيسى عليه السلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فرفع يديه إلى السماء وقال : « اللهم أمتى أمتى ، وبكى ، فقال اللّه عزّ وجل : يا جبريل اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فسله ما يبكيك ؟ فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما قال - وهو أعلم - فقال اللّه يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك فى أمتك ولا نسوءك » ،
وما رواه البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « ألا وإنه يجاء برجال من أمتى يوم القيامة فيؤخذ بهم ذات اليمين وذات الشمال فأقول : أصحابى ، فيقال : إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ - إلى قوله - الْحَكِيمُ) قال فيقال إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم »
وما رواه أحمد والنسائي وابن مردويه « أنه صلى اللّه عليه وسلم قام بهذه الآية : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ(7/65)
ج 7 ، ص : 66
عِبادُكَ ...) إلخ حتى أصبح يركع بها ويسجد فسأله أبوذر عن ذلك فقال : إنى سألت ربى الشفاعة فأعطانيها وهى نائلة إن شاء اللّه من لا يشرك با للّه شيئا » .
فهذه الأحاديث صريحة فى أن الشفاعة لا ينالها أحد يشرك با للّه شيئا.
(قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) أي قال اللّه تعالى : إن هذا اليوم هو اليوم الذي ينفع فيه الصادقين صدقهم فى إيمانهم وفى شهاداتهم وفى سائر أقوالهم وأحوالهم.
ثم بين هذا النفع فقال :
(لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي للصادقين جنات تجرى من تحتها الأنهار فى الآخرة ثوابا من عند اللّه ، ورضي اللّه عنهم ورضوا عنه ، وهذا غاية السعادة الأبدية ، إذ لا مطلب لهم أعلى منه حتى تمتد أعناقهم إليه وتتطلع نفوسهم لبلوغه كما قال تعالى « فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ » .
وقوله ذلك الفوز العظيم ، أي ذلك الذي ذكر من النعيمين الجثمانى والروحاني اللذين يحصلون عليهما بعد النجاة من أهوال يوم القيامة هو الفوز البالغ الغاية ، لأن الفوز هو الظفر بالمطلوب مع النجاة من ضده أو مما يحول دونه كما قال تعالى : « فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ » وبعد أن بين ما لأهل الصدق عنده من الجزاء الحق فى مقعد الصدق ، بين عقبه سعة ملكه وعموم قدرته الدالين على كون ذلك الجزاء لا يقدر عليه غيره فقال :
(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن الملك كله والقدرة كلها للّه وحده ، وفى قوله : وما فيهن ، تعريض بأن المسيح وأمه اللذين عبدا من دون اللّه داخلان تحت قبضته تعالى ، إذ الملك والقدرة له وحده فلا ينبغى لأحد أن يتكل على شفاعتهما « مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ » وغاية ما أعطاهم الكرامة لديه والمنزلة الرفيعة من بين عباده « وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ(7/66)
ج 7 ، ص : 67
بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ »
.
« سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد للّه رب العالمين » « إلمامة بما تضمنته السورة من التشريع والأحكام الاعتقادية والعملية » أهم الأصول التي انفردت بها هذه السورة :
(1) بيان أن اللّه أكمل هذا الدين الذي ارتضى لهم ، وأن دين اللّه واحد وإن اختلفت شرائع الأنبياء ومناهجهم ، وأن هذا الدين مبنى على العلم اليقيني فى الاعتقاد والهداية فى الأخلاق والأعمال ، وأن التقليد فيه باطل لا يقبله اللّه ، وأن أصول الدين الإلهى على ألسنة الرسل كلهم هى الإيمان با للّه واليوم الآخر والعمل الصالح ، فمن أقامها كما أمرت الرسل من أي ملة كاليهود والنصارى والصابئين فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
(2) بيان عموم بعثة النبي صلى اللّه عليه وسلم وأمره بالتبليغ العام ، وأنه لا يكلف إلا التبليغ فقط ، ومن حجج رسالته أنه بيّن لأهل الكتاب كثيرا مما كانوا يخفون من كتبهم مما ضاع قبل بعثة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ومما كانوا يكتمونه من الأحكام اتباعا لأهوائهم ، وأن هذا الرسول قد عصمه اللّه وحفظه من أن يضره أحد أو يصده عن تبليغ رسالة ربه ، وأننا نهينا عن سؤاله عن أشياء من شأنها أن تسوء المؤمنين إذا أبديت لهم لما فيها من زيادة لتكاليف.
(3) بيان أن اللّه أوجب على المؤمنين إصلاح أنفسهم أفراد وجماعات ، وأنه لا يضرهم من ضل إذا هم استقاموا على صراط الهداية ، فهو لا يضرهم لا فى دنيا ولا دين ، ومن ذلك الوفاء بالعقود التي يتعاقدون عليها فى جميع المعاملات الدنيوية ، وتحريم الاعتداء على قوم بسبب بغضهم وعداوتهم ، والتعاون على البر والتقوى كتأليف(7/67)
ج 7 ، ص : 68
الجماعات العلمية والخيرية وتحريم التعاون على الإثم والعدوان ، وتحريم موالاة المؤمنين للكافرين وبيان أن ذلك من آيات النفاق.
(4) تفصيل أحكام الطعام حلاله وحرامه ، وبيان أن التحريم منه إما ذاتى كالميتة وما فى معناها ، وإما لسبب دينى كالذى يذبح للأصنام ، وبيان أن الضرورات تبيح المحظورات.
(5) تحريم الخمر وكل مسكر ، والميسر وهو القمار وما فى حكمه (كالمضاربات فى البورصة).
(6) وجوب الشهادة بالقسط والحكم بالعدل والمساواة بين غير المسلمين والمسلمين ولو للأعداء على الأصدقاء وتأكيد وجوب ذلك فى سائر الأحكام.
(7) بيان تفويض أمر الجزاء فى الآخرة إلى اللّه وحده ، وأن النافع فى ذلك اليوم هو الصدق.
وكان مسك ختامها ذكر الجزاء فى الآخرة بما يناسب أحكامها كلها ، وقد روى أحمد والنسائي والحاكم وصححه ، والبيهقي عن جبير بن نفير قال : حججت فدخلت على عائشة فقالت يا جبير تقرأ المائدة ؟ قلت نعم ، فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه. وروى أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن عبد اللّه بن عمر قال : آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح.(7/68)
ج 7 ، ص : 69
سورة الأنعام
آيها خمس وستون ومائة ، نزلت بعد الحجر وهى مكية إلا الآيات 20 ، 23 ، 91 ، 93 ، 114 ، 141 ، 151 ، 152 ، 153 وقد روى كثير من المحدّثين عن غير واحد من الصحابة والتابعين أن هذه السورة نزلت جملة واحدة.
مناسبة هذه السورة لما قبلها
الناظر إلى ترتيب السور كلها فى المصحف يرى أنه قد روعى فى ترتيبها الطول والتوسط والقصر فى الجملة ، ليكون ذلك أعون على التلاوة وأسهل فى الحفظ فالناس يبدءون بقراءته من أوله فيكون الانتقال من السبع الطوال إلى المئين فالمثانى فالمفصل أنفى للملل وأدعى إلى النشاط ، ويبدءون بحفظه من آخره لأن ذلك أسهل على الأطفال ولأنه قد روعى التناسب فى معانى السور مع التناسب فى مقدار الطول والقصر.
ووجه مناسبتها لآخر سورة المائدة من وجوه عدة :
(1) إن معظم سورة المائدة فى محاجة أهل الكتاب ، ومعظم سورة الأنعام (2) إن سورة الأنعام قد ذكرت فيها أحكام الأطعمة المحرمة والذبائح بالإجمال ، وذكرت فى المائدة بالتفصيل وهى قد نزلت أخيرا.
(3) إن هذه افتتحت بالحمد وتلك اختتمت بفصل القضاء وبينهما تلازم كما قال :
« وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ ، وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » .(7/69)
ج 7 ، ص : 70
[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)
تفسير المفردات
الحمد : هو الثناء الحسن والذكر الجميل ، والظلمة : الحال التي يكون عليها كل مكان لا نور فيه ، والنور قسمان : حسى وهو ما يدرك بالبصر ، ومعنوى عقلى يدرك بالبصيرة ، والجعل : هو الإنشاء والإبداع كالخلق ، إلا أن الجعل مختص بالإنشاء التكويني كما فى هذه الآية ، والتشريعي كما فى قوله : « ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ » الآية ، والخلق عام.
ولم يذكر النور فى القرآن إلا مفردا والظلمة إلا جمعا ، لأن النور واحد وإن تعددت مصادره ، والظلمة تحدث مما يحجب النور من الأجسام غير النيرة وهى كثيرة وكذلك النور المعنوي شىء واحد ، والظلمات متعددة فالحق واحد لا يتعدد والباطل الذي يقابله كثير ، والهوى واحد والضلال المقابل له كثير ، فالتوحيد يقابله التعطيل ، والشرك فى الألوهية بأنواعه والشرك فى الربوبية بضروبه المختلفة.
وقدمت الظلمات فى الذكر على النور لأن جنسها مقدم فى الوجود فقد وجدت مادة الكون وكانت دخانا مظلما أو سديما كما يقول علماء الفلك ، ثم تكونت الشموس بما حدث فيها من الاشتعال لشدة الحركة ، وإلى هذا يشير حديث عبد اللّه(7/70)
ج 7 ، ص : 71
ابن عمرو عند أحمد والترمذي « إن اللّه خلق الخلق فى ظلمة ، ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه نوره اهتدى ، ومن أخطأه ضل » .
وكذلك الظلمات المعنوية أسبق وجودا ، فإن نور العلم والهداية كسبى فى البشر ، وغير الكسبي منه كالوحى ، فتلقيه كسبى ، وفهمه والعمل به كسبيان أيضا ، وظلمات الجهل والأهواء سابقة على هذا النور « وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » .
ويعدلون أي يعدلون به غيره ، أي يجعلون عديلا مساويا له فى العبادة والدعوة لكشف الضر وجلب النفع ، فهو بمعنى يشركون به ويتخذون له أندادا ، والأجل هو المدة المضروبة للشىء أي المقدار المحدود من الزمان وقضاء الأجل : تارة يطلق على الحكم به ، وضربه للشىء كما قضى شعيب عليه السلام أجلا لخدمة موسى له ثمانى سنوات وأجلا اختيار يا سنتين ، ويطلق أخرى على القيام بالشيء وفعله كما قال : « فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ » الآية ، وتمترون أي تشكّون فى البعث.
الإيضاح
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) أي الحمد والشكر للذى خلقكم وخلق السموات والأرض فهو المستوجب للحمد بنعمه عليكم ، لا من تعبدون من دونه وتجعلونه له شريكا من خلقه.
والمراد بالسماوات والأرض : العوالم العلوية التي يرى كثير منها فوقنا وهذا العالم الذي نعيش فيه.
وكذلك الذي أوجد الظلمات والنور. واختلف العلماء فى المراد منهما ، فمن قائل إن المقصود منهما ظلمة الليل ونور النهار وإلى هذا جنح ابن جرير وابن أبي حاتم عن(7/71)
ج 7 ، ص : 72
السدى ، وفى ذلك رد على المجوس (الثّنويّة) الذين زعموا أن للعالم وبين أحدهما النور وهو الخالق للخير ، والثاني الظلمة وهو الخالق للشر ، ومن قائل إن المراد منهما الكفر والإيمان وروى هذا عن ابن عباس.
(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي ثم إنهم مع ذلك يعدلون به سواه ، ويسوونه به فى العبادة التي هى أقصى غاية الشكر ، ويدعونه لكشف الضر وجلب النفع ، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.
وبعد أن وصف الخالق تعالى بما دل على توحيده واستحقاقه للحمد - انتقل إلى خطاب المشركين الذين عدلوا به غيره فى العبادة مذكّرا لهم بدلائل التوحيد والبعث فقال :
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) أي هو الذي خلقكم من الطين (التراب الذي يخالطه ماء) فقد خلق أباكم آدم من الطين كما خلق سائر الأحياء التي فى هذه الأرض بل خلق كل فرد من أفراد البشر من سلالة من طين ، فإن بنية الإنسان مكونة من الغذاء ومن ذلك البويضات التي فى الأنثى والحيوان المنوىّ الذي فى الذكر فكلها مكونة من الدم ، والدم من الغذاء ، والغداء من نبات الأرض أو من لحوم الحيوان المتولدة من النبات فالمرجع إلى النبات من الطين ، والناظر فى كل هذا يعلم جليا أن القادر على كل هذا لا يعجزه أن يعيد هذا الخلق كما بدأه عند انقضاء آجاله التي قضاها له فى أجل آخر يضر به لهذه الإعادة بحسب علمه وحكمته.
والآية ترشد إلى أنه تعالى قضى لعباده أجلين أجلا لحياة كل فرد منهم ينتهى بموته ، وأجلا لإعادتهم وبعثهم بعد موت الجميع وانقضاء عمر الدنيا.
ومعنى كونه مسمى عنده : أنه لا يعلمه غيره ، لأنه لم يطلع أحدا على يوم القيامة لا ملكا مقرّبا ولا نبيا مرسلا.(7/72)
ج 7 ، ص : 73
(وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) أي إنه تعالى هو المتصف بهذه الصفات المعروفة المعترف له بها فى السموات والأرض ، ونظير هذا أن تقول إن حاتما هو حاتم فى طيىء وفى جميع القبائل ، أي هو المعروف بالجود المشهور به فى قومه وفى غيرهم.
(يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) هذا تقرير وتوكيد لما قبله ، لأن الذي يستوى فى علمه السر والعلانية هو اللّه وحده.
(وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) من الخير والشر فيحصى ذلك عليكم ليجازيكم به عند معادكم إليه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 4 الى 6]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)
تفسير المفردات
الآيات هنا : آيات القرآن المرشدة إلى آيات الأكوان والمثبتة لنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، والإعراض : التولي عن الشيء ، والحق : هو دين اللّه الذي جاءهم به خاتم رسله من عقائد وعبادات ومعاملات وآداب ، والأنباء : ما فى القرآن من وعد بنصر اللّه لرسله وإظهار لدينه. ووعيد لأعدائه بخذلانهم فى الدنيا وعذابهم فى الآخرة ، والقرن من الناس : القوم المقترنون فى زمن واحد وجمعه قرون ، وقد جاء فى القرآن مفردا وجمعا(7/73)
ج 7 ، ص : 74
ومكنه فى الأرض أو فى الشيء : جعله متمكنا من التصرف فيه ، ومكن له : أعطاه أسباب التمكن فى الأرض كقوله : « وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ » وقوله : « أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً ؟ » والسماء : المطر والمدرار : الغزير.
المعنى الجملي
بعد أن أرشد سبحانه فى الآيات السالفة إلى دلائل وحدانيته ، ودل على أنها مع ظهورها لم تمنع الكافرين من الشك ، وإلى دلائل البعث ، وأنها على شدة وضوخها لم تمنع المشركين من الشك والريب ، وإلى أن اللّه المتصف بتلك الصفات التي تعرفونها هو اللّه المحيط علمه بما فى السموات والأرض فلا ينبغى أن يشرك به غيره فيهما ، ولكن المشركين جهلوا ذلك وجوّزوا أن يكون غير الرب إلها ، بل عبدوا معه آلهة أخرى.
ذكر هنا سبب عدم اهتدائهم بالوحى ، وأنذرهم عاقبة التكذيب بالحق ولفت أنظارهم إلى ما حلّ بالأمم قبلهم حين كذبوا رسلهم لعلهم يرعوون عن غيهم ويثوبون إلى رشدهم.
الإيضاح
(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي وما تنزل عليهم آية من آيات القرآن التي من جملتها تلك الآيات الناطقة بتفصيل بدائع صنع اللّه المنبعثة بجريان أحكام ألوهيته على جميع الكائنات - إلا أعرضوا عنها استهزاء وتكذيبا غير متدبرين معناها ، ولا ناظرين فى دلالتها.
ولما بين سبحانه أن شأنهم الإعراض عن الآيات المنزلة رتّب عليه قوله :
(فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) أي فبسبب ذلك الإعراض العام عن النظر فى الآيات كذبوا بالحق الذي جاءهم حين جاءهم ولم يترّيثوا ولم يتأملوا ، لأنهم سدوا على أنفسهم مسالك العلم.(7/74)
ج 7 ، ص : 75
وهذا الحق الذي كذبوا به هو الدين الذي جاء به خاتم أنبيائه بما اشتمل عليه من آداب وأخلاق وعبادات ومعاملات ، إلى نحو أولئك مما فيه سعادة البشر فى دنياهم وآخرتهم.
ثم هددهم وتوعدهم على تكذيبهم فقال :
(فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) النبأ : الخبر العظيم أي فستكون عاقبة التكذيب أن تحلّ بهم العقوبات العاجلة التي نطقت بها الآيات وعيدا لهم من القتل والسبي والجلاء عن البلاد ووعدا لرسوله من النصر له وإظهار دينه على الدين كله.
وقد أتاهم ذلك فكان منه ما نزل بهم من القحط ، ومن الخذلان يوم بدر ، ثم تم ذلك يوم الفتح.
وبعد أن توعدهم سبحانه بنزول العذاب بهم بيّن أن هذا مما جرت به سنته فى المكذبين قبلهم فقال :
(أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ؟ ) أي ألم يعلم هؤلاء الكفار المكذبون بالحق أنا أهلكنا كثيرا من الأقوام الذين كذبوا الرسل قبلهم بعد أن أعطيناهم من التمكين والاستقلال فى الأرض وأسباب التصرف فيها ما لم نعطهم مثله ، ثم لم تكن تلك النعم بمانعة لهم من عذابنا لما استحقوه بذنوبهم وعتوهم واستكبارهم.
وذكر بعد هذا ما امتازت به تلك القرون عن كفار قريش من النعم الإلهية التي اقتضتها طبيعة بلادهم وخصب تربتها فقال :
(وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً ، وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) الإرسال تارة يكون ببعث من له اختيار كإرسال الرسل ، وتارة بالتسخير كإرسال الريح والمطر ، وتارة بترك المنع نحو « أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ » أي وسخرنا لهم الأمطار الغزيرة التي تكوّن الأنهار المترعة بالمياه ، وهديناهم إلى الاستمتاع بها بجعلها تجرى دائما تحت مساكنهم التي يبنونها على ضفافها ، أو فى الجنات والحدائق التي تتفجر خلالها(7/75)
ج 7 ، ص : 76
فيتمتعون بالنظر إلى جمالها واستنبات الأشجار والثمار التي يأكلونها ، ويولدون النّعم والماشية التي تتغذى من مراعيها.
والخلاصة - إنهم أوتوا من البسطة فى الأجسام ، والامتداد فى الأعمال ، والسعة فى الأموال ، والاستمتاع بلذات الدنيا ما لم يؤته أهل مكة ، ولكن ذلك لم يغن عنهم شيئا فكفروا بأنعم اللّه ولم يؤمنوا بما جاءهم به أنبياؤهم ، بل كذبوهم فاستحقوا العقاب وإلى ذلك أشار بقوله :
(فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أي فكان عاقبة أمرهم أن أهلكنا كل قرن منهم بسبب ذنوبهم التي كانوا يجترحونها ، وأوجدنا من كل منهم قرنا آخر يعمرون البلاد ويكونون أجدر بشكران النعمة.
والذنوب التي تدعو إلى الهلاك ضربان :
(1) معاندة الرسل والاستكبار والعتوّ والتكذيب.
(2) كفران النعم بالبطر وغمط الحق وظلم الضعفاء ومحاباة الأقوياء والإسراف فى الفسق والفجور والغرور بالغنى والثروة ، كما جاء فى قوله : « وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها ، فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ. وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ » .
وفى هذه الآية رد على كفار مكة وهدم لغرورهم بقوتهم وثروتهم بإزاء ضعف أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم وفقرهم كما حكى اللّه عنهم فى قوله : « وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ » .
وهؤلاء القوم الذين يخلفون من نزل بهم عذاب اللّه لا بد أن يخلفوا عنهم فى صفاتهم وإن كانوا من أبناء جنسهم ، فالعبر والحوادث واختلاف الزمن لها تأثير(7/76)
ج 7 ، ص : 77
كبير فى النفوس تخفف من غلواء الناس وتقلل من بطشهم وعتوهم ، وفى المشاهدة أكبر دليل على صحة ذلك.
انظر إلى ما فعلته الحرب العظمى الثانية فى نفوس الشعوب فى الشرق والغرب ، فإنه قد نشأ بعدها جيل أقل بطرا وانغماسا فى الشهوة والترف وما ينشأ عنهما من الفسق والفجور من سابقه ، وكذلك فى حسن معاملة الناس بعضهم لبعض وحفظ الحقوق والمساواة فيها.
ولا يعلم إلا اللّه ما ستنتهى إليه تلك الحرب الضروس الدائرة رحاها الآن ولا ما ستتمخض عنه من الحوادث الجسام فى مستقبل الأمم والشعوب ، ولا ما سيكون لها من التأثير فى النظم الاجتماعية والاقتصادية والصلات والروابط بين بعض الأمم وبعض.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 7 الى 9]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)
تفسير المفردات
الكتاب : الصحيفة المكتوبة ومجموعه الصحف فى غرض واحد ، والقرطاس (مثلث القاف) الورق الذي يكتب فيه ، واللمس كالمس : إدراك الشيء بظاهر البشر وقد يستعمل بمعنى طلب الشيء والبحث عنه ، ويقال لمسه والتمسه وتلمسه ، ومنه « أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ » وسحر : أي خداع وتمويه يرى ما لا حقيقة له فى صورة الحقائق ، لقضى الأمر أي لتم أمر هلاكهم ، لا ينظرون أي لا يمهلون ، اللبس : الستر والتغطية(7/77)
ج 7 ، ص : 78
يقال لبس الثوب يلبسه (بكسر الباء فى الأول وفتحها فى الثاني) ولبس الحق بالباطل يلبسه (بفتح الباء فى الأول وكسرها فى الثاني) بمعنى ستره به ، أي جعله مكانه ليظن أنه الحق ، ولبست عليه أمره أي جعلته بحيث يلتبس عليه فلا يعرفه.
المعنى الجملي
بعد أن أرشد سبحانه فى الآيات المتقدمة إلى ما دعا إليه الرسول صلى اللّه عليه وسلم من التوحيد والبعث ، ثم ذكر بعدها الأسباب التي دعت قريشا إلى التكذيب ، وأنذرهم عاقبة هذا التكذيب بما يحلّ بهم من عذاب اللّه فى الدنيا والآخرة ، وأنه لا يحول دونه ما هم فيه من قوة وضعف الرسول صلى اللّه عليه وتمكنهم فى مكة وهى أم القرى ، وأهلها القدوة والسادة بين العرب.
ذكر هنا شبهات أولئك الجاحدين المعاندين على الوحى وبعثة الرسول ، وبهاتم بيان أسباب جحودهم وإنكارهم لأصول الدين الثلاثة (التوحيد والبعث ونبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم).
روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق سبب نزول الآية الثانية قال « دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم ، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبيّ بن خلف والعاصي بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدّث عنك الناس ويرى معك - فأنزل اللّه في ذلك : - وقالوا لو لا أنزل عليه ملك » .
ورجح بعضهم أن هذا السبب لا يصح فى هذه الآية ، لأن اقتراح المعاندين من المشركين إنزال الملك مع الرسول مذكور فى سور من القرآن أنزلت قبل هذه السورة فما فيها إنما هورد على شبهة سبقت وحكيت عنهم ، وكذلك اقتراح إنزال كتاب من السماء وإنزال القرآن جملة واحدة مذكور فى سورة الفرقان.(7/78)
ج 7 ، ص : 79
الإيضاح
كان الرسول صلى اللّه عليه وسلم يعجب من كفر قومه به وبما أنزل عليه مع وضوح برهانه وإظهار إعجازه وكان يضيق صدره لذلك ويبلغ منه الحزن والأسف كل مبلغ كما قال فى سورة هود « فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ » .
فبين اللّه أسباب ذلك ومناشئه من طباع البشر وأخلاقهم ، ليعلم أن الحجة مهما تكن ناهضة فإنها لا تجدى إلا عند من كان مستعدا لها وزالت عنه موانع الكبر والعناد ، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة :
(وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي إن علة تكذيبهم بالحق هى إعراضهم عن الآيات وإقفال باب النظر والاستدلال لإخفاء الآيات فى أنفسها وقوة الشبهات التي تحوم حولها ، فلو أننا نزلنا عليك كتابا من السماء فى قرطاس فرأوه نازلا فيها بأعينهم ولمسوه عند وصوله إلى الأرض بأيديهم لقال الذين كفروا منهم : ما هذا الذي رأيناه ولمسناه إلا سحر بيّن فى نفسه ، وإنما خيل إلينا أننا رأينا كتابا ولمسناه ، وما ثمّ كتاب نزل ولا قرطاس رئى ولا لمس ، وتلك مقالة أمثالهم فى آيات الأنبياء من قبل ، ولن تجد لسنة اللّه تبديلا ...
وإنما قال لمسوه بأيديهم ، ليبين أن المراد باللمس المعنى الأول لا الثاني الذي بيناه فيما سلف ، ومن ثمّ قال قتادة : فعاينوه ومسّوه بأيديهم. وقال مجاهد فمسّوه ونظروا إليه واللمس أقوى اليقينيات الحسية وأبعدها عن الخداع ، لأن البصر يخدع بالتخيل ، وجاء فى سورة الحجر : « وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ [حبست ومنعت ] أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ » .(7/79)
ج 7 ، ص : 80
(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) كان لكفار مكة اقتراحان تقدموا بهما إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فى مواطن مختلفة :
(1) أن ينزل على الرسول ملك من السماء يكون معه نذيرا يرونه ويسمعون كلامه ، وإلى هذا تشير الآية.
(2) ينزل الملك عليهم بالرسالة من ربهم.
والاقتراح الأول مبنى على اعتقاد أن أرقى البشر عقلا وأخلاقا وآدابا وهم الرسل عليهم السلام ليسوا بأهل لأن يكونوا رسلا بين اللّه وبين عباده ، لأنهم بشر يأكلون ويشربون كما جاء فى سورة المؤمنون « وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا : ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ. وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ » :
وقد رد اللّه تعالى الاقتراحين من وجهين :
(1) (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي ولو أنزلنا ملكا كما اقترحوا لقضى الأمر بإهلاكهم ثم لا يؤخرون ولا يمهلون ليؤمنوا ، بل يأخذهم العذاب عاجلا كما مضت به سنة اللّه فيمن قبلهم ، قال ابن عباس : ولو أتاهم ملك فى صورته لأهلكناهم ثم لا يؤخرون.
(2) (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) أي ولو جعل الرسول ملكا لجعل متمثلا فى صورة بشر ليمكنهم رؤيته وسماع كلامه الذي يبلّغه عن ربه ، ولو جعله ملكا فى صورة بشر لاعتقدوا أنه بشر لأنهم لا يدركون منه إلا صورته وصفاته البشرية التي تمثّل بها ، وحينئذ يقعون فى نفس اللبس والاشتباه الذي يلبسون على أنفسهم باستنكار جعل الرسول بشرا ، ولا ينفكون يقترحون جعله ملكا(7/80)
ج 7 ، ص : 81
وهم قد كانوا فى غنى عن ذلك ، وهذا شأن كثير من الناس يوقعون أنفسهم فى المشكلات بسوء صنيعهم ثم يحارون فى المخلص منها.
وذكر البخاري فى تفسير قضاء الأمر عدة وجوه :
(1) أن سنة اللّه قد جرت بأن أقوام الرسل إذا اقترحوا آية ثم لم يؤمنوا بها يعذبهم اللّه عذاب الاستئصال ، واللّه لا يريد أن يستأصل هذه الأمة التي بعث فيها خاتم رسله نبى الرحمة « وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ » .
(2) أنهم لو شاهدوا الملك بصورته الأصلية لزهفت أرواحهم من هول ما يشاهدون.
(3) أن رؤية الملك بصورته آية ملجئة يزول بها الاختيار الذي هو قاعدة التكليف.
(4) أنهم اقترحوا ما لا يتوقف عليه الإيمان ، فلو أعطوه ولم يجد ذلك معهم نفعا دل ذلك على منتهى العناد الذي يستدعى الإهلاك وعدم النظرة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
تفسير المفردات
الهزؤ : (بضمتين أو ضم فسكون) والاستهزاء : السخرية. والاستهزاء بالشخص :
احتقاره وعدم الاهتمام بأمره ، وحاق به المكروه يحيق حيقا : أحاط به فلم يكن له منه مخلص(7/81)
ج 7 ، ص : 82
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف مقترحاتهم على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وأنهم تارة يطلبون إنزال ملك مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وأخرى يطلبون إنزال ملك بالرسالة ، وكان مبنى هذه المقالة الاستهزاء ، وكان قلب الرسول يضيق بها درعا عند سماعه إياها ذكر هنا ما يخفف عنه ما يلاقيه منهم من سوء الأدب ومن الهزؤ والسخرية ، فأبان له أنك لست ببدع من الرسل ، فإن كثيرا منهم لاقوا من أقوامهم مثل ما لاقيت بل أشد من ذلك وأنكى ، فأنزل اللّه بهم من العذاب ما يستحقونه كفاء أفعالهم الشنيعة وجرأتهم على من اصطفاهم ربهم من خلقه ، ثم أمر هؤلاء المكذبين بأن يسيروا فى الأرض ليروا كيف كانت عاقبة المكذبين لأنبيائه.
الإيضاح
(وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أخبر اللّه رسوله بأن الكفار قد استهزءوا برسل كرام قبلك كما جاء فى قوله : « وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ » فما تراه من استهزاء كفار قريش بك ليس ببدع منهم بل هم جروا فيه على آثار أعداء الرسل قبلك وقد حل بأولئك الساخرين العذاب الذي أنذرهم إياه أولئك الرسل جزاء على سوء صنيعهم ، وفى الآية وجوه من العبرة :
(1) تعليم النبي صلى اللّه عليه وسلم سنن اللّه فى الأمم مع رسلهم.
(2) تسلية له عن إيذاء قومه له.
(3) بشارة له بحسن العاقبة وما سيكون له من الغلبة والسلطان ، وما سيحل بأولئك المستهزئين من الخزي والنكال ، وقد أهلكهم اللّه وامتنّ على نبيه بذلك(7/82)
ج 7 ، ص : 83
فى سورة الحجر « إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ » والمشهور أنهم كانوا خمسة من رؤساء قريش هلكوا كلهم فى يوم واحد.
وخلاصة المعنى - هوّن عليك ما تلقى من هؤلاء المستخفين بحقك فىّ وفى طاعتى ، وامض لما أمرتك به من الدعاء إلى توحيدى والإذعان لطاعتى ، فإنهم إن تمادوا فى غيّهم نسلك بهم سبيل أسلافهم من سائر الأمم ونعجّل النقمة لهم وتحل بهم المثلات.
ولما كان ما يحل بالمستهزئين بالرسل من الهلاك بموجب سنة اللّه المطردة فيهم ، قد يكون موضعا للريبة والشك لديهم ، إذ هم يجهلون التاريخ ولا يأخذون خبره بالتسليم أمر اللّه نبيه بأن يرشدهم إلى الطريق الذي يوصلهم إلى علم ذلك بأنفسهم فقال :
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي قل لأولئك للمكذبين الجاحدين حقيقة ما جئتهم به : سيروا فى الأرض كما هو دأبكم وعادتكم وتنقلوا فى ديار أولئك القرون الذين مكناهم فى الأرض ومكنا لهم مالم نمكن لكم ثم انظروا فى أثناء رحلاتكم آثار ما حل بهم من الهلاك ، وتأملوا كيف كانت عاقبتهم بما تشاهدون من آثارهم وما تسمعون من أخبارهم ، ثم اعتبروا إن لم تنهكم حلومكم ولم تزجركم حجج اللّه عليكم ، واحذروا مثل مصارعهم واتقوا أن يحل بكم مثل ما حل بهم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 19]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)(7/83)
ج 7 ، ص : 84
تفسير المفردات
كتب على نفسه : أي أوجب إيجاب فضل وكرم ، سكن : من السكون ضد الحركة ، وفيه اكتفاء بما ذكر عما يقابله أي له ما سكن وما تحرك كما جاء فى قوله تعالى « سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ » أي والبرد ، والولي : الناصر ، ومتولى الأمر : المتصرف فيه ، فاطر السموات والأرض أي مبدعهما على غير مثال سابق ، وأصل الفطر : الشّق ومنه « إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ » وهو يطعم ولا يطعم ، أي هو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد ، يصرف عنه أي يبعد عنه ، رحمة أي بإنجائه من الهول الأكبر ، المس : أعم من اللمس فيقال مسه السوء والكبر والعذاب والتعب أي أصابه ، والضر : الألم والحزن والخوف وما يفضى إليها أو إلى أحدها ، والنفع اللذة والسرور وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما ، والخير : ما كان فيه منفعة حاضرة أو مستقبلة ، والشر : ما لا منفعة فيه البتة أو ما كان ضره أكبر من نفعه ، قال تعالى « وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ » والقهر : الغلبة والإذلال ، وشهادة الشيء : حضوره ومشاهدته ، والشهادة به : الإخبار به عن علم ومعرفة واعتقاد مبنى على المشاهدة بالبصر أو بالعقل والوجدان ، والإنذار : التخويف ، واكتفى به عن ذكر البشارة(7/84)
ج 7 ، ص : 85
لمناسبته للمقام أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه القرآن ووصل إليه من الأسود والأحمر ، أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن سيوجد إلى يوم القيامة ، مما تشركون أي من الأصنام.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه فى الآية السابقة أصول الدين الثلاثة : التوحيد والبعث والجزاء ورسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ثم ذكر شبهات الكافرين على الرسالة وبين ما يدحضها ، ثم أرشد إلى سننه تعالى فى أقوام الرسل المكذبين ، وأن عاقبتهم الهلاك والاستئصال والخزي والنكال ، تسلية لرسوله صلى اللّه عليه وسلم وتثبيتا لقلبه وإعانة له على المضىّ فى تبليغ رسالته.
ثم ذكر هنا هذه الأصول الثلاثة بأسلوب آخر : أسلوب السؤال والجواب ، بهرهم فيه بالحجة ، ودلهم على واضح المحجة ، تفنّنا فى الحجاج فى المواضع الهامة ، فإن الأدلة إذا تضافرت على مطلوب واحد كان لها فى النفس قبول أيّما قبول ، وكذلك أساليب الحجاج إذا تنوعت دفعت عن السامع السأم وجعلته ينشط لسماع ما يلقى إليه ، فهو إذا لم يعقل الدليل الأول أو عمى عليه أسلوبه رأى فى الدليل الثاني ما ينير له طريق المطلوب أو رأى فى الأسلوب الثاني ما يكفيه مئونة البحث فى الدليل الأول فهو فى غنى بما يكون أمامه عن أن يبحث عن فائت أو يلجأ إلى غائب ، ومن ثم نرى الخطباء المفلقين والعلماء المبرّزين ينوّعون أساليب حجاجهم ويكثرون البرهانات على المطلوب الواحد ، ليكون ذلك أدعى إلى الإقناع وأقرب إلى الاقتناع.
الإيضاح
(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ؟ ) أي قل أيها الرسول لقومك الجاحدين لرسالتك المعرّضين عن دعوتك : لمن هذه المخلوقات علويّها وسفليّها ؟(7/85)
ج 7 ، ص : 86
وقد كانت العرب تؤمن بأن اللّه خالق السموات والأرض وأن كل ما فيهما ملك وعبيد له ، كما قال تعالى « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ » .
والمقصود من السؤال التبكيت والتوبيخ.
(قُلْ لِلَّهِ) هذا تقرير للجواب نيابة عنهم ، أو إلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه ولا خلاف بينى وبينكم فى ذلك ولا تقدرون أن تضيفوا شيئا آخر إليه.
وإتيان السائل بالجواب يحسن إذا كان ما يأتى به هو عين ما يعتقده المسئول وما يجيب به إن أجاب ، وإنما يسبقه إليه ليبنى عليه شيئا من لوازمه مما يجهله المسئول أو يغفل عنه أو ينكره لجهله أو غفلته عن كونه لازما لما يعرفه ويعتقده.
ثم ذكر من صفاته ما يرعب فى طاعته فقال :
(كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) أي إن اللّه الذي تقرون معى بأنه مالك السموات والأرض قد أوجب على ذاته العلية الرحمة بخلقه ، إذ أفاض عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ، ومن مقتضى هذه الرحمة أن يجمعكم إلى يوم القيامة ، ذلك اليوم الذي لا شك فى مجيئه لوضوح أدلته وسطوع براهينه ، للحساب والجزاء على الأعمال ، إذ أنه وازع نفسى لا يتم تهذيب النفوس إلا به فهو يمنع الظلم وهضم الحقوق وإيذاء الناس وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، خوفا من هول ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها.
ولما كان مقتضى الرحمة والفضل أعم وأسبق من مقتضى العدل كان جزاء الظالمين المسيئين على قدر استحقاقهم ، ومنهم من يعفو اللّه عنه ، فالجزاء على الإساءة قد ينقص منه بالعفو والمغفرة ولا يزاد فيه ، وإنما الزيادة فى الجزاء على الإحسان : « مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها » .
وبيان الدين لهذا النوع من الجزاء رحمة أيضا ، فما مثله إلى مثل الحكومة العادلة تبيّن للأمة ما تؤاخذ عليه من الأعمال الضارة وما تكافئ به من يصدق فى خدمتها(7/86)
ج 7 ، ص : 87
ويرقى إلى سماء العزة والكرامة ،
روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « إن اللّه لما خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش : إن رحمتى سبقت غضبى »
والمراد بالسبق هنا كثرة الرحمة وشمولها كما يقال غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثرا منه.
والخلاصة - إنه لما قال كتب على نفسه الرحمة ، فكأنه قيل وما تلك الرحمة ؟
فقيل ليجمعنكم إلى يوم القيامة ، ذلك أنه لو لا خوف العذاب يوم القيامة لحصل الفساد فى الأرض واختلّت نظم الاجتماع وأكل القوى الضعيف ولا وازع ولا زاجر ، فصار التهديد بهذا اليوم من أسباب الرحمة.
(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) خسارة الأنفس إفساد فطرتها وعدم اهتدائها بما منحها اللّه من أنواع الهدايات ، فالمقلدون خسروا أنفسهم لأنهم حرموها استعمال نعمتى العقل والعلم.
أي أخصّ هؤلاء الذين خسروا أنفسهم بالتذكير والذم والتوبيخ بين من يجمعون إلى يوم القيامة ، إذ هم لخسرانهم أنفسهم فى الدنيا لا يؤمنون بالآخرة ، فهم قلما ينظرون ويستدلون ، وإن هم فعلوا قعد بهم ضعف الإرادة عن احتمال لوم اللائمين واحتقار الأهل والمعاشرين.
والخلاصة - إن الفوز والفلاح فى الدين والدنيا لا يتم إلا بالعلم الصحيح والعزيمة الحافزة إلى العمل بالعلم ، فمن خسر إحدى الفضيلتين فقد خسر نفسه ، فردا كان أو أمة ، فما بال من خسرهما معا.
(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي للّه ما فى السموات وما فى الأرض ، وله ما سكن فى الليل والنهار ، وخص هذا بالذكر وإن كان داخلا فى عموم ما فى السموات والأرض ، تنبيها إلى تصرفه تعالى بهذه الخفايا ولا سما إذا جنّ الليل وهدأ الخلق.(7/87)
ج 7 ، ص : 88
وبعد أن ذكر سبحانه تصرفه فى الخلق دقيقه وجليله كما يشاء كما هو شأن الربوبية الكاملة ، ذكر أنه هو السميع العليم أي المحيط سمعه بكل ما من شأنه أن يسمع مهما يكن خفيا عن غيره ، فهو يسمع دبيب النملة فى الليلة الظلماء ، والمحيط علمه بكل شىء « يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ » .
والخلاصة - إنه تعالى لا تدق عن سمعه دعوة داع ، أو تعزب عن علمه حاجة محتاج ، حتى يخبره بها الأولياء ، أو يقنعه بها الشفعاء.
وبعد هذا القول الذي أمر رسوله للتذكير بأنه المالك لكل شىء ، والمدبر لكل شىء إذ هو سميع لكل شىء ولا يعزب عن علمه شى ء - أمره هنا بقول آخر لازم لما سبق ، وهو وجوب ولايته تعالى وجده والتوجه إليه دون سواه فى كل ما هو فوق كسب البشر ، والاعتماد على توفيقه فيما هو من كسبهم فقال :
(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ؟ ) أي قل لهم : لا أطلب من غيره نفعا ولا ضرا ، لا فعلا ولا منعا ، فيما هو فوق كسبه وتصرفه الذي منحه اللّه لأبناء جنسه ، أما تناصر المخلوقين وتولّى بعضهم بعضا فيما هو من كسبهم العادي ، فلا يدخل فى عموم الإنكار الذي يفهم من الآية ، فقد أثنى اللّه على المؤمنين بأن بعضهم أولياء بعض.
وقد كان المشركون من الوثنيين ومن طرأ عليهم الشرك من أهل الكتاب يتخذون معبوداتهم وأنبياءهم وصلحاءهم أولياء من دون اللّه ، يتوجهون إليهم بالدعاء ويستغيثون بهم ويستشفعون بهم عند اللّه فى قضاء حاجاتهم من نصر على عدو وشفاء من مرض وسعة فى رزق إلى نحو أولئك.
وهذا بلا شك عبادة وشرك باللّه لاعتقادهم أن حصول المطلوب من غير أسبابه العادية قد كان بمجموع إرادة هؤلاء الأولياء وإرادة اللّه.
ويلزم هذا أن إرادة اللّه ما تعلقت بفعل ذلك المطلب إلا تبعا لإرادة الولي الشافع أو المتّخذ وليا وشفيعا.(7/88)
ج 7 ، ص : 89
(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه تعالى أوجدهما على غير مثال سابق ، وقد روى عن ابن عباس أنه قال : ما عرفت ما فاطر السموات والأرض ؟ حتى أتانى أعرابيان يختصمان فى بثر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدعتها.
وقد كانت المادة التي خلقت منها السموات والأرض كتلة واحدة دخانية ، ففتق رتقها وفصل منها أجرام السموات والأرض ، وهذا ولا شك ضرب من الفطر والشق ، قال تعالى « أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما » .
وفى ذلك تعريض بأن من فطر السموات والأرض بمحض إرادته بدون تأثير مؤثر ولا شفاعة شافع ينبغى ألا يتوجّه إلى غيره بالدعاء ولا يستعان بسواه فى كل ماوراء الأسباب.
وقد أكد هذا المعنى وزاده تثبيتا بقوله :
(وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) أي إنه يرزق الناس الطعام وليس هو بحاجة إلى من يرزقه ويطعمه ، لأنه منزه عن الحاجة إلى كل ما سواه ، أيا كان نوعها.
وفى هذا إيماء إلى أن من اتخذوا أولياء من دونه من البشر محتاجون إلى الطعام ولا حياة لهم بدونه ، وأن اللّه هو الذي خلق لهم الطعام فهم عاجزون عن خلقه ، وعاجزون عن البقاء بدونه فأحرى بهم ألا يتّخذوا أولياء مع الغنىّ الرّزاق الفعال لما يريد.
وإذا كان الإنكار توجه إلى البشر فأولى به أن يتوجه إلى الأصنام والأوثان لأنها أضعف من البشر إذ قد اتفق العقلاء على تفضيل الحيوان على الجماد والإنسان على جميع أنواع الحيوان.
(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أي قل لهم بعد أن استبانت لديكم الأدلة على وجوب عبادة اللّه وحده وعدم اتخاذ غيره وليا : إنى أمرت من ربى الموصوف بجليل الصفات أن أكون أول من أسلم إليه وانقاد لديه من تلك الأمة التي بعثت فيها ، فلا أدعو إلى شىء إلا كنت أول مؤمن به سائر على نهجه.(7/89)
ج 7 ، ص : 90
(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي وقيل لى بعد إسلام الوجه له : لا تكونن من المشركين الذين اتخذوا من دونه أولياء ليقربوهم إليه زلفى.
وخلاصة ذلك - إنى أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك.
وبعد أن أمره بهذا القول المبيّن لأساس الدين ، وبين أنه مأمور به كغيره أمره بقول آخر فيه بيان لجزاء من خالف الأمر والنهى السالفين فقال :
(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي قل لهم إن فرض وقوع العصيان منى فإننى أخاف أن يصيبنى عذاب ذلك اليوم العظيم وهو يوم القيامة الذي يتجلى فيه الرب على عباده ويحاسبهم الحساب العسير على أعمالهم ويجازيهم بما يستحقون.
وفى الآية إشارة إلى أن هذا يوم لا محاباة فيه لأحد مهما كان عظيما ، وأنه لا تنفع فيه شفاعة الشافعين ، بل الأمر يومئذ للّه ، فلا سلطان لغيره يتكل عليه من يعصيه ، ظنا منه أنه يخفف عنه العذاب أو ينجيه ، وإذا كان خوف النبي صلى اللّه عليه وسلم من العذاب على المعصية منتفيا لوجود العصمة ، فخوف الإجلال والتعظيم ثابت له فى جميع الأحوال.
(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي من يحوّل عنه هذا العذاب. فى ذلك اليوم فقد رحمه اللّه ، إذ أنجاه من الهول الأكبر ، ومن نجا منه فقد دخل الجنة ، والنجاة من العذاب والتمتع بالنعيم فى دار البقاء هو الفوز المبين الظاهر الذي لا فوز أعظم منه.
وقد سبق أن قلنا : إن الفوز إنما ينال بحصول مطلوبين : أحدهما سلبى وهو النجاة من العذاب والثاني إيجابى وهو الظفر بالنعيم المقيم فى الجنة.
وبعد أن بين أن صرف العذاب والفوز بالنعيم من رحمته فى الآخرة - بيّن أن الأمر كذلك فى الدنيا وأن التصرف فيها له وحده.
(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي وإن يصبك أيها الإنسان ضر كمرض وفقر وحزن وذل اقتضته سنة(7/90)
ج 7 ، ص : 91
اللّه فلا كاشف له ولا صارف يصرفه عنك إلا هو ، دون الأولياء الذين يتّخذون من دونه ، ويتوجه إليهم المشرك بكشفه - وهو إما أن يكشفه عنك بتوفيقك للأسباب الكسبية التي تزيله ، وإما أن يكشفه بغير عمل منك ، بل بلطفه وكرمه ، فله الحمد على نعمه المتظاهرة التي لا حدّ لها - وإن يمسسك بخير كصحة وغنى وقوة وجاه فهو قادر على حفظه عليك كما قدر على إعطائه إياك ، وهو القدير على كل شىء ، أما أولئك الأولياء الذين اتخذوا من دونه فلا يقدرون على مسّك بخير ولا ضرّ.
فعلى المؤمن الصادق فى إيمانه ألا يطلب شيئا من أمور الدنيا والآخرة من كشف ضر وصرف عذاب أو إيجاد خير ومنح ثواب - إلا من اللّه تعالى وحده دون غيره من الشفعاء والأولياء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.
وهذا الطلب إما طلب بالعمل ومراعاة الأسباب التي اقتضتها سنته فى الخلق ودل عليها الشرع وهدى إليها العقل ، وإما بالتوجه إليه ودعائه كما ندب إلى ذلك كتابه الكريم وسنة نبيه صلى اللّه عليه وسلم ، قال تعالى « ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ » .
وبعد أن أثبت عز اسمه لنفسه كمال القدرة أثبت لها كمال السلطان والتسخير لجميع عباده والاستعلاء عليهم ، مع كمال الحكمة والعلم المحيط بخفايا الأمور ، ليرشدنا إلى أن من اتخذ الأولياء فقد ضلّ ضلالا بعيدا فقال :
(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) أي إن الرب من شأنه العزة والسلطان والعلو والكبرياء وهو الحكيم الخبير ، فلا ينبغى للمؤمن أن يتخذ وليا من عباده المقهورين تحت سلطان عزته ، المذلّلين لسنته التي اقتضتها حكمته وعلمه بتدبير الأمر فى خلقه.
وهو جلت قدرته لم يجعل من خلقه شريكا له فى التصرف ولا فى كونه يدعى معه ولا وحده لكشف ضر ولا جلب نفع كما قال تعالى « فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً » وقال : « قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا » .(7/91)
ج 7 ، ص : 92
وخلاصة المعنى - إنه تعالى هو الغالب لعباده ، العالي عليهم بتذليله لهم ، وخلقه إياهم ، فهو فوقهم بالقهر وهم دونه ، وهو الحكيم فى تدبيره ، الخبير بمصالح الأشياء ومضارها ولا تخفى عليه خوافى الأمور ولا بواديها ، ولا يقع فى تدبيره خلل ، ولا فى حكمته دخل وقد ختم سبحانه هذه الأوامر القولية المبينة لحقيقة الدين وأدلته بشهادة اللّه لرسوله وشهادة رسوله له فقال :
(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً ؟ قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) أمر اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يسأل كفار قريش : أي شىء شهادته أكبر شهادة وأعظمها ، وأجدر أن تكون أصحها وأصدقها ؟ ثم أمره بأن يجيب عن هذا السؤال بأن أكبر الأشياء شهادة هو من لا يجوز أن يقع فى شهادته كذب ولا زور ولا خطأ وذلك هو اللّه تعالى ، وهو الشهيد بينى وبينكم وقد أوحى إلىّ هذا القرآن من لدنه لأنذركم به عقابه على تكذيبى فيما جئت به مؤيدا بشهادته سبحانه ، وأنذر من بلغه هذا القرآن ، إذ كل من بلغه فهو مدعو إلى اتباعه حتى تقوم القيامة.
وشهادة اللّه بين الرسول وقومه ضربان : شهادته برسالة الرسول ، وشهادته بصدق ما جاء به ، والأول أنواع ثلاثة :
(1) إخباره بها فى كتابه بنحو قوله « مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ » وقوله : « إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً » .
(2) تأييده بالآيات الكثيرة التي من أعظمها القرآن ، فهو المعجزة الدائمة بما ثبت من عجز البشر عن الإتيان بسورة من مثله ، وبما اشتمل عليه من أخبار الغيب ووعد الرسول والمؤمنين بنصر اللّه وإظهارهم على أعدائهم.
(3) شهادة كتبه السابقة له ، وبشارة الرسل السابقين به ، ولا نزال هذه الشهادة فى كتب اليهود والنصارى.(7/92)
ج 7 ، ص : 93
والثاني ثلاثة أنواع أيضا :
(1) شهادة كتبه بذلك كقوله « شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ » .
(2) ما أقامه من الآيات فى الأنفس والآفاق مما يدل على توحيده واتصافه بصفات الكمال (3) ما أودعه جل شأنه فى الفطرة البشرية من الإيمان بإله واحد له صفات الكمال وببقاء النفس.
والخلاصة - إن شهادته تعالى هى شهادة آياته فى القرآن ، وآياته فى الأكوان ، وآياته فى العقل والوجدان ، اللذين أودعهما فى نفس الإنسان.
أخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس مرفوعا قال : « من بلغه القرآن فكأنما شافهته به » ثم قرأ : « وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ » .
وأخرج ابن المنذر وابن جرير وأبو الشيخ قال : من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم.
وأخرج أبو الشيخ عن أبيّ بن كعب قال : « أنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأسارى فقال لهم : هل دعيتم إلى الإسلام ؟ قالوا لا ، فخلّى سبيلهم ثم قرأ : - وأوحى إلىّ هذا القرآن لأنذركم به - ثم قال خلّوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من أجل أنهم لم يدعوا » .
ثم أمر سبحانه رسوله صلى اللّه عليه وسلم بالشهادة له بالوحدانية وبالبراءة من قولهم وشهادتهم بالشرك فقال :
(أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى ؟ قُلْ لا أَشْهَدُ ، قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) بدأ الجملة بالاستفهام الدال على الإنكار والاستبعاد لما تضمنته ، ثم أمر نبيه أن يجيب بأنه لا يشهد كما يشهدون ، ثم أمره بأمر آخر : بأن يشهد بنقيض ما يزعمون وبتبرأ مما يزعمون ، فيصرح بأن الإله لا يكون إلا واحدا ، ويتبرأ مما يشركون به من الأصنام والأوثان وغيرهما.(7/93)
ج 7 ، ص : 94
[سورة الأنعام (6) : الآيات 20 الى 24]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
المعنى الجملي
بين سبحانه فى الآية السابقة أن شهادة اللّه على صحة نبوة رسوله كافية فى تحققها ، وذكر هنا كذبهم فى ادعائهم أنهم لا يعرفون محمدا صلى اللّه عليه وسلم فهم يعرفون نبوته ورسالته كما يعرفون أبناءهم.
روى أن الكفار سألوا اليهود والنصارى عن صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم فأنكروا أن فى التوراة والإنجيل شيئا يدل على نبوته ، و
روى أنه لما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة قال عمر لعبد اللّه بن سلام : أنزل اللّه على نبيه هذه الآية فكيف هذه المعرفة ؟ قال يا عمر : لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني ، ولأنا أشد معرفة بمحمد منّى بابني ، لأنى لا أدرى ما صنع النساء ، وأشهد أنه حق من اللّه.
الإيضاح
(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) أي إن اليهود والنصارى يعرفون أن محمدا النبي الأمى خاتم الرسل كما يعرفون أبناءهم ، لأن نعته فى كتبهم واضح ظاهر فلا يشكون فيه على حال.
ثم بين السبب فى إنكار هؤلاء المنكرين فقال :
(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي إن علة إنكار من أنكروا نبوة(7/94)
ج 7 ، ص : 95
محمد صلى اللّه عليه وسلم من علماء اليهود كعلة من أنكروا ذلك من المشركين بعد ظهور آياتها ، بل أنكروا ما هو أظهر منها وهى وحدانية اللّه تعالى - أنهم خسروا أنفسهم فهم يؤثرون ما لهم من الجاه والمكانة والرياسة فى قومهم على الإيمان بالرسول النبي الأمى الذي يجدونه مكتوبا عندهم ، علما منهم بأنهم إذا آمنوا سلبوا الرياسة ، وجعلوا مساوين لسائر المسلمين فى سائر الأحكام والمعاملات.
وكذلك كان بعض رؤساء قريش يعزّ عليه أن يؤمن فيكون تابعا ومرءوسا ويكون مثله مثل بلال الحبشي وصهيب الرومي وغيرهما من فقراء المسلمين.
فهؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية خسروا أنفسهم لضعف إرادتهم لا لفقدان العلم والمعرفة ، لأن اللّه أخبر عنهم أنهم على علم ومعرفة.
وبعد أن ذكر أن إنكار نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم خسران للنفس - ذكر أن الافتراء على اللّه ظلم لها ، وقد خاب من افترى.
(وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي لا أحد أظلم ممن افترى على اللّه كذبا ، كمن زعم أن له ولدا أو شريكا أو أن غيره يدعى معه أو من دونه أو يتّخذ وليا له يقرّبه إليه زلفى ويشفع للناس عنده ، أو زاد فى دينه ما ليس منه ، أو من كذب بآياته المنزلة كالقرآن ، أو آياته الكونية الدالة على وحدانيته أو التي يؤيد بها رسله.
وإذا كان كل من التكذيب والكذب والافتراء قد بلغ غاية القبح وصاحبه يعدّ مفتريا ظالما ، فما حال من جمع بينهما ، فكذب على اللّه وكذب بآياته المثبتة للتوحيد والمثبتة للرسالة ؟ .
ثم بين سبحانه عاقبة الظالمين وسوء منقلبهم فقال :
(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي إن الظالمين عامة لا يفوزون فى عاقبة أمرهم يوم الحساب والجزاء بالنجاة من عذاب اللّه ولا بنعيم الجنة ، فكيف تكون عاقبة من افترى على اللّه الكذب وكذب بآياته فكان أظلم الظالمين.(7/95)
ج 7 ، ص : 96
ثم بين أن المفترين على اللّه الكذب يسألون يوم القيامة سؤال توبيخ وإنكار على ما اجترحوا فقال :
(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ؟ ) أي واذكر لهم أيها الرسول يوم نحشرهم جميعا على اختلاف درجاتهم فى ظلم أنفسهم وظلم غيرها ، ثم نقول للذين أشركوا منهم وهم أشدهم ظلما : أين الشركاء الذين كنتم تزعمون فى الدنيا أنهم أولياؤكم من دون اللّه تستعينون بهم كما يستعان به ويدعون كما يدعى ، وأنهم يقربونكم إليه زلفى ويشفعون لكم عنده ، فأين ضلوا عنكم فلا يرون معكم ؟ كما جاء فى الآية الأخرى « وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ » ثم أخبر بأنهم يوم القيامة ينكرون ذلك الشرك فقال :
(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) الفتنة هنا الشرك أي ثم لم تكن عاقبة هذا الشرك إلا أن أقسموا باللّه يوم القيامة أنهم ما كانوا مشركين.
وظاهر الآيات يدل على أنهم كانوا ينكرون فى بعض مواقف الحشر شركهم باللّه توهما منهم أن ذلك ينفعهم كما جاء فى هذه الآية ، ويعترفون به فى بعض آخر كما جاء فى قوله : « هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ » وفى قوله « وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً » .
وروى عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية وعن قوله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً) فقال : أمّا قوله (وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا تعالوا لنجحد (قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فختم اللّه على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً).
وقال الزجاج : تأويل هذه الآية حسن فى اللغة لا يعرفه إلا من وقف على معانى كلام العرب ، وذلك أنه تعالى بين كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين فى حبه ، فذكر أن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه وافتخروا به وقالوا إنه دين آبائنا لم تكن إلا الجحود والتبرؤ منه والحلف على عدم التدين به ، ومثاله أن ترى إنسانا(7/96)
ج 7 ، ص : 97
يحب شخصا مذموم الطريقة ، فإذا وقع فى محنة بسببه تبرأ منه ، فيقال له ما كانت محبتك (عاقبة محبتك) لفلان إلا أن تبرأت منه وتركته ا ه.
وعلى هذا فالفتنة هى شركهم فى الدنيا كما فسرها ابن عباس ، ويكون فى الكلام تقدير مضاف هو كلمة (عاقبة) كما قدمنا ذلك.
(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) هذا تعجب من كذبهم الصريح بإنكار صدور الإشراك عنهم فى الدنيا.
(وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي انظر كيف كذبوا باليمين الفاجرة بإنكار صدور ما صدر عنهم ؟ وكيف ذهب عنهم ما كانوا يفترونه من الإشراك حتى نفوا صدوره عنهم بتاتا وتبرءوا منه غاية البراءة ؟ .
[سورة الأنعام (6) : الآيات 25 الى 26]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26)
تفسير المفردات
الأكنة واحدها كنان كأسنة وسنان : وهو الغطاء ، والوقر (بِالْفَتْحِ) الثقل فى السمع ، والآية : العلامة الدالة على صدق الرسول ، يجادلونك : يخاصمونك وينازعونك ، والأساطير واحدها إسطارة وأسطورة : وهى الخرافات والترهات ، والنأى عنه : يشمل الإعراض عن سماعه ، والإعراض عن هدايته.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أحوال الكفار فى الآخرة وذكر ما يكون منهم من تلجلج واضطراب ، فتارة ينكرون شركهم باللّه وأخرى يعترفون به وذكر ما يواجهون به من اللوم والتقريع على الشركاء الذين اتخذوهم أولياء وشفعاء.(7/97)
ج 7 ، ص : 98
ذكر هنا ما يوجب اليأس من إيمان بعض منهم لوجود الموانع الصادّة عنه ، فمهما توالت الآيات والنذر لا تجدى معهم شيئا ، إذ الحجب كثيفة ، والأغطية سميكة ، فاختراقها عسير ، والوصول إليها فى حكم المستحيل.
قال ابن عباس : حضر عند النبي صلى اللّه عليه وسلم أبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث والحارث بن عامر وأبو جهل فى جمع كثير واستمعوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ، فقالوا للنضر يا أبا قتيلة ما يقول محمد ؟ فقال : والذي جعلها (الكعبة) بيته ما أدرى ما يقول إلا أنى أراه يحرك شفتيه ويتكلم بأساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم به عن القرون الماضية ، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى يحدّث قريشا بما يستملحونه ، قال أبو سفيان : إنى لأرى بعض ما يقول حقا ، فقال أبو جهل كلّا فأنزل اللّه الآية.
الإيضاح
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) أي ومن أولئك الكافرين فريق يستمع إليك إذا أنت تلوت القرآن داعيا إلى توحيد اللّه مبشرا منذرا.
(وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي والحال أنا قد جعلنا على قلوبهم أغطية تحول دون فقهه وفهمه ، وفى آذانهم ثقلا أو صمما يحول دون سماعه بقصد التدبر والوصول إلى ما فيه من الهداية والرشد.
وفى هذا تشبيه للحجب والموانع المعنوية بالحجب والموانع الحسية ، فالقلب الذي لا يفقه الحديث ولا يتدبره كالوعاء الذي وضع عليه الغطاء فلا يدخل فيه شىء ، والآذان التي لا تسمع الكلام سماع فهم وتدبر كالآذان المصابة بالثقل أو بالصمم ، فسمعها وعدمه سواء.
بيان هذا - أن اللّه جلت قدرته جعل التقليد الذي يختاره الإنسان لنفسه مانعا من النظر والاستدلال والبحث عن الحقائق ، فالمقلد لا يستمع إلى متكلم لمييز الحق من الباطل ، وإذا وصل إلى سمعه ما هو مخالف لما يدين به لا يتدبره ولا يراه جديرا بالموازنة بينه وبين ما عنده من عقيدة أو رأى ليختار أقربهما إلى الصحة وأجدرهما(7/98)
ج 7 ، ص : 99
بالصدق وأكثرهما هداية ورشادا وأبعثهما إلى اطمئنان النفس الموصل لها إلى السعادة فى الدنيا والآخرة.
(وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أي وإن يروا كل آية من الآيات الدالة على صحة نبوتك وصدق دعوتك لا يؤمنوا بها ، إذ هم لا يفقهونها ولا يدركون المراد منها لوقوف أسماعهم عند ظواهر الألفاظ فحظهم كحظ الصّمّ من سماع أصوات البشر.
(حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي حتى إذا جاءوك مجادلين لك فى دعوتك قالوا : ما هذا إلا أساطير الأولين وخرافاتهم.
ذاك أنهم لم يعقلوا مما فى القرآن من أنباء الغيب إلا أنها حكايات وخرافات تسطّر وتكتب كغيرها من الأنباء والخرافات ، فلا علم فيها ولا فائدة منها ، وهذه حال من يسمع جرس الكلام ولا يتدبره ولا يفقه أسراره ، أو من ينظر إلى الشيء نظرة جملية لا يستنبط منها علما ، ولا يستفيد منها عقيدة ولا رأيا ، وما مثلهما إلا مثل من يشاهد ألعاب الصور المتحركة (السينما) مفسرة بلغة هو لا يعرفها ، فكل همه مما يرى من المناظر والكتابة لا يعدو التسلية وشغل الوقت.
فلو عقل هؤلاء قصص القرآن وتدبروا معانيها لكان لهم من ذلك آيات بينات تدل على صدق الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وعبر ومواعط ونذر تبين سنن اللّه فى خلقه مع الأقوام الذين كذبوا الرسل وكان عاقبة أمرهم الدمار والنكال.
ثم بين أن أمرهم لم يقتصر على حد الضلال ، بل تعدوه إلى الإضلال وساروا فيه قدما فقال :
(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) أي وأولئك المشركون المعاندون للنبى الجاحدون لنبوته ، لا يقنعون بتكذيبهم له وعدّه حديث خرافة ، بل ينهون الناس عن استماعه ، لئلا يقفوا على حقيقته فيؤمنوا به ، ويتباعدون عنه بأنفسهم إظهارا لا شمئزازهم ونفورهم منه فيكونون ناهين منتهين.
ثم ذكر أن عاقبة ذلك الوبال والنكال لهم فقال :(7/99)
ج 7 ، ص : 100
(وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) أي وما يهلكون إلا أنفسهم بتعريضها لأشد العذاب وأفظعه وهو عذاب الضلال والإضلال ، وما يشعرون بذلك بل يظنون أنهم يبغون الغوائل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
وهذا من معجزات القرآن وإخباره بالغيب فقد هلك جميع الذين أصرّوا على عداوته صلى اللّه عليه وسلم ، بعضهم فى نقم خاصة ، وبعضهم فى وقعة بدر وغيرها من الغزوات.
ويتبع هذا الهلاك الدنيوي هلاك الآخرة ، واللفظ يشملهما معا.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 27 الى 29]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
تفسير المفردات
يقال وقف الرجل على الأرض وقوفا ، ووقف على الشيء : عرفه وتبينه ، ووقف نفسه على كذا وقفا حبسها كوقف العقار على الفقراء.
المعنى الجملي
بين اللّه فى الآية السابقة حال طائفة من المشركين تلقى السمع مصغية للقرآن لكن لا يدخل القلب شىء مما تسمع ، لما عليه من أكنة التقليد ، والاستنكار لكل شىء جديد ، فهم يستمعون ولا يسمعون وبين فى هاتين الآيتين بعض ما يكون من أمرهم يوم القيامة وتمنيهم العودة إلى الدنيا ليعملوا صالح العمل ويكونوا من المؤمنين حقا ثم كذبهم فيما يقولون وأنهم لو ردوا لعادوا لما كانوا فيه لفقد استعدادهم للإيمان ، وأن حالهم بلغ مبلغا لا يؤثّر فيه كشف الغطاء ورؤية الفزع والأهوال.(7/100)
ج 7 ، ص : 101
الإيضاح
(وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) أي ولو ترى أيها السامع ما يحل بأولئك المكذبين من الفزع والهول حين تقفهم ملائكة العذاب على النار مشرفين عليها من أرض الموقف ، وندمهم على كفرهم وحسرتهم على ما فرط منهم فى جنب اللّه وتمنيهم ما لا سبيل للحصول عليه - لرأيت ما لا يحيط به الوصف ولا يقدر على التعبير عنه اللسان ، ولا يبلغ تصويره البيان ، ولو أوتى المتكلم بلاغة سحبان.
ثم ذكر ما يحدث منهم حينئذ فقال :
(فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي يقول هؤلاء المشركون بربهم إذا حبسوا على النار : ليتنا نرد إلى الدنيا حتى نتوب ونعمل صالحا ولا نكذب بآيات اللّه وحججه التي نصبها دلالة على وحدانيته وصدق رسله ، بل نكون من المصدقين به وبرسله ومن المتبعين لأمره ونهيه.
والخلاصة - إنهم حين عاينوا الشدائد والأهوال بسبب تقصيرهم تمنّوا الردّ إلى الدنيا ليسعوا فى إزالة ذلك التقصير ويتركوا التّكذيب بالآيات ويعملوا صالح العمل.
وتمنى هذا الرد إلى الدنيا بناء على جهلهم بأنه محال ، أو أنهم مع علمهم باستحالته لا مانع من تمنيه على سبيل التحسر ، لأنه يصح أن يتمنى ما لا يكون.
ثم بين أن هذا التمني لم يكن لتغير حالهم ، بل لأنه بدا لهم ما كان خفيا عنهم فقال :
(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) أي بدا لهم سوء عاقبة ما كانوا يخفونه من الكفر والسيئات ونزل بهم عقابه فتبرموا وتضجروا وتمنّوا الخلاص منه بالرد إلى الدنيا وترك ما أفضى إليه من التكذيب بالآيات وعدم الإيمان ، كما يتمنى الموت من أنهكه المرض وأضناه الداء العضال لأنه ينقذه من الآلام لا لأنه محبوب فى نفسه ولا مرجوّ لذاته.
بيان هذا أنه إذا جاء ذلك اليوم الذي تبلى فيه السرائر وتنكشف جميع الحقائق ، وتشهد على الناس الأعضاء والجوارح ، وتتمثل لكل فرد أعماله النفسية والبدنية(7/101)
ج 7 ، ص : 102
فى كتابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها كما تتمثل الوقائع مصوّرة فى آلة الصور المتحركة (فلم السينما) :
فكل أحد يظهر له فى الآخرة ما كان خافيا عليه من خير فى نفسه وشر « يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ » أي فهى لا تخفى على أنفسكم فضلا عن خفائها على ربكم.
والخلاصة - إنه تعالى بين لنا أن تمنى أولئك الكفار لما تمنّوا لا يدل على تبدل حقيقتهم ، بل بدا لهم ما كان خافيا عليهم من أحوالهم بإخفائهم إياه على الناس أو عليهم « وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ » فتمنوا الخروج مما حاق بهم ، ولكن الحقيقة لا تتغير ، وإنما يكون للنفوس أطوار وأحوال.
ثم بين أنهم كاذبون فى هذا الندم فقال :
(وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الكفر والنفاق والكيد والمكر والمعاصي فإن ذلك من أنفسهم ، ثابت فيها لخبث طينتهم وسوء استعدادهم ، ومن ثم لا ينفعهم مشاهدة ما شاهدوا ولا سوء ما رأوا.
(وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما تضمنه تمنيهم من الوعد بترك التكذيب بآيات اللّه ، وبالكون من المؤمنين باللّه ورسوله ، فلو ردوا إلى الدنيا لرد المعاند المستكبر منهم مشتملا بكبره وعناده ، والمنافق مرتدا بمكره ونفاقه ، والشهواني ملوّثا بشهواته القابضة على زمامه.
وأما ما ظهر لهم إذ وقفوا على النار من حقيقة ما جاء به الرسول ، فما مثله إلا مثل ما يلوح لهم فى الدنيا من الآيات والعبر ، فهم يكابرون فيها أنفسهم ، ويغالطون عقولهم ووجداناتهم.
ألا ترى شارب الخمر والمقامر يريان ما حل بغيرهما من الشقاء فيظهران الندم على ما فرط منهما ويتوبان ويعزمان على ألا يعودا إلى مثل ما عملا ، ثم لا يلبثان أن يرجعا سيرتهما الأولى خضوعا لما اعتادا وألفا ، وترجيحا للذة العاجلة على المنفعة الآجلة.(7/102)
ج 7 ، ص : 103
ومن هذا يستبين لك أن الطريقة المثلى لتعويد الناس الفضيلة ، هى حملهم عليها بالعمل والمران وحسن التلقين والتعليم كما يمرّن الأطفال الصغر والرجال على أعمال الجندية ، ولا ينبغى أن يسمح للأحداث بإطاعة شهواتهم واتباع أهوائهم ، ظنا أن هذا يعوّدهم الحرية والاستقلال فيهديهم ذلك إلى الحق والفضيلة ، إذ قلما يوجد من يتبع شهواته فى الصغر ثم يعدل عن ذلك فى الكبر بعد أن يصير طبيعة وعادة.
فما مثل تربية الأطفال على الآداب والفضائل إلا مثل تربيتهم على النظافة ومراعاة القوانين الصحية فإنا نعوّدهم ذلك فى الصغر ثم هم يعرفون فوائد ذلك فى الكبر.
(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) أي لو ردوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما نهوا عنه من الكفر وسيء الأعمال ، ولأنكروا البعث والحساب والجزاء ، وقالوا لا ثواب ولا عقاب فى الدار الآخرة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 30 الى 32]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32)
تفسير المفردات
الساعة فى اللغة : الزمن القصير المعين ، ثم أطلق على الوقت الذي ينقضى به أجل هذه الحياة ويخرب العالم وما يتبع ذلك من البعث والحساب ، سمى بذلك لسرعة(7/103)
ج 7 ، ص : 104
الحساب فيه كأنه ساعة ، وبغتة : فجأة ، يقال بغته إذا هجم عليه من غير شعور ، والحسرة الغم على ما فات والندم عليه كأنّ المتحسر قد انحسر وانكشف عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكب ، والتفريط : التقصير ممن قدر على الجد والتشمير ، من الفرط وهو السبق ومنه الفارط والفرط وهو الذي يسبق المسافرين لإعداد الماء لهم ، والأوزار جمع وزر (بالكسر) وهو الحمل الثقيل ، ووزره (بزنة وعده) حمله على ظهره ثم أطلق فى الدين على الإثم والذنب كأنه لثقله على صاحبه كالحمل الذي يثقل الظهر ، واللعب :
الفعل الذي لا يقصد به فاعله مقصدا صحيحا من تحصيل منفعة أو دفع مضرة كأفعال الصبيان التي يتلذذون بها ، واللهو : ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه ، وقد يسمى كل ما به استمتاع لهوا ، ويقال لهوت بالشيء ألهو به لهوا وتلهيت به إذا تشاغلت وغفلت به عن غيره.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فى الآيات السالفة إنكارهم فى الدنيا للبعث والجزاء - بين هنا حالهم فى الآخرة يوم يكشف عنهم الغطاء ، فيتحسرون ويندمون على تفريطهم السابق وغرورهم بذلك المتاع الزائل ، ثم أردفه ذكر حقيقة الدنيا مقابلا بينها وبين الآخرة وموازنا بين حاليهما لدى المتقين والغاصين.
الإيضاح
(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) أي ولو ترى هؤلاء الضالين المكذبين حين تقفهم الملائكة فى الموقف الذي يحاسبهم فيه ربهم ، ويمسكونهم إلى أن يحكم اللّه فيهم بما يشاء - لهالك أمرهم واستبشعت منظرهم ورأيت ما لا يحيط به وصف.
وجعلهم موقوفين على ربهم لأن من تقفهم الملائكة وتحبسهم فى موقف الحساب امتثالا لأمر اللّه فيهم كما قال : « وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ » يكون أمرهم مقصورا عليه لا يتصرف فيهم غيره : « يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ » .(7/104)
ج 7 ، ص : 105
(قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ) أي حينئذ يقول لهم ربهم : أليس هذا الذي أنتم فيه من البعث هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب ؟ لا باطل كما كنتم تزعمون.
(قالُوا بَلى وَرَبِّنا) أي قالوا بلى هو حق لا يحوم حوله الباطل ، وقد أكدوا اعترافهم باليمين فشهدوا بذلك على أنفسهم أنهم كانوا كافرين.
(قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) عبر بالذوق عن ألم العذاب للإشارة إلى أنهم يجدونه وجدان الذائق فى قوة الإحساس به أي إذا كان الأمر كما اعترفتم فذوقوا العذاب الذي كنتم به تكذبون بسبب كفركم الذي دأبتم عليه واتخذتموه شعارا لكم لا تتركونه.
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ) أي قد خسر أولئك الكفار الذين كذبوا بما وعد اللّه به - كل ما ربحه وفاز به المؤمنون من ثمرات الإيمان فى الدنيا كرضا اللّه وشكره حين النعمة ، والصبر والعزاء وقت المصيبة ، ومن ثمرات الإيمان فى الآخرة من الحساب اليسير والثواب العظيم ، والرضوان الأكبر والنعيم المقيم ، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وما سبب هذا إلا أن إنكار البعث والجزاء يفسد الفطرة البشرية ويفضى إلى الشرور والآثام ، فإن الاعتقاد بأن لا حياة بعد هذه الحياة يجعل همّ الكافرين محصورا فى الاستمتاع بلذات الدنيا وشهواتها البدنية والنفسية كالجاه والرياسة والعلو فى الأرض ولو بالباطل ، ومن كانوا كذلك كانوا شرا من الشياطين يكيد بعضهم لبعض ويفترس بعضهم بعضا لا يصدهم عن الشر إلا العجز ولا تحكم بينهم إلا القوة.
وشاهدنا على ذلك أن أرقى أهل الأرض فى الحضارة والعلوم والفلسفة هم الذين يقوّضون صروح المدنية بمدافعهم ودباباتهم وطياراتهم وبكل ما أوتوا من فن واختراع ، ويهلكون الحرث والنسل ويخرّبون العامر من المدن ودور الصناعات بمنتهى القسوة والشدة ، ويهلكون ملايين الأنفس ما بين قتيل وجريح دون أن تستشعر قلوبهم(7/105)
ج 7 ، ص : 106
عاطفة رحمة ولا رأفة ، ولو كانوا يؤمنون باللّه واليوم الآخر وما فيه من الحساب والجزاء لما انتهوا فى الطغيان إلى هذا الحد الذي نراه الآن.
(حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أي كذبوا إلى أن جاءتهم الساعة مباغتة مفاجئة « يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ » وقد ورد فى الكتاب والسنة أن اللّه تعالى أخفى علمها على كل أحد حتى الرسل والملائكة.
(قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) أي قد خسر الذين كذبوا بلقاء اللّه وأصرّوا على هذا التكذيب حتى إذا جاءتهم منيّتهم وهى بالنسبة إليهم مبدأ الساعة ومقدمات القيامة ، مفاجئة لهم من حيث لم يكونوا ينظرونها ولا يعدّون العدّة لمجيئها ، قالوا يا حسرتنا على تفريطنا فى الحياة الدنيا التي كنا نزعم أن لا حياة بعدها.
(وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) أي وهم يحملون ذنوبهم وخطاياهم كما روى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما.
وفى ذلك إيماء إلى أن عذابهم ليس مقصورا على الحسرة على ما فات وزال ، بل يقاسون مع ذلك تحمل الأوزار الثقال ، وإشارة إلى أن تلك الحسرة من الشدة والهول بحيث لا تزول ولا تنسى بما يكابدونه من صنوف العقوبات.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدى أن الأعمال القبيحة تتمثل بصورة رجل قبيح يحمله صاحبها يوم القيامة والصالحة بصورة رجل حسن يحمله صاحبها يوم القيامة.
والخلاصة - إنهم ينادون الحسرة التي أحاطت بهم أسبابها وهم فى أسوإ حال بما يحملون من أوزارهم على ظهورهم.
وقد بين اللّه تعالى سوء تلك الحال التي تلابسهم حينما يلهجون بذلك المقال فقال :
(أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي ما أسوأ تلك الأثقال التي يحملونها يوم القيامة على ظهورهم.(7/106)
ج 7 ، ص : 107
(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي وما هذه الحياة الدنيا التي قال الكفار إنه لا حياة غيرها إلا لهو ولعب ، فهى دائرة بين عمل لا يفيد فى العاقبة كلعب الأطفال ، وعمل له فائدة عاجلة سلبية كفائدة اللهو وهو دفع الهموم والآلام ، ومن ثم قال بعض الحكماء : إن جميع لذات الدنيا سلبية إذ هى إزالة للآلام ، فلذة الطعام فى إزالة ألم الجوع ، وبقدر هذا الألم تعظم اللذة فى إزالته ، ولذة شرب الماء هى إزالة العطش وهكذا.
وفى الآية وجه آخر ، وهو أن متاع هذه الدنيا متاع قليل ، قصير الأجل لا ينبغى أن يغتر به العاقل ، فما هو إلا كلعب الأطفال قصير المدة ، فإن الطفل سريع الملل لكل ما يقدّم إليه من أصناف اللعب ، أو أن زمن الطفولة قصير كله غفلة ، أو كلهو المهموم فى قصر مدته ، على كونه غير مقصود لذاته.
(وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الكفر والمعاصي ، لخلو لذاتها من المضار والآلام وسلامتها من التقضي والانصرام ، من هذه الدار للمشركين المنكرين للبعث الذين لا حظ لهم من حياتهم إلا التمتع الذي هو من قبيل اللعب فى قصر مدته وعدم فائدته ، أو من قبيل اللهو فى كونه دفعا لألم الهم والكدر.
والخلاصة - إن نعيم الآخرة خير من نصيم الدنيا ، فالبدنى منه أعلى وأكمل من نعيم الدنيا فى ذاته وفى دوامه وثباته وفى كونه إيجابيا لا سلبيا ، وفى كونه غير مشوب ولا منغّص بشىء من الآلام ، وفى كونه لا يعقبه ثقل ولا مرض ولا إزالة أقذار ، والروحاني منه كلقاء اللّه ورضوانه وكمال معرفته يجلّ عنه الوصف والتحديد ولا شبيه له فى نعيم الدنيا.
(أَ فَلا تَعْقِلُونَ) أي أ تغفلون عن هذا فلا تعقلون أن الحياة الدنيا لعب ولهو وأنتم ترون من يموت ، ومن تنوبه النوائب ، وتفجعه الفواجع ؟ ففى ذلك مزدجر عن الركون إليها ، واستعباد النفوس لها ، ودليل على أن لها مدبرا يلزم الخلق عبادته وعدم إشراك غيره معه فى ذلك التدبير والنظام وإخلاص العبادة والطاعة له.(7/107)
ج 7 ، ص : 108
[سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 35]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35)
تفسير المفردات
الحزن : ألم يحلّ بالنفس عند فقد محبوب ، أو امتناع مرغوب ، أو حدوث مكروه ولا سبيل لعلاجه إلا التسلي والتأسى كما قالت الخنساء :
ولو لا كثرة الباكين حولى على إخوانهم لقتلت نفسى
وما يبكون مثل أخى ولكن أسلّى النفس عنه بالتأسى
وكذّبه : رماه بالكذب ، والجحود والجحد : نفى ما فى القلب إثباته أو إثبات ما فى القلب نفيه ، ويقال جحده حقه وبحقه ، وكلمات اللّه : هى وعده ووعيده ، ومن ذلك وعده للرسل بالنصر ووعيده لأعدائهم بالغلب والخذلان كقوله : « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » وقوله : « وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ » والنبأ : الخبر ذو الشأن العظيم ، وكبر على فلان الأمر أي عظم عنده وشق عليه وقعه ، والإعراض : التولي والانصراف عن الشيء رغبة عنه أو احتقارا له ، واستطعت الشيء : صار فى طوعك منقادا لك باستيفاء الأسباب التي تمكنك من فعله ، والابتغاء : طلب ما فى طلبه كلفة ومشقة من البغي وهو تجاوز الحد(7/108)
ج 7 ، ص : 109
ويكون فى الخير كابتغاء رضوان اللّه وهو غاية الكمال ، وفى الشر كابتغاء الفتنة وهو غاية الضلال ، والنفق : السرب فى الأرض ، وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج ، والسلم : المرقاة من السلامة ، لأنه الذي يسلمك إلى مصعدك ، وتذكيره أفصح من تأنيثه ، والآية : المعجزة ، والجهل هنا : ضد العلم ، وليس كل جهل عيبا ، لأن المخلوق لا يحيط بكل شىء علما ، وإنما يذم الإنسان بجهل ما يجب عليه علمه ، ثم بجهل ما ينبغى له ويعدّ كمالا فى حقه إذا لم يكن معذورا فى جهله.
المعنى الجملي
نزلت هذه السورة فى دعوة مشركى مكة إلى الإسلام ومحاجتهم فى التوحيد والنبوة والبعث ، وكثر فيها حكاية أقوالهم بلفظ (وَقالُوا - وَقالُوا) نحو : « وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ - وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا » إلى نحو ذلك - وتلقين الرسول صلى اللّه عليه وسلم الرد عليهم مع إقامة الحجة والبرهان بلفظ (قُلْ - قُلْ) نحو :
«
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ - قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » .
بعد هذا الحجاج كله ذكر فى هذه الآيات تأثير كفرهم فى نفس النبي صلى اللّه عليه وسلم وحزنه مما يقولون فى نبوته وما يراه منهم من الإعراض عن دعوته ، وسلاه على ذلك ببيان سنته سبحانه فى الرسل مع أقوامهم وأن كثيرا منهم كذبوا فصبروا حتى جاءهم النصر المبين ، وخذل اللّه أعداءهم الكافرين.
روى ابن جرير عن السدّى أن الأخنس بن شريق وأبا جهل التقيا ، فقال الأخنس لأبى جهل : يا أبا الحكم أخبرنى عن محمد : أ صادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيرى ، قال أبو جهل : واللّه إن محمدا لصادق وما كذب قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصىّ باللواء والسقاية والحجابة والنّدوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش ؟ فأنزل اللّه هذه الآية.(7/109)
ج 7 ، ص : 110
الإيضاح
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) القول الذي يحزنه منهم هو ما كانوا يقولونه فيه وفى دعوته ونبوته من تكذيب وطعن وتنفير للعرب منه.
قال ابن كثير : يقول تعالى مسليا لنبيه صلى اللّه عليه وسلم فى تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه قد أحطنا علما بتكذيبهم لك وحزنك وأسفك عليهم كما جاء فى قوله :
« فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ » ووفى قوله « فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً » .
ثم بين أن هذا التكذيب منشؤه العناد والجحود لإخفاء الدليل فقال :
(فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) أي لا يتهمونك بالكذب فى نفس الأمر ، ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدودهم.
روى سفيان الثوري عن على قال : قال أبو جهل للنبى صلى اللّه عليه وسلم :
إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به ، فأنزل اللّه (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ).
وروى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد المدني أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لقى أبا جهل فصافحه ، فقال له رجل : ألا أراك تصافح هذا الصابئ ؟ فقال واللّه إنى لأعلم إنه لنبى ، ولكن متى كنا لبنى عبد مناف تبعا ؟ وتلا أبو يزيد : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ).
والخلاصة - إنهم لا ينسبون النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى افتراء الكذب ، ولا يجدونه كاذبا فى خبر يخبر به بأن يتبين أنه غير مطابق للواقع ، وإنما يدّعون أنّ ما جاء به من أخبار الغيب التي من أهمها البعث والجزاء كذب غير مطابق للواقع ، ولا يقتضى ذلك أن يكون هو الذي افتراه ، فإن التكذيب قد يكون للكلام دون المتكلم الناقل له.
وذكر الرازي فى نفى التكذيب مع إثبات الجحود أربعة أوجه :(7/110)
ج 7 ، ص : 111
(1) إنهم ما كانوا يكذبونه فى السر ولكنهم كانوا يكذبونه فى العلانية ويجحدون القرآن والنبوة.
(2) إنهم لا يقولون له إنك كذاب ، لأنهم جرّبوه الدهر الطويل فلم يكذب فيه قط ، ولكنهم جحدوا صحة النبوة والرسالة واعتقدوا أنه تخيّل أنه نبى وصدّق ما تخيله فدعا إليه.
(3) إنهم لما أصروا على التكذيب مع ظهور المعجزات القاهرة وفق دعواه كان تكذيبهم تكذيبا لآيات اللّه المؤيدة له أو تكذيبا له سبحانه فكأن اللّه قال له :
إن القوم ما كذبوك ولكن كذبونى ، وذلك أن تكذيب الرسول كتكذيب المرسل المصدق له بتأييده على حد : « إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ » :
(4) إن المراد أنهم لا يخصونك بالتكذيب ، بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا ويقولون فى كل معجزة إنها سحر ، فكأنّ الخلاصة إنهم لا يكذبونك على التعيين ولكن يكذبون جميع الأنبياء والرسل.
ثم لفت نظر رسوله لأن يقتدى بالرسل قبله فى الصبر على التكذيب فقال :
(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) أي إن الرسل الذين أرسلوا قبلك ، قد كذبتهم أقوامهم فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم لهم إلى أن نصر اللّه الرسل بالانتقام من أعدائهم المكذبين لهم.
ونظير هذه الآية قوله : « وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ » .
وقوله : « وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ... » الآية.
وفى الآية تسلية للرسول صلى اللّه عليه وسلم بعد تسلية ، وإرشاد له إلى سننه تعالى فى الرسل والأمم ، وقد صرح بوجوب الصبر على هذا الإيذاء فى قوله : « فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ » وقوله : « وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا » .
وقد دلت التجارب على أن التأسى يهوّن المصاب ويفيد شيئا من السلوى ، ومن(7/111)
ج 7 ، ص : 112
هذا تعلم حكمة تكرار التسلية بأمثال هذه الآية مع الأمر بالصبر المرة بعد المرة ، لأن الحزن والأسف اللذين كانا يعرضان له صلى اللّه عليه وسلم من شأنهما أن يتكررا بتكرر سببهما وبتذكره.
وفى الآية بشارة للرسول صلى اللّه عليه وسلم مؤكدة للتسلية بأن اللّه سينصره على المكذبين الظالمين من قومه ، وعلى كل من يكذبه ويؤذيه من أمة الدعوة ، كما أن فيها إيماء إلى حسن عاقبة الصبر ، فمن كان أصبر كان حقيقا بالنصر إذا تساوت بين الخصمين وسائل الغلب والقهر.
ثم أكد هذا النصر بقوله :
(وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ) أي إن ذلك النصر قد سبقت به كلمة اللّه ، فى مثل قوله « وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ » وكلمات اللّه لا يمكن أن يبدّلها مبدّل ، فنصر الرسل حتم لا بد منه. والتبديل جعل شىء بدلا من شىء آخر. وتبديل الكلمات والأقوال نوعان :
(1) تبديل ذاتها بجعل قول مكان قول وكلمة مكان أخرى ، ومن هذا قوله تعالى :
« فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ » .
(2) تبديل مدلولها ومضمونها كمنع نفاذ الوعد والوعيد أو وقوعه على خلاف القول الذي سبق.
ثم أكد سبحانه عدم التبديل بقوله :
(وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) أي ولقد جاءك ذلك الذي أشير إليه من خبر التكذيب والصبر والنصر من نبأ المرسلين الذي قصصناه عليك من قبل فقد روى أن سورة الأنعام نزلت بين سور الشعراء والنمل والقصص وهود والحجر المشتملة على نبأ المرسلين بالتفصيل.
وكما وعد اللّه رسله بالنصر وعد المؤمنين به نحو قوله : « إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ » وفى قولهَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ »
.(7/112)
ج 7 ، ص : 113
فما بالنا نرى كثيرا ممن يدّعون الإيمان فى هذا الزمان غير منصورين ، فلا بد إذا من أن يكونوا فى إيمانهم غير صادقين ، ولأهوائهم متبعين ، ولسنته فى أسباب النصر جاهلين ، فاللّه لا يخلف وعده ولا يبطل سننه ، بل ينصر المؤمن الصادق الذي يتحرّى الحق والعدل فى حربه لا الظالم الباغي من خلقه ، والذي يقصد إعلاء كلمة اللّه ونصر دينه كما جاء فى قوله : « وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ » وقوله « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ » .
(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) من الآيات التي اقترحوها عليك ليؤمنوا فأتهم بها.
ذاك أنهم كانوا يقترحون الآيات على النبي صلى اللّه عليه وسلم وكان يتمنى لو آتاه اللّه بعض ما طلبوا حرصا على هدايتهم ، وأسفا وحزنا على إصرارهم على غوايتهم ، لكن اللّه يعلم أن أولئك المقترحين الجاحدين لا يؤمنون وإن رأوا من الآيات ما يطلبون وفوق ما يطلبون.
والخلاصة - وإن كان إتيانك بآية مما اقترحوا يدحض حجتهم ويكشف شبهتهم فيؤمنون عن بينة وبرهان ، فإن استطعت أن تبتغى لنفسك نفقا تطلبه فى الأرض فتذهب فى أعماقها ، أو سلما فى جو السماء ترقى فيه إلى ما فوقها ، فتأتيهم بآية مما اقترحوا عليك فأت بما يدخل طوع قدرتك من ذلك ، كتفجير ينبوع لهم من الأرض أو تنزيل كتاب تحمله من السماء وقد كانوا طلبوا ذلك كما حكى اللّه عنهم بقوله : « وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً - إلى قوله - أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ » وقد أمره اللّه أن يجيبهم عن ذلك بقوله عقب هذا : « قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا ؟ » أي وليس ذلك فى قدرة البشر وإن كان رسولا فالرسل لا يقدرون على شىء مما يعجز عنه البشر ولا يستطيع إيجاده غير الخالق.
وخلاصة ذلك - إنك لن تستطيع الإتيان بشىء من تلك الآيات ولا ابتغاء(7/113)
ج 7 ، ص : 114
السبل إليها فى الأرض ولا فى السماء ، ولا اقتضت مشيئة ربك أن يؤتيك ذلك ، لعلمه أنه لن يكون سببا لما تحبه من هدايتهم ثم أكد عدم إيمانهم فقال :
(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ) أي ولو شاء اللّه تعالى جمعهم على ما جئت به من الهدى لجمعهم عليه إما بأن يجعل الإيمان ضروريا لهم كالملائكة ، وإما بأن يخلقهم على استعداد واحد للحق والخير لا متفاوتى الاستعداد مختلفى الاختيار باختلاف العلوم والأفكار والأخلاق والعادات ، ولكنه شاء أن يجعلهم على ما هم عليه من الاختلاف والتفاوت وما يترتب على ذلك من أسباب الاختيار.
(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي إذا عرفت سننه تعالى فى خلق الإنسان وأنه لا تبديل لخلق اللّه ، فلا تكونن من الجاهلين لسننه فى ذلك ، فتتمنى ما تراه حسنا نافعا وإن كان حصوله ممتنعا لكونه مخالفا لتلك السنن التي اقتضتها الحكمة الإلهية.
وخلاصة ذلك - لا تكونن بالحرص على إسلامهم والميل إلى الإتيان بمقترحاتهم من الجاهلين بدقائق شئونه تعالى فى خلقه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 36 الى 37]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37)
تفسير المفردات
أجاب الدعوة : إذا أتى مادعى إليه من قول أو عمل ، وأجاب الداعي واستجاب له واستجاب دعاءه : إذا لبّاه وقام بما دعاه إليه.
والقرآن الكريم استعمل أفعال الإجابة فى المواضع التي تدل على حصول المسئول(7/114)
ج 7 ، ص : 115
كله بالفعل دفعة واحدة ، واستعمل أفعال الاستجابة فى المواضع المفيدة لحصول المسئول بالتهيؤ والاستعداد كقوله : « الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ » إذ الآية نزلت فى وقعة حمراء الأسد بعد وقعة أحد فالمرد أنهم تهيئوا للقتال ، أو المفيدة للدلالة على حدوث الفعل بالتدريج كاستجابة دعوة الدين التي تبدأ بالنطق بالشهادتين ثم بباقي أعماله بالتدريج.
والاستجابة من اللّه يعبر بها فى الأمور التي تقع فى المستقبل ويكون من شأنها أن تقع بالتدريج كاستجابة الدعاء بالوقاية من النار بالمغفرة وتكفير السيئات وإيتاء ما وعد به المؤمنين فى الآخرة كما قال « فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ » الآية.
والسمع والسماع : يطلق على إدراك الصوت ، وعلى فهم ما يسمع من الكلام وهو ثمرة السمع ، وعلى قبول ما يفهم والعمل به وهذا ثمرة الثمرة ، والمراد بالموتى هنا :
الكفار الراسخون فى الكفر المطبوع على قلوبهم الميئوس من سماعهم سماع تدبر تتبعه الاستجابة للداعى. والبعث : لغة إنارة الشيء وتوجيهه يقال بعثت البعير أي أثرته من مبركه وسيّرته إلى المرعى ونحوه ، ولو لا : كلمة تفيد الحث على حصول ما بعدها ، والآية لمعجزة المخالفة لسنن اللّه فى خلقه.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه فى الآية السابقة أنه لو شاء لجمع الناس على الهدى ، ولكنه لم يشأ أن يجعل البشر مفطورين على ذلك ، ولا أن يلجئهم إلجاء بالآيات التي تقسرهم على ذلك ، بل اقتضت حكمته أن يكون البشر متفاوتين فى الاستعداد مختارين فى تصرفاتهم وأعمالهم ، ومنهم من يختار الهدى على الضلال ، ومنهم من يستجب العمى على الهدى.
ذكر هنا أن الأولين هم الذين ينظرون فى الآيات ويفقهون ما يسمعون من الحجج والبينات ، وأن الآخرين لا يفقهون ولا يسمعون ، فهم والأموات سواء.(7/115)
ج 7 ، ص : 116
الإيضاح
(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) أي إنما يستجيب للّه ولرسوله الذين يسمعون كلام اللّه سماع فهم وتدبر فيعقلون الآيات ويذعنون لما عرفوا بها من الحق ، لسلامة فطرتهم وصفاء نفوسهم وطهارة قلوبهم ، دون الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون كالمقلدين الذين لا يفكرون فى الأشياء بعقولهم ، ودون الذين قالوا سمعنا وعصينا من المستكبرين الجاحدين ، فهؤلاء وهؤلاء من موتى القلوب وأبعد الناس عن الانتفاع بما يسمعون.
(وَ الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أي والذين لا ترجى استجابتهم لأنهم كالموتى لا يسمعون السماع النافع ، يترك أمرهم إلى اللّه فهو الذي يبعثهم بعد موتهم ، ويرسلهم إلى موقف الحساب فينالون ما يستحقون على كفرهم وسىء أعمالهم ، فلا تبخع نفسك عليهم حسرات ، إذ ليس فى استطاعتك هدايتهم ولا إرجاعهم إلى محجة الرشاد.
ثم ذكر شيئا من عنادهم الدال على عظيم جحودهم فقال :
(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي وقال الظالمون لأنفسهم الذين يجحدون بآيات ربهم ويعاندون رسوله إليهم : هلا أنزل عليه آية من ربه من الآيات التي اقترحناها عليه وجعلناها شرطا لإيماننا به.
(قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي قل لهم أيها الرسول إن اللّه تعالى قادر على تنزيل آية مما اقترحوا إذا اقتضت الحكمة تنزيلها ، لا ما تتعلق شهواتهم بتعجيز الرسول بطلبها ، فقد مضت سنة اللّه بأن إجابة المعاندين إلى ما اقترحوا لم تكن سببا للهداية فى أمة من الأمم ، بل كانت سببا فى عقاب المعاجزين للرسل بعذاب الاستئصال ، وتنزيل الآية لا يكون خيرا لهم بل هو شر لهم ولكن أكثرهم لا يعلمون شيئا من حكم اللّه تعالى فى أفعاله ولا من سنته فى خلقه.
والخلاصة - إن طلبهم للآية أو الآيات مع وجود هذه الآيات البينات إنما هو محاولة تعجيز الرسول لا أنه هو الدليل الذي يوصلهم إلى صدقه.(7/116)
ج 7 ، ص : 117
يرشد إلى ذلك قوله تعالى : « وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ » وقوله : « وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ » .
[سورة الأنعام (6) : الآيات 38 الى 39]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
تفسير المفردات
الدابة : كل ما يدب على الأرض من الحيوان ، والدبّ والذبيب المشي الخفيف والطائر : كل ذى جناح يسبح فى الهواء وجمعه طير كراكب وركب ، والأمم واحدها أمة : وهى كل جماعة يجمعهم أمر كدين واحد أو زمان واحد أو مكان واحد أو صفات وأفعال واحدة ، والتفريط فى الأمر التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت ، يقال فرّطه وفرّط فيه ، والكتاب هنا : هو اللوح المحفوظ. وقيل القرآن ، والحشر : الجمع والسّوق :
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه فيما سلف أنه قادر أن ينزل الآيات إذا رأى من الحكمة والمصلحة إنزالها ، ولا ينزلها للتشهى والهوى كما يراه المقترحون من أولئك الضالين المكذبين - ذكر ما هو كالدليل على ذلك ، فأرشد إلى عموم قدرته تعالى وشمول علمه وتدبيره ، وأن كل ما يدب على وجه الأرض أو يطير فى الهواء فهو مشمول بفضله ورحمته ، فلو كان فى إظهار هذه المعجزات مصلحة للمكلفين لفعلها ، ولا متنع أن يبخل بها ، إذ أنكم ترون أنه لم يبخل على شىء من الحيوان بمنافعها ومصالحها.(7/117)
ج 7 ، ص : 118
الإيضاح
(وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أي لا يوجد نوع من أنواع الأحياء التي تدب على الأرض ولا من أنواع الطير التي تسبح فى الهواء إلا وهى أمم مماثلة لكم أيها الناس وقد أثبت الإخصائيّون الباحثون فى طباع الحيوان الذين تفرغوا لدرس غرائزها وأعمالها أن النمل مثلا يغزو بعضه بعضا وأن المنتصر يسترقّ المنكسر ويسخّره فى حمل قوته وبناء قراه ، إلى نحو أولئك من الأعمال التي تخصه وقد حرصت الأمم المتدينة على تحريم اصطياد بعض أنواع الحيوان ، فإذا رأت بعض ما يصاد من الطير وغيرها قلّ فى بلادها وخشى انقراضه منها حرمت صيده.
وخص دواب الأرض بالذكر لأنها هى التي يراها المخاطبون عامة ويدركون فيها معنى المماثلة ، دون دواب الأجرام السماوية القابلة للحياة الحيوانية التي أعلمنا اللّه بوجودها فى قوله : « وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ ، وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ » وهذا من أخبار الغيب التي دل العلم الحديث على صدقها فقد أثبت الباحثون من علماء الفلك أن بعض الكواكب كالمرّيخ فيه ماء ونبات فلا بد أن يكون فيه أنواع من الحيوان ، بل فيه أمارات على وجود عالم اجتماعي صناعى كالإنسان.
منها ما يرى على سطحه بالمرقب (التلسكوب) من جداول منظمة وخلجان وجبال ووديان إلى نحو أولئك.
وهذه الآية الكريمة ونحوها ترشدنا إلى البحث فى طباع الأحياء ليزداد علما بسنن اللّه وأسراره فى خلقه ونزداد بآياته فيها إيمانا وحكمة وكمالا وعلما ونعتبر بحال المكذبين بها الذين لم يستفيدوا مما فضلهم اللّه به على الحيوان فكانوا أضل من جميع أنواعه التي لا تجنى على نفسها ما يجنيه الكافر على نفسه.
(ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ) فسر ابن عباس الكتاب هنا بأم الكتاب :
وهو اللوح المحفوظ ، وهو خلق من عالم الغيب أثبت اللّه تعالى فيه مقادير الخلق ما كان(7/118)
ج 7 ، ص : 119
منها وما يكون بحسب السنن الإلهية ، وقيل الكتاب هنا علم اللّه المحيط بكل شىء ، شبه بالكتاب لكونه ثابتا لا ينسى ، وقيل هو القرآن أي ما تركنا فى القرآن شيئا من ضروب الهداية التي نرسل من أجلها الرسل إلا بيناه فيه فقد ذكرت فيه أصول الدين وأحكامه وحكمها والإرشاد إلى استعمال القوى البدنية والعقلية التي سخرها اللّه للانسان.
قال الحافظ ابن كثير ما فرطنا فى الكتاب من شىء أي الجميع علمهم عند اللّه لا ينسى واحدا من جميعها من رزقه سواء كان بريا أو بحريا كقوله : « وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها ، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ » أي مفصح بأسمائها وأعدادها ونظامها وحاصر لحركاتها وسكناتها.
(ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أي ثم يبعث أولئك الأمم من الناس والحيوان يوم القيامة ويساقون مجتمعين.
وروى ابن جرير عن ابن عباس : أن المراد بحشر البهائم موتها كما
ورد فى الحديث « من مات فقد قامت قيامته » .
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) أي والكافرون الذين كذبوا بآياتنا المنزلة على وحدانيتنا وصدق ما جاء به رسولنا - تكذيب جحود واستكبار أو تكذيب جمود على تقليد الآباء - صمّ لا يسمعون دعوة الحق والهدى سماع قبول ، بكم لا ينطقون بما عرفوا من الحق ، وهم يتخبطون فى تلك الظلمات الحالكة ، ظلمة الوثنية ، وظلمة تقليد الجاهلية ، وظلمة الجهل والأمية.
(مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ) أي من تعلقت مشيئته بإضلاله يضله كما أضل هؤلاء الذين استحبوا العمى على الهدى.
وإضلاله إياهم جاء على مقتضى سننه فى البشر ، أن يعرض المستكبر عن دعوة من يراه دونه وإن ظهر له أنه الحق ، وأن يعرض المقلد عن النظر فى الآيات والدلائل التي تنصب لبيان بطلانها وإثبات خلافها مادام مغرورا بها مكبرا لمن جرى من الآباء عليها.(7/119)
ج 7 ، ص : 120
(وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي ومن يشأ هدايته يجعله على طريق مستقيم هو طريق الحق الذي لا يضل سالكه ، بأن يوفقه لاستعمال سمعه وبصره وعقله ، استعمالا يعرف به الحق ويعرف به الخير ، ويعمل به بحسب سننه تعالى فى الارتباط بين الأعمال البدنية والعقائد النفسية.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 45]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)
تفسير المفردات
أرأيتكم أي أخبرونى ، وهو أسلوب يذكر للتعجيب والتنبيه إلى أن ما يذكر بعده غريب عجيب تقوم به الحجة على المخالف ، يكشف أي يزيل ما تدعونه إلى كشفه إن شاء ، والبأساء : تطلق على الحرب والمشقة ، والبأس : الشدة فى الحرب ، والعذاب الشديد ، والقوة ، والشجاعة ، والضراء من الضر ضد النفع ، والتضرع : إظهار الضراعة والخضوع بتكلف ، والأخذ بالبأساء والضراء : إنزالهما بهم ، مبلسون : أي(7/120)
ج 7 ، ص : 121
متحسرون يائسون من النجاة ، دابر القوم : آخرهم الذي يكون فى أدبارهم ، وقطع دابرهم أي هلكوا واستأصلوا بالعذاب ولم يبق منهم أحد.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه للمشركين أن علمه محيط بما فى الأرض والسماء ، وأن عنايته نعم كل ما درج على الأرض أوطار فى الهواء ، وأن أمم الحيوان مشابهة لأمم الإنسان ، وقد أوتيت من الإلهام والمعرفة ما تميز به بين ما ينفعها وما يضرها أمر نبيه أن يوجه إليهم هذا السؤال مذكّرا لهم بما أودع فى فطرتهم من توحيده عز اسمه ليعلموا أن ما تقلدوه من الشرك عارض شاغل يفسد أذهانهم وقت الرخاء ، وارتفاع اللأواء ، حتى إذا جدّ الجدّ ونزل بهم ما لا يطاق حمله من الشدائد دعوا اللّه مخلصين له الدين : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين وضلّ عنهم ما كانوا يعبدون من الأصنام والأوثان. وما وضعوا رمزا له من ملك أو إنسان.
الإيضاح
(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ ، أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ؟ ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المكذبين العادلين باللّه الأوثان والأصنام ، أخبرونى إن أتاكم عذاب اللّه كالذى نزل بمن قبلكم من الأمم الذين كذبوا بالرسل ، فقد هلك بعضهم بريح صرصر عاتية ، وبعض آخر بالصاعقة ، أو بمياه الطوفان المغرقة ، أو جاءتكم الساعة بأهوالها وخزيها ونكالها ، وبعثتم لموقف الحساب - أغير اللّه فى هذه الأحوال تدعون لكشف ما نزل بكم من البلاء ، أم إلى غيره من آلهتكم تفزعون لينجيكم مما نزل بكم من عظيم البلاء ، إن كنتم صادقين فى دعواكم ألوهية هؤلاء الشركاء الذين اتخذتموهم أولياء وزعمتم أنهم فيكم شفعاء ؟ فأخبرونى أغير اللّه تدعون إذا أتاكم أحد هذين الأمرين ؟(7/121)
ج 7 ، ص : 122
ثم أجاب عن ذلك بقوله :
(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) أي ما أنتم أيها المشركون باللّه الآلهة والأنداد إن أتاكم عذاب اللّه أو أتتكم الساعة - بمستجيرين بشىء غير اللّه من وثن أو صم إذا اشتد بكم الهول ، بل تدعونه وحده ، وبه تستغيثون ، وإليه تفزعون ، دون كل شىء غيره فيفرج عنكم ويزيل البلاء عند استغاثتكم به وتضرعكم إليه إن شاء ذلك ، لأنه وحده القادر على كل شىء ، والمالك لكل شىء دون ما تدعونه إلها من صنم أو وثن ، لأن الفزع إليه سبحانه عند الشدائد مما ركز فى فطرة البشر تنبعث إليه بذاتها كما تنبعث إلى الماء عند العطش ، فلا يذهب به ما يتلقّى بالتعليم الباطل من مسائل الدين ، فهم به يجنون على غريزة التوجه إلى خالقهم وخالق العالم كله بما يتخذونه من الأنداد والأولياء والشفعاء الذين يتوجهون إليهم كما يتوجهون إلى اللّه ويحبونهم كحب اللّه.
وما منشأ ذلك التقديس إلا اعتقاد القدرة على النفع والضر من غير طريق الأسباب المعروفة ، لكنهم عند الشدائد وتراكم الأهوال والكروب ينسونهم ويدعون اللّه وحده.
ولهذا الحب والتعظيم ثلاث درجات :
(1) أعرقها فى الجهل أن يعتقد المرء فى شىء من المخلوقات أنه إله ينفع ويضر بذاته فيتوجه إليه ويدعوه ويتضرع إليه.
(2) المرتبة الوسطى أن يعتقد أن الإله قد حل فى بعض المخلوقات واتحد بها كما تحلّ الروح فى البدن وتدبّره. فيكونان شيئا واحدا.
(3) أضعف درجاته أن يعتقد أن اللّه تعالى هو الخالق لكل شىء ، القادر على كل شىء ، المتصرف فى كل شىء ، ولكن له وسطاء بينه وبين عبادة يقرّبونهم إليه زلفى ويشفعون لهم عنده ، فهو لأجلهم يعطى ويمنع ويضر وينفع ، وهذه هى الدرجة التي(7/122)
ج 7 ، ص : 123
كان عليها مشركو قريش ، فقد حكى اللّه عنهم : « ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى » - هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه » .
والتوحيد الخالص هو الإيمان بأن اللّه يفعل ما يشاء ويختار ، وأن جميع الخلق مسخرون لإرادته وتدبيره ، خاضعون لسننه وتقديره ، لا يملك أحد منهم لنفسه ولا لغيره شيئا إلا فى دائرة الأسباب التي شرعها لعباده ، وأن الوساطة بينه وبين عباده محصورة فى تبليغ الرسول رسالته إليهم دون تصرفه فيهم وأن شفاعة الآخرة للّه وحده يأذن بها إن شاء لمن شاء ممن ارتضى ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى لخاتم رسله : « لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ » وقوله : « قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ » وقوله :
« قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ » .
وقد بين سبحانه أن تلك الوساطة الشّركيّة تنسى عند اشتداد الكروب والأهوال فقال : « فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ » وقال : « وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ » .
ثم بين سبحانه أن من سننه أخذ عباده بالشدائد لعلهم يرعون عن غيهم ، ويثوبون إلى رشدهم فقال :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) أي ولقد أرسلنا رسلا إلى أمم من قبلك فدعوهم إلى توحيدنا وعبادتنا فلم يستجيبوا لهم فأخذناهم أخذ ابتلاء واختبار بالبأساء والضراء ليكون ذلك مفيدا لهم ، لأن سنتنا قد جرت بأنهم فى مثل هذه الحال يتضرعون ويجأرون بالدعاء إلى ربهم ، فالشدائد ترّبى النفوس وتهذب الأخلاق ، فترجع المغرورين عن غرورهم ، وتكفّ الفجار عن فجورهم(7/123)
ج 7 ، ص : 124
فأخلق بها أن ترجع أهل الأوهام عن دعاء أمثالهم من البشر بل من دونهم من الأصنام والأوثان.
ولكن كثيرا من الناس يصلون إلى حال من الشرك والفجور لا يغيّرها بأس ولا يحوّلها بؤس ، فلا تجدى معهم العبر والمواعظ ، ولا تؤثر فيهم صروف الدهر وغيره ، ومنهم أولئك الأمم الذين أرسل إليهم هؤلاء الأنبياء ، ومن ثم قال تعالى :
« فلو لا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ، ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون » أي فهلا تضرّعوا إلينا خاشعين تائبين حين جاءتهم مقدمات العذاب وبوادره ، وحذروا عواقبه وأواخره ، لنكشفه عنهم قبل أن يحيط بهم.
ولكن قلوبهم كانت كالحجارة أو أشد قسوة فلم تؤثر فيهم النذر ، وزيّن لهم الشيطان ما هم عليه من الشرك والفجور ، ووسوس إليهم بأن يثبتوا على ما كان عليه آباؤهم ، ولا ينقادوا إلى رجال منهم ضعاف الأحلام سفهاء العقول ، لا ميزة لهم عليهم بعقل راجح ، ولا فكر ثاقب.
ثم ذكر ما حل بهم من الوبال والنكال بعد أن ابتلاهم بالحسنات فقال :
(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ) أي فلما أعرضوا عما أنذرهم به رسلهم وتركوا الاهتداء به وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم وأصرّوا على كفرهم وعنادهم وجمدوا على تقليد من قبلهم - بلوناهم بالحسنات ، وفتحنا عليهم أبواب الرزق ورخاء العيش وصحة الأجسام والأمن على الأنفس والأرواح ، فلم تربّهم تلك النعم ، ولا شكروا اللّه على ما أنعم ، بل أفادتهم النعمة بطرا وكبرا كما أفادتهم الشدائد عتوّا وقسوة.
والخلاصة - إنه تعالى سلط عليهم المكاره والشدائد ليعتبروا ويتعظوا ، فلما لم تجد معهم شيئا نقلهم إلى حال هى ضدّها ففتح عليهم أبواب الخيرات وسهل لهم سبل الرزق والرخاء فلم ينتفعوا أيضا ، وما مثل هذا إلا مثل الأب المشفق على ولده يخاشنه تارة ، ويلاينه أخرى طلبا لصلاحه واستقامة حاله وإرجاعا له عن غيه وطغيانه.(7/124)
ج 7 ، ص : 125
(حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) أي حتى إذا ظنوا أن الذي أوتوا إنما هو باستحقاقهم ولم يزدهم ذلك إلا بطر وغرورا ، أخذناهم بعذاب الاستئصال حال كونهم مبغوتين ، إذ فاجأهم على غرة من غير سبق أمارات ولا إمهال للاستعداد أو للهرب ، فإذا هم مبلسون أي يائسون من النجاة.
وفى الآية إيماء إلى أن البأساء والضراء وما يقابلهما من السراء والنعماء مما يتهذب به من وفقهم اللّه للهداية وألهمهم الرشاد ، والاختبار أكبر شاهد على صدق هذه القضية فالشدائد مصلحة للفساد ، مهذّبة للنفوس ، والمؤمن أجدر الناس بالاستفادة من الحوادث.
روى مسلم عن صهيب مرفوعا « عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضرّا ، صبر فكان خيرا له » .
وروى أحمد أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « إذا رأيت اللّه يعطى العبد من الدنيا على معاصيه ما يحبّ ، فإنما هو استدراج ثم تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فلما نسوا ما ذكروا به » الآية
وروى مالك عن الزهري أنه قال : (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ) أي رخاء الدنيا وسترها وقال الحسن البصري : من وسع اللّه عليه فلم يرأنه يمكر به فلا رأى له ، ومن قتّر عليه فلم يرأنه ينظر له فلا رأى له ، ثم قرأ : « فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ » الآية ثم قال : مكر بالقوم وربّ الكعبة. أعطوا حاجتهم ثم أخذوا.
(فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي فهلك أولئك القوم الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل والإصرار على الشرك وأعماله واستؤصلوا فلم يبق منهم أحد.
(وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي والثناء الكامل والشكر التام للّه رب العالمين على إنعامه على رسله وأهل طاعته ، بإظهار حججهم على من خالفهم من أهل الكفر وتحقيق ما وعدهم به من إهلاك المشركين ، وإراحة الأرض من شركهم وظلمهم.
وهذه الجملة إرشاد من اللّه لعباده المؤمنين بتذكيرهم بما يجب عليهم من حمده على(7/125)
ج 7 ، ص : 126
نصر المرسلين المصلحين ، وقطع دابر الظالمين المفسدين ، وإيماء إلى وجوب ذكره فى عاقبة كل أمر وخاتمة كل عمل كما قال تعالى فى وصف عباده المتقين : « وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » .
والخلاصة - إن فى الضراء والسراء للمتقين عبرة ، ونعمة ظاهرة أو باطنة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 49]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)
تفسير المفردات
نصرف الآيات : أي نكررها على وجوه مختلفة ، ومنه تصريف الرياح ، ويصدفون : يعرضون عن ذلك. والمس : اللمس باليد ، ويطلق على ما يصيب المدرك مما يسوءه غالبا من ضر وشر وكبر ونصب وعذاب.
المعنى الجملي
هذا ضرب آخر من ضروب الدعوة إلى وجود الصانع القادر وتوحيده ، وإثبات الرسالة بوجه آخر غير ما تقدم من وجوه الاحتجاج.
الإيضاح
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ؟ ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المكذبين بك وبما جئت به(7/126)
ج 7 ، ص : 127
من التوحيد والهدى : أرأيتم ماذا يكون من أمركم مع آلهتكم الذين تدعونهم وترجون شفاعتهم - إن أصمكم اللّه تعالى فذهب بسمعكم ، وأعماكم فذهب بأبصاركم ، وختم على قلوبكم وطبع عليها ، فأصبحتم لا تسمعون قولا ، ولا تبصرون طريقا ، ولا تعقلون نفعا ولا ضرا ، ولا تدركون حقا ولا باطلا - من إله غير اللّه يأتيكم بما ذكر مما أخذه اللّه منكم ؟ أي لا إله غيره يقدر على إتيانكم بما سلب ، ولو كان ما اتخذتم من دونه من الأنداد والأولياء آلهة لقدروا على ذلك ؟ وإن كنتم تعلمون أنهم لا يقدرون فلما ذا تدعونهم ، وما الدعاء إلا عبادة ، والعبادة لا تكون إلا للإله القدير ؟
(انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) أي انظر كيف نتابع عليهم الحجج ونضرب لهم الأمثال والعبر ونجعلها على وجوه شتى ليعتبروا ويتذكروا فينيبوا ويرجعوا ثم هم بعد ذلك يعرضون عنها ويتجنبون التأمل فيها - ويلقونها وراء ظهورهم.
ثم هددهم وتوعدهم على كفرهم بربهم فقال :
(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) أي قل لهم أيها الرسول : أخبرونى عن شأنكم إن أتاكم عذاب اللّه الذي مضت سنة اللّه فى الأولين بإنزاله بأمثالكم من المكذبين المعاندين مباغتا ومفاجئا لكم فأخذكم على غرّة لم تتقدمه أمارات تشعركم بقرب نروله بكم ، أو أتاكم وأنتم تعاينونه وتنظرون إليه بحيث ترون مبادئه ومقدماته بأبصاركم - هل يهلك اللّه به إلا القوم الظالمين منكم الذين أصروا على الشرك والعناد والجحود ، إذ قد مضت سنته تعالى فى مثل هذا العذاب أن ينجى منه الرسل ومن اتبعهم من المؤمنين والخلاصة - إنه لا يهلك بهذا العذاب غيركم ، لظلمكم أنفسكم وجنايتكم عليها بما اخترتم لها من الشرك والفجور وعبادة من لا يستحق العبادة ، وترك عبادة من هو بها حقيق وجدير.
ثم بين وظيفة الرسل فقال :
(وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي وما نرسل المرسلين إلا ببشارة(7/127)
ج 7 ، ص : 128
أهل الطاعة بالفوز بالجنة جزاء وفاقا على طاعتهم ، وبإنذار من أضرّ على الشرك والإفساد فى الأرض ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حىّ عن بينة.
(فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي فمن صدق من أرسلناه إليه من رسلنا وعمل صالحا فلا خوف عليهم من عذاب الدنيا الذي ينزل بالمكذبين الجاحدين ، ولا من عذاب الآخرة الذي أعده للكافرين ولا هم يحزنون يوم لقاء اللّه على شىء فاتهم ، لأن اللّه يحفظهم من كل فزع وهول كما قال سبحانه : « لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » وكذلك هم لا يحزنون فى الدنيا كحزن المشركين فى شدته وطول مدته ، فإذا عرض لهم الحزن بسبب صحيح كموت ولد أو قريب أو فقد مال أو قلة نصير يكون حزنهم مقرونا بالصبر وحسن الأسوة فلا يضرهم فى أنفسهم ولا فى أبدانهم ، ولا يغير شيئا من أخلاقهم وعاداتهم ، فالإيمان يعصمهم من عنت البأساء وبطر النعماء ، مسترشدين بنحو قوله تعالى « ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ » .
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي والذين كذبوا بآياتنا التي أرسلنا بها الرسل يصيبهم العذاب فى الدنيا أحيانا عند الجحود والعناد ، وفى الآخرة على سبيل الدوام والاطراد ، جزاء كفرهم وإفسادهم ، وخروجهم عن أمر اللّه وطاعته ، وارتكابهم مناهيه ومحارمه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 50 الى 53]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)(7/128)
ج 7 ، ص : 129
تفسير المفردات
الخزائن واحدها خزينة أو خزانة : وهى ما يخزن فيها الشيء الذي يراد حفظه ومنع التصرف فيه : « وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » والغيب : ما غيّب علمه عن الناس بعدم تمكينهم من أسباب العلم به ، وهو قسمان :
(1) غيب حقيقى : وهو ما غاب عن جميع الخلق حتى الملائكة وهو المعنىّ بقوله عز اسمه : « قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ » .
(2) غيب إضافى : وهو ما غاب علمه عن بعض المخلوقين دون بعض كالذى يعلمه الملائكة من أمر عالمهم وغيره ولا يعلمه البشر.
أما ما يعلمه بعض البشر بتمكينهم من أسبابه واستعمالهم لها ولا يعلمه غيرهم لجهلهم بتلك الأسباب أو عجزهم عن استعمالها فليس بداخل فى عموم الغيب الوارد فى كتاب اللّه.
وهذه الأسباب ضروب :
(1) ما هو علمى كالدلائل العقلية والعلمية ، فعلماء الرياضة يستخرجون من دقائق المجهولات ما يعجز عنه أكثر الناس ويضبطون ما يقع من الخسوف والكسوف بالدقائق والثواني قبل وقوعه بألوف الأعوام.
(2) ما هو عملى كالبرق الأثيرى (التلغراف اللاسلكى) الذي يعلم به المرء ما يقع فى أقاصى البلاد من وراء البحار وبينه وبينها ألوف الأميال.(7/129)
ج 7 ، ص : 130
(3) ما هو إدراكات نفسية خفية تصل إلى مرتبة العلم كالفراسة والإلهام ، وأكثر هذا النوع هواجس تلوح للنفس ولا يجزم بها الإنسان إلا بعد وقوعها. والأعمى والبصير : هنا الضال والمهتدى ، والإنذار : العظة والتخويف ، الطرد : الإبعاد ، والغداة والغدوة كالبكرة : ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، والعشى : آخر النهار أو من المغرب إلى العشاء : وحسابهم : أي حساب إيمانهم وأعمالهم الباطلة. وفتنا : أي ابتلينا واختبرنا : ومن بيننا : أي من دوننا. منّ اللّه عليهم : أي أنعم عليهم بنعم كثيرة.
المعنى الجملي
كان الكلام فى الآيات السالفة فى بيان أركان الدين وأصول العقائد ، وهى :
توحيد اللّه عز وجل ، ووظيفة الرسل عليهم السلام ، والجزاء على الأعمال يوم الحساب.
وهنا ذكر وظيفة الرسل العامة بتطبيقها على خاتم الرسل صلوات اللّه وسلامه عليه ، وأزال أوهام الناس فيها ، وأرشد إلى أمر الجزاء فى الآخرة وكون الأمر فيه للّه تعالى وحده على وجه يزيد عقيدة التوحيد تقريرا وتأكيدا ، وبيانا وتفضيلا.
الإيضاح
(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) أي قل أيها الرسول الذي بعث كما بعث غيره من الرسل مبشرا من أجاب دعوته بحسن الثواب ، ومنذرا من لم يقبلها بسوء العقاب ، لهؤلاء المكذبين لك بغير علم يميزون به بين شئون الألوهية وحقيقة النبوة ، فيقترحون عليك من الآيات الكونية ما يعلمون أنه ليس فى مقدور البشر. فهم إما أن يقولوه تعجيزا ، وإما أن يظنوا أن الإنسان لا يكون رسولا إلا إذا خرج من حقيقة البشرية وصار قادرا على ما لا يقدر عليه البشر وعالما بكل ما يعجز عن علمه البشر : لا أقول لكم عندى خزائن اللّه ، أتصرف بما خزنه وحفظه فيها من أرزاق العباد وشئون المخلوقات. فكل هذا للّه وحده يتصرف(7/130)
ج 7 ، ص : 131
فيه بما يشاء ، فيعطى لعباده من خزائنه بحسب ما أوتى كل منهم من الاستعداد فى دائرة ارتباط الأسباب بالمسببات ، ولا يقدر أحد أن يتجاوز ذلك إلى مالم يؤته ولم يصل إليه استعداده.
فالتصرف المطلق إنما هو للّه القادر على كل شىء ، وليس من موضوع الرسالة أن يكون الرسول المبلّغ عنه أمر الدين قادرا على ما لا يقدر عليه البشر من التصرف فى المخلوقات بالأسباب فضلا عن التصرف بغير سبب مما طلبه المشركون منه وجعلوه شرطا للإيمان به كتفجير الينابيع والأنهار فى أرض مكة ، وإيجاد الجنات والبساتين فيها ، وإسقاط السماء عليهم كسفا ، والإتيان باللّه والملائكة قبيلا.
فإن قال قائل : إن اللّه أثبت علم الغيب المتعلق بالرسالة للرسل عليهم السلام كقوله فى سورة الجن : « عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ » فكيف أمره هنا أن يتنصل من ادعاء علم الغيب ؟ .
وجوابه - أن إظهار شىء خاص من عالم الغيب على يدى الرسل - لا يجعل ذلك داخلا فى علومهم الكسبية. فإن الوحى ضرب من العلم الضروري يجده النبي فى نفسه حينما يظهره اللّه عليه ، فإذا حبس عنه لم يكن له قدرة ولا وسيلة كسبية للوصول إليه ، يؤيد ذلك ما جاء فى فترات الوحى فى السيرة النبوية ، وقد يكون توجه قلب الرسول إلى اللّه تعالى فى بعض الحوادث مقدمة لنزول الوحى فى الحكم الذي طلب من ربه بيانه - يرشد إلى ذلك قوله تعالى : « قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها » .
والخلاصة - إن الأنبياء لم يعطوا علم الغيب بحيث يكون إدراكه من علومهم المكتسبة ، كذلك لم يعطوا التصرف فى خزائن ملك اللّه ، فلم يمكّنهم مالم يمكّن البشر من أسبابه حتى يكون من كسبهم وعملهم ، ولا هو أعطاهم ذلك على سبيل الخصوصية.
ونفى الدعاء الرسول من الأمرين يتضمن التبرؤ من ادعاء الألوهية أو ادعاء شىء من صفات الإله القادر على كل شىء ، العليم بكل شىء ، ويتضمن جهل المشركين حقيقة(7/131)
ج 7 ، ص : 132
الألوهية وحقيقة الرسالة ، فقد اقترحوا عليه من الأعمال ما لا يقدر عليه إلا من له التصرف فيما وراء الأسباب ، وطلبوا منه الإخبار بما يكون فى الزمان المستقبل ولا يعلمه إلا من كان علم الغيب صفة له كسائر الصفات. فقد سألوه عن وقت الساعة ، وعن وقت نزول العذاب بهم ، وعن وقت نصر اللّه تعالى له عليهم.
وإذا علمت أن الأنبياء لم يؤتوا ذلك فأحر بمن دونهم منزلة عند اللّه من القديسين والأولياء المقرّبين ألا يكون لهم ذلك ، فادعاؤه لهم جهل عظيم وإثم كبير ، ولا ينبغى التحدث به لا بين العامة ولا بين الخاصة. كما يجب محوه من الأذهان لدى الجاهلين بسنن اللّه فى الأكوان.
ثم أمره أن يبين وظيفة الرسول فقال :
(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) أي قل لهم : ما أتبع فيما أقول لكم وأدعوكم إليه إلا وحي اللّه الذي يوحيه إلىّ وتنزيله الذي ينزله علىّ ، فأمضى لوحيه وأعمل بأمره ، وقد أتيتكم بالحجج القاطعة على صحة ما أقول وليس ذلك بالمنكر فى عقولكم ، ولا بالمستحيل وجوده ، فما وجه إنكاركم لذلك ؟ .
ثم وبخهم على ضلالهم فأمر رسوله أن يبين لهم أن الضال والمهتدى ليسا سواء فقال :
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي قل لهؤلاء المشركين المكذبين : هل يستوى أعمى البصيرة الضالّ عن الصراط المستقيم الذي دعوتكم إليه ، فلم يميز بين التوحيد والشرك ، ولا بين صفات اللّه وصفات البشر ، وذو البصيرة المهتدى إليه ، المستقيم فى سيره عليه بالحجة والبرهان حتى صار ذلك فى مرآة قلبه أوضح مما ترى العينان ، وتسمع الأذنان.
والخلاصة - إنهما لا يستويان. كما أن أعمى العينين وبصيرهما لا يستويان.
(أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) فيما أذكر لكم من الحجج فتعلموا صحة ما أقول لكم وأدعوكم إليه ، وتميزوا بين ضلال الشرك وهداية الإسلام ، وتعقلوا ما فى القرآن من ضروب الهداية والعرفان بذلك الأسلوب الرائع الذي لم تعهدوه من قبل ؟ فهل يكون ذلك فى مقدورى(7/132)
ج 7 ، ص : 133
وقد لبثت فيكم عمرا من قبل عاطلا من هذه المعرفة ، وتلك البلاغة الساحرة ، وذلك البيان الخلاب ؟
وبعد أن أمره بتبليغ الناس حقيقة رسالته ، أمره بإنذار من يخشون الحساب والجزاء فقال :
(وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي وأنذر بما يوحى إليك - المؤمنين باللّه الذين يخافون أهوال الحشر وشدة الحساب وما يتبع ذلك من الجزاء على الأعمال عند القدوم على اللّه فى ذلك اليوم الذي لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة : « يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ » يوم لا ولى ينصر ، ولا شفيع يدفع العذاب إن أريد النجاة منه ، بل أمر ذلك متوقف على مرضاة اللّه.
فهؤلاء المؤمنون هم الذين يرجى أن يتّقوا اللّه اهتداء بهداك وخوفا من إنذارك ويتحرّوا ما يؤدى إلى مرضاته ، لا يصدهم عن ذلك اتكال على الأولياء ولا اعتماد على الشفعاء ، علما منهم أن الشفاعة للّه جميعا : « ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ » .
كما أنهم يستيقنون أن نجاتهم إنما تكون بإيمانهم وأعمالهم وتزكيتهم لأنفسهم لا بانتفاعهم بصلاح غيرهم أو شفاعة الشافعين لهم ، كما هو حال المشركين الذين جهلوا أن مدار السعادة فى الدنيا والآخرة مرتبط بتزكية النفس وطهارتها بالإيمان الصحيح والأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة لا على أمر خارج عن النفس لا تأثير له فيها.
والآية بمعنى قوله تعالى : « إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ » وقوله : « إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ » .
ثم نهى رسوله أن يطيع المترفين من كفار قريش فى شأن المؤمنين المستضعفين فقال :
(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي ولا تطرد أيها الرسول هؤلاء المؤمنين الموحّدين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى أي أول(7/133)
ج 7 ، ص : 134
النهار وآخره ، أو المراد عامة الأوقات إذ يقال هو يفعل كذا صباحا ومساء : إذا كان مداوما عليه.
والدعاء إما الصلاة ، وقد كان فى أول الإسلام صلاتان إحداهما فى الصباح والأخرى فى المساء ، وإما الأعم الشامل للدعاء الحقيقي والصلاة والقرآن المشتملين عليه.
وقوله : يريدون وجهه : أي يدعون ربهم فى هذين الوقتين مريدين بهذا الدعاء ابتغاء مرضاته تعالى : أي يتوجهون إليه وحده مخلصين له الدين ، فلا يشركون معه أحدا ولا يرجون من غيره على الدعاء ثوابا. وهو كقوله : « إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً » .
روى أحمد وابن جرير والطبراني فى جماعة آخرين عن عبد اللّه بن مسعود قال : « مرّ الملأ من قريش على النبي صلى اللّه عليه وسلم وعنده صهيب وعمّار وخبّاب ونحوهم من ضعفاء المسلمين ، فقالوا يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أ هؤلاء منّ اللّه عليهم من بيننا ؟ أ نحن نكون تبعا لهؤلاء ؟ اطردهم عنك : فلعلك إن طردتهم أن نتبعك ، فأنزل اللّه فيهم القرآن : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ - إلى قوله - أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال : مشى عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وقرظة بن عمرو والحارث بن عامر فى أشراف الكفار من بنى عبد مناف إلى أبى طالب فقالوا له : لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد فإنهم عبيدنا وعسفاؤنا.
(واحدهم عسيف ، وهو الأجير) كان أعظم له فى صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقه ، فذكر ذلك أبو طالب للنبى صلى اللّه عليه وسلم (فقال عمر بن الخطاب : لو فعلت يا رسول اللّه حتى تنظر ما يريدون بقولهم وما يصيرون إليه من أمرهم). فأنزل اللّه : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ - إلى قوله أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ).
قال وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى أبي حذيفة. وصبيحا مولى أسيد ،(7/134)
ج 7 ، ص : 135
ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو وواقد بن عبد اللّه الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو ذو الشمالين ومرثد بن أبي مرثد وأشباههم ونزلت فى أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء : « وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا » الآية. فلما نزلت أقبل عمر بن الخطاب فاعتذر فأنزل اللّه : « وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا » الآية.
والعبرة من هذا أن أول أتباعه كانوا كأتباع من تقدمه من الرسل صلوات اللّه عليهم من الضعفاء والفقراء ، وأن أعداءه هم المترفون من الرؤساء والسادة كأعدائهم وأنهم كانوا يحتقرون السابقين إلى الإيمان ويذمونهم ويعدون أنفسهم معذورين بعدم رضاهم بمساواتهم بل قد اقترحوا على الرسل طردهم وإبعادهم كما فى هذه الآية وكما فى قوله فى سورة هود حاكيا قول الأشراف من قوم نوح عليه السلام : « وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ » وقوله لهم : « وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ » .
(ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ) أي ما عليك شىء من أمر حساب هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى ، كما أنه ليس عليهم شىء من أمر حسابك على أعمالك ، حتى يكون هذا أو ذاك سببا فى طردك إياهم بإساءتهم فى عملهم أو فى محاسبتك على عملك ، فإن الطرد جزاء والجزاء إنما يكون على سيىء الأعمال ولا يثبت ذلك إلا بالحساب. والمؤمنون ليسوا بعبيد للرسل ولا أعمالهم الدينية لهم ، بل هى للّه يريدون بها وجهه لا أوجه الرسل ، وحسابهم عليه تعالى لا عليهم ، والرسل هداة مرشدون ، لا أرباب مسيطرون : « فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ » وإذا لم يكن للرسل حق السيطرة على الناس ومحاسبتهم على أعمالهم الدينية ، فأجدر بالناس ألا يكون لهم هذا الحق على أنبيائهم.
(فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) أي لا تطرد هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى فتكون بطردك إياهم فى زمرة الظالمين معدودا من جنسهم ، لأن الطرد لا يكون حقا إلا على الإساءة فى الأعمال التي يعملونها لمن له حق حسابهم وجزائهم عليها ، ولست(7/135)
ج 7 ، ص : 136
أنت بصاحب هذا الحق حتى تجرى فيه على صراط العدل ، فإن عملهم هو عبادة اللّه وحده ، فحسابهم وجزاؤهم عليه كما قال نوح عليه السلام : « إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ » .
والخلاصة - إن هذه الآية الكريمة أفادت :
(1) أن الرسول لا يملك التصرف فى الكون.
(2) أنه لا يعلم الغيب.
(3) أنه ليس بملك.
(4) أنه لا يملك حساب المؤمنين ولا جزاءهم.
ثم بين أن مقال المشركين فى شأن المستضعفين ابتلاء من اللّه وفتنة فقال :
(وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي ومثل ذلك الفتن أي الابتلاء والاختبار ، فتنا بعضهم ببعض : أي جعلنا بحسب سنتنا فى غرائز البشر وأخلاقهم - بعضهم فتنة لبعض تظهر به حقيقة حاله ، كما يظهر للصائغ حقيقة الذهب والفضة بفتنتهما بالنار.
(لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا ؟ ) أي لتكون العاقبة أن يقول المفتونون من الأقوياء فى شأن الضعفاء من المؤمنين : أ هؤلاء الصعاليك من العبيد والموالي والفقراء والمساكين خصهم اللّه بهذه النعمة العظيمة من جملتنا أو من مجموعنا ؟ .
والخلاصة - إن ذلك لن يكون ، لأنهم هم المفضّلون عند اللّه بما آتاهم من غنى وثروة وجاه وقوة ، فلو كان هذا الدين خيرا لمنحهم إياه دون هؤلاء الضعفاء كما أعطاهم من قبل الجاه والثروة ، وقد حكى اللّه عنهم مثل هذا بقوله : « وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ » .
ثم رد عليهم مقالتهم الدالة على العتوّ والاستكبار بقوله :
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) أي إن المستحقّ لمنّ اللّه وزيادة نعمه إنما هو من يقدّرها قدرها ، ويعرف حق المنعم بها فيشكره عليها ، لا من سبق الإنعام عليه فكفر وبطر وعتا واستكبر.(7/136)
ج 7 ، ص : 137 وبهذا مضت سنة اللّه فى عباده ، ولو لا هذا لكانت النعم خالدة لا تنزع ممن أوتيها وإن كفر بها ، وهل فتن أولئك الكبراء إلا بما حصل لهم من الغنى والقوة ؟ فظنوا جهلا منهم بسنة اللّه فى أمثالهم أنه تعالى ما أعطاهم ذلك إلا تكريما لذواتهم ، وتفضيلا لهم على غيرهم.
وفى الآية إيماء إلى أن ما اغترّوا به من النعم لن يدوم ، ولا يبقى المؤمنون على الضعف الذي صبروا عليه ، بل لا بد أن تنعكس الحال فيسلب الأقوياء ما أعطوا من قوة ومال ، وتدول الدّولة لهؤلاء الضعفاء من المؤمنين فيكونوا هم الأئمة الوارثين « وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ » كذلك فيها إشارة إلى أن تركهم للإيمان لم يكن إلا جحودا ناشئا عن الكبر والعلوّ فى الأرض لا عن حجة ولا عن شبهة ، وإلى أن ضعفاء المؤمنين السابقين لم يفتنوا بغنى كبراء المشركين وقوتهم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 54 الى 55]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
تفسير المفردات
السلام والسلامة : البراءة والعافية من الآفات والعيوب ، والسلام : من أسمائه تعالى يدل على تنزيهه عن كل ما لا يليق به من نقص وعجز وفناء ، واستعمل السلام فى التحية بمعنى السلامة من كل ما يسوء ، وبمعنى تأمين المسلم عليه من كل أذى يناله(7/137)
ج 7 ، ص : 138
من المسلم فهو دليل المودة والصفاء ، وهو تحية أهل الجنة يحييهم بها ربهم جل وعلا وملائكته الكرام ، ويحيى بها بعضهم بعضا ، وكتب. أوجب ، والجهالة : السفه والخفة التي تقابل الحكمة والروية ، وتستبين : تتضح وتظهر ، يقال : استبنت الشيء وتبينته : أي عرفته بينا واضحا.
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه نبيه عن طرد المستضعفين من حضرته ، استمالة لكبراء المتكبرين من قومه ، وطمعا فى إقبالهم عليه وسماعهم لدعوته ، كما اقترحه بعض المشركين.
أمره بأن يلقى الذين يدخلون فى الإسلام آنا بعد آن عن بينة وبرهان - بالتحية والسلام ، والتبشير برحمة اللّه ومغفرته ، فقد كان السواد الأعظم من الناس كافرين إما كفر جحود وعناد ، وإما كفر جهل وتقليد للآباء والأجداد ، وكان يدخل فى الإسلام الأفراد بعد الأفراد ، وكان أكثر السابقين من المستضعفين والفقراء ، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يكون تارة معهم يعلمهم ويرشدهم ، وتارة يتوجه إلى أولئك الكافرين يدعوهم وينذرهم.
الإيضاح
(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي وإذا جاءك القوم الدين يصدّقون بكتابنا وحججنا ، ويقرون بذلك قولا وعملا ، سائلين عن ذنوبهم التي فرطت منهم ، هل لهم منها توبة ، فلا تؤيسهم منها ، وقل لهم : سلام عليكم أي أمنة اللّه لكم من ذنوبكم أن يعاقبكم عليها بعد توبتكم منها.
ثم ذكر العلة فى هذا فقال :
(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي قل لهم : أوجب على ذاته المقدسة تفضلا منه وإحسانا ، الرحمة بخلقه ، فإن فيما سخّر للبشر من أسباب المعيشة المادية ، وفيما آتاهم من وسائل العلوم الكسبية - لآيات بينات على سعة الرحمة الربانية ، وتربية عباده بها فى حياتهم الجسدية والروحية.(7/138)
ج 7 ، ص : 139
ثم بين أصلا من أصول الدين في هذه الرحمة للمؤمنين فقال :
(أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن من عمل منكم عملا تسوء عاقبته ، للضرر الذي حرّمه اللّه لأجله ، حال كونه ملتبسا بجهالة دفعته إلى ذلك السوء ، كغضب شديد حمله على السب والضرب ، أو شهوة مغتلمة قادته إلى انتهاك العرض ، ثم تاب ورجع عن ذلك السوء بعد أن عمله شاعرا بقبحه ، نادما عليه ، خائفا من عاقبته ، وأصلح عمله بأن اتبع ذلك العمل السيّء بعمل يضاده ، ويذهب أثره من قلبه ، حتى يعود إلى النفس زكاؤها وطهارتها ، وتصير أهلا للقرب من ربها - فشأنه تعالى فى معاملته أنه واسع المغفرة والرحمة ، فيغفر له ما تاب عنه ، ويتغمده برحمته وإحسانه.
وقد بين سبحانه فى هذه الآية من أنواع الرحمة المكتوبة لعباده ما هم أحوج إلى معرفته بنص الوحى وهو حكم من يعمل السوء بجهالة من عباده المؤمنين ، وبقية أنواعها يمكن أن يستدل عليها بالنظر فى الأنفس والآفاق ، وأمر نبيه بتبليغها لمن يدخلون فى الدين ليهتدوا بها حتى لا يغتروا بمغفرة اللّه ورحمته فيحملهم الغرور على التفريط فى جنب اللّه والغفلة عن تزكية أنفسهم ، وحتى يبادروا إلى تطهيرها من إفساد الذنوب خوف أن تحيط بها خطيئتها : « إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ » .
ثم بين سبحانه أنه فصل الحقائق للمؤمنين ليبتعدوا عن سلوك سبيل المجرمين.
(وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) أي ومثل ذلك التفصيل البديع الواضح نفصل لك أدلتنا فى بيان الحقائق التي يهتدى بها أهل النظر والفكر لما فيها من العلم والحكمة ، والموعظة والعبرة ، ولتتضح لك وللمؤمنين طريق المجرمين ، إذ يعلم من هذا التفصيل أن ما خالفه هو سبيل المجرمين والأشياء تعرف بأضدادها كما قيل (وبضدها تتميز الأشياء).(7/139)
ج 7 ، ص : 140
[سورة الأنعام (6) : الآيات 56 الى 58]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
تفسير المفردات
النهى : الزجر عن الشيء بالقول نحو اجتنب قول الزور ، والكف عنه بالفعل كما قال تعالى : « وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى » والدعاء : النداء لطلب إيصال الخير أو دفع الضر ، ولا يكون عبادة إلا إذا كان فيما وراء الأسباب العادية التي سخرها اللّه للعباد وينالونها بكسبهم واجتهادهم وتعاونهم عليها. والبينة : كل ما يتبين به الحق من الحجج العقلية أو الآيات الحسية ، ومن ذلك تسمية الشهادة بينة. والقصص : ذكر الخبر أو تتبع الأثر ، والفصل : القضاء والحكم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنه يفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين سبيل المجرمين ، ذكر هنا أنه نهى عن سلوك سبيلهم هو عبادة غير اللّه ، وأن هذه العبادة إنما هى بمخض الهوى والتقليد ، لا سبيل الحجة والبرهان ، فهى جمادات وأحجار ينحتونها بأيديهم ويركبونها ثم يعبدونها.
الإيضاح
(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الداعين لك إلى الإشراك : إنى نهيت أن أعبد الذين تدعونهم وتستغيثون بهم من دون اللّه أي غير اللّه من الملائكة والصالحين من عباده ، دع مادونهم من الأصنام والأوثان التي لا علم لها ولا عمل.(7/140)
ج 7 ، ص : 141
وهذا النهى شامل لنهى اللّه عنه فى كتابه الكريم فى كثير من الآيات ، ولأمره بضده وهو دعاؤه وحده ، ولنهى العقل والفطرة السليمة قبل إرسال الأنبياء.
ثم أمره أن يبين لهم أن هذه العبادة مبنية على الرأى والهوى وهى ضلال وغىّ.
(قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي قل لهم : لا أتبعكم على ما تدعوننى إليه لا فى هذه العبادة ولا فى غيرها من الأعمال ، لأنها مؤسسة على الهوى ، وليست على شىء من الحق والهدى ، فإن فعلت ذلك فقد تركت محجة الحق وسرت على غير هدى ، فصرت ضالا مثلهم وخرجت من عداد المهتدين ، وفى هذا تعريض بأنهم ليسوا من الهداية فى شىء.
ثم أمره أن يقول لهم : إنى على هدى من ربى فيما أتبعه.
(قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي قل لهم أيها الرسول إنى فيما أخالفكم فيه على بينة من ربى أي على بيان قد تبينته ، وبرهان قد وضح لى من ربى بالوحى والعقل ، إذ القرآن بينة مشتملة على ضروب كثيرة من البينات العقلية والكونية التي يعجز الرسول عن الإتيان بمثلها.
(وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ) أي والحال أنكم كذبتم به أي بالقرآن الذي هو بينتى من ربى ، ومن عجيب أمركم أنكم تكذبون ببينة البينات ، ثم تطمعون أن أتبعكم على ضلال من أمركم لا بينة لكم عليه إلا محض التقليد ، والتقليد براءة من الاستدلال ، ورضا بجهل الآباء والأجداد.
وفى هذا حجة دامغة ، وبينة ناصعة على ما قبله ، من نفى عبادته صلى اللّه عليه وسلم للذين يدعونهم من دون اللّه.
وبعد أن بين تكذيبهم به قفّى عليه برد شبهة تخطر حينئذ بالبال ، وهى أن اللّه أنذرهم عذابا يحلّ بهم إذا أصروا على عنادهم وكفرهم ، ووعد بأن ينصر رسوله عليهم وقد استعجلوا النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك فكان عدم وقوعه شبهة لهم على صدق القرآن ، إذ هم يجهلون سنة اللّه فى شئون الإنسان ، فأمر اللّه نبيه أن يقول لهم :(7/141)
ج 7 ، ص : 142
(ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أي ما الذي تستعجلون به من نقم اللّه وعذابه بيدي ولا أنا على ذلك بقادر ، ولم أقل لكم إن اللّه فوض أمره إلىّ حتى تطالبونى به ، وتعدّون عدم إيقاعه عليهم حجة على تكذيبه.
ثم أكد ما سبق بقوله :
(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ما الحكم فى هذا وفى غيره من التصرف فى شئون الأمم إلا للّه وحده ، وله فى ذلك سنن حكيمة تجرى عليها أفعاله وأحكامه ، فلا يتقدم شىء منها عن ميقاته ولا يتأخر : « وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ » .
ثم بين سبحانه أن كل ما قصه على رسوله فهو حق لا شبهة فيه فقال :
(يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) أي يقص على رسوله القصص الحق فى وعده ووعيده وجميع أخباره ، وهو خير الحاكمين فى كل أمر ، فهو لا يقع فى حكمه وقضائه حيف إلى أحد ولا جور وهو النافذ حكمه فى كل شىء ، والمحيط علمه بكل شىء.
(قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين يستعجلون العذاب بقولهم : « اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ » .
لو أن عندى ما تسعجلون به بأن مكننى اللّه من التصرف فيه وجعله من قدرتى الكسبية ، لقضى الأمر بينى وبينكم فأهلكتكم عاجلا غضبا لربى ، واقتصاصا من تكذيبكم ، ولتخلصت منكم سريعا لصدكم عن تبليغ دعوة ربى ، وصدكم الناس عنى ، وقد وعدني ربى بنصر المؤمنين المصلحين ، وخذلان الكافرين المفسدين.
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) الذين لا رجاء فى رجوعهم عن الظلم إلى الإيمان والحق والعدل ، ومن ثم لم يجعل أمر عقابهم إلى ، بل جعله عنده ووقّت له ميقاتا هو أعلم به ، ترونه بعيدا ويراه قريبا : « وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ » .(7/142)
ج 7 ، ص : 143
[سورة الأنعام (6) : الآيات 59 الى 62]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)
تفسير المفردات
المفاتح واحدها مفتح : (بفتح الميم) وهو المخزن : (وبكسرها) هو المفتاح الذي تفتح به الأقفال ، والبحر : كل مكان واسع حاو للكثير من الماء ، والبرّ : ما يقابله ، والتوفى : أخذ الشيء وافيا أي تاما كاملا ويقابله التوفية ، وهو إعطاء الشيء تاما كاملا ، ويقال وفاه حقه فتوفاه منه قال تعالى : « وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ » ويقال توفاه واستوفاه : أحصى عدده ثم أطلق التوفى على الموت ، لأن الأرواح تقبض وتؤخذ أخذا تاما ، وأطلق على النوم كما فى الآية وفى آية الزمر ، والجرح : يطلق على العمل والكسب بالجوارح وعلى التأثير الدامي من السلاح وما فى معناه كالبراثن والأظفار والأنياب من سباع الطير والوحش ، وتسمى الخيل والأنعام المنتجة جوارح أيضا ، لأن نتاجها كسبها ، والجرح كالكسب يطلق على الخير والشر ، والاجتراح فعل الشر خاصة فى قوله تعالى : « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ(7/143)
ج 7 ، ص : 144
كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ »
ويبعثكم : يوقظكم من النوم ، ويقضى : ينفذ ، والأجل المسمى : هو مدة بقائه فى الدنيا. والحفظة : هم الكرام الكاتبون من الملائكة « وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ » .
المعنى الجملي
بعد أن أمر عز اسمه رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يبين للمشركين أنه على بينة من ربه فيما بلغهم إياه من رسالته ، وأن ما يستعجلونه عذاب اللّه تعجيزا أو تهكما ليس عنده ، وإنما هو عند اللّه ، وقد قضت سنته أن يجعل لكل شىء أجلا وموعدا لا يتقدم ولا يتأخر ، وأن اللّه تعالى هو الذي يقضى الحق ويقصه على رسوله - ذكر هنا أن مفاتح الغيب عنده وأن التصرف فى الخلق بيده ، وأنه هو القاهر فوق عباده لا يشاركه أحد من رسله ولا من سواهم فى ذلك.
الإيضاح
(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) أي إن خزائن الغيب عند اللّه وهو المتصرف فيها وحده ، وكذلك المفاتيح أي الوسائل التي يتوصل بها إلى علم الغيب هى عنده أيضا لا يعلمها علما ذاتيا إلا هو ، فهو الذي يحيط بها علما وسواه جاهل بذاته لا يعلم منها شيئا إلا بإعلامه عز وعلا ، فعلينا أن نفوض إليه إنجازه وعده لرسله بالنصر ، ووعيده لأعدائه بالعذاب والقهر ، وأن نجزم بأنه لا يخلف وعده رسله وإنما يؤخر تنفيذه إلى الأجل الذي اقتضته حكمته.
روى البخاري عن سالم بن عبد اللّه عن أبيه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال :
« مفاتيح الغيب خمس » : « إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » .
وما حكاه اللّه عن عيسى عليه السلام من قوله : « وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ » وما قاله يوسف عليه السلام لصاحبى السجن « لا يَأْتِيكُما »(7/144)
ج 7 ، ص : 145
داخل فيما يظهر اللّه عليه رسله من علم الغيب كما قال فى سورة الجن : « عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ » .
وجاء فى معنى الآية قوله تعالى : « وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ. وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ » وقوله :
« إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ » .
وروى البخاري عن عمران بن حصين مرفوعا « كان اللّه ولم يكن شىء غيره وكان عرشه على الماء وكتب فى الذكر كل شىء ، وخلق السموات والأرض » .
لهذا الحديث والآثار المروية اتفق علماء التفسير بالمأثور على تفسير الكتاب المبين وأم الكتاب والذكر فى نحو ما تقدم من الآيات - باللوح المحفوظ ، وهو شىء أخبر اللّه به وأنه أودعه كتابه ولم يعرفنا حقيقته ، فعلينا أن نؤمن بأنه شىء موجود وأن اللّه قد حفظ فيه كتابه ، وأما دعوى أنه جرم مخصوص فى سماء معينة فمما لم يثبت عن المعصوم صلى اللّه عليه وسلم بالتواتر ، فلا ينبغى أن يدخل فى باب العقائد لدى المؤمنين.
وروى عن الحسن أن حكمة كتابة اللّه لمقادير الخلق تنبيه المكلفين إلى عدم إهمال أحوالهم المشتملة على الثواب والعقاب ، وزاد بعضهم حكمتين أخريين :
(1) اعتبار الملائكة عليهم السلام بموافقة المحدثات للمعلومات الإلهية.
(2) عدم تغيير الموجودات عن الترتيب السابق فى الكتاب ، ويؤيده ما روى البخاري عن أبي هريرة. « جفّ القلم بما أنت لاق » .
(وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي وعنده علم ما لم يغب عنكم ، لأن ما فيهما ظاهر للعين يعلمه العباد وعلمه تعالى بما فيهما علم شهادة مقابل لعلم الغيب.
والخلاصة - إن عنده علم ما غاب عنكم مما لا تعلمونه ولن تعلموه مما استأثر بعلمه وعند علم ما يعلمه جميعكم لا يخفى عليه شىء منه ، فعنده علم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة.(7/145)
ج 7 ، ص : 146
(وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) أي وما تسقط ورقة من نجم أو شجر فى الصحارى والبراري ، أو فى الأمصار والقرى إلا واللّه عليم بها.
(وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي وما تسقط من حبة بفعل الإنسان باختياره كالحب الذي يلقيه الزّراع فى بطون الأرض يسترونه بالتراب فيحنجب عن نور النهار ، أو تذهب به النمل فى قراها وجحورها ، أو بغير فعل الإنسان كالذى يسقط من النبات فى الشقوق والأخاديد ، وما يسقط من الثمار رطبا ويابسا - إلا وهو فى كتاب مبين وهو اللوح المحفوظ الذي كتب ذلك فيه وكتب عدده والوقت الذي يوجد فيه والذي يفنى فيه ، وجعل الكتاب مبينا لأنه يبين عن صحة ما هو فيه بوجود ما رسم فيه على ما رسم ، هذا هو الذي اختاره الزجاج لقوله فى الآية الأخرى. « ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها » .
واختار الرازي أن الكتاب المبين علم اللّه تعالى الذي شبه المكتوب فى الصحف بثباته وعدم تغيره.
(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) أي يتوفى أنفسكم حال نومكم بالليل أي يزيل إحساسها ويمنعها من التصرف فى الأبدان ، واقتصر على الليل وإن كان ذلك يقع فى النهار ، لأن الغالب أن يكون النوم فيه.
وفى معنى الآية قوله تعالى « اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فيمسك الّتى قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) أي ويعلم جميع عملكم وكسبكم حين اليقظة ويكون معظم ذلك فى النهار سواء أ كان خيرا أم شرا.
(ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي ثم إنه بعد توفيكم بالنوم يثيركم ويرسلكم منه فى النهار(7/146)
ج 7 ، ص : 147
(لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) أي يوقظكم ويرسلكم لكسب أرزاقكم وأقواتكم ، ومناجاة إلهكم وخالقكم ، لأجل أن يقضى وينفذ الأجل المسمى الذي فى علمه تعالى لكل فرد منكم ، فإن لأعماركم آجالا مقدرة مكتوبة لا بد من قضائها وإتمامها.
(ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) أي ثم إليه رجوعكم إذا انقضت آجالكم ومتم.
(ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم يخبركم بما كنتم تعملون فى حياتكم الدنيا ويجازيكم بذلك إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
والقادر على البعث من توفى النوم قادر على البعث من توفى الموت.
وفى ذكر الأجل المسمى والرجوع إلى اللّه تعالى لأجل الحساب والجزاء إيماء إلى تأييد ما تقدم من حكمة تأخير ما كان يستعجله مشركو مكة من وعيد اللّه لهم ووعده لرسله بالنصر عليهم وبيان عذاب الآخرة فوق ما أنذروا به من عذاب الدنيا ، فمن لم يدركه العذاب الأول لم يفلت من الثاني.
وبعد أن أبان سبحانه أمر الموت والرجوع إلى اللّه للحساب والجزاء ، ذكر قهره لعباده وإرسال الحفظة لإحصاء أعمالهم وكتابتها عليهم فقال :
(وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) أي إنه تعالى هو الغالب خلقه العالي عليهم بقدرته وسلطانه ، لا المقهورون من الأوثان والأصنام ، المغلوبون على أمرهم ، ويرسل عليكم حفظة من الملائكة يتعاقبونكم ليلا ونهارا يحفظون أعمالكم ويحصونها ، ولا يفرّطون فى حفظها وإحصائها. ولا يضيعون شيئا منها.
وإرسال الحفظة عليهم مراقبهم لهم وإحصاء أعمالهم وكتابتها وحفظها فى الصحف التي تنشر يوم الحساب ، وهى المرادة بقوله تعالى « وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ » .
وهؤلاء الحفظة الملائكة الذين قال اللّه تعالى فيهم « وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ » ونحن نؤمن بهذه الكتابة ولا نعرف صفتها ولا نتحكم فيها بآرائنا.(7/147)
ج 7 ، ص : 148
وما مثل مراقبة أولئك الحفظة إلا مثل : / (مراقبة رجال البوليس السرى فى حكومات العصر الحديث).
روى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال فى الآية : الملوك يتخذون الحرس يحفظونهم من أمامهم ومن خلفهم وعن يمينهم وعن شمالهم ، يحفظونهم من القتل ، ألم تسمع أن اللّه تعالى يقول « وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ » لم يغن الحرس عنهم شيئا.
وفى معنى الآية قوله « سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ. لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ » .
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا « يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، يجتمعون فى صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم ، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادى ؟ فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون » .
والحكمة فى كتابة الأعمال وحفظها على العالمين أن المكلف إذا علم أن أعماله تحفظ عليه وتعرض على رءوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن الفواحش والمنكرات وأبعث له على عمل الصالحات ، فإن المرء إن لم يصل إلى مقام العلم الراسخ الذي يثمر الخشية للّه والمعرفة الكاملة التي تثمر الحياء ، ربما غلب عليه الغرور بالكرم الإلهى والرجاء فى المغفرة والرحمة فلا يكون لديه من الخشية والحياء ، ما يزجره عن المعصية ، كما يزجره توقع الفضيحة فى موقف الحساب على أعين الخلائق وأسماعهم ، كما قال تعالى « وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً » .
(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) أي يرسل عليكم(7/148)
ج 7 ، ص : 149
حفظة من الملائكة يراقبونكم ويحصون عليكم أعمالكم مدة حياتكم ، حتى إذا جاء أحدكم الموت وانتهى عمله ، توفته وقبضت روحه رسلنا الموكلون بذلك من الملائكة ، وهؤلاء الرسل هم أعوان ملك الموت الذين يتولّون ذلك بأمره كما قال تعالى « قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ » .
روى ابن جرير وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه سئل عن ملك الموت أهو وحده الذي يقبض الأرواح ؟ قال هو الذي يلى أمر الأرواح وله أعوان على ذلك ، وقرأ الآية ، ثم قال غير أن ملك الموت هو الرئيس.
وروى عن إبراهيم النّخعى ومجاهد وقتادة ، أن الأعوان يقبضون الأرواح من الأبدان ثم يدفعونها إلى ملك الموت. وعن الكلبي أن ملك الموت هو الذي يتولى القبض بنفسه ويدفعها إلى الأعوان ، فإن كان الميت مؤمنا دفعها إلى ملائكة الرحمة وإن كان كافرا دفعها إلى ملائكة العذاب : أي وهم يتوجهون بالأرواح إلى حيث يوجههم اللّه بأمره ، وعلينا أن نؤمن بذلك ولا نبحث عن كيفيته.
وجاء إسناد التوفى إلى اللّه فى قوله : « اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها » إما لأنه هو الآمر لملك الموت ولأعوانه جميعا بذلك - وإما لأنه هو الفاعل الحقيقي والمسخّر لملك الموت وأعوانه ، فهم لا يعملون إلا بأمره ولا يتصرفون إلا بتسخيره.
(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) أي ثم يردّ أولئك الذين تتوفاهم الرسل إلى اللّه الذي هو مولاهم ومالك أمورهم ، وهو الحق الذي لا يقضى إلا بالعدل ، ليحاسبهم ويجازيهم على أعمالهم.
وفى الآية إيماء إلى أن ردهم إليه حتم ، لأنه سيدهم الذي يتولى أمورهم ويحكم بينهم بالحق.
وأما تولى بعض العباد أمور بعض بملك الرقبة أو ملك التصرف والسياسة ، فمنه ما هو باطل من كل وجه ، ومنه ما هو باطل من حيث إنه موقوت لا ثبات له ولا بقاء ، وحق من حيث إن مولاهم الحق أقره فى سننه الاجتماعية أو شرائعه المنزلة لمصلحة(7/149)
ج 7 ، ص : 150
العباد العارضة مدة حياتهم الدنيا ، وقد زال كل ذلك بزوال عالم الدنيا وبقي المولى الحق وحده.
ثم بين أن ردهم إليه ليحكم بينهم بقضائه العدل فقال :
(أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) أي له الحكم وحده ليس لغيره منه شىء فى ذلك اليوم كما قال « إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ » وقال « وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ » وقال « قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ » وسرعة حسابه - أنه يحاسب العباد كلهم فى أسرع زمن وأقصره ، لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره ، ولا يشغله شأن عن شأن.
والخلاصة - إنه تعالى أسرع الحاسبين إحصاء للأعمال ومحاسبة عليها.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 63 الى 64]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
تفسير المفردات
ظلمات البر والبحر : ضربان ، ظلمات حسية كظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر ، وظلمات معنوية كظلمة الجهل بالمسالك والطرق ، وظلمة فقد الأعلام والمنار ، وظلمة الشدائد والأخطار كالعواصف والأعاصير وهياج البحار ، إلى نحو ذلك من الشدائد التي تبطل الحواس وتدهش العقول ، قال الزجاج : العرب تقول لليوم الذي فيه شدة : يوم مظلم ويوم ذو كواكب أي إنه قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل فى ظلمته ، وفى المثل : رأى الكواكب ظهرا ، أي أظلم عليه يومه لا شتداد الأمر فيه(7/150)
ج 7 ، ص : 151
حتى كأنه أبصر النجم نهارا ، والتضرع : المبالغة فى الضراعة ، وهى الذل والخضوع ، والمراد ، له هنا ما كان صادرا عن الإخلاص الذي يثيره الإيمان الفطري الطوىّ فى أنفس البشر ، والخفية (بالضم والكسر) الخفاء والاستتار ، والدعاء قد يكون بالجهر ورفع الصوت مع البكاء ، وقد يكون بالإسرار هربا من الرياء ، فتارة يجأر المرء بالدعاء رافعا صوته متضرعا مبتهلا ، وأخرى يسر الدعاء ويخفيه مخلصا محتسبا ، ويتحرى ألا تسمعه أذن ولا يعلم به أحد ، ويرى أنه يكون بذلك أجدر بالقبول ، وأرجى لنيل المسئول ، والكرب : الفم الشديد.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه لعباده إحاطة علمه ، وشمول قدرته ، واستعلاءه عليهم بالقهر ، وحفظه أعمالهم عليهم - ذكّرهم هنا بالدلائل الدالة على كمال القدرة الإلهية ونهاية الرحمة والفضل والإحسان.
الإيضاح
(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ؟ ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الغافلين عن أنفسهم وعما أودع فى الآفاق من آيات التوحيد من ينجيكم من ظلمات البر إذا ضللتم فيه فتحيرتم وأظلمت عليكم المحجة ، ومن ظلمات البحر إذا ركبتموه فأظلم عليكم فيه السبيل فلم تهتدوا - غير اللّه الذي إليه مفزعكم بالدعاء تضرعا منكم إليه ، معلنين الدعاء تارة ومخفين له أخرى.
(لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي مقسمين : لئن أنجيتنا من هذه الظلمات التي نحن فيها لنكونن من المتصفين بالشكر ، المخلصين لك بالعبادة دون من نشركه معك فى عبادتك.
وفى معنى الآية قوله : « هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ(7/151)
ج 7 ، ص : 152
فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ، وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ »
.
ثم بين أنهم يحنثون فى أيمانهم بعد النجاة ، ويشركون بربهم سواه ، فقال :
(قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) أي إن اللّه هو الذي ينجيكم المرة بعد المرة من تلك الظلمات ومن كل كرب يعرض لكم ، ثم أنتم تشركون به غيره بعد النجاة أقبح الشرك ، حال كونكم مخلفى وعدكم له بالشكر حانثين بما وكدتموه من الأيمان.
وأظهر أنواع الشرك أنكم تدعون أولياء من دون اللّه وتنسبون إليهم الشفاعة عنده ، حتى هذه النجاة التي نجّاكموها.
والخلاصة - إنه إذا شهدت الفطرة السليمة بأنه لا ملجأ فى هذه الحالة إلا إلى اللّه ولا تعويل إلا على فضله ، فالواجب أن يبقى هذا الإخلاص فى جميع الأحوال والأوقات ، لكن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة يحيل ذلك إلى الأعمال الجسمانية أو إلى نحو ذلك من الأسباب ويعود إلى الشرك فى العبادة ولا يوفّى بالعهد.
وفى الآية تنبيه إلى أن من أشرك فى عبادته تعالى غيره فكأنه لم يعبده رأسا ، فالتوحيد ملاك الأمر وأساس العبادة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 65 الى 67]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)(7/152)
ج 7 ، ص : 153
تفسير المفردات
الشيع : واحدهم شيعة ، وهم كل قوم اجتمعوا على أمر ، قال تعالى « كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ » ويلبسكم : أي يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط اتفاق فيجعلكم فرقا مختلفة لا فرقة واحدة ، ونصرف الآيات : نحو لها من نوع إلى آخر من فنون الكلام تقريرا للمعنى وتقريبا إلى الفهم ، والفقه : فهم الشيء بدليله وعلته المفضى إلى الاعتبار والعمل به. والوكيل : هو الذي توكل إليه الأمور. ومستقر : وقت استقرار ووقوع.
المعنى الجملي
بعد أن ذكّر سبحانه المشركين ببعض آياته فى أنفسهم وبمننه عليهم ، بإنجائهم من الأهوال والكروب التي يشعر بها كل من وقعت له منهم إما بتسخير الأسباب ، وإما بدقائق اللطف والإلهام.
ذكر هنا قدرته على تعذيبهم ، وأبان أن عاقبة كفران النعم ، أن تزول وتحل محلها النقم ، وأنه يمهل ولا يهمل ، بل يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
الإيضاح
(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) أي قل أيها الرسول لقومك الذين يشركون مع اللّه سواه ، ولا يشكرون نعمه التي أسداها إليهم : إن اللّه هو القادر على أن يرسل عليكم عذابا تجهلون حقيقته ، فيصبّ عليكم من فوقكم ، أو يثيره من تحت أرجلكم ، أو يلبسكم ويخلطكم فرقا وشيعا على أهواء شتى ، كل فرقة تشايع إماما فى الدين أو تتعصب لملك أو رئيس ، أو يذيق بعضكم بأس بعض فيقتل بعضكم بيد بعض.
وقد ورد في التفسير بالمأثور ، أن المراد بالعذاب من فوق الرجم من السماء والطوفان كما وقع لبعض الأمم القديمة ، وبالعذاب من تحت : الخسف والزلازل المعهودة قديما(7/153)
ج 7 ، ص : 154
وحديثا ، وروى عن ابن عباس أن المراد بمن فوقكم أي من أمرائكم ، ومن تحت أرجلكم أي عبيدكم وسفلتكم.
ولا شك أن لفظ العذاب مبهم قصد به هذا الإبهام لأجل الشمول ، فيطلق على ما يدل عليه اللفظ مما يحدث فى المستقبل أو ينكشف للناس فيه ما كان خفيا عنهم ، فالقرآن لا تفنى عجائبه ، وفيه نبأ من قبل ونبأ من كان فى زمن التنزيل ونبأ من سيجيئ بعدهم.
فهذه الآية ظهر تفسيرها بأجلى برهان فى هذه الحروب فى العصر الحديث مما لم يسبق له نظير ولم يكن البشر على علم منه ، فقد أرسل اللّه فيها على الأمم المحاربة عذابا من فوقها بما تقذفه الطائرات والمطاود وقاذفات القنابل التي تحمل كل منها الآلاف المؤلفة من المواد المتفجرة من الحديد والمعادن الأخرى المهلكة ، ومن المواد المحرقة ، وصارت تمشى آلاف الأميال لتصل إلى أهدافها المقصودة فتخرب المدن والقرى ، وتجعل عاليها سافلها ، بما تصب فيها من عل ، من الحمم المتّقدة والنيران المشتعلة ، حتى ليراها الرائي كأنها بركان ثائر يريد أن يبتلع من حوله ويلتهم جميع ما فوق سطح الأرض.
وكذلك مقذوفات المدافع البعيدة المدى التي تطلق قناطير من أفواهها وترسله من فوق من مواد قاتلة مما لم يعرف الناس له نظيرا من قبل. وكذلك يأتيها العذاب من تحتها بما تحدث السفن الغواصة فى البحار بما ترسله من (الطور بيد) الحامل للقناطير المقنطرة من مختلف المعادن وتتحين به الفرص لمقابلة سفن العدو فتصبه عليها صبا. وتهلك به مختلف السفن ولا تقوى على النجاة منها مهما عظم حجمها ودقّ صنعها بل لا بد أن تهوى فى قاع البحار إذا قدر لها أن تصاب به ، فكم من سفينة غرقت. وكم من روح زهق به وأصبح طعاما للسمك وحيوان البحر.
وكذلك جعل أمم أوربا شيعا متعادية. وأذاق بعضها بأس بعض فحلّ بها من التقتيل والتخريب ما لو لم نره بأعيننا ونسمع عنه الأحاديث المستفيضة التي لا تقبل شكا ولا ريبا - لكنا فى موضع الشك فيه ، لغرابته وشدة هوله وذهول الناس حين(7/154)
ج 7 ، ص : 155
رؤيته ، فترى الناس سكارى وما هم بسكارى ، ولكنهم من الذعر وشدة الخطب حيارى ، لا يدرون ماذا هم فاعلون ، ولا أىّ مكان يسلكون ليتقوا ذلك الهلاك المحقق ، والعذاب الذي لا بد واقع بهم إلا من رحم اللّه.
روى أحمد والترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال : « سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن هذه الآية - قل هو القادر إلخ - فقال : أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد » .
وروى البخاري والنسائي من حديث جابر قال : « لما نزلت هذه الآية :
(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أعوذ بوجهك) قال : (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال : (أعوذ بوجهك) (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
(هاتان أهون أو أيسر) » .
وإنما كانت هاتان أهون أو أيسر لأن المستعاذ منه قبلهما هو عذاب الاستئصال بإحدى الخصلتين الأوليين حتى لا يبقى من الأمة أحد
وروى عن ابن عباس من طريق أبي بكر بن مردويه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « دعوت اللّه أن يرفع عن أمتى أربعا فرفع عنهم اثنتين وأبي أن يرفع عنهم اثنتين دعوت اللّه أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض وألا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع عنهم الخسف والرجم ، وأبي أن يرفع الآخرين »
و
روى مسلم من حديث ثوبان قال. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « إن اللّه زوى (جمع) لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتى سيبلغ ملكها ما زوى لى منها ، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ، وإنى سألت ربى لأمتى ألا يهلكها بسنة عامة. (كالمجاعة والقحط والغرق والصيحة والرجفة والريح الصرصر) وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم. (عزتهم ومستقر ملكهم) وإن ربى قال : يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، وإنى أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة(7/155)
ج 7 ، ص : 156
عامة وألا أسلّط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبى بعضهم بعضا » .
وقد ظهر صدق الرسول صلى اللّه عليه وسلم فى بلوغ ملك أمته مشارق الأرض ومغاربها وفى وقوع بأسهم بينهم ، وما زال ملكهم عن أكثر تلك الممالك إلا بتفرقهم ثم بمساعدتهم للأجانب على أنفسهم ، وكم تألبت عليهم الأمم فلم ينالوا منهم بدون ذلك منالا ، وما بقي لهم الآن إلا القليل الذي يطمع فيه الطامعون.
ومن هذا نعلم أن اللّه لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ما داموا مستمسكين بها.
يرشد إلى ذلك
أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال. « يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، فقال قائل : من قلة نحن يومئذ ؟ قال بل أنتم يؤمئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، وسينزعن اللّه من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفنّ فى قلوبكم الوهن ، قال قائل : يا رسول اللّه وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت » رواه أبو داود والبيهقي.
ثم طلب منه النظر فيما لديه من الحجج والبينات فقال :
(انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) أي تأمل بعين بصيرتك أيها الرسول كيف نصرف الآيات والدلائل ونتابعها على أنحاء شتى : منها ما طريقه الحس ، ومنها ما طريقه العقل ، ومنها ما سبيله علم الغيب ، لعلهم يفقهون الحق ويدركون الحقائق بأسبابها وعللها التي تفضى إلى الاعتبار والعمل بها.
وأقرب الوسائل إلى تحصيل ذلك تصريف الآيات واختلاف الحجج والبينات ، وبذا يتذكرون ويزدجرون عما هم عليه مقيمون من التكذيب بكتابنا ورسولنا ، وانكبابهم على عبادة الأوثان والأصنام.
ثم ذكر أن قومه قد كذبوا به على وضوح حجته فقال.
(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ) أي وكذب قومك بالقرآن على ما صرّفنا فيه(7/156)
ج 7 ، ص : 157
من الآيات الجاذبة إلى فقه الإيمان ، إذ يثبتها الحس والعقل والوجدان ، والحال أنه حق ثابت لا شك فيه ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ثم أمر رسوله بأن يبلغهم بأن لا سبيل له فى جبرهم على الإيمان به فقال :
(قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي قل لهم أيها الرسول إننى لست عليكم بحفيظ ولا رقيب ، وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم ، أبشركم وأنذركم ولم أعط القدرة على التصرف فى عباده حتى أجبركم على الإيمان جبرا وأكرهكم عليه إكراها « فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ » « نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ » .
ثم هددهم وتوعدهم على التكذيب به فقال :
(لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي لكل شىء ينبأ عنه ويخبر ، مستقر تظهر فيه حقيقته ويتميز حقه من باطله ، فلا يبقي مجال للاختلاف فيه ، وسوف تعلمون مستقر ما أنبأكم به كتابى من وعد ووعيد ، ومن ذلك ما وعد به الرسول من نصره عليهم ، وما أوعد به أعداءه من الخزي والعذاب فى الدنيا والآخرة « قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ، سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ » .
[سورة الأنعام (6) : الآيات 68 الى 70]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)(7/157)
ج 7 ، ص : 158
تفسير المفردات
أصل الخوض : الدخول فى الماء والمرور فيه سيرا أو سباحة ، ثم استعمل فى الاندفاع فى الحديث والاسترسال فيه ، والدخول فى الباطل مع أهله ، وقد استعمله القرآن بهذين المعنيين ، وأعرض عنهم. انصرف عنهم بدلا من القعود معهم والإقبال عليهم بوجهك ، والذكرى الأولى بمعنى التذكر ، والثانية بمعنى التذكير ، والبسل : حبس الشيء ومنعه بالقهر ، ومنه شجاع باسل ، أي مانع لما يريد حفظه أن ينال وفسر هنا بالحبس فى النار ، وبالحرمان من الثواب وبالفضيحة ، وتعدل : تفد والعدل : الفداء ، والحميم : الشديد الحرارة وأليم : شديد الألم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فى الآيات السابقة تكذيب قريش بالقرآن ، وكون الرسول مبلّغا لا خالقا للإيمان ، وأحالهم فى ظهور صدق أنبائه وأخباره على الزمان.
بين فى هذه الآيات السبيل فى معاملة من يخوض فى آيات اللّه بالباطل ، ومن يتخذ دين اللّه هزوا ولعبا من الكفار الذين لم يجيبوا الدعوة.
روى عن سعيد بن جبير وابن جريج وقتادة ومقاتل والسدى أن هذه الآية نزلت فى المشركين المكذبين الذين كانوا يستهزئون بالقرآن والنبي صلى اللّه عليه وسلم. وروى عن ابن عباس وأبي جعفر ومحمد بن سيرين أنها نزلت فى أهل الأهواء والبدع من المسلمين الذين يؤولون الآيات بالباطل لتأييد ما استحدثوا من المذاهب والآراء وتفنيد أقوال خصومهم بالجدل والمراء.(7/158)
ج 7 ، ص : 159
الإيضاح
(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) قال ابن جريج : كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه ، فإذا سمعوا استهزءوا فنزلت : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) الآية. قال فجعل إذا استهزءوا قام فحذروا وقالوا لا تستهزءوا فيقوم.
والمخاطب بالآية الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومن كان معه من المؤمنين ، ثم المؤمنون فى كل زمان. أي وإذا رأيت أيها المؤمن الذين يخوضون فى آياتنا المنزلة من الكفار المكذبين ، أو من أهل الأهواء المفرقين ، فصدّ عنهم بوجهك وقم ولا تجلس معهم ، حتى يخوضوا فى حديث غير الكفر بآيات اللّه والاستهزاء بها من جانب الكفار أو تأويلها بالباطل من جانب أهل الأهواء ، تأييدا لما استحدثوا من مذاهب وآراء ، وتفنيدا لأقوال خصومهم بالشغب والجدل والمراء ، وإذا خاضوا فى غير ذلك فلا ضير فى القعود معهم.
وسر هذا النهى أن الإقبال على الخائضين والقعود معهم يغريهم فى التمادي فيما هم فيه ، ويدل على الرضا به والمشاركة فيه ، والمشاركة فى ذلك كفر ظاهر ، لا يرتكبه إلا كافر مجاهر ، أو منافق مراء.
كما أن فى التأويل لنصر البدع والآراء الفاسدة فتنة فى الدين لا تنقص عن الأولى ضررا ، فإن أربابها تغشّهم أنفسهم بأنهم ينصرون الحق ويخدمون الشرع ، ومن ثم حذّر السلف من مجالسة أهل الأهواء أشد مما حذّروا من مجالة الكفار ، إذ لا يخشى على المؤمن من فتنة الكافر مقدار ما يخشى من فتنة المبتدع ومن الناس من يحرفون آيات اللّه عن مواضعها بهواهم ليكفروا بها مسلما أو يضللوا بها مهتديا ، بغيا عليه وحسدا له.
(وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي وإن أنساك(7/159)
ج 7 ، ص : 160
الشيطان النهى مرة ، وقعدت معهم وهم على تلك الحال ثم ذكرت ذلك فقم عنهم ، ولا تقعد مع القوم الظالمين لأنفسهم بتكذيب آيات ربهم والاستهزاء بها بدلا من الإيمان بها والاهتداء بهديها.
والخطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم والمراد غيره على حد المثل : إياك أعنى واسمعي يا جاره. وهو كثير فى كلام العرب ، أو للرسول صلى اللّه عليه وسلم بالذات ولغيره بالتبع كما هو الشأن فى أحكام التشريع غير الخاصة به صلى اللّه عليه وسلم.
ووقوع النسيان من الأنبياء بغير وسوسة من الشيطان لا خلاف فى جوازه قال تعالى لخاتم أنبيائه « وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ » وثبت وقوعه من موسى عليه السلام :
« قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ » ولكن اللّه عصمهم من نسيان شىء مما أمرهم بتبليغه أو بإخلال بالدين كإضاعة فريضة أو تحريم حلال أو تحليل حرام.
وثبت فى الصحيحين والسنن « أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سها فى الصلاة وقال :
إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكّرونى » .
وإنساء الشيطان للإنسان بعض الأمور ليس من قبيل التصرف والسلطان حتى يدخل فى مفهوم قوله : « إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ » .
ومن هذا تعلم أن نسيان الشيء الحسن الذي يسند إلى الشيطان لكونه ضارا أو مفوّتا لبعض المنافع أو لكونه حصل بوسوسته ولو بشغل القلب ببعض المباحات لا يعد من سلطان الشيطان على الناس واستحواذه عليهم بالإغواء والإضلال الذي نفاه اللّه عن عباده المخلصين.
ثم أبان أنهم إذا فعلوا ذلك فلن يشاركوهم فى الإثم فقال :
(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ) أي وما على الذين يتقون من حساب الخائضين فى آياته شىء فلا يحاسبون على خوضهم فيها ولا على غيره من أعمالهم التي يحاسبهم اللّه تعالى عليها إذا هم تجنبوهم وأعرضوا عنهم كما أمروا.(7/160)
ج 7 ، ص : 161
(وَ لكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي ولكن ليعرضوا عنهم ذكرى لأمر اللّه ، لعلهم يتقون فيتجنبوا الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم.
وبعد أن أمر رسوله بالإعراض عمن اتخذ آيات اللّه هزوا - أمره بترك المستهزئين بدينهم الذين غرتهم الحياة الدنيا فقال :
(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي ودع أيها الرسول ومن تبعك من المؤمنين هؤلاء المشركين الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا الفاتنة فآثروها على الحياة الباقية ، واشتغلوا بلذاتها الحقيرة الفانية المشوبة بالمنغصات ، عما جاءهم من الحق مؤيدا بالحجج والآيات ، فاستبدلوا الخوض فيها بما كان يجب من فقهها وتدبرها.
ونحو الآية قوله تعالى « ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ » واتخاذهم دينهم هزوا ولعبا ، أنهم لما عملوا ما لا يزكّى نفوسهم ، ولا يطهّر قلوبهم ولا يهذب أخلاقهم ولا يقع على وجه يرضى اللّه سبحانه ، ولا يعدّ للقائه فى دار الكرامة ، أضاعوا الوقت فيما لا يفيد وهذا هو اللعب ، أو شغلوا عن شئونهم وهمومهم الأخرى وهذا هو اللهو.
وخلاصة المعنى - أعرض عنهم ، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ، ولا تقم لعلمهم فى نظرك وزنا.
وبعد أن أمره بترك المستهزئين بدينهم أمره بالتذكير القرآن وتبليغ الرسالة فقال :
(وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) الضمير فى قوله « به » يعود إلى القرآن المعلوم بقرينة الحال ، لأنه هو الذكر الذي بعث به الرسول المذكر : أي وذكر الناس وعظهم بالقرآن اتقاء أن تبسل كل نفس فى الآخرة بما كسبت أي اتقاء حبسها أو رهنها فى العذاب ، وتفاديا من ذلك بما بينه الذكر الحكيم من أسباب النجاة والسعادة فى هذه الدار كما قال : « كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ » .
ثم وصف النفس المسلمة وعلل إبسالها فقال :
(لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) أي والحال أنه ليس لها من غير اللّه ولىّ(7/161)
ج 7 ، ص : 162
ولا ناصر ينصرها ولا شفيع لها عند اللّه كما قال « ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ » وقال : « قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً » وقال : « وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ » .
ثم أرشد إلى أنه لا ينفع فى الآخرة إلا صالح العمل لا الشفعاء والوسطاء فقال :
(وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) أي وإن تفد النفس المبسلة كل نوع من أنواع الفداء لا يؤخذ منها ولا يقبل ، والمراد أنه لا يقع الأخذ ولا يحصل.
وهذا كقوله فى سورة البقرة « وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ، وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ » .
والخلاصة - إن النفس المبسلة تمنع فى ذلك اليوم من أي وسيلة من وسائل النجاة ، فلا ولىّ ولا حميم ، ولا شفيع ، ولا فداء ، إلى نحو أولئك مما ربما نفع فى مقاصد الدنيا وأنجز بعض المنافع.
وفى هذا إبطال لأصل من أصول الوثنية وهو رجاء النجاة فى الآخرة كما هو الحال فى الدنيا بتقديم الفدية للّه تعالى أو بشفاعة الشافعين ووساطة الوسطاء عنده تعالى ، وتقرير لأصل دينى وهو أن لا نجاة فى الآخرة ولا رضوان من اللّه ولا قرب منه إلا بالعمل بما شرعه على ألسنة رسله من إيمان به وعمل صالح يزكى النفس ويطهرها ، أما من دسّى نفسه وأبسله كسبه للسيئات والخطايا واتخذ دين اللّه هزوا ولعبا وغرته الحياة الدنيا فلا تنفعه شفاعة ولا تقبل منه فدية.
ثم بين أن هذا الإبسال كان بسوء صنيعهم فقال :
(أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) أي أولئك المتخذون دينهم هزوا ولعبا المغترون بالحياة الدنيا ، هم الذين حرموا الثواب ، وأسلموا للعذاب ، وحبسوا عن دار السعادة ، بسبب ما كسبوا من الأوزار والآثام حتى أحاطت بهم خطاياهم ، ولم يكن لهم من دينهم الذي اتخذوه زاجر ولا مانع يرشدهم إلى التحول عن تلك الأعمال القبيحة ، ويصدّهم عن العقائد الزائفة.(7/162)
ج 7 ، ص : 163
ثم بين سبحانه ما يكون من الجزاء حين أبسلوا فقال :
(لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي لهم شراب من ماء حميم : أي بالغ الغاية فى الشدة يتردد فى بطونهم وتنقطع به أمعاؤهم ، وعذاب شديد الألم بنار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم الذي ظلوا عليه طول حياتهم حتى صرفوا عما جعل وسيلة للنجاة لو اتبعوه.
والخلاصة - إن رسوخهم فى الكفر أفسد فطرتهم حتى لم يبق فيهم استعداد للحق والخير.
وفى ذلك عبرة لمن يفقه القرآن ولا يغتر بلقب الإسلام ، ويعلم أن المسلم من اتخذ القرآن إمامه وسنة الرسول طريقه ، لا من اغتر بالأمانى والأوهام ، ولا من ركن إلى شفاعة الشافعين ، والأولياء والناصرين.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 71 الى 73]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
تفسير المفردات
الأعقاب : واحدها عقب : وهو مؤخر الرجل ، وتقول العرب فيمن عجز بعد قدرة أو سفل بعد رفعة أو أحجم بعد إقدام على محمدة : نكص على عقبيه وارتد على عقبيه(7/163)
ج 7 ، ص : 164
ورجع القهقرى ، ثم صار يطلق على كل تحول مذموم ، واستهوته الشياطين. ذهبت بعقله وهواه ، وكانت العرب فى الجاهلية تزعم أن الجنون كله من تأثير الجن ، ومنه قولهم : جن فلان ، أي مسته الجن فذهبت بعقله ، وكانوا يقولون إن الجن تظهر لهم فى المهامة وتتلوّن لهم بألوان مختلفة ، فتذهب بلبّ من يراها فيهيم على وجهه لا يدرى أين يذهب حتى يهلك ، وهذه الشياطين التي تتلون هى التي يسمونها الغيلان والأغوال والسعالى ، وقوله حيران : أي تائها ضالا عن الجادة لا يدرى ما يصنع ، والصور فى اللغة : القرن وقد ثقب الناس قرون الوعول والظباء وغيرها فجعلوا منها أبواقا ينفخون فيها لها صوت شديد يدعى به الناس إلى الاجتماع ويعزفون بها كغيرها من آلات الطرب ، وقد جاء فى سفر الأيام الأول من كتب العهد العتيق : فكان جميع بنى إسرائيل يصعدون تابوت عهد الرب بهتاف وبصوت الأصوات والأبواق والصنوج ويصوّتون بالرّباب والعيدان.
الإيضاح
(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ ؟ ) أي قل أيها الرسول للآمرين لك باتباع دينهم وعبادة الأصنام معهم ، أ ندعو من دون اللّه حجرا أو شجرا لا يقدر على نفعنا أو ضرنا ؟ فنخصّه بالعبادة دون اللّه وندع عبادة الذي بيده الضر والنفع والحياة والموت إن كنتم تعقلون فتميزون بين الخير والشر ولا شك أن خدمة ما يرتجى نفعه ويرهب ضرّه أحق وأولى من خدمة من لا يرجى منه شىء منهما ، ونرد على أعقابنا بالعودة إلى الضلال والشرك بعد إذ هدانا اللّه إلى الإسلام.
والخلاصة - إن ذلك لا ينبغى ولا يكون للأسباب الآتية :
(1) إن هذا تحوّل وارتداد عن دعاء القادر الذي يكشف الضر إن شاء ويمنح الخير إن شاء - إلى دعاء العاجز الذي لا يقدر على نفع ولا ضر.
(2) إنه نكوص على الأعقاب وتقهقر إلى الوراء.
(3) إن من أنقذه اللّه القدير الرحيم من الضلالة بما أراه من آياته فى الأنفس والآفاق لا يقدر أحد أن يضله « وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ ؟ » .(7/164)
ج 7 ، ص : 165
ثم ضرب مثلا يصور المرتد فى أقبح حالة كانت تتخيلها العرب فقال :
(كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ ، لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا) أي أ نرد على أعقابنا فيكون مثلنا فى ذلك مثل الرجل الذي استتبعه الشيطان يهوى فى الأرض حيران تائها ؟ له أصحاب على المحجة واستقامة السبيل يدعونه إلى طريق الهدى الذي هم عليه ويقولون له ائتنا.
وخلاصة المثل - إن من يرتد مشركا بعد الإيمان كمن جعله العشق أو الجنون هائما على وجهه ، ضالا فى الفلوات حيران لا يهتدى ، تاركا رفاقه على الطريق المستقيم ينادونه : عد إلينا فلا يستجيب لهم لا نجذابه وراء ما تراءى له بغير عقل ولا بصيرة ، قال صاحب الكشاف : وهذا مبنى على ما كانت تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن تستهوى الإنسان والغيلان تستولى عليه كقوله : « كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ » .
ثم أمره أن يرغب المشركين فيما يدعو إليه لا فيما يدعونه إليه فقال :
(قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى ) أي قل إن هدى اللّه الذي أنزل به آياته ، وأقام عليه حججه وبيناته ، هو الهدى الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لا ما تدعون إليه من أهوائكم اتباعا لما ألفيتم عليه آباءكم.
(وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي وأمرنا بأن نسلم للّه رب العالمين فأسلمنا.
(وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ) أي وأمرنا بالإسلام وبإقامة الصلاة والتقوى وإقامة الصلاة : الإتيان بها على الوجه الذي شرعت لأجله وهى أن تزكى النفس بمناجاة اللّه وذكره وتنهى عن الفحشاء والمنكر ، والتقوى : اتقاء ما يترتب على مخالفة دين اللّه وشرعه وتنكبّ سننه فى خلقه من ضرر وفساد.
(وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي وهو الذي تجمعون وتساقون إلى لقائه يوم القيامة دون غيره ، فيحاسبكم على أعمالكم ويجازيكم عليها ، فليس من العقل. لا من الحكمة أن يعبد غيره أو يخاف ويرجى.(7/165)
ج 7 ، ص : 166
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي وهو الذي خلقهما خلقا متلبسا بالحق ، وهو أنه وفق سننه المطردة المشتملة على الحكم البالغة الدالة على وجوده ووحدانيته وقدرته البالغة ، ولم يخلقهما باطلا ولا عبثا فهو لا يترك الناس سدى ، بل يجزى كل نفس بما كسبت.
ونحو الآية قوله فى سورة آل عمران : « رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا » وقوله :
« وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ » .
(وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ. قَوْلُهُ الْحَقُّ) أي وقوله هو الحق الذي لا شك فيه يوم يقول للشىء كن فيكون وهو وقت إيجاد العالم وتكوينه ، فلا مردّ لأمره ولا تخلف لقضائه وحكمه ، ومن كان أمره التكويني مطاعا يكن أمره التكليفي كذلك واجب الطاعة بلا حرج فى النفس ولا ضيق منه ، فالخلق حق والأمر حق « أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ » (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) أي وله الملك يوم الحشر يوم يبعث من فى القبور وينفخ فى الصور ، والأمر حينئذ له وحده ، ولا تملك نفس لنفس شيئا من خير أو شر ، أو نفع أو ضر ، فكيف يرضى لنفسه من يعرف هذه الحقائق - أن يدعو سواه ، ويتخذ له إلها غير اللّه ، ويرد على عقبيه ، ويرجع إلى أسوإ حاليه.
روى عن عبد اللّه بن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل عن الصور فقال :
« هو قرن ينفخ فيه »
وروى عن ابن مسعود أنه قال : « الصور كهيئة القرن ينفخ فيه » (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) قال الحسن : الشهادة ما قد رأيتم خلقه ، والغيب ما غاب عنكم مما لم تروه ، وقال ابن عباس : الغيب والشهادة السر والعلانية.
والمعنى - إن الذي خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق ، والذي قوله الحق تكوينا وتكليفا ، والذي له الملك وحده يوم يحشر الخلائق - هو عالم الغيب والشهادة ، وهو الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها ، وهو الخبير بدقائقها وخفاياها ، ولا يشذ عن علمه شىء منها ، فلا ينبغى لعاقل أن يدعو غيره معه كما قال : « فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً » وقال « بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ » .(7/166)
ج 7 ، ص : 167
[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 79]
{ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) }
تفسير المفردات
إبراهيم اسم خليل الرحمن أبي الأنبياء الأكبر من بعد نوح ، وهو العاشر من أولاد سام كما فى سفر التكوين ، ولد فى بلدة (أور) أي النور من بلاد الكلدان ، وهى المعروفة الآن باسم (أورفا) فى ولاية حلب كما يرجح ذلك بعض المؤرخين.
وفى سفر التكوين - إن اللّه تعالى ظهر له فى سن التاسعة والتسعين من عمره وكلمه وجدد عهده له بأن يكثر نسله ويعطيه أرض كنعان (فلسطين) ملكا له وسماه لذريته ا ه.
ومعنى إبراهيم أبو الجمهور العظيم : أي أبو الأمة وهو تبشير من اللّه له بتكثير نسله من ولديه إسماعيل وإسحاق عليهما السلام.
وقد أثبت علماء الآثار أن عرب الجزيرة استعمروا منذ فجر التاريخ بلاد الكلدان ومصر وغلبت لغتهم فيهما.
ونقل بعض المؤرخين أن الملك حمورابى الذي كان معاصر الإبراهيم عليه السلام عربى.
وقد أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل مع أمه هاجر المصرية فى الوادي الذي بنيت فيه(7/167)
ج 7 ، ص : 168
مكة وأن اللّه سخر لهما جماعة من جرهم سكنوا معهما هناك.
وأبو إبراهيم سماه اللّه آزر ، وفى سفر التكوين اسمه تارح ، ومعناه متكاسل ، وقال البخاري فى تاريخه إبراهيم بن آزر وهو فى التوراة تارح واللّه سماه آزر ا ه.
وجزم الضحاك وابن جرير أن اسمه آزر ، والضلال : العدول عن الطريق الموصل إلى الغاية التي يطلبها العاقل من سيره الحسى والمعنوي ، وملك اللّه وملكوته : سلطانه وعظمته ، وجنه الليل وأجنه ستره ، والكوكب والكوكبة : واحد الكواكب ، وهى النجوم ، ربى أي مولاى ومدبر أمرى ، الأفول : غيبوبة الشيء بعد ظهوره ، وبزوغ القمر ابتداء طلوعه ، وتوجيه الوجه للّه تعالى تركه يتوجه إليه وحده فى طلب حاجته وإخلاص عبوديته ، وفطر السموات والأرض : أخرجهما إلى الوجود لا على مثال سابق ، والحنيف : المائل عن الضلال.
الإيضاح
(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً ؟ ) أي واذكر أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين لقناك فيما سبق الحجج على بطلان شركهم وضلالهم إذ عبدوا ما لا ينفعهم ولا يضرهم - قصص جدهم إبراهيم الذي يبجلونه ويدّعون اتباع ملته حين جادل قومه وراجعهم فى باطل ما كانوا يعملون ، إذ قال لأبيه آزر منكرا عليه وعلى قومه شركهم وعائبا عليه عبادته الأصنام دون بارئه وخالقه ، يا آزر أ تتخذ أصناما آلهة تعبدها من دون اللّه الذي خلقك وخلقها ؟ فهو المستحق للعبادة دونها.
(إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إنى أراك وقومك الذين يعبدون هذه الأصنام مثلك ، فى ضلال عن الصراط المستقيم ، مبين لا شبهة فيه للهدى ، فإن هذه الأصنام تماثيل تنحتونها من الحجارة أو تقطعونها من الخشب ، أو تصنعونها من المعادن ، فأنتم أرفع منها قدرا وأعز جانبا ، ولم تكن آلهة بذاتها بل باتخاذكم إياها ولا يليق(7/168)
ج 7 ، ص : 169
بالعاقل أن يعبد ما هو مساو له فى الخلق ، ولا ما هو مقهور بتصرف الخالق فيه ، ومحتاج إلى الغنى القادر ، ولا يقدر على نفع ولا ضر ، ولا إعطاء ولا منع.
والتعبير بالضلال البين بيان لما حدث منهم بما تدل عليه اللغة كقوله تعالى لخاتم أنبيائه : « وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى » وقولك لمن تراه منحرفا عن الطريق الذي يسلكه :
إن الطريق من هنا فأنت حائد أو ضالّ عنه.
وقد دلت آثار الكشف الحديث فى العراق على صدق ما عرف فى التاريخ من عبادة أولئك القوم للأصنام الكثيرة حتى كان لكل منهم صم للعبادة خاص به ، سواء فى ذلك الملوك والسّوقة ، وكانوا يعبدون الفلك والنّيّرات من الكواكب عامة والدراري السبع خاصة.
(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وكما أرينا إبراهيم الحق فى أمر أبيه وقومه ، وهو أنهم كانوا فى ضلال مبين فى عبادتهم للأصنام والأوثان.
كذلك أريناه مرة بعد مرة ملكوت السموات والأرض. أي خلقهما بما فيهما من بديع النظام وغريب الصنع ، فأريناه تلك الكواكب التي تدور فى أفلاكها على وضع لا تعدوه ، وأريناه الأرض وما فى طبقاتها المختلفة من أصناف المعادن النافعة للإنسان فى معاشه إذا هو استخدمها على الوجه الصحيح الذي أرشدناه إليه ، وجلّينا له بواطن أمورها وظواهرها ، وهذه إلى وجوه الحجة فيها مما يدل على وحدانيتنا وعظيم قدرتنا وإحاطة علمنا بكل شىء (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أي نريه ذلك ليعرف سنننا فى خلقنا ، وحكمنا فى تدبير ملكنا ، وآياتنا الدالة على ربوبيتنا ، ليقيم بها الحجة على المشركين الضالين ، وليكون فى خاصة نفسه من زمرة الراسخين فى الإيقان البالغين عين اليقين.
ثم فصل سبحانه ما أجمله من رؤية ملكوت السموات والأرض فقال :
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) أي إنه تعالى لما بدأ يريه ملكوت السموات والأرض ، كان من أول أمره فى ذلك أنه لما أظلم عليه الليل وستر عنه ما حوله من(7/169)
ج 7 ، ص : 170
عالم الأرض نظر فى ملكوت السموات فرأى كوكبا عظيما ممتازا عن سائر الكواكب بإشراقه وبريقه ولمعانه ، وهو : (كوكب المشترى) الذي هو أعظم آلهة بعض عبّاد الكواكب من قدماء اليونان والرومان ، وكان قوم إبراهيم أئمتهم فى هذه العبادة وهم لهم مقتدون - فلما رآه.
(قالَ هذا رَبِّي) أي قال هذا فى مقام المناظرة والحجاج لقومه تمهيدا للإنكار عليهم فحكى مقالتهم أوّلا ليستدرجهم إلى سماع حجته على بطلانها ، فأوهمهم أولا أنه موافق لهم على زعمهم ، ثم كرّ عليه بالنقض بانيا دليله على الحس والعقل.
(فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أي فلما غرب هذا الكوكب واحتجب قال لا أحب ما يغيب ويحتجب ، إذ من كان سليم الفطرة لا يختار لنفسه حب شىء يغيب عنه ويوحشه فقده فما بالك بحب العبادة الذي هو أعلى أنواع الحب وأكمله ، لأنه قد هدت إليه الفطرة وأرشد إليه العقل السليم ، فلا ينبغى أن يكون إلا للرب الحاضر القريب ، السميع البصير الرقيب ، الذي لا يغيب ولا يغفل ، ولا ينسى ولا يذهل ، الظاهر فى كل شىء بآياته :
وفى كل شىء له آية تدل على أنه واحد
والباطن فى كل شىء بحكمته ولطفه الخفي : « لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ »
وقد جاء فى الحديث فى وصف الإحسان « أن تعبد اللّه كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » .
والخلاصة - إن فى هذا تعريضا بجهل قومه فى عبادة الكواكب ، إذ يعبدون ما يحتجب عنهم ولا يدرى شيئا من أمر عبادتهم وهذا قريب من قوله لأبيه :
« لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ».
وقد احتج إبراهيم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال ، لأن الأفول انتقال مع خفاء واحتجاب وهو مما ينافى الربوبية.(7/170)
ج 7 ، ص : 171
(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي) أي فلما رأى القمر طالعا من وراء الأفق أول طلوعه قال هذا ربى على طريق الحكاية لما كانوا يقولون تمهيدا لإبطاله كما علمت فيما سلف.
والمتبادر من سياق الكلام أن إبراهيم رأى الكوكب فى ليلة ورأى القمر فى الليلة التالية.
(فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) أي فلما أفل القمر كما أفل الكوكب وهو أكبر منه منظرا وأسطع نورا وأقوى منه ضياء قال مسمعا من حوله من قومه : لئن لم يهدنى ربي ويوفقنى لإصابة الحق فى توحيده لأكوننّ من القوم الضالين الذين أخطئوا الحق فى ذلك فلم يصيبوا الهدى وعبدوا غير اللّه واتبعوا أهواءهم ولم يعملوا بما يرضيه سبحانه.
وفى هذا تعريض يقرب من التصريح بضلال قومه ، وإرشاد إلى توقف هداية الدين على الوحى الإلهى ، وقد ترقى فى هذا التعريض ، لأن الخصوم قامت عليهم الحجة بالاستدلال الأول فأنسوا بالقدح فى معتقدهم ، فما عرّض صلوات اللّه عليه بضلالهم إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى إتمام المقصود واستماعه إلى آخره ، وقد انتقل فى المرة الثالثة من التعريض إلى التصريح بالبراءة منهم والتصريح بأنهم على شرك بيّن بعد أن تبلّج الحق وظهر غاية الظهور ، وذلك قوله :
(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) أي قال مشيرا إليها : هذا الذي أرى الآن هو ربى (هذا أَكْبَرُ) أي من الكواكب والقمر ، وفى هذا مبالغة فى المجاراة لهم وتمهيد لإقامة الحجة عليهم واستدراج لهم إلى التمادي فى الاستماع بعد ذلك التعريض الذي كان يخشى أن يصدّهم عنه.
والخلاصة - أن هذا الطالع أكبر من الكواكب والقمر قدرا وأعظم ضياء ونورا فهو أجدر منهما بالربوبية.(7/171)
ج 7 ، ص : 172
(فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أي فلما أفلت كما أفل غيرها واحتجب ضوء المشرق وكانت الوحشة بذلك أشد من الوحشة باحتجاب الكوكب والقمر صرّح بما أراد بعد ذلك التعريض الذي تقدم متبرئا من شرك قومه وتنحّى عنه لقبحه بعد أن جاراهم عليه أولا استمالة لهم وإصغاء إلى ما يقول.
والخلاصة - إنه حاور وداور ، وتلطف فى القول ، وأرخى لخصمه العنان ، حتى وصل إلى ما أراد بألطف وجه وأحسن طريق ، متبرئا من تلك المعبودات التي جعلوها أربابا وآلهة مع اللّه.
وبعد أن تبرّأ من شركهم قفّى تلك البراءة ببيان عقيدته عقيدة التوحيد الخالص فقال :
(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي إنى جعلت توجهى فى عبادتى لمن خلق السموات والأرض وأكمل خلقهن أطوارا فى ستة أيام ، فهو خالق هذه الكواكب النيرات وخالقكم وما تصنعون منه هذه الأصنام من معدن ونبات.
وفى معنى الآية قوله : « وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً » وقوله « وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى » .
وإسلام الوجه له تعالى توجّه القلب إليه وعبر عنه به لأن الوجه أعظم مظهر لما فى النفس من الإقبال أو الإعراض ، والسرور أو الكآبة ، إلى نحو أولئك. وتوجيهه له جعله يتوجه إليه وحده ، فى طلب حاجته وإخلاص عبوديته ، إذ هو المستحق للعبادة ، القادر على الأجر والثواب.
والخلاصة - إن إبراهيم تبرأ أولا من شركهم أو شركائهم ثم تبرأ منهم أنفسهم.
ونحو الآية قوله تعالى : « قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ » .(7/172)
ج 7 ، ص : 173
روى ابن جرير عن ابن زيد أن قوم إبراهيم قالوا حين قال إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض : ما جئت بشىء ونحن نعبده ونتوجه إليه ، فرد عليهم بأنه حنيف أي مخلص له لا يشرك به كما يشركون ا ه.
يريد أنه مائل عن معبوداتهم الباطلة وعن غيرها ، فتوجهه وإسلامه خالص ، لا يشوبه شرك ولا رياء ، وما هو من المشركين به الذين يتوجهون إلى غيره من المخلوقات كالكواكب أو الملائكة أو الملوك أو الصالحين أو ما يتخذ لهم من الأصنام والتماثيل.
وظاهر ما حكاه اللّه عن إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم أن قومه كانوا يتخذون الأصنام آلهة لا أربابا ويتخذون الكواكب أربابا آلهة ، والإله هو المعبود وكل من عبد شيئا فقد اتخذه إلها ، والرب : هو السيد المالك المربّى المدبر المتصرف ، وليس للخلق رب ولا إله إلا اللّه الذي خلقهم ، فهو المالك لكل شىء وفى كل زمن وعلى كل حال ، وملك غيره ناقص موقوت فهو المعبود بحق ، والعبادة : هى التوجه بالدعاء والتعظيم القولى أو العملي إلى ذى السلطان الأعلى خالق الخلق والموجد له والمتصرف فيه.
والأصل فى اختراع عبادة غير اللّه من حجر أو شجر أو شمس أو قمر أمران :
(1) إن بعض ضعاف الأحلام رأوا بعض مظاهر قدرته تعالى فى بعض خلقه ، فتوهموا أن ذلك ذاتى لهذا المخلوق ليس خاضعا لسنن اللّه فى الأسباب والمسببات.
(2) اتخاذ بعض المخلوقات ذات الخصوصية فى مظاهر النفع والضر وسيلة إلى الإله الحق تشفع عنده وتقرب إليه كل من توجه إليها ، فيتوسل ذو الحاجة إليها بدعائها وتعظيمها بالقول أو الفعل لحمله تعالى بتأثيرها على قبوله وإعطائه سؤله.
وقد أقاموا مقام هذه المخلوقات : التماثيل والأصنام والقبور وغيرها مما يذكّر بها ، وهذه هى الوثنية الراقية التي كانت عليها العرب زمن البعثة ، ومن ثم كانوا يقولون فى طوافهم بالبيت الحرام : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك.
وكان قوم إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم قد ارتقوا فى وثنيتهم إلى هذه المرتبة ، إذ أنهم عقلوا أن الأصنام لا تسمع دعاءهم ولا تبصر عبادتهم ولا تقدر على نفعهم(7/173)
ج 7 ، ص : 174
وضرهم ، وإنما قلدوا فيها آباءهم كما سيأتى فى حججهم فى سورة الشعراء ، ومن ثم اتخذوا الأصنام آلهة معبودين لا أربابا مدبرين ، لكنهم اتخذوا الكواكب أربابا لما لها من التأثير السببى فى الأرض ، فكانوا يعتقدون أن الشمس رب الناس ، والقمر يدبّر الملوك ويفيض عليهم روح الشجاعة والإقدام وينصر جندهم ويخذل عدوهم ، ويعتقدون أن (مرداخ) وهو المشترى شيخ الأرباب ورب العدل والأحكام وحافظ الأبواب التي يدخلها الخصوم لفصل الخصومات ، وأن (رنكال) وهو المريخ رب الصيد وسلطان الحرب ، وأن (عشتار) وهى الزّهرة ربة الغبطة والسرور والسعادة وتمثل بصورة امرأة عارية ، وأن (نيو) وهو عطارد رب العلم والحكمة.
وجاء إبراهيم بحجته البالغة ، فحصر العبادة فى فاطر السموات والأرض وحده دون غيره من الوسائل فقال فى تماثيلهم : « بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ » .
[سورة الأنعام (6) : الآيات 80 الى 83]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)(7/174)
ج 7 ، ص : 175
تفسير المفردات
المحاجة : المجادلة والمغالبة فى إقامة الحجة ، والحجة تطلق تارة على الدلالة المبينة للمقصد ، وتارة على ما يدلى به أحد الخصمين فى إثبات دعواه أو رد دعوى خصمه ، وهى بهذا الاعتبار تنقسم إلى حجة دامغة يثبت بها الحق ، وإلى حجة داحضة يموّه بها الباطل ، وقد اصطلحوا على تسمية مثل هذه شبهة ، والسلطان : الحجة والبرهان ، لم يلبسوا : لم يخلطوا ، والظلم هنا هو الشرك فى العقيدة أو العبادة كاتخاذ ولى من دون اللّه يدعى معه أو من دونه.
الإيضاح
(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) أي وجادله قومه فى أمر التوحيد ، فهو حين أبان لهم بطلان عبادة الأصنام وربوبية الكواكب ، وأثبت لهم وحدانية اللّه تعالى ووجوب عبادته وحده ، حاجوه ببيان أوهامهم فى شركهم ، إذ قالوا إن اتخاذ الآلهة لا ينافى الإيمان باللّه الفاطر للسموات والأرض ، لأنهم شفعاء عنده ، ولما لم يجد ذلك معه خوّفوه أن تمسه آلهتهم بسوء ، وانتهت بهم خاتمة المطاف أن قالوا : إنهم ساروا على ما وجدوا عليه آباءهم ، وليس للمقلد أن يحتج ولكنه يجادل ويحاج مع كونه لا يخضع للحجة إذا قامت عليه ، وكثيرا ما يضطرب المقلد لسماع الحجة ، إذ يومض فى قلبه نورها ثم يعود إلى سابق وهمه خائفا مما لا يخيف ، راجيا ما لا يرجى ، كما يشاهد لدى زائرى قبور الصالحين والأولياء الذين يتوهمون أن هذه القبور تدفع عن زائرها الضر وتكشف عنه السوء وتدرّ عليه الرزق وتكبت العدو ، إما بتصرفهم فى الخلق وإما لأنهم قربان عند الرب ولا يرون شيئا من هذا ناقضا للإيمان الصحيح ، وفى مثلهم يقول اللّه عز اسمه « وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ » .
(قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ ؟ ) أي أ تجادلونني فى شأن اللّه وما يجب فى الإيمان(7/175)
ج 7 ، ص : 176
به ، قد فضلنى عليكم بما هدانى إلى التوحيد الخالص وبما بصّرنى به من الحجة التي أقمتها عليكم ، وأنتم الضالون بإصراركم على شرككم وتقليدكم فيه من قبلكم ؟ .
(وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) أي ولا أرهب من آلهتكم التي تدعونها من دون اللّه سوءا ينالنى فى نفسى ، ذلك أنى أعتقد أنها لا تضر ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، ولا تقرّب ولا تشفع.
(إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً)
أي لا أخاف ما تشركون به فى وقت من الأوقات إلا وقت مشيئته تعالى إصابة مكروه لى من جهتها ، فإنه يقع لا محالة كما شاء ربى ، فإن شاء أن يسقط علىّ صنم يشجّنى ، أو كسف من شهب الكواكب يقتلنى ، فإن ذلك يقع بقدرة ربى ومشيئته لا بمشيئة الصنم أو الكواكب ولا بقدرته ولا بتأثيره فى قدرته تعالى وإرادته ولا بجاهه عنده وشفاعته ، إذ لا تأثير لشىء من المخلوقات فى مشيئة اللّه الجارية إلا بما يثبت فى علمه الأزلى.
ثم أتى بما هو كالعلة لما قبله فقال :
(وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي أحاط بكل شىء علما ، فلا يبعد أن يكون فى علمه سبحانه إنزال المكروه بي من جهتها بسبب من الأسباب.
(أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ؟ ) أي أ تعرضون بعد ما أوضحته لكم عن التأمل فى أن آلهتكم ليس بيدها نفع ولا ضر ، فلا تتذكرون أيها الغافلون أنها غير قادرة على ضرّى ولا على إيصال النفع إليكم ، فالسلطة العليا له وحده ليس لغيره تأثير فيها ولا تدبير ، فإذا أعطى بعض المخلوقات شيئا من النفع أو الضر فلا يكون ذلك داعيا لرفعها عن رتبة المخلوقات ، وجعلها أربابا ومعبودات.
وكان يجب أن يفطن لذلك العقلاء ويتذكروه ، لأنه تذكير بما يدركه العقل بالبرهان ، ويهدى إليه الوجدان.
ومما يجب أن يتنبه له كثير من الذين ينتمون إلى ملة التوحيد أن هذا الضرب من الشرك الذي نعاه إبراهيم على قومه - لا يزال فاشيا بينهم فهم يعتقدون فى بعض المخلوقات(7/176)
ج 7 ، ص : 177
من أحياء وأموات أن لهم تصرفا غيبيا ، فما يقع عقب زيارتهم لهم من زوال مكروه أو نفع يصل إلى محبوب إنما كان بدعائهم ، والواقع أن ذلك بتقدير السميع العليم ، وليس لغيره فى ذلك تأثير لا جلىّ ولا خفىّ.
وبعد أن أبان لهم أنه لا يخاف شركاءهم بل يخاف اللّه وحده ، تعجب من تخويفهم إياه ما لا يخيف ، وعدم خوفهم مما يجب أن يخاف منه قال :
(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) أي وكيف أخاف ما أشركتموه بربكم من خلقه فجعلتموه ندّا له ينفع ويضر - ولا تخافون إشراككم باللّه خالقكم ما لم ينزل به حجة بيّنة بوحي ولا نظر عقل تثبت لكم جعله شريكا فى الخلق والتدبير أو فى الوساطة والشفاعة ، فافتياتكم على خالقكم بهذه الدعوى هو الذي يجب أن يخاف ويتقى.
والخلاصة - إن ما يدّعى لصحة هذا الخوف باطل ، وأنه عليه السلام لم يجد هذا الخوف وجها ، فلا يخاف الشركاء لذواتهم ، ولا لما يزعمون من وساطتهم عند اللّه وشفاعتهم ، ولا لقدرة على الضر والنفع قد تدّعى لهم.
وقوله ما لم ينزل به عليكم سلطانا - مذكور على طريق التهكم ، مع الإعلام بأن الدين لا يقبل إلا بالحجة والبرهان ، والتقليد ليس بعذر ولا سيما تقليد من ليس على هداية ولا علم ولا بصيرة واللّه لم ينزل بما ادعيتموه سلطانا لأنه باطل فلا سلطان عليه ولا دليل.
(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) الفريقان : فريق الموحدين الذين يعبدون اللّه وحده ويخافونه ويرجونه دون غيره ، وفريق المشركين الذين استكبروا تأثير بعض الأسباب فاتخذوا ما اتخذوا من الآلهة والأرباب ، ونسبوا إلى بعضها النفع والضر كالشمس والقمر والملائكة - أي فأى هذين الفريقين أحق وأجدر بالأمن على نفسه من عاقبة عقيدته وعبادته.
ونكتة التعبير (بأى الفريقين) دون أن يقول فأينا أحق بالأمن - الإشارة(7/177)
ج 7 ، ص : 178
إلى أن هذه المقابلة عامة لكل موحد ومشرك لا خاصة به وبهم ، والبعد عن التصريح بخطئهم الذي ربما يدعو إلى اللجاج والعناد ، والاحتراس من تنفيرهم من الإصغاء إلى قوله :
(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم من أهل العلم والبصيرة فى هذا الأمر فأخبرونى بذاك وبينوه بالأدلة - وفى هذا إلجاء لهم إلى الاعتراف بالحق أو السكوت على الحمق والجهل.
ثم بين سبحانه الحقيق بالأمن على سبيل التفصيل فقال :
(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) المراد بالظلم الذي يلبس به المرء إيمانه باللّه ويخلطه به فينقص منه أو ينقصه هو الشرك فى العقيدة أو العبادة كاتخاذ ولى من دون اللّه يدعى معه أو من دونه ، فيعظّم كتعظيمه ويحبّ كحبه ، للاعتقاد أن له نفعا أو ضرا بذاته أو بتأثيره فى مشيئة اللّه وقدرته ، لا ظلم الإنسان نفسه بفعل بعض المضارّ أو ترك بعض المنافع عن جهل أو إهمال ، ولا ظلمه لغيره ببعض التصرفات والأحكام ، يدل على هذا التفسير ما
رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من حديث ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية شق ذلك على الناس وقالوا يا رسول اللّه وأيّنا لا يظلم نفسه ؟ فقال صلى اللّه عليه وسلم : إنه ليس الذي تعنون ، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح « يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ »
إنما هو الشرك. والمراد بالأمن الأمن من عذاب اللّه الذي يحل بمن لا يرضى إيمانه ولا عبادته.
أي إن الذين آمنوا باللّه تعالى ولم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم وهو الشرك به سبحانه وتعالى ، أولئك لهم الأمن دون غيرهم من الخلود فى دار العذاب ، وهم فيما وراء ذلك بين الخوف والرجاء.
وهذا جواب من اللّه به فصل القضاء بين إبراهيم ومن حاجّه من قومه كما اختاره بن جرير ونقله عن ابن إسحاق وابن زيد من المفسرين.(7/178)
ج 7 ، ص : 179
(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) أي وتلك الحجة الدامغة التي تضمنها البيان السالف ، المثبتة للحق ، المزيّفة للباطل ، هى الحجة التي أرشدنا إليها إبراهيم وأعطيناها إياه ليلزم قومه ويقنعهم بها.
(نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) أي إننا نرفع من شئنا من عبادنا درجات بعد أن لم يكونوا على درجة منها ، فالعلم درجة كمال ، والحكمة درجة كمال ، وقوة العارضة فى الحجاج درجة كمال ، والسيادة والحكم بالحق كذلك ، والنبوة والرسالة أعلى كل هذه الدرجات ، لأنها تشتمل عليها وتزيد.
واللّه يرفع درجات من يؤتيهم ذلك بتوفيق صاحب الدرجة الكسبية إلى ما به ترتقى درجته ، ويصرف موانع هذا الارتقاء عنه ، ويؤتى ذا الدرجة الوهبية (النبوة) ما لم يؤت غيره من أهل المناقب والآيات « تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ » .
(إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي إن ربك الذي رباك وعلمك وهداك وجعلك خاتم رسله لجميع خلقه ، حكيم فى قوله ، عليم بشئونهم ، وسيريك ذلك عيانا فى سيرتك مع قومك كما أراكه بيانا فيما حدّث عن إبراهيم مع قومه وتأسّ فى نفسك وقومك المكذبين بأبيك واصبر على ما ينوبك منهم كما صبر.
واعلم أن معرفة اللّه تعالى لا تحصل على الوجه الصحيح إلا بتعميم الوحى ، وعلم الأنبياء به ضرورى لا نظرى فقد علّمهم به ما لم يكونوا يعلمون من الحجج العقلية والدلائل النقلية إلى نحو ذلك مما هداهم إليه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 84 الى 90]
(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88)
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)(7/179)
ج 7 ، ص : 180
المعنى الجملي
اعلم أنه سبحانه بعد أن حكى عن إبراهيم صلوات اللّه عليه أنه أظهر حجة اللّه فى التوحيد ، وعدد وجوه نعمه وإحسانه إليه ، ذكر هنا أنه جعله عزيزا فى الدنيا ، إذ جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من ذريته وأبقى هذه الكرامة له إلى يوم القيامة ،
الإيضاح
(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا) أي ووهبنا لإبراهيم إسحاق نبيا من الصالحين ، وجعلنا من ذريته يعقوب نبيا منجيا للأنبياء والمرسلين ، وهدينا كلا منهما كما هدينا إبراهيم بما آتيناه من النبوة والحكمة وقوة العارضة والحجة.
وإنما ذكر إسحق دون إسماعيل لأنه هو الذي وهبه اللّه تعالى بآية منه بعد كبر سنه وعقم امرأته سارّة ، جزاء إيمانه وإحسانه وكمال إسلامه وإخلاصه بعد ابتلائه بذبح ولده إسماعيل ولم يكن له ولد سواه على كبر سنه ، ويقول المؤرخون إن معنى(7/180)
ج 7 ، ص : 181
(إِسْحاقَ) الضحاك ، وأنه ولد وكانت سن أبيه مائة واثنتي عشرة سنة ، وسن أمه تسعا وتسعين سنة ، وأنه عاش ثمانين ومائة سنة.
(وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) أي وهدينا جده نوحا إلى مثل ما هدينا له إبراهيم وذريته ، فآتيناه النبوة والحكمة وهداية الخلق إلى طريق الرشاد.
والمراد بذلك أن نسب إبراهيم من أشرف الأنساب ، إذ قد رزقه اللّه أولادا مثل إسحاق ويعقوب وجعل أنبياء بنى إسرائيل من نسلهما ، وأخرجه من أصلاب آباء طاهرين كنوح وإدريس وشيث ، فهو كريم الآباء شريف الأبناء.
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً ، وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ).
الضمير فى ذريته يعود إلى إبراهيم ، لأن الكلام فى شأنه بذكر ما أنعم اللّه عليه من فضل ، وإنما ذكر نوحا لأنه جده فهو كما قدمنا يرشد إلى فضل اللّه عليه فى أصوله وفروعه ، ولأن اللّه جعل الكتاب والنبوة فى نسلهما معا كما جاء فى سورة الحديد :
« وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ » أي وهدينا من ذريته داود وسليمان إلخ. وقد ذكر اللّه فى هذه الآيات أربعة عشر نبيا لم يرتبهم بحسب أزمانهم ولا بحسب فضلهم ، لأن الكتاب قد أنزل ذكرى وموعظة للناس لا تاريخا تفصل وقائعه مرتبة بحسب وجودها.
وقد التمس بعض العلماء حكمة لهذا الترتيب فقال : إن اللّه تعالى جعل الأنبياء ثلاثة أقسام يجمع بين كل قسم منها معنى مشترك :
(1) داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون ، وأولئك قد آتاهم اللّه الملك والإمارة والحكم والسيادة مع النبوة والرسالة ، فداود وسليمان كانا ملكين غنيين ، وأيوب كان أميرا غنيا محسنا ، ويوسف كان وزيرا عظيما وحاكما متصرفا ، ولكن هذين ابتليا بالضراء فصبرا كما ابتليا بالسراء فشكرا ، وموسى وهرون كانا حاكمين ولم(7/181)
ج 7 ، ص : 182
يكونا ملكين ، وقد ذكرهم القرآن على طريق الترقي فى هدى الدين فأفضلهم موسى وهرون ثم أيوب ويوسف ثم داود وسليمان ، وقوله وكذلك نجزى المحسنين أي بالجمع بين نعم الدنيا والرياسة وبين هداية الدين وإرشاد الخلق.
(2) زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ، وهؤلاء كانت لهم ميزة الزهد والإعراض عن لذات الدنيا والرغبة عن زينتها وسلطانها ، ومن ثم خصهم بوصف الصالحين وإن كان كل نبى صالحا ومحسنا.
(3) إسماعيل واليسع ويونس ولوطا ، وهؤلاء لم يكن لهم من ملك الدنيا ما كان للقسم الأول ، ولا من المبالغة فى الزهد ما كان للقسم الثاني ، وقد قفّى على ذكرهم بالتفضيل على العالمين الذي جعله اللّه لكل نبى على عالمى زمانه ، فمن كان منهم منفردا فى قوم كان أفضلهم على الإطلاق وإن وجد نبيان أو أكثر فى قوم كانوا أفضلهم وربما كانوا متفاضلين فى أنفسهم ، فإبراهيم أفضل من لوط المعاصر له وموسى أفضل من أخيه هرون الذي كان وزيره ، وعيسى أفضل من ابن خالته يحيى صلوات اللّه عليهم أجمعين ا ه.
(وَ مِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) أي وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم لا كلهم ، إذ أن بعض هؤلاء الأقربين لم يهتد بهدى ابنه أو أبيه أو أخيه ، ألا ترى إلى أبى إبراهيم وابن نوح قال تعالى : « وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ، فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ » .
(وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يقال اجتبى فلان فلانا لنفسه إذا اختاره واصطفاه ، واجتباء اللّه العبد : تخصيصه إياه بفيض إلهى يحصل له منه أنواع من النعم بلا سعى منه كما يحدث للأنبياء والصديقين والشهداء : أي فضلنا كلا على العالمين واخترناهم وهديناهم إلى الصراط المستقيم.
(ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي ذلك الهدى الذي هدى به من تقدم ذكرهم من الأنبياء والرسل فوفقوا به لإصابة الدين الحق الذي به رضا ربهم(7/182)
ج 7 ، ص : 183
وشرف الدنيا وكرامة الآخرة - هو هدى اللّه الخاص وتوفيقه ولطفه الذي يوفق به من يشاء حتى ينيب إلى طاعته ، ويخلص العمل له ، ويقر بالتوحيد ، ويرفض الأوثان والأصنام.
والهداية ضربان : ضرب ليس لصاحبه سعى فيه ولا هو مما ينال بالكسب وهو النبوة وهو ما أشير إليه بقوله لنبيه صلى اللّه عليه وسلم : « وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى » .
وضرب آخر ينال بالكسب والاستعداد مع اللطف الإلهى والتوفيق لنيل المراد.
ثم ختم سبحانه الآية بنفي الشرك وتقرير التوحيد فقال :
(وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ولو أشرك أولئك المهديون بربهم فعبدوا معه غيره لبطل أجر أعمالهم التي يعملونها ، إذ توحيد اللّه تعالى هو المزكّى للأنفس ، فضده وهو الشرك منتهى النقص والفساد المدسّى لها والمفسد لفطرتها ، فلا يبقى معه فائدة لعمل آخر يترتب عليه نجاتها وفلاحها به.
(أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) المراد بالكتاب ما ذكر فى القرآن من صحف إبراهيم وموسى وزبور داود وإنجيل عيسى ، والحكم : العلم والفقه فى الدين. وكل نبى آتاه اللّه العلم الصحيح والفقه فى أمور الدين وشئون الإصلاح وفهم الكتاب الذي تعبده به سواء أنزله عليه أم أنزله على غيره واختصّ بعضهم بإيتائه الحكم صبيا كيحيى وعيسى أي بإعطائه ملكة الحكم الصحيح فى الأمور.
وأما الحكم بمعنى القضاء والفصل فى الخصومات فلم يعطه إلا بعض الأنبياء.
أي إن أولئك الأنبياء الذين ذكرت أسماؤهم أوتوا الحكم والقضاء بين الناس لفصل الخصومات ، وذلك مستلزم للعلم والفقه وتكون هذه العطايا الثلاث مرتبة بحسب درجات الخصوصية ، فبعض النبيين أوتى الثلاث كإبراهيم وموسى وعيسى وداود ، قال تعالى حكاية عن إبراهيم « رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً » فهو قد دعا هذا الدعاء وهو رسول عليهم بعد محاجة قومه ، وقال حكاية عن موسى : « فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ » وقال عز اسمه : « يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ(7/183)
ج 7 ، ص : 184
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ »
وقال فى داود وسليمان معا : « وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً » .
ومنهم من أوتى الحكم والنبوة كالأنبياء الذين كانوا يحكمون بالتوراة ، ومنهم من لم يؤت إلا النبوة فقط.
والخلاصة - إن كل من أوتى الكتاب أوتى الحكم والنبوة ، وكل من أوتى الحكم ممن ذكر كان نبيا ، وما كل نبى منهم كان حاكما ولا صاحب كتاب منزل ، وهذه هى مراتب الفضل بينهم صلوات اللّه عليهم.
(فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) أي فإن يكفر هؤلاء المشركون من أهل مكة بالكتاب والحكم والنبوة - فقد وكلنا برعايتها ، ووفقنا للإيمان بها وتولى نصر الداعي إليها قوما كراما ليسوا بكافرين بها ، فمنهم من آمن بها ومنهم من سيؤمن عند ما يدعى إليها.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس فى قوله : « فإن يكفر بها هؤلاء » يعنى أهل مكة ، فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين يعنى أهل المدينة والأنصار ا ه.
والذي عليه المعول - أن الموكلين بها هم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مطلقا ، فإن المهاجرين قد كانوا أول من آمن بها وكانوا بعد الهجرة فى المقدمة فى كل عمل وجهاد ولكن الأنصار هم المقصودون بالذات ، لأن القوة والمنعة لم تكن إلا بهم ، ومن ثم قال : « لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ » والأنصار لم يكونوا عند نزول هذه السورة مؤمنين.
(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الهدى ضد الضلال. ويطلق شرعا على الطريق الموصل إلى الحق وهو الطريق المستقيم الذي نطلبه فى صلاتنا وعلى سلوك ذلك الطريق والاستقامة فى السير عليه.
أي إن أولئك الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرت أسماؤهم فى الآيات السالفة ، والذين وصفهم اللّه بإيتائهم الكتاب والحكم والنبوة - هم الذين هداهم اللّه هداية كاملة ،(7/184)
ج 7 ، ص : 185
فبهداهم دون ما يخالفه من أعمال غيرهم ، اقتد أيها الرسول فيما يتناوله كسبك وعملك مما بعثت به من تبليغ الدعوة وإقامة الحجة والصبر على التكذيب والجحود وإيذاء أهل العناد ومقلدى الآباء والأجداد وإعطاء كل حال حقها من مكارم الأخلاق وأحاسن الأعمال ، كالصبر والشكر والشجاعة والحلم والزهد والسخاء والحكم بالعدل قال تعالى : « وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ » وقال : « وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ » .
والخلاصة - إن اللّه تعالى أمره بالاقتداء بهم فى الأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة من الصبر على أذى السفهاء والعفو عنهم - وقد كان مهتديا بهداهم كلهم فكانت مناقبه وفضائله الكسبية أعلى من مناقبهم وفضائلهم ، لأنه اقتدى بها كلها فاجتمع له من الكمال ما كان متفرقا فيهم - إلى ما أوتيه دونهم ، ومن ثم شهد له ربه بما لم يشهد به لأحد منهم فقال « وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ » .
وكذلك فضائله الموهوبة هى فيه أظهر وأعظم ، فبعثته عامة للناس أسودهم وأحمرهم وبه ختمت النبوة والرسالة ، وكمال الأشياء فى خواتيمها صلوات اللّه عليهم أجمعين.
(تنبيه) ذكر بعض العلماء أن الأنبياء المرسلين الذين ذكروا فى القرآن ويجب الإيمان بهم تفصيلا خمسة وعشرون هم الثمانية عشر الذين ذكرت أسماؤهم فى هذه الآيات ، والسبعة الآخرون هم آدم أبو البشر وإدريس ولوط وصالح وشعيب وخاتم الجميع محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام.
وليس فى القرآن نص قطعى صريح فى رسالة آدم عليه السلام ، بل مفهوم قوله :
«
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ » أن نوحا أول نبى مرسل أوحى اللّه إليه رسالته وشرعه ، وكذلك حديث الشفاعة.
عن أنس بن مالك قال :(7/185)
ج 7 ، ص : 186
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « يجمع اللّه الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك فيقولون لو استشفعنا على ربنا فأراحنا من مكاننا هذا ، فيأتون آدم فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك اللّه بيده وأسجد لك ملائكته وعلّمك أسماء كل شىء فاشفع لنا إلى ربك حتى تريحنا من مكاننا هذا ، فيقول لهم آدم لست هناكم - ويذكر ذنبه الذي أصابه فيستحى من ربه عز وجل - ولكن ائتوا نوحا أول رسول بعثه اللّه إلى الأرض فيأتون نوحا ... » إلخ.
والخلاصة - إن الآية تدل على أن أول رسول شرع اللّه على لسانه الأحكام والحلال والحرام هو نوح عليه السلام.
ويرى بعض العلماء أن آدم كان على هدى من ربه ربّى عليه أولاده وبشرهم بالثواب وأنذرهم بالعقاب ، وهذه هداية من جنس هداية اللّه للنبيين والمرسلين التي بلّغوها أقوامهم ، ولا ندرى كيف هدى اللّه تعالى آدم إليها ، فإن طرق الهداية متعددة ، وقد تكون هى هداية الفطرة.
ونوح ومن بعده أرسلوا إلى من فسدت فطرتهم فأعرضوا عما دعوا إليه ، وهذه هى الرسالة الشرعية التي يسمى من جاء بها رسولا دون الأولى.
(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أي قل أيها الرسول لمن بعثت إليهم : لا أسألكم على هذا القرآن الذي أمرت أن أدعوكم إليه وأذكّركم به أجرا من مال ولا غيره من المنافع ، كما أن جميع من قبلى من الرسل لم يسألوا أقوامهم أجرا على التبليغ والهدى ، وقد تكرر هذا الأمر له صلى اللّه عليه وسلم فى سور متعددة كقوله : « قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » .
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) أي ما هو إلا تذكير وموعظة لإرشاد العالمين كافة لا لكم خاصة ، وفى هذا تصريح بعموم بعثته صلوات اللّه عليه للناس جميعا أسودهم وأحمرهم.(7/186)
ج 7 ، ص : 187
[سورة الأنعام (6) : الآيات 91 الى 92]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)
تفسير المفردات
قدر الشيء ومقداره : مقياسه الذي يعرف به ، ويقال قدره يقدره : إذا قاسه ، والقدر والقدرة والمقدار : القوة أيضا ، والقدر : الغنى واليسار والشرف ، قراطيس :
واحدها قرطاس وهو ما يكتب فيه من ورق أو جلد أو غيرهما ، البركة : الزيادة والسعة ، ومبارك : بارك اللّه فيه بما فضل به ما قبله من الكتب فى النظم والمعنى ، وأم القرى : مكة ، وسميت بذلك لأنها قبلة أهل القري ، أو لأنهم يعظمونها كالأم ، أو لأن فيها أول بيت وضع للناس.
الإيضاح
(وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ) أي ما عرفوه حق معرفته ، فإن منكرى الوحى الذين يكفرون برسل اللّه ويريدون أن يفرقوا بين اللّه ورسله ما عرفوا اللّه حق معرفته ، ولا عظموه حق تعظيمه ولا وصفوه حق صفته ، ولا آمنوا بقدرته على إفاضة ما شاء من علمه بما يصلح به الناس من الهدى والشرائع(7/187)
ج 7 ، ص : 188
على من شاء من البشر بواسطة الملائكة أو بتكليمه إياهم بدون واسطة وهم قد أنكروا الوحى وجهلوا فضل البشر وقالوا ما أنزل اللّه على أحد منهم شيئا.
ومن عرف حكمة اللّه البالغة ، ورحمته الواسعة ، وعلمه المحيط بكل شىء ، ونظر فى آياته فى الأنفس والآفاق ، وعلم أنه أحسن كل شىء خلقه ، وخلق الإنسان مستعدا للصعود إلى أعلى عليين ، والهبوط إلى أسفل سافلين ، وجعل كماله أثرا لعلومه وأعماله الكسبية التي عليها مدار حياته الدنيوية والأخروية - علم أن الإنسان مهما ارتقت معارفه لا يمكن أن يصل إلى الكمال الذي يؤهله لنيل السعادة الأبدية إلا إذا اهتدى بهدى النبيين والمرسلين ، فإن إرسالهم وإنزال الوحى عليهم وإرشادهم للناس سبب لكل ارتقاء إنسانى فى حياتيه الجسمانية والروحية فبذلك تذهب الضغائن والأحقاد من القلوب ، ويزول الخلاف والشقاء بين الناس ، ويعيشون فى وفاق ووئام ، علما منهم بأن هناك سلطة عليا ترقب أعمالهم ، وتحاسبهم على النقير والقطمير ، فى ذلك اليوم العبوس القمطرير ، وتجزى كل نفس بما كسبت ، لا ظلم اليوم إن اللّه سريع الحساب.
ثم لقن اللّه رسوله الردّ على منكرى الوحى والرسالة من مشركى قريش ، إثر بيان كون ذلك من شئونه تعالى ومن مقتضى نظام حياة البشر وقد كانوا يعلمون أن اليهود هم أصحاب التوراة المنزلة على موسى فقد أرسلوا إلى المدينة وفدا زعيماه النضر بن الحرث وعقبة بن أبي معيط ليسألوا الأحبار عما يعلمون عن محمد وصفته ، لأنهم أهل الكتاب الأول وعندهم علم ما ليس عند غيرهم من علم الأنبياء ، فلما أتوا إلى أولئك الأحبار سألوهم عنه فأنكروا معرفته ، وبذا يكون الاحتجاج عليهم بإنزال التوراة على موسى احتجاجا ملزما لهم ودافعا لإنكارهم فقال :
(قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) أي قل لقومك الذين لم يقدروا اللّه حق قدره « إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » و« قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا ؟ - مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ(7/188)
ج 7 ، ص : 189
مُوسى نُوراً »
انقشعت به ظلمات الشرك الذي ورثه بنو إسرائيل عن المصريين ، وهدى للناس الذين جاء لتبليغ رسالته إليهم فأخرجهم من الضلال إلى نور الحق وصاروا خلقا آخر اعتصم بالحق والعدل - حتى اختلفوا فيه ونسوا حظّا مما ذكّروا به واتبعوا أهواءهم وجعلوه قراطيس يبدونها عند الحاجة ، فإذا استفتى الحبر من أحبارهم فى مسألة له هوى فى إظهار حكم اللّه فيها كتب ذلك الحكم فى قرطاس وأظهره للمستفتى ولخصومه ويخفون كثيرا من أحكام الكتاب وأخباره إذا كان لهم هوى فى إخفائها.
وسبب هذا أن الكتاب كان بأيديهم ولم يكن فى أيدى العامة نسخ منه ، وهذا الإخفاء لنصوص الوقائع غير ما نسيه متقدمو اليهود من الكتاب بضياعه عند تخريب بيت المقدس وإجلاء اليهود إلى العراق وهو ما أشار إليه تعالى بقوله : « فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ » وقد أخفى أحبار اليهود حكم الرجم بالمدينة وأخفوا ما هو أعظم من ذلك وهو البشارة بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وكتمان صفاته عن العامة وتحريفها إلى معان أخرى للخاصة ، فلقّن اللّه رسوله أن يقرأ هذه الآية على مسمع من اليهود وغيرهم بالخطاب لهم فيقول : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً).
(وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) قال مجاهد هذا خطاب للعرب ، وفى رواية عنه للمسلمين ومآلهما واحد فإن ما علمه العرب من علوم القرآن وحكمه وهدايته قد أدّوه إلى سائر المسلمين من غيرهم فكانت فائدته عامة لجميع من أظلهم الإسلام بظله.
وفى ذلك امتنان منه سبحانه على الرسول وقومه وسائر المسلمين بإتيانهم هذا الكتاب الكريم الذي بسط فيه أصول العقائد مؤيدة بالدلائل ، وتمم به مكارم الأخلاق وأمهات الفضائل ، وجعل فيه من العبادات ما يزكّى النفوس ويطهرها ، ومن المعاملات ما فيه المنافع للأفراد والجماعات ، وأوجب فيه المساواة بين الأجناس والديانات ، فلا يحابى مسلم لإسلامه ، ولا يظلم كافر بكفر.
وبعد أن بيّن سبحانه إنكار المنكرين للوحى بعبارة تدل على جهلهم وترشد إلى البرهان لمكذب لدعواهم وشفعه بأمر الرسول أن يسألهم ذلك السؤال الذي أفحمهم وألقمهم(7/189)
ج 7 ، ص : 190
حجرا - لقنه الجواب الذي كان يجب أن يجيبوا به لو أنصفوا وذلك قوله :
(قُلِ اللَّهُ ، ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) أي قل لهم أيها الرسول : اللّه أنزله على موسى ، ثم دعهم بعد هذا البيان المؤيد بالحجة والبرهان ، فيما يخوضون فيه من باطلهم وكفرهم بآيات اللّه حال كونهم يلعبون كما يلعب الصبيان.
وفى أمر الرسول بالجواب عما سئلوا عنه إيماء إلى أنهم لا ينكرونه ، لما فى ذلك من المكابرة وما فى الاعتراف من الخزي إذا هم أقروا بما يجحدون من الحق.
وبعد أن ذكر أنه أنزل الكتاب على موسى بين أنه أنزل القرآن على رسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم فقال :
(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي وهذا القرآن كتاب عظيم القدر أنزلناه على خاتم رسلنا كما أنزلنا من قبله التوراة على موسى ، وقد باركنا فيه ، فجعلناه كثير الخير ، دائم البركة والمنفعة ، يبشر بالثواب والمغفرة ، ويزجر عن القبيح والمعصية ، مصدقا لما تقدمه من كتب الأنبياء فى الجملة ، لا بكل ما يعزى إليها على وجه التفصيل. وقد ذكر فيه بعضها بأسمائها ، والصحف مضافة إلى أصحابها ، ونعى على بعض أهلها تحريفهم لها ونسيانهم حظا منها.
(وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) أي ولتنذر به عذاب اللّه وبأسه أهل مكة ومن حولهم من بلاد العالم جميعا كما روى عن ابن عباس.
وجعلت حولها لأن الناس فى جميع بقاع الأرض القريبة من مكة والبعيدة منها يصلّون وهم متوجهون إلى البيت الحرام فيها.
وقد ثبت عموم بعثة النبي صلى اللّه عليه وسلم فى آيات كثيرة كقوله تعالى فى هذه السورة : « وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ » أي وكل من بلغه ووصلت إليه هدايته ، وقوله فى سورة الفرقان : « تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً » وقوله فى سورة سبأ : « وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً » .(7/190)
ج 7 ، ص : 191
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي ومن كان يؤمن بقيام الساعة والمعاد إلى اللّه فى الآخرة ويصدق بالثواب والعقاب فإنه يؤمن بهذا الكتاب الذي أنزلناه إليك ويقرّبه سواء أ كان من أهل الكتاب أم من غيرهم إذ بلغتهم دعوته ، لأنهم يجدون فيه أكمل الهداية إلى السعادة العظمى فى تلك الدار ، وما مثلهم إلا مثل قوم ساروا فى الفيافي والقفار وضلوا الطريق حتى إذا كادوا يهلكون قابلهم الدليل الخرّيت العالم بخفاياها ، والخبير بذرعها ومعرفة مسالكها ، فأرشدهم إلى ما فيه نجاتهم وخلاصهم من هلاك محقق إذا هم اتبعوا مشورته ، وسلكوا سبيله ، فقبلوا نصحه وكانوا من الفائزين وأما الذين ينكرون البعث والجزاء فلا حاجة لهم إلى هدايته.
وفى هذا تصريح بسبب إعراض الجمهرة من أهل مكة عن هذا الكتاب الذي فيه سعادتهم ، وتنبيه إلى أنهم لما لم يعتقدوا فى البعث والجزاء امتنعوا عن قبول هذا الدين ، وأنكروا نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم.
(وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) فيؤدونها في أوقاتها ، ويقيمون أركانها وآدابها ، وخصت الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات ، لأنها عماد الدين ، وأسس العبادات والمقوّية للإيمان ، وكمال الإذعان ، والمحافظة عليها تدعو إلى القيام بسائر العبادات المفروضة ، وترك جميع المحرمات ، ومحاسبة النفس على لذاتها وشهواتها.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 93 الى 94]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)(7/191)
ج 7 ، ص : 192
تفسير المفردات
الافتراء : اختلاق الكذب ، وافتراء الكذب على اللّه : الاختلاق عليه والحكاية عنه ما لم يقله ، أو اتخاذ الأنداد والشركاء ، والغمرات : واحدها غمرة ، وهى الشدة ، واليوم : الزمن المحدود والمراد به هنا يوم القيامة الذي يبعث اللّه فيه الناس للحساب والجزاء ، والهون (بالضم) والهوان الذل ، ومنه قوله : « أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ » والهون (بِالْفَتْحِ) اللين والرفق ، ومنه قوله : « الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً » وفرادى : واحدهم فرد ، وخولناكم أعطيناكم ، والترك وراء الظهر : يراد به عدم الانتفاع بالشيء ، والبين الصلة ، والمسافة الحسية أو المعنوية الممتدة بين شيئين أو أشياء ، ويضاف إلى المثنى كقوله : « فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ » والجمع كقوله : « أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ » ولا يضاف إلى المفرد إلا إذا كرر نحو : « هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ » وضل عنكم أي غاب عنكم.
المعنى الجملي
بعد أن بيّن سبحانه أن القرآن كتاب من عند اللّه ، وردّ على الذين أنكروا إنزاله على محمد صلى اللّه عليه وسلم لأنه بشر ، بأن مثله مثل التوراة التي يعترفون بإنزالها على موسى وهو بشر.
قفّى على ذلك بوعيد من كذب على اللّه وادعى النبوة والرسالة ، أو ادعى أنه قادر على الإتيان بمثل هذا القرآن ، وهذا الوعيد يتضمن الشهادة بصدق النبي صلى اللّه عليه وسلم.(7/192)
ج 7 ، ص : 193
ذلك أن من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر إذا لم يكن له بد من الإيمان بأن القرآن من عند اللّه ، ومن الاهتداء به ، فأكمل الناس إيمانا بالدار الآخرة وما فيها من الجزاء وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم لا يمكن أن يعرّض نفسه لمنتهى الظلم الذي يستحق عليه أشد العذاب.
الإيضاح
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) أي لا أحد أظلم ممن كذب على اللّه كالذين قالوا ما أنزل اللّه على بشر من شىء ، أو جعل للّه شريكا أو ولدا.
(أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ) كمسيلمة الكذاب الذي ادّعى النبوة باليمامة ، والأسود العنسي الذي ادعى النبوة باليمن ، وطليحة الأسدى الذي ادعى النبوة فى بنى أسد ، ونحوهم من كل من ادعى ذلك أو يدعيه فى أي زمان كان.
(وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ) أي ومن ادّعى أنه قادر على إنزال مثل ما أنزل اللّه على رسوله كمن قال من المشركين : « لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا » فقد أثر عن النضر بن الحارث أنه كان يقول : إن القرآن أساطير الأولين ، وإنه شعر لو نشاء لقلنا مثله.
ثم ذكر تعالى جدّه وعيده للظالمين لشدة جرمهم وعظيم ذنبهم فقال :
(وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) الخطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم ثم لكل من سمعه أو قرأه ، أي ولو تبصر إذ يكون الظالمون - سواء منهم من ذكروا فى الآية أو غيرهم - فى غمرات الموت وهى سكراته وما يتقدمها من شدائد وآلام تحيط بهم كما تحيط غمرات الماء بالغرقى - لرأيت ما لا سبيل إلى وصفه ، ولا قدرة للبيان على تجلّى كنهه وحقيقته.
(وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) لقبض أرواحهم الخبيثة بالعنف والضرب كما قال :
« فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ » .(7/193)
ج 7 ، ص : 194
ثم حكى سبحانه أمر الملائكة لهم على سبيل التهكم والتوبيخ حين بسط أيديهم لقبض أرواحهم.
(أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) أي أخرجوا أنفسكم مما هى فيه إن استطعتم ، أو أخرجوها من أبدانكم.
قال صاحب الكشاف : هذا تمثيل لفعل الملائكة فى قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ليعنّفه عليه فى المطالبة ولا يمهله ويقول له :
أخرج مالى عليك الساعة ، ولا أريم - لا أبرح - مكانى حتى أنزعه من أحداقك.
ويرى بعضهم أنه لا داعى للعدول عن الحقيقة إلى التمثيل ، فربما تمثّل الملائكة للبشر بمثل صورهم ، وتخاطبهم بمثل كلامهم ، فهى إذا ممكنة على الحقيقة فلا معدل عنها.
(الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) أي تقول لهم الملائكة وقت الموت : اليوم تلقون عذاب الذل والهوان جزاء ظلمكم لأنفسكم بسبب ما كنتم تقولون مفترين على اللّه غير الحق كقول بعضهم ما أنزل اللّه على بشر من شىء ، وقول بعض آخر : إنه أوحى إليه ولم يوح إليه شىء ، وإنكار طائفة لما وصف اللّه به نفسه من الصفات ، واتخاذ أقوام له البنين والبنات ، واستكبار آخرين عن الاعتراف بما أنزل اللّه من الآيات ، احتقارا لمن أكرمه اللّه بإظهارها على يده ولسانه ثم ذكر سبحانه ما يقوله لهم يوم القيامة بعد ذكر ما تقول لهم ملائكة العذاب فقال :
(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي ولقد جئتمونا وحدانا منفردين عن الأنداد والأوثان والأهل والإخوان ، مجردين من الخدم والأملاك والأموال ، كما خلقناكم أول مرة من بطون أمهاتكم حفاة عراة غلفا ولا منافاة بين هذه الآية وبين قوله : « وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ » لأن المراد لا يكلمهم تكليم تكريم ورضا.
(وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ) أي إن ما كان شاغلا لكم من المال والولد والخدم والحشم والأثاث والرياش عن الإيمان بالرسل ، والاهتداء بما جاء ولم ينفعكم كما(7/194)
ج 7 ، ص : 195
كنتم تتوهمون ، فهو لم يغن عنكم شيئا ولم يمكنكم الافتداء به أو ببعضه من عذاب الآخرة.
(وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) أي وما نبصر معكم شفعاءكم من الملائكة والصالحين من البشر ، ولا تماثيلهم وقبورهم ، وقد زعمتم فى الدنيا أنهم شركاء للّه تدعونهم ليشفعوا لكم عنده ويقرّبوكم إليه زلفى بتأثيرهم فى إرادته وحملهم إياه على ما لم تتعلق به إرادته فى الأزل.
وفى هذه الجملة والتي قبلها هدم لقاعدتين من قواعد الوثنية وهما الفداء والشفاعة (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) أي لقد تقطع ما كان بينكم من صلات النسب والملك والولاء والصداقة.
(وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي وغابت عنكم شفاعة الشفعاء ، وتقريب الأولياء وأوهام الفداء ، وقد علمتم بطلان غروركم واعتمادكم على غيركم.
والخلاصة - إن آمالكم قد خابت فى كل ما تزعمون وتتوهمون فلا فداء ولا شفاعة ، ولا ما يغنى عنكم من عذاب اللّه من شىء.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 99]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)(7/195)
ج 7 ، ص : 196
تفسير المفردات
الفلق والفرق والفتق : الشق ، والحب : الحنطة وغيرها مما يكون فى السنبل والأكمام ، والنوى واحدها نواة : وهى ما يكون فى داخل التمر والزبيب ، والإصباح :
الصبح ، يقال أصبح الرجل : دخل فى وقت الصباح ، والسكن : السكون ، وما يسكن فيه من مكان كالبيت وزمان كالليل ، وما يسكن الإنسان ويطمئن إليه استئناسا به من زوج أو حبيب ، والحساب (بالكسر) والحسبان (بالضم) استعمال العدد فى الأشياء والأوقات والمستقر : موضع القرار والإقامة كما قال : « لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ » والمستودع : موضع الوديعة ، وهى ما يتركه المرء عند غيره ليأخذه بعد ، والفقه :
النظر فى عمق الشيء وباطنه ، خضرا أي نباتا غضا أخضر ، متراكبا : أي بعضه فوق بعض ، والنخل والنخيل واحدهما نخلة ، والطلع : أول ما يطلع أي يظهر من زهرها قبل أن ينشق عنه غلافه ، والقنوان واحدها قنو : وهو العذق الذي يكون فيه الثمر وهو من النخل كالعقود من العنب والسنبلة من القمح ، ودانية : أي قريبة التناول ، مشتبها وغير متشابه : أي متشابها فى بعض الصفات وغير متشابه فى بعض آخر ، وينعه أي حين يينع ويبدو صلاحه وينضج.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت سبحانه أمر التوحيد ، ثم أردفه بتقرير أمر النبوة والبعث وذكر مسائل لها ملابسات لهذه الأصول ، عاد هنا وفصّل طائفة من آيات التكوين تدل أوضح الدلالة على وحدانيته تعالى وقدرته ، وعلمه وحكمته ، وبيان سننه فى خلقه وحكمه(7/196)
ج 7 ، ص : 197
فى الإحياء والإماتة والأحياء والأموات ، وتقديره وتدبيره لأمر النيرات فى السموات ، وإبداعه فى شئون النبات.
الإيضاح
(إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى ) أي إن اللّه فالق ما تزرعون من حب الحصيد ونوى الثمر ، وشاقه بقدرته وتقديره بربط الأسباب بمسبباتها كجعل الحب والنوى فى التراب وإرواء التراب بالماء.
وفى ذلك إيماء إلى كمال قدرته ، ولطيف صنعه ، وبديع حكمته.
(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي يخرج الزرع من نجم وشجر وهو متغذّ نام من الميت وهو ما لا يتغذى ولا ينمى من التراب ، والحب والنوى وغيرهما من البذور ، ويخرج الحيوان من البيضة والنطفة.
وعلماء المواليد يزعمون أن فى أصول الأحياء حياة ، فكل ما ينبت من الحب والنوى فهو ذو حياة كامنة ، إذ أنه لو عقم بالصناعة لا ينبت ، واصطلاحهم لا نسيغه اللغة ، إذ أنها لا تجعل الحي إلا الجسم النامي المتغذى بالفعل ، وهذه أقل مراتب الحياة عندهم ، ويليها مراتب أخرى أعلاها مرتبة الإحساس والقدرة والإرادة والعلم والعقل والحكمة والنظام ، وفوق كل هذه المراتب حياة الخالق التي هى مصدر كل حياة وحكمة ونظام فى الكون.
(وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) كالحب والنوى من النبات ، والبيضة والنطفة من الحيوان ، قال الزجاج : يخرج النبات الغض الطري الخضر من الحب اليابس ، ويخرج اليابس من النبات الحي النامي ، وقال ابن عباس يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر.
والكافر من المؤمن كما فى ابن نوح.
قال الطبيب التقى عبد العزيز إسماعيل باشا طيب اللّه ثراه : قيل فى تفسير ذلك كإنشاء الحيوان من النطفة ، والنطفة من الحيوان ، ولكن النطفة حيوانات حية ،(7/197)
ج 7 ، ص : 198
وكذلك خلق الحيوان من النطفة فهو خلق حى من حى فلا تنطبق عليه الآية الكريمة على هذا التفسير ، واللّه أعلم.
والتفسير الحقيقي - هو إخراج الحي من الميت كما يحصل يوميا من أن الحي ينمو بأكل أشياء ميتة فالصغير مثلا يكبر جسمه بتغذية اللبن أو غيره ، والغذاء ميت ، ولا شك أن القدرة على تحويل الشيء الميت الذي يأكله إلى عناصر وموادّ من نوع جسمه بحيث ينمو جسمه ، هو أهم علامة تفصل الجسم الحي من الجسم الميت وقد كتب علماء الحيوان فقالوا : إن النعجة مثلا تتغذى بالنبات وتحوّله إلى لحمها ، وهذه أهم علامة تدل على أنها حية ، وكذا الطفل يتغذى باللبن الميت ويحوله إلى جسمه الحي.
وأما إخراج الميت من الحي فهو الإفرازات مثل اللبن : (وإن شئت فلحوم الحيوانات أيضا والنباتات ، فإن اللبن سائل ليس فيه شىء حى ، بخلاف النطفة فإن فيها حيوانات حية ، وهذه تخرج من الحيوان الحي ، وهكذا ينمو الحي من الميت ويخرج الميت من الحي واللّه أعلم بمراده) ا ه.
(ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي ذلكم المتصف بكامل القدرة وبالغ الحكمة هو اللّه الخالق لكل شىء المستحق للعبادة وحده لا شريك له فكيف تصرفون عن عبادته وتشركون به من لا يقدر على شىء من ذلك كفلق نواة وحبة وإيجاد نخلة وسنبلة.
(فالِقُ الْإِصْباحِ) فلق الصبح : هو فلق ظلمة الليل وشقّها بعمود الصبح الذي يبدو فى جهة مطلع الشمس من الأفق مستطيلا ، ولا يعتد به حتى تنفشع الظلمة عنه من أمامه وعن جانبيه حتى تزول.
(وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) أي وجعله يستريح فيه المتعب من العمل بالنهار ويسكن فيه ، والسكون يعم سكون الجسم وسكون النفس بهدوء الخواطر والأفكار.
والليل وقت السكون ، لأنه لا يتيسر فيه من الحركة وأنواع الأعمال ما يتيسر فى النهار ، لما خص به الليل من الإظلام والنهار من الإبصار.
وأكثر الأحياء من الإنسان والحيوان تترك العمل والسعى في الليل وتأوى إلى(7/198)
ج 7 ، ص : 199
مساكنها للراحة التي لا تتم ولا تكمل إلا بالنوم الذي تسكن فيه الجوارح والخواطر ببطلان حركتها الإرادية ، كما تسكن به الأعضاء سكونا نسبيا ، فتقلّ نبضات القلب. ويقل إفراز خلايا الجسم للسوائل والعصارات التي تفرزها ، ويبطىء التنفس ويقل ضغط الدم فى الشرايين ، ولا سيما أول النوم ويضعف الشعور حتى يكاد يكون مفقودا ، ويستريح الجهاز العصبي لتستريح جميع الأعضاء.
(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) أي والشمس والقمر يجريان بحساب وعدد ، لبلوغ أمدهما ونهاية آجالهما ، ويدوران لمصالح الخلق التي جعلا لها ، فطلوعهما وغروبهما وما يظهر من تحولاتهما واختلاف مظاهرهما - كل ذلك يجرى بحساب كما قال : « الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ » وقال : « هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ » وقد جمع اللّه فى هذه الآية ثلاث آيات سماوية ، كما جمع فيما قبلها ثلاث آيات أرضية :
فالآية الأولى فلق الصبح والتذكير به للتأمل فى صنع اللّه بإفاضة النور الذي هو مظهر جمال الوجود ، ومبدأ زمن تقلب الأحياء فى القيام والقعود ، ومضيّهم إلى ما يسّروا له من الأعمال ، وما للّه فى ذلك من حكم وأسرار والآية الثانية جعل الليل سكنا ، وذلك نعمة من اللّه ليستريح الجسم ، وتسكن النفس ، وتهدأ من تعب العمل بالنهار ، قال تعالى : « وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » .
والآية الثالثة جعل الشمس والقمر حسبانا ، وذلك فضل من اللّه عظيم ، فإن حاجة الناس إلى معرفة حساب الأوقات لعباداتهم ومعاملاتهم وتواريخهم لا تخفى على أحد منهم.
وعلماء الفلك متفقون على أن للأرض حركتين ، حركة تتم فى أربع وعشرين ساعة وعليها مدار حساب الأيام ، وحركة تتم فى سنة ، وبها يكون اختلاف الفصول ، وعليها مدار حساب السنة الشمسية.(7/199)
ج 7 ، ص : 200
(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي هذا الفعل العالي الشأن ، البعيد المدى فى الإبداع والإتقان - هو تقدير الخالق الغالب على أمره فى تنظيم ملكه ، بما اقتضاه واسع علمه ، وعظيم قدرته وحكمته ، ليس فيه جزاف ولا اختلاف : « إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ » .
ثم ذكر سبحانه آية أخرى من آيات التكوين العلوية وقرنها بذكر فائدتها فقال :
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) المراد بالنجوم هنا ما عدا الشمس والقمر من النيّرات ، لأنه الظاهر من سياق الكلام ، ولأنه المعهود فى الاهتداء به.
وكانت العرب أيام بداوتها تؤقت بطلوع النجوم فتحفظ أوقات السنة بالأنواء وهى نجوم منازل القمر فى مطالعها ومغاربها.
وكان اهتداؤهم بالنجوم على ضربين :
(1) معرفة الوقت من الليل أو من السنة.
(2) معرفة المسالك والطرق والجهات.
والمراد بالظلمات ظلمة الليل وظلمة الأرض أو الماء وظلمة الخطأ والضلال.
والمعنى - واللّه هو الذي جعل لكم النجوم أدلة فى البر والبحر إذا ضللتم الطريق أو تحيرتم فلم تهتدوا فيها ليلا ، فبها تستدلون على الطرق فتسلكونها وتنجون من الخطأ والضلال فى البر والبحر.
والخلاصة - إنه تعالى ذكّرنا ببعض فضله فى تسخير هذه النيرات التي نراها صغيرة بعد أن ذكّرنا ببعض فضله فى الشمس والقمر اللذين يريان كبيرين فى أعين الناس.
وقد جدّت فى هذا العصر المراصد الفلكية ، واستحدثت آلات لتقريب الأبعاد وتحليل النور ، فعلم الشيء الكثير من سرعة الكواكب وأبعادها ، ومعرفة مساحتها وكثافتها والمواد المؤلفة منها ، إلى نحو ذلك مما كان مجهولا من قبل ، فثبت لعلماء الفلك أن النجوم تعد بالملايين ، لكنهم لم يتمكنوا إلى الآن إلا من معرفة أبعاد بعض مئات منها ، لأن باقيها أبعد من أن يعرف اختلاف فى مواقعه.(7/200)
ج 7 ، ص : 201
ولما فى عالم السموات من بديع الصنع ، وبديع النظام ختم سبحانه الآية بقوله :
(قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) والآيات هنا إما آيات التنزيل ، وإما آيات التكوين ، فإن كانت الأولى فالمعنى - إن هذه الآية وما قبلها وكل ما فى معناها من الآيات المنزلة فى الحث على النظر فى ملكوت السموات تبين وتفصل حكم اللّه تعالى وعجائب صنعه ، فيزداد الإنسان بهذا البيان بحثا وعلما.
وإن كانت الثانية فالمعنى - إن الآيات الدالة على علم اللّه تعالى وقدرته وفضله على خلقه لا يستخرجها من النظر فى النجوم إلا أهل العلم الذين يقرنون العلم بالاعتبار ولا يكتفون بأن يقولوا بعد النظر والحساب : إن هذا لعجب عجاب.
وبعد أن ذكّرنا سبحانه ببعض آياته فى الأرض والسماء ذكرنا بآياته فى أنفسنا فقال :
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) الإنشاء إيجاد الشيء وتربيته ، أو إحداثه بالتدريج ، والنفس تطلق على الروح وعلى الشخص المركب من روح وبدن.
والمعنى - إنه تعالى هو الذي أنشأكم من نفس واحدة هى الإنسان الأول الذي تسلسل منه سائر الناس بالتوالد ، وهو آدم عليه السلام.
وفى إنشاء جميع البشر من نفس واحدة آيات بينات على قدرة اللّه وعلمه وحكمته ووحدانيته وفى التذكير بذلك إيماء إلى ما يجب من شكر نعمته ، وإرشاد إلى ما يجب من التعارف والتعاون بين البشر ، وأن يكون هذا التفرق إلى شعوب وقبائل مدعاة إلى التآلف ، لا إلى التعادي والتقاتل وبث روح العداوة والبغضاء بين الناس.
(فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) أي ولكم موضع استقرار فى الأصلاب ، وموضع استيداع فى الأرحام ، وإنما جعل الصلب مقر النطفة ، والرحم مستودعها ، لأن النطفة تتوالد فى الصلب ابتداء ، والرحم شبيهة بالمستودع كما قال :
وإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللآباء أبناء
(قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) أي إننا جعلنا الآيات المبينة لسنننا فى الخلق مفصلة(7/201)
ج 7 ، ص : 202
وموضحة لقدرتنا وإرادتنا ، وعلمنا وحكمتنا ، وفضلنا ورحمتنا ، لقوم يفقهون ما يتلى عليهم ، ويفهمون المراد منه ، ويفطنون لدقائقه وخفاياه.
وعبر هنا بالفقه وفيما قبلها بالعلم ، لأن استخراج الحكم من خلق البشر بتوقف على غوص فى أعماق الآيات وفطنة فى استخراج دقائق الحكم ، أما العلم بمواقع النجوم والاهتداء بها فى ظلمات البر والبحر فهو من الأمور الظاهرة التي لا تتوقف على دقة النظر ، ولا غوص الفكر والتأمل فى العبرة منها ، وكذلك جميع المظاهر الفلكية.
ثم ذكر بعد ذلك آية أخرى من آيات التكوين وهى إنزال الماء من السماء وجعله سببا للنبات فقال :
(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً)
أي وهو الذي أنزل من السحاب ماء فأخرجنا بسبب هذا الماء كل صنف من أصناف النبات المختلف فى شكله وخواصه وآثاره اختلافا متفاوتا فى مراتب الزيادة والنقصان كما قال : « يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ » .
فأخرجنا من النبات الذي لا ساق له شيئا غضا أخضر وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة كساق النجم وأغصان الشجر ، نخرج منه أي من هذا الأخضر المتشعب النبات آنا بعد آن حبّا متراكبا بعضه فوق بعض وهو السنبل.
وهذا تفصيل لنماء النجم الذي لا ساق له من النبات ونتاجه.
ثم عطف عليه حال نظيره من الشجر فقال :
(وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) أي ونخرج من طلع النخل قنوانا دانية القطوف سهلة التناول.
(وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) أي ونخرج من ذلك الخضر جنات من أعناب.(7/202)
ج 7 ، ص : 203
(وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي وأخص من نبات كل شى ء - الزيتون والرمان حال كون الرمان مشتبها فى بعض الصفات ، وغير مشتبه فى بعض آخر فإنها أنواع تشتبه فى شكل الورق والثمر ، وتختلف فى لون الثمر وطعمه ، فمنها الحلو والحامض والمزّ ، وكل ذلك دالّ على قدرة الصانع وحكمة المبدع جل شأنه.
(انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) أي انظروا نظرة استبصار واعتبار إلى ثمر ما ذكر إذا أخرج ثمره ، وكيف يخرج ضئيلا لا يكاد ينتفع به ، وإلى ينعه ونضجه ، وكيف إنه يصير ضخما ذا نفع عظيم ولذة كاملة ، ثم وازنوا بين صفاته فى كل من الحالين ، يستبن لكم لطف اللّه وتدبيره ، وحكمته فى تقديره ، وغير ذلك مما يدل على وجوب توحيده.
(إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فى ذلكم الذي أمرتم بالنظر إليه لدلائل عظيمة على وجود القادر الحكيم ووحدانيته ، لمن هو مؤمن بالفعل ، ولمن هو مستعد للإيمان.
أما غيرهم فإن نظرهم لا يتجاوز الظواهر ولا يعدوها إلى ما تدل عليه من وجود الخالق ووحدانيته التي إليها ينتهى النظام ، فهم لا يغوصون ليصلوا إلى أسرار عالم النبات ، ولا يبحثون عن أن انتقاله من حال إلى حال على ذلك النمط البديع دال على كمال الحكمة ، وعلى أن وحدة النظام فى الأشياء المختلفة لا يمكن أن تصدر من إرادات متعددة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 100 الى 103]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)(7/203)
ج 7 ، ص : 204
تفسير المفردات
فى اللسان : خلق الكلمة واختلقها وخرقها واخترقها : إذا ابتدعها كذبا ، وقال الراغب : الخرق قطع الشيء على سبيل الفساد قال تعالى : « أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها » والخلق : فعل الشيء بتدبير ورفق ، والبدع (بالكسر) والبديع : الشيء الذي يكون أولا ، ومنه البدعة فى الدين ، وقال الراغب : الإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء واقتداء ، والبديع من أسمائه تعالى لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها ، والإدراك : اللحاق والوصول إلى الشيء ، يقال تبعه حتى أدركه قال تعالى : « فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ » والبصر حاسة الرؤية ، واللطيف من الأجرام : ضد الكثيف والغليظ واللطيف من الطباع : ضد الجافي ، واللطف فى العمل : الرفق فيه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه البراهين الدالة على توحده بالخلق والتدبير فى عالم السموات والأرض - ذكر هنا بعض ضروب الشرك التي قال بها بعض العرب وروى التاريخ مثلها عن كثير من الأمم ، وهى اتخاذ شركاء للّه من عالم الجن المستتر عن العيون ، أو اختراع نسل له من البنين والبنات.
الإيضاح
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ) أي وجعل هؤلاء المشركون للّه سبحانه شركاء من الجن ، وفى المراد من الجن هنا أقوال ، فقال قتادة : إنهم الملائكة فقد عبدوهم(7/204)
ج 7 ، ص : 205
وقال الحسن : إنهم الشياطين فقد أطاعوهم فى أمور الشرك والمعاصي ، وقيل إبليس فقد عبده أقوام وسمّوه ربا ، ومنهم من سماه إله الشر والظلمة ، وخص الباري سبحانه بألوهية الخير والنور ، وروى عن ابن عباس أنه قال : إنها نزلت فى الزنادقة الذين يقولون إن اللّه تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والحيوان ، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشر ، ورجح الرازي هذا الرأى قال : إن المراد من الزنادقة المجوس الذين قالوا إن كل خير فى العالم فهو من يزدان ، وكل شر فهو من أهر من أي إبليس.
(وَخَلَقَهُمْ) أي والحال أنه تعالى خلق الشركاء المجعولين ، كما خلق غيرهم من العالمين ، فنسبة الجميع إليه واحدة ، وامتياز بعض المخلوقين عن بعض فى صفاته وخصائصه لا يخرجه عن كونه مخلوقا ، ولا يصل به لأن يكون إلها وربا.
(وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي واختلقوا له بحمقهم وجهلهم بنين وبنات بغير علم بذلك فقد سمى مشركو العرب الملائكة بنات اللّه ، وقالت اليهود عزير ابن اللّه ، وقالت النصارى المسيح ابن اللّه ، وقوله بغير علم أي من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ وصواب ، بل رميا بقول عن عمى وجهالة من غير فكر وروية ، ومن غير معرفة لمكانه من الشناعة والازدراء بمقام الألوهية.
(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزه ربنا وتعالى عن كل نقص ينافى انفراده بالخلق والتدبير ، إذ ليس كمثله شىء وهو السميع البصير.
(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ومبدعهما ، فهو الخالق المخترع لا على مثال سابق.
(أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ ؟ ) أي كيف يكون له ولد والحال أنه لم يكن له زوج ينشأ الولد من ازدواجه بها ، والولد لا يوجد إلا كذلك ، ولكن جميع الكائنات السماوية والأرضية صدرت عنه تعالى صدور إبداع وإيجاد من العدم لأصولها الأولى ، وصدور تسبب كالتوالد ونحوه بحسب سننه فى الخلق.(7/205)
ج 7 ، ص : 206
(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ) أي خلقه خلقا ولم يلده ولادة كما زعمتم ، فما افتريتم واخترعتم له من الولد ، فإنما هو مخلوق له لا مولود منه - وجاءت هذه الجملة مقررة لإنكار نفى الولد ، ودليلا بعد دليل على ذلك.
(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إن علمه بكل شىء ذاتى له ، ولا يعلم كل شىء إلا الخالق لكل شىء ، ولو كان له ولد لكان هو أعلم به ، ولهدى العقول إليه بآيات الوحى ودلائل العلم ، لكنه كذب الذين افتروا عليه ذلك كذبا بلا علم مؤيد بوحي ولا دليل عقلى.
والخلاصة - إنه تعالى نفى عن نفسه الولد بوجوه :
(1) إن من مبدعاته السموات والأرضين ، وهى مبرأة من الولادة لاستمرارها وطول مدتها.
(2) إن العادة قد جرت بأن الولد يتوالد من ذكر وأنثى متجانسين ، واللّه تعالى منزه عن المجانسة لشىء.
(3) إن الولد كفء للوالد ، واللّه لا كفء له ، لأن كل ما عداه فهو مخلوق له لا يكافئه ، ولأن علمه ذاتى ولا كذلك غيره.
(ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) الخطاب موجه إلى المشركين الذين أقيمت عليهم الحجة ، والإشارة إلى اللّه المنزه عن كل ما يصفونه به ، المتصف بما وصف به نفسه من الإبداع ، أي ذلكم الذي شأنه ما ذكر هو اللّه ربكم لا من خرقوا له من الأولاد ، وأشركوا به من الأنداد ، فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، لا إله إلا هو خالق كل شىء ، وما عداه مخلوق له يجب أن يعبد خالقه ، فكيف يعبده من مثله ويتخذه إلها.
(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي وهو مع تلك الصفات الجليلة الشأن متولّ جميع الأمور ، يدبر ملكه بعلمه وحكمته ، فيرزق عباده ويكلؤهم بالليل والنهار سرا وعلانية.(7/206)
ج 7 ، ص : 207
وقد يكون المعنى - إنه تعالى رقيب على أعمالكم فيجازيكم عليها.
والخلاصة - إنه لا حافظ إلا اللّه ، ولا قاضى للحاجات إلا هو ، فعلينا أن نقطع أطماعنا عن كل ما سواه ، ولا نلجأ فى المهمات إلا إليه.
(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) أي لا تراه الأبصار رؤية إحاطة تعرف كنهه عز وجل ، ونحو الآية قوله : « يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ » ونفى إحاطة العلم لا يستلزم نفى أصل العلم وكذلك نفى إدراك البصر للشىء والإحاطة به لا يستلزم نفى رؤيته مطلقا.
وبهذا يعلم أنه لا تنافى بين هذه الآية وبين الأحاديث الصحيحة الدالة على رؤية المؤمنين لربهم فى الآخرة ،
فقد روى أنه صلى اللّه عليه وسلم قال : « إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر ، وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب »
فالمؤمنون يرونه ، والكافرون عنه يؤمئذ محجوبون كما قال جل ثناؤه « كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ » .
(وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أي إنه تعالى يرى العيون الباصرة رؤية إدراك وإحاطة فلا يخفى عليه من حقيقتها ولا من علمها شىء.
وقد عرف علماء التشريح تركيب العين وأجزاءها ووظيفة كل منها فى ارتسام المرئيات فيها ، كما عرفوا كثيرا من سنن اللّه فى النور ووظيفته فى رسم صور الأشياء فى العينين ، ولكنهم لم يصلوا بعد إلى معرفة كنه الرؤية ، ولا كنه قوة الإبصار ولا حقيقة النور.
قال صاحب اللسان : قال أبو إسحق فى الآية : أعلم اللّه أنه يدرك الأبصار ، وفى هذا الإعلام دليل على أن خلقه لا يدركون الأبصار أي لا يعرفون حقيقة البصر وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه ، فأعلم أن خلقا من خلقه لا يدرك المخلوقون كنهه ولا يحيطون بعلمه ، فكيف به تعالى والأبصار لا تحيط به وهو اللطيف الخبير ؟(7/207)
ج 7 ، ص : 208
فأما ما جاء من الأخبار فى الرؤية وصح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فغير مدفوع ، وليس فى الآية دليل على دفعها ، لأن معنى هذه الآية إدراك الشّيء والإحاطة بحقيقته ، وهذا مذهب أهل السنة والعلم بالحديث ا ه.
(وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أي وهو اللطيف بذاته بحيث تخسأ الأبصار دون إدراك حقيقته ، الخبير بدقائق الأشياء ولطائفها ، فلا يعزب عن إدراكه شىء.
والخلاصة - إنه يلطف عن أن تدركه الأبصار ، ولكنه خبير بكل لطيف وهو يدرك الأبصار. ولا تدركه الأبصار.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 104 الى 107]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
تفسير المفردات
البصائر واحدها بصيرة ، ولها عدة معان : منها عقيدة القلب ، والمعرفة الثابتة باليقين ، والعبرة ، والشاهد المثبت للأمر ، والحجة ، والقوة التي تدرك بها الحقائق العلمية ، ويقابلها البصر الذي تدرك به الأشياء الحسية ، والمراد بها هنا الآيات الواردة فى هذه السورة أو القرآن بجملته ، نصرف الآيات أي نأتى بها متواترة حالا بعد حال مفسرين لها فى كل مقام بما يناسبه ، ودرس الشيء يدرس : إذا عفا وزال فهو دارس ودرسته الريح وغيرها ، ودرس اللابس الثوب درسا : أخلقه وأبلاه فهو دريس ، ودرسوا القمح : داسوه ليتكسر فيفرق بين حبه وتبنه ، ودرس الناقة : راضها ، ودرس(7/208)
ج 7 ، ص : 209
الكتاب والعلم يدرسه درسا ودراسة ومدارسة أي ذلله بكثرة القراءة حتى خف حفظه عليه من ذلك ، والمعنى العام للدرس تكرار المعالجة ، وتتابع الفعل على الشيء حتى يذهب به أو يضل إلى الغاية منه.
المعنى الجملي
بعد أن أقام الأدلة والبراهين الواضحة على توحيده وكمال قدرته وعلمه - عاد هنا إلى تقرير أمر الدعوة والرسالة ، وتبليغ النبي صلّى اللّه عليه وسلم أوامر ربه ، ومدى تلك الأوامر من الهداية والإرشاد ، وما يقوله المشركون فى المبلّغ لها ، وأعلم سبحانه سنته فيهم وفى أمثالهم ، وما يجب على الرسول معهم وما ينفى عنه.
الإيضاح
(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قد جاءكم فى هذه الآيات البينات بصائر من الحجج الكونية والبراهين العقلية ، تثبت لكم عقائد الحق اليقينية التي عليها مدار سعادتكم فى دنياكم وآخرتكم ، تفضل بها عليكم ربكم الذي خلقكم وسواكم ، وربّى أجسادكم ، وأكمل مشاعركم وقواكم ، كما ربى أرواحكم ، وهذّب نفوسكم ، ومحّص بها عقولكم ، حتى تصل إلى منتهى ما تسمو إليه النفوس البشرية من الكمال.
(فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) أي فمن أبصر بها الحق وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ، فلنفسه قدم الخير وبلغ السعادة.
(وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) أي ومن عمى عن الحق وأعرض عن سبيله ، وأصرّ على ضلاله ، تقليدا لآبائه وأجداده ، فعلى نفسه جنى.
ونحو الآية قوله : « مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها » وقوله : « لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ » وقوله : « إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها » .(7/209)
ج 7 ، ص : 210
(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي وما أنا عليكم برقيب أحصى عليكم أعمالكم وأفعالكم وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم ، واللّه هو الحفيظ عليكم ، ولا يخفى عليه شىء من أعمالكم ، فهو يعلم ما تسرّون وما تعلنون ، ويجزيكم عليه بما تستحقون ، فعليه وحده الحساب ، وما علىّ إلا البلاغ.
(وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي ومثل ذلك التصريف البديع نصرّف الآيات فى سائر القرآن لإثبات أصول الإيمان وتهذيب النفوس والأخلاق ، فنحوّلها من حال إلى حال ، مراعين فى ذلك تفاوت العقول والأفهام واختلاف استعداد الأفراد والجماعات.
(وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) أي إن لتصريف الآيات فوائد شتى منها : (1) أن يهتدى بها المستعدون للإيمان على اختلاف العقول والأفهام : (2) أن يقول الجاحدون المعاندون من المشركين قد درست من قبل وتعلّمت ، وليس هذا بوحي منزل كما زعمت ، وقد قالوا هذا إفكا وزورا فزعموا أنه تعلم من غلام رومى كان يصنع السيوف بمكة وكان يختلف إليه كثيرا ، وذلك ما عناه سبحانه بقوله : « وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ، لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ » .
(وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (3) وأن نبين هذا القرآن المشتمل على تصريف الآيات الذي يقول فيه الجاحدون إنه أثر درس واجتهاد لقوم لديهم الاستعداد للعلم بما تدل عليه الآيات من الحقائق ، وما يترتب على الاهتداء بها من السعادة دون أن يكون لديهم معارض من تقليد أو عناد.
والخلاصة - إن الذين يقولون للرسول : إنك درست هم الجاهلون الذين لم يفهموا تلك الآيات التي صرفها اللّه على ضروب مختلفة ، ولم يفقهوا سرها ، وما يجب من إيثارها على منافع الدنيا.
وأما الذين يعملون مدلولاتها ، وحسن عاقبة الاهتداء بها ، فهم الذين يتبين لهم بتأملها حقيقة القرآن وما اشتمل عليه من حسن التصرف المؤيد بالحجة والبرهان.(7/210)
ج 7 ، ص : 211
وبعد أن بين سبحانه لرسوله أن الناس فى شأن القرآن فريقان ، فريق فسدت فطرتهم ولم يبق لديهم استعداد لهديه ، ولا للعلم بما فيه من تصريف الآيات ، ومن ثم كان نصيبهم منه الجحود والإنكار ، وفريق آخر اهتدى به وعمل بما فيه - أمره أن يتبع ما أوحى إليه من ربه بالبيان له والعمل به فقال :
(اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي اتبع ما أوحى إليك لتربى نفسك وتكون إماما لأبناء جنسك ، فإن الاقتداء لا يتم إلا بمن يعمل ، بما يعمله ، ويأتمر بما يأمر ثم قرن ذلك باعتقاد توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية ، فالخالق المرّبى للأشباح بما أنزل من الرزق ، وللأرواح بما أنزل من الوحى هو المعبود الواحد الذي لا شريك له المجازى على الأعمال ، التي لا تقبل شفاعة ولا فداء.
ثم أمره بعدئذ بالإعراض عن المشركين بألا يبالى بإصرارهم على الشرك ، ولا بمثل قولهم درست ، لأن الحق يعلو متى ظهر بالقول والعمل مع الإخلاص ، ولا يضره الباطل بتزيينه بزخارف الأقوال ولا بالانكباب على خرافات الأعمال ثم هوّن عليه أمر الإعراض عنهم فقال :
(وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا) أي ولو شاء اللّه ألا يشركوا لما أشركوا بأن يخلق البشر مؤمنين طائعين بالفطرة كالملائكة ، لكنه خلقهم مستعدين للإيمان والكفر ، والتوحيد والشرك ، والطاعة والفسق ، ومضت سنته بأن يكونوا مختارين فى أعمالهم وفى كسبهم لعلومهم وأعمالهم ، وجعل منها الخير والشر ، وإن كانت غرائزهم وفطرهم كلها خيرا.
(وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي وما جعلناك عليهم حفيظا تحفظ عليهم أعمالهم لتحاسبهم عليها وتجازيهم بها ، ولا وكيلا تتولى أمورهم وتتصرف فيها.(7/211)
ج 7 ، ص : 212
والخلاصة - إنه ليس لك ما ذكر من الوصفين كما يكون ذلك لبعض الملوك بالقهر أو التراضي بل أنت بشير ونذير ، واللّه هو الذي يتولى جزاءهم وحسابهم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 108 الى 110]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
المعنى الجملي
بعد أن أمر اللّه رسوله فيما سبق من الآيات بتبليغ وحيه بالقول والعمل ، والإعراض عن المشركين بمقابلة جحودهم وطعنهم فى الوحى بالصبر والحلم ، وبين أن من مقتضى سنته فى البشر ألا يتفقوا على دين لاختلاف استعدادهم وتفاوتهم فى درجات الفهم والفكر ، وذكر أن وظيفة الرسل أن يكونوا مبلغين لا مسيطرين ، وهادين لا جبارين ، فينبغى ألا يضيقوا ذرعا بما يرون وما يشاهدون من الازدراء بهم والطعن فى دينهم ، فإن اللّه هو الذي منحهم هذه الحرية ولم يجبرهم على الإيمان - نهى المؤمنين هنا عن سب آلهة المشركين ، لأنهم إذا شتموا فربما غضبوا ، وذكروا اللّه بما لا ينبغى من القول ثم ذكر طلب بعضهم للآيات ، لأن القرآن ليس من جنس المعجزات ، ولو جاءهم بمعجزة ظاهرة لآمنوا به ، وحلفوا على ذلك وأكدوه بكل يمين محرجة.(7/212)
ج 7 ، ص : 213
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس فى قوله : « وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ » الآية ، قال : قالوا يا محمد لتنتهينّ عن سب آلهتنا أو لنهجونّ ربك ، فنهاهم أن يسبوا أوثانهم فيسبوا اللّه عدوا بغير علم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى قال : « لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش :
انطلقوا فلندخلنّ على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحى أن نقتله بعد موته فتقول العرب : كان يمنعه ويحميه فلما مات قتلوه ، فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبيّ ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاصي والأسود بن البختري ، وبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب فقالوا : استأذن لنا على أبي طالب ، فأتى أبا طالب فقال هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك ، فأذن لهم فدخلوا فقالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا ، وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا ، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه ، فدعا النبي صلّى اللّه عليه وسلم فجاءه فقال له : هؤلاء قومك وبنو عمك ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ما يريدون ؟ قالوا نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك ، قال أبو طالب : قد أنصفك قومك فاقبل منهم ، قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : أرأيتم لو أعطيتكم هذا هل أنتم معطى كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم وأدّت لكم الخراج ؟ قال أبو جهل : وأبيك لنعطينّكها وعشر أمثالها فما هى ؟ قال : قولوا : لا إله إلا اللّه ، فأبوا واشمأزوا ، قال أبو طالب : قل غيرها فإن قومك قد فزعوا منها ، قال يا عم : ما أنا بالذي أقول غيرها حتى يأتوا بالشمس فيضعوها فى يدى ، ولو أتونى بها فوضعوها فى يدى ما قلت غيرها ، فغضبوا وقالوا لتكفّنّ عن شتم آلهتنا أو لنشتمنّك ونشتم من يأمرك ، فأنزل اللّه : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ).
الإيضاح
(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ولا تسبوا أيها المؤمنون معبودات المشركين التي يدعونها من دون اللّه لجلب نفع لهم أو دفع ضرر(7/213)
ج 7 ، ص : 214
عنهم بوساطتها وشفاعتها عند اللّه ، إذ ربما نتج عن ذلك سبهم للّه سبحانه وتعالى عدوا أي تجاوزا منهم للحد فى السّباب والمشاتمة ليغيظوا المؤمنين. وقوله بغير علم أي بجهالة باللّه تعالى وبما يجب أن يذكر به.
وفى ذلك إيماء إلى أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها ، فإن ما يؤدى إلى الشرّ شر ، وإلى أنه لا يجوز أن يعمل مع الكفار ما يزدادون به بعدا عن الحق ونفورا منه ، ألا ترى إلى قوله تعالى لموسى وهارون فى مخاطبة فرعون :
« فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى » .
(كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أي مثل ذلك التزيين الذي يحمل المشركين على ما ذكر حمية لمن يدعون من دون اللّه - زينا لكل أمة عملهم من كفر وإيمان وشر وخير.
والخلاصة - إن سنننا فى أخلاق البشر قد جرت بأن يستحسنوا ما يجرون عليه ويتعودونه ، سواء كان مما عليه آباؤهم أو مما استحدثوه بأنفسهم إذا صار ينسب إليهم ، وسواء أ كان ذلك عن تقليد وجهل أم عن بينة وعلم.
ومن هذا يعلم أن التزيين أثر لأعمالهم الاختيارية بدون جبر ولا إكراه ، لا أن اللّه خلق فى قلوب بعض الأمم تزيينا للكفر والشر ، وفى قلوب بعضها تزيينا للإيمان والخير من غير أن يكون لهم عمل اختياري نشأ عنه ذلك ، وإلا كان الإيمان والكفر والخير والشر من الغرائز الخلقية التي تعد الدعوة إليها من العبث الذي يتنزه اللّه تعالى عن إرسال الرسل وإنزال الكتب لأجله ، وكان عمل الرسل والحكماء والمؤدبين الذين يؤدبون الناس عملا لا فائدة فيه.
والخلاصة - إن تزيين الأعمال للأمم سنة من سنن اللّه جل شأنه سواء فى ذلك أعمالها وعاداتها وأخلاقها الموروثة والمكتسبة.
(ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ثم إلى ربهم ومالك(7/214)
ج 7 ، ص : 215
أمرهم رجوعهم ومصيرهم بعد الموت وحين البعث ، لا إلى غيره إذ لا رب سواه ، فينبئهم بما كانوا يعملون فى الدنيا من خير أو شر ويجزيهم عليه ما يستحقون وهو بهم عليم (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) أي وأقسم هؤلاء المشركون المعاندون بأوكد الأيمان وأشدها مبالغة ، لئن جاءتهم آية من الآيات الكونية ليؤمنن بأنها من عند اللّه وأنك رسول من لدنه.
وفى هذا إيماء إلى أنهم بلغوا غاية العتو والعناد ، إذ هم لم يعدّوا ما يشاهدونه من المعجزات من نوع الآيات ومن ثم اقترحوا غيرها ، وما كان غرضهم من ذلك إلا التحكم فى طلب المعجزات ، وعدم الاعتداد بما شاهدوا من البينات.
(قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ) أي قل أيها الرسول إنما الآيات عند اللّه وحده ، فهو القادر عليها والمتصرف فيها يعطيها من يشاء ويمنعها من يشاء بحكمته وقضائه كما قال :
« وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ » فلا يمكننى أن أتصدى لإنزالها بالاستدعاء والطلب.
روى « أن قريشا اقترحوا بعض آيات فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : فإن فعلت بعض ما تقولون أ تصدقونني ؟ فقالوا نعم وأقسموا لئن فعلت لنؤمنن جميعا ، فسأل المسلمون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن ينزلها طمعا فى إيمانهم ، فهمّ عليه الصلاة والسلام بالدعاء فنزلت الآية » .
وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : « كلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قريشا فقالوا يا محمد : تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر ، وأن عيسى كان يحيى الموتى ، وأن ثمود كانت لهم ناقة ، فأتنا ببعض تلك الآيات حتى نصدقك ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : أىّ شىء تحبون أن آتيكم به ؟ قالوا تحوّل لنا الصفا ذهبا ، فقال : فإن فعلت تصدقونى ، قالوا نعم ، واللّه لئن فعلت لنتبعنك(7/215)
ج 7 ، ص : 216
أجمعين ، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال :
إن شئت أصبح الصفا ذهبا ، فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم (أي عذاب الاستئصال) وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : أتركهم حتى يتوب تائبهم ، فأنزل اللّه هذه الآية إلى قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) » .
(وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) الخطاب للمؤمنين الذين تمنّوا مجىء الآية ليؤمنوا والنبي صلّى اللّه عليه وسلم منهم بدليل همه بالدعاء ورغبته فى ذلك.
والمعنى - إنه ليس لكم شىء من أسباب الشعور بهذا الأمر الغيبى الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب وهو أنهم لا يؤمنون إذا جاءتهم الآية.
(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) تقليب الأفئدة والأبصار :
الطبع والختم عليها أي وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يدركونه ، وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه ، لكمال نبوّها عنه وتمام إعراضهم عن درك حقيقته وتكون حالهم حينئذ كحالهم الأولى فى عدم إيمانهم بما جاءهم أول مرة من الآيات.
ونظير الآية قوله : « وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ » .
ومن لم يقنعه ما جاء به القرآن من الدلائل العقلية والبراهين العلمية لا يقنعه ما يراه بعينيه من الآيات الحسية ، فله أن يدعى أن عينيه قد خدعتا أو أصيبتا بآفة ، فهما لا تريان إلا صورا خيالية أو سحرا مفترى ، وهذه سنة الأولين فى مكابرة آيات الرسل.
(وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) العمه : التردد فى الأمر من الحيرة فيه ، والطغيان :
تجاوز الحد أي إنا ندعهم يتجاوزون الحد فى الكفر والعصيان ، ويترددون متحيرين فيما سمعوا ورأوا من الآيات ، محدّثين أنفسهم أ هذا هو الحق المبين أم السحر الذي يخدع(7/216)
ج 7 ، ص : 217
عيون الناظرين وهل الأرجح اتباع الحق بعد ما تبين ، أو المكابرة والجدل كبرا وأنفة من الخضوع لمن يرونه دونهم.
وإنما أسنده الخالق إلى نفسه لبيان سننه الحكمية فى ربط المسببات بأسبابها ، فرسوخهم فى الطغيان الذي هو غاية الكفر والعصيان هو سبب تقليب القلوب والأبصار أي الختم عليها ، فلا تفقه ولا تبصر.
والحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لو لا أن هدانا اللّه ، اللهم ثبت أفئدتنا وأبصارنا على الحق ، واحفظنا من العمه والطغيان فى كل أمر ، واجعلنا ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله الغر الميامين وأصحابه المطهرين.
وكان الفراغ من مسودة هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة فى الليلة الثالثة من جمادى الأولى من سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية.(7/217)
ج 7 ، ص : 218
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 4 إرسال وفد من الصحابة إلى ملك الحبشة ، وما حدث حينئذ.
6 إرسال كتب الرسول صلى اللّه عليه وسلم إلى الملوك ورؤساء العشائر.
7 النصارى أقرب مودة للمؤمنين من اليهود مع ذكر سبب ذلك.
10 النهى عن تحريم الطيبات ، وعن الإسراف فى استعمالها.
13 ما أثر عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم فى استعمال الطيبات 15 إلزام الحانث فى يمينه بإحدى مبرات ثلاث.
17 لا يجوز الحلف بغير اللّه وأسمائه وصفاته.
18 الأيمان ثلاثة أقسام.
19 الأيمان مبنية على العرف والعبرة بنية المحلّف لا الحالف.
21 الحكمة فى تحريم الخمر بالتدريج.
23 الخمر والميسر يوقعان فى العداوة والبغضاء ويصدان عن ذكر اللّه وعن الصلاة 27 جواز التداوى بالخمر والسموم والنجاسات.
28 عقوبة شارب الخمر فى الدنيا والآخرة.
31 حرمة قتل الصيد البرى حين الإحرام.
32 جزاء قتله حين التعمد.
33 حل صيد البحر حين الإحرام.(7/218)
ج 7 ، ص : 219
الصفحة المبحث 35 البيت الحرام معظم لدى الناس جميعا.
37 ليس على الرسول إلا البلاغ وبيد اللّه الحساب.
38 لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث.
43 النهى عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى.
46 يجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلا إذا قست القلوب فلم تؤثر فيها المواعظ 48 الشهادة على الوصية حين الموت 50 إذا اتهم الوارثون الشاهدين بالكذب أو بالخيانة حلف اثنان من أقرب الناس إلى الموصى.
52 الحث على الوصية وعدم التهاون فيها فى سفر أو حضر.
54 سؤال الرسل يوم القيامة عما أجابتهم به أممهم.
55 ما أنعم اللّه به على عيسى وأمه.
57 طلب الحواريين إنزال مائدة من السماء.
61 ما ينجى الإنسان من عذاب يوم القيامة.
62 اتخاذ المسيح إلها.
67 إلمامة بما تضمنته سورة المائدة من التشريع والأحكام.
72 المجوس يعتقدون أن للعالم ربين.
76 الذنوب التي تدعو إلى الهلاك ضربان.
80 اقتراح كفار قريش على الرسول صلى اللّه عليه وسلم إنزال ملك من السماء يشهد بأنه رسول.
82 تسلية الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن إيذاء قومه له وبشارته بحسن العاقبة.
88 لا تدقّ عن سمع اللّه دعوة داع أو حاجة محتاج.(7/219)
ج 7 ، ص : 220
الصفحة المبحث 91 لا يطلب شىء من أمور الدنيا والآخرة إلا من اللّه.
92 شهادة اللّه بين الرسول وقومه ضربان.
96 المشركون يوم القيامة ينكرون الشرك تارة ويعترفون أخرى.
98 التقليد يمنع من النظر والاستدلال.
102 الكافرون يتمنون يوم القيامة أن يردوا إلى الدنيا.
110 حزنه صلى اللّه عليه وسلم على تكذيب المشركين له.
112 تبديل الكلمات والأقوال نوعان.
113 اقتراح المشركين نزول الآيات ورد اللّه عليهم.
118 الأحياء التي تدب على وجه الأرض أمم وجماعات أمثالكم.
119 اللوح المحفوظ.
122 حب الأنداد والأصنام مراتب ودرجات.
125 البأساء والضراء تهذب النفوس.
128 من آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
129 الغيب قسمان.
129 ليس من الغيب ما تعلم أسبابه عند بعض وتجهل لدى آخرين.
131 علم الغيب ليس من العلوم الكسبية لدى الرسل والأنبياء.
134 من معاذير المشركين فى عدم إيمانهم أن أتباعه صلى اللّه عليه وسلم من الفقراء المستضعفين.
135 الأنبياء مذكرون لا مسيطرون جبارون.
136 الرسول لا يملك التصرف فى الكون ، ولا يعلم الغيب ولا يملك حساب المؤمنين ولا جزاءهم.(7/220)
ج 7 ، ص : 221
الصفحة المبحث 144 مفاتيح الغيب خمس.
145 الحكمة فى كتابة مقادير الخلق فى اللوح المحفوظ.
148 إرسال الحفظة لإحصاء أعمال العباد.
153 الدلائل على قدرة اللّه 154 الحروب الحديثة تفسر قوله تعالى : قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم الآية.
159 نهينا عن الجلوس مع أهل الأهواء والبدع ما داموا يخوضون فى الدين.
162 منع الفداء يوم القيامة.
168 حجة إبراهيم لقومه على عبادة الأوثان والأصنام.
171 محاجة إبراهيم فى ترك عبادة الشمس والقمر والكواكب.
173 الأصل فى اختراع عبادة غير اللّه من الأحجار والأشجار والكواكب.
181 الأنبياء أقسام ثلاثة.
183 الهداية ضربان.
185 أمر اللّه رسوله بالاقتداء بالأنبياء السابقين.
186 الذي عليه المعول أن نوحا عليه السلام أول الأنبياء.
188 الإنسان مهما رقيت معارفه فى حاجة إلى هدى النبيين.
190 بعثة النبي صلى اللّه عليه وسلم عامة للأسود والأحمر.
192 الفرق بين الهون (بالضم) والهون (بالفتح).
193 ما يكون حين قبض الملائكة لأرواح الكافرين.
195 لا فداء ولا شفاعة فى الآخرة.
198 إخراج الحي من الميت والميت من الحي.
200 الاهتداء بالنجوم على ضربين.(7/221)
ج 7 ، ص : 222
الصفحة المبحث 201 الآيات ضربان.
201 تفسير المستقر بالمستودع.
204 الفرق بين الخرق والخلق.
204 المراد من الجن الملائكة فى قوله : وجعلوا للّه شركاء الجن.
206 نفى الولد عنه سبحانه.
207 لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.
208 البصيرة والبصر.
210 زعمهم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم تعلم من غلام رومى.
211 أمره صلى اللّه عليه وسلم بالإعراض عن المشركين وعدم المبالاة بهم.
212 الرسول بشير ونذير وهاد لا مسيطر جبار.
213 ما حدث حين احتضر أبو طالب.
214 جرت سنة اللّه أن يستحسن البشر ما يتعوّدون.
215 طلب المشركين من النبي صلى اللّه عليه وسلم نزول الآيات الكونية كما فعل موسى وعيسى.(7/222)
ج 8 ، ص : 3
الجزء الثامن
[تتمة سورة الأنعام ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 113]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
تفسير المفردات
قبلا : مواجهة ومعاينة ، وقيل إن واحده قبيل كرغف ورغيف - أي قبيلا قبيلا وصنفا صنفا أي كل صنف منه على حدة. قال ابن عباس : كل عات متمرد من الجن والإنس فهو شيطان - الإيحاء : الإعلام بالأشياء من طريق خفى سريع كالإيماء ، والزخرف : الزينة كالأزهار للرياض والذهب للنساء وما يصرف السامع عن الحقائق إلى الأوهام - والغرور : الخداع بالباطل - صغى إليه : كرضى يصغى : ، مال ، ومثله أصغى -(8/3)
ج 8 ، ص : 4
ويقول صغى فلان وصغوه معك : أي ميله وهواه كما يقال ضلعه معك ، واقترف المال :
اكتسبه ، والذنب : اجترحه - والعدو : ضد الصديق - ويستعمل للواحد والجمع والمذكر والأنثى. قال تعالى : « فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ »
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه فى الآيات السابقة أن مقترحى الآيات الكونية أقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها وبما تدل عليه من صدق الرسول فى دعوى الرسالة ، وأن المؤمنين كانوا يودون لو أجيب اقتراحهم ظنا منهم أن ذلك مفض إلى إيمانهم ، وذكر لهم خطأهم بقوله : « وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون » فأفاد أن سنته فيهم وفى أمثالهم من المعاندين أنهم إذا رأوا آية تدل على خلاف ما يعتقدون نظروا إليها نظرة إنكار وجحود ، وحملوها على أنها إما خديعة وسحر ، وإما أنها من أساطير الأولين.
ذكر هنا ما هو أبلغ من ذلك وفصل الإجمال الماضي فى قوله : « وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون » فأيأس النبي صلّى اللّه عليه وسلم من إيمانهم ، ولو جاءهم بكل آية وأتى لهم بكل دليل.
الإيضاح
(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) فرأوهم بأعينهم المرة بعد المرة والكرّة بعد الكرّة وسمعوا بآذانهم شهادتهم لك بالرسالة.
(وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ) بأن نحييهم لهم ونجعلهم حجة على صدق ما جئت به من الرسالة.
(وَ حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا) أي وجمعنا كل شىء من الآيات والدلائل غير الملائكة والموتى وأرسلناه إليهم معاينة ومواجهة ليكون ذلك دليلا على ضحة دعواك(8/4)
ج 8 ، ص : 5
(ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي ما كان شأنهم ، ولا مقتضى استعدادهم أن يؤمنوا - ذلك لأنهم لا ينظرون فى الآيات نظر هداية واعتبار ، وإنما ينظرون إليها نظر العدو إلى من يعاديه ، لا نظر الولي إلى من يعينه ويواليه ، فيخيّل إليهم الوهم أن ما جئتهم به لا يهديهم إلى سواء السبيل ، وإنما تسحر به عقولهم وتسلب به ألبابهم.
(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أي لكن إن شاء اللّه إيمان أحد منهم آمن - والمراد أنهم ما داموا على صفاتهم التي هم عليها من اقتراح الآيات فهم لا يؤمنون - لكن إن شاء اللّه أن يزيلها فعل.
والخلاصة : إن فقد هؤلاء للاستعداد للإيمان ، جار بحسب مشيئته تعالى ككل ما يجرى فى الوجود ، ولو شاء غير ذلك لكان ، ولكنه لا يشاء لأنه تغيير لسنته وتبديل لطباع الإنسان.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) أي ولكن أكثر المؤمنين يجهلون عدم إيمانهم عند مجىء الآيات ، لجهلهم سنة اللّه تعالى فى عباده وانطباقها على الأفراد والجماعات ، لذلك يتمنى بعض المؤمنين لو يؤتى مقترحو الآيات ما اقترحوا ، ظنّا منهم أن ذلك يكون سبب إيمانهم ، مع أن الآيات لا تلزمهم الإيمان ولا تغيّر طباع البشر فى اختيار ما يترجّح لدى كل منهم بحسب ما يؤدّيه إليه فكره وعقله : ولو شاء اللّه لخلق الإيمان فى قلوبهم خلقا بحيث لا يكون لهم فيه عمل ولا اختيار - وحينئذ لا يكونون محتاجين إلى الرسل كما أنه لو شاء - جعل الآيات مغيّرة لطبائع البشر وملزمة لهم أن يؤمنوا فيكون الإيمان إلجاء وقسرا ، لا اختيارا وكسبا ، ولكنه لم يشأ ذلك بدليل قوله تعالى : « لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ » .
قال ابن عباس كان المستهزءون بالقرآن خمسة : الوليد بن المغيرة المخزومي ، والعاصي ابن وائل السهمي ، والأسود بن يغوث الزهري ، والأسود بن المطلب ، والحرث بن حنظلة. أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فى رهط من أهل مكة وقالوا أرنا الملائكة(8/5)
ج 8 ، ص : 6
يشهدوا بأنك رسول اللّه ، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم (أ حق ما تقول أم باطل ؟ ) أو ائتنا باللّه والملائكة قبيلا ، فنزلت الآية.
ثم أراد بعدئذ تسلية نبيه صلّى اللّه عليه وسلم ببيان أن سنته فى الخلق أن يكون للنبيين أعداء من الجن والإنس فقال :
(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) أي كما جعلنا هؤلاء ومن لفّ لفّهم أعداء لك جعلنا لكل نبى جاء قبلك أعداءهم شياطين الإنس والجن - قال مجاهد وقتادة والحسن : إن من الإنس شياطين ومن الجن شياطين - وأيده
ابن جرير بما رواه أبو ذرّ ، وهو أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال له عقب صلاة : « يا أبا ذر هل تعوّذت باللّه من شر شياطين الإنس والجن ؟ قال : قلت يا رسول اللّه وهل للإنس شياطين ؟ قال نعم »
وجاء فى سورة البقرة « وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ » الآية.
ومعنى جعلهم أعداء للأنبياء : أن سنة اللّه قد جرت بأن يكون الشرّير الذي لا ينقاد للحق كبرا وعنادا أبو جمودا على ما تعود - عدوا للداعى إليه من الأنبياء وورثتهم وناشرى دعوتهم ، وهكذا الحال فى كل ضدين يدعوا أحدهما إلى خلاف ما عليه الآخر ، فى الأمور الدينية أو الاجتماعية ، وهذا ما يعبر عنه بسنة تنازع البقاء بين المتقابلات التي تدعو إلى التنافس والجهاد وتكون العاقبة انتصار الحق ، وبقاء الأمثل الأصلح كما قال تعالى : « فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً ، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ » فالحياة جهاد لا يثبت فيه إلا الصابرون المجدّون ، وليس العمل للآخرة إلا كذلك ، « أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ » .
ثم بين بعدئذ أن من أثر عداء هؤلاء الشياطين للأنبياء - مقاومتهم للهداية والدعوة التي كلفوا بها فقال :(8/6)
ج 8 ، ص : 7
(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) أي يلقى بعضهم إلى بعض القول الموّه الذي به يظنون أنهم يسترون قبيح باطلهم ، ويؤدونه بطرق خفية لا يفطن إلى باطلها كل أحد حتى يغرّوا غيرهم ويخدعوه ويميلوه إلى ما يريدون.
وأول مثل لهذا الغرور ما وسوس به الشيطان للانسان الأول وزوجه الكريم (آدم وحواء) فزين لهما الأكل من الشجرة التي نهاهما اللّه عن الأكل منها كما قال :
« وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ » .
وهكذا يوسوس شياطين الإنس والجن لمن يجترحون السيئات ويرتكبون المعاصي فيزينون لهم ما فيها من عظيم اللذة والتمتع بالحرية ، ويمنّونهم بعفو اللّه ورحمته ، وشفاعة أنبيائه وأوليائه حتى ليترنم أحدهم بقوله :
تكثّر ما استطعت من الخطايا فإنك واجد ربّا غفورا
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) أي ولو شاء ربك ألا يفعلوا هذا الغرور ما فعلوا ، ولكنه لم يشأ أن يغيّر خلقهم أو يجبرهم على خلاف ما تزينه لهم أهواؤهم ، بل شاء أن يكون الإنس والجن على استعداد لقبول الحق والباطل والخير والشر ، وأن يكونوا مختارين سلوك أي الطريقين كما قال « وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ » .
(فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) من الكذب ويخترعون من الإفك ، صرفا للناس عن سبيل الحق ، وسعيا فى إضلالهم وصدهم عن طريق الرشاد ، وامض لشأنك كما أمرت فعليك البلاغ ، وعلينا الحساب والجزاء ، وسترى سنتنا فيهم وفى أمثالهم ، وقد أراه عاقبة أمرهم فأهلك المستهزئين بالقرآن ونصره على أعدائه المشركين « وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ » .
(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي يوحى بعض هؤلاء الشياطين إلى بعض المموّه من القول به ليغروا المؤمنين من أتباع الأنبياء فيفتنوهم عن دينهم ، ولتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ، لأنه الموافق لأهوائهم إذ هم يميلون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ، ومموّهات الأباطيل.(8/7)
ج 8 ، ص : 8
أما الذين ينظرون إلى عواقب الأمور فيعلمون بطلانها ، فلا تغرنهم تلك الزخارف ولا تعجبهم تلك الأباطيل.
(وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) أي وليترتب على ذلك أيضا أن يرضوه لأنفسهم بلا بحث ولا تمحيص فيه ، وأن يكتسبوا معه من الآثام والمعاصي ما هم مكتسبون بغرورهم به ورضاهم عنه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 114 الى 115]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
تفسير المفردات
الحكم : من يتحاكم إليه الناس ويرضون حكمه - مفصلا : مبينا فيه الحق والباطل والحلال والحرام ، إلى غير ذلك من الأحكام - الممترين : المترددين الشاكّين ، والكلمة هنا : القرآن ، وتمام الشيء كما قال الراغب : انتهاؤه إلى حد لا يحتاج معه إلى شىء خارج عنه ، وتمامها هنا : أنها كافية وافية فى الإعجاز والدلالة على صدق الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، والصدق يكون فى الأخبار ومنها المواعيد ، والعدل : يكون فى الأحكام.
والتبديل : التغيير بالبدل.
المعنى الجملي
بعد أن بين فى سابق الآيات أن الذين اقترحوا الآيات الكونية ، وأقسموا أنهم يؤمنون إذا جاءتهم - كاذبون فى أيمانهم وأنهم ما هم إلا من شياطين الإنس الذين يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ، وأن دأبهم صرف الناس عن اتباع الحق وتزيين الباطل ، فيغتر بهم من لا يؤمن بالآخرة ويرضى بهم لموافقتهم أهواءه.(8/8)
ج 8 ، ص : 9
ذكر هنا الآية الكبرى ، وهى القرآن الكريم فهو أقوى الأدلة على رسالة نبيه من جميع ما اقترحوا ، هو الذي يجب الرجوع إليه فى أمر الرسالة واتباع حكمه فيها ، دون أولئك الضالين المبطلين ، من شياطين الإنس والجن.
الإيضاح
(أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا) أي ليس لى أن أتعدى حكم اللّه ولا أن أتجاوزه لأنه لا حكم أعدل من حكمه ، ولا قائل أصدق منه ، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ، فيه كل ما يصح به الحكم ، وإنزاله مشتملا على الحكم التفصيلي للعقائد والشرائع وغيرهما على لسان رجل منكم أمي مثلكم هو أكبر دليل وأظهر آية على أنه من عند اللّه ، لا من عنده ، كما جاء فى قوله : « فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ » أي جاوزت الأربعين ولم يصدر عنى مثله فى علومه ولا فى أخباره بالغيب ولا فى فصاحته وبلاغته.
والخلاصة - إنكم تتحكمون فى طلب المعجزات ، لان الدليل على نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، قد حصل بوجهين :
(1) إنه أنزل إليكم الكتاب المفصل المشتمل على علوم كثيرة ، بأسلوب عجز الخلق عن معارضته ، فيكون هذا دليلا على أن اللّه قد حكم بنبوته.
(2) ما ذكر بعد ، من أن التوراة والإنجيل تشتملان على الآيات الدالة على أنه صلى اللّه عليه وسلم رسول حق وأن القرآن كتاب حق من عند اللّه.
ثم ذكر ما يؤكد ما سبق فقال :
(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) أي إن أنكر هؤلاء المشركون أن يكون القرآن حقا وكذّبوا به ، فالذين أعطيناهم الكتب المنزلة من قبله كعلماء اليهود والنصارى يعلمون أنه منزل من ربك بالحق.(8/9)
ج 8 ، ص : 10
ذاك أنهم يعلمون أنه من جنس الوحى الذي نزل على أنبيائهم وأن أوسع البشر علما لا يستطيع أن يأتى بمثله - إلى أن كتبهم تشتمل على بشارات بذلك النبي لم تكن لتخفى على علمائهم فى عصر التنزيل كما قال تعالى : « الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ » .
وقد اعترف بذلك من أنار اللّه بصيرتهم من أهل الكتاب فآمنوا ، وأنكر بعضهم الحق وكتمه بغيا وحسدا فباء بالخسران المبين.
(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الخطاب إما للنبى صلّى اللّه عليه وسلم والمراد به غيره على طريق التعريض كقوله : « وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » وتقدم الكلام على مثل هذا وإما - له والمراد النهى عن الشك فى أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزّل بالحق - أو الخطاب لكل من يتأتى منه الامتراء على مثال قوله : « وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ » (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا) قد تطلق الكلمة على الجملة والطائفة من القول فى غرض واحد فإذا كتب أحد أو خطب فى موضوع ما قيل كتب أو قال كلمة ، وكانوا يسمون القصيدة كلمة ، وقالوا كلمة التوحيد يعنون (لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) والمراد بها هنا ما أريد بها فى قوله : « وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ » والمعنى - وتمت كلمة ربك فيما وعدك به من نصرك ، وأوعد به المستهزئين بالقرآن من الخذلان والهلاك ، كما تمت فى الرسل وأعدائهم من قبلك كما قال : « وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ »
.
وتمامها صدقا هو حصولها على الوجه الذي أخبر به ، وتمامها عدلا باعتبار أنها جزاء للكافرين المعاندين للحق بما يستحقون ، وللمؤمنين بما يستحقون أيضا ، وقد يزادون على ذلك فضلا من اللّه ورحمة ، والمراد بالخبر هنا لازمه وهو تأكيد ما تضمنته الآيات من تسلية النبي صلّى اللّه عليه وسلم على كفر هؤلاء المعاندين وإيذائهم له ولأصحابه ، وإيئاس للطامعين من المسلمين فى إيمانهم حين إيتائهم الآيات المقترحة.(8/10)
ج 8 ، ص : 11
وخلاصة المعنى - كما أن سنتى قد مضت بأن يكون للرسل أعداء من شياطين الإنس والجن ، تمت كلمتى بنصر المسلمين وخذلان الأعداء المفسدين.
(لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي إن كلمة اللّه في نصرك وخذلان أعدائك قد تمت وأصبحت واقعة نافذة حتما لا مرد لها ، لأن كلمات اللّه لا مبدل لها ، ولا يستطيع أحد من خلقه أن يزيلها بكلمات أخرى تخالفها وتمنع صدقها على من وردت فيهم ، كأن يجعل الوعد وعيدا أو الوعيد وعدا ، أو يصرفهما عن الموعود بالثواب أو الموعد بالعقاب إلى غيرهما ، أو يحول دون وقوعهما.
والخلاصة - إنه لا مغيّر لما أخبر عنه من خبر أنه كائن فيبطل مجيئه ، وكونه على ما أخبر جل ثناؤه.
(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إنه تعالى سميع لتلك الأقوال الخادعة عنهم ، عليم بما فى قلوبهم من المقاصد والنيات ، وبما يقترفون من الذنوب والسيئات.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 116 الى 121]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)(8/11)
ج 8 ، ص : 12
المعنى الجملي
بعد أن أجاب سبحانه عن شبهات الكفار وبين بالدليل صحة نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم - ذكر هنا أنه لا ينبغى الالتفات إلى ما يقوله هؤلاء الجهال ، لأنهم يسلكون سبيل الضلال والإضلال ، ويتبعون الظنون الفاسدة الناشئة من الجهل والكذب على اللّه ، فلا ينبغى الركون إليهم والعمل بآرائهم.
وفى سياق الحديث ذكر أن أكثر الأمم فى عهد بعثة النبي صلّى اللّه عليه وسلم كانوا ضلالا يغلب عليهم الشرك ، بعد أن أبان ضلال مشركى العرب ومن على شاكلتهم فى عقائدهم ثم أردف ذلك بيان مسألة هامة لها خطرها وهى من أصول الشرك ، تلك هى مسألة الذبائح لغير اللّه.
الإيضاح
(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي وإن تطع أحدا من الكفار بمخالفة ما شرعه اللّه ، وأودعه كلماته المنزلة عليك ، يضلوك عن الدين الحق ، وعن نهج الصواب ، فلا تتبع أنت ومن اتبعك حكما غير الذي أنزل إليك من الكتاب مفصلا ، فهو الهداية التامة الكاملة ، فادع إليه الناس كافة.
ثم أكد ما سبق بقوله :
(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) الخرص : القول بالظن قول من لا يستيقن ، أي إن هؤلاء لا يتبعون فى عقائدهم وأعمالهم إلا الظن الذي ترجحه لهم أهواؤهم - وما هم إلا يخرصون فى ترجيح بعض منها على بعض ، كما يخرص أرباب النخيل والكروم ثمرات نخيلهم وأعنابهم ، ويقدرون ما تجود به من التمر والزبيب تخمينا وحدسا(8/12)
ج 8 ، ص : 13
دون تحقيق لذلك ، ولا برهان لهم على ما يقولون ، فهم يكذبون على اللّه فيما ينسبونه إليه من اتخاذ الولد ، وجعل عبادة الأوثان ذريعة إليه ، وتحليل المينة والبحائر ونحو ذلك.
وتاريخ تلك العصور يؤيد الحكم القطعي الذي فى الآية من ضلال أكثر أهل الأرض ، واتباعهم للخرص والظن فأهل الكتاب من اليهود والنصارى قد تركوا هداية أنبيائهم ، وضلوا ضلالا بعيدا ، وكذلك الأمم الوثنية ، التي كانت أبعد عهدا عن هداية الرسل والأنبياء.
وهذا من علم الغيب الذي أوتيه ذلك النبي الأمى ، وهو لم يكن يعلم من أحوال الأمم إلا النذر اليسير من شئون الأمم المجاورة لبلاد العرب.
ثم أعقبه بتأكيد آخر زيادة فى التحذير فقال :
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي إن ربك الذي رباك وعلمك بما أنزله إليك ، وبين لك ما لم تكن تعلم من الحق ومن شئون الخلق - هو أعلم منك ومن سائر عباده ، بمن يضل عن سبيله القويم ، وبمن هو من المهتدين ، السالكين صراطه المستقيم ، ففوّض أمرهم إلى خالقهم فهو العليم بالضال والمهتدى ، ويجازى كلا بما يليق بعمله.
وبعد أن أبان لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم أن أكثر أهل الأرض يضلّون من أطاعهم ، لأنهم ضالون خرّاصون ، وأنه تعالى هو العليم بالضالين والمهتدين - أمر رسوله وأتباعه بمخالفة أولئك الضالين ، من قومهم ومن غيرهم فى مسألة الذبائح وترك جميع الآصار والآثام ، فقال :
(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) أي إذا كان حال أكثر هؤلاء الناس ما بينته لكم من الضلال فكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه من الذبائح دون غيره ، إن كنتم بآياته التي جاءتكم بالهدى والعلم مؤمنين ، وبما يخالفها من الضلال والشرك مكذبين.(8/13)
ج 8 ، ص : 14
وقد كان مشركو العرب وغيرهم من أرباب الملل والنحل يجعلون الذبائح من أمور العبادات ، ويقرنونها بأصول الدين والاعتقادات ، فيتعبدون بذبح الذبائح لآلهتهم ومن قدّسوا من رجال دينهم ، ويهلون لهم عند ذبحها ، وهذا شرك باللّه ، لأنه عبادة يقصد بها غيره ، سواء سمّوه إلها أو معبودا أو لم يسموه ، وقد وقع كثير من المسلمين فى مثل ما كان عليه أولئك الضالون المشركون من مشركى العرب وسواهم فذبحوا باسم بعض الأولياء والصالحين ، وسيّبوا لهم السوائب ، فتراهم ينذرون العجول والخراف للسيد البدوي وغيره من أرباب الأضرحة والقبور ممن يستشفعون بهم إلى ربهم فى زعمهم ، وهذا شرك صريح.
(وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) العرب تقول مالك ألا تفعل كذا ، على معنى وأي شىء يمنعك من ذلك ؟ والمراد هنا وأي شىء يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه ؟
(وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أي وقد فصل لكم ما حرمه عليكم وبينه بما سيأتى فى قوله : « قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ » ومعنى أهلّ لغير اللّه به أي ذكر عليه اسم غيره عند ذبحه كالأصنام والأنبياء والصالحين الذين وضعت التماثيل ذكرى لهم.
(إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) أي إلا ما دعتكم الضرورة إلى أكله بأن لم يوجد من الطعام عند شدة الجوع إلا المحرم فحينئذ يزول التحريم. والقاعدة الشرعية « الضرورات تبيح المحظورات » والقاعدة الأخرى « الضرورة تقدّر بقدرها » فيباح للمضطر ما تزول به الضرورة ويتّقى به الهلاك أكثر منه.
(وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي وإن كثيرا من الناس يضلون غيرهم بأهوائهم الزائغة وشهواتهم الفاسدة من غير علم منهم بصحة ما يقولون ، ولا برهان على ما فيه يجادلون ، اعتداء وخلافا لأمر اللّه ونهيه وطاعة للشياطين ، كعمرو بن لحىّ(8/14)
ج 8 ، ص : 15
وقومه الذين اتخذوا البحائر والسوائب ، وأحلوا أكل الميتة ، وما أهل به لغير اللّه بذكر اسم ذلك من نبى أو وثن أو صم.
وأصل عبادة الأوثان أنه كان فى القوم الذين أرسل إليهم نوح رجال صالحون ، فلما ماتوا وضعوا لهم أنصابا ليتذكروهم بها ويقتدوا بهم ، ثم صاروا يكرمونها لأجلهم ، ثم خلف من بعدهم خلف جهلوا حكمة وضعها لكنهم حفظوا تكريمها ، والتبرك بها ، تدينا وتوسلا إلى اللّه ، فكان ذلك عبادة لها وتسلسل فى الأمم بعدهم ، وقد روى البخاري عن ابن عباس : إن المضلين يبنون شبهاتهم على جميع أنواع العبادة التي عبدوا بها غير اللّه كالتوسل به ودعائه ، وطلب الشفاعة منه ، وذبح القرابين باسمه ، والطواف حول تمثاله أو قبره والتمسح بأركانهما ، وكل ذلك شرك فى العبادة ، شبهته تعظيم المقربين من اللّه تعالى للتقرب بهم إليه.
وقد انتشرت هذه الشبهات الوثنية فى أرباب الكتب الإلهية ، وأولوا لأجلها النصوص القطعية وأنكروا تسمية ذلك عبادة ، أو أن هذه العبادة إذا كانت لغير اللّه لجعله واسطة ووسيلة إليه لا تعد شركا به ، وما الشرك فى العبادة إلا هذا.
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) أي إن ربك الذي أرشدك وهداك هو أعلم منك ومن سائر خلقه بالمعتدين الذين يتجاوزون ما أحله إلى ما حرمه عليهم ، أو يتجاوزون حد الضرورة عند وقوعها. وفى هذا من التهديد والتخويف ما لا يخفى.
وفى الآية إيماء إلى تحريم القول فى الدين بالتقليد لأن ذلك من اتباع الأهواء ، بغير علم ، إذ المقلد غير عالم بما قلّد فيه.
(وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) الإثم لغة ما قبح ، وشرعا ما حرمه اللّه ، واللّه لم يحرم على عباده إلا ما كان ضارا بالأفراد فى أنفسهم أو فى أموالهم أو فى عقولهم أو فى أعراضهم أو فى دينهم ، أو ضارا بالجماعات فى مصالحهم السياسية أو لاجتماعية.
والظاهر منه ما تعلق بأفعال الجوارح ، والباطن ما تعلق بأعمال القلوب ، كالكبر والحسد وتدبير المكايد الضارة والشرور للناس ، ومنه الاعتداء فى أكل المحرم الذي(8/15)
ج 8 ، ص : 16
يباح للمضطر بأن يتجاوز فيه حد الضرورة كما بينه اللّه بقوله : « فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » وهذه الجملة من جوامع الكلم والأصول العامةفى تحريم الآثام ، ومن ثم قال ابن الأنبارى : المراد بذلك ترك الإثم من جميع جهاته كما تقول ما أخذت من هذا المال لا قليلا ولا كثيرا تريد ما أخذت منه بوجه من الوجوه.
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) أي إن الذين يكسبون نوعا من الآثام الظاهرة أو الباطنة سيلقون جزاء إنهم وعاقبة كسبهم للذنوب التي أفسدت فطرتهم ودست نفوسهم بإصرارهم عليها ومعاودتها المرة بعد المرة.
أما الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون ، فهؤلاء يتوب اللّه عليهم ويمحو تأثير الإثم فى قلوبهم ، بما يفعلونه من الحسنات كما قال تعالى : « إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ » وبذلك تعود نفوسهم زكية وتلقى ربها سليمة نقية من أدران السوء التي كانت قد وقعت منها لما ما.
واتفق المسلمون على أن التوبة تمحو الحوبة : أي أن التوبة الصحيحة بالعزم الصادق والندم على مافات تمحو آثار الذنب الماضي ، فإن اللّه قد يعفو عن المذنب فيغفر له ما فرط منه من الذنوب كما قال : « إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ » .
ثم صرح سبحانه بالنهى عن ضد ما فهم من الأمر السابق وهو قوله : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) لشدة العناية به لأنه من أظهر أعمال الشرك فقال :
(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) أي ولا تأكلوا أيها المؤمنون مما مات فلم تذبحوه ، ولا ما أهل لغير اللّه به مما ذبحه المشركون لأوثانهم فإن أكل ذلك فسق ومعصية كما جاء فى الآية الأخرى « أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ » .
[تنبيه ] : قال مالك : كل ما ذبح ولم يذكر اسم اللّه تعالى عليه فهو حرام ، ترك لذكر(8/16)
ج 8 ، ص : 17
عمدا أو سهوا ، وقال أبو حنيفة إن ترك الذكر عمدا حرم ، وإن ترك نسيانا حل ، وقال الشافعي : متروك التسمية عمدا أو سهوا حلال إذا كان الذابح مسلما.
(وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) أي وإن شياطين الإنس والجن الذين يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ليوحون إلى أوليائهم بالوسوسة والتلقين الخادع ما يجادلونكم به من الشبهات ، وإن أطعتموهم فيها فجاريتموهم فى هذه العبادة الوثنية الباطلة إنكم لمشركون مثلهم ، فإن التعبد لغير اللّه شرك كدعاء غير اللّه وسائر ما يتوجه به من العبادات لغيره وإن كان لأجل التوسل بذلك الغير إليه ليقرّب المتوسّل إليه زلفى ويشفع له عنده كما يفعل أهل الوثنية.
وأولياء الشياطين لم يجادلوا أحدا من المؤمنين فيما لم يذكر اسم اللّه عليه ولا اسم غيره عليه من الذبائح المعتادة التي لا يقصد بها العبادة ، فمن يأكل هذه الذبائح لا يكون مشركا ، وكذلك من يأكل الميتة ، بل يكون عاصيا إن لم يكن مضطرا.
قال عكرمة : وإن الشياطين يعنى مردة المجوس ، ليوحون إلى أوليائهم من مشركى قريش زخرف القول ليصل إلى نبى اللّه وأصحابه ممن أكل الميتة ، ذلك أنه لما نزل تحريم الميتة سمعه المجوس من أهل فارس فكتبوا إلى قريش وكانت بينهم مكاتبة : إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر اللّه ثم يزعمون أن ما يذبحونه حلال وما يذبحه اللّه حرام. فوقع فى أنفس ناس من المسلمين من ذلك شىء فأنزل اللّه هذه الآية ثم قال :
(وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) يعنى فى استحلال الميتة (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) قال الزجاج : وفيه دليل على أن كل من أحل شيئا مما حرم اللّه تعالى ، أو حرّم شيئا مما أحل اللّه تعالى فهو مشرك ، لأنه أثبت مشرّعا سوى اللّه ، وهذا هو الشرك بعينه.
وما يذبح عند استقبال ملك أو أمير أو وزير أفتى بعض الحنفية بتحريم أكله لأنه مما أهلّ به لغير اللّه. وقال بعض الشافعية : هم إنما يذبحونه استبشارا بقدومه فهو(8/17)
ج 8 ، ص : 18
كذبح العقيقة لولادة المولود ، ومثل هذا لا يوجب التحريم ، وهذا هو الراجح الذي عليه المعوّل.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 122 الى 123]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123)
تفسير المفردات
المثل : الصفة والنعت. الأكابر واحدهم أكبر أو كبير : وهو الرئيس ، والمجرمون :
فاعلو الإجرام ، والإجرام : هو ما فيه الفساد والضرر من الأعمال ، والقرية. البلد الجامع للناس (العاصمة فى عرف هذا العصر) وقد تطلق بمعنى الشعب أو الأمة ، ويرادفها البلد فى اصطلاح هذا العصر فيقولون ثروة البلد ، مصلحة البلد ويريدون الأمة ، والمكر :
صرف المرء غيره عما يريده إلى غيره بضرب من الحيلة فى الفعل ، أو الخلابة فى القول.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أن أكثر أهل الأرض ضالون متبعون للظن ، والحدس ، وأن كثيرا منهم يضلون غيرهم بأهوائهم بغير علم ، وأن الشياطين منهم العاتين عن أمر ربهم يوحون إلى أوليائهم ما يجادلون به المؤمنين ليضلوهم ويحملوهم على اقتراف الآثام ، ويحملوهم أيضا على الشرك باللّه بالذبح لغيره والتوسل به إليه وهو عبادة له - ضرب هنا مثلا يستبين به الفرق بين المؤمنين المهتدين للاقتداء بهم ، والكافرين الضالين للتنفير من طاعتهم والحذر من غوايتهم مع ذكر السبب فى استحسان الكافرين لأعمالهم وهو(8/18)
ج 8 ، ص : 19
تزيين الشيطان لهم ما يعملون ، ومن ثم انغمسوا فى ظلمات لا خلاص لهم منها ، وأصبحوا فى حيرة وتردد على الدوام.
الإيضاح
(أَ وَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ؟ ) أي أ أنتم أيها المؤمنون كأولئك الشياطين أو كأوليائهم الذين يجادلونكم بما أوحوه إليهم من زخرف القول الذي غرّوهم به ؟ أ فمن كان ميتا بالكفر والجهل فأحييناه بالإيمان وجعلنا له نورا يمشى به فى الناس وهو نور القرآن المؤيد بالحجة والبرهان ، يمشى به فى الناس على بصيرة من أمر دينه وآدابه ومعاملاته للناس كمن مثله المبين لحاله مثل السائر فى ظلمات بعضها فوق بعض (ظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، وظلمة المطر) وهو ليس بخارج منها لأنه يبقى متحيرا لا يهتدى إلى وجه صلاحه ، فيستولى عليه الخوف والفزع والعجز والحيرة الدائمة. وكذلك الخابط فى ظلمات الجهل والتقليد الأعمى وفساد الفطرة ليس بخارج منها ، لأنها قد أحاطت به وألفتها نفسه فلم يعد يشعر بالحاجة إلى الخروج منها إلى النور ، بل ربما شعر بالألم من هذا النور المعنوي كما يألم الخفّاش بالنظر إلى النور الحسى.
والخلاصة - إنه ينبغى للمسلم أن يكون حيا عالما على بصيرة فى دينه وأعماله وحسن سيرته ، وأن يكون القدوة والأسوة للناس فى الفضائل والخيرات والحجة على فضل دينه على سائر الأديان.
(كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي مثل هذا التزيين الذي تضمنه المثل السابق ، وهو تزيين نور الهدى والدين لمن أحياه اللّه حياة عالية ، وتزيين ظلمات الضلال والكفر لموتى القلوب ، قد زيّن للكافرين ما كانوا يعملون من الآثام كعداوة النبي صلى اللّه عليه وسلم وذبح القرابين لغير اللّه وتحريم مالم يحرمه اللّه وتحليل ما حرمه بمثل تلك الشبهات التي تقدم ذكرها.(8/19)
ج 8 ، ص : 20
(وَ كَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) أي وكما أن أعمال أهل مكة مزينة لهم جعلنا فى كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ، فزين لهم بحسب سننا فى البشر سوء أعمالهم فى عدوان الرسل ومقاومة الإصلاح اتباعا للهوى ، واستكبارا فى الأرض.
ومجمل القول : إن سنة اللّه فى الاجتماع البشرى قد قضت أن يكون فى كل عاصمة لشعب أو أمة بعث فيها رسول أو لم يبعث - زعماء مجرمون يمكرون بالرسل وبسائر المصلحين من بعدهم ، وهكذا كان الحال فى أكثر أكابر الأمم والشعوب ولا سيما فى العصور التي تكثر فيها المطامع ويعظم حب الرياسة والكبرياء فتراهم يمكرون بالأفراد والجماعات ، فيحفظوا رياستهم ويعززوا كبرياءهم كما يمكرون بغيرهم من الساسة والرؤساء إرضاء لمطامع أمتهم وتعزيز نفوذ حكومتهم بين الشعوب والدول.
والمراد بالأكابر المجرمين من يقاومون دعوة الإصلاح ويعادون المصلحين من الرسل وورثتهم ، وكان أكثر أكابر مكة كذلك ، وتخصيص الأكابر بذلك لأنهم أقدر على المكر واستتباع الناس لهم.
(وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) أي وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل فى عصرهم ودعاة الإصلاح من ورثتهم من بعدهم - إلا بأنفسهم.
وهكذا شأن من يعادون الحق والعدل ليبقى لهم ما هم عليه من فسق وفساد ، لأن سنة اللّه قد جرت بأن عاقبة المكر السيء تحيق بأهله فى الدنيا والآخرة ، أما فى الدنيا فبما ثبت فى القرآن من نصر المرسلين وهلاك الكافرين المعاندين ، ومن علو الحق على الباطل ، ومن هلاك القرى الظالمة ، وبما أيده الاختبار ودلّت عليه نظم العمران من أن تنازع البقاء يقضى ببقاء الأمثل والأصلح « فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ » .
وقد أشارت الآيات إلى أن هذا كان سنة اللّه فى الأولين فقال : « وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ(8/20)
ج 8 ، ص : 21
وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ »
أي فالذين كانوا يمكرون السيئات لمقاومة إصلاح الرسل حرصا على رياستهم وفسقهم وفسادهم ، لم يكونوا يشعرون بأن عاقبة مكرهم تحيق بهم ، لجهلهم بسنن اللّه فى خلقه ، وهم خليقون بهذا الجهل. وأما فى الآخرة فالأمر واضح والنصوص متظاهرة على ذلك.
وهذه الجملة متضمنة لوعيد الماكرين من مجرمى أهل مكة ، وفيها وعد وتسلية للنبى صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 124 الى 127]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)
تفسير المفردات
الصغار والصّغر (بالتحريك) : الذل والهوان جزاء الكفر والطغيان ، وهو قلة فى الأمور المعنوية. والصّغر (بزنة عنب) قلة فى الأمور الحسية ، والصاغر : الراضي بالمنزلة الدنيّة. وشرح الصدر : توسعته ، ويراد به جعل النفس مهيأة لحلول الحق فيها وخلوها مما يكدرها ، والضيق (بالتشديد والتخفيف) كهين وهين : ضد الواسع.
والحرج : شديد الضيق من الحرجة وهى الشجر الكثير الملتف بعضه ببعض بحيث(8/21)
ج 8 ، ص : 22
يصعب الدخول فيه. روى أن عمر سأل أعرابيا من بنى مدلج عن الحرجة فقال :
هى الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية ، فقال عمر : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شىء من الخير. والرجس : كل ما يستقذر حسا أو عقلا أو شرعا ، أو هو ما لا خير فيه ، أو هو اللعنة فى الدنيا والعذاب فى الآخرة ، صراط ربك :
أي طريقه الذي ارتضاه وسنته التي اقتضتها حكمته ، والمستقيم : ما لا اعوجاج فيه ولا زيغ ، دار السلام : هى الجنة ، أو هى دار السلامة من المنغّصات والكروب ، وليهم :
أي متولى أمورهم وكافيهم كل ما يهمّهم.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه فى الآيات السابقة أن سنته فى البشر قضت بأن يكون فى كل شعب أو أمة زعماء مجرمون يمكرون بالرسل وبدعاة الإصلاح ، ويقاومون دعوتهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا - ذكر هنا أن هذه السنة تنطبق أشد الانطباق على مجرمى أهل مكة الذين تعنتوا أشد التعنت فيما أنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلم من الآيات ، ثم ذكر بعد هذا سنة اللّه فى المستعدين للإيمان وغير المستعدين مع ظهور الحق فى نفسه.
وقد نزلت هذه الآية فى الوليد بن المغيرة قال : واللّه لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أحق بها من محمد فإنى أكثر منه مالا وولدا.
الإيضاح
(وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ) أي وإذا جاءت أولئك المشركين آية بينة من القرآن تتضمن صدق الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فيما جاء به عن ربه من التوحيد والهدى قالوا لا نؤمن إلا إذا أتى على يديه من الآيات الكونية التي يؤيده اللّه بها ، مثل ما أوتى رسل اللّه كفلق البحر لموسى وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى.(8/22)
ج 8 ، ص : 23
وقال ابن كثير : أي حتى تأتينا الملائكة من اللّه بالرسالة كما تأتى إلى الرسل.
وهذا بمعنى قوله : « وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا » الآية.
وخلاصة ذلك - إنهم لا يؤمنون بالرسالة إلا إذا صاروا رسلا يوحى إليهم.
وقد رد اللّه عليهم جهالتهم وبين لهم خطأهم بقوله :
(اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه وهذا كقوله : حكاية عنهم « وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ » الآية. يريدون لو لا نزل هذا القرآن على رجل عظيم مبجّل فى أعينهم من القريتين مكة والطائف ، ذلك أنهم - جازاهم اللّه بما يستحقون - كانوا يزدرون الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بغيا وحسدا وعنادا واستكبارا كما قال تعالى : « وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ؟ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ » وهم مع ذلك كانوا يعترفون شرفه ونسبه ، وطهارة بيته ومرباه ومنشئه وكانوا يسمونه بالأمين ، فكان ينبغى أن يكون فى ذلك مقنع لهم بأنه أولى من أولئك الأكابر الحاسدين له بالرسالة ، وبكل ما فيه الكرامة ، ولكنه الحسد والبغي والتقليد. كل أولئك كان الباعث لهم على تلك الأقوال وعمل هاتيك الأفعال فى عداوته ومعاندته.
والخلاصة - إن الرسالة فضل من اللّه يمنحه من يشاء من خلقه ، لا يناله أحد بكسب ، ولا يتصل إليه بسبب ولا نسب ، ولا يعطيه إلا من كان أهلا له لسلامة الفطرة ، وطهارة القلب ، وحب الخير والحق.
ثم أوعدهم وبين سوء عاقبتهم لحرمانهم من الاستعداد للإيمان فقال :
(سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) أي سيصيب المجرمين الماكرين الذين قد قضت سنة اللّه أن يكونوا زعماء فى كل شعب دبّ فيه الفساد - عذاب شديد مكان ما تمنوه وعلّقوا به آمالهم من عز النبوة وشرف الرسالة(8/23)
ج 8 ، ص : 24
ومعنى كونه - من عند اللّه - أنه مما اقتضاه حكمه وعدله وسبق به تقديره فإن ما هو ثابت عند اللّه فى حكمه التكويني الذي دبر به نظام الخلق ، وحكمه الشرعي التكليفي الذي أقام به العدل والحق - يقال إنه من عند اللّه ، ويكون هذا جزاء لهم على استكبارهم عن الحق فى الدار الدنيا كما قال تعالى : « كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ » .
وعذاب الأمم فى الدنيا بذنوبها مطرد وعذاب الأفراد لا يطرد وإن كانوا من المجرمين الماكرين. وقد عذب اللّه فى الدنيا أكابر مجرمى أهل مكة الذين تصدوا لإيذاء النبي صلّى اللّه عليه وسلم والكيد له كالخمسة المستهزئين الذين سبق الكلام فيهم فقتل منهم من قتل فى بدر ، ولحق الصغار والهوان بالباقين.
ثم قفى على ذلك بالموازنة بينهم وبين المستعدين للايمان فقال :
(فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) أي فمن كان أهلا بإرادة اللّه وتقديره لقبول دعوة الإسلام الذي هو دين الفطرة ، والهادي إلى طريق الحق والرشاد وجد لذلك فى نفسه انشراحا واتساعا بما يشعر به قلبه من السرور فلا يجد مانعا من النظر الصحيح فيما ألقى إليه فيتأمله وتظهر له عجائبه وتتضح له دلالته ، فتتوجه إليه إرادته ويذعن له قلبه ، بما يرى من ساطع النور الذي يستضىء به لبّه ، وباهر البرهان الذي يتملك نفسه.
« وسئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن هذه الآية ، قالوا : كيف يشرح صدره يا رسول اللّه ؟ قال : نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح ، قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود. والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت » .(8/24)
ج 8 ، ص : 25
(وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) أي إن من فسدت فطرته بالشرك وتدنست نفسه بالآثام والذنوب يجد فى صدره ضيقا أيما ضيق إذا طلب إليه التأمل فيما يدعى له من دلائل التوحيد والنظر فى الآفاق والأنفس ، لما استحوذ على قبله من باطل التقاليد والاستكبار عن مخالفة ما ألفه وسار عليه الناس ، وتضعف إرادته عن ترك ما هو عليه فتكون إجابته الداعي إلى الدين الجديد ثقيلة عليه ويشعر بالعجز عن احتمالها ويكون مثله مثل من صعد فى الطبقات العليا فى جو السماء ، إذ يشعر بضيق شديد فى التنفس ، وكلما صعد فى الجو أكثر شعر بضيق أشد حتى إذا ما ارتفع إلى أعلى من ذلك شعر بتخلخل الهواء ولم يستطع سبيلا إلى البقاء فإن هو قد بقي فيها مات اختناقا.
وخلاصة ذلك - إن اللّه ضرب مثلا لضيق النفس المعنوي يجده من دعى إلى الحق وقد ألف الباطل وركن إليه ، بضيق التنفس الذي يجده من صعد بطائرة إلى الطبقات العليا من الجو حتى لقد يشعر بأنه أشرف على الهلاك وهو لا محالة هالك إن لم يتدارك نفسه وينزل من هذا الجو إلى طبقات أسفل.
سبحانك ربى نطق كتابك الكريم بقضية لم يتفهم سرها البشر ، ولم يفقه معرفة كنهها إلا بعد أن مضى على نزولها نحو أربعة عشر قرنا ، وتقدم فن الطيران الآن علّم الطيارين بالتجربة صدق ما جاء فى كتابك ، ودل على صحة ما ثبت فى علم الطبيعة من اختلاف الضغط الجوى فى مختلف طبقات الهواء ، وقد علم الآن أن الطبقات العليا أقل كثافة فى الهواء من الطبقات التي هى أسفل منها ، وأنه كلما صعد الإنسان إلى طبقة أعلى شعر بالحاجة إلى الهواء وبضيق فى التنفس نتيجة لقلة الهواء الذي يحتاج إليه ، حتى لقد يحتاجون أحيانا إلى استعمال جهاز التنفس ليساعدهم على السير فى تلك الطبقات.
وهذه الآيات وأمثالها لم يستطع العلماء أن يفسروها تفسيرا جليا لأنهم لم يهتدوا لسرها ، وجاء الكشف الحديث وتقدم العلوم فأمكن شرح مغزاها وبيان المراد منها(8/25)
ج 8 ، ص : 26
بحسب ما أثبته العلم ، ومن هذا صح قولهم الدين والعلم صنوان لا عدوّان ، وهكذا كلما تقدم العلم أرشد إلى إيضاح قضايا خفى أمرها على المتقدمين من العلماء والمفسرين.
(كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي كما جعل الصدر ضيقا حرجا بالإسلام على هذا النحو فى سنة اللّه وتقديره بما تقدم ذكره من الأسباب ، يجعل الرجس على الذين يعرضون عن الإيمان ، فيظهر أثر ذلك فى تصرفاتهم وأعمالهم فيكون غالبا قبيحا سيئا فى ذاته أو فيما بعث عليه من قصد ونية ، لأن الإيمان الذي اجتنبوه هو الذي يصدّ عنه ويطهر الأنفس منه.
(وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) أي وهذا الإسلام الذي يشرح اللّه له صدر من يريد هدايته ، هو صراط ربك الذي بعثك به ، وبين لك أصوله وعقائده بالبراهين الواضحة ، والبينات الظاهرة ، حال كونه مستقيما فى نظر العقول الراجحة ، والفطر السليمة بعيدا من الإفراط والتفريط ، فلا اعوجاج فيه ولا التواء ، بل هو السبيل السوىّ وما عداه من الملل والنحل فهو معوج ملتو بما فيه من زيغ وفساد وخروج عن الجادّة التي يؤيدها العقل وتستند إلى النقل كما قال علىّ كرم اللّه وجهه فى نعت القرآن : هو صراط اللّه المستقيم ، وحبل اللّه المتين ، وهو الذكر الحكيم.
(قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أي قد وضحنا آياته وفسرناها لقوم يتذكرون ما بلّغوه منها كلما عرضت الحاجة إليه فيزدادون بذلك يقينا ورسوخا فى الإيمان ، كما يزدادون موعظة تبعثهم على الإذعان والعمل الصالح.
(لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي لهؤلاء السالكين صراط ربهم المستقيم دار السلام عنده بسلوكهم صراطه الموصل إليه بما أسلفوا من عمل ، إذ هم قد اقتفوا آثار الأنبياء وطرائقهم وسلموا من الاعوجاج فوصلوا إلى دار السلام.
(وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إنه تعالى متولى أمورهم وكافيهم كل ما يعنيهم(8/26)
ج 8 ، ص : 27
جزاء على صالح أعمالهم التي تزكى نفوسهم وتصلح حالهم فى الدنيا والآخرة ، فيتولى رعايتهم وتوفيقهم فى الدنيا ، وينيلهم الثواب ويدخلهم جنات النعيم بمنه وكرمه.
[سورة الأنعام (6) : آية 128]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
تفسير المفردات
المعشر والنفر والقوم والرهط : الجمع من الرجال فحسب ، ولا واحد لها من لفظها ، وقال الليث : المعشر كل جماعة أمرهم واحد نحو معشر المسلمين ومعشر الكافرين ، ويطلق على الإنس والجن بدليل الآية ، واستكثر : أخذ الكثير ، يقال استكثر من الطعام : أكل كثيرا ، وأولياؤهم : هم الذين تولوهم أي أطاعوهم فى وسوستهم وما ألقوه إليهم من الخرافات والأوهام ، والاستمتاع بالشيء : جعله متاعا ، والمتاع ما ينتفع به انتفاعا طويلا ممتدا وإن كان قليلا ، وبلغنا أجلنا : أي وصلنا يوم البعث والجزاء ، والمثوى : مكان الثواء ، أي الإقامة والسكنى ، والخلود : المكث الطويل غير المؤقت بوقت.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما أعده من العذاب للمجرمين ، وما أعده من الثواب والنعيم فى دار السلام للمؤمنين ، إثر بيان أحوالهم وأعمالهم التي استحق بها كل منهما جزاءه.(8/27)
ج 8 ، ص : 28
قفى على ذلك بذكر ما يكون قبل هذا الجزاء من الحشر وبعض ما يكون فى يومه من الحساب ، وإقامة الحجة على الكفار ، وسنة اللّه فى إهلاك الأمم.
الإيضاح
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي ويوم يحشر اللّه تعالى الإنس والجن جميعا يقول لمعشر الجن منهم : يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس أي استكثرتم من إغوائهم وإضلالهم كما قال تعالى : « أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ؟ » .
والمراد أنهم استتبعوهم بسبب إضلالهم إياهم فحشروا معهم ، لأن المكلفين يحشرون يوم القيامة مع من اتبعوهم فى الحق والخير ، أو فى الباطل والشر.
(وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أي وقال الذين تولوا الجن من الإنس فى جواب الرب تعالى : ربنا تمتع كل منا بالآخر بما كان للجن من اللذة فى إغوائنا بالأباطيل وأهواء الأنفس وشهواتها ، وبما كان لنا فى طاعتهم ووسوستهم من اللذة فى اتباع الهوى والانغماس فى اللذات ، قال الحسن البصري : وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس ا ه.
وفى الآية إيماء إلى أن كل إنسى يوسوس له شيطان من الجن بما يزيّن له من الباطل وبما يغريه من الفسق والفجور.
فهذا الخلق الخفي الذي هو من جنس الأرواح الشريرة يلابسها بقدر استعدادها للباطل والشر ويقوّى فيها داعيتهما كما تلابس جنّة الحيوان الخفية (الميكروبات) الأجساد الحيوانية فتفسد مزاجها وتصيبها بالأمراض والأدواء ، فقد أثبت الطب الحديث دخول النسم (النسم لغة : كل ما فيه روح) الحية (الميكروبات) فى الأجسام ، وعرفت الطرق والمداخل الخفية لدخولها بما استحدث من المناظير (الميكروسكوبات) التي تكبر(8/28)
ج 8 ، ص : 29
الصغير حتى يرى أكبر من حقيقته بألوف الأضعاف ، فأمكن أن نعرف أن فى الأرض أنواعا من النسم الخفية تدخل الأجسام من خراطيم البراغيث أو البعوض أو القمل ، أو مع الماء والطعام ، وتنمو فيها بسرعة مدهشة فتولد ألوف الألوف ، ومتى تكاثرت ولدت الأمراض والأوبئة القاتلة ، ولو كان قد قيل : مثل هذا لأكبر أطباء لمصريين القدامى أو للهنود أو اليونان أو العرب لغدّوه نوعا من الشعوذة والسحر أو ضربا من التخيل والجنون.
وإذا كان هذا الاتصال الخفي قد ثبت فى الأجساد بعد آلاف السنين فلا عجب أن يثبت مثل ذلك فى الأرواح ، وأمرها أخفى من الأجساد ، والكتاب والسنة مليئان بهذا ، فقد جاء فى الحديث ما يدل على وجود هذه الجراثيم (الميكروبات) التي لم يثبتها الطب إلا حديثا ، وكفى بهذا معجزة لمحمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ودلالة على أن اللّه أوحى إليه بنظريات لم يثبتها العلم إلا بعد ذلك بأربعة عشر قرنا ،
فقد روى أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال : « تنكّبوا الغبار فإن منه تكون النسمة »
وقال عمرو بن العاص : اتقوا غبار مصر فإنه يتحول فى الصدر إلى نسمة ، ولو أن هذا الأثر قيل لغير المتمدينين وفسر لهم هذا التفسير قبل اختراع المناظير لكان فتنة للناس وزادهم نفورا مما جاء به الرسول ، ولكن فى كل يوم يثبت العلم نظريات جديدة تكون نعم العون على صدق ما جاء به الرسول ، وتلقى نورا على الناس ينظرون به تلك الدرر الغوالي المبثوثة فى القرآن والحديث وآثار الصدر الأول من المسلمين.
(وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) أي ووصلنا بعد استمتاع بعضنا ببعض إلى الأجل الذي حددته لنا وهو يوم البعث والجزاء ، وقد اعترفنا بذنوبنا فاحكم فينا بما تشاء وأنت الحكم العدل.
ومقصدهم من هذا الإخبار إظهار الحسرة والندامة على ما كان منهم من التفريط فى الدنيا وتفويض الأمر إلى ربهم العليم بحالهم ، ولم يذكر هنا قول المتبوعين من الشياطين وحكاه فى آي أخرى فقال فى الفريقين « ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ(8/29)
ج 8 ، ص : 30
وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً »
وكما ذكر فى سورة البقرة كيف يتبرأ بعضهم من بعض ، وحكى فى سورة إبراهيم أقوال كل من الضعفاء التابعين من الناس وأقوال المتكبرين المتبوعين وقول الشيطان للفريقين وتنصله من استحقاق الملام وكفره بما أشركوا.
(قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) أي قال اللّه تعالى ردا عليهم :
النار منزلكم وموضع إقامتكم إقامة خلود إلا ما يشاء اللّه مما يخالفه ذلك ، فكل شىء بمشيئته واختياره ، فإن شاء أن يرفعه كله أو بعضه عنكم أو عن بعضكم فعل ، فله السلطان الكامل والنفوذ الأعلى ، ولكن هل يشاء ذلك ؟ هذا مما يتعلق بعلمه وحده ولا يعلمه غيره إلا بإعلامه.
(إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى حكيم فيما تتعلق به مشيئته من الجزاء الذي نص عليه فى كتابه ، عليم بما يستحقه كل من الفريقين ، والبشر لا يحيطون بشىء من علمه إلا بما شاء.
روى ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : إن هذه الآية آية لا ينبغى لأحد أن يحكم على اللّه فى خلقه ، ولا ينزلهم جنة ولا نارا
[سورة الأنعام (6) : الآيات 129 الى 132]
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)(8/30)
ج 8 ، ص : 31
المعنى الجملي
بعد أن حكى عز اسمه عن الجن والإنس أن بعضهم يتولى بعضا - أردف ذلك ببيان أن ذلك يحدث بتقديره تعالى وقضائه.
الإيضاح
(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) تولية اللّه الناس بعضهم بعضا جعل بعضهم أنصارا وأولياء لبعض ، إما بمقتضى أمره فى شرعه ومقتضى سنّته وتقديره كما فى ولاية المؤمنين بعضهم بعضا فى الحق والخير والمعروف ، فقد أمرهم بذلك فى شرعه ونهاهم عن ضده ، وهو أيضا مقتضى الإيمان الصادق وأثره الذي لا ينفك عنه بحسب تقديره الذي مضت به سنته فى خلقه ، وإما بمقتضى سنته وتقديره فحسب وهو ولاية الكفار المجرمين والمنافقين بعضهم بعضا ، إذ هذا أثر مترتب على الاتفاق فى الاعتقاد.
والأخلاق واشتراك المنفعة بحسب تقديره تعالى وسنته فى نظم الحياة البشرية ، وهو لم يأمرهم بشىء مما يتناصرون به فى الباطل والشر والمنكر ، بل نهاهم عن ذلك ، ولكن شأن الأفراد والجماعات أن يميل كل منهم إلى من كان على شاكلته ويتولاه بالتعاون والتناصر فيما هم فيه مشتركون ويناوئون من يخالفهم فى ذلك.
أي ومثل ذلك الذي ذكر من استمتاع أولياء الإنس والجن بعضهم ببعض فى الدنيا ، لما بينهم من التناسب والمشاكلة نولى بعض الظالمين بعضا لأنفسهم وللناس ، بسبب ما كانوا يكسبون باختيارهم من أعمال الظلم المشتركة بينهم.
روى عن قتادة أنه قال فى تفسير الآية : إنما يولى اللّه بين الناس بأعمالهم ، فالمؤمن ولىّ المؤمن من أين كان وحيث كان والكافر ولىّ الكافر من أين كان وحيثما كان وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ، ولعمرى لو عملت بطاعة اللّه ولم تعرف أهل طاعة اللّه ما ضرّك ذلك ، ولو عملت بمعصية اللّه وتولّيت أهل طاعة اللّه ما نفعك ذلك شيئا ا ه.(8/31)
ج 8 ، ص : 32
وروى أبو الشيخ عن منصور بن أبي الأسود قال : سألت الأعمش عن قوله تعالى (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) ما سمعتهم يقولون فيه ؟ قال : سمعتهم يقولون :
إذا فسد الناس أمّر عليهم شرارهم ا ه. ذاك أن الملوك يتصرفون فى الأمم الجاهلة الضالة تصرف الرعاة فى الأنعام السائمة ، فهم يتخذون الوزراء والحاشية من أمثالهم فيقلدهم جمهور الأمة فى سيىء أعمالهم ، فيغلب الفساد على الصلاح ، ويفسقون عن أمر اللّه فيهلكون ، أو يسلط عليهم الأمم القوية التي تستبيح حماهم وتثلّ عروشهم ويصبحون مستعبدين أذلاء بعد أن كانوا سادة أعزاء كما قال سبحانه : « وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً »
اما الأمم العالمة بسنن الاجتماع التي أمرها شورى بين زعمائها وأهل الرأى فيها ، فلا يستطيع الملوك أن يتصرفوا فيها كما يشاءون ، بل يكونون تحت مراقبة أولى الأمر فيها.
وقد وضع الإسلام هذا الدستور فجعل أمر الأمة بين أهل الحل والعقد ، وأمر الرسول بالمشاورة ، فسار على هذا النهج. وجعلت الولاية العامة - الخلافة - بالانتخاب.
واقتفى الخلفاء الراشدون خطواته وجروا على سنته ، فقال الخليفة الأول أبو بكر رضي اللّه عنه فى أول خطبة له : أما بعد فإنى قد ولّيت عليكم ولست بخيركم ، فإذا استقمت فأعينونى ، وإذا زغت فقوّمونى.
وقال الخليفة الثاني على المنبر : من رأى منكم فىّ اعوجاجا فليقوّمه .. وقال الخليفة الثالث على المنبر أيام الفتنة : أمرى لأمركم تبع.
وقوله (الظَّالِمِينَ) يشمل الظالمين لأنفسهم والظالمين للناس من الحكام وغيرهم ، إذ كل من هؤلاء وأولئك يتولى من يشا كله فى أخلاقه وأعماله وينصره على من يخالفه.
ثم أجاب سبحانه عن سؤال يخطر بالبال وهو : ما حال الظالمين إذا قدموا على اللّه يوم القيامة ؟ فأجاب بأنهم يسألون فقال :(8/32)
ج 8 ، ص : 33
ا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ؟ )
أي إنهم ينادون ويسألون عن دعوة الرسل لهم ، فتقوم الحجة عليهم فيما يترتب من الجزاء على مخالفتها.
وقوله : ُسُلٌ مِنْكُمْ)
ظاهر فى أن كلا من الفريقين - الإنس والجن - قد أرسل منهم رسل إلى أقوامهم ، لكن جمهرة العلماء يقولون : إن الرسل كلهم من الإنس كما يدل عليه ظاهر الآيات الأخرى ، وقالوا إن المراد بقوله : منكم أي من جملتكم لا من كل منكم ، وهو يصدق على رسل الإنس الذين ثبتت رسالتهم إلى الإنس والجن.
والجن عالم غيبى لا نعرف عنه إلا ماورد به النص ، وقد دل الكتاب الكريم وصحيح الأحاديث على أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أرسل إليهم كقوله تعالى حكاية عن الذين استمعوا القرآن منهم أنهم قالوا : « إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى » فهذا ظاهر فى أنه كان مرسلا إليهم فنؤمن بذلك ونفوض الأمر فيما عداه إلى اللّه.
ثم بين سبحانه وظيفة الرسل الذين أرسلهم اللّه إلى الفريقين بقوله :
َقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا)
أي إنهم يتلون عليهم الآيات المبينة لأصول الإيمان وأحاسن الآداب والفضائل ، والمفصّلة لأحكام التشريع التي من ثمراتها صلاح الأعمال والنجاة من الأهوال ، وينذرونهم لقاء يوم الحشر بالإعلام بما يكون فيه من الحساب والجزاء لمن كفر باللّه وجحد بآياته.
ثم أجابوا عن سؤال فهم من الكلام السابق كأنه قيل فماذا قالوا حين ذلك التوبيخ الشديد ؟ فقيل :
الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا)
أي شهدنا بإتيان الرسل وإنذارهم وبمقابلتنا لهم بالكفر والتكذيب. وفى هذا الجواب اعتراف صريح بكفرهم ، وإقرار بأن الرسل قد أتوهم وبلّغوهم دعوتهم إما مشافهة أو نقلا عمن سمعها منهم.
وهذا موطن من مواطن يوم القيامة ، وفى موطن آخر لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ، وفى موطن ثالث يكذبون على أنفسهم بما ينكرون من كفرهم وأنهم قدموا شيئا من السيئات والخطايا.(8/33)
ج 8 ، ص : 34
ونحو الآية قوله : « قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ » .
َ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا)
أي وغرتهم زينة الحياة الدنيا ومتاعها من الشهوات والأموال والأولاد وحب السلطان على الناس وعظيم الجاه ، فكفروا بالرسل عنادا وكبرا ، وفلدهم فى ذلك أتباعهم ، واغتر كل منهم بما يغتر به من التعاون مع الآخر.
وأما غرور غيرهم ممن جاء بعدهم بالدنيا ، فلما غلب عليهم من الإسراف فى الشهوات المحرمة والجاه الباطل حتى لقد أصبحت الحظوة بين الناس لذوى المال والنسب مهم اجترحوا من الموبقات وأبسلوا من المكارم والخيرات.
َ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ)
أي وبعد أن قامت عليهم الحجة شهدوا على أنفسهم بأنهم كانوا فى الدنيا كافرين بتلك الآيات والنذر التي جاء بها الرسل حين رأوا أنه لا يجديهم الكذب ولا تنفعهم المكابرة.
والكفر بالرسل ضربان : كفر بتكذيبهم بالقول ، وكفر بعدم الإذعان النفسي الذي يتبعه العمل بحسب سنن اللّه فى ترتب الأعمال على الطباع والأخلاق.
(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) أي ذلك الذي ذكر من إتيان الرسل يقصون على الأمم آيات اللّه لإصلاح حال الأفراد والجماعات فى شئونهم الدنيوية والأخروية ، وينذرونهم يوم الحشر والجزاء ، بسبب أن اللّه لم يكن من سنته فى تربية خلقه أن يهلك الأمم بعذاب الاستئصال الذي أوعد به مكذبى الرسل بظلم منهم وهم غافلون عما يجب أن يقفوا به ذلك الهلاك ، بل يسبق هلاك كل أمة إرسال رسول يبلغها ما يجب أن تكون عليه من الصلاح والحق بما يفصه عليها من آيات الوحى فى عصره ، أو بما ينقله إليها من يبلغونها دعوته من بعده ، إذ من حكمة اللّه فى الأمم جعل ما يحل بها من عقاب جزاء على عمل استحقته به ، فيكون عقابها تربية لها وزجرا لسواها.(8/34)
ج 8 ، ص : 35
والخلاصة - إن اللّه لا يظلم أحدا من خلقه ، بل هم الذين يظلمون أنفسهم ، وإن الإهانة والتعذيب تربية لهم وتأديب وزجر لغيرهم ، وإن هذا العقاب للأمم منه ما هو فى الدنيا ومنه ما هو فى الآخرة ، ومن الأول عذاب الاستئصال لمن عاندوا الرسل بعد أن جاءوهم بما اقترحوا عليهم من الآيات الكونية ، وبعد أن أنذروهم بالهلاك إذا لم يؤمنوا بها كما حصل لعاد وثمود ، وقد انقطع ذلك بانقطاع الرسل.
وهلاك الأمم يكون بما يغلب عليها من الظلم أو الفسق والفجور الذي يفسد الأخلاق ويقطع روابط المجتمع ويجعل بأس الأمة بينها شديدا.
وهذه الآية وما شاكلها من قواعد الاجتماع التي سبق أن شرح جانبا منها بعض علماء الاجتماع من المسلمين كابن خلدون ، لكن لم يستفد من ذلك من جاء بعده من علمائهم ، واستفاد منها غيرهم ، كما لم يستفيدوا من هدى القرآن ومثله العليا فى إقامة ملكهم وحضارتهم بحسب ما أرشدهم إليه من سنن الاجتماع فيمن قبلهم ، وإنهم لا يزالون غافلين عن هذا الرشاد مع حاجة العصر إلى بذل أقصى ما يكون من الجهد فى هذا المضمار ، لأن الأمم قد افتنّت فى الوصول إلى أغراضها بكل الوسائل التي يمكن أن يكفر فيها البشر ، كما هى سنة تنازع البقاء.
ولا نرى من المسلمين إلا معاذير لو تركوها لكان أحرى بهم وبما ينسبونه إلى دينهم كذبا وافتراء ، إذ يعتذرون تارة عن ضعف أممهم وتقصيرها بأن كل شىء بقضاء وقدر ، ولو سلّم لهم هذا لكان الناس مجبورين فى أعمالهم لا مختارين ، وقواعد الدين تأبى هذا ، والتكاليف الشرعية مؤسسة على غير ما يقولون.
وأين كان هذا أيام أن كان المسلمون فى أوج عزهم يكافحون وينافحون ويتغلبون على من سواهم من الأمم ويفتحون الممالك والأمصار ، وتخفق عليها بنودهم وأعلامهم ، وتارة يسلون أنفسهم بأن هذا من علامات الساعة ، وأنى لهم بها ؟ وهل هم أوتوا من(8/35)
ج 8 ، ص : 36
العلم ما يرشدهم إلى ما يدّعون ، بل لقد بلغ الأمر بهم أن وسوس لهم الشيطان وهم يناجون أنفسهم ، أو إذا خلوا إلى شياطينهم أن قالوا إن تعاليم الإسلام أضعفنهم وأضاعت عليهم ملكهم : « كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً » أ فليست تعاليمهم هذه هى التي شيّدت صروح المجد فى سالف العصور ، وأقامت ملكا ضم أطراف المغرب والمشرق ؟
أليس أسلافهم بهذه التعاليم ثلّوا عروش الأكاسرة والقياصرة ، ودوّخوا الممالك ، وأسسوا حضارات ووضعوا قوانين لا تزال أرقى الأمم مدنية تمنح من معينها ، وتطفئ ظمأها من نميرها العذب ؟
وقد التمس بعضهم هداية غير هداية القرآن ليؤسس عليها سعادة دنياه فكان كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ، فلم يتم له ما أراد وخسر دنياه وأخراه ، وذلك هو الضلال البعيد.
(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي ولكل عامل فى طاعة اللّه أو معصيته منازل ومراتب من عمله يبلغه اللّه إياها ويثيبه بها ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) أي فكل عملهم يعلمه ربهم وهو محصيه عليهم ، ومجازيهم بالسيئة سيئة مثلها ويضاعف الحسنات من فضله عند لقائهم إياه ومعادهم إليه.
وفى الآية إيماء إلى أن سناط السعادة والشقاء هو عمل الإنسان ومشيئته ، فإن شاء عمل عمل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فكان من الذين سمعوا القول واتبعوا أحسنه ، فجازاه اللّه أحسن الجزاء ، وإن شاء تنكب عن جادّة الدين ورمى أحكامه وراءه ظهر يا وسار فى غلواء الضلال ، فكان من الأشقياء الذين كبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون.(8/36)
ج 8 ، ص : 37
[سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 135]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
تفسير المفردات
يذهبكم أي يهلككم ، يستخلف ، أي ينشىء الذرية والنسل ، بمعجزين أي جاعلى من طلبكم عاجزا غير قادر على إدراككم ، والمكانة : الحال التي هم عليها ، والدار :
هى الدنيا ، والمراد بالعاقبة : عاقبة الخير إذ لا اعتداد بعاقبة الشر ، لأن اللّه جعل الدنيا مزرعة الآخرة ، وقنطرة المجاز إليها ، وأراد من عباده أعمال الخير لينالوا حسن العاقبة.
المعنى الجملي
كان الكلام فى الآيات السالفة فى تقرير حجة اللّه على المكلفين الذين بلغتهم الدعوة فجحدوا بها ، وأنهم يشهدون على أنفسهم يوم القيامة أنهم كانوا كافرين وأن سنة اللّه فى إهلاك الأمم فى الدنيا بجنايتها على أنفسها لا بظلم منه تعالى.
وهنا ذكر وعيد الآخرة وأنه مرتب على أعمال المكلفين لا بظلم منه سبحانه ، ولا لحاجة له تعالى إليه ، لأنه غنى عن العالمين ، بل لأنه من مقتضى الحق والعدل ، المقرونين بالرحمة والفضل.(8/37)
ج 8 ، ص : 38
الإيضاح
(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) أي وربك هو الغنى الكامل الغنى ، وهو ذو الرحمة الشاملة التي وسعت كل شىء ، إذ كل ما عداه فهو محتاج إليه فى وجوده وبقائه ، ومحتاج إلى الأسباب التي جعلها سبحانه قوام وجوده.
ويقال فى الخلق : هذا غنى إذا كان واجدا لأهم هذه الأسباب التي هى من فيض مولاه وهو مع ذلك محتاج إلى غيره ، انظر إلى الغنىّ ذى المال الكثير تره محتاجا إلى كثير من الناس من الزوج والخادم والعامل والطبيب والحاكم ، ومحتاجا إلى خالقه وخالق كل شىء كما قال تعالى : « يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ » .
(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) أي إن يشأ إذهابكم أيها الكافرون المعاندون واستخلاف غيركم بعدكم يذهبكم بعذاب يهلككم به كما أهلك أمثالكم ممن عاندوا الرسل كعاد وثمود ، ويستخلف من بعدكم ما يشاء من الأقوام فإنه غنى عنكم وقادر على إهلاككم وإنشاء قوم آخرين من ذريتكم أو ذرية غيركم يكونون أحق برحمته منكم ، كما قدر على إنشائكم من ذرية قوم آخرين.
وقد صدق اللّه وعده فأهلك أولئك الذين عادوا خاتم رسله كبرا وعنادا وجحدوا بما جاء به وهم يعلمون صدقه ، واستخلف فى الأرض غيرهم ممن كان كفرهم عن جهل أو تقليد لمن قبلهم ولم يلبث أن زال بالتأمل فى آيات اللّه فى الآفاق وفى أنفسهم ، فكانوا أكمل الناس إيمانا وإسلاما وإحسانا وهم المهاجرون والأنصار وذرياتهم وكانوا أعظم مظهر لرحمة اللّه للبشر حتى فى حروبهم وفتوحهم ، وشهد لهم بذلك أعداؤهم حتى قال مؤرخو الإفرنج : ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب.
وبعد أن أنذرهم عذاب الدنيا وهلاكهم فيها أنذرهم عذاب الآخرة فقال :(8/38)
ج 8 ، ص : 39
(إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي إن ما توعدونه من جزاء الآخرة بعد البعث لآت لا مردّ له ، وما أنتم بمعجزين اللّه بهرب ولا منع مما يريد ، فهو القادر على إعادتكم كما قدر على بدء خلقكم ، وهذا دليل قد ذكره اللّه فى كتابه مرات كثيرة.
وقد أنار العلم فى هذا العصر أمر البعث وقرّبه إلى العقول ، فأثبت أن هلاك الأشياء وفناءها ما هو إلا تحلل موادها وتفرقها ، وأنه يمكن تركيب المواد المتفرقة وإرجاعها إلى تركيبها الأول فى غير الأحياء.
بل بلغ الأمر ببعض العلماء من الألمان أن حاولوا إيجاد البشر بطريقة صناعية علمية بتنمية البذرة التي يولد منها الإنسان إلى أن صارت علقة فمضغة ، وزعم أنه يمكن بوسائل أخرى تغذية المضغة فى حرارة كحرارة الرحم إلى أن تتولد فيها الأعضاء حتى تصير إنسانا تاما ، وقال إنه يمكن إيجاد معامل للتفريخ البشرى كمعامل تفريخ الدجاج ، ولكن الكثير من العلماء قالوا إن هذه نظريات لا يمكن إخراجها من حيز الإمكان إلى حيز الوجود بالفعل.
وإذا كان علماء المادة يحاولون الوصول إلى ذلك ولا يعدونه مستحيلا ، فهل يعجز عنه خالق البشر وخالق كل شىء : « سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ » .
ثم تمم الوعيد والتهديد بأمره لرسوله أن ينذرهم بقوله :
(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي يا قوم اعملوا على مكانتكم وطريقتكم التي أنتم عليها ، إنى عامل على مكانتى وطريقتى التي ربانى ربى عليها وهدانى إليها وأقامنى عليها ، فسوف تعلمون بعد حين من تكون له العاقبة الحسنى فى هذه الدار بتأثير أعماله.
وفى الآية إيماء إلى أن أحوال الأمم مرتبة بحسب أعمالها ، وأن أعمالها منبعثة من عقائدها وصفاتها النفسية ، وأن عاقبة كل عمل نتيجة حتمية له ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.(8/39)
ج 8 ، ص : 40
قال صاحب الكشاف : اعملوا على مكانتكم - تحتمل وجهين - اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ، أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها ، يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حال : على مكانك يا فلان أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه ، إنى عامل على مكانتى التي أنا عليها.
والمعنى - اثبتوا على كفركم وعداوتكم فإنى ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم ، فسوف تعلمون أيّنا تكون له العاقبة المحمودة.
ثم قال : وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك فيه إنصاف فى المقال وأدب حسن مع تضمن شدة الوعد والوثوق بأن المنذر محق والمنذر مبطل ا ه.
يقصد بذلك رحمه اللّه - أن فى هذا الإنذار إحالة على المستقبل ليتم وعده لرسوله بالنصر والتأييد وليظهر صدق وعيده لأعدائه بقهرهم فى الدنيا بحيث يرونه بأعينهم ، وإذا صدق فى الدنيا صدق فى الآخرة ، وأن كلا منهما كان بإنباء الغيب ، وأن السبب الذي لأجله كانت عاقبة الرسول ومن اتبعه الحسنى فى الدنيا والآخرة واحد ، وكذلك عاقبة من ناوأه وكفر به ، وقد أشار إليه بقوله :
(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي إن الظالمين لأنفسهم بالكفر بنعم اللّه واتخاذ الشركاء له فى ألوهيته والتوجه إليهم فيما يتقرب به إليه تعالى أو فيم لا يطلب إلا منه وهو ما خفيت على المرء أسبابه ، إذ مثل هذا لا يدعى فيه إلا اللّه وحده ، وما عرف سببه يجب أن يطلب من طريق السبب ، مع العلم بأن خالق الأسباب جميعها هو اللّه تعالى ، وحال الظالمين للناس أشد من حال الظالمين لأنفسهم ، وكلهم لا يفوزون بفلاح لا فى الدنيا ولا فى الآخرة ، وإنما يفوز به أهل الحق والعدل الذين يؤدون حقوق اللّه وحقوق أنفسهم ، ولا يكمل مثل هذا إلا لرسل اللّه وجندهم من المؤمنين.
انظر كيف نصر اللّه رسوله على الظالمين من قومه كأكابر مجرمى مكة المستهزئين به ثم من سائر مشركى العرب ، ثم نصر أصحابه على أعظم أمم الأرض وأقواها جندا كالرومان والفرس ، ثم نصر من بعدهم على من ناوأهم من أهل الشرق والغرب ، فلما ظلموا(8/40)
ج 8 ، ص : 41
أنفسهم وظلموا الناس لم تبق لهم ميزة عن غيرهم تمكنهم من الفلاح والفوز وانحصر الفوز فى الأسباب المادية والأسباب المعنوية كالصبر والثبات والعدل والنظام.
ولا عجب بعد هذا أن يتغلب عليهم غيرهم ، لأن اللّه إنما وعدهم نصره إذا هم نصروه وأقاموا شرعه وسلكوا سبيل الحق والعدل كما قال : « فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ » .
[سورة الأنعام (6) : الآيات 136 الى 140]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)(8/41)
ج 8 ، ص : 42
تفسير المفردات
ذرأ : أي خلق على وجه الاختراع والإبداع ، لشركائنا : أي الأوثان التي يتقربون بعبادتها إلى اللّه تعالى ، لشركائهم أي سدنة الآلهة وخدمها ، أو الشياطين الذين يوسوسون لهم ما يزين ذلك فى أنفسهم ، ويردوهم : أي يهلكوهم بالإغواء ، وليلبسوا أي يخلطوا ، حجر : أي محجور ممنوع ، كما قالوا : ذبح وطحن أي مذبوح ومطحون ، وجزاه بكذا جعله جزاء له على عمله قال تعالى : « أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا » وصفهم : أي جزاء وصفهم.
المعنى الجملي
بعد أن حاجّ سبحانه المشركين وسائر العرب فى كثير من أصول الدين وكان آخرها البعث والجزاء - ذكر هنا بعض عبادتهم فى الحرث والأنعام والتحليل والتحريم بباعث الأهواء النفسية والخرافات الوثنية.
الإيضاح
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) أي وجعلوا للّه نصيبا مما خلق من ثمر الزرع وغلته كالتمر والحبوب ونتاج الأنعام ، ونصيبا لمن أشركوا معه من الأوثان والأصنام.
(فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) أي فقالوا فى النصيب الأول هذا للّه أي نتقرب به إليه ، وفى النصيب الثاني هذا لشركائنا أي لمعبوداتنا نتقرب به إليها ، وقوله بزعمهم أي بتقوّلهم الذي لا بينة لهم عليه ولا هدى من اللّه ، إذ جعله قربة للّه يجب أن يكون خالصا له وحده لا يشرك معه غيره فيه ، وأن يكون بإذنه ، لأنه دين ، والدين للّه ومن اللّه وحده ، فهذا زعم مخترع ، لا دين مشترع فيكون باطلا.
وقد روى أنهم كانوا يجعلون نصيب اللّه لقرى الضيفان ، وإكرام الصبيان ، والتصدق على المساكين ، ونصيب آلهتهم لسدنتها وقرابينها وما ينفق على معابدها.(8/42)
ج 8 ، ص : 43
(فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ) أي فما عيّنوه لشركائهم لا يصرف إلى الوجوه التي جعلوها للّه لا بالتصدق ولا بالضيافة ولا غيرهما ، بل يهتمون بحفظه وإنفاقه على السدنة وذبح الذبائح والقرابين عندها.
(وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) أي وما عينوه وجعلوه له فهو يحوّل أحيانا للتقرب به إليها.
(ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي قبح ما يحكمون به بإيثارهم المخلوق العاجز عن كل شىء على الخالق القادر على كل شىء وبعملهم شيئا لم يشرعه اللّه.
وللقبح وجوه متعددة منها :
(1) إنه اعتداء على اللّه بالتشريع وهو لم يأذن لهم به.
(2) الشرك فى عبادته تعالى ، ولا ينبغى أن يشرك مع اللّه سواه فيما يتقرب به إليه.
(3) ترجيح ما جعلوه لشركائهم على ما جعلوه لخالقها وخالقهم.
(4) إن هذا حكم لا مستند له من عقل ولا هداية من شرع.
نقل على بن أبي طلحة والعوفى عن ابن عباس أنه قال فى تفسير الآية : إن أعداء ، اللّه كانوا إذا حرثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا للّه منه جزءا وللوثن جزءا ، فما كان من حرث أو ثمرة أو شىء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه ، وإن سقط منه شىء فيما سمى للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن ، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئا جعلوه للّه جعلوا ذلك للوثن ، وإن سقط شىء من الحرث والثمرة الذي جعلوه للّه فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوه للّه ، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للّه فسقى ما سمى للوثن تركوه للوثن.
وكانوا يحرّمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى فيجعلونه للأوثان ويزعمون أنهم يحرمونه قربة للّه تعالى.
ثم ذكر سبحانه من أعمال الشرك أيضا عملا لا مستند له من عقل ولا شرع فقال :(8/43)
ج 8 ، ص : 44
(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) أي ومثل ذلك التزيين لقسمة القرابين من الحرث والأنعام بين اللّه والآلهة - زيّن لكثير من المشركين شركاؤهم - سدنة الآلهة وخدمها - أن يقتلوا أولادهم. وكان مصدر هذا التزيين وجوها مختلفة منها :
(1) اتقاء الفقر الحاصل أو المتوقع ، وقد أشار سبحانه إلى الأول بقوله :
« وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ » وأشار إلى الثاني بقوله :
« وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ » .
(2) اتقاء العار بوأد البنات أي بدفنهن وهن على قيد الحياة خشية أن يكنّ سببا للعار أو السباء إذا كبرن ، أو خشية أن يقترن بأزواج دون آبائهن فى الشرف.
(3) التدين بنحر الأولاد للآلهة تقربا إليها بنذر أو بغير نذر ، فقد كان الرجل فى الجاهلية ينذر إن ولد له كذا غلاما لينحرنّ أحدهم كما حلف عبد المطلب فى قصص طويل
أشار إليه النبي صلّى اللّه عليه وسلم بقوله : « أنا ابن الذبيحين » .
وسمى اللّه المزينين لهم الشرك من شياطين الإنس كالسدنة ، أو شياطين الجن شركاء وإن كانوا هم لم يسموهم لا آلهة ولا شركاء ، لأنهم لما أطاعوهم طاعة إذعان وخضوع فى التحليل والتحريم ولا يكون ذلك إلا للّه - سماهم كذلك كما قال :
« اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ » .
وقد حذا كثير من المسلمين حذو هؤلاء فدعوا غير اللّه من الموتى تضرعا وخضوعا عند قبورهم مع التقرب إليهم بالصدفات وذبائح النسك ، ولكنهم لا يسمون عبادتهم هذه شركا ولا عبادة ، بل يسمونها توسلا (والأسماء لا تغير الحقائق والأعمال) فالدعاء والتضرع أدل على الحقائق من الأسماء والتأويلات.
ثم ذكر سبحانه علة تزيين المنكرات لهم فقال :
(لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أي إنهم زينوا لهم هذه المنكرات ليهلكوهم(8/44)
ج 8 ، ص : 45
بالإغواء ، ويفسدوا عليهم فطرتهم ، فتنقلب عواطف ود الوالدين من رأفة ورحمة إلى قسوة ووحشية ، فينحر الوالد ولده ويدفن بنته الضعيفة بيده وهى حية.
والدين الذي لبسوه وخلطوه هو ما كانوا يدّعونه من دين إسماعيل وملة إبراهيم عليهما السلام ، وقد اختلط عليهم بما ابتدعوه من تقاليد الشرك حتى لم يعرف الأصل الذي كان يتبع من هذه الإضافات التي ضموها إليه.
(وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) أي ولو شاء اللّه أن يخلق الناس مطبوعين على عبادته طبعا لا يستطيعون غيرها كالملائكة ، فلا يؤثّر فيهم إغواء ولا تجدى فيهم وسوسة - لفعل ، ولكن شاء أن يخلقهم مستعدين للتأثر بكل ما يرد على أنفسهم من الأفكار والآراء ، وما يشاهدون من المحسوسات ، واختيار ما يترجح عندهم أنه الخير على ما يقابله ، ومن ثم يؤثّر فى نفوسهم ما يستفيدونه بالتعليم والاختيار والمعاشرة والمخالطة ، والناس يتفاوتون فى هذا جدّ التفاوت ، فلا يمكن أن يكونوا على رأى واحد أو دين واحد.
فدعهم أيها الرسول وما ينتحلونه من شرائع ، وما يفترون من عقائد ، وعليك بما أمرت به من التبليغ ، واللّه هو الذي يتولى أمرهم وله سنن فى هداية خلقه لا تتغير ولا تتبدل ، ومن سننه أن يغلب الحق الباطل.
ثم ذكر نوعا ثالثا من آرائهم الفاسدة فقال :
(وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ ، وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها ، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا) أي إنهم لغوايتهم وشركهم قسموا أنعامهم وزرعهم أقساما ثلاثة :
(1) أنعام وأقوات من حبوب وغيرها تقتطع من أموالهم وتجعل لمعبوداتهم تعبدا وتدينا ، ويمتنعون من التصرف فيها إلا لها ، ويقولون هى حجر أي محتجرة للآلهة لا تعطى لغيرهم.(8/45)
ج 8 ، ص : 46
وقوله لا يطعمها إلا من نشاء أي لا يأكل منها إلا الرجال دون النساء. وقوله بزعمهم أي بادعائهم الباطل من غير حجة ولا برهان عليه.
(2) أنعام حرمت ظهورها ، فلا تركب ولا يحمل عليها ، قال السدى : هى البحيرة والسائبة والحامى وقد تقدم ذكرها فى قوله : « ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ ، وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ » .
(3) أنعام لا يذكرون اسم اللّه عليها فى الذبح ، بل يهلّون بها لآلهتهم وحدها ، وكانوا إذا حجوا لا يحجون عليها ولا يلبّون على ظهرها.
(افْتِراءً عَلَيْهِ) أي إنهم قسموا هذا التقسيم وجعلوه من أحكام الدين ونسبوه إلى اللّه افتراء عليه واختلاقا له واللّه منه برىء ، فهو لم يشرعه لهم ، وما كان لغير اللّه أن يحرم أو يحلل على العباد ما لم يأذن به اللّه ، كما جاء فى قوله : « قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا ، قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ؟ » .
(سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي سيجزيهم الجزاء الذي يستحقونه وينكّل بهم شر النكال بسبب هذا الافتراء القبيح.
ثم ذكر ضربا آخر من أحكامهم فى التحريم والتحليل ينبىء عن سخفهم فقال :
(وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) المراد بالأنعام هنا البحائر أي المشقوقة الآذان ، والسوائب التي تسيّب وتترك للآلهة فلا يتعرض لها أحد ، وكانوا يجعلون لبنها للذكور ويحرمونه على الإناث ، وإذا ولدت ذكرا جعلوه خالصا للذكور لا تأكل منه الإناث ، وإذا كان ميتا اشترك فيه الذكور والإناث ، وإذا ولدت أنثى تركوها للنتاج.
(سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) يقولون وصف كلامه بالكذب - إذا كذب(8/46)
ج 8 ، ص : 47
وعينه تصف السحر أي هى ساحرة ، وقدّه يصف الرشاقة على معنى أنه رشيق على سبيل المبالغة ، حتى كأن من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له ، قال أبو العلاء المعرّى :
سرى برق المعرّة بعد وهن فبات برامة يصف الملالا
أي سيجزيهم اللّه تعالى جزاء وصفهم ، لأن حكمته تعالى فى الخلق وعلمه بشئونهم ، جعلت عقابهم عين ما يقتضيه وصفهم ونعتهم الروحي ، إذ لكل نفس فى الآخرة صفات تجعلها فى مكان معين سواء أ كان فى أعلى عليين أم فى أسفل سافلين.
والخلاصة - إن منشأ الجزاء نفس الإنسان باعتبار عقائدها وسائر صفاتها التي يطبعها عليها العمل.
وقد يكون المعنى - سيجزيهم وصفهم لربهم بما جعلوا له من الشركاء فى العبادة والتشريع ، أو وصف ألسنتهم الكذب بما افتروا عليه فيهما كما قال تعالى :
« وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ » الآية.
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ ، قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أنكر سبحانه على مشركى العرب أمرين عظيمين ونعاهما عليهم ، وحكم فيهم حكما عدلا وهما :
(1) قتل أولادهم ووأد بناتهم ، وبذلك خسروا خسرانا مبينا ، فإن قتل الأولاد يستلزم خسران كل ما كان يرجى من العزة والنصرة والسرور والغبطة ، والبر والصلة ، وخسران العاطفة الأبوية ورأفتها ، واستبدال القسوة والغلظة بها ، إلى نحو أولئك من مساوى الأخلاق التي يضيق بها العيش فى الدنيا ، وبها يحل العقاب فى الآخرة.
(2) تحريم ما رزقهم اللّه من الطيبات.(8/47)
ج 8 ، ص : 48
وإيضاح هذا أن قد حكم سبحانه على من فعل هذين الجرمين بالخسران ، والسفاهة ، وعدم العلم ، والافتراء على اللّه والضلال وعدم الاهتداء.
أما الخسران فلأن الولد نعمة من اللّه على العبد ، فإذا سعى العبد فى زوالها فقد خسر خسرانا عظيما ، إذ هو قد استحق الذم فى الدنيا وقال الناس فيه إنه قتل ولده خوف أن يأكل طعامه ، والعقاب فى الآخرة ، لأنه ألحق أعظم أنواع الأذى بأقرب الناس محبة إليه.
وأما السفاهة ، وهى اضطراب النفس وحماقتها ، فلأنه أقدم على ضرر محقق وهو القتل خوفا من ضرر موهوم وهو الفقر.
وأما عدم العلم بما ينفع وما يضر وما يحسن وما يقبح فذلك من أقبح القبائح والمنكرات.
وأما الافتراء على اللّه فلأنهم جعلوه دينا يتقرّب به إليه وهو جراة عليه ، وذلك من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر.
وأما الضلال المبين فلأنهم لم يرشدوا إلى مصالح الدين ولا منافع الدنيا.
وأما عدم الاهتداء إلى شىء من الحق والصواب ، فلأنهم لم يعملوا بمقتضى العقل ولا بهدى الشرع فى منافع الدنيا وسعادة الآخرة.
وفائدة قوله : وما كانوا مهتدين - بيان أنهم لم يحصل لهم اهتداء قط ، والإنسان أحيانا قد يضلّ ثم يهتدى ، ولكن هؤلاء لم يحصل لهم اهتداء بحال.
أخرج البخاري عن ابن عباس قال : إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً
- إلى قوله وَما كانُوا مُهْتَدِينَ).
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال فى الآية : هذا صنع أهل الجاهلية ، كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السّباء والفاقة ويغذو كلبه.(8/48)
ج 8 ، ص : 49
[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 144]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
تفسير المفردات
الإنشاء : إيجاد الأحياء وتربيتها وكل ما يكمل بالتدريج كإنشاء السحاب والدور والشعر ، والجنات البساتين والكروم الملتفة الأشجار ، لأنها تجنّ الأرض وتسترها ، والمعروشات : المحمولات على العرائش ، وهى الدعائم التي يوضع عليها مثل السقف من العيدان والقصب ، وغير المعروشات : ما لم يعرش منها ، والمراد أن الجنات نوعان :
معروشات كالكروم ، وغير معروشات من سائر أنواع الشجر الذي يستوى على سوقه ولا يتسلق على غيره ، والأكل (بضم الهمزة والكاف) ما يؤكل ، متشابها أي فى النظر ، وغير متشابه أي فى الطعم ، والحمولة : الكبير من الإبل والبقر الذي يحمل(8/49)
ج 8 ، ص : 50
عليه الناس الأثقال ، والفرش : ما يفرش للذبح من الضأن والمعز وصغار الإبل والبقر ، أو هو ما يتخذ الفرش من صوفه ووبره وشعره والخطوات واحدها خطوة (بالضم) :
وهى المسافة التي بين القدمين ، ما اشتملت عليه الأرحام : هى الأجنّة.
المعنى الجملي
علمت فيما سلف أن أصول الدين التي عنى الكتاب الكريم بذكرها ، واهتم ببيانها ، وكررها المرة إثر المرة - هى التوحيد والنبوة والبعث والقضاء والقدر وقد بالغ سبحانه فى تقرير هذه الأصول وأتبعها بذكر آراء لهم سخيفة وكلمات فاسدة فى التحليل والتحريم ، تنبيها إلى ضعف عقولهم ، وتنفيرا للناس من اتباع آرائهم والسير على أهوائهم.
وهنا عاد إلى المقصود الأصلى وهو توحيد اللّه باعتقاد الألوهية ، والربوبية له وإفراده بالعبادة وحق التشريع ، إذ لا رب غيره ولا خالق سواه يعبد معه أو من دونه ، ولا شارع سواه لعبادة ولا تحليل ولا تحريم.
الإيضاح
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) أي إن ربكم أيها الناس هو الذي ابتدع البساتين والكروم الملتفة الأشجار والتي تجن الأرض وتسترها ، سواء المعروش منها وغير المعروش ، وأنشأ النخل والزرع المختلف الطعم واللون والرائحة والشكل.
والنخل وإن كان من قسم الجنات غير المعروشات ، ذكر على سبيل الانفراد لما فيه من المنافع الكثيرة ولا سيما للعرب ، فإن بسره ورطبه فاكهة وغذاء ، وتمره من أفضل الأقوات التي تدّخر ، ومن أيسرها تناولا فى السفر والحضر ، ولا يحتاج إلى طبخ(8/50)
ج 8 ، ص : 51
ولا إلى معالجة ، ونواه علف لرواحلهم ، ويتخذ منه شراب لذيذ إذا نبذ فى الماء زمنا قليلا - إلى ما فى خوصه وليفه من الفوائد والمنافع.
وبهذه الفوائد يفضل الكرم الذي هو أقرب الشجر منه تفكها وتغذية وشربا وأشبهه به شكلا ولونا فى عنبه وزبيبه ومنافعه.
والزرع وهو النبات الذي يكون بحرث الناس ، يشمل كل ما يزرع لكنه خص بما يأتى منه القوت كالقمح والشعير وقد ذكرت هذه الأنواع على طريق الترقي من الأدنى فى التغذية واقتيات الناس إلى الأعلى والأعم ، فإن الحبوب هى التي عليها المعول فى الاقتيات.
(وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي وأنشأ الزيتون والرمان متشابها فى المنظر ، وغير متشابه فى الطعم.
(كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) أي كلوا من ثمر ذلك الذي ذكر إذا أثمر وإن لم يدرك ويينع.
وخلاصة ما سلف - أنه سبحانه بعد أن أعلم عباده بأنه هو الذي أنشأ لهم ما فى الأرض من الشجر والنبات الذي يستعملون منه أقواتهم - أعلمهم بأنه أباح ذلك كله لهم ، فليس لأحد غيره أن يحرم شيئا منه عليهم ، لأن التحريم حق للّه الخالق للعباد والأقوات جميعا ، فمن ادعاه لنفسه فقد جعل نفسه شريكا له تعالى ، كما أن من أذعن لتحريم غير اللّه فقد أشركه معه سبحانه وتعالى.
والتحريم الذي لا يكون إلا للّه هو تحريم التشريع ، أما المنع من بعض هذا الثمر لسبب غير ذلك فلا شرك فيه ، فإذا منع الطيب بعض المرضى من أكل الثمر أو الخبز لأنه يضره يكون منعا شرعيا أو تحريما لا على معنى أن الطبيب هو الذي شرع ذلك ، بل اللّه هو الذي حرم كل ضارّ والطبيب هو الذي عرّف المريض ضرره.
وكذلك منع السلطان من صيد بعض الطيور لمصلحة عامة كالحاجة إلى كثرته لحفظ بعض الزرع ، لأنه يأكل الحشرات المهلكة مثلا لا يكون تحريما ذاتيا بل تحريما(8/51)
ج 8 ، ص : 52
مؤقتا ما دام السبب والسلطان هو المكلف شرعا بصيانة المصالح ودرء المفاسد ، وليس له أن يحرم بمحض إرادته ، وإذا هو أخطأ فى اجتهاده وجب على الأمة الإنكار عليه ، ووجب عليه أن يرجع إلى الحق.
وفائدة قوله إذا أثمر - بيان أن أول وقت لإباحة الأكل هو وقت الإثمار ، وليس بلازم أن يدرك ويينع ، فالكرم ينتفع بثمره حصر ما فعنبا فزبيبا ، والنخل يؤكل ثمره بسرا فرطبا فتمرا ، والقمح يطحن ويؤكل خبزا أو يطبخ أو يعمل حلوى على أشكال شتى.
(وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) أي وآتوا الحق المعلوم فيما ذكر من الزرع وغيره لمستحقيه من ذوى القربى واليتامى والمساكين زمن حصاده جملة ، ويدخل فى الحصاد جنى العنب وصرم النخل.
أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فى قوله « وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ » قال ما سقط من السنبل.
وقال مجاهد فيه : إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل ، فإذا دسته فحضرك المساكين فاطرح لهم ، فإذا أذريته وجمعته وعرفت كيله فاعزل زكاته ، وإذا بلغ النخل وحضرك المساكين فاطرح لهم من التفاريق والبسر ، فإذا جددته (قطعته) فحضرك المساكين فاطرح لهم منه ، فإذا جمعته وعرفت كيله فاعزل زكاته.
وعن ميمون بن مهران وزيد بن الأصمّ أن أهل المدينة كانوا إذا صرموا النخل يجيئون بالعذق فيضعونه فى المسجد فيجىء السائل فيضر به بالعصا فيسقط منه ، فهو قوله :
« وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ » .
وعن سعيد بن جبير قال : كان هذا قبل أن تنزل الزكاة. الرجل يعطى من زرعه ويعلف الدابة ويعطى اليتامى والمساكين ويعطى الضّغث ، يريد أن هذا الأمر فى الصدقة المطلقة غير المعينة ، ومما يؤيد هذا أن السورة مكية والزكاة المحدودة فرضت بالمدينة فى السنة الثانية من الهجرة.(8/52)
ج 8 ، ص : 53
(وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أي كلوا مما رزقكم اللّه من غير إسراف فى الأكل كما قال فى آية أخرى : « وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ » وقال : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ » .
والاعتداء والإسراف : مجاوزة الحد ، والحد الذي ينهى اللّه عن تجاوزه إما شرعى كتجاوز الحلال من الطعام والشراب وما يتعلق بهما إلى الحرام ، وإما فطرى طبعى وهو تجاوز حد الشبع إلى البطنة الضارة.
(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) أي وأنشأ من الأنعام كبارا منها تصلح للحمل ، وصغارا مثل الفصلان الدانية من الأرض لصغر أجرامها كالفرش المفروش عليها.
(كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) أي كلوا من هذه الأنعام وغيرها وانتفعوا بها بسائر ضروب الانتفاع المباحة شرعا.
(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) فتحرموا ما لم يحرمه اللّه عليكم ، فإن ذلك إغواء منه ، واللّه المبدع قد أباحها لكم فليس لغيره أن يحرّم أو يحلل ، ولا أن يتعبدكم به.
ويقال لمن اتّبع آخر فى أمر وبالغ فى التأسّى به - اتّبع خطواته ، ولا شك أن تحريم ما أحل اللّه من أقبح المبالغات فى اتباع إغواء الشيطان ، لأنه اتباع له فى حرمان النفس من الطيبات - لا فى الاستمتاع باللذات كما هو أكثر غوايته ثم علل النهى عن اتباعه بقوله :
(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي لا تتبعوه لأنه ظاهر العداوة بينها ، لا يأمر إلا بكل قبيح يسوء فعله حالا أو استقبالا ويأمركم بالافتراء على اللّه بغير علم كما قال عز اسمه :
« إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ » .(8/53)
ج 8 ، ص : 54
وبعد أن ذكر سبحانه أن الأنعام إما حمولة وإما فرش ، فصلها وقسمها ثمانية أزواج ، فإن الحمولة إما إبل وإما بقر ، والفرش إما ضأن وإما معز ، وكل من الأقسام الأربعة إما ذكر وإما أنثى ، وكل هذا لإيضاح المحالّ التي تقوّلوها على اللّه تعالى بالتحريم والتحليل ثم تبكيتهم بإظهار كذبهم وافترائهم فى كل محل من هذه المحال بتوجيه الإنكار إليها مفصلة فقال :
(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ، قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ ؟ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ، قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ ؟ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) أي أنشأ سبحانه من الضأن زوجين الكبش والنعجة ، ومن المعز زوجين التيس والعنز ، وهذه الأنواع الأربعة تفصيل للفرش ، فقل لهم أيها الرسول تبكيتا وتوبيخا : أحرم اللّه الذكرين الكبش والتيس من ذينك النوعين أم حرم الأنثيين النعجة والعنز أم حرم ما حملت إناث النوعين أخبرونى ببينة تدل على ذلك من كتاب اللّه أو خبر من أنبيائه إن كنتم صادقين فى دعوى التحريم.
وكذلك أنشأ من الإبل اثنين الجمل والناقة ، ومن البقر اثنين الثور والبقرة ، فقل لهم تأنيبا وإنكارا وإلزاما للحجة. أحرم الذكرين منهما أم حرم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من ذينك النوعين ؟
وخلاصة ذلك - إن المشركين فى الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام ، فاحتج سبحانه على إبطال ذلك - بأن لكل من الضأن والمعز والإبل والبقر ذكرا وأنثى ، فإن كان قد حرم منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها جراما ، وإن كان حرم جل شأنه الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حراما ، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الإناث وجب تحريم الأولاد كلها ، لأن الأرحام تشتمل على الذكور والإناث.
وقصارى ذلك - إنه تعالى ما حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع الأربعة وإنهم كاذبون فى دعوى التحريم ، وقد فصل ذلك أتم التفصيل مبالغة فى الرد عليهم(8/54)
ج 8 ، ص : 55
ثم زاد فى الإنكار والتهكم بهم فقال :
(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا) أي أ عندكم علم يؤثر عن أحد من رسله فتنبئونى به ، أم شاهدتم ربكم فوصاكم بهذا التحريم مشافهة بغير واسطة ؟ - كلّا ، ما حصل هذا ولا ذاك ، فما هو إلا محض افتراء على اللّه يقلد فيه بعضكم بعضا بقوله إن اللّه حرم علينا كذا وكذا كما قال تعالى : « وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها ، قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ، أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ؟ » .
والخلاصة - إنكم إذ لم تؤمنوا بنبي فلا طريق لكم إلى علم ذلك بحسب ما تقولون إلا أن تشاهدوا ربكم وتتلقوا منه أحكام الحلال والحرام.
وبعد أن نفى الأمرين بالبرهان أثبت أنه افتراء على اللّه لإضلال عباده وهو ظلم يجنيه الإنسان على نفسه وعلى غيره ويجنى سوء عاقبته ، فقال :
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي لا أحد أظلم منكم لأنكم من هؤلاء المفترين على اللّه بقصد الإضلال عن جهل تام.
ونفى العلم شامل لمن يؤثر أو يعقل ويستنبط كالنظر العقلي والتجارب العملية وطرق درء المفاسد والشرور وتقدير المصالح وعمل البر والخير.
والخلاصة - إن فى ذلك تسجيل الغباوة عليهم وعمى البصيرة باتباعهم محض التقليد من غير عقل ولا هوى ، فإن عملهم ليس له أثارة من علم ولا قصد إلى شىء من الهدى إلى حق أو خير.
وقد وجد فى البشر ناس فكّروا وبحثوا فيما يجب عليهم للّه من الشكر والعبادة واتباع الحق والعدل وفعل الخير بحسب ما يرشد إليه العقل ، وفيما ينبغى لهم أن يجتنبوه من الطعام والشراب فأصابوا فى بعض ما هدتهم إليه عقولهم وأخطئوا فى بعض ، وكانوا خير الناس للناس على حين فترة من الرسل ، كما فعل قصى ، إذ وضع للعرب سننا حسنة كسقاية الحاجّ ورفادتهم وإطعامهم ، وسن الشّورى فى مهامّ الأمور.(8/55)
ج 8 ، ص : 56
(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن اللّه لا يوفق للرشاد من افترى عليه الكذب وقال عليه الزور والبهتان ، ولا يهديه إلى الحق والعدل لا من طريق الوحى ولا من طريق العلم ، بل يصده عن استعمال عقله فيما يهديه إلى الصواب وعما فيه صلاحه عاجلا وآجلا.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 145 الى 147]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
تفسير المفردات
الطاعم : الآكل ، والميتة : البهيمة ماتت حتف أنفها ، والمسفوح : المصبوب السائل كالدم الذي يجرى من المذبوح ، رجس أي قذر قبيح ، الإهلال : رفع الصوت ، والمراد به الذبح باسم الأصنام ، اضطر أي أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شىء منه ، وباغ : أي طالب لذلك قاصد له ، عاد : أي متجاوز قدر الضرورة ، الذين هادوا :
هم اليهود لقولهم : « إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ » أي رجعنا وتبنا ، الظفر للانسان وغيره مما(8/56)
ج 8 ، ص : 57
لا يصيد ، والمخلب لما يصيد ، والشحم : ما يكون على الأمعاء والكرش والكلى من المادة الدهنية ، حملت ظهورها أي علقت بها ، والحوايا : المباعر أو المرابض (مجتمع الأمعاء فى البطن) أو المصارين والأمعاء ، بأسه : أي عذابه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فى سابق الآيات أنه ليس لأحد أن يحرم شيئا من الطعام ولا غيره إلا بوحي من ربه على لسان رسله ، ومن فعل ذلك يكون مفتريا على اللّه معتديا على مقام الربوبية ، ومن اتبعه فى ذلك فقد اتخذه شريكا للّه تعالى ، وأبان أن من هذا الافتراء ما حرّمته العرب فى جاهليتها من الأنعام والحرث.
قفّى على ذلك بذكر ما حرمه على عباده من الطعام على لسان خاتم رسله وألسنة بعض الرسل قبله.
أخرج عبد بن حميد عن طاوس قال : إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء ويستحلون أشياء فنزلت : « قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً » الآية
الإيضاح
(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المفترين على اللّه الكذب فيما يضرهم من تحريم ما لم يحرم عليهم ، وقل لغيرهم من الناس :
لا أجد فيما أوحاه إلىّ ربى طعاما محرما على آكل يريد أن يأكله - إلا أن يكون ميتة لم تذكّ ذكاة شرعية ، وذلك شامل لما مات حتف أنفه ، وللمنخنقة والموقوذة والنطيحة ونحوها ، أو دما مسفوحا أي سائلا كالدم الذي يجرى من المذبوح ، فلا يدخل فيه الدم الجامد كالكبد والطحال ،
وفى الحديث « أحلّت لنا ميتتان السمك والجراد ، ودمان الكبد والطحال »
أو لحم خنزير ، فإن كل ذلك خبيث تعافه الطباع السليمة ،(8/57)
ج 8 ، ص : 58
وهو ضار بالأبدان الصحيحة ، أو فسقا أهل لغير اللّه به وهو ما يتقرب به إلى غيره تعبدا ويذكر اسمه عليه عند ذبحه.
(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن دفعته ضرورة الجوع وفقد الحلال إلى أكل شىء من هذه المحرمات حال كونه غير مريد لذلك ولا قاصد له ، ولا متجاوز حد الضرورة - فإن ربك الذي لم يحرم ذلك إلا لضرره - غفور رحيم ، فلا يؤاخذه بأكل ما يسد به مخمصته ويدفع عنه ضرر الهلاك.
والخلاصة - قل : لا أجد فيما أوحى إلىّ من أخبار الأنبياء وشرائعهم ، ولا فيما شرع على لسانى - أن اللّه حرم أىّ طعام إلا هذه الأنواع الأربعة ، وما حرمه على اليهود تحريما مؤقتا عقوبة لهم وهو ما ذكر أهمه فى الآية التالية ، ودليل التوقيت قوله فى سورة آل عمران : « وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ » وقوله مخاطبا من يتبع النبي صلى اللّه عليه وسلم منهم : « وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ » ودليل كونه عقوبة لا لذاته قوله : « كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ » .
وما صح من الأحاديث فى النهى عن طعام غير هذه الأنواع الأربعة فهو إما مؤقت لعارض وإما للكراهة فقط ، ومن الأول تحريم الحمر الأهلية
فقد روى ابن أبي شيبة والبخاري عن ابن عمر قال : « نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر »
ومن الثاني ما
رواه البخاري ومسلم عن أبي ثعلبة الخشني : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « نهى عن كل ذى ناب من السباع وكل ذى مخلب من الطير » .
ثم بين سبحانه ما حرمه على بنى إسرائيل خاصة عقوبة لهم لا على أنه من أصول شرعه على ألسنة رسله قبلهم أو بعدهم فقال :(8/58)
ج 8 ، ص : 59
(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) أي وعلى الذين هادوا دون غيرهم من أتباع الرسل حرمنا كل ذى ظفر أي ما ليس منفرج الأصابع كالإبل والنعام والإوزّ والبط كما قاله ابن عباس وابن جبير وقتاده ومجاهد.
(وَ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) أي إنه حرم عليهم لحم كل ذى ظفر وشحمه وكل شىء منه ، وترك البقر والغنم على التحليل لم يحرم منهما إلا الشحوم الخالصة وهى الثروب (واحدها ثرب ، وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش) وشحوم الكلى.
والخلاصة - ومن البقر والغنم دون غيرهما مما أحل لهم من حيوان البر والبحر حرمنا عليهم شحومهما الزائدة التي تنتزع بسهولة لعدم اختلاطها بلحم ولا عظم ، ولم نحرم عليهم ما حملت الظهور أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ، والسبب فى تخصيص البقر والغنم بهذا الحكم أن القرابين عندهم لا تكون إلا منهما ، وكان يتخذ من شحمهما الوقود للرب كما ذكر ذلك فى الفصل الثالث من سفر اللاويين فقد جاء فيه بعد التفصيل فى قرابين السلامة من البقر والغنم (كلّ الشحم للرب فريضة فى أجيالكم فى جميع مساكنهم ، لا تأكلوا شيئا من الشحم ولا الدم.
(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) أي إنما حرم اللّه ذلك عليهم عقوبة بغيهم فشدد عليهم بذلك ، وليس ذلك بالخبيث لذاته.
ولما كان هذا النبأ عن شريعة اليهود من الأنباء التي لم يكن النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا قومه يعلمون منها شيئا لأميتهم ، وكان مظنة تكذيب المشركين له ، لأنهم لا يؤمنون بالوحى ومظنة تكذيب اليهود له بأن اللّه لم يحرم ذلك عقوبة ببغيهم وظلمهم ، أكده فقال :
(وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي وإنا لصادقون فى هذه الأخبار عن التحريم وعلته ، لأن أخبارنا صادرة عن العلم المحيط بكل شىء ، ولأن الكذب محال علينا ، لأنه نقص فلا يصدر عنا.(8/59)
ج 8 ، ص : 60
(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) هذا الخطاب إما لليهود وهو المروي عن مجاهد والسدى ، وإما لمشركى مكة.
فعلى الأول يكون المعنى - فإن كذبك اليهود وثقل عليهم أن يكون بعض شرعهم عقابا لهم على ما كان من بغيهم على الناس وظلمهم لهم ولأنفسهم ، واحتجوا على إنكار كونه عقوبة بكون الشرع رحمة من اللّه - فأجبهم بما يدحض هذه الشبهة بأن رحمة اللّه واسعة حقا ولكن ذلك لا يقتضى أن يرد بأسه ويمنع عقابه عن القوم المجرمين ، فإصابة الناس بالمحق والشدائد عقابا لهم على جرائم ارتكبوها ، قد تكون رحمة بهم ، وقد تكون عبرة وموعظة لغيرهم لينتهوا عن مثلها ، وهذا العقاب من سنن اللّه المطردة فى الأمم وإن لم يطرد فى الأفراد.
وعلى الثاني يكون المعنى - فإن كذبك المشركون فيما فصلناه من أحكام التحليل والتحريم فقل لهم : ربكم ذو رحمة واسعة ولا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم ، فلا تغترّوا به فإنه إمهال لكم لا إهمال لمجازاتكم.
وفى هذا تهديد لهم ووعيد إذا هم أصروا على كفرهم وافترائهم على اللّه بتحريم ما حرموا على أنفسهم ، كما أن فيه إطماعا لهم فى رحمته الواسعة إذا رجعوا عن إجرامهم وآمنوا بما جاء به الرسول ، فيسعدون فى الدنيا بحل الطيبات ، وفى الآخرة بالنجاة من النار ودخول الجنات.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 148 الى 150]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)(8/60)
ج 8 ، ص : 61
تفسير المفردات
الخرص : الحزر والتخمين ويراد به لازمه وهو الكذب ، الحجة : الدلالة المبينة للقصد المستقيم ، هلم أي أحضروا ، يعدلون أي يتخذون له مثلا وعديلا يعادله ويشاركه.
المعنى الجملي
كان الكلام فى سالف الآيات فى تفصيل أصول الإسلام من توحيد اللّه والنبوة والبعث ، وفى دحض شبهات المشركين التي كانوا يحتجون بها على شركهم وتكذيبهم للرسل وإنكارهم للبعث. وفى بيان أعمالهم التي هى دلائل على الشرك من التحريم والتحليل بخرافات وأوهام.
وهنا ذكر شبهة لهم مثل بمثلها كثير من الكفار ، وهم وإن لم يكونوا قالوها وأوردوها على الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فإن اللّه المحيط علمه بكل شىء يعلم أنهم سيقولونها ، فذكرها ورد عليها بما يبطلها ، وكان ذلك من إخباره بأمور الغيب قبل وقوعها.
الإيضاح
(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ) أي سيقول هؤلاء المشركون لو شاء اللّه ألا نشرك به من اتخذنا من الأولياء والشفعاء من الملائكة والبشر ، وألا نعظّم ما عظمنا من تماثيلهم وصورهم ، وألا يشرك آباؤنا من قبلنا - لما أشركنا ولا أشركوا ، ولو شاء ألا نحرم شيئا مما حرمنا من الحرث والأنعام وغيرها - لما حرمنا ، ولكنه شاء أن نشرك به هؤلاء الأولياء والشفعاء ليقربونا(8/61)
ج 8 ، ص : 62
إليه زلفى ، وشاء أن نحرم ما حرمنا من البحائر والسوائب وغيرها فحرمناها ، فإتياننا إياها دليل على مشيئته تعالى وعلى رضاه وأمره بها.
ونحو الآية قوله : « وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ » وقوله : « وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ » وقد رد عليهم شبهتهم فقال :
(كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) أي ومثل ذلك التكذيب الذي صدر من مشركى مكة لرسوله صلى اللّه عليه وسلم فيما جاء به من إبطال الشرك وإثبات توحيد اللّه فى الألوهية والربوبية ، ومنها حق التشريع والتحليل والتحريم - كذب الذين من قبلهم لرسلهم تكذيبا غير مبنى على أساس من العلم.
والرسل صلوات اللّه عليهم قد أقاموا الحجج والبراهين العلمية والعقلية على التوحيد وغيره مما ادعوا ، وأيدهم اللّه بباهر الآيات ، ولكن المكذبين لم ينظروا فيها نظرة إنصاف ، بل أعرضوا عنها وأصرّوا على جحودهم وعنادهم حتى ذاقوا بأسه تعالى وأهلكهم بذنوبهم وصاروا كأمس الدابر.
ولو كانت مشيئة اللّه لما كانوا عليه من الشرك تتضمن رضاه عن فاعلها وأمره بها لما عاقبهم عليها تصديقا لما قال الرسل ، كذلك لو كانت أعمالهم بالجبر المخرج لها عن كونها من أعمالهم ، لما استحقوا العقاب عليها ، ولما قال إنه أخذهم بذنوبهم ، وأهلكهم بظلمهم وكفرهم ونحو ذلك مما جاء فى كثير من الآيات.
فقوله : (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) برهان دالّ على صدق الرسل فى دعواهم وبطلان شبهات المشركين المكذبين لهم.
وبعد أن ذكرهم بالبرهان الواضح أمر رسوله أن يطالبهم بدليل يثبت ما يزعمون فقال :(8/62)
ج 8 ، ص : 63
(قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا ؟ ) أي هل عندكم بما تقولون علم تعتمدون عليه وتحتجون به ، فتخرجوه لنا لنفهمه ونوازن بينه وبين ما جئناكم به من الآيات العقلية والوقائع المحكية عن الأمم قبلكم ونتبين منها الراجح من المرجوح ؟
وفى هذا الاستفهام من التعجيز والتوبيخ ما لا يخفى.
ثم قّفى على ذلك ببيان حقيقة حالهم فقال :
(إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) أي إنكم لستم على شىء من العلم ، بل ما تتبعون فى عقائدكم وآرائكم فى الدين والعمل به إلا الحدس والتخمين الذي لا يستقر عنده حكم.
وبعد أن نفى عنهم درجات العلم أثبت لذاته الحجة البالغة التي لا تعلوها حجة فقال :
(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الجاهلين بعد تعجيزك إياهم عن أن يأتوا بأدنى دليل أو قول يرقى إلى أضعف درجة من العلم :
إن لم يكن عندكم علم فى أمر دينكم ، فإن للّه وحده أعلى درجات العلم وله الحجة البالغة على ما أراد من إحقاق الحق وإزهاق الباطل بما بينه فى هذه السورة وغيرها من الآيات البينات على أصول العقائد وقواعد التشريع الموافقة للعقول الحكيمة والفطر السليمة وسننه فى الاجتماع البشرى ، ولكن لا يهتدى بهذه الآيات إلا المستعدّ للهداية ، المحب للحق ، الحريص على طلبه ، الذي يستمع القول فيتبع أحسنه ، دون من أعرض عن النظر فيها استكبارا عنها وحسدا للمبلّغ الذي جاء بها ، وجمودا على تقليد الآباء واتباع الرؤساء.
ولو شاء سبحانه أن يهديكم بغير هذه الطريق التي أقام أمر البشر عليها وهى التعليم والإرشاد بطريق النظر والاستدلال - لهداكم أجمعين - فجعلكم تؤمنون بالفطرة كالملائكة المفطورين على الحق والخير جل شأنه كما قال سبحانه عنهم : « لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ » ويجعل الطاعة فيكم بغير شعور منكم(8/63)
ج 8 ، ص : 64
ولا إرادة كما يجرى الدم فى أبدانكم ، أو مع الشعور بأنها ليست من أفعالكم ، وحينئذ لا تكونون من نوع الإنسان الذي قضت الحكمة وسبق العلم بخلقه مستعدا لعمل الخير والشر والحق والباطل ، ويرجح أحدهما على الآخر بالاختيار ، والاختيار لأحدهما بمشيئته - لا ينفى مشيئة اللّه تعالى ولا يعارضها ، فإنه هو الذي شاء أن يجعله فاعلا باختياره.
ونحو الآية قوله : « وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا » وقوله : « مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ ، وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » وقوله : « وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً » وقوله : « وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ؟ » .
وبعد أن نفى عنهم العلم وسجل عليهم اتباع الخرص والكذب ، ليظهر لهم أنهم ليسوا على شىء يعتدّ به من العلم - أمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يطالب مشركى قومه بإحضار من عساه يعتمدون عليه من الشهداء فى إثبات تحريم اللّه تعالى عليهم ما ادّعوه من المحرمات فقال :
(قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا) أي أحضروا شهداءكم الذين يخبرون عن مشاهدة وعيان أن اللّه حرم عليكم هذا الذي زعمتم تحريمه.
والخلاصة - عليكم أن تحضروا من أهل العلم الذين تتلقى عنهم الأمم الأحكام الدينية وغيرها بالأدلة الصحيحة التي تجعل النظريات العلمية كأنها مشاهدات حسية من يشهد لكم بصحة ما تدّعون.
(فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي فإن فرض إحضار هؤلاء الشهود فلا تصدّقهم ولا تقبل لهم شهادة ، ولا تسلمها لهم بالسكوت عليها ، فإن السكوت على الباطل كالشهادة به.
(وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي ولا تتبع أهواء هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا المنزلة ، وبما أرشدت إليه من الآيات الكونية فى الأنفس والآفاق.(8/64)
ج 8 ، ص : 65
(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي والذين هم مع جهلهم واتباعهم للأهواء لا يؤمنون بالآخرة حتى يحملهم الإيمان بها على سماع الدليل والحجة إذ ذكّروا بها ، ويشركون بربهم ويتخذون له مثلا وعدلا يشاركه فى جلب الخير والنفع ودفع الضر ، إما استقلالا وإما بحمله الرب على ذلك وتأثيره فى عمله وإرادته.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 153]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه لعباده جميع ما حرّم عليهم من الطعام ، وذكر حجته البالغة على المشركين الذين حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه عليهم ودحض شبهتهم التي احتجوا بها على شركهم بربهم وافترائهم عليه.
ذكر فى هذه الآيات أصول المحرمات فى الأقوال والأفعال ، وأصول الفضائل وأنواع البر.(8/65)
ج 8 ، ص : 66
الإيضاح
(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين يتبعون أهواءهم فيما يحللون وما يحرمون لأنفسهم وللناس : أقبلوا إلىّ أيها القوم أقرأ لكم ما حرم ربكم عليكم فيما أوحاه إلىّ ، وهو وحده الذي له حق التحريم والتشريع ، وأنا مبلغ عنه بإذنه وقد أرسلنى بذلك.
وخص التحريم بالذكر مع أن الوصايا أعم لأن بيان المحرمات يستلزم حل ما عداها ، وقد بدأها بأكبر المحرمات وأعظمها وأشدها إفسادا للعقل والفطرة ، وهو الشرك باللّه ، سواء أ كان باتخاذ الأنداد له أو الشفعاء المؤثّرين فى إرادته ، أو بما يذكّر بهم من صور وتماثيل وأصنام وقبور ، أو باتخاذ الأرباب الذين يتحكمون فى التشريع فيحللون ويحرمون فقال :
(1) (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) أي ومما أتلوه عليكم فى بيان هذه المحرمات وما يقابلها من الواجبات - ألا تشركوا باللّه شيئا من الأشياء وإن عظمت فى الخلق كالشمس والقمر والكواكب ، أو فى القدر كالملائكة والنبيين والصالحين ، فإن عظمتها لا تخرجها عن كونها مخلوقة للّه ، مسخّرة له بقدرته وإرادته : « إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً » .
ويلزم هذا أن تعبدوه وحده بما شرعه لكم على لسان رسوله لا بأهوائكم ولا بأهواء أحد من الخلق أمثالكم.
(2) (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي وأحسنوا بالوالدين إحسانا تاما كاملا لا تدخرون فيه وسعا ، ولا تألون فيه جهدا ، وهذا يستلزم ترك الإساءة وإن صغرت ، فما بالك بالعقوق الذي هو من أكبر الكبائر وأعظم الآثام ، وقد جاء فى القرآن غير مرة قرن التوحيد والنهى عن الشرك بالأمر بالإحسان إلى الوالدين.
وكفى دلالة على عظيم عناية الشارع بأمر الوالدين أن قرنه بعبادته وجعله(8/66)
ج 8 ، ص : 67
ثانيها فى الوصايا ، وأكده بما أكده به فى سورة الإسراء ، كما قرن شكرهما بشكره فى سورة لقمان فى قوله : « أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ » وما
رواه البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن مسعود قال : « سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أىّ العمل أفضل ؟ قال :
الصلاة لوقتها قلت ثم أىّ ؟ قال : بر الوالدين. قلت ثم أىّ ؟ قال : الجهاد فى سبيل اللّه » .
والمراد ببرهما احترامهما احترام المحبة والكرامة ، لا احترام الخوف والرهبة ، لأن فى ذلك مفسدة كبيرة فى تربية الأولاد فى الصغر ، وإلجاء لهم إلى العقوق فى الكبر ، وإلى ظلم الأولاد لهم كما ظلمهم آباؤهم ، وليس لهما أن يتحكما فى شئونهم الخاصة بهم ، ولا سيما تزويجهم بمن يكرهون ، أو منعهم من الهجرة لطلب العلم النافع أو لكسب المال والجاه إلى نحو ذلك :
(3) (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) أي ومما وصاكم به ربكم ألا تقتلوا أولادكم الصغار لفقر يحل بكم ، فإن اللّه يرزقكم وإياهم أي يرزقهم تبعا لكم ، وجاء فى سورة الإسراء : « وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ » وسر اختلاف الأسلوبين وتقديم رزق الأولاد هناك على رزق الوالدين على عكس ما هنا - أن ما هناك متعلق بالفقر المتوقع فى المستقبل الذي يكون فيه الأولاد كبارا كاسبين ، وقد يصير الوالدون فى حاجة إليهم لعجزهم عن الكسب بالكبر ، ففرّق فى تعليل النهى فى الآيتين بين الفقر الواقع والفقر المتوقع فقدم فى كل منهما ضمان رزق الكاسب ، للإيماء إلى أنه تعالى جعل كسب العباد سببا للرزق ، لا كما يتوهم بعضهم فيزهد فى العمل بشبهة كفالته تعالى لرزقهم.
(4) (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي ولا تقربوا ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال كالزنا وقذف المحصنات سواء منه ما فعل علنا وما فعل سرا.(8/67)
ج 8 ، ص : 68
وقيل الظاهر ما تعلق بأعمال الجوارح ، والباطن ما تعلق بأعمال القلوب كالكبر والحسد والتفكير فى تدبير المكايد الضارة وأنواع الشرور والمآثم.
وقد روى عن ابن عباس فى تفسير الآية أنه قال : كانوا فى الجاهلية لا يرون بأسا بالزنا فى السر ويستقبحونه فى العلانية ، فحرم اللّه الزنا فى السر والعلانية ، أي فى هذه الآية وما أشبهها.
وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة قال : ما ظهر منها ظلم الناس ، وما بطن منها الزنا والسرقة ، أي لأن الناس يأتونهما فى الخفاء.
وروى عبد اللّه بن مسعود أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « لا أحد أغير من اللّه »
من أجل ذلك حرم الفواحش :
ما ظهر منها وما بطن » رواه البخاري ومسلم.
(5) (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه قتلها بالإسلام أو بالعهد بين المسلمين وغيرهم كأهل الكتاب المقيمين بيننا بعهد وأمان ،
وقد جاء فى الحديث : « لهم ما لنا وعليهم ما علينا »
وروى الترمذي قوله صلى اللّه عليه وسلم : « من قتل معاهدا له ذمة اللّه وذمة رسوله فقد أخفر بذمة اللّه ، فلا يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسين خريفا » .
وقوله إلا بالحق إيماء إلى أن قتل النفس قد يكون حقا لجرم يصدر منها كما
جاء فى الحديث : « لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأمور ثلاثة : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق » .
والخلاصة - إن قتلها بالحق هو أمر الشارع بإباحة قتلها كقتل القاتل عمدا أو قتل الزاني المحصن.
(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الوصية أن يعهد إلى إنسان بعمل خير أو ترك شر ، ويقرن ذلك بوعظ يرجى تأثيره أي إنه سبحانه وصاكم بذلك ليعدّكم لأن تعقلوا الخير والمنفعة فى فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ، إذ هو مما تدركه العقول بأدنى تأمل.(8/68)
ج 8 ، ص : 69
وفى هذا تعريض بأن ما هم عليه من الشرك وتحريم السوائب وغيرها مما لا تعقل له فائدة ، ولا تظهر فيه لذوى العقول الراجحة مصلحة.
(6) (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
أي ولا تقربوا مال اليتيم إذا وليتم أمره ، أو تعاملتم به ولو بواسطة وليه أو وصيه إلا بالفعلة التي هى أحسن فى حفظ ماله وتثميره ، ورجحان مصلحته ، والإنفاق منه على تربيته وتعليمه ما به يصلح معاشه ومعاده.
والنهى عن القرب من الشيء أبلغ من النهى عنه ، فإن الأول يتضمن النهى عن الأسباب والوسائل المؤدية إليه ، وعن الشبهات التي هى مظنة التأويل ، فيبتعد عنها ، المتّقى ويستسيغها الطامع فيه إذ يراها بالتأويل من الوجوه الحلال التي لا تضرّ به أو يرجح نفعها على ضررها ، كأن يأكل شيئا من ماله حين يعمل عملا له فيه ربح ولولاه ماربح.
(حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)
والأشدّ مبلغ الرجل الحنكة والمعرفة ، ولبلوغه طرفان ، أدناهما الاحتلام الذي هو مبدأ سن الرشد والقوة التي يخرج بها عن كونه يتيما أو سفيها أو ضعيفا ، ونهايته سن الأربعين والمراد هنا الأول كما قال الشعبي ومالك وآخرون :
ويكون ذلك عادة بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة.
أي احفظوا مال اليتيم ولا تسمحوا له بتبذير شىء من ماله وإضاعته أو الإسراف فيه حتى يبلغ ، فإذا بلغ فسلموه إليه ، وهذا نظير قوله : « فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ » .
والخلاصة - إن المراد النهى عن كل تعدّ على مال اليتيم وهضم لحقوقه من الأوصياء وغيرهم حتى يبلغ سن القوة بدنا وعقلا ، إذ قد دلت التجارب على أن الحديث العهد بالاحتلام يكون ضعيف الرأى قليل الخبرة بشئون المعاش يخدع كثيرا فى المعاملات.(8/69)
ج 8 ، ص : 70
وقد كان الناس فى الجاهلية لا يحترمون إلا القوة ، ولا يعرفون الحق إلا للأقوياء ، ومن ثم بالغ الشارع فى الوصية بالضعيفين : المرأة ، واليتيم.
والقوة التي يحفظ بها المرء ماله فى هذا العصر هى اتزان الفكر ، والرشد العقلي والأخلاق بكثرة المران والتجارب فى المعاملات ، لكثرة الفسق والحيل ووجود أعوان السوء الذين يوسوسون إلى الوارثين ويزينون لهم الإسراف فى اللذات والشهوات على جميع ضروبها حتى لا يتركوهم إلا وهم فقراء ، وقلما يستيقظون من غفلتهم إلا إذا بلغوا سن الكهولة التي يكمل فيها العقل ويفقهون تكاليف الحياة ويهتمون فيها بأمر النسل.
وقد شرط الشارع الحكيم لإيتاء اليتامى أموالهم بلوغ سن الحلم وظهور الرشد فى المعاملات المالية بالاختبار كما سلف فى سورة النساء من قوله : « وَابْتَلُوا الْيَتامى » الآية.
(7) (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ)
أي وأتموا الكيل إذا كلتم للناس أو اكتلتم عليهم لأنفسكم ، وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون أو لغيركم فيما تبيعون ، فليكن كل ذلك وافيا تاما بالعدل ، ولا تكونوا من أولئك المطففين الذين وصفهم اللّه بقوله : « الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ » .
والخلاصة - أن الإيفاء يكون من الجانبين : حين البيع ، وحين الشراء ، فيرضى المرء لغيره ما يرضاه لنفسه. وقوله : (بِالْقِسْطِ)
يدل على تحرى العدل فى الكيل والميزان حال البيع والشراء بقدر المستطاع.
(لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)
أي إن اللّه تعالى لا يكلف نفسا إلا ما يسعها فعله ، بأن تأتيه بلا عسر ولا حرج ، فهو لا يكلف من يبيع أو يشترى الأقوات ونحوها أن يزنها أو يكيلها بحيث لا تزيد حبة ولا مثقالا ، بل يكلفه أن يضبط الوزن والكيل له أو عليه سواء بحيث يعتقد أنه لم يظلم بزيادة ولا نقص يعتد بهما عرفا.(8/70)
ج 8 ، ص : 71
والقاعدة الشرعية : أن التكليف إنما يكون بما فى وسع المكلف بلا حرج ولا مشقة عليه ، ولو اتبع المسلمون هذه الوصية وعملوا بها لاستقامت أمور معاملاتهم وعظمت الثقة والأمانة بينهم ، ولكن وا أسفا فسدت أمورهم وقلّت ثقتهم بأنفسهم ، ووثقوا بغيرهم لاتباعهم هذه الوصية وأمثالها.
وقد قص علينا الكتاب الكريم قصص من طفّفوا الكيل والميزان فأخذهم ربهم أخذ عزيز مقتدر بما كان من ظلمهم ، كقوم شعيب وقد حكى اللّه عنهم ما قال لهم نبيهم شعيب : « وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ »
وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان : « إنكم وليتم أمرا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم » .
(8) (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى )
أي وعليكم أن تعدلوا فى القول إذا قلتم قولا فى شهادة أو حكم على أحد ، ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة منكم ، إذ بالعدل تصلح شئون الأمم والأفراد ، فهو ركن ركين فى العمران ، وأساس فى الأمور الاجتماعية ، فلا يحل لمؤمن أن يحابى فيه أحدا لقرابة ولا غيرها ، فالعدل كما يكون فى الأفعال كالوزن والكيل يكون فى الأقوال.
ونحو الآية قوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ » وقوله :
« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ » .
(9) (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا)
أي وأوفوا بعهد اللّه ، وهذا شامل لما يأتى :
(ا) ما عهده اللّه تعالى إلى الناس على ألسنة الرسل.
(ب) ما آتاهم من العقل والوجدان والفطر السليمة كما قال : « أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ » وقال : « وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ » .
(ج) ما عاهده الناس عليه كما قال : « وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ » وقال :
« أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ » .(8/71)
ج 8 ، ص : 72
(د) ما عاهد الناس عليه بعضهم بعضا كما قال فى وصف المؤمنين : « وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا » .
فمن آمن برسل من رسله فقد عاهد اللّه حين الإيمان به أن يمتثل أمره ونهيه ، وما شرعه للناس ووصاهم به فهو مما عهده إليهم ، وما التزمه الإنسان من عمل البر بنذر أو يمين فهو عهد عاهد عليه ربه كما قال تعالى ناعيا على المنافقين سوء فعلهم : « وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ، فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ » الآية ، وكذلك من عاهد السلطان وبايعه على الطاعة فى المعروف ، أو عاهد غيره على القيام بعمل مشروع ، وجب عليه الوفاء إذا لم يكن من قبيل المعصية.
روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منها كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر » .
(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
التذكر يطلق حينا على تكلف ذكر الشيء فى القلب أو التدرج فيه بفعله المرة إثر الأخرى ، وحينا على الاتعاظ والتدبر كما قال تعالى : « وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ » وقال : « سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى » .
والخلاصة - إن ذلك الذي تلوته عليكم من الأوامر والنواهي وصاكم اللّه به رجاء أن يذكره بعضكم لبعض فى التعليم والتواصي الذي أمر اللّه به فى مثل قوله : « وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ » لما فيه من مصالح ومنافع كتدارك النسيان والغفلة من كثرة الشواغل الدنيوية ، أو رجاء أن يتعظ به من سمعه أو قرأه.
(10) (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أي وإن هذا القرآن الذي أدعوكم إليه وأدعوكم به إلى ما يحييكم ، هو صراطى ومنهاجى(8/72)
ج 8 ، ص : 73
الذي أسلكه إلى مرضاة اللّه ونيل سعادة الدنيا والآخرة ، حال كونه مستقيما لا يضل سالكه ، ولا يهتدى تاركه ، فاتبعوه وحده ، ولا تتبعوا السبل الأخرى التي تخالفه وهى كثيرة ، فتتفرق بكم عن سبيله ، بحيث يذهب كل منهم فى سبيل ضلالة ينتهى بها إلى الهلكة ، إذ ليس بعد الحق إلا الضلال.
والخلاصة - إن هذا صراطى مستقيما لا عوج فيه ، فعليكم أن تتبعوه إن كنتم تؤثرون الاستقامة على الاعوجاج وترجحون الهدى على الضلال.
أخرج أحمد والنسائي وأبو الشيخ والحاكم عن عبد اللّه بن مسعود قال : « خط رسول اللّه خطا بيده ثم قال : هذا سبيل اللّه مستقيما ، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ : وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ » .
وروى أحمد والترمذي والنسائي مرفوعا : « ضرب اللّه مثلا صراطا مستقيما ، وعن جنبتى الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : أيها الناس هلمّوا ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا ، وداع يدعو من جوف الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال له :
ويحك لا تفتحه ، فإنك إن تفتحه تلجه فالصراط الإسلام ، والسوران حدود اللّه ، والأبواب المفتّحة محارم اللّه ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب اللّه ، والداعي من جوف الصراط واعظ اللّه فى قلب كل مسلم » .
وجعل الصراط المستقيم واحدا ، والسبل المخالفة متعددة ، لأن الحق واحد والباطل وهو ما خالفه كثير ، فيشمل الأديان الباطلة سواء أ كانت وضعية أو سماوية محرفة أو منسوخة.
ونهى عن التفرق فى صراط الحق وسبيله ، لأن التفرق فى الدين الواحد وجعله مذاهب يتشيع لكل منها شيعة وحزب ينصرونه ويتعصبون له ويخطئون من خالفه ويرمون أتباعه بالجهل والضلال - سبب لإضاعته ، إذ كل شيعة تنظر فيما يؤيد(8/73)
ج 8 ، ص : 74
مذهبها ويظهرها على مخالفيها ، ولا يهمها إثبات الحق وفهم النصوص ، والحق لا يكون وقفا على عالم معين ولا على أتباعه ، بل كل باحث يخطىء ويصيب ، وذلك ما دل عليه العقل وأثبته الكتاب والسنة والإجماع.
ولما كان اتباع الصراط المستقيم وعدم التفرق فيه يجمع الكلمة ويعز أهل الحق كان التفرق فيه سبب ضعف المتفرقين وذلهم وضياع حقهم.
روى ابن جرير عن ابن عباس فى قوله : « وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ » قال : أمر اللّه المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة ، وأخبرهم أنه إنما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات.
(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) التقوى اسم لكل ما يتقى من الضرر العام والخاص مهما يكن نوعه وقد ذكرت فى القرآن فى سياق الأوامر والنواهي المختلفة من عبادات ومعاملات وآداب وعشرة وزواج ، وتفسر فى كل موضوع بما يناسبه.
أي ذلك الأمر باتباع صراط الحق المستقيم ، والنهى عن سبل الضلالات والأباطيل ، وصاكم ربكم به ليهيئكم لاتقاء كل ما يشقي ويردى فى الدنيا والآخرة ، ويوصلكم إلى السعادة العظمى والحياة الصالحة.
وقال الرازي : ختمت الآية الأولى بقوله : لعلكم تعقلون ، والثانية بقوله : لعلكم تذكرون ، لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك وقتل الأولاد وقربان الزنا وقتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين ولا عاقلين قبحها ، فنهاهم سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها ، وأما حفظ أموال اليتامى عليهم وإيفاء الكيل والعدل فى القول والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به ، فأمرهم اللّه تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان.
وقال أبو حيان : ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف ، وقد أمر(8/74)
ج 8 ، ص : 75
سبحانه باتباعه ونهى عن اتباع غيره من الطرق ، ختم الآية الثالثة بالتقوى التي هى اتقاء النار ، إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية.
وقد وردت أحاديث كثيرة بشأن هذه الوصايا نقلها الحفاظ الثقات فمن ذلك :
(1) ما أخرجه الترمذي وحسّنه وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود قال : من سره أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمة فليقرأ هؤلاء الآيات (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ - إلى قوله - تَتَّقُونَ).
(2) ما
أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة ابن الصامت قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أيكم يبايعنى على هؤلاء الآيات الثلاث ؟ ثم تلا : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ، إلى ثلاث آيات ثم قال : فمن وفى بهن فأجره على اللّه ، ومن انتقص منهنّ شيئا فأدركه اللّه فى الدنيا كانت عقوبته ، ومن أخّره إلى الآخرة كان أمره إلى اللّه إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه » .
(3) ما أخرجه عبد بن حميد وأبو عبيد وابن المنذر عن منذر الثوري قال :
قال الربيع بن خيثم : « أ يسرك أن تلقى صحيفة من محمد صلى اللّه عليه وسلم بخاتمه ؟
قلت نعم ، فقرأ هؤلاء الآيات من آخر سورة الأنعام : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى آخر الآيات » .
[سورة الأنعام (6) : الآيات 154 الى 157]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)(8/75)
ج 8 ، ص : 76
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الحجج العقلية على أصول هذا الدين ودحض شبهات المعاندين ، وقفى على ذلك بذكر الوصايا العشر فى الآيات الثلاث التي قبل هذه الآيات.
نبه هنا إلى مكانة القرآن من الهداية وإلى وجوب اتباعه ، وذكر أعذار المشركين بما يعلمون أنها لا تصلح لهم عذرا عند اللّه ، وافتتح هذا التنبيه والتذكير بذكر ما يشبه القرآن فى التشريع ويسير على نهجه فى الهداية ، وهو كتاب موسى عليه السلام الذي اشتهر عند مشركى العرب وعرفوا بالسماع خبره.
الإيضاح
(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) فى الكلام تقدير لفظ (قل) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الناس : تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ووصاكم به وهو كذا وكذا - ثم قل لهم وأعلمهم أننا آتينا موسى الكتاب ... إلى آخره.
وقد تكرر فى الكتاب الكريم قرنه بالتوراة لما بينهما من التشابه ، فكل منهما شريعة كاملة ، والإنجيل والزبور ليسا كذلك ، فإن أكثر الإنجيل عظات وأمثال ، وأكثر الزبور ثناء ومناجاة - إلى أن العرب كانوا يعلمون أن اليهود لهم كتاب يسمى التوراة ، ولهم رسول يسمى موسى ، وأنهم أهل علم ، وكان يتمنى كثير من عقلائهم لو أتيح لهم كتاب كما أوتى اليهود التوراة ، وأنه لو جاءهم كتاب لكانوا أهدى منهم ، وأعظم انتفاعا به ، لما يمتازون به من الذكاء وحصافة العقل ورجاحة الرأى.(8/76)
ج 8 ، ص : 77
ولما أخبر سبحانه عن القرآن بقوله : « وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ » قفى بمدح التوراة ، كما جاء مثل هذا فى قوله : « وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً ، وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا » وقوله : « قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ » ثم قال : « وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ » الآية.
وهذه الوصايا العشر التي فى الآيات الثلاث ، والتي لها نظير فى سورة الإسراء - كانت أول ما نزل بمكة قبل تفصيل أحكام العبادات والمعاملات فى السور المدينة ، وكذلك كانت أول ما نزل على موسى من أصول دينه ، لكن وصايا القرآن أجمع للمعانى فهى تبلغ العشرات إذا فصلت.
وهذه الوصايا وما أشبهها هى أصول الأديان على ألسنة الرسل ، يرشد إلى ذلك قوله : « شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى » .
وليس هذا الدين المشترك الذي أوصى به هؤلاء الرسل الكرام إلا التوحيد ومكارم الأخلاق والتباعد عن الفواحش والمنكرات.
(تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أي آتيناه الكتاب تماما للنعمة والكرامة على من أحسن فى اتباعه واهتدى به ، كما جاء فى قوله : « وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا » وقوله : « وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً » .
وقد يكون المعنى - آتيناه الكتاب تماما كاملا جامعا لما يحتاج إليه من الشرائع كقوله « وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ » .
(وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ) أي مفصلا لكل شىء من أحكام الشريعة عباداتها ومعاملاتها ، مدنية كانت أو حربية أو جنائية ، وهذا كقوله فى صفة القرآن :
« وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ » .(8/77)
ج 8 ، ص : 78
(وَهُدىً وَرَحْمَةً) أي ودليلا من دلائل الهداية إلى الحق ، وسببا من أسباب الرحمة لمن اهتدى به ، فينجيه اللّه من الضلال ، وعمى الحيرة.
(لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أي آتيناه الكتاب جامعا لكل ما ذكر ، ليجعل قومه محل رجاء للإيمان باللّه تعالى ، وموضع الفوز فى دار الكرامة ، تلك الدار التي أعدها اللّه لمن اهتدى بوحيه.
وبعد أن وصف التوراة بتلك الصفات وصف القرآن الكريم فقال :
(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) أي وهذا القرآن الذي تليت عليكم أوامره ونواهيه - كتاب عظيم شأنه ، أنزلناه بواسطة الروح الأمين ، كما أنزلنا الكتاب على موسى ، وهو مبارك أي كثير الخير دينا ودنيا ، جامع لأسباب الهداية الدائمة ، وقد جاء بأكثر مما فى كتاب موسى من تفصيل لهدى البشر فى معاشهم ومعادهم.
(فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي فاتبعوا ما هداكم إليه ، واتقوا ما نهاكم عنه ، وحذركموه ، لتكون رحمته مرجوّة لكم فى الدنيا والآخرة.
(أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) الدراسة : القراءة والعلم كما جاء فى قوله : « ودرسوا ما فيه » أي علموا ما فيه ولم يأتوه بجهالة.
أي أنزلنا إليك الكتاب المرشد إلى توحيد اللّه ، وطريق طاعته ، وتزكية النفوس من أدران الشرك ، لئلا تقولوا يوم الحساب والجزاء معتذرين عن شرككم وإجرامكم :
إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ، وهما اليهود والنصارى ، وقد كنا عن تلاوتهم للكتاب الذي أنزل عليهم غافلين ، لا ندرى ما هى لعدم فهمنا ما يقولون لأنها بلسان غير لساننا ، ولأنهم أهله دوننا ، ولأنا لم نؤمر بما فيه ، ولغلبة الأمية علينا.
(أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) أي ولئلا تقولوا :
لو أنا أنزل علينا الكتاب كما أنزل على هاتين الطائفتين قبلنا ، فأمرنا بما فيه ونهينا(8/78)
ج 8 ، ص : 79
عما نهى عنه ، وبيّن لنا خطأ ما نحن فيه - لكنا أهدى منهم ، لأنا أذكى منهم أفئدة وأمضى عزيمة ، وقد حكى اللّه عنهم مثل هذا فى قوله : « وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ » أي من إحدى الأمم المجاورة من أهل الكتاب.
فرد اللّه عليهم بجواب قاطع لكل تعلّة دافع لكل اعتذار فقال :
(فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) البينة فى اللغة ما بيّن الحق ، أي فقد جاءكم كتاب مبين للحق بالحجج والبراهين فى العقائد والفضائل والآداب وأمهات الأحكام بما به تصلح أمور البشر وشئون الاجتماع ، وهو هاد لمن تدبره وتلاه حق تلاوته إذ يجذب ببلاغته وبيانه قلوب الناظرين فيه إلى الحق الذي فصله أتمّ تفصيل ، وإلى عمل الخير والصلاح الذي بين فوائده ومنافعه ، وهو رحمة عامة لمن يستضيئون بنوره ، وتنفذ فيهم شريعته ، إذ هم يكونون فى ظلها آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ، أحرارا فى عقائدهم وعباداتهم ، يعيشون فى بيئة خالية من الفواحش والمنكرات.
وبعد أن بين عظيم قدر هذا الكتاب بين سوء عاقبة من كذب به فقال :
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها) صدف ، أعرض : أي وإذا كانت هذه الآيات مشتملة على الهداية الكاملة ، والرحمة الشاملة ، فلا أظلم ممن كذب بها وأعرض عنها ، أو لم يكتف بذلك ، بل صرف الناس عنها كما كان يفعل كبراء مجرمى قريش بمكة ، فقد كانوا يصدفون العرب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ويحولون بينه وبينهم ، لئلا يسمعوا منه القرآن فينجذبوا إلى الإيمان.
ونحو الآية قوله : « وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ » .
(سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) أي سنجزى الذين يصدفون الناس عن آياتنا ويردّونهم عن الاهتداء بها سوء العذاب بسبب ما كانوا يجرون عليه من الصّدف عنها ، إذ هم بذلك يحملون أوزارهم وأوزار من صدفوهم عن الحق ، وحالوا بينهم وبين الهداية.(8/79)
ج 8 ، ص : 80
ونحو الآية قوله : « الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ » أي زدناهم عذابا شديدا بصدهم الناس عن سبيل اللّه فوق العذاب على كفرهم بسبب إفسادهم فى الأرض بهذا الصدّ عن الحق.
[سورة الأنعام (6) : آية 158]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أنه إنما أنزل الكتاب إزالة للعذر ، وإزاحة للعلة ، وقرن هذا الإعذار بالإنذار الشديد والوعيد بسوء العذاب.
قفى على ذلك ببيان أنه لا أمل فى إيمانهم البتة ، وفصل ما أمامهم وأمام غيرهم من الأمم وما ينتظرونه فى مستقبل أمرهم وأنه غير ما يتمنون من موت الرسل وانطفاء نور الإسلام بموته صلوات اللّه عليه.
الإيضاح
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) ينظرون أي ينتظرون ، والمراد بالملائكة ملائكة الموت الذين يقبضون أرواحهم ، والمراد بإتيان اللّه إتيان ما وعد به من النصر لأحبابه وأوعد به أعداءه من العذاب فى الدنيا كما جاء فى قوله : « فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا » الآية. وإتيان أمره هو جزاؤهم على نحو ما جاء فى قوله : َلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ(8/80)
ج 8 ، ص : 81
أَمْرُ رَبِّكَ ؟ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ »
.
والخلاصة - إنهم لا ينتظرون إلا أحد أمور ثلاثة : مجىء الملائكة أو مجىء ربك بحسب ما اقترحوا بقولهم : « لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا » وقولهم :
« أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا » وقولهم : أو مجىء بعض آيات ربك غير ما ذكر كما اقترحوا بقولهم : « أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً » ونحو ذلك من الآيات العظام التي علقوا بها إيمانهم.
وفى الآية إيماء إلى تماديهم فى تكذيب آيات اللّه ، وعدم اعتدادهم بها وأنه لا أمل فى إيمانهم البتة.
(يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) أي يوم يأتى بعض آيات ربك الموجبة للإيمان الاضطراري لا ينفع نفسا لم تكن آمنت من قبل أن تؤمن حينئذ ، ولا نفسا لم تكن كسبت فى إيمانها خيرا وعملا صالحا أن تفعل ذلك بعد مجيئها ، لبطلان التكليف الذي يترتب عليه ثواب الأعمال ، إذ التكليف يستدعى الإرادة والاختيار بالتمكن من الإيمان والكفر وعمل الخير والشر ، وبذا يكون الثواب والعقاب.
وبعض هذه الآيات قد يطلع عليه الأفراد عند الغرغرة قبل خروج الروح ، وبعضها لا يطلعون عليه إلا قبيل يوم القيامة حين مجىء أشراط الساعة.
وقد وردت أحاديث منها الصحيح ومنها الضعيف الذي لا يصلح وحده أن يكون حجة ، أن المراد ببعض الآيات هو طلوع الشمس من مغربها قبيل تلك القارعة التي ترج الأرض رجا وتبس الجبال بسا ، ويبطل هذا النظام الشمسى بحدوث حادث تتحول فيه حركة الأرض اليومية ، فيكون الشرق غربا والغرب شرقا. أخرج البخاري فى تاريخه وأبو الشيخ فى العظمة وابن عساكر عن كعب الأحبار قال : « إذ أراد اللّه(8/81)
ج 8 ، ص : 82
أن تطلع الشمس من مغربها أدارها بالقطب (يريد المحور) فجعل مشرقها مغربها ومغربها مشرقها » .
و
روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون ، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا » .
وأخرج أحمد والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا « ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض » .
(قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أي قل لهم : انتظروا أيها المعاندون وما تتوقعون إتيانه ووقوعه بنا من اختفاء أمر الإسلام. إنا منتظرون وعد ربنا لنا ووعيده لكم ، ونحو الآية قوله : « فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ، قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ » .
وفى هذا من التهديد والوعيد ما لا يخفى ، وهو كقوله : « وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ » .
[سورة الأنعام (6) : آية 159]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159)
المعنى الجملي
بعد أن وصّى سبحانه هذه الأمة على لسان رسوله باتباع صراطه المستقيم ، ونهى عن اتباع غيره من السبل ، ثم ذكر شريعة التوراة المشابهة لشريعة القرآن ووصاياه ، ثم تلا ذلك تذكيره لهم ولسائر المخاطبين بالقرآن بما ينتظر آخر الزمان من الحوادث الكونية للأفراد والأمم.(8/82)
ج 8 ، ص : 83
قفى على ذلك بتذكير هذه الأمة بما هى عرضة له بحسب سنن الاجتماع من إضاعة الدين بعد الاهتداء بالتفرق فيه بالمذاهب والآراء والبدع التي تجعلها أحزابا وشيعا تتعصب كل منها لمذهب أو إمام ، فيضيع الحق وتنفصم عرا الوحدة وتصبح بعد أخوّة الإيمان أمما متعادية كما حدث لمن قبلهم من الأمم.
وقد ذهب بعض مفسرى السلف إلى أن الآية نزلت فى أهل الكتاب إذ فرقوا دين إبراهيم وموسى وعيسى ، فجعلوه أديانا مختلفة ، وكل منها مذاهب تتعصب لها شيع مختلفة ، يتعادون ويتقاتلون فيه ، وذهب بعض آخر إلى أنها نزلت فى أهل البدع والفرق الإسلامية والمذاهب التي استحدثت فمزقت وحدة الأمة.
ولا مانع من الجمع بين الرأيين ، فإنه تعالى ذكر أهل الكتاب وشرعهم وأمر من استجاب لدعوة الإسلام بالوحدة وعدم التفرق كما تفرق من قبلهم ، كما جاء فى سورة آل عمران : « وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ » ثم بين أن رسوله برىء من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كما فعل أهل الكتاب ، فهو يحذر من صنيعهم ، وينهى عن سلوك طريقهم ، فمن اتبع سنتهم فى هذا التفريق فالرسول برىء منه ، كما هو برىء من أولئك المفرقين من سالفى الأمم.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : اختلفت اليهود والنصارى قبل أن يبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فلما بعث محمد أنزل عليه (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) الآية.
وأخرج رواة التفسير بالمأثور عن أبي هريرة فى قوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) الآية.
قال هم فى هذه الأمة. و
أخرج الترمذي وابن أبي حاتم والبيهقي وغيرهم عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لعائشة : « يا عائش إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليست لهم توبة ، يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة إلا أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليس لهم توبة ،(8/83)
ج 8 ، ص : 84
أنا منهم برىء وهم منى برءاء »
وليس المراد بنفي التوبة عنهم أنهم لا تقبل لهم توبة إذا ظهر لهم خطؤهم وعرفوا بدعتهم فرجعوا وتابوا إلى ربهم ، بل المراد أنهم لا يتوبون لزعمهم أنهم على الصواب ، وسواهم على الباطل.
والخلاصة - إن المراد بالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أهل الكتاب ، والمقصود من براءة الرسول منهم تحذير أمته من مثل فعلهم ، ليعلم أن من فعل فعلهم وحذا حذوهم من هذه الأمة فالرسول منه برىء ، إذ ما ورد فى الكتاب والسنة من صفات الكفار وأفعالهم ليس خاصا بهم ، بل إذا اتصف المسلمون بمثل ما اتصفوا به كان حكمهم كحكمهم ، لأن اللّه لا يبيح للمسلمين البدع والضلالات والتفرق فى الدين لأنهم مسلمون ، فإن ذلك يكون هدما لأسس الدين ، وخروجا من سنن المهتدين.
ولدى التحقيق والبحث نجد أن أسباب التفرق فى هذه الأمة فى دينها وتبعه ضعفها فى دنياها ترجع إلى أمور :
(1) التنازع على الملك ، وقد حدث هذا من بدء الإسلام واستمر حتى وقتنا هذا.
(2) العصبية الجنسية والنّعرة القومية فى كل شعب وقبيل ، إذ شمخ كل شعب بأنفه وأبي أن يخضع لغيره اعتقادا منه أنه أرقى الشعوب أرومة ، وأرفعها محتدا ، فأنى له أن ينقاد لسواه ؟
(3) عصبية المذاهب والآراء فى أصول الدين وفروعه ، فأرباب المذاهب من الشيعة ذمّوا بقية المذاهب الأخرى كالحنفية والشافعية ، ورجال الحديث تكلموا فى أهل القياس.
(4) القول فى الدين بالرأى ، فإن كثيرا ممن يركن إليهم فى الفتيا واستنباط الأحكام الدينية ضعيف عن حمل السنة والتفقه فى فهم الكتاب ، فإذا عرضت له حادثه ولم يفطن إلى مأخذها من الكتاب أو السنة أفتى فيها بالرأى ، وقد يكون(8/84)
ج 8 ، ص : 85
مصادما للدليل النقلى أو لفتاوى الصحابة والتابعين - إلى أن آراء الناس تختلف باختلاف الزمان والمكان وشئون المعيشة وأحوال الاجتماع ، فأنى تتفق الألوف الكثيرة من الشعوب المختلفة فى الأزمنة المتعاقبة ؟
(5) دسائس أعداء هذا الدين وكيدهم له ووضع كثير من الأحاديث التي نفقت لدى بعض رجال الدين واتخذوها مرجعا فى استنباط بعض الأحكام ، والدين منها براء.
(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ) أي إن الذين فرقوا دينهم فأقرّوا ببعض وكفروا ببعض كما فعلت اليهود والنصارى ، إذ تفرقوا فرقا وكفّر بعضهم بعضا ، وأخذوا بعضا وتركوا بعضا كما أخبر بذلك الكتاب الكريم بقوله :
« أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ » .
وقوله : لست منهم فى شىء ، أي إنك بعيد من أقوالهم ومذاهبهم ، واللّه يتولى جزاءهم ، كما قال : (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي إنه تعالى هو الذي يجازيهم على مفارقة دينهم والتفريق له بما اقتضت به سنة اللّه من ضعف المتفرقين وفشل المتنازعين ، وتسليط الأقوياء عليهم ، وإذاقة بعضهم بأس بعض كما بين ذلك سبحانه بقوله : « فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ » أي إنه بعد أن يعذبهم بأيديهم وأيدى أعدائهم فى الدنيا يبعثهم فى الآخرة ، ثم ينبئهم عند الحساب بما كانوا يفعلون فى الدنيا من الاختلاف والتفرق اتباعا للأهواء ثم يجازيهم على ذلك أشد الجزاء فى النار وبئس القرار.
[سورة الأنعام (6) : آية 160]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)(8/85)
ج 8 ، ص : 86
المعنى الجملي
بعد أن بين فى السورة أصول الإيمان ، وأقام عليها البراهين ، وفنّد ما يورده الكفار من الشبهات ، ثم ذكر فى الوصايا العشر أصول الفضائل والآداب التي يأمر بها الإسلام وما يقابلها من الرذائل والفواحش التي ينهى عنها.
بين هنا الجزاء العام فى الآخرة على الحسنات وهى الإيمان والأعمال الصالحة ، وعلى السيئات وهى الكفر والفواحش ما ظهر منها وما بطن.
الإيضاح
(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) أي من جاء ربه يوم القيامة بالخصلة الحسنة من خصال الطاعات التي فعلها وقلبه مطمئن بالإيمان فله عنده عشر حسنات أمثالها من عطائه غير المحدود.
وهذه العشر لا يدخل فيها ما وعد به من المضاعفة لمن يشاء على بعض الأعمال كالنفقة فى سبيله ، إذ قد وعد بالمضاعفة عليها دون قيد فى قوله : « إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ » ووعد بمضاعفة كثيرة فى قوله : « مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً » ووعد بالمضاعفة سبعمائة ضعف فى قوله : « مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ، وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ » .
وفى هذا إشارة إلى تفاوت المنفقين وغيرهم من المحسنين فى الصفات النفسية كالإخلاص فى النية والاحتساب عند اللّه والإخفاء سترا على المعطى وتباعدا من الشهرة ، والإبداء لحسن القدوة ، وتحرى المنافع والمصالح ، وما يقابل ذلك من الصفات الرذيلة كالرياء وحب الشهرة الباطلة والمنّ والأذى.(8/86)
ج 8 ، ص : 87
والخلاصة - إن العشرة تعطى لكل من أتى بالحسنة ، والمضاعفة فوقها تختلف بحسب مشيئته تعالى بما يعلم من أحوال المحسنين ، فمن بذل الدرهم ونفسه كئيبة على فقده ، لا تكون حاله كمن يبذله طيّبة به نفسه ، مسرورة بتوفيق اللّه على عمل الخير ونيل ثواب الآخرة.
(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) أي ومن جاء بالخصلة السيئة وعليها طابع الكفر ، تكنفها الفواحش والمنكرات ، فلا يجزى إلا عقوبة سيئة مثلها بحسب سننه تعالى فى تأثير الأعمال السيئة فى إفساد النفس وتدسيتها.
(وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ) الظلم النقص من الشيء كما جاء فى قوله تعالى : « كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً » أي إن كلا الفريقين فاعلى الحسنات والسيئات لا يظلم يوم الجزاء لا من اللّه لأنه منزّه عن الظلم عقلا ونقلا
فقد روى مسلم من حديث أبى ذر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال : « يا عبادى ، إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا »
الحديث ، ولا من غيره إذ لا سلطان لأحد من خلقه ولا كسب فى ذلك اليوم يمكنه من الظلم كما يفعل الأقوياء الأشرار فى الدنيا بالضعفاء ،
وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فيما يرويه عن ربه قال : « إن اللّه تعالى كتب الحسنات والسيئات ، فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها اللّه له عنده حسنة كاملة ، فإن هو همّ بها فعملها كتبها اللّه عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها اللّه له عنده حسنة كاملة ، فإن هو همّ بها فعملها كتبها اللّه سيئة واحدة » .
والمراد من كتابة اللّه لها أمره الملائكة بكتابتها كما
ورد فى حديث أبي هريرة مرفوعا قال : « يقول اللّه : إذا أراد عبدى أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها ، فإن عملها فاكتبوها عليه بمثلها ، وإن تركها من أجلى فاكتبوها له حسنة ، وإن أراد(8/87)
ج 8 ، ص : 88
أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف »
وفى هذا الحديث بيان للسبب فى كتابة السيئة حسنة ، وأن ذلك إنما كان لمخالفة النفس بكفها عن عمل السيئة من أجل ابتغاء رضوان اللّه واتقاء سخطه وعذابه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 161 الى 165]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
تفسير المفردات
قيما ، أي يقوم به أمر الناس فى معاشهم ومعادهم ، حنيفا أي مائلا عن الأديان الباطلة ، والنسك : العبادة ، ومحياى ومماتى للّه : أي وما آتيه فى حياتى وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح كله للّه رب العالمين ، الوزر لغة الحمل الثقيل ، ووزره يزره حمله يحمله ، والخلائف واحدهم خليفة ، وهو من يخلف من كان قبله فى مكان أو عمل أو ملك ، والابتلاء الاختبار والامتحان.(8/88)
ج 8 ، ص : 89
المعنى الجملي
لما كانت هذه السورة أجمع السور لأصول الدين مع إقامة الحجج عليها ودفع الشبه عنها ، وإبطال عقائد أهل الشرك وخرافاتهم - جاءت هذه الخاتمة آمرة له صلى اللّه عليه وسلم بأن يقول لهم قولا جامعا لجملة ما فصّل فيها - وهو أن الدين القيم والصراط المستقيم هو ملة إبراهيم دون ما يدعيه المشركون وأهل الكتاب المحرّفون ، وأنه صلى اللّه عليه وسلم مستمسك به معتصم بحبله يدعو إليه قولا وعملا على أكمل الوجوه ، وهو أول المخلصين وأخشع الخاشعين ، وهو الذي أكمل هذا الدين بعد انحراف جميع الأمم عن صراطه.
ثم بين أن الجزاء عند اللّه على الأعمال ، وأن لا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن المرجع إليه تعالى وحده ، وأن له سننا فى استخلاف الأمم واختبارها بالنعم والنقم ، وأن اللّه وحده ، هو الذي يتولى عقاب المسيئين ورحمة المحسنين ، فلا ينبغى الاتكال على الوسطاء ولا الشفعاء بين اللّه والناس فى غفران الذنوب وقضاء الحاجات كما هى عقيدة أهل الشرك أجمعين.
الإيضاح
(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي قل أيها الرسول لقومك ولسائر البشر : إن ربى أرشدنى بما أوحاه إلىّ بفضله ، إلى صراط مستقيم لا عوج فيه ولا اشتباه ، يهدى سالكه إلى سعادة الدنيا والآخرة ، وهو الذي يدعوكم إلى طلبه منه حين تناجونه فتقولون : « اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ » .
(دِيناً قِيَماً) أي إن هذا الصراط المستقيم هو الدين الذي به يقوم أمر الناس فى معاشهم ومعادهم ، وبه يصلحون.
(مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أي الزموا ملة إبراهيم حال كونه حنيفا مائلا عن جميع ما سواه من الشرك والباطل.(8/89)
ج 8 ، ص : 90
(وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي إنه منزه عن الشرك وما عليه المبطلون ، وفيه تكذيب لأهل مكة القائلين إنهم على ملة إبراهيم وهم يعتقدون أن الملائكة بنات اللّه ، ولليهود الذين يقولون : عزير ابن اللّه ، وللنصارى الذين يقولون : عيسى ابن اللّه ، وهذا كقوله :
« وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا » .
هذا الدين هو دين الإخلاص للّه وحده ، وهو الدين الذي بعث به جميع رسله وقرره فى جميع كتبه ، وجعله ملة إبراهيم لأنه هو النبي الذي أجمع على الاعتراف بفضله وصحة دينه مشركو العرب وأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وكانت قريش ومن لفّ لفّها من العرب يسمون أنفسهم الحنفاء مدّعين أنهم على ملة إبراهيم ، وهكذا فعل أهل الكتاب حين ادّعوا اتباعه واتباع موسى وعيسى عليهما السلام كما قال :
« ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » .
(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) المراد بالصلاة ما يشمل المفروض منها والمستحب ، والنسك ، العبادة ، والناسك : العابد ، وكثر استعماله فى عبادة الحج ، والمراد من كون محياه ومماته للّه أنه قد وجه وجهه وحصر نيته وعزمه فى حبس حياته لطاعته ومرضاته وبذلها فى سبيله ، فيموت على ذلك كما يعيش.
والآية جامعة لكل الأعمال الصالحة التي هى غرض المؤمن الموحد من حياته وذخيرته لمماته ، ويكون فيها الإخلاص للّه رب العالمين.
فينبغى للمؤمن أن يوطن نفسه على أن تكون حياته للّه ومماته للّه ، فيتحرى الخير والصلاح والإصلاح فى كل عمل من أعماله ، ويطلب الكمال فى ذلك لنفسه رجاء أن يموت ميتة ترضى ربه ، ولا يحرص على الحياة لذاتها ، فلا يرهب الموت : فيمتنع عن الجهاد فى سبيل اللّه ، كما أن عليه أن يقيم ميزان العدل فيأخذ على أيدى أهل الجور ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.(8/90)
ج 8 ، ص : 91
وأفرد الصلاة بالذكر مع دخولها فى النسك ، لأن روحها وهو الدعاء وتعظيم المعبود وتوجه القلب إليه والخوف منه ، مما يقع فيه الشرك ممن يغلون فى تعظيم الصالحين وما يذكر بهم كقبورهم وصورهم وتماثيلهم.
والخلاصة - إنه لا ينبغى أن تكون العبادة إلا للّه رب العباد وخالقهم ، فمن توجه إليه وإلى غيره من عباده المكرمين أو إلى غيرهم مما يستعظم من خلقه كان مشركا ، فاللّه لا يقبل من العبادة إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم.
(لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ ، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أي لا شريك له فى ربوبيته فيستحق أن يشركه فى العبادة ويتوجه إليه معه للتأثير فى عبادته ، وبذلك أمرنى ربى ، وأنا أول المسلمين المنقادين إلى امتثال ما أمره به ، وترك ما نهى عنه.
وفى هذا بيان إجمالي لتوحيد الألوهية بالعمل بعد بيان أصل التوحيد فى العقيدة ، ثم انتقل إلى برهانه الأعلى ، وهو توحيد الربوبية بما أمره به فقال :
(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ) أي أغير اللّه الذي خلق الخلق ورباهم - أطلب ربا آخر أشركه فى عبادتى له بدعائه والتوجه إليه ، لينفعنى أو يمنع الضر عنى أو ليقربنى إليه زلفى ، وهو تعالى رب كل شىء مما عبد ومما لم يعبد - فهو الذي خلق الملائكة والمسيح والشمس والقمر والكواكب والأصنام كما قال :
« وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ » .
وإذا كان اللّه هو الخالق والمدبر فكيف أسفّه نفسى وأكفر بربي بجعل المخلوق المربوب مثلى ربّا لى ، وجميع المشركين يعترفون بأن معبوداتهم مخلوقة للّه رب العالمين وخالق الخلق أجمعين.
(وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) أي ولا تكسب كل نفس إثما إلا كان عليها جزاؤه دون غيرها ، ولا تحمل نفس فوق حملها حمل نفس أخرى ، بل تحمل كل نفس حملها فحسب كما قال : « لَها ما كَسَبَتْ ، وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ » أي دون ما كسب أو اكتسب غيرها.(8/91)
ج 8 ، ص : 92
والخلاصة - إن الدين أرشدنا أن نجرى على ما أودعته الفطرة فى النفوس من أن سعادة الناس وشقاءهم فى الدنيا بأعمالهم ، والعمل يؤثر فى النفس التأثير الذي يزكّيها إن كان صالحا ، أو التأثير الذي يدسّيها ويفسدها إن كان سيئا ، والجزاء مبنى على هذا التأثير ، فلا ينتفع أحد ولا يتضرر بعمل غيره.
ومن كان قدوة صالحة فى عمل أو معلما له فإنه ينتفع بعمل من أرشدهم بقوله أو فعله زيادة على انتفاعه بأصل ذلك القول أو الفعل ، ومن كان قدوة سيئة فى عمل أو دالّا عليه ومغريا به ، فإن عليه مثل إثم من فعله ، وقد بين النبي صلى اللّه عليه وسلم هذا
بقوله : « من سن فى الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شىء ، ومن سن فى الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شى ء » رواه مسلم.
وهذه قاعدة من أصول كل دين بعث اللّه به رسله كما جاء فى سورة النجم :
« أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى » .
وهذه الوصية من أعظم دعائم الإصلاح فى المجتمع البشرى وهادمة لأسس الوثنية ، وهادية للناس جميعا إلى ما تتوقف عليه سعادتهم فى الدنيا والآخرة ، فإن العمل وحده هو وسيلة الفوز وطريق النجاة ، لا كما يزعم الوثنيون من طلب رفع الضر وجلب النفع بقوة من وراء الغيب ، وهى وساطة بعض المخلوقات الممتازة ببعض الخواص والمزايا بين الناس وربهم ، ليعطيهم ما يطلبون فى الدنيا بلا كسب ولا سعى من طريق الأسباب التي جرت بها سنته فى خلقه ، وليحملوا عنهم أوزارهم حتى لا يعاقبوا بها ، أو ليحملوا الخالق على رفعها عنهم وترك عقابهم عليها ، وعلى إعطائهم نعيم الآخرة وإنقاذهم من عذابها.
ومما ينتفع به المرء من عمل غيره - لأنه فى الحقيقة كأنه عمله إذ كان سببا فيه - دعاء أولاده ، وحجهم وتصدقهم عنه ، وقضاؤهم لصومه كما
ورد فى الحديث : « إذا مات(8/92)
ج 8 ، ص : 93
الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعوله » رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة.
ذاك أن اللّه قد ألحق ذرية المؤمنين بهم بنص الكتاب ، وصح فى السنة أن ولد الرجل من كسبه.
ومن هذا تعلم أن ما جرت به العادة من قراءة القرآن والأذكار وإهداء ثوابها إلى الأموات واستئجار القراء وحبس الأوقاف على ذلك - بدعة غير مشروعة ، وكذا إسقاط الصلاة ، إذ لو كان لذلك أصل فى الدين لما جهله السلف ، ولو علموه لما أهملوا العمل به.
(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي ثم إن رجوعكم فى الحياة الآخرة إلى ربكم دون غيره مما عبدتم من دونه ، فينبئكم بما كنتم تختلفون فيه من أمر أديانكم المختلفة ، ويتولى جزاءكم عليه وحده بحسب علمه وإرادته القديمين ، ويضل عنكم ما كنتم تزعمون من دونه.
ونحو الآية قوله : « إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ » .
(وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي إن ربكم الذي هو رب كل شىء هو الذي جعلكم خلائف هذه الأرض بعد أمم قد سبقت ، وفى سيرها عبر وعظات لمن ادكر وتدبر ، وكذلك هو قد رفع بعضكم فوق بعض درجات فى الغنى والفقر ، والقوة والضعف ، والعلم والجهل ، ليختبركم فيما أعطاكم أي ليعاملكم معاملة المختبر لكم فى ذلك ، ويبنى الجزاء على العمل ، إذ قد جرت سنته فى أن سعادة الناس أفرادا وجماعات فى الدنيا والآخرة أو شقاءهم فيهما تابعة لأعمالهم وتصرفاتهم.(8/93)
ج 8 ، ص : 94
وجاء فى معنى الآية قوله : « وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ » وقوله : « إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا » وقوله :
« وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ » .
(إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه تعالى سريع العقاب لمن كفر به أو كفر بنبيه وخالف شرعه وتنكّب عن سنته ، وهذا العقاب السريع شامل لما يكون فى الدنيا من الضرر فى النفس أو العقل أو العرض أو المال أو غير ذلك من الشئون الاجتماعية ، وهذا مطرد فى الدنيا فى ذنوب الأمم ، وأكثرىّ فى ذنوب الأفراد ، ومطرد فى الآخرة بتدسية النفس وتدنيسها.
وهو سبحانه على سرعة عقابه وشديد عذابه للمشركين ، غفور للتوابين رحيم بالمؤمنين المحسنين ، إذ سبقت رحمته غضبه ، ووسعت كل شىء ، ومن ثم جعل جزاء الحسنة عشر أمثالها ، وقد يضاعفها بعد ذلك أضعافا كثيرة لمن يشاء ، كما جعل جزاء السيئة سيئة مثلها ، وقد يغفرها لمن تاب منها كما قال : « وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ » .
نسأله تعالى أن يغفر لنا خطيئاتنا ويستر زلاتنا بمنه وكرمه ، إنه نعم المولى ونعم النصير.
خلاصة ما اشتملت عليه السورة من العقائد والأحكام
(1) العقائد وأدلتها بالأسلوب الجامع بين الإقناع والتأثير كبيان صفات اللّه بذكر أفعاله وسننه فى الخلق وآياته فى الأنفس والآفاق ، وتأثير العقائد فى الأعمال ، مع إيراد الحقائق بطريق المناظرة والجدل ، أو ورودها جوابا بعد سؤال وفى أثناء ذلك يرد شبهات المشركين ويهدم هياكل الشرك ويقوّض أركانه.
(2) الرسالة والوحى وتفنيد شبهات المشركين على الرسول صلى اللّه عليه وسلم وإلزامهم الحجة بآية اللّه الكبرى ، وهى القرآن المشتمل على الأدلة العقلية والبراهين(8/94)
ج 8 ، ص : 95
العلمية ، وقد كان كثير من الكفار مشركين وغير مشركين يكفرون بالرسل ويستبعدون إنزال الوحى عليهم.
(3) البعث والجزاء والوعد والوعيد بذكر ما يقع يوم القيامة من العذاب للمجرمين ، والبشارة للمتقين بالفوز والنعيم ، مع ذكر عالم الغيب من الملائكة والجن والشياطين والجنة والنار ، وقد كانت العرب كغيرها من الأمم تؤمن بالملائكة وبوجود الجن ويعتقدون بأنهم يظهرون لهم أحيانا بصورة الغيلان ويسمعون أصواتهم وعزفهم ، وأنهم يلقون الشعر فى هواجس الشعراء.
(4) أصول الدين ووصاياه الجامعة فى الفضائل والآداب والنهى عن الرذائل ، وإذا نحن فصلنا القول فيها نرجعها إلى الأصول الآتية :
(ا) إن دين اللّه واحد ، فتفريقه بالمذاهب والأهواء وجعل أهله فرقا وشيعا خروج عن هدى الرسول الذي جاء به وموجب لبراءته من فاعليه.
(ب) إن سعادة الناس وشقاوتهم منوطتان بأعمالهم النفسية والبدنية ، وأن الجزاء على الأعمال يكون بحسب تأثيرها فى الأنفس ، وأن الجزاء على السيئة بمثلها ، وعلى الحسنة بعشر أمثالها فضلا من اللّه ونعمة ، وجزاء السيئات على الإنسان وحده ، وجزاء الحسنات له وحده فلا يحمل أحد وزر غيره.
(ح) إن الناس عاملون بالإرادة والاختيار ، ولكنهم خاضعون للسنن والأقدار ، فلا جبر ولا اضطرار ، ولا تعارض بين عملهم باختيارهم ومشيئة الخالق سبحانه ، إذ المراد من خلقه الأشياء بقدر وتقدير أنه تعالى خلقها على وجه جعل فيه المسببات على قدر الأسباب بناء على علم وحكمة ، فهو لم يخلق شيئا جزافا بغير تقدير ولا نظام يجرى عليه.
(د) إن للّه سننا فى حياة الأمم وموتها ، وسعادتها وشقائها ، وإهلاكها بمعاندة الرسل والظلم والفساد فى الأرض ، وتربيتها بالنعم تارة والنقم أخرى.
(ه) إن التحليل والتحريم وسائر الشعائر التعبدية من حق اللّه تعالى ، فمن وضع حكما لا يستند إلى شرع اللّه فقد افترى إثما عظيما.(8/95)
ج 8 ، ص : 96
(و) الأمر بالسير فى الأرض ، وقد تكرر ذلك فى الكتاب الكريم للنظر فى أحوال الأمم وعواقب الأقوام التي كذبت الرسل.
(ز) الترغيب فى معرفة ما فى الكون والإرشاد إلى معرفة سنن اللّه فيه ، وآياته الكثيرة الدالة على علمه وقدرته.
(ح) إن التوبة الصحيحة مع ما يلزمها من العمل الصالح موجبة لمغفرة الذنوب.
(ط) ابتلاء الناس بعضهم ببعض ، ليتنافسوا فى العلوم والأعمال النافعة ، وإعلاء كلمة الحق والدين ورفعة شأنه وإعزاز أهله.(8/96)
ج 8 ، ص : 97
سورة الأعراف
آيها خمس ومائتان ، وهى مكية ، وقد روى أنها نزلت قبل سورة الأنعام ، وأنها نزلت مثلها دفعة واحدة ، لكن سورة الأنعام أجمع لما اشتركت فيه السورتان ، وهو :
أصول العقائد وكليات الدين التي قدمنا القول فيها ، وهى كالشرح والبيان لما أوجز فى الأنعام ، ولا سيما عموم بعثة النبي صلى اللّه عليه وسلم وقصص الرسل قبله وأحوال أقوامهم ، وقد اشتملت سورة الأنعام على بيان الخلق كما قال : « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ » وبيان القرون كما قال : « كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ » وعلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم ، وجاءت هذه مفصلة لذلك ، فبسطت فيها قصة آدم ، وفصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3)
تفسير المفردات
(المص) هذه حروف تكتب بصورة كلمة من ذوات الأربعة الأحرف ، لكنا نقرؤها بأسماء هذه الأحرف فنقول : ألف. لام. ميم. صاد.
وحكمة افتتاح هذه السورة وأمثالها بأسماء الحروف التي ليس لها معنى مفهوم غير مسماها الذي تدل عليه - تنبيه السامع إلى ما سيلقى إليه بعد هذا الصوت من الكلام حتى لا يفوته منه شىء فكأنه أداة استفتاح بمنزلة ألا وها التنبيه.(8/97)
ج 8 ، ص : 98
وبالاستقراء نرى أن السور التي بدئت بها وبذكر الكتاب ، هى التي نزلت بمكة لدعوة المشركين إلى الإسلام وإثبات النبوة والوحى ، وما نزل منها بالمدينة كالزهراوين البقرة وآل عمران ، فالدعوة فيه موجهة إلى أهل الكتاب ، وهكذا الحال فى السور : مريم والعنكبوت والروم وص ون ، فإن ما فيها يتعلق بإثبات النبوة والكتاب كالفتنة فى الدين بإيذاء الضعفاء لإرجاعهم عن دينهم بالقوة القاهرة ، والإنباء بقصص فارس والروم ونصر اللّه للمؤمنين على المشركين ، وكان هذا من أظهر المعجزات الدالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم.
ويرى بعض العلماء أنها أسماء للسور ، والأسماء المرتجلة لا تعلّل ، كما يرى آخرون أن الحكمة فى ذكرها بيان إعجاز القرآن بالإشارة إلى أنه مركب من هذه الأحرف المفردة التي يتألف منها الكلام العربي ومع ذلك لا يستطيعون أن يأتوا بمثله ، ليؤديهم النظر إلى أنه ليس من كلام البشر ، بل من كلام خالق القوى والقدر والحرج :
الضيق من عاقبة المخالفة ، والذكرى : التذكر النافع والموعظة المؤثرة ، وولاية اللّه لعباده :
تولى أمورهم فبما لا يصل إليه كسبهم من هدايتهم ونصرهم على أعدائهم ، وشرعه لهم عبادته وبيان الحرام والحلال ، و(ما) فى قوله قليلا ما - حرف يؤكد معنى القلة ، وتذكرون : أصله تتذكرون حذفت منه إحدى التاءين.
الإيضاح
(كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي هذا القرآن كتاب أنزل إليك من عند ربك ، ووصفه بالإنزال من عنده تعالى - دال على عظيم قدره وقدر من أنزل إليه.
(فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي لا يضق صدرك من الإنذار به وإبلاغه من أمرت بإبلاغه إليهم ، واصبر لأمرى فيما حمّلتك من عبء النبوة كما صبر أولو العزم من الرسل فإن اللّه معك.
وقد كلف صلى اللّه عليه وسلم هداية الثقلين وكان من المتوقع أن يلقى أشد الإيذاء(8/98)
ج 8 ، ص : 99
والمقاومة والطعن والإعراض ، وتلك أمور توجب ضيق الصدر كما قال فى سورة الحجر :
« وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ » وقال فى سورة النحل : « وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ، وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ » وقال فى سورة هود : « فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ، إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ » .
ويراد بالنهى عن مثل هذا الأمر الطبيعي - الاجتهاد فى مقاومته والتسلي عنه بوعد اللّه ، والتأسى بمن سبقه من الرسل أولى العزم صلوات اللّه عليهم أجمعين.
(لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) والمراد بالمؤمنين هنا من كتب اللّه لهم الإيمان ، سواء أ كانوا مؤمنين حين نزول هذه السورة أم لا.
والخلاصة - إنه أنزل إليك الكتاب لتنذر به قومك وسائر الناس ، وتذكر به أهل الإيمان ذكرى نافعة مؤثرة.
(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قل لهم أيها الرسول : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وخالقكم ومدبر أموركم ، فهو وحده الذي له الحق فى شرع الدين لكم وفرض العبادات عليكم ، وتحليل ما ينفعكم وتحريم ما يضركم ، إذ هو العليم بما فيه الفائدة أو الضر لكم.
(وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي ولا تتخذوا من أنفسكم ولا من الشياطين الذين يوسوسون لكم - أولياء تولونهم أموركم وتطيعونهم فيما يرومون منكم من ضلال التقاليد والابتداع فى الدين ، فيضعوا لكم أحكام الحرام والحلال زاعمين أنهم أعلم منكم ، فيجب عليكم تقليدهم ، ولا أولياء ينجونكم من الجزاء على ذنوبكم وجلب النفع لكم أو رفع الضر عنكم ، زاعمين أنهم يقربونكم إلى اللّه زلفى ، أو يشفعون لكم عنده فى الآخرة.(8/99)
ج 8 ، ص : 100
والخلاصة - إن اللّه وحده هو الذي يتولى أمر العباد بالتدبير ، والخلق والتشريع ، وله وحده الخلق والأمر ، وبيده النفع والضر.
(قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ) أي إنكم تتذكرون قليلا لا كثيرا ما يجب أن يعلم للرب سبحانه ، وما يحظر أن يشرك معه فيه غيره ، وقد يكون المراد قليلا ما تتعظون بما توعظون به ، فترجعون عن تقاليدكم وأهوائكم إلى ما أنزل إليكم من ربكم.
وفى هذا إيماء إلى النهى عن طاعة الخلق فى أمر الدين غير ما أنزل اللّه من وحيه كما فعل أهل الكتاب فى طاعة أحبارهم ورهبانهم فيما أحلوا لهم وزادوا على الوحى من العبادات ، وما حرموا عليهم من المباحات كما جاء فى قوله : « اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ » فكل من أطاع أحدا فى حكم شرعى لم ينزله اللّه فقد اتخذه ربا.
واتباع الرسول صلى اللّه عليه وسلم فيما صح عنه من بيان الدين - داخل فى عموم ما أنزل إلينا على رسوله ، لأنه تعالى أمرنا باتباعه وطاعته وأخبرنا أنه مبين لما نزل إليه كما قال : « وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ » وقد صح
فى الحديث أنه صلى اللّه عليه وسلم قال : « إنما أنا بشر ، إذا أمرتكم بشىء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشىء من رأيى فإنما أنا بشر » رواه مسلم عن رافع بن خديج
فى مسألة تأبير النخل (تلقيح النخلة بطلع الذكر).
[سورة الأعراف (7) : الآيات 4 الى 5]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5)
تفسير المفردات
(كَمْ) اسم يفيد التكثير ، والقرية : تطلق على الموضع الذي يجتمع فيه الناس وعلى الناس معا ، وتطلق على كل منهما كما جاء فى قوله : « وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ » أي أهل(8/100)
ج 8 ، ص : 101
القرية ، والقرية هنا تصلح لأن يراد بها القوم أنفسهم ، وأن يراد بها المكان لأنه يهلك كما يهلك أهله ، والبيات : الإغارة على العدو ليلا والإيقاع به على غرّة ، والبأس : العذاب والقائلون : هم الذين ينامون استراحة وسط النهار أي حين القائلة يقال : قال يقيل قيلا وقيلولة ، والدعوى : ما يدعيه الإنسان ، وتطلق على القول أيضا.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فيما سلف أنه أنزل الكتاب إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم لينذر به الناس ويكون موعظة وذكرى لأهل الإيمان ، وأنه طلب إليه أن يأمر الناس باتباع ما أنزل إليهم من ربهم وألا يتبعوا من دونه أحدا يتولونه فى أمر التشريع - أردف هذا التخويف من عاقبة المخالفة لذلك ولما يتبعه من أصول الدين وفروعه ، والتذكير بما حل بالأمم قبلهم بسبب إعراضهم عن الدين وإصرارهم على أباطيل أوليائهم.
الإيضاح
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) أي وكثير من القرى أهلكناها لعصيانها رسلها فيما جاءوها به من عند ربها ، وكان هلاكها إما حين البيات ليلا كقوم لوط ، وإما حين القائلة وهم آمنون نهارا كقوم شعيب ، وكلا الوقتين وقت دعة واستراحة لم تكن تنتظر فيه كل منهما هلاكا ولا عذابا ، فلا يجمل بالعاقل أن يأمن غدر الليالى ولا خدع الأيام ولا يغتر بالرخاء فيعدّه علامة على أنه مستحق له فهو مظنة الدوام.
وفى ذلك تعريض بغرور كفار قريش بقوتهم وثروتهم وعزهم وعصبيتهم ، وأن ذلك من دلائل رضا اللّه عنهم كما قال تعالى حكاية عنهم : « وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ » .(8/101)
ج 8 ، ص : 102
(فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي فما كان دعاؤهم واستغاثتهم حين جاءهم العذاب إلا أن اعترفوا بظلمهم فيما كانوا عليه ، وشهدوا ببطلانه ، تحسرا وندامة وطمعا فى الخلاص ولكن أنى ينفع الندم ، وقد أزفت الآزفة ، ليس لها من دون اللّه كاشفة ؟ .
وفى الآية من العبرة - أن كل مذنب يقع عليه عقاب ذنب فعله فى الدنيا ، يعترف بجرمه ويندم على ما قرط منه إذا هو علم أنه سبب العقاب ، وقلما يشعر المرء بعقاب فى الدنيا على الذنوب ، لأنه يأتى على التراخي غالبا فالأمراض التي تتولد من شرب الخمر كأمراض القلب والكبد والجهاز التناسلى وضعف النسل واستعداده للأمراض إلى نحو ذلك من الأمراض الجسدية والعقلية تحصل ببطء ، وقلما يعرفها غير الأطباء ومن ثم لا يشعر بها السكارى وإنما يشعرون بما يعقب الشرب من صداع وغثيان يسهل عليهم احتماله وترجيح لذة النشوة عليه.
إلى أنه لو علمها بعد فقلما يفيد علمه بها شيئا بعد بلوغ تأثيرها هذه الدرجة فى السكر حتى تحمله على التوبة ، إذ داء الخمار يزمن ، وحب السكر يضعف الإرادة.
وعقاب الأفراد على الذنوب فى الدنيا لا يطرد ، كما يطرد فى الأمم ، فعقابها فى الدنيا على ما تجترح - حتم لا شبهة فيه ، ولكن له آجال ومواقيت أطول مما يكون فى الأفراد ، ويختلف باختلاف أحوال الأمة فى القوة والضعف ، فأمة نشأ فيها الظلم والطغيان وعدمت الثقة بين أفرادها واختل نظام الأمن فيها وكثر فيها الفسق والفجور - تسوء حالها وتنحلّ قواها وتتفكك روابط الألفة والمودة بين أفرادها وتضعف منعتها ، فتحسب أهلها جميعا وقلوبهم شتى ، ولا يزال أمرها يأخذ فى التدهور والفساد حتى يستولى عليها العدو القاهر ويمتص ثروتها ويجعل أهلها أذلة مستضعفين ، وقلما تشعر أمة بعاقبة ذنوبها قبل وقوع العقوبة ، كما لا يجديها نفعا أن يقول حكماؤها :
يا ويلنا إنا كنا ظالمين. وربما عمها الجهل ، وران على قلوبها الفساد ، فلا تشعر بأن ما حل بها إنما كان جزاء وفاقا ، ونكالا من اللّه على ما قدمت من عمل ، واقترفت من إثم ،(8/102)
ج 8 ، ص : 103
فترضى باستذلال الغاصب كما رضيت من قبل بما اجترحت من الآثام والذنوب وقد يكون ذلك سبيلا لا نقراضها بما يعقبه الفسق والفجور من قلة النسل ، ولا سيما إذا فشا الزنا والسكر ، أو تبقى فيها بقية تدّغم فى الكثرة الغالبة ، فلا تعد أمة على سبيل الاستقلال ، وربما توالت عليها المصايب والآثام حتى تضيق بها ذرعا فتطلب لها مخرجا وترجع إلى الوراء لتبحث عن أسبابها فلا تجدها إلا فى أنفسها كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى : « وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ » .
وإذا أرادت لها علاجا وتمنت لها دواء من دائها الدوىّ وتلفتت يمنة ويسرة سرا وعلانية لم تجده إلا ما وصفه الكتاب الكريم : « إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ » ولن يكون ذلك إلا بالإقلاع عما ترتكب من الجرائم والتوبة الصادقة والعمل الطيب الذي به تصلح القلوب وتستقيم الأمور ، وهاكم ما قاله العباس عم النبي صلى اللّه عليه وسلم حين توسل به عمر والصحابة بتقديمه لصلاة الاستسقاء لما انقطع الغيث وعم الجدب : اللهم إنه لا ينزل بلاء إلا بذنب ، ولا يرفع إلا بتوبة.
وفى هذا عبرة أيّما عبرة للشعوب الإسلامية التي ثلّت عروشها ، وخوت صروح عظمتها ، وقد كانت أجدر بهدى القرآن ، ولكن أنى لها بذلك ، وقد هجره الخاصة وتبعهم العامة ، إذ جهلوا أحكامه وحكمه ، حتى لقد بلغ الأمر بنابتتها ، ألا ترى سببا لركود ريحها إلا اتباع القرآن والعمل بهذا الدين « كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً » .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 6 الى 9]
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)(8/103)
ج 8 ، ص : 104
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه الرسل فى الآية السالفة بالتبليغ وأمر الأمم بالقبول والمتابعة ، وذكّرهم بعذاب الأمم التي عاندت الرسل فى الدنيا - قفّى على ذلك بذكر العذاب الآجل يوم القيامة ، وأنه فى ذلك اليوم يسأل كل إنسان عن عمله.
الإيضاح
(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) الذين أرسل إليهم : هم جميع الأمم الذين بلغتهم دعوة الرسل ، فيسأل تعالى كل فرد منهم فى الآخرة عن رسوله إليه وعن تبليغه لآياته ، ويسأل المرسلين عن تبليغهم وإجابة أقوامهم لهم وعما عملوا من إيمان وكفر ؟ وقد فصل هذا الإجمال فى آيات أخرى كقوله : ا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ؟ »
وقوله : « وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ » وقوله فى سورة الحجر :
« فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ » .
قال ابن عباس : نسأل الناس عما أجابوا المرسلين ، ونسأل المرسلين عما بلّغوه والمراد بالسؤال حينئذ تقريع الكفار وتوبيخهم.
ولا مخالفة بين هذه الآية التي تثبت السؤال العام وبين قوله تعالى : « فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ » وقوله : « وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ » لأن ليوم القيامة مواقف متعددة والسؤال والجواب والاعتذار يكون فى بعضها دون بعض.(8/104)
ج 8 ، ص : 105
وقال الرازي : إنهم لا يسألون عن الأعمال لأن الكتب قد أحصتها ، لكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال وعن الصوارف التي صرفتهم عنها ا ه.
يريد أنهم يسألون عن الموانع التي حالت بينهم وبين عمل ما طلب منهم عمله ، أو فعل ما طلب إليهم تركه.
(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) القصّ تتبع الأثر إما بالعمل كما فى قوله حكاية عن أم موسى « وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ » وإما بالقول كما فى قوله : « نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ » .
أي فلنقصن على الرسل وعلى أقوامهم الذين أرسلوا إليهم كل ما وقع من الفريقين قصصا بعلم منا محيط بكل ما كان منهم ، فلا يعزب عنا مثقال ذرة ، وقد روى عن ابن عباس أنه يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون.
(وَما كُنَّا غائِبِينَ) عنهم فى وقت من الأوقات ولا حال من الأحوال ، بل كنا معهم نسمع ما يقولون ونبصر ما يعملون ، ونحيط علما بما يسرون وما يعلنون ، كما قال تعالى : « وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ ، وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً »
.
وفى هذا إيماء إلى أن السؤال لم يكن للاستعلام والاستبانة لشىء مجهول عنه تعالى ، بل للإعلام والإخبار بما حدث منهم توبيخا لهم وتأنيبا على إهمالهم.
وهذا القصص هو الذي يكون به الحساب ويتلوه الجزاء ، وقد دل عليه الكتاب الكريم فى مواضع عدة ، ودلت عليه السنة فمن ذلك ما
رواه ابن عمر قال : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : « كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالإمام راع يسأل عن الناس ، والرجل راع يسأل عن أهله ، والمرأة تسأل عن بيت زوجها ، والعبد يسأل عن مال سيده »
وما
رواه المقدام قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « لا يكون رجل على قوم إلا جاء يقدمهم يوم القيامة ، بين يديه راية يحملها وهم يتبعونه ، فيسأل عنهم ويسألون عنه »
وما
رواه الترمذي عن أبي برزة الأسلمى مرفوعا :(8/105)
ج 8 ، ص : 106
« لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه فيم عمل به ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه ؟ »
وروى الحاكم وابن ماجه حديث شدّاد بن أوس مرفوعا : « الكيّس من دان - حاسب - نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على اللّه الأمانى » .
(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) الوزن عمل يراد به تعرف مقدار الشيء بالميزان والقسطاس وقد يطلق كل من الميزان والقسطاس على العدل كقوله : « اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ » وقوله فى الرسل : « وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ » .
أي والوزن فى ذلك اليوم الذي يسأل اللّه فيه الرسل والأمم ، ويقص عليهم كل ما كان منهم - هو الحق أي الذي تعرف به حقائق الأمور وما يستحقه كل أحد من ثواب وعقاب.
(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي فمن رجحت موازين أعماله بالإيمان وكثرة الحسنات فأولئك هم الفائزون بالنجاة من العذاب ، والحائزون للنعيم فى دار الثواب.
(وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) أي ومن خفت موازين أعماله بسبب كفره وكثرة ما اجترح من السيئات ، فأولئك الذين خسروا أنفسهم ، إذ حرموها السعادة التي كانت مستعدة لها لو لم يفسدوا فطرتها بالكفر والمعاصي وإصرارهم على ذلك إلى نهاية أعمارهم.
والخلاصة - إن المؤمنين على تفاوت درجاتهم فى الأعمال هم المفلحون ، فمن مات مؤمنا فهو مفلح وإن عذّب على بعض ذنوبه بمقدارها ، وإن الكافرين على تفاوت دركاتهم هم فى خسران عظيم.
وهناك فريق ثالث استوت حسناتهم وسيئاتهم وهم أصحاب الأعراف وسيأتى ذكرهم بعد.(8/106)
ج 8 ، ص : 107
وقد اختلف العلماء فى الوزن والموازين ، هل المراد بها ظهور العدل التام فى تقدير الجزاء على الأعمال التي تصلح الأنفس وتزكيها أو تفسدها وتدسّيها بذلك قال مجاهد والضحاك والأعمش ، أو أن هناك وزنا حقيقيا حكمته إظهار علم اللّه تعالى بأعمال عباده وعدله فى جزائهم عليها ، وبهذا قال الجمهور. قال أبو إسحاق الزجاج : أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة ، وأن الميزان له لسان وكفّتان ويميل بالأعمال.
وقال القرطبي : التي توزن هى الصحائف التي تكتب فيها الأعمال.
والحق أن التي توزن هى الأعمال
فقد أخرج أبو داود والترمذي عن جابر مرفوعا : « توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات ، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة دخل الجنة ، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة دخل النار ، قيل ومن استوت حسناته وسيئاته ؟ قال أولئك أصحاب الأعراف » .
والذي عليه المعول فى الإيمان بعالم الغيب : أن كل ما ثبت من أخباره فى الكتاب والسنة فهو حق لا ريب فيه ، فنؤمن به ولا نحكّم رأينا فى كيفيته ، فنؤمن بأن فى الآخرة وزنا للأعمال بميزان يليق بعالم الآخرة توزن به الأعمال والإيمان والأخلاق ، ولا نبحث عن صورته وكيفيته.
وإذا كان العلم الحديث كشف موازين للحر والبرد واتجاه الرياح والأمطار ، أ فيعجز القادر على كل شىء عن وضع موازين للأعمال النفسية والبدنية التي سماها الدين الحسنات والسيئات ، بما تحدثه فى الأنفس من الأخلاق والصفات الثابتة فيها ؟
[سورة الأعراف (7) : آية 10]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10)(8/107)
ج 8 ، ص : 108
تفسير المفردات
مكناكم فى الأرض ، أي جعلنا لكم فيها أمكنة تتبوءونها وتتمكنون من الإقامة فيها ، والمعايش واحدها معيشة : وهى ما تكون به العيشة والحياة الجسمانية الحيوانية من المطاعم والمشارب وغيرها ، وهى ضربان :
(1) ما يحصل بخلق اللّه ابتداء كالثمار وغيرها.
(2) ما يحدث بالا كتساب.
وكلاهما إنما يحصل بفضل اللّه وإقداره وتمكينه ، فيكون الكل إنعاما من اللّه ، وذلك مما يوجب طاعته.
المعنى الجملي
بعد أن بين فيما سلف أن واضع الدين هو اللّه فيجب اتباعه دون ما يأمر به غيره من الأولياء والشفعاء ، وقفّى على ذلك بذكر عذاب الدنيا بقوله : وكم من قرية أهلكناها ، وذكر عذاب الآخرة بقوله : فلنسألن الذين أرسل إليهم ، وبقوله : والوزن يومئذ الحق.
أردف ذلك بذكر نعمه على عباده بتمكينهم فى الأرض وخلق أنواع المعايش فيها ، مع بيان أن كثرة النعم توجب عليهم الطاعة له.
الإيضاح
(وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) أي ولقد جعلنا لكم فيها أوطانا تتبوءونها وتستقرون فيها وجعلنا لكم فيها معايش تعيشون بها أيام حياتكم من مطاعم ومشارب نعمة منى عليكم ، وإحسانا منى إليكم ، وأنشأنا لكم فيها ضروبا شتى من المنافع التي تعيشون بها عيشة راضية : من نبات وأنعام وطير وسمك ومياه عذبة وأشربة مختلفة الطعوم والروائح ، ووسائل مختلفة للتنقل والارتحال من جهة إلى أخرى تتقدم بتقدم العلم(8/108)
ج 8 ، ص : 109
والاختراع من طيارات وسيارات وقطر ريّة وسفن بحرية ، وسبل متعددة لمداواة المرضى بالعقاقير المختلفة على يد نطس الأطباء إلى نحو ذلك.
وكل ذلك يقتضى منكم الشكر الكثير ولكن الشكر من العباد قليل كما قال :
« وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ » ومن ثم عقّب هذا بقوله :
(قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) أي وأنتم قليلو الشكر على هذه النعم التي أنعمت بها عليكم ، لا كثيروه كثرة تناسب كثرة الانتفاع بها فقد عبدتم سواى ، واتخذتم الأولياء والشفعاء من دونى.
وشكر النعمة يكون بمعرفة المنعم بها ثم حمده والثناء عليه بما هو له أهل ، ثم التصرف فيها بما يحبه ويرضاه ، وتحقيق الأغراض التي أسداها لأجلها.
فهذه النعم المعيشية ما خلقت إلا لحفظ الحياة الجسمانية للأفراد والجماعات ، والاستعانة بذلك على حفظ الحياة الروحية التي بها تزكو الأنفس ، وتستعد للحياة الأخرى الأبدية التي فيها النعيم المقيم والسعادة المستقرة إلى غير نهاية.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 11 الى 18]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)(8/109)
ج 8 ، ص : 110
تفسير المفردات
الخلق : التقدير ، يقال خلق الخياط الثوب : أي قدّره قبل قطعه ، وخلق اللّه الخلق : أوجدهم على تقدير أوجبته الحكمة ، والهبوط : الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه أو من منزلة إلى ما دونها ، فهو إما حسى وإما معنوى ، والتكبر : جعل الإنسان نفسه أكبر مما هى عليه ، والصغار : الذلة والهوان ، وأنظره : أخره ، والإغواء :
الإيقاع فى الغواية : وهى ضد الرشاد ، وذأم الشيء : عابه ، ودحر الجند العدو ، طرده وأبعده.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه عباده فى الآية السابقة بنعمه عليهم بالتمكين فى الأرض وخلق أنواع المعايش فيها - قفّى على ذلك ببيان أنه خلق النوع الإنسانى مستعدا للكمال وأنه قد تعرض له وسوسة من الشيطان تحول بينه وبين هذا الكمال الذي يبتغيه.
الإيضاح
(وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) الخطاب لبنى آدم أي ولقد خلقنا مادة هذا النوع من الصلصال والحمأ المسنون أي من الماء والطين اللازب ، فمنه خلق الإنسان الأول ، ثم جعلنا من تلك المادة صورة بشر سوىّ قابل للحياة.
وقد يكون المعنى - إنا قدرنا إيجادكم تقديرا ثم صورنا مادتكم تصويرا ، وذلك شامل لخلق آدم وخلق مجموع الناس ، إذ أن كل فرد يقدر اللّه خلقه ثم يصور المادة التي يخلقه منها فى بطن أمه.
(ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) أي وبعد أن سويناه ونفخنا فيه من روحنا(8/110)
ج 8 ، ص : 111
وصار مستعدا لأن يكون خليفة فى الأرض ، وعلمناه الأسماء كلها ، قلنا لجماعة الملائكة اسجدوا لآدم.
(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي فسجد الملائكة جميعا إلا إبليس فإنه أبي واستكبر ، وهو من الجن لا منهم.
وهذا السجود سجود تكريم وتعظيم من اللّه لآدم لا سجود عبادة ، فقد قامت الدلائل القاطعة على أنه لا معبود إلا اللّه وحده.
(قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) لا هنا مزيدة للتأكيد بدليل قوله فى آية أخرى : « ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ » أي قال له تعالى : ما منعك من امتثال أمرى ، فرفضت أن تسجد لآدم مع الساجدين.
وقد تكون (لا) غير زائدة والمنع بمعنى الحمل والاضطرار ، وعليه فالمعنى - ما حملك ودعاك إلى ألا تسجد.
وخلاصة ذلك - أي شىء عرض لك فحملك على ألا تكون مع الملائكة فى امتثال أمرى بالسجود ؟ .
ثم ذكر سببا يبرر به امتناعه عن السجود.
(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أي إن الذي حملنى على ذلك أنى خير منه إذ أنك خلقتنى من النار وخلقته من الطين ، والنار خير من الطين وأشرف ، والشريف لا يعظّم من دونه ولو أمره بذلك ربه.
ولا شك أن فى هذا ضروبا من الجهالة وأنواعا من الفسوق والعصيان تتجلى لك فيما يلى :
(ا) اعتراضه على مولاه وخالقه بما تضمنه جوابه.
(ب) احتجاجه عليه بما يؤيد به اعتراضه ، والمؤمن المذعن لأمرر به يعلم أن للّه الحجة البالغة ، والحكمة الكاملة ، فيما يفعل ويأمر وينهى.(8/111)
ج 8 ، ص : 112
(ح) إنه جعل امتثال الأمر موقوفا على استحسانه له وموافقته لهواه ، وهذا رفض لطاعة الخالق وترفّع عن مرتبة العبودية ، والمرءوس فى الدنيا إذا لم يطع أمر الرئيس إلا فيما يوافق هواه ، صار الأمر فوضى والعاقبة وخيمة ، فلا يصلح عمل ولا يتم الفوز والنجاح.
وقد روى أبو نعيم فى الحلية عن جعفر الصادق أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال اللّه تعالى له اسجد لآدم قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين » قال جعفر : فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه اللّه يوم القيامة بإبليس.
(د) استدلاله على خيريته بالمادة التي منها التكوين ، وخيرية الموادّ بعضها على بعض أمور اعتبارية تختلف فيها الآراء ولا تثبت بالبرهان ، إلى أن كثيرا من الموادّ النفسية خسيسة الأصل ، ألا ترى أن أصل المسك الدم ، والماس من (الكربون) الذي هو أصل الفحم ، إلى أن الملائكة خلقوا من النور وهو قد خلق من النار ، والنور خير من النار ، وهم قد سجدوا امتثالا لأمر ربهم.
(ه) إن جميع الأحياء النباتية والحيوانية التي فى هذه الأرض إما من الطين مباشرة أو بالواسطة وهى خير ما فيها ، وليس للنار شىء من هذه المزايا ولا ما يقرب منها.
(ز) إنه قد جهل ما خص به آدم من استعداده العلمي والعملي أكثر من سواه ، ومن تشريفه بأمر الملائكة بالسجود له ، فكان بذلك أفضل منهم ، وهم أفضل من إبليس بعنصر الخلقة وبالطاعة لربهم.
وكل ما قدمنا مبنى على أن الأمر بالسجود أمر تكليف ، وأنه قد وقع حوار بين اللّه وإبليس.
ويرى كثير من العلماء أن القصة بيان لغرائز البشر والملائكة والشيطان ، إذ جعل الملائكة وهم المدبرون لأمور الأرض بإذن ربهم - مسخرين لآدم وذريته ، وجعل هذا النوع مستعدا للانتفاع بالأرض كلها بعلمه بسنن اللّه فيها وعمله بهذه السنن ، فالانتفاع بمائها وهوائها ومعادنها ونباتها وحيوانها وكهربائها ونورها ، وبذلك ظهرت(8/112)
ج 8 ، ص : 113
حكمة اللّه تعالى وآياته فيها كما اصطفى بعض أفراده وخصهم بوحيه ورسالته وجعلهم مبشرين بدينه وهديه ، وجعل الشيطان عاصيا متمردا على الإنسان وعدوا له وجعل النفوس البشرية وسطا بين النفوس الملكية المفطورة على طاعة اللّه تعالى وإقامة سننه فى صلاح الخلق ، وبين روح الجن الذين يغلب على شرارهم (وهم الشياطين) التمرد والعصيان.
كما أنه تعالى آتى الإنسان إرادة واختيارا إن شاء صعد إلى أفق الملائكة ، وإن أراد هبط إلى أفق الشياطين.
(قالَ فَاهْبِطْ مِنْها) أي اهبط من الجنة التي خلقك اللّه فيها وكانت على مرتفع من الأرض حين كانت قريبة العهد بالظهور فى وسط الماء ، فخير ما يصلح منها لسكنى الإنسان مرتفعاتها.
وقيل هى جنة الجزاء التي أسكنه اللّه فيها بعد خلقه فى الأرض ، ويرشد إلى هذا ما جاء فى سورتى البقرة وطه من أمره بالهبوط وأمر آدم وزوجه بذلك بعد قوله :
« اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ » .
(فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) أي فما ينبغى لك أن تتكبر فى هذا المكان المعدّ للكرامة والتعظيم.
(فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي فاخرج من هذا المكان ، فإنك من ذوى الذلة والهوان ، وقد أظهر حقيقتك الامتحان ، ودل على أنك من الأشرار لا الأخيار.
وفى هذا إيماء إلى أنه تعالى جازاه بضد ما أراد ، فقد أراد أن يرفع نفسه عن منزلتها فجوزى بالهبوط منها إلى ما دونها ، و
جاء فى بعض الآثار : « إن اللّه تعالى يحشر المتكبرين يوم القيامة فى أحقر الصور ، إذ يطؤهم الناس بأرجلهم ، كما أنه يبغّضهم إلى الناس فى الدنيا ، فيحتقرونهم ولو فى أنفسهم » .
(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي قال رب أمهلنى إلى يوم يبعث آدم وذريته فأكون أنا وذريتى أحياء ما داموا أحياء ، وأشهد انقراضهم وبعثهم.(8/113)
ج 8 ، ص : 114
وقد أراد بذلك أن يجد فسحة فى الإغواء فيأخذ بالثأر ، ثم هو مع ذلك ينجو من الموت إذ لا موت بعد البعث.
(قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي قال سبحانه : إنى أجبتك إلى ما طلبت ، لما فى ذلك من الحكمة التي أنا بها عليم.
وظاهر الآية يدل على أنه تعالى جعله من المنظرين إلى يوم يبعثون ، لكن جاء فى سورة الحجر : « قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ » فهذا يدل على أن النظرة إلى وقت النفخة الأولى بالصور ، وهى النفخة التي يموت فيها أهل الأرض جميعا دفعة واحدة ، لا إلى وقت النفخة الثانية وهى التي بها يبعثون ، وورد أن بينهما أربعين سنة.
والنفخة الأولى تسمى نفخة الفزع لقوله تعالى فى سورة النمل : « وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ » ونفخة الصعق لقوله فى سورة الزمر : « وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ » .
روى أبو هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سأل جبريل عن هذه الآية :
من الذين لم يشأ اللّه أن يصعقوا ؟ قال : هم شهداء اللّه عز وجل ،
أي هم حججه على خلقه بحسن سيرتهم واستقامتهم فى الدنيا وهم يشهدون فى الآخرة بضلال كل من خالف هديهم وسنتهم ، ويدخل فى هؤلاء النبيون والصديقون ، فكل نبى شهيد على قومه كما قال تعالى : « فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً » وكذلك كل صدّيق شهيد.
والخلاصة - إن إبليس يموت عقب النفخة الأولى التي يتلوها حراب هذه الأرض كما قال فى سورة الحاقة : « فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً » .(8/114)
ج 8 ، ص : 115
ولا يبقى إلى يوم البعث ، إلا إذا قلنا إن يوم البعث ويوم القيامة يطلقان تارة على ما يشمل زمن مقدماتهما ، وتارة أخرى على زمن الغاية وحدها.
(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) صراط اللّه المستقيم : هو الطريق الذي يصل سالكه إلى السعادة التي أعدها سبحانه لمن زكّى نفسه بهدى الدين الحق الذي يكمّل الفطرة كما
جاء فى الخبر : « كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه » .
أي قال إبليس : فبإغوائك إياى من أجل آدم وذريته ، أقسم لأقعدنّ لهم على صراطك المستقيم ، فأصدنهم عنه وأقطعنّه عليهم بأن أزيّن لهم طرقا أخرى أشرعها لهم من جوانب هذا الطريق حتى يضلّوا عنه ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :
(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي ثم لا أدع جهة من الجهات الأربع إلا هاجمتهم منها مترصّدا لهم كما يقعد قطّاع الطريق للسابلة.
وخلاصة ذلك - لأسوّلنّ لهم ولأصلنهم قدر المستطاع ، وقد ضرب لذلك المثل بحال العدو يأتى عدوه من أي جهة أمكنته ويفترص الفرصة إذا سنحت له.
(وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) أي ولا تجد أكثرهم مطيعين لك ، شاكرين لنعمك عليهم ، فى عقولهم ومشاعرهم ومعايشهم وفى كل ما يهديهم إلى تكميل فطرتهم من تعاليم رسلك لهم ، بل الأقلون منهم هم الذين يتبعون ذلك ، وقد قال إبليس ذلك عن ظن فأصاب لقوله تعالى : « وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » .
وروى عن ابن عباس فى تفسير الجهات الأربع : من بين أيديهم أي أشككهم فى آخرتهم ، ومن خلفهم أي أرغبهم فى دنياهم ، وعن أيمانهم أي أشبه عليهم أمر دينهم ، وعن شمائلهم أي أستنّ لهم المعاصي ، ولا تجد أكثرهم شاكرين أي موحدين وفى رواية أخرى عنه من بين أيديهم - أي من قبل الدنيا ، ومن خلفهم أي من قبل الآخرة ، وعن أيمانهم أي من قبل حسناتهم ، وعن شمائلهم أي من قبل سيئاتهم.(8/115)
ج 8 ، ص : 116
والرواية الثانية تخالف الأولى فى تفسير ما بين الأيدى : هل المراد منه ما هو حاضر أو ما هو مستقبل ، وفى تفسير الخلف : هل المراد منه ما يتركه المرء ويتخلف عنه وهو الدنيا ، أو هو ما وراء حياته الحاضرة وهو الآخرة ، واللفظ محتمل لكلا التأويلين.
روى أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن عمر قال : لم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات : « اللهم احفظني من بين يدىّ ومن خلفى وعن يمينى وعن شمالى ومن فوقى ، وأعوذ بك أن أغتال من تحتى » .
(قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً) أي قال اخرج من الجنة وأنت مذموم مهان من اللّه وملائكته ومطرود من جنته.
(لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) أي أقسم إن من يتبعك من بنى آدم فيما تزيّنه له من الشرك والفجور ، ويصدق ظنك عليه ليكونن معك فى جهنم دار العذاب ، ولأملأنها منك وممن تبعك منهم أجمعين.
وفى قوله منهم إشارة إلى أن الملء يكون من بعضهم ، فإن بعض من يتبعه فى بعض المعاصي من المؤمنين الموحدين يغفر اللّه لهم ويعفو عنهم.
ونحو الآية قوله فى سورة ص : « لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ » .
وقد استثنى فى سورتى الحجر وص من إغوائه عباده المخلصين ، فقال فى الأولى :
« إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ » وقال فى الثانية : « قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ » .
وقد علمت أن المراد من هذا بيان طبيعة البشر وطبيعة الشيطان واستعدادهما واختيارهما فى أعمالهما كما هو رأى بعض العلماء ، وأيد ذلك الحافظ ابن كثير.(8/116)
ج 8 ، ص : 117
[سورة الأعراف (7) : الآيات 19 الى 25]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25)
تفسير المفردات
أصل الوسوسة : الصوت الخفي المكرر ، ومنه قيل لصوت الحلي وسوسة ، ووسوسة الشيطان للبشر : ما يجدونه فى أنفسهم من الخواطر الرديئة التي تزيّن لهم ما يضرهم فى أبدانهم أو أرواحهم ، وروى الشيء : غطّى وستر ، والسوءة : ما يسوء الإنسان أن يراه غيره من أمر شائن وعمل قبيح ؟ وإذا أضيفت إلى الإنسان أريد بها عورته الفاحشة ، لأنه يسوءه ظهورها بمقتضى الحياء الفطري. من الخالدين : أي الذين(8/117)
ج 8 ، ص : 118
لا يموتون أبدا ، وقاسمهما : أي أقسم وحلف لهما ، ودلّى الشيء تدلية : أرسله إلى أسفل رويدا رويدا ، والغرور : الخداع بالباطل ، طفقا : أي أخذا وشرعا ، يخصفان :
أي يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة من قولهم : خصف الإسكافي النعل : إذا وضع عليها مثلها.
المعنى الجملي
لا يزال الحديث متصلا فى الكلام فى النشأة الأولى للبشر وفى شياطين الجن ، وقد ذكرت تمهيدا لهداية الناس بما يتلوها من الآيات فى وعظ بنى آدم وإرشادهم إلى ما به تكمل فطرتهم ، وفى ذلك امتنان عليهم وذكر لكرامة أبيهم.
الإيضاح
(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) الجنة : هى التي خلق فيها آدم ، فآدم خلق من الأرض فى الأرض.
وقد تكررت هذه القصة فى سبعة مواضع من الكتاب العزيز ، ولم يرد فى موضع منها أن اللّه رفعه إلى الجنة التي هى دار الجزاء ، وإن كان الجمهور على أنها جنة الجزاء على الأعمال. ويردّه أنه كلّف فيها ألا يأكل من تلك الشجرة ، ولا تكليف فى دار الجزاء ، ولأنه نام فيها ، وأخرج منها ، ودخل عليه إبليس ، ولا نوم فى الجنة ، ولا خروج بعد الدخول ، ولا يمكن دخول الشيطان فيها بعد الطرد والإخراج.
والآية تدل على أن آدم كان له زوج فى الجنة ، وفى التوراة (إن اللّه ألقى على آدم سباتا انتزع فى أثنائه ضلعا من أضلاعه ، فخلق منه حواء امرأته ، وأنها سميت امرأت لأنها من امرئ أخذت) وليس فى القرآن ما يدل على هذا ، وما روى من ذلك مأخوذ من الإسرائيليات ، وما
روى فى الصحيحين عن أبي هريرة من قوله صلى اللّه عليه وسلم(8/118)
ج 8 ، ص : 119
« فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج »
فهو من باب التمثيل على حد قوله : « خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ » والدليل على ذلك قوله بعد :
« فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم بزل أعوج ، فاستوصوا بالنساء خيرا »
فإنه لا شك أن المراد منه - لا تحاولوا تقويم النساء بالشدة والغلظة فى المعاملة.
(فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) أي فكلا من ثمارها من أي مكان أردتما.
(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) النهى عن قرب الشيء أبلغ أثرا من النهى عن الشيء نفسه ، إذ أنه يقتضى البعد عن موارد الشبهات التي تغرى به كما
جاء فى الحديث : « ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه » .
وقد أبهم سبحانه هذه الشجرة ، ولو كان فى تعيينها خير لنا لعيّنها ، وقد علل القرآن النهى عنها ، بأنهما إذا اقتربا منها كانا من الظالمين لأنفسهما بفعلهما ما يعاقبان عليه ولو بالحرمان من رغد العيش وما يعقبه من التعب والمشقة.
(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) أي زين لهما ما يضرهما ويسوءهما إذا هما رأيا ما يؤثران ستره وألا يرى مكشوفا ، والأرجح أن هذه الوسوسة كانت بأن تمثل الشيطان لآدم وزوجه وكلمهما.
(وَ قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) أي وقال لهما فيم وسوس به : ما نهاكما ربكما عن الأكل من هذه الشجرة إلا لأحد أمرين كراهة أن تكونا بالأكل منها كالملكين فيما أوتى الملائكة من الخصائص والمزايا : كالقوة وطول البقاء وعدم التأثر بتأثيرات الكون المؤلمة المتعبة ، أو كراهة أن تكونا من الخالدين فى الجنة ، أي الذين لا يموتون البتة والخلاصة - إنه أوهمهما أن الأكل من هذه الشجرة إما أن يعطى الآكل صفات الملائكة وغرائزهم ، أو يقتضى الخلود فى الحياة وفى الآية إيماء إلى تفضيل الملائكة على آدم ، وخصصه بعضهم بملائكة السماء(8/119)
ج 8 ، ص : 120
والعرش والكرسي من العالين والمقرّبين ، دون ملائكة الأرض المسخرين لتدبير أمورها وإحكام نظامها.
(وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) أي وأقسم إنه ناصح لهما فيما رغبهما فيه من الأكل من الشجرة ، وأكد ذلك بأشد المؤكدات وأغلظها ، إذ كان عندهما محل الظّنة فى نصحه ، لأن اللّه أخبرهما أنه عدو لهما.
(فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) أي فما زال يخدعهما بالترغيب فى الأكل من هذه الشجرة والقسم على أنه ناصح لهما حتى أسقطهما وحطهما عما كانا عليه من سلامة الفطرة وطاعة البارئ لهما بما غرهما به وزين لهما ، وقد اغترا به وانخدعا بفسمه وصدّقا قوله اعتقادا منهما أن أحدا لا يحلف باللّه كاذبا.
ويرى بعض العلماء أن الغرور كان بتزيين الشهوة ، فإن من غرائز الشر وطبائعهم كشف المجهول والرغبة فى الممنوع ، فقد نفخ الشيطان فى نار هذه الشهوات الغريزية وأثار النفس إلى مخالفة النهى حتى نسى آدم عهد ربه ، ولم يكن له من قوة العزم ما يكفه عن متابعة امرأته ، ويعتصم به من تأثير شيطانه كما قال فى سورة طه ، « وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً » و
جاء فى الصحيح عن أبي هريرة : « ولو لا حواء لم تخن أنثى زوجها »
أي لأنها هى التي زينت له الأكل من الشجرة ، وقد فطرت المرأة على تزيين ما تشتهيه للرجل ولو بالخيانة له.
(فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي فلما ذاقا ثمرة الشجرة ظهرت لكل منهما سوءته وسوءة صاحبه وكانت مستورة عنهما ، فدبت فيها شهوة التناسل بتأثير الأكل من الشجرة ، فنبهتهما إلى ما كان خفيا عنهما من أمرها ، فخجلا من ظهورها وشعرا بالحاجة إلى سترها ، وشرعا يلزقان ويربطان على أبدانهما من ورق أشجار الجنة العريض ما يسترها.(8/120)
ج 8 ، ص : 121
والخلاصة - إن الشيطان لما وسوس لهما بقوله : ما نهاكما ربكما إلخ ولم يقبلا منه ما قال - لجأ إلى اليمين كما دل على ذلك قوله : وقاسمهما ، فلم يصدقاه أيضا ، فعدل بعد ذلك إلى الخداع كما أشار إلى ذلك بقوله : فدلاهما بغرور أي إنه شغلهما بتحصيل اللذات فجعلاها نصب أعينهما ونسيا النهى كما يدل على ذلك قوله : « فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً » .
وقد عاتبه اللّه على تركه التحفظ والحيطة والتدبر فى عواقب الأمور فقال :
(وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ ؟ ) أي وناداهما ربهما معاتبا لهما وموبّخا لهما وقال : ألم أنهكما عن أن تقربا هذه الشجرة وأقل لكما إن الشيطان ظاهر العداوة لكما ، فإن أطعتماه أخرجكما من الجنة حيث العيش الرغد إلى حيث الشقاء فى العيش والتعب والنصب فى الحياة.
ونحو الآية قوله فى سورة طه : « فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى » .
(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي قالا ربنا إننا ظلمنا أنفسنا بطاعتنا للشيطان ومعصيتنا لأمرك وقد أنذرتنا ، وإن لم تغفر لنا ما ظلمنا به أنفسنا وترحمنا بالرضا عنا وتوفيقنا إلى الهداية وترك الظلم ، وبقبول توبتنا إذا نحن أنبنا إليك ، وإعطائنا من فضلك فوق ما نستحق - لنكونن من الخاسرين لأنفسنا وللفوز والفلاح بتزكيتها.
والخلاصة - إن الظفر بالمقصود والفوز بالسعادة لا ينالهما بمغفرتك ورحمتك إلا من ينيب إليك ويتبع سبيلك ، ولا ينالهما من يصرّ على ذنبه ويحتج على ربه كما فعل الذي أبي واستكبر فكان من الخاسرين.
ونحو الآية قوله فى سورة البقرة : « فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ » .(8/121)
ج 8 ، ص : 122
(قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) يرى كثير من سلف الأمة أن هذا الخطاب لآدم وحواء ، وإبليس عليه اللعنة ، أي اهبطوا من هذه الجنة بعضكم عدو لبعض أي إن الشيطان عدو للإنسان ، فعلى الإنسان ألا يغفل عن عداوته ولا يأمن وسوسته وإغواءه كما جاء فى قوله : « إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ » .
وهذا الإخراج من ذلك النعيم عقاب على تلك المعصية التي بها ظلما أنفسهما ، وقد قضت به سنة اللّه فى الخلق ، إذ جعله أثرا طبيعيا للعمل السيء مترتبا عليه ، أما العقاب الأخروى على عصيان الرب فقد غفره اللّه له بالتوبة التي أذهبت أثره من النفس وجعلتها محلا لاصطفائه كما قال فى سورة طه : « وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى . ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى » .
(وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي ولكم فى الأرض استقرار وبقاء إلى زمن مقدر فى علم اللّه وهو الأجل الذي به تنتهى فيه أعماركم وتقوم فيه القيامة ، كما أن لكم فيها متاعا تنتفعون به فى معيشتكم.
ونحو الآية قوله : « وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ » .
ثم فصل هذا القول المجمل :
(قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) أي فى هذه الأرض التي خلقتم منها تحيون مدة العمر المقدّر لكل منكم وللنوع بأسره ، وفيها تموتون حين انتهائه ، ومنها تخرجون بعد موتكم كلكم ، وحين ما يريد المولى أن يبعثكم من مرقدكم للنشأة الآخرة.
ونحو الآية قوله تعالى فى سورة طه : « مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى » .(8/122)
ج 8 ، ص : 123
مغزى هذا القصص
قص اللّه سبحانه علينا خبر النشأة الأولى ليرشدنا إلى ما فطرنا عليه ، وإلى ما يجب علينا من شكره وطاعته ، ويبين لنا أنه خلق الإنسان ليكون خليفة فى الأرض ، وجعله مستعدا لعلم كل شىء فيها وتسخير ما فيها من القوى لمنافعه وليهدينا إلى أنه كان فى نشأته الأولى فى جنة النعيم وراحة البال ، وقد جعله مستعدا للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبه إلى الحق والخير ، والأرواح الشيطانية التي تجذبه إلى الباطل والشر ، وعاقبة التأثر الأول سعادة الدارين ، ونتيجة الثاني الشقاء فيهما ، وهو أيضا محتاج إلى الوحى لإرشاده وهدايته.
فعلينا أن نعرف غرائزنا ونربّى أنفسنا على أن نتذكر عهد اللّه إلينا بأن نعبده وحده ولا نعبد معه أحدا سواه ، ولا ننساه فنسى أنفسنا ونغفل عن تزكيتها ونتركها كالريشة فى مهابّ أهواء الشهوات ووساوس شياطين الضلالات.
وعلينا أن نعرف أن آدم لم يكن نبيا ورسولا عند بدء خلقه ولا موضعا للرسالة فى ذلك الحين ، بل أنكر بعضهم أن يكون رسولا مطلقا ، وقال إن أول الرسل نوح عليه السلام كما تدل على ذلك الآيات الواردة فى الرسل والأحاديث الصحيحة ، وما ورد فى هذه القصة من التفسير بالمأثور فأكثره مدخول مأخوذ من الإسرائيليات عن زنادقة اليهود الذين دخلوا فى الإسلام للكيد له ، وكان الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره من الإسرائيليات فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لا بد له من أصل مرفوع إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم لأنه لا يعرف بالرأى.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 26 الى 27]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)(8/123)
ج 8 ، ص : 124
تفسير المفردات
الريش : لباس الحاجة والزينة ، ولباس التقوى : ما يلبس من الدروع والجواش والمغافر وغيرها مما يتّقى به فى الحرب ، والفتنة : الابتلاء والاختبار ، من قولهم : فتن الصائغ الذهب أو الفضة إذا عرضهما على النار ليعرف الزّيف من النّضار ، والقبيل :
الجماعة كالقبيلة ، وقيل القبيلة : من كان لهم أب واحد ، والقبيل أعم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنه أمر سبحانه آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض وجعل الأرض مستقر لهما ، وذكر أن الشيطان عدو لهما - ذكر هنا أنه أنزل له ولبنيه كل ما يحتاجون إليه فى دينهم ودنياهم كاللباس الذي يسترون به عوراتهم ويتخذونه للزينة ، واللباس الذي يستعملون فى الحرب كالمغافر والجواشن ونحوها فعليكم أن تشكروه تعالى على هذه المنن العظام ، وتعبدوه وحده لا شريك له.
الإيضاح
(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) نادى اللّه بنى آدم وامتن عليهم بما أنعم عليهم من اللباس على اختلاف درجاته وتعدد أنواعه ، من الأدنى الذي يستر العورة عن أعين الناس إلى الأعلى من أنواع الحلل التي تشبه ريش الطير فى وقاية البدن من الحر والبرد ، إلى ما فيها من الزينة والجمال.(8/124)
ج 8 ، ص : 125
والخلاصة - إنه يقول : يا بنى آدم ، بقدرتنا قد أنزلنا عليكم من سمائنا لتدبير أموركم لباسا يوارى سوءاتكم ، وريشا تتزينون به فى المجالس والمجتمعات ، وهو أعلى اللباس وأكمله ، وما دون ذلك وهو ما يقى الحر والبرد.
ومعنى إنزال ما ذكر من السماء - إنزال مادته من القطن والصوف والوبر والحرير وريش الطير وغيرها مما ولدته الحاجة وافتنّ الناس فى استعماله ، بعد أن تعلموا وسائل صنعه بما أوجد فيهم من الغرائز والصفات التي بها غزلوا ونسجوا وحاكوا ذلك على ضروب شتى وخاطوه على أشكال لا حصر لها ولا عد ، ولا سيما فى هذا العهد الذي رقيت فيه الصناعات إلى أقصى مدى وأبعد غاية.
ولا شك أن امتنانه علينا بلباس الزينة دليل على إباحتها والرغبة فى استعمالها ، فالإسلام دين الفطرة وليس فيه ما يخالف ما تدعو إليه الحاجة.
وحب الزينة من أقوى غرائز البشر الدافعة لهم إلى إظهار سنن اللّه فى الخليقة.
(وَ لِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) المشهور من كلام التابعين أن لباس التقوى لباس معنوى لاحسى ، فقد قال ابن زيد : لباس هو التقوى وعن ابن عباس : إنه الإيمان والعمل الصالح ، فإنهما خير من الريش واللباس. وروى عن زيد بن على بن الحسين : أنه لباس الحرب كالدّرع والمغفر والآلات التي يتّقي بها العدو ، واختاره أبو مسلم الأصفهانى ، ويدل عليه قوله تعالى : « سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ. وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ » .
(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي ذلك الذي تقدم ذكره من النعم بإنزال الملابس من آيات قدرته ودلائل إحسانه وفضله على بنى آدم.
وهذه النعم تؤهلهم لتذكّر ذلك الفضل والقيام بما يجب عليهم من الشكر ، والابتعاد من فتنة الشيطان وإبداء العورات أو الإسراف فى استعمال الزينة إلى نحو ذلك.(8/125)
ج 8 ، ص : 126
(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) من سنن العربية تكرار النداء فى مقام التذكير والوعظ : أي لا تغفلوا يا بنى آدم عن أنفسكم فتمكنوا الشيطان من وسوسته لكم والتحيل فى خداعكم وإيقاعكم فى المعاصي ، كما وسوس لأبويكم آدم وحواء فزّين لهما معصية ربهما فأكلا من الشجرة التي نهاهما عنها ، وكان ذلك سببا فى خروجهما من الجنة التي كانا يتمتعان بنعيمها ، ودخولهما فى طور آخر يكابدان فيه شقاء المعيشة وهمومها.
(يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) أي إنه أخرجهما من الجنة وكان سببا فى نزع ما اتخذاه لباسا لهما من ورق الجنة لأجل أن يريهما سوءاتهما.
وفى ذلك إيماء إلى أنهما كانا يعيشان عريانين ، لأنه ليس فى الأرض ثياب تصنع ، وليس هناك إلا أوراق الأشجار ، وعلماء الماديّات والآثار يحكمون حكما جازما بأن البشر قبل اهتدائهم إلى الصناعات كانوا يعيشون عراة ، ثم اكتسوا بورق الشجر وجلود الحيوان التي يصطادونها ، ولا يزال المتوحشون منهم إلى الآن يعيشون كذلك.
(إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) أي إن إبليس وجنوده من شياطين الجن يرونكم ولا ترونهم ، والضرر إذا جاء من حيث لا يرى كان خطره أشد ، ووجوب العناية باتقائه أعظم ، كما يرى ذلك فى بعض الأوبئة التي ثبت وجودها فى هذا العصر بالمجهر (التليسكوب) فإنها تنفذ إلى الأجسام بنقل الذباب أو البعوض أو مع الطعام أو الشراب أو الهواء ، فتتوالد وتنمو بسرعة ، وقد تسبّب للإنسان أمراضا مستعصية العلاج كالحمى الصفراء (الملاريا) والتيفود والتيفوس والسل والسرطان إلى نحو أولئك.
وفعل جنة الشياطين فى أرواح البشر كفعل هذه الجنة التي يسميها الأطباء (الميكروبات) فى الأجسام ، فكلاهما يؤثر من حيث لا يرى فيتقّى ، والثانية تتقى بالأخذ بنصائح الأطباء واستعمال الوسائل العلاجية الواقية.(8/126)
ج 8 ، ص : 127
والوقاية منها ضربان :
(1) اتخاذ الأسباب التي تمنع مجيئها من الخارج كالذى تفعله الحكومات فى المحاجر الصحية فى الثغور ومداخل البلاد.
(2) تقوية الأبدان بالأغذية الجيدة والنظافة التامة لتقوى على مقاومة هذه الجنّة والفتك بها إذا وصلت إليها ، كما يتقى وصول العثّ إلى الصوف بمنع وصول الغبار إليه أو بوضع الدواء الذي يسمى (النفتالين) إذ يقتله برائحته.
والأولى تتقى أيضا بإرشاد طب الأنفس والأرواح الذي يهدى إلى الوقاية من فتك جنة الشياطين فيها بالوسوسة وتزيين الأباطيل والشرور المحرمة فى هذا الطب لضررها ، فمداخلها فى أنفسهم وتأثيرها فى خواطرهم كدخول تلك الجنّة فى أجسادهم وتأثيرها فى أعضائهم من حيث لا ترى.
والوقاية منها على ضربين :
(1) بتقوية الأرواح بالإيمان باللّه وصفاته وإخلاص العبادة له والتخلق بالأخلاق الكريمة وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، فتبتعد تلك الأرواح الشيطانية عنها ولا تستطيع القرب منها.
(2) بمعالجة هذا الوسواس بعد طروئه كما يعالج المرض بعد حدوثه بالأدوية التي تقتله وتمنع امتداد ضرره.
والخلاصة - إن هذه الجملة (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) جاءت تعليلا للنهى عن تمكين الشيطان مما يبغى من الفتنة ، وتأكيدا للتحذير منه وتذكيرا بشديد عداوته وضرره (والضرر إذا جاء من حيث لا يرى كان شديد الأثر عظيم الخطر).
ثم زاد فى التحذير من الشيطان وبين شديد عداوته للانسان فقال :
(إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي إن سنتنا جرت بأن يكون الشياطين الذين هم شرار الجن أولياء لشرار الإنس وهم الكفار الذين لا يؤمنون باللّه تعالى وملائكته إيمان إذعان تزكو به نفوسهم ، لما بينهما من التناسب والتشاكل(8/127)
ج 8 ، ص : 128
واكتساب الكفار لولاية الشياطين جاءت بسبب استعدادهم لقبول وسوستهم وإغوائهم وعدم احتراسهم من الخواطر الرديئة ، كاكتساب ضعفاء البنية للأمراض باستعدادهم لها وعدم احتراسهم من أسبابها كتناول الأطعمة والأشربة الفاسدة والوجود فى جو مملوء بالجراثيم القتالة بعدم تعرضه للشمس والنور والهواء المتجدد
[سورة الأعراف (7) : الآيات 28 الى 30]
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
تفسير المفردات
الفاحشة : الفعلة المتناهية فى القبح ، والمراد بها هنا طواف أهل الجاهلية عراة كما ولدتهم أمهاتهم ويقولون : لا نطوف بيت ربنا فى ثياب عصيناه بها ، والقسط :
الاعتدال فى جميع الأمور ، وهو الوسط بين الإفراط والتفريط ، وإقامة الشيء : إعطاؤه حقه وتوفيته شروطه كإقامة الصلاة وإقامة الوزن بالقسط ، والوجه : قد يطلق على العضو المعروف من الإنسان كما فى قوله « فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » وقد يطلق على توجه القلب وصحة القصد كما فى قوله : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً »(8/128)
ج 8 ، ص : 129
المعنى الجملي
بعد أن بين عزّ اسمه أنه جعل الشياطين قرناء للكافرين مسلّطين عليهم متمكنين من إغوائهم - ذكر هنا أثر ذلك التسليط عليهم ، وهو الطاعة لهم فى أقبح الأشياء مع عدم شعورهم بذلك القبح.
الإيضاح
(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها) أي وإذا فعل الذين لا يؤمنون باللّه ممن جعلوا الشياطين أولياء لهم - قبيحا من الأفعال كتعرّيهم حين الطواف بالبيت ، فلامهم الناس على ذلك ، قالوا وجدنا آباءنا يفعلون كما نفعل ، فنحن نقتدى بهم ونستنّ بسنتهم ، واللّه أمرنا بذلك فنحن نتبع أمره فيه. وقد رد اللّه عن الأمر الثاني بأمر رسوله أن يدحضه بقوله :
(قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) أي إن هذا الفعل من الفحشاء واللّه بكماله منزه أن يأمر بها وإنما يأمر بها الشيطان كما جاء فى قوله : « الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ » .
ثم ردّ عليهم الوجه الأول ووبخهم على تقليد الآباء والأجداد بقوله :
(أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ؟ ) أي إنكم باتباعكم للآباء والأجداد فى الآراء والشرائع غير المسندة إلى الوحى تقولون على اللّه ما لا تعلمون أنه شرعه لعباده.
والخلاصة - إنهم فى عملهم الفاحشة استندوا إلى أمرين : أمر اللّه بهما ، وتقليد الآباء والأجداد ، وقد رد اللّه عليهما فى كل منهما فرد على الأول ببيان أن اللّه لا يأمر بفاحشة ، وأن الذي يأمر بذلك إنما هو الشيطان. ورد على الثاني بأن التشريع لا يعلم إلا بوحي من عنده إلى رسول يؤيده بالآيات البينات وهو لم ينزل عليهم به ، فقولهم(8/129)
ج 8 ، ص : 130
هذا إنما هو اتباع للأهواء فيما هو قبيح تنفر منه الطباع السليمة ، وتستنقصه العقول الراجحة الحكيمة.
وبعد أن أنكر عليهم أن يكونوا على علم بأمر اللّه فيما فعلوا - بين ما يأمر به من محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق والخصال بقوله لرسوله :
(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أي قل لهم : إنما أمرنى ربى بالاستقامة والعدل فى الأمور كلها.
(وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي وقل لهم :
أمرنى ربى بالقسط ، فأقسطوا وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ، أي أعطوا توجهكم إلى اللّه تعالى حقه من صحة النية وحضور القلب وصرف الشواغل عند كل مسجد تعبدونه فيه ، سواء كانت العبادة طوافا أو صلاة أو ذكرا ، وادعوه وحده مخلصين له الدين ، ولا تتوجهوا إلى غيره من عباده المكرمين كالملائكة والأنبياء والصالحين زعما منكم أنهم يشفعون لكم عند ربكم ويقربونكم إليه زلفى ، وقد جعلتم هذا من الدين افتراء على اللّه وقولا عليه بغير علم.
وبعد أن أبان أصل الدين ومناط الأمر والنهى فيه - ذكرنا بالبعث والجزاء على الأعمال فقال :
(كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) أي كما بدأكم ربكم خلقا وتكوينا بقدرته تعودون إليه يوم القيامة وأنتم فريقان :
(1) فريق هداه اللّه فى الدنيا ببعثة الرسل فاهتدى بهديهم وأقام وجهه له وحده فى العبادة ودعاه مخلصا له الدين لا يترك به أحدا.
(2) فريق حق عليهم الضلالة لاتباعهم إغواء الشيطان وإعراضهم عن طاعة بارئهم.
وكل فريق يموت على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه ، وإنما حقت على(8/130)
ج 8 ، ص : 131
الفريق الثاني الضلالة ، لأنهم اقترفوا أسبابها فوجدت نتائجها ومسبباتها ، لا أنها جعلت غرائز لهم فكانوا عليها مجبورين ، يرشد إلى ذلك قوله :
(إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي إنهم حين أطاعوا الشياطين فيما زيّنوا لهم من الفواحش والمنكرات ، فكأنهم ولّوهم أمورهم من دون اللّه الذي يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر ، وهم مع عملهم هذا يحسبون أنهم مهتدون فيما تلقّنهم الشياطين من الشبهات ، كجعل التوجه إلى غير اللّه والتوسل إليه فى الدعاء مما يقربهم إلى اللّه زلفى ، قياسا على الملوك الجاهلين الذين لا يقبلون الصفح عن مذنب إلا بوساطة بعض المقربين عنده.
والكثير من أهل الضلال يحسبون أنهم مهتدون ، وهم ما بين كافر جحود للحق كبرا وعنادا كأعداء الرسل فى عصورهم وحاسديهم على ما آتاهم اللّه من فضله كما حكى سبحانه عن فرعون وملئه « وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا » وكالكبراء من قريش أمثال أبي جهل والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث فى جميع كثير منهم وهم الذين قال اللّه فيهم : « فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ » وهؤلاء هم الأقلون عددا - وكافر بالتقليد واتباع نزغات الشيطان ، أو باتباع الآراء الخاطئة والنظريات الفاسدة ، وهم الذين قال اللّه فيهم : « قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً » وهؤلاء هم جمهرة الناس فى جميع الأمم.
وذهب كثير من العلماء إلى أن من بذل جهده فى البحث والنظر فى الحق ، ثم اتبع ما ظهر له أنه الحق بحسب ما وصلت إليه طاقته ، وكان مخالفا فى شىء منه لما جاءت به الرسل - لا يدخل فى مدلول هذه الآية ونحوها ، بل يكون معذورا عند اللّه لقوله تعالى : « لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها » .(8/131)
ج 8 ، ص : 132
[سورة الأعراف (7) : الآيات 31 الى 32]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السالفة أنه أمر عباده بالعدل فى كل الأمور واتباع الوسط منها - طلب إلينا أن نأخذ الزينة فى كل مجتمع للعبادة ، فنستعمل الثياب الحسنة فى الصلاة والطواف ونحو ذلك ، كما أباح لنا أن نأكل ونشرب مما خلق اللّه بشرط ألا نسرف فى شىء من ذلك.
أخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال : كان الناس يطوفون بالبيت عراة ويقولون : لا نطوف فى ثياب أذنبنا فيها ، فجاءت امرأة فألقت ثيابها فطافت ووضعت يدها على قبلها وقالت :
اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحلّه
فنزلت هذه الآية.
الإيضاح
(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) الزينة ما يزين الشيء أو الشخص ، وأخذها التزين بها ، والمراد بالزينة هنا الثياب الحسنة كما يدل على ذلك سبب نزول الآيات ، وأقلّ هذه الزينة ما يدفع عن المرء أقبح ما يشينه بين الناس وهو ما يستر عورته ، وهو الواجب لصحة الصلاة والطواف ، وما زاد على ذلك من التجمل بزينة اللباس عند الصلاة ولا سيما صلاة الجمعة والعيد فهو سنة لا واجب.(8/132)
ج 8 ، ص : 133
ويرى بعض العلماء وجوب الزينة للعبادة عند كل مسجد بحسب عرف الناس فى تزينهم فى المجامع والمحافل ، ليكون المؤمن حين عبادة ربه مع عباده المؤمنين فى أجمل حال لا تقصير فيها ولا إسراف.
أخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه ، فإن اللّه عز وجل أحق من تزيّن له ، فإن لم يكن له ثوبان فليتّزر إذا صلى ، ولا يشتمل أحدكم فى صلاته اشتمال اليهود » .
وأخرج الشافعي وأحمد والبخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « لا يصلين أحدكم فى الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شى ء » .
وعلى الجملة فالزينة تختلف باختلاف حال الإنسان فى السعة والضيق ، فمن عنده ثوب واحد يستر جميع بدنه فليستر به جميع بدنه وليصلّ به ، فإن لم يستر إلا العورة كلها أو الغليظة منها وهى السوءتان فليستر به ما يستره ، ومن وجد ثوبين أو أكثر فليصلّ بهما.
وهذا الأمر بالزينة عند كل مسجد أصل من الأصول الدينية والمدنية عند المسلمين وكان سببا فى تعليم القبائل المتوحشة القاطنة فى الكهوف والغابات أفرادا وجماعات لبس الثياب عند دخولها فى حظيرة الإسلام ، وكانوا قبل ذلك يعيشون عراة الأجسام رجالا ونساء حتى ذكر بعض المنصفين من الإفرنج أنّ لانتشار الإسلام فى إفريقية منّة على أوربا بنشرة للمدنية بين أهلها ، إذ ألزمهم ترك العرى وأوجب لبس الثياب فكان ذلك سببا فى رواج تجارة المنسوجات.
وبهذا نقل الإسلام أمما وشعوبا كثيرة من الوحشية إلى الحضارة الراقية.
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أي خذوا زينتكم عند المساجد وأداء العبادات ، وكلوا واشربوا من الطيبات ، ولا تسرفوا فيها ، بل عليكم بالاعتدال فى جميع ذلك ، لأن اللّه الخالق لهذه النعم لا يحب المسرفين فيها ، بل يعاقبهم على هذا الإسراف بمقدار ما ينشأ عنه من المضارّ والمفاسد ، لأنهم قد خالفوا سنن الفطرة وجنوا(8/133)
ج 8 ، ص : 134
على أنفسهم فى أبدانهم وأموالهم ، وجنوا على أسرهم وأوطانهم ، إذ هم أعضاء فى جسم الأسرة والأمة.
روى النسائي وابن ماجه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا فى غير مخيلة (كبر وإعجاب بالنفس) ولا سرف ، فإن اللّه يحب أن يرى أثر نعمه على عبده » .
وعن ابن عباس أنه قال : كل ما شئت ، واشرب ما شئت ، والبس ما شئت إذا أخطأتك اثنتان : سرف أو مخيلة.
والإسراف : تجاوز الحد فى كل شىء ، والحدود منها :
(1) طبيعى كالجوع والشّبع والظمأ والرّىّ ، فمن أكل إذا أحس بالجوع أو كف عن الأكل إذا شعر بالشبع وإن كان يستلذ الاستزادة ، أو شرب إذا شعر بالظمأ واكتفى بما يزيله ولم يزد على ذلك لم يكن مسرفا فى أكله وشربه ، وكان طعامه وشرابه نافعين له.
(2) اقتصادى وهو أن تكون النفقة على نسبة معينة من دخل الإنسان بحيث لا تستغرق كسبه.
(3) شرعى فإن الشارع حرم من الطعام الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير اللّه ، وحرم من الشراب الخمر ، وحرم من اللباس الحرير الخالص ، أو الغالب على الرجال دون النساء ، وحرم الأكل والشرب فى أوانى الذهب والفضة وعدّه من السرف المنهىّ عنه ، فهذه الأشياء لا يباح استعمالها إلا لضرورة تقدر بقدرها.
والمعول عليه فى الإنفاق فى كل طبقة عرف المعتدلين فيها ، فمن تجاوز طاقته مباراة لمن هم أغنى منه وأقدر كان مسرفا ، وكم جرّ الإسراف إلى خراب بيوت عامرة ولا سيما فى المهور وتجهيز العرائس وحفل العرس والمأتم و(الزار).
ثلاثة تشقى بها الدار العرس والمأتم والزار
وهذا السرف كبير الضرر عظيم الخطر على الأمم أكثر من ضرره على الأفراد(8/134)
ج 8 ، ص : 135
ولا سيما فى البلاد التي تأنى إليها أنواع الزينة من البلاد الأجنبية عنها ، إذ تذهب الثروة إلى غير أهلها ، وربما ذهبت إلى من يستعين بها على استذلالهم والعدوان عليهم والخلاصة - إن الطعام والشراب من ضرورات الحياة الحيوانية ، ولكن ضل فى ذلك فريقان :
(ا) فريق البخلاء والغلاة فى الدين تركوا الأكل والشرب من الطيبات المستلذة ، إما بخلا وشحا أو تحرجا وتأثما ، إما دائما أو فى أوقات مخصوصة من السنة (ب) فريق المترفين الذين أسرفوا فى اللذات البدنية وجعلوها جلّ همهم ، فهم يأكلون ويشربون ويتمتعون كما تتمتع الأنعام ، وليس لهم غاية يقفون عندها ، أو نهاية ينتهون إليها.
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) إخراج اللّه للزينة خلق موادها وتعليم طرق صنعها بما أودع فى فطرهم من حبها والميل إلى الافتنان فى استعمالها ، إذ خلقهم مستعدين لإظهار آياته فى جميع ما خلق فى هذا العالم الذي يعيشون فيه ، بما أودع فى غرائزها من الميل إلى البحث فى كشف المجهول والاطلاع على خفايا الأمور ، فهم لا يدعون شيئا عرفوه بحواسهم أو عقولهم حتى يبحثوه من طرق شتى وأوجه لا نهاية لها ، ولن تنتهى بحوثهم مادام الإنسان على ظهر البسيطة.
وغريزة حب الزينة وحب التمتع بالطيبات كانت من أهم الأسباب فى اتساع أعمال الفلاحة والزراعة ورقىّ ضروب الصناعة ، واتساع وسائل العمران ، ومعرفة سنن اللّه وآياته فى الأكوان ، وهما لا يذمّان إلا بالإسراف فيهما والغفلة عن شكر المنعم بهما.
والخلاصة - إن الدين لم يحرمهما إلا إذا كانا عائقين عن الكمال الروحي والكمال الخلقي ، وإنه لم يجعل تركهما قربة إلى اللّه كما جرى على ذلك الوثنيون من البراهمة وغيرهم وقلّدهم فى ذلك بعض المسلمين وصاروا يبثون فى الأمم الإسلامية تعاليم تقضى(8/135)
ج 8 ، ص : 136
بأن روح الدين ومخ العبادة فى التقشف وحرمان النفس من التمتع بلذات الحياة ، وقد بين اللّه وجه الصواب فى ذلك بقوله لرسوله :
(قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي قل أيها الرسول لأمتك : إن الزينة والطيبات من الرزق للذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويشاركهم فيها غيرهم تبعا لهم وإن لم يستحقها مثلهم ، وهى خالصة لهم يوم القيامة.
وقصارى ذلك - إن الدين يورث أهله سعادة الدنيا والآخرة جميعا كما يدل على ذلك قوله : « وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى » وقوله : « وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً » .
ذاك أن المؤمن يزداد علما وإيمانا بربه وشكرا له كلما عرف شيئا من سننه وآياته فى نفسه أو فى غيرها من الكائنات ، ومن أهم أركان الشكر استعمال النعمة فيما وهبها المنعم لأجله من شكر الجوارح كشكر اللسان بالثناء عليه وشكر سائر الأعضاء كذلك ففى حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي والحاكم « الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر » والسر فى هذا أن الأكل والشرب من الطيبات بدون إسراف هما قوام الحياة والصحة ، وهما الدعامتان اللتان يتوقف عليهما القيام بجميع الأعمال الدينية والدنيوية من عقلية وبدنية ، ولهما التأثير العظيم فى جودة النسل الذي به يكثر سواد الأمة.
والملابس الجيدة النظيفة لها فوائد :
(1) حفظ الصحة.
(2) كرامة من يتجمل بها فى نفوس الناس.
(3) إظهار نعمة اللّه على لابسها ، والمؤمن يثاب بنيته على كل ما هو محمود من هذه الأمور بالشكر عليها.
روى أبو داود عن أبي الأحوص قال : « أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم(8/136)
ج 8 ، ص : 137
فى ثوب دون فقال : أ لك مال ؟ قلت نعم : قال من أىّ المال ؟ قلت قد آتاني اللّه من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال : فإذا آتاك اللّه فلير أثر نعمته عليك وكرامته لك » .
وأخرج الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « إن اللّه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده » .
وقد كانت العرب تحرم زينة اللباس فى الطواف تعبدا ، وتحرّم الادّهان ونحوه حال الإحرام بالحج كذلك ، وتحرم من الأنعام والحرث ما ذكر فى سورة الأنعام ، وحرم أهل الكتاب كثيرا من الطيبات.
فجاء الدين الإسلامى الجامع بين مصالح الدنيا ومصالح الآخرة والمطهّر للنفوس والمهذب للأخلاق ، فأنكر هذا التحكم المخالف لسنن الفطرة وبين أن هذا التحريم لم يكن إلا من وساوس الشيطان ولم يوح به اللّه إلى أنبيائه ورسله المصطفين الأخيار.
(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي إن هذا التفصيل لحكم الزينة والطيبات الذي ضل فيه كثير من الأمم والأفراد ما بين إفراط وتفريط - لا يعقله إلا الذين يعلمون سنن الاجتماع وطبائع البشر ومصالحهم ، ونحن قد فصلناه على لسان هذا النبي الأمى الذي لم يكن يعرف شيئا من تاريخ البشر فى أطوار بداوتهم وأطوار حضارتهم قبل أن ننزلها عليه ، فكان ذلك آية دالة على نبوته ، إذ ما كان لمثله أن يعلمها إلا بالوحى من عندنا ، ولو لا الكتاب الكريم لما خرجت العرب من ظلمات الوثنية والجهالة إلى ذلك النور الذي صلحت به وأصلحت أمما كثيرة بالدين والفنون والآداب وما أحيت من علوم الأوائل.
ولكن وا أسفا قد أضحى المسلمون من أجهل الشعوب بسنن اللّه فى الأكوان وبالعلوم والمعارف اللازمة لتقدم الحضارة والمدنية ، وأصبحوا فى مؤخرة الأمم وصاروا مضرب الأمثال فى التأخر والخمول والكسل ، وبذا استكانوا وذلوا وصاروا أفقر الأمم وأضعفهم وأقلهم خدمة لدينهم ، وخالفوا ما رسمه لهم ذلك الدين من أن لهم زينة(8/137)
ج 8 ، ص : 138
الدنيا وطيباتها وسعادتها وملكها ، وأن عليهم أن يشكروا اللّه على ما يؤتيهم من ذلك ، وأن عليهم أن يقوموا بما يرضيه من اتباع الحق والعدل وكل ما تقتضيه خلافتهم فى الأرض.
ولقد بلغ الجهل بكثير منهم أن ظن و(بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أن دين الإسلام هو سبب ضعف المسلمين وجهلهم وذهاب ملكهم ، ولكن كتاب اللّه وسنة رسوله وتاريخ هذه الأمة شاهد صدق على فساد هذه القضية وتزييف تلك الدعوى ، فليس لها من دعائم تستند إليها ، وتقف بها على رجليها.
[سورة الأعراف (7) : آية 33]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33)
تفسير المفردات
الفواحش : واحدها فاحشة ، وهى الخصلة التي يقبح فعلها لدى أرباب الفطر السليمة والعقول الراجحة ، ويطلقونها أحيانا على الزنا والبخل والقذف بالفحشاء والبذاء المتناهي فى القبح. والإثم لغة : القبيح الضار ، وهو شامل لجميع المعاصي كبائرها كالفواحش وصغائرها كالنظر بشهوة لغير الحليلة ، والبغي : تجاوز الحد : وقد قالوا بغى الجرح :
إذا تجاوز الحد فى الفساد ، ومنه قوله تعالى : « فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ » .
المعنى الجملي
بعد أن أنكر - تقدست أسماؤه - فى الآية السالفة على المشركين وغيرهم من أرباب الملل الأخرى تحريم زينة اللّه التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق - ذكر هنا(8/138)
ج 8 ، ص : 139
أصول المحرمات التي حرمها على عباده لضررها ، وجميعها من الأعمال الكسبية لا من المواهب الخلقية ، ليستبين للناس أن اللّه لم يحرم على عباده إلا ما هو ضار لهم.
الإيضاح
(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين وغيرهم ممن ظلموا أنفسهم وافتروا على اللّه الكذب فزعموا أن اللّه حرم على عباده ما أخرج لهم من الطيبات كما حرم عليهم الزينة : ما حرم ربى فى كتبه على ألسنة رسله إلا هذه الأنواع الست الآتية لما لها من شديد الضرر وعظيم الخطر على أنفسهم وعلى الأمة جمعاء ، ومن ثم جعل تحريمها دائما لا يباح بحال ، وهى :
(1 - 2) الفواحش الظاهرة والباطنة وتقدم بيانها وشرحها فى سورة الأنعام وهى إحدى الوصايا العشر التي ذكرت هناك (3) الإثم أي ما يوجب الإثم والذم - وعطفه على ما قبله من عطف العام على الخاص.
(4) البغي وهو الإثم الذي فيه تجاوز لحدود الحق أو اعتداء على حقوق الأفراد أو جماعاتهم ، ومن ثم قرن بالعدوان فى قوله : « تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ » .
وقيد البغي بكونه بغير الحق ، لأن تجاوز الحدود المعروفة قد يكون فيما لا ظلم فيه ولا فساد ولا هضم لحقوق الأفراد والجماعات كما فى الأمور التي ليس لهم فيها حقوق أو التي تطيب أنفسهم فيها عن بعض حقوقهم فيبذلونها عن رضى وارتياح لمصلحة لهم يرجونها ببذلها.
(5) الشرك باللّه وهو أقبح الفواحش ، فلا تقوم عليه حجة من عقل ولا برهان من وحي ، وسميت الحجة سلطانا لأن لها سلطانا على العقل والقلب(8/139)
ج 8 ، ص : 140
وفى هذا إيماء إلى أن أصول الإيمان لا تقبل إلا بوحي من اللّه يؤيده البرهان كما قال « وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ » .
كما أن فيه إرشادا إلى عظم شأن الدليل والبرهان فى الدين ، حتى كأنّ من جاء بالبرهان على الشرك يصدق ، وهذا من فرض المحال مبالغة فى فضل الاستدلال كما قال « أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ ؟ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » .
(6) القول على اللّه بغير علم ، وهو من أسس المحرمات التي حرمت على ألسنة الرسل جميعا ، إذ هو منشأ تحريف الأديان المحرفة ، وسبب الابتداع فى الدين الحق ، وقد انتشر الابتداع بين أهله وتحكمت بينهم الأهواء واتبعوا سنن من قبلهم كما
جاء فى الحديث : « لتتّبعنّ سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموهم قلنا يا رسول اللّه : اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ » رواه الشيخان
ورأس البلية فى هذا الابتداع القول فى الدين بالرأى ، فما من أحد يبتدع أو يتبع مبتدعا إلا استدل على بدعته بالرأى ، وقد ظهرت مبادئ هذه البدع والأهواء فى القرون الأولى قرون العلم بالسنة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وما زال أمرها يستفحل حتى وصلت إلى ما نراه الآن.
وما شرع من اجتهاد الرأى فى حديث معاذ وغيره فهو خاص بالقضاء لا بأصول الدين وعباداته ، فقد أكمل اللّه دينه فلم يترك فيه نقصا يكمله غيره بظنه ورأيه بعد وفاة رسوله ، وليس لقاض ولا مفت أن يسند رأيه الاجتهادى إلى اللّه فيقول هذا حكم اللّه وهذا دينه ، بل يقول هذا مبلغ اجتهادي ، فإن كان صوابا فمن توفيق اللّه وإلهامه ، وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان.
والخلاصة - إنه لا ينبغى لأحد أن يحرّم شيئا تحريما دينيا على عباد اللّه أو يوجب عليهم شيئا إلا بنص صريح عن اللّه ورسوله ، ومن تهجم على ذلك فقد جعل نفسه شريكا للّه ، ومن تبعه فى ذلك فقد جعله رباله ، ومن ثم كان فقهاء الصحابة والتابعين يتحامون القول فى الدين بالرأى.(8/140)
ج 8 ، ص : 141
وقد أنكر اللّه على من نسب إلى دينه تحليل شىء أو تحريمه من عنده بلا برهان فقال : « وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ » .
[سورة الأعراف (7) : آية 34]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه جماع المحرمات على بنى آدم لما فيها من المفاسد والمضارّ للأفراد والمجتمع إثر بيان المباحات من الزينة والطيبات من الرزق بشرط عدم الإسراف فيها - ذكر هنا حال الأمم فى قبول هذه الأصول أوردها ، والسير على منهاجها بعد قبولها أو الزيغ عنها.
الإيضاح
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أي قل أيها الرسول لقومك ولغيرهم : لكل أمة أمد مضروب لحياتها مقدّر لها بحسب السنن التي وضعها الخالق لوجودها.
وهذا الأجل على ضربين : أجل لوجودها فى الحياة الدنيا ، وأجل لعزها وسعادتها بين الأمم.
(فالأول) أجل لأمة بعث فيها رسول لهدايتها فردوا دعوته كبرا وعنادا واقترحوا عليه الآيات فأعطوها مع إنذارهم بالهلاك إذا لم يؤمنوا فاستمروا فى تكذيبهم فأخذهم ربهم أخذ عزيز مقتدر ، كما حدث لقوم نوح وعاد وثمود وفرعون وإخوان لوط وغيرهم.
وهذا النوع من الهلاك كان خاصا بأقوام الرسل أولى الدعوة الخاصة بأقوامهم ،(8/141)
ج 8 ، ص : 142
وقد انتهى ذلك ببعثة النبي صلى اللّه عليه وسلم الذي خاطبه اللّه بقوله : « وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ » .
وقد مضت سنة اللّه فى الأمم أن الذين يقترحون الآيات لا يؤمنون بها ، ومن ثم لم يعط اللّه تعالى رسوله شيئا مما كانوا يقترحونه عليه.
(والثاني) أجل مقدر لحياة الأمم سعيدة عزيزة باستقلالها ومكانتها بين الأمم وهذا منوط بسنن اللّه فى الاجتماع البشرى وعوامل الرقى والعمران.
وأسباب انتهاء هذا الاجتماع لا تعدو مخالفة ما أرشدت إليه الآيات السالفة كإسراف فى الزينة أو إسراف فى التمتع بالطيبات ، أو باقتراف الفواحش والآثام والبغي على الناس ، أو بالتوغل فى خرافات الشرك والوثنية ، أو بالكذب على اللّه بإرهاق الأمة بما لم يشرعه اللّه لها من الأحكام.
فالأمم التي ترتكب هذه الضلالات والمفاسد يسلبها اللّه سعادتها ويسلط عليها من يستذلها كما قال تعالى : « وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ » .
وهاكم شاهد صدق على ما نقول :
إن الأمم التي كان لها شأن يذكر فى التاريخ كالرومان والفرس والعرب والترك وغيرهم ممن سلب ملكهم كله أو بعضه - لم يكن لذلك من سبب سوى ما أسلفنا.
وهذا الضرب من الأجل وإن عرفت أسبابه ، لا يمكن أن يحدّ بالسنين والأيام ، ولكن اللّه يعلم تحديده بما أوجده من الأسباب التي تنتهى بمسبباتها ، وبالمقدمات التي تترتب عليها نتائجها ، كما قال :
(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) الساعة لغة : أقل مدة من الزمن أي فإذا جاء الوقت الذي وقّته اللّه لهلاكهم وحلول العقاب بهم لا يتأخرون عنه بالبقاء فى الدنيا أقل تأخر ، كما أنهم لا يتقدمون أيضا عن الوقت الذي جعله لهم وقتا للفناء والهلاك.(8/142)
ج 8 ، ص : 143
وفى الآية إيماء إلى أن الأمة قد تملك طلب تأخير الهلاك قبل مجيئه أي قبل أن تغلبها على إرادتها أسباب الهلاك ، بأن تترك الفواحش والآثام والظلم والبغي والإسراف المفسد للأخلاق وخرافات الشرك المفسدة للعقول وتترك البدع فى التحريم والتحليل بما لم يخاطب به المولى عباده ، بأن يقوم فيها جماعة من المصلحين ، فيرشدوها إلى تغيير ما بأنفسها من الفساد ، فيغيّر اللّه ما بها.
وهذا من استيخار الهلاك أو منعه عنها قبل مجىء أجلها.
وتأثير الفسق والفساد فى الأمم يشبه تأثيره فى الأفراد ، فكما أن الأطباء متفقون على أن السكر من أسباب الأمراض البدنية والعقلية التي تفضى إلى الموت ، وعلى أن تأثيره فى البدن القوىّ دون تأثيره فى البدن الضعيف ، وعلى أن القليل منه يبطىء تأثير ضرره عن تأثير ضرر الكثير منه - كذلك أطباء الاجتماع متفقون على أن الإسراف فى الفسق والترف مفسد للأمم ، وأن الظلم والبغي والغلوّ فى المطامع من أسباب الهلاك والدمار ، ولكن قد يكون لدى بعضها ما تقاوم به تأثير هذه الأدواء الاجتماعية كالنظام ومراعاة سنن الاجتماع حتى فى إخفاء الظلم وإتقان الوسائل والأسباب فى إلباس العدل وإبراز إفسادها فى صورة الإصلاح وإيجاد أنصار من المظلومين يساعدون فى بقاء هذا الظلم ، وإقناع الكثير منهم بأن هذا خير لهم وأبقى ، غير أن كل هذا لا يمنع انتقام اللّه منهم ، وإنما يؤخره على مقتضى سننه فى عباده ، ولا يمنعه عنهم إلا الرجوع إلى الحق والاعتدال والصلاح والإصلاح.
والأجل المقدّر بمقتضى نظام الخلق هو الذي يسميه العلماء بالعمر الطبيعي فالطبيب إذا فحص الجسم ورأى أعضاءه الرئيسية ومقدار مناعتها أمكنه أن يقدر له مدة معينة من الحياة إذا عاش بنظام واعتدال بحسب ما وضعه اللّه من السنن ، فإذا هو قتل أو غرق قبل انتهاء العمر المقدر له يقال مات قبل انتهاء عمره الطبيعي أو التقديري ولكن مات بأجله الحقيقي عند اللّه.(8/143)
ج 8 ، ص : 144
وما ورد من أن الدعاء وصلة الرحم يطيلان العمر ، فإنما ذلك بالنسبة للأجل التقديري أو الطبيعي الذي هو مظهر سنن اللّه فى الأسباب والمسببات ، فإن الدعاء الذي منشؤه قوة الإيمان باللّه والرجاء فى معونته وتوفيقه للمؤمن فيما يعجز عن أسبابه ، من أسباب طول العمر ، وكذلك صلة الرحم من أهم أسباب هناء العيش ، وهناؤه من أهم العوامل فى إطالة العمر.
كما دلت التجارب على أن الهموم والأكدار خصوصا ما كان منها داخليا كقطيعة الأرحام واليأس من روح اللّه ومعونته مما يضعف قوى النفس ويهرم الجسم قبل إبّان هرمه ، وقد عرف هذه الحقيقة ذلك الشاعر الحكيم حين قال :
والهمّ يخترم الجسيم نحافة ويشيب ناصية الصبى ويهرم
ومثلها فى ذلك قلة الغداء الذي يحتاج إليه البدن أو كثرته ، والإسراف فى كل لذة ، والسكنى فى الأمكنة التي لا يدخلها ضوء الشمس ولا يتخللها الهواء بالقدر الذي يقتل الجراثيم.
والأمم العريقة فى المدنية والحضارة والعالمة بالسنن الإلهية فى الصحة والسقم ، والقوة والضعف ، تحصى دائما عدد المرضى والموتى وتضع لذلك نسبا حسابية تعرف بها متوسط الآجال فى كل منها.
وكذلك قد ثبت ثبوتا لا ريب فيه أن من أسباب قلة الوفيّات تحسين وسائل المعيشة والاعتدال فيها ، وتوقى الأمراض باجتناب أسبابها المعروفة قبل وقوعها ومعالجتها بعد حدوثها.
وكل ما يقع فالعلم الإلهى قد سبق به وكتاب اللّه وسنة رسوله يؤيدان ذلك أتم التأييد.
وخلاصة معنى الآية - إن لكل أمة أجلا لا يتأخرون عنه إذا جاء ، ولا يتقدمون عليه أيضا ، فيهلكوا قبل مجيئه.
ونحو الآية قوله : « ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ » .(8/144)
ج 8 ، ص : 145
[سورة الأعراف (7) : الآيات 35 الى 36]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر جلت أسماؤه أن لكل أمة أجلا لا تعدوه - حكى هنا ما خاطب به كل أمة على لسان رسولها وبيّنه لها من أصول الدين الذي شرعه لهدايتها وتكميل فطرتها ، وأرشدها إلى أنها إن كانت مطيعة تتقى اللّه فيما تأتى وتذر ، وتصلح أعمالها فلا يحصل لها فى الآخرة خوف ولا حزن ، وإن هى تمردت واستكبرت وكذبت الرسل كانت عاقبتها النار ، وبئس القرار.
الإيضاح
(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي يا بنى آدم إن يأتكم رسل من أبناء جنسكم من البشر يتلون عليكم آياتي التي أنزلها عليكم لبيان ما آمركم به من صالح الأعمال وترك ما أنهاكم عنه من الشرك والرذائل وقبيح الأعمال - فمن اتقى منكم ما نهيته عنه وأصلح نفسه بفعل ما أوجبته عليه فلا خوف عليهم من عذاب الآخرة ، ولا هم يحزنون حين الجزا على ما فاتهم.
وحكمة كون الرسول منهم أنه أقطع لعذرهم وأظهر فى الحجة عليهم ، إذ معرفتهم بأحواله تبين لهم أن المعجزات التي ظهرت على يديه إنما هى بقدرة اللّه لا بقدرته إلى ما فى ذلك من حصول الألفة ، فالجنس يألف الجنس ويركن إليه ، ومن ثم قال :
« وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا » .(8/145)
ج 8 ، ص : 146
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) والاستكبار عن قبول الآيات : رفضها كبرا وعنادا لمن جاء بها كما حدث من رؤساء قريش حين استكبروا أن يكون محمد صلى اللّه عليه وسلم إماما لهم ، إذ رأوا أنفسهم أحق بالرياسة منه ، لأنهم أكثر منه مالا وأعز نفرا.
والمعنى - إن الذين كذبوا بآياتنا المنزلة على أحد من رسلنا واستكبروا عن اتباع من جاء بها حسدا له على الرياسة وتفضيلا لأنفسهم عليه ، أو لقومهم على قومه فأولئك أصحاب النار يخلدون فيها أبدا.
والخلاصة - إن جميع الرسل قد بلّغوا أممهم أن اتقاءهم لما يفسد فطرتهم من الشرك والمعاصي ، وإصلاح أنفسهم بالطاعة يوجب الأمن وعدم الخوف مما يتوقع وعدم الحزن على ما وقع منهم فى الدار الأولى ، وأن تكذيب ما جاءوا به من الآيات والاستكبار عن اتباعها يترتب عليه المكث فى نار جهنم خالدين فيها أبدا كفاء ما فعلوا من التمرد وعصيان أوامر الديان.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 37 الى 39]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)(8/146)
ج 8 ، ص : 147
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فى الآية السابقة عاقبة المكذبين بآياته المستكبرين عن قبولها والإذعان لها - ذكر هنا أن من أشدهم ظلما من يتقولون على اللّه الكذب ، فينسبون إليه ما لم يقله - كمن يثبت الشريك للّه سواء كان صنما أو كوكبا ، أو يضيف إليه أحكاما باطله ، أو يكذّب ما قاله كمن ينكر أن القرآن نزل من عند اللّه على رسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم.
الإيضاح
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) أي لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على اللّه بأن أوجب على عباده من العبادات ما لم يوجبه ، أو حرم عليهم من الدين ما لم يحرمه ، أو عزا إلى دينه أحكاما لم تنزل على رسله.
(أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) المنزلة عليهم سواء أ كان بالقول أو بما هو أدل منه كالاستهزاء بها أو الاستكبار عن اتباعها أو بتفضيل غيرها عليها بالعمل بها.
(أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) المراد بالنصيب هنا ما قدر لهم من خير أو شر وسعادة أو شقاء ، والمراد من الكتاب كتاب المقادير الذي كتب اللّه فيه نظام العالم كله ، ومنها أعمال الاحياء الاختيارية وما يبعث عليها من الأسباب والدواعي وما يترتب عليها من المسببات كالسعادة والشقاء والصحة والمرض إلى نحو ذلك.
والمعنى - إن هؤلاء المفترين يصيبهم نصيبهم مما كتب لهم وقدر من الأرزاق والآجال ، فهم مع ظلمهم وافترائهم على اللّه لا يحرمون مما قدر لهم إلى انقضاء آجالهم.
ونحو الآية قوله تعالى : « كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ » وقوله :
« نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ » .(8/147)
ج 8 ، ص : 148
(حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) الرسل هنا هم الملائكة الموكلون بالتوفى أي قبض الأرواح من الأجساد ، أي إنهم ينالهم نصيبهم الذي كتب لهم مدة حياتهم حتى إذا ما انتهى بانتهاء آجالهم وجاءتهم رسلنا يقبضون أرواحهم.
(قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ؟ )
أي سألهم رسل الموت حين التوفى على سبيل الزجر والتوبيخ : أين الشركاء الذين كنتم تعبدونهم فى الدنيا من دون اللّه لقضاء الحاجات ودفع المضرات ؟ فلتدعوهم لينجوكم مما أنتم فيه من شدة وعذاب.
(قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) ضلو : أي غابوا وذهبوا ، لا ندرى أين مكانهم ، أي غابوا عنا فلا نرجو منهم النفع ولا دفع الضر.
(وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) أي واعترفوا على أنفسهم بأنهم كانوا بدعائهم إياهم وعبادتهم لهم كافرين ، إذ هم قد زعموا أنهم عنده تعالى كأعوان الأمراء والسلاطين ، وحاش للّه أن يتخذ الأعوان والمساعدين ، فاللّه غنى بعلمه المحيط وقدرته الكاملة عن أن يحتاج إلى الأعوان ، فإنما يحتاج إليها من يجهل أمور الناس ويعجز عن معرفة أحوالهم.
وخلاصة هذا - زجر الكافرين عما هم عليه من الكفر وحملهم على النظر والتأمل فى عواقب أمورهم ، والتحذير من التقليد الذي سيرديهم فى الهاوية.
(قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) أي تقول ملائكته بأمره يوم القيامة لهؤلاء الكافرين : ادخلوا بين أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس ، أي أمم تقدم زمانهم على زمانكم.
وفى هذا إيماء إلى أنه تعالى لا يسوق الكفار بأجمعهم إلى النار دفعة واحدة ، بل يدخلهم فوجا فيكون منهم سابق ومسبوق ، ويشاهد الداخل من الأمة فى النار من سبقه.
(كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) أي كلما دخلت جماعة منهم فى النار ورأت ما حل(8/148)
ج 8 ، ص : 149
بها من الخزي والنكال - لعنت أختها فى الدين والملة ، إذ هى قد ضلت باتباعها والاقتداء بها فى كفرها كما قال : « ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً » .
والخلاصة - إن المشركين يلعنون المشركين ، واليهود تلعن اليهود ، والنصارى تلعن النصارى ، وهكذا القول فى سائر الديانات الضالة كالمجوس والصابئة.
(حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ : رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) اداركوا ، أي تلاحقوا وأدرك بعضهم بعضا واستقر معه ، وضعفا أي مثلا أي حتى إذا تتابعوا واجتمعوا كلهم فيها ، قالت أخرى كل منهم وهم أتباعهم وسفلتهم لأولاهم منزلة وهم القادة والرؤساء : ربنا هؤلاء أضلونا عن الحق باتباعنا لهم وتقليدنا إياهم فيما كانوا عليه من أمر الدين وسائر أعمالنا ، فأعطهم ضعفا من عذاب النار لإضلالهم إيانا فوق العذاب على ضلالهم فى أنفسهم حتى يكون عذابهم ضعفين :
ضعفا للضلال وضعفا للإضلال.
ومعنى قوله لأخراهم أي فى شأنهم ولأجل ضلالهم ، وليس المراد أنهم ذكروا هذا القول لأولاهم ، لأنهم ما خاطبوهم ، بل خاطبوا اللّه جلت قدرته بهذا الكلام.
(قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) أي يقول اللّه تعالى لهم : لكل منهم ضعف من العذاب بإضلاله فوق عذابه على ضلاله ، ولكنكم لا تعلمون عذابهم ، فإن العذاب روحى ونفسى ، والأول أنكى وأشد ألما ، فالرئيس العزيز فى قومه إذا دخل السجن مع السّفلة وأوشاب الناس لا يكون ألمه كألمهم ، وإن كان يشركهم فيما يأكلون ويشربون وفى جميع ما يعملون ، إذ يشعر بعذاب النفس وقهر الذل مما لا يشعر به الآخرون ، وإن كانوا يظنون أن عقوبتهما واحدة فى ألمها كما هى فى صورتها.
ونحو الآية قوله فى الآية الأخرى : « لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ » .(8/149)
ج 8 ، ص : 150
(وَ قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي إذا كان الأمر كما ذكرتم من أننا أضللناكم فما كان لكم علينا أدنى فضل تطلبون به أن يكون عذابكم دون عذابنا مع أن الذنب واحد وقد اعترفتم بتلبسكم بالضلال المقتضى له ، فذوقوا العذاب بكسبكم له مهما يكن سببه.
وقد جاء فى سورة الصافات : « وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ. قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ. قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ. فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ. فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ. فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ » .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 41]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
تفسير المفردات
المراد بالآيات هنا : الآيات الدالة على أصول الدين وأحكام الشرع كالأدلة على وجود اللّه ووحدانيته ، والأدلة على النبوة والبعث يوم القيامة ، والجمل : هو البعير البازل أي الذي طلع نابه ، وسمّ الخياط : ثقب الإبرة ، وأصل الإجرام : قطع الثمرة من الشجرة ، ثم استعمل فى كل إفساد كإفساد الفطرة بالكفر وما يترتب على ذلك من الخرافات والمعاصي ، والمهاد : الفراش ، والغواشي : واحدها غاشية ، وهى ما يغشى الشيء أي يغطّيه ويستره كاللحاف ونحوه.(8/150)
ج 8 ، ص : 151
المعنى الجملي
هذا من تتمة ما سلف من وعيد الكفار وجزاء المكذبين بالقرآن المستكبرين عن الإيمان ، بين به أنهم خالدون فى النار ، وأنهم يلاقون فيها من الشدائد والأهوال ما لا يدرك العقل حقيقة كنهه ، وأن هذا كفاء ظلمهم لأنفسهم واستكبارهم عن طاعة ربهم واتباع أوامره.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) أي إن الذين كذبوا بأدلتنا ولم يتبعوا رسلنا وتكبروا عن التصديق بما جاءوا به ، وأنفوا من الانقياد لها لا تفتح لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم أبواب السماء ، ولا يصعد لهم فى حياتهم قول ولا عمل ، لأن أعمالهم خبيثة ، وإنما يرفع إلى اللّه الكلم الطيب والعمل الصالح كما قال : « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ » .
(وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) العرب تضرب المثل لما لا يكون بنحو قولهم : لا أفعله حتى يشيب الغراب ، وحتى يبيض القار ، وحتى يدخل الجمل فى سم الخياط ، وهم يريدون بذلك أنهم لا يفعلونه أبدا ، والمراد هنا أن هؤلاء لا يدخلون الجنة بحال.
(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) أي ومثل هذا الجزاء نجزى به كل من صار الإجرام وصفا لهم - لامن أجرموا جرما بثورة غضب أو نزوة شهوة - ثم لا يلبثون أن يندموا على ما فرط منهم كما قال تعالى فى وصف المؤمنين : « ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ » وقال أيضا : « وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ » .
(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) أي لهم من نار جهنم فرش من تحتهم ، ولهم من فوقهم منها لحف تعطّيهم ، والمراد أنها محيطة بهم مطبقة عليهم كما قال :(8/151)
ج 8 ، ص : 152
« إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ » وقال : « وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ » وقال :
«
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ » .
(وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي ومثل هذا الجزاء نجزى به الظالمين لأنفسهم وللناس ، والآيتان تدلان على أن المجرمين والظالمين الراسخين فى صفتى الإجرام والظلم هم الكافرون كما قال : « وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ » والمؤمنون لا يكونون كذلك بحال.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 42 الى 43]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
تفسير المفردات
الوسع : ما يقدر عليه الإنسان حال السعة والسهولة ، لا حال الضيق والشدة ، والنزع : قلع الشيء من مكانه ، والغل : الحقد من عداوة أو حسد ، أورثتموها ، أي صارت إليكم بلا منازع كما يصير الميراث إلى أهله.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه وعيد أهل الكفر والمعاصي - أردفه وعد أهل الطاعات وقد جرت سنة القرآن بالجمع بينهما ، فيبدأ بأحدهما لمناسبة سياق الكلام قبله ثم يقفوه بالآخر.(8/152)
ج 8 ، ص : 153
الإيضاح
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ - لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها - أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي والذين صدقوا اللّه ورسوله وأقروا بما جاءهم به من وحيه وتنزيله وشرائع دينه وعملوا ما أمرهم به واجتنبوا ما نهاهم عنه - هم أهل الجنة دون سواهم ، وهم يخلدون فيها أبدا لا يخرجون منها ولا يسلبون نعيمها.
ومعنى قوله : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أننا لا نفرض على المكلف إلا ما يكون فى وسعه وما لا يشق عليه أداؤه ولا يضيق به ذرعا - وقد جاءت هذه الجملة أثناء الكلام للتنبية إلى أن العمل الصالح الذي يوصل إلى الجنة سهل غير صعب ، وميسور لا عسر فيه ولا مشقة.
(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي وأذهبنا ما كان فى قلوب هؤلاء الذين ذكرت صفتهم من حقد وضغن مما يكون عادة فى الدنيا. فهم لا يدخلون الجنة وفى قلوبهم أدنى عداوة أو بغضاء مما يكون من أسباب تنغيص النعيم فيها ، حال كون الأنهار تجرى من تحتهم فيرونها وهم فى غرفات قصورهم تتدفق فى جنانها وبساتينها ، فيزدادون حبورا وسرورا لا تشوب صفاءهم شائبة كدر.
روى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال : بلغني أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعض من بعض ظلاماتهم فى الدنيا ، فيدخلون الجنة وليس فى قلوب بعضهم على بعض غلّ » .
وروى عن قتادة أن عليا كرم اللّه وجهه قال : إنى لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال اللّه فيهم « وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً » .
(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ) أي وقالوا شاكرين للّه بألسنتهم معبّرين عن غبطتهم وبهجتهم : الحمد للّه الذي هدانا فى الدنيا(8/153)
ج 8 ، ص : 154
للإيمان الصحيح والعمل الصالح الذي كان جزاؤه هذا النعيم ، وما كان من شأننا ولا مقتضى فكرنا أن نهتدى إليه بأنفسنا لو لا أن هدانا اللّه إليه بتوفيقه إيانا لاتباع رسله ومعونته لنا عليها ورحمته الخاصة بنا - إلى هدايته التي فطرنا عليها وهداية ما خلق لنا من المشاعر والعقل.
(لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) أي إنهم قالوا حين رأوا ما وعدهم به الرسل عيانا لقد جاءت رسل ربنا بالحق ، وهذا مصداق ما وعدنا به فى الدنيا على التوحيد وصالح العمل.
(وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ونادتهم الملائكة قائلين لهم : تلكم هى الجنة التي وعدتم بوراثتها جزاء صالح أعمالكم.
أخرج ابن جرير عن السّدى قال : ليس من مؤمن ولا كافر إلا وله فى الجنة والنار منزل مبين ، فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ودخلوا منازلهم رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل هذه منازلكم لو عملتم بطاعة اللّه ، ثم يقال : يا أهل الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ، فيقتسم أهل الجنة منازلهم.
وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل فى الجنة ومنزل فى النار ، فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله ، فذلك قوله : « أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ » .
وفى الآية دلالة واضحة على أن الجنة تنال بالعمل ، وفى معناها آيات وأحاديث كثيرة.
أما
حديث أبي هريرة الذي رواه الشيخان « لن يدخل أحدا عمله الجنة - قالوا ولا أنت يا رسول اللّه ؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدّنى اللّه بفضله ورحمته »
فيراد منه أن عمل الإنسان مهما كان عظيما فلا يستحق به الجنة لذاته لو لا رحمة اللّه وفضله ، حين جعل هذا الجزاء العظيم على ذلك العمل القليل ، فدخول الجنة بالعمل دخول بفضل(8/154)
ج 8 ، ص : 155
اللّه ورحمته ، ومن ثم قال بعده « فسدّدوا وقاربوا » أي لا تبالغوا ولا تغلوا فى دينكم ولا تتكلفوا من العمل ما لا طاقة لكم به.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 47]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
تفسير المفردات
الوعد خاص بما كان فى الخير ، أو يشمل الخير والشر وهو الصحيح ، والوعيد خاص بالشر أو السوء ، فتسمية ما كان لأهل النار وعدا إما من قبيل التهكم أو للمشاكلة ، والتأذين : رفع الصوت بالإعلام بالشيء ، واللعنة : الطرد والإبعاد مع الخزي والإهانة ، وصدّ عن الشيء : أعرض عنه ، وعوجا : أي ذات عوج أي غير مستوية ولا مستقيمة حتى لا يسلكها أحد ، والعوج (بفتح العين) مختص بالمرئيات (وبكسر العين) مختص بما ليس بمرئىّ كالرأى والقول ، والحجاب هو السور الذي بين الجنة والنار كما قال فى سورة الحديد : « فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ » والأعراف واحدها عرف (بزنة قفل) وهو أعلى الشيء وكل مرتفع من الأرض وغيرها ، ومنه عرف الديك والفرس(8/155)
ج 8 ، ص : 156
والسحاب ، والسيما والسيمياء : العلامة ، وصرفت أي حوّلت. والتلقاء : جهة اللقاء ، وهى جهة المقابلة ، يقال فلان تلقاء فلان إذا كان حذاءه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه وعيد الكفار وثواب أهل الإيمان - عقب ذلك ببيان بعض ما يكون بين الفريقين فريق أهل الجنة وفريق أهل السعير من المناظرة والحوار بعد استقرار كل منهما فى داره.
وفيها دليل على أن الدارين فى أرض واحدة يفصل بينهما سور لا يمنع إشراف أهل الجنة وهم فى أعلى عليين على أهل النار وهم فى هاوية الجحيم ، وأن بعضهم يخاطب بعضا بما يزيد أهل الجنة عرفانا بقيمة النعمة ، ويزيد أهل النار حسرة وشقاء على ما كان من التفريط فى جنب اللّه.
وهذا التخاطب لا يقتضى قرب المكان على ما هو معهود فى الدنيا ، فعالم الآخرة عالم تغلب فيه الروحانية على ظلمة الكثافة الجسدية ، فيمكن الإنسان أن يسمع من بعيد المسافات ، ويرى من أقاصى الجهات.
وإن ماجدّ الآن من المخترعات والآلات التي يتخاطب بها الناس من شاسع البلاد وتفصل بينهما ألوف الأميال إما بالإشارات الكتابية كالبرق - التلغراف اللاسلكى والسلكى - وإما بالكلام اللساني كالمسّرة - التليفون اللاسلكى - والسلكى ليقرّب هذا أتم التقريب ، ويزيدنا فهما له.
وقد تم لهم الآن أن يروا صورة المتكلم بالتليفون مطبوعة على الآلة التي بها الكلام وأن ينقلوا الصور من أقصى البلدان إلى أقصاها بهذه الآلة (التليفزيون).
الإيضاح
(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ ) أي إن أصحاب الجنة حين استقرارهم فى الجنة واستقرار(8/156)
ج 8 ، ص : 157
أهل النار فى النار - إذا ما وجهوا أبصارهم إليهم يسألونهم سؤال افتخار على حسن حالهم وسؤال تهكم وتذكير بجناية أهل النار على أنفسهم بتكذيب الرسل ، وسؤال تقرير لهم بصدق ما بلّغهم الرسل من وعد ربهم لمن آمن واتقى بجنات النعيم قائلين لهم :
قد وجدنا ما وعدنا ربنا على ألسنة رسله من النعيم والكرامة حقا لا شبهة فيه ، وها نحن أولاء : نستمتع بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر - فهل وجدتم ما أوعدكم ربكم من الخزي والنكال حقا ؟
(قالُوا نَعَمْ) أي وجدنا ما أوعدنا به ربنا حاكما بلّغنا على ألسنة الرسل.
(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) أي فكان ردف السؤال والجواب وقيام الحجة عليهم - أن أذّن مؤذن قائلا : لعنة اللّه على الظالمين لأنفسهم الجانين عليها بما أوجب حرمانها من النعيم المقيم ، وهذا المؤذن إما مالك خازن النار ، وإما ملك غيره يأمره اللّه بذلك.
ثم بين المراد من الظالمين فقال :
(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي إنهم هم الذين يعرضون عن سلوك سبيل اللّه الموصلة إلى مرضاته وثوابه ، ويمنعون الناس عن سلوكها ، ويبغونها معوجّة حتى لا يسلكها أحد.
وبغى الظالمين وطلبهم اعوجاج السبيل يجىء على ضروب شتى :
(1) تدسية أنفسهم بالظلم العظيم وهو الشرك فيشوبون التوحيد بشوائب الوثنية فى العبادة والدعاء ويشركون مع اللّه غيره على أنه شفيع عنده ووسيلة إليه ، وهو ما نهى اللّه عنه بقوله : « وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ » وقوله تعالى « حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ » .
(2) ظلمهم لها بالابتداع ، إذ يبغونها عوجا بما يزيدون فى الدين من البدع المحدثات التي لم يرد بها كتاب ولا سنة ، ومستندهم فى ذلك تأويلات جدلية ومحاولات(8/157)
ج 8 ، ص : 158
للتوفيق بين الدين والفلسفة فى الاعتقاديات ، أو زيادات فى العبادات والشعائر كحفل الموالد وترتيلات الجنائز وأذكار المآذن ، أو تحريم ما لم يحرمه اللّه من الطيبات من الرزق ، أو تحليل ما حرم اللّه كبناء المساجد على القبور وإيقاد المصابيح والشموع وغيرها عليها.
(3) ظلمهم لها بالزندقة والنفاق ، إذ يبغونها عوجا بالتشكيك فيها بضروب من التأويل يقصد بها بطلان الثقة بها والصد عنها.
(4) ظلمهم لها فى الأحكام فيبغونها عوجا بترك الحق ، وإقامة ميزان العدل ، والمساواة بين الناس بالقسط.
(5) ظلمهم لها بالغلوّ فيها بجعل يسرها عسرا وسعتها ضيقا بزيادتهم على ما شرعه اللّه من أحكام العبادات والمحظورات والمباحات ، مما نزل فى كتابه وصح من سنة رسوله.
(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) وهم على ضلالهم وإضلالهم كافرون بالآخرة كفرا متأصلا فى نفوسهم ، فلا يخافون عقابا على جرمهم ، ولا ذما ولو ما على إنكارهم يوم البعث والجزاء.
والخلاصة - إنهم جمعوا بين الصد عن سبيل اللّه وبغيها عوجا ، وإنكار البعث والجزاء.
(وَبَيْنَهُما حِجابٌ) أي وبين الفريقين فريقى أهل الجنة وأهل النار حجاب يفصل كلا منهما من الآخر ويمنعه من الاستطراق إليه.
وهذا الحجاب هو السور الذي سيأتى ذكره فى سورة الحديد بقوله : « يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ، قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً ، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ » الآية(8/158)
ج 8 ، ص : 159
(وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) أي وعلى أعالى ذلك السور رجال يرون أهل الجنة وأهل النار جميعا قبل الدخول فيها ، فيعرفون كلا منهما بسيماهم التي وصفهم اللّه بها فى نحو قوله : « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ » .
وهؤلاء الرجال هم طائفة من الموحدين قصرت بهم سيئاتهم عن الجنة ، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار ، جعلوا هناك حتى يقضى بين الناس ، فبينماهم كذلك إذ يطلع عليهم ربهم فيقول : قوموا ادخلوا الجنة فإنى قد غفرت لكم ، أخرجه أبو الشيخ والبيهقي وغيرهما عن حذيفة ،
وفى رواية عنه : « يجمع اللّه الناس ثم يقول لأصحاب الأعراف : ما تنتظرون ؟ قالوا ننتظر أمرك فيقال :
إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها ، وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم فادخلوها بمغفرتى ورحمتى » .
(وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي ونادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة قائلين لهم : سلام عليكم ، وهذا السلام إما تحية ودعاء وإما إخبار بالسلامة من المكروه والنجاة من العذاب ، هذا إن كان قبل دخول الجنة ، فإن كان بعدها فهو تحية خالصة تدخل فى عموم قوله تعالى « لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً » .
(لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) أي نادوهم مسلّمين عليهم حال كونهم لم يدخلوها بعد وهم طامعون فى دخولها ، لما بدا لهم من يسر الحساب.
وقد جاء فى الآثار أن الناس يكونون فى الموقف بين الخوف والرجاء ، لا تطمئن قلوب أهل الجنة حتى يدخلوها.
روى أبو نعيم عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه قال : لو نادى مناديا أهل الموقف ادخلوا النار إلا رجلا واحدا لرجوت أن أكون ذلك الرجل ، ولو نادى.
دخلوا الجنة إلا رجلا واحدا لخشيت أن أكون ذلك الرجل.(8/159)
ج 8 ، ص : 160
(وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي وكلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى اللّه تعالى ألا يجعلهم مثلهم ، والمقصود من الآية الإنذار والتخويف ليتبصر المرء فى عاقبة أمره ، فيفوز بالثواب المقيم فى جنات النعيم.
وفى التعبير بصرف الأبصار وتحويلها إيماء إلى أنهم يوجهون أبصارهم إلى أصحاب الجنة بالقصد والرغبة ويلقون إليهم السلام ، ويكرهون رؤية أهل النار ، فإذا حوّلت أبصارهم إليهم عن غير قصد ولا رغبة ، بل بصارف يصرفهم إليها ، قالوا ربنا لا تجعلنا معهم حيث يكونون ، وفى ذلك من استعظام حال الظالمين ، واستفظاع مآلهم وشناعة أمرهم ما لا يخفى.
وعن سعيد بن جبير أن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال « يحاسب اللّه الناس يوم القيامة ، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ، ثم قرأ قول اللّه « فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ » الآيتين ، ثم قال : إن الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح. ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف ، فوقفوا على الصراط ، ثم عرض أهل الجنة وأهل النار ، فإذا نظروا إلى أهل الجنة قالوا : سلام عليكم ، وإذا صرفت أبصارهم إلى يسارهم رأوا أهل النار فقالوا (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) تعوّذوا باللّه من منازلهم. قال :
«
فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نورا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم ، ويعطى كل عبد يومئذ نورا وكل أمة نورا ، فإذا أتوا على الصراط سلب اللّه نور كل منافق ومنافقة. فلما رأى أهل الجنة ما لقى المنافقون قالوا « رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا » وأما أصحاب الأعراف فإن النور كان فى أيديهم فلم ينزع من أيديهم ، فهنالك يقول اللّه تعالى (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) فكان الطمع دخولا » .(8/160)
ج 8 ، ص : 161
قال سعيد : فقال ابن مسعود : على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر ، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة ثم قال : هلك من غلب وحدانه أعشاره. ا ه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 48 الى 49]
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
الإيضاح
(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) هذا نداء آخر من بعض أصحاب الأعراف لبعض المستكبرين الذين كانوا يعتزّون فى الدنيا بغناهم وقوتهم ، ويحتقرون ضعفاء المؤمنين لفقرهم وضعف عصبيتهم أو لحرمانهم من عصبية تمنعهم وتذود عنهم ، ويزعمون أن من أغناه اللّه وجعله قويا فى الدنيا فهو الذي يكون له نعيم الآخرة كما قال تعالى « وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ » .
ومن هؤلاء زعماء قريش وطغاتها الذين قاوموا الإسلام فى مكة واضطهدوا أهله كأبى جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل.
والسيما التي يعرفونهم بها هى سواد الوجوه ، ورزقة العيون ، وتشويه الخلق واختار أبو مسلم أنهم يعرفونهم بسيماهم الخاصة التي كانوا عليها فى الدنيا ، وقيل بسيما المستكبرين إذ قد جاء فى الأثر ما يدل على أن لمن تغلب عليهم رذيلة خاصة - علامة(8/161)
ج 8 ، ص : 162
تدل عليهم فيعرفون بها فقد روى البخاري « يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة ، وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيعرفه فيشفع له ، فلا تقبل شفاعته ، ثم يمسخه اللّه ذئبا منتنا ليزول عن إبراهيم خزيه » فمسخه ذئبا مناسب لحماقته ونتن الشرك.
والخلاصة - إنهم نادوهم قائلين لهم : ما أغنى عنكم جمعكم للمال ولا استكباركم على المستضعفين والفقراء من أهل الإيمان ، إذ لم يمنع عنكم العقاب ، ولا أفادكم شيئا من الثواب.
ثم وجّه إليهم سؤال توبيخ وتأنيب بحضرة هؤلاء المستضعفين فقيل لهم :
(أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ؟ ) أي وقالوا لهم مع الإشارة إلى أولئك المستضعفين الذين كانوا يضطهدونهم ويعذبونهم فى الدنيا كصهيب الرومي وبلال الحبشي وآل ياسر ، والتهكم من خزيهم وفوز من كانوا يحتقرونهم : أ هؤلاء الذين حلفتم فى الدنيا إن رحمة اللّه لن تنالهم ؟ إذ لم يعطوا فى الدنيا مثل ما أعطيتم من الأتباع والأشياع وكثرة المال.
(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أي قال اللّه تعالى لأصحاب الأعراف بعد أن يحبسوا على الأعراف ، وينظروا إلى الفريقين ويعرفوهم بسيماهم ويقولوا ما يقولون ادخلوا الجنة لا خوف عليكم مما يكون فى مستقبل أمركم ، ولا أنتم تحزنون مما ينغّص عليكم حاضركم.
وفائدة هذه المقالة بيان أن الجزاء على قدر الأعمال ، وأن أحدا لا يسبق عند اللّه إلا بسبقه فى العمل ، ولا يتخلف عنده إلا بتخلفه فيه ، وليرغب السامعون فى حال السابقين ، وليعرفوا أن كل أحد يعرف فى ذلك اليوم بسيماه التي يوسم بها ، سواء أ كان من أهل الخير أم من أهل الشر ، فيزيد المحسن فى إحسانه ويرتدع المسيء عن إساءته ، وليعلموا أن العصاة يوبخهم كل أحد حتى أقل الناس عملا.(8/162)
ج 8 ، ص : 163
[سورة الأعراف (7) : الآيات 50 الى 51]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه مقال أهل الجنة لأهل النار ومقال أصحاب الأعراف لأهل النار - أردف ذلك ما قال أهل النار لأهل الجنة - وطلبهم منهم بعض ما عندهم من نعم اللّه عليهم.
الإيضاح
(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) إفاضة الماء : صبه ثم استعملت فى الشيء الكثير فيقال : فاض الرزق والخير ، وأفاض عليه النعم ، وقالوا أعطاه غيضا من فيض أي قليلا من كثير ، وما رزقهم اللّه يشمل الطعام والأشربة غير الماء.
والمعنى - إن أهل النار يستغيثون بأهل الجنة ويطلبون منهم أن يفيضوا عليهم من النعم الكثيرة التي يتمتعون بها من شراب وطعام.
وعن ابن عباس « ينادى الرجل أخاه فيقول : يا أخى أغثنى فإنى قد احترقت فأفض علىّ من الماء ، فيقال : أجبه فيقول : إن اللّه حرمهما على الكافرين » .
و
عن أبي الدرداء « إن اللّه يرسل على أهل النار الجوع حتى يزداد عذابهم فيستغيثون فيغاثون بالضّريع (نبات رطبه يسمى شبرقا ، ويابسه يسمى ضريعا لا تقر به دابة لنتن ريحه) لا يسمن ولا يغنى من جوع ، ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذى غصة ،(8/163)
ج 8 ، ص : 164
ثم يذكرون الشراب ويستغيثون فيدفع إليهم الحميم والصديد بكلاليب الحديد فيقطع ما فى بطونهم ويستغيثون إلى أهل الجنة ، فيقول أهل الجنة : إن اللّه حرمهما على الكافرين » .
وهذا طلب منهم مع علمهم باليأس من إجابته ، إذ هم يعرفون دوام عقابهم وأنه لا يفتر عنهم أبدا ، ولكن اليأس من الشيء قد يطلبه كما قالوا فى أمثالهم (الغريق يتعلق بالزبد).
(قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ. الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) التحريم المنع وهو إما تحريم تكليف كتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وإما تحريم قهر كتحريم الجنة وما فيها على الكافرين فى مثل هذه الآية.
والمعنى - إن أهل الجنة قالوا جوابا عن هذا الاستجداء : إن اللّه قد حرم ماء الجنة ورزقها على الكافرين ، كما حرم عليهم دخولها ، فلا سبيل لإفاضة شىء منهما عليهم وهم فى النار ، إذ ليس لهم إلا ماؤها الحميم وطعامها من الضريع والزقوم.
وقد وصف أهل الجنة الكافرين بأنهم هم الذين كانوا السبب فى هذا المنع والحرمان ، إذ جعلوا ديدنهم أعمالا لا تزكّى الأنفس ولا تجعلها أهلا للتشريف والكرامة ، بل هى إما لهو يشغل الإنسان عن الجدّ والأعمال المفيدة ، وإما لعب لا يقصد منه فائدة صحيحة فهو كأعمال الأطفال ، وقد غرتهم الحياة الدنيا بشهواتها ولذاتها من الحرام والحلال ، أما أهل الجنة فقد سعوا لها سعيها ، وعلموا أن الدنيا مزرعة الآخرة ، ومن ثم لم يكن من قصدهم من التمتع بنعم اللّه إلا الاستعانة بها على ما يرضيه من إقامة الحق والعدل ، والاستعداد لحياة أبدية لا نهاية لها.
والخلاصة - إن الدنيا شغلتهم بزخارفها العاجلة وشهواتها الباطلة ، فعزّتهم وضرتهم ، وهى من شأنها أن تغرّ وتضر وتمرّ.
ثم ذكر عاقبة أمرهم فقال :
(فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) أي فاليوم نعاملهم معاملة الشيء المنسى(8/164)
ج 8 ، ص : 165
الذي لا يبحث عنه أحد ، كما جعلوا هذا اليوم منسيا ، والمراد من النسيان عدم إجابة دعائهم وتركهم فى النار.
(وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) أي وكما كانوا منكرين أن الآيات من عند اللّه إنكارا مستمرا ، ورفضوا ما جاءت به رسله ظلما وعلوا.
والخلاصة - فاليوم نتركهم فى العذاب كما تركوا العمل فى الدنيا للقاء اللّه يوم القيامة ، وكما كانوا بآيات اللّه وحججه التي احتج بها عليهم الأنبياء والرسل يجحدون ولا يصدّقون بشىء منها.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 52 الى 53]
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)
تفسير المفردات
الكتاب هو القرآن الكريم ، والتفصيل جعل المسائل المراد بيانها مفصولا بعضها من بعض بما يزيل اشتباهها وينظرون أي ينتظرون ، وتأويله أي عاقبته ، والحق هو الأمر الثابت ، والخسران : الغبن ، وضل عنهم ، أي غاب عنهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أحوال أهل الجنة وأهل النار وأهل الأعراف وذكر الحوار الذي كان بين هذه الفرق الثلاثة على وجه يحمل الناظر فيها على الحذر والاحتراس والتأمل(8/165)
ج 8 ، ص : 166
فى العواقب ، لعله يرعوى عن غيه ويهتدى إلى سبيل رشده ، عقّب ذلك بذكر حال الكتاب الكريم وعظيم فضله وجليل منفعته ، وأنه حجة اللّه على البشر كافة ، وأنه أزاح به علل الكفار وأبطل معاذيرهم ، ثم بذكر حال المكذبين وما يكون منهم يوم القيامة من الندم والحسرة وتمنى العودة إلى الدنيا لإصلاح أعمالهم.
الإيضاح
(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ ، هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي ولقد جئنا هؤلاء القوم بكتاب كامل البيان وهو القرآن ، فصلنا آياته تفصيلا على علم منا بما يحتاج إليه المكلفون من العلم والعمل ، تزكية لنفوسهم وتطهيرا لقلوبهم ، وجعلناه سبب سعادتهم فى معاشهم ومعادهم ، وهدى ورحمة لمن يؤمن به إيمانا يبعثه على العمل بما أمر به ، والانتهاء عما نهى عنه.
انظر إليه تجده قد أوضح أصول الدين العامة بما لا يطلب معه زيادة لمستزيد ، فنعى على المقلدين الأخذ بآراء من تقدمهم من آبائهم ورؤسائهم دون بحث ولا تمحيص فى مثل قوله : « إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ » وكرر القول ببطلان التقليد وضلال المقلدين ، وحث على النظر والاستدلال والاعتماد على البرهان فى مثل قوله : « قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » وبهذا كان الإسلام دين العقل والفطرة ، وينبوع الهدى والحكمة والرحمة.
وحين وجد الناس افتنّوا فى الشرك ، وفرقوا بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية فظنوا أن الإيمان بوحدة الرب خالق الكون - كاف فى الإيمان ولا يضر التوجه إلى غيره من المقربين بالدعاء وطلب ما يعجز المرء عن نيله من طريق الأسباب ، ظنا منهم أن التوسل به إليه وشفاعته عنده مما يرضيه - أبطل هذه الشبهات ، وأزال هذه(8/166)
ج 8 ، ص : 167
التعلات وبسط ذلك كل البسط. وأطنب فيه أيّما إطناب. إلى نحو ذلك من مسائل تبصّر المرء فى دينه ودنياه. وتعرفه مبدأه ومنتهاه.
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي هل ينتظرون إلا عاقبة ما وعدوا به على ألسنة الرسل من الثواب والعقاب ، أي ليس أمامهم شىء ينتظرونه فى أمره إلا وقوع تأويله وهو وقوع ما أخبر به من أمر الغيب الذي يقع فى المستقبل فى الدنيا ثم فى الآخرة مما وعد به المؤمنين من نصر وثواب ، والكافرين من خذلان وعقاب.
روى عن الربيع بن أنس أنه قال : لا يزال يقع من تأويله أمر حتى يتم تأويله يوم القيامة حين يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيتم تأويله يومئذ.
(يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) أي يأتى تأويله ونهايته يوم القيامة وتزول كل شبهة فيقول الذين نسوه من قبل أي تركوه وجعلوه كالشىء المنسى وأعرضوا عنه فلم يهتدوا به : قد جاءت رسل ربنا بالحق ، أي قد تبين أنهم قد جاءوا بما هو متحقق ثابت ، فتمارينا فيه وأعرضنا عنه حتى حق علينا الجزاء.
ثم ذكر حالهم فى ذلك اليوم وتلهفهم على النجاة فيتمنون إما شفاعة الشافعين أو رجوعهم إلى الدنيا ليصلحوا أعمالهم فقال :
(فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا ، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ؟ ) أي إنهم يتمنون الخلاص بكل وسيلة ممكنة ، إما بشفاعة الشفعاء ، وإما بالرجوع إلى الدنيا ليعملوا فيها غير ما كانوا يعملون فى حياتهم الأولى فيكونوا أهلا لمرضاة ربهم.
وإنما تمنّوا الشفعاء وتساءلوا عنهم ، من حيث كان من أسس الشرك أن النجاة عند اللّه إنما تكون بوساطة الشفعاء ، وعند ما يستبين لهم الحق الذي جاءت به الرسل وهو أن النجاة إنما تكون بالإيمان الصحيح والعمل الصالح يتمنون لو يردون إلى الدنيا ليعملوا بما أمرهم به الرسل.
(قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي هم قد غبنوا أنفسهم(8/167)
ج 8 ، ص : 168
حظوظها وباعوا نعيم الآخرة الدائم بالخسيس من عرض الدنيا الزائل ، ويومئذ يغيب عنهم ما كانوا يفترون من خبر الشفعاء ومقالاتهم التي كانوا يقولونها كقولهم فى معبوداتهم « هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ » .
وخلاصة ذلك - إنهم قد خسروا أنفسهم بتدنيسها بالشرك والمعاصي وعدم تزكيتها بالفضائل والأعمال الصالحة ، فخسروا حظوظهم فيها.
[سورة الأعراف (7) : آية 54]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)
تفسير المفردات
الرب : هو السيد والمالك والمدبر والمربى ، والإله : هو المعبود الذي يدعى لكشف الضر أو جلب النفع ويتقرب إليه بالأقوال والأعمال التي يرجى أن ترضيه ، واللّه : اسم الخالق الخلق أجمعين ، ولا يثبت الموحّدون ربا سواه ، وأكثر المشركين يقولون إنه أكبر الأرباب أو رئيسهم وأعظم الآلهة ، وكان مشركوا العرب لا يثبتون ربا سواه ، وإنما يعبدون آلهة تقربهم إليه ، والسموات والأرض : يراد بهما العالم العلوي والعالم السفلى ، واليوم : الزمن الذي يمتاز عن غيره بما يحدث فيه كامتياز اليوم المعروف بما يحده من النور والظلام ، وامتياز أيام العرب بما كان يقع فيها من الحرب والخصام ، وليست هذه الأيام الستة من أيام الأرض وهى التي مجموع ليلها ونهارها أربع وعشرون ساعة ، فإن هذه إنما وجدت بعد خلق هذه الأرض ، فكيف يعدّ خلقها بأيام منها ، ولأن اللّه تعالى يقول « وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ » ويقول فى وصف يوم القيامة « فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ » والعرش لغة : كل شىء له سقف ،(8/168)
ج 8 ، ص : 169
ويطلق على هودج للمرأة يشبه عريش الكرم ، وعلى سرير الملك وكرسيه فى مجلس الحكم والتدبير ، والاستواء لغة : استقامة الشيء واعتداله ، واستوى الملك على عرشه أي ملك ، وثلّ عرشه أي هلك ، وغشّى الشيء الشيء : ستره وغطاه ، وأغشاه إياه : جعله يغشاه أي يغطّيه ويستره ، ومنه إغشاء الليل النهار ، وحثيثا أي مسرعا ، من قولهم فرس حثيث السير أي سريعه ، بأمره أي بتدبيره وتصرفه. مسخرات أي مذلّلات خاضعات لتصرفه ، منقادات لمشيئته والخلق : التقدير والمراد هنا الإيجاد بقدر تبارك اللّه : تعاظمت بركاته والبركة : الخير الكثير الثابت.
المعنى الجملي
علمت مما سلف من قبل أن الأسس التي عنى القرآن الكريم بشأنها هى التوحيد والنبوة والمعاد والقضاء والقدر ، وإثبات المعاد موقوف على إثبات الوحدانية للّه والعلم الشامل والقدرة التامة.
ولما بسط القول فيما سلف فى أمر المعاد وبين فئات الناس فى ذلك اليوم وما يدور من حوار بين أصحاب النار وأصحاب الجنة - قفّى على ذلك بذكر الخلق والتكوين وبيان مقدوراته تعالى وعظيم مصنوعاته ، لتكون دليلا على الربوبية والألوهية وأنه لا معبود سواه.
الإيضاح
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) يخاطب سبحانه الناس كافة بأن ربكم واحد وهو الذي خلق السموات والأرض فى ستة أيام ودبّر أمورهما فيجب عليكم أن تعبدوه وحده ، إذ لا إله لكم غيره.
وقد جاء فى معنى الآية قوله فى سورة حم السجدة « قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ(8/169)
ج 8 ، ص : 170
فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ، وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ »
وقوله فى سورة الأنبياء : « أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ، أَفَلا يُؤْمِنُونَ ؟ » .
وبالتأمل فى هذه الآيات نستخلص منها الأمور الآتية :
(1) إن المادة التي خلقت منها السموات والأرض كانت دخانا أي مثل الدخان.
(2) إن هذه المادة الدخانية كانت واحدة ثم فتق اللّه رتقها أي التئامها بأن فصل بعضها من بعض ، فخلق منها هذه الأرض والسموات السبع.
(3) إن خلق الأرض كان فى يومين ، وأن تكون اليابسة والجبال الرواسي فيها وأنواع النبات والحيوان كان فى يومين آخرين تتمة أيام أربع.
(4) إن جميع الأحياء النباتية والحيوانية خلقت من الماء.
(5) إن اليوم الأول من أيام خلق الأرض هو الزمن الذي كانت فيه كالدخان حين فتقت من رتق المادة العامة التي خلق منها كل شىء سواء أ كان ذلك بواسطة أم بدونها.
(6) إن اليوم الثاني هو الزمن الذي كانت فيه مائية بعد أن كانت بخارية أو دخانية.
(7) إن اليوم الثالث هو الزمن الذي تكونت فيه اليابسة ونتأت منها الرواسي فتماسكت بها (8) إن اليوم الرابع هو الزمن الذي ظهرت فيه أجناس الأحياء من الماء وهى النبات والحيوان.(8/170)
ج 8 ، ص : 171
(9) إن السماء - العالم العلوي بالنسبة إلى أهل الأرض - قد سوّيت أجرامها من مادتها الدخانية فى يومين آخرين أي زمنين شبيهين بالزمنين اللذين خلق فيهما جرم الأرض.
وما استنبط من هذه الآيات يوافق ما أقره علماء الفلك فى العصر الحديث ، فقد قالوا : إن المادة التي خلقت منها الأجرام السماوية وخلقت منها الأرض كانت سديما ، وكانت واحدة رتقا ثم انفصل بعضها من بعض ، وكانت مؤلفة من أجزاء دقيقة متحركة تجمّع بعضها إلى بعض ، بمقتضى قانون الجاذبية فتكون منها كرة عظيمة تدور على محورها واشتعلت من شدة الحركة فكانت ضياء ونورا تصحبه حرارة شديدة ، وهذه الكرة العظيمة فى عالمنا هى التي نسميها بالشمس والكواكب الدراري التابعة لها فيما نرى ونشاهد ومنها أرضنا ، انفتقت من رتقها وانفصلت من جرمها وكانت مشتعلة مثلها وتدور على محاورها.
ثم إن الأرض تحولت من طور الغازية المشتعلة إلى طور المائية بنظام مقدر فى أزمنة طويلة ، إذ كان الأكسجين والإيدروجين وهما العنصران اللذان يتكون منهما الماء يرتفعان فى الجو لخفتهما فيبردان فيكونان نحارا فماء وما زال أمرها كذلك حتى غلب عليها طور المائية.
ثم تكونت اليابسة فى هذا الماء بسبب حركة أجزاء المادة وتجمع بعضها مع بعض بنسب ومقادير مختلفة ، ثم تولدت فيها المعادن على أنواع شتى ، وما زالت تبرد قشرتها الظاهرة وتجفّ شيئا فشيئا حتى صلحت لتوالد النبات والحيوان فوجدت فيها الأحياء النباتية ثم الحيوانية.
ولا شك أن هذه الأقوال إن صحت كانت بيانا لما أجمل فى الكتاب الكريم وإن لم تصح فالقرآن لا يناقض شيئا منها ، ولكنها أقرب النظريات إلى سنن الكون وصفة عناصره البسيطة وحركتها ، وتعتبر تفصيلا لخلق العالم أطوارا بسنن ثابتة وتقدير منظم.(8/171)
ج 8 ، ص : 172
وقد أرشد الكتاب الكريم إلى مثل هذه الحقائق فى نحو قوله : « إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ » وقوله حكاية عن رسوله نوح صلى اللّه عليه وسلم مخاطبا قومه :
« ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً ، أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً. وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً » .
فهذه الحقائق العلمية التي بينهما القرآن ولم يكن أحد من المخاطبين فى عصر التنزيل يعرفها - من أكبر الأدلة على إعجازه وأنه من كلام العليم الخبير بكل شىء لا من كلام البشر.
وهذا النظام والتدريج فى الخلق من الدلائل على الإرادة والاختيار والحكمة ووحدانية الخالق ، فإن ما لا نظام فيه قد يظن أن وجوده أمر اتفاقي أو من فعل الكثير لا من فعل الواحد ، فإنك ترى الفرق واضحا بين كومة من الحصى تراها فى الصحراء وبين حصن مشيد فيه جميع العدد والآلات المعدة للقتال.
وما ورد فى الأخبار مما يدل على أن هذه الأيام الستة هى من أيام دنيانا
كحديث أحمد ومسلم عن أبي هريرة قال « أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيدي فقال :
« خلق اللّه عز وجل التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الرواسي يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق فى آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل »
فهو من الإسرائيليات التي لم يصح فيها حديث مرفوع - إلى أن هذا الحديث مردود من جهة متنه لمخالفته لنص كتاب اللّه ، ومن جهة سنده لأنه مروى عن حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وقد اختلط عقله فى آخر عمره ، ومن ثم قال الحافظ ابن كثير بعد أن أورد الحديث فى تفسيره : وفيه استيعاب الأيام(8/172)
ج 8 ، ص : 173
السبعة واللّه تعالى قال : « فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ » ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ فيه وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار وليس مرفوعا ا ه.
(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي إنه تعالى قد استوى على عرشه بعد تكوين هذا الملك يدبر أمره ويصرّف نظامه بحسب تقديره الذي اقتضته حكمته.
وفى معنى الآية قوله فى سورة يونس : « إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ » .
واستواؤه تعالى على العرش : هو استقامة أمر السموات والأرض وانفراده بتدبيرهما ، والإيمان بذلك غير موقوف على معرفة حقيقة ذلك التدبير ولا معرفة صفته ولا كيف يكون ، فالصحابة رضوان اللّه عليهم والأئمة من بعدهم لم يشتبه أحد منهم فيه ، وقد أثر عن ربيعة شيخ الإمام مالك أنه سئل عن قوله : « اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ » كيف استوى ؟
فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، ومن اللّه الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التصديق.
وقال الحافظ ابن كثير : مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعى والثّورى واللّيث ابن سعد والشافعي وأحمد وإسحق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه. وقال نعيم بن حماد شيخ البخاري :
من شبّه اللّه بخلقه كفر ، ومن جحد ما وصف اللّه به نفسه فقد كفر ، وليس فيما وصف اللّه به نفسه ولا رسوله - تشبيه ، فمن أثبت ما وردت به الآثار الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال اللّه ونفى عن اللّه النقائص فقد سلك سبيل الهدى ا ه.
(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أي إنه تعالى جعل الليل وهو الظلمة يغشى النهار وهو ضوء الشمس على الأرض أي يتبعه ويغيب على المكان الذي كان فيه ويستره(8/173)
ج 8 ، ص : 174
حال كون الطلب حثيثا أي بسرعة ، المراد أنه يعقبه سريعا كالطالب له لا يفصل بينهما شىء.
ويظهر ذلك الطلب السريع أتم الظهور بما أثبته العلم حديثا من كروية الأرض وأنها تدور على محورها حول الشمس ، فيكون نصفها مضيئا بنورها دائما ونصفها الآخر مظلما دائما ، وقد قال بهذا القول كثير من علماء الإسلام كالغزالى والرازي وابن تيمية وابن القيّم وغيرهم.
وهذه الجملة كالدليل على ما قبلها ، فإنه بعد أن أخبر عباده باستوائه على العرش وتدبيره لجميع المخلوقات - أراهم ذلك عيانا فيما يشاهدونه منها ليضم العيان إلى الخبر وتزول الشبه - إلى ما فى تعاقب الليل والنهار من المنافع العظيمة والفوائد الجليلة ، إذ بتعاقبهما الحياة وتكمل المنفعة والمصلحة.
(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) أي وخلق هذه الأشياء حال كونها مذللات خاضعات لتصرفه منقادات لحكمه.
(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) أي ألا إن اللّه الخلق ، فهو الخالق المالك لذوات المخلوقات وله فيها الأمر أي التصرف والتدبير ، إذ هو المالك لها لا شريك له فى ملكه.
ومن هذا التدبير ما سخر له الملائكة من نظام العالم وتنفيذ سننه فى خلقه ، كما جاء فى قوله : « فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً » ومن ذلك الوحى الذي ينزل به الملائكة على الرسل كما جاء فى قوله : « اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ » .
وفى معنى الآية قوله : « إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ » وقوله : « فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ » وقوله : « لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ » وجاءت هذه الجملة توكيدا لما قبلها لبيان أنه هو الذي خلق السموات والأرض وهو الذي دبرهما وصرفهما بحسب إرادته.(8/174)
ج 8 ، ص : 175
(تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي تعالى اللّه بوحدانيته وألوهيته ، وتعظم بالتفرد بربوبيته ، وأن كل ما فى هذا العالم من الخيرات الكثيرة والنعم العظيمة فهو منه ، فيجب على عباده أن يشكروه عليها ويعبدوه دون غيره مما عبدوه معه وليس له من الخلق ولا من الأمر شىء.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 56]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
تفسير المفردات
التضرع : التذلل ، وهو إظهار ذل النفس من قولهم ضرع فلان لفلان وتضرّع له : إذا أظهر الذل فى معرض السؤال ، والخفية : ضد العلانية من أخفيت الشيء أي سترته ، والاعتداء : تجاوز الحدود ، ومحبة اللّه للعمل : ثوابه عليه ، ومحبته للعامل :
رضاه عنه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه الأدلة على توحيد الربوبية - قفّى على ذلك بالأمر بتوحيد الإلهية بإفراده تعالى بالعبادة ، وروحها ومخّها الدعاء والتضرع له.
الإيضاح
(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) أي ادعوا ربكم ومتولى أموركم حال كونكم متضرعين مبتهلين إليه مخفين دعاءكم.
وفى هذا إيماء إلى أن الدعاء فى الخفية إن لم يكن واجبا فهو مندوب على الأقل ، ويدل على ذلك وجوه :(8/175)
ج 8 ، ص : 176
(1) إنه تعالى أثنى على زكريا فقال : « إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا » أي إنه أخفاه عن العباد وأخلصه للّه وانقطع به إليه.
(2)
روى أبو موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال : كنا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم فى سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم » رواه مسلم.
(3)
روى أنه عليه الصلاة والسلام قال : « دعوة فى السر تعدل سبعين دعوة فى العلانية »
وقال : « خير الذكر الخفىّ ، وخير الرزق ما يكفى » .
(4) روى عن الحسن البصري أنه قال : إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل ليصلى الصلاة الطويلة فى بيته وعنده الزّور وما يشعرون به ، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعلموه فى السر فيكون علانية أبدا ، ولقد كان المسلمون يجتهدون فى الدعاء وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم ، وذلك أن اللّه تعالى يقول : « ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً » ا ه.
(5) إن النفس شديدة الرغبة فى الرياء والسمعة ، فإذا رفع المرء صوته بالدعاء امتزج الرياء به ، فلا يبقى فيه فائدة البتة ، ومن ثم كان الأولى الإخفاء ليبقى مصونا عن الرياء.
وفصّل بعض العلماء فقال : إن التضرع بالجهر المعتدل يحسن فى حال الخلوة والأمن من رؤية الناس للداعى ومن سماعهم لصوته ، فلا جهره يؤذيهم ، ولا الفكر فيهم يشغله عن التوجه إلى الرب وحده ، أو يفسد عليه دعاءه بحب الرياء والسمعة ، ويحسن الإسرار فى حال اجتماع الناس فى المساجد والمشاعر وغيرها إلا ما ورد فيه رفع الصوت من الجميع كالتلبية فى الحج وتكبير العيدين.(8/176)
ج 8 ، ص : 177
وإذ كان الليل سترا ولباسا شرع فيه الجهر فى قراءة الصلاة - إلى أنه يطرد الوسواس ، ويقاوم فتور النّعاس ويعين على تدبر القرآن ، وبكاء الخشوع للرحمن ، لدى المتهجدين فى خلواتهم.
(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي المتجاوزين ما أمروا به ، ونحو الآية قوله : « تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها ، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ » .
وللاعتداء فى الدعاء مظاهر شتى :
(1) اعتداء خاص بالألفاظ كالمبالغة فى رفع الصوت والتكلف فى صيغ الدعاء.
(2) اعتداء خاص بالمعنى وهو طلب غير المشروع من وسائل المعاصي ومقاصدها كضرر العباد وطلب إبطال سنن اللّه فى الخلق ، أو تبديلها كطلب النصر على الأعداء مع ترك وسائله كأنواع السلاح والعتاد ، وطلب الغنى بلا كسب ، وطلب المغفرة مع الإصرار على الذنب مع أن اللّه يقول « فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا. وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا » .
(3) اعتداء بالتوجه فيه إلى غير اللّه ليشفع له عنده ، وهذا شر أنواع الاعتداء كما قال « فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً » ومن طلب ذلك من غير اللّه فقد اتخذه إلها ، لأن الإله هو المعبود كما
روى أحمد عن النعمان بن بشير أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال « الدعاء هو العبادة »
وروى الترمذي عن أنس مرفوعا « الدعاء مخ العبادة »
وروى عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « سلوا اللّه لى الوسيلة ، قالوا وما الوسيلة ؟ قال : القرب من اللّه عز وجل ، ثم قرأ « يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ »
وابتغاء ذلك يكون بدعائه وعبادته بما شرعه على لسان رسوله دون غيره.
وقد جاءت آيات كثيرة فى الإنكار على المشركين دعاء غير اللّه وكونه عبادة له وشركا باللّه ، ولكن مدعى العلم الذين يقولون على اللّه : يقولون لا بأس بدعاء(8/177)
ج 8 ، ص : 178
الأولياء والصالحين عند قبورهم والتضرع والخشوع لهم ، ويكون توسلا بهم إلى اللّه ليقربوهم منه بشفاعتهم ، لا عبادة لهم.
وقد علمت أن التوسل إنما هو التقرب إلى اللّه بما يرتضيه وبما شرعه من عبادته دون غيرها ، وآيات الكتاب الكريم صريحة فى ذلك.
نعم إن طلب الدعاء من المؤمنين مشروع من الأحياء لا من الأموات ، ويسمى ذلك توسلا لأنه قد شرعه اللّه كما توسل عمر والصحابة بالعباس بصلاة الاستسقاء وما بعدها من الدعاء.
وما ذم اللّه المشركين إلا لأنهم أشركوا مع اللّه غيره فى الدعاء ، وهم كانوا يؤمنون باللّه وبعضهم كان يؤمن باليوم الآخر ، ولكن طرأ عليهم الشرك الذي أحبط أعمالهم ، وهكذا يحبط إيمان من أشرك من المسلمين بدعاء غير اللّه.
(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) أي ولا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاح اللّه لها بما خلق فيها من المنافع وما هدى الناس إليه من استغلالها والانتفاع بتسخيرها لهم وامتنانه بذلك فى مثل قوله « وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » .
وهذا الإفساد شامل لإفساد النفوس بالقتل وقطع الأعضاء ، وإفساد الأموال بالغصب والسرقة ، وإفساد الأديان بالكفر والمعاصي ، وإفساد الأنساب بالإقدام على الزنا ، وإفساد العقول بشرب المسكر ونحوه.
والخلاصة - إن الإفساد شامل لإفساد العقول والعقائد والآداب الشخصية والاجتماعية والمعايش والمرافق من زراعة وصناعة وتجارة ووسائل تعاون بين الناس.
وإصلاح اللّه تعالى لحال البشر كان بهداية الدين وإرسال الرسل ، وتمم ذلك ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين الذي كان رحمة للعالمين ، فبه أصلحت عقائد البشر ، وهذبت أخلاقهم وآدابهم بما جمع لهم فيها من مصالح الروح والجسد ، وما شرع لهم(8/178)
ج 8 ، ص : 179
من التعاون والتراحم ، وبما حفظ لهم من العدل والمساواة ، وبما شرع لهم من الشورى المقيدة بقاعدة درء المفاسد وحفظ المصالح ، وبذا امتاز به دينهم عن بقية الأديان.
انظر إلى الأمم ذوات الحضارة والمدنية ترها أصلحت كل شىء من معدن ونبات وحيوان ، ولكنها عجزت عن إصلاح نفس الإنسان ، ومن ثم تحوّل كل ما هدوا إليه من وسائل العمران إلى إفساد نوع الإنسان ، وتعادت الشعوب وتنازعت على الملك والسلطان ، وأباحت الكفر والعصيان ، وبذل الثروة فى سبيل التنكيل بالخصوم والجناية على الأعداء ولو بالجناية على أنفسهم ، وما الحروب القائمة فى مشارق الأرض ومغاربها بين الدول الكبرى والتي أكلت الحرث والنسل وأزهقت أرواح الملايين من الناس بين حين وآخر إلا شاهد صدق على ما نقول.
وبعد أن بين فى الآية الأولى شرط الدعاء أعاد الأمر به إيذانا بأن من لا يعرف أنه محتاج إلى رحمة ربه مفتقر إليها ، ولا يدعو ربه تضرعا وخفية ولا يخاف من عقابه ولا يطمع فى غفرانه بكون أقرب إلى الإفساد منه إلى الإصلاح فقال :
(وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) الخوف توقع مكروه يحصل بعد ، والطمع توقع محبوب يحصل كذلك أي ادعوه خائفين من عقابه على مخالفتكم لشرعه المصلح لأنفسكم وأجسامكم ، طامعين فى رحمته وإحسانه فى دنياكم وآخرتكم.
ودعاء المولى حين الشعور بالعجز والافتقار إليه مما يقوّى الأمل بالإجابة ، ويحول بينها وبين اليأس إذا تقطعت الأسباب ، وجهلت وسائل النجاح.
والدعاء مخ العبادة ولبّها ، وإجابته مرجوّة متى استكملت شرائطها وآدابها ، فإن لم تكن بإعطاء الداعي ما طلبه فربما كانت بما يعلم اللّه أنه خير له منه.
ثم بين فائدة الدعاء وعلّل سبب طلبه فقال :
(إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي إن رحمته تعالى قريبة من المحسنين أعمالهم ، لأن الجزاء من جنس العمل كما قال « هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ » .(8/179)
ج 8 ، ص : 180
فمن أحسن فى عبادته نال حسن الثواب ، ومن أحسن فى الدعاء أعطى خيرا مما طلبه ، أو مثل ما طلبه.
وقد طلب اللّه الإحسان فى كل شىء يهدى إليه دين الفطرة ، وحرم الإساءة فى كل شىء وجعل جزاءها من جنسها كما قال : « لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى » .
وقال صلى اللّه عليه وسلم « إن اللّه كتب الإحسان على كل شىء ، فإذا قلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة ، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته » رواه مسلم.
ومن هذا تعلم أنه طلب الإحسان إلى الحيوان والرفق به حين ذبحه حتى لا يتعذب ، كما حرم أكل الموقوذة وهى التي تضرب بغير محدد حتى تنحل قواها وتموت. وطلب الإحسان فى قتال الأعداء ، لأنه فى حكم الضرورات التي تقدر بقدرها ويتقّى ما يمكن الاستغناء عنه كما قال : « فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها » .
فقد طلب إلينا فى هذه الآية أن نضرب رقاب الأعداء حين قتالهم ، لأنه أسرع إلى قتلهم وأبعد عن تعذيبهم بمثل ضرب الرءوس وتقطيع الأعضاء ، حتى إذا ظهر لنا عليهم الغلب بالإثخان فيهم أمرنا بترك القتل وأن نعمد إلى الأسر وبعد ذلك إما أن نمن على الأسرى بالعتق ، أو نفاديهم بمن أسرمنا.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 57 الى 58]
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)(8/180)
ج 8 ، ص : 181
تفسير المفردات
الريح : الهواء المتحرك ، والرياح عند العرب أربع بحسب مهابّها من الجهات الأربع : الشّمال والجنوب ، وسميا كذلك باسم الجهة التي يهبان منها. والصّبا أو القبول وهى الشرقية وقد ينسبونها إلى نجد كما ينسبون الجنوب إلى اليمن والشمال إلى الشام.
والدّبور ، وهى الغربية. والريح التي تنحرف عن الجهات الأصلية فتكون بين اثنتين منها يسمى النّكباء.
قال الراغب : كل موضع ذكر اللّه فيه إرسال الريح بلفظ الواحد كان للعذاب وكل موضع ذكر فيه بلفظ الجمع كان للرحمة ،
وفى الخبر « إنه صلى اللّه عليه وسلم كان يجثو على ركبتيه حين هبوب الرياح ويقول : اللهم اجعلها لنا رياحا ولا تجعلها ريحا ، اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك » .
وبشرا : مخفف بشرا واحدها بشير : كغدر جمع غدير ، والرحمة هنا المطر ، وأقلّت : رفعت قال فى المصباح : كل شىء حملته فقد أقللته ، والسحاب : الغيم واحده سحابة ، والثقال منه : المشبعة ببخار الماء ، وسقناه : سيرناه ، والبلد والبلدة : الموضع من الأرض عامرا كان أو خلاء ، وبلد ميت : أرض لا نبات فيها ولا مرعى ، والثمرات واحدها ثمرة ، والثمرة واحدة الثمر : وهو الحمل الذي تخرجه الشجرة سواء أكل أولا ، فيقال ثمر الأراك وثمر النخل والعنب ، والنكد كل شىء خرج إلى طالبه بتعسر يقال رجل نكد (بفتح الكاف وكسرها) وناقة نكداء : خفيفة الدر صعبة الحلب ، والتصريف : تبديل الشيء من حال إلى حال ، ومنه تصريف الرياح.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه تفرده بالملك والملكوت وتصرفه فى العالم العلوي والسفلى وتدبيره الأمر وحده ، وطلب إلينا أن ندعوه متضرعين خفية وجهرا ، ونهانا عن(8/181)
ج 8 ، ص : 182
الإفساد فى الأرض بعد إصلاحها ، وأبان لنا أن رحمته قريب من المحسنين - قفّى على ذلك بذكر بعض ضروب من رحمته ، إذ أرسل إلينا الرياح وما فيها من منافع للناس - فبها ينزل المطر الذي هو مصدر الرزق وسبب حياة كل حى فى هذه الأرض ، وفى ذلك عظيم الدلالة على قدرته تعالى على البعث والنشور.
الإيضاح
(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أي إن ربكم المدبّر لأمور الخلق ، هو الذي يرسل الرياح بين يدى رحمته : أي بين الأمطار وأمامها حال كونها مبشرات بها ، فينشىء بها سحابا ثقالا لكثرة ما فيها من الماء ، حتى إذا أقلتها ورفعتها إلى الهواء ساقها لإحياء بلد ميت قد عفت مزارعه ، ودرست مشاربه ، وأجدب أهله.
ونحو الآية قوله : « وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ » .
(فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) أي فأنزلنا بالسحاب الماء ، إذ قد ثبت أنه حينما يسخن الهواء القريب من سطوح البحار وغيرها بتأثير الحرارة ، يرتفع فى الجو ويبرد لوصوله إلى منطقة باردة ، أو لا متزاجه بتيار من الهواء البارد ، فإذا برد تكاثف منه بخار الماء وتكوّن السحاب ، فالسحاب ناشىء من تكاثف بخار الماء من الهواء فى الطبقات العالية من الجو ، وهو لا يكون ثابتا فى مكان ، بل يسير فى اتجاه أفقى مدفوعا بقوة الريح ، ويتراوح بعده عن الأرض بين ميل وعشرة أميال ، ويكون معتما مشبعا بالماء إذا كان قريبا من سطح الأرض ، وهو الذي ينشأ عنه المطر لتجمع قطيرات الماء التي فيه(8/182)
ج 8 ، ص : 183
بعضها مع بعض بتأثير البرودة ، فتتكوّن قطيرات كبيرة تسقط من خلاله نحو الأرض لثقلها بحسب سنة اللّه فى جاذبية الثقل كما قال تعالى فى سورة الروم : « اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ - المطر - يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ » وفى سورة النور « أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي - يسوق - سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً - مجتمعا - فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ » والمراد بالسماء السحاب ، إذ هى لغة :
كل ما علا الإنسان وأظله.
وقد أثبت العلم ودلت المشاهدة أن سكان الجبال الشامخة يبلغون فى العلو حذاء السحاب المطر أو يتجاوزونه إلى ما فوقه فيكون دونهم كما شاهد ذلك بعض النازلين فى بعض الفنادق فى جنيف بسو يسرا.
(فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي فأخرجنا بالماء أنواع الثمار على اختلاف طعومها وألوانها وروائحها ، فتخرج كل أرض أنواعا مختلفة منها تدل على قدرة اللّه وعلمه ورحمته وفضله كما قال : « وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ ، وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » .
وبعد أن ذكّرهم بهذه الآيات قفّى على ذلك بما يزيل إنكارهم للبعث فقال :
(كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى ) أي ومثل هذا الإخراج لأنواع النبات من الأرض الميتة بإحيائها بالماء نخرج الموتى من الناس وغيرهم ، إذ القادر على هذا قادر على ذلك.
(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) هذا الشّبه فيزول استبعادكم للبعث بنحو قولكم « مَنْ(8/183)
ج 8 ، ص : 184
يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ؟ »
وقولكم « أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ » وقولكم « أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ » .
فأمثال هذه المقالات الدالة على إنكار خروج الحي من الميت تزول إذا أنتم تذكرتم خروج النبات الحي من الأرض الميتة ، إذ لا فارق بين حياة النبات وحياة الحيوان ، فكل منهما خاضع لقدرة الإله القادر على كل شىء.
والحياة فى عرف المخاطبين كانت تعرف بالتغذي والنمو فى النبات والحس والحركة فى الحيوان.
وما يقوله علماء الطبيعة الآن من أن الحي لا يولد إلا من حى سواء فى ذلك الحيوان والنبات ، فالنبات الذي يخرج فى الأرض الفقراء بعد سقيها بالماء لا بد أن تكون له بذور فيها حياة كامنة لا تظهر إلا بالماء - فمثل هذه الحياة لم يكن معروفا عند واضعى اللغة ، على أنه لا ينفى صحة خروج النبات الحي من الأرض الميتة ، إذ لو لا تغذى البذور والجذور بمواد الأرض الميتة بسبب الماء لما نبتت.
والقرآن الكريم قد حدثنا بأن الأرض تفنى بتفرق مادتها ثم يعيدها اللّه كما بدأها فقال « إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا. وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا » فهذه الرجة هى التي سميت فى الآيات الأخرى بالقارعة والصاخة ، إذ ربما يقرعها كوكب ويصطدم بها فتتفتت جبالها وتكون كالهباء المتفرق فى الجو المسمى بالسديم.
إعادة الموتى
جاء فى الكتاب الكريم قوله : « كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ » وقوله : « كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ » وقوله : « قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ » .(8/184)
ج 8 ، ص : 185
فأثبت فى هؤلاء الآيات الإعادة وشبهها بالبدء ، وهو تشبيه فى جملة ذلك لا فى تفصيله ، فإنه كما خلق جسد الإنسان الأول خلقا ذاتيا مبتدأ ونفخ فيه الروح - يخلق أجسام أفراد الإنسان خلقا ذاتيا معادا ، ثم ينفخ فيها أرواحها التي كانت بها أناسىّ فى الحياة الدنيا ، فما الأجساد إلا كالسكن للأرواح.
وليس بالبعيد على خالق العالم كله أن يعيد أجساد ألوف الملايين دفعة واحدة ولا سيما بعد أن أثبت العلم أنه يمكن تحليل بعض المواد المؤلفة من عناصر مختلفة ، ثم إعادة تركيبها ، وقد كان لتقدم الإنسان فى العصر الحديث ومعرفته لكثير من ظواهر الكون أثر عظيم فى تعرفنا لكثير من أخبار عالم الغيب وسهولة إدراك العقول لها ، ومن ثم قال كثير من علماء العصر الحديث : ليس فى العالم شىء مستحيل.
ولا يراد بحشر الأجساد حشرها بأعيانها لأجل وقوع الجزاء عليها ، ألا ترى أن العلماء يقولون : إن الأجساد تتجدد فى قليل من السنين. ومع ذلك لا يعتقد أحد من القضاة أن العقاب يسقط عن الجاني بانحلال أجزاء بدنه التي زاول بها الجناية وتبدل غيرها بها ، فحقيقة الإنسان لا تتغير بهذا التبدل ، إذ ليس هذا إلا كتبدل الثياب ونحوها ، إذ المستحق للثواب والعقاب هو الروح ، لأن مبنى الطاعة والعصيان الإدراكات والإرادات والأفعال والحركات.
والخلاصة - إن الإنسان الحقيقي هو الذرة التي تحل فى القلب وفيها تحل الروح وتكسبها الحياة وتسرى منها إلى الهيكل الجسماني ، فهذا الهيكل هو آلة قضاء أعمال تلك الذرة فى هذا الكون واكتساب العلوم والمعارف ، وهى مع الروح الحالّ فيها هما المخاطبان بالتكليف ، وهما المعادان والمنعّمان والمعذبان إلى نحو ذلك.
وبعد أن ضرب اللّه إحياء البلاد بالمطر مثلا لبعث الموتى - ضرب اختلاف نتاج البلاد مثلا لما فى البشر من اختلاف الاستعداد لكل من الهدى والكفر والرشاد والغى فقال :
(وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) قوله(8/185)
ج 8 ، ص : 186
والذي خبث أي والبلد الذي خبث لا يخرج نباته إلا نكدا ، وأصل النكد هو العسر الممتنع من إعطاء الخير بخلا.
والمعنى - إن الأرض منها الطيبة الكريمة التربة التي يخرج نباتها بسهولة وينمى بسرعة ويكون كثير الغلّة طيب الثمرة ، ومنها الخبيثة التربة كالخرّة - الحجرية - والسّبخة التي لا يخرج نباتها على قلته وخبثه إلا بعسر وصعوبة.
قال ابن عباس : هذا مثل ضربه اللّه تعالى للمؤمن والكافر أي للبر والفاجر ا ه أي إنه تعالى شبههما بالأرض الخيّرة والأرض السبخة ، وشبه نزول القرآن بنزول المطر ، فالأرض الخيّرة يحصل فيها بنزول المطر أنواع الأزهار والثمار ، والأرض السبخة إن نزل عليها المطر لا تنبت من النبات إلا النذر القليل ، فكذلك الروح الطيب النقي من شوائب الجهل ورذائل الأخلاق إذ اتصل به نور القرآن ظهرت فيه أنواع الطاعات والأخلاق الحميدة ، والروح الخبيث الكدر وإن اتصل به نور القرآن لا يظهر فيه من المعارف وجميل الأخلاق إلا النذر القليل.
روى أحمد والشيخان والنسائي من حديث أبي موسى رضي اللّه عنه قال : قال صلى اللّه عليه وسلم : « مثل ما بعثني اللّه به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير ، أصاب أرضا فكان منها نقيّة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب التي لا تشرب ولا تنبت - أمسكت الماء فنفع اللّه بها الناس ، فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب طائفة أخرى منها إنما هى قيعان - أرض مستوية - لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه فى دين اللّه ونفعه ما بعثني اللّه به فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى اللّه الذي أرسلت به »
وقد فسر النبي صلى اللّه عليه وسلم القسم الأول وهو الذي نفع وانتفع بالهادي والمهتدى ، وفسر القسم الثالث وهو الذي لم ينفع ولم ينتفع بالجاحد وسكت عن القسم الثاني وهو الذي نفع غيره بعلمه ولم ينتفع به هو ، لأن له أحوالا كثيرة فمنه المنافقون ومنه المفرطون فى دينهم ، والمشاهدة تدل(8/186)
ج 8 ، ص : 187
على أن الطيبي الأخلاق يفعلون الخير والبر بلا تكلف ، وأن الخبيثين لا يفعلون الخير ولا يؤدون الواجب إلا نكدا بعد إلحاف أو إيذاء حين الطلب أو إدلاء إلى الحكام.
(كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) أي مثل ذلك التصريف البديع نرّدد الآيات الدالة على القدرة الباهرة ، ونكررها لقوم يشكرون نعمنا باستعمالها فيما تتم حكمتنا ، وبذا يستحقون منا المزيد ويكافئون بالثواب عليها.
وختم هذه الآية بالشكر ، إذ كان موضوعها الاهتداء بالعلم والعمل والإرشاد ، والآية التي قبلها بالتذكر لما كان موضوعها الاعتبار والاستدلال.
قصص نوح عليه السلام
[سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 64]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)
تفسير المفردات
اليوم هنا : يوم القيامة ، والملأ : أشراف القوم لأنهم يملئون العيون بهجة ورواء بتأنقهم فى زيّهم وتجميل منظرهم ، والنصح : الإرشاد إلى المصلحة مع خلوص النية(8/187)
ج 8 ، ص : 188
من شوائب المكر ، والذكر : الموعظة ، وعلى رجل أي على لسانه ، منكم أي من جنسكم ، والفلك : السفينة ، وعمين واحدهم عم : وهو ذو العمى ، أو هو خاص بعمى القلب والبصيرة ، والأعمى أعمى البصر كما قال زهير :
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكننى عن علم ما فى غد عمى
المعنى الجملي
بعد أن ذكر - عظمت آلاؤه - الإنسان ومعاده وأن مردّه إلى اللّه فى يوم تجازى فيه كل نفس بما كسبت - قفّى على ذلك بذكر قصص الأنبياء مع أممهم وإعراضهم عن دعوتهم ، ليبين للرسول أن الإعراض عن قبول دعوة الأنبياء ليس ببدع فى قومك ، بل سبق به أقوام كثيرون ، وفى ذلك تسلية له صلى اللّه عليه وسلم - إلى ما فيه من التنبيه إلى أن اللّه لا يهمل أمر المبطلين ، بل يمهلهم ، وتكون العاقبة للمتقين ، ومن العظة والاعتبار بما حل بمن قبلهم من النكال والوبال كما قال « لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ » .
الإيضاح
(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) أقسم ربنا جل ثناؤه للمخاطبين بهذه الآية من أهل مكة ومن جاورهم من العرب بأنه سبحانه أرسل نوحا إلى قومه منذرا لهم بأسه ، ومخوّفهم سخطه ، على عبادتهم غيره ، وقد كانوا ينكرون الرسالة والوحى ، إذ ليس عندهم من علوم الرسل والأمم شىء إلا ما يتلقونه من اليهود والنصارى فى بلاد العرب والشام.
ونوح أول رسول أرسله اللّه إلى قومه المشركين كما هو رأى كثير من المحققين كما ثبت فى حديث الشفاعة وغيره.
(فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي فدعا من كفر منهم إلى عبادة(8/188)
ج 8 ، ص : 189
اللّه تعالى وحده ، إذ ليس لهم إله غيره يتوجهون إليه فى عبادتهم بدعاء يطلبون به ما لا يقدرون عليه بكسبهم ، فرهم هو الخالق لكل شىء وبيده ملكوت كل شىء ، وهو الإله الحق الذي يجب أن تتوجه إليه القلوب بالدعاء وغيره.
ثم ذكر السبب فى الأمر بعبادته وحده ، وترك أدنى شوائب الشرك ، مثبتا للبعث والجزاء فقال :
(إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إنى أخاف عليكم عذاب يوم شديد هو له وهو يوم البعث والجزاء إذا لم تمتثلوا ما أمرتكم به.
(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي قال له أشراف قومه : إنا لنراك فى ضلال بيّن عن الحق بنهيك لنا عن عبادة آلهتنا : ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وهم شفعاؤنا عند اللّه ووسيلتنا إليه ، فببركتهم يتقبّل منا صالح أعمالنا ، ويعطينا سؤلنا ، لما كانوا عليه من الصلاح والتقوى ، ونحن لا نستطيع أن نوجه إليه دعواتنا دون وساطتهم ، لما نجترحه من السيئات التي تبعدنا عن حظيرة ذلك القدس الأعظم.
وخلاصة مقالهم - أنت فى غمرة من الضلال أحاطت بك ، فجعلتك لا تجد إلى الصواب سبيلا.
(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي قال نوح مجيبا لهم : يا قوم لم آمركم بما أمرتكم به من توحيد اللّه وإخلاص الطاعة له دون الآلهة والأنداد خروجا منى عن محجة الحق ، وضلالا عن سبيل الرشاد ، ولكنى رسول من رب العالمين إليكم ، أهديكم باتباعى إلى ما يوصلكم إلى السعادة فى دنياكم وآخرتكم ، وأنقذكم من الهلاك الأبدى بالشرك باللّه والمعاصي المدنسة للأنفس والمفسدة للأرواح.
ومن رحمة ربكم بكم ألا يدعكم فى عمايتكم وشرككم الذي ابتدعتموه بجهلكم حتى يبين لكم الحق من الباطل على يد رسول من لدنه يسلك بكم السبيل السوي الموصل إلى النجاة.(8/189)
ج 8 ، ص : 190
(أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) أي أرسلنى إليكم لأبلغكم ما طلب إلى تبليغه من التوحيد والإيمان واليوم الآخر والوحى والرسالة والملائكة والجنة والنار والآداب والمواعظ والأحكام العامة من عبادات ومعاملات إلى نحو ذلك.
(وَأَنْصَحُ لَكُمْ) بتحذيركم عقاب اللّه على كفركم به وتكذيبكم لى وردكم نصحى.
روى مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « الدين النصيحة ، قلنا لمن يا رسول ؟ قال : للّه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم » .
(وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي وأنا فى هذا التبليغ وذلك النصح على علم من اللّه أوحاه إلىّ لا تعلمون منه شيئا ، كما أنى أعلم من اللّه وشئونه ما لا تعلمون فى نظام هذا العالم وما ينتهى إليه ، كما أعلم ما بعده من أمر الآخرة والحساب والجزاء - فإذا نصحت لكم وأنذرتكم عاقبة شرككم من إنزال العذاب بكم فى الدنيا إذا جحدتم وعاندتم ، فإنما أنصح لكم عن علم يقينى لا تعلمونه.
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر وموعظة من ربكم على لسان رجل منكم ، ليحذّركم عاقبة كفركم ويعلمكم بما أعدّ لكم من العذاب على ذلك ولتتقوا بهذا الإنذار ما يسخط ربكم عليكم بالشرك فى عبادته ، والإفساد فى أرضه ، وليعدّكم بالتقوى لرحمته التي ترجى لكل من أجاب الدعوة واتقى.
وفى قوله : على رجل منكم ، بيان لشبهتهم على الرسالة وهى أن الرسول بشر مثلهم ، فكأنهم كانوا يرون أن الاشتراك فى البشرية والصفات العامة يقتضى التساوي فى جميع الخصائص والمزايا ويمنع الانفراد بشىء منها ، والمشاهدة أكبر برهان على بطلان هذه القضية ، فالتفاوت فى الغرائز والصفات الفاضلة والاختلاف فى القوى العقلية والمعارف والأعمال الكسبية - جدّ عظيم فى البشر ، وليس فى الأنواع الأخرى ما يشبه الإنسان فى ذلك - إلى أنه لو فرض التساوي بينهم ، فهل هذا يمنع أن يختص اللّه(8/190)
ج 8 ، ص : 191
بعض عباده بما هو فوق المعهود فى الغرائز والمكتسب بالتعلم ؟ كلا ، إنه تعالى قدير على ذلك ، وقد قضت به مشيئته ، ونفذت به قدرته.
(فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أي فكذبه جمهورهم وأصرّوا على ذلك وخالفوا أمر ربهم ولجّوا فى طغيانهم يعمهون ، فأنجيناه من الغرق والذين سلكهم معه فى الفلك من المؤمنين : « وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ » وقد جاءت القصة مفصلة فى سورة هود ، قيل كانت عدتهم ثلاث عشرة : نوح وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث وأزواجهم وستة ممن كانوا آمنوا به.
(وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) أي وأغرقنا من كذب بآياتنا بالطوفان بسبب تكذيبهم ، وما كان ذلك التكذيب إلا لعمى بصائرهم الذي حال بينهم وبين الاعتبار بالآيات وفهمهم للدلائل الدالة على وحدانية اللّه وقدرته على إرسال الرسل وحكمته فى ذلك ، والثواب والعقاب فى يوم الجزاء ، يوم يحشر الناس لرب العالمين ، « يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنهم من شدة العذاب حيارى » .
قصص هود عليه السلام
[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 72]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)(8/191)
ج 8 ، ص : 192
تفسير المفردات
الأخ هنا : الأخ فى النسب ، وتقول العرب فى أخوة الجنس يا أخا العرب ، والسفاهة : خفة العقل ، والآلاء واحدها ألى : وهى النعمة ، والرجس : العذاب ، والغضب : الانتقام ، والمجادلة : المماراة والمخاصمة ، والسلطان : الحجة والدليل ، والدابر :
الآخر ، ويراد به الاستئصال أي أهلكناهم جميعا.
المعنى الجملي
أخرج ابن إسحق من طريق الكلبي قال : إن عادا كانوا أصحاب أوثان يعبدونها - اتخذوها على مثال ود وسواع ويغوث ونسر ، فاتخذوا صنما يقال له صمود وآخر يقال له الهتار ، فبعث اللّه إليهم هودا وكان من قبيلة يقال لها الخلود ، وكان(8/192)
ج 8 ، ص : 193
من أوسطهم نسبا وأصبحهم وجها ، فدعاهم إلى عبادة اللّه وأمرهم أن يوحّدوه ، وأن يكفوا عن ظلم الناس فأبوا ذلك وكذبوه : « وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ؟ » .
وكانت منازلهم بالأحقاف - الرمل - فيما بين عمان إلى حضرموت باليمن ، وكانوا مع ذلك قد أفسدوا فى الأرض كلها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم اللّه ا ه.
الإيضاح
(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم فى النسب هودا ، والحكمة فى كون رسول القوم منهم أن يفهمهم ويفهم منهم ، وأن يكونوا أقرب إلى إجابة دعوتهم لمعرفتهم شمائله وأخلاقه.
(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي قال هود لهم : يا قوم أفردوا العبادة للّه ولا تجعلوا معه إلها غيره.
(أَفَلا تَتَّقُونَ) ربكم وتبتعدون عما يسخطه من الشرك والمعاصي لتنجوا من عقابه ؟ وجاء فى سورة هود : « أَفَلا تَعْقِلُونَ » .
وقد يكون قال لهم هذا وذاك فى وقت واحد أو يكون قد قال لهم هذا مرة وذاك أخرى.
(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) أي قال الملأ الذين جحدوا توحيد اللّه وأنكروا رسالة هود إليهم : إنا لنراك فى ضلال عن الحق والصواب بتركك ديننا وعبادة آلهتنا الذين اتخذت لهم الأمة الصور والتماثيل تخليدا لذكراهم والتقرب بشفاعتهم إلى ربنا وربهم.
ووصف الملأ هنا بالكفر دون ملأ قوم نوح ، لأن منهم من كان قد آمن.
(وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) فى قيلك إنى رسول من رب العالمين ، وفى قولهم هذا إيماء إلى تكذيبهم كل رسول ، إذ هم قد عبروا عن أصحاب هذه الدعوى بالكاذبين وجعلوه واحدا منهم.(8/193)
ج 8 ، ص : 194
(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي ليس بي أىّ ضلالة عن الحق والصواب كما تدّعون ، ولكنى رسول من رب العالمين أرسلنى إليكم ، لأبلغكم رسالات ربى وأؤديها إليكم ، واللّه أعلم حيث يجعل رسالته ، فلا يختار لها إلا من عرفوا برجحان العقل وحصافة الرأى وكمال الصدق.
ثم بين وظيفة الرسول وحاله عليه السلام فيما بلغ فقال :
(أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) أي أبلغكم ما أرسلت به من التكاليف ، وإنى ناصح لكم فيما أبلغكموه وأدعوكم إليه ، أمين فيما أبلغ عن اللّه ، فلا أكذب عليه فى وحيه إلىّ.
وفى إجابة هؤلاء الأنبياء لأقوامهم بتلك الإجابة الصادرة عن الحكمة والإغضاء عما قالوا من وصفهم إياهم بالسفاهة والضلالة - أدب حسن وخلق عظيم وتعليم لعباده كيف يقابلون السفهاء ، وكيف يغضون عن قالة السوء التي تصدر عنهم.
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ؟ ) أي أ كذّبتم وعجبتم أن أنزل ربكم وحيه بتذكيركم وعظتكم على ما أنتم عليه مقيمون من الضلالة على لسان رجل منكم لينذركم بأسه ويخوفكم عقابه ؟
(وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) أي واذكروا فضل اللّه عليكم ونعمته ، إذ جعلكم ورثة قوم نوح وزادكم بسطة فى خلق أبدانكم - وقد كانوا طوال الأجسام أقوياء الأبدان - واتقوا اللّه فى أنفسكم واحذروا أن يحل بكم من العذاب مثل ما حل بهم ، فيهلككم ويبدل منكم غيركم ، سنته فيهم وقد جاء فى سورة هود والشعراء وفصلت ما يدل على ما كان لهم من قوة وجبروت وبطش شديد.
(فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي فاذكروا نعم اللّه وفضله عليكم ، واشكروه على ذلك بإخلاص العبادة له وترك الإشراك به ، وهجر الأوثان والأصنام(8/194)
ج 8 ، ص : 195
لعلكم تفوزون بما أعده للشاكرين لنعمه ، الراجين للمزيد منها ، وتدركون الخلود والبقاء والنعيم الأبدى فى دار القرار.
ثم ذكر ما ردوا به عليه فقال :
(قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) يقال : جاء يعلم الناس كيف يحاربون ، وذهب يقيم قواعد العمران ، على معنى شرع يفعل ذلك.
والمعنى - أ جئتنا لأجل أن نعبد اللّه وحده ، ونترك ما كان يعبد آباؤنا معه من الأولياء والشفعاء وهم الوسيلة عنده ، وهم الذين يقربوننا إليه زلفى ، وهل يقبل اللّه عبادتنا مع ذنوبنا إلا بهم ولأجلهم.
وبعد أن استنكروا التوحيد واحتجوا عليه بما لا يصلح عقلا ولا شرعا أن يكون حجة من تقليد الآباء والأجداد استعملوا الوعيد فقالوا :
(فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي فجئنا بما تعدنا به من العذاب على ترك الإيمان بك ، والعمل بما جئت به من التوحيد ، وإخلاص العبادة للّه وحده - إن كنت صادقا فى قولك ووعيدك.
فأجابهم هود على مقالتهم بقوله :
(قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) أي قال هود لقومه : قد قضى عليكم ربكم مالك أمركم بعذاب وطرد من رحمته ، وقد كان عذابهم ريحا صرصرا ذات صوت شديد عاتية تنزع الناس من الأرض ثم ترميهم بها صرعى « كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ » أي قد قلع من منابته ، وزال من أماكنه.
(أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ؟ ) أي أ تخاصمونني فى أسماء وضعتموها أنتم وآباؤكم الذين قلدتموهم على غير علم ولا هدى منكم ولا منهم لمسميات اتخذوها فاتخذتموها آلهة زاعمين أنها تقربكم إلى اللّه زلفى وتشفع عنده لكم ، ما أنزل اللّه من حجة ولا برهان يصدق زعمكم بأنه رضى أن تكون واسطة بينه(8/195)
ج 8 ، ص : 196
وبينكم ، وكيف وهو الواحد الأحد الذي يصمد إليه عباده فى العبادة ، وطلب مالم يمكنهم بالأسباب العادية.
والخلاصة - إنه هو الذي يتوجه إليه وحده ، ولا يشرك معه أحد من خلقه كما قال إبراهيم : « إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ » .
وكل ما يتعلق بعبادة اللّه لا يعلم إلا بوحي منه ينزله على رسله ؟ إذ لا يعلم إلا من عباده المبلغين عنه.
(فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أي فانتظروا نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) إنى معكم من المنتظرين لنزوله بكم ، وفصل قضائه فينا وفيكم ، وإننى لموقن بذلك وأنتم مرتابون.
(فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) أي فلما جاء أمرنا ووقع ما وقع - أنجينا هودا والذين آمنوا به وبما دعا إليه من توحيد اللّه وهجر الأوثان - برحمة عظيمة منا ، واستأصلنا دابر الذين جحدوا بآياتنا ولم نبق منهم أحدا بريح صرصر عاتية : « تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ » .
قصص صالح عليه السلام
[سورة الأعراف (7) : الآيات 73 الى 79]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)(8/196)
ج 8 ، ص : 197
تفسير المفردات
ثمود : قبيلة من العرب كانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى ، سميت باسم جدهم ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح وأخوّة صالح لهم :
أخوة فى النسب كأخوة هود لقومه ، والبينة : المعجزة الظاهرة الدلالة ، واذكروا أي تذكروا ، وبوأكم فى الأرض أي أنزلكم فيها وجعلها مباءة لكم ، والأرض : أرض الحجر بين الحجاز والشام ، والنحت : نحر الشيء الصّلب ، والعيث والعثى : الفساد ، استكبروا : عتوا وتكبروا ، وعقروا الناقة : نحروها ، وأصل العقر الجرح ، وعقر الإبل :
قطع قوائمها ، وكانوا يفعلون ذلك بها قبل نحرها لتموت فى مكانها ولا تنتقل ، وعتوا :
تمردوا مستكبرين ، التمرد ، والامتناع إما عن عجز وضعف ، ومنه عتا الشيخ عتيا : إذا أسنّ وكبر ، وإما عن قوة كعتو الجبارين والمستكبرين ، ويقولون نخلة عاتية : إذا كانت عالية يمتنع جناها على من يريدها إلا بمشقة التسلق والصعود ، الرجفة : المرة من الرجف وهو الحركة والاضطراب ، يقال رجف البحر : إذا اضطربت أمواجه ورجفت(8/197)
ج 8 ، ص : 198
الأرض : زلزلت واهتزت ، ورجف القلب والفؤاد من الخوف ، ودار الرجل :
ما يسكنها هو وأهله ، ويطلق على البلد وهو المراد هنا ، وجثم الناس : قعدوا لا حراك بهم ، قال أبو عبيدة : الجثوم للناس والطير كالبروك للإبل.
الإيضاح
(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) أي ولقد أرسلنا إلى بنى ثمود أخاهم صالحا.
(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي قال صالح لثمود : يا قوم اعبدوا اللّه وحده لا شريك له ، فما لكم من إله تعبدونه سواه.
(قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قد جاءتكم حجة وبرهان على صدق ما أقول وحقيقة ما أدعو إليه من إخلاص التوحيد له وإفراده بالعبادة دون سواه.
وفى قوله : من ربكم ، إيماء إلى أنها ليست من فعله ، ولا مما ينالها كسبه ، وهكذا سائر ما يؤيد به اللّه الرسل من خوارق العادات.
وهذه المقالة كانت لهم بعد نصحهم وتذكيرهم بنعم اللّه وتكذيبهم له كما جاء فى سورة هود من قوله : « هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها » إلى آخر الآيات.
(هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً) أضاف الناقة إلى اللّه تعظيما لشأنها ، ولأنها لم تأت بنتاج معتاد وأسباب معهودة ، ومن ثم كانت آية. وأىّ آية ؟ .
وإنما استشهد صالح على صحة نبوته بالناقة ، لأنهم سألوه إياها آية دالة على صدق دعوته وصحة نبوته.
ثم ذكر ما يترتب على كونها آية أنه لا ينبغى التعرض لها فقال :
(فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الأرض أرض اللّه والناقة ناقة اللّه فاتركوها تأكل ما تأكل فى أرض ربها ، وليس لكم أن تحولوا بينها وبينها ، ولا تتعرضوا لها بسوء فى نفسها ولا فى أكلها ، فإنكم إن(8/198)
ج 8 ، ص : 199
فعلتم ذلك أخذكم عذاب أليم ، وقد وصف فى سورة هود العذاب بالقريب وهو أنه يقع بعد ثلاثة أيام من مسهم إياها بالسوء ، وكذلك كان ، وجاء فى سورة القمر :
« وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ » .
وجاء تفسير هذا فى سورة الشعراء : « هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ » أي إن الماء الذي كانوا يشربون منه قسمة بينهم وبين الناقة ، إذ كان ماء قليلا ، فكانوا يشربونه يوما وتشرب هى يوما ، وقد روى عن ابن عباس أنهم كانوا يستعيضون عن الماء يوم شربها بلبنها.
ثم ذكّرهم بنعم اللّه عليهم وبوجوب شكرها بعبادته تعالى وحده فقال :
(وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) أي وتذكروا نعم اللّه عليكم وإحسانه إليكم ، إذ جعلكم خلفاء لعاد فى الحضارة والعمران والقوة والبأس وأنزلكم منازلهم تتخذون من سهولها قصورا زاهية ، ودورا عالية ، بما ألهمكم من حذق فى الصناعة ، فجعلكم تضربون اللبن وتحرقونه آجرا (الطوب المحرق) وتستعملون الجص وتجيدون هندسة البناء ودقة النجارة ، وتنحتون من الجبال بيوتا ، إذ علمكم صناعة النحت ، وآتاكم القوة والجلد.
روى أنهم كانوا يسكنون الجبال فى الشتاء لما فى البيوت المنحوتة من القوة ، فلا تؤثر فيها الأمطار والعواصف ، ويسكنون السهول فى باقى الفصول للزراعة والعمل.
(فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي وتذكروا هذه النعم العظام ، واشكروها له بتوحيده وإفراده بالعبادة ، ولا تتصرفوا فيها تصرف كفران وجحود بفعل ما لا يرضى اللّه الذي خلقها لكم ، فما بالكم بالكفر والعثى فى الأرض بالفساد.
(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ : أَتَعْلَمُونَ(8/199)
ج 8 ، ص : 200
أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ؟ )
قد جرت سنة اللّه أن يكون الفقراء المستضعفون أسرع الناس إلى إجابة دعوة الأنبياء والرسل ، وإلى كل دعوة لإصلاح ، فإنه لا يثقل عليهم أن يكونوا تابعين لغيرهم ، وأن يكفر بها أكابر القوم وأغنياؤهم المترفون ، إذ يشق عليهم أن يكونوا مرءوسين لسواهم ، كما يصعب عليهم الامتناع عن الإسراف فى الشهوات ، والوقوف عند حدود الاعتدال.
وعلى هذا السنن سار الملأ من قوم صالح إذ قالوا للمؤمنين منهم : أ تعلمون أن صالحا رسول من عند اللّه ؟ ومرادهم بهذا التهكم والاستهزاء بهم.
(قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي إنا بما أرسل به صالح من الحق والهدى مصدّقون ومقرون بأنه من عند اللّه ، وأن اللّه أمر به ، وعن أمر اللّه دعانا صالح.
وفى جوابهم هذا دون أن يقولوا - نعم ، أو نعلم أنه مرسل منه ، أو إنا برسالته عالمون - إيماء إلى أنهم علموا بذلك علما يقينيا إذ عانيا له السلطان على عقولهم وقلوبهم وما كل من يعلم شيئا يصل علمه إلى هذه المرتبة ، بل من الناس من يعلم الشيء بالبرهان لكنه يجحده ويحاربه وهو موقن به حسدا لأهله ، أو استكبارا عنه كما قال تعالى :
« وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا » .
(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي قال الذين استكبروا عن أمر اللّه وأمر رسوله صالح : إنا بالذي صدقتم به من نبوة صالح وإن الذي جاء به هو الحق - جاحدون منكرون لا نصدق به ولا نقر.
وإنما لم يقولوا إنا بالذي أرسل به صالح كافرون - لأن ذلك يتضمن إثبات الرسالة فلو قالوه لكان شهادة منهم على أنفسهم بجحود الحق على علمهم به استكبارا وعنادا.
ثم ذكر ما فعلوه مما يدل على كفرهم بآيات ربهم فقال :
(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أي فعقر أولئك المستكبرون الناقة ، ونسب الفعل إليهم جميعا والفاعل واحد منهم كما جاء فى سورة القمر : « فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ »(8/200)
ج 8 ، ص : 201
وجاء فى حديث البخاري مرفوعا « فانتدب لها رجل ذو عزه ومنعة فى قومه كأبى زمعة »
لأنهم لما اتفقوا عليه ورضوا به صاروا كأنهم فعلوه جميعا.
وفى ذلك تهويل وتفظيع لأمرهم ، وأن أضراره ستصيبهم جميعا ، ومثل هذا من الأعمال ينسب إلى الأمة فى جملتها ، وتعاقب عليه جميعها كما قال : « وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً » .
(وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي وتمردوا وتجبروا عن اتباع الحق الذي بلّغهم صالح إياه ، وهو ما سلف ذكره.
روى أحمد والحاكم عن جابر قال : « لما مر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالحجر قال : لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح ، وكانت الناقة ترد من هذا الفجّ وتصدر من هذا الفج ، فعتوا عن أمر ربهم ، وكانت تشرب يوما ويشربون لبنها يوما ، فعقروها فأخذتهم صيحة أخمد اللّه من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان فى حرم اللّه - وهو أبو رغال - فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه » .
(وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الوعد يكون فى الخير والشر أي قالوا له : ائتنا بما وعدتنا به من عذاب اللّه ونقمته ، إن كنت رسولا إلينا ، وتدّعى أن وعيدك تبليغ عنه ، فاللّه ينصر رسله على أعدائه ، فعجّل ذلك لنا.
(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) وفى سورة هود « فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ » وفى سورة حم السجدة « فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ » وفى سورة الذاريات « فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ » والمراد بالجميع الصاعقة ، فإن لنزولها صيحة شديدة القوة ترجف من هولها الأفئدة وتضطرب الأعصاب ، وربما اضطربت الأرض وتصدع ما فيها من بنيان.
وقد علم أن سبب حدوثها اتصال كهربائية الأرض بكهربائية الجو التي يحملها(8/201)
ج 8 ، ص : 202
السحاب ، فتحدث صوتا كالصوت الذي يحدث باشتعال قذائف المدافع ، وهذا الصوت هو المسمى بالرعد.
وتحدث الصاعقة تأثيرات عظيمة كصعق الناس والحيوان وهدم المبانى أو تصديعها وإحراق الشجر ونحو ذلك ، وقد هدى العلم إلى الطريق فى اتقاء أضرارها بالمباني العظيمة بوضع ما يسمونه (مانعة الصواعق).
وقد يجوز أن اللّه سبحانه جعل هلاكهم فى وقت ساق فيه السحاب المشبع بالكهرباء إلى أرضهم بحسب السنن المعروفة ، وقد يجوز أن اللّه قد خلق تلك الصاعقة لأجلهم على سبيل خرق العادة ، وأيهما كان قد وقع ، فقد صدق اللّه رسوله وحدث ما أنذرهم به.
(فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) أي لم يلبثوا أن سقطوا مصعوقين جثثا هامدة حين نزلت بهم الصيحة فى أرضهم.
(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) أي قال لهم صالح بعد أن جرى عليهم ما جرى مغتما متحسرا كما يقول المتحسر على من مات جانيا على حياته بالتفانى فى شهواته : ألم أنهك عما يوردك ريب المنون. ألم أحذرك تلك العاقبة الوخيمة التي لم تتداركها قبل وقوعها ، فماذا أفعل ، إذ فضلت لذة الساعات والأيام ، على عيش هنىء يدوم عشرات الأعوام.
وروى مثل هذا مرفوعا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم من ندائه بعض قتلى قريش ببدر بعد دفنهم فى القليب (البئر غير المبنية).
« يا فلان بن فلان ، وفلان بن فلان : أ يسرّكم أنكم أطعتم اللّه ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ . قال راوى الحديث أبو طلحة الأنصاري : قال عمر : يا رسول اللّه ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ؟(8/202)
ج 8 ، ص : 203
أو فيها - فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « والذي نفسى بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم » رواه البخاري وغيره من طريق قتادة عن أبي طلحة الأنصاري رضي اللّه عنه ، ثم قال : قال قتادة أحياهم اللّه حتى أسمعهم قوله صلى اللّه عليه وسلم توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما ا ه.
قال العلماء ومثل هذا مما اختص به الأنبياء وبهذا الحديث ونحوه مما ورد من حياة الأنبياء والشهداء فى البرزخ ، يستدل زوار الأضرحة والقبور الذين يدعون أصحابها لقضاء حاجاتهم ويقولون : إن كل من دعا ميتا من الصالحين يسمع منه ويقضى حاجته ، قياسا على ذلك ، مع علمهم بأن الأمور الغيبية يقتصر فيها على ما سمع عن الأنبياء ولا يدخلها باب القياس.
قصص لوط عليه السلام
[سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 84]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
تفسير المفردات
لوط : هو لوط بن حاران ابن أخى إبراهيم عليه السلام ، ولد فى (أور الكدانيين) فى الطرف الشرقي من جنوب العراق وكانت تسمى أرض بابل ، وكان قد سافر بعد موت والده مع عمه إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم إلى ما بين النهرين وكان يسمى جزيرة(8/203)
ج 8 ، ص : 204
قورا ، وهناك كانت مملكة أشور ، ثم أسكنه إبراهيم شرقى الأردن لجودة مراعيها ، وكان فى ذلك المكان المسمى بعمق السديم بقرب البحر الميت أو بحر لوط ، قرى خمس ، سكن لوط فى إحداها المسماة بسدوم ، وكانت تعمل الخبائث ولا يوجد الآن ما يدل على موضعها بالتحديد ، وبعض الناس يقول : إن البحر قد غمرها ولا دليل لهم على ذلك.
الإيضاح
(وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ؟ ) أي واذكر لوطا حين قال لقومه موبّخا لهم : أ تفعلون تلك الفعلة التي بلغت الغاية فى القبح والفحش.
(ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) أي ما عملها أحد قبلكم فى أي زمان ، بل هى من مبتدعاتكم فى الفساد ، فأنتم فيها أسوة وقدوة ، فتبوءون بإثمها وإثم من اتبعكم فيها إلى يوم القيامة.
وفى هذا بيان لأن ما اجترحوه من السيئات مخالف لمقتضيات الفطرة ، ومن ثم لم تتطلع إليه نفوس أحد من البشر قبلهم ، إلى ما فيه من مخالفة لهدى الدين.
(إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) يراد بالإتيان الاستمتاع الذي عهد بمقتضى الفطرة بين الزوجين ، وداعيته الشهوة وقصد النسل.
وقد سجل عليهم هنا أنهم يبتغون الشهوة وحدها ، فهم أخس من سائر أفراد الحيوان ، لأن الذكور منها تطلب الإناث بدافع الشهوة والنسل الذي يحفظ النوع ، ألا ترى أن الطيور والحشرات تبدأ حياتها الزوجية ببناء الأعشاش فى أعلى الأشجار أو الوكن فى قلل الجبال أو الأحجار فى باطن الأرضين ، ولكن هؤلاء المجرمين لا غرض لهم إلا إرضاء شهواتهم ، ومن يقصد اللذة وحدها دون النسل أسرف فيها وانقلب نفعها ضرا وصار خيرها شرا.
وفى هذا مزيد تقريع وتوبيخ لهم كأن ذلك لا ينبغى أن يصدر من أحد.(8/204)
ج 8 ، ص : 205
وفى قوله : من دون النساء ، إيماء إلى أنهم تجاوزوا النساء اللاتي هن محل الاشتهاء عند ذوى الفطر السليمة إلى غيرهن.
(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي إنكم لا تأتون هذه الفاحشة ثم تندمون على ما فعلتم ، بل أنتم قوم مسرفون فيها وفى سائر أعمالكم ولا تقفون فيها عند حد الاعتدال ، وقد جاء فى سورة النمل : « بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ » أي أنتم ذوو سفه وطيش ، وفى سورة العنكبوت « أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ » .
وفى كل هذا دليل على أنهم كانوا مسرفين فى لذاتهم ، متعدين حدود العقل والفطرة ، لا يعقلون ضرر ما يفعلون بجنايتهم على النسل والصحة والآداب العامة ، فهم لو عقلوا ذلك لاجتنبوها ، ولو كان لديهم شىء من الفضيلة لا نصرفوا عنها.
(وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي وما كان جواب قومه عن هذا الإنكار وتلك النصيحة شيئا من الحجج المقنعة أو الأعذار المسكنة لثورة الغضب ، بل كان جوابهم الأمر بإخراجه هو ومن آمن معه من قريتهم ، وما حجتهم على تبرير ما عزموا عليه إلا أن قالوا إن هولاء أناس يتطهرون ويتنزهون عن مشاركتهم فى فسوقهم ورجسهم ، فلا سبيل إلى معاشرتهم ولا مساكنتهم ، لما بينهم من الفوارق فى الصفات والأخلاق.
وهذا الجواب منهم يدل على منتهى السخرية والتهكم ، والافتخار بما كانوا فيه من القذارة ، كما يقول الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظوهم : أبعدوا عنا هذا المتقشف ، وأريحونا من هذا المتزهد.
وقد بلغ من قحتهم وفجورهم أن يفعلوا الفاحشة ويفخروا بها ويحتقروا من يتنزه عنها ، وهذا أسفل الدركات ، ولا يهبط إليه إلا من لا يؤمن باللّه واليوم الآخر.
(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) يقال غبر أي بقي ، وغبر : ذهب(8/205)
ج 8 ، ص : 206
وهلك ، أي فأنجيناه وأهل بيته الذين آمنوا معه إلا امرأته ، فإنها لم تؤمن به ، بل خانته بولاية قومه الكافرين ، فكانت من جماعة الهالكين أو الباقين الذين نزل بهم العذاب فى الدنيا ، وبعده عذاب الآخرة.
(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) الإمطار حقيقة فى المطر مجاز فيما يشبهه فى الكثرة من خير وشر مما يجىء من السماء أو من الأرض أي وأرسلنا عليهم مطرا عجيبا أمره وهو الحجارة التي رجموا بها ، وجاء فى سورتى هود والحجر إنها حجارة من سجيل مسوّمة أي معلمة ببياض فى حمرة.
وقد يكون سبب إمطار الحجارة عليهم إرسال إعصار من الريح حمل تلك الحجارة وألقاها عليهم ، أو أن تلك الحجارة من بعض النجوم المحطّمة التي يسميها علماء الفلك الحجارة النيزكية وهى بقايا كوكب محطم تجذبه الأرض إليها إذا صار بالقرب منها ، وهى تحترق غالبا من سرعة الجذب وشدته ، وهى الشهب التي ترى بالليل ، فإذا سلم منها شىء من الاحتراق ووصل إلى الأرض ساخ فيها وكان لسقوطه صوت شديد ، وقد وجد الناس بعض هذه الحجارة ووضعوها فى دور الآثار.
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) أي فانظر أيها المعتبر هذا القصص وتأمله حق التأمل ، لتعلم عقاب الأمم على ذنوبها فى الدنيا قبل الآخرة.
وهذا العقاب أثر طبيعى لذلك ، فإنك ترى الترف والفسق يفسدان أخلاق الأمم ويذهبان ببأسها ويفرّقان كلمتها ويجعلانها شيعا وأحزابا متعادية ، فيسلط اللّه عليها من يستذلها ويسلبها استقلالها ، ويسخرها لمنافعه ، ولا يزال بها هكذا حتى تنقرض وتكون من الهالكين.
وقد يكون هلاكها بسنن اللّه فى الأرض من إرسال الجوائح كالزلازل والمواد المصطهرة التي تقذفها البراكين من الأرض ، أو بالأوبئة والأمراض الفتاكة ، أو بالثورات والفتن والحروب ونحو ذلك مما يكون سببا فى انقراض الأمم وفنائها(8/206)
ج 8 ، ص : 207
وخلاصة القول فى تحريم هذه الفاحشة :
(1) إنها مفسدة للشبان بالإسراف فى الشهوات.
(2) إنها مفسدة للنساء اللواتى ينصرف أزواجهن عنهم ويقصرون فيما يجب عليهن من إحصانهن.
(3) قلة النسل فإن من لوازم ذلك الرغبة عن الزواج والرغبة فى إتيان الأزواج فى غير مأتى الحرث.
وفى الحياة الزوجية الشرعية إحصان كل من الزوجين للآخر بقصر لذة الاستمتاع عليه وجعل ذلك وسيلة للحياة الوالدية التي تنمو بها الأمة ويحفظ بها النوع البشرى من الزوال.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 87]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87)
تفسير المفردات
يقال بخسه حقه أي نقصه ، والإفساد : شامل لإفساد نظام الاجتماع بالظلم وأكل أموال الناس بالباطل ، وإفساد الأخلاق والآداب : بارتكاب الإثم والفواحش ،(8/207)
ج 8 ، ص : 208
وإفساد العمران بالجهل وعدم النظام ، وإصلاحها : هو إصلاح حال أهلها بالعقائد الصحيحة والأعمال الصالحة المزكّية للأنفس ، والأعمال المرقية للعمران المحسّنة لأحوال المعيشة ، والصراط : الطريق ، وتوعدون : تخوّفون الناس. وروى عن ابن عباس أنهم كانوا يجلسون فى الطريق فيقولون لمن أتى إليهم إن شعيبا كذاب ، فلا يفتنّنكم عن دينكم ، فكثّركم أي بما بارك فى نسلكم.
المعنى الجملي
شعيب نبى من أنبياء العرب ، وفى التوراة إن اسمه رعوئيل فقد جاء فى سفر الخروج أن حمى موسى كان يدعى رعوئيل.
(رعو : صديق ، وئيل : اللّه) أي صديق اللّه أي الصادق فى عبادته ، وفى موضع آخر من سفر الخروج إن موسى كان يرعى غنم يثرون حميه كاهن مدين ، ويثرون لقب وظيفته ، وهو من نسل إبراهيم.
وفى الفصل الخامس من سفر التكوين إن زوجة إبراهيم قطورة ولدت له ستة أولاد منهم مدان أو مدين أو مديان (معناه خصام) وكانت أرضهم تمتد من خليج العقبة إلى موآب وطور سينا ، وفى رواية إنها كانت تمتد من شبه جزيرة سينا إلى الفرات.
وقال الآلوسى : ومدين وسمع مديان علم لابن إبراهيم الخليل عليه السلام ثم سميت به القبيلة.
الإيضاح
(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) نقدم مثل هذا فى قصة صالح عليه السلام ، ولكن هناك بيّن الآية(8/208)
ج 8 ، ص : 209
بأنها الناقة ، ولم يذكر هنا ولا فى أي سورة أخرى آية معينة لشعيب عليه السلام ، ولكن لا بد أن تكون له آية تدل على صدقه ، وتقوم بها الحجة عليهم.
فقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال « ما من الأنبياء نبى إلا أعطى من الآيات ما مثلها آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه اللّه إلىّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة »
أي إن كل نبى مرسل أعطاه اللّه من الآيات الدالة على صدقه وصحة دعوته ما شأنه أن يؤمن البشر على مثله.
والبينة كل ما يتبين به الحق ، فتشمل المعجزات الكونية والبراهين العقلية ، والأمم القديمة لم تكن تدعن إلا لخوارق العادات.
وبعد أن أتى شعيب صلوات اللّه عليه بالمعجزات القاطعة للعذر ومكابرة الحق رتب على ذلك قوله :
(فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) وقد ثنى بالأمر بإيفاء الكيل والميزان إذا باعوا ، والنهى عن بخس الناس أشياءهم إذا اشتروا بعد أن أمرهم بتوحيد اللّه ، لأن ذلك كان فاشيا فيهم أكثر من سائر المعاصي ومن ثم اهتم به كما اهتم لوط بنهي قومه عن الفاحشة السوءى التي كانت فاشية فيهم ، فقد كانوا من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس أو وزنوا عليهم لأنفسهم ما يشترون من المكيلات والموزونات يستوفون حقهم أو يزيدون عليه وإذا كالوهم أو وزنوهم ما يبيعون لهم يخسرون الكيل والميزان أي ينقصونه فيبخسونهم أشياءهم وينقصونهم حقوقهم.
والبخس يشمل نقص المكيل والموزون وغيرهما من المبيعات كالمواشى والأشياء المعدودة ، ويشمل البخس فى المساومة والغش والحيل التي تنتقص بها الحقوق ، وفى الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل.(8/209)
ج 8 ، ص : 210
وقد فشاكل من هذين النوعين فى هذا العصر ، فكثير من التجار باخسون مطففون فيما يبيعون وما يشترون ، وكثير من المشتغلين بالعلوم والآداب والسياسة بخّاسون لحقوق بنى جلدتهم ، مدّعون للتفوق عليهم ، منكرون لما خص اللّه به سواهم من المزايا والخصائص حسدا عليهم وبغيا.
وقد روى أن قوم شعيب كانوا إذا دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه ويقولون هذه زيوف فيقطعونها ثم يشترونها منه بالبخس أي بالنقصان.
(وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) أي إنه تعالى أصلح حال البشر بنظام الفطرة ومكّنهم فى الأرض ، بما آتاهم من القوى العقلية وقوة الجوارح ، وبما أودع فى خلق الأرض من سنن حكيمة ، وقوانين مستقيمة ، وبما بعث به الرسل من المكملات لنظام الفطرة من آداب وأخلاق ونظم فى المعاملات والاجتماع ، وبما أرشد إليه المصلحين من العلماء والحكماء الذين يأمرون بالقسط ، ويهدون الناس إلى ما فيه صلاحهم فى دينهم ، والعاملين من الزراع والصناع والتجار أهل الأمانة والاستقامة الذين ينفعون الناس فى دنياهم.
فعليكم ألا تفسدوا فيها ببغى ولا عدوان على الأنفس والأعراض والأخلاق بارتكاب الإثم والفواحش ، ولا تفسدوا فيها بالفوضى وعدم النظام وبث الخرافات والجهالات التي تقوّض نظم المجتمع ، وقد كانوا من المفسدين للدين والدنيا كما يستفاد من هذه الآية وما بعدها.
(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ذلكم الذي تقدم من الأمر والنهى خير لكم فى دينكم ودنياكم ، فإن ربكم لا يأمر إلا بالنافع ولا ينهى إلا عن الضار.
وإنما يكون ذلك خيرا لكم إن كنتم مؤمنين بوحدانية اللّه وبرسوله وبما جاءكم من شرع وبما آتاكم به من هدى ، فالإيمان يقتضى الامتثال والعمل بما جاء به الرسول من عند اللّه وإن خالف النفس والهوى.(8/210)
ج 8 ، ص : 211
والمؤمن الموحّد لا يخضع إلا لربه ، وإنما يطيع رسوله لأنه مبلّغ عنه كما قال :
« مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ »
وفى حديث أحمد بن خديج أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « إنما أنا بشر مثلكم ، إذا أمرتكم بشىء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشىء من رأيى فإنما أنا بشر » .
هذا ، والبشر لم يصلوا فى عصر من العصور إلى عشر ما وصلوا إليه فى هذا العصر من العلم بالمنافع والمضار ومعرفة المصالح والمفاسد فى المعاملات والآداب ، ومع هذا فإن العلم وحده لم يغنهم شيئا ، فكثرت فى البلاد الجرائم من قتل وسلب وإفساد زرع وفسق وفجور ونحو ذلك مما كان سببا فى تدهور نظم المجتمعات.
فخير وسيلة لإصلاح الأمم تربية. الأحداث والنابتة تربية دينية بإقناعهم بمنافع الفضائل كالصدق والأمانة والعدل ، وإقناعهم بمضار الرذائل ، لأن الوازع النفسي أقوى من الوازع الخارجي.
(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً) أي ولا تقعدوا بكل طريق تخوّفون من آمن بالقتل ، وقد روى عن ابن عباس أن بلادهم كانت خصبة وكان الناس يمتارون منهم ، فكانوا يقعدون على الطريق ويخوفون الناس أن يأتوا شعيبا ويقولون لهم إنه كذاب فلا يفتننكم عن دينكم.
وقد رتب سبحانه هذه الأوامر والنواهي بحسب الترتيب الزمنى ، فوجهت الدعوة أولا إلى أقرب الناس فى بلده ، ثم إلى الأقرب فالأقرب من الذين يزورون أرضهم ، وقد كان الأقربون دارا هم الأبعدين استجابة له ، وحين رأوا غيرهم يقبل دعوته ويهتدى بها شرعوا يصدون الناس عنه فلا يدعون طريقا توصل إليه إلا قعد بها من يتوعد سالكيها إليه ، ويصدونهم عن سبيل اللّه التي يدعوهم إليها ، ويطلبون بالتمويه والتضليل أن يجعلوا استقامتها عوجا ، وهداها ضلالا.(8/211)
ج 8 ، ص : 212
والخلاصة - إنه نهاهم عن أشياء ثلاثة :
(1) قعودهم على الطرقات التي توصل إليه مخوّفين من يجيئه ليرجع عنه قبل أن يراه ويسمع دعوته.
(2) صدهم من وصل إليه وآمن به بصرفه عن الثبات على الإيمان والاستقامة على الطريق الموصلة إلى سعادة الدارين.
(3) ابتغاؤهم جعل سبيل اللّه المستقيمة معوجّة بالطعن وإلقاء الشبهات المشككة فيها أو المشوهة لها ، وهم بعلمهم هذا ارتكبوا ضلالتين : التقليد والعصبية للآباء والأجداد ، وضلالة الغلو فى الحرية الشخصية التي أباحت لهم الطعن فى الأديان حتى بلغوا فى ذلك حد الطغيان.
(وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ) أي وتذكروا الزمن الذي كنتم فيه قليلى العدد فكثركم اللّه بما بارك فى نسلكم ، واشكروا له ذلك بعبادته وحده ، واتباع وصاياه فى الحق ، والإعراض عن الفساد فى الأرض. وقد روى أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى اللّه فى نسلها البركة والنماء فكثروا.
وقد يكون المعنى - إذ كنتم مقلين فقراء فجعلكم مكثرين موسرين - أو المراد :
إذ كنتم أذلة قليلى العدد فأعزكم بكثرة العدد والعدد.
(وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) من الأمم والشعوب المجاورة لكم كقوم نوح وعاد وثمود ، وكيف أهلكهم اللّه بفسادهم وبغيهم فى الأرض ، فاعتبروا بما حل بهم ، واحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم.
(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) ، حكم اللّه بين عباده ضربان :
(1) حكم شرعى يوحيه إلى رسله ، وعليه جاء قوله فى سورة المائدة بعد الأمر بالوفاء بالعقود وإحلال بهيمة الأنعام : « إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ » .(8/212)
ج 8 ، ص : 213
(2) حكم فعلى يفصل فيه بين الخلق بمقتضى سننه فيهم كقوله فى آخر سورة يونس : « وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ » .
والمعنى - وإن كان جماعة منكم صدقوا بالذي أرسلت به من إخلاص العبادة للّه وترك معاصيه من ظلم الناس وبخسهم فى المكاييل والموازين ، واتبعونى فى كل ذلك ، وجماعة أخرى لم يصدّقونى وأصروا على شركهم وإفسادهم - فاصبروا على قضاء اللّه الفاصل بيننا وبينكم وهو خير من يفصل ، وأعدل من يقضى ، لتنزهه عن الباطل والجور ، وليعتبر كفاركم بعاقبة من قبلهم وسيحل بهم مثل ما حل بأولئك بحسب السنن التي قدرها العليم الحكيم ، ولن تجد لسنة اللّه تبديلا ولن تجد لسنة اللّه تحويلا.
اللهم وفقنا للسير على سنن العدل والرشاد ، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وكان الفراغ من مسودة هذا الجزء فى الثامن عشر من رجب المعظم سنة ثنتين وستين وثلاثمائة هجرية.
وصل ربنا على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(8/213)
ج 8 ، ص : 214
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 5 المستهزءون بالقرآن 9 الأدلة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم 15 الأصل فى عبادة الأوثان 16 حكم ترك التسمية حين الذبح 17 حكم ما يذبح لدى استقبال أمير أو وزير 20 جرت سنة اللّه أن يكون فى كل عاصمة زعماء مجرمون 24 عذاب الأمم بذنوبها فى الدنيا مطرد دون عذاب الأفراد 29 أثبتت السنة الاتصال بين الإنسان والأرواح الشريرة كما أثبتت وجود الجراثيم الميكروبات 32 الإسلام وضع مبدأ الشورة فى مهام الأمور 33 الجن عالم غيبى لا نعرف عنه إلا ما ورد به النص 35 هلاك الأمم يكون بما يغلب عليها من العصيان والفسوق.
39 أنار العلم فى هذا العصر أمر البعث وقربه إلى العقول 43 حكم العرب فى التحليل والتحريم 51 تحريم التشريع لا يكون إلا للّه 57 أحلت لنا ميتتان ودمان 58 ما حرم من الأنعام عقوبة على بنى إسرائيل(8/214)
ج 8 ، ص : 215
الصفحة المبحث 66 الوصايا العشر التي أمر الرسول بتلاوتها على المشركين 80 تمادى المشركين فى تكذيب الرسول وعدم الاعتداد بما معه من الآيات 83 أهل الكتاب فرقوا دينهم وجعلوه شيعا 84 أسباب التفرق فى الدين فى هذه الأمة 86 من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها 89 الدين القيم هو ملة إبراهيم لا ما يدعيه أهل الكتاب والمشركون 90 المؤمن حياته للّه ومماته للّه 92 سعادة الناس وشقاؤهم بأعمالهم فحسب 93 إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث 100 بيان الرسول صلى اللّه عليه وسلم للدين داخل فيما أنزل علينا 106 الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت 111 معاذير إبليس فى عدم سجوده لآدم عليه السلام 113 هل الجنة التي هبطها آدم بستان أو هى جنة الجزاء 119 الشيطان أو هم آدم وزوجه أن الأكل من الشجرة يقتضى الخلود 122 العقاب أثر طبيعى للذنب 126 فعل الجنة فى أرواح البشر كفعل الميكروبات فى الأجسام 129 معاذير المشركين فى عمل الفاحشة 133 وجوب الزينة للعبادة 136 الدين يورث أهله سعادة الدنيا والآخرة 137 أصبح المسلمون من أجهل الشعوب لسنن اللّه فى الأكوان 140 الاجتهاد خاص بالقضاء لا بأصول الدين وعباداته 143 الأجل المقدر بمقتضى نظام الخلق هو العمر الطبيعي(8/215)
ج 8 ، ص : 216
الصفحة المبحث 153 ينزع الغل والحسد من قلوب أهل الجنة 161 يعرف المجرمون بسيماهم يوم القيامة 163 يغاث المجرمون بالضريع الذي لا يسمن ولا يغنى من جوع 170 الأيام الستة التي كانت حين الخلق 171 السموات والأرض كانتا سديما 172 ما ورد فى الخلق من الإسرائيليات لا يعول عليه 175 الدعاء خفية أفضل من الدعاء جهرا 177 الاعتداء فى الدعاء على ضروب 180 طلب اللّه الإحسان فى كل شىء 181 أسماء الرياح لدى العرب 184 الحياة فى عرف العرب ولدى علماء الطبيعة 199 استدل العلماء على نظام مناوبات الري بقوله تعالى : لها شرب ولكم شرب يوم معلوم 201 أسباب رجفة قوم صالح 202 نادى النبي صلى اللّه عليه وسلم بعض قتلى قريش ببدر بعد دفنهم فى القليب 204 ما فعله قوم لوط لم يفعله أخس أنواع الحيوان 206 الفسق والفجور يفسدان أخلاق الأمم 207 السبب فى تحريم فاحشة قوم لوط 212 نهى شعيب قومه عن ثلاثة أشياء 212 حكم اللّه بين عباده ضربان(8/216)
ج 9 ، ص : 3
الجزء التاسع
[تتمة سورة الأعراف ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 89]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)
المعنى الجملي
هذه الآيات من تتمة قصص شعيب ذكر فيها جواب الملإ من قومه عما أمرهم به :
من عبادة اللّه وحده ، وإيفاء الكيل والميزان ، وعدم الفساد فى الأرض ، وعما ختم به حديثه من التهديد والإنذار بقوله : فاصبروا حتى يحكم اللّه بيننا.
وتولى الرد عليه أشراف قومه كما هو الشأن فى بحث كبريات المسائل ومهامّ الأمور.(9/3)
ج 9 ، ص : 4
الإيضاح
(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي قال أشراف قومه الذين استكبروا عن الإيمان وعن اتباع ما أمرهم به وما نهاهم عنه : قسما لنخرجنك يا شعيب أنت ومن آمن معك - من بلادنا كلها - بغضا لكم ودفعا لفتنتكم ، أو لترجعن إلى ديننا ومعتقداتنا التي ورثناها عن آبائنا ، وتدخلنّ فى زمرتنا وتندمجنّ فى غمارنا.
والخلاصة - ليكونن أحد الأمرين : إخراجكم من البلاد ، أو عودتكم فى الملة ، فاختاروا لأنفسكم ما ترونه أرفق بكم وأوفق لكم.
وشعيب عليه السلام لم يكن قبل النبوة على ملة أخرى غير ملة قومه ، فساغ لهم أن يطالبوه بالعود إلى ملتهم ، وكونه لم يشاركهم فى شركهم ولا بخس الناس أشياءهم - أمر سلبى لا يعدّه به جمهورهم خروجا عنهم - فلا منافاة بين هذا وعصمة الأنبياء عن الكفر.
(قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) أي أ تأمروننا أن نعود فى ملتكم وتهدوننا بالنفي من أوطاننا ، والإخراج من ديارنا إن لم نفعل ولو كنا كارهين لكل من الأمرين ؟ .
إنكم لقد جهلتم أن الدين عقيدة وأعمال يتقرّب بها إلى اللّه الذي شرعها لتكميل الفطرة البشرية ، كما جهلتم أن حب الوطن لا يبلغ منزلة حب الدين لدىّ ولدي قومى ، فظنتم فىّ وفيمن آمن معى أننا نؤثر التمتع بالإقامة فى الوطن ، على مرضاة اللّه بالتوحيد المطهّر من أدران الخرافات ، وبالفضائل المهذبة للنفوس والمرقّية لها فى معارج الكمال حتى تتم لنا سعادة الدنيا والآخرة.
فللدين منزلة فى النفوس لا تسمو إليها منزلة أخرى ، فإن تمكن صاحبه من إقامته فى وطنه وإصلاح أهله به فهم أحق به ، وإن فتن فى دينه فيه كان تركه واجبا عليه ،(9/4)
ج 9 ، ص : 5
فإن لم يخرج منه شعيب ومن آمن معه إخراجا وهم كارهون ، كما أخرج خاتم النبيين مع صحبه السابقين الأولين إلى الإسلام - خرجوا مهاجرين كما فعل إبراهيم عليه السلام - كما حكى اللّه عنه : « وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » .
وقد أوجب اللّه الهجرة على من يستضعف فى وطنه ، فيمنع من إقامة دينه فيه ، فإن لم يفعل ذلك دخل تحت وعيد قوله : « إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ؟ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ - قالُوا : أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها ؟ فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً » .
ثم بين أحق الأمرين بالرفض وأجدرهما بالبغض متعجبا من كلامهم فقال :
(قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها) أي ما أعظم افتراءنا على اللّه إن عدنا فى ملتكم بعد إذ نجانا اللّه منها وهدانا الصراط المستقيم باتباع ملة إبراهيم.
وإذا كان اتباع ملتكم يعدّ افتراء على اللّه ، لأنه قول عليه لا علم لنا به بوحي ولا برهان من العقل ، فكيف بمن يفترى عليه ويضل عن صراطه على علم ؟ ، فالكفر بالحق وغمطه بعد العلم به هو شر أنواع الكفر ، والافتراء على اللّه فيه أفظع ضروب الافتراء التي لا تقبل فيها الأعذار بحال.
وفى قوله إذ نجانا أي نجا أصحابى منها فهو تغليب بإدخاله فى زمرتهم ، أو نجانى من الانتماء إلى هذه الملة التي ما كنت أو من بعقيدتها ولا أعمل بعمل أهلها ، ولم أهتد بعقلي ورأيى إلى ملة خير منها فوقفت موقف الحيرة فى شأنها ، كما جاء فى خطاب النبي صلى اللّه عليه وسلم قوله : « وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى » وقوله : « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ(9/5)
ج 9 ، ص : 6
رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا »
.
(وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا) يقولون ما يكون لى أن أفعل كذا على معنى أنه غير مستطاع لى ولا جار على السنن المعقولة.
أي ليس من شأننا أن نعود فيها فى حال من الأحوال إلا حال مشيئة ربنا المتصرف فى جميع شئوننا ، فهو وحده القادر على ذلك ، لا أنتم ولا نحن ، لأنا موقنون بأن ملتكم باطلة ، وملتنا هى الحق التي بها صلاح حال البشر وعمران الأرض.
وهذه الجملة رفضن آخر للعود إلى ملتهم مؤكد أبلغ التأكيد ، مؤيس لهم من عودته ومن آمن معه إلى ملتهم ، فبعد أن نفى وقوع العود منهم باختيارهم نفاه نفيا مؤكدا بأنه ليس من شأنهم ولا يجىء من قبلهم بحال من الأحوال كالترغيب والترهيب بالرجاء فى المنافع والخوف من المضار كالإخراج من الديار ، إلا حالا واحدة وهى مشيئة اللّه ومشيئته تجرى بحسب علمه وحكمته فى خلقه ، وسنته فى خلقه أن ينصر أهل الحق على أهل الباطل ما داموا ناصرين له وقائمين بما هداهم إليه منه.
وخلاصة ذلك - لا تطمعوا أن يشاء ربنا الحفىّ بنا عودتنا فى ملتكم بعد إذ نجانا منها بفضله ، فما كان اللّه ليدحض حجته ويغيّر سنته.
(وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) فهو سبحانه يعلم كل حكمة ومصلحة ، ومشيئته تجرى على موجب الحكمة ، فكل ما يقع فهو مشتمل عليها ، وفى هذا إيماء إلى عدم الأمن من مكر اللّه سبحانه : « فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ » .
(عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا) أي إلى اللّه وحده وكلنا أمورنا مع قيامنا بكل ما أوجبه علينا من الحفاظ على شرعه ودينه ، فهو الذي يكفينا تهديدكم وما ليس فى استطاعتنا من جهادكم : « وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ » إذ من شروط التوكل الصحيح القيام بالأحكام الشرعية ومراعاة السنن الكونية والاجتماعية ، فمن يترك العمل بالأسباب فهو الجاهل المغرور لا المتوكل المأجور ، كيف
وقد قال النبي صلى اللّه عليه وسلم(9/6)
ج 9 ، ص : 7
لمن سأله أ يترك ناقته سائبة ويتوكل على اللّه ؟ « اعقلها وتوكل » رواه الترمذي ،
وقال تعالى مخاطبا رسوله بعد أن أمره بمشورة أصحابه فى غزوة أحد : « فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ » وإنما يكون العزم بعد الأخذ بالأسباب فقد لبس من يومئذ درعين وأعدّ العدة لقتال أعدائه ، ورتب الجيوش بحسب القوانين المعروفة فى ذلك العصر.
وخلاصة رد شعيب على الملأ من قومه - إنه عجب من تهديدهم وإنذارهم ، وأقام الأدلة على امتناع عودهم إلى ملة الكفر باختيارهم ، وعدم استطاعة أحد إجبارهم عليه غير اللّه الفعال لما يريد. ثم ثنى بذكر توكله على اللّه الذي يكفى من توكل عليه ما أهمّه مما هو فوق كسبه واختياره ، ثم ثلث بالدعاء الذي لا يكون مرجو الإجابة إلا بعد القيام بعمل ما فى الطاقة من الأعمال الكسبية مع التوكل على اللّه فقال :
(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) الفتح إزالة الأغلاق والأشكال ، وهو قسمان : حسى يدرك بالبصر كفتح العين والقفل والكلام الذي يكون من القاضي ، ومعنوى يدرك بالبصيرة كفتح أبواب الرزق والمغلق من مسائل العلم والنصر فى وقائع الحرب والمبهم من قضايا الحكم ، ويقال فتح اللّه عليه إذا جدّ وأقبلت عليه الدنيا ، وفتح اللّه عليه : نصره ، وفتح الحاكم بينهم وما أحسن فتاحته أي حكمه كما قال شاعرهم :
ألا أبلغ بنى وهب رسولا بأنى عن فتاحتهم غنىّ
ويقال بينهم فتاحات أي خصومات ، وولى الفتاحة أي القضاء ، وعن ابن عباس :
ما كنت أدرى ما قوله تعالى : « رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا » حتى سمعت بنت ذى يزن تقول لزوجها : تعالى أفاتحك ، وقالت أعرابية لزوجها : بينى وبينك الفتاح.
والمعنى - ربنا احكم بيننا وبين قومنا بالحق الذي مضت به سنتك فى التنازع بين المرسلين والكافرين ، وبين المحقين والمبطلين ، وأنت خير الحاكمين لإحاطة علمك بما يقع به التخاصم ، وتنزهك عن اتباع الظلم ، واتباع الهوى فى الحكم.(9/7)
ج 9 ، ص : 8
[سورة الأعراف (7) : الآيات 90 الى 93]
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)
تفسير المفردات
الرجف : الحركة والاضطراب ، والمراد بها الزلزلة ، ومنه : « يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ » وغنى بالمكان يغنى : كرضى يرضى ، إذا نزل به وأقام فيه ، والأسى :
شدة الحزن.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه جواب الملأ من قوم شعيب وطلبهم منه العود إلى ملتهم وبين يأسهم منه بما كان من جوابه لهم الدال على ثباته فى مقارعتهم وأنه دائب النصح والتذكير لهم ، علّهم يرعون عن غيّهم.
ذكر هنا أنهم حذّروا من آمن منهم بالويل والثبور وعظائم الأمور ، إذ سيلحقهم الخسار فى دينهم والخسار فى دنياهم ، لعل ذلك يثنيهم عن عزيمتهم ويردّهم إلى الرشاد من أمرهم بحسب ما يزعمون ، فكانت عاقبة ذلك أن أصبحوا كأمس الدابر وأصبحت ديارهم خرابا يبابا لا أنيس فيها ولا جليس.
الإيضاح
(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ : لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) أي وقال الكافرون من قوم شعيب وهم الملأ الذين جحدوا آيات اللّه وكذبوا رسوله وتمادوا(9/8)
ج 9 ، ص : 9
فى غيّهم لآخرين منهم : لئن اتبعتم شعيبا فيما يقول ، وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه من توحيد اللّه وأقررتم بنبوته ، إنكم إذا لخاسرون فى فعلكم وترككم ملتكم التي أنتم عليها مقيمون ، إلى دينه الذي يدعوكم إليه.
وعمموا الخسران ليشمل خسران الشرف والمجد إذ بإيثاركم ملته على ملة آبائكم وأجدادكم تعترفون بأنهم كانوا ضالين ومعذّبين عند اللّه وخسران الثروة والربح بما تحترفونه من تطفيف الكيل والميزان وبخس الغرباء أشياءهم لابتزاز أموالهم.
ووصف الملأ - أولا بالاستكبار - لأنه هو الذي جرأهم على تهديده وإنذاره بالإخراج من القرية وإشعاره بأنهم أرباب السلطان فيها ، وثانيا : بالكفر لأنه هو الحامل على الإغواء وصدهم عن الإيمان والأخذ بما جاء به ، ثم عللوا لهم صدهم بأن فى ذلك لهم مصلحة أيّما مصلحة وفائدة أيّما فائدة.
والخلاصة - إنه تعالى وصفهم أولا بالضلال ثم وصفهم ثانيا بالإغواء والإضلال ثم ذكر عاقبة أمرهم وما أصابهم من نكال فقال :
(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) أي فأخذتهم الزلزلة فأصبحوا فى دارهم منكبّين على وجوههم ميتين ، وقد عبر عنه هنا بالرّجفة ، وفى هود بالصيحة كعذاب ثمود ، وستعلم هناك وجه الجمع بينهما.
وقد بيّن سبحانه فى سورة الشعراء أن اللّه أرسل شعيبا إلى أصحاب الأيكة وهم إخوة مدين فى النسب ، أخرج ابن عساكر عن ابن عباس فى قوله : « كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ » قال كانوا أصحاب غيضة بين ساحل البحر ومدين - وفى ذلك دليل على أن اللّه أرسله إلى أهل مدين وإلى من اتصل بهم إلى ساحل البحر ، وأن حال الفريقين فى الكفر والمعاصي كانت واحدة ، وكان ينذرهم متنقلا بينهم.
وكان عذاب مدين بالصيحة والرّجفة المصاحبة لها ، وعذاب أصحاب الأيكة بالسّموم والحر الشديد وقد انتهى ذلك بظلة من السحاب فزعوا إليها ينبردون بظلها فأطبقت عليهم فاختنقوا بها أجمعون.(9/9)
ج 9 ، ص : 10
(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ، الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) جاءت هذه الجملة بيانا من اللّه لما انتهى إليه أمرهم وكيف كانت عاقبة عملهم فكأن سائلا سأل عما آل إليه تهديدهم لشعيب وقومه بقولهم : « لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا » وقولهم لقومهم : « لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ » فأجاب عن الأول جوابا مناقضا له بقوله : الذين كذبوا شعيبا إلخ. أي الذين كذبوا شعيبا وأنذروه بالإخراج من قريتهم قد هلكوا وهلكت قريتهم فحرموها كأن لم يقيموا ولم يعيشوا فيها بحال ، وأجاب عن الثاني بقوله : الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين : أي الذين كذبوا وزعموا أن من يتبعه يكون خاسرا - كانوا هم الخاسرين لما كانوا موعودين به من سعادة الدنيا والآخرة ، دون الذين اتبعوه فإنهم كانوا هم الفائزين المفلحين.
وفى الآية إيماء إلى أن الحريص على التمتع بالوطن والاستبداد فيه على أهل الحق تكون عاقبته الحرمان الأبدى منه ، كما أن الحريص على الربح بأكل أموال الناس بالباطل ينتهى بالحرمان منه ومن غيره.
(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ : يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) أي فأدبر شعيب عنهم وخرج من بين أظهرهم حين أتاهم عذاب اللّه ، وقال حزنا عليهم : يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربى وأدّيت إليكم ما بعثني به إليكم. وقد تقدم مثل هذا فى قصة صالح ، وقد اتحد إعذار الرسولين لاتحاد حال القومين.
(فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) أي فكيف أحزن على قوم جحدوا وحدانية اللّه وكذبوا رسوله وأتوجع لهلاكهم بعد أن أعذرت إليهم وبذلت جهدى فى سبيل هدايتهم ونجاتهم فاختاروا ما فيه هلاكهم ، وإنما يأسى من قصّر فيما يجب عليه من النصح والإنذار.(9/10)
ج 9 ، ص : 11
[سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 95]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95)
تفسير المفردات
القرية : المدنية الجامعة لزعماء الأمة ورؤسائها (العاصمة) والبأساء : الشدة والمشقة كالحرب والجدب وشدة الفقر ، والضراء : ما يضر الإنسان فى بدنه أو نفسه أو معيشته ، والأخذ بها : جعلها عقابا لهم ، والتضرع : إظهار الضراعة أي الضعف والخضوع ، وعفوا : كثروا ونموا ، من قولك : عفا النبات والشعر إذا كثر ، وبغتة : فجأة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حال الأمم السابقة مع أنبيائها وبين ما فى قصصهم من العظة والعبرة فقد كانت العاقبة فى كل حال للمتقين ، والدائرة تدور على المبطلين.
أشار هنا إلى سنة اللّه فى الأمم التي تكذب رسلها أن ينزل بها البؤس وشظف العيش وسوء الحال فى دنياهم ليتضرعوا إلى ربهم وينيبوا إليه بالإقلاع عن كفرهم والتوبة من تكذيب أنبيائهم ، وفى هذا من التحذير لقريش والتخويف لهم ما لا يخفى.
ثم ذكر أنه بدل الرخاء بالبؤس ليعتبروا ويشكروا ، لكنهم لم يفعلوا فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
الإيضاح
(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) أي إن سنتنا قد جرت (ولا مبدل لها) أننا إذا أرسلنا نبيّا فى قوم وكذبوه أنزلنا بهم الشدائد والمصائب لنعدّهم ونؤهلهم للتضرع والإخلاص فى دعائنا بكشفها ، وقد ثبت بالتجارب لدى علماء الأخلاق أن الشدائد تربى الناس وتصلح فساد أحوالهم ،(9/11)
ج 9 ، ص : 12
فالمؤمن قد يشغله هناء العيش عن حاجته إلى ربه ، لكن الشدائد تذكره به ، والكافر بالنعم قد يعرف قيمتها له بفقدها ، وتنبهه الشدائد والأهوال إلى وجود الرّب الخالق المدبر لأمور الخلق وتذكره الأهوال بمصدر هذا النظام فى الكون.
(ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أي ثم أعطينا بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة ، الرخاء والسعة.
(حَتَّى عَفَوْا) أي حتى كثر عددهم ونموا ، إذ أن الرخاء مما يكون سببا فى كثرة النسل وبه تتم النعمة فى الدنيا على الموسرين ، ومن هذه الحسنات ما حدث لقوم هود من النعم التي بطروا بها وذكرهم هود بها فى قوله : « وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً ، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » وكذا ما قاله صالح لقومه : « وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ » (وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) أي وقالوا قولا يدل على أنهم لا يعتبرون بأحداث الزمان. قالوا قدمس آباءنا من قبلنا ما يسوء وما يسر ، وما نحن إلا مثلهم فيصيبنا مثل ما أصابهم ، والدهر بالناس قلّب. وتلك عادة الدهر بأبنائه ، فلا الضراء عقاب على ذنب يرتكب ، ولا السراء جزاء على صالحات تكتسب.
وخلاصة هذا - إنهم لم يفهموا السنن التي وضعها المولى سبحانه فى أسباب السعادة والشقاء فى البشر والتي أرشد إليها قوله : « إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ » ومن ثم لم يتذكروا ولم يعتبروا حين ذكرهم رسولهم ، بل أعرضوا ونأوا.
(فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي فكان عاقبة أمرهم أن أخذناهم بالعذاب فجأة وهم لا شعور لديهم بما سيحل بهم ، إذ هم قد جهلوا سنن اللّه التي وضعها فى شئون(9/12)
ج 9 ، ص : 13
الاجتماع ، فلاهم اهتدوا إليها بعقولهم ، ولا هم صدقوا الرسل فيما أنذروهم به ، وجاء بمعنى الآية قوله تعالى فى سورة الأنعام : « فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ » .
فالكافرون إذا مسهم الشر يئسوا وابتأسوا ، وإذا مسهم الخير بطروا واستكبروا وبغوا فى الأرض وأهلكوا الحرث والنسل ، والمؤمنون باللّه وما جاء به رسله تكون الشدائد والمصايب تربية لهم وتمحيصا.
ولما ترك المسلمون هدى القرآن فى حكوماتهم ومصالحهم العامة ، فى أعمال الأفراد سلبهم اللّه ما أعطاهم من أنواع العلم والحكمة واتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، فاتبعوا أهل الكتاب فى خرافاتهم وحفلهم وتقليد آبائهم وأجدادهم وطلب النفع والضر من دجّالى الأحياء وقبور الأموات ، فغشيهم الجهل ، والنابتة منهم قلدوا الإفرنج فى الفسق والفجور وشر ما وصلوا إليه فى طور فساد حضارتهم وقلدوهم حتى فيما لا يوافق أحوالهم وبلادهم ومصالحهم.
وهكذا ضلت الفئتان عن هدى القرآن ، وأضاعتا ما بقي من ملك الإسلام.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 96 الى 100]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100)(9/13)
ج 9 ، ص : 14
تفسير المفردات
بركات السماء : تشمل معارف الوحى العقلية ونفحات الإلهام الربانية ، والمطر ونحوه مما يوجب الخصب والخير فى الأرض ، وبركات الأرض : الخصب والمعادن ونحوهما ، والبأس : العذاب وبياتا : أي وقت بيات وهو الليل ، والضحى : انبساط الشمس وامتداد النهار ويسمى به الوقت ، ويلعبون : أي يلهون من فرط غفلتهم ، المكر : التدبير الخفي الذي يفضى بالممكور به إلى ما لا يحتسب ، وهداه السبيل وهداه إليه وهداه له : أي دلّه عليه وبيّنه له.
المعنى الجملي
بعد أن بين عز اسمه أخذه لأهل القرى الذين كذبوا رسلهم ، وكفروا بما جاءوا به وظلموا أنفسهم وظلموا الناس بما افتنّوا فيه من أفانين الشرك والمعاصي كما حكى اللّه فى محاورتهم لرسلهم وإجابة الرسل لهم بما سلف ذكره.
ذكر هنا لأهل مكة ولسائر الناس ما كان يكون من إغداق نعمه تعالى عليهم لو آمنوا بالرسل واهتدوا بهديهم واعتبروا بسنة اللّه فى الأمم من قبلهم ، فإن سنته تعالى فى الأمم واحدة لا تبديل فيها ولا تحويل.
الإيضاح
(وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي ولو أن أهل مكة ومن حولهم من أهل القرى آمنوا بما دعاهم إليه خاتم الرسل صلوات اللّه عليه من عبادته تعالى وحده واتّقوا ما نهاهم عنه من الشرك والفساد فى الأرض بارتكاب الفواحش والآثام - لفتحنا عليهم أنواعا من بركات السماء والأرض لم يعهدوها من قبل ، فتكون لهم أبواب نعم وبركات غير التي عهدوا فى صفاتها ونمائها وثباتها وأثرها فيهم ، فأنزلنا عليهم الأمطار النافعة التي تخصب الأرض وتكسب(9/14)
ج 9 ، ص : 15
البلاد رفاهية العيش ، وآتيناهم من العلوم والمعارف وفهم سنن الكون ما لم يصل إلى مثله البشر من قبل.
والخلاصة - إنهم لو آمنوا لو سعنا عليهم الخير من كل جانب ويسرناه لهم بدل لما أصابهم من عقوبات بعضها من السماء وبعضها من الأرض.
والقاعدة التي أقرها القرآن الكريم أن الإيمان الصحيح ودين الحق سبب فى سعادة الدنيا ، ويشارك المؤمنين فى المادي منها الكفار كما قال تعالى : « فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ » أي إن ذلك الفتح كان ابتلاء واختبارا لحالهم ، وكان من أثره فيهم البطر والأشر بدلا من الشكر لمولى النعم فكان نقمة لا نعمة ، وفتنة لا بركة ، ولكن المؤمنين إذا فتح اللّه عليهم كان أثره فيهم شكر اللّه عليه والاغتباط بفضله واستعماله فى سبيل الخير دون الشر وفى الإصلاح دون الإفساد ، ويكون جزاؤهم على ذلك زيادة النعم فى الدنيا وحسن الثواب عليها فى الآخرة.
(وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ولكنهم لم يؤمنوا ولم يتقوا بل كذبوا فأخذناهم بما كانوا يعملون من أعمال الشرك والمعاصي التي تفسد نظم المجتمع البشرى.
وذلك الأخذ بالشدة أثر لازم لكسبهم المعاصي بحسب السنن التي وضعها المولى فى الكون ويكون فيه العبرة لأمثالهم إن كانوا يعقلون هذه النواميس العامة التي لا نبديل فيها ولا تغيير.
ثم عجب من حالهم وذكر من غفلتهم فقال :
(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ ؟ ) أي أجهل أهل مكة وغيرهم من أهل القرى الذين بلغتهم الدعوة والذين ستبلغهم ما نزل بمن قبلهم وغرّهم ما هم فيه من نعمة فأمنوا أن يأتيهم عذابنا وقت بياتهم وهم نائمون ؟ .(9/15)
ج 9 ، ص : 16
(أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ؟ ) أي أو أمن أهل القرى أن يأتيهم عذابنا فى وقت الضحى وهم منهمكون فى أعمالهم التي كأنها لعب أطفال لعدم الفائدة التي تترتب عليها.
والخلاصة - إنه تعالى خوّفهم نزول العذاب بهم فى أوقات الغفلات ، إما حين النوم وإما وقت الضحى ، إذ يكثر فيه تشاغل الناس باللذات.
(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ؟ ) أي أ كان سبب أمنهم إتيان بأسنا بياتا أو ضحى وهم غافلون عن مكر اللّه بهم بإتيانهم ببأسنا من حيث لا يحتسبون ولا يقدرون ؟ إن كان الأمر كذلك فقد خسروا أنفسهم فإنه لا يأمن مكر اللّه إلا القوم الخاسرون.
وإذا كانت الآية ناطقة بأن أمن الصالح المتعبد من مكر اللّه جهلا يورث الخسر فما بال من يأمن مكر اللّه وهو مسترسل فى معاصيه اتكالا على عفوه ومغفرته ورحمته ؟
وقد كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يكثر من الدعاء بقوله : « اللهم يا مقلّب القلوب والأبصار ثبّت قلبى على دينك » .
وذكر سبحانه أن الراسخين فى العلم يدعونه فيقولون :
« رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً » .
وكما أن الأمن من مكر اللّه خسران ومفسدة ، فاليأس من رحمة اللّه كذلك فكلاهما مفسدة تتبعها مفاسد.
(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ؟ ) أي أ كان ما ذكر آنفا مجهولا لأهل القرى وأنه هو سنة اللّه ولم يتبين لأولئك الذين يرثون الأرض من بعد أهلها قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل أن شأننا فيهم كشأننا فيمن سبقهم فهم خاضعون لمشيئتنا ، فلو نشاء أن نعذبهم بسبب ذنوبهم لعذبناهم كما أصبنا أمثالهم ممن قبلهم بمثلها وأهلكناهم كما أهلكناهم ، فإن لم نهلكهم بالعذاب نطبع على قلوبهم فلا يسمعون الحكم(9/16)
ج 9 ، ص : 17
والنصائح سماع تفقه وتدبر « وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ » إذ أن قلوبهم فد ملئت بمعتقدات وشهوات تصرفها عن غيرها فجعلتهم من « بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً » .
وقد كان فى مثل هذا القصص عبرة للمسلمين أيّما عبرة ، فكتابهم يقصّ عليهم قصص الأمم قبلهم ويبين لهم أن ذنوب الأمم لا تغفر كذنوب الأفراد وسنته فيها لا تتبدل ولا تتحول فكان عليهم أن يتقوا كل ما قصه من ذنوب الأمم التي هلك بها من قبلهم وزالت بها الدّولة لأعدائهم ، ولكنهم قصّروا فى وعظ الأمة بها وإنذارهم عاقبة الإعراض عنها وترك الإعراض عن تدبرها ، وكان عليهم أن يعتبروا
بقول النبي صلى اللّه عليه وسلم : « شيبّتنى هود وأخواتها »
وقوله تعالى : « أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ » .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 101 الى 102]
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)
تفسير المفردات
العهد : الوصية. والوصية تارة يراد بها إنشاؤها وإيجادها ، وأخرى يراد بها ما يوصى به ، ويقال عهدت إليه بكذا أي وصيته بفعله أو حفظه ، وهو إما أن يكون بين طرفين وهو المعاهدة ، وإما من طرف واحد بأن يعهد إليك بشىء أو تلزم بشىء ، والميثاق : هو العهد الموثّق بضرب من ضروب التوكيد.(9/17)
ج 9 ، ص : 18
وقال الراغب : عهد اللّه تارة يكون بما ركزه فى عقولنا ، وتارة يكون بما أمرنا به فى الكتاب وألسنة رسله ، وتارة بما نلتزمه وليس بلازم فى أصل الشرع كالنذور وما يجرى مجراها ا ه.
والفسوق : الخروج عن كل عهد فطرى وشرعى بالنكث والغدر وغير ذلك من المعاصي ، ووجدنا الأولى بمعنى : ألفينا. والثانية بمعنى : علمنا.
المعنى الجملي
هذا خطاب وجه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم تسلية وتثبيتا له على الصبر على دعوته بتذكيره بما فى قصص أولئك الرسل مع أقوامهم من وجوه العبر والموعظ ، وبيان أن ما يلاقيه منهم من ضروب العناد والاستكبار والإيذاء ليس بدعا بين الأمم ، بل ذلك طريق سلكه كثير من الأمم المجاورة لهم كعاد وثمود وأصحاب الأيكة وغيرهم ممن تقدم ذكرهم ، وقصصهم يدور على ألسنتهم بحكم الجوار لهم وطروق أرضهم فى حلهم وترحالهم فى رحلتى الشتاء والصيف.
الإيضاح
(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) أي تلك القرى التي بعد عهدها ، وطال الأمد على تاريخها وجهل قومك حقيقة حالها نقص عليك بعض أنبائها مما فيه العبرة لقومك ولك.
والمراد بها القرى المعهودة فى هذا القصص ، والحكمة فى تخصيصها بالذكر أنها كانت فى بلاد العرب وما جاورها ، وكان أهل مكة وغيرهم ممن وجّهت إليهم الدعوة أول الإسلام يتناقلون بعض أخبارها وهى جميعا طبعت على غرار واحد فى تكذيب الرسل والمماراة فيما جاءوا به من النذر فحل بهم النكال بعذاب الاستئصال ، فالعبرة فى جميعها واحدة ، ومن ثم فصلها من قصة موسى الآتية لأن قومه آمنوا به وإنما كذب فرعون وملؤه فعذبوا.(9/18)
ج 9 ، ص : 19
(وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) أي ولقد جاء أهل تلك القرى رسلهم بالبينات الدالة على صدق دعوتهم وبالآيات التي اقترحوها عليهم لإقامة حجتهم ، فجاء كل رسوله قومه بما أعذر به إليهم ، ولكن لم يكن من شأنهم أن يؤمنوا بعد مجىء البينات بما كذبوا به من قبل مجيئها حين بدء الدعوة إلى التوحيد وعبادة اللّه وحده بما شرعه وترك الشرك والمعاصي.
ذاك أن شأن المكذبين عنادا أو تقليدا أن يصروا على التكذيب بعد إقامة البينة ، إذ لا قيمة لها فى نظرهم ، فهم إما جاحدون معاندون ضلوا على علم ، وإما مقلدون يأبون النظر والفهم.
وفى معنى الآية قوله فى سورة يونس : « ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ » .
(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) أي مثل ما ذكر من عناد هؤلاء وإصرارهم على الضلال وعدم تأثير الدلائل والبينات فى عقولهم يكون الطبع على قلوب من ران الكفر على قلوبهم وصار العناد ديدنهم سنة اللّه فى أخلاق البشر وأحوالهم ، إذ هم يأنسون بالكفر وأعماله وتستحوذ أوهامه على عقولهم ويملأ حب الشهوات أفئدتهم فلا يقبلون بحثا ولا فيما هم عليه نقدا ، فما مثلها إلا مثل السكة التي طبعت على طابع خاص أثناء صهر معدنها ، وإذابته ثم جمدت فلا تقبل بعد ذلك نقضا ولا شكلا آخر.
وفى الآية تسلية للنبى صلى اللّه عليه وسلم وإعلام له بأن أهل مكة قد وصلوا إلى حال من الجمود والعناد وفساد الفطرة وإهمال النظر والعقل لا تؤثر فيها البينات وإن وضحت ، ولا الآيات وإن اقترحت.
وقد كانوا يقترحون عليه الآيات ، وكان يتمنى أن يؤتيه اللّه ما اقترحوا منها حرصا(9/19)
ج 9 ، ص : 20
على إيمانهم ، حتى بيّن اللّه له طباعهم وأخلاقهم ليعرف مبلغ أمرهم فى قبول دعوته وأنه لا أمل له فيهم بحال.
(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) أي وما وجدنا لأكثر أولئك الأقوام عهدا ما يفون به سواء كان عهد الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها - إذ قد فطر اللّه أنفس البشر على الشعور بسلطان غيبى فوق جميع القوى ، وعلى إيثار الحسن واجتناب غيره وعلى حب الكمال وكراهة النقص - أم كان العهد الذي أخذه ربهم عليهم وهم فى الأصلاب أنه ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو ، وأقروا بذلك وشهدوا على أنفسهم به وخالفوه وتركوه وراء ظهورهم وعبدوا معه غيره بلا دليل ولا حجة من عقل ولا شرع ،
وقد جاء فى صحيح مسلم : « يقول اللّه : إنى خلقت عبادى حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم »
وفى الصحيحين : « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه » .
(وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) أي وإننا وجدنا أكثرهم خارجين على كل عهد فطرى وشرعى وعرفى ، فهم ناكثون غادرون للعهود مرتكبون أفانين المعاصي.
وفى التعبير بالأكثر إيماء إلى أن بعضهم قد آمن والتزم كل عهد عاهده اللّه عليه أو تعاهد عليه مع الناس.
وهذا من دأب القرآن فى تحقيق الحقائق على وجه الصدق بحيث لا تشوبها شبهات المبالغة بما يسلب أحدا حقه أو يعطى أحدا حق غيره.
قصص موسى عليه السلام
[سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 112]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112)(9/20)
ج 9 ، ص : 21
تفسير المفردات
موسى : هو موسى بن عمران (بكسر العين) وأهل الكتاب يقولون : (عمرام) بفتح أوله ، وإنما سمى موسى لأنه ألقى بين ماء وشجر ، فالماء بالقبطية (مو) والشجر :
(سى) وذلك أن أمه وضعته بعد ولادته فى تابوت : (صندوق) وأقفلته إقفالا محكما وألقته فى (نهر النيل) خوفا من فرعون وحكومته أن يعلموا به فيقتلوه ، إذ كانوا يذبحون ذكور بنى إسرائيل عند ولادتهم ويتركون نساءهم.
وفرعون لقب لملوك مصر القدماء كلقب قيصر لملوك الروم وكسرى لملوك الفرس.
والراجح لدى كثير ممن يعنون بالتاريخ المصري القديم أن فرعون موسى هو الملك منفتاح وكان يلقب بسليل الإله. (رع) أي الشمس وقد كتب بجانب هيكله الذي بدار الآثار المصرية الآية الكريمة : « فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً » .
والملأ أشراف القوم ، وظلموا بها : جحدوا بها وكفروا ، وحقيق : أي جدير وخليق به ، يقولون أنت حقيق بكذا كما يقول : أنت جدير به وخليق به ، والنزع : إخراج الشيء من مكانه ، وتأمرون : أي تشيرون فى أمره ، يقولون : مرنى بكذا على معنى : أشر علىّ وأدل برأيك ، وأرجئ : أي أرجئ أمره وأخره ولا تفصل فيه بادى الرأى ، وفى المدائن(9/21)
ج 9 ، ص : 22
أي مدائن ملكت ، وحاشرين أي جامعين سائقين السحرة منها ، وعليم : أي بفنون السحر ، ماهر فيها
المعنى الجملي
هذه هى القصة السادسة من قصص الأنبياء التي ذكرت فى هذه السورة وفيها من الإيضاح والتفصيل ما لم يذكر فى غيرها ، لأن معجزات موسى كانت أقوى من معجزات غيره ممن سبق ذكرهم ، وجهل قومه كان أفحش. وقد ذكرت قصته فى عدة سور مكية بين مطولة ومختصرة ، وذكر اسمه فى سور كثيرة زادت على مائة وثلاثين مرة وسر هذا :
أن قصته أشبه قصص الرسل بقصص النبي صلى اللّه عليه وسلم إذ أنه أوتى شريعة دينية دنيوية ، وكوّن اللّه تعالى به أمة عظيمة ذات ملك ومدنية.
الإيضاح
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها) أي ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى بالمعجزات التي تدل على صدقه فيما يبلغه عنا إلى فرعون وأشراف قومه فظلموا أنفسهم وقومهم بالكفر بها كبرا وجحودا فكان عليهم إثم ذلك وإثم قومهم الذين حرموا من الإيمان باتباعهم لهم ، وقال : « إلى فرعون وملئه » ولم يقل فرعون وقومه لأن الملك ورجال الدولة هم الذين كانوا مستعبدين لبنى إسرائيل وبيدهم أمرهم وليس لسائر المصريين من الأمر شىء لأنهم كانوا مستعبدين أيضا ، ولكن الظلم كان على بنى إسرائيل الغرباء أشد ، ولو آمن فرعون وملؤه لآمن سائر المصريين لأنهم كانوا تبعا لهم ، وقد كان موسى مرسلا إلى قومه بنى إسرائيل قصدا وإلى فرعون وملئه وسيلة.
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي فانظر أيها الرسول كيف كان عاقبة فرعون وملئه المفسدين فى الأرض بالظلم واستعباد البشر حين جحدوا آيات اللّه وكفروا بها.(9/22)
ج 9 ، ص : 23
وفى هذا تشويق وتوجيه للنظر إلى ما سيقصه اللّه تعالى من عاقبة أمرهم ، إذ نصر رسوله موسى وهو واحد من شعب مستضعف مستعبد لهم ، على فرعون وملئه وهم أعظم أهل الأرض قوة وصولة بأن أبطل سحرهم وأقنع علماءهم وسحرتهم بصحة رسالته وكون آياته من عند اللّه ، ثم نصره بإرسال أنواع العذاب على البلاد ثم بإنقاذ قومه وإغراق فرعون ومن تبعه من ملئه وجنوده. وهذه عبرة قائمة على وجه الدهر وحجة على أن الغلب ليس للقوة المادية فحسب ، كما يقوله المغرورون بعظمة الأمم الظالمة فى الغرب لمن استضعفتهم من أهل الشرق.
وبعد التشويق والتنبيه المتقدم ، قص اللّه تعالى ما كان من أولئك القوم فى مبدأ أمرهم حتى انتهوا إلى تلك العاقبة.
(وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) أي إن موسى صلى اللّه عليه وسلم بلّغ فرعون أنه رسول من رب العالمين كلهم : أي سيدهم ومالكهم ومدبر جميع أمورهم ، فهو لا يقول على اللّه إلا الحق ، إذ لا يمكن أن يبعث اللّه رسولا يكذب عليه وهو الذي بيده ملكوت كل شىء ، فهو معصوم من الكذب والخطأ فى التبليغ.
والخلاصة - إن كلامه اشتمل على عقيدة الوحدانية ، وهى أن للعالمين ربا واحدا وعلى عقيدة الرسالة المؤيدة منه تعالى بالعصمة فى التبليغ والهداية.
ثم ذكر بعد هذا أن اللّه أيده ببينة تدل على صدقه فى دعواه فقال :
(قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي قد جئتكم ببرهان من ربكم شاهد على صدق ما أقول.
وفى قوله : من ربكم إيماء إلى أنهم مربوبون وأن فرعون ليس ربا ولا إلها ، وإلى أن البينة ليست من كسب موسى ولا مما يستقل به عليه السلام. ثم رتب على مجيئه بالبينة طلبه منه أن يرسل معه بنى إسرائيل أي يطلقهم من أسره ويعتقهم من رقه وقهره ليذهبوا معه إلى دار غير داره ويعبدوا فيها ربهم وربه.(9/23)
ج 9 ، ص : 24
ثم حكى سبحانه ما قاله فرعون حينئذ :
(قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي قال فرعون لموسى إن كنت قد جئت مؤيدا بآية من عند من أرسلك كما تدّعى فأتنى بها وأظهرها لدىّ إن كنت ممن يقول الصدق ويلتزم قول الحق.
ثم ذكر أن موسى أجابه إلى ما طلبه فقال :
(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أي فلم يلبث موسى أن ألقى عصاه التي كانت بيمينه أمام فرعون فإذا هى ثعبان - ذكر الحيات - مبين ، أي ظاهر بيّن لا خفاء فى كونه ثعبانا حقيقيا يسعى وينتقل من مكان إلى آخر وتراه الأعين من غير أن يسحرها ساحر فيخيل إليها أنها تسعى ، وقوله :
ونزع يده ، أي أخرجها من جيب قميصه بعد أن وضعها فيه بعد إلقاء العصا فإذا هى بيضاء ناصعة البياض تتلألأ لكل من ينظر إليها.
وقد ذكر رواة التفسير بالمأثور روايات غاية فى الغرابة فى وصف الثعبان ليس لها سند يوثق به وما هى إلا إسرائيليات تلقفها المفسرون من أهل الكتاب الذين كانوا يكيدون للإسلام وللعرب كروايات وهب بن منبّه وهو فارسى الأصل أخرج كسرى والده إلى بلاد اليمن فأسلم فى زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم وكان ابنه من بعده يختلف إلى بلاده بعد فتحها ، ومثله روايات كعب الأحبار الإسرائيلى ، وقد كان كلاهما كثير الرواية للغرائب التي لا يعرف لها أصل معقول ولا منقول ، وقومهما كانوا يكيدون للمسلمين الذين فتحوا بلاد الفرس وأجلوا اليهود من الحجاز ، ألا ترى أن قاتل الخليفة الثاني فارسى مرسل من جماعة سرية لقومه ، وقتلة الخليفة الثالث كانوا مفتونين بدسائس عبد اللّه بن سبأ اليهودي.
ويرى المحققون من أعلام المسلمين أن الفتن السياسية والأكاذيب التي حدثت فى الرواية فى الصدر الأول يرجع أمرها إلى جماعة السبئيين وجماعات الفرس التي كانت تزوّد هؤلاء الوضاعين بأسلحة من الغش والتدليس ليفسد الإسلام على أهله ، ولو لا أن قيض اللّه للاسلام جماعة من أهل التحقيق أخرجوا البهرج والزيوف وألقوه(9/24)
ج 9 ، ص : 25
وراءهم ظهريا وأبقوا الجيّد الذي لا لبس فيه ولا شك فى صحة روايته لكان خطبهم قد استفحل فى الإسلام وأفسدوا كثيرا منه على أهله ، ولكن اللّه قد حفظ الحنيفية لأهلها بيضاء نقية سمحة لا عنت فيها ولا إرهاق :
ثم حكى ما قاله قومه بعد أن رأوا من موسى ما رأوا.
(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ) أي قال الأشراف من قوم فرعون وهم أهل مشورته ورؤساء دولته : إن هذا لساحر عليم : أي ماهر فى فنون السحر قد وجه كل همه لسلب ملككم منكم وإخراجكم من أرضكم بسحره ، إذ به يستميل الشّعب وينتزع منكم الملك ، ثم يخرج الملك وعظماء رجاله من البلاد حتى لا يناوئوه فى شئون الملك واستعادته منه.
وقد أبان هذا المعنى بوضوح بقوله فى سورة يونس حكاية عنهم من مراجعتهم لموسى وأخيه : « قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ » .
ولم يكن هذا القول منهم إلا صدى لما قاله فرعون وقد حكاه اللّه عنه فى سورة الشعراء بقوله : « قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ » وقد ردّدوه بعده وصار بعضهم يلقيه إلى بعض كما هى عادة الناس فى ترديد كلام الملوك والرؤساء إظهارا للموافقة عليه وتعميما لتبليغه ، وبعد أن أتموا مقالتهم موافقين ما قاله فرعون تشاوروا فى أمره بماذا يحتالون لإطفاء نوره وإخماد نار دعوته متخوّفين أن يستميل الناس بسحره ، فاتفقت كلمتهم على ما حكاه اللّه عنهم بقوله :
(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أي قال الملأ لفرعون حين استشارهم بقوله : فماذا تأمرون ؟ أخّر الفصل فى أمره وأمر أخيه وأرسل فى مدائن ملكك جماعات من رجال شرطتك وجندك جاشرين : أي جامعين لك السحرة منها وسائقيهم إليك(9/25)
ج 9 ، ص : 26
وقد كان السحر فى زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا ، ومن ثمّ خيّل إلى كثير منهم أن ما جاء به موسى من قبيل ما تشعبذ به سحرتهم فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات كما حكى اللّه عن فرعون حيث قال : « أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى ، فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً. قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ، فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى » .
(يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) أي فإن ترسلهم يأتوك بكل ساحر مجيد لفنون السحر ماهر فيها فيكشفوا لك حقيقة ما جاء به موسى فلا يفتنّ به أحد.
وإنما قال فى المدائن لأن السحر من العلوم التي توجد فى المدائن الجامعة المأهولة بدور العلم والصناعة ، وإنما نصحوه بإحضار السحرة الماهرين ، لأنهم الجديرون أن يأتوا موسى بمثل ما أتى به من الأمر العظيم.
فذلكة فى السحر وضروبه
السحر أعمال غريبة وحيل تخفى حقيقتها على جماهير الناس لجهلهم لأسبابها ، وقد كان فنا من الفنون التي يتعلمها قدماء المصريين فى مدارسهم الجامعة مع كثير من العلوم الكونية ، واقتفى أثرهم فى ذلك البابليون والهنود وغيرهم ولا يزال يؤثر عن الوثنيين من الهنود أعمال غريبة مدهشة من السحر اهتم بعض الإنكليز وغيرهم بالبحث بن حقيقة أمرها فعرفوا بعضا وجهلوا تعليل الأكثر.
وهو لا يروج إلا بين الجاهلين وله مكانة عظيمة فى القبائل الهمجية ، والبلاد ذات الحضارة تسميه بالشّعوذة والاحتيال والدجل ، وهو أنواع ثلاثة :
(1) ما بعمل بأسباب طبيعية من خواص المادة معروفة للساحر مجهولة عند من يسحرهم بها كالزئبق الذي قيل إن سحرة فرعون وضعوه فى حبالهم وعصيّهم كما سنذكره بعد ، ولو ادعى علماء الطبيعة والكيمياء فى هذا العصر السحر فى أواسط إفريقيا(9/26)
ج 9 ، ص : 27
وغيرها من البلاد التي يروج فيها السحر لأروهم العجب العجاب من غرائب الكهرباء وغيرها حتى لو ادّعوا فيهم الألوهية لخضعوا لهم فضلا عن النبوة والولاية.
(2) الشعوذة التي ملاك أمرها خفة اليدين فى إخفاء بعض الأشياء وإظهار بعض وإراءة بعضها بغير صورها وغير ذلك مما هو معروف فى هذه البلاد وغيرها من البلاد المتمدينة.
(3) ما يكون مداره على تأثير الأنفس ذات الإرادة القوية فى الأنفس الضعيفة القابلة للأوهام والانفعالات التي يسميها علماء النفس : (بالأنفس الهستيرية) وأصحاب هذا النوع يستعينون على أعمالهم بأرواح الشياطين ومنهم من يكتب الأوفاق والطلسمات للحب والبغض إلى نحو ذلك.
ومن ذلك ما استحدث فى هذا العصر من التنويم المغناطيسى.
وعلى الجملة فالسحر صناعة تتلقي بالتعليم كما ثبت بنص الكتاب الكريم.
وبالاختبار الذي لم يبق فيه شك بين العلماء فى هذا العصر.
قال أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص وهو من فقهاء الحنفية فى القرن الرابع :
زعموا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سحر وأن السحر عمل فيه حتى قال فيه : (إنه يخيّل إلىّ أنى أقول الشيء وأفعله ، ولم أقله ولم أفعله وإن امرأة يهودية سحرته فى جفّ طلعة : (وعاء طلع النخل) ومشط ومشاطة حتى أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أنها سحرته فى جفّ طلعة وهو تحت راعوفة البئر « 1 » . فاستخرج وزال عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك العارض.
إلى أن قال : ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعبا بالحشو الطّغام واستجرارا لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام والقدح فيها ، وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة وأن جميعه من نوع واحد. والعجب ممن يجمع بين
__________________________________________________
(1) المشاطة : بالضم الشعر الذي يسقط حين تسريحه بالمشط ، وراعوفة البئر : الحجر الثابت الذي يقف عليه المستقى من البئر ، أي إنها وضعت المشط والمشاطة فى جف طلعة تحت حجر البئر.(9/27)
ج 9 ، ص : 28
تصديق الأنبياء عليهم السلام وإثبات معجزاتهم وبين التصديق بمثل هذا من فعل السحرة مع قوله تعالى : « وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى » فصدّق هؤلاء من كذبه اللّه وأخبر ببطلان دعواه وانتحاله ، وجائز أن تكون المرأة اليهودية بجهلها فعلت ذلك ظنا منها بأن ذلك يعمل فى الأجساد وقصدت به النبي عليه الصلاة والسلام فأطلع اللّه نبيه على موضع سرها وأظهر جهلها فيما ارتكبت وظنت ليكون ذلك من دلائل نبوته ، لا أن ذلك ضره ، وخلط عليه أمره ، ولم يقل كل الرواة إنه اختلط عليه أمره ، وإنما هذا اللفظ زيد فى الحديث ولا أصل له ا ه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 113 الى 116]
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أنهم طلبوا إليه تأخير الفصل فى أمره حتى يحضر السحرة ليفسدوا عليه أعماله ويبينوا خبىء حيله - ذكر هنا أن السحرة جاءوا وطلبوا المثوبة من فرعون إن هم نفذوا ما طلبه فأجابهم إلى ذلك ففعلوا أفاعيلهم السحرية التي أوقعت الرهب فى قلوب المشاهدين.
الإيضاح
(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) أي وجاء السحرة الذين حشرهم أعوان فرعون وشرطته إليه ، وحين جاءوا قالوا لفرعون : هل لنا من أجر كفاء ما نقوم به من العمل العظيم الذي يتم به الغلب على موسى.(9/28)
ج 9 ، ص : 29
(قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي قال فرعون مجيبا لهم إلى ما طلبوا : نعم إن لكم أجرا عظيما على ما تقومون به من ذلك العمل الجليل ، وأنتم مع ذلك تكونون من المقرّبين منا فتجمعون بين المال والجاه وذلك منتهى ما تطمعون فيه من نعيم الدنيا وسعادتها.
(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) أي قال السحرة لموسى بعد عدة فرعون لهم : إما أن تلقى ما عندك أولا ، وإما أن نلقى ما عندنا وفى هذا التخيير منهم له - دليل على اعتدادهم بسحرهم وثقتهم بأنفسهم وعدم المبالاة بعمله ، ولو لا ذلك لما خيروه. إذ المتأخر فى العمل يكون أبصر بما تقتضيه الحال بعد وقوفه على منتهى جهد خصمه.
(قالَ أَلْقُوا) أي قال موسى عليه السلام وهو واثق بشأنه محتقر لهم غير مبال بهم :
ألقوا ما أنتم ملقون وهو عليه السلام لم يأمرهم بفعل السحر ابتداء وإنما أمر بأن يتقدموه فيما جاءوا لأجله ولا بد لهم منه ، وأراد بذلك التوسل إلى إظهار بطلان السحر لا إثباته وإلى بناء ثبوت الحق على بطلانه ، ولم يكن هناك وسيلة للإبطال إلا ذلك ، وقد صرح به فيما حكاه تعالى عنه : « قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ. وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ » .
(فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) استرهبه أوقع فى قلبه الرّهب والخوف ، أي فلما ألقوا ما ألقوا من حبالهم وعصيّهم سحروا أعين النظارة ومنهم موسى عليه السلام كما جاء فى سورة طه : « فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى » وجاءوا بسحر عظيم فى مظهره كبير فى تأثيره فى أعين الناس.(9/29)
ج 9 ، ص : 30
قال ابن كثير أي خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة فى الخارج ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال.
قال ابن عباس رضي اللّه عنه : إنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فأقبلت يخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى.
قال ابن اسحق : إن السحرة كانوا خمسة عشر ألف ساحر. وإن الحيات التي أظهروها بخيال سحرهم كانت كأمثال الجبال قد ملأت الوادي. وقال السدى : إن السحرة كانوا بضعا وثلاثين ألفا ا ه.
وكل هذا مبالغات إسرائيلية وتهويلات لم يصح شىء منها وليس فى التوراة ما يؤيدها.
وقال الجصاص فى تفسيره : سحروا أعين الناس ، يعنى موّهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى ، كما قال : « يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى » .
فأخبر أن ما ظنوه سعيا منها لم يكن سعيا وإنما كان تخيلا. وقد قيل إنها كانت عصيا مجوّفة قد ملئت زئبقا وكذلك الحبال كانت معمولة من جلد محشوة زئبقا. وقيل حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسرابا ملئوها نارا فلما طرحت عليه وحمى الزئبق حركها لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير ا ه.
فعلى هذا يكون سحرهم لأعين الناس عبارة عن هذه الحيلة الصناعية إذا صح خبرها. ويمكن أن تكون هناك حيلة أخرى كإطلاق أبخرة أثرت فى الأعين فجعلتها تبصر ذلك ، أو أن الحبال والعصى جعلت على صورة الحيات وحركت بمحركات خفية سريعة لا تدركها أبصار الناظرين.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 122]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122)(9/30)
ج 9 ، ص : 31
تفسير المفردات
لقف الشيء وتلقفه : تناوله بحذق وسرعة ، والمأفوك : المصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه ، ومن ثم يقال للرياح التي عدلت عن مهابها مؤتفكة كما قال :
« وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ » وقال : « قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ » أي يصرفون عن الحق فى الاعتقاد إلى الباطل ، وعن الصدق فى المقال إلى الكذب ، وعن الجميل فى الفعل إلى القبيح ، فالإفك يكون بالقول كالكذب وقد يكون بالفعل كعمل سحرة فرعون ، وانقلبوا عادوا ، وصاغرين أي أذلة بما رزئوا به من الخذلان والخيبة ، وألقى السحرة ساجدين : أي خرّوا سجدا لأن الحق بهرهم واضطرهم إلى السجود.
الإيضاح
(وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) أي أوحى اللّه إلى عبده ورسوله موسى عليه السلام فى ذلك الموقف العظيم الذي قرن فيه بين الحق والباطل - أن يلقى ما فى يمينه وهى عصاه فإذا هى تبتلع ما يلقون ويوهمون به أنه حق وهو باطل - قال ابن عباس فجعلت لا تمرّ بشىء من حبالهم ولا خشبهم إلا التقمته ، فعرفت السحرة أن هذا شىء من السماء وليس بسحر فخروا سجدا و« قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ » .
ويرى جماعة من المفسرين أن لقفها لما يأفكون - هو أنها أتت عليه حتى أظهرت بطلانه وبيان حقيقة أمره فى نفسه بسرعة ، فإن كان إفكهم بما أحدثوه من التأثير فى الأعين فلقفها إياه إزالته وإبطاله برؤية الحبال والعصىّ على حقيقتها ، وإن كان تحريكا لها بمحركات خفية سريعة فكذلك وإن كان قد حصل بجعلها مجوفة محشوّة(9/31)
ج 9 ، ص : 32
بالزئبق وتحريكه إياها بفعل الحرارة : (سواء كانت نارا أعدت لها أو الشمس حين أصابتها) فلقفها لذلك يكون بعمل من الحية أخرجت به الزئبق من الحبال والعصى فانكشفت به الحيلة ولو كانت قد ابتلعتها لبقى الأمر ملتبسا على الناس ، إذ قصاراه أن كلا من السحرة وموسى قد أظهر أمرا غريبا ولكن أحد الفريقين كان أقوى من الآخر فأخفاه على وجه غير معلوم ولا مفهوم ، وهذا لا ينافى كونهما من جنس واحد - ولكن زوال غشاوة السحر وتخييله حتى رأى الناس أن الحبال والعصى التي ألقاها السحرة ليست إلا حبالا وعصيا لا تسعى ولا تتحرك ، وأن عصا موسى لم تزل حية تسعى هو الذي ماز الحق من الباطل وعرفت به الآية الإلهية والحيلة الصناعية وقد فعلت ذلك بسرعة ومن ثم عبر عنه باللقف ، ولكن لا يعرف بما كان لها هذا التأثير ؟ لأنها آية إلهية لا أمر صناعى حتى تدرك حقيقته.
(فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فثبت الحق وفسد ما كانوا يعملون من الحيل والتخييل وذهب تأثيره ، إذ تبين لمن شهده وحضره أن موسى رسول من عند اللّه يدعو إلى الحق وأن ما عملوه ما هو إلا إفك السحر وكذبه ومخايله.
(فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) أي فغلب موسى فرعون وجموعه فى ذلك الجمع العظيم الذي كان فى عيد لهم ضربه موسى موعدا لهم كما جاء فى سورة طه :
« قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى » وعادوا من ذلك الحفل صاغرين أذلة بما رزئوا به من خيبة وخذلان.
(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أي وألقى السحرة حينما عاينوا عظيم قدرة اللّه ساقطين على وجوههم سجّدا لربهم ، لأن الحق قد بهرهم واضطرهم إلى السجود ، حتى كأن أحدا دفقهم وألقاهم.
والخلاصة - إن ظهور بطلان سحرهم وإدراكهم فجأة لآية موسى وعلمهم بأنها من عند اللّه لا صنع فيها لمخلوق ملأت عقولهم يقينا وقلوبهم إيمانا فكأنّ اليقين الحاكم(9/32)
ج 9 ، ص : 33
على الأعضاء والجوارح هو الذي ألقاهم على وجوههم سجدا لرب العالمين الذي بيده ملكوت كل شى ء - وزالت من نفوسهم عظمة فرعون الدنيوية الزائلة - بعد أن ظهر لهم صغاره أمام هذه الآية فنطقوا بما حكى اللّه عنهم.
(قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) أي قالوا صدقنا بما جاءنا به موسى ، وأن الذي علينا أن نعبده هو رب الإنس والجن وجميع الأشياء المدبر لها رب موسى وهارون.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 123 الى 126]
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126)
تفسير المفردات
المكر : صرف الإنسان عن مقصده بحيلة ، وهو نوعان : محمود ويراد به الخير.
ومذموم يقصد به الشر ، وتقطيع الأيدى والأرجل من خلاف أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى والعكس بالعكس ، والصلب الشد على خشبة ونحوها ، وشاع فى تعليق الشخص بنحو حبل فى عنقه ليموت وهو المتعارف اليوم - ونقمت الشيء :
إذا أنكرته إما باللسان وإما بالعقوبة كما قال تعالى « وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ » - « وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ » وأفرغ علينا : أي أفض علينا صبرا يغمرنا كما يفرغ الماء من القرب.(9/33)
ج 9 ، ص : 34
المعنى الجملي
فى هذه الآية إخبار بما توعد به فرعون السحرة لما آمنوا بموسى عليه السلام وبما عزم عليه من التنكيل بهم وبما رد به السحرة عليه من استسلامهم لأمر اللّه لا لأمره ودعائهم ربهم بالتوفى على ملة الإسلام.
الإيضاح
(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) آمنتم إما خبر يراد به التوبيخ ، وإما استفهام يراد به الإنكار والتوبيخ : أي آمنتم به واتبعتموه مذعنين لرسالته قبل أن آذن لكم ؟
(إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) أي إن هذا الذي فعلتموه أنتم وهو - ليس إلا مكرا مكرتموه واتفاقا دبّرتموه من قبل بما أظهرتم من المعارضة والرغبة فى الغلب عليه - مع إسرار اتباعه بعد ادعاء ظهور حجته كما جاء فى سورة طه :
« إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ » فأجمعتم كيدكم لنا فى هذه المدينة لأجل أن تخرجو المصريين منها بسحركم ، ويكون لكم فيها مع بنى إسرائيل ما هو لنا الآن من الملك والرياسة والتصرف فى البلاد.
وكل ذى لب وفطنة يعلم أن هذه مقالة لا نصيب لها من الصحة ، ولا ظل لها من الحقيقة ، فإن موسى إثر مجيئه من مدين دعا فرعون إلى اللّه وأظهر المعجزات الباهرة ، فلم يكن من فرعون إلا أن أرسل فى المدائن حاشرين ووعدهم بالعطاء الجزيل ، وموسى لا يعرف منهم أحدا ولا رآه ولا اجتمع به وفرعون يعلم ذلك وإنما قال ذلك تسترا وتدليسا على رعاع دولته وجهلتهم كما قال تعالى « فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ » .
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما أصنع بكم من العذاب جزاء على هذا المكر والخداع.
ثم بين ذلك بقوله :(9/34)
ج 9 ، ص : 35
(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) أي قسما لأنكلنّ بكم أشد التنكيل ، لأقطعن الأيدى والأرجل من خلاف ثم لأصلبنّ كل واحد منكم وهو على تلك الحال لتكونوا عبرة لمن تحدّثه نفسه بالكيد لنا والترفع عن الخضوع لعظمتنا.
والخلاصة - إن اتهامه السحرة بالتواطؤ مع موسى إثما كان تمويها على قومه المصريين ، إذ خاف عاقبة إيمان الشعب بموسى فادّعى أنه لا ينتقم من السحرة إلا حبّا فيهم ودفاعا عنهم وإبقاء لاستقلالهم فى وطنهم كما هو شأن كل رئيس أو ملك فى شعب يخاف أن ينتقض عليه وتجتمع كلمته على اختيار زعيم آخر يقوم بدعوة دينية أو سياسية.
وعند ما سمع السحرة هذا التهديد والوعيد من ذلك الجبار المتكبر أجابوه.
(قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي إنهم لا يأبهون بقتلهم ، لأنهم راجعون إلى ربهم راجون مغفرته ورحمته ، فتعجيل القتل يكون سببا لقرب لقائه والتمتع بجزائه.
وقد يكون المعنى - إنا وإياك سننقلب إلى ربنا وما أنت بمخلّد بعدنا ، فلئن قتلتنا فسيحكم اللّه بعدله بينك وبيننا.
إلى ديّان يوم الدين نمضى وعند اللّه تجتمع الخصوم
وفى هذا إيماء إلى تكذيبه فى دعوى الربوبية وتصريح بإيثار ما عند اللّه على ما عنده من الشهوات الدنيوية الزائلة.
وما جاء فى سورة الشعراء من قولهم : « قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ » يؤيد المعنى الأول.
(وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا) أي وما تعيب منا وما تنكر إلا خير الأعمال وأصل المفاخر وهو الإيمان باللّه ، ومثل هذا لا يمكن العدول عنه مرضاة لك ولا طلبا للزلفى إليك.
وفيه تيئيس له ، وكأنهم قالوا لا مطمع لك فى رجوعنا عن إيماننا ، وإلى أن تهديدك لا يجدى فائدة.(9/35)
ج 9 ، ص : 36
وما ذكره السحرة من نقم فرعون منهم كان بالقول بالاستنكار التوبيخي لإيمانهم والتهمة فيه والوعيد عليه ، وهل نفّذ الوعيد بالانتقام بالفعل ؟ الظاهر نعم بدليل قوله « فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ » يعنى فرعون وملأه.
وقد ختم سبحانه كلام السحرة بدعائهم بقولهم :
«
رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ » أي ربنا هب لنا صبرا واسعا تفرّغه علينا وأيّدنا بروحك حتى لا يبقى فى قلوبنا شىء من خوف غيرك ولا من الرجاء فى سوى فضلك ، وتوفّنا إليك مذعنين لأمرك ونهيك مستسلمين لقضائك غير مفتونين بتهديد فرعون ولا مطيعين له فى قوله ولا فعله. وقد ذكر المؤرخون قديما وحديثا أن المؤمنين باللّه واليوم الآخر من كل ملة ودين يكونون أعظم شجاعة وأكثر صبرا على مشاق الحروب من غيرهم ، ومن ثم يحرص زعماء الشعوب على بث النزعة الدينية بين رجالات الجيوش.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 127 الى 129]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)(9/36)
ج 9 ، ص : 37
المعنى الجملي
يخبر سبحانه عما تمالأ عليه فرعون وملؤه وما أضمروه لموسى وقومه من الأذى والبغض وما كان من تأثير جوابه فى موسى وقومه لقد نصح موسى قومه ودار بينهم حوار قصه اللّه علينا فى تلكم الآيات.
الإيضاح
(وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ؟ ) أي وقال الأشراف من قوم فرعون لفرعون : أ تترك موسى وقومه أحرارا آمنين فتكون عاقبتهم أن يفسدوا عليك قومك بإدخالهم فى دينهم ، أو بجعلهم تحت سلطانهم ورياستهم ويتركك مع آلهتك فلا يعبدوك ولا يعبدوها فيظهر لأهل مصر عجزك وعجزها ولا يغيبنّ عنك إيمان السحرة فقد يكون مقدمة لما بعده.
والتاريخ المصري المستمدّ من العاديات المصرية يدل على أنه كان للمصريين آلهة كثيرة منها الشمس ويسمونها (رع) وفرعون عندهم سليل الشمس وابنها.
(قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي قال فرعون مجيبا للملأ : سنقتّل أبناء قومه تقتيلا كلما تناسلوا ونستبقى نساءهم أحياء كما كنا نفعل قبل ولادته حتى ينقرضوا ويعلموا أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة.
(وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) أي وإنا مستعلون عليهم بالغلبة والسلطان ، قاهرون لهم كما كنا من قبل ، فلا يقدرون على أذانا ولا الإفساد فى أرضنا ولا الخروج من عبوديتنا ، وقد جاء فى سورة المؤمن « وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ، إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ » .
ولما سمع بنو إسرائيل هذا الوعيد خافوا من فرعون فطمأنهم موسى كما حكى اللّه عنه بقوله :(9/37)
ج 9 ، ص : 38
(قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي قال لهم يا قوم : اطلبوا معونة اللّه وتأييده على رفع ذلك الوعيد عنكم ، واصبروا ولا تحزنوا ، فإن الأرض (فلسطين) التي وعدكموها ربكم هى للّه الذي بيده ملكوت كل شىء يورثها من يشاء من عباده لا لفرعون ، فهى على مقتضى سننه دول وأيام ، والعاقبة الحسنى لمن يتقون اللّه ويراعون سننه فى أسباب إرث الأرض باتحاد الكلمة والاعتصام بالحق وإقامة العدل والصبر على الشدائد والاستعانة باللّه لدى المكاره ، ونحو ذلك مما هدت إليه التجارب ودلت عليه الشرائع.
والخلاصة - إن الأمر ليس كما قال فرعون ، بل القهر والغلبة لمن صبر واستعان باللّه ، ولمن وعده اللّه تعالى توريث الأرض ونحن الموعودون بذلك ، ولكن بشرط أن نقيم شرعه ونسير على سننه فى الخلق.
وليس الأمر كما يظن فرعون وقومه من بقاء القوىّ على قوته ، والضعيف على ضعفه اعتمادا على أن الآلهة ضمنت له بقاء ملكه وعظمته وجبروته.
لكن هذه الوصية وتلك النصائح لم تؤثر فى قلوبهم ففزعوا من فرعون وقومه.
و(قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) فقد كان بنو إسرائيل قبل مجىء موسى مستضعفين فى يد فرعون يأخذ منهم إتاوات مختلفة ، ويستعملهم فى الأعمال الشاقة ، ويمنعهم من الترف ، ويقتل أبناءهم ويستحيى نساءهم ، فلما بعث اللّه موسى لم يستطع أن ينقذهم من ظلم فرعون ، إذ كان يؤذيهم ويظلمهم بعد إرساله كما كان يؤذيهم من قبل ذلك أو أشد.
ولما ذكروا ذلك لموسى أجابهم :
(قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أي قال موسى إن رجائى من فضل اللّه أن يهلك عدوكم الذي ظلمكم ويجعلكم خلفاء فى الأرض التي وعدكموها ومنعكم فرعون من الخروج منها ، فينظر سبحانه كيف(9/38)
ج 9 ، ص : 39
تعملون بعد استخلافه إياكم فيها - أ تشكرون النعمة أم تكفرون ؟ وتصلحون فى الأرض أم تفسدون ، ويكون جزاؤكم فى الدنيا والآخرة وفق ما تعملون.
وعبر بالرجاء دون أن يجزم بذلك لئلا يتركوا ما يجب من العمل ويتكلوا على ذلك ، أو لئلا يكذّبوه لأن أنفسهم قد ضعفت بما طال عليها من الذل والاستخذاء لفرعون وقومه واستعظامهم لقومه وملكه.
وقد جاء فى الفصل السادس من سفر الخروج من التوراة : فقال الرب لموسى :
ألا ترى ما أصنع بفرعون ، إنه بيد قديرة سيطلقكم ، وبيد قديرة سيطردكم من أرضه - وأعلمه بأنه أعطى إبراهيم وإسحق عهدا بأن يعطيهم أرض كنعان وأنه سمع أنين بنى إسرائيل الذين استعبدهم المصريون فذكر عهده - ثم قال : لذلك قل لبنى إسرائيل أنا الرب لأخرجنّكم من تحت أثقال المصريين ، وأخلصنّكم من عبوديتهم ، وأفدينّكم بذراع مبسوطة وأحكام عظيمة ، وأتخذنّكم لى شعبا ، وأكونن لكم إلها وتعلمون أننى أنا الرب إلهكم المخرج لكم من تحت أثقال المصريين وسأدخلنكم الأرض التي رفعت بدى مقسما أن أعطيها لإبراهيم وإسحق ويعقوب فأعطيها لكم ميراثا أنا الرب ، فكلم موسى بذلك بنى إسرائيل فلم يسمعوا لموسى لضيق أرواحهم وعبوديتهم الشاقة ؟ ا ه.
وعلينا أن نعرف أن جل ما كتبه المفسرون عن بنى إسرائيل منقول مما سمعوه ممن أسلم منهم وليس كل من أسلم منهم كان حافظا ثقة صادقا فى النقل ، وإما مأخوذ من كتب غير موثوق بها ومن ثم كان أكثر ما كتبوه فى التفسير منها مهوّشا مضطربا حجة لأهل الكتاب علينا.
وإذا كان هذا حال علمائنا فى أخبارهم بعد انتشار العلوم فى البلاد الإسلامية ، فما بالك بأخبارهم لدى أهل مكة عند ظهور الإسلام ولم يكن فى مكة كتاب يقرأ ، ولا أحد يعرف القراءة والكتابة إلا ستة نفر من التجار يعرفونها معرفة ساذجة ، لا تشفى غليلا ، ولا تفيد فى تحقيق حادثة ولا حل مشكلة.(9/39)
ج 9 ، ص : 40
فأنى لمحمد بن عبد اللّه أن يعرف حقائق أخبارهم ومعرفة أحوالهم لو لا الوحى الإلهى والفيض الرباني من لدن عليم خبير.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 130 الى 133]
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133)
تفسير المفردات
كثر استعمال الأخذ فى العذاب كقوله « وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ » وآل فرعون : قومه وخاصته وأعوانه فى أمور الدولة ، وهم الملأ من قومه ولا يستعمل هذا اللفظ إلا فيمن يختص بالإنسان بقرابة قريبة كما قال عز اسمه « وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ » أو بموالاة ومتابعة فى الرأى كما قال « أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ » والسنون ، واحدها سنة : وهى بمعنى الحول ولكن أكثر ما تستعمل فى الحول الذي فيه الجدب كما هنا بدليل نقص الثمرات ، والمراد بالحسنة هنا : الخصب والرخاء ، وبالسيئة : ما يسوءهم من جدب وجائحة أو مصيبة فى الأبدان والأرزاق ، ويطيروا يتشاءموا ، وسر إطلاق التطير على التشاؤم أن العرب كانت تتوقع الخير والشر مما تراه من حركة الطير فإذا طارت من جهة اليمين تيمنت بها ورجت الخير والبركة ، وإذا طارت من جهة الشمال تشاءمت وتوقعت الشر ، ويسمى(9/40)
ج 9 ، ص : 41
الطائر الأول السانح ، والثاني البارح ، وسموا الشؤم طيرا وطائرا والتشاؤم تطيرا.
الطوفان لغة : ما طاف بالشيء وغشيه ، وغلب فى طوفان الماء سواء كان من السماء أو الأرض ، والقمل (بضم القاف وتشديد الميم المفتوحة) هو السوس الذي يخرج من الحنطة ، وقيل هو صغار الجراد ، وقال الراغب : هو صغار الذباب ، والدم : هو الرعاف وقيل هو دم كان يحدث فى مياه المصريين.
المعنى الجملي
بعد أن حكى سبحانه وعد موسى لقومه بقوله - عسى ربكم أن يهلك عدوكم - ذكر هنا مبادئ الهلاك الموعود به بما أنزله على فرعون وقومه من المحق حالا بعد حال ، إلى أن حل بهم عذاب الاستئصال ، تنبيها للسامعين وزجرا لهم عن الكفر وتكذيب الرسل ، حذر أن ينزل بهم من الشر مثل ما نزل بهؤلاء.
الإيضاح
(وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي إنه تعالى أخذ آل فرعون بالجدب وضيق المعيشة لعلهم يتذكرون ضعفهم أمام قوة اللّه وعجز ملكهم العالي الجبار وعجز آلهتهم ، ليرجعوا عن ظلمهم لبنى إسرائيل ويجيبوا دعوة موسى عليه السلام ، إذ قد دلت التجارب على أن الشدائد ترقّق القلوب وتهذب الطباع ، وتوجه النفوس إلى مناجاة الرب سبحانه والعمل على مرضاته والتضرع له دون غيره من المعبودات متى اتخذوها وسائل إليه وشفعاء عنده.
فإن لم تجد المصايب فى تذكر المولى وبلغ الأمر بالناس أن يشركوا به حتى فى أوقات الشدائد فهم فى خسران مبين وضلال بعيد ، وكذلك كان دأب آل فرعون بعد أن أنذرهم موسى عليه السلام.
ثم بيّن أن المصايب لم تفدهم ذكرى ، بل زادتهم عتوا فقال :(9/41)
ج 9 ، ص : 42
(فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) أي فإذا جاءهم خصب وثمار ومواش وسعة فى الرزق والعافية قالوا لنا هذه أي نحن المستحقون لها بما لنا من التفوق على الناس فبلادنا بلاد خصب ورخاء ، وقد غاب عنهم أن يعلموا أن هذا من اللّه فعليهم أن يشكروه عليه ويقوموا بحق النعمة فيه - وإن أصابهم قحط وجدب ومرض وبلاء تشاءموا بموسى ، وقالوا إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه وغفلوا عن سيئات أنفسهم وظلمهم لقوم موسى توهما منهم أن ذلك حق من حقوقهم.
ومثل هذه المعاملة هى التي يحب أن يعامل بها الأجنبى فى الوطن والدين كما هى الحال الآن فى معاملة أهل المغرب للبلاد الشرقية المستعمرة لهم.
(أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي إن كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء اللّه وتقديره وهو الذي وضع لنظام الكون سننا تكون فيه المسببات وفق أسبابها ، وبمقتضى هذه السنن والأقدار ينزل عليهم البلاء ويكون امتحانا واختبارا لهم ليتوبوا ويرجعوا عن ظلمهم وبغيهم على بنى إسرائيل وعن طغيانهم وإسرافهم فى جميع أمورهم ، ولكن أكثرهم لا يعلمون حكمة تصرف الخالق فى هذا الكون ولا أسباب الخير والشر ، ولا أن كل شىء فيه جاء بمشيئته وتدبيره.
وبعد أن ذكر أن هذه الحسنات والسيئات لم تردعهم عما هم فيه من الطغيان - ذكر أنه أصابهم بضروب أخرى من العذاب وهى فى أنفسها آيات بينات - وهم مع ذلك لم يرعوا عن كفرهم وعنادهم.
(وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أي إنك إن جئتنا بكل نوع من أنواع الآيات التي يستدل بها على أنك محق فى دعوتك ، لأجل أن تسحرنا بها وتصرفنا بها بدقة ولطف عما نحن فيه من ديننا ومن تسخيرنا لقومك فى خدمتنا ، فما نحن بمصدقين لك ولا بمتبعين رسالتك.(9/42)
ج 9 ، ص : 43
(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي فأرسلنا عليهم عقوبة على جرائمهم تلك المصايب والنكبات ، وهى آيات بينات على صدق رسالة موسى ، إذ قد توعّدهم بوقوع كل واحدة منها على وجه التفصيل ، لتكون دلالتها على صدقه واضحة لا تحتمل تأويلا بأنها وقعت لأسباب لا ارتباط لها برسالته ، فاستكبروا عن الإيمان بها لرسوخهم فى الإجرام والإصرار على الذنوب وإن كانوا يعتقدون صدق دعوته وصحة رسالته.
وقد عدد سبحانه هنا من الآيات خمسا وفى سورة الإسراء تسعا وهى :
(1) الطوفان فقد نزلت عليهم أمطار أغرقت أرضهم وأتلفت زرعهم وثمارهم ، وجاء وصفها فى التوراة ففى الفصل التاسع فى سفر الخروج (ثم قال الرب لموسى :
بكّر فى الغداة وقف بين يدى فرعون وقل له : كذا قال الرب إله العبرانيين : أطلق شعبى ليعبدونى ، فإنى فى هذه المرة منزّل جميع ضرباتى على قلبك وعلى عبيدك وشعبك ، لكى تعلم أنه ليس مثلى فى جميع الأرض ، وأنا الآن أمد يدى وأضربك أنت وشعبك بالوباء فتضمحل من الأرض ، غير أنى لهذا أبقيك لكى أريك فوتى ولكى يخبر باسمي فى جميع الأرض ، وأنت لم تزل مقاوما لشعبى ، ها أنا ممطر فى مثل هذا الوقت من غد بردا عظيما جدا لم يكن مثله فى مصر منذ يوم أسست إلى الآن.
ثم ذكر فيها وقوع البرد مع نزول نار من السماء ، ووصف عظمته وشموله لجميع بلاد مصر وأن فرعون طلب موسى وهارون واعترف لهما بخطئه وطلب مهما أن يشفعا إلى الرب ليكفّ هذه النكبة عن مصر ووعدهما بإطلاق بنى إسرائيل وجاء فى ختام هذا الفصل.
فخرج موسى من المدينة من لدن فرعون وبسط يديه إلى الرب فكفّت الوعود ولم يعد المطر يهطل على الأرض.
(2) الجراد وقد ذكر فى التوراة بعد الطوفان ، فقد جاء فيها (إن فرعون فسا قلبه فلم يطلق بنى إسرائيل فأخبر الرب موسى فأمره بأن ينذره بإرسال الجراد عليهم(9/43)
ج 9 ، ص : 44
فيأكل كل ما سلم من النبات والشجر ويملأ بيوته وبيوت عبيده وسائر بيوت المصريين ففعل - فرضى فرعون أن يذهب الرجال من بنى إسرائيل ليعبدوا ربهم دون النساء والأولاد والمواشي ، فرد موسى عصاه بأمر الرب على أرض مصر فأرسل الرب ريحا شرقية ساقت الجراد على أرض مصر فغطى جميع وجه الأرض حتى أظلمت الأرض وأكل عشبها وجميع ما تركه البرد من ثمر الشجر حتى لم يبق شىء من الخضرة فى الشجر ولا فى عشب الصحراء فى جميع أرض مصر وجاء فيها : إن فرعون استدعى موسى وهارون واعترف لهما بخطئه وطلب منهما الصفح والشفاعة إلى الرب إلهما أن يرفع عنه هذه التّهلكة ففعلا فأرسل اللّه ريحا غربية فحملت الجراد كله فألقته فى بحر القلزم.
(3) القمّل : وهو صغار الذباب - وقد جاء فى التوراة - إن البعوض والذباب كان من الضربات العشر التي ضرب الرب بها فرعون وقومه ليرسلوا بنى إسرائيل مع موسى ففى الفصل الثامن من سفر الخروج : إن موسى أنذر فرعون أن الذباب سيدخل بيوته وبيوت عبيده وسائر قومه فيفسدها ولا يدخل بيوت بنى إسرائيل المقيمين فى أرض جاسان وأن ذلك وقع وفسدت الأرض من تأثير الذباب.
(4) الضفادع : وفى سفر الخروج - وقال الرب لموسى : ادخل على فرعون وقل له كذا قال الرب - أطلق شعبى ليعبدونى وإن أبيت أن تطلقهم فهأنذا ضارب جميع تخومك بالضفادع فيفيض النهر ضفادع فتصعد وتنتشر فى بيتك وفى مخدع فراشك وعلى سريرك وفى بيوت عبيدك وشعبك وفى تنانيرك ومعاجنك إلخ. وكذلك كان - وفيها : إن فرعون طلب من موسى أن يشفع له عند ربه برفع الضفادع فأجابه إلى ذلك قال : ففعل الرب كما قال موسى وماتت الضفادع من البيوت والأقبية والحقول فجمعوها أكواما وأنتنت الأرض منها.
(5) الدم : فقد كانت مياه المصريين تتحول إلى دم ، وقد جاء فى الفصل السابع من سفر الخروج : « إن الرب أمر موسى أن ينذر فرعون ذلك ففعل ، ثم قال الرب(9/44)
ج 9 ، ص : 45
لموسى قل لهرون : خذ عصاك ومد يدك على مياه المصريين وأنهارهم وخلجهم ومنافعهم وسائر مجامع مياههم فتصير دما ، ويكون دم فى جميع أرض مصر وفى الخشب وفى الحجارة » وفيها أن موسى وهارون فعلا ذلك وأن سمك النهر مات وأنتن النهر فلم يستطع المصريون أن يشربوا منه.
هذه هى الآيات الخمس التي أيد اللّه بها رسوله موسى عليه السلام وليس فيها ما ينفى ما فى التوراة ولا ما يؤيدها ، وعلينا أن نقف عند ما أثبته القرآن فحسب دون زيادة عليه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 134 الى 136]
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136)
تفسير المفردات
الرجز : العذاب الذي يضطرب له الناس فى شئونهم ومعايشهم ، وذلك شامل لكل نقمة وجائحة أنزلها اللّه على قوم فرعون كالخمس التي ذكرت قبل ، والعهد :
النبوة والرسالة ، والنكث لغة : نقض ما غزل أو ما فتل من الحبال ثم استعمل فى الحنث فى العهود والمواثيق ، واليمّ : البحر فى اللغة المصرية الموافقة للغة العربية فى كثير من مفرداتها مما يدل على أن أصل الأمتين واحد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه الآيات الخمس التي سبق ذكرها بيّن هنا ما كان من أثرها فى نفوس المصريين جميعا وطلبهم من موسى أن يرفع اللّه عنهم العذاب ، فإذا هو فعل(9/45)
ج 9 ، ص : 46
آمنوا به ، ثم تبين نكثهم وخلفهم للوعد كل مرة حدث فيها الطلب حتى حل بهم عذاب الاستئصال بالغرق فى البحر.
الإيضاح
(وَ لَمَّا وَقَعَعَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ)
أي ولما وقع ذلك العذاب الذي ذكره فى الآية السالفة اضطربوا وفزعوا أشد الفزع وقالوا حين نزول كل نوع بهم :
يا موسى ادع لنا ربك وتوسّل إليه بعهده عندك ورسالته لك أن يكشف عنا هذا الرجز ، ونحن نقسم لك لئن كشفته عنا لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بنى إسرائيل. وفى التوراة :
إن فرعون كان يقول لموسى حين نزول كل آية منها : ادع لنا ربك واشفع لنا عنده أن يرفع عنا هذه ، ويعده بأن يرسل معه بنى إسرائيل ليعبدوا ربهم ويذبحوا له ثم ينكث.
(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أي فلما كشفنا عنهم العذاب مرة بعد أخرى إلى أجل هم بالغوه ومنتهون إليه وهو الغرق الذي هلكوا فيه - إذا هم ينكثون عهدهم ويحنثون فى قسمهم فى كل مرة.
والخلاصة - إنه كشف العذاب عنهم إلى حين من الزمان هم واصلون إليه ولا بد فمعذبون فيه أو مهلكون وهو وقت الغرق كما روى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما.
(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) أي فانتقمنا منهم عند بلوغ الأجل المضروب لهم بأن أغرقناهم فى البحر ، وذلك بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم تفكرهم فيها حتى صاروا كالغافلين عنها.
والخلاصة - إنهم كانوا يظهرون الإيمان عند كل آية من آيات العذاب ثم يكذبون ، حتى إذا انقضى الأجل المضروب لهم انتقمنا منهم بسبب أنهم كذبوا بها(9/46)
ج 9 ، ص : 47
كلها وكانوا غافلين عما يعقبها من العذاب فى الدنيا والآخرة ، إذ كانت فى نظر الكثير منهم من قبيل السحر والصناعة ، ومن ثم كانوا يكابرون أنفسهم فى كل آية منها ويحاولون أن يأتى سحرتهم وعلماؤهم بمثلها.
ومنهم من اهتدى إلى الحق وظهر له صدقه فآمن به جهرة ككبار السحرة ، ومنهم من كتم إيمانه كالذى عارض فرعون وملأه بالحجة والبرهان فى قتل موسى كما جاء فى سورة غافر ، ومنهم من جحد بها كبرا وعلوا فى الأرض كفرعون وأكابر وزرائه ورؤسائه.
[سورة الأعراف (7) : آية 137]
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)
تفسير المفردات
مشارق الأرض ومغاربها : يراد بها جميع نواحيها والمراد بها أرض الشام ، وتمام الشيء : وصوله إلى آخر حده ، وكلمة اللّه : هى وعده لبنى إسرائيل بإهلاك عدوهم واستخلافهم فى الأرض : « عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ » والتدمير : إدخال الهلاك على السالم ، والخراب على العامر ، والعرش : رفع لنبانى والسقائف للنبات والشجر المتسلّق كعرائش العنب : ومنه عرش الملك.
المعنى الجملي
بعد أن بيّن سبحانه ما حل بالمصريين من الغرق عقوبة لهم على تكذيبهم بموسى بعد وجود الآية تلو الآية الدالة على صدقه - ذكر هنا ما فعله ببني إسرائيل من الخيرات(9/47)
ج 9 ، ص : 48
إذ أصبحوا أعزة بعد أن كانوا أذلة ، وملكوا الأرض المقدسة التي بارك اللّه فيها ، وهى بلاد الشام.
الإيضاح
(وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) أي وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون فى مصر بقتل الأبناء واستحياء النساء وأخذ الجزية واستعمالهم فى الأعمال الشاقة ، الأرض التي باركنا فيها بالخصب والخير الكثير ، مشارقها من حدود الشام ، ومغاربها من حدود مصر تحقيقا لما وعدنا به : « وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ » .
وعن كعب الأحبار أنه قال : إن اللّه بارك فى الشام من الفرات إلى العريش ، ويؤيد ذلك قوله فى إبراهيم عليه السلام : « وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ » وقوله : « وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها » .
(وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) أي ونفذت كلمة اللّه ومضت على بنى إسرائيل تامة كاملة بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه وقد كان وعد اللّه تعالى إياهم مقرونا بأمرهم بالصبر والاستقامة كما أمرهم نبيهم عليه السلام مبلّغا عن ربه « قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا » ومن قابل البلاء بالجزع وكله اللّه إليه ، ومن قابله بالصبر ضمن اللّه له الفرج ، وقد تم وعد اللّه تعالى لهم بذلك ، ثم سلبهم تلك الأرض بظلمهم لأنفسهم وللناس ولم يكن من مقتضى الوعد أن يعودوا إليها مرة أخرى.(9/48)
ج 9 ، ص : 49
(وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) أي وخرّبنا ما كان يصنع فرعون وقومه من المبانى والقصور التي كانوا يبنونها للمصريين ، والمكايد السحرية والصناعية التي كان يصنعها السحرة لإبطال آياته والتشكيك فيها كما قال تعالى « إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ » وما كانوا يعرشون من الجنات والبساتين.
وأسباب هذا التدمير لتلك المصانع والعروش أمور :
(1) الآيات التي أيد اللّه تعالى بها موسى من الطوفان والجراد وغيرها ، وسمتها التوراة : الضربات العشر.
(2) إنجاء بنى إسرائيل وحرمان فرعون وقومه من استعبادهم فى أعمالهم.
(3) هلاك من غرق من قوم فرعون وحرمان البلاد وسائر الأمة من ثمرات أعمالهم فى العمران ، وقد أنذرهم موسى عاقبة ذلك فكذبوا بالآيات وأصرّوا على الجمود والعناد فظلموا أنفسهم وما ظلمهم اللّه.
ووجه العبرة فى هذه الآيات ما كان للايمان فى قلب موسى وهارون من التأثير ، إذ تصديا لأكبر ملك فى أكبر دولة فى الأرض استعبدت قومه فى خدمتها عدة قرون ، وما زال يكافحانه بالحجج والآيات حتى أظفرهما اللّه تعالى به وأنقذا قومهما من ظلمه ، ولهذا يجدر ألا تستعظم قوة الدول الظالمة أمام قوة الحق كما قال : « إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ » وقال : َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ »
.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 141]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)(9/49)
ج 9 ، ص : 50
تفسير المفردات
جاز الشيء وجاوزه وتجاوزه : عدّاه وانتقل عنه ، والعكوف على الشيء : الإقبال عليه وملازمته تعظيما له ، والأصنام واحدها صنم : وهو ما يصنع من الخشب والحجر أو المعدن مثالا لشىء حقيقى أو خيالى ليعظّم تعظيم العبادة وقد اتخذ بعض العرب فى الجاهلية أصناما من عجوة التمر فعبدوها ثم جاعوا فأكلوها ، والتمثال لا بد أن يكون مثالا لشىء حقيقى ، وقد يكون للعبادة فيسمى صنما ، وقد يكون للزينة الذي يكون على جدران بعض القصور أو أبوابها أو فى حدائقها ، وقد يكون للتعظيم غير الديني كالتماثيل التي تنصب لبعض الملوك وكبار العلماء والقواد للتذكير بتاريخهم وأعمالهم للاقتداء بهم.
والتعظيم الديني يكون الغرض منه التقرب من المعبود وطلب ثوابه بدفع ضرر أو جلب منفعة من طريق الغيب باعتقاد أن له سلطة غيبية أو تعظيم ما يذكر به من صورة أو تمثال أو قبر أو غير ذلك من آثاره لأجل التقرب إليه وقصد الانتفاع به فى الأمور التي لا تنال بالأسباب العامة ، وكل ذلك عبادة له وللّه بالاشتراك ، وهذا مظهر من مظاهر الشرك الجلى التي تعتبر كفرا مهما اختلفت تسميتها ، والتبار والتّبر :
الهلاك ، والتتبير : الإهلاك والتدمير ، فيقال تبّره : أهلكه ودمره ، وباطل : أي هلك وزائل لا بقاء له ، وبغى الشيء وابتغاه : طلبه.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أنواع نعمه على بنى إسرائيل بأن أهلك عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم أتبع ذلك بالنعمة الكبرى عليهم وهى أنه جاوز بهم البحر آمنين ،(9/50)
ج 9 ، ص : 51
ثم ارتدوا وطلبوا من موسى أن يعمل لهم آلهة وأصناما. وفى هذا تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عما رآه من اليهود بالمدينة فإنهم جروا معه على دأب أسلافهم مع أخيه موسى صلوات اللّه عليه ، وإيقاظ المؤمنين ألا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة نعم اللّه تعالى عليهم ، فإن بنى إسرائيل وقعوا فيما وقعوا فيه من جزاء غفلتهم عما من اللّه تعالى به عليهم من النعم.
الإيضاح
(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) أي إنهم تجاوزوه بعناية اللّه وتأييده ، فكأنه معهم بذاته فجاوزه مصاحبا لهم ، فأتوا عقب تجاوزهم إياه ودخولهم فى بلاد العرب من البحر الأسيوى على قوم يعبدون أصناما لهم : فقالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة حنينا منهم إلى ما ألفوا فى مصر من عبادة المصريين وتماثيلها وأنصابها وقبورها.
وسر هذا الطلب أنهم لم يكونوا قد فهموا التوحيد الذي جاء به موسى كما فهمه من آمن من سحرة المصريين ، إذ أن السحرة كانوا من العلماء فأمكنهم التمييز بين آيات اللّه التي لا يقدر عليها غيره والسحر الذي هو من صناعات البشر وعلومهم.
ولم يذكر القرآن شيئا يعيّن شأن هؤلاء القوم الذين أتى عليهم بنو إسرائيل.
والراجح أنهم من العرب الذين كانوا يقيمون بقرب حدود مصر روى عن قتادة أنهم من عرب لخم ، وعن ابن جريج أن أصنامهم كانت تماثيل بقر من نحاس.
وقد جاء آخر الفصل الثالث عشر من سفر الخروج (وكان الرب يسير أمامهم نهارا فى عمود من غمام ليهديهم الطريق ، وليلا فى عمود من نار ليضىء لهم ليسيروا نهارا وليلا ، ولم يبرح عمود الغمام نهارا وعمود النار ليلا من أمام الشعب).
ثم جاء فى الفصل الرابع عشر منه بعد ذكر إتباع فرعون ومن معه لبنى إسرائيل (فانتقل ملاك اللّه السائر أمام عسكر بنى إسرائيل فصار وراءهم وانتقل عمود الغمام من(9/51)
ج 9 ، ص : 52
أمامهم فوقف وراءهم ؟ ودخل بين عسكر المصريين ، وعسكر بنى إسرائيل ، فكان من هنا غماما مظلما ، وكان من هناك ينير الليل ، فلم يقترب أحد الفريقين من الآخر طول الليل.
ولا شك أن هذا الطلب دليل على الضعف البشرى فى كل زمان ومكان ، فلا عجب أن روى عن بعض حديثى العهد من الصحابة بالإسلام مثل ما طلب بنو إسرائيل من موسى عليه السلام لما كان للوثنية فى قلوبهم من التأثير.
روى أحمد والنسائي عن أبي واقد الليثي قال « خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت يا رسول اللّه اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط فقال (الله أكبر) هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) إنكم تركبون سنن من قبلكم » .
وللمسلمين عبرة فى هذا فإن لهم الآن ذوات أنواط فى بلاد كثيرة كشجرة الحنفي بمصر ، وقد اجتثت أخيرا وشجرة (ست المنضورة) ونحو ذلك مما اتخذوه من القبور والأشجار والأحجار التي يعكفون عليها ويطوفون حولها ويقبّلونها ويتمرغون بأعتابها ويتمسحون بها خاشعين ضارعين راجين شفاء الأدواء والانتقام من الأعداء وحبل العقيم ورد الضالة وغير ذلك من النفع ، وكشف الضر ، وهذا مخالف لنصوص كتاب اللّه وسنة رسوله ، إذ هذا عبادة وإن كانوا لا يسمونها بذلك ، فلا فرق بينه وبين شرك الجاهلية (إلا بالتسمية) إذ حقيقة العبادة كل قول أو عمل يوجه إلى معظّم يرجى نفعه أو يخشى ضره وحده.
وقد أجابهم موسى عن طلبهم بقوله :
(إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أي إنكم تجهلون مقام التوحيد ، وما يجب من تخصيص اللّه بالعبادة بلا واسطة ولا مظهر من المظاهر كالأصنام والتماثيل والعجل أبيس والثعابين - فاللّه قد كرم البشر وجعلهم أهلا لمعرفته ودعائه ومناجاته بلا واسطة تقربه إليهم فإنه أقرب إليهم من حبل الوريد.(9/52)
ج 9 ، ص : 53
وبعد أن بيّن لهم جهلهم وسفههم ، بيّن لهم فساد ما طلبوه عسى أن تستعد عقولهم لفهمه واستبانة قبحه فقال :
(إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إن هؤلاء القوم الذين يعكفون على هذه الأصنام مقضىّ على ما هم فيه بالتبار بما سيظهر من التوحيد الحق فى هذه الديار ، وزائل ما كانوا يعملون من عبادة غير اللّه ذى الجلال ، فإنما بقاء الباطل فى ترك الحق له وبعده عنه.
وفى هذا بشارة منه عليه السلام بزوال الوثنية من تلك الأرض ، وقد حقق اللّه ما قال :
(قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي قال لهم موسى : أ أطلب لكم معبودا غير اللّه رب العالمين وخالق السموات والأرض ، وقد فضلكم على العالمين بما جدد فيكم من التوحيد وهداية الدين ، فماذا تبغون من عبادة غيره معه أو من دونه ؟ .
والخلاصة - إن موسى بدأ جوابه لقومه بإثبات جهلهم بربهم وبأنفسهم ، وثنى ببيان فساد ما طلبوه وكونه عرضة للتبار والزوال لأنه باطل فى نفسه ، ثم انتقل إلى بيان أن العبادة لغير اللّه لا تصح البتة سواء أ كان المعبود أفضل المخلوقات كالملائكة والنبيين أو أخسها كالأصنام ثم أنكر عليهم أن يكون هو الوساطة فى هذا الجعل الذي دعا إليه الجهل ، ليعلمهم أن طلب هذا الأمر المنكر منه عليه السلام جهل بمعنى رسالته ، وأيد إنكاره لكلا الأمرين بما يعرفون من فضل اللّه عليهم بتفضيلهم على أهل زمانهم ممن كانوا أرقى منهم مدنية وحضارة وسعة ملك وسيادة على بعض الشعوب ، وهم فرعون وقومه - برسالة موسى وهرون منهم وتجديد ملة إبراهيم فيهم وإيتائهما من الآيات ما تقدم ذكره.
ثم ذكر سبحانه منته على بنى إسرائيل فقال :
(وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي واذكروا إذ أنجيناكم بإرسال موسى وبما(9/53)
ج 9 ، ص : 54
أيدناه به من الآيات - من آل فرعون الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب بجعلكم عبيدا مسخرين لخدمتهم ، ويقتلون ما يولد لكم من الذكور ويستبقون نساءكم لتزدادوا ضعفا بكثرتهن ، وفى ذلكم العذاب والإنجاء منه بفضل اللّه عليكم وتفضيله إياكم على غيركم من سكان مصر ، وسكان الأرض المقدسة التي سترثونها - بلاء عظيم أي اختبار لكم من ربكم المدبّر لأموركم ليس هناك اختبار أعظم منه ، فلا أجدر بالاعتبار والاستفادة من أحداث الزمان ممن يعطى النعمة بعد النقمة ، وأحق الناس بمعرفة اللّه وإخلاص العبادة له من يرى فى نفسه وفى الآفاق ما يوقن به أنه لا يمكن أن يكون فيه شركة لغير اللّه وإن أعجب العجب أن تطلبوا بعد هذا كله ممن رأيتم على يديه هذه الآيات أن يجعل لكم آلهة من أخس المخلوقات - تجعلونها واسطة بينكم وبين اللّه ، وهو قد فضلكم عليها وعلى من يعبدونها ومن هم أرقى منهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 142 الى 145]
(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145)(9/54)
ج 9 ، ص : 55
تفسير المفردات
الميقات : الوقت الذي يقرر فيه عمل من الأعمال كمواقيت الحج ، اخلفني : أي كن خليفتى ، وجلا الشيء والأمر وانجلى وتجلى وجلّاه فتجلى : إذا انكشف ووضح بعد خفاء فى نفسه أو على مجتليه وطالبه ، والدكّ : الدق ، والخرّ والخرور : السقوط من علو ، والانكباب على الأرض كما قال « يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً » وصعقا أي صاعقا صائحا مغشيا عليه ، وأفاق : أي رجع إليه عقله وفهمه بعد ذهابهما بالغشيان. والاصطفاء :
اختيار صفوة الشيء أي خالصه الذي لا شائبة فيه ، بقوة أي بجد وعزيمة وحزم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه ما أنعم به على بنى إسرائيل من النجاة من العبودية ومن جعلهم أمة حرة مستقلة قادرة على القيام بما يشرعه اللّه لها من العبادات والأحكام - ذكر هنا بدء وحي الشريعة لموسى عليه السلام ممتنّا عليهم بما حصل لهم من الهداية بتكليم موسى وإعطائه التوراة ، وفيها تفاصيل شرعهم وبيان ما يقرّبهم من ربهم من الأحكام
وقد روى أن موسى عليه السلام وعد بنى إسرائيل وهو بمصر ، إن أهلك اللّه عدوهم أتاهم بكتاب من عند اللّه فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب ، فبينت هذه الآيات كيفية نزول هذا الكتاب وهو التوراة.
الإيضاح
(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) أي ضرب اللّه تعالى موعدا لموسى لمكالمته وإعطائه الألواح المشتملة على أصول الشريعة ثلاثين ليلة ، قيل هى شهر ذى القعدة وأتم الثلاثين ليلة بعشر ليال فتم الموعد بذلك(9/55)
ج 9 ، ص : 56
أربعين ليلة صعد جبل سيناء فى أوله وهبط فى آخره ، وروى عن أبي العالية أنه قال فى بيان زمان الموعد : يعنى ذا القعدة وعشرا من ذى الحجة فمكث على الطور ليلة وأنزل عليه التوراة فى الألواح فقرّبه الرب نجيّا ، وكلمه وسمع صريف القلم.
وجاء فى التوراة من سفر الخروج (وقال الرب لموسى : اصعد إلىّ إلى الجبل وكن هناك فأعطيك لوحى الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم ، فقام موسى ويشوع خادمه ، وصعد موسى إلى جبل اللّه تعالى. وأما الشيوخ فقال لهم اجلسوا هاهنا ، وهوذا هارون وحور معكم ، فمن كان صاحب دعوى فليتقدم إليهما ، فصعد موسى إلى الجبل فغطى السحاب الجبل ، وحل مجد الرب على جبل سيناء وغطاه السحاب ستة أيام وفى اليوم السابع دعى موسى من وسط السحاب وكان ينظر مجد الرب كنار آكلة على رأس الجبل أمام عيون بنى إسرائيل ، ودخل موسى فى وسط السحاب وصعد إلى الجبل ، وكان موسى فى الجبل أربعين نهارا وأربعين ليلة).
وفى الفصل الرابع والثلاثين ما نصه (وقال الرب لموسى : اكتب لنفسك هذه الكلمات ، قطعت عهدا معك ومع بنى إسرائيل وكان هناك عند الرب أربعين نهارا وأربعين ليلة لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء فكتب على اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر).
(وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) أي وقال موسى حين أراد الذهاب لميقات ربه لأخيه هرون وكان الأكبر منه سنا :
كن خليفتى فى قومى وراقبهم فيما يأتون وما يذرون ، وكانت الرياسة فيهم لموسى وكان هرون وزيره ونصيره بسؤاله لربه « وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي » وأصلح ما يحتاج إلى الإصلاح من أمور دينهم ، ولا تتبع سبيل من سلك الإفساد فى الأرض ، واتباع سبيل المفسدين يشمل مشاركتهم فى أعمالهم ومساعدتهم عليها ومعاشرتهم والإقامة معهم حال اقتراف الإفساد.(9/56)
ج 9 ، ص : 57
(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) أي ولما جاء موسى للميقات الذي وقّت له للكلام وإعطاء الشريعة وكلمه ربه من وراء حجاب بغير واسطة ملك استشرفت نفسه للجمع بين فضيلتى الكلام والرؤية فقال : رب أرنى ذاتك المقدسة واجعل لى من القوة على حمل تجليك ما أقدر به على النظر إليك وكمال المعرفة بك.
(قالَ لَنْ تَرانِي) أي قال له : إنك لا ترانى الآن ولا فيما يستقبل من الزمان ، إذ ليس لبشر أن يطيق النظر إلىّ فى الدنيا.
ثم أتى بما هو كالعلة لذلك (ليخفف عن موسى شدة وطأة الرد بإعلامه ما لم يكن يعلم من سننه) وهو أن شيئا فى الكون لا يقوى على رؤيته كما
جاء فى حديث أبى موسى الذي رواه مسلم وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم « حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه (أنواره) ما انتهى إليه بصره من خلقه »
فقال :
(وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) أي فإن ثبت لدى التجلي وبقي مستقرا فى مكانه فسوف ترانى إذ هو مشارك لك فى مادة هذا العالم الفاني ، وإذا كان الجبل فى قوته وثباته لا يستطيع أن يثبت ويستقر لأن مادته غير مستعدة لقوة تجلى خالقه وخالق كل شى ء - فاعلم أنك لن ترانى أيضا وأنت مشارك له فى كونك مخلوقا من هذه المادة وخاضعا للسنن الربانية فى ضعف استعدادها وقبولها للفناء.
وروى عن ابن عباس أنه قال : حين قال موسى لربه تبارك وتعالى : « أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ » قال له يا موسى إنك « لَنْ تَرانِي » يقول : ليس ترانى ، لا يكون ذلك أبدا ، يا موسى إنه لن يرانى أحد فيحيا ، قال موسى : رب أن أراك ثم أموت أحبّ إلىّ من ألا أراك ثم أحيا ، فقال اللّه يا موسى انظر إلى الجبل الطويل العظيم الشديد « فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ » يقول فإن ثبت مكانه لم يتضعضع ولم ينهدّ لبعض ما يرى من عظمى « فَسَوْفَ تَرانِي » أنت لضعفك وذلتك ، وإن الجبل تضعضع وانهدّ بقوته وشدته وعظمته فأنت أضعف وأذل.(9/57)
ج 9 ، ص : 58
(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أي فلما تجلى ربه للجبل أقل التجلي وأدناه انهد وهبط وصار كالأرض المدكوكة أو الناقة الدكاء ، وسقط موسى على وجهه مغشيا عليه كمن أخذته الصاعقة ، والتجلي إنما كان للجبل دونه فما بالك لو كان له.
روى أنه ساخ : أي غاص فى الأرض : أي أنه رجّ بالتجلى رجا ، بست به حجارته بسا ، وساخ فى الأرض كله أو بعضه فى أثناء ذلك حين صار ربوة دكاء وكان كالرمل المتلبد.
(فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أي فلما أفاق من غشيه قال سبحانك : أي تنزيها لك وتقديسا عما لا ينبغى فى شأنك مما سألت.
وأكثر المفسرين يجعلون وجه التنزيه والتوبة أنه سأل الرؤية بغير إذن من اللّه تعالى فتاب ورجع عما طلب.
قال مجاهد : « تُبْتُ إِلَيْكَ » أن أسألك الرؤية : « وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ » أي من بنى إسرائيل ، وفى رواية عن ابن عباس : وأنا أول المؤمنين أنه لا يراك أحد.
والخلاصة - إن موسى لما نال فضيلة التكليم بلا واسطة فسمع من عالم الغيب ما لم يسمع من قبل تاقت نفسه أن يمنحه الرب شرف رؤيته فطلب ذلك منه وهو يعلم أنه ليس كمثله شىء لا فى ذاته ولا فى صفاته التي منها كلامه ، ولكن اللّه تبارك وتعالى قال له : « لَنْ تَرانِي » ولكى يخفف عليه ألم الرد أراه بعينه من تجليه للجبل ما فهم منه أن المانع من جهته لا من جانب الفيض الإلهى ، حينئذ نزه اللّه وسبحه وتاب إليه من هذا الطلب ، فبشره بأنه اصطفاه على الناس برسالته وبكلامه وأمره أن يأخذ ما أعطاه ويكون من الشاكرين له كما قال : (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) أي اصطفيتك بتكليمى لك بلا توسط ملك وإن كان من وراء حجاب ، وقد طلب موسى رفع هذا الحجاب لتحصل له الرؤيا مع الكلام.(9/58)
ج 9 ، ص : 59
(فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي فخذ ما أعطيتك من الشريعة وهى التوراة وكن من جماعة الشاكرين لنعمتى عليك وعلى قومك ، بإقامتها بقوة وعزيمة والعمل بها ، وأداء حقوق نعمى جميعها عليك ، تنل المزيد من فضلى : « لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ » .
وقد تقدم أن قلنا إن الوحى إلى الرسل أنواع ثلاثة بينهما اللّه بقوله : « وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ » .
والخلاصة - إن إثبات الكلام والتكليم للّه تعالى صريح فى القرآن الكريم فى آيات عدة لا تعارض بينها ، وأما الرؤية ففيها آيات متعارضة كقوله تعالى « لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ » وقوله « لَنْ تَرانِي » وهما أصرح فى النفي من دلالة قوله تعالى « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ » على الإثبات فإن استعمال النظر بمعنى الانتظار كثير فى القرآن وكلام العرب كقوله « هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ » وقوله : « ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً » وفى الأحاديث الصحيحة تصريح بإثبات الرؤية بحيث لا تحتمل تأويلا ، والمرفوع منها مروى عن أكثر من عشرين صحابيا ، ولم يرد فى معارضتها شىء أصرح من
حديث عائشة عن مسروق قال : قلت لعائشة رضي اللّه عنها يا أماه هل رأى محمد صلى اللّه عليه وسلم ربه ليلة المعراج ؟ فقالت : لقد قفّ شعرى مما قلت ، أىّ أنت من : « ثلاث من حدّثكهن فقد كذب : من حدثك أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم رأى ربه فقد كذب ، وفى رواية فقد أعظم الفرية ثم قرأت : « لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ - وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ » ومن حدثك أنه يعلم ما فى غد فقد كذب ، ثم قرأت « وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً » ومن حدثك أنه كتم شيئا من الدين فقد كذب ثم قرأت : يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ(9/59)
ج 9 ، ص : 60
إِلَيْكَ »
قال مسروق : وكنت متكئا فجلست وقلت : ألم يقل اللّه : « وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى » فقالت أنا أول هذه الأمة سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك فقال :
« إنما هو جبريل » .
ومن هذا تعلم أن عائشة تنفى دلالة سورة النجم على رؤية النبي صلى اللّه عليه وسلم لربه بالحديث المرفوع ، وتنفى جواز الرؤية مطلقا أو فى هذه الحياة الدنيا بالاستدلال بقوله تعالى : « لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ » وقوله : « وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ » وهذا الاستدلال ليس نصا فى النفي حتى يرجح على الأحاديث الصريحة فى الرؤية وقد قال بها بعض علماء الصحابة.
والمثبتون للرؤية يقولون : إن استنباط عائشة إنما هو لنفى الرؤية فى الدنيا فقط كما قال بذلك الجمهور ، ولا تقاس شئون البشر فى الآخرة على شئونهم فى الدنيا ، لأن لذلك العالم سننا ونواميس تخالف سنن هذا العالم ونواميسه حتى فى الأمور المادية كالأكل والشرب ، والمأكول والمشروب ، فماء الجنة غير آسن فلا يتغير كماء الدنيا بما يخالطه أو يجاوره فى مقره أو جوّه ، قال ابن عباس : ليس فى الدنيا شىء مما فى الجنة إلا الأسماء.
وجمهرة المسلمين أن رؤية العباد لربهم فى الآخرة حق وأنها أعلى وأكمل للنعيم الروحاني الذي يرتقى إليه البشر فى دار الكرامة ، وأنها أحق ما يصدق عليه
قوله صلى اللّه عليه وسلم : « قال اللّه عز وجل : أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر »
وهى المعبر عنها بقولهم : إنها رؤية بلا كيف.
وبعد أن أخبر سبحانه فى الآيات السالفة أنه منع موسى رؤيته فى الدنيا وبشره بأنه اصطفاه على أهل زمانه برسالته وبكلامه أخبرنا فيما بعد بما أتاه يومئذ بالإجمال فقال :
(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ) أي إننا أعطيناه ألواحا كتبنا له فيها أنواع الهداية والمواعظ التي تؤثّر فى القلوب ترغيبا وترهيبا(9/60)
ج 9 ، ص : 61
وتفصيلا لأصول الشرائع وهى أصول العقائد والآداب وأحكام الحلال والحرام والراجح أن هذه الألواح كانت أول ما أوتيه من وحي التشريع الإجمالى. أما سائر الأحكام التفصيلية من العبادات والمعاملات المدنية والحربية والعقوبات فكانت تنزل عليه وقت الحاجة كالقرآن.
وقد اختلفوا فى عدد الألواح ، فمن مقل قال إنها اثنان ، ومن مكثر قال إنها عشرة أو سبعة.
وجاء فى التوراة فى شأن الألواح فى سفر الخروج : « قال الرب لموسى اصعد إلى الجبل وكن هنا فأعطيك لوحى الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعلّمهم الكلمات العشر » وجاء فيها أيضا : « ثم انثنى موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة فى يده.
لوحان مكتوبان على جانبيهما ، من هنا ومن هناك كانا مكتوبين ، واللوحان هما صفة اللّه والكتاب كتابة اللّه منقوشة على اللوحين » وجاء فيها : « وقال الرب لموسى أكتب لك هذا الكلام لأنى بحسبه عقدت عهدا معك ومع بنى إسرائيل وأقام هناك عند الرب أربعين يوما وأربعين ليلة لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء فكتب على اللوحين كلام العهد الكلمات العشر » ومن هذا تعلم أن ما كتبه المفسرون عن الإسرائيليات مخالفا لذلك فهو باطل ، أراد به واضعوه الكذب والافتراء ، فيجب علينا أن نمحص تلك الروايات ونحققها من كتبهم.
(فَخُذْها بِقُوَّةٍ) أي وكتبنا له فى الألواح ما ذكر وقلنا له : هذه وصايانا وأصول شريعتنا وكلياتها ، فخذها بقوة وجدّ وعزم ، ذاك أنك ستكون بها شعبا جديدا بعادات جديدة وأخلاق جديدة مخالفة فى جوهرها وصفاتها لما كان عليه من الذل والعبودية لدى فرعون وقومه ، وما كان عليه من الشرك والوثنية التي ألفها وراضت نفسه لقبولها ، فأنّي للقائد والمرشد أن يصلح ذلك الفساد ويرأب ذلك الصدع إذا لم يكن ذا عزيمة وقوة وبأس شديد وحزم فى أوامره ونواهيه ؟ .
(وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أي وأمر قومك بالاعتصام بهذه الموعظة(9/61)
ج 9 ، ص : 62
والأحكام المفصلة فى الألواح التي هى منتهى الكمال والحسن كالإخلاص للّه فى العبادة.
إذ يتحلى العقل وتتزكى النفس ، مع ترك اتخاذ الصور والتماثيل لأنها ذرائع للشرك وسبب للوصول إليه.
(سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) أي إن لم تأخذوا ما آتيناكم بقوة وتتبعوا أحسنه كنتم فاسقين عن أمر ربكم فيحل بكم ما حل بالفاسقين من قوم فرعون الذين أنجاكم اللّه منهم ، ونصركم عليهم وسيريكم ما حل بهم بعدكم من الغرق.
قال ابن كثير : أي سترون عاقبة من خالف أمرى وخرج عن طاعتى كيف يصبر إلى الهلاك والدمار.
قال ابن جرير : وإنما قال (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) كما يقول القائل لمن يخالفه :
سأريك غدا ما يصير إليه حال من خالف أمرى - على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه خالف أمره.
وفى الآية عبرة لمن يقرؤها ويتدبر أمرها من وجوه :
(1) إن الشريعة يجب أن تتلقى بعزيمة وجدّ لتنفيذ ما بها من الإصلاح وتكوين لأمة تكوينا جديدا ، ومظهر ذلك الرسول المبلغ لها والداعي إليها والمنفذ لها بقوله وعمله فهو الأسوة والقدوة ، وهذه سنة اللّه فى كل انقلاب ، وتجديد اجتماعي وسياسى وإن لم يكن بهدى اللّه ، فما بالك بالدين وهو أحوج ما يكون إلى إصلاح الظاهر والباطن ، وقد أخذ سلفنا الصالح القرآن بقوة بالعمل بهداية دينهم لا بالتبرك بالمصاحف والتغني بالقرآن فى المحافل ، فسادوا جميع الأمم التي كانت لها القوة الحربية والصناعية والمالية والعددية ، وسعدوا به فى دنياهم وسيكونون كذلك فى آخرتهم ، وخلف من بعدهم خلف أعرضوا عنه وتركوا هدايته فشقوا فى دنياهم وآخرتهم كما قال « يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ. الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ » .(9/62)
ج 9 ، ص : 63
(2) إن شعب إسرائيل عظم ملكه حين أقام شريعته بقوة حتى إذا غلبه الغرور وظن أن اللّه ينصره لنسبه وأنه شعب اللّه ففسق وظلم أنزل اللّه به البلاء وسلط عليه البابليين فأزالوا ملكه ، ثم ثاب إلى رشده فرحمه وأعاد إليه بعض ملكه ، ثم ظلم وأفسد فسلط عليه النصارى فمزقوه كلّ ممزّق.
(3) إن المسلمين الذين اتبعوا سننهم اغتروا بدينهم كما اغتروا واتكلوا على لقب (الإسلام) ولقب (أمة محمد) ولم يثوبوا إلى رشدهم ، فزالت دولتهم وذهب ريحهم وامتلك عدوهم ناصيتهم وجد فى إفساد عقائدهم وأخلاقهم وإيقاع الشقاق فيما بينهم وتولى تربيتهم وتعليمهم كما يحب ويهوى ، وللّه الأمر من قبل ومن بعد.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 146 الى 147]
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)
تفسير المفردات
التكبر : التكثر من الكبر ، وهو غمط الحق بعدم الخضوع له ، ويصحبه احتقار الناس ، فصاحبه يرى أنه أكبر من أن يخضع لحق أو يساوى نفسه بشخص ، والرشد والرشد والرشاد كالسقم والسقم والسّقام : الصلاح والاستقامة ، وضده الغىّ والفساد ، والآيات الأولى : هى البينات والدلائل ، والثانية هى الآيات المنزلة من حبث اشتمالها على الهداية وتزكية النفوس.(9/63)
ج 9 ، ص : 64
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه فى الآيات السالفة ما لحق فرعون وقومه من الهلاك بسبب استكباره وظلمه وفساده فى الأرض - ذكر هنا سنته تعالى فى ضلال البشر بعد مجىء البينات وتكذيبهم لدعاة الحق والخير من الرسل وأتباعهم ، وأبان أن السبب الأول لذلك هو التكبر ، فإن من شأن الكبر أن يصرف أهله عن النظر والاستدلال على الحق والهدى ، فهم يكونون دائما من المكذبين بالآيات الدالة عليه ، ومن الغافلين عنه كما هى حال الملوك والرؤساء والزعماء الضالين كفرعون وملئه.
وفى هذا إيماء للنبى صلى اللّه عليه وسلم بأن الطاغين المستكبرين من صناديد قومه لن ينظروا فى دعوته ولا فى آيات القرآن الدالة على وحدانية اللّه بما أقامته عليها من البراهين الكثيرة من آيات كونية ، وآيات فى الآفاق والأنفس.
وجملة الموانع الصادّة لهم عن اتباعه ترجع إلى التكبر ، فإنهم بزعمهم يعتقدون أنهم سادة قريش وكبراؤها وأقوياؤها فلا ينبغى أن يتبعوا من دونهم سنا وقوة وثروة وعصبية.
الإيضاح
(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي سأمنع قلوب المتكبرين عن طاعتى وعلى الناس بغير حق - فهم الأدلة والحجج الدالة على عظمتى وعلى ما فى شرائعى من هدى وسعادة لهم كما قال « فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ » كما منعت فرعون وقومه عن فهم آيات موسى التي أوحيتها إليه ، وقوله بغير الحق أي بتلبسهم بالباطل وانغماسهم فيه - إذ لا قيمة للحق فهم لا يبحثون عنه ولا يطلبونه ، وقد تظهر لهم آياته ويجحدونها وهم بها موقنون كما قال تعالى فى قوم فرعون « وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا » .(9/64)
ج 9 ، ص : 65
ثم بين صفات المستكبرين وأحوالهم فقال :
(1) (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أي إنهم إذا رأوا الآيات التي تدل على الحق وتثبته لا يستفيدون منها فائدة ما فلا يؤمنون بها ، لأن كثرة الآيات وتعدد أنواعها إنما تفيد من تكون نفسه تواقة لمعرفة الحق لكنه يجهل الوصول إليه أو يشك فى الطريق الموصلة إليه لتعارض الأدلة لديه لخفاء دلالتها أو لسوء فهمه لها ، فإذا خفيت عليه دلالة بعضها فقد تظهر له دلالة غيره فتنكشف الحقيقة واضحة أمامه وتسفر له عن وجهها ، وفى هذا إيماء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بأن الذين يقترحون عليه الآيات من قومه لا يقصدون استبانة الحق وإيضاحه بل يريدون إحداث الشغب والتعجيز ، فإن هم أجيبوا إلى طلبهم لم يؤمنوا بما جئت به.
(2) (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) أي وهم ينفرون من سبيل الهدى والرشاد وهى السبيل المعبّدة الواضحة ، فإذا رأى أحدهم هذه السبيل لا يختارها لنفسه ولا يفضلها على ما هو عليه من سبيل الغى ، وهذا منتهى ما يكون من الطبع على القلب والخروج عن جادّة العقل والفطرة ، ومن الناس من يسلك هذه السبيل عن جهل فإذا رأى لنفسه مخرجا منها ارعوى وتركها واختار لنفسه سبيل الرشاد.
(3) (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) أي إنهم إذا رأوا سبيل الغى والضلال هرعوا إليها وخبوا فيها وأوضعوا ، بما تزينه لهم نفوسهم من سلوكها والسير فيها إلى آخر الحلبة ، وهذه حال لهم شر من سابقتيها ، وهؤلاء الذين اجتمعت لهم هذه الصفات هم الذين طبع اللّه على قلوبهم وختم على سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة ، فسبيل الحق بغيضة إليهم ، وطريقه مكروهة لديهم :
ثم علل ما سلف من صرفهم عن النظر فى الآيات وعدم اعتبارهم بها فقال :
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) أي إننا عاقبناهم على تكذيبهم بالآيات والغفلة عن النظر إلى الأدلة الموصلة إلى الحق فيما أمرنا به ونهينا عنه - بالختم على قلوبهم ، والغشاوة على أعينهم حتى لا يجد الحق منفذا فى الوصول إليها.(9/65)
ج 9 ، ص : 66
والخلاصة - إن اللّه لم يخلق هؤلاء مطبوعين على الغى والضلال طبعا ، ولم يجبرهم إجبارا ويكرههم عليه إكراها ، بل كان ذلك بكسبهم واختيارهم ، إذ هم آثروا التكذيب بالآيات والصد عن السبل الموصلة إلى الرشاد وغفلوا عن النظر فى أدلتها ، لشغلهم بأهوائهم واتباع شهواتهم ، وبذا لجوا فى الطغيان ، وتمادوا فى العصيان ، واحتقروا ما سوى ذلك مما يهدى عقولهم إلى صوب الحق وسلوك طريقه.
وأمثال هؤلاء هم الذين عناهم اللّه بقوله : « وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ » .
ولا شك أن كثيرا من المسلمين الذين تعلموا التعاليم الغربية ورأوا زخرف المدنية الأوربية وغرّهم بهرجها وخلبتهم زينتها تنطبق عليهم هذه الصفات ، فهم يحتقرون هداية الدين الروحية وأوامره ونواهيه وسائر تعاليمه وما له من تأثير عظيم فى النفوس وتوجيه لها إلى الخير ، وصد لها عن الشر ، والبعد عن الفواحش والمنكرات.
ذاك أنهم رأوا أنفسهم بعيدين عن الفنون والصناعات وزخرف الحياة الذي وصل فيه الغربيون إلى الغاية القصوى وهم عبيد شهواتهم منصرفون عن هداية الأديان إلى أبعد غاية فحدثتهم أنفسهم أن ينهجوا نهجهم ويسيروا على سنتهم ، علّهم يصلون فى ذلك إلى بعض ما وصلوا إليه ، ولو ساغ لبنى إسرائيل ألا يتبعوا موسى عليه السلام لأنه لم يكن عنده من زينة الدنيا ومن الفنون والصناعات ومن رائع المدينة مثل ما كان عند فرعون وقومه ولساغ لهم أن ينحدروا فى تلك الهوّة ويقعوا فى تلك الحفرة.
وللّه فى خلقه شئون وهو يصرف الأمور بيده وله الأمر من قبل ومن بعد.
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي والذين كذبوا بآياتنا المنزلة بالحق والهدى على رسلنا ، فلم يؤمنوا بها ولم يهتدوا بهديها ، وكذبوا بما يكون فى الآخرة من الجزاء على الأعمال من ثواب(9/66)
ج 9 ، ص : 67
على الخير وعقاب على الشر - تحبط أعمالهم وتذهب سدى ، لأنهم عملوا لغير اللّه وأتعبوا أنفسهم فى غير ما يرضى اللّه ، فتصير أعمالهم وبالا عليهم ولا يحزون إلا جزاء ما استمروا على عمله من الكفر والمعاصي ، فأثّر فى نفوسهم وأرواحهم حتى دسّاها وأفسدها ، فقد مضت سننه تعالى بجعل الجزاء فى الآخرة أثرا للعمل مرتبا عليه كترتيب المسبب على السبب ، ولا يظلم ربك أحدا فى جزائه مثقال ذرة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 148 الى 149]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149)
تفسير المفردات
الحلىّ (بالضم والتشديد) واحدها حلى (بالفتح والتخفيف). والعجل : ولد البقرة من العراب أو الجواميس كالحوار لولد الناقة والمهر لولد الفرس ، والجسد : الجثة وبدن الإنسان والشيء الأحمر كالذهب والزعفران والدم الجاف ، والخوار : صوت البقر كالرغاء لصوت الإبل ، وسقط فى يده وأسقط فى يده (بضم أولهما على البناء للمفعول) أي ندم ، ويقولون فلان مسقوط فى يده وساقط فى يده أي نادم. قال فى العباب وتاج العروس :
هذا نظم لم يسمع قبل القرآن ولا عرفته العرب ، وذكرت اليد لأن الندم يحدث فى القلب وأثره يظهر فيها بعضّها أو الضرب بها على أختها كما قال سبحانه فى النادم « فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها » ولأن اليد هى الجارحة العظمى وربما يسند إليها ما لم تباشره كقوله تعالى « ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ » .(9/67)
ج 9 ، ص : 68
المعنى الجملي
بعد أن ذكر خبر مناجاة موسى لربه واصطفائه إياه برسالاته وبكلامه وأمره بأخذ الألواح بقوة - ذكر هنا ما حدث أثناء المناجاة من اتخاذ قومه بنى إسرائيل عجلا مصوغا من الذهب والفضة ، ثم عبادته من دون اللّه - لما رسخ فى نفوسهم من فخامة المظاهر الوثنية الفرعونية فى مصر - وقد ذكرت هذه القصة عقب تلك لما بينهما من العلاقات الظاهرة وللاشتراك فى الزمن.
الإيضاح
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ) أي وصاغ بنو إسرائيل من بعد ما فارقهم موسى ماضيا إلى ربه لمناجاته وفاء للموعد الذي وعده إياه - من حلى القبط التي كانوا استعاروها منهم عجلا جسدا له خوار أي تمثالا له صورة العجل وبدنه وصوته ثم عبدوه.
والذي فعل ذلك كما سيأتى فى سورة طه هو السامري ، وكان رجلا مطاعا فيهم ذا منزلة واحترام ، وإنما نسبه إليهم لأنه عمل برأى جمهورهم الذين طلبوا أن يجعل لهم إلها يعبدونه.
قال ابن كثير : وقد اختلف المفسرون فى ذلك العجل هل صار لحما ودما له خوار أو استمر على كونه من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر على قولين واللّه أعلم ا ه.
ويرى الرأى الأول قتادة والحسن البصري فى جماعة آخرين ، وتعليل ذلك عندهم أن السامري رأى جبريل حين جاوز ببني إسرائيل البحر راكبا فرسا ما وطئ بها أرضا إلا حلت فيها الحياة واخضرّ نباتها فأخذ من أثرها قبضة فنبذها فى جوف تمثال العجل فحلت فيه الحياة وصار يخور كما يخور العجل.(9/68)
ج 9 ، ص : 69
ويرى جماعة آخرون الرأى الثاني ويقولون : إن خواره كان بتأثير دخول الريح فى جوفه وخروجها من فيه ، ذاك أنه صنع تمثال عجل مجوّفا ووضع فى جوفه أنابيب على طريق فنيّة مستمدة من دراسة علم الصوت وجعل وضعه على مهب أنابيب الرياح ، فمتى دخلت الريح فى جوف التمثال انبعث منه صوت يشبه خوار العجل.
وقال آخرون بل ذلك الخوار كان تمويها وعملا منه يشبه عمل : (الحواة) ذاك أنه جعل التمثال أجوف وجعل تحت المواضع الذي نصب فيه من ينفخ فيه من حيث لا يشعر الناس فسمعوا الصوت من جوفه كالخوار ، والناس يفعلون مثل هذا فى النافورات التي تجرى فيها المياه ، وبهذا الطريق ونحوه ظهر الصوت من التمثال ثم ألقى فى روع الناس أن هذا العجل إلههم وإله موسى فعبدوه كلهم إلا هارون كما قال الحسن.
فرد اللّه عليهم ضلالاتهم وأبان لهم فساد آرائهم وقرعهم على جهالاتهم فقال :
(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا) أي ألم يروا أنه فاقد لما يعرف به الإله الحق من تكليمه لمن يختاره من البشر لرسالته لتعليم عباده ما يجب عليهم معرفته من صفاته وسبيل عبادته كما كلم رب العالمين موسى وألقى إليه الألواح التي فيها من الشرائع ما يزكّى النفوس وتقوم بها مصالح العباد وعليها سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم.
وخلاصة ذلك - إنه فاقد لأهم صفة من صفات الإله الحق وهى صفة الهداية والإرشاد للعباد بإنزال الرسل الذين يختارهم إلى الناس - ومرجعها صفة الكلام.
ثم أكد ما سلف وقرره بقوله :
(اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) أي إنهم لم يتخذوه عن دليل وبرهان بل اتخذوه عن تقليد للمصريين إذ رأوهم يعبدون العجل : (أبيس) من قبل ، وعن تقليد لما رأوه من العاكفين على أصنام لهم من بعد فعبدوه مثلهم.
وبهذا كانوا ظالمين لأنفسهم إذ هم يعملون ما يضرهم ولا ينفعهم بشىء.
(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي ولما اشتد ندمهم وازدادت حسرتهم على ما فرط منهم(9/69)
ج 9 ، ص : 70
فى جنب اللّه وعلموا أنهم قد ضلوا ضلالا بعيدا بعبادة العجل قالوا إن ذنبنا لعظيم وإن جرمنا لكبير ، وإنه لن يسعهم بعد هذا الذنب إلا رحمة اللّه التي وسعت كل شىء ، ولئن لم يرحمنا ربنا بقبول توبتنا والتجاوز عن جريمتنا لنكونن من الذين خسروا سعادة الدنيا وهى الحرية والاستقلال فى أرض الموعد ، وخسروا سعادة الآخرة وهى دار الكرامة والنعيم المقيم وجنات النعيم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 150 الى 151]
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
تفسير المفردات
الأسف : الحزن والغضب ، ويقال أسف من باب تعب حزن وتلهف ، وأسف كغضب وزنا ومعنى ، ويعدّى بالهمزة فيقال : آسفته ، ومن استعمال الأسف بمعنى الحزن قوله تعالى حكاية عن يعقوب « وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ » وبمعنى الغضب قوله :
« فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ » وعجله : سبقه ، وأعجله : استعجله ، وألقى : طرح ، والشماتة : الفرح بالمصيبة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما أحدثه السامري من اتخاذه العجل لبنى إسرائيل وعبادتهم له ثم ندمهم على ما فرط منهم فى جنب اللّه وطلبهم الرحمة من ربهم - ذكر هنا ما حدث(9/70)
ج 9 ، ص : 71
من موسى من الأسى والحزن حين رأى قومه على هذه الحال من الضلال والغى ، ومن التعنيف واللوم لهارون على السكوت على قومه حين رآهم فى ضلالتهم يعمهون.
الإيضاح
(وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) أي ولما رجع موسى من الطور إلى قومه غضبان على أخيه هرون ، إذ رأى أنه لم يكن فيهم صليب الرأى قوىّ الشكيمة ، نافذ الكلمة ، حزينا على ما وقع منهم من كفر الشرك وإغضاب اللّه والتفريط فى جنبه.
(قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) أي بئس خلافة خلفتمونيها من بعد ذهابى عنكم إلى مناجاة ربى وقد كنت لقنتكم التوحيد ، وكففتكم عن الشرك وبينت لكم فساده وسوء مغبته وحذرتكم صنيع القوم الذين كانوا يعكفون على أصنام لهم من تماثيل البقر.
وقد كان من الحق عليكم أن تقتفوا أثرى ، وتتبعوا سيرتى بيد أنكم سلكتم ضد ذلك ، فصنعتم صنما كأحد أصنامهم فعبده بعضكم ولم يردعكم عن ذلك باقيكم.
(أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ؟ ) قال صاحب الكشاف : المعنى أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم ، فحدثتكم أنفسكم بموتى فغيّرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم.
وروى أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل وقال : « هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى » إن موسى لن يرجع وإنه قد مات ا ه.
(وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) أي وطرح الألواح من يديه وأخذ برأس أخيه يجره إليه بذؤابته ظنا منه أنه قد قصّر فى ردعهم وتأنيبهم وكفّهم عن عبادة العجل كما فعل هو بتحريقه وإلقائه فى اليم إن قدر ، أو أن يتبعه إلى جبل الطور إن(9/71)
ج 9 ، ص : 72
لم يستطع كما حكى اللّه تعالى عنه فى سورة طه : « قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ؟ » .
ولا شك أن سياسة الأمم تختلف باختلاف أحوال رعاتها وسائسيها ، فالقوى منهم الشديد الغضب للحق كموسى يشعر بما لا يشعر به من يغلب عليه الحلم ولين العريكة كهرون عليه السلام.
ثم ذكر سبحانه جواب هرون لموسى فقال :
(قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) أي يا ابن أمي لا تعجل بلومي وتعنيفى وتظنن تقصيرى فى جنب اللّه فإنى لم آل جهدا فى الإنكار على القوم والنصح لهم ، لكنهم قد استضعفوني ولم يرعووا لنصحى ولم يمتثلوا لأمرى بل أوشكوا أن يقتلونى.
(فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فلا تفعل بي من اللوم والتقريع ما يجعل الأعداء يشمتون بي ، ولا تجعلنى فى زمرة القوم الظالمين لأنفسهم ، وهم الذين عبدوا العجل فتغضب منى كما غضبت منهم وتؤاخذني كما اخذتهم فإنى لست منهم فى شىء.
وفى هذا دليل على أن هرون كان دون موسى فى شدة العزيمة وقوة الإرادة وأخذ الأمور بالحزم ، وهذا ما أطبق عليه المسلمون وأهل الكتاب.
ثم أبان سبحانه أثر هذا الاستعطاف فى قلب موسى عليه السلام فقال :
(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي قال رب اغفر لى ما فرط منى من قول وفعل فيهما غلظة وجفاء ، واغفر له ما عساه يكون قد قصّر فيه من مؤاخذة القوم على ما اجترموه من الآثام خوفا مما توقعه من الإيذاء الذي قد يصل إلى القتل ، وأدخلنا فى رحمتك التي وسعت كل شىء واغمرنا بجودك وفضلك فأنت أرحم بعبادك من كل رحم.
والآية صريحة فى براءة هرون من جريمة اتخاذ العجل وفى إنكاره على متخذيه(9/72)
ج 9 ، ص : 73
وعابديه من قومه ، وبهذا قد صححت ما وقع فى التوراة التي بين يدى أهل الكتاب من نسبة اتخاذ العجل إلى هرون وجعله هو الفاعل لذلك كما جاء فى الفصل الثاني والثلاثين من سفر الخروج قال :
ولما رأى الشعب أن موسى قد أبطأ فى النزول من الجبل اجتمع الشعب على هرون وقالوا : قم فاصنع لنا آلهة تسير أمامنا ، لأن موسى الرجل الذي كان قد أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ما قد أصابه ، فقال لهم هرون انزعوا أقراط الذهب التي فى آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وائتوني بها فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي كانت فى آذانهم وأتوا بها إلى هرون ، فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالأزميل وصنعه عجلا مسبوكا فقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر ، فلما نظر هرون بنى مذبحا أمامه ونادى هرون وقال : غدا عيد للرب فبكروا فى الغد وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامة ، وجلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب ، فقال الرب لموسى :
اذهب انزل ، لأنه قد فسد شعبك الذي أصعدته من أرض مصر ، زاغوا سريعا عن الطريق الذي أوصيتهم به صنعوا عجلا مسبوكا وسجدوا له وذبحوا له وقالوا : هذه آلهتك يا إسرائيل الذي أصعدتك من أرض مصر - ثم قال :
وكان عند ما اقترب إلى المحلة أنه أبصر العجل والرقص فحمى غضب موسى وطرح اللوحين من يديه وكسرهما فى أسفل الجبل ، ثم أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار وطحنه حتى صار ناعما وذرّاه على وجه الماء وسقى بنى إسرائيل وقال موسى لهرون :
ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطية عظيمة فقال هرون : لا يحمم غضب سيدى على ، أنت تعرف الشعب ، إنه فى شر ، فقالوا اصنع لنا آلهة تسير أمامنا ...
ثم ذكر طلب موسى من الرب أن يغفر لقومه ، وأمر الرب إياهم أن يقتل كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه ، وكل واحد قريبه ، وأن بنى لاوى فعلوا ذلك فقتل منهم فى ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل - وقد تقدم ذكر ذلك فى سورة البقرة.(9/73)
ج 9 ، ص : 74
[سورة الأعراف (7) : الآيات 152 الى 153]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
تفسير المفردات
الغضب هنا : هو ما أمروا به من قتل أنفسهم ، والذلة : هى ما يشعرون به من هوانهم على الناس واحتقارهم لهم ، وقيل هى الذلة التي عرتهم عند تحريق إلاههم ونسفه فى اليم نسفا مع عدم قدرتهم على دفع ذلك عنه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عتاب موسى لأخيه هارون عليهما السلام ثم استغفاره لنفسه وله - قفّى على ذلك بذكر ما استحقه القوم من الجزاء على اتخاذ العجل وهو مما أوحاه اللّه إلى موسى يومئذ.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي إن الذين بقوا على اتخاذ العجل واستمروا عليه كالسامرى وأشياعه - سيصيبهم غضب من ربهم بألا يقبل توبتهم إلا إذا قتلوا أنفسهم ، وذلة عظيمة فى الحياة الدنيا بالخروج من الديار والغربة عن الوطن.
(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) أي ومثل هذا الجزاء فى الدنيا نجزى المفترين على اللّه فى كل زمان إذا فضحوا بظهور افترائهم كما فضح هؤلاء.
قال الحسن البصري : إن ذل البدعة على أكتافهم وإن هملجت بهم البغال وطقطقت بهم البراذين.
وروى عن أبي قلابة أنه قرأ هذه الآية وقال هى واللّه لكل مفتر إلى يوم القيامة.(9/74)
ج 9 ، ص : 75
(وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي والذين عملوا السيئات من الكفر والمعاصي ثم تابوا رجعوا من بعدها إلى اللّه بأن رجع الكافر عن كفره والعاصي عن عصيانه وأخلص الإيمان وزكاه بالعمل الصالح - إن ربك من بعد ذلك لغفور لهم ستار لذنوبهم رحيم بهم منعم عليهم.
وينتظم فى هذا السلك متخذو العجل وسواهم من المجترحين للسيئات ، عظمت ذنوبهم أو حقرت ، لأن الذنوب وإن جلّت وعظمت فعفو اللّه وكرمه أعظم وأجل على شريطة التوبة والإنابة ، وبدونها الطمع فيه طمع فى غير مطمع ، ألا ترى أن طمع الفساق فى المغفرة بدون الإنابة إلى ربهم قد ذهب بكثير من حرمة الأوامر والنواهي من قلوبهم ، وجعلهم يستحلون كثيرا من المحرمات ، وكانوا شرا ممن قال اللّه فيهم :
« وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً » ولم يكن طمعهم ثمرة إيمان وعمل صالح بل هى أمانىّ جر إليها الحمق والغفلة عما يجب من تعظيم تلك الأوامر والنواهي :
« إن الأمانى والأحلام تضليل » .
[سورة الأعراف (7) : آية 154]
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
تفسير المفردات
السكوت فى اللغة : ترك الكلام ، نسب إلى الغضب على تصويره بصورة شخص ذى قوة ورياسة يأمر وينهى فيطاع ، قال فى الكشاف : هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له قل لقومك كذا وألق الألواح وجرّ برأس أخيك إليك ، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء ا ه. وفى نسختها أي ما نسخ وكتب منها فهى من النسخ كالخطبة من الخطاب ، وهدى : بيان للحق ، ورحمة بالإرشاد إلى ما فيه الخير والإصلاح ، والرهبة : أشد الخوف.(9/75)
ج 9 ، ص : 76
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال القوم وقسمهم قسمين : مصرّ على الذنب وعبادة العجل.
وتائب منيب إلى ربه ، وبين مآل كل من القسمين - ذكر هنا بيان حال موسى بعد أن سكنت سورة غضبه وهدأ روعه.
الإيضاح
(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) أي ولما سكن غضب موسى باعتذار أخيه إليه ولجأ إلى رحمة ربه وفضله وجأر بالدعاء له أن يغفر له ولأخيه خطاياهما عاد إلى الألواح فأخذها ، وفيها الهدى والرشاد من بارئ النسم لمن يرهب اللّه ويخشى عقابه ويرجو ثوابه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 157]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)(9/76)
ج 9 ، ص : 77
تفسير المفردات
يقال اختاره من الرجال وانتقاه : اصطفاه من بينهم ، والرجفة : الصاعقة ، والفتنة :
الاختبار والامتحان مطلقا أو بالأمور الشاقة ، والولي. المتولى أمور غيره القائم عليها ، والحسنة فى الدنيا : هى العافية وبسطة الرزق وعز الاستقلال والملك ، وفى الآخرة دخول الجنة ونيل الرضوان ، وهاد يهود وتهود : تاب ورجع إلى الحق فهو هائد وقوم هود ، والنبي من النبأ : وهو الخبر المهم العظيم الشأن وفى لسان الشرع من أوحى اللّه إليه وأنبأه بما لم يكن يعلم بكسبه من خبر أو حكم به يعلم علما ضروريا أنه من اللّه عز وجل ، والرسول : نبى أمره اللّه بتبليغ شرع ودعوة دين وبإقامته والعمل به ولا يشترط أن بكون كتابا يقرأ وينشر ولا شرعا جديدا يعمل به ويحكم بين الناس ، بل قد يكون تابعا لشرع غيره كله كالرسل من بنى إسرائيل الذين كانوا يتبعون التوراة عملا وحكما ، والأمى : الذي لا يقرأ ولا يكتب نسبة إلى الأم ، وأهل الكتاب يلقبون العرب بالأميين كما حكى اللّه عنهم : « ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ » والمعروف :
ما تعرف العقول السليمة حسنه لموافقته للفطرة والمصلحة بحيث لا تستطيع أن ترده أو تعترض عليه إذا ورد به الشرع ، والمنكر : ما تنكره القلوب وتأباه على الوجه المذكور ، والطيب : ما تستطيبه الأذواق من الأطعمة وتستفيد منه التغذية النافعة ، والخبيث من الأطعمة ما تمجّه الطباع السليمة كالميتة والدم المسفوح ، أو تصد عنه العقول الراجحة لضرره فى البدن كالخنزير الذي تتولد من أكله الدودة الوحيدة ، أو لضرره فى الدين كالذى يذبح للتقرب به إلى غير اللّه على سبيل العبادة ، والخبيث من الأموال :(9/77)
ج 9 ، ص : 78
ما يؤخذ بغير حق : كالرياء والرشوة والغلو والسرقة والغصب ونحو ذلك ، والإصر :
الثقل الذي يأصر صاحبه : أي يحبسه من الحركة لثقله ، والأغلال : واحدها غل (بالضم) وهو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه ويقال لها جامعة أيضا ، والتعزير : الإعانة والنصرة حتى لا يقوى عليه عدو.
الإيضاح
(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا) أي وانتخب موسى واصطفى سبعين رجلا من خيار قومه للميقات الذي وقته اللّه تعالى له ودعاهم للذهاب معه إلى حيث يناجى ربه من جبل الطور.
(فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) أي فلما أخذتهم رجفة الجبل وصعقوا قال موسى رب إننى أتمنى أن لو كانت سبقت مشيئتك أن تهلكهم من قبل خروجهم معى إلى هذا المكان فأهلكتهم وأهلكتنى معهم حتى لا أقع فى شديد الحرج مع قومى فيقولوا قد ذهبت بخيارنا لإهلاكهم وإن لم تفعل فإنى أسألك برحمتك ألا تفعل الآن.
وقد اختلف المفسرون فى أن هذا هل كان بعد أن أفاق موسى من صعقة تجلى ربه للجبل عقب سؤاله الرؤية إذ كان معه شيوخ بنى إسرائيل ينتظرونه مكان وضعهم فيه غير مكان المناجاة - أو كان بعد عبادة العجل حين ذهبوا للاعتذار وتأكيد التوبة وطلب الرحمة.
قال محمد بن إسحق : اختار موسى من بنى إسرائيل سبعين رجلا الخيّر فالخيّر وقال انطلقوا إلى اللّه فتوبوا إليه مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم ، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقّته ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم ، فقال له السبعون فيما ذكر لى حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه : يا موسى اطلب لنا نسمع كلام ربنا فقال أفعل ، فلما دنا موسى من الجبل وقع(9/78)
ج 9 ، ص : 79
عليه عمود الغمام حتى تغشى الليل كله ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم ادنوا ، وكان موسى إذا كلمه اللّه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بنى آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا فى الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى : يأمره وينهاه افعل ولا تفعل ، فلما فرغ إليه من أمره وانكشف عن موسى الغمام ، أقبل إليهم فقالوا لموسى : « لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً » فأخذتهم الرجفة وهى الصاعقة فأتلفت أرواحهم فماتوا جميعا ، فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول : « رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياى » قد سفهوا ، أ تهلك من ورائي من بنى إسرائيل ا ه.
ولا شك أن هذه الرواية ونحوها مأخوذة عن الإسرائيليات وليس فيها شىء مرفوع إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم.
(أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) أي قال موسى لربه مستعطفا : لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا من العناد وسوء الأدب أو من عبادة العجل.
وفى هذا إيماء إلى أن عقلاء بنى إسرائيل وأصحاب الروية منهم لم يعبدوه إنما عبده السفهاء ، وهم الأكثرون.
(إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) أي ما تلك الفعلة التي كانت سببا فى أخذهم بالرجفة إلا محنة منك وابتلاء ، جعلته سببا لظهور استعداد الناس وما طويت عليه سرائرهم من ضلال وهداية وما يستحقون عليه العقوبة أو المثوبة بحسب سنتك فى خلقك بالعدل والحق ، تضل بمقتضاها من تشاء من عبادك ولست بالظالم لهم فى تقديرك ، وتهدى من تشاء ولست بالمحابي لهم فى توفيقك ، فأمرهم دائر بين العدل والفضل.
(أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) أي أنت المتولّى أمورنا والقائم علينا بما تكتسب نفوسنا ، فاغفر لنا ما تترتب عليه المؤاخذة والعقاب من مخالفة سنتك ،(9/79)
ج 9 ، ص : 80
والتقصير فيما يجب من ذكرك وشكرك وعبادتك ، وارحمنا وأنت خير الغافرين حلما وكرما وجودا ، فكل غافر سواك إنما يغفر لغرض كحب الثناء ودفع الضرر ، وأنت تغفر لا لطلب عوض بل لمحض الفضل والكرم ، وأنت خير الراحمين رحمة ، وأوسعهم فيها فضلا وإحسانا ، فرحمة من سواك نفحة مفاضة على قلوبهم من رحمتك.
(وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) أي وأثبت لنا برحمتك وفضلك حياة طيبة فى هذه الدنيا من عافية وبسطة فى الرزق وتوفيق للطاعة ، ومثوبة حسنة فى الآخرة بدخول جنتك ونيل رضوانك ، فهو بمعنى قوله فيما علّمنا من دعائه :
« رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً » .
(إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي إنا تبنا مما فرط من سفهائنا من طلب الآلهة وعبادة العجل ومن تقصير عقلائنا فى الإنكار عليهم - مستغفرين مسترحمين كما فعل من قبل آدم إذ تاب إليك من معصيته فتبت عليه واجتبيته فكانت تلك سنتك فى ولده.
(قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ) أي قد كان من سبق رحمتى غضبى أن جعلت عذابى خاصا أصيب به من أشاء من الكفار والعصاة أما رحمتى فقد وسعت كل شىء فى العالمين فهى من صفاتى التي قام بها أمر العالم منذ خلقته ، والعذاب من أفعالى المترتبة على صفة العدل ، ولو لا الرحمة العامة المبذولة لكل أحد لهلك كل كافر وعاص عقب كفره وفجوره « وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ » .
ثم ذكر من ستكتب لهم الرحمة فقال :
(فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) أي فأثبت رحمتى بمشيئتى للذين يتقون الكفر والمعاصي ويؤتون الصدقة التي تتزكى بها أنفسهم ، وخص الزكاة بالذكر دون ما عداها من الطاعات ، لأن النفوس شحيحة ففتنته تقتضى أن يكون المانعون للزكاة أكثر من التاركين غيرها من الطاعات ، كما أن فى ذلك(9/80)
ج 9 ، ص : 81
إيماء إلى أن اليهود أشربوا فى قلوبهم حب المال وفتنوا بجمعه ومنع بذله فى سبيل اللّه ، كما أنى سأكتبها كتبة خاصة للذين يصدّقون بجميع آياتنا التي تدل على توحيدنا وصدق رسلنا تصديق إيقان مبنى على العلم الصحيح دون تقليد للآباء والأجداد.
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) أي إن كتابة الرحمة كتابة خاصة لمن يتصفون بالصفات الثلاث المتقدمة : وهم الذين يتبعون الرسول النبي الأمى وهو وصف خاص بمحمد صلى اللّه عليه وسلم لا يشاركه فيه غيره من النبيين. فالأمية آية من آيات نبوته ، فهو مع أميته قد جاء بأعلى العلوم النافعة التي بها يصلح ما فسد من عقائد البشر وأخلاقهم وآدابهم وأعمالهم ، فغيّر نظم البشر فى تلك الحقبة الطويلة وأثر فى حياة الأمم التي حوله أكبر الأثر بما شهد له المنصفون فى كل الأديان.
وقد وصف اللّه ذلك الرسول الذي أوجب اتباعه على كل من أدركه من بنى إسرائيل بصفات :
(1) إنه نبى أمي.
(2) إنه هو (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) أي يجد الذين يتبعونه من بنى إسرائيل وصفه مكتوبا فى التوراة والإنجيل بحيث لا يشكّون أنه هو.
فقد جاء فى الباب الثالث والثلاثين من سفر التثنية : « جاء الرب من سينا وأشرق لنا من ساعير واستعلى من جبال فاران ومعه ألوف الأطهار ، فى يمينه قبس من نار » فمجيئه من سينا إعطاؤه التوراة لموسى عليه السلام ، وإشراقه من ساعير إعطاؤه الإنجيل لعيسى عليه السلام ، واستعلاؤه من جبال فاران إنزاله القرآن ، لأن فاران من جبال مكة.
وجاء فى الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنا : « فأما إذا جاء الفار قليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينبثق فهو يشهد لى وأنتم تشهدون لأنكم معى من الابتداء - والفارقليط بالعبرية معناه أحمد - كما قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام : « مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ » وجاء فى سفر التكوين : « فلا يزول القضيب من يهوذا والراسم(9/81)
ج 9 ، ص : 82
من تحت أمره إلى أن يجىء الذي هو له وإليه تجتمع الشعوب » وفى هذا دلالة على مجىء محمد عليه السلام بعد تمام حكم موسى وعيسى ، لأن المراد من الحاكم موسى لأنه ما جاء بعد يعقوب صاحب شريعة إلا هو ، والمراد من الراسم عيسى وبعدهما ما جاء صاحب شريعة إلا محمد عليه الصلاة والسلام.
وعلى الجملة ، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا يتناقلون خبر بعثته صلى اللّه عليه وسلم فيما بينهم ويذكرون البشارات من كتبهم ، حتى إذا ما بعثه اللّه بالهدى ودين الحق آمن به كثيرون وكان علماؤهم يصرحون بذلك كعبد اللّه بن سلام وأصحابه من علماء اليهود وتميم الداري من علماء النصارى وغيرهم من الذين أسلموا فى عصر النبي صلى اللّه عليه وسلم.
وأما الذين استكبروا فكانوا يكتمون البشارات به فى كتبهم ويؤولون كثيرا منها ويكتمونه عمن لم يطلع عليه ، وقد قيّض اللّه عالما من علماء الهند يسمى الشيخ رحمة اللّه فى القرن الماضي لتحقيق هذه البشارات فى كتاب سماه : [إظهار الحق ] وتناول فيه مسائل غاية فى الأهمية ، ويجدر بمن يريد التوسع فى هذه المسائل أن يطلع عليه وهو مطبوع متداول بين أيدى الناس.
(3 ، 4) إنه (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي لا يأمر إلا بالخير ولا ينهى إلا عن الشر كما قال عبد اللّه بن مسعود : إذا سمعت اللّه يقول « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » فأرعها سمعك ، فإنه خير تؤمر به أو شر تنتهى عنه ا ه.
ومن أهم ما أمر به عبادة اللّه وحده لا شريك له ، ومن أهم ما نهى عنه عبادة ما سواه كما هو شأن جميع الرسل فى ذلك كما قال : « وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ » .
(5 ، 6) إنه (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) أي إنه يحل لهم ما تستطيبه الأذواق من الأطعمة وفيه فائدة فى التغذية ، ويحرّم عليهم ما تستقذره(9/82)
ج 9 ، ص : 83
النفوس : كالميتة والدم المسفوح وما يؤخذ من الأموال بغير حق كالربا والرّشوة والغصب والخيانة.
(7) إنه (يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) أي إنه يضع عنهم التكاليف الشاقة كاشتراط قتل الأنفس فى صحة التوبة والقصاص فى القتل العمد أو الخطأ من غير شرع الدية وقطع الأعضاء الخاطئة وقطع موضع النجاسة من الثوب وتحريم السبت.
وقال ابن كثير : أي إنه جاء بالتيسير والسماحة كما
ورد فى الحديث : « بعثت بالحنيفية السمحة »
و
قال صلى اللّه عليه وسلم لأميريه معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن. « بشّروا ولا تنفّروا ، ويسروا ولا تعسّروا ، وتطاوعا ولا تختلفا » .
والخلاصة - إن بنى إسرائيل كانوا قد أخذوا بالشدة فى أحكام العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية والعقوبات فكان مثلهم مثل من يحمل أثقالا يئطّ منها وهو موثق بالسلاسل والأغلال فى عنقه ويديه ورجليه ، وقد خفف المسيح عليه السلام عنهم بعض التخفيف فى الأمور المادية ، وشدد فى الأحكام الروحية إلى أن جاءت الشريعة الوسطى السمحة التي بعث بها خاتم الرسل محمد صلوات اللّه عليه.
ثم بين سبحانه وتعالى كيفية اتباعه عليه الصلاة والسلام وعلو مرتبة متبعيه واغتنامهم مغانم الرحمة فى الدارين إثر بيان نعوته الجليلة فقال :
(فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي إن الذين آمنوا بالرسول الأمى حين بعث - من قوم موسى ومن كل أمة ، وعزروه بأن منعوه وحموه من كل من يعاديه مع التعظيم والإجلال ، لا كما يحمون بعض ملوكهم مع الكره والاشمئزاز ، ونصروه باللسان والسّنان ، واتبعوا النور الأعظم الذي أنزل مع رسالته وهو القرآن ، أولئك هم المفلحون الفائزون بالرحمة والرضوان دون سواهم من حزب الشيطان الذين خذلهم اللّه فى الدنيا والآخرة.(9/83)
ج 9 ، ص : 84
[سورة الأعراف (7) : آية 158]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
الإيضاح
بعد أن حكى عز اسمه ما فى التوراة والإنجيل من نعوته صلى اللّه عليه وسلم وذكر شرف من يتبعه من أهلهما ونيلهما سعادة الدنيا والآخرة - قفى على ذلك ببيان عموم بعثته صلى اللّه عليه وسلم ودعوة الناس كافة إلى الإيمان به وأمره بتبليغهم دعوته فقال :
(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) أي قل لجميع البشر من عرب وعجم إنى رسول اللّه إليكم كافة لا إلى قومى خاصة فهو بمعنى قوله تعالى : « وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً » وقوله « وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ » أي وأنذر به كل من بلغه من النقلين ، وقوله : « وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ » .
وجاءت أحاديث صحيحة ناطقة باختصاصه صلى اللّه عليه وسلم بالرسالة العامة كحديث جاء فى الصحيحين وغيرهما من
قوله صلى اللّه عليه وسلم « أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد من الأنبياء قبلى : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصلّ ، وأحلّت لى الغنائم ولم تحل لأحد قبلى ، وأعطيت لى الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة » .
ثم وصف اللّه تعالى نفسه بتوحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وبالإحياء والإماتة فقال :
(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) أي إن اللّه الذي(9/84)
ج 9 ، ص : 85
أنا رسوله هو من له التصرف فى السموات والأرض وتدبير العالم كله ، إذ وحدة النظام فى جملة المخلوقات وعدم التفاوت فيها دليل على وحدة مصدرها وتدبيرها ، فهو المعبود وحده لا إله إلا هو.
وتوحيد الربوبية بالإيمان وتوحيد الألوهية بالإيمان والعمل : أي بعبادة اللّه وحده - هما أصل الدين والركن الأول فى العقيدة. والركن الثاني الإيمان برسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، والركن الثالث عقيدة البعث بعد الموت وهى تتضمن الإحياء والإماتة وتصرف الرب فى خلقه.
وقد بنى على تقرر هذه الأمور الثلاثة الدعوة إلى الإيمان فقال :
(فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ) أي فآمنوا أيها الناس جميعا باللّه الواحد فى ربوبيته وألوهيته الذي يحيى كل ما تحلّه الحياة ويميت كل ما يعرض له الموت بعد الحياة ، وهذا أمر مشاهد كل يوم.
وآمنوا برسوله النبي الأمى الذي بعثه فى الأميين رسولا إلى الخلق أجمعين ، يعلمهم الكتاب والحكمة ويطهرهم من خرافات الشرك والجهل والتفرق والتعادي ليكونوا بهدايته أمة واحدة يتحقق بها الإخاء البشرى العام ، وقد بشر بهذا النبي الأنبياء صلوات اللّه عليهم ، لأنه المتمم لما بعثوا به من هداية الناس.
(الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ) أي يؤمن بتوحيد اللّه وكلماته التشريعية التي أنزلها لهداية خلقه على ألسنة رسله وهى مظهر علمه ورحمته ، وكلماته التكوينية التي هى مظهر إرادته وقدرته وحكمته.
وبعد أن أمرهم سبحانه بالإيمان أمرهم بالإسلام فقال :
(وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي واسلكوا طريقه ، واقتفوا أثره فى كل ما يأتى وما يذر من أمور الدين رجاء اهتدائكم بالإيمان وباتباعه إلى ما فيه سعادتكم فى الدنيا والآخرة وتلك هى الثمرة التي تجنى منهما ، فما آمن قوم بنبي إلا كانوا بعد الإيمان(9/85)
ج 9 ، ص : 86
به خيرا مما كانوا قبله من العزة والكرامة فى دنياهم وسعادتهم فى آخرتهم بنيل رصوان ربهم والحظوة بالقرب منه.
وليس من التشريع الذي يجب فيه امتثال الأمر واجتناب النهى - ما لا تعلق له بحق اللّه ولا حق خلقه من جلب مصلحة أو دفع مفسدة كمسائل العادات والزراعات والصناعات والعلوم والفنون المبنية على التجارب وما جاء فيها من أمر ونهى فهو إرشاد لا تشريع - وقد ظن بعض الصحابة أن إنكار النبي صلى اللّه عليه وسلم لبعض الأمور الدنيوية المبنية على التجارب من قبيل التشريع كامتناعهم عن تلقيح النخل حين نهاهم عنه فأشاص : (أي خرج ثمره شيصا رديئا) فراجعوه فأخبرهم أن ما قاله كان عن ظن ورأى ، لا عن تشريع ووحي ، وقال لهم : « أنتم أعلم بأمور دنياكم » والحكمة فى ذلك تنبيه الناس إلى أن مثل هذه الأمور الدنيوية والمعاشية متروكة لمعارف الناس وتجاربهم.
[سورة الأعراف (7) : آية 159]
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
المعنى الجملي
بعد أن بين عز اسمه كتابته للرحمة لمن يتبع محمدا صلى اللّه عليه وسلم من قوم موسى ووصفهم بأنهم هم المفلحون - ذكر هنا حال خواص أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا متبعين له حق الاتباع وعطفهم على المهتدين باتباع خاتم النبيين صلى اللّه عليه وسلم.
الإيضاح
(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) الأمة : الجماعة الكثيرة ، ويهدون : يرشدون ويدلون ، والعدل الحكم بين الناس بالحق - يقال هو يقضى بالحق ويعدل وهو حكم عادل أي ومن قوم موسى جماعة عظيمة يهدون الناس بالحق الذي(9/86)
ج 9 ، ص : 87
جاءهم به من عند اللّه ويعدلون به دون غيره إذا حكموا بين الناس ، فلا يتبعون هوى ولا يأكلون سحتا ولا رشى ، وهؤلاء من كانوا فى عصر موسى وممن بعد عصره حتى بعد ما ضاع أصل التوراة ووجدت النسخ المحرفة بعد السبي ، فإن الأمم الكبيرة لا تخلو من أهل الحق والعدل.
ونحو الآية قوله : « وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً » .
وقد ورد فى خيار أهل الكتاب ثلاثة أنواع من الآيات :
(1) ما كان منها صريحا فى الذين أدركوا النبي صلى اللّه عليه وسلم وآمنوا به كقوله فى سورة البقرة : « الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ » .
(2) ما كان صريحا فى الذين كانوا فى عهد موسى عليه السلام واتبعوه أو اتبعوا من بعده من أنبيائهم إلى عهد البعثة العامة قبل بلوغ دعوتها كالآية التي نحن نفسرها.
(3) ما كان محتملا للقسمين كقوله « مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ » .
[سورة الأعراف (7) : آية 160]
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)(9/87)
ج 9 ، ص : 88
تفسير المفردات
قطعناهم أي صيرناهم قطعا وفرقا كل فرقة منها سبط ، والسبط : ولد الولد مطلقا ، وقد يخص بولد البنت ، وأسباط بنى إسرائيل سلائل أولاده العشرة : أي ماعدا لاوى وسلائل ولدي ابنه يوسف وهما إفرايم ومنسى ، إذ سلائل لاوى نيطت بها خدمة الدين فى جميع الأسباط ولم تجعل سبطا مستقلا ، والأمة : الجماعة التي تؤلف بين أفرادها رابطة خاصة أو مصلحة واحدة أو نظام واحد ، والاستسقاء : طلب الماء للسقيا ، والانبجاس والانفجار واحد ، يقال : بجسه فانبجس وبجّسه فتبجس كما يقال فجره : أي شقه فانفجر ، وقال الراغب : الانبجاس أكثر ما يقال فيما يخرج من شىء ضيق ، والانفجار يستعمل فيه وفيما يخرج من شىء واسع ، والغمام : السحاب مطلقا أو الأبيض منه أو الرقيق ، والمنّ مادة بيضاء تنزل من السماء كالطلّ حلوة الطعم شبيهة بالعسل وإذا جفّت كانت كالصمغ.
والسلوى : طير يشبه السّمانى (السمان) لكنه أكبر منه.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه فى هذه الآية حالين من أحوال بنى إسرائيل ، أولاهما : أنه قسمهم اثنتي عشرة فرقة بعدد أسباطهم الاثني عشر ، ثانيتهما : أنهم لما استسقوا موسى ضرب الحجر فانبجس منه اثنتا عشرة عينا بقدر عدد الأسباط وقد تقدم ذكر هاتين الواقعتين فى سورة البقرة.
الإيضاح
(وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) أي وفرقنا قوم موسى الذين كان منهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ، ومنهم الظالمون والفاسقون ، فجعلناهم اثنتي عشرة فرقة تسمى أسباطا : أي أمما وجماعات يمتاز كل منهم بنظام خاص فى معيشته وبعض شئونه.
(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) أي وأوحينا إلى موسى. حين استسقاه قومه فاستسقى ربه لهم -(9/88)
ج 9 ، ص : 89(9/89)
ج 9 ، ص : 89
أن اضرب بعصاك الحجر فضر به فنبعت منه عقب ضربه إياه اثنتا عشرة عينا من الماء بقدر عدد أسباطهم ، وخص كل واحد بعين منها للزحام وحفظا للنظام.
وفى سفر العدد من التوراة أن عدد الرجال الصالحين للحرب من بنى إسرائيل كان يزيد على ستمانة ألف من ابن عشرين فما فوق وعلى هذا فيكون عددهم جميعا يزيد على ألفى ألف (مليونين) وابن خلدون قال فى مقدمته : إن هذا العدد لا يتصور بقاؤه فى صحراء مجدبة قليلة المياه بحال فلا ينبغى للمؤرخين اعتماد هذا.
كذلك ما ورد من حجم الحجر وشكله ككون رأسه كرأس الشاة أو أكبر وكونه يوضع فى الجوالق أو يحمل على ثور أو حمار فكل ذلك من الخرافات الإسرائيلية التي تلقاها المفسرون بالقبول على غرابتها.
(وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ) أي وسخرنا لهم الغمام يلقى عليهم ظله فيقيهم لفح الشمس من حيث لا يحرمون فائدة نورها وحرها المعتدل ، ولو لا السحاب فى التيه لأحرقتهم حرارتها إذ لم يكن هناك من الشجر ما يستظلون به.
(وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ) فسهلنا عليهم الطعام والشراب على أحسن الوجوه وكان المن يقوم مقام الخبز عندهم ويكفى الألوف من الناس ، وتقوم السّمانى مقام اللحوم والطيور الأخرى.
(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ، أي وأنزلنا عليهم ما ذكر قائلين لهم كلوا من طيبات ما رزقناكم ، وفى ذلك تنبيه وتذكير بما كان يجب عليهم من شكر هذه النعم.
(وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي وما ظلمونا بكفرهم بهذه النعم ، بل ظلموا أنفسهم وأضروها بهذا الجحود والإنكار ، وقد كان ذلك من دأبهم وعادتهم آنا بعد آن ،
وقد جاء فى الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذرّ مرفوعا « يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادى إنكم لن تبلغوا ضرّى فتضرونى ، ولن تبلغوا نفعى فتنفعونى » .(9/90)
ج 9 ، ص : 90
ولا شك أن من ظلم نفسه كان لغيره أظلم ، وإن كان ظلمه لنفسه مما يجهل أنه ظلم لها ، إذ يتجلى له فى صورة المنفعة وتكون عاقبته مضرة ، وهكذا الحال فى جميع الظالمين والمجرمين ، فهم يظنون أنهم بظلمهم وإجرامهم ينفعون أنفسهم جهلا منهم للعواقب وقلة تدبر ما ينبغى أن يتفطّن له.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 161 الى 162]
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)
الإيضاح
تقدم مثل هاتين الآيتين فى سورة البقرة غير أن بين الموضعين فروقا :
(1) إنه قال هنا : اسكنوا القرية ، وفى سورة البقرة : « ادْخُلُوا » والفائدة هنا أتم ، لأن السكنى تستلزم الدخول دون العكس.
(2) إنه قال هنا : (وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ) وفى سورة البقرة ، « فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً » ، فجاء العطف هناك بالفاء لأن بدء الأكل يكون عقب الدخول كأكل الثمرات والفواكه التي تكون فى كل ناحية من القرية - أما السكنى فأمر ممتد يكون الأكل فى أثنائه لا عقبه ، كما وصف هناك الأكل بالرغد وهو : الواسع الهنيء لأن الأكل فى أول الدخول يكون ألذ وبعد السكنى والإقامة لا يكون كذلك.
(3) إنه قال هنا : (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) وقدم هنا ما أخر هناك وأخر ما قدمه ، والواو لا تدل على طلب ترتيب بين الأمرين ، فالاختلاف فى التعبير دالّ على عدم الفرق بين تقديم هذا وتأخير ذاك وبين عكسه ، إذ لا فارق بين أن يدعوا بقولهم : (حِطَّةٌ) أي حط عنا أوزارنا وخطايانا الذي هو بمعنى قولنا اللهم غفرا -(9/91)
ج 9 ، ص : 91
فى حال التلبس بالتواضع والخضوع وتنكيس الرءوس شكرا للّه على نعمه عند دخول القرية ، وبين أن يبدءوا بتنكيس الرءوس والخضوع والتواضع ثم يدعوا بقولهم (حِطَّةٌ).
(4) إنه قال هنا : (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) بدون واو ، وهناك : « وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ » بالعطف والمعنى واحد وترك الواو أدل على أن الزيادة تفضل من اللّه ليست مشاركة للمغفرة فيما جعل سببا لها من الخضوع والسجود والاستغفار والدعاء بحط الأوزار.
(5) إنه قال هاهنا (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) : فزيد منهم على مثله فى سورة البقرة.
ومعنى تبديلهم قولا غير الذي قيل لهم : أنهم عصوا بالقول والفعل وخالفوا الأمر مخالفة تامة لا تحتمل اجتهادا ولا تأويلا فلم يراعوا ظاهر مدلول اللفظ ولا الفحوى والمقصود منه ، حتى كأن المطلوب منه غير الذي قيل لهم.
وما روى فى الإسرائيليات من هذا التبديل من الألفاظ العبرانية أو العربية - فلا ثقة به ، وإن خرّج بعضه فى الصحيح والسنن موقوفا ومرفوعا كحديث أبي هريرة فى الصحيحين وغيرهما - قيل لبنى إسرائيل : (ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا : (حِطَّةٌ) حبة فى شعيرة ، إذ هو مروى من طريق هماّم بن منبّه أخى وهب وهما صاحبا الغرائب فى الإسرائيليات ، وأبو هريرة لم يصرح بسماعه من النبي صلى اللّه عليه وسلم فيحتمل أنه سمعه من كعب الأحبار إذ ثبت أنه روى عنه.
(6) إنه قال هنا : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) وقال هناك « فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ » فالاختلاف بين الإنزال والإرسال وهو خلاف لفظى ، وبين عليهم وعلى الذين ظلموا ، وبين يظلمون ويفسقون ، وفائدته بيان أنهم كانوا يجمعون بين الظلم الذي هو نقص للحق أو إيذاء للنفس أو للغير ، والفسق الذي هو الخروج عن الطاعة ، والرجز كما تقدم العذاب الذي تضطرب له القلوب أو يضطرب له الناس فى شئونهم ومعايشهم.(9/92)
ج 9 ، ص : 92
والعبرة فى هذا القصص أن نعلم أن اللّه يعاقب الأمم على ذنوبها فى الدنيا قبل أن يعذبها فى الآخرة ، وأن نبتعد بقدر الطاقة عن الظلم والفسق ، فقد عاقب اللّه بنى إسرائيل بظلمهم ولم يحل دون عقابه ما كان لهم من فضائل ومزايا ككثرة الأنبياء فيهم وتفضيلهم على العالمين كما تقدم
[سورة الأعراف (7) : الآيات 163 الى 166]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166)
تفسير المفردات
القرية : هى أيلة ، وقيل مدين ، وقيل ، طبريّة والعرب تسمى المدينة قرية ، حاضرة البحر : أي قريبة منه على شاطئه ، ويعدون فى السبت : أي يتجاوزون حكم اللّه بالصيد المحرّم عليهم فيه ، وحيتانهم : سمكهم ، ويوم سبتهم : أي تعظيمهم للسبت يقال سبتت اليهود تسبت إذا عظّمت السبت بترك العمل فيه وتخصيصه للعبادة ، وشرّعا : واحدها شارع كركّع وراكع : أي ظاهرة على وجه الماء ، ونبلوهم : نختبرهم ، وأمة منهم : أي جماعة منهم ، والمعذرة : بمعنى العذر وهو التنصل من الذنب ، فمعنى معذرة إلى ربكم : قيام منا بعذر أنفسنا إلى اللّه تعالى ، ونسوا ما ذكروا به : أي تركوه(9/93)
ج 9 ، ص : 93
ترك الناسي وأعرضوا عنه إعراضا تاما ، والسوء. العمل الذي تسوء عاقبته ، والبئيس :
الشديد من البأس وهو الشدة ، أو من البؤس وهو المكروه أو الفقر ، والعتو : الإباء والعصيان ، وخاسئين : أي أذلاء صاغرين.
المعنى الجملي
ذكرت هذه القصة فى سورة البقرة إجمالا وهاهنا ذكرت تفصيلا ، إذ كانت سورة الأعراف نزلت بمكة فى أوائل الإسلام ولم يكن النبي صلى اللّه عليه وسلم لقى أحدا من اليهود وقد كان أميالا يقرأ كتابا كما قال تعالى : « وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ » فكان ذلك أدل على الإعجاز.
الإيضاح
(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) الخطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم والسؤال للتقرير المتضمن للتقريع والتوبيخ وبيان أن كفر أهل الكتاب بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وبمعجزاته ليس بدعا جديدا منهم ، فإن أسلافهم أقدموا على هذا الذنب القبيح والمعصية الفاحشة واعتدوا هذا الاعتداء الشائن الذي قص اللّه خبره.
والمعنى - واسأل بنى إسرائيل عن أهل المدينة التي كانت قريبة من البحر راكبة على شاطئه (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) أي اسألهم عن حالهم حين كانوا يعتدون فى السبت ويجاوزون حكم اللّه بالصيد فيه وقد نهوا عنه.
(إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) أي يأتيهم السمك ظاهرا على وجه الماء يوم تعظيمهم للسبت بترك العمل والتفرغ للعبادة فيه ابتلاء من اللّه واختبارا لهم.
(وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) أي لا تأتيهم يوم لا يسبتون كما كانت تأتيهم يوم(9/94)
ج 9 ، ص : 94
السبت حذرا من صيدهم لاعتيادها أحوالهم قيل إنها اعتادت ألا يتعرض أحد لصيدها يوم السبت فأمنت وصارت تظهر فيه وتخفى فى الأيام التي لا يسبتون فيها لما اعتادت من اصطيادها فيها ، فلما رأوا ظهورها وكثرتها فى يوم السبت أغواهم ذلك بالاحتيال على صيدها فيه.
(كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي مثل هذا البلاء بظهور السمك يوم السبت نبتليهم ونعاملهم معاملة المختبر لحال من يراد إظهار حاله ليترتب الجزاء على عمله بسبب فسقهم المستمر على أمر ربهم واعتدائهم حدود شرعه ، فقد جرت سنة اللّه بأن من أطاعه سهل له أمور الدنيا وأجزل له الثواب فى الآخرة ، ومن عصاه : ابتلاه بأنواع المحن والبلاء.
(وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً ؟ ) أي واسألهم عن حال أهل تلك القرية حين قالت جماعة منهم هذه المقالة ، وفى ذلك دلالة على أن الذين كانوا يعدون فى السبت بعض أهل القرية لا جميعهم وأن أهلها كانوا فرقا ثلاثا :
(1) فرقة العادين فى السبت التي أشير إليها فى الآية الأولى.
(2) فرقة الواعظين لهؤلاء العادين لينتهوا عن عدوانهم ويكفّوا عنه.
(3) فرقة اللائمين للواعظين التي قالت لهم : لم تعظون قوما قد قضى اللّه عليهم بالهلاك بالاستئصال أو بعذاب شديد دون الاستئصال ، أو المراد مهلكهم فى الدنيا ومعذبهم فى الآخرة.
(قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي قال الواعظون للائمين لهم : نعظكم عظة اعتذار نعتذر بها إلى ربكم عن السكوت على المنكر ، فإذا طولبنا بإقامة فريضة النهى عن المنكر قلنا قد فعلنا فنكون بذلك معذورين - إلى أنا نرجو أن ينتغعوا بالموعظة فيحملهم ذلك على اتقاء الاعتداء الذي اقترفوه ، إذ نحن لم نيأس من رجوعهم إلى الحق كما أنتم منهم يائسون.(9/95)
ج 9 ، ص : 95
(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) أي إنهم لما تركوا ما ذكّرهم به الصالحون وأعرضوا عنه حتى صار كالمنسىّ فى كونه لا تأثير له.
(أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) أي أنجينا الذين ينهون عن العمل السيء وهما الفريقان الآخران.
(وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي وأخذنا الذين ظلموا أنفسهم بشديد العذاب بسبب تماديهم فى الفسق حتى صار ديدنهم وهجّيراهم.
والخلاصة - إنه لما ذكّر المذكّرون ولم يتذكر المعتدون أنجينا الأولين وأخذنا الآخرين.
وقد جرت سنة اللّه بألا يؤاخذ الظالم فى الدنيا بكل ما يقع منه من ظلم ولو كان قليلا فى الصفة أو العدد كما يدل على ذلك قوله : « وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ » وقوله : « وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ » ولكنه يؤاخذ الأمم والشعوب فى الدنيا قبل الآخرة بما يقع منها من ظلم يظهر أثره بالاستمرار عليه كما قال :
« وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً » كما عاقب اللّه بنى إسرائيل كافّة بتنكيل البابليين ثم النصارى بهم وسلبهم ملكهم حين عم فسقهم ولم يدفع ذلك وجود بعض الصالحين فيهم.
وعلى الجملة فالآية صريحة فى هلاك الظالمين الفاسقين ونجاة الصالحين الذين نهوهم عن عمل السوء وارتكاب المنكر ، وسكت عن الفرقة التي أنكرت على الواعظين وعظهم وإنكارهم ، وهى ناجية أيضا لأنها كانت منكرة للمنكر مستقبحة له بدليل أنها تفعله ، وإنما لم تنه عنه ليأسها من فائدة النهى واعتقادها أن القوم قد استحقوا عقاب اللّه بإصرارهم على الفسق فلا يفيدهم الوعظ وهذا رأى ابن عباس.
(فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أي فلما تمردوا وتكبروا وأبوا أن يتركوا ما نهاهم عنه الواعظون قلنا لهم كونوا قردة صاغرين أذلاء بعداء عن الناس : أي تعلقت إرادتنا بأن يكونوا كذلك.(9/96)
ج 9 ، ص : 96
وهذا الجزاء تفصيل للعذاب البئيس الذي ذكر فى الآية السالفة ، وقيل إنه عذاب آخر ، فقد عاقبهم أولا بالبؤس والشقاء فى المعيشة ، إذ من الناس من لا يربيه ولا يهذبه إلا الشدة والبؤس ، ولما لم يزدهم البؤس إلا عتوّا وإصرارا على الفسق والظلم مسخهم مسخ خلق وجسم فكانوا قردة على الحقيقة وهذا ما يراه جمهرة العلماء ، أو مسخ خلق ونفس فكانوا كالقردة فى الطيش والشر والإفساد لما تصل إليه أيديهم وهذا رأى مجاهد قال : مسخت قلوبهم فلم يوفّقوا لفهم الحق.
وفى الآية إيماء إلى أن هذا المسخ كان لمخالفتهم الأوامر وتماديهم فى العصيان ولم يكن لاصطياد الحيتان فحسب
[سورة الأعراف (7) : الآيات 167 الى 171]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
تفسير المفردات
قال سيبويه : أذّن : أعلم ، وأذّن : نادى وصاح للإعلام ومنه « فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ » ومثله تأذن ، ليبعثن : أي ليسلّطن ، ويسومهم : يذيقهم ويوليهم ، وقطعناهم : فرقناهم(9/97)
ج 9 ، ص : 97
أمما : أي جماعات ، دون ذلك : أي منحطون عنهم ، وبلوناهم : امتحناهم ، والحسنات النعم ، والسيئات : النقم ، والخلف : (بسكون اللام) يستعمل فى الأشرار (وبالتحريك) فى الأخيار ، والكتاب : التوراة ، والعرض (بالتحريك) متاع الدنيا وحطامها ، والأدنى : أي الشيء الأدنى والمراد به الدنيا ، ودرسوا ما فيه : أي قرءوه فهم ذاكرون له ، ويمسكون : أي يتمسكون به ويعملون ، ونتقنا الجبل : أي رفعناه كما روى عن ابن عباس ، أو زلزلناه وهو مرفوع ، يقال نتق السقاء : إذا هزه ونفضه ليخرج منه الزبد ، أو اقتلعناه كما هو رأى كثير من العلماء ، والظلة : كل ما أظلك من سقف بيت أو سماء أو جناح طائر والجمع ظلل وظلال.
المعنى الجملي
بعد أن بيّن سبحانه قبائح طائفة من اليهود وذكر عقابهم على ذلك بالمسخ قردة - ذكر هنا أنه كتب على اليهود جميعا الذلة والصغار إلى يوم القيامة عقابا على أفعالهم ، وهذه سنة اللّه فى عقاب الأمم التي تفسق عن أمره وتخالف أوامر دينه ، وهى كما تنطبق على اليهود تنطبق على غيرهم من الأمم التي لا ترعوى عن غيها ، بل تتمادى فى فجورها وطغيانها وتسير قدما فى غوايتها وضلالها.
الإيضاح
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي واذكر أيها الرسول إذ أعلم ربك هؤلاء القوم مرة إثر أخرى أنه قضى عليهم فى علمه وفقا لما قامت عليه نظم الاجتماع ، ليسلطن عليهم إلى يوم القيامة من يوقع بهم العقاب الشديد على ظلمهم وفسقهم وفسادهم فى الأرض ، والآية بمعنى قوله فى سورة الإسراء « وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً » إلى أن قال : « وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا » أي وإن عدتم بعد عقاب(9/98)
ج 9 ، ص : 98
المرة الآخرة إلى الإفساد عدنا إلى التعذيب والإذلال ، وقد عادوا فسلط اللّه عليهم النصارى فسلبوا ملكهم الذي أقاموه بعد أن نجوا من سبى البابليين وقهرهم واستذلالهم إلى أن جاء الإسلام ، فعاداه منهم الذين هربوا من الذل والنكال ولجئوا إلى بلاد العرب فعاشوا فيها آمنين أعزّاء لكنهم نكثوا العهد الذي أعطوه للنبى صلى اللّه عليه وسلم وبه أمّنهم على أنفسهم وأموالهم وحرية دينهم فنصروا المشركين عليه فسلطه اللّه عليهم فقاتلهم ونصره عليهم فأجلى بعضهم وقتل بعضا وأجلى عمر البقية الباقية منهم إلى سورية ولما فتحها انتقل اليهود من حكم الروم الجائر إلى سلطة الإسلام العادلة ولكنهم فقدوا الملك والاستقلال فى جميع الحالات.
(إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) أي إن ربك سريع العقاب للأمم التي تفسق عن أمره وتفسد فى الأرض ، فلا يتخلف عقابه عنها كما يتخلف عن بعض الأفراد ، يؤيد هذا قوله : « وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً »
أي وإذا أردنا هلاك قرية من القرى أمرنا سادتها وكبراءها بالحق والعدل والرحمة فعصوا أمر ربهم وأفسدوا وظلموا فى الأرض فحق عليهم القول بمقتضى سنته فى خلقه فحل بهم الهلاك وخاق بهم النكال جزاء بما كانوا يعملون.
(وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن أقلع عن ذنبه ، وأناب إليه ، وأصلح ما كان قد أفسد فى الأرض قبل أن يحل به عذابه.
والآية بمعنى قوله : « وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى » .
وقلما ذكر عذاب الفاسقين إلا قرنه بذكر الرحمة والمغفرة للمحسنين حتى لا ييأس صالح مصلح من رحمة ربه بذنب عمله بجهالة ، ولا يأمن مفسد من عقابه اغترارا بعفوه وكمه وهو مصر على ذنبه.
وقد فصل سبحانه عقابهم فذكر بدء إذلالهم بإزالة وحدتهم وتمزيق جامعتهم فقال :(9/99)
ج 9 ، ص : 99
(وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) أي وفرقنا بنى إسرائيل فى الأرض وجعلنا كل فرقة منهم فى قطر من أقطارها فلا يخلو منهم قطر وليس لهم شوكة ولا دولة ، وهذا من معجزات الكتاب الكريم.
(مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) أي منهم الصالحون كالذين نهوا من اعتدوا فى السبت عن ظلمهم ، والذين كانوا يؤمنون بالأنبياء من بعد موسى ، والذين آمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام ، ومنهم من دونهم فى الصلاح لم يبلغوا مبلغهم ، ومنهم الغلاة فى الكفر والفسق كالذين كانوا يقتلون النبيين بغير حق ، ومنهم السماعون للكذب الأكّالون للسحت والرشا لتبديل الأحكام والقضاء بغير ما أنزل اللّه كما هو شأن الأمم ، فإنها تفسد تدريجا لا دفعة واحدة كما نشاهد ذلك فى المسلمين.
(وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي وامتحناهم واختبرنا استعدادهم بالنعم التي تحسن فى عيونهم وتقرّبها أفئدتهم ، وبالنقم التي تسوءهم وإن كانت قد تحسن بالصبر عاقبتها لديهم ، رجاء أن يرجعوا عن ذنبهم ، وينيبوا إلى ربهم ، فيعود إليهم فضله ورحمته.
(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) أي نبتت من أولئك الذين منهم الصالح والطالح نابتة ورثوا التوراة : أي وقفوا على ما فيها وكانوا عالمين بأحكامها بعد أسلافهم والحال أنهم يؤثرون حطام الدنيا ومتاعها بما يأكلونه من السحت والرشا والاتجار بالدين والمحاباة فى الحكم ، ويقولون سيغفر لنا ولا يؤاخذنا بما فعلنا ، فإننا أبناء اللّه وأحباؤه وسلائل أنبيائه وشعبه الذي اصطفاه من سائر البشر إلى نحو ذلك من الأمانى والأضاليل ، وهم والغون فى خطاياهم مصرّون على ذنوبهم ، فإن يأتهم عرض آخر مثل الذي أخذوه أولا بالباطل يأخذوه ولا يتعفّفوا عنه - وهم يعلمون أن اللّه إنما وعد بالمغفرة التائبين الذين يقلعون عن ذنبهم ندما وخوفا من ربهم ويصلحون ما كانوا قد أفسدوا.(9/100)
ج 9 ، ص : 100
ثم رد اللّه عليهم ما زعموه بقولهم : سيغفر لنا ، وهم مقيمون على ظلمهم وفسادهم وحبهم للدنيا فقال :
(أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ) أي وقد أخذ اللّه العهد والميثاق عليهم فى كتابه ألا يقولوا عليه غير الحق الذي بينه فيه ، فمنعهم من تحريفه وتغيير الشرائع لأجل أخذ الرشا ، وهم قد درسوا الكتاب وفهموا ما فيه فهم ذاكرون لما أخذ عليهم من تحريم أكل أموال الناس بالباطل والكذب على اللّه إلى نحو أولئك.
(وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي والدار الآخرة وما فيها من نعيم للذين يتقون المعاصي ما ظهر منها وما بطن - خير من حطام الدنيا الفاني الذي يؤخذ بالرّشا والسحت وغير ذلك ، أفلا تعقلون ذلك وهو واضح لا يخفى على كل ذى عقل لم تطمسه الشهوات ، ولم يعم بصيرته حطام الدنيا العاجل ، وبذا يرجّح الخير على التسر والنعيم المقيم على المتاع الزائل.
وفى هذا إيماء إلى أن الطمع فى متاع الدنيا هو الذي أفسد على بنى إسرائيل أمرهم ، واستحوذ عليهم حبّ العاجلة فأذهب عنهم رشدهم.
وفى هذا عبرة للمسلمين الذين سرى إليهم كثير من هذا الفساد وغلب عليهم الطمع وحب الدنيا وعرضها الزائل وهم قد درسوا كتابهم الكريم ، لكن التحلي بلقب الإسلام والتعلل بأمانى المغفرة مع الإصرار على الذنوب اتكالا على الشفاعات والمكفّرات - هو الذي غرّهم وجعلهم يتمادون فى غيّهم وكتابهم ينهاهم عن الأمانى والأوهام وكون الشفاعة لا تقع إلا بإذن اللّه لمن رضى عنه كما قال : « وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ » .
(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) أي والذين يستمسكون بأوامر الكتاب ويعتصمون بحبله فى جميع شئونهم ، ويقيمون(9/101)
ج 9 ، ص : 101
الصلاة التي هى عماد الدين وركن منه متين كعبد اللّه بن سلام وأصحابه - لا نضيع أجرهم لأنهم قد أصلحوا أعمالهم ، واللّه لا يضيع أجر المصلحين ، وهى بمعنى قوله : « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا » .
ثم ختم سبحانه هذه القصة مذكّرا ببدء حالهم فى إنزال الكتاب عليهم عقب بيان مخالفتهم لأمور دينهم والخروج عنه فقال :
(وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) أي واذكر أيها الرسول إذ رفعنا جبل الطور فوقهم كما روى عن ابن عباس ، أو اقتلعناه وجعلناه فوقهم كأنه غمامة وأيقنوا أنهم إن خالفوا أوامر دينهم وقع لا محالة عليهم.
ذاك أنه أخذ عليهم الميثاق ليأخذنّ الشريعة بقوة وعزم فخالفوا الميثاق فرفع فوقهم الطور وأوقع فى قلوبهم الرعب خوف وقوعه بهم ، فخرّ كل واحد منهم ساجدا لربه وقبل العمل بالميثاق.
روى أن بنى إسرائيل أبوا أن يقبلوا التوراة ، فرفع الجبل فوقهم وقيل لهم إن قبلتم العمل بها وإلا ليقعنّ عليكم ، فوقع كل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من سقوطه ، فلذلك لا ترى يهوديا يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون هى السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة حين امتثلنا ما أمرنا به ا ه.
وفى الآية تعريض بأنهم إذا كانت حالهم فى مبدإ أمرهم بمخالفتهم لكتابه ما عرفت - فلا عجب إذا آل أمرهم إلى ترك العمل به بعد طول الأمد وقساوة القلوب والأنس بالمعاصي والذنوب.
(خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي وقلنا لهم فى هذه الحال : خذوا ما أعطيناكم من أحكام الشريعة بعزم واحتمال للمشاقّ والتكاليف.
(وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي واذكروا ما فيه من الأوامر والنواهي ، فإن ذلك يعدّكم للتقوى ويجعلها مرجوة لكم ، فإن قوة العزيمة فى إقامة الدين تزكى(9/102)
ج 9 ، ص : 102
النفوس وتهذب الأخلاق ، كما أن التهاون فيها يدسّيها ويغريها على اتباع الشهوات « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها » .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 174]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
تفسير المفردات
الظهور : واحدها ظهر ، وهو ما فيه العمود الفقرى لهيكل الإنسان الذي هو قوام بنيته فيصح أن يعبر به عن جملة الجسد ، والذرية : سلالة الإنسان من الذكور والإناث ، والشهادة تارة قولية كما قال : الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا »
الآية ، وتارة تكون حالية كما قال : « ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ » أي حالهم شاهدة عليهم بذلك ، لا أنهم قائلون ذلك.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه هدايته للبشر بإرسال الرسل وإنزال الكتب فى قصة بنى إسرائيل - قفّى على ذلك بذكر هدايته لهم بما أودع فى فطرتهم وركّب فى عقولهم من الاستعداد للإيمان به وتوحيده وشكره منذ النشأة الأولى - فهو سبحانه بعد أن أظهر تمادى هؤلاء اليهود فى الغى بعد أخذ الميثاق الخاص الذي دل عليه قوله :
(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) وقوله : « وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا(9/103)
ج 9 ، ص : 103
فَوْقَكُمُ الطُّورَ »
ذكر هنا أنهم نقضوا أيضا الميثاق العام الذي أخذه على بنى آدم جميعا وهم فى صلب آدم وأشركوا باللّه وقالوا : عزير ابن اللّه.
الإيضاح
(وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ؟ قالُوا بَلى شَهِدْنا) أي واذكر أيها الرسول للناس كافة ما أخذه اللّه من ميثاق الفطرة على البشر عامة ، إذ استخرج من بنى آدم ذريتهم بطنا إثر بطن ، وخلقهم على فطرة الإسلام بما أودع فى قلوبهم من غريزة الإيمان اليقيني بأن كل فعل لا بد له من فاعل وأن فوق كل العوالم القائمة على سنة الأسباب والمسببات سلطانا أعلى على جميع الكائنات هو المستحق للعبادة وحده ، وأشهد كل واحد من هؤلاء الذرية الحادثة جيلا بعد جيل على نفسه بما أودعه فى غريزته واستعداده قائلا لهم قول إرادة وتكوين لا قول وحي وتبليغ : أ لست بربكم ؟ فقالوا بلسان الحال لا بلسان المقال : بلى أنت ربنا المستحق وحدك للعبادة ، فالكلام من قبيل التمثيل ، وله نظائر فى القرآن الكريم وأساليب العرب كقوله تعالى بعد ذكر خلق السماء : « فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ » وقوله : « إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » وقول بعض العرب : قال الجدار للوتد لم تشقّنى ؟ قال سل من يدّقنى ، فإن الذي ورائي ، ما خلّانى ورائي : أي ورأيى.
وقال ابن كثير فى تفسير الآية : يخبر اللّه تعالى أنه استخرج ذرية بنى آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن اللّه ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو ، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه ، قال تعالى : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ »
وفى الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « كل مولود يولد على الفطرة »
وفى رواية :(9/104)
ج 9 ، ص : 104
«
على هذه الملة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تلد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء »
؟
وفى صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « يقول اللّه إنى خلقت عبادى حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم » ا ه.
وقال ابن القيم فى كتاب الروح فى سياق البحث فى خلق الأرواح قبل الأجساد ما خلاصته : إن اللّه سبحانه استخرج صور البشر وأمثالهم ، فميّز شقيّهم وسعيدهم ومعافاهم من مبتلاهم ، والآثار متظاهرة به مرفوعة ، وإن اللّه أقام عليهم الحجة حينئذ وأشهدهم بربوبيته واستشهد عليهم ملائكته كما تدل على ذلك الآية.
قال أبو إسحق : جائز أن يكون اللّه سبحانه جعل لأمثال الذر التي أخرجها فهما تعقل به كما قال : « قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ » وقد سخر مع داود الجبال تسبح معه والطير. وقال ابن الأنبارى : مذهب أهل الحديث وكبراء العلم فى هذه الآية أن اللّه أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم فى صورة الذر فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعون له ، فاعترفوا بذلك وفعلوا ، وذلك بعد أن ركّب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبل عقلا حين خوطب ، وكما فعل بالبعير لما سجد ، وبالنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت ا ه.
وقال الحسن بن يحيى الجرجاني : إنه سبحانه قد أثبت الحجة على كل منفوس ممن يبلغ وممن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم ، وزاد على من بلغ منهم الحجة بالآيات والدلائل التي نصبها فى نفسه وفى العالم وبالرسل المنفذة إليهم مبشّرين ومنذرين ، وبالمواعظ بالمثلات المنقولة إليهم أخبارها ، غير أنه عز وجل لا يطالب أحد منهم بالطاعة إلا بقدر ما لزمه من الحجة ، وركّب فيهم من القدرة ، وآتاهم من الأدلة ، وبيّن سبحانه ما هو عامل فى البالغين الذين أدركوا الأمر والنهى ، وحجب عنا علم ما قدره فى عير البالغين ، إلا أنا نعلم أنه عدل لا يجور فى حكمه ، وحكيم لا تفاوت فى صنعه ، وقادر لا يسئل(9/105)
ج 9 ، ص : 105
عما يفعل ، له الخلق والأمر ، تبارك اللّه رب العالمين ا ه.
ثم بين سبحانه سبب هذا الإشهاد وعلته فقال :
(أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) أي إنا فعلنا هذا منعا لاعتذاركم يوم القيامة ، بأن تقولوا إذا أشركتم إنا كنا عن هذا التوحيد غافلين ، إذ لم ينبهنا إليه منبّه ، ومآل هذا أنه لا يقبل منهم الاعتذار بالجهل لأنهم نهّوا بنصب الأدلة وجعلوا مستعدّين لتحقيق الحق وإبعاد الشرك عن قلوبهم.
(أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) أي أو تقولوا فى ذلك اليوم : إن آباءنا اخترعوا الإشراك وسنّوه من قبل زماننا وكنا جاهلين ببطلان شركهم ، فلم يسعنا إلا الاقتداء بهم ولم نهتد إلى التوحيد ، أ فتؤاخذنا فتهلكنا اليوم بالعذاب بما فعله المبطلون من آبائنا المضلين ، فتجعل عذابنا كعذابهم ، مع عذرنا بتحسين الظن بهم ؟ .
والخلاصة - إن اللّه لا يقبل منهم الاعتذار بتقليد الآباء والأجداد ، إذ التقليد عند قيام الدلائل والقدرة على الاستدلال بها مما لا يركن إليه ولا ينبغى لعاقل أن يلجأ إليه ، كما أن الاعتذار بالجهل بعد ما أقام عليهم من البينات الفطرية والعقلية مما لا يقبل.
(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ومثل ذلك التفصيل المستتبع للمنافع الجليلة - نفّصل لبنى آدم الآيات والدلائل ليستعملوا عقولهم فى التبصر فيها والتدبر فى أمرها ، لعلهم يرجعون بها عن جهلهم وتقليد آبائهم وأجدادهم.
وفى الآية إيماء إلى أن من لم تبلغه بعثة رسول لا يعذر يوم القيامة فى الشرك باللّه تعالى ولا بفعل الفواحش والموبقات التي تنفر منها الفطر السليمة وتدرك ضررها العقول الحصيفة ، بل يعذرون بمخالفة هداية الرسل فيما شأنه ألا يعرف إلا منهم وهو تفصيل العبادات وعالم الغيب وما سيكون فى اليوم الآخر من أحوال العاصين وشئون النبيين والصديقين من عقاب وثواب وكنه ذلك على الحقيقة(9/106)
ج 9 ، ص : 106
[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 177]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)
تفسير المفردات
التلاوة : القراءة ، والنبأ : الخبر الذي له شأن ، وانسلاخه منها : كفره بها ونبذه لها من وراء ظهره ، ويقال لكل من فارق شيئا بحيث لا تحدّثه نفسه بالرجوع إليه : انسلخ منه ، وأتبعه : أدركه ولحقه ، قال الجوهري يقال أتبعت القوم إذا سبقوك فلحقتهم ، ومن الغاوين : أي الراسخين فى الغواية بعد أن كان مهتديا ، أخلد إلى الأرض. أي ركن إلى الدنيا ومال إليها واللهث (بالفتح) واللهاث (بالضم) التنفس الشديد مع إخراج اللسان ويكون لغير الكلب من شدة التعب والإعياء أو من العطش وللكلب فى كل حال سواء أصابه ذلك أم لا ، وتحمل عليه. أي تشدّ عليه وتطرده ، وساء الشيء : يسوء فهو سىء إذا قبح ، وساءه يسوءه مساءة ، والمثل : الصفة :
المعنى الجملي
بعد أن ذكر تقدست أسماؤه أخذ العهد والميثاق على بنى آدم جميعا وأشهدهم على أنفسهم بأن اللّه ربهم لا يكون لهم العذر يوم القيامة فى الإشراك باللّه جهلا أو تقليدا -(9/107)
ج 9 ، ص : 107
قفى على ذلك بضرب المثل للمكذبين بآياته المنزلة على رسوله بعد أن أيدها بالأدلة العقلية والكونية ، وهو مثل من آتاه اللّه آياته فكان عالما بها قادرا على بيانها والجدل بها لكنه لم يؤت العمل مع العلم بل كان عمله مخالفا لعلمه فسلبها لأن العلم الذي لا يعمل به لا يلبث أن يزول فأشبه الحية تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الأرض.
الإيضاح
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) أي واتل على اليهود ذلك النبأ العجيب ، نبأ ذلك الذي آتيناه حجج التوحيد وأفهمناه أدلته حتى صار عالما بها فانسلخ منها وتركها وراءه ظهريا ولم يلتفت إليها ليهتدى بها ، وفى التعبير بالانسلاخ إيماء إلى أنه كان متمكنا منها ظاهرا لا باطنا.
(فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) أي وبعد أن انسلخ منها باختياره لحقه الشيطان فأدركه وتمكن من الوسوسة له ، إذ لم يبق لديه من نور البصيرة ولا أمارات الهداية ما يحول بينه وبين قبول وسوسته وسلوك فهمه ، فصار من الضالين المفسدين.
والخلاصة - إنه أوتى الهدى فانسلخ منه إلى الضلال ومال إلى الدنيا فتلاعب به الشيطان وكانت عاقبته البوار والخذلان وخاب فى الآخرة والأولى.
وفى الآية عبرة وموعظة للمؤمنين وتحذير لهم من اتباع أهوائهم حتى لا ينزلقوا فى مثل تلك الهوة التي انزلق إليها صاحب المثل بحبه للدنيا وركونه إلى شهواتها ولذاتها.
(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) أي ولو أردنا أن نرفعه بتلك الآيات والعمل بها إلى درجات الكمال والعرفان لفعلنا ، بأن نخلق له الهداية خلقا ونلزمه العمل بها طوعا أو كرها ، إذ لا يعجزنا ذلك ولكنه مخالف لسنتنا.(9/108)
ج 9 ، ص : 108
(وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) أي ولكنه ركن إلى الدنيا ومال إليها وجعل كل حظه من حياته التمتع من لذائذها الجسدية ، ولم يوجّه إلى الحياة الروحية عزما ، وركب رأسه فلم يراع الاهتداء بشىء مما آتيناه من آياتنا.
وقد قضت سنة اللّه فى الإنسان أن يجعله مختارا فى عمله المستعد له بحسب فطرته ، ليكون جزاؤه كفاء ما قدمت يداه من خير أو شر ، وأن يمتحنه بما خلق فى هذه الأرض من زينة ومتعة كما قال : « إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا » ثم يوّلى كل امرئ منهم وجهة هو مولّيها فيختار منها ناحية بحسب استعداده وميله الفطري كما قال : « مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً ، وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً » كما مضت سنته أيضا بأن جعل ميل الإنسان مع شهواته فى جميع أعماله دون رعاية للفائدة يضله عن السبيل الموصلة إلى السعادة الأخروية وينحرف به إلى سبل الغواية المردية فى التّهلكة كما قال تعالى مخاطبا داود عليه السلام : « وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ » وقال مخاطبا خاتم أنبيائه : « أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ؟ » .
وخلاصة ذلك - إن من شأن من يؤتى الآيات أن تسمو نفسه وتصعد فى سلم الكمال لما فيها من الهداية إلى سبيل الخير الحاضّة على عمل النافع وما فيه فائدة روحية له ، على شريطة أن يتلقاها بعزيمة ونية صادقة كما
جاء فى الحديث : « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى » .
أما من تلقاها بغير قصد أو بنية كسب المال والجاه وفى نفسه ما يصرفه عنها فلن يستفيد منها شيئا وسرعان ما ينسلخ منها.(9/109)
ج 9 ، ص : 109
(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) أي إن هذا الرجل كالكلب فى صفته هذه وهى أقبح حالاته وأخسها ، فهو لإخلاده وميله إلى الدنيا واتباعه هواه يكون كذلك فى أسوإ حال ، فهو فى همّ دائب وشغل شاغل فى جمع عرض الدنيا وزخرفها ، يعنى بخسيس أموره وجليلها كشأن عبّاد الأهواء وطلاب الأموال ترى المرء منهم كاللاهث من الإعياء والتعب وإن كان ما يعنى به حقيرا لا يتعب ولا يعيى ، وتراه كلما أصاب سعة وبسطة فى الدنيا زاد طمعا فيها كما قال الأول :
فما قضى أحد منها لبانته ولا انتهى أرب إلا إلى أرب
(ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي ذلك المثل البالغ الحد فى الغرابة مثل هؤلاء القوم الذين جحدوا بآياتنا واستكبروا عنها جهلا بها وتقليدا للآباء والأجداد ، فهم قد ظنوا أن إيمانهم بها يسلبهم العزة ويحط من أقدارهم ويحول بينهم وبين ما يتمتعون به من اللذات ، فكان ذلك حجابا حائلا بينهم وبين النظر فيها نظر تبصر واستدلال ، وإن كانوا نظروا إليها من تلك الناحية التي تروق لهم وهى : حرمانهم من التمتع بالحظوظ والشهوات ، إلى ما فيها من الاعتراف بضلال السلف من الآباء والأجداد فما أشبه حالهم بحال من أوتى الآيات فانسلخ منها ، وذلك ليس بعيب فيها بل العيب عليه باتباعه هواه الذي حرمه من الانتفاع بها.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفمّ طعم الماء من سقم
(فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي فاقصص أيها الرسول الكريم قصص ذلك الرجل الذي تشبه حاله حال أولئك المكذبين بما جئت به من الآيات البينات رجاء أن يتفكروا فيه فيحملهم سوء حالهم وقبح مثلهم على إطالة التأمل والتفكر فى المخلص مما هم فيه ، والنظر فى الآيات بعين البصيرة لا بعين الهوى والعداوة.
وفى الآية إيماء إلى تعظيم ضرب شأن تلك الأمثال فى الإقناع وكونها أقوى أثرا(9/110)
ج 9 ، ص : 110
من سوق الحجج والأدلة دون أن تكون هى من بينها - كما أن فيها رمزا إلى تعظيم شأن التفكر وأنه مبدأ العلم والسبيل للوصول إلى الحق ، ومن ثم حث اللّه عليه فى مواضع كثيرة من كتابه كقوله : « إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » وقوله « كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » .
(ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) أي قبحت صفة أولئك القوم فى الصفات ، وساء مثلهم فى الأمثال بإعراضهم عن التفكر فى الآيات والنظر إليها نظر عداوة وبغضاء ، وهم بعملهم هذا إنما يظلمون أنفسهم وحدها بحرمانها من الاهتداء بها وجعلها السبيل الموصلة إلى السعادة فى الدنيا والآخرة.
ولم يعيّن الكتاب الكريم اسم من ضرب به المثل ولا جنسه ولا وطنه ولا جاء فى السنة الصحيحة شىء من ذلك ، فلا حاجة لنا فى العظة إلى بيانه.
ولرواة التفسير بالمأثور روايات كثيرة فى شأنه.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هو رجل يدعى بلعم من أهل اليمن آتاه اللّه آياته فتركها ، وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر عن عبد اللّه بن عمرو أنه هو أمية بن أبي الصلت الثقفي ، وفى لفظ : نزلت فى صاحبكم أمية بن أبي الصلت ،
وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب قال قال : أمية بن أبي الصلت :
ألا رسول لنا منا يخبّرنا ما بعد غايتنا من رأس نجرانا
قال : ثم خرج إلى البحرين وتنبأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأقام أمية بالبحرين ثمانى سنين ، ثم قدم فلقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى جماعة من أصحابه فدعاه النبي صلى اللّه عليه وسلم وقرأ عليه (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) حتى فرغ منها فوثب أمية يجر رجليه فتبعته قريش تقول : ما تقول يا أمية قال أشهد إنه على الحق ، قالوا فهل تتبعه ؟ قال حتى أنظر فى أمره ، فخرج أمية إلى الشام وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم ، فلما أخبر بقتلى بدر ترك الإسلام ورجع ،(9/111)
ج 9 ، ص : 111
إلى الطائف فمات بها ، قال ففيه أنزل اللّه : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها).
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الشّعبى فى هذه الآية : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) قال : قال ابن عباس هو رجل من بنى إسرائيل يقال له بلعم بن باعوراء ، وكانت الأنصار تقول هو ابن الراهب الذي بنى له مسجد الشقاق ، وكانت ثقيف تقول هو أمية بن أبي الصلت.
وذكر البستاني فى دائرة المعارف العربية ملخص قصة بلعام ثم قال : وبعض مفسرى الكتاب المقدس المدققين ذهب إلى أن قصة بلعام المدرجة فى سفر العدد من الإصحاح 22 - 24 دخيلة ، وعلى الجملة فهذه الروايات الإسرائيلية لا يعتدها كما لم يعتد بها ابن جرير.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 178 الى 179]
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179)
تفسير المفردات
الذرء : لغة الخلق ، يقال ذرأ اللّه الخلق أي أوجد أشخاصهم ، والخلق : التقدير أي إيجاد الأشياء بتقدير ونظام لا جزافا ، والجن : الأحياء العاقلة المكلفة الخفيّة غير المدركة بالحواس ، والقلب يطلق أحيانا على المضغة الصنوبريّة الشكل فى الجانب الأيسر من جسد الإنسان - وأحيانا على العقل والوجدان الروحي الذي يسمونه أحيانا (بالضمير) وهو محل الحكم فى أنواع المدركات والشعور الوجدانى لما يلائم(9/112)
ج 9 ، ص : 112
أو يؤلم وهو كثير بهذا المعنى فى الكتاب الكريم : « سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ - قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ - أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ » .
وسر استعمال القلب فى هذا المعنى ما يراه الإنسان من انقباض أو انشراح حين الخوف والاشمئزاز أو حين السرور والابتهاج ، والفقه : العلم بالشيء والفهم له ، وفسره الراغب بالتوصل بعلم شاهد إلى علم غائب ، وقد استعمله القرآن فى مواضع كثيرة بمعنى دقة الفهم والتعمق فى العلم ليترتب عليه أثره وهو الانتفاع به ، ومن ثم نفاه عن الكفار والمنافقين لأنهم لم يدركوا كنهه المراد مما نفى فقهه عنهم فقاتتهم المنفعة مع العلم المتمكن من النفس.
المعنى الجملي
بعد أن أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بأن يقص قصص المنسلخ عن آيات اللّه على أولئك الضالين الذين حالهم كحاله ليتفكروا فيه ويتركوا ما هم عليه من الإخلاد إلى الضلالة ويعودوا إلى حظيرة الحق - قفى على ذلك ببيان أن أسباب الهدى والضلال ينتهيان للمستعد لأحدهما إلى إحدى الغايتين بتقدير اللّه والسير على سنته فى استعمال مواهبه وهداياته الفطرية من العقل والحواس فى أحد السبيلين كما قال : « وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ » « إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً » .
الإيضاح
(مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) أي من يوفقه اللّه لسلوك سبل الهداية باستعماله عقله وحواسه فيما خلقا له بمقتضى الفطرة وإرشاد الدين فهو المهتدى الذي شكر نعم اللّه عليه وأدى حقه عليه ففاز بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة.(9/113)
ج 9 ، ص : 113 (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ومن يخذله ويحرمه التوفيق فيتبع شيطانه وهواه ويترك استعمال عقله وحواسه فى فقه آياته وشكر ما أنعم به عليه ، فهو الكفور الضال الذي خسر سعادة الدنيا وسعادة الآخرة ، إذ هو قد خسر تلك المواهب التي كان بها إنسانا مستعد للسعادتين الدنيوية والأخروية.
ولا شك أن الهداية الإلهية نوع واحد وهو الإيمان الذي ثمرته العمل الصالح أما أنواع الضلال فلا حصر لها ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى فى سورة الأنعام :
(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).
ثم فصل سبحانه ما أجمله فى الآية السالفة مع بيان سببه فقال :
(وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي نقسم إنا قد خلقنا فى العالم كثيرا من الجن والإنس لسكنى جهنم والمقام فيها ، وخلقنا للجنة مثل ذلك بمقتضى استعداد الفريقين كما قال : « فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ » وقال : « فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ » .
ثم بين سبب كونهم معدّين لجهنم وصفاتهم المؤهلة لذلك فقال :
(لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) أي إنهم لا يفقهون بقلوبهم ما تزكو به أنفسهم من توحيد اللّه المبعد لها عن الخرافات والأوهام وعن الذلة والصغار ، فإن من يعبد اللّه وحده تسمو نفسه بمعرفته فلا تذل بدعاء غيره ولا الخوف منه ولا الرجاء فيه والاتكال عليه ، بل يطلب من اللّه ما يحتاج إليه ، فإن كان مما أقدر اللّه عليه خلقه بإعلامهم بأسبابه وتمكينهم منها طلبه بسببه مع مراعاة سننه فى خلقه ، وإن لم يكن كذلك توجه إلى اللّه لهدايته إلى العلم بما لم يعلم من سببه وإقداره على ما يقدر عليه من وسائله أو تسخير من شاء من خلقه لمساعدته عليه كالأطباء لمداواة الأمراض ، وأقوياء الأبدان لرفع الأثقال ، والعلماء الراسخين للفتوى فى المسائل العلمية وحل إشكال ما غمض من حقيقتها ، ولا يتوجه فى طلبه إلى غير ما يعرف البشر من الأسباب المطّردة كالرّقى(9/114)
ج 9 ، ص : 114
والعزائم والتبخيرات وكرامات الصالحين من الأحياء والأموات والدعاء إليهم بما يعدّ من العبادات فاللّه يقول : « فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً » ويقول : « بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ » .
كما لا يفقهون بقلوبهم الحياة الروحية واللذات المعنوية الموصلة إلى السعادة الأبدية :
« يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ » .
ولا يفقهون أن ترك الشرور والمنكرات والحرص على فعل الخيرات هو مناط السعادة فى الدنيا والآخرة ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتربية البدنية الصحيحة.
ولا يفقهون سنن اللّه فى الاجتماع وتأثير العقائد الدينية فى جمع الكلمة وقوة الجماعة ولا سيما فى عهد النبوات ورمن المعجزات ، ولا يفقهون معنى الآيات الإلهية فى الأنفس والآفاق ولا آياته التي يؤيد بها رسله من علمية وكونية وما أودعه منها كتابه.
(وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) أي وكذلك لهم أبصار وأسماع لا يوجهونها إلى التأمل والتفكر فيما يرون من آيات اللّه فى خلقه ، وفيما يسمعون من آياته المنزلة على رسله ومن أخبار التاريخ الدالة على سنته تعالى فى خلقه ، فيهتدوا بكل منها إلى ما فيه سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم.
فالآذان إنما خلقت للإنسان ليستفيد من كل ما يسمع ، والأبصار خلقت لينتفع بكل ما يبصر ، وإنما يكون ذلك بتوجيه الإرادة إلى استعمال كل منهما فيما خلق له كما قال تعالى : أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم إنّ فى ذلك لآيات أفلا يسمعون. أ ولم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون.
ولكن المسلمين وا أسفا أصبحوا أشد الناس إهمالا لاستعمال أسماعهم وأبصارهم(9/115)
ج 9 ، ص : 115
وأفئدتهم فى النظر فى آيات اللّه فى الأنفس والآفاق ، وصاروا أجهل الشعوب بالعلوم التي تعرف بها آياته فى مشاعر الإنسان وانفعالاته النفسية وقواه العقلية ، وآياته فى الحيوان والنبات والجماد والهواء والماء والبخار وسنن النور والكهرباء والعلوم الفلكية.
ومن أصاب منهم حظا من معرفتها فإنما يعرفها للانتفاع بها فى الحياة الدنيا من غير مراعاة أنها آيات دالة على أن لها ربّا خالقا مدبّرا عليما قديرا رحيما يجب أن يعبد وحده وأن يخشى ويحب فوق كل أحد ، وأن تكون معرفته منتهى كل غاية من هذه الحياة.
(أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) أي أولئك الذين اتصفوا بما ذكر من الصفات : كالأنعام من إبل وبقر وغنم ، فهم لا حظ لهم من عقولهم إلا استعمالها فيما يتعلق بمعيشتهم فى هذه الحياة ، بل هم أضل سبيلا منها ، إذ هذه لا تجنى على أنفسها بتجاوز سنن الفطرة وحدود الحاجة الطبيعية فى أكلها وشربها وجميع حاجاتها ، لكن عبيد الشهوات يسرفون فى كل ذلك إسرافا عظيما قد تتوالد منه الأمراض الكثيرة ، كما قد يجاهدون هذه الشهوات جهادا يفرّطون فيه بحقوق البدن ، فلا يعطونه ما يكفيه من الغذاء أو يقصرون فى الحقوق الزوجية فيجنون على أشخاصهم أو على النوع كله بالتفريط كما يجنى عليهما عبيد الشهوات بالإفراط ، وهداية الإسلام تحظر هذا وذاك وتوجب الأكل من الطيبات بشرط عدم الإسراف ، ولو سلك الناس مسلك الاهتداء بالقرآن فى فهم أسرار الخلق ومعرفة منافعه لاستفادوا السعادة فى معاشهم والاستعداد لمعادهم ، وأولئك هم الغافلون عما فيه صلاحهم فى الحياتين.
وهم فى الغفلة على درجات ، فمنهم الغافلون عن آيات اللّه فى الأنفس والآفاق التي تهدى العبد إلى معرفة ربه ، والغافلون عن استعمال مشاعرهم وعقولهم فى أفضل ما خلقت لأجله ، والغافلون عن ضروريات حياتهم الشخصية والقومية والدينية.
والخلاصة - إن أهل النار هم الأغبياء الجاهلون الغافلون الذين لا يستعملون(9/116)
ج 9 ، ص : 116
عقولهم فى فقه حقائق الأمور ، وأبصارهم وأسماعهم فى استنباط المعارف واستفادة العلوم ، ولا فى معرفة آيات اللّه الكونية وآياته التنزيلية ، وهما سبب كمال الإيمان والباعث النفسىّ على كمال الإسلام.
[سورة الأعراف (7) : آية 180]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180)
تفسير المفردات
الأسماء : واحدها اسم ، وهو اللفظ الدالّ على الذات أو عليها مع صفة من صفاتها ، والجنسي : مؤنث الأحسن ، فادعوه بها. أي سمّوه ونادوه بها للثناء عليه أو للسؤال وطلب الحاجات ، وذروا : اتركوا ، والإلحاد : الميل عن الوسط حسا أو معنى ، والأول هو الأصل فيه ، ومنه لحد القبر : وهو ما يحفر فى جانب القبر مائلا عن وسطه وألحد السهم الهدف : أي مال فى أحد جانبيه ولم يصب وسطه ، ومن الثاني ألحد فلان :
مال عن الحق ، سيجزون أي سيلقون جزاء عملهم.
المعنى الجملي
بعد أن بين عز اسمه فى الآية السالفة أن المخلوقين لجهنم لم يستعملوا عقولهم ومشاعرهم فى الاعتبار بالآيات والتفقه فى تزكية أنفسهم بالعلم النافع ، فأورثهم ذلك الإهمال الغفلة التامة عن صلاح أنفسهم بذكر اللّه وشكره والثناء عليه بما هو أهله من صفات الكمال - قفّى على ذلك بذكر الدواء لتلك الغفلة والوسائل التي تخرج إلى ضدها وهى ذكر اللّه ودعاؤه فى السر والعلن بكرة وعشيا.(9/117)
ج 9 ، ص : 117
الإيضاح
(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) أي وللّه دون غيره جميع الأسماء الدالة على أحسن المعاني وأكمل الصفات ، فاذكروه ونادوه بها إما للثناء عليه نحو : « اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ » ونحو : « هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ » وإما لدى السؤال وطلب الحاجات.
وللذكر فوائد : منها تغذية الإيمان ، ومراقبة اللّه تعالى والخشوع له والرغبة فيما عنده ، واحتقار آلام الدنيا ، وقلة المبالاة بما يفوت المؤمن من نعيمها ، ومن ثم
جاء فى الحديث « من نزل به غمّ أو كرب أو أمر مهمّ فليقل لا إله إلا اللّه العظيم الحليم ، لا إله إلا اللّه رب العرش العظيم لا إله إلا اللّه رب السموات والأرض ورب العرش الكريم » رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
وروى الحاكم فى المستدرك عن أنس رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لفاطمة « ما يمنعك أن تسمعى ما أوصيك به ؟ أن تقولى إذا أصبحت وإذا أمسيت يا حىّ يا قيّوم برحمتك أستغيث ، أصلح لى شأنى ، ولا تكلنى إلى نفسى طرفة عين » .
وأسماء اللّه كثيرة ، وكلها حسنى لدلالة كل منها على منتهى كمال معناه وتفضيلها على ما يطلق منها على المخلوقين : كالرحيم والحكيم والحفيظ والعليم.
وروى الشيخان من حديث أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « إن للّه تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة »
وفى رواية له : « إن للّه تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة ، وإن اللّه وتر يحب الوتر »
وقد سرد الأسماء التسعة والتسعين الترمذي والحاكم من طريق الوليد بن مسلم قال :
« هو اللّه الذي لا إله إلا هو : الرحمن الرحيم الملك. القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن.
العزيز. الجبار. المتكبر. الخالق. البارئ. المصور. الغفّار. القهار. الوهاب. الرزاق. الفتاح.
العليم. القابض. الباسط. الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع. البصير. الحكم. العدل(9/118)
ج 9 ، ص : 118
اللطيف. الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلى. الكبير. الحفيظ.
المقيت. الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود.
المجيد. الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوى. المتين. الولي. الحميد. المحصى.
المبدئ. المعيد. المحيي. الميت. الحي. القيوم. الواجد. الماجد. الواحد. الصمد.
القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن. الوالي. المتعالي.
البر. التواب. المنتقم. العفو. الرءوف. مالك الملك. ذو الجلال والإكرام.
المقسط. الجامع. الغنى. المغني. المانع. الضار. النافع. النور. الهادي. البديع.
الباقي. الوارث. الرشيد. الصبور » .
وقد اختلف المحدّثون فى سرد هذه الأسماء هل هو مرفوع أو مدرج فى الحديث من بعض الرواة ؟ والثاني هو الراجح ومن ثم لم يخرّجه الشيخان لتفرد الوليد به واحتمال الإدراج كما قاله الحافظ ابن حجر فى الفتح.
(وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) أي ادعوه أيها المؤمنون واتركوا جميع الذين يلحدون فى أسمائه بالميل بألفاظها أو معانيها عن نهج الحق الوسط إلى متفرّق السبل من تحريف أو تأويل أو شرك أو تكذيب أو زيادة أو نقصان أو ما ينافى وصفها بالحسنى كأن يوصف بما لا يصح وصفه به أو تتأول أوصافه على ما لا يليق به.
ثم بين العلة فى تركهم فى خوضهم يلعبون فقال :
(سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لأنهم سيلقون جزاء عملهم وتحل بهم العقوبة فى الدنيا قبل الآخرة ، فاجتنبوا إلحادهم كيلا يصيبكم مثل ما يصيبهم.
والإلحاد ضربان : إلحاد إلى الشرك باللّه وهو ينافى الإيمان ويبطله ، وإلحاد إلى الشرك بالأسباب كأن ينظر إليها مع الغفلة عن كونها من خلق اللّه وتسخيره أو يعتقد أنها مؤثرة بذاتها لا بفعله تعالى ، وهذا يوهن عرا الإيمان ولا يبطله.
والخلاصة - إن الإلحاد فى أسمائه الحسنى أقسام :
(1) تسميته تعالى بما لم يسمّ به نفسه فى كتابه أو ما صح من حديث رسوله صلى اللّه عليه وسلم(9/119)
ج 9 ، ص : 119
فقد اتفق أهل الحق على أن أسماءه وصفاته تعالى توقيفية : أي تحتاج إلى إذن من الشارع لصحة إطلاقها عليه تعالى ، وكل ما ورد فى الكتاب والأحاديث الصحيحة دعاء ووصفا له وإخبارا عنه يصح إثباته له ، ويمنع كل ما دلت على منعه ، قال فى الكشاف كقول أهل البدو : يا أبا المكارم ، يا أبيض الوجه ، يا سخى.
(2) ترك تسميته بما سمى به نفسه أو وصفها به أو ترك إسناد ما أسنده تعالى إلى نفسه من الأفعال بناء على أن ذلك لا يليق به تعالى أو أنه يوهم نقصا فى حقه كأن هؤلاء الملحدين أعلم منه ومن رسوله صلى اللّه عليه وسلم بما يليق به وما لا يليق.
(3) تغيير أسمائه بوضعها لغيره مما عبد من دونه كاللات والعزّى.
(4) تحريف أسمائه وصفاته تعالى عما وضعت له بضرب من التأويل ، فقد ذهب جماعة من المسلمين إلى جعل الرب القدوس الذي ليس كمثله شى ء - كرجل من خلقه لأنه تعالى وصف نفسه بصفات يدل مجموعها على ذلك : كالسمع والبصر والكلام والوجه واليد والرجل والضحك والرضا والغضب ، وذهب آخرون إلى تأويل جميع صفاته تعالى حتى جعلوها كالعدم.
(5) إشراك غيره فيما هو خاص به من أسمائه باللفظ كاسم الجلالة (اللّه) والرحمن ورب العالمين ، وما فى معناه كرب السماء والأرض أو رب الكعبة أو رب البيت (الكعبة) كما قال : َلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ »
.
(6) إشراك غيره فى كمال أسمائه كمن يزعم أو يعتقد أن لغيره رحمة كرحمته ورأفة كرأفته وغير ذلك من معانى أسمائه كالمجيب مثلا كما قال تعالى : « وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ » .
وبعض الذين يدعون غير اللّه تعالى من الموتى يعتقدون أنهم أسرع وأقرب فى إجابتهم من اللّه تعالى فيجمعون بذلك بين شركين : شرك دعاء غير اللّه مع اعتقاد(9/120)
ج 9 ، ص : 120
إجابته للدعاء ، وشرك الكفر به بتفضيل غيره عليه سبحانه فى سرعة الإجابة مع أن اللّه يقول : « أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ » أي لا يجيب المضطر إلا هو فهو المستحق وحده للعبادة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 181 الى 186]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
تفسير المفردات
الاستدراج : إما مأخوذ من درج الكتاب والثوب وأدرجه : إذا طواه ، وإما : من الدرجة وهى المرقاة ، فعلى الأول سنستدرجهم : أي سنطويهم طىّ الكتاب ونغفل أمرهم كما قال : « وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا » وعلى الثاني سنأخذهم درجة بعد درجة بإدنائهم من العذاب شيئا فشيئا كالمراقى والمنازل فى ارتقائها ونزولها ، والإملاء : الإمداد فى الزمن والإمهال والتأخير من الملوة والملاوة ، وهى الطائفة الطويلة من الزمن ، والملوان : الليل والنهار والكيد كالمكر : هو التدبير الذي يقصد به غير ظاهره بحيث ينخدع المكيد بمظهره فلا يفطن له حتى ينتهى إلى ما يسوءه ، وأكثره احتيال مذموم ، ومنه ما هو محمود يقصد به المصلحة : ككيد يوسف لأخذ(9/121)
ج 9 ، ص : 121
أخيه الشقيق من إخوته لأبيه برضاهم ومقتضى شريعتهم ، والمتين : القوى الشديد ، والجنة (بالكسر) نوع من الجنون. والإنذار : التعليم والإرشاد المقترن بالتخويف من مخالفته ، والملكوت : الملك العظيم ، وملكوت السموات والأرض : مجموع العالم ، والحديث : كلام اللّه وهو القرآن ، والطغيان تجاوز الحد فى الباطل والشر من الكفر والفجور والظلم : والعمه. التردد فى الحيرة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه ذرأ لجهنم كثيرا من الثقلين. الجن والإنس وأبان أهمّ أسباب ذلك ، وهى أن هؤلاء أفسدوا فطرتهم بإهمال مواهبهم من العقل والحواس ، ثم أرشدنا إلى ما يصلح الفطرة من دعائه بأسمائه الحسنى ، قفّى على ذلك ببيان وصف أمة الإجابة وثنّى ، بذكر المكذبين من أمة الدعوة ، وثلّث بتفنيد ما عرض لهم من الشبهة ، ثم أرشد إلى التفكر الموصّل إلى الفقه فى الأمور ومعرفة الحقائق ، وإلى النظر الهادي إلى الحجة ، والبرهان الموصل إلى معرفة صدق الرسول ، ثم ختمها ببيان عدم الطمع فى هداية من قضت سنة اللّه بضلاله وتركه يعمه فى طغيانه.
الإيضاح
(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) أي وبعض ممن خلقنا جماعة كبيرة مؤلفة من شعوب وقبائل كثيرة ، يهدون بالحق ويدلّون الناس على الاستقامة ، وبالحق يحكمون فى الحكومات التي تجرى بينهم ولا يجورون ، فسبيلهم واحدة ، لأن الحق واحد لا يتعدد ، وهؤلاء هم أمة محمد عليه الصلاة والسلام.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج فى قوله تعالى « وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ » قال : ذكر لنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال « هذه أمتى ، بالحق يحكمون ويقضون ، ويأخذون ويعطون » .(9/122)
ج 9 ، ص : 122
و
أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة فيها قال : بلغنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقول إذا قرأها. وهذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ).
وأخرج أبو الشيخ عن على بن أبي طالب قال : لتفترقنّ هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها فى النار إلا فرقة ، يقول اللّه (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) فهذه هى التي تنجو من هذه الأمة ا ه.
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي والذين كذبوا بآيات اللّه سندعهم يسترسلون فى غيهم وضلالهم ولا يدرون شيئا من عاقبة أمرهم ، لجهلهم سنن اللّه فى المنازعة بين الحق والباطل وأن الحق يدفع الباطل ، وما ينفع الناس يتغلّب على ما يضرهم كما قال تعالى بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق وقال : « فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ » .
وقد صدق اللّه وعده ، فقد كان كفار قريش وصناديدها يبالغون فى عداوة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، اغترارا بكثرتهم وثروتهم لا يعتدّون به ولا بغيره ممن آمن به أوّلا وأكثرهم من الضعفاء الفقراء ، فما زالوا يتدرّجون فى عداوتهم له وقتالهم إياه حتى أظهره اللّه تعالى عليهم فى غزوة بدر فلم يعتبروا ، ثم زادهم غرورا تغلّبهم عليه آخر معركة أحد حتى قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر - إلى أن كان الفتح الأعظم : فتح مكة فأظهر رسوله صلى اللّه عليه وسلم ومن اتبعه عليهم من حيث لا يعلمون سنته تعالى.
وأثر عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال لما حملت إليه كنوز كسرى : اللهم إنى أعوذ بك أن أكون مستدرجا فأنى سمعتك تقول (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ).
(وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي وأمهل هؤلاء المكذبين المستدرجين فى العمر وأمدّ لهم فى أسباب المعيشة والتدرب على الحرب بمقتضى سننى فى نظام الاجتماع البشرى(9/123)
ج 9 ، ص : 123
كيدا لهم ومكرا بهم لا حبّا فيهم ونصرا لهم كما قال تعالى : « فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ، أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ » وروى الشيخان من حديث أبي موسى : « إن اللّه ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته » .
وخلاصة ذلك - إن سنة اللّه قد مضت فى الأمم والأفراد بأن يكون عقابهم بمقتضى الأسباب التي قام بها نظام الخلق ، فالظالم إذا لم ينزل به العقاب عقب ظلمه ازداد بغيا وظلما ولا يحسب للعواقب حسابا فيسترسل فى ظلمه إلى أن تحيق به عاقبة ظلمه فى الدنيا يأخذ الحكام له أو بوقوعه فى المصايب والمهالك ، وله فى الآخرة عذاب النار وبئس القرار.
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ؟ ) أي أكذبوا الرسول ولم يتفكروا فى حاله من بدء نشأته وفى حقيقة دعوته ، ودلائل رسالته ، وآيات وحدانية اللّه وقدرته على إعادة خلقه كما بدأهم ؟
إنهم إن تفكروا فى ذلك مليا أو شكوا أن يعرفوا الحق ، وما الحق إلا أن صاحبهم ليس به جنة ، وقد حكى الكتاب الكريم عنهم أنهم رموه بالجنون كقوله فى كفار مكة : « أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ، أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ » وقوله : « وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ، لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ » وقوله : « وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ »
وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال :
ذكر لنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قام على الصفا فدعا قريشا فخذا فخذا : يا بنى فلان ، يا بنى فلان ، يحذرهم بأس اللّه ووقائع اللّه إلى الصباح حتى قال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون : بات يهوّت (يصيح) حتى أصبح. فأنزل اللّه : « أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا(9/124)
ج 9 ، ص : 124
ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ »
.
وقد جرت عادة الكفار أن يرموا رسلهم بالجنون ، لأنهم ادعوا أن اللّه خصهم برسالته ووحيه على كونهم بشرا كغيرهم لا يمتازون من سائر الناس بزعمهم ، ولأنهم ادعوا مالم يعهد له نظير عندهم ، فقد حكى اللّه عن قوم نوح أنهم اتهموه بالجنون فقالوا : « إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ » وقال فى شأنهم :
«
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ » وقال حكاية عن فرعون فى موسى عليه السلام : « قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ » وقد بين سبحانه ذلك على وجه عام فقال : « كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ » .
(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنه ليس بمجنون بل هو منذر ناصح ومبلّغ عن اللّه ، فهو ينذركم ما يحل بكم من عذاب الدنيا والآخرة إذا لم تستجيبوا له ، وقد دعاكم إلى ما فيه صلاحكم فى الدنيا بجمع الكلمة وصلاح حال الفرد والمجتمع والسيادة على من سواكم وصلاحكم فى الآخرة بلقاء ربكم وأنتم فى جنات النعيم.
والتعبير عنه صلى اللّه عليه وسلم (بِصاحِبِهِمْ) لتذكيرهم بأنهم يعرفونه من أول نشأته إلى أن تجاوز الأربعين من عمره ، فما عليهم إلا أن يتفكروا فى سيرته ليعلموا أنه ليس من دأبه الكذب ولا هو مما عهد عنه كما شهد بذلك بعض زعمائهم فقال ، إن محمدا لم يكذب قط على أحد من الناس ، أ فيكذب على اللّه ؟ ومن ثم قال تعالى فى أولئك الزعماء : « فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ » .
ولو تأمل مشركو مكة فى نشأته صلى اللّه عليه وسلم وما جرّبوا من أمانته وصدقه إلى أن اكتهل ثم تفكروا فيما قام يدعوهم إليه من توحيد اللّه وعبادته وحده ، وما دعاهم إليه من إصلاح فى حالهم الدينية والمدنية والاجتماعية لعلموا أن هذا كله لا يصدر من مجنون ، بل الذي يقتضيه العقل ويسرع إليه الفكر أن هذا ليس من رأى ذلك النبي الأمى الناشئ بين الأميين ، وأن ما أقامه من الحجج والبراهين العقلية والكونية على(9/125)
ج 9 ، ص : 125
ما يدّعى لا يصدر ممن لم يناظر ولم يفاخر ولم يجادل أحدا فيما مضى ، إن هو إلا وحي من اللّه ألقاه فى روعه ونزل من لدنه على روح القدس ، واللّه يختص بفضله ورحمته من يشاء وهو ذو الفضل العظيم.
(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) أي أ كذّبوا الرسول الذي علموا صدقه وأمانته وقالوا إنه مجنون ، وهو الذي شهر لديهم بالروية والعقل ، ولم ينظروا نظرة تأمل واستدلال فى هذا الملكوت العظيم من السموات والأرضين ، فيروا ذلك النظام البديع فيهما وفى كل ما خلق اللّه ، وإن دق وصغر ، إنهم لو تأملوا فى كل ذلك لرأوا آثار قدرته وعلمه ، وفضله ورحمته وأنه لم يخلق شيئا من ذلك عبثا ، ولا ترك الناس سدى.
إن كل ذرة فيهما لدليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح إلى التوحيد.
وفى كل شىء له آية تدل على أنه واحد
إنهم لو نظروا فى شىء من ملكوت السموات والأرض لاهتدوا بدلائله إلى تصديق الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، كذلك لو نظروا فى توقع قرب أجلهم ، وقدومهم على ربهم بسوء عملهم ، لا حتاطوا لأنفسهم ، ورأوا أن من الحكمة أن يقبلوا إنذاره صلى اللّه عليه وسلم لهم ، فما جاءهم به لا ينكرون أنه خير لهم فى الدنيا وخير لهم فى الآخرة إذا صدق ما يقرره من أمر البعث والجزاء ، وهو صدق وحق لا شك فيه.
(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ؟ ) أي فبأى حديث بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به ، وهو أكمل كتب اللّه بيانا ، وأقواها برهانا ، فمن لم يؤمن به فلا مطمع فى إيمانه بغيره.
(مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ) أي إن اللّه قد جعل هذا الكتاب أعظم أسباب الهداية للمتقين لا للجاحدين المعاندين وجعل الرسول المبلغ له أقوى الرسل برهانا وأكملهم عقلا ، وأجملهم أخلاقا ، فمن فقد الاستعداد للإيمان بهذا الكتاب وهذا الرسول فهو الذي(9/126)
ج 9 ، ص : 126
أضله اللّه : أي هو الذي قضت سنته فى خلق الإنسان وارتباط أعماله بأسباب تترتب عليها مسبباتها ، بأن يكون ضالّا راسخا فى الضلال ، وإذا كان ضلاله بمقتضى تلك السنن فمن يهديه من بعد اللّه ؟ ولا قدرة لأحد من خلقه على تغيير تلك السنن وتبديلها.
(وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي وهو جلت قدرته يترك هؤلاء الضالين فى طغيانهم يترددون حيرة ولا يهتدون سبيلا للخروج مما هم فيه ، بما كسبت أيديهم من الطغيان وتجاوز الحد فى الظلم والفجور.
والخلاصة - إنه ليس معنى إضلال اللّه لهم أنه أجبرهم على الضلال ، وأعجزهم بقدرته عن الهدى ، فكان ضلالهم جبرا لا اختيارا ، بل المراد أنهم لما مرنت قلوبهم على الكفر والضلال وأسرفوا فيهما حتى وصلوا إلى حد العمه فى الطغيان ، فقدوا بهذه الأعمال الاختيارية ما يضادها من الهدى والإيمان فأصبحت نفوسهم لا تستنير بالهدى وقلوبهم لا ترعوى لدى الذكرى : « كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ »
[سورة الأعراف (7) : آية 187]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187)
تفسير المفردات
الساعة لغة : جزء قليل غير معين من الزمن ، وعند الفلكيين : جزء من أربع وعشرين جزءا متساوية يضبط بآلة تسمى (الساعة) وقد كان ذلك معروفا عند العرب
فقد جاء فى الحديث « يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة »
وقد تطلق بمعنى الوقت الحاضر(9/127)
ج 9 ، ص : 127
وبمعنى الوقت الذي تقوم فيه القيامة ، وأكثر استعمال (ساعة) بدون أل فى الكتاب الكريم بمعنى الساعة الزمانية ، وبأل بمعنى الساعة الشرعية ، وهى ساعة خراب العالم وموت أهل الأرض جميعا ، وجاء المعنيان فى قوله تعالى : « وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ. ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ » والغالب التعبير بيوم القيامة عن يوم البعث والحشر الذي يكون فيه الحساب والجزاء والتعبير بالساعة عن الوقت الذي يموت فيه الأحياء فى هذا العالم ويضطرب نظامه ، فالساعة مبدأ ، والقيامة غاية ، وأيان : بمعنى متى ، فهى للسؤال عن الزمان ، ومرساها : أي إرساؤها وحصولها واستقرارها ، ويقال رسا الشيء يرسو : إذا ثبت وأرساه غيره ، ومنه إرساء السفينة وإيقافها بالمرساة التي تلقى فى البحر فتمنعها من الجريان كما قال تعالى : « بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها » وجلّى فلان الأمر تجلية : أظهره أتم الإظهار ، ولوقتها : أي فى وقتها كما يقال كتبت هذا لغرة رمضان : أي فى غرته ، وبغتة فجأة من غير توقع ولا انتظار ، وحفىّ من قولهم : أحفى فى السؤال ألحف ، وهو حفّى عن الأمر : بليغ فى السؤال عنه واستحفيته عن كذا :
استخبرته على وجه المبالغة ، وتحفى بك فلان : إذا تلطف بك وبالغ فى إكرامك.
المعنى الجملي
بعد أن أرشد تعالت أسماؤه من كانوا فى عصر التنزيل وعصر نزول السورة إلى النظر والتفكر فى اقتراب أجلهم بقوله : « وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ » قفّى على ذلك بالإرشاد إلى النظر والتفكر فى أمر الساعة التي ينتهى بها أجل جميع الناس.
والخلاصة - إن هذا كلام فى الساعة العامة بعد الكلام فى الساعة الخاصة بكل فرد وهى انتهاء أجله.
الإيضاح
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) أي يسألونك أيها الرسول عن الساعة - يقولون متى إرساؤها واستقرارها ، والسائلون هم قريش ، لأن السورة مكية ولم يكن(9/128)
ج 9 ، ص : 128
فى مكة أحد من اليهود ، وسؤالهم عن هذا الوقت استبعاد منهم لوقوعه وتكذيب بوجوده كما جاء حكاية عنهم : « وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » وقال تعالى : « يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ، أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ » .
وفى التعبير عن زمن وقوعها بالإرساء الدال على استقرار ما شأنه الحركة والاضطراب إيماء إلى أن قيام الساعة هو انتهاء أمر هذا العالم وانقضاء عمر هذه الأرض التي تدور بما فيها من العوالم المتحركة المضطربة.
(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي قل لهم إن علم الساعة عند ربى وحده لا عندى ولا عند غيرى من الخلق ، وقد جاء بمعنى الآية قوله : إليه يردّ علم السّاعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها » وقوله « يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها. فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ؟ إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها » .
وفى قوله عند ربى إشارة إلى أن ما هو من شأن الرب لا يكون للعبد ، فاللّه قد أعد نبيه ليكون منذرا ومبشرا ، والإنذار إنما يكون بالساعة وأهوالها ، لا للإخبار عن الغيوب بأعيانها وأوقاتها ، إذ تحديد ذلك ينافى هذه الفائدة بل فيه مفاسد ، إذ لو وقّت الرسول ميعاد الساعة بتاريخ معين لاستهزأ به المكذبون ، ولألحوا فى تكذيبه وازدادوا ارتيابا ، حتى إذا ما وقع الأجل وقع المؤمنون فى رعب عظيم ينغّص عليهم حياتهم ويشنج أعصابهم ، فلا يستطيعون عملا ولا يسيغون طعاما ولا شرابا ، وسخر الكافرون من المؤمنين ، وقد حدث أن أخبر بعض رجال الكنيسة فى أوربة أن القيامة ستكون فى سنة كذا فهلعت القلوب ، واختلت الأعمال ، وأهمل أمر العيال ، ولم تهدأ النفوس إلا بعد أن ظهر كذب النبأ.(9/129)
ج 9 ، ص : 129
والخلاصة - إنّ هناك حكمة بالغة فى إبهام أمر الساعة للعالم ، والساعة الخاصة بالأفراد والأمم والأجيال ، يجعلها من الغيب الذي استأثر اللّه تعالى به.
(لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) أي لا يكشف حجاب الخفاء عنها ، ولا يظهرها فى وقتها المحدود عند اللّه تعالى إلا هو إذ لا وساطة بينه وبين عباده فى إظهارها ، ولا الإعلام بميقاتها ، وإنما وساطة الرسل فى الإنذار بها.
(ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ثقل وقتها وعظم أمرها فى السموات والأرض على أهلهما من الملائكة والإنس والجن ، لأن اللّه أنبأهم بأهوالها ولم يشعرهم بميقاتها ، فهم دائما يتوقعون أمرا عظيما لا يدرون متى يفجؤهم وقوعه.
وقال السدى : خفيت فى السموات والأرض فلا يعلم قيامها ملك مقرّب ، ولا نبى مرسل. وقال ابن عباس ليس شىء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة.
وروى عن ابن جريج أن ثقلها يكون يوم مجيئها (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) إلى نحو ذلك مما وصفه اللّه تعالى من أمر قيامها.
(لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) أي لا تأتيكم إلا فجأة وعلى حين غفلة بلا إشعار ولا إنذار ، وقد جاء فى الصحيحين عن أبي هريرة « ولتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما يتبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة وهو يليط - يطلى حجارته بجصّ ونحوه ليمسك الماء - حوضه فلا يسقى فيه ، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فيه فلا يطعمها » والمراد من كل هذا أنها تبغت الناس وهم منهمكون فى أمور معايشهم ، فيجب على المؤمنين أن يخافوا ذلك اليوم ، وأن يحملهم ذلك على مراقبة اللّه تعالى فى أعمالهم بأن يلتزموا فيها الحق ويتحرّوا الخير ، ويتقوا الشر والمعاصي ولا يجعلوا حظهم من أمر الساعة ، الجدل فيها وكثرة القيل والقال فى شأنها وفى تعيين ميقاتها.
(يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) أي يسألونك كأنك حفىّ مبالغ فى سؤال ربك عنها.(9/130)
ج 9 ، ص : 130
وقد يكون المعنى : يسألونك عنها كأنك حفىّ بهم ، وبينك وبينهم مودة وكأنك صديق لهم ، ويؤيد هذا ما
روى عن ابن عباس قال : لما سأل الناس النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الساعة - سألوه سؤال قوم كأن محمدا حفىّ بهم ، فأوحى اللّه إليه - إنما علمها عنده استأثر به فلا يطلع عليه ملكا مقرّبا ولا رسولا.
وما
روى عن قتادة قال : قالت قريش لمحمد صلى اللّه عليه وسلم : إن بيننا وبينك قرابة ، فأشر إلينا متى الساعة ؟
فقال اللّه عز وجل يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها » .
(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ) هذا تكرار للجواب إثر تكرير السؤال مبالغة فى التأكيد ، وإيئاس لهم من العلم بوقت مجيئها وتخطئة لمن يسألون عنه.
وعبر هنا بلفظ الجلالة (اللَّهِ) إشارة إلى أنه استأثر بعلم هذا لذاته ، كما أشعر ما قبله بأنه من شئون ربوبيته ، وكلاهما مستحيل على خلقه.
(وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يعلمون اختصاص علمها به تعالى ولا حكمة ذلك ولا أدب السؤال ولا نحو ذلك مما ينبغى أن يعلم فى هذا الباب ، وإنما يعلم ذلك القليلون ، وهم المؤمنون بما جاء فى كتاب اللّه من أخبارها وبما سمع من رسوله صلى اللّه عليه وسلم كمن حضروا تمثل جبريل عليه السلام بصورة رجل وسؤاله النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان ، ثم عن الساعة ، وإجابة النبي صلى اللّه عليه وسلم له عن سؤاله الأخير
بقوله. « ما المسئول عنها بأعلم من السائل »
أي إنا سواء فى جهل هذا الأمر فلا يعلم أحد منا متى تقوم الساعة.
قال الآلوسى : وإنما أخفى سبحانه أمر الساعة لاقتضاء الحكمة التشريعية ذلك ، فإنه أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية ، كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك وظاهر الآيات أنه عليه السلام لم يعلم وقتها ، نعم علم عليه الصلاة والسلام قربها على الإجمال وأخبر به
فقد أخرج الترمذي وصححه أنس مرفوعا « بعثت أنا والساعة كهاتين ،(9/131)
ج 9 ، ص : 131
وأشار بالسبابة والوسطى »
وفى الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا أيضا « إنما أجلكم فيمن مضى قبلكم من الأمم من صلاة العصر إلى غروب الشمس » ا ه.
عمر الدنيا
ألف السيوطي رسالة سماها : (الكشف ، عن مجاوزة هذه الأمة الألف) أخرج فيها عدة أحاديث فى أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة ، وأن مدة هذه الأمة تزيد على ألف ولا تبلغ الزيادة خمسمائة سنة ، وسمى بعضهم الألف الثانية بالألف المخضرمة ، لأن نصفها دنيا ونصفها الآخر أخرى :
ولا شك أن ما جاء فى هذا الباب كله مأخوذ من الإسرائيليات التي كان يبثها زنادقة اليهود والفرس فى المسلمين حتى رووه مرفوعا ، وقد اغتر بها من لا ينظر فى نقد الروايات إلا من جهة أسانيدها ، وقد هدمها الزمان وهدم كثيرا مثلها من الأوهام والخرافات التي أريد بها الكيد للإسلام.
والخلاصة - إن القول بتعيين مدة الدنيا من أولها إلى آخرها بسبعة آلاف لم يثبت فى نص يعتمد عليه ، وإن كانت قد رويت عنه آثار عن السلف أكثرها مأخوذ عن أهل الكتاب وفى أسانيدها مقال.
وعلماء طبقات الأرض (الجيلوجيا) فى هذا العصر يجزمون بأن عمر الدنيا الماضي يعدّ بألوف ألوف السنين بناء على ما عرف بالحفر فى طبقات الأرض ، وبناء على ما وجد من آثار للبشر منذ مئات الألوف من السنين ، وذلك ينقض ما جاء فى سفر التكوين من التوراة ، ولا ينقض من القرآن شيئا : وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً » ولا من الأحاديث القطعية التي لا شبهة فيها للدسائس الإسرائيلية ولا للمكايد الفارسية المجوسية.
قال ابن حزم المتوفّى سنة 456 : أما نحن فلا نقطع على علم عدد معروف عندنا.(9/132)
ج 9 ، ص : 132
ومن ادعى فى ذلك سبعة آلاف سنة ، أو أكثر أو أقل فقد قال مالم يأت قط عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيه لفظة تصح بل صح عنه خلافه ، بل نقطع على أن للدنيا أمدا لا يعلمه إلا اللّه تعالى. قال اللّه سبحانه « ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ »
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « ما أنتم فى الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء فى الثور الأسود ، أو كالشعرة السوداء فى الثور »
الأبيض وهذه نسبة من تدبرها وعرف مقدار عدد أهل الإسلام ونسبة ما بأيديهم من معمور الأرض وأنه الأكبر ، علم أن للدنيا أمدا لا يعلمه إلا اللّه ا ه.
وعلى الجملة فبطلا الإسرائيليات وينبوع الخرافات فى تحديد عمر الدنيا : هما كعب الأحبار ووهب بن منبّه ، وقد جعلاه ستة آلاف وهو فى التوراة سبعة آلاف غشا للمسلمين.
أشراط الساعة وأماراتها
الأشراط : واحدها شرط كأسباب وسبب وهى العلامات والأمارات الدالة على قربها ، وقد ثبت فى الكتاب والسنة أن للساعة أشراطا كما قال تعالى : « فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ، فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها ، فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ » ومن أعظم أشراطها بعثة خاتم النبيين بآخر هداية الوحى الإلهى للناس أجمعين ، فبعثته قد كمل بها الدين وبكماله تكمل الحياة البشرية الروحية ، ويتلوها كمال الحياة المادية ، وما بعد الكمال إلا الزوال.
وقد وردت أحاديث فى أشراط الساعة يدل بعضها على أن الشهوات المادية تتنازع مع الهداية الروحية فيكون لها الغلب زمنا ثم تنتصر الهداية الروحية ثم يغلب الضلال والشر والفجور والكفر حتى تقوم الساعة على شرار الخلق.
وقد قسموا أشراطها ثلاثة أقسام :(9/133)
ج 9 ، ص : 133
(1) ما وقع بالفعل منذ قرون خلت كقتال اليهود ، وفتح بيت المقدس والقسطنطينية.
(2) ما وقع بعضه وهو لا يزال فى ازدياد كالفتن والفسوق وكثرة الزنا وكثرة الدجالين وكثرة النساء وتشبههن بالرجال والكفر والشرك حتى فى بلاد العرب.
(3) ما سيقع بين يدى الساعة من العلامات الصغرى والكبرى.
المهدى المنتظر
أشهر الروايات أن اسمه محمد بن عبد اللّه ، والشيعة يقولون إنه محمد بن الحسن العسكري ، ويلقبونه بالحجة والقائم والمنتظر ، ويقولون إنه دخل السرداب فى دار أبيه فى مدينة (سرّ من رأى) التي تسمى الآن (سامرّا) سنة 265 وله من العمر تسع سنين وأنه لا يزال فى السرداب حيا ، وزعمت الكيسانية أنه محمد بن الحنفية وأنه حىّ مقيم بجبل رضوى (جبل بالمدينة) بين أسدين يحفظانه وعنده عينان نضاختان تفيضان عسلا ولبنا ومعه أربعون من أصحابه.
والمشهور فى نسبه أنه علوى فاطمى من ولد الحسن ، وهناك رواية مصرحة بأنه من ولد العباس ،
فقد روى الرافعي عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال للعباس : « أ لا أبشرك يا عم ؟ إن من ذريتك الأصفياء ، ومن عترتك الخلفاء ، ومنك المهدى فى آخر الزمان ، به ينشر اللّه الهدى ويطفئ نيران الضلالة ، إن اللّه فتح بنا هذا الأمر وبذريتك يختم » ،
ومن حديث ابن عساكر عنه مرفوعا « اللهم انصر العباس وولد العباس (ثلاثا) يا عمّ أما علمت أن المهدى من ولدك موفّقا مرضيّا »
وفى معناهما أحاديث أخرى لأبى هريرة وأم سلمة وعلىّ.
وأكثر العلماء ينكرون هذه الأحاديث ويقولون إنها موضوعة لا نصيب لها من الصحة ، ومن ثم لم يعتدّ بها الشيخان ، ومن هؤلاء ابن خلدون فقد ذكر الأحاديث التي وردت فى المهدى وضعفها وضعف أسانيدها وانتهت به خاتمة المطاف إلى أنه لم يصح(9/134)
ج 9 ، ص : 134
فيه شىء يوثق به - إلى أن قال : إن للّه سننا فى الأمم والدول والعمران ، مطردة فى كل زمان ومكان ، كما ثبت فى مصحف القرآن وصحف الأكوان ، ومنها أن الدول لا تقوم إلا بعصبية ، وأن الأعاجم قد سلبوا العصبية من قريش والعترة النبوية ، فإن صحت أخبار هذا المهدى فلا يظهر إلا بعد تجديد عصبية هاشمية علوية ولو سمعوا وعقلوا لسعوا وعملوا ولكان استعدادهم لظهور المهدى بالاهتداء بسنن اللّه رحمة لهم تجاه ما كانوا فى أخباره من الفتن والنقم فيهم ، وربما أغناهم عن بعض ما يروّجون من زعمامته إن لم يغنهم عنه كله.
هذا ، والمسلمون لا يزالون يتكلون على ظهور المهدى ويزعم دهماؤهم أنه سينقض لهم سنن اللّه أو يبدّلها تبديلا وهم يتلون قوله تعالى : « فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا » فإذا كان من أشراط الساعة آيات وكان فى زمانها خوارق عادات فهل يضرهم أن تأتيهم وهم على هدى من ربهم وإقامة لشرعهم فى عزة وسلطان فى أرضهم ؟ ... وكان لكعب الأحبار جولة واسعة فى تلفيق تلك الأخبار ا ه.
وقد كانت هذه المسألة أكبر مثارات الفساد والفتن فى الشعوب الإسلامية ، إذ تصدّى كثير من محبى الملك والسلطان ومن أدعياء الولاية لدعوى المهدوية فى الشرق والغرب وتأييد دعواهم بالقتال والحرب وبالبدع والإفساد فى الأرض حتى خرج ألوف الألوف من هداة الدين ومرقوا من الإسلام.
وقد كان من حصافة الرأى أن يكون خروج المهدى باعثا لهم على الاستعداد لظهوره بتأليف عصبة قوية بزعامته تجدد الإسلام وتنشر العدل فى الأنام ، لكنهم لم يفعلوا بل تركوا ما يجب من حفظ سلطان الملة يجمع كلمة الأمة ، وبإعداد ما استطاعوا من حول وقوة ، واتكلوا على قرب ظهور المهدى ، وأنه هو الذي سيردّ إليهم ملكهم بالكرامات وخوارق العادات لا بالمدافع والدبابات ، والطيارات والقاذفات ، والأساطيل(9/135)
ج 9 ، ص : 135
والغواصات ، وقد فاتهم أن الحرب كانت بين النبي صلى اللّه عليه وسلم وبين المشركين سجالا ، وكان المؤمنون ينفرون منه خفافا وثقالا ، فهل يكون المهدى أهدى منه أعمالا ، وأحسن منه حالا ومآلا.
[سورة الأعراف (7) : آية 188]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
تفسير المفردات
الغيب قسمان : حقيقى لا يعلمه إلا اللّه تعالى ، وإضافى يعلمه بعض الخلق دون بعض ، والخير : ما يرغب الناس فيه من المنافع المادية والمعنوية ، كالمال والعلم ، والسوء ما يرغبون عنه مما يسوءهم ويضرهم ، والإنذار : تبليغ مقترن بتخويف من العقاب على الكفر والمعاصي ، والتبشير. تبليغ مقترن بترغيب فى الثواب مع الإيمان والطاعة.
المعنى الجملي
بعد أن أمر اللّه تعالى خاتم رسله أن يجيب السائلين عن الساعة بأنّ علمها عند اللّه تعالى وحده ، قفّى على ذلك بأمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يبين للناس أن كل الأمور بيده وحده وأن علم الغيب كله عنده.
وهذه الآية أسّ من أسس الدين وقواعد عقائده ، إذ بينت حقيقة الرسالة ، وفصلت بينها وبين الربوبية ، وهدمت قواعد الشرك واجتثّت جذور الوثنية.
الإيضاح
(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) أي قل يا أيها الرسول للناس فيما تبلّغه لهم من أمر دينهم : إنى لا أملك لنفسى ولا لغيرى جلب نفع ولا دفع ضر(9/136)
ج 9 ، ص : 136
مستقلا بقدرتي على ذلك ، وإنما أملكهما بقدرة اللّه ، فإذا أقدرنى على جلب النفع جلبته بفعل أسبابه ، وإذا أقدرنى على منع الضر منعته بتسخير الأسباب كذلك.
وقد كان المسلمون ولا سيما حديثو العهد بالإسلام يظنون أن منصب الرسالة يقتضى علم الساعة وغيرها من علم الغيب ، وأن الرسول يقدر على ما لا يصل إليه كسب البشر من جلب النفع ومنع الضر عن نفسه وعمن يحبّ أو عمن يشاء ، أو منع النفع وإحداث الضر بمن يكره أو بمن يشاء فأمره اللّه أن يبين للناس أن منصب الرسالة لا يقتضى ذلك ، وأن وظيفة الرسول إنما هى التعليم والإرشاد لا الخلق والإيجاد وأنه لا يعلم من الغيب إلا ما يتعلق بذلك مما علّمه اللّه بوحيه ، وأنه فيما عدا ذلك بشر كسائر الناس :
« قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ » .
(وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) أي لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا ولا أعلم الغيب ، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير كالمال ونحوه ، ولما مسنى السوء الذي يمكن الاحتياط لدفعه بعلم الغيب.
قال ابن كثير : أمره اللّه تعالى أن يفوّض الأمر إليه وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب فى المستقبل ولا اطّلاع له على شىء من ذلك إلا ما أطلعه اللّه عليه كما قال :
« عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً » وقوله : « وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ » وروى الضحاك عن ابن عباس (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) أي من المال ، وفى رواية « لعلمت إذا اشتريت شيئا ما أربح فيه ، فلا أبيع شيئا إلا ربحت فيه ولا يصيبنى الفقر » وقال ابن جرير : أي لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة ولوقت الغلاء من الرّخص. وقال عبد اللّه بن زيد بن أسلم (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) قال : لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون واتقيته ا ه.(9/137)
ج 9 ، ص : 137
ثم علل نفى امتيازه عن البشر بملك النفع والضر من غير طرق الأسباب وسنن اللّه فى الخلق ونفى امتيازه عنهم بعلم الغيب فقال :
(إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إنه لا امتياز لى عن جميع البشر إلا بالتبليغ عن اللّه عز وجل بالإنذار والتبشير ، وكل منهما يوجه إلى جميع أمة الدعوة ، والآيات فى ذلك كثيرة نحو : « لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا » وقوله :
« إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ » .
والخلاصة - إن الرسل عليهم الصلاة والسلام عباد مكرمون لا يشاركون اللّه فى صفاته ولا فى أفعاله ، ولا سلطان لهم على التأثير فى علمه ولا فى تدبيره ، وإنما يمتازون باختصاص اللّه تعالى إياهم بوحيه واصطفائهم لتبليغ رسالته لعباده وجعلهم قدوة صالحة للناس فى العمل بما جاءوا به عن اللّه من الصلاح والتقوى والأخلاق الفاضلة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 193]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)
تفسير المفردات
من نفس واحدة : أي من جنس واحد ، ليسكن إليها : أي ليأنس بها ويطمئن إليها ، وتغشاها : أتاها كغشيها ويراد بالتغشى أداء وظيفة الزوجية ، ومقتضى الفطرة(9/138)
ج 9 ، ص : 138
وآداب الدين أن يكون ذلك فى السر ، حملت : أي علقت منه ، والجمل (بِالْفَتْحِ) ما كان فى بطن أو على شجرة (وبالكسر) ما كان على ظهر ونحوه ، فمرت به :
أي استمرت به إلى وقت ميلاده من غير إخراج ولا إزلاق ، واستمرت فى أعمالها وقضاء حاجتها من غير مشقة ولا استثقال ، وأثقلت : أي حان وقت ثقل حملها وقرب وضعها ، صالحا. أي نسلا سليما من فساد الخلقة كنقص بعض الأعضاء ، فتعالى اللّه :
أي ارتفع مجده وتعالى جده وتنزه عن شرك هؤلاء الجهلاء.
المعنى الجملي
بعد أن افتتح عزت قدرته السورة بالدعوة إلى التوحيد واتباع ما أنزل على لسان رسوله وتلاه بالتذكير بنشأة الإنسان الأولى فى الخلق والتكوين والعداوة بينه وبين الشيطان.
اختتم السورة بهذه المعاني ، فذكر بالنشأة الأولى ، ونهى عن الشرك واتباع وسوسة الشيطان ، وأمر بالتوحيد واتباع ما جاء به القرآن.
الإيضاح
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) أي هو الذي خلقكم من جنس واحد وجعل زوجه من جنسه فكانا زوجين ذكرا وأنثى كما قال فى آية أخرى « يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى » .
وهكذا خلق من كل الأنواع ومن كل أجناس الأحياء زوجين اثنين كما قال عز من قائل « وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » .
والمشاهد أن كل خلية من الخلايا التي ينمو بها الجسم الحي تنطوى على نواتين ذكر وأنثى إذا اقترنتا ولدتا خلية أخرى وهلم جرا.
وفى التوراة إن حواء خلقت من ضلع من أضلاع آدم ، وعليه حمل بعض العلماء
الحديث « استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شىء فى الضلع(9/139)
ج 9 ، ص : 139
أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، قاستوصوا بالنساء خيرا » رواه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا.
ولكن المحققين ذهبوا فى تفسيره إلى أن المراد أنها ذات اعوجاج وشذوذ تخالف به الرجل ، ويؤيده مارواه ابن حبّان عن أبي هريرة « إن المرأة خلقت من ضلع أعوج » فهو على حد قوله تعالى : « خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ » .
وفى التعبير عن ميل الزوج الجنسي إلى زوجه هنا وفى الروم بالسكون ، إشارة إلى أن المرء متى بلغ سن الحياة الزوجية يجد فى نفسه اضطرابا لا يسكن إلا إذا اقترن بزوج من جنسه واتحد ذلك الاتحاد الذي لا تكمل حياتهما الجنسية المنتجة إلا به.
(فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ) أي فلما تغشى الذكر الأنثى علقت منه وكان الحمل أول عهده خفيفا لا تكاد تشعر به ، وقد تستدل على وجوده بارتفاع الحيض فحسب ومن ثم استمرت فى أعمالها وقضاء حاجتها من غير مشقة ولا استثقال.
(فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما : لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي فلما حان قرب وضعها وكبر الولد فى بطنها ، توجها : أي آدم وحواء إلى اللّه ربهما بدعواته أن يعطيهما ولدا صالحا أي تام الخلق يصلح للقيام بالأعمال النافعة التي يعملها البشر ، وأقسما على ما وطّنا عليه أنفسهما من الشكر له إزاء هذه النعمة قولا وعملا واعتقادا.
(فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) أي فلما أعطاهما ما طلبا وجاء الولد بشرا سويا لا نقص فيه ولا فساد فى تركيب جسمه جعلا له شركاء فيما أعطاه. أي أظهرا ما كان راسخا فى أنفسهما منه.
وقد نسب هذا الجعل إلى آدم وحواء والمراد أولادهما ، قال الحسن البصري هم اليهود والنصارى رزقهم اللّه أولادا فهوّدوا ونصرّوا.
وقال الحافظ ابن كثير : أما نحن فعلى مذهب الحسن البصري فى هذا وأنه ليس المراد من السياق آدم وحواء ، وإنما المراد من ذلك ذريته ، ولهذا قال « فَتَعالَى اللَّهُ(9/140)
ج 9 ، ص : 140
عَمَّا يُشْرِكُونَ »
ثم قال فذكره آدم وحواء أولا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين ، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس ا ه.
وقال صاحب الانتصاف : إن المراد جنس الذكر والأنثى لا يقصد فيه إلى معين ، وكأن المعنى واللّه أعلم : خلقكم جنسا واحدا وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن ، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر ، الجنس الذي هو الأنثى جرى من هذين الجنسين كيت وكيت ، وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون ، لأن المشركين منهم كقوله. « وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا » وقوله « قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ » وقوله إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ » ا ه.
وقال صاحب الكشاف. إن المراد بالزوجين الجنس لا فردان معينان ، والغرض بيان حال البشر فيما طرأ عليهم من نزعات الشرك الخفي والجلى فى هذا الشأن وأمثاله والجنس يصدق ببعض أفراده ا ه.
وبهذا تعلم أن ما روى عن بعض الصحابة والتابعين من أن الآية فى آدم وحواء وما
روى فى حديث سمرة بن جندب مرفوعا قال « لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فانه يعيش ، فسمته عبد الحارث فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان »
ونحوه آثار كثيرة فى هذا المعنى مفصلة ومطولة - فهو خرافة من دس الإسرائيليين نقلت عن مثل كعب الأحبار ووهب بن منبّه فلا يوثق بها ، لأن فيها طعنا صريحا فى آدم وحواء عليهما السلام ورميا لهما بالشرك ، ومن ثم رفضها كثير من المفسرين ، وقال الحافظ ابن كثير وهذه الآثار يظهر عليها واللّه أعلم أنها من آثار أهل الكتاب وقد صح
الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال « إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم » .
وأخبار أهل الكتاب ثلاثة أقسام :
(1) فمنها ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب اللّه وسنة رسوله.(9/141)
ج 9 ، ص : 141
(2) ومنها ما علمنا كذبه بما دل الدليل على خلافه من الكتاب والسنة أيضا.
(3) ومنها ما هو مسكوت عنه فهو المأذون فى روايته
بقوله عليه السلام « حدّثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج »
وهو لا يصدّق ولا يكذّب لقوله : « فلا تصدّقوهم ولا تكذبوهم » .
ثم بين سبحانه فساد رأيهم وسخافة عقولهم لهذا الشرك فقال :
(أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي أ يشركون به سبحانه وهو الخالق لهم ولأولادهم ولكل مخلوق ما لا يخلق شيئا وإن كان حقيرا كما قال : إنّ الّذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له بل هم مخلوقون أيضا ولا يليق بذي العقل السليم أن يجعل المخلوق العاجز شريكا للخالق القادر.
والآية وما بعدها حكاية لشرك عبّاد الأصنام عامة ، وينتظم فيهم مشركو مكة وأمثالهم ممن نزل القرآن فى عهدهم ، وتوبيخ لهم بتفصيل أحوال أولئك الشركاء التي تنافى ما اعتقدوه.
(وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أي ولا يستطيعون لعابديهم معونة إذا حزبهم أمر مهمّ وخطب ملمّ كما لا يستطيعون لأنفسهم نصرا على من يعتدى عليهم بإهانة لهم أو أخذ شىء مما عندهم من طيب أو حلى كما قال تعالى : « وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ » .
والخلاصة - إنهم يحتاجون إليكم فى تكريمهم وفى النضال عنهم وأنتم لا تحتاجون إليهم.
(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) أي وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به رغباتكم أو تنجون به من المكاره التي تحيق بكم ، لا يتبعوكم فلا يستجيبوا لكم ولا ينفعوكم.
ثم أكد عدم نفعهم فقال :
(سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) أي مستولديكم دعاؤكم إياهم وبقاؤكم(9/142)
ج 9 ، ص : 142
على صمتكم ، فإنه لا يتغير حالكم فى كلتا الحالين ، إذ هم لا يفهمون دعاءكم ولا يسمعون أصواتكم ولا يعقلون ما يقال لهم.
والخلاصة - إنه لا ينبغى أن يعبد من كانت هذه صفته ، وإنما الرب المعبود هو النافع من يعبده ، الضار من يعصيه ، الناصر وليّه ، الخاذل عدوّه ، الهادي إلى الرشاد من أطاعه ، السامع دعاء من دعاه.
ولا شك أن هذه الحجة قائمة على من يقصدون قبور الأولياء والصلحاء ويعظمونها ويطلبون منها قضاء الحاجات ، لأن هذه الأوصاف التي سيقت فى معرض التوبيخ والإنكار تنطبق على حالهم أشد الانطباق ، فهم لا ينفعون ولا يضرون و(سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) وقد روى البخاري عن ابن عباس فى أصنام قوم نوح التي انتقلت إلى العرب ، أنها لم تنصب إلا للتذكير بأناس من الأولياء والصالحين وقد كانت اللات لرجل يلتّ عليها السويق ويطعم الناس.
والخلاصة - إن الأصنام والتماثيل والقبور التي تعظّم تعظيما دينيا ، عمل لم يأذن به اللّه ، وكلها سواء فى كونها وضعت للتذكير بأناس عرفوا بالصلاح وكانوا هم المقصودين بالدعاء تخيلا من عابديها بأن لها تأثيرا فى إرادة اللّه أو التصرف الغيبى فى ملك اللّه ، وذلك من أفحش الشرك وأقبحه ولا فرق بين إشراك الصنم والوثن وإشراك الولي أو النبي أو الملك.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 194 الى 198]
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)(9/143)
ج 9 ، ص : 143
المعنى الجملي
هذه الآيات الكريمة من تتمة ما قبلها مؤكدة له ومقررة لما تتضمنه وهو إثبات التوحيد ونفى الشرك ، وهو رأس الإسلام وركنه المتين ، فلا غرو أن يتكرر الكلام فيه فى القرآن ، نفيا وإثباتا ليتأكد فى النفوس ، ويثبت فى القلوب ، وبه تخلع جذور الوثنية ، ويحل محلها نور الوحدانية.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) الدعاء هو النداء لدفع الضر وجلب النفع الذي يوجه إلى من يعتقد الداعي أن له سلطانا يمكنه أن يجيبه إلى ما طلبه إما بذاته وإما بحمله الربّ الخالق على ذلك : أي إن الذين تدعونهم من دون اللّه هم عباد أمثالكم فى كونهم مخلوقين للّه خاضعين لإرادته وقدرته ، وإذا كانوا أمثالكم كان من المستحيل عقلا أن تطلبوا منهم مالا يستطيعون نيله بأنفسكم ولا بمساعدة أمثالكم وإنما يدعى الرب الخالق لما وراء الأسباب المشتركة بين الخلق ، والذي تخضع لإرادته الأسباب وهو لا يخضع لها ، ولا لإرادة أحد يحمله على ما لا يشاؤه منها.
(فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كنتم صادقين فى زعمكم أنهم قادرون على ما تعجزون عنه بقواكم البشرية من نفع أو ضر فادعوهم فليستجيبوا لكم إما بأنفسهم وإما بحملهم الرب تبارك وتعالى على إعطائكم ما تطلبون.
ثم ارتقى سبحانه فى الرد عليهم وأثبت أنهم ليسوا أمثالهم ، بل أحط منهم منزلة ودونهم رتبة ، ووبخهم وأنبهم على عبادة هذه الأحجار والأصنام فقال :(9/144)
ج 9 ، ص : 144
(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها ؟ )
أي إن هؤلاء فقدوا وسائل الكسب التي يناط بها النفع والضر فى هذه الحياة ، فليس لهم أرجل يسعون بها إلى دفع ضر أو جلب نفع ، وليس لهم أيد يبطشون بها فيما ترجون منهم من خير أو تخافون من شر ، وليس لهم أعين يبصرون بها حالكم ولا آذان يسمعون بها أقوالكم ويعرفون بها مطالبكم ، فهم ليسوا مثلكم ، بل دونكم فى الصفات والقوى التي أودعها اللّه فى الخلق ، فكيف ترفعونهم عن مماثلتكم وهم دونكم بالاختبار والمشاهدة.
وإنكم تستكبرون عن قبول الهدى والرشاد من الرسول ويقول بعضكم لبعض :
« ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ. وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ » .
فما بالكم تأبون قبول الحق والخير من مثلكم وقد فضله اللّه عليكم بالعلم والهدى ، ثم ترفعون مادونه ودونكم إلى مقام الألوهية مع انحطاطه عن درجة المثلية.
ثم أمر رسوله أن يبين لهم حقارة شأنهم فقال :
(قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين تحتقرون نعم اللّه عليهم : نادوا شركاءكم الذين اتخذتموهم أولياء ، ثم تعاونوا على كيدى جميعا وأوقعوا الضر بى سريعا فلا تنظرون أي لا تؤخرونى ساعة من نهار.
والحكمة فى مطالبتهم بهذا ، أن العقائد الموروثة يتضاءل دونها كل برهان ولا يجدى معها دليل ، ومن ثم طالبهم بأمر عملى ينزع هذا الوهم من أعماق القلوب ، وهو أن ينادوا هؤلاء الشركاء ويستنجدوا بهم لصدّ دعوة الداعين إلى الكفر بها وإثبات العجز لها وإنكار مالها من سلطان غيبى وتدبير كامن ، فإن كان لها حقا سلطان فى أنفسها أو من عند اللّه فهذا إبّان ظهوره ، وإلا فمتى يظهر ليساعد أبطال عبادتها وينصر عابديها ومعظّمى شأنها ، ومن الجلى أن القوم كانوا ينكرون البعث فكل ما يرجونه منها من خير أو يخافونه منها من شر فهو فى هذه الحياة.(9/145)
ج 9 ، ص : 145
ثم زاد الأمر بيانا وبالغ فى حقارة هذه المعبودات وعابديها على ما كان به من ضعف وقلة ناصر وهو بمكة حين نزول هذه السورة فقال :
(إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) أي إن متولى أمرى وناصرى هو اللّه الذي نزّل علىّ الكتاب المؤيد لوحدانيته ووجوب عبادته ودعائه عند الشدائد والملمات ، والناعي على المشركين عبادة غيره من وثن أو صنم ، وهو يتولى نصر الصالحين من عباده ، وهم من صلحت أنفسهم بصحيح العقائد ، وسلمت من الأوهام والخرافات ، والأعمال التي تصلح بها شئون الأفراد والجماعات ، فينصرهم على ذوى الخزعبلات والأوهام ، وفاسدى العقائد والأحلام تصديقا لقوله : « فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً ، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ » .
ثم أكد ما سلف بقوله.
(وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أي وإن من تدعونهم لنصركم وجلب النفع لكم ودفع الضر عنكم عاجزون ، فلاهم بالمستطيعين نصركم ولا نصر أنفسهم على من يحقّر شأنهم أو يسلبهم شيئا مما وضع عليهم من طيب أو حلى ، فقد كسّر إبراهيم صلوات اللّه عليه الأصنام فجعلهم جذاذا فما استطاعوا أن يدفعوه عن أنفسهم ولا أن ينتقموا منه لها.
وقد روى عن معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل رضي اللّه عنهما - وكانا شابين من الأنصار قد أسلما لما قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة - أنهما كانا يعدوان فى الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطبا للأرامل ، ليعتبر قومهما بذلك ويرتئوا لأنفسهم رأيا آخر.
وكان لعمرو بن الجموح - وكان سيد قومه - صنم يعبده فكانا يجيئان فى الليل فينكسانه على رأسه ويلطخانه بالعذرة فيجىء عمرو فيرى ما صنع به فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفا ويقول له انتصر ، ثم يعودان لمثل ذلك ويعود إلى صنيغه أيضا ،(9/146)
ج 9 ، ص : 146
حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت ودلياه فى حبل فى بئر هناك ، فلما جاء ورأى ذلك علم أن ما كان عليه من الدين باطل وأنشد :
تاللّه لو كنت إلها مستدن لم تك والكلب جميعا فى قرن
ثم أسلم وحسن إسلامه ، وقتل يوم أحد شهيدا رضي اللّه عنه.
وبعد أن نفى عنهم القدرة على النصرة قفى على ذلك بنفي قدرتهم على الإرشاد إلى الهدى والرشاد فقال :
(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) أي وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى ما تحصّلون به مقاصدكم وتنتصرون به : من أسباب خفية أو ظاهرة - لا يسمعوا دعاءكم فضلا عن مدّ يد المعونة والمساعدة.
والآية كقوله : « إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ » .
(وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) أي وتراهم أيها المخاطب ينظرون إليك بما وضع لهم من أعين صناعية وحدق زجاجية أو جوهرية موجهة إلى من يدخل عليها كأنها تنظر إليه وهم لا يبصرون بها لأن حاسة الإبصار لا تحصل بالصناعة ، وإنما هى من خواصّ الحياة التي استأثر اللّه بها.
وهم إذ فقدوا السمع لا يسمعون نداء ولا دعاء ممن يعبدونهم ولا من غيرهم وإذ فقدوا البصر لا يبصرون حاله وحال خصمه ، فكيف يرجى منهم نصر وشد أزر أو أىّ معونة أخرى ، أو كيف يخشى منهم إيصال ضر وأذى لمن يحتقرهم ؟ .
[سورة الأعراف (7) : آية 199]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه هو الذي يتولى أمر رسوله وينصره ، وأن الأصنام وعابديها لا يقدرون على إيذائه وإيصال الضر إليه - بيّن فى هذه الآية النهج القويم والصراط المستقيم فى معاملة الناس.(9/147)
ج 9 ، ص : 147
وهذه الآية تشمل أصول الفضائل فهى من أسس التشريع التي تلى فى المرتبة أصول العقيدة المبنية على التوحيد الذي تقرر فيما سلف بأبلغ وجه وأتم برهان.
الإيضاح
(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) أمر اللّه نبيه فى هذه الآية بثلاثة أشياء هى أسس عامة للشريعة فى الآداب النفسية والأحكام العملية :
(1) العفو : وهو السهل الذي لا كلفة فيه : أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم وتسهّل من غير كلفة ، ولا تطلب منهم ما يشق عليهم حتى ينفروا ، وهذا كما
جاء فى الحديث « يسّروا ولا تعسّروا »
وقال الشاعر :
خذى العفو منى تستديمى مودتى ولا تنطقى فى سورتى حين أغضب
وقيل إن المعنى خذ العفو وما تسهّل من صدقاتهم.
والخلاصة - إن من آداب الدين وقواعده اليسر وتجنب الحرج وما يشق على الناس ، وقد صح أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما.
(2) الأمر بالمعروف : وهو ما تعرفه النفس من الخير وتأنس به وتطمئن إليه ، ولا شك أن هذا مبنى على اعتبار عادات الأمة الحسنة وما تتواطأ عليه من الأمور النافعة فى مصالحها.
وإجمال القول فيه - إنه اسم جامع لكل ما عرف من طاعة اللّه والتقرب إليه والإحسان إلى الناس.
وقد ذكر المعروف فى السور المدينة فى الأحكام الشرعية العملية كوصف الأمة الإسلامية وحكومتها كقوله : « الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ » وقوله : « وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » .(9/148)
ج 9 ، ص : 148
وعند ذكر الحقوق الزوجية كقوله « وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ » وفى أحكام الطلاق كقوله : « فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ » وقوله « فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ » ومن ذلك ترى أن هذا اللفظ (المعروف) لم يذكر إلا فى الأحكام الهامة ، وأن المراد به ما هو معهود بين الناس فى المعاملات والعادات ، ولا شك أنه يختلف باختلاف الشعوب والبلاد والأوقات ، ومن ثم قال بعض الأئمة : المعروف ما يستحسن فى العقل فعله ، ولا تنكره العقول الصحيحة ، ويكفى المسلمين المحافظة على النصوص الثابتة ، إذ لا يمكن المؤمن أن يستنكر ما جاء عن اللّه ورسوله ، وليكن للجماعة الإسلامية بعده رأى فيما يعرفون وينكرون ، ويستحسنون ويستهجنون ، ويكون عمدتهم فى ذلك جمهور العقلاء وأهل الفضل والأدب فى كل عصر.
(3) الإعراض عن الجاهلين ، وهم السفهاء بترك معاشرتهم وعدم مماراتهم ، ولا علاج للوقاية من أذاهم إلا الإعراض عنهم ،
وقد روى عن جعفر الصادق رضي اللّه عنه أنه قال : ليس فى القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها ،
وروى الطبري وغيره عن جابر « أنه لما نزلت هذه الآية سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم جبريل عنها فقال :
لا أعلم حتى أسأل ثم رجع فقال : إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك ، وتعطى من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك »
وأخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال :
خذ العفو وأمر بعرف كما أمرت وأعرض عن الجاهلين
ولن فى الكلام لكل الأنام فمستحسن من ذوى الجاه لين
وقال بعض العلماء : هذه الآية قد تضمنت قواعد الشريعة ، فلم يبق فيها حسنة إلا وعتها ، ولا فضيلة إلا شرحتها فقوله : خذ العفو إيماء إلى جانب اللين ونفى الحرج فى الأخذ والإعطاء وأمور التكليف ، وقوله : وأمر بالعرف تناول جميع المأمورات والمنهيات ، وأنهما ما عرف فى الشريعة حكمه ، واتفقت القلوب على علمه ، وقوله :(9/149)
ج 9 ، ص : 149
وأعرض عن الجاهلين تناول جانب الصفح بالصبر الذي يتأتى للعبد به كل مراد فى نفسه وغيره ا ه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 200 الى 202]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202)
تفسير المفردات
النزع كالنخس والنغز والوكز : إصابة الجسد برأس محدّد كالإبرة والمهماز والرمح ، والمراد به هنا نزع الشيطان بإثارته داعية الشر والفساد فى النفس بغضب أو شهوة بحيث تلجئ صاحبها إلى العمل بتأثيرها كما تنخس الدابة بالمهماز لتسرع ، والاستعاذة باللّه : الالتجاء إليه ، ليقيك من شر هذا النزع ، والطوف والطواف بالشيء : الاستدارة به أو حوله ، وطيف الخيال : ما يرى فى النوم من مثال الشخص ، والمس : يراد به هنا ما ينال الإنسان من شر وأذى ، فقد ذكر فى التنزيل مس الضر والضراء والبأساء والسوء والعذاب. والمد والإمداد : الزيادة فى الشيء من جنسه ، واستعمل فى القرآن فى الخلق والتكوين كقوله : « وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ » وقوله : « أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ » وفى مدّ الناس فيما يذم ويضر كقوله : « قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا » والإقصار : التقصير ، ويقال أقصر عن الأمر : تركه وكف عنه وهو قادر عليه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فى الآيات السابقة أمثل الطرق فى معاملة الناس بعضهم بعضا مما لو عملوا بهديه لم يجد الفساد إلى نفوسهم سبيلا - قفى على ذلك بالوصية التي تتضمنها(9/150)
ج 9 ، ص : 150
هذه الآيات الثلاث ، وهى اتقاء إفساد الشياطين : أي شياطين الجن المستترة - فالآية السالفة أمرت بالإعراض عن الجاهلين وهم السفهاء اتقاء لشرهم - وهذه الآيات أمرت بالاستعاذة باللّه من الشياطين اتقاء لشرهم.
الإيضاح
(وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي وإن يثر فيك الشيطان داعية الشر والفساد بسبب غضب أو شهوة ، فيجعلك تتأثر وتتحرك للعمل بها كما تتأثر الدابة إذا نخست بالمهماز فتسرع - فالجأ إلى اللّه وتوجه إليه بقلبك ليعيذك من شر هذا النزغ ، حتى لا يحملك على ما يزعجك من الشر وعبّر عن ذلك بلسانك فقل :
أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم ، فإنه سميع لما تقول عليم بما تحدثك به نفسك ويجيش به صدرك ، فهو يصرف عنك تأثير نزغه بتزيين الشر ، وقد دلت التجربة على أن الالتجاء إلى اللّه تعالى وذكره بالقلب واللسان يصرف عن النفس وسوسة الشيطان كما قال تعالى : « فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » والخطاب فى الآية وما ماثلها من الآيات موجه إلى كل مكلف يبلغه ، وأولهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وقيل إنه موجه إلى الرسول والمراد أمته ،
وقد روى مسلم عن عائشة وابن مسعود أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن - قالوا وإياك يا رسول اللّه ؟ قال : وإياى إلا أن اللّه أعاننى عليه فأسلم منه » .
ثم بين سبحانه طريق سلامة من يستعذ من الشيطان من الوقوع فى المعصية فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) أي إن خيار المؤمنين وهم الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون - إذا ألمّ بهم طائف من الشيطان ليحملهم بوسوسته على المعصية أو إيقاع البغضاء بينهم ، تذكروا أن هذا من إغواء الشيطان عدوهم الذي أمر اللّه بالاستعاذة منه والالتجاء إليه(9/151)
ج 9 ، ص : 151
فى الحفظ من غوايته ، فإذا هم أولو بصيرة يربئون بأنفسهم أن تطيعه ، فهو إنما تأخذ وسوسته الغافلين عن ربهم الذين لا يراقبونه فى شئونهم وأعمالهم ، ولا شىء أقوى على طرد وساوس الشيطان من ذكر اللّه ومراقبته فى السر والعلن ، من قبل أنه يقوّى فى النفس حب الحق وداعى الخير ، ويضعف فيها الميل إلى الشرور والآثام ، فما مثل المؤمن المّتقى الذي لا يتمكن الشيطان من إغوائه وإن تمكن من مسه ، إلا مثل الصحيح الجسم القوى المزاج النظيف البدن والثوب والمكان لا تجد النسم (الميكروبات) طريقا لإفساد مزاجه وإصابته بالأمراض ، فإن مسه شىء منها بدخوله فى جمسه فتكت بها نسم الصحة فحالت دون فتكها به ، وهذا ما يسميه الأطباء (المناعة).
فقوىّ الروح بالإيمان والتقوى غير قابل لتأثير الشيطان فى نفسه ، لكن الشيطان دائما يتحين الفرص وعروض بعض الأهواء النفسية من شهوة أو غضب أو داعية حسد أو انتقام ، حتى إذا وجد الفرصة سانحة افترصها ولا بس النفس وقوىّ فيها داعى الشر كالحشرات القذرة التي تعرض للنظيف إذا أهملها بالغفلة عنها فعلت فعلها ، وإذا تداركها نجا من شرها وضرها ، وما سر هذا إلا المناعة النفسية أو الروحية.
وإن الإنسان ليشعر بتنازع دواعى الخير والشر فى نفسه ، وإن لداعية الخير والحق ملكا يقوّيها ، ولداعية الشر والباطل شيطانا يقويها ، وقد بين النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك بقوله « إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من اللّه فليحمد اللّه على ذلك ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان ثم قرأ :
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ » .
(وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) أي إن إخوان الشياطين وهم الجاهلون الذين لا يتقون اللّه - يتمكن الشياطين من إغوائهم فيمدونهم فى غيهم وإفسادهم ، لأنهم لا يذكرون اللّه إذا شعروا بالنزوع إلى الشر ولا يستعيذون به من تزع الشيطان ومسه ، إما لأنهم لا يؤمنون باللّه وإما لأنهم لا يؤمنون بأن للإنسان شيطانا(9/152)
ج 9 ، ص : 152
من الجن يوسوس إليه ويغريه بالشر - ثم لا يقصرون ولا يكفون عن إغوائهم وإفسادهم ، فلذلك يصرون على الشر والفساد لفقد الوازع النفسي والواعظ القلبي.
والخلاصة - إن المؤمنين إذا مسهم طائف من الشيطان يحملهم على المعاصي تذكروا فأبصروا وحذروا وسلموا ، وإن ذلوا تابوا وأنابوا ، وإن إخوان الشياطين تتمكن الشياطين من إغوائهم فيمدونهم فى غيهم ، ولا يكفون عن ذلك ، ومن ثم تراهم يستمرون فى شرورهم وآثامهم لفقد الوازع النفسي.
[سورة الأعراف (7) : آية 203]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السالفة أن شياطين الجن والإنس لا يقصرون فى الإغواء والإضلال - قفّى على ذلك بذكر نوع خاص من هذا الإغواء وهو طلبهم آيات معينة ومعجزات مخصوصة تعنتا كما قال تعالى حكاية عنهم : « وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً » أي إذا لم تأتهم بما طلبوا قالوا هلا افتعلتها وأتيت بها من عند نفسك ، لأنهم كانوا يقولون : « ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً » .
الإيضاح
(وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) قال الفرّاء تقول العرب : اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك : أي وإذا لم يأتهم الرسول بآية قرآنية بأن تراخى نزول الوحى زمنا ما - قالوا لو لا افتعلت نظمها وتأليفها واخترعتها(9/153)
ج 9 ، ص : 153
من تلقاء نفسك ، وقد يكون المعنى : وإذا لم تأتهم بآية مما اقترحوا عليك قالوا : هلّا حباك اللّه بها بأن مكنك منها فاجتبيتها وأبرزتها لنا ، إن كنت صادقا فى أن اللّه يقبل دعاءك ويجيب التماسك.
(قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) أي إنه ليس لى أن أقترح على ربى أمرا من الأمور ، وإنما أنتظر الوحى ، فكل شىء أكرمنى به قلته وإلا وجب علىّ السكوت وترك الاقتراح.
وفى معنى الآية قوله تعالى : « وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ » .
وقد يكون المعنى ما أنا بقادر على إيجاد الآيات الكونية ولا بمفتات على اللّه فى طلبها ، وإنما أنا متبع لما يوحى إلىّ فضلا من ربى علىّ إذ جعلنى مبلّغا عنه.
وقد وصف اللّه تعالى القرآن بثلاثة أوصاف :
(1) (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) بصائر أي حجج بينة وبراهين نيرة للعقول فى الدلالة على التوحيد والنبوة والمعاد : أي إن هذا القرآن الذي أوحاه اللّه إلىّ بصائر وحجج من ربكم ، من يتأملها حق التأمل يكن بصير العقل بما تدل عليه من الحق ، فهى أدل عليه مما تطلبون من الآيات الكونية.
ونحو الآية قوله : « قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها » .
(2) (وَهُدىً) أي وهو هدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
(3) (وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي ورحمة فى الدنيا والآخرة للذين يؤمنون به كما قال تعالى : « وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ » .
وهذه الأوصاف له بالنسبة إلى معتنقيه ، ذاك أن منهم من بلغ فى معارف التوحيد(9/154)
ج 9 ، ص : 154
والنبوة والمعاد مرتبة أصبح بها كالمشاهد لها وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والقرآن لهؤلاء بصائر ، ومنهم من دون ذلك والقرآن لهم هدى ، وهو فى حق المؤمنين عامة رحمة ، لا جرم قال « لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 204 الى 206]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
تفسير المفردات
الاستماع : أخص من السمع ، لأنه إنما يكون بقصد ونية أو توجيه الحاسة إلى الكلام لإدراكه ، أما السمع : فيحصل ولو بغير قصد ، والإنصات : السكوت للاستماع حتى لا يكون شاغل عن الإحاطة بكل ما يقرأ ، والتضرع : إظهار الضراعة ، وهى الذلة والضعف والخضوع ، والخيفة : حالة الخوف والخشية ، ودون الجهر : أي ذكرا دون الجهر برفع الصوت وفوق التخافت والسر : بأن يذكر ذكرا وسطا ، والغدو : جمع غدوة ، وهى ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس ، والآصال : جمع أصيل ، وهو العشى من وقت العصر إلى غروب الشمس ، ويسبحونه : ينزهونه عما لا يليق به ويسجدون أي يصلون.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه مزايا القرآن الكريم وأنه آيات بينات للمؤمنين وهدى ورحمة لهم - قفّى على ذلك بذكر الدلائل على الطريق الموصلة لنيل الرحمة به ، والفوز بالمنافع الجليلة التي ينطوى عليها وهى الإنصات له إذا قرئ.(9/155)
ج 9 ، ص : 155
الإيضاح
(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وإذا قرئ القرآن عليكم أيها المؤمنون فأصغوا له أسماعكم ، لتتفهموا آياته وتعتبروا بمواعظه ، وأنصتوا له لتعقلوه وتتدبروه ولا تلغوا فيه فلا تعقلوه ، ليرحمكم ربّكم باتعاظكم بمواعظه ، واعتباركم بعبره ، واستعمالكم ما بينه لكم من فرائضه فى آيه فمن استمع وأنصت كان جديرا أن يفهم ويتدبر ، ومن كان كذلك كان حريّا أن يرحم.
والآية تدل على وجوب الاستماع والإنصات للقرآن إذا قرئ سواء أ كان ذلك فى الصلاة أو فى خارجها وهو المروي عن الحسن البصري ، لكن الجمهور خصوه بقراءة الرسول صلى اللّه عليه وسلم فى عهده وبقراءة الصلاة والخطبة من بعده ، ذلك أن إيجاب الاستماع والإنصات فى غير الصلاة والخطبة فيه حرج عظيم ، إذ يقتضى أن يترك له المشتغل بالعلم علمه والمشتغل بالحكم حكمه وكل ذى عمل عمله.
أما قراءة النبي صلى اللّه عليه وسلم فكان بعضها تبليغا للتنزيل وبعضها وعظا وإرشادا ، فلا يسع أحدا من المسلمين يسمعه يقرأ أن يعرض عن الاستماع أو يتكلم بما يشغله أو يشغل غيره عنه ، وهكذا شأن المصلى مع إمامه وخطيبه ، إذ هذا هو المقصود من الصلاة والواجب فيها.
وما يفعله جماهير الناس فى المحافل التي يقرأ فيها القرآن كالمآتم وغيرها من ترك الاستماع والاشتغال بالأحاديث المختلفة - فمكروه كراهة شديدة ولا سيما لمن كانوا على مقربة من التالي ، ولا يجوز لقارئ أن يقرأ على قوم لا يستمعون له ، وإن كان أكثرهم يستمع وينصت فشذ بعضهم بمناجاة صاحبه بالجنب بلا تهويش على القارئ ولا على المستمعين كانت المخالفة سهلة لا تقتضى ترك القراءة ولا تنافى الاستماع.
والواجب على كل مؤمن بالقرآن أن يحرص على استماعه عند قراءته كما يحرص على تلاوته وأن يتأدب فى مجلس التلاوة.(9/156)
ج 9 ، ص : 156
وجملة الأمر فى ذلك ألا يصدر من السامع ما يعدّ فى اعتقاده أو فى عرف الناس أنه مناف للأدب : ولا بأس بقراءة القرآن حال القيام والقعود والاضطجاع والمشي والركوب ، ولا تكره مع حدث أصغر ولا مع نحاسة ثوب أو بدن ، وإن كان يستحب الوضوء حين القراءة حال الحدث ولا سيما للقارئ فى المسحف.
وتستحب القراءة بالترتيل والنغم الدالة على التأثير والخشوع من غير تكلف ولا تصنع ،
فقد روى أبو هريرة مرفوعا « ما أذن (استمع) اللّه لشىء ما أذن لنبى حسن الصوت يتغنى بالقرآن » رواه الشيخان.
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي واذكر ربك الذي خلقك وربّاك بنعمه فى نفسك بأن تستحضر معنى أسمائه وصفاته وآلائه وفضله عليك وحاجتك إليه ، متضرعا له خائفا منه راجيا نعمه ، واذكره بلسانك مع ذكره فى نفسك ذكرا دون الجهر برفع الصوت من القول وفوق التخافت والسر ، بل ذكرا قصدا وسطا كما قال تعالى : « وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا » .
وذكر اللسان وحده دون ذكر القلب وملاحظة معانى القول لا يجدى نفعا ، فكم رأينا من ذوى الأوراد والأدعية الذين يذكرون اللّه كثيرا بالمئين والآلاف ولا يفيدهم ذلك معرفة باللّه ولا مراقبة له ، لأن ذلك أصبح عادة لهم تصحبها عادات أخرى منكرة ، ومن ثم كان الواجب الجمع بين ذكر القلب وذكر اللسان.
وأجمل الأوقات لهذا الذكر وقتان أول النهار وآخره لأنهما طرفا النهار ، ومن افتتح نهاره بذكر اللّه واختتمه به كان جديرا بأن يراقب اللّه ولا ينساه فيما بينهما ، ويكون هذا الذكر فى صلاتى الفجر والعصر اللتين تحضرهما ملائكة الليل وملائكة النهار ويشهدان عند اللّه بما وجدا عليه العبد كما ورد فى صحيح الآثار.
(وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) عن ذكر اللّه بل أشعر قلبك الخضوع له والخوف من(9/157)
ج 9 ، ص : 157
قدرته عليك إذا أنت غفلت عن ذلك ، ومن غفل عن ذكره تعالى مرض قلبه ، وضعف إيمانه ، واستحوذ عليه الشيطان فأنساه نفسه.
ثم ختم سبحانه هذه الآيات بما يؤكد به الأمر والنهى السابقين فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي إن ملائكة الرحمن المقرّبين عنده لا يستكبرون عن عبادته كما يستكبر عنها هؤلاء المشركون ، وينزهونه عن كل ما لا يليق بعظمته وكبريائه وجلاله ، وعن اتخاذ الندّ والشريك كما يفعل الذين اتخذوا من دون اللّه شفعاء وأندادا يحبونهم كحبه ، وله وحده يصلون ويسجدون ، فلا يشركون معه أحدا ، فالواجب على كل مؤمن أن يجعل خواص الملائكة والمقربين إليه تعالى من حملة عرشه والحافّين به أسوة حسنة له فى صلاته وسجوده وسائر عبادته.
وقد شرع اللّه لنا السجود عند تلاوة هذه الآية أو سماعها ، إرغاما لمن أبي ذلك من المشركين ، واقتداء بالملائكة المقربين ، ومثلها آيات أخرى ستأتى فى مواضعها ، و
قد كان صلى اللّه عليه وسلم يقول فى سجوده لذلك : « اللهم لك سجد سوادى ، وبك آمن فؤادى ، اللهم ارزقني علما ينفعنى ، وعملا يرفعنى » .
وفى الآية إرشاد إلى أن الأفضل إخفاء الذكر ،
وقد روى أحمد قوله صلى اللّه عليه وسلم : « خير الذكر الخفي »
فأين هذا مما يفعله جهلة زماننا الذين يجأرون فى ذكرهم بأصوات منكرة يستقبحها الدين والعقل والعرف ، ولا علاج لمثل هذا إلا حملة نكراء من رجال الدين عليهم حتى يتفهموا ما طلبه الدين وما رمى إليه من التضرع إليه تعالى خفية ودون الجهر بالقول. وصل اللّه على سيدنا محمد النبي الأمى وعلى آله وصحبه وسلم.
خلاصة ما اشتملت عليه السورة من الأغراض والمقاصد
يمكن إجمال القول فى الأغراض التي اشتملت عليها هذه السورة الكريمة فيما يلى :
(1) التوحيد : وهو يتضمن دعاء اللّه وحده وإخلاص الدين له وتخصيصه بالعبادة ، فإنه شارع الدين فيجب اتباع ما أنزله ولا يجوز اتباع الأولياء من دونه(9/158)
ج 9 ، ص : 158
فى العقائد والعبادات ولا التحليل والتحريم الديني كما قال « اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ » .
وإن القول عليه بغير علم بتشريع أو غيره لا يجوز لأحد كما قال : « أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ؟ » .
وإن جميع ما يشرعه لعباده حسن وما سواه قبيح : « قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ » ونحن مأمورون بذكره تضرعا وخفية سرا وجهرا.
(2) الوحى والكتب ، ويتضمن ذلك إنزال القرآن على النبي صلى اللّه عليه وسلم للإنذار به ، والأمر باستماعه والإنصات له رجاء الرحمة بسماعه والاهتداء به وأمر المؤمنين باتباع المنزل عليهم من ربهم.
(3) الرسالة والرسل ، ويشمل ذلك بعثة الرسل إلى جميع بنى آدم كما قال :
«
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي » وسؤالهم يوم القيامة عن التبليغ وسؤال الأمم عن الإجابة - ومجىء الرسل بالبينات من اللّه تعالى تأييدا منه لهم - وعقاب الأمم على تكذيب الرسل كما ذكر فى قصص نوح وهود وصالح وشعيب.
(4) عالم الآخرة : ويتضمن ذلك البعث والإعادة فى الآخرة كما قال : « كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ » ووزن الأعمال يوم القيامة وترتيب الجزاء على ثقل الموازين وخفتها وأن الجزاء بالعمل ، وإقامة أهل الجنة الحجة على أهل النار ، والحجاب بين أهل الجنة وأهل النار ونداء أصحاب النار أصحاب الجنة ، واعتراف أهل النار فى الآخرة بصدق الرسل ، وصفة أهل النار ، وقيام الساعة وكونها تأتى بغتة.
(5) أصول التشريع : ويتضمن هذا وجوب اتباع الدين على أنه قربة يثاب فاعلها عليها ويعاقب تاركها فى الآخرة ، وتحريم التقليد فيه ، والأخذ بآراء البشر وتعظيم شأن النظر العقلي ، والتفكر لتحصيل العلم بما يجب الإيمان به ومعرفة آيات اللّه وسننه(9/159)
ج 9 ، ص : 159
فى خلقه والأمر بالعدل فى الأحكام والأعمال كما قال « قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ » وحصر أنواع المحرمات الدينية العامة فى قوله « قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ » إلخ ، وبيان أصول الفضائل الأدبية والتشريعية فى قوله « خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ » .
(6) آيات اللّه وسننه فى الكون - ويتضمن ذلك خلق السموات والأرض فى ستة أيام واستواءه على العرش ونظام الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر والنجوم بأمره - وخلق الرياح والمطر وإحياء الأرض به وإخراجه الثمرات من الأرض - خلق الناس من نفس واحدة وخلق زوجها منها ليسكن إليها وإعداد الزوجين للتناسل - وتفضيل الإنسان على من فى الأرض جميعا - خلق بنى آدم مستعدين لمعرفة اللّه وإشهاد الرب إياهم على أنفسهم أنه ربهم وشهادتهم بذلك بمقتضى فطرتهم بما منحوه من العقل وحجته تعالى عليهم بذلك - خلقهم مستعدين للشرك وما يتبعه من الخرافات - ضرب الأمثال لاختلاف الاستعداد لكل من الخير والشر وعلامة كل منهما فيهم يكون بما يرى من ثماره - وفى ذلك تعليم لنا بطلب معرفة الشيء بأثره ومعرفة الأثر بمصدره - عداوة إبليس والشياطين من نسله لبنى آدم وإغوائهم بالفساد مع ذكر حكمة ذلك ، بيان أن الشياطين أولياء للمجرمين الذين لا يؤمنون - منّة اللّه على البشر بتسهيل أسباب المعاش لهم - آيات اللّه تعالى ونعمه على بنى إسرائيل إلى نحو أولئك مما فيه سعادة البشر فى دينهم ودنياهم.
(7) سننه تعالى فى الاجتماع والعمران البشرى - ويتضمن ذلك إهلاك اللّه الأمم بظلمها لنفسها ولغيرها وأن للأمم آجالا لا تتقدم ولا تتأخر عنها بما اقتضته السنن الإلهية العامة - ابتلاء اللّه الأمم بالبأساء والضراء تارة وبالرخاء والنعماء أخرى - وأن الإيمان بما دعا إليه والتقوى فى العمل بشرعه فعلا وتركا سبب لكثرة بركات السماء والأرض وخيراتها على الأمة كما قال تعالى : « وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ » وأن للّه فى إرث الأرض واستخلاف الأمم والسيادة(9/160)
ج 9 ، ص : 160
على الشعوب سننا لا تتبدل كما قال : « قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » أي إن الأرض ليست رهن تصرف الملوك والدول بقدرتهم الذاتية فتدوم لهم وإنما هى للّه ، وللّه سنن فى سلبها من قوم وجعلها إرثا لقوم آخرين - وقد جعل العاقبة للمتقين الذين يتقون أسباب الضعف والتخاذل والفساد فى الأرض ويتصفون بضدها وبسائر ما تقوى به الأمم من الأخلاق والأعمال كالصبر على المكاره والاستعانة باللّه الذي بيده ملكوت كل شىء.
وإنا نرى أن بعض الشعوب الإسلامية المستضعفة فى هذا العصر باستعمار الدول الأوربية لها يائسة من استقلالها وعزتها لما ترى من رجحان ذوى السيادة عليها فى القوى المادية جهلا منهم بسنة اللّه التي بينها للناس فإن رجحان فرعون وقومه على بنى إسرائيل كان فوق رجحان قوى السائدين وقهرهم إياهم.
وقد كان ينبغى للمسلمين أن يتقوه تعالى باتقاء كل ما قصه عليهم من ذنوب الأمم التي هلك بها من كان قبلهم حتى دالت دولتهم وزال ملكهم وللّه الأمر من قبل ومن بعد.(9/161)
ج 9 ، ص : 161
سورة الأنفال
آياتها خمس وسبعون ، نزلت بعد البقرة ، وهى مدنية إلا من آية 30 لغاية 36 فمكية ومناسبتها لسورة الأعراف أنها فى بيان أحوال النبي صلى اللّه عليه وسلم مع قومه.
وسورة الأعراف مبينة لأحوال الرسل مع أقوامهم.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
تفسير المفردات
الأنفال : واحدها نفل (بالتحريك) من النفل (بالسكون) وهو الزيادة على الواجب ، ومنه صلاة النفل ، والمراد به هنا الغنيمة - وقيل الغنيمة كل ما حصل مستغنما بتعب أو بغير تعب وقبل الظفر أو بعده ، والنفل يحصل للإنسان قبل القسمة من الغنيمة ، والبين : يطلق على الاتصال والافتراق وعلى كل ما بين طرفين كما قال :
« لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ » وذات البين : الصلة التي تربط بين شيئين ، والوجل : الفزع والخوف ، والدرجات : منازل الرفعة ومراقى الكرامة.(9/162)
ج 9 ، ص : 162
المعنى الجملي
نزلت هذه الآيات فى غنائم غزوة بدر ، إذ تنازع فيها من حازها من الشبان وسائر المقاتلة ،
فقد روى أبو داود والنسائي عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا »
فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات ، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان : إنا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شىء للجأتم إلينا ، فاختصموا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت :
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ؟ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) و
روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن سعد بن أبي وقّاص أنه قتل سعيد بن العاص وأخذ سيفه واستوهبه النبي صلى اللّه عليه وسلم فمنعه إياه ،
وأن الآية نزلت فى ذلك فأعطاه إياه لأن الأمر كله إليه صلى اللّه عليه وسلم.
الإيضاح
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) أي يسألونك أيها الرسول عن الأنفال لمن هى ؟ أ للشبان أم للشيوخ ؟ أو للمهاجرين هى ، أم للأنصار ؟ أم لهم جميعا ؟ .
(قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي قل لهم الأنفال للّه يحكم فيها بحكمه ، وللرسول يقسمها بحسب حكم اللّه تعالى ، وقد قسمها صلى اللّه عليه وسلم بالسواء.
وقد بين اللّه بهذا أن أمرها مفوض إلى اللّه ورسوله ، ثم بين مصارفها وكيفية قسمتها فى آية الخمس : « وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ » إلخ ، وللإمام أن ينفلّ من شاء من الجيش ما شاء قبل التخميس
وقد روى عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : قتل أخى عمير يوم بدر فقلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فأعجبنى فحئت به إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقلت إن اللّه شفى صدرى من المشركين فهب لى هذا السيف ، فقال لى عليه الصلاة والسلام : ليس هذا لى ولا لك ، اطرحه فى القبض فطرحته(9/163)
ج 9 ، ص : 163
وبي ما لا يعلمه إلا اللّه من قتل أخى وأخذ سلبى ، فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال ، فقال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا سعد سألتنى السيف وليس لى وقد صار لى فخذه.
(فَاتَّقُوا اللَّهَ) أي فاجتنبوا ما كنتم فيه من المشاجرة والتنازع والاختلاف الموجب لسخط اللّه ، لما فيه من المضارّ ولا سيما فى حال الحرب.
(وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي وأصلحوا ما بينكم من الأحوال حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق ، وهذا الإصلاح واجب شرعا وعليه تتوقف قوة الأمة وعزتها وبه تحفظ وحدتها ، روى عن عبادة بن الصامت قال : نزلت هذه الآية فيما معشر أصحاب بدر حين اختلفنا فى النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه اللّه من أيدينا فجعله لرسوله ، فقسمه بين المسلمين على السواء وكان فى ذلك تقوى اللّه وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين.
(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فى كل ما يأمر به وينهى عنه ، ويقضى به ، ويحكم فاللّه تعالى مالك أمركم ، والرسول مبلّغ عنه ومبيّن لوحيه بالقول والفعل والحكم.
وعلى هذه الطاعة تتوقف النجاة فى الآخرة والفوز بثوابها ، والرسول صلى اللّه عليه وسلم يطاع فى اجتهاده أمر الدنيا المتعلق بالمصالح العامة ولا سيما فى الشئون الحربية ، لأنه القائد العام فمخالفته تخلّ بالنظام وتؤدى إلى الفوضى التي لا تقوم للأمة معها قائمة ، ولأئمة المسلمين من حق الطاعة فى تنفيذ الشرع وإدارة شئون الأمة وقيادة الجند ما كان له صلى اللّه عليه وسلم بشرط عدم معصية اللّه تعالى ومشاورة أولى الأمر.
(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم كاملى الإيمان فامتثلوا هذه الأوامر الثلاثة ، إذ كماله يقتضى ذلك لأن اللّه أوجبه فالمؤمن باللّه حقا يكون له من نفسه وازع يسوقه إلى الطاعة واتقاء المعاصي إلا أن يعرض له ما يغلبه عليها أحيانا من ثورة شهوة أو سورة غضب ثم لا يلبث أن يفىء إلى أمر اللّه ويتوب إليه مما عرض له.(9/164)
ج 9 ، ص : 164
ثم وصف اللّه تعالى المؤمنين بخمس صفات تدل على وجوب التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة اللّه ورسوله فقال :
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي إنما المؤمنون حقا المخلصون فى إيمانهم هم الذين اجتمعت فيهم خصال خمس :
(1) (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي الذين إذا ذكروا اللّه بقلوبهم فزعوا لعظمته وسلطانه أو لوعده ووعيده ومحاسبته لخلقه ، والآية بمعنى قوله : « وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ، الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ » .
(2) (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) أي وإذا تليت عليهم آياته المنزلة على خاتم أنبيائه صلى اللّه عليه وسلم زادتهم يقينا فى الإيمان ، وقوة فى الاطمئنان ، ونشاطا فى الأعمال إذ أن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج يوجب زيادة اليقين ، فابراهيم صلوات اللّه وسلامه عليه كان مؤمنا بإحياء اللّه الموتى حين دعا ربه أن يريه كيف يحييها كما قال تعالى : « أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ؟ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي » فمقام الطمأنينة فى الإيمان يزيد على ما دونه من الإيمان المطلق قوة وكمالا. ويروى أن عليا المرتضى قال : لو كشف عنى الحجاب ما ازددت يقينا ، والعلم التفصيلي فى الإيمان أقوى من العلم الإجمالى ، فمن آمن بأن للّه علما محيطا بالمعلومات ، وحكمة قام بها نظام الأرض والسموات ، ورحمة وسعت جميع المخلوقات ويعلم ذلك علما إجماليا ولو سألته أن يبين لك شواهده فى الخلق لعجز - لا يوزن إيمانه بإيمان صاحب العلم التفصيلي بسنن اللّه فى الكائنات فى كل نوع من أنواع المخلوقات ، ولا سيما فى العصور الحديثة التي اتسعت فيها معارف البشر بهذه السنن ، فعرفوا منها ما لم يكن يخطر عشر معشاره لأحد من العلماء فى القرون الخوالى.
وفى معنى الآية قوله تعالى فى وصف الذين استجابوا للّه والرسول من بعد ما أصابهم(9/165)
ج 9 ، ص : 165
القرح فى غزوة أحد : « الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ » وقوله : « هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ » .
(3) (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي إنهم يتوكلون على ربهم وحده ولا يفوضون أمرهم إلى سواه ، فمن كان موقنا بأن اللّه هو المدبر لأموره وأمور العالم كله لا يمكن أن يكل شيئا منها إلى غيره.
وإذا كان الشرع والعقل حاكمين بأن للإنسان كسبا اختياريا كلفه اللّه العمل به وأنه يجازى على عمله إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وجب على الإنسان أن يسعى فى تدبير أمور نفسه بحسب ما وضعه اللّه فى نظام الأسباب وارتباطها بالمسببات ، وأن هذا الارتباط لم يكن إلا بتسخير اللّه تعالى وأن ما يناله باستعمالها فهو فضل من اللّه الذي سخرها وجعلها أسبابا وعلّمه ذلك ، وأن ما لا يعرف له سبب يطلب به ، فالمؤمن يتوكل على اللّه وحده وإليه يتوجه فيما يطلبه منه.
أما ترك الأسباب وتنكب سنن اللّه فى الخلق فهو جهل باللّه وجهل بدينه وجهل بسننه التي لا تتبدل ولا تتحول.
(4) (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يؤدونها مقوّمة كاملة فى صورتها وأركانها الظاهرة من قيام وركوع وسجود وقراءة وذكر وفى معناها وروحها الباطن من خشوع وخضوع فى مناجاة الرحمن ، واتعاظ وتدبر فى تلاوة القرآن ، وبهذا كله تحصل ثمرة الصلاة من الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.
(5) (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون بعض ما رزقناهم فى وجوه البر فى الزكاة المفروضة وبالنفقات الواجبة والمندوبة للأقربين والمعوزين ، وفى مصالح الأمة ومرافقها العامة التي بها يعلو شأنها بين الأمم ويكون عليها تقدمها وعمرانها.
(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي أولئك الذين اتصفوا بتلك الصفات هم دون من سواهم(9/166)
ج 9 ، ص : 166
هم المؤمنون حق الإيمان ، وهو نتيجة لتصديق إذعانى له أثر فى أعمال القلوب والجوارح وبذل المال فى سبيل اللّه.
روى الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري رضي اللّه عنه أنه مرّ برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال له : « كيف أصبحت يا حارثة ؟ قال أصبحت مؤمنا حقا :
قال : انظر ماذا تقول فإن لكل شىء حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ؟ فقال عزفت نفسى عن الدنيا ، فأسهرت ليلى ، وأظمأت نهارى ، وكأنى أنظر إلى عرش ربى بارزا ، وكأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأنى أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها ، فقال : يا حارثة عرفت فالزم (ثلاثا) »
وروى عن الحسن أن رجلا سأله أ مؤمن أنت ؟
قال الإيمان إيمانان ، فإن كنت تسألنى عن الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن ، وإن كنت تسألنى عن قوله تعالى : « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ » إلخ فو اللّه لا أدرى أنا منهم أم لا.
وبعد أن ذكر سبحانه أوصافهم ذكر جزاءهم عند ربهم فقال :
(لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي لهم درجات من الكرامة والزلفى لا يقدر قدرها عند ربهم الذي خلقهم وسوّاهم وهو القادر على جزائهم على جميل أعمالهم فى دار الجزاء والثواب ، واللّه تعالى فضل بعض الناس ورفعهم على بعض درجة أو درجات فى الدنيا وفى الآخرة وعند اللّه تعالى كما قال تعالى : « الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ » وقال تعالى فى الرسل : « تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ » الآية. وقال فى درجات الدنيا وحدها :
« وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ » .
ولهم مغفرة من اللّه لذنوبهم التي سبقت وصولهم إلى درجة الكمال ، ولهم رزق(9/167)
ج 9 ، ص : 167
كريم وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة ، والكريم تصف به العرب كل شىء حسن لا قبح فيه ولا شكوى.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 5 الى 8]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
تفسير المفردات
الشوكة : الحدة والقوة ، وأصلها واحدة الشوك ، شبهوا بها أسنة الرماح ، والطائفتان : طائفة العير الآتية من الشام ، وطائفة النفير التي جاءت من مكة للنجدة ، وغير ذات الشوكة : هى العير ، ودابر القوم : آخرهم الذي يأتى فى دبرهم ويكون من ورائهم ، ويحق الحق : أي يعز الإسلام لأنه الحق ، ويبطل الباطل : أي يزيل الباطل وهو الشرك ويمحقه.
المعنى الجملي
بدئت القصة بغزوة بدر الكبرى التي كانت أول فوز للمؤمنين ، وخذلان للمشركين ، مع بيان أحكام الغنائم التي غنمها المسلمون منهم - ثم ذكر هنا أول القصة وهو خروج النبي صلى اللّه عليه وسلم من بيته وكراهة فريق من المؤمنين لذلك ، وقد كان من مقتضى الإيمان الإذعان لطاعته والرضا بما يفعله بأمر ربه وما يحكم أو يأمر به.(9/168)
ج 9 ، ص : 168
الإيضاح
(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) أي إن الأنفال للّه يحكم فيها بالحق ، ولرسوله يقسمها بين من جعل اللّه لهم الحق فيها بالسوية وإن كره ذلك بعض المتنازعين فيها ممن كانوا يرون أنهم أحق بها ، كإخراج ربك إياك من بيتك بالحق للقاء إحدى الطائفتين من المشركين ، وقد كان كثير من المؤمنين كارهين لذلك ، لعدم استعدادهم للقتال ، ولنحو هذا من الأسباب التي تعلم مما يلى.
وبيان ذلك -
أن رسول اللّه لما سمع بأبى سفيان مقبلا بعيره من الشام ندب المسلمين إليهم ، وقال هذه عير قريش فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعل اللّه أن ينفّلكموها ، فخف بعضهم وثقل بعضهم ظنا منهم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يلقى حربا - وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز من يتجسس الأخبار ويسأل من لقى من الرّكبان تخوّفا على أمر الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك ، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتى قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها فى أصحابه ، فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى أصحابه حتى بلغ واديا يقال له ذفران حتى إذا كان ببعضه نزل وأتاه الخبر عن مسير قريش إليهم ليمنعوا عيرهم فأخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس بذلك واستشارهم فقام أبو بكر رضي اللّه عنه فقال فأحسن ، ثم قام عمر فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول اللّه امض لما أمرك اللّه به ، فنحن معك ، واللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى :
« فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ » ولكن اذهب أنت وربك إنا معكما مقاتلون ، فو الذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى برك الغماد (مدينة باليمن) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خيرا ودعا له بخير ، ثم قال(9/169)
ج 9 ، ص : 169
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أشيروا علىّ أيها الناس » وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول اللّه إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت فى ذمامنا ، نمنعك مما نمنع منه آباءنا ونساءنا ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتخوّف ألا تكون الأنصار ترى نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوّه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم ، فلما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك قال له سعد بن معاذ : واللّه لكأنك تريدنا يا رسول اللّه قال أجل ، فقال قد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول اللّه لما أمرك اللّه ، فو الذي بعثك بالحق ، لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما يتخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ، ولعل اللّه يريك منا ما تقرّبه عينك ، فسر بنا على بركه اللّه فسّر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقول سعد ونشّطه ذلك ثم قال : « سيروا على بركة اللّه وأبشروا فإن اللّه وعدني إحدى الطائفتين : العير القادمة من الشام وعلى رأسها أبو سفيان ، أو النفير الآتي من مكة لنجدتهم وعلى رأسهم أبو جهل واللّه لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم » .
(يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) أي يجادلونك المؤمنون فى الحق وهو تلقى النفير ، لإيثارهم عليه تلقى العير ، كراهية للقاء المشركين ، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم بعد أن تبين لهم الحق بإخبارك أنهم سينصرون أينما توجهوا - ويقولون ما كان خروجنا إلا للعير ، وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب ، وما كان هذا إلا لكراهتهم للقتال.
إذ أنهم كانوا فى حال ضعف ، فكان من حكمة اللّه أن وعدهم أولا إحدى طائفتى قريش تكون لهم على طريق الإبهام لا على طريق التعيين ، فتعلقت آمالهم بطائفة العير القادمة من الشام ، لأنها كسب عظيم لا مشقة فى إحرازه لضعف الحامية ، فلما ظهر لهم أنها فاتتهم ونجت إذ ذهبت من طريق سيف البحر (طريق الشاطى) وأن طائفة النفير خرجت من مكة بكل ما لدى قريش من قوة ، وأنها قد قربت منهم ووجب عليهم(9/170)
ج 9 ، ص : 170
قتالها ، إذ تبين أنها هى الطائفة التي وعدهم اللّه تعالى بالنصر عليها - صعب على بعضهم لقاؤها على قلتهم وكثرتها ، وضعفهم وقوتها ، وعدم استعدادهم للقتال كاستعدادها ، وطفقوا يعتذرون إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بأنهم لم يخرجوا إلا للعير ، لأنه لم يذكر لهم قتالا فيستعدوا له.
ولكن الحق تبين بحيث لم يبق للجدل فيه وجه - فلا ينبغى أن يقال إن طائفة العير هى مراد اللّه لأنها نجت ، ولا بأن يقال إننا لم نعدّ للقتال عدّته ، لأنه مهما تكن حالها فلا بد من الظفر بها لوعد اللّه به ، فإذا لا وجه للجدل إلا الجبن والخوف من القتال.
(كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي كأنهم لشدة ما هم فيه من جزع ورهب يساقون إلى موت محقق لا مهرب منه ، لوجود أماراته وأسبابه حتى كأنهم ينظرون إليه بأعينهم ، إذ ما بين حالهم وحال عدوهم من التفاوت فى القوة والعدد والخيل والزاد قاض بذلك ، ولكن اللّه تعالى وعد رسوله والمؤمنين بالظفر والنصر عليهم (ووعده لا يتخلف) أما هذه الأسباب العادية فكثيرا ما تتخلف ، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه الذي بيده كل شىء وهو القادر على كل شىء ، وهكذا أنجز اللّه وعده لرسوله والمؤمنين وكان لهم الظفر والفوز على عدوهم وكان هذا نصرا مؤزّرا للمسلمين على المشركين ، وبه علا ذكرهم فى البلاد العربية وهابهم قاصيها ودانيها.
(وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) أي واذكروا حين وعد اللّه إياكم أن إحدى الطائفتين لكم تتسلطون عليها وتتصرفون فيها.
(وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) أي وتتمنّون أن الطائفة غير ذات الشوكة : (وهى العير) تكون لكم ، لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا ، وعبر عنها بذلك تعريضا لكراهتهم للقتال وطمعهم فى المال.
(وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي ويريد اللّه بوعده غير ما أردتم ، يريد أن يثبت الحق الذي أراده بكلماته ، أي بآياته المنزلة على رسوله فى محاربة ذات الشوكة ،(9/171)
ج 9 ، ص : 171
وبما أمر به الملائكة من نزولهم للنصرة ، وبما قضى به من أسر المشركين وقتلهم وطرحهم فى قليب (بئر) بدر.
(وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أي ويهلك المعاندين جملة ، ويستأصل شأفتهم ، ويمحق قوتهم ، وقد كان الظفر ببدر فاتحة الظفر فيما بعدها إلى أن قطع اللّه دابر المشركين بفتح مكة.
قال صاحب الكشاف : يعنى أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفساف الأمور وألا تلقوا ما يرزؤكم فى أبدانكم وأموالكم ، واللّه عز وجل يريد معالى الأمور وما يرجع إلى عمارة الدين ونصرة الحق وعلوّ الكلمة والفوز فى الدارين ، وشتان بين المرادين ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة وكسر قوتهم بضعفكم ، وغلب كثرتهم بقلتكم وأعزكم وأذلهم ا ه.
(لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أي وعد اللّه بما وعد ، وأراد بإحدى الطائفتين ذات الشوكة ، ليحق الحق وهو الإسلام ويثبته ، ويبطل الباطل وهو الشرك ويزيله ، ولو كره المجرمون أولو الاعتداء والطغيان ، ولا يكون ذلك بالاستيلاء على العير بل بقتل أئمة الكفر من صناديد قريش الذين خرجوا إليكم من مكة ليستأصلوكم.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 9 الى 14]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13)
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)(9/172)
ج 9 ، ص : 172
تفسير المفردات
الاستغاثة : طلب الغوث ، وهو التخليص من الشدة والنقمة ، وممدكم : ناصركم ومغيثكم ، ومردفين : من أردفه إذا أركبه وراءه ، وتطمئن تسكن بعد ذلك الزلزال والخوف الذي عرض لكم فى جملتكم ، وعزيز : أي غالب على أمره ، حكيم لا يضع شيئا فى غير موضعه ، ويغشيكم : يجعله مغطيا لكم ومحيطا بكم ، والنعاس : فتور فى الحواس وأعصاب الرأس يعقبه النوم فهو يضعف الإدراك ولا يزيله كله فإذا أزاله كان نوما ، والرجز والرجس والركس : الشيء المستقذر حسا أو معنى ، ويراد به هنا وسوسة الشيطان ، والربط على القلوب تثبيتها وتوطينها على الصبر ، والرعب : الخوف الذي يملأ القلب فوق الأعناق : أي الرءوس ، والبنان : أطراف الأصابع من اليدين والرجلين ، شاقوا : أي عادوا وخالفوا ، وسميت العداوة مشاقة لأن كلا من المتعاديين يكون فى شق غير الذي يكون فيه الآخر.
المعنى الجملي
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه قال : حدثنى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال : لما كان يوم بدر نظر النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف أو يزيدون فاستقبل نبى اللّه القبلة ثم مدّ يده وجعل يهتف بربه : « اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد فى الأرض فما زال يهتف بربه مادّا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه(9/173)
ج 9 ، ص : 173
وقال يا نبى اللّه ، كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل اللّه تعالى :
« إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ » فلما كان يومئذ والتقوا هزم اللّه المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر سبعون.
و
روى البخاري عن ابن عباس قال : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر « اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد » فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك ، فخرج وهو يقول : « سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ » .
وقد كان الرسول صلى اللّه عليه وسلم يعلم بإعلام القرآن أن للنصر فى القتال أسباب حسية ومعنوية ، وأن للّه سننا مطردة ، وهو مع ذلك يعلم أن للّه توفيقا يمنحه من شاء من خلقه فينصر به الضعفاء على الأقوياء والفئة القليلة على الفئة الكثيرة بما لا ينقض به سننه ، وأن له فوق ذلك آيات يؤيد بها رسله ، فلما عرف من ضعف المؤمنين وقلتهم ما عرف استغاث اللّه تعالى ودعاه ليؤيدهم بالقوة المعنوية التي تكون أجدر بالنصر من القوة المادية ، وكان كل من علم بدعائه يتأسى به فى هذا الدعاء ويستغيث ربه كما استغاث.
الإيضاح
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) أي اذكروا وقت استغاثتكم ربكم قائلين ربنا انصرنا على عدوك ، يا غياث المستغيثين أغثنا ، والأمر بهذا الذكر لبيان نعمة اللّه عليهم حين التجائهم إليه ، إذ ضاقت عليهم الحيل وطلبوا مخلصا من تلك الشدة فاستجاب دعاءهم كما قال :
(فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) أي فأجاب دعاءكم بأنى ممدكم بألف من الملائكة يردف بعضهم بعضا ويتبعه ، وهذا الألف هى وجوههم وأعيانهم - وبهذا يطابق ما جاء فى سورة آل عمران : « بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ - بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ » .(9/174)
ج 9 ، ص : 174
(وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) أي وما جعل ذلك الإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تنصرون ، ولتسكن به قلوبكم من الزلزال الذي عرض لكم فكان من مجادلتكم للرسول فى أمر القتال ما كان ، وبذا تلقون أعداءكم ثابتين موقنين بالنصر.
(وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي ليس النصر إلا من عند اللّه دون غيره من الملائكة أو سواهم من الأسباب ، فهو سبحانه الفاعل للنصر والمسخّر له كتسخيره للأسباب الحسية والمعنوية ، ولا سيما ما لا كسب للبشر فيه كتسخير الملائكة تخالط المؤمنين فتفيد أرواحهم الثبات والاطمئنان.
(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إنه تعالى غالب على أمره ، حكيم لا يضع شيئا فى غير موضعه.
وظاهر الآية يدل على أنّ لإنزال الملائكة وإمداد المسلمين بهم فائدة معنوية ، فهو يؤثّر فى القلوب فيزيدها قوة وإن لم يكونوا محاربين ، وهناك روايات تدل على أنهم قاتلوا فعلا.
وفى يوم أحد وعدهم اللّه وعدا معلقا على الصبر والتقوى ، ولكن الشرط الأخير قد انتفى فانتفى ما علق عليه.
(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) أي إنه تعالى ألقى عليهم النعاس حتى غشيهم غلب عليهم تأمينا لهم من الخوف الذي كان يساورهم من الفرق الشاسع بينهم وبين عدوهم فى العدد والعدّة ونحو ذلك ، إذ من غلب عليه النعاس لا يشعر بالخوف ، كما أن الخائف لا ينام ولكن قد ينعس إذ تفتر منه الحواس والأعصاب.
روى البيهقي فى الدلائل عن على كرم اللّه وجهه قال : « ما كان فينا فارس بوم بدر غير المقداد ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلى تحت شجرة حتى أصبح »
والمتبادر من الآية أن النعاس كان فى أثناء القتال ، وهو يمنع الخوف ، لأنه ضرب من الذهول والغفلة عن الخطر.(9/175)
ج 9 ، ص : 175
(وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ ، وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) روى ابن المنذر من طريق ابن جرير عن ابن عباس رضي اللّه عنه : أن المشركين غلبوا المسلمين فى أول أمرهم على الماء فظمئ المسلمون ، وصلّوا مجنبين محدثين ، وكان بينهم رمال فألقى الشيطان فى قلوبهم الحزن وقال :
أتزعمون أن فيكم نبيا وأنكم أولياء وتصلّون مجنبين محدثين ، فأنزل اللّه من السماء ماء فسال عليهم الوادي ماء فشرب المسلمون وتطهروا وثبتت أقدامهم (أي على الرمل اللين لتلبده بالمطر) وذهبت وسوسته.
وقال ابن القيم : أنزل اللّه فى تلك الليلة مطرا واحدا فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم وكان على المسلمين طلّا طهرهم به وأذهب عنهم رجس الشيطان ووطّأ به الأرض ، وصلّب الرمل ، وثبّت الأقدام ومهّد به المنزل ، وربط على قلوبهم ، فسبق رسول اللّه وأصحابه إلى الماء فنزلوا عليه شطر الليل وصنعوا الحياض ثم غوّروا ما عداها من المياه ونزل رسول اللّه وأصحابه على الحياض وبنى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عريش على تلّ مشرف على المعركة ، ومشى فى موضع المعركة وجعل يشير بيده (هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان إن شاء اللّه تعالى فما تعدّى أحد منهم موضع إشارته) ا ه.
وقال ابن إسحاق : إن الحباب بن المنذر قال : يا رسول اللّه أ رأيت هذا المنزل ؟
أمنزلا أنزلكه اللّه ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه أم هو الرأى والحرب والمكيدة قال : (بل هو الحرب والرأى والمكيدة) قال : يا رسول اللّه فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغوّر ما وراءه من القلب (الآبار غير المبنية) ثم نبنى عليها حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقد أشرت بالرأى ، وفعلوا ذلك » .
وقد فهم من الآية أنه كان لهذا المطر أربع فوائد :(9/176)
ج 9 ، ص : 176
(1) تطهيرهم حسيا بالنظافة التي تنشّط الأعضاء وتدخل السرور على النفس ، وشرعيا بالغسل من الجنابة والوضوء من الحدث الأصغر.
(2) إذهاب رجس الشيطان ووسوسته.
(3) الربط على القلوب : أي توطين النفس على الصبر وتثبيتها كما قال :
« وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها » وهذا لما للمطر من المنافع التي تكون أثناء القتال.
(4) تثبيت الأقدام به ، ذاك أن هذا المطر لبّد الرمل وصيره بحيث لا تغوص فيه أرجلهم فقدروا على المشي كيف أرادوا ، ولو لاه لما قدروا على ذلك.
(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يثبت اللّه الأقدام بالمطر وقت الكفاح الذي يوحى فيه ربك إلى الملائكة آمرا لهم أن يثبّتوا به قلوب المؤمنين ويقووا عزائمهم ، فيلهموها تذكر وعد اللّه لرسوله وأنه لا يخلف الميعاد ، فالمراد بالمعية فى قوله (أَنِّي مَعَكُمْ) معية الإعانة والنصر والتأييد فى مواطن الجدّ ومقاساة شدائد القتال ، وهذه منّة خفية أظهرها اللّه تعالى ليشكروه عليها.
أخرج البيهقي فى الدلائل أن الملك كان يأتى الرجل فى صورة الرجل يعرفه فيقول :
أبشروا فإنهم ليسوا بشىء واللّه معكم ، كرّوا عليهم.
وقال الزجاج : كان ذلك بأشياء يلقونها فى قلوبهم تصح بها عزائمهم ويتأكد جدّهم ، وللملك قوة إلقاء الخير ويقال له إلهام ، كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر ويقال لها وسوسة.
(سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) هذا تفسير لقوله أنى معكم ، كأنه قيل :
أنى معكم فى إعانتكم بإلقاء الرعب فى قلوبهم.
(فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) أي فاضربوا الهام ، وافلقوا(9/177)
ج 9 ، ص : 177
الرءوس ، واحتزّوا الرقاب وقطّعوها وقطّعوا الأيدى ذات البنان التي هى أداة التصرف فى الضرب وغيره.
وقد كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يمر بين القتلى ببدر بعد انتهاء المعركة ويقول (نفلق هاما) فيتم البيت أبو بكر رضي اللّه عنه وهو :
نفلق هاما من رجال أعزّة علينا وهم كانوا أعق وأظلما
وفى ذلك دليل على ألمه صلوات اللّه عليه من الضرورة التي ألجأته إلى قتل صناديد قومه ، فالمشركون هم الذين ظلموه هو ومن آمن به حتى أخرجوهم من وطنهم بغيا وعدوانا ثم تبعوهم إلى دار هجرتهم يقاتلونهم فيها.
ثم بين سبب ذلك التأييد والنصر فقال :
لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)
أي ذلك الذي ذكر من تأييد اللّه للمؤمنين وخذلانه للمشركين بسبب أنهم شاقوا اللّه ورسوله : أي عاد وهما فكان كل منهما فى شق غير الذي فيه الآخر فاللّه هو الحق والداعي إلى الحق ، ورسوله هو المبلغ عنه ، والمشركون على الباطل وما يستلزمه من الشرور والآثام والخرافات.
َ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)
أي ومن يخالف أمر اللّه ورسوله فهو الحقيق بعقابه ، فلا أجدر بالعقاب من المشاقين له الذين يؤثرون الشرك وعبادة الطاغوت على توحيده تعالى وعبادته ، ويعتدون على أوليائه بمحاولة ردّهم عن دينهم بالقوة والقهر وإخراجهم من ديارهم ثم اتباعهم إلى مهجرهم يقاتلونهم فيه.
(ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) أي هذا العقاب الذي عجّلت لكم أيها الكافرون المشاقون للّه ورسوله فى الدنيا من انكسار وانهزام مع الخزي والذل أمام فئة قليلة العدد والعدد من المسلمين ، فذوقوه عاجلا ، واعلموا أن لكم فى الآخرة عذاب النار إن أصررتم على كفركم ، وهو شر العذابين وأبقاهما.(9/178)
ج 9 ، ص : 178
[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 19]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
تفسير المفردات
الزحف : من زحف إذا مشى على بطنه كالحية ، أو دبّ على مقعده كالصبى أو على ركبتيه ، أو مشى بثقل فى الحركة واتصال وتقارب فى الخطو كزحف صغار الجراد والعسكر المتوجه إلى العدو ، لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه يزحف ، إذ الكل يرى كجسم واحد متصل فتحس حركته بطيئة وإن كانت فى الواقع سريعة ، والأدبار :
واحدها دبر وهو الخلف ، ومقابله القبل ومن ثم يكنى بهما عن السوءتين ، وتولية الدبر والأدبار : يراد بهما الهزيمة لأن المنهزم يجعل خصمه متوجها إلى دبره ومؤخره ، والمتحرف للقتال وغيره : هو المنحرف عن جانب إلى آخر ، من الحرف وهو الطرف والفئة : الطائفة من الناس ، والمأوى : الملجأ الذي يأوى إليه الإنسان ، والموهن :
المضعف ، من أوهنه إذا أضعفه ، والكيد : التدبير الذي يقصد به غير ظاهره فتسوء عاقبة من يقصد به ، والاستفتاح طلب الفتح ، والفصل فى الأمر كالنصر فى الحرب.(9/179)
ج 9 ، ص : 179
المعنى الجملي
ذكر سبحانه وتعالى فى هذه الآيات حكما عاما لما سيقع من الوقائع والحروب فى مستأنف الزمان ، وجاء به فى أثناء قصة بدر عناية بشأنه وحثا للمؤمنين على المحافظة عليه.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) أي يا أيها الذين صدقوا اللّه ورسوله ، إذا لقيتم الذين كفروا حال كونهم زاحفين لقتالكم زحفا ، إذ الكفار هم الذين زحفوا من مكة إلى المدينة لقتال المؤمنين فقابلوهم ببدر.
(فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) أي فلا تولوهم ظهوركم وأقفيتكم منهزمين منهم وإن كانوا أكثر منكم عددا وعدة ، ولكن اثبتوا لهم ، فإن اللّه معكم عليهم.
(وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي ومن يولهم حين تلقونهم ظهره إلا متحرفا لمكان رآه أحوج إلى القتال فيه ، أو لضرب من ضروبه رآه أنكى بالعدو كأن يوهم خصمه أنه منهزم منه ليغريه باتباعه حتى إذا انفرد عن أنصاره كرّ عليه فقتله - أو منتقلا إلى فئة من المؤمنين فى جهة غير التي كان فيها ليشدّ أزرهم وينصرهم على عدو تكاثر جمعه عليهم فصاروا أحوج إليه ممن كان معهم - من فعل ذلك فقد رجع متلبسا بغضب عظيم من اللّه ، ومأواه الذي يلجأ إليه فى الآخرة جهنم دار العقاب وبئس المصير هى :
ذاك أن المنهزم أراد أن يأوى إلى مكان يأمن فيه الهلاك ، فعوقب بجعل عاقبته دار الهلاك والعذاب الدائم وجوزى بضد غرضه.
وفى الآية دلالة على أن الفرار من الزحف من كبائر المعاصي ، وجاء التصريح بذلك
فى صحيح الأحاديث فقد روى الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا « اجتنبوا السبع الموبقات (المهلكات) قالوا يا رسول اللّه وما هن ؟ . قال : الشرك باللّه والسحر وقتل(9/180)
ج 9 ، ص : 180
النفس التي حرم اللّه إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولّى يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » .
وقد خصص بعض العلماء هذا بما إذا كان الكفار لا يزيدون على ضعف المؤمنين.
قال الشافعي : إذا غزا المسلمون فلقوا ضعفهم من العدو حرم عليهم أن يولّوا إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة ، وإن كان المشركون أكثر من ضعفهم لم أحب لهم أن يولّوا ، ولا يستوجبون السحط عندى من اللّه لو ولّوا عنهم على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة. وروى عن ابن عباس قال : من فر من ثلاثة فلم يفرّ ، ومن فرّ من اثنين فقد فرّ.
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) أي يا أيها الذين آمنوا لا تولوا الكفار ظهوركم أبدا فأنتم أولى منهم بالثبات والصبر ثم بنصر اللّه تعالى ، انظروا إلى ما أوتيتم من نصر عليهم على قلة عددكم وعدتكم وكثرتهم واستعدادهم ، ولم يكن ذلك إلا بتأييد من اللّه تعالى لكم وربطه على قلوبكم وتثبيت أقدامكم ، فلم تقتلوهم ذلك القتل الذي أفنى كثيرا منهم بقوتكم وعدتكم ولكن قتلهم بأيديكم ، بما كان من تثبيت قلوبكم بمخالطة الملائكة وملابستها لأرواحكم ، وبإلقائه الرعب فى قلوبهم ، وهذا بعينه هو ما جاء فى قوله تعالى : « قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ » .
والمؤمن أحرى بالصبر الذي هو من أجل عوامل النصر من الكافر ، إذ هو أقل حرصا على متاع الدنيا وأعظم رجاء للّه والدار الآخرة ، يؤيد هذا قوله تعالى :
« وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ » .
ثم انتقل من خطاب المؤمنين الذين قتلوا أولئك الصناديد بسيوفهم إلى خطاب الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وهو قائدهم الأعظم فقال :(9/181)
ج 9 ، ص : 181
(وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى ) أي وما رميت أيها الرسول أحدا من المشركين فى الوقت الذي رميت فيه القبضة من التراب بإلقائها فى الهواء فأصابت وجوههم فإن ما فعلته لا يكون له من التأثير مثل ما حدث ، ولكن اللّه رمى وجوههم كلهم بذلك التراب الذي ألقيته فى الهواء على قلته أو بعد تكثيره بمحض قدرته.
فقد روى « أن النبي صلى اللّه عليه وسلم رمى المشركين يومئذ بقبضة من التراب وقال : شاهت الوجوه ثلاثا ، فأعقبت رميته هزيمتهم » .
و
روى على بن أبي طلحة عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قال فى استغاثته يوم بدر « يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد فى الأرض أبدا » قال له جبريل : خذ قبضة من التراب فارم بها وجوههم ، ففعل فما من أحد من المشركين إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولّوا مدبرين.
والفرق بين قتل المسلمين للكفار وبين رمى النبي صلى اللّه عليه وسلم إياهم بالتراب :
أن الأول فعل من أفعالهم المقدورة لهم بحسب سنن اللّه فى الأسباب الدنيوية ، وأن الثاني لم يكن سببا عاديا لإصابتهم وهزيمتهم ، لا مشاهدا كضرب أصحابه لأعناق المشركين ، ولا غير مشاهد ، إذ هو لا يكون سببا لشكاية أعينهم وشوهة وجوههم لقتله وبعده عن راميه وكونهم غير مستقبلين له كلهم ، ومن ثم كانت الحاجة ماسة إلى بيان نقص الأول وعدم استقلاله بالسببية وبيان أنه لو لا تأييد اللّه ونصره لما وصل كسبهم المحض إلى هذا القتل لأنك قد علمت ما كان من خوفهم وكراهتهم للقتال وبمجادلة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فهم لو ظلوا على هذه الحال مع قلتهم وضعفهم لكان مقتضى الأسباب العادية أن يمحقهم المشركون محقا.
فالفرق بين فعله تعالى فى القتل وفعله فى الرمي - أن الأول عبارة عن تسخيره تعالى لهم أسباب القتل كما هو الحال فى جميع كسب البشر وأعمالهم الاختيارية من كونها لا تستقل فى حصول غاياتها إلا بفعل اللّه وتسخيره لهم ، وللأسباب التي لا يصل إليها كسبهم عادة كما بين ذلك سبحانه بقوله « أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ(9/182)
ج 9 ، ص : 182
أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ »
فالإنسان يحرث الأرض ويلقى فيها البذر ولكنه لا يملك إنزال المطر ولا إنبات الحب وتغذيته بمختلف عناصر التربة ولا دفع الجوائح عنه.
وأن الثاني من فعله تعالى وحده بدون كسب عادى للنبى صلى اللّه عليه وسلم فى تأثيره ، فالرمى منه كان صوريا لتظهر الآية على يده صلى اللّه عليه وسلم ، فما مثله فى ذلك إلا مثل أخيه موسى صلى اللّه عليه وسلم فى إلقائه العصا « فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى » .
(وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) أي فعل اللّه ما ذكر لإقامته حجته وتأييد رسوله ، وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا بالنصر والغنيمة وحسن السمعة.
(إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى سميع لما كان من استغاثة الرسول والمؤمنين ربهم ودعائهم إياه وحده ولكل نداء وكلام ، عليم بنياتهم الباعثة عليه والعواقب التي تترتب عليه.
(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) أي ذلكم البلاء الحسن هو الذي سمعتم - إلى أنه تعالى مضعف كيد الكافرين ومكرهم بالنبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين ومحاولتهم القضاء على دعوة التوحيد والإصلاح قبل أن يقوى أمرها وتشتد.
وبعد أن ذكر خذلانهم وإضعاف كيدهم - انتقل منه إلى توبيخهم على استنصارهم إياه على رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، وقد روى محمد بن إسحاق عن الزهري أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أيّنا كان أقطع للرحم ، وأتى بما لا يعرف فأحنه الغداة فكان ذلك منه استفتاحا. وقال السدى : كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا اللّه وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين ، فأجابهم اللّه بقوله :
(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) أي إن تستنصروا لأعلى الجندين وأهداهما فقد جاءكم الفتح ونصر أعلاهما وأهداهما.
وهذا من قبيل التهكم بهم لأنه قد جاءهم الهلاك والذلة.(9/183)
ج 9 ، ص : 183
(وَ إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي وإن تنتهوا عن عداوة النبي صلى اللّه عليه وسلم وقتاله فالانتهاء خير لكم لأنكم قد ذقتم من الحرب ماذقتم من قتل وأسر بسبب ذلك العدوان.
(وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) أي وإن تعودوا إلى حربه وقتاله نعد إلى مثل ما رأيتم من الفتح له عليكم حتى يجىء الفتح الأعظم الذي به تدول الدّولة للمؤمنين عليكم ، وبه يذل شرككم وتذهب ريحكم.
(وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ) أي ولن يدفع عنكم رهطكم شيئا من بأس اللّه وشديد نقمته ولو كثرت عددا ، إذ لا تكون الكثرة وسيلة من وسائل النصر أمام القلة إلا إذا تساوت معها فى أمور كثيرة كالصبر والثبات والثقة باللّه تعالى ، فهو الذي بيده النصر والقوة.
(وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) بمعونته وتوفيقه فلا تضرهم قلتهم ولا كثرة عددكم ، فهو يؤتى النصر من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 23]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
المعنى الجملي
بعد أن هدد اللّه المشركين بقوله : وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغنى عنكم فئتكم شيئا - قفى على ذلك بتأديب المؤمنين بالأمر بطاعة الرسول وإجابة دعوته إذا دعا للقتال فى سبيل حياطة الدين وصد من يمنع نشره ويقف فى طريق تبليغ دعوته.(9/184)
ج 9 ، ص : 184
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) أي أطيعوا اللّه ورسوله فى الإجابة إلى الجهاد وترك المال إذا أمر اللّه بتركه ، ولا تعرضوا عن طاعته ، وعن قبول قوله ، وعن معونته فى الجهاد ، وأنتم تسمعون كلامه الداعي إلى وجوب طاعته وموالاته ونصره ، ولا شك أن المراد بالسماع هنا سماع الفهم والتصديق بما يسمع ، كما هو شأن المؤمنين الذين من دأبهم أن يقولوا « سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ » .
(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) وهؤلاء القائلون فريقان : فريق الكفار المعاندين ، وفريق المنافقين الذين قال فى بعض منهم « وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً ؟ » .
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) الدواب ، واحدها دابة :
وهى كل مادبّ على الأرض كما قال « وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ » وقلّ أن يستعمل فى الإنسان بل الغالب أن يستعمل فى الحشرات ودواب الركوب ، فإذا استعمل فيه كان ذلك فى موضع الاحتقار ، أي إن شر مادب على الأرض فى حكم اللّه وقضائه هم الصم الذين لا يصغون بأسماعهم ليعرفوا الحق ويعتبروا بالموعظة الحسنة ، فهم بفقدهم لمنفعة السمع كانوا كأنهم فقدوا حاسته ، البكم الذين لا يقولون الحق ، ومن ثم كانوا كأنهم فقدوا النطق الذين لا يعقلون الفرق بين الحق والباطل والخير والشر إذ هم لو عقلوا لطلبوه واهتدوا إلى ما فيه المنفعة والفائدة لهم كما قال « إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ » .
والخلاصة - إنهم حين فقدوا منفعة السمع والنطق والعقل كانوا كأنهم فقدوا هذه المشاعر والقوى ، بأن خلقوا خداجا ناقصى هذه المشاعر ، أو طرأت عليهم آفات(9/185)
ج 9 ، ص : 185
أذهبت هذه القوى بل هم شر منهم ، لأن هذه المشاعر خلقت لهم فأفسدوها على أنفسهم ، إذ لم يستعملوها فيما خلقت لأجله حين التكليف.
(وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) أي ولو علم اللّه فيهم استعدادا للإيمان والهداية بنور النبوة ولم يفسد قبس الفطرة سوء القدوة وفساد التربية ، لأسمعهم بتوفيقه الكتاب والحكمة سماع تدبر وتفهم ، ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم فهم ممن ختم اللّه على قلوبهم وأحاطت بهم خطاياهم.
(وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي ولو أسمعهم - وقد علم أنه لا خير فيهم - لتولوا عن القبول والإذعان وهم معرضون من قبل ذلك بقلوبهم عن قبوله والعمل به كراهة وعناد للداعى إليه ولأهله فقد فقدوا الاستعداد لقبول الحق والخير فقدا تاما لا فقدا عارضا موقوتا.
والخلاصة - إن للسماع درجات باعتبار ما يطالب اللّه به من الاهتداء بكتابه :
(1) أن يتعمد من يتلى عليه ألا يسمعه مبارزة له بالعدوان بادئ ذى بدء خوفا من سلطانه على القلوب أن يغلبهم.
(2) أن يستمع وهو لا ينوى أن يفهم ويتدبر كالمنافقين الذين قال اللّه فيهم :
« وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً » .
(3) أن يستمع لأجل التماس شبهة للطعن والاعتراض ، كما كان يفعل المعاندون من المشركين وأهل الكتاب وقت التنزيل وفى كل حين إذا استمعوا إلى القرآن أو نظروا فيه.
(4) أن يسمع ليفهم ويتدبر ثم يحكم له أو عليه ، وهذا هو المنصف ، وكم من السامعين أو القارئين آمن بعد أن نظر وتأمل فقد نظر طبيب فرنسى فى ترجمة القرآن فرأى أن كل النظريات الطبية التي فيه كالطهارة والاعتدال فى المآكل والمشارب وعدم(9/186)
ج 9 ، ص : 186
الإسراف فيهما ونحو ذلك من المسائل التي فيها محافظة على الصحة - توافق أحدث النظريات التي استقر عليها رأى الأطباء فى هذا العصر - فرغب فى هذا كله وأسلم ورأى ربّان بارجة إنكليزية ترجمة القرآن واستقصى كل ما فيها من الكلام عن البحار والرياح فظن أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان من كبار الملاحين فى البحار ، وبعد أن سأل عن ذلك وعرف أنه لم يركب البحر قط ، وهو مع ذلك أمّىّ لم يقرأ كتابا ولا تلقى عن أحد درسا قال : الآن علمت أنه كان بوحي من اللّه لأن فيه حقائق لا يعلمها إلا من اختبر البحار بنفسه ، أو تلقاها عن غيره من المختبرين ، ثم أسلم وتعلم العربية.
وكثير من المسلمين يستمعون القراء ويتلون القرآن فلا يشعرون بأنهم فى حاجة إلى فهمه وتدبر معناه ، بل يستمعونه للتلذذ بتجويده وتوقيع التلاوة على قواعد النغم ، أو يقصدون بسماعه التبرك فقط ، ومنهم من يحضر الحفّاظ عنده فى ليالى رمضان ، ويجلسهم فى حجرة البوّابين أو غيرهم من الخدم تشبها بالأكابر والوجهاء.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 24 الى 26]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه وجوب طاعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وعدم التولي حين الجهاد ، أردفه الأمر بالاستجابة له إذا دعاهم لهدى الدين وأحكامه عامة ، لما فى ذلك من(9/187)
ج 9 ، ص : 187
تكميل الفطرة الإنسانية وسعادتها فى الدنيا والآخرة ، وكرر النداء بلفظ المؤمنين تنشيطا لهم إلى الإصغاء لما يرد بعده من الأوامر والنواهي ، وإيماء إلى أنهم قد حصّلوا ما يوجب عليهم الاستجابة وهو الإيمان.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) أي إن الرسول دعاكم بأمر ربكم لما فيه حياتكم الروحية : من علم بسننه فى خلقه ومن حكمة وفضيلة ترفع نفس الإنسان وترقى بها إلى مراتب الكمال حتى تحظى بالقرب من ربها وتنال رضوانه فى الدار الآخرة - فأجيبوا دعوته بقوة وعزم. كما قال فى آية أخرى :
« خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ » وطاعته صلى اللّه عليه وسلم واجبة فى حياته ، وبعد مماته فيما علم أنه دعا إليه دعوة عامة من أمور الدين الذي بعثه اللّه به كبيانه لصفة الصلاة وعددها قولا أو فعلا فقد صلى بأصحابه
وقال : « صلّوا كما رأيتمونى أصلى »
وقال « خذوا عنّى مناسككم »
وبيانه لمقادير الزكاة وغيرها من السنن العملية المتواترة وأقواله كذلك ، فكل من ثبت لديه شىء منها ببحثه أو بحث العلماء الذين يثق بهم وجب عليه الاهتداء به.
أما الإرشادات النبوية فى أمور العادات كاللباس والطعام والشراب والنوم ، فلم يعدّها أحد من الأئمة دينا يجب الافتداء به فيه.
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) نبهنا اللّه فى هذه الآية لأمرين لهما خطرهما فى سعادة الإنسان الأخروية ، وهما :
(1) أنه قد جرت سنة اللّه فى البشر أن يحول بين المرء وقلبه ، وهو مركز الإحساس والوجدان والإدراك الذي له السلطان على الإرادة والعمل ، أي إنه تعالى يميت القلب فتفوت الفرصة التي هو واجدها من التمكن من معالجة أدوائه وعلله ، ورده سليما كما يريده اللّه ، وهذا أخوف ما يخافه المتقى على نفسه إذا غفل عنها وفرّط فى جنب اللّه ،(9/188)
ج 9 ، ص : 188
وكذلك هو أرجى شىء يرجوه المسرف إذا لم ييأس من روح اللّه ، فإنا لنشاهد أن كثيرا من الناس يسيرون على الهدى ويتقون الطرق التي تصل بهم إلى مهاوى الهلاك والردى فإذا بقلوبهم قد تقلبت بعواصف تميل بهم عن الصراط المستقيم كشبهة تزعزع الاعتقاد أو شهوة يغلب بها الغىّ الرشاد فيطيعون أهواءهم ويسيرون وراء وساوس الشيطان.
وفى ذلك إيماء إلى أن الطائع المجدّ لا يأمن مكر اللّه فيغتر بطاعته ويعجب بنفسه ، والعاصي المنصرف عن الطاعة لا ييأس من روح اللّه فيسترسل فى اتباع هواه ، حتى تحيط به خطاياه ومن لم يأمن عقاب اللّه ولا ييأس من روح اللّه كان جديرا بأن يراقب قلبه ، ويحاسب نفسه على خواطره ويعاقب نفسه على هفواته ، لتظل على الصراط المستقيم.
والخلاصة - إن من سننه تعالى فى البشر أن من يتبع هواه فى أعماله تضعف إرادته فى مقاومته فلا تؤثر فيه المواعظ القولية ولا العبر المبصرة ولا المعقولة.
روى البخاري وأصحاب السنن قال : كانت يمين النبي صلى اللّه عليه وسلم « لا ومقلّب القلوب » .
(2) أن نتذكر حشرنا إليه ومحاسبته إيانا على أعمالنا القلبية والبدنية ، ومجازاته إيانا بالعذاب أو النعيم ، فلا نألو جهدا فى انتهاز الفرصة لنعمل صالح الأعمال.
وبعد أن أمرنا سبحانه بتلك الأوامر ونهانا عن النواهي التي تخص أعمال الإنسان الاختيارية ، أمرنا أن نتقى الفتن الاجتماعية التي لا تخص الظالمين ، بل تتعداهم إلى غيرهم ، وتصل إلى الصالح والطالح فقال :
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الفتنة : البلاء والاختبار ، أي اتقوا وقوع الفتن التي لا تختص إصابتها بمن يباشرها وحده ، بل تعمه وغيره كالفتن القومية التي تقع بين الأمم فى التنازع على المصالح العامة من الملك والسيادة أو التفرق فى الدين والشريعة والانقسام إلى الأحزاب الدينية والأحزاب السياسية ، ونحو ذلك(9/189)
ج 9 ، ص : 189
من ظهور البدع والتكاسل فى الجهاد وإقرار المنكر الذي يقع بين أظهرهم والمداهنة فى الأمر بالمعروف ونحو ذلك من الذنوب التي جرت سنة اللّه بأن تعاقب عليها الأمم فى الدنيا قبل الآخرة.
أخرج ابن جرير من طريق الحسن قال : لقد خوّفنا بهذه الآية ، ونحن مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما ظننا أننا خصصنا بها.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر فى الآية قال : نزلت فى علىّ وعثمان وطلحة والزبير ، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال :
علم واللّه ذوو الألباب من أصحاب محمد حين نزلت هذه الآية أن سيكون فتن.
وروى عن ابن عباس قال : أمر اللّه المؤمنين ألا يقرّوا المنكر بين أظهرهم فيعمهم اللّه.
بالعذاب.
وقال عدىّ بن عميرة : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « إن اللّه لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم ، وهم قادرون على أن ينكروه ، فإذا فعلوا ذلك عذب اللّه الخاصة والعامة » .
وروى أحمد والبزار وابن مردويه عن مطرّف قال : قلنا للزبير يا أبا عبد اللّه ضيعتم الخليفة (عثمان) حتى قتل ثم جئتم تطلبون بدمه فقال : إنا قرأنا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان « وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً » ولم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت.
وعلى الجملة ففتنة عثمان كانت أول الفتن التي اختلفت فيها الآراء ، فاختلفت أعمال أهل الحل والعقد ، وخلا الجو للمفسدين من زنادقة اليهود والمجوس وغيرهم ، ثم أعقبتها فتنة الجمل بصفّين ، ثم فتنة ابن الزبير مع بنى أمية ، ثم قتل الحسين بكربلاء ، إلى نحو ذلك من الفتن التي كان لها آثارها فى الإسلام ، ولو تداركوها كما تدارك أبو بكر رضي اللّه عنه أهل الردة لما كانت فتنة تبعتها فتن كثيرة أكبرها فتن الخلافة والملك وفتن الآراء والمذاهب الدينية والسياسية.
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي إنه تعالى شديد عقابه للأمم والأفراد(9/190)
ج 9 ، ص : 190
خالفت سنته التي لا تبديل لها ولا تحويل أو خالفت هدى دينه المزكّى للأنفس المطهر للقلوب.
وهذا العقاب منه ما هو فى الدنيا وهو مطرد فى الأمم ، وقد أصيبت به الأمة الإسلامية فى القرن الأول الذي كان أهله خير القرون بعده ، إذ فصّروا فى درء الفتنة الأولى فعاقبهم اللّه عقابا شديدا على ذلك ، ثم تسلسل العقاب فى كل جيل وقع فيه ذلك ، ثم امتزجت الفتن المذهبية بالفتن السياسية على الملك والسلطان حتى دالت الخلافة التي تنافسوا فيها وتقاتلوا لأجلها.
وقد يقع هذا العقاب للأفراد لكنهم ربما لا يشعرون به ، لأنه يقع تدريجيا فلا يكاد يحسّ به ، وأما العقاب الأخروى فأمره إلى اللّه العالم بالسر والنجوى والذي جعل العقاب آثارا طبيعية للذنوب التي تجترحها الأفراد والأمم.
(وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) هذا خطاب المهاجرين يذكرهم فيه سبحانه بما كان من ضعفهم وقلتهم ، وقد يكون الخطاب للمؤمنين عامة فى عصر التنزيل يذكّرهم فيه بما كان من ضعف أمتهم العربية فى الجزيرة بين الدول القوية من فارس والروم.
(تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) أي تخافون من مبدإ الإسلام إلى حين الهجرة أن يتخطفكم مشركو العرب من قريش وغيرها ، والمراد أن ينتزعوكم بسرعة فيفتكوا بكم كما كان يتخطف بعضهم بعضا فى خارج الحرم وتتخطفهم الأمم من أطراف جزيرتهم كما قال تعالى : « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ » .
(فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي فآواكم أيها المهاجرون إلى الأنصار وأيدكم وإياهم بنصره فى غزواتكم ، وسيؤيدكم على من سواكم من فارس والروم وغيرهما كما وعدكم بذلك فى كتابه الكريم ، ورزقكم من الطيبات(9/191)
ج 9 ، ص : 191
رجاء أن تشكروا هذه النعم وغيرها مما يؤتيكم من فضله كما وعد فى كتابه : « لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ » .
وقد أخرج ابن جرير عن قتادة فى قوله (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) الآية. قال : كان هذا الحي أذل الناس ذلا وأشقاه عيشا ، وأجوعه بطونا ، وأعراه جلودا ، وأبينه ضلالة ، معكوفين على رأس حجر بين فارس والروم ، لا واللّه ما فى بلادهم ما يحسدون عليه ، من عاش منهم عاش شقيا ، ومن مات منهم ردّى فى النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، لا واللّه ما نعلم قبيلا من حاضر الأرض يومئذ كان أشر منهم منزلا ، حتى جاء اللّه بالإسلام فمكّن به فى البلاد ووسّع به فى الرزق ، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس ، وبالإسلام أعطى اللّه ما رأيتم ، فاشكروا للّه نعمه ، فإن ربكم منعم يحب الشكر ، وأهل الشكر فى مزيد من نعم اللّه عز وجل.
وفى الآية من العبرة التي يجب على المؤمنين أن يتذكروها أنه أورث من اهتدى بهديه سعادة الدنيا وبسطة السلطان ومكّن لأهله فى الأرض وأنا لهم ما لم يكونوا يرجونه لو لا هدى الدين ، وأورثهم فى الآخرة فوزا ورضوانا من ربهم وروحا وريحانا وجنة نعيم هذا حين كانوا يعملون بهديه ، فلما أعرضوا عنه ونأوا بجانبهم عاقبهم اللّه بما جرت به سننه فى الأرض فأضاعوا ملكهم وسلّط عليهم أعداءهم ، فليعتبر المسلمون بما حل بهم ، وليرجعوا إلى تاريخ أسلافهم ، وليستضيئوا بنورهم وليثوبوا إلى رشدهم ، لعله يعيد إليهم تراثهم الغابر وعزهم الماضي : « إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » .
[سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)(9/192)
ج 9 ، ص : 192
تفسير المفردات
الخيانة : لغة تدل على الإخلاف والخيبة بنقص ما كان يرجى ويؤمل من الخائن ، فقد قالوا خانه سيفه إذا نبا عن الضّربية ، وخانته رجلاه إذا لم يقدر على المشي ، ومنه قوله : « عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ » أي تنقصونها بعض ما أحل لها من اللذات ، ثم استعمل فى ضد الأمانة والوفاء لأن الرجل إذا خان الرجل فقد أدخل عليه النقصان. والأمانة : كل حق مادّى أو معنوى يجب عليك أداؤه إلى أهله قال تعالى : « فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً » والفتنة : الاختبار والامتحان بما يشقّ على النفس فعله أو تركه أو قبوله أو إنكاره ، فهى تكون فى الاعتقاد والأقوال والأفعال والأشياء ، فيمتحن اللّه المؤمنين والكافرين والصادقين والمنافقين ، ويجازيهم بما يترتب على فتنتهم من اتباع الحق والباطل وعمل الخير أو الشر.
المعنى الجملي
روى أن أبا سفيان خرج من مكة : (وكان لا يخرج إلا فى عداوة الرسول صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين) فأعلم اللّه رسوله بمكانه ، فكتب رجل من المنافقين إلى أبى سفيان : إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل اللّه (لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) الآية.
وروى أنها نزلت فى أبي لبابة وكان حليفا لبنى قريظة من اليهود ، فلما خرج إليهم النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد إجلاء إخوانهم من بنى النّضير ، أرادوا بعد طول الحصار أن ينزلوا من حصنهم على حكم سعد بن معاذ وكان من حلفائهم من قبل غدرهم ونقضهم لعهد النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فأشار إليهم أبو لبابة ألا تفعلوا وأشار إلى حلقه (يريد أن سعدا سيحكم بذبحهم) فنزلت الآية.
قال أبو لبابة : ما زالت قدماى عن مكانهما حتى علمت أنى خنت اللّه ورسوله ،(9/193)
ج 9 ، ص : 193
و
روى « أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سأل امرأته : أ يصوم ويصلى ويغتسل من الجنابة ؟ فقالت إنه ليصوم ويصلى ويغتسل من الجنابة ويحب اللّه ورسوله » .
وقد روى « أن أبا لبابة شدّ نفسه على سارية من المسجد وقال : واللّه لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب اللّه علىّ ، ثم مكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه ، ثم تاب اللّه عليه ، فقيل له : قد تيب عليك ، فقال :
واللّه لا أحلّ نفسى حتى يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو الذي يحلّنى فجاء فحله بيده » .
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) أي لا تخونوا اللّه فتعطّلوا فرائضه أو تتعدوا حدوده وتنتهكوا محارمه التي بينها لكم فى كتابه ، ولا تخونوا الرسول فترغبوا عن بيانه لكتابه إلى بيانه بأهوائكم أو آراء مشايخكم أو آبائكم أو أوامر أمرائكم ، أو ترك سنته إلى سنة آبائكم وزعمائكم زعما منكم أنهم أعلم بمراد اللّه ورسوله منكم.
(وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) أي ولا تخونوا أماناتكم فيما بين بعضكم وبعض من المعاملات المالية وغيرها حتى الشئون الأدبية والاجتماعية ، فإفشاء السر خيانة محرمة ويكفى فى العلم بكونه سرا قرينة قولية كقول محدثك : هل يسمعنا أحد ؟ أو فعلية كالالتفات لرؤية من عساه يجىء ، وآكد أمانات السر وأحقها بالحفظ ما يكون بين الزوجين.
كذلك لا تخونوا أماناتكم فيما بينكم وبين أولى الأمر من شئون سياسية أو حربية فتطلعوا عليها عدوكم وينتفع بها فى الكيد لكم.
والخيانة من صفات المنافقين ، والأمانة من صفات المؤمنين ،
قال أنس بن مالك : قلما خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا قال : « لا إيمان لمن لا عهد له » رواه الإمام أحمد.(9/194)
ج 9 ، ص : 194
و
روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان ، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم » .
(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي وأنتم تعلمون مفاسد الخيانة وتحريم اللّه لها وسوء عاقبتها فى الدنيا والآخرة ، وقد يكون المعنى - وأنتم تعلمون أن ما فعلتموه خيانة لظهوره ، فإن خفى عليكم حكمه فالجهل له عذر إذا لم يكن مما علم من الدين ضرورة ، أو مما يعلم ببداهة العقل ، أو باستفتاء القلب كفعلة أبي لبابة التي كان سببها الحرص على المال والولد ، ومن ثم فطن لها قبل أن يبرح مكانه.
(وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)
أي إن فتنة الأموال والأولاد عظيمة لا تخفى على ذوى الألباب ، إذ أموال الإنسان عليها مدار معيشته وتحصيل رغائبه وشهواته ودفع كثير من المكاره عنه ، من أجل ذلك يتكلف فى كسبها المشاق ويركب الصعاب ويكلفه الشرع فيها التزام الحلال واجتناب الحرام ويرغّبه فى القصد والاعتدال ، ويتكلف العناء فى حفظها وتتنازعه الأهواء فى إنفاقها ، ويفرض عليه الشارع فيها حقوقا معينة وغير معينة : كالزكاة ونفقات الأولاد والأزواج وغيرهم.
وأما الأولاد فحبهم مما أودع فى الفطرة ، فهم ثمرات الأفئدة وأفلاذ الأكباد لدى الآباء والأمهات ، ومن ثم يحملهما ذلك على بذل كل ما يستطاع بذله فى سبيلهم من مال وصحة وراحة.
وقد روى عن أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم « الولد ثمرة القلب وإنه مجبنة مبخلة محزنة » .
فحب الولد قد يحمل الوالدين على اقتراف الذنوب والآثام فى سبيل تربيتهم والإنفاق عليهم وتأثيل الثروة لهم ، وكل ذلك قد يؤدى إلى الجبن عند الحاجة إلى الدفاع عن الحق أو الأمة أو الدين وإلى البخل بالزكاة والنفقات المفروضة والحقوق الثابتة كما يحملهم ذلك على الحزن على من يموت منهم بالسخط على المولى والاعتراض عليه(9/195)
ج 9 ، ص : 195
إلى نحو ذلك من المعاصي كنوح الأمهات وتمزيق ثيابهن ولطم وجوههن وعلى الجملة ففتنة الأولاد أكثر من فتنة الأموال ، فالرجل يكسب المال الحرام ويأكل أموال الناس بالباطل لأجل الأولاد.
فيجب على المؤمن أن يتقى الفتنتين ، فيتقى الأولى بكسب المال من الحلال وإنفاقه فى سبيل البر والإحسان ، ويتقى خطر الثانية من ناحية ما يتعلق منها بالمال ونحوه بما يشير إليه الحديث. ومن ناحية ما أوجبه الدين من حسن تربية الأولاد وتعويدهم الدين والفضائل وتجنيبهم المعاصي والرذائل.
(وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)
فعليكم أن تؤثروا ما عند ربكم من الأجر العظيم بمراعاة أحكام دينه فى الأموال والأولاد على ما عساه قد يفوتكم فى الدنيا من التمتع بهما.
[سورة الأنفال (8) : آية 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
تفسير المفردات
التقوى : ترك الذنوب والآثام ، وفعل ما يستطاع من الطاعات والواجبات الدينية ، وبعبارة أخرى : هى اتقاء ما يضر الإنسان فى نفسه وفى جنسه ، وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة والغايات الحسنة ، والفرقان : أصله الفرق والفصل بين الشيئين أو الأشياء ، ويراد به هنا نور البصيرة الذي به يفرق بين الحق والباطل والضّارّ والنافع ، وبعبارة ثانية : هو العلم الصحيح والحكم الرجيح ، وقد أطلق هذا اللفظ على التوراة والإنجيل والقرآن وغلب على الأخير قال تعالى « تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً » من قبل أن كلامه تعالى يفرق فى العلم والاعتقاد بين الإيمان والكفر ، والحق والباطل ، والعدل والجور ، والخير والشر.(9/196)
ج 9 ، ص : 196
المعنى الجملي
لما حذر اللّه تعالى من الفتنة بالأموال والأولاد ، قفى على ذلك بطلب التقوى التي ثمرتها ترك الميل والهوى فى محبة الأموال والأولاد.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) أي إن تتقوا اللّه فتتبعوا أوامر دينه وتسيروا بمقتضى سننه فى نظام خلقه يجعل لكم فى نفوسكم ملكة من العلم تفرقون بها بين الحق والباطل ، وتصلون بين الضار والنافع ، وهذا النور فى العلم الذي لا يصل إليه طالبه إلا بالتقوى هو الحكمة التي قال اللّه تعالى فيها « وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ، وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ » .
واتقاء اللّه يتحقق بمعرفة سننه فى الإنسان وحده أو فيه وهو فى المجتمع الإنسانى كما ترشد إلى ذلك آيات الكتاب الحكيم فى مواضع متفرقة منه ، ومن ثم كانت ثمرة التقوى حصول ملكة الفرقان التي بها يفرق صاحبها بين الأشياء التي تعرض له من علم وحكمة وعمل فيفصل فيها بين ما ينبغى فعله وما يجب تركه.
وعلى الجملة فالمتقى للّه يؤتيه اللّه فرقانا يميز به بين الرشد والغى ، ومن ثم كان الخلفاء والحكام من الصحابة والتابعين من أعدل حكام الأمم فى الأرض ، حتى لقد قال بعض المؤرخين من الإفرنج ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب.
(وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي ويمح بسبب ذلك الفرقان وتأثيره ما كان من دنس الآثام فى النفوس ، فتزول منها داعية العودة إليها ، ويغطيها فيسترها عليكم فلا يؤاخذكم بها ، واللّه الذي يفعل ذلك بكم له الفضل العظيم عليكم وعلى غيركم من خلقه.(9/197)
ج 9 ، ص : 197
وفى قوله (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) إيماء وتنبيه إلى أن ما وعد به المتقين من المثوبة فضل منه وإحسان تفضل به علينا بدون واسطة وبدون التماس عوض.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 30 الى 31]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
تفسير المفردات
ليثبتوك : أي ليشدوك بالوثاق ويرهقوك بالقيد والحبس حتى لا تقدر على الحركة ، والمكر : هو التدبير الخفي لإيصال المكروه إلى الممكور به من حيث لا يحتسب ، والغالب أن يكون فيما يسوء ويذم من الكذب والحيل ، وإذا نسب إلى اللّه كان من المشاكلة فى الكلام بتسمية خيبة المسعى فى مكرهم أو مجازاتهم عليه باسمه ، والأساطير :
واحدها أسطورة كأرجوحة وأراجيح وأحدوثة وأحاديث وهى الأقاصيص التي سطّرت فى الكتب بدون تمحيص ولا تثبيت من صحتها. وفى القاموس : الأساطير الأحاديث لا نظام لها واحدها إسطار وأسطير وأسطور وبالهاء فى الكل ، وأصل السطر الصف من الشيء كالكتاب والشجر ا ه.
المعنى الجملي
لما ذكر المؤمنين عامة بنعمه عليهم بقوله (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) ذكر هنا نعمه على رسوله خاصة بدفع كيد المشركين ومكر الماكرين بنصره عليهم وخيبة مسعاهم فى إيقاع الأذى به بعد أن تآمروا عليه وقطعوا برأى معين فيه.(9/198)
ج 9 ، ص : 198
الإيضاح
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا)
أي واذكر أيها الرسول نعمته تعالى عليك فى ذلك الزمن القريب الذي يمكر بك فيه قومك الذين كفروا بما يدبّرون فى السر من وسائل الإيقاع بك ، فإنّ فى ذلك القصص على المؤمنين والكافرين فى عهدك ومن بعدك لأكبر الحجج على صدق دعوتك ووعد ربك بنصرتك.
(لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) أي إن كلمتهم قد اتفقت على إيقاع الأذى بك بإحدى خلال ثلاث : إما الحبس الذي يمنعك من لقاء الناس ودعوتهم إلى الإسلام ، وإما القتل بطريق لا يكون ضررها عظيما عليهم كما سيأتى ، وإما الإخراج والنفي من الوطن.
وقد روى أن أبا طالب قال للنبى صلى اللّه عليه وسلم : ما يأتمر بك قومك ؟ قال :
يريدون أن يسجنونى أو يقتلونى أو يخرجونى ، قال من حدّثك بهذا ؟ قال ربى ، قال نعم الرب ربك فاستوص به خيرا. قال أنا أستوصى ؟ بل هو يستوصى بي فنزلت (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية.
وقد تحدثوا بهذا الحديث فسمعه أبو طالب فبلّغه للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، ولكن إجماع الرأى عليه والشروع فى تنفيذه قد وقع بعد موت أبي طالب.
(وَ يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي إن دأبهم معك ومع من اتبعك من المؤمنين تدبير الأذى لكم واللّه محبط ما دبروا ، فقد أخرجك من بينهم إلى دار الهجرة ، ووطن السلطان والقوة ، واللّه خير الماكرين ، لأن مكره نصر للحق ، وإعزاز لأهله ، وخذلان للباطل وحزبه.
وفى الآية إيماء إلى أن هذه حالهم الدائمة فى معاملته صلى اللّه عليه وسلم ومن تبعه من المؤمنين.(9/199)
ج 9 ، ص : 199
وحديث ذلك المكر الذي ترتبت عليه الهجرة إلى المدينة ، وبها ظهر الإسلام وخذل الشرك
روى من طرق عدة أقربها رواية ابن إسحاق فى سيرته قال : إن نفرا من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة واعتراضهم إبليس فى صورة شيخ جليل ، فلما رأواه قالوا من أنت ؟ قال شيخ من أهل نجد سمعت بما اجتمعتم له فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم منى رأى ونصح ، قالوا أجل فادخل ، فدخل معهم ، فقال : انظروا فى شأن هذا الرجل فو اللّه ليوشكنّ أن يؤاتيكم فى أمركم بأمره ، فقال قائل : احبسوه فى وثاق ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء : زهير والنابغة فإنما هو كأحدهم ، فقال عدو اللّه الشيخ النجدي لا واللّه ما هذا لكم برأى واللّه ليخرجن رائد من محبسه لأصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم ثم يمنعوه منكم ، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم ، فانظروا فى غير هذا الرأى ، فقال قائل : فأخرجوه من بين أظهركم فاستريحوا منه ، فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع وأين وقع ، وإذا غاب عنكم أذاه استرحتم منه ، فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع وكان أمره فى غيركم ، فقال الشيخ النجدي : لا واللّه ما هذا لكم برأى ، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذه للقلوب بما تسمع من حديثه ، واللّه لئن فعلتم ثم استعرض العرب لتجمعنّ إليه ليسيرن إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم ، قالوا صدق واللّه ، فانظروا رأيا غير هذا ، فقال أبو جهل واللّه لأشيرن عليكم برأى لا أرى غيره قالوا وما هذا ؟ قال نأخذ من كل قبيلة غلاما وسطا شابا نهدا ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما ثم يضربونه به ضربة رجل واحد ، فإذا قتلتموه تفرق دمه فى القبائل كلها ، فلا أظن هذا الحي من بنى هاشم يقدرون على حرب قريش كلهم ، وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل (الدية) واسترحنا وقطعنا عنا أذاه ، فقال الشيخ النجدي : هذا واللّه هو الرأى ، القول ما قال الفتى لا أرى غيره وتفرقوا على ذلك وهم مجتمعون له ، فأتى جبريل عليه السلام رسول اللّه صلى اللّه
عليه وسلم فأمره ألا يبيت(9/200)
ج 9 ، ص : 200
فى مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم ، فلم يبت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى بيته تلك الليلة وأذن اللّه له عند ذلك فى الخروج وأمره وصحبه بالهجرة. وافترض عليهم القتال فأنزل « أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ » الآيتين فكان أول ما أنزل فى الحرب وأنزل بعد قدومه المدينة يذكره نعمته عليه.
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآيتين.
ولما قص اللّه مكرهم فى ذات محمد قص علينا مكرهم فى دين محمد فقال :
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) أي وإذا تتلى على هؤلاء الذين كفروا آيات كتاب اللّه الواضحة لمن شرح اللّه صدره لفهمه قالوا جهلا منهم وعنادا للحق وهم يعلمون أنهم كاذبون : لو نشاء لقلنا مثل هذا الذي تلى علينا ، وقد نسب هذا القول إلى النضر بن الحارث من بنى عبد الدار وكان يختلف إلى أرض فارس فيسمع أخبارهم عن رستم وإسفنديار وكبار العجم ، ويمر باليهود والنصارى فيسمع منهم التوراة والإنجيل.
ثم عللوا هذه الدعوة الكاذبة بما هو أصرح منها فى الكذب فقالوا :
(إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي إن أخبار القرآن عن الرسل وأقوامهم تشبه قصص أولئك الأمم ، فهم يستطيعون أن يأتوا بمثلها فما هى من خبر الغيب الدالّ على أنه وحي من اللّه.
وقد يكون النضر أول من قال هذه الكلمة فقلده فيها غيره ، ولكنهم لم يكونوا يعتقدون أنها أساطير مختلفة وأن محمدا هو الذي افتراها ، إذ لم يكونوا يتهمونه بالكذب كما قال تعالى : « فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ » .
ونحو الآية قوله : « وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا » وهم ما كانوا يعتقدون صدق هذه المقالة ، لأنهم يعلمون أنه أمي لا يتعلم شيئا ، بل قالوا ذلك ليصدّوا العرب عن القرآن وقد كذبهم اللّه فيه فما استطاعوا له إثباتا.(9/201)
ج 9 ، ص : 201
وقد روى أن النضر هو الذي أنزل فيه « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً » فقد اشترى قينة جميلة تغنى الناس بأخبار الأمم لصرفهم عن سماع القرآن ، وهذا منتهى الجحود والعناد.
وقد كان زعماء قريش كالنضر بن الحارث وأبي جهل والوليد بن المغيرة يتواصون بالإعراض عن سماع القرآن ويمنعون الناس عنه ، ثم يختلفون أفرادا إلى بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم ليلا يستمعون إليه ويعجبون منه ومن تأثيره وسلطانه على القلوب حتى قال الوليد بن المغيرة كلمته المشهورة : إنه يعلو ولا يعلى عليه ، وإنه يحطم ما تحته ، فخافوا أن تسمعها العرب وما زالوا يلحون عليه ليقول كلمة منفرّة فقال : « إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ » .
[سورة الأنفال (8) : الآيات 32 الى 35]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
المعنى الجملي
روى أنه لما قال النضر : إن هذا إلا أساطير الأولين ، قال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : ويلك إنه كلام رب العالمين فقال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، الآية.(9/202)
ج 9 ، ص : 202
الإيضاح
(وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي اللهم إن كان هذا القرآن وما يدعو إليه هو الحق منزلا من عندك ليدين به عبادك كما يدّعى محمد صلى اللّه عليه وسلم فافعل بنا كذا وكذا.
وفى هذا إيماء إلى أنهم لا يتبعونه وإن كان هو الحق المنزل من عند اللّه ، بل يفضلون الهلاك بحجارة يرجمون بها من السماء أو بعذاب أليم سوى ذلك ، كما أن فيه تهكما وإظهار للحزم واليقين بأنه ليس من عند اللّه - وحاشاه - ومنه يعلم أيضا أن دعاءهم كفر وعناد ، لا لأن ما يدعوهم إليه قبيح وضار.
روى أن معاوية قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملّكوا عليهم امرأة! فقال : أجهل من قومى قومك حين قالوا : (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) ولم يقولوا : فاهدنا له.
ثم قال تعالى بيانا للموجب لإمهالهم والتوقف فى إجابة دعائهم.
(وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) أي وما كان من سنة اللّه ولا من مقتضى رحمته وحكمته أن يعذبهم وأنت الرسول فيهم ، لأنه إنما أرسلك رحمة ونعمة لا عذابا ونقمة - إلى أنه قد جرت سنته أيضا ألا يعذب أمثالهم من مكذبى الرسل وهم بين أظهرهم ، بل كان يخرج الرسل أوّلا كما حدث لهود وصالح ولوط.
(وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي وما كان اللّه ليعذبهم هذا العذاب الذي عذّب بمثله الأمم قبلهم فاستأصلهم ، وهم يستغفرون ، وهم المسلمون الذين بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المستضعفين.
روى ابن جرير قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة فأنزل اللّه :
(وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) ثم خرج إلى المدينة فأنزل اللّه : (وَما كانَ اللَّهُ(9/203)
ج 9 ، ص : 203
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)
وكان من بقي فى مكة من المؤمنين يستغفرون فلما خرجوا أنزل اللّه : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الآية فأذن اللّه فى فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم به.
(وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي وأىّ شىء يمنع تعذيبهم بما دون عذاب الاستئصال عند زوال المانع منه ، وكيف لا يعذبون وهم يمنعون المسلمين من دخول المسجد الحرام ولو لأداء النسك ؟ فما كان مسلم يقدر أن يدخل المسجد الحرام فإن دخل مكة عذبوه إذا لم يكن فيها من يجيره ، والمراد بالعذاب هنا عذاب بدر إذ قتل صناديدهم ورءوس الكفر كأبى جهل وأسر سراتهم.
(وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) أي وما كانوا مستحقين للولاية عليه لشركهم وعمل المفاسد فيه كطوافهم فيه عراة رجالا ونساء ، وهذا ردّ لقولهم : نحن ولاة البيت والحرام ، نصد من نشاء وندخل من نشاء.
(إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) أي إنه لا يلى أمره إلا من كان برّا تقيا ، لامن كان كافرا عابدا للصم.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنهم ليسوا أولياء اللّه ، ولا أن أولياءه ليسوا إلا المتقين فهم الآمنون من عذابه بمقتضى عدله فى خلقه والجديرون بولاية بيته.
وقد نسب هذا الجهل إلى الأكثر ، إذ كان فيهم من لا يجهل حالهم فى جاهليتهم وضلالهم فى شركهم وكون اللّه لا يرضى عنهم ، كما كان فيهم من يكتم إيمانه خوفا من الفتنة ومنهم المستعدون له بسلامة الفطرة ، وقد جرت سنة القرآن أن يدقق فى الحكم ، ولا يقول إلا الحق ولا يقول كما يقول الناس : إن القليل لا حكم له.
هذا ، وإن جماهير المسلمين الآن صاروا يجهلون ولاية اللّه لأوليائه ، فصارت هذه الولاية عندهم تشمل المجانين والمجاذيب الذين يسيل اللعاب من أشداقهم وترتع الحشرات فى ثيابهم وأجسادهم ، وتشمل أصحاب الدجل والخرافات ، والدعاوى الباطلة للكرامات ، وصاروا يؤيدون دعاويهم من رؤيا الأنبياء والأقطاب فى المنام.(9/204)
ج 9 ، ص : 204
ثم بين عز اسمه سوء حالهم فى أفضل ما بنى البيت لأجله ، وهى الصلاة ، فقد كانوا يطوفون عراة فقال :
(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) المكاء : الصفير ، والتصدية :
التصفيق ، وكان أحدهم يضع يده على الأخرى ويصفر ، قال ابن عباس : كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفّق ، وروى عنه أن الرجال والنساء منهم كانوا يطوفون عراة مشبّكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفّقون ،
وروى عن سعيد بن جبير قال : كانت قريش يعارضون النبي صلى اللّه عليه وسلم فى الطواف يستهزئون ويصفرون فنزلت (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً).
وعلى الجملة فقد كانت صلاتهم وطوافهم من قبيل اللهو واللعب سواء عارضوا الرسول صلى اللّه عليه وسلم فى طوافه وخشوع صلاته وحسن تلاوته أم لا.
(فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي فذوقوا عذاب القتل لبعض كبرائكم والأسر للآخرين منهم وانهزام الباقين مدحورين مكسورين يوم بدر.
والخلاصة - فذوقوا العذاب الذي طلبتموه ، وما كان لكم أن تستعجلوه إذ قلتم (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ).
[سورة الأنفال (8) : الآيات 36 الى 37]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37)
المعنى الجملي
لما بين سبحانه أحوال هؤلاء المشركين فى الطاعات البدنية بقوله : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية - قفّى على ذلك بذكر أحوالهم فى الطاعات المالية.(9/205)
ج 9 ، ص : 205
روى عن ابن عباس ومجاهد أن الآية نزلت فى أبي سفيان وما كان من إنفاقه على المشركين فى بدر ومن إعانته على ذلك فى أحد - ذلك أنه لما نجا بالعير بطريق البحر إلى مكة مشى ومعه نفر من المشركين يستنفرون الناس للقتال فجاءوا كل من كان لهم تجارة فقالوا : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل رجالكم فأعينونا بهذا المال على حربه فلعلنا ندرك منه ثأرا ففعلوا.
وقال سعيد بن جبير إنه استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش (واحدها حباشة :
الجماعة ليسوا من قبيلة واحدة) يقاتل بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سوى من استجاش من العرب وأنفق عليهم أربعين أوقية (والأوقية اثنان وأربعون مثقالا من الذهب).
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) سبيل اللّه دينه واتباع رسوله : أي إن مقصدهم بالإنفاق الصدّ عن اتباع محمد وهو سبيل اللّه وإن لم يكن عندهم كذلك.
(فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) أي إنه سيقع هذا الإنفاق وتكون عاقبته الحسرة لأنه سيذهب المال ولا يصلون إلى المقصود ، بل يغلبون كما قال تعالى :
«
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » وسينكسرون المرة بعد المرة.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) أي والذين كفروا يساقون يوم القيامة إلى جهنم إذا هم أصروا على كفرهم حتى ماتوا فيكون لهم شقاء الدارين وعذابهما.
وقد كان للمسلمين العبرة فى هذه الآية فينفقون أموالهم فى سبيل اللّه لأن لهم بها سعادة الدارين ، وهكذا كانوا أيام قاموا بحقوق الإسلام والإيمان.
والكفار فى هذا العصر ينفقون الكثير من الأموال للصد عن الإسلام وفتنة الضعفاء من العامة بالدعوة إلى دينهم وتعليم أولاد المسلمين فى مدارسهم ومعالجة رجالهم(9/206)
ج 9 ، ص : 206
ونسائهم فى مستشفياتهم إلى نحو ذلك من الوسائل الناجعة فى نشر دينهم وفتنة المسلمين عن دينهم وهم لا يبالون ماذا يفعلون - ألا ساء ما كانوا يعملون.
(لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) أي إن اللّه كتب النصر والغلب لعباده المتقين والخذلان والحسرة لمن يعاديهم ويقاتلهم من الكفار للصدّ عن سبيل اللّه ، ليميز الكفر من الإيمان ، والحق والعدل من الجور والطغيان.
وهذا التمييز بين الأمرين فى سنن الاجتماع هو بقاء أمثل الأمرين وأصلحهما :
« فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً ، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ » وسنن اللّه فى الدنيا والآخرة واحدة ، فالخبيث فى الدنيا خبيث فى الآخرة ومن ثم قال :
(وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ويجعل اللّه الخبيث بعضه منضما متراكبا على بعض بحسب سنته تعالى فى اجتماع المتشاكلات واختلاف المتناكرات كما
جاء فى الحديث « الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف »
ثم يجعل أصحابه فى جهنم إلى يوم القيامة ، وبئس المصير لمن خسر نفسه وماله.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 38 الى 40]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه حال من يصر على الكفر والصد عن سبيل اللّه وقتال رسوله والمؤمنين وعاقبة أعمالهم فى الدنيا والآخرة - قفى على ذلك ببيان من يرجعون عنه ويدخلون فى الإسلام لأن الأنفس فى حاجة إلى هذا البيان فقال :(9/207)
ج 9 ، ص : 207
الإيضاح
(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الكفار : إن ينتهوا عماهم عليه من عداوتك وعنادك بالصد عن سبيل اللّه ، يغفر لهم اللّه ما قد سلف منهم من ذلك ومن سواه من الذنوب ، فلا يعاقبهم على شىء من ذلك فى الآخرة ، ويغفر لهم الرسول والمؤمنون فلا يطالبون قاتلا منهم بدم ولا سالبا أو غانما بسلب ولا غنم.
روى مسلم من حديث عمرو بن العاص قال : فلما جعل اللّه الإيمان فى قلبى أتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقلت ابسط يدك أبايعك ، فبسط يده فقبضت يدى ، قال مالك ؟ قلت أردت أن أشترط. قال ماذا تشترط ؟ قلت أن يغفر لى قال أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله ؟ » .
(وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) أي وإن يعودوا إلى العداء والصد والقتال تجر عليهم سننه المطردة فى أمثال لهم من الأولين الذين عادوا الرسل وقاتلوهم ، من نصر المؤمنين وخذلانهم وهلاكهم كما حدث لهم يوم بدر كما قال : « إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ » .
ثم بين ما سلف من قوله : فقد مضت سنة الأولين ، ورغب المؤمنين فى قتالهم فقال :
(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) أي وقاتلهم أيها الرسول أنت ومن معك من المؤمنين حتى تزول الفتنة فى الدين بالتعذيب وضروب الإيذاء لأجل تركه كما فعلوا ذلك حين كانت لهم القوة والبطش فى مكة ، إذ أخرجوكم منها لأجل دينكم ثم أتوا لقتالكم فى دار الهجرة ، وحتى يكون الدين كله للّه فلا يستطيع أحد أن يفتن أحدا عن دينه ويكرهه على تركه إلى دين المكره تقيّة وخوفا.
وخلاصة ذلك - قاتلوهم حتى يكون الناس أحرارا فى عقائدهم لا يكره أحد أحدا(9/208)
ج 9 ، ص : 208
على ترك عقيدته إكراها ولا يؤذى ويعذب لأجلها كما قال تعالى : « لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ » والمسلمون إنما يقاتلون لحرية دينهم ولا يكرهون عليه أحدا من دونهم.
وروى عن ابن عباس تفسير الفتنة بالشرك - والمعنى عليه - قاتلوهم حتى لا يبقى شرك وتزول الأديان الباطلة فلا يبقى إلا الإسلام.
ويؤيد الرأى الأول أنه جاء رجلان فى فتنة ابن الزبير إلى عبد اللّه بن عمر فقالا :
إن الناس قد صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر بن الخطاب وأنت صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فما يمنعك أن تخرج ؟ قال يمنعنى أن اللّه حرم علىّ دم أخى المسلم. قالا ولم يقل اللّه (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) قال قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين للّه وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير اللّه.
(فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي فإن انتهوا عن الكفر وعن قتالكم فإن اللّه يجازيهم على ما فعلوا بحسب علمه.
(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ ، نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي وإن أعرضوا عن سماع تبليغكم ولم ينتهوا عن كفرهم وفتنتهم وقتالهم لكم فأيقنوا بنصر اللّه ومعونته لكم وهو متولى أموركم فلا تبالوا بهم ولا تخشوا بطشهم ، وهو نعم المولى ونعم النصير فلا يضيع من تولاه ولا يغلب من نصره.
وما غلب المسلمون فى العصور الأخيرة وذهب أكثر ملكهم إلا لأنهم تركوا الاهتداء بهدى دينهم وتركوا الاستعداد المادي والحربي الذي طلبه اللّه بقوله : « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ » واتكلوا على خوارق العادات وقراءة الأحاديث والدعوات ، وذلك ما لم يشرعه اللّه ولم يعمل به رسوله - إلى أنهم تركوا العدل والفضائل وسنن اللّه فى الاجتماع التي انتصر بها السلف الصالح ، وأنفقوا أموال الأمة والدولة فما حرم اللّه عليهم من الإسراف فى شهواتهم.(9/209)
ج 9 ، ص : 209 وعلى العكس من ذلك اتبع الإفرنج تعاليم الإسلام فاستعدوا للحرب واتبعوا سنن اللّه فى العمران فرجحت كفّتهم ، وللّه الأمر.
وما مكّن اللّه لسلف المسلمين من فتح بلاد كسرى وقيصر وغيرهما من البلاد إلا لما أصاب أهلها من الشرك وفساد العقائد فى الآداب ومساوى الأخلاق والعادات والانغماس فى الشهوات واتباع سلطان البدع والخرافات - فجاء الإسلام وأزال كل هذا واستبدل التوحيد والفضائل بها ، ومن ثم نصر اللّه أهله على الأمم كلها.
ولما أضاع جمهرة المسلمين هذه الفضائل واتبعوا سنن من قبلهم فى اتباع البدع والرذائل وقد حذرهم الإسلام من ذلك ، ثم قصروا فى الاستعداد المادي والحربي للنصر فى الحرب عاد الغلب عليهم لغيرهم ومكنّ لسواهم فى الأرض : « وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ » أي الصالحون لاستعمارها والانتفاع بما أودع فيها من كنوز وخيرات.
وفق اللّه المسلمين إلى الهدى والرشاد وجعلهم يعيدون سيرتهم الأولى ويهتدون بهدى دينهم ويستمسكون بآدابه ويتبعون سيرة السلف الصالح ، فيكتب لهم العز فى الدنيا والسعادة فى الآخرة ، والحمد للّه أولا وآخرا.
وكان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء فى ليلة العشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف بمدينة حلوان من أرباض القاهرة ، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.(9/210)
ج 9 ، ص : 210
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 4 حب الوطن لا يبلغ منزلة حب الدين.
5 أوجب اللّه الهجرة على من يستضعف فى وطنه فيمنع من إقامة دينه فيه.
15 الإيمان الصحيح سبب سعادة الدنيا والآخرة.
16 الأمن من مكر اللّه خسران ومفسدة كاليأس من رحمته.
17 فى قصص الماضين عبرة للحاضرين.
22 ذكر اسم موسى فى القرآن أكثر من مائة وثلاثين مرة.
24 الفتن السياسية والأكاذيب التي حدثت فى الصدر الأول مرجعها إلى الفرس الذين كانوا يروّجون الغش والتدليس لإفساد الإسلام.
26 السحر وضروبه ورواجه فى البلاد الهمجية.
27 السحر صناعة تتلقّى بالتعليم 35 اتهام فرعون السحرة بالتوطؤ مع موسى.
37 التاريخ المصري يدل على أنه كان للمصريين آلهة كثيرة.
39 ما كتبه المفسدون عن بنى إسرائيل منقول بالسماع منهم أو مأخوذ من كتب لا يوثق بصدقها.
51 طلب بنو إسرائيل من موسى أن يجعل لهم آلهة يعكفون على عبادتها.
51 سحرة موسى كانوا من العلماء.
53 فى القرآن وعد بزوال الوثنية من مصر.(9/211)
ج 9 ، ص : 211
الصفحة المبحث 59 الأخبار متعارضة فى رؤية اللّه يوم القيامة.
66 كثير ممن تعلم العلم فى البلاد الغربية من المسلمين يحتقرون هداية الدين الروحية.
68 عجل السامرىّ وصفته ، وكيف كان صنعه ، وردّ القرآن على من اتخذوه إلها.
78 اختار موسى من قومه سبعين رجلا.
81 صفات النبي صلى اللّه عليه وسلم فى القرآن.
89 ما جاء فى التوراة عن عدد بنى إسرائيل الذين كانوا فى التيه ، وردّ ابن خلدون على ذلك.
93 الحكمة فى كون النبي محمد عليه الصلاة والسلام أمّيا لا يقرأ ولا يكتب.
96 هل كان مسخ بنى إسرائيل فى الخلق أو فى الخلق ؟
109 ضرب اللّه المثل لمن يميل إلى الدنيا ويتبع هواه بالكلب فى أقبح حالاته 113 المؤمن تسمو نفسه بمعرفة ربه فلا يذل لغيره ولا يخاف منه.
114 المسلمون أهملوا النظر فى آيات اللّه فى الأنفس والآفاق.
115 الإسلام يحض على استعمال الطيبات فى الحياة بلا تقتير ولا إسراف.
117 إن للّه تسعة وتسعين اسما 123 عقاب الأمم مبنى على النواميس التي سنها اللّه فى الخليقة.
125 الأمر بالنظر فى ملكوت السموات والأرض 128 تأتى الساعة على الناس بغتة وهم لا يشعرون 130 الحكمة فى إخفاء الآجال والأعمال.
131 عمر الدنيا وما جاء فى ذلك من الآثار.
132 أشراط الساعة وأماراتها.
133 المهدى المنتظر 136 الرسول لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه اللّه عليه.(9/212)
ج 9 ، ص : 212
الصفحة المبحث 151 قوىّ الروح بالإيمان والتقوى لا تؤثر فيه نزغات الشيطان.
152 المؤمن إذا مسه طائف من الشيطان تذكر فأناب إلى ربه.
153 أوصاف القرآن.
155 ما يفعله جماهير الناس فى المحافل عند سماع القرآن.
156 ذكر اللّه باللسان وحده لا يجدى نفعا.
168 قصة بدر وسببها.
172 دعاء النبي ربه قبل الغزوة.
173 إنزال الملائكة مددا للمؤمنين.
179 الفرار من الزحف من الكبائر 188 من يتبع هواه لا تؤثر فيه النصائح 190 عقاب الأمم على ذنوبها مطرد دون عقاب الأفراد.
193 الخيانة من صفات المنافقين والأمانة من صفات المؤمنين.
196 المتقى يؤتيه اللّه فرقانا يميز به بين الرشد والغى.
198 اتفقت كلمة المشركين على إيقاع الأذى بالنبي صلى اللّه عليه وسلم بإحدى ثلاث.
205 أهل الكفر الآن ينفقون الأموال للصد عن الإسلام وفتنة الضعفاء.
208 ما غلب المسلمون وذهب أكثر ملكهم إلا لتركهم هدى الإسلام.(9/213)
ج 10 ، ص : 3
الجزء العاشر
[تتمة سورة الأنفال ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 44]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)(10/3)
ج 10 ، ص : 4
تفسير المفردات
الغنم والمغنم والغنيمة : ما يناله الإنسان ويظفر به بلا مقابل مادىّ ، وقولهم الغرم بالغنم : أي يقابل به ، والفيء : كل ما صار إلى المسلمين من أموال أهل الشرك بعد أن تضع الحرب أوزارها ، وتصير الدار دار إسلام ، وهو لكافة المسلمين. وليس فيه الخمس ، والنفل : ما يحصل للإنسان من الغنيمة قبل قسمتها.
المعنى الجملي
لما أمر اللّه سبحانه بقتال الكفار المعتدين الذين كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم حتى لا تكون فتنة ، ووعد المؤمنين بالنصر عليهم ، وكان ذلك مستتبعا لأخذ الغنائم منهم ناسب أن يذكر بعده ما يرضيه سبحانه فى قسمة الغنائم على الوجه الذي شرعه. والجمهور على أن هذه الآية نزلت فى غزوة بدر ، وعلى أن ابتداء فرض قسمة الغنائم كان بها.
الإيضاح
(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) أي واعلموا أيها المؤمنون أن كل ما غنمتموه من الكفار المحاربين ، فاجعلوا أوّلا خمسه للّه تعالى ينفق فيما يرضيه من مصالح الدين العامة كالدعوة للإسلام ، وإقامة شعائره وعمارة الكعبة وكسوتها ، ثم أعطوا للرسول منه كفايته لنفسه ونسائه مدة سنة ، ثم أعطوا منه ذوى القربى من أهله وعشيرته نسبا وولاء ، وقد خص الرسول صلى اللّه عليه وسلم ذلك ببني هاشم وبنى أخيه المطّلب(10/4)
ج 10 ، ص : 5
المسلمين ، دون بنى عبد شمس ونوفل ، ثم المحتاجين من سائر المسلمين ، وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل.
روى البخاري عن مطعم بن جبير (من بنى نوفل) قال : مشيت أنا وعثمان بن عفان (من بنى عبد شمس) إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلنا : يا رسول اللّه أعطيت بنى المطلب وتركتنا ، ونحن وهم بمنزلة واحدة. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « إنما بنو المطلب وبنو هاشم شىء واحد » .
وسرّ هذا أن قريشا لما كتبت الصحيفة وأخرجت بنى هاشم من مكة وحصرتهم فى الشعب لحمايتهم له صلى اللّه عليه وسلم دخل معهم فيه بنو المطلب ولم يدخل بنو عبد شمس ولا بنو نوفل - إلى ما كان من عداوة بنى أمية بن عبد شمس لبنى هاشم فى الجاهلية والإسلام ، فقد ظل أبو سفيان يقاتل النبي صلى اللّه عليه وسلم ويؤكّب عليه المشركين وأهل الكتاب إلى أن أظفر اللّه رسوله ودانت له العرب بفتح مكة ، وكذلك بعد الإسلام خرج معاوية على علىّ وقاتله.
والحكمة فى تقسيم الخمس على هذا النحو - أن الدولة التي تدير سياسة الأمة لا بد لها من الملل لتستعين به على القيام بالمصالح العامة كشعائر الدين والدفاع عن الأمة ، وهو ما جعل للّه فى الآية ، ثم نفقة رئيس حكومتها ، وهو سهم الرسول فيها ، ثم ما كان لأقوى عصبته وأخلصهم له وأظهرهم تمثيلا لشرفه وكرامته وهو سهم ذوى القربى ، ثم ما يكون لذوى الحاجات من ضعفاء الأمة ، وهم الباقون.
ولا يزال هذا الاعتبار مراعى معمولا به فى كثير من الدول مع اختلاف شئون الاجتماع والمصالح العامة ، فالمال الذي يرصد للمصالح العامة يدخل فى موازين الوزارات المختلفة ما بين جهرية وسرية ، ولا سيما الأمور الحربية ، وكذلك راتب ممثل الدولة من ملك أو رئيس جمهورية منه ما هو خاص بشخصه ، ومنه ما هو لأسرته وعياله ، ومن موازين الدولة ما يبذل لإعانة الجماعات الخيرية والعلمية ونحوهما.(10/5)
ج 10 ، ص : 6
ولكن اليتامى والمساكين وابن السبيل لا تجعل لهم الدول فى هذا العصر حقّا فى أموال الدولة ، وإن كان بعض الدول يعطيهم أموالا من الأوقاف الخيرية التي تتولى أمر استغلالها وإنفاق ريعها على المستحقين له ، وبعضها يخصص إعانات للعمال المتعطلين فى وقت الحاجة فحسب.
وعن ابن عباس أنه قال (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) مفتاح كلام أي إنه ذكر على سبيل التبرك وإنما أضافه سبحانه إلى نفسه ، لأنه هو الحاكم فيه فيقسمه كيف شاء ، وليس المراد منه أن للّه سهما مفردا ، لأن ما فى السموات والأرض فهو للّه ، وبهذا قال الحسن وقتادة وعطاء وإبراهيم النخعي ، فقد قالوا سهم اللّه وسهم رسوله واحد ، وذكر اللّه للتعظيم.
(إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أي إن كنتم آمنتم بما ذكر إيمان إذعان ، فاعلموا أن ما غنمتم من شىء قلّ أو كثر فأن للّه خمسة لأنه هو مولاكم وناصركم ، وللرسول الذي هداكم به وفضلكم على غيركم واقطعوا الأطماع عنكم ، وارضوا بحكم اللّه فى الغنائم ، وبقسمة رسوله فيها.
ويوم الفرقان هو اليوم الذي فرق اللّه فيه بين الإيمان والكفر وهو يوم بدر الذي التقى فيه الجمعان جمع المؤمنين وجمع المشركين فى الحرب والنزال ، وقد كان ذلك لسبع عشرة خلت من شهر رمضان ، وهو أول مشهد شهده رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
(وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن قدرته أن نصركم على قلتكم وجوعكم وضعفكم وبلوغ عدوّكم ثلاثة أضعاف عددكم أو أكثر ، وأيد رسوله وأنجز وعده له.
(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى ) العدوة - مثلثة العين - جانب الوادي ، والدنيا مؤنث الأدنى وهو الأقرب ، والقصوى مؤنث الأقصى وهو الأبعد.
والمعنى - إن كنتم آمنتم باللّه وبما أنزلنا على عبدنا فى ذلك اليوم فى الوقت الذي كنتم مرابطين فيه بأقرب الجانبين من الوادي إلى المدينة ، وفيه نزل المطر لا فى غيره والأعداء فى الجانب الأبعد عنها ولا ماء فيه ، وأرضه رخوة تسوخ فيها الأقدام.(10/6)
ج 10 ، ص : 7
(وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي والعير التي خرج المسلمون للقائها فى مكان أسفل من مكانكم وهو ساحل البحر كما تقدم ، إذ كان أبو سفيان قادما بها من الشام.
(وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) أي ولو تواعدتم أنتم وهم القتال ، وعلمتم ما لهم وما لكم لاختلفتم فى الميعاد ، كراهة للحرب لقلّتكم ، وعدم إعداد العدة لها ، وانحصار همكم فى العير ، ويأسا من الظفر بها ، ولأن غرض الأكثرين منهم كان إنقاذ العير دون القتال ، لأنهم كانوا يهابون قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولا يأمنون نصر اللّه له ، لأن كفر الكثيرين منهم به كان استكبارا وعنادا لا اعتقادا.
(وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا) أي ولكن تلاقيتم على غير موعد ولا رغبة فى القتال ليقضى اللّه أمرا كان فى علمه وحكمته أنه واقع لا محالة ، وهو القتال المفضى إلى خزيهم ونصركم عليهم ، وصدق وعده لرسوله ، وإظهار دينه على الدين كله ولو كره المشركون.
(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) البينة الحجة الظاهرة ، أي فعل ذلك ليترتب على قضاء هذا الأمر أن يهلك من الكفار من هلك عن حجة بينة مشاهدة بالبصر ، على حقية الإسلام ، بإنجاز وعده لرسوله ومن معه من المؤمنين ، بحيث تنتفى الشبهة ، ولا يكون هناك مجال للاعتذار عند اللّه عن إجابة الدعوة ، ويعيش من يعيش من المؤمنين عن حجة شاهدها وعاينها فيزداد يقينا بالإيمان ونشاطا فى الأعمال.
(وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شىء من أقوال الكافرين والمؤمنين ، ولا من عقائدهم وأفعالهم ، فهو يسمع ما يقول كل فريق منهم من الأقوال الصادرة عن عقيدة ، والأعذار التي يعتذر بها عن تقصيره فى أعماله ، ويعلم ما يكنه من ذلك ومن غيره ، ويجازى كلّا بحسب ما يسمع ويعلم.
والخلاصة - إن غزوة بدر قامت بها الحجة البالغة للمؤمنين بنصرهم كما بشرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وحجته البالغة على الكافرين بخذلانهم وانكسارهم كما(10/7)
ج 10 ، ص : 8
أنذرهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ولا مجال فى ذلك للمكابرة والتأويل.
(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا) أي إنه تعالى سميع لما يقول أصحابك ، عليم بما يضمرونه ، إذ يريك اللّه عدد عدوك وعدوهم قليلا فى الرؤيا المنامية ، فتخبر بها المؤمنين ، وتطمئن قلوبهم ، وتقوى آمالهم بالنصر ، فيجترئون عليهم.
(وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أي ولو أراك ربك عدوك وعدوهم كثيرا لفشل أصحابك وخافوا ولم يقدروا على حرب القوم ، ولوقع بينهم النزاع وتفرق الآراء فى أمر القتال ، إذ منهم القوىّ الإيمان والعزيمة ، فيطيع اللّه ورسوله ويقاتل ، ومنهم الضعيف الذي يثبّط عن القتال بمثل الأعذار التي جادلوا بها الرسول صلى اللّه عليه وسلم كما تقدم فى قوله « يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ » .
(وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ) أي ولكن اللّه سلمكم من الفشل والتنازع وتفرق الآراء ، وما يعقب ذلك من الانكسار والخذلان.
(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إنه تعالى عليم بما تخفيه الصدور من شعور الجبن والجزع الذي تضيق به فتحجم عن القتال ، ومن شعور الإيمان والتوكل الذي يبعث فى النفس الطمأنينة والصبر فيحملها على الإقدام ، ويسخر لكل منهما الأسباب التي تفضى إلى ما يريده منها.
(وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا ، وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا) الخطاب هنا للرسول صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين ، أي وفى الوقت الذي يريكم اللّه الكافرين عند التلاقي معهم عددا قليلا ، بما أودع فى قلوبكم من الإيمان بوعد اللّه بنصركم وبتثبيتكم بملائكته والاستهانة بهم ، ويقللكم فى أعينهم لقلتكم بالفعل ، ولما كان عندهم من عجب وغرور بأنفسهم حتى لقد قال أبو جهل : إنما أصحاب محمد أكلة جزور (أي لقلتهم يكفيهم جزور واحد فى اليوم).(10/8)
ج 10 ، ص : 9
والخلاصة - إنه فعل ذلك ليقدم كل منكم على قتال الآخر ، فهذا واثق بنفسه مدلّ ببأسه ، وهذا متّكل على ربه ، واثق بوعده ، حتى إذا ما التقيتم ثبتكم ، وثبّطهم ليقضى بنصركم عليهم أمرا كان فى علمه مفعولا ، وهو أن تكون كلمة اللّه هى العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى ، ومن ثم هيأ الأسباب وقدرها تقديرا.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 46]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه نعمه على رسوله وعلى المؤمنين يوم بدر - قفّى على ذلك بذكر أدبين عظيمين إذا التقوا بعدوهم :
(1) الثبات وتوطين النفس على اللقاء مع عدم التواني والتكاسل.
(2) ذكر اللّه كثيرا وهو ذكره بألسنتهم وقلوبهم ، تنبيها إلى أن الإنسان يجب ألا يخلو قلبه من ذكره فى أشد الأوقات خرجا. وقد طلب إلينا الثبات والطاعة للّه ورسوله حتى لا نفشل وتدول علينا الدّولة.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) أي إذا لقيتم فئة من أعدائكم الكفار فاثبتوا لهم ولا تفروا أمامهم ، فإن الثبات قوة معنوية طالما كانت السبب فى النصر والغلب بين الأفراد والجيوش ، انظر إلى الرجلين الجلدين يتصارعان فيعيا كل منهما وتضعف قوته ، ويتوقع كل لحظة أن يقع صريعا ، ولكن قد يخطر له أن خصمه(10/9)
ج 10 ، ص : 10
ربما وقع قبله فيثبت إلى اللحظة الأخيرة ، فيكون له الفلج والفوز على خصمه ، وهكذا فى الحروب ، فإن من أهم أسباب النصر فيها الثبات وعدم اليأس ، بل الثبات نافع فى كل أعمال البشر ، فهو الوسيلة فى الفوز والنجاح فيها.
(وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً) أي وأكثروا من ذكر اللّه فى أثناء القتال فى قلوبكم بذكر قدرته ووعده بنصر رسله والمؤمنين ونصر كل من يتبع سنتهم بنصر دينه وإقامة سننه ، وبأن النصر بيده ومن عنده يؤتيه من يشاء ، وبألسنتكم بالتكبير ونحوه وبالدعاء والتضرع إليه مع اليقين بأنه لا يعجزه شىء.
(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي إن الثبات وذكر اللّه هما وسيلتان من وسائل الفوز ويعدّان للفلاح فى القتال فى الدنيا ، وفى نيل الثواب فى الآخرة.
وفى ذلك إيماء إلى أنه يجب على العبد ألا يفتر عن ذكر اللّه أكثر ما يكون ، همّا ، وأشغل ما يكون قلبا ، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزّعة عن غيره.
(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي وأطيعوا اللّه فيما أمركم به من الأسباب الموجبة للفلاح فى القتال وفى غيره ، وأطيعوا رسوله كذلك ، فهو المبيّن لكلام ربه ، والمنفّذ له بالقول والعمل والحكم ، وهو القائد الأعظم فى القتال ، فطاعته هى جماع النظام ، والنظام ركن من أركان الظفر ، وهوالمشارك لكم فى الرأى والتدبير والاستشارة فى الأمور.
(وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي ولا يكن منكم تنازع واختلاف ، فإن ذلك مدعاة للفشل والخيبة وذهاب القوة ، فيتغلب عليكم العدو.
وأصل الريح الهواء المتحرك ثم استعيرت للقوة والغلبة ، لأنه لا يوجد فى الأجسام ما هو أقوى منها ، فهى تهيج البحار وتقتلع الأشجار وتهدم الدور والقلاع ، ومن ثم يقال هبت رياح فلان إذا جرى أمره على ما يريد كما يقال : ركدت رياحه إذا ضعف أمره وولّت دولته.(10/10)
ج 10 ، ص : 11
(وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) أي واصبروا على الشدائد وعلى ما تلاقونه من بأس العدو واستعداده وكثرة عدده ، فاللّه مع الصابرين يمدّهم بمعونته وتأييده ، ومن كان اللّه معينا له فلا يغلبه غالب.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 47 الى 49]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
تفسير المفردات
الذين خرجوا : هم أهل مكة حين خرجوا لحماية العير ، والبطر : إظهار الفخر والاستعلاء بنعمة القوة أو الغنى أو الرياسة ، ويعرف ذلك فى الحركات المتكلّفة والكلام الشاذ ، والرئاء : أن يعمل المرء ما يحب أن يراه الناس منه ليثنوا عليه ويعجبوا به ، وتراءت الفئتان : قربت كل منهما من الأخرى ، وصارت بحيث تراها وتعرف حالها ونكص : رجع القهقرى وتولى إلى الوراء ، والمنافق من يظهر الإسلام ويسرّ الكفر ، والذين فى قلوبهم مرض : هم ضعاف الإيمان تملأ قلوبهم الشكوك والشبهات ، فتزلزل اعتقادهم حينا وتسكن حينا آخر.(10/11)
ج 10 ، ص : 12
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه عباده المؤمنين بما أمر به من جلائل الصفات ومحاسن الآداب التي تكون سبب الظفر فى القتال ، ونهاهم عن التنازع - قفّى على ذلك بنهيهم عما كان عليه مشركو قريش حين خرجوا لحماية العير من البطر والكبرياء والصد عن سبيل اللّه.
الإيضاح
(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ) أي عليكم أن تمتثلوا ما أمرتم به وتنتهوا عما نهيتم عنه ، ولا تكونوا كأعدائكم المشركين الذين خرجوا من ديارهم فى مكة وغيرها من الأماكن التي استنفرهم منها أبو سفيان بطرين بما أوتوا من قوة ونعم لا يستحقونها ، مرائين الناس بها ليعجبوا بها ويثنوا عليهم بالغنى والقوة والشجاعة.
(وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي وهم بخروجهم يصدون عن سبيل اللّه وهو الإسلام بحملهم الناس على عداوة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، والإعراض عن تبليغ دعوته ، وتعذيب من أجابها إذا لم يكن لهم من يمنعهم ويحميهم من قرابة أو حلف أو جوار.
(وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي واللّه عليم بما جاءوا لأجله ، ومن ثم فهو يجازيهم عليه فى الدنيا والآخرة بمقتضى سننه فى ترتيب الجزاء على الأعمال وصفات النفوس.
وفى هذا زجر وتهديد على الرياء والتصنع والبطر والكبرياء ، وأنه سيجازى عليها أشد الجزاء.
قال البغوي : نزلت فى المشركين حين أقبلوا إلى بدر ولهم بغى وفخر ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك(10/12)
ج 10 ، ص : 13
وتكذّب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني »
قالوا ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ، فقد نجاها اللّه فارجعوا ، فقال أبو جهل : واللّه لا نرجع حتى نرد بدرا - وكان موسما من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام - فنقيم ثلاثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابوننا أبدا ، فوافوها فسقوا كئوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان.
فنهى اللّه عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم وأمرهم بإخلاص النية والحسبة فى نصر دينه ومؤازة رسوله صلى اللّه عليه وسلم.
(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) أي واذكر أيها الرسول للمؤمنين حين زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته ، وقال لهم بما ألقاه فى روعهم ، وخيّل إليهم أنهم لا يغلبون لكثرة عددهم وعددهم ، وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات ، مجير لهم حتى قالوا : اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين.
(فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) أي فلما قرب كل من الفريقين المتقاتلين من الآخر وصار بحيث يراه ويعرف حاله ، وقبل أن يصطلى نار القتال معه - نكص على عقبيه أي رجع القهقرى وتولّى إلى الوراء وهى الجهة التي فيها العقبان ، والمراد أنه كفّ عن تزيينه لهم وتغريره بهم.
(وَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ) أي تبرأ منهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد اللّه تعالى المسلمين بالملائكة.
(وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) قد تكون هذه العبارة من كلام الشيطان ، وقد تكون من كلامه تعالى.
والخلاصة - إن جند الشيطان كانوا منبثّين فى المشركين يوسوسون لهم بملابستهم لأرواحهم الخبيثة بما يغريهم ويغرّهم ، كما كان الملائكة منبثين فى المؤمنين يلهمونهم(10/13)
ج 10 ، ص : 14
بملابستهم لأرواحهم الطيبة ما يثبتون به قلوبهم ويزيدهم ثقة بوعد اللّه بنصرهم ، فلما تراءت الفئتان وأوشكا أن يتلاحما فرّ الشيطان بجنوده من بين المشركين ، لئلا تصل إليهم الملائكة الملابسة للمؤمنين (وهما ضدان لا يجتمعان ، ولو اجتمعا لقضى أقواهما وهم الملائكة على أضعفهما وهم الشياطين).
فخوف الشيطان إنما كان من إحراق الملائكة لجنوده لا على المشركين ، كما يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق متلاش أمامه لا يبقى منه شىء.
(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) أي وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم حين يقول المنافقون ومن فى حكمهم من مرضى القلوب : ما حمل هؤلاء المؤمنين على الإقدام على ما أقدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم - إلا غرورهم بدينهم ، ولا غرو أن تصدر هذه المقالة ممن حرم الإيمان الكامل والثقة باللّه والتوكل عليه.
روى عن مجاهد أنه قال : هم فئة من قريش ، قيس بن الوليد بن المغيرة والحارث ابن زمعة بن الأسود بن المطلب ويعلى بن أمية والعاص بن منبّه ، خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم ، فلما رأوا قلة أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالوا : غرّ هؤلاء دينهم حتى أقدموا على ما أقدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم.
(وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي ومن يكل أمره إلى اللّه ويؤمن إيمان اطمئنان بأنه ناصره ومعينه ، وأنه لا يعجزه شىء ولا يمتنع عليه شىء أراده - يكفه ما يهمه وينصره على أعدائه وإن كثر عددهم وعظم استعدادهم ، لأنه العزيز الغالب على أمره ، الحكيم الذي يضع كل أمر فى موضعه بمقتضى سننه فى نظام العالم ، ومن ذلك أن ينصر الحق على الباطل.(10/14)
ج 10 ، ص : 15
[سورة الأنفال (8) : الآيات 50 الى 54]
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54)
تفسير المفردات
أدبارهم ، أي ظهورهم وأقفيتهم ، وعذاب الحريق : عذاب النار بعد البعث ، والدأب : العادة المستمرة.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حال هؤلاء الكفار من خروجهم إلى قتال المؤمنين بطرا ورئاء الناس ، ومن تزيين الشيطان لهم أعمالهم - قفّى على ذلك بذكر أحوالهم حين موتهم وبيان العذاب الذي يصل إليهم فى ذلك الوقت.
الإيضاح
(وَ لَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي لو عاينت أيها الرسول حال الكفار حين يتوفاهم الملائكة ،(10/15)
ج 10 ، ص : 16
فينزعون أرواحهم من أجسادهم ضار بين وجوههم وأقفيتهم ، قائلين لهم : ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون (وهذا الضرب والكلام من عالم الغيب ، فلا يقتضى أن يراه الذين يحضرون وفاتهم ، ولا أن يسمعوا كلامهم حين يقولون ذلك لهم) لو رأيت ذلك لرأيت أمرا عظيما هائلا يردّ الكافر عن كفره ، والظالم عن ظلمه إذا هو علم عاقبة أمره.
وقد روى أن ضرب الوجوه والأدبار كان ببدر ، كان المؤمنون يضربون من أقبل من المشركين من وجوههم والملائكة يضربونهم من أدبارهم.
(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي هذا العذاب الذي ذقتموه بسبب ما كسبت أيديكم من سىء الأعمال فى حياتكم الدنيا من كفر وظلم ، وهذا يشمل القول والعمل.
ونسب ذلك إلى الأيدى وإن كان قد يقع من الأيدى والأرجل وسائر الحواس أو بتدبير العقل ، من أجل أن العادة قد جرت بأن أكثر الأعمال البدنية تزاول بها.
(وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي وبأن اللّه لا يظلم أحدا من عبيده ، فلا يعذب أحدا منهم إلا بجرم اجترمه ، ولا يعاقبه إلا بمعصيته إياه وقد وقع ذلك منكم ، فأنتم الظالمون لأنفسكم فلوموها ، ولا لوم إلا عليها.
روى مسلم عن أبى ذر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه يقول يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ، فمن وجد خيرا فليحمد اللّه ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه » .
(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي فعل هؤلاء المشركين من قريش الذين قتلوا ببدر كعادة قوم فرعون وفعلهم وفعل من قبلهم من الأمم الخالية ، كفروا بآيات ربهم فأخذهم بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر ولم يظلم أحدا منهم مثقال ذرة ، ونصر رسله والمؤمنين.(10/16)
ج 10 ، ص : 17
وكما كانت سنته تعالى فى أولئك أن أخذهم بذنوبهم ، فسنته فى هؤلاء كذلك فقد نصر رسوله والمؤمنين فى بدر ، وأهلك هؤلاء بذنوبهم.
(إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي إن اللّه قوىّ لا يغلبه غالب ، ولا يفوته هارب ، شديد العقاب لمن استحق عقابه وكفر بآياته وجحد حججه ، وقد جعل لكل شىء أجلا.
روى البخاري ومسلم وابن ماجه عن أبى موسى الأشعري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال « إن اللّه تعالى ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته » .
(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) أي ذلك الذي ذكر من أخذه لقريش بكفرها بنعم اللّه عليها ، إذ بعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ، فكذبوه وأخرجوه من بينهم وحاربوه ، كأخذه للأمم قبلهم بذنوبهم - فقد جرت سنة اللّه ألا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم من الأحوال التي استحقوا بها تلك النعمة.
وفى الآية إيماء إلى أن نعم اللّه على الأمم والأفراد منوطة ابتداء ودواما بأخلاق وصفات وأعمال تقتضيها ، فما دامت هذه الشئون ثابتة لهم متمكنة منهم ، كانت تلك النعم ثابتة لهم ، واللّه لا ينتزعها منهم بغير ظلم منهم ولا جرم ، فإذا هم غيّروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق وما يلزم ذلك من محاسن الأعمال ، غيّر اللّه حالهم وسلب نعمتهم منهم فصار الغنى فقيرا والعزيز ذليلا والقوى ضعيفا.
وليست سعادة الأمم وقوتها وغلبتها منوطة بسعة الثروة ولا كثرة العدد كما كان يظن بعض المشركين وحكاه اللّه عنهم بقوله « وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ » .
وكذلك لا يحابى اللّه تعالى بعض الشعوب والأمم بنسبها وفضل بعض أجدادها على غيرهم بنبوّة أو ما دونها فيؤتيهم الملك والسيادة لأجل الأنبياء الذين ينسبون إليهم كما كان شأن بنى إسرائيل فى غرورهم وتفضيل أنفسهم على جميع الشعوب بنسبهم ،(10/17)
ج 10 ، ص : 18
وهكذا شأن النصارى والمسلمين من بعدهم ، إذ اتبعوا سنتهم واغتروا بدينهم وإن كانوا من أشد المخالفين له.
(وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى سميع لما يقول مكذبو الرسل ، عليم بما يأتون وما يذرون ، وهو مجازيهم على ما يقولون ويعملون إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) أي حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييرا مماثلا لدأب آل فرعون ، فهم قد كذبوا كما كذب أولئك فحل بهم مثل ما حل بأولئك السابقين.
والدأب الأول فى بيان كفرهم بجحد ما قامت عليه أدلة الرسل من وحدانية اللّه ووجوب إفراده بالعبادة ، وفى تعذيب اللّه إياهم فى الآخرة ، فهو دأب وعادة فيما يتعلق بحقه تعالى من حيث ذاته وصفاته ، وفى الجزاء الدائم على الكفر به الذي يبتدىء بالموت وينتهى بدخول النار.
والدأب الثاني فى تكذيبهم بآيات ربهم ونعمه من حيث إنه هو المربي لهم ، ويدخل فى ذلك تكذيب الرسل وعنادهم وإيذائهم وكفر النعم المتعلقة ببعثتهم ، وفى الجزاء على ذلك بتغيير حالهم وعذابهم فى الدنيا.
وخلاصة ذلك - إن مادوّنه التاريخ من دأب الأمم وعادتها فى الكفر والتكذيب والظلم فى الأرض ، ومن عقاب اللّه إياها - جار على سننه تعالى المطردة فى الأمم ، ولا يظلم ربك أحدا بسلب نعمة منهم ولا بإيقاع أذى بهم ، وإنما عقابه لهم أثر طبيعى لكفرهم وظلمهم لأنفسهم.
وأما عذاب الاستئصال بعذاب سماوىّ فهو خاص بمن طلبوا الآيات من الرسل وأنذروهم العذاب إذا هم كفروا بها بعد مجيئها ثم فعلوا ذلك.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 59]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59)(10/18)
ج 10 ، ص : 19
تفسير المفردات
الدابة : لفظ غلب استعماله فى ذوات الأربع ، وأصله كل مادب على وجه الأرض ، وهو المراد هنا ، عند اللّه : أي فى حكمه وعلمه ، والذين عاهدت منهم : هم طوائف من يهود المدينة. وثقفه : أدركه وظفر به ، فشرد بهم : أي نكّل بهم تنكيلا يشرّد غيرهم من ناقضى العهد ، من خلفهم : هم كفار مكة وأعوانهم من مشركى القبائل الموالية لهم ، والنبذ : الطرح ، على سواء : أي على طريق واضح لاخداع فيه ولا خيانة ولا ظلم ، سبقوا : أي أفلتوا من الظفر بهم ، لا يعجزون : أي لا يجدون اللّه عاجزا عن إدراكهم ، بل سيجزيهم على كفرهم.
المعنى الجملي
بعد أن بين حال مشركى قريش فى قتالهم له ببدر - قفّى على ذلك بذكر حال فريق آخر من الكفار الذين عادوا النبي صلى اللّه عليه وسلم وقاتلوه وهم اليهود الذين كانوا فى بلاد الحجاز.
قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآيات فى ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت ، وقال مجاهد : نزلت فى يهود المدينة وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف ، وهو فيهم كأبى جهل فى مشركى مكة. ثم ذكر سبحانه ما يجب أن يعمل مع أمثالهم من الخونة ، وبين أن الرسول آمن من عاقبة كيدهم ومكرهم.(10/19)
ج 10 ، ص : 20
الإيضاح
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) أي إن شر ما يدب على وجه الأرض فى حكم اللّه وعدله هم الكافرون الذين اجتمعت فيهم صفتان :
(1) الإصرار على الكفر والرسوخ فيه بحيث لا يرجى إيمان جملتهم أو إيمان جمهورهم ، لأنهم إما رؤساء حاسدون للرسول صلى اللّه عليه وسلم معاندون له جاحدون بآياته المؤيدة لرسالته على علم منهم ، وفيهم يقول سبحانه : « يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ » وإما مقلدون جامدون على التقليد لا ينظرون فى الدلائل والآيات.
وقد لقبهم اللّه بالدواب وهو اللفظ الذي غلب استعماله فى ذوات الأربع ، لإفادة أنهم ليسوا من شرار البشر فقط ، بل هم أضل من العجماوات ، لأن لها منافع وهؤلاء لا خير فيهم ولا نفع لغيرهم منهم كما قال تعالى فى أمثالهم : « أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ؟ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا » .
(2) نقض العهد ، وقد كان النبي صلى اللّه عليه وسلم عقد مع يهود المدينة عقب هجرته إليهم عهدا أقرّهم فيه على دينهم وأمّنهم على أنفسهم وأموالهم ، فنقض كل منهم عهده.
روى عن ابن عباس أنهم بنو قريظة نقضوا عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأعانوا عليه بالسلاح فى يوم بدر ثم قالوا : نسينا وأخطأنا ، فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد ومالئوا الكفار على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الخندق وركب زعيمهم كعب بن الأشرف إلى مكة فخالفهم على محاربة النبي صلى اللّه عليه وسلم.
وقوله : وهم لا يتقون ، أي لا يتقون اللّه فى نقض العهد ولا فيما قد يترتب عليه من قتالهم والظفر بهم.(10/20)
ج 10 ، ص : 21
وبعد أن بين سبحانه أنهم قد تكرر منهم نقض العهد - أردف ذلك ذكر ما يجب أن يعاملوا به فقال :
(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي إنك إن تدرك هؤلاء الناقضين لعهدهم وتظفر بهم فى الحرب - فنكّل بهم أشد التنكيل حتى يكون ذلك سببا لشرود من وراءهم من الأعداء وتفرقهم ، فيكون مثلهم مثل الإبل الشاردة النادّة عن أمكنتها.
وإنما أمر اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم بالإثخان فى هؤلاء الأعداء الذين تكررت مسالمته لهم وتجديده لعهدهم بعد نقضه ، لئلا ينخدع مرة أخرى بكذبهم ، لما جبل عليه من الرحمة وحب السلم واعتبار الحرب ضرورة تترك إذا زال سببها كما قال تعالى :
« وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها » وهم قد أوهموه المرة بعد المرة أنهم يرغبون فى السلم واعتذروا عن نقضهم العهد وكانوا فى ذلك مخادعين.
(لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي لعل من خلفهم من الأعداء يذكّرون النكال فيمنعهم ذلك من نقض العهد ومن القتال.
روى البخاري ومسلم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم خطب فى بعض أيامه التي لقى فيها العدو فقال : « أيها الناس لا تمنّوا لقاء العدوّ وسلوا اللّه العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف - ثم قال : اللهم منزّل الكتاب ، ومجرى السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم » .
وفى ذلك إيماء إلى شيئين :
(1) إن الحرب ليست محبوبة عند اللّه ولا عند رسوله ، وإنما هى ضرورة يراد بها منع البغي والعدوان وإعلاء كلمة الحق ودحض الباطل : « فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً ، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ » .
(2) إن استعمال القسوة مع الناقضين للعهد والبادئين بالحرب والتنكيل بهم لتشريد من ورائهم - أمر لا بد منه للعظة والاعتبار حتى لا يعودوا إلى مثلها هم ولا غيرهم.(10/21)
ج 10 ، ص : 22
ولا يزال الأمر كذلك فى هذا العصر ، وإن كانوا يريدون به الانتقام وشفاء ما فى الصدور من الأحقاد ، والتمتع بالمغانم من مال وعقار.
وبعد أن ذكر حكم ناقضى العهد حين سنوح الفرصة - قفى على ذلك بحكم من لا ثقة بعهودهم فقال :
(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أي وإن توقعت من قوم معاهدين خيانة ونكثا للعهد بوجود أمارات ظاهرة وقرائن تنذر بها ، فاقطع عليهم طريق الخيانة قبل وقوعها بأن تنبذ إليهم عهدهم وتنذرهم بأنك غير مقيّد به ولا مهتم بأمرهم ، بطريق واضح لاخداع فيه ولا استخفاء.
والحكمة فى هذا أن الإسلام لا يبيج الخيانة مطلقا.
وخلاصة ذلك - لا تجاربهم قبل أن تعلمهم أنك قد فسخت العهد الذي بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم فى العلم بنقض العهد سواء ، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب عليهم.
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) أي إن الخيانة مبغوضة بجميع ضروبها ، ولا وسيلة لاتقاء ضررها من الكفار إذا ظهرت أماراتها إلا بنبذ عهدهم جهرة.
روى البيهقي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « ثلاثة المسلم والكافر فيهن سواء - من عاهدته فوفّ بعهده مسلما كان أو كافرا ، فإنما العهد للّه ، ومن كانت بينك وبينه رحم فصلها ، مسلما كان أو كافرا ، ومن ائتمنك على أمانة فأدّها إليه ، مسلما كان أو كافرا » .
وبعد هذا أنذر أولئك الخائنين ما سيحل بهم من عقاب فقال :
(وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) أي ولا يظننّ الذين كفروا أنهم سبقونا ونجوا من عاقبة خيانتهم وشرهم ، ونحو الآية قوله : « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ » .
(إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) أي إنهم لا يعجزون اللّه تعالى ولا يفوتونه بمكرهم وخيانتهم(10/22)
ج 10 ، ص : 23
بل هو سيجزيهم ويمكّن منهم فى الدنيا بتسليط رسوله والمؤمنين عليهم وإذاقتهم عاقبة كيدهم ، والآية بمعنى قوله تعالى : « وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ، وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ » .
وخلاصة ذلك - قطع أطماعهم فى الانتفاع بهذا النبذ والغلبة على المؤمنين.
وفى الآية إيماء إلى أن ما أوجبه الإسلام من المحافظة على العهود مع الأعداء المخالفين فى الدين ، وما حرّمه من الخيانة فيها - لم يكن عن ضعف ولا عن عجز ، بل عن قوة وتأييد إلهى ، فقد نصر اللّه رسوله والمؤمنين على اليهود الخائنين الناقضين لعهودهم ، وأجلى من أبقاه السيف منهم من جوار معقل الإسلام (شبه جزيرة العرب).
[سورة الأنفال (8) : الآيات 60 الى 63]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
تفسير المفردات
الإعداد : تهيئة الشيء للمستقبل ، والرباط والمربط : الحبل الذي تربط به الدابة ، ورباط الخيل : حبسها واقتناؤها ، والإرهاب والترهيب : الإيقاع فى الرهبة وهى الخوف المقترن بالاضطراب ، وجنح للشىء وإليه : مال ، يقال جنحت الشمس للغروب أي مالت إلى(10/23)
ج 10 ، ص : 24
جانب الغرب الذي تغيب فى أفقه ، والسلم (بفتح السين وكسرها) والسلام : الصلح وضد الحرب ، والإسلام دين السلم والسلام كما قال : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً » وحسبك اللّه : أي كافيك وناصرك عليهم.
المعنى الجملي
بعد أن أبان عز اسمه فيما سلف أن اليهود الذين عقدوا العهود مع النبي صلى اللّه عليه وسلم وبها أمنهم على أنفسهم وأموالهم ودينهم - قد خانوه ونقضوا العهود وساعدوا عليه أعداءه المشركين الذين أخرجوه من دياره ووطنه وتبعوه إلى مهجره يقاتلون فيه لأجل دينهم ، وبذلك صاروا هم والمشركون سواء - أردف ذلك ذكر ما يجب على المؤمنين فى معاملتهم أثناء الحرب التي أصبحت لا مناص منها بما أحدثوه من الخيانة والغدر والبداءة بالعدوان ، وذلك سنة من سنن الاجتماع البشرى ، إذ حصول الصراع بين الحق والباطل والقوة والضعف أمر لا مندوحة منه.
الإيضاح
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) أمر اللّه المؤمنين بالاستعداد للحرب التي لا بد منها لدفع العدوان وحفظ الأنفس والحق والفضيلة.
ويكون ذلك بأمرين :
(1) إعداد المستطاع من القوة ، ويختلف هذا باختلاف الزمان والمكان ، فالواجب على المسلمين فى هذا العصر : صنع المدافع والطيارات والقنابل والدبابات وإنشاء السفن الحربية والغواصات ونحو ذلك ، كما يجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء وغيرها من قوى الحرب وقد استعمل الصحابة المنجنيق مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى غزوة خيبر وغيرها ،
روى مسلم عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم وقد تلا هذه(10/24)
ج 10 ، ص : 25
الآية يقول : « ألا إن القوّة الرمي » قالها ثلاثا ،
وذلك أن رمى العدو عن بعد بما يقتله أسلم من مصاولته على القرب بسيف أو رمح أو حربة أو نحو ذلك ، وهذا يشمل السهم وقذيفة المنجنيق والطيارة والمدفع والبندقية ونحوها ، فاللفظ يشملها وإن لم تكن معروفة فى عصره صلى اللّه عليه وسلم.
(2) مرابطة الفرسان فى ثغور البلاد وحدودها ، إذ هى مداخل الأعداء ، ومواضع مهاجمتهم للبلاد.
والحكمة فى هذا أن يكون للأمة جند دائم مستعد للدفاع عنها إذا فجأها العدو على غرّة ، وقوام ذلك الفرسان لسرعة حركتهم وقدرتهم على القتال وإيصال الأخبار من الثغور إلى العواصم وسائر الأرجاء ، ومن أجل هذا عظم الشارع أمر الخيل وأمر بإكرامها ، ولا يزال للفرسان نصيب كبير فى الحرب فى هذا العصر الذي ارتقت فيه الفنون العسكرية فى الدول الحربية.
(تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) أي أعدوا لهم المستطاع من القوة الحربية ومن الفرسان المرابطة لترهبوا عدو اللّه الكافرين به وبما أنزله على رسوله وعدوكم الذين يتربصون بكم الدوائر ، إذ لا شىء يمنع الحرب إلا الاستعداد للحرب ، فالكفار إذا علموا استعداد المسلمين وتأهبهم للجهاد واستكمالهم لجميع الأسلحة والآلات خافوهم ، وإلى هذا يشير أبو تمام إذ يقول :
وأخافكم كى تغمدوا أسيافكم إن الدّم المغبّر يحرسه الدم
وهذا الخوف يفيد المسلمين من وجوه :
(ا) يجعل أعداءهم لا يعينون عدوا آخر عليهم (ب) يجعلهم يؤدون الالتزامات المطلوبة منهم.
(ج) ربما حملهم ذلك على الدخول فى الإسلام والإيمان باللّه ورسوله (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) أي وترهبون به أناسا غير هؤلاء الأعداء المعروفين لكم ، وهم مشركو مكة ومن والاهم ممن يجمعون بين هاتين(10/25)
ج 10 ، ص : 26
العداوتين حين نزول الآية عقب غزوة بدر - ممن لا تعلمون الآن عداوتهم بل يعلمهم اللّه وهو علام الغيوب.
والخلاصة - إن تكثير آلات الجهاد وأدواتها كما يرهب الأعداء الذين نعلم أنهم أعداء - يرهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء ، فالاستعداد للحرب يرهبهم جميعا ويمنعهم من الإقدام على القتال ، وهذا ما يسمى فى العصر الحديث (السلام المسلح) (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي وما تنفقوا من شىء قليلا كان أو كثيرا فى إعداد المستطاع من القوة والمرابطة فى سبيل اللّه - باللّه يعطيكم عليه الجزاء الوافي التام.
(وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي والحال أنه لا يلحقكم ظلم ولا اضطهاد من أعدائكم ، فإن القوىّ المستعد لمقاومة المعتدى قلما يعتدى عليه أحد ، وإن اعتدى عليه فقلّ أن يظفر به.
وفى هذا إيماء إلى أن إعداد المستطاع من القوة الحربية والمرابطة فى سبيل اللّه لا يمكن تحقيقهما إلا بإنفاق الكثير من المال ، ومن ثم رغّب سبحانه عباده المؤمنين فى الإنفاق فى سبيله ، ووعدهم بأن كل ما ينفقون فيها يوفى إليهم إما فى الدنيا والآخرة أو فى الآخرة فحسب.
وإذ كان السلم هو المقصد الأول لا الحرب أكده بقوله :
(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) أي وإن مال العدو عن جانب الحرب إلى جانب السلم ولم يعتز بقوته فاجنح لها ، لأنك أولى بالسلم منهم.
(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي اقبل السلم وفوّض الأمر إلى اللّه ولا تخف غدرهم ومكرهم ، فاللّه هو السميع لما يقولون ، العليم بما يفعلون ، فلا يخفى عليه ما يأتمرون به من الكيد والخداع وإن خفى عليك.
(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) أي وإن يريدوا بجنوحهم للسلم(10/26)
ج 10 ، ص : 27
الكيد والخداع ليفترصوا الفرص كانتظار الغرّة التي تمكنهم من أهل الحق ، أو الاستعداد للحرب ، فاللّه يكفيك أمرهم وينصرك عليهم.
(هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) أي إن من آثار عنايته بك أن أيدك بتسخير المؤمنين لك ، وجعلهم أمة متحدة متآلفة متعاونة على نصرك ، وأن سخر لك ماوراء الأسباب من خوارق العادات كالملائكة التي ثبتت القلوب يوم بدر.
(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي إنه تعالى جمعهم على الإيمان بك ، وبذل النفس والمال فى مناصرتك ، بعد التفرق والتعادي الذي كان أثر حروب طويلة وضغائن موروثة كما كان بين الأوس والخزرج من الأنصار.
ونحو الآية قوله فى سورة آل عمران : « وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً » .
وقد كاد يقع شىء من التباغض بين المهاجرين والأنصار حين قسمة الغنائم فى حنين فكفاهم اللّه شر ذلك بفضله وحكمة رسوله.
وفى الآية إيماء إلى أن النصر ينال بالأسباب التي من أهمها التآلف والاتحاد بفضل مقدّر الأسباب ورحمته بالعباد ومن جرّاء ذلك قال :
(لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي إنه لو لا نعمة اللّه عليهم بأخوّة الإيمان التي هى أقوى من أخوّة الأنساب والأوطان - لما أمكنك أن تؤلف بين قلوبهم بالمنافع الدنيوية ، فالضغائن الموروثة والدماء المسفوكة فى الأنصار لا تزول بالأعراض الزائلة ، وإنما تزول بصادق الإيمان الذي هو وسيلة السعادة فى الدنيا والآخرة كما أن التآلف بين أغنياء المهاجرين وفقرائهم ، وأشرافهم وعامتهم ، على ما كان بينهم من فوارق فى الجاهلية ، وجمع كلمة البيوت والعشائر مع رسوخ العداوات والإحن ، لم يكن مما ينال بالمال والآمال فى المغانم ونحوها ، على أن شيئا من ذلك لم يكن فى يد الرسول أول الإسلام وإن كان قد صار فى يده شىء كثير منه فى المدينة بنصر اللّه له فى قتال المشركين واليهود جميعا.(10/27)
ج 10 ، ص : 28
وكذلك جمع كلمة المهاجرين والأنصار على ما يدل به كل منهما بميزة لا تتوافر لسواه فالمهاجرون لهم مزية القرب من الرسول والسبق إلى الإيمان ، والأنصار لهم ميزة المال والقوة وإنقاذ الرسول وقومه من ظلم مشركى مكة وإيواؤهم ومشاركتهم لهم فى أموالهم ، فكل هذا من عوامل التحاسد والتنازع لو لا فضل اللّه وعنايته ، ومن ثم قال :
(وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) إذ هداهم إلى الإيمان الذي دعوتهم إليه فتآلفت قلوبهم.
ونحو الآية قوله : « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ » .
وقد دلت التجارب على أن التآلف من أقوى وسائل التعاون وأنجعها ، وأجدى وسائل التحاب والتآلف قوة الإيمان ، ومن ثم قال ابن عباس رضى اللّه عنهما : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن اللّه إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شىء ، ثم قرأ : « لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ » الآية (إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إنه تعالى الغالب على أمره الذي لا يغلبه خداع الخادعين ولا كيد الماكرين ، الحكيم فى أفعاله ، فينصر الحق على الباطل ، ويفضّل الجنوح للسلم إذا جنح إليها العدو على الحرب.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 64 الى 66]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)(10/28)