ج 3 ، ص : 198
للأنبياء بعد توحيدهم للّه والإخلاص له ، إذ لو فعل ذلك لكفر ، ونزعت منه النبوة والإيمان ، ومن آتاه اللّه الكتاب والحكم والنبوة يكون أعلم الناس باللّه ، فإن اللّه لا يؤتى وحيه إلا نفوسا طاهرة ، وأرواحا طيبة ، فلا تجتمع نبوة ودعاء إلى عبادة غير اللّه.
وأثر عن على كرم اللّه وجهه أنه قال : قصم ظهرى رجلان : عالم متهتك ، وجاهل متنسّك ، لأن العالم ينفّر الناس عن العلم بتهتكه ، والجاهل يرغّب الناس في الجهل بتنسكه.
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « نعوذ باللّه من علم لا ينفع ، وقلب لا يخشع » .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 83]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
تفسير المفردات
الميثاق : العهد المؤكد الموثّق ، وهو أن يلتزم المعاهد (بكسر الهاء) للمعاهد (بفتحها) أن يفعل شيئا ويؤكد ذلك بيمين أو بصيغة مؤكدة من ألفاظ المعاهدة أو المواثقة ، أقررتم من قرّ الشيء إذا ثبت ولزم قرارة مكانه ، وأخذتم : أي قبلتم كما جاء نحوه في قوله تعالى : « إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ » والإصر : العهد المؤكد الذي يمنع صاحبه من التهاون فيما التزمه وعاهد عليه.(3/198)
ج 3 ، ص : 199
المعنى الجملي
سيقت هذه الآيات كسابقتها لإثبات نبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم بتعداد أشياء معروفة عند أهل الكتاب قطعا لعذرهم ، وإظهارا لعنادهم ، ودحضا لمزاعمهم ، وإزالة لشبهات من أنكر منهم بعثة نبى من العرب.
وهذه الحجة التي تقررها هذه الآيات من الحجج التي تفنّد تلك الترّهات والأباطيل التي يدّعونها ، وهى أن اللّه تعالى أخذ الميثاق على جميع النبيين وعلى أتباعهم بالتبع لهم بأنهم مهما عظمت المنة عليهم بما آتاهم من كتاب وحكمة ، فالواجب عليهم أن يؤمنوا بمن يرسل بعدهم مصدقا لما معهم ، وأن ينصروه نصرا مؤزّرا ، وأن من تولى بعد ذلك كان من الفاسقين.
الإيضاح
(وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) أي واذكر لهم وقت أخذ اللّه الميثاق من النبيين أنهم كلما جاءهم رسول من بعدهم مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه مهما كانوا قد أوتوا من كتاب وحكمة ، لأن القصد من إرسال الأنبياء واحد ، فيجب أن يكونوا متكافلين متناصرين ، فإذا جاء واحد منهم في زمن نبى آخر آمن به السابق ونصره بما استطاع ولا يستلزم ذلك نسخ شريعة الأول ، إذ المقصود تصديق دعوته ، ونصره على من يؤذيه ويناوئه.
فإن تضمنت شريعة الثاني نسخ شىء من شريعة الأول وجب التسليم له ، وإلا صدّقه في الأصول التي هى واحدة في كل دين ، ويؤدى كل منهما مع أمته العبادات والمناسك التفصيلية ، ولا يعد هذا اختلافا وتفرقا في الدين ، فمثل هذا قد يأتى فى الشريعة الواحدة ، ففى كفارة اليمين أو غيرها يكفّر شخص بالصيام ، وآخر(3/199)
ج 3 ، ص : 200
بإطعام الطعام ، وما سبب هذا إلا حال الشخصين ، فكل منهما أدى ما سهل عليه.
ألا ترى أن الملك إذا أرسل أميرين في عصر واحد إلى ولايتين متجاورتين وجب على كل منهما نصر الآخر حين الحاجة مع اتفاقهما في السياسة العامة للدولة.
وقد يكون بين الولايتين اختلاف في طباع الأهالى واستعدادهم ، وفي حال البلاد فى اليسر والرخاء ، فيقتضى ذلك اختلاف تفاصيل الالتزامات ، فتكون الضرائب كثيرة في إحداهما قليلة في الأخرى ، والقوانين صارمة في واحدة ، وسهلة هينة في الثانية وكل من العاملين يعمل للمصلحة العامة للدولة.
وهكذا حال النبيّين يؤمن كل منهما بما جاء به الآخر مع الموافقة في الأصول دون الفروع ، كما آمن لوط بما جاء به إبراهيم وأيده في دعوته وقد كان في عصره.
أما إذا بعث اللّه النبيين في أمة واحدة فإنهما يكونان متفقين في كل شىء كما حدث لموسى وهارون عليهما السلام ، وبهذا تفهم معنى تصديق النبي صلى اللّه عليه وسلم بالكتب السابقة وبمن جاء بها من الرسل ، وليس المغني أن تفاصيل شريعته توافق تفاصيل شرائعهم.
وفي الآية إيماء إلى أنه لا ينبغى أن يكون الدين مصدر العداوة والبغضاء كما فعل أهل الكتاب حين عادوا النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وكادوا له بعد أن دعاهم إلى كلمة سواء ، ولم يكن منهم إلا الصدّ والإعراض والكيد والجحود.
وصفوة القول - إنكم يا أهل الكتاب ملزمون باتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم والتصديق بشريعته بمقتضى الميثاق الذي أخذ على كل من موسى وعيسى - أنه إذا جاء نبى بعده ، وصدق بمامعه يؤمن به وينصره.
وإيمانكم بموسى أو عيسى يقتضى التصديق بكل ما يؤمن به كل منهما.
(قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي ؟ ) أي قال اللّه تعالى للنبيين : أ أقررتم بالإيمان والنصر له ، وقبلتم العهد على ذلك ؟(3/200)
ج 3 ، ص : 201
(قالُوا أَقْرَرْنا ، قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي قالوا أقررنا بذلك ، قال اللّه تعالى : ليشهد بعضكم على بعض وأنا معكم شاهد عليكم ، لا يعزب عن على شىء.
وهذا الحوار لتثبيت المعنى وتوكيده على طريق التمثيل ، وليست الآية نصا في أن هذه المحاورة ، وقعت وهذه الأقوال قيلت وله نظائر كثيرة في الأساليب العربية.
(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي فمن أعرض بعد أخذ الميثاق على هذه الوحدة ، واتخذ الدين آلة للتفريق والعدوان ، ولم يؤمن بالنبي المتأخر المصدق لمن تقدمه ولم ينصره ، فأولئك الجاحدون هم الفاسقون ، فأهل الكتاب الذين جحدوا نبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، خارجون عن ميثاق اللّه ناقصون لعهده ، وليسوا من الدين الحق في شىء.
وبعد أن بين أن دين اللّه واحد ، وأن رسله متفقون فيه - ذكر حال منكرى نبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم فقال :
(أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) أي أ يتولون عن الحق بعد ما تبين ويبغون غير دين اللّه وهو الإسلام والإخلاص له في العبادة فى السر والعلن ، وقد خضع للّه تعالى وانقاد لحكمه أهل السموات والأرض ، ورضوا طائعين مختارين لما يحل بهم من تصاريف أقداره ؟
وصفوة القول - إن الدين الحق هو إسلام الوجه للّه تعالى والإخلاص له ، وأن الأنبياء جميعا كانوا على ذلك ، وقد أخذوا بذلك ميثاقهم على أممهم ولكنهم نقضوه إذ جاءهم النبي الموعود به يدعوهم إليه فكذبوه.
(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي وإليه يرجع من اتخذ غير الإسلام دينا من اليهود والنصارى وسائر الخلق ، وحينئذ يجازون بإساءتهم وترك الدين الحق.
وفي هذا وعيد وتهديد لهم.(3/201)
ج 3 ، ص : 202
[سورة آل عمران (3) : الآيات 84 الى 85]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)
تفسير المفردات
الأسباط : الأحفاد واحدهم سبط وهم أبناء يعقوب الاثنا عشر وذراريهم ، وخصهم بالذكر لأن أهل الكتاب يعترفون بنبوتهم وكتبهم ، مسلمون : أي مستسلمون منقادون بالطاعة له فيما به أمر وعنه نهى ، والخسران : ذهاب رأس المال ، ويراد به هنا تضييع ما جبلت عليه الفطر السليمة من الانقياد اللّه وطاعته. والإيمان : لغة التصديق إما بالقلب كأن يقول إنسان شيئا فتعتقد صدقه ، وإما باللسان كأن تقول له صدقت.
والإسلام : الانقياد والخضوع ، وقد جعل لهما القرآن معنى خاصا ، فأطلق الإيمان على الإيمان باللّه واليوم الآخر وإرسال الرسل مبشرين ومنذرين بحيث يكون لهذا التصديق سلطان على الإرادة والوجدان ، ويكون من ثمراته العمل الصالح الذي يصل بصاحبه إلى الفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة ، وأطلق الإسلام على توحيد اللّه والإخلاص له في العبادة والانقياد لما أرشد إليه على ألسنة رسله.
والإيمان والإسلام بهذين المعنيين يتواردان على حقيقة واحدة يتناولها كل منهما بالاعتبار ، ومن ثم عدّا شيئا واحدا في هذه الآيات ، وبهما يكون الفوز بالنجاة فى الآخرة.
وأما ما جاء في قوله تعالى : « قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا ، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ » فقد أريد بالإيمان المعنى اللغوي وهو الثقة واطمئنان القلب ، وهذا لم يحصل لهم بعد ، بدليل أنهم امتنّوا على الرسول(3/202)
ج 3 ، ص : 203
صلى اللّه عليه وسلم بالإسلام وترك القتال ، ولكن دخلوا في السلم وترك الحرب والنطق بالشهادتين.
كذلك إطلاق الإسلام على هذا الدين المعروف الذي عليه المسلمون اليوم إطلاق حادث لا يعرفه القرآن ولم ينطق به ، وإنما نطق بالإسلام وأراد به الاستسلام والانقياد كما علمت مما سبق ، فمن اتبعه كان مرضيا عند اللّه ، ومن خالفه كان باغيا لغير دين اللّه.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أخذ الميثاق من النبيين أن يؤمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وينصروه - ذكر هنا أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم أن يؤمن بالأنبياء المؤمنين به وبكتبهم ، وأمته تابعة له في ذلك.
وخلاصة ذلك - إن اللّه أخذ الميثاق من النبيين المتقدمين منهم والمتأخرين على الإيمان باللّه والكتب المنزلة على أنبيائه.
الإيضاح
(قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ) أي قل آمنت أنا ومن معي بوجود اللّه ووحدانيته وتصرفه فى الأكوان.
(وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) وهو القرآن المنزل عليه صلوات اللّه عليه أولا ، وعلى أمته بتبليغه إليهم.
(وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) أي وصدقنا بأن اللّه أنزل على هؤلاء وحيا لهداية أقوامهم ، وأنه موافق في جوهره والمقصود منه لما أنزل علينا كما قال تعالى : « إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ » .
(وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى ) من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات.(3/203)
ج 3 ، ص : 204
وخص هذين النبيين بالذكر ، لأن الكلام مع اليهود والنصارى.
(وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) أي وما أوتى النبيون من ربهم كداود وسليمان وأيوب وغيرهم ممن لم يقص اللّه سبحانه علينا قصصهم.
وقدم الإيمان بما أنزل علينا على الإيمان بما أنزل على من قبلنا ، مع كونه أنزل قبله - لأن ما أنزل علينا هو الأصل في معرفة ما أنزل عليهم والمثبت له ، ولا طريق لإثباته سواه.
فما أثبته القرآن الكريم من نبوة كثير من الأنبياء نؤمن به إجمالا فيما أجمل ، وتفصيلا فيما فصل وكذلك كتبهم ، مع العلم بأن جوهر الدين واحد لدى الجميع ، وهو الإيمان باللّه وإسلام القلب له مع العمل الصالح ، والإيمان باليوم الآخر.
(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فنصدق ببعض ونكفر ببعض كما فعل اليهود والنصارى ، فما مثل الأنبياء إلا مثل الأمراء الأمناء الصادقين يرسلهم السلطان على التعاقب للقيام بشئون ولاية من ولاياته ، وإصلاح أحوال أهلها ، وعمل القوانين النافعة لحكمها ، فقد يغير التالي بعض قوانين السابق بحسب ما يرى من تبدل طباع أهلها وعاداتهم من شراسة إلى لين ، ومن جهل إلى علم ، ومن بداوة إلى مدنية وحضارة ، وما المقصد من كل هذا إلا عمرانها وبذل الوسع في سعادة أهلها ، وإيصال الخير إليهم.
(وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي ونحن منقادون له بالطاعة لا نبتغى بذلك إلا التقرب إليه بإصلاح نفوسنا وتزكية أرواحنا ، وتطهيرها من أدارن الذنوب والخطايا.
وقد افتتحت الآية بالإيمان ، واختتمت بالإسلام والخضوع وهو الثمرة والغاية من كل دين أرسل به نبىّ ، فقال تعالى :
(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) لأن الدين إذا لم يصل بصاحبه إلى هذا الخضوع والانقياد للّه تعالى كان رسوما وتقاليد لا تجدى شيئا ، بل تزيد النفوس فسادا ، والقلوب ظلاما ، ويكون حينئذ مصدر الشحناء والعداوة بين الناس(3/204)
ج 3 ، ص : 205
في الدنيا ، ومصدر الخسران في الآخرة بالحرمان من النعيم المقيم ، والعذاب الأليم.
(وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) لأنه أضاع ما جبلت عليه الفطر السليمة من توحيد اللّه والانقياد له كما
جاء في الحديث « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجسانه »
وخسر نفسه إذ لم يزكها بالإسلام للّه ، وإخلاص السريرة له كما قال تعالى : « قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ » .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 89]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
تفسير المفردات
الظلم : هو العدول عن الطريق الذي يجب سلوكه للوصول إلى الحق ، واللعن :
الطرد والإبعاد على سبيل السخط ، والإنظار : الإمهال والتأخير.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حقيقة الإسلام وأنه الدين الذي بعث اللّه به جميع الأنبياء ، ولا يقبل من أحد غيره ، أردف ذلك ذكر حال الكافرين به وجزائهم عند ربهم.
أخرج عبد بن حميد وغيره عن الحسن : أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم في كتابهم ، وأقروا وشهدوا أنه حق ، فلما بعث(3/205)
ج 3 ، ص : 206
من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسدا للعرب حين بعث من غيرهم.
وقال عكرمة : هم أبو عامر الراهب والحارث بن سويد في اثنى عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ، ثم كتبوا إلى أهلهم : هل لنا من توبة ؟ فنزلت الآية فيهم ، وأكثر الروايات على هذا.
الإيضاح
(كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ ؟ ) أي كيف يسلك اللّه بمثل هؤلاء سبيل المهتدين بإثابتهم والثناء عليهم ، وقد كفروا بعد إيمانهم ، وبعد أن شهدوا أن الرسول حق وجاءتهم الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التي بمثلها تثبت النبوة ؟
وشهادتهم أن الرسول حق كانت بمعرفتهم بشارات الأنبياء بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، وكانوا عازمين على اتباعه إذا جاء في زمنهم وانطبقت عليه العلامات وظهرت فيه البشارات ، لكنهم بعد أن جاءهم بالبينات وظهرت الآيات على يديه كفروا به وعاندوه.
وفي الآية استبعاد لهدايتهم بحسب سنن اللّه تعالى في البشر ، وإيئاس للنبى صلى اللّه عليه وسلم من إيمانهم ، فمن سنن اللّه تعالى في هداية البشر إلى الحق أن يقيم لهم الدلائل والبينات مع إزالة الموانع من النظر فيها على الوجه الذي يؤدى إلى المطلوب ، وقد مكن لهم اللّه من كل هذا من قبل ، ومن ثم آمنوا به.
(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن اللّه لا يهدى أمثال هؤلاء الظالمين لأنفسهم الجانين عليها لأنهم تنكّبوا عن الطريق القويم وتركوا هداية العقل بعد أن ظهر نور النبوة وعرفوه بالبينات.
(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي هؤلاء(3/206)
ج 3 ، ص : 207
يستحقون سخط اللّه وغضبه ، وسخط الملائكة والناس ، إذ هم متى عرفوا حقيقة حالهم لعنوهم ، لأنها مجلبة للعن بطبعها لكل من عرفها كما قال تعالى : « وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً » .
(خالِدِينَ فِيها) أي خالدين في اللعنة مسخوطا عليهم إلى الأبد.
(لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا ينقصون من العذاب شيئا ، ولا هم يمهلون لمعذرة يعتذرون بها ، لأن سببه ما ران على قلوبهم من ظلمات الجحود والعناد وسخط اللّه وغضبه ، وهو معهم لا يفارقهم أينما كانوا.
(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إلا الذين تابوا من ذنوبهم وثابوا إلى ربهم ، وتركوا ذلك الكفر الذي دنّسوا به أنفسهم نادمين على ما أصابوا منه ، وأصلحوا نفوسهم بصالح الأعمال التي تغذى الإيمان وتمحو من صفحة القلب ما كان قد ران عليها من ذميم الأخلاق والصفات.
وفي هذا إيماء إلى أن التوبة التي لا أثر لها في العمل لا يعتدّ بها في نظر الدين ، إذ كثير من الناس يظهرون التوبة بالندم والاستغفار والرجوع عن الذنب ، ثم لا يلبثون أن يعودوا إلى مثل ما كانوا قد اجترحوا من السيئات ، لأن التوبة لم يكن لها أثر فى نفوسهم ينبههم إذا غفلوا ، ويهديهم إلى اتخاذ الطرق الموصلة لإصلاح شئونهم ، وتقويم المعوجّ من أمورهم ، فإذا هم فعلوا ذلك نالهم من مغفرة ربهم ما يؤهلهم لدخول جنته ، والفوز برحمته.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 90 الى 91]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)(3/207)
ج 3 ، ص : 208
المعنى الجملي
الكافرون أصناف ثلاثة :
(1) الذين يتوبون توبة صحيحة مقبولة ، وهم الذين ذكرهم اللّه في الآية السالفة التي ختمها بقوله : « إِلَّا الَّذِينَ تابُوا » .
(2) الذين يتوبون توبة غير مقبولة ، وهم المذكورون في قوله : « لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ » .
(3) الذين يموتون على الكفر من غير توبة وهم من ذكروا في الآية الأخيرة.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) المراد بالذين كفروا هم أهل الكتاب الذين آمنوا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وشهدوا أنه حق قبل مبعثه ، ثم كفروا به بعد البعث ، ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد والصدّ عن سبيل اللّه وبالحرب والكفاح ، فالكفر يزداد قوة واستقرارا وتمكنا بالعمل بما ينمّيه ويقويه من الأعمال التي يقاوم بها الإيمان ، والإيمان كذلك.
هؤلاء لن تقبل لهم توبة لأن الشر قد تغلغل في نفوسهم وتمكن فيها الكفر فإذا أرادت التوبة وجدت من الموانع ما يحول بينها وبين قبول الحق والخير.
وظاهر الآيات يخالف ما صرّح به القرآن في غير موضع ، كقوله في الآية السابقة « إِلَّا الَّذِينَ تابُوا » وقوله : « وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ » .
ولكن بالتفسير الآتي يتضح المعنى - ذاك أنه تعالى بعد أن بين حكم من كفر ، وأنه أهل للعن والطرد إلا إن تاب ، ذكر هنا أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير غير مقبولة حتى كانها لم تكن ، ويكون المعنى في هذه الآية(3/208)
ج 3 ، ص : 209
وما قبلها إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن اللّه غفور رحيم ، فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم ، لأن نفوسهم قد توغل فيها الشرك ، وتمكن فيها الكفر وأحاطت بها خطيئتها وضلت على علم ، فإذا أرادت التوبة وجدت ما يحول بينها وبين قبول الحق والخير إلا إذا أحست النفس بألم الذنب ، فيحملها ذلك على تركه ومحو أثره المدنس لها بعمل صالح يحدث فيها أثرا مضادّا للأثر الأول.
وبهذا تؤهل صاحبها للمغفرة وترك العقوبة على الذنب ، إذ تكون النفس قد زكت وطهرت من الأدناس كما قال تعالى : « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها » .
وما مثل ذلك إلا مثل الثوب الأبيض تصيبه بعض الأوساخ ، فيبادر صاحبه إلى غسله ، فينظف ويزول أثر ذلك الدنس ولكن إذا تراكمت عليه الأقذار مدة طويلة حتى تخللت جميع خيوطه ، وتمكنت منها تعذر تنظيفه وإعادته إلى حاله الأولى وبين هذه الحال وما قبلها مراتب متفاوتة.
وقد أشير إلى ذلك بقوله تعالى : « إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ، وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً » (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) أي إن هؤلاء المتقبلين في الكفر هم المتمكنون من الضلال المخطئون سبيل الحق والنجاة لا ترجى لهم هداية ، ولا تقبل منهم توبة.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) ملء الشيء (بالكسر) مقدار ما يملؤه ، أي إن هؤلاء الذين يقيمون على الكفر ويعملون أعمال الكفار حتى يدركهم الموت على هذه الحال - فلن يقبل من أحدهم(3/209)
ج 3 ، ص : 210
ملء الأرض ذهبا إذا كان قد تصدق به في دنياه ، ولا يفيد ذلك في نجاته من عذاب النار ، لأن الكفر يحبط أعماله ويمحو كل حسناته ، فمن لم ترك نفسه في الدنيا وقسم عما يكدرها من ظلمات الكفر وأوضار الشرك - فلن ينفعها يوم مناقشة الحساب عمل وإن جلّ ، ولا فضيلة وإن عظمت ، إذ المعول عليه في ذلك اليوم هو الإيمان الصحيح باللّه واليوم الآخر ، والعمل الصالح الذي يرقى بصاحبه إلى حظيرة القدس في جوار الرب الرّحيم.
(وَ لَوِ افْتَدى بِهِ) أي ولو افتدى به في الآخرة لا يقبل منه أيضا على تقدير أنه يملكه ، ويريد أن يجعله وسيلة النجاة والمنقذ من العذاب ، كما يعطى الناس الرّشا للحكام الظالمين ليزيلوا عنهم ما قد يحلّ بهم من العذاب.
ونحو الآية قوله تعالى : « فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ » ذاك أن النجاة في هذا اليوم لا تكون مما يبذل ، ولا بجاه ينفع ، بل جعل أمرها موقوفا على صفاء النفس واستعدادها ، فمن زكّاها بالإيمان مع العمل الصالح فقد أفلج ، ومن دسّاها بالكفر وسبى الأعمال فقد خاب وخسر.
وصفوة القول - إنه لا طريق للافتداء على أىّ حال لو أريد ويرى بعض المفسرين أن الكلام من قبيل التمثيل ، إذ لا حاجة إلى الذهب ولا إلى إنفاقه ، إذ الأشقياء لا نصير لهم ينفق عليهم ، والأولياء في عنى يفضل اللّه ورحمته عمن ينفق عليهم.
(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يدفعون العذاب عنهم أو يخففونه كما كانوا ينصرونهم في الدنيا إذا حاول أحد أذاهم أو إيقاع المكروه بهم.
[سورة آل عمران (3) : آية 92]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)(3/210)
ج 3 ، ص : 211
تفسير المفردات
نال الشيء نيلا : إذا أصابه ووجده ، يقال نال العلم : إذا وصل إليه واتصف به ، والبرّ : ما يكون به الإنسان بارّا ، وما تحبون هو نفائس الأموال وكرائمها ، لأن شأنها عند النفوس عظيم ، فكثيرا ما يخاطر الإنسان بنفسه ، ويستسهل بذل روحه للدفاع عن ماله.
المعنى الجملي
بعد أن حاج اللّه تعالى أهل الكتاب فيما ادّعوه من الإيمان ، وأنهم شعب اللّه المختار ، وأن النبوة محصورة فيهم لا تعدوهم إلى غيرهم ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات.
خاطبهم هنا بأن آية الإيمان وميزانه الصحيح هو الإنفاق في سبيل اللّه من المحبوبات مع الإخلاص وحسن النية ، ولكنكم أيها المدّعون لتلك الدعاوى آثرتم شهوة المال على مرضاة اللّه ، ولو أنفق أحدكم شيئا من ماله فإنما ينفق من أردأ ما يملك وأبغضه إليه ، لأن محبة المال في قلبه تفوق محبة اللّه تعالى ، والرغبة في ادخاره تعلو الرغبة فيما عند ربه من الرضا والثواب فكيف ترجون أن تكونوا من المؤمنين الصادقين وأنتم لا تنفقون ما تحبون ؟
الإيضاح
(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) أي لن تصلوا إلى بر اللّه تعالى بأهل طاعته برضاه عنهم وتفضله برحمتهم ، ونيلهم مثوبته ، ودخولهم جنته ، وصرف عذابه عنهم حتى تنفقوا ما تهواه نفوسكم من كرائم أموالكم(3/211)
ج 3 ، ص : 212
وقد أثر عن السلف الصالح أنهم كانوا إذا أحبوا شيئا جعلوه للّه تعالى.
روى البخاري ومسلم عن أنس رضى اللّه عنه قال : كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلا بالمدينة ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء (موضع) وكانت مستقبلة المسجد ، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء طيب فيها ، فلما نزلت (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قال أبو طلحة يا رسول اللّه : إن أحبّ أموالى إلىّ بيرحاء.
وإنها صدقة للّه تعالى أرجو برّها وذخرها عند اللّه تعالى ، فضعها يا رسول اللّه حيث أراك اللّه تعالى ، فقال عليه السلام : بخ بخ (كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشي ء) ذاك مال رابح ، وقد سمعت ما قلت ، وإنى أرى أن تجعلها في الأقربين ، فقال أفعل يا رسول اللّه ، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبنى عمه. وفي رواية لمسلم : فجعلها بين حسان ابن ثابت وأبيّ بن كعب.
و
أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن المنكدر قال : لما نزلت هذه الآية جاء زيد ابن حارثة بفرس يقال لها سبل لم يكن له مال أحب إليه منها فقال هى صدقة ، فقبلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحمل عليها ابنه أسامة ، فكأن زيدا وجد في نفسه (حزن) فلما رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك منه قال : أما إن اللّه قد قبلها.
فهذا الأثر وما قبله دلائل واضحات على حسن السياسة الدينية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومعرفة ما يختلج في القلوب ، فقد رأى أن أبا طلحة وزيدا قد خرجا عن أحب أموالهما إليهما بعاطفة الدين ، فجعل ذلك في الأقربين ليثبّت قلوبهما ويكمل إيمانهما ، ولا يجعل للشيطان سبيلا ينفذ به إلى ما بين الجوانح فيندمان إذا هما رأيا أموالهما فى أيدى الغرباء ، إذ كثيرا ما يفارق المرء شيئا محبوبا لديه باختياره لعاطفة الدين ، أو للجود به على غيره ، ثم لا يلبث إلا قليلا حتى يعاوده الحنين إليه ، ومن ثمّ كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يأمر عمّال الصدقة باتقاء كرائم الأموال ، والبعد عنها حين جباية الصدقات.
وهناك من الشواهد ما يدل على هذا أيضا ، فقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عمر(3/212)
ج 3 ، ص : 213
قال : حضرتنى هذه الآية (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) الآية ، فذكرت ما أعطانى اللّه تعالى ، فلم أجد أحب إلىّ من مرجانة (جارية رومية) فقلت هى حرة لوجه اللّه ، فلو أني أعود في شىء جعلته للّه تعالى لنكحتها ، فأنكحتها نافعا (مولى له كان يحبه كأحد أولاده).
فتأمل وانظر تر أن نفسه قد راودته بعد عتقها على أن يستبقيها له ولا يفارقها ، لو لا أن كان مما عوّد نفسه عليه ألا يرجع في شىء جعله للّه ، ومع ذلك جعلها لأحب الناس إليه ، وهو مولاه وعلى الجملة فآثار السلف في الإبثار وبذل المال ابتغاء مرضاة اللّه كثيرة.
فقد روى أن ابن عمر اشتهى سمكة بمكة وكان قد نقه من مرض ، فبحث عنها فى المدينة فلم توجد ، وبعد مدة وجدت ، فاشتريت بدرهم ونصف الدرهم ، فشويت وجىء بها على رغيف ، فجاء سائل بالباب فقال ابن عمر للغلام : لفّها برغيفها وادفعها إليه ، فأبى الغلام فردّه وأمره أن يدفعها إليه ، ثم جاء بها فوضعها بين يديه ، وقال كل هنيئا يا أبا عبد الرّحمن ، فقد أعطيته ذرهما وأخذتها ، فقال : لفها وادفعها إليه ولا تأخذ منه الدرهم ، فإنى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « أيّما امرئ اشتهى شهوة فردّ شهوته وآثر على نفسه إلا غفر اللّه له » .
وعن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه أنه أهدى إلى رجل من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأس شاة ، فقال : إن أخي فلانا كان أحوج منى إليه فبعث به إليه ، فلما وصل إليه قال : إن فلانا كان أحوج منى إليه ، فلم يزل يبعث به كل واحد منهم إلى آخر حتى تناوله سبعة أبيات ورجع إلى الأول.
وفي هذه الآثار وأمثالها ما ينبغى أن يكون عظة لمن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فيقتدى بأولئك الأبرار الطاهرين ، ويجعلهم المثل العليا للبذل في سبيل اللّه.
(وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي أىّ شىء تنفقونه في سبيل اللّه طيبا أو خبيثا فاللّه مجازيكم به بحسب ما يعلم من نيتكم ، ومن مواقع ذلك في قلوبكم ،(3/213)
ج 3 ، ص : 214
فربّ منفق مما يحب لا يسلم من الرياء ، وربّ فقير معدم لا يجد ما يحب فينفق منه ، ولكن قلبه يفيض بالبرّ ، ولو وجد ما أحبه لأنفقه أو أكثره.
وفي هذه الآية ترغيب وترهيب وحث على إخفاء الصدقة ، كى لا يكون للشيطان منفذ إلى قلوب الأبرار الصالحين.
جعلنا اللّه من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وصلوات اللّه على أنبيائه المرسلين ، والحمد للّه رب العالمين.
وكان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة في رجب المعظم من سنة إحدى وستين وثلاثمائة هجرية.(3/214)
ج 3 ، ص : 215
فهرس أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء
الصفحة المبحث 3 الحق لا بد أن ينتصر على الباطل مهما طال به الأسد 5 فضل محمد صلى اللّه عليه وسلم على غيره من الرسل بمزايا.
7 هداية الدين الكسب لا بالإلهام.
9 الإنفاق في سبيل اللّه من وسائل النجاة.
10 ظلم الباخل بفضل ماله من أقبح أنواع الظلم.
12 الفرق بين السنة والنوم.
18 فرض الجهاد ليكون سياجا لصد من يقاوم الدعوة 28 أساس المعجزات وعظمتها ليست في نتائجها وغرابتها.
30 أنبتت الجمعية الزراعية أن السنبلة الواحدة أنبتت سبعا ومائة حبة.
33 درء المفاسد مقدم على جلب المصالح 38 سنة القرآن أن يذكر الكرم بثمره والنخل بشجره.
41 في الحديث « اللهمّ أعط منفقا خلفا » .
43 النذر قسمان.
44 المال قطب الرحى وعليه تدور مصالح الأمم 45 صدقة السر تفضل صدقة العلانية.
49 الإحصار في سبيل اللّه.
50 السؤال محرم لغير ذى ضرورة.
51 أهل الصفّة وذكر مناقبهم.(3/215)
ج 3 ، ص : 216
الصفحة المبحث 55 الربا ضربان : ربا الفضل وربا النسيئة.
57 السر في تحريم الربا.
63 تخبط الشيطان للإنسان من زعمات العرب.
65 محق اللّه للربا.
67 حرب اللّه ورسوله.
75 سر التشريع في قيام المرأتين مقام الرجل في الشهادة.
76 وجوب الإشهاد في البيوع المؤجلة.
78 آثام القلب.
79 الحسد يبعث على الانتقام والسعى على إزالة نعمة المحسود.
82 الذنب المغفور.
84 أثر الإيمان في النفوس.
85 النفس مجبولة على فعل الخير وتفعل الشر بالتكلف والتأسى 87 الخطأ والنسيان مما يرجى العفو عنهما.
88 النصر بالحجة أقوى من النصر بالسيف 88 الدعاء يستجاب إذا صحبه الإخلاص بعد اتخاذ الوسائل الموصلة للنجاح.
92 معنى كلمتى التوراة والإنجيل والمراد منهما لدى اليهود والنصارى.
96 ليست التوراة الموجودة الآن هى توراة موسى.
97 المراد بالفرقان 99 آراء الأئمة في المتشابه.
101 الحكمة في إنزال المتشابه.
106 قد تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة.
109 الشهوات التي ملأت قلوب الناس حبّا.(3/216)
ج 3 ، ص : 217
الصفحة المبحث 110 أسباب حب البنين 110 حب المال أودع في غرائز البشر 116 أوصاف المؤمنين 119 شرع الدين لأمرين 120 الملوك والأحبار هم الذين جعلوا الدين المسيحي مذاهب.
124 دعوة الأنبياء ودعوة الفلاسفة.
125 وعيد الكافرين على ضروب ثلاثة.
126 إعراض اليهود عن دعوة النبي صلى اللّهعليه وسلم ليس ببدع ولا غريب فذلك دينهم مع الأنبياء السابقين.
127 قام الدليل لدى الباحثين على أن التوراة كتبت بعد موسى بخمسمائة سنة.
128 من استخفّ بوعيد اللّه تزول من نفسه حرمة الأوامر والنواهي.
130 المشركون أنكروا النبوة لرجل يأكل الطعام ، واليهود أنكروها لرجل من غير بنى إسرائيل 131 النبوة إما أن تأتى استقلالا أو تابعة للملك كما وقع لآل إبراهيم 133 أثبت الأطباء أن في النطفة والبيضة والنواة حياة 133 التفسير الحق لإخراج الحي من الميت والميت من الحي.
134 ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه 137 اختيار الأئمة التقية ومداراة الكفرة والظلمة 139 رأفة اللّه بعباده 140 محبة اللّه تدعو إلى اتباع رسله 142 تفضيل آل إبراهيم وآل عمران على العالمين.
146 سيق قصص آل إبراهيم وآل عمران إثباتا لنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم(3/217)
ج 3 ، ص : 218
الصفحة المبحث 147 دعاء زكريا ربه الذرية الطيبة حين رأى مريم 149 طلب زكريا آية على حمل امرأته.
150 جاء الوحى في القرآن لأربعة معان.
151 تفضيل مريم على نساء العالمين.
152 ما جاء في القرآن مخالفا للكتب السابقة يعد مصححا لأعلاطها 154 لم أطلق لفظ الكلمة على المسيح ؟
155 وجاهة عيسى في الدنيا والآخرة.
156 كن فيكون تمثيل لكمال القدرة.
157 الأمر ضربان أمر تكوين وأمر تشريع.
158 ما روى من إحياء عيسى للموتى.
159 عمل الطين بهيئة الطير ثم النفخ فيه لطف من اللّه بعباده 160 المعجزات سنة جديدة 163 المعجزات ضرورية لإيمان الإنسان بقدرة اللّه.
164 الفرق بين أخبار الأنبياء بالغيب وأخبار المنجمين والكهان 169 آراء العلماء في رفع عيسى إلى السماء 173 خلق آدم أعجب من خلق عيسى.
174 مباهلة النبي صلى اللّه عليه وسلم للنصارى.
180 التحليل والتحريم لا يؤخذ إلا من قول النبي المعصوم.
184 أهل الكتاب والمشركون كانوا حريصين على إضلال المؤمنين.
185 من حيلهم في إضلال المؤمنين أن يؤمنوا وجه النهار ويكفروا آخره.
186 أهل الكتاب طائفتان طائفة أمينة وأخرى خائنة 190 العهد ضربان(3/218)
ج 3 ، ص : 219
الصفحة المبحث 191 وعيد الناكثين للعهد.
193 افتراء اليهود على اللّه ما لم يقله.
199 لا مانع من تتابع الأنبياء في عصر واحد 201 الدين الحق إسلام الوجه للّه والإخلاص له.
202 الإيمان والإسلام لغة وشرعا.
207 التوبة التي لا أثر لها في العمل لا يعتدّ بها في نظر الدين.
208 الكافرون أصناف ثلاثة 211 ميزان الإيمان الصحيح الإنفاق في سبيل اللّه.
212 كان السلف الصالح إذا أحبوا شيئا جعلوه للّه.
212 حسن السياسة الدينية لدى الرسول صلى اللّه عليه وسلم.
213 ما روى من الآثار في الإيثار ابتغاء مرضاة اللّه(3/219)
ج 4 ، ص : 3
الجزء الرابع
[تتمة سورة آل عمران ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 97]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)
تفسير المفردات
الطعام : كل ما يطعم ويتناول للغذاء كما قال « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ » وقالت عائشة رضى اللّه عنها « مالنا طعام إلا الأسودان :(4/3)
ج 4 ، ص : 4
التمر والماء » وكثر استعماله فى الخبز كما قالوا : أكل الطعام مأدوما ، وفي البرّ ، ومنه حديث أبى سعيد « كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير » والحل : من حل الشيء ضد حرم ، وإسرائيل : لقب نبي اللّه يعقوب ، ومعناه الأمير المجاهد مع اللّه ثم شاع إطلاقه على جميع ذريته كما تدل على ذلك الأسفار المنسوبة إلى موسى ، والفرية : الكذب ، والافتراء : اختلاق الكذب ، والحنيف : المائل عن الباطل إلى الحق ، وبكة : من أسماء مكة (أبدلت ميمها باء) وهذا كثير الاستعمال فى الكلام ، قالوا : هذا دائم ودائب ، والآيات : الدلائل والعلامات ، والحج (بكسر الحاء وفتحها وبهما قرى ء) القصد.
المعنى الجملي
كانت الآيات من أول السورة إلى هنا في تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، مع إثبات وحدانية اللّه تعالى ، وتبع ذلك محاجة أهل الكتاب ودحض شبههم وتفنيد ما استحدثوه في دينهم من بدع وتقاليد لا نص عليها في كتابهم ، أما هذه الآيات فقد جاءت لدفع شبهتين من شبهات اليهود :
(1) أنهم قالوا للنبى صلى اللّه عليه وسلم : إنك تدّعى أنك على ملة إبراهيم ، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراما في دين إبراهيم ؟ فأنت قد استحللت ما كان محرما عليه ، فلست بمصدّق له ، ولا بموافق له في الدين ، وليس لك أن تقول إنك أولى الناس به ، فرد اللّه عليهم بأن كل الطعام كان حلالا لبنى إسرائيل ، ولإبراهيم من قبله ، ثم حرم عليهم بعض الطيبات عقوبة لهم.
(2) أنه لما حوّلت القبلة إلى الكعبة طعنوا في نبوته ، وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة ، وأحق بالاستقبال ، فهو قد وضع قبلها وهو أرض المحشر ، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمونه ويصلون إليه ، فلو كنت على ما كانوا عليه لعظّمت ماعظموا ، ولما تحولت عن بيت المقدس ، وعظمت مكانا آخر(4/4)
ج 4 ، ص : 5
وخالفت من تقدّمك من الأنبياء ، فرد اللّه سبحانه شبهتهم ، بأن أول بيت بنى للعبادة هو البيت الحرام بناه إبراهيم وولده إسماعيل للعبادة.
الإيضاح
أجاب اللّه سبحانه عن أولى الشبهتين بقوله :
(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) أي إن كل الطعام كان حلالا لبنى إسرائيل ، ولإبراهيم من قبله ، ثم حرم عليهم بعض الطيبات في التوراة عقوبة لهم وتأديبا كما يدل على ذلك قوله « فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ » الآية.
والمراد بإسرائيل الشعب كله كما هو شائع في الاستعمال عندهم لا يعقوب فحسب ، كما أن المراد بتحريم الشعب ذلك على نفسه أنه اجترح من السيئات ، وارتكب من الموبقات ما كان سببا في هذا التحريم كما ترشد إلى ذلك الآية التي أسلفناها.
وخلاصة هذا الجواب - أن الأصل في الأطعمة الحل ، وما كان تحريم ما حرم على إسرائيل إلا تأديبا لهم على جرائم ومخالفات وقعت منهم ، وكانت سببا فيما نالهم من التحريم لها ، والنبي صلى اللّه عليه وسلم وأمته لم يجترحوا هذه السيئات فلا تحرم عليهم هذه الطيبات.
ومعنى قوله : من قبل أن تنزل التوراة ، أنه قبل نزول التوراة كان حلّا لبنى إسرائيل كل أنواع المطعومات أما بعد نزولها ، فقد حرم عليهم أنواع كثيرة بسبب الذنوب التي اقترفوها ، وقد بينتها التوراة وبينت أسباب التحريم وعلله.
(قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى دعواكم ، لا تخافون أن تكذبكم نصوصها ، فالحكم بيننا وبينكم كتابكم الناطق بصحة ما يقول القرآن ، فلو جئتم به لكان مؤيدا ما نقول من أن تحريم ما حرم ما كان إلا للتأديب والزجر.
وقد جاء في سفر التثنية : قال موسى حين أخذ عليكم العهد بحفظ الشريعة (إنكم شعب(4/5)
ج 4 ، ص : 6
غليظ الرقبة يقاوم الرب) وقد روى أنهم لم يجرءوا على الإتيان بها ، وفلجت حجة القرآن.
وفي هذا أكبر دليل على إثبات نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، إذ هو قد علم أن ما في التوراة يدل على كذبهم ، وهو لم يقرأها ولا قرأ غيرها من كتب الأولين ، فهذا العلم لم يكن إلا بوحي من اللّه.
(فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
أي فمن اخترع الكذب على اللّه وزعم أن التحريم كان على الأنبياء السابقين وأممهم قبل نزول التوراة - بعد أن ظهرت له الحجة بأن التحريم إنما كان بسبب ما ارتكب الشعب من الذنوب والخطايا ، وبعد أن طولب المدعون بالإتيان بالتوراة وتلاوتها ، فامتنعوا لئلا يظهر كذبهم ، وأن اللّه لم يحرم شيئا قبل نزولها - فأولئك هم الظالمون لأنفسهم المستحقون لعذاب اللّه ، لأنهم قد حولوا الحق عن وجهه ، ووضعوا حكم اللّه فى غير موضعه ، فضلوا وأضلوا أشياعهم بإصرارهم على الباطل ، وعدم تصديقهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
(قُلْ صَدَقَ اللَّهُ) فيما أنبأنى به من أن سائر الأطعمة كانت حلالا لبنى إسرائيل ، وأنها إنما حرمت على اليهود جزاء أفعالهم القبيحة ، وبذا قامت عليكم الحجة ، وثبت أنى مبلغ عنه ، إذ ما كان في استطاعتي لولا الوحى أن أعرف صدقكم من كذبكم فيما تحدثون عن أنبيائكم.
(فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أي وإذ قد استبان لكم أن ما يدعوكم إليه محمد صلى اللّه عليه وسلم هو من ملة إبراهيم ، فعليكم أن تتبعوه في استباحة أكل لحوم الإبل وألبانها ، وملته حنيفية سمحاء لا إفراط فيها ولا تفريط.
(وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يدعون مع اللّه إلها آخر ، أو يعبدون سواه ، كما فعله العرب من عبادة الأوثان ، وفعله اليهود من ادّعائهم أن عزيرا ابن اللّه ، وفعله النصارى من اعتقادهم أن المسيح ابن اللّه.(4/6)
ج 4 ، ص : 7
وخلاصة هذا - إن محمدا صلوات اللّه عليه على دين إبراهيم في جزئيات الأحكام وكلياتها ، فأحل ما أحله هو من أكل لحوم الإبل وألبانها ، ودعا إلى التوحيد والبراءة من كل معبود سوى اللّه ، وما كان إبراهيم صلوات اللّه عليه إلا على هذا الدين.
ثم أجاب عن الشبهة الثانية فقال :
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) أي إن البيت الذي نستقبله في صلاتنا هو أول بيت وضع معبدا للناس ، بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام للعبادة ، ثم بنى المسجد الأقصى بعد ذلك بعدة قرون ، بناه سليمان عليه السلام سنة 1005 قبل الميلاد فكان جعله قبلة أولى ، وبذا يكون النبي صلى اللّه عليه وسلم على ملة إبراهيم ويتوجه بعبادته إلى حيث كان يتوجه إبراهيم وإسماعيل صلوات اللّه عليهما.
والخلاصة - إن أول بيوت العبادة الصحيحة التي بناها الأنبياء هو البيت الحرام ، فليس في الأرض موضع بناه الأنبياء أقدم منه فيما يؤثر من تواريخهم ، ويتبع هذا أولية الشرف والتعظيم.
ثم بين فضائله فقال :
(1 ، 2) (مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) تطلق البركة على معنيين : أحدهما النموّ والزيادة ، وثانيهما البقاء والدوام كما يقال تبارك اللّه.
والبركة والهداية من فضائله الحسية والمعنوية.
أما الأولى فهى أنه قد أفيض عليه من بركات الأرض وثمرات كل شىء مع كونه بواد غير ذى زرع كما قال اللّه تعالى : « يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ » فترى الأقوات والثمار في مكة كثيرة جيدة ، وأقل ثمنا من كثير من البلاد ذوات الخيرات الوفيرة كمصر والشام.
وأما الثانية فلأن القلوب تهوى إليه ، فتأتى الناس مشاة وركبانا من كل فج عميق لأداء المناسك الدينية من الحج والعمرة ، ويولّون وجوههم شطره في صلاتهم(4/7)
ج 4 ، ص : 8
وربما لا تمضى ساعة من ليل أو نهار إلا وهناك ناس يتوجهون إليه ، ولا شك أن هذه الهداية من أشرف أنواع الهدايات.
وكل هذا ببركة دعوة إبراهيم صلوات اللّه عليه « رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ » .
(3) (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) أي فيه دلائل واضحات ، أحدها مقام إبراهيم - موضع قيامه للصلاة والعبادة - وقد عرف ذلك العرب وغيرهم بالنقل المتواتر.
وإبراهيم أبو الأنبياء الذين بقي في الأرض أثرهم ، وجعلت النبوة والملك فيهم ، فأىّ دليل أبين من هذا على كون ذلك البيت من أول بيوت العبادة المعروفة ؟
(4) (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) أي وأمن من دخله ، والعرب جميعا قد اتفقوا على احترامه وتعظيمه ، فمن دخله أمن على نفسه من الاعتداء والإيذاء ، وأمن أن يسفك دمه أو تستباح حرماته مادام فيه ، وقد مضوا على ذلك الأجيال الطوال في الجاهلية على كثرة ما بينهم من الأحقاد والضغائن ، واختلاف المنازع والأهواء ، وقد أقر الإسلام هذا ، وكل ذلك بفضل دعوة إبراهيم عليه السلام « رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً » .
وعن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. ومن ثم قال أبو حنيفة رحمه اللّه : من وجب قتله في الحلّ بقصاص أو ردّة أو زنا فالتجأ إلى الحرم لم يتعرّض له ، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج منه.
وفتح مكة بالسيف كان لضرورة تطهير البيت من الشرك وتخصيصه للعبادة ، فقد حلت للنبى صلى اللّه عليه وسلم ساعة من نهار لم تحل لأحد قبله ، ولن تحل لأحد بعده كما جاء في الحديث(4/8)
ج 4 ، ص : 9
على أن حل مكة وما يتبعها من أرباضها للنبى صلى اللّه عليه وسلم ساعة من نهار أمر زائد على أمن البيت ، فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يستحلّ البيت ساعة ولا مادونها ، بل كان مناديه ينادى : من دخل المسجد الحرام فهو آمن ، ومن دخل داره وأغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن.
وقد أخبر أبو سفيان النبي صلى اللّه عليه وسلم بقول سعد بن عبادة الأنصاري حامل اللواء له في الطريق : اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الكعبة ، فقال صلى اللّه عليه وسلم « كذب سعد ، هذا يوم يعظم اللّه فيه الكعبة ، ويوم تكسى فيه الكعبة »
وما فعله الحجاج من رمى البيت بالمنجنيق ، فهو فعل السياسة التي قد تحمل صاحبها على مخالفة ما يعتقد حرمته ، ويقع به في الظلم والإلحاد ، إذ هو وجنده لم يكونوا معتقدين حلّ ما فعلوا.
(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) أي ويجب الحج على المستطيع من هذه الأمة ، وفي هذا تعظيم للبيت أيّما تعظيم ، وما زال الناس من عهد إبراهيم إلى عهد محمد صلوات اللّه عليهما يحجون البيت عملا بسنة إبراهيم ، جروا على هذا جيلا بعد جيل لم يمنعهم من ذلك شركهم ولا عبادتهم للأوثان والأصنام ، فهى آية متواترة على نسبة هذا البيت إلى ابراهيم.
واستطاعة السبيل إلى الشيء إمكان الوصول إليه كما قال تعالى : « فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ » وقال : « ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ » وتختلف الاستطاعة باختلاف الأشخاص ، واختلاف البعد عن البيت والقرب منه ، وكل مكلف أدرى بنفسه في ذلك.
وقد اختلف في تفسيرها ، فقال بعضهم إنها القدرة على الزاد والراحلة مع أمن الطريق. وقال بعض : إنها صحة البدن والقدرة على المشي ، وقال آخرون هى صحة البدن وزوال الخوف من عدو أو سبع مع القدرة على المال الذي يشترى منه الزاد والراحلة ، وقضاء جميع الديون والودائع ودفع النفقة التي تكفى لمن تجب عليه نفقته حتى العودة من الحج.(4/9)
ج 4 ، ص : 10
وخلاصة ذلك - إن هذا الإيجاب مشروط بالاستطاعة وهى تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان.
(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) المراد بالكفر هنا جحود كون هذا البيت أول بيت وضعه إبراهيم للعبادة بعد أن قامت الأدلة على ذلك ، وعدم الإذعان لما فرضه اللّه من حجه والتوجه إليه بالعبادة.
وفسر بعضهم الكفر بترك الحج فكأنه قال ومن لم يحج فإن اللّه غنى عن العالمين ، وعبر عنه بذلك تغليظا وتشديدا على تاركه.
فقد روى أنه صلى اللّه عليه وسلم قال : « من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا »
وروى عن على أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال في خطبة له : « أيها الناس ، إن اللّه فرض الحج على من استطاع إليه سبيلا ، ومن لم يفعل فليمت على أي حال شاء يهوديّا أو نصرانيا أو مجوسيا »
وأثر عن عمر أنه قال : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة (سعة) ولم يحج ، فيضربوا عليهم الجزية ، ماهم بمسلمين ، ماهم بمسلمين.
ولهذه الأدلة قال كثير من الفقهاء : إن الحج واجب على الفور ، وقال آخرون : إنه واجب على التراخي.
وهذه الجملة تأكيد لما سبق من الوجوب ، فإنه بدأ الآية بأن قال : وللّه على الناس ، فأفاد أن ذلك ما كان لجرّ نفع ولا لدفع ضر ، بل كان للعزة الإلهية ، ولكبرياء الربوبية ، وختمها بهذه الجملة المؤكدة لذلك ، ببيان أن فاعل ذلك مستأهل للنعمة برضا اللّه عنه ، وأن تاركه يسخط عليه سخطا عظيما.
وحسب البيت شرفا أنه حرم آمن ومثابة للناس ومبارك وهدى للعالمين ، وما جاء عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حرمته وفضله ، من أنه لا يسفك فيه دم ، ولا يعضد شجره ، ولا يختلى خلاه (لا يقطع نباته) وأن قصده مكفر للذنوب ماح للخطايا ، وأن العبادة التي تؤدى فيه لا تؤدى في غيره ، وأن استلام الحجر(4/10)
ج 4 ، ص : 11
الأسود فيه رمز إلى مبايعة اللّه تعالى على إقامة دينه والإخلاص له ، وأن الصلاة فيه بمائة ألف ضعف في غيره.
وكتب الأحاديث والسيرة مليئة ببيان فضله ، ومشيدة بذكره.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 99]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
تفسير المفردات
آيات اللّه : هى الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم والشهيد : العالم بالشيء المطلع عليه ، وتصدون ، من صددته أصده صدا : أي صرفته ، والسبيل : الطريق يذكر ويؤنث ، وتبغونها من بغاه يبغيه : أي طلبه ، والعوج (بكسر العين) الميل عن الاستواء في الأمور المعنوية كالدين والقول (وبفتحها) فى المحسوسات كالحائط والقناة والشجرة والمراد به هنا الزيغ والتحريف.
المعنى الجملي
بعد أن أورد سبحانه الأدلة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم بما جاء في التوراة والإنجيل من البشارة بمقدمه ، ثم ذكر شبهات القوم وكرّ عليها بالحجة ، ونقضها بما ليس بعده زيادة لمستزيد - أردف ذلك خطابهم بالكلام اللين ، وبدأه بعنوان كونهم أهل الكتاب مما يوجب الإيمان به وبما يصدقه مبالغة في تقبيح حالهم في تكذيبهم له ، إذ هم قد فعلوا ذلك على علم.
أخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال : مرّ شاس بن قيس وكان عظيم الكفر شديد الطعن والحرد على المسلمين - على نفر من أصحاب رسول اللّه(4/11)
ج 4 ، ص : 12
صلى اللّه عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون فيه ، فغاظه ما رأى من جماعهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان منهم من العداوة فى الجاهلية فقال : قد اجتمع ملأ بنى قيلة (الأوس والخزرج) بهذه البلاد ، واللّه مالنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار : فأمر فتى شابا من اليهود - وكان معه - فقال اعمد إليهم فاجلس معهم وذكّرهم يوم بعاث ، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ففعل (وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر للأوس على الخزرج) فقيل ، فتكلم القوم عند ذلك ، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحي على الركب (أوس بن قيظى أحد بنى حارثة بن الحارث من الأوس ، وجبّار بن صخر أحد بنى سلمة من الخزرج) فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم واللّه رددناها جذعة (شابة فتية ، يعنون الحرب) وغضب الفريقان وقالوا قد فعلنا ، السلاح السلاح ، موعدكم الظاهرة (هى الحرّة ، وهى أرض مستوية بظاهر المدينة) فخرجوا إليها ، وتجاوب الناس ، فانضمت الأوس بعضها إلى بعض ، والخزرج بعضها إلى بعض ، على دعواهم التي كانوا عليها فى الجاهلية ، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال : يا معشر المسلمين ، اللّه اللّه ، أ بدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم اللّه إلى الإسلام وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألف بين قلوبكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا ؟ .
فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان ، وكيد من عدوهم ، فألقوا السلاح من أيديهم ، وبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سامعين مطيعين ، قد أطفأ اللّه عنهم كيد عدو اللّه شاس بن قيس وما صنع.
وأنزل اللّه فيه (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ) إلى آخر الآيتين(4/12)
ج 4 ، ص : 13
السابقتين ، وأنزل عز وجل في أوس بن قيظى وجبار بن صخر ومن كان معهما (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ - إلى قوله - لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
الإيضاح
(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ ؟ ) أي لأى سبب تكفرون بتلك الآيات واللّه مطلع على أعمالكم ، لا تخفى عليه خافية من أمركم وهو مجازيكم بها ؟ وذلك مما يوجب عليكم ألا تجترئوا على الكفر بآياته.
ولا يخفى ما في هذا من التوبيخ والإيماء إلى تعجيزهم عن إقامة العذر على كفرهم ، كأنه قيل هاتوا عذركم إن كان ذلك في مكنتكم.
(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ ؟ ) أي لأىّ سبب تصرفون من آمن بمحمد صلى اللّه عليه وسلم واتبعه عن الإيمان الذي يرقى عقل المؤمن بما فيه من طلب النظر في الكون ، ويرقى روحه بتزكيتها بالأخلاق الطيبة ، والأعمال الصالحة ، وتكذبون بذلك كفرا وعنادا ، وكبرا وحسدا ، وتلقون الشبهات الباطلة في قلوب الضعفاء من المسلمين بغيا وكيدا للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، تبغون لأهل دين اللّه ولمن هو على سبيل الحق عوجا وضلالا ، وزيغا عن الاستقامة على الهدى والمحجة ، وأنتم عارفون بتقدم البشارة به ، عالمون بصدق نبوته ، ومن كان كذلك فلا يليق به الإصرار على الباطل والضلال والإضلال.
(وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من هذا الصدّ وغيره من الأعمال ، فمجازيكم عليه ، وغير خاف ما في هذا من تهديد ووعيد ، كما يقول الرجل لعبده وقد أنكر عليه اعوجاج أخلاقه : لا يخفى علىّ ما أنت عليه ، وما أنا بغافل عن أمرك.
وإنما ختم هذه الآية بنفي الغفلة ، لأن صدهم عن الإسلام كان بضرب من المكر والكيد ووجوه الحيل ، وختم الآية السابقة بقوله واللّه شهيد لأن العمل الذي فيها وهو الكفر ظاهر مشهود.(4/13)
ج 4 ، ص : 14
وكرر الخطاب بيا أهل الكتاب ، لأن المقصد التوبيخ على ألطف الوجوه ، وهذا أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريق الضلال والإضلال ، وأدل على النصح لهم ، والإشفاق عليهم.
والآية الأولى لكفهم عن الضلال ، والثانية لكفهم عن الإضلال.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 100 الى 103]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
شرح المفردات
اعتصم بالشيء : تمسك به فمنع نفسه من الوقوع في الهلاك كما قال تعالى حكاية عن زليخا « وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ » والتقاة : التقوى كالتؤدة من اتأد ، والحق : من حق الشيء بمعنى وجب وثبت ، والأصل اتقاء حقا ، وحبل اللّه :
كتابه من اعتصم به كان مستمسكا بأقوى سبب ، متحرزا من السقوط في قعر جهنم ، وشفا الحفرة : طرفها ، وبه يضرب المثل في القرب من الهلاك ، فيقال أشفى على الهلاك ، أي وصل إلى شفاه.(4/14)
ج 4 ، ص : 15
المعنى الجملي
بعد أن وبخ سبحانه أهل الكتاب على كفرهم وصدهم عن سبيل اللّه ، وأقام الحجج عليهم وأزال شبهاتهم - خاطب المؤمنين محذّرا لهم من إغوائهم وإضلالهم :
مبينا لهم أن مثل هؤلاء لا ينبغى أن يطاعوا ، ولا أن يسمع لهم قول ، فهم دعاة الفتنة وحمالو حطبها ، ثم أمرهم بعد ذلك بتقواه والتمسك بحبله المتين ، ثم بتذكر نعمته عليهم وفعل الإنسان إما عن رهبة وإما عن رغبة ، والرهبة مقدمة على الرغبة ، وقد أشار إلى الأولى بقوله : (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ) ، وإلى الثانية بقوله : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ).
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) أي إنكم أيها المؤمنون إذا أصغيتم إلى ما يلقيه إليكم هؤلاء اليهود مما يثير الفتنة ، ولنتم لهم فى القول ، واستجبتم لما يدعونكم إليه - ردوكم إلى الكفر بعد الإيمان كما قال تعالى : « وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ » والكفر يوجب الهلاك فى الدنيا والدين أما فى الدنيا فبوقوع العداوة والبغضاء ، وهيجان الفتنة المؤدى إلى سفك الدماء ، وأما فى الدين فلا حاجة إلى بيانه.
(وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ؟ ) أي ومن أين يتطرق إليكم الكفر ، والحال أن القرآن يتلى عليكم على لسان رسوله غضا طريّا ، وبين أظهركم ، رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينبهكم ويعظكم ، ويبين لكم ما أنزل إليكم ، ولكم فى سنته خير أسوة تغذّى إيمانكم ، وتنير قلوبكم ، فلا ينبغى لمثلكم أن تلتفتوا إلى قولهم ، بل الواجب عليكم أن ترجعوا عند كل شبهة تسمعونها من(4/15)
ج 4 ، ص : 16
هؤلاء اليهود إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم حتى يكشف عنها ، ويزيل ما علق بقلوبكم منها.
(وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي ومن يستمسك بدين اللّه وكتابه ورسوله ، فقد حصل له الهدى إلى الصراط المستقيم لا محالة ، كما تقول إذا جئت فلانا فقد أفلحت ، إذ هو حينئذ لا تخفى عليه المهالك ، ولا تروج لديه الشبهات.
قال قتادة : ذكر فى الآية أمرين يمنعان من الوقوع فى الكفر : أحدهما تلاوة كتاب اللّه ، وثانيهما كون الرسول فيهم ، أما الرسول صلى اللّه عليه وسلم فقد مضى إلى رحمة اللّه ورضوانه ، وأما الكتاب فباق على وجه الدهر.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ) أي يجب عليكم تقواه حقا ، بأن تقوموا بالواجبات ، وتجتنبوا المنهيات.
ونحو الآية قوله : « فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ » أي بالغوا فى تقواه جهد المستطاع.
وعن ابن مسعود أنه قال : تقوى اللّه أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى.
وعن ابن عباس أنه قال : هى أن يجاهدوا فى اللّه حق جهاده ، ولا تأخذهم فى اللّه لومة لائم ، ويقوموا للّه بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم.
(وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي ولا تموتن إلا ونفوسكم مخلصة للّه ، لا تجعلون شركة لسواه أي لا تكوننّ على حال سوى الإسلام إذا أدرككم الموت.
والخلاصة - استمروا على الإسلام ، وحافظوا على أداء الواجبات ، وترك المنهيات حتى الموت.
وقد جاء هذا فى مقابلة قوله : (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ).
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) أي تمسكوا بكتاب اللّه وعهده الذي عهد به إليكم ، وفيه أمركم بالألفة والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله ، والانتهاء إلى أمره.(4/16)
ج 4 ، ص : 17
وقد جعل الدين فى سلطانه على النفوس ، وتصرفه فيها بحسب نواميسه وأصوله ، وما يترتب على ذلك من جريان الأعمال بحسب هديه - كأنه حبل متين يأخذ به الآخذ فيأمن السقوط فى الهاوية ، كأنّ الآخذين به قوم على نشز أي مرتفع من الأرض يخشى عليهم السقوط منه ، فيأخذون بحبل موثّق يجمعون به قوتهم ، فينجون من السقوط.
وفى الحديث « القرآن حبل اللّه المتين ، لا تنقضى عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الردّ ، من قال به صدق ، ومن عمل به رشد ، ومن اعتصم به هدى إلى صراط مستقيم »
وجاء فى معنى الآية قوله تعالى : « وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ » فحبل اللّه فى هذه الآية هو صراطه المستقيم ، كما أن أنواع التفرق هى السبل التي نهى عنها فيها.
ومن السبل المفرقة فى الدين إحداث الشيع والمذاهب كما قال : « إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ » ومنها العصبية الجنسية كما بين الأوس والخزرج كما تقدم ذلك ، وقد روى أبو داود عن مطعم بن جبير (ليس منّا من دعا إلى عصبية).
وقد سار على هذا النهج أهل أوربا فى العصر الحديث فاعتصموا بالعصبية الجنسية كما كانت العرب تفعل ذلك فى الجاهلية وسرى ذلك إلى بعض البلاد الإسلامية ، فحاول أهلها أن يجعلوا فى المسلمين جنسيات وطنية. فدعا الترك إلى العصبية التركية ، والمصريون إلى الجنسية المصرية ، والعراقيون إلى الجنسية العراقية ، ظنا منهم أن ذلك مما ينهض بالوطن ، وليس الأمر كما يظنون ، فإن الوطن لا يرقى إلا باتحاد كل المقيمين فيه لإحيائه ، لا فى تفرقهم ووقوع الشحناء والبغضاء بينهم ، فالدين يأمر باتحاد كل قوم تضمهم أرض واحدة ، وإن اختلفت أديانهم وأجناسهم ، ويأمر بالاعتصام بحبل اللّه المتين بين جميع الأقوام.
(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ(4/17)
ج 4 ، ص : 18
إِخْواناً)
أي واذكروا أيها المؤمنون النعمة التي أنعم اللّه عليكم بها حين كنتم أعداء يقتل بعضكم بعضا ، ويأكل قويكم ضعيفكم ، فجاء الإسلام فألف بينكم وجمع جمعكم ، وجعلكم إخوانا ، حتى قاسم الأنصار المهاجرين أموالهم وديارهم ، وكان بعضهم يؤثر غيره على نفسه وهو فى خصاصة وحاجة إليه ، وأطفأ الحروب التي تطاولت بين الأوس والخزرج مائة وعشرين سنة ، وأنقذهم مما هو أدهى وأمر وهو عذاب الآخرة.
(وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) أي وكنتم بوثنيتكم وشرككم باللّه ، كأنكم على طرف حفرة يوشك أن ينهار بكم فى النار ، فليس بين الشرك والهلاك فى النار إلا الموت ، والموت أقرب غائب ينتظر ، فأنقذكم الإسلام منها.
وفى هذه الآيات جماع المنن التي أنعم بها عليهم ، فقد أخرجهم بالإسلام من الشرك ومخازيه ، وألف بين قلوبهم حتى صاروا سادة البشر ، حين كانوا يعملون بكتابه وأنقذهم بذلك من النار ، فسعدوا بالحسنيين.
فانظر إلى آيات اللّه ، ودلائل قدرته ، كيف حوّل قوما متخاذلين تملأ قلوبهم الإحن والعداوات ، ويتربص كل منهما بالآخر ريب المنون - إلى جماعات متصافية القلوب ، مليئة بالحب والإخلاص ، وجهتهم جميعا واحدة ، هى حكم اللّه ورفعة دينه ، ونشره بين البشر.
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي كما بين لكم ربكم فى هذه الآيات ما يضمره لكم اليهود من غشكم ، وبين لكم ما أمركم به ، وما نهاكم عنه ، وبين لكم الحال التي كنتم عليها فى الجاهلية ، وما صرتم إليه فى الإسلام ، ليعرفكم فى كل ذلك مواقع نعمه - كذلك يبين سائر حججه فى تنزيله على لسان رسوله ، ليعدّكم للاهتداء الدائم ، حتى لا تعودوا إلى عمل الجاهلية من التفرق والعدوان.
والاختلاف الذي يقع بين البشر ضربان :
(1) ضرب لا يسلم منه الناس ، ولا يمكن الاحتراس منه ، وهو الخلاف(4/18)
ج 4 ، ص : 19
فى الرأى والفهم ، وهو مما فطر عليه البشر ، وإلى ذلك الإشارة بقوله : « وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ » إذ أن العقول والأفهام ليست متساوية ، فالأسرة الواحدة تختلف أفهام أفرادها فى الشيء الواحد ، كما يختلف حبهم له ، وميلهم إليه.
وهذا ضرب لا ضرر فيه.
(2) ضرب جدّت الشرائع فى هدمه ومحوه ، وهو تحكيم الرأى والهوى فى أمور الدين وشئون الحياة.
وهاك مثلا يتضح لك به ما تقدم - قد اختلف الأئمة المجتهدون فى فهم كثير من نصوص الدين من كتاب وسنة ، وما كان فى ذلك من حرج ، فما لك نشأ فى المدينة ورأى ما كان عليه أهلها من صلاح وسلامة قلب ، فقال : إن عمل أهلها أصل من أصول الدين ، لأنهم لقرب عهدهم من النبي صلى اللّه عليه وسلم لا يتفقون على غير ما مضت عليه السنة فى العمل ، وأبو حنيفة نشأ فى العراق وأهلها أهل شقاق ونفاق ، فلم يجعل عملهم ولا عمل غيرهم حجة ، ولو اجتمع هذان الإمامان لعذر كل منهما صاحبه فيما رأى ، لأنه بذل جهده فى بيان وجه الحق مع الإخلاص للّه ، وإرادة الخير والطاعة لأمره ، ولكن جاءت بعد هؤلاء فرق من المسلمين قلدتهم فيما نقل عنهم ، ولم تقلدهم فى سيرتهم ، وحكموا الرأى والهوى فى الدين ، وتفرقوا شيعا ، كل فريق يتعصب لرأى فيما وقع من أوجه الخلاف ، ويعادى المخالف له حتى حدث من ذلك ما نرى ، وما ذاك إلا لأن الحق لم يكن هو مطلب المتعصبين ، فليس من المعقول أن أبا حنيفة أصاب فى كل ما خالف فيه غيره من الأئمة ، وأن الشافعي ومالكا أخطئا فى جميع ما خالفا فيه أبا حنيفة.
وإذا فكيف يمضى نحو أربعة عشر قرنا ولا يستبين لفقهاء مذهبه وجه الصواب فى بعض المسائل الخلافية ، فيرجحون بعض آراء المذاهب الأخرى على مذهبه فى تلك المسائل ، ويرجعون إلى الصواب فيها.(4/19)
ج 4 ، ص : 20
وهذا الضرب من الخلاف وهو تحكيم الرأى والهوى كان مصدر شقاء أمم كثيرة فهوت بعد رفعتها وذلت بعد عزتها ، وضعفت بعد قوتها.
وقد حدث مثل هذا فى الفرق الإسلامية فى علم الكلام ، فإن أبدى أحدهم رأيا فى مسألة بادر مخالفه إلى الرد عليه ، وتفنيد مذهبه وتضليله ، ويقابله الآخر بمثل صنيعه ، ولو حاول كل منهما محادثة الآخر ، والاطلاع على أدلته ، ووزنها بميزان الإنصاف والحق لما حدث مثل هذا الخلاف ، بل افتنع كل واحد منهما بما رأى مخالفه.
والمسلم ما دام محافظا على نصوص دينه لا يخل بواحد منها ، مع احترامه لرسوله المفسر لكتابه لا يخرج من جماعة المسلمين لمخالفته سواه.
فإذا تحكم الرأى والهوى ولعن بعضهم بعضا ، وكفر بعضهم بعضا ، فقد باء بها من قالها كما ورد فى الحديث.
وكذلك الحال فى الاختلاف فى المعاملة فى المسائل السياسية والدينية ، لا ينبغى أن يكون مفرقا بين جماعة المؤمنين ، بل عليهم أن يرجعوا فى النزاع إلى حكم اللّه وآراء أولى العلم منهم ، وبذلك نتقى غائلة الخلاف ، ونكون فى وفاق ، ونصير ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 104 الى 109]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)(4/20)
ج 4 ، ص : 21
تفسير المفردات
الأمة : الجماعة المؤلفة من أفراد لهم رابطة تضمهم ، ووحدة يكونون بها كالأعضاء فى بنية الشخص ، والخير : ما فيه صلاح الناس فى الدين والدنيا ، والمعروف : ما استحسنه الشرع والعقل ، والمنكر ضده ، وابيضاض الوجوه : عبارة عن المسرة ، واسودادها : عبارة عن المساءة ، وعلى هذا جاء قوله : « وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ » . بالحق : أي بالأمر الذي له ثبوت وتحقق ولا مجال فيه للشبهات ، والظلم لغة وعرفا : وضع الشيء فى غير موضعه ، إما بنقصان أو بزيادة ، وإما بعدول عن وقته أو مكانه.
المعنى الجملي
بعد أن أمر اللّه سبحانه المؤمنين فيما سلف بتكميل أنفسهم وتزكيتها مما يشوبها من الأدناس والأرجاس ، بالعمل بتقوى اللّه ، والمحافظة على إخلاص الوجه له حتى الممات ، والاعتصام بحبله المتين باتباع كتابه ، والجري على سنة رسوله ، إذا اختلفت الأهواء ، وتضاربت الآراء.
أمرهم هنا بتكميل غيرهم من أفراد الأمة ، وحثهم على اتباع أوامر الشريعة ، وترك نواهيها ، تثبيتا لهم جميعا على مراعاة ما فيها من الأحكام ، والمحافظة على ما فيها من الشرائع والنواميس ، وأن يكون فى نفوس أفرادها من حب الخير والحدب على ما فيه المصلحة لمجموعها ، ما يكون لحب الفرد لمصلحته ، وبذا تكون بينهم رابطة تجمعهم فى طلاب الخير لهم جميعا ، حتى تكون الأمة كأنها جسد واحد كما
ورد(4/21)
ج 4 ، ص : 22
فى الحديث « مثل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر » رواه مسلم.
وروى البخاري وغيره حديث « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا » .
والحفاظ لوحدة الأمة ، ومناط بقاء جامعتها - أمر بعض أفرادها بعضا بالاستمساك بالخير ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
الإيضاح
(وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ولتكن منكم طائفة متميزة تقوم بالدعوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
والمخاطب بهذا هم المؤمنون كافة فهم مكلفون بأن ينتخبوا منهم أمة تقوم بهذه الفريضة ، وذلك بأن يكون لكل فرد منهم إرادة وعمل فى إيجادها ، ومراقبة سيرها بحسب الاستطاعة ، حتى إذا رأوا منها خطأ أو انحرافا أرجعوها إلى الصواب.
وقد كان المسلمون فى الصدر الأول على هذا النهج من المراقبة للقائمين بالأعمال العامة ، فقد خطب عمر على المنبر ، وكان مما قال : إذا رأيتم فىّ اعوجاجا فقوّموه ، فقام أحد رعاة الإبل وقال : لو رأينا فيك اعوجاجا لقوّمناه بسيوفنا.
وكان الخاصة من الصحابة متكاتفين فى أداء هذا الواجب ، يشعر كل منهم بما يشعر الآخر من الحاجة إلى نشر لواء الإسلام وحفظه ، ومقاومة كل من يمس شيئا من عقائده وآدابه ، وأحكامه ومصالح أهله ، وكان سائر المسلمين تبعا لهم.
ويجب فيمن يقوم بهذه الدعوة شروط ، ليؤدى وظيفته خير الأداء ، ويكون مثلا صالحا يحتذى به فى علمه وعمله :
(1) أن يكون عالما بالقرآن والسنة وسيرة النبي صلى اللّه عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضى اللّه عنهم.(4/22)
ج 4 ، ص : 23
(2) أن يكون عالما بحال من توجه إليهم الدعوة فى شئونهم واستعدادهم وطباعهم وأخلاقهم ، أي معرفة أحوالهم الاجتماعية.
(3) أن يكون عالما بلغة الأمة التي يراد دعوتها ، وقد أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بعض الصحابة بتعلم العبرية لحاجته إلى محاورة اليهود الذين كانوا يجاورونه ، ومعرفة حقيقة حالهم.
(4) معرفة الملل والنحل ومذاهب الأمم ، وبذلك يتيسر له معرفة ما فيها من باطل ، فإن الإنسان إن لم يتبين له بطلان ما هو عليه ، لا يلتفت إلى الحق الذي عليه غيره وإن دعاه إليه.
وعلى الجملة فلا يقوم بهذه الدعوة إلا خواص الأمة العارفون بأسرار الأحكام ، وحكمة التشريع وفقهه ، وهم الذين أشار إليهم الكتاب الكريم بقوله : « فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » .
وهؤلاء يقومون بتطبيق أحكام اللّه تعالى على مصالح العباد فى كل زمان ومكان على مقدار علمهم فى المساجد والمعابد والمنتديات العامة ، وفى المحافل عند سنوح الفرصة.
فإذا هم فعلوا ذلك كثر فى الأمة الخير ، وندر فيها وقوع الشر ، وائتلفت قلوب أهليها ، وتواصوا بالحق ، وتواصوا بالصبر ، وسعدوا فى دنياهم وآخرتهم.
وأمة هذه حالها تسود غيرها من الأمم باجتماع كلمتها ، واتفاق أهوائها ، إذ لا مطمح لها إلا رفعة شأن دينها ، وعزة أبنائها ، وسيادتها العالم كله.
ولن يتم ذلك إلا إذا أعد أهلها للأمر عدّته ، وكمّلوا أنفسهم بالمعارف والعلوم التي تحتاج إليها الأمم التي تبغى السعادة والرقىّ ، وتختلقوا بفاضل الأخلاق ، وحميد الصفات ، حتى يكونوا مثلا عليا تحتذى ، ويشار إليهم بالبنان وإن ما أودع فى ديننا من هذا ، وما خلّفه لنا السلف الصالح من الكنوز والثروة العلمية ، فيه غنية(4/23)
ج 4 ، ص : 24
لمن يريد الخير والفلاح ،
وقد روى « أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن خير الناس ؟ فقال : آمرهم بالمعروف ، وأنهاهم عن المنكر ، وأتقاهم للّه ، وأوصلهم للرحم » .
وعنه أنه قال : « والذي نفسى بيده لتأمرنّ بالمعروف ، ولتنهونّ عن المنكر ، أو ليوشكنّ اللّه أن يبعث عليكم عذابا من عنده ، ثم لتدعنّه فلا يستجاب لكم » .
وعن علىّ كرم اللّه وجهه : أفضل الجهاد الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، ومن غضب للّه غضب اللّه له.
وبعد أن أمر سبحانه بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، بيّن ما يجب أن تكون عليه الأمة الداعية ، الآمرة الناهية ، من وحدة المقصد ، واتحاد الغرض ، لأن الذين سبقوهم من الأمم لم يفلحوا لاختلاف نزعاتهم ، وتفرق أهوائهم ، لأن كلا منهم يذهب إلى تأييد رأيه ، وإرضاء هواه.
أما المتفقون فى القصد ، فاختلافهم فى الرأى لا يضيرهم ، بل ينفعهم إذ هو أمر طبيعى لا بد منه لتمحيصه ، وتبين وجوه الصواب فيه ، ومن ثم قال تعالى :
(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) أي ولا تكونوا كأهل الكتاب الذين تفرقوا فى الدين وكانوا شيعا ، تذهب كل شيعة منها مذهبا يخالف مذهب الآخر ، وتنصر مذهبها وتدعو إليه ، وتخطّىء ما سواه ، ولذا تعادوا واقتتلوا.
ولو كان فيهم أمة تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ، وتعتصم بحبل اللّه وتتجه إلى غاية واحدة لما تفرقوا ولا اختلفوا فيه ، ولما تعددت مذاهبهم فى أصوله وفروعه ، وما قاتل بعضهم بعضا - فلا تكونوا مثلهم فيحل بكم ما حل بهم.
وبعدئذ ذكر عاقبة المختلفين وعظيم نكالهم فقال :
(وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهذا العذاب يشمل خسران الدنيا ، وخسران الآخرة ، أما فى الدنيا فلأن بأسهم يكون بينهم شديدا ، فيشقى بعضهم ببعض ، ويبتلون بالأمم التي تطمع فى الضعفاء ، وتذيقهم الخزي والنكال ، وأما فى الآخرة فعذاب اللّه أشد وأبقى.(4/24)
ج 4 ، ص : 25
وهذا الوعيد فى الآية يقابل الوعد فى الآية قبلها وهو قوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فالفلاح فيها يشمل الفوز بخيرى الدنيا والآخرة.
ثم ذكر زمان ذلك العذاب فقال :
(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) أي واذكروا يوم تبيض وجوه وتسر لما تعلم من حسن العاقبة ، وتسودّ وجوه لما ترى من سوء العاقبة ، وما يحل بها من النكال والوبال.
ونحو الآية قوله : « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ » وقوله :
« وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً » وقوله : « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ » وفى الحديث « إن أمتى يحشرون غرّا محجلين من آثار الوضوء » .
واستعمال البياض فى السرور ، والسواد فى الحزن عرف شائع لدى كل ناطق بالضاد ، ولا سيما وصف الكاذب بسواد الوجه كما قال شاعرهم :
فتعجبوا لسواد وجه الكاذب
والخلاصة - إن هؤلاء المختلفين المتفرقين لهم عذاب عظيم فى هذا اليوم كما تظاهرت على ذلك الآيات والأحاديث ، كما يكون لهم مثل ذلك فى الدنيا ، إذ هم لاختلاف مقاصدهم لا يتناصرون ولا يتعاونون ، ولا يأبهون بالأعمال التي فيها شرف الملة ، وعز الأمة ، فتسودّ وجوههم بالذل والكآبة حين يجنون ثمار أعمالهم ، وعواقب تفرقهم واختلافهم ، بقهر الغاصب لهم ، وانتزاعه السلطة من أيديهم ، والتاريخ والمشاهدة شاهدا صدق على هذا.
أما المتفقون الذين اعتصموا واتفقوا على الأعمال النافعة لخير الأمة وعزها ، وأصبح كل واحد منهم عونا للآخر ، وناصرا له ، فأولئك تبيض وجوههم وتتلألأ بهجة وسرورا حين تظهر لهم آثار اتفاقهم واعتصامهم ، بوجود السلطان والعزة والشرف ، وارتفاع المكانة بين الأمم.
ثم فصل سبحانه أحوال الفريقين فقال :(4/25)
ج 4 ، ص : 26
(فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ، أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ؟ ) أي فأما الذين تفرقوا واختلفوا فاسودت وجوههم فيقال لهم هذا القول فى الدنيا والآخرة.
أما فى الدنيا فلا بد أن يوجد فى الناس من يقول للأمة التي وقع فيها هذا الاختلاف - مثل هذا القول تغليظا لها لأن عملها لا يصدر إلا من الكافرين ، وأما فى الآخرة فيوبخهم اللّه تعالى بمثل هذا السؤال.
وقد جرى عرف القرآن أن يعدّ المتفرقين فى الدين من الكفار والمشركين كما جاء فى قوله : « وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ » وقوله : « إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ » .
كذلك يعد الخروج عن مقاصد الدين الحقيقية من الكفر ، لأن الإيمان اعتقاد وقول وعمل ، وهو ذو شعب كثيرة من أجلّها تحرى العدل ، واجتناب الظلم ، فمن استرسل فى الظلم كان كافرا كما قال تعالى : « وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ » .
وكذلك من ترك الاتحاد والوفاق والاعتصام بحبل الدين كان من الكافرين بعد الإيمان.
(وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي وأما الذين ابيضت وجوههم باتحاد الكلمة ، وعدم التفرق فيكونون فى الدنيا خالدين فى النعمة ماداموا على تلك الحال ، وخلودهم فى الرحمة فى الآخرة أظهر.
(تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) أي هذه الآيات نتلوها عليك مقررة ما هو الحق الذي لا مجال للشبهة فيه ، فلا عذر لمن ذهب فى الدين مذاهب شتى ، واتبع سنن السابقين ، وجعل القرآن عضين.
فعلينا أن نستمسك بما به أمر ووعد عليه بالفوز والنجاح ، ونترك ما عنه نهى(4/26)
ج 4 ، ص : 27
وأوعد عليه بالعذاب الأليم ، حتى نكون أمة متفقة المقاصد ، متحدة فى الدين فنجمع بين سعادتى الدنيا والآخرة.
(وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) أي إن كل ما يأمرهم به وينهاهم عنه فإنما يريد به هدايتهم إلى ما يكمل فطرتهم ، ويتم به نظام جماعتهم ، فإذا هم فسقوا عن أمره حل بهم البلاء وكانوا هم الظالمين لأنفسهم ، بتفرقهم واختلافهم ، إلى نحو ذلك من الذنوب التي تفسد نظم المجتمع وتجعل أهله فى شقاء.
ولا يحل عذاب بأمة إلا بذنب فشا فيها فزحزحها عن الصراط المستقيم كما قال :
« وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ » .
ثم ذكر ما هو كالبرهان لنفى الظلم عنه تعالى فقال :
(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي إنه تعالى مالك العباد والمتصرف فى شئونهم بحسب سننه الحكيمة التي لا تغيير فيها ولا تبديل كما قال : « سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا » وليس من أسباب ملكه شىء ناقص يحتاج إلى تمام فيتممه بظلم غيره ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
ولأن الظلم ينافى الحكمة والكمال فى النظام وفى التشريع.
ومن حمل عبيده أو دوابه ما لا تطيق يقال إنه ظلمها ، ومن نقص امرأ حقه فقد ظلمه ، قال تعالى : « كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً » .
وعلى الجملة - فالظلم الذي ينفيه تعالى عن نفسه هو ما ينافى مصلحة العباد وهدايتهم لسعادة الدنيا والآخرة ، وبعبارة أخرى هو ما يخالف النظام والإحكام.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 110 الى 112]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)(4/27)
ج 4 ، ص : 28
تفسير المفردات
كنتم : أي وجدتم وخلقتم ، أخرجت : أي أظهرت حتى تميزت وعرفت ، والأذى :
الضر اليسير ، يولوكم الأدبار : أي ينهرموا ، والذلة هى الذل الذي يحدث فى النفوس من فقد السلطة ، وضربها عليهم هو إلصاقها بهم وظهور أثرها فيهم ، كما يكون من ضرب السكة بما ينقش فيها ، وثقفوا وجدوا ، والحبل : العهد ، وباءوا : أي لبثوا وحلوا فيه ، من المباءة وهو المكان ، ومنه تبوأ فلان منزل كذا ، وبوأته إياه ، والاعتداء :
تجاوز الحد.
المعنى الجملي
بعد أن أمر عز اسمه عباده المؤمنين بالاعتصام بحبله ، وذكرهم بنعمته عليهم ، بتأليف قلوبهم بأخوّة الإسلام ، وحذّرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب فى التمرد والعصيان ، وتوعد على ذلك بالعذاب الأليم ، واستطرد بين ذلك بذكر من يبيض وجهه ومن يسودّ ، وبذكر شىء من أحوال الآخرة.
أردف ذلك ذكر فضل المتآخين فى دينه ، المعتصمين بحبله ، ليكون هذا باعثا لهم على الانقياد والطاعة ، إذ كونهم خير الأمم مما يقوّى داغيتهم فى ألا يفوّتوا على أنفسهم هذه المزية ، وإنما يكون ذلك بالمحافظة على اتباع الأوامر وترك النواهي(4/28)
ج 4 ، ص : 29
الإيضاح
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) أي أنتم خير أمة فى الوجود الآن ، لأنكم تأمرون بالمعروف ، وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون إيمانا صادقا يظهر أثره فى نفوسكم ، فيزعكم عن الشر ، ويصرفكم إلى الخير ، وغيركم من الأمم قد غلب عليهم الشر والفساد ، فلا يأمرون بمعروف ، ولا ينهون عن منكر ، ولا يؤمنون إيمانا صحيحا.
وهذا الوصف يصدق على الذين خوطبوا به أوّلا ، وهم النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه الذين كانوا معه وقت التنزيل ، فهم الذين كانوا أعداء ، فألف بين قلوبهم ، واعتصموا بحبل اللّه جميعا ، وكانوا يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ولا يخاف ضعيفهم قويّهم ، ولا يهاب صغيرهم كبيرهم ، وملك الإيمان قلوبهم ومشاعرهم ، فكانوا مسخرين لأغراضه فى جميع أحوالهم.
وهذا الإيمان هو الذي قال اللّه فى أهله « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ » وقال فيهم أيضا « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » .
وما فتئت هذه الأمة خير الأمم حتى تركت الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وما تركتهما إلا باستبداد الملوك والأمراء من بنى أمية ومن حذا حذوهم.
وأول من اجترأ منهم على إعلان هذه المعصية عبد الملك بن مروان حين قال على المنبر : من قال لى اتق اللّه ضربت عنقه وما زال الشر يزداد ، والأمر يتفاقم حتى سلبت هذه الأمة أفضل مالها من مزية فى دينها ودنياها بعد الإيمان ، وهى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.(4/29)
ج 4 ، ص : 30
ومما سلف تعلم أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو سبب الفضيلة ، كما تقول :
محمد كريم ، يطعم الناس ويكسوهم ، ويعنى بشئونهم.
وهذه الصفات وإن شاركتها فيها سائر الأمم ، فهى لم تكن فيها على الوجه الذي لهذه الأمة ، فالأمر بالمعروف كان فيها على آكد وجوهه ، وهو القتال إذا دعت إليه الحاجة ، وقد يحصل بالقلب واللسان ، ولكن أقواه ما كان بالقتال لأنه إلقاء للنفس فى خطر الهلاك.
وأعظم المعروفات الدين الحق ، والإيمان بالتوحيد والنبوة ، وأنكر المنكرات الكفر باللّه ، ومن كان فرض الجهاد فى الدين يحمّل الإنسان أعظم المضار لإيصال غيره إلى أعظم المنافع ، وتخليصه من أعظم الشرور ، لهذا كان عبادة من العبادات ، بل كان أجلّها وأعظمها ، وهو فى ديننا أقوى منه فى سائر الأديان.
لا جرم كان ذلك موجبا لفضل هذه الأمة على سائر الأمم ، وهذا ما عناه ابن عباس بقوله فى تفسير هذه الآية أي تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا اللّه ، ويقروا بما أنزل اللّه ، وتقاتلونهم عليه ، ولا إله إلا اللّه أعظم المعروف ، والتكذيب أنكر المنكرات.
والخلاصة - إن هذه الخيرية لا تثبت لهذه الأمة إلا إذا حافظت على هذه الأصول الثلاثة ، فإذا تركتها لم تكن لها هذه المزية ، ومن ثم أكد الأمر بهذه الفريضة فى آيات هذه السورة بما لم يعرف له نظير فى الكتب السابقة.
وقدم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على الإيمان باللّه فى الذكر ، مع أن الإيمان مقدم على كل الطاعات ، لأنهما سياج الإيمان وحفاظه ، فكان تقديمهما فى الذكر موافقا للمعهود عند الناس فى جعل سياج كل شىء مقدما عليه.
(وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي ولو آمنوا إيمانا صحيحا يستولى على النفوس ، ويملك أزمة القلوب ، فيكون مصدر الفضائل والأخلاق الحسنة ، كما تؤمنون - لكان ذلك خيرا لهم مما يدّعونه من إيمان لا يزع النفوس عن(4/30)
ج 4 ، ص : 31
الشرور ، ولا يبعدها عن الرذائل ، إذ هو لم يؤت ثمرات الإيمان الصحيح الذي يحبه اللّه ورسوله ، ولا كان أثرا من آثاره الأمر بالمعروف ولا النهى عن المنكر.
وبهذا تعلم أن الإيمان المنفي عنهم إيمان خاص له تلك الآثار التي تقدمت ، لا الإيمان الذي يدعيه كل من له دين وكتاب ، كما أنه إنما نفاه عن أكثر أفراد الأمة ، وأنهم هم الذين فسقوا وخرجوا عن حقيقة الدين ، ولم يبق عندهم إلا بعض الرسوم والتقاليد الظاهرة - لا عن جميعها ، إذ لا تخلو أمة ذات دين سماوى من هذا الإيمان ، ومن ثمّ قال :
(مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) أي منهم المؤمنون المخلصون فى عقائدهم وأعمالهم كعبد اللّه بن سلام ورهطه من اليهود ، والنجاشي ورهطه من النصارى ، وأكثرهم فاسقون عن دينهم متمردون فى الكفر.
وما من دين إلا يوجد فيه الغالون والمعتدلون والمفرّطون المائلون إلى الفسوق والعصيان.
ويكثر الاستمساك بالدين فى أوائل ظهوره ، كما يكثر الفسق بعد طول الأمد عليه ، كما قال تعالى : « أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ، وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ ، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ » .
ولم يحكم الدين على أمة حكما عاما بالفسق والضلال ، بل تارة يعبر بالكثير ، وأخرى بالأكثر كقوله فى بنى إسرائيل « فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا » وقوله فى النصارى واليهود « مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ » .
وعلى الجملة فالقرآن إذا عرض لوصف الأمم وبيان عقائدها وأخلاقها ، وزن ذلك بميزان دقيق يتحرى فيه ذكر الحقيقة مجردة عن كل مغالاة أو مبالغة بما لم يعهد مثله فى كتاب آخر.(4/31)
ج 4 ، ص : 32
فلو تصفحنا الأحكام التي حكم بها على أهل الكتاب ، وعرضناها على علمائهم وفلا سفتهم ومؤرخيهم لقالوا : إنها الحق الصّراح.
(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) أي إن هؤلاء الفاسقين لا يقدرون على إيقاع الضرر بكم بل غاية جهدهم أن يؤذوكم بالهجو القبيح ، والطعن فى الدين ، وإلقاء الشبهات وتحريف النصوص ، والخوض فى النبي صلى اللّه عليه وسلم.
(وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) أي وإن يقابلوكم فى ميدان القتال ينهزموا من غير أن يظفروا منكم بشىء ، والمنهزم من شأنه أن يحوّل ظهره إلى جهة مقاتله ويستدبره فى هربه منه ، فيكون قفاه إلى وجه من انهزم منه.
(ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي ثم إنهم لا ينصرون عليكم أبدا ماداموا على فسقهم ، ودمتم على خيريتكم ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه.
وفى الآية ثلاث بشارات من أخبار الغيب تحققت كلها ، وقد صدق اللّه وعده.
ومما سبق تعلم أن هذا الحكم إنما يثبت لهم إذا حافظوا على نصر اللّه بنصر دينه كما قال : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ » وكما قال فى وصف المؤمنين المجاهدين « الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ » .
(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) أي إنهم ألزموا الذلة فلا خلاص لهم منها ، فحالهم معكم أنهم أذلاء مهضومو الحقوق رغم أنوفهم ، إلا بعهد من اللّه وهو ما قررته الشريعة إذا دخلوا فى حكمها من المساواة فى الحقوق والقضاء وتحريم الإيذاء ، وعهد من الناس ، وهو ما تقتضيه المشاركة فى المعيشة ، من احتياجهم إليكم واحتياجكم إليهم فى بعض الأمور ، وقد كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يحسن معاملتهم ويقترض منهم ، وكذلك الخلفاء الراشدون.
والخلاصة - إن هؤلاء لا عزة لهم فى أنفسهم ، لأن السلطان والملك قد فقدا(4/32)
ج 4 ، ص : 33
منهم. وإنما تأتيهم العزة من غيرهم بهذين العهدين : العهد الذي قرره اللّه ، والعهد الذي تواطأ عليه الناس.
(وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) أي وصاروا مستحقين غضب اللّه مستوجبين سخطه ، وأحاطت بهم المسكنة والصّغار ، فهم تابعون لغيرهم يؤدون ما يضرب عليهم من المال وادعين ساكنين.
وهذا الوصف صادق على اليهود إلى اليوم فى كل بقاع الأرض.
وقد ارتفع الذل عنهم فى بلاد الإسلام بحبل من اللّه ، وهو ما ذكرناه فيما سلف من وجوب معاملتهم بالمساواة واحترام دمائهم وأعراضهم وأموالهم والتزام حمايتهم والذّود عنهم بعد إنقاذهم من ظلم حكامهم السابقين ، وبحبل من الناس كما تقدم بيانه.
وأما ارتفاع المسكنة بأن يكون لهم ملك وسلطان يوما ما ، فالقرآن ينفيه عنهم ، لأنه لم يستثن من ذلك شيئا ، كما استثنى فى الذلة ، فاقتضى بقاء ذلك عليهم إلى الأبد لكنهم يقولون إنهم مبشرون بظهور مسيح (مسيا) فيهم ومعناه ذو الملك والشريعة ، والنصارى يقولون : إن هذا الموعود به هو المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ، والمراد بالملك الملك الروحاني.
والخلاصة : إنهم متفرقون فى أقطار الأرض على قلتم ، منصرفون عن فنون الحرب وأعمالها ، بعيدون عن الزراعة ومتعلقاتها ، لعنايتهم بجمع المال من أيسر سبله ، وأكثرها نماء ، وأقلها تعبا وعناء ، وهو الربا.
وقد ذكر اللّه سبب ذلك وعلته فقال :
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي ذلك الذي ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم ، واستحقاقهم للغضب الإلهى بسبب كفرهم ، وقتلهم النبيين بغير حق تعطيهم إياه شريعتهم.
وفى النص على أن ذلك بغير حق مع أنه لن يكون إلا كذلك تشنيع عليهم ،(4/33)
ج 4 ، ص : 34
وإثبات لأن ذلك حدث عن عمد لا عن خطا ، ثم أشار إلى سبب هذا الكفر والعدوان الشنيع فقال :
(ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي إنه ما جرأهم على ذلك إلا سبق المعاصي ، واعتداؤهم على حدود اللّه ، والاستمرار على الصغائر يفضى إلى الوقوع فى الكبائر.
فمن جعلها ديدنا له واتخذها عادة وصل به ذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء المرشدين وقتل الأنبياء ، وإن كان لم يصدر من اليهود الذين كانوا فى عصر التنزيل ، بل كان من أسلافهم ، لكنهم لما كانوا راضين به مصوّبين له نسب إليهم ، إذ صار خلقا لهم يتوارثه الخلف عن السلف ، والأبناء عن الآباء.
والأمم متكافلة ينسب إلى مجموعها ما فشا فيها ، وإن ظهر بعض آثاره فى زمن دون آخر.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 115]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
تفسير المفردات
يقال فلان وفلان سواء : أي متساويان ، ويستعمل للواحد والمثنى والجمع فيقال هما سواء ، وهم سواء ، وقائمة : أي مستقيمة عادلة ، من قولك أقمت العود فقام : أي استقام ، والتلاوة القراءة وأصلها الإتباع ، فكأنها إتباع اللفظ اللفظ ، وآيات اللّه : هى القرآن والآناء : الساعات ، واحدها أنى كعصا أو أنى كظبى أو إنو كجرو ، ويسجدون : أي يصلون ، والمسارعة فى الخير : فرط الرغبة فيه ، فلن يكفروه : أي يمنعوا ثوابه.(4/34)
ج 4 ، ص : 35
المعنى الجملي
بعد أن وصف سبحانه أهل الكتاب فيما تقدم بذميم الصفات ، وقبيح الأعمال وذكر الجزاء الذي استحقوه بسوء عملهم ، أعقبه ببيان أنهم ليسوا جميعا على تلك الشاكلة ، بل فيهم من هو متصف بحميد الخلال وجميل الصفات.
الإيضاح
(لَيْسُوا سَواءً) أي ليس أهل الكتاب متساوين فى تلك الصفات القبيحة ، بل منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ، وهذه الجملة كالتأ كيد لتلك.
وبعد أن وصف الفاسقين وذكر سوء أعمالهم - وصف المؤمنين ومدحهم بثمانية أوصاف كل منها منقبة ومفخرة يستحق فاعلها الثواب عليها :
1 - (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) أي منهم جماعة مستقيمة على الحق ، متبعة للعدل ، لا تظلم أحدا ، ولا تخالف أمر الدين ، وكان من تمام الكلام أن يقال ومنهم أمة مذمومة ، إلا أن العرب قد تذكر أحد الضدين وتستغنى به عن ذكر الآخر كما قال الشاعر :
دعانى إليها القلب إنى لأمرها مطيع فما أدرى أرشد طلابها
يريد أم غىّ.
وهذه الجملة مبينة لعدم التساوي مزيلة لإبهامه.
والمراد بهذه الأمة جماعة من اليهود أسلموا كعبد اللّه بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن عبيد وأضرابهم كما رواه ابن جرير عن ابن عباس ، وقال فى تفسير الآية :
الأمة القائمة أمة مهتدية قائمة على أمر اللّه لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه.
وروى عن قتادة أنه كان يقول فى الآية : ليس كل القوم هلك ، قد كان للّه فيهم بقية.(4/35)
ج 4 ، ص : 36
وهذه الآية حجة على أن دين اللّه واحد على ألسنة جميع الأنبياء ، وأن من أخذه مذعنا ، وعمل به مخلصا ، وأمر بمعروف ونهى عن منكر فهو من الصالحين.
كما أن فيها استمالة لأهل الكتاب ، وتقديرا للعدل الإلهى ، وقطعا لاحتجاج من يعرفون الإيمان والإخلاص ، إذ لو لا هذا النص لكان لهم أن يقولوا : لو كان هذا القرآن من عند اللّه لما ساوانا بغيرنا من الفاسقين.
واستقامة بعضهم على الحق من دينهم لا ينافى ضياع بعض كتبهم ، وتحريف بعضهم لما فى أيديهم منها ، ألا ترى أن من يحفظ بعض الأحاديث ويعمل بما علم ، ويستمسك به مخلصا فيه - يقال إنه قائم بالسنة عامل بالحديث.
2 ، 3 - (يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) أي يتلون القرآن بالليل وهم يصلون متهجدين ، وخص السجود بالذكر من بين أركان الصلاة لدلالته على كمال الخضوع والخشوع.
4 ، 5 - (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يؤمنون إيمان إذعان بهما على الوجه المقبول عند اللّه ، ومن ثمرات ذلك الخشية والخضوع والاستعداد لذلك اليوم ، لا إيمانا لا حظّ لصاحبه منه إلا الغرور والدعوى ، كما هو حال سائر اليهود ، إذ يؤمنون باللّه واليوم الآخر ، لكنه إيمان هو والعدم سنواء ، لأنهم يقولون عزيز ابن اللّه ، ويكفرون ببعض الرسل ، ويصفون اليوم الآخر بخلاف صفته.
ولما كان كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته ، والخير للعمل به ، وكان أفضل الأعمال الصلاة ، وأفضل الأذكار ذكر اللّه ، وأفضل العلوم معرفة المبدإ والمعاد - وصفهم اللّه بقوله : (يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ) للدلالة على أنهم يعملون صالح الأعمال ، وبقوله :
(يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) للإشارة إلى فضل المعارف الحاصلة فى قلوبهم.
6 - (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي إنهم بعد أن كملوا أنفسهم علما وعملا كما تقدم ، يسعون فى تكميل غيرهم إما بإرشادهم إلى ما ينبغى بأمرهم بالمعروف ، أو بمنعهم عما لا ينبغى بالنهى عن المنكر.(4/36)
ج 4 ، ص : 37
وفى هذا تعريض باليهود المداهنين الصادّين عن سبيل اللّه.
7 - (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي ويعملون صالح الأعمال راغبين فيها غير متثاقلين علما منهم بجلالة موقعها ، وحسن عاقبتها ، وإنما يتباطأ الذين فى قلوبهم مرض ، كما وصف اللّه المنافقين بقوله : « وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ »
.
وهذه الصفة جماع الفضائل الدينية والخلقية ، وفى ذكرها تعريض باليهود الذين يتثاقلون عن ذلك.
وعبر بالسرعة ولم يعبر بالعجلة ، لأن الأولى التقدم فيما ينبغى تقديمه وهى محمودة ، وضدها الإبطاء ، والثانية التقدم فيما لا ينبغى أن يتقدم فيه ، ومن ثم قال عليه السلام « العجلة من الشيطان ، والتأنّى من الرحمن » وضدها : الأناة ، وهى محمودة.
8 - (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وهؤلاء الذين اتصفوا بجليل الصفات من الذين صلحت أحوالهم ، وحسنت أعمالهم ، فرضيهم ربهم ، وفى هذا رد على اليهود الذين قالوا فيمن أسلم منهم : ما آمن بمحمد إلا شرارنا ، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره.
والوصف بالصلاح هو غاية المدح ، ونهاية الشرف والفضل ، فقد مدح اللّه به أكابر الأنبياء كإسماعيل وإدريس وذى الكفل فقال : « وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ » وقال حكاية عن سليمان : « وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ » .
ولأنه ضد الفساد ، وهو ما لا ينبغى فى العقائد والأفعال ، فهو حصول ما ينبغي فى كل منهما ، وذلك منتهى الكمال ، ورفعة القدر ، وعلوّ الشأن.
(وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أي وما يفعلوا من الطاعات فلن يحرموا ثوابه ولن يستر عنهم كأنه غير موجود.
ولما سمى اللّه إثابته للمحسنين شكرا فى قوله : « فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً »(4/37)
ج 4 ، ص : 38
وسمى نفسه شاكرا فى قوله : « فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ » حسن أن يعبر عن عدم الإثابة بالكفر.
وهذه الجملة جاءت ردا على اليهود الذين قالوا لمن أسلم منهم : أنتم خسرتم بسبب هذا الإيمان ، وإشارة إلى أنهم فازوا بالسعادة العظمى ، والدرجات العليا.
وفيها تعظيم لهم ليزيل من صدورهم أثر كلام أولئك الأوغاد.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) فهو يجزى العاملين بحسب ما يعلم من أحوالهم ، وما تنطوى عليه سرائرهم.
فمن كان إيمانه صحيحا واتقى اللّه فاز بالسعادة.
وهذا كالدليل على ما قبله ، لأن عدم الإثابة إما للسهو والنسيان ، وإما للجهل ، وذلك ممتنع فى حقه ، لأنه عليم بكل شىء ، وإما للعجز أو البخل أو الحاجة ، وكل ذلك محال عليه ، لأنه خالق جميع الكائنات ، وهو القادر على كل شىء.
ولما انتفى كل هذا كان المنع من الجزاء محالا.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 117]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
تفسير المفردات
لن تغنى : أي لن تجزىء وتنفع ، ومثل الشيء : مثله وشبهه ، والصرّ (بالكسر) والصرة : البرد الشديد.(4/38)
ج 4 ، ص : 39
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فيما سلف أحوال الكافرين ، وما يحيق بهم من العقاب ، وأحوال المؤمنين وما أعد لهم من الثواب ، جامعا بين الزجر والترغيب ، والوعد والوعيد ، ثم وصف من آمن من الكفار بتلك الخلال الحسنة ، والمفاخر التي عددها لهم - أتبع ذلك بوعيد الكفار وتيئيسهم بأنهم لن يجدوا يوم القيامة ما يدفع عنهم عذابه ، ثم أردفه ببيان أن ما ينفقونه فى هذه الحياة الدنيا ، فى لذاتهم وجاههم وتأييد كلمتهم لا يفيدهم شيئا ، كزرع أصابته ريح فيها صرّ فأهلكته ، فلم يستفد أصحابه منه شيئا.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) أي إن الذين كفروا من أهل الكتاب ومشركى مكة وغيرهم ممن كانوا يعيرون النبي صلى اللّه عليه وسلم وأتباعه بالفقر ، ويقولون : لو كان محمد على الحق ما تركه ربه فى هذا الفقر الشديد ، ويتفاخرون بكثرة الأموال والأولاد كما حكى اللّه عنهم : « نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ » لن تنفعهم هذه الأموال والأولاد يوم القيامة ، وافتصر على ذكرهما ، لأنهما من أعظم النعم ، ومن كان يرتع فى بحبوحة هذه النعم ، فقلّما يوجه نظره إلى طلب الحق ، أو يصغى إلى الداعي إليه ، ومن ثم تراه يتخبط فى ظلام دامس حتى يتردى فى الهاوية ، ويقع فى المهالك ، ولا ينفعه مال ولا ولد « يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ »
، يوم يوضع الميزان ، ويحاسب كل امرئ على النقير والقطمير.
ونحو الآية قوله : « وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً » وقوله :
« فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ » وقوله :
« وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى » .(4/39)
ج 4 ، ص : 40
(وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي أولئك الملازمون للنار لا ينفكون عنها ، لأن ظلمة أرواحهم ، وفساد عقائدهم ، وسوء أعمالهم ، اقتضت خلودهم فى تلك الهاوية المظلمة المستعرة التي وقودها الناس والحجارة ، قد أعدت لكل من جحد بآيات ربه ، وأعرض عن دعوة أنبيائه ورسله ، ولم يصغ إلا لداعى الهوى والشهوات.
وبعد أن أبان أن أموالهم لا تغنى عنهم شيئا ، ذكر أن ما ينفقونه من المال فى سبل الخير لا يجديهم ليزيل ما ربما علق بالبال من أنهم ينتفعون به ، وضرب لذلك مثلا فقال :
َثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ)
أي إن ما ينفقونه فى اللذات ، ونشر الصيت ، واكتساب الشهرة ، وتأييد الكلمة ، فيصدهم عن سبيل اللّه ، ويفسد عقولهم وأخلاقهم التي هى عماد المنافع ، كمثل ريح باردة أصابت حرث قوم فأهلكته.
وخلاصة ذلك - أن حالهم فيما ينفقون وإن كان فى الخير كحال الريح الشديدة البرد التي تهلك الزرع ، فهؤلاء لا يستفيدون من نفقتهم شيئا ، كما أن أصحاب ذلك الزرع كذلك.
فهم إذا أنفقوا أموالهم فى بناء الحصون والقلاع لصد العدو ، وإقامة القناطر لحفظ المياه وأمن الطريق ، وفى الإحسان إلى الضعفاء واليتامى وذوى الحاجات ، ورجوا من ذلك الثواب الجزيل ، ثم قدموا إلى الآخرة ورأوا كفرهم قد أبطل آثار ذلك الخير ، كانوا كمن زرع زرعا وتوقع منه نفعا كثيرا ، فأصابته ريح فأحرقته ، فلا يبقى له إلا الحسرة والندامة ، ونحو الآية قوله : « وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً » وقوله : « وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً » .
وجماع هذا كله قوله : « إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ » .(4/40)
ج 4 ، ص : 41
ومما سلف تعلم أن هذا المثل ضرب لخيبتهم فى الآخرة ، وليس بالبعيد أن يكون أيضا مثلا لخيبتهم فى الدنيا.
ذاك أنهم أنفقوا الأموال الكثيرة فى جمع العساكر ، وتحملوا المشاق ، ثم انقلب الأمر عليهم ، فأظهر اللّه الإسلام وقواه ، فلم يبق للكفار من ذلك الإنفاق إلا الخيبة والحسرة.
وقد جعل اللّه هذا الحرث لقوم ظلموا أنفسهم ، لإفادة أن المنفقين لا يستفيدون منه شيئا ، إذ حرث الكافرين الظالمين هو الذي يذهب بلا منفعة فى الدنيا ولا فى الآخرة.
أما حرث المسلم المؤمن فهو وإن ذهب حسا فهو لا يذهب معنى ، لما فيه من الثواب بالصبر على ما يصيبه من النكبات والأحزان.
والخلاصة - إن الجوائح قد تنزل بأموال الناس من حرث ونسل عقوبة لهم على ذنوب اقترفوها ، إذ لا يستنكر على القادر الحكيم الذي وضع السنن وربط الأسباب بمسبباتها فى عالم الحس ، أن يوفق بينها وبين سننه الخفية فى إقامة ميزان القسط بين الناس ، لهدايتهم إلى ما به كمالهم من طريق العلوم الحسية التي تستفاد من النظر والتجربة ، ومن طريق الإيمان بالغيب الذي يرشد إليه الوحى الإلهى.
ونحن نسمى ما يترتب عليه حدوث الشيء سببا له ، وما يلابس السبب من النفع لبعض والضر لآخرين حكمة له ، وكل ذلك مقصود للفاعل الحكيم.
َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
أي وما ظلمهم اللّه بعدم انتفاعهم بنفقاتهم بل هم الذين ظلموا أنفسهم بإنفاق الأموال فى السبل التي تؤدى إلى الخيبة والخسران على النهج الذي سنة اللّه فى أعمال الإنسان والآية نزلت فيما كان ينفقه أهل مكة ، أو ينفقه اليهود فى عداوة النبي صلى اللّه عليه وسلم ومقاومته ، لأنهم هم الذين اختاروا ذلك لأنفسهم ، ولم يضروا النبي صلى اللّه عليه وسلم ومن معه ، بل كان ذلك سبب سيادته عليهم ، وتمكنه منهم.(4/41)
ج 4 ، ص : 42
وقيل إنها نزلت فيما كان ينفقه المنافقون فى بعض طرق البر رياء وسمعة أو تقيّة.
وقيل إن المثل ينطبق على الكافرين الذين ينفقون أموالهم فى طرق البر رغبة فى الخير ، لأن شرط الثواب على تلك الأعمال الإيمان ، وقد ظلموا أنفسهم بترك النظر فى الدلائل بعد ما ظهرت ، أو بالجحود بعد النظر وإقامة الحجة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 118 الى 120]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
تفسير المفردات
بطانة الرجل : خاصته الذين يستنبطون أمره ، مأخوذة من بطانة الثوب للوجه الذي يلى البدن ، ويسمى الوجه الظاهر ظهارة ، وهى تستعمل للواحد والجمع مذكرا ومؤنثا ، ومن دونكم : أي من غيركم ، ويألونكم : من ألا فى الأمر يألو : إذا قصر فيه ، ويقال : لا آلوك نصحا ، ولا آلوك جهدا ، أي لا أمنعك نصحا ، ولا أنقصك جهدا ، والخبال : النقصان ، ومنه رجل مخبول ومخبل ومختبل : إذا كان ناقص العقل ، والفساد ، ومنه قوله تعالى : « لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا » أي فسادا(4/42)
ج 4 ، ص : 43
وضررا ، ووددت كذا : أي أحببته ، والعنت : المشقة ، والبغضاء : شدة البغض كالضراء شدة الضر ، والكتاب هنا : المراد به جنس الكتب كما يقال كثر الدرهم فى أيدى الناس ، وعضّ الأنامل : يراد به شدة الغيظ أحيانا ، كما يراد به الندم أحيانا أخرى ، وذات الصدور : الخواطر القائمة بالقلب ، والدواعي التي تدعو إلى الأفعال ، أو الصوارف التي تدفعها عنه والمسّ : أصله ما كان باليد كاللمس ، ثم سمى كل ما يصل إلى الشيء مسّا ، فقالوا : مسه التعب والنصب قال تعالى : « وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ » وقال :
« وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ » والحسنة : المنفعة حسية كانت أو معنوية كصحة البدن والفوز بالغنيمة ، وأعظمها انتشار الإسلام وحصول الألفة بين المسلمين ، والسيئة :
الفقر والهزيمة وحصول التفرقة بين الأقارب ، من ساء يسوء بمعنى قبح فهو سىء والأنثى سيئة قال تعالى : « ساءَ ما يَعْمَلُونَ » والكيد : الاحتيال لإيقاع غيرك فى مكروه ، والمحيط بالشيء : هو الذي يحيط به من كل جوانبه ، ويراد به فى حق اللّه العلم بدقائقه وتفاصيل أجزائه ، فلا يعزب عنه شىء منه ، قال تعالى : « وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ » وقال : « وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ » .
المعنى الجملي
كانت الآيات السالفة حجاجا مع أهل الكتاب والمشركين ، وإلزامهم بالحجة ، وبيانا لأحوال المؤمنين ، وتذكيرا لهم بما يكون من سوء العاقبة يوم القيامة ، يوم تبيض وجوه وتسوّد وجوه.
والكلام فى هذه الآيات تحذير للمؤمنين من مخالطة الكافرين مخالطة تدعو إلى الإباحة بالأسرار ، والاطلاع على شئون المسلمين ، مما تقضى المصلحة بكتمانه ، وعدم معرفة الأعداء له.
ومما دعا إلى هذا النهى أنه كانت بين المؤمنين وغيرهم صلات خاصة تدعو إلى الإباحة بالأسرار إليهم كالنسب والمصاهرة والرضاعة والعهد والمحالفة - إلى أنّ من(4/43)
ج 4 ، ص : 44
طبيعة المؤمن أن يبنى أمره على اليسر والأمانة والصدق ، ولا يبحث عن عيوب غيره.
ولكن لما كان همّ المناصبين من أهل الكتاب والمشركين إطفاء نور الدعوة ، وإبطال ما جاء به الإسلام ، والمسلمون لم يكن لهم غرض إلا نشر هذه الدعوة بسائر الوجوه التي يرونها كفيلة بإعلاء كلمة الدين - اختلف المقصدان ، وافترق الغرضان ، فلم يكن من الحزم أن يفضى الإنسان بسره إلى عدوه ، ويطلعه على خططه التي يدبرها للفوز ببغيته على أكمل الوجوه وأحكمها ، وأقربها للوصول إلى الغرض ، ومن ثم حذر اللّه المؤمنين من اطلاع أعدائهم على أسرارهم ، لما فى ذلك من تعريض مصلحة الملة للخبال والفساد.
أخرج ابن إسحق وغيره عن ابن عباس قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحلف فى الجاهلية ، فأنزل اللّه فيهم هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ ، لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا ، وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ، وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) أي لا تتخذوا أيها المؤمنون الكافرين كاليهود والمنافقين أولياء وخواصّ لكم دون المؤمنين ، إذا كانوا على تلك الأوصاف التي ذكرت فى هذه الآية :
(1) لا يألونكم خبالا : أي لا يقصرون فى مضرتكم ، وإفساد الأمر عليكم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
(2) يتمنون ضركم فى دينكم ودنياكم أشد الضرر.
(3) يبدون البغضاء بأفواههم ، ويظهرون تكذيب نبيكم وكتابكم ، وينسبونكم إلى الحمق والجهل ، ومن اعتقد حمق غيره وجهله لا يحبه.
(4) ما يظهرونه على ألسنتهم من علامات الحقد أقل مما فى قلوبهم منه.
فهذه الأوصاف شروط فى النهى عن اتخاذ البطانة من غير المسلمين ، فإذا اعتراها تغيّر وتبدل كما وقع من اليهود ، فبعد أن كانوا فى صدر الإسلام أشد الناس عداوة للذين آمنوا - انقلبوا فصاروا عونا للمسلمين فى فتوح الأندلس ، وكما وقع من القبط إذ صاروا عونا للمسلمين على الروم فى فتح مصر - فلا يمتنع حينئذ اتخاذهم أولياء وبطانة للمسلمين ، فقد جعل عمر بن الخطاب رجال دواوينه من الروم ، وجرى الخلفاء من بعده على ذلك ، إلى أن نقل عبد الملك بن مروان الدواوين من الرومية إلى العربية.
وعلى هذه السنة جرى العباسيون وغيرهم من ملوك المسلمين فى نوط أعمال الدولة باليهود والنصارى حتى العصر الحاضر ، فإن كثيرا من سفراء الدولة العثمانية ووكلائها من النصارى.
ومع كل هذا يرمينا الأجانب بالتعصب ، ويقولون : إن الإسلام لا تساهل فيه.
وهذا النهى المقيد بتلك الأوصاف شبيه بالنهى عن اتخاذ الكفار أنصارا وأولياء فى قوله : « لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ » .
(قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي قد أظهرنا لكم الدلالات الواضحة التي يتميز بها الولي من العدو ، ومن يصح أن يتخذ بطانة ، ومن لا يصح أن يتخذ لخيانته ، وسوء عاقبة مباطنته ، إن كنتم تدركون حقائق هذه الآيات التي تفرق بين الأعداء والأولياء ، وتعلمون قدر مواعظ اللّه وحسن عواقبها.
ثم ذكر نوعا آخر من التحذير عن مخالطة الكافرين واتخاذهم بطانة ، وفيه تنبيه لهم على خطئهم فى ذلك ، وقد ضمنه أمورا ثلاثة كل منها يستدعى الكفّ عن مخالطتهم.(4/44)
ج 4 ، ص : 45(4/45)
ج 4 ، ص : 46
(1) (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) أي إنكم تحبون هؤلاء الكفار الذين هم أشد الناس عداوة لكم ، ولا يقصرون فى إفساد أمركم ، وتمنّى عنتكم ، ويظهرون لكم العداوة والغش ، ويتربصون بكم ريب المنون ، فكيف بكم توادونهم وتواصلونهم ؟ .
وحب المؤمنين لهم - وهم على تلك الشاكلة - من أقوى البراهين على أن هذا الدين دين رحمة وتساهل ، لا يمكن أن يتصور ما هو أعظم منه فى ذلك.
(2) (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) أي إنكم تؤمنون بجميع ما أنزل اللّه من الكتب ، سواء منها ما نزل عليكم وما نزل عليهم ، فليس فى نفوسكم جحد لبعض الكتب الإلهية ، ولا للنبيين الذين جاءوا بها ، حتى يحملكم ذلك على بغض أهل الكتاب - أما هم فيجحدون بعض الكتب وينكرون بعض النبيين.
وخلاصة هذا : إنهم لا يحبونكم مع أنكم تؤمنون بكتابهم وكتابكم ، فما بالكم لو كنتم لا تؤمنون بكتابهم ، كما أنهم لا يؤمنون بكتابكم ؟ فأنتم أحرى ببغضهم ، ومع هذا تحبونهم ولا يحبونكم.
قال ابن جرير : فى الآية إبانة من اللّه عز وجل عن حال الفريقين ، أعنى المؤمنين والكافرين ، ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم ، وقساوة قلوب أولئك وغلظتهم على أهل الإيمان اه.
وقال قتادة : فو اللّه إن المؤمن ليحب المنافق ويأوى إليه ويرحمه ، ولو أن المنافق يقدر من المؤمن على ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه (أفناه وأهلكه) اه.
وفى هذا توبيخ للمؤمنين بأنهم فى باطلهم أصلب منكم فى حقكم.
ونحو الآية قوله : « فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ » (3) (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) أي وإذا لقوا المؤمنين من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ألانوا لهم القول حذرا على أنفسهم منهم ، فقالوا : آمنا وصدقنا بما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وإذا هم صاروا فى خلاء حيث لايراهم المؤمنون أظهروا شدة العداوة والغيظ منهم ،(4/46)
ج 4 ، ص : 47
حتى ليبلغ الأمر إلى عضّ الأنامل كما يفعل أحدنا إذا اشتد غيظه ، وعظم حزنه على فوات مطلوبه.
وإنما فعلوا ذلك لما رأوا من ائتلاف المؤمنين ، واجتماع كلمتهم ، وصلاح ذات بينهم ، ونصر اللّه إياهم حتى عجز أعداؤهم أن يجدوا سبيلا إلى التشفي منهم ، فاضطروا إلى مداراتهم.
(قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) هذا دعاء عليهم بازدياد الغيظ حتى يهلكوا ، كقولهم :
دم بعزّ ، وبت قرير عين ، ونحو ذلك ، والمراد بذلك ازدياد قوة الإسلام وعزّ أهله.
وفى هذا عبرة للمسلمين لعلهم يتذكرون ، فيعلموا أن ما حل بهم من الأرزاء ما كان إلا بزوال هذا الاجتماع ، والتفرق بعد الاعتصام.
(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فيعلم ما تنطوى عليه صدوركم من البغضاء والحقد والحسد ، ولا يخفى عليه ما تقولون فى خلواتكم ، وما يبديه بعضكم لبعض من تدبير المكايد ونصب الحيل للمؤمنين ، وما تنطوى عليه صدور المؤمنين من حب الخير والنصح لكم ، ويجازى كلّا على ما قدم من خير أو شر ، واعتقد من إيمان أو كفر.
(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) أي إذا نالكم خير كانتصاركم على أعدائكم المقاومين لدعوتكم ، ودخول الناس فى دين اللّه أفواجا أحزنهم ذلك وعزّ عليهم.
وإن نالتكم مساءة كالإخفاق فى حرب ، أو إصابة عدوّ لكم ، أو حدوث اختلاف بين جماعتكم فرحوا بذلك.
قال قتادة فى بيان ذلك : فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورا على عدوهم ، غاظهم ذلك وساءهم ، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا ، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين سرّهم ذلك ، وأعجبوا به وابتهجوا ، وهم كلما خرج منهم قرن أكذب اللّه أحدوثته ، وأوطأ محلته ، وأبطل حجته ، وأظهر عورته ، وذلك قضاء اللّه فيمن مضى منهم وفيمن بقي إلى يوم القيامة اه.(4/47)
ج 4 ، ص : 48
(وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) أي وإن تصبروا على مشاق التكاليف فتمتثلوا الأوامر ، وتتقوا كل ما نهيتم عنه وحظر عليكم - ومن ذلك اتخاذ الكافرين بطانة - فلا يضركم كيدهم ، لأنكم قد وفيتم للّه بعهد العبودية ، فهو يفى لكم بحق الربوبية ، ويحفظكم من الآفات والمخافات كما قال سبحانه : « وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ » .
قال بعض الحكماء : إذا أردت أن تكبت من يحسدك فاجتهد فى اكتساب الفضائل.
وقد جرت سنة القرآن أن يذكر الصبر فى كل مقام يشق على النفس احتماله ، ولا شك أن حبس الإنسان سره عن وديده وعشيره ، ومعامله وقريبه مما يشق عليه ، فإن من لذات النفوس أن تفضى بما فى الضمير إلى من تسكن إليه وتأنس به.
ولما نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من دونهم من خلطائهم وعشرائهم وحلفائهم لما بدا منهم من البغضاء والحسد - حسن أن يذكّرهم بالصبر على هذا التكليف الشاق عليهم ، واتقاء ما يجب اتقاؤه للسلامة من عواقب كيدهم.
وفى الآية عبرة للمسلمين فى معاملة الأعداء ، فإن اللّه أمر المؤمنين بالصبر على عداوة أولئك المبغضين الكافرين ، واتقاء شرهم ، ولم يأمرهم بمقابلة الشر بمثله ، إذ من دأب القرآن ألا يأمر إلا بالمحبة والخير ، ودفع السيئة بالحسنة كما قال : « ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ » .
فإن تعذر تحويل العدو إلى محب ، بدفع سيئاته بما هو أحسن منها - جاز دفع السيئة بمثلها من غير بغى ، كما فعل النبىّ صلى اللّه عليه وسلم مع بنى النّضير ، فإنه حالفهم ووادّهم ، فنكثوا العهد وخانوا ، وأعانوا عليه عدوه من قريش وسائر العرب ، وحاولوا قتله ، فلم يكن هناك وسيلة لعلاجهم إلا قتالهم وإجلاؤهم من ديارهم.
(إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي إنه تعالى عالم بعمل الفريقين ، ومحيط بأسباب ما يصدر من كل منهما ، ومقدماته ، ونتائجه وغاياته ، فهو الذي يعتمد على إرشاده ،(4/48)
ج 4 ، ص : 49
فى معاملة أحدهما للآخر ، ولا يمكن أن يعرف أحدهما من نفسه ما يعمله ذلك المحيط بعمله ، وعمل من يناهضه ، ويناصبه العداوة ، فهداية اللّه للمؤمنين خير وسيلة للوصول إلى أغراضهم ومآربهم.
وهذه الجملة كالعلة لكون الاستعانة بالصبر والتمسك بالتقوى شرطين للنجاح.
وخلاصة المعنى - إن اللّه قد دلكم على ما ينجيكم من كيد أعدائكم ، فعليكم أن تمتثلوا وتعلموا أنه محيط بأعمالهم ، وهو القادر على أن يمنعهم مما يريدون بكم ، فثقوا به ، وتوكلوا عليه.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 129]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)(4/49)
ج 4 ، ص : 50
تفسير المفردات
غدا : خرج غدوة - والغدوة والغداة : ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس - وتبوىء أي تهيىء وتسوّى ، والمقاعد واحدها مقعد : مكان القعود والمراد المواطن والمواقف ، والهم : حديث النفس وتوجهها إلى الشيء ، والطائفتان الجماعتان : وهما بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار أن تفشلا : أي تضعفا وتجبنا ، وليهما : أي ناصرهما ، والتوكل :
من وكل فلان أمره إلى فلان إذا اعتمد عليه فى كفايته ولم يتوله بنفسه ، والأذلة :
واحدهم ذليل ، وهو من لا منعة له ولا قوة ، وقد كانوا قليلى العدة من السلاح والدواب والزاد ، والكفاية : سد الحاجة وفوقها الغنى ، والإمداد : إعطاء الشيء حالا بعد حال ، بلى : كلمة للجواب كنعم ، لكنها لا تقع إلا بعد النفي وتفيد إثبات ما بعده ، والفور :
الحال التي لا بطء فيها ولا تراخى فمعنى من فورهم : أي من ساعتهم بلا إبطاء ، ومسومين (بكسر الواو) من قولهم سوّم على القوم : أي أغار عليهم ففتك بهم ، وقيل من التسويم بمعنى إظهار سيما الشيء وعلامته : أي معلمين أنفسهم أو خيلهم ، وطرفا :
أي طائفة وقطعة منهم ، ويكبتهم من الكبت : وهو شدة الغيظ ، أو الوهن الذي يقع فى القلب.
استطراد دعت إليه الحاجة
من هذه الآيات إلى ستين آية بعدها نزلت فى غزوة أحد ، فوجب ذكر طرف من أخبار هذه الواقعة ليستعين به القارئ على فهمها ، ويعرف مواقع أخبارها ، ويستيقن من حكمها وأحكامها.
ولكن عليك أن تعرف قبل هذا ، أن قريشا اغتاظت من هجرة النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة ، وحقدوا على أهلها إيواءهم للمسلمين ، وتهددوهم ، فكان لا بد من الاستعداد للدفاع ، وقد صار النبي صلى اللّه عليه وسلم داعية للدين ، ورئيسا لحكومة المدينة ، وقائدا لجيشها.(4/50)
ج 4 ، ص : 51
هذا ، وقد أدى دفاع المسلمين عن أنفسهم إلى سلسلة من الغزوات ، بها انتشر الإسلام بسرعة لم تعهد فى التاريخ ، وقد اشترك النبي صلى اللّه عليه وسلم فى تسع منها أشهرها.
وقعة بدر
كانت قريش ترى أن محمدا وأصحابه شر ذمة من الثوار يجب أن تقتل ، ولا سيما بعد أن صارت لهم القوة فى المدينة وهى على طريق التجارة إلى الشام ، فجدّ المسلمون فى مهاجمة قوافل مكة ، ونالوا أول انتصار لهم فى السنة الثانية من الهجرة فى غزوة بدر - بئر بين مكة والمدينة كانت لرجل يسمى بدرا فسميت باسمه - وكانت هذه الوقعة نصرا مؤزّرا للمسلمين ، وكارثة كبرى على المشركين ، وكان لها دوىّ عظيم فى أرجاء البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها.
وقعة أحد أحد جبل على نحو ميل من المدينة إلى الشمال
ولما خذل المشركون فى وقعة بدر ورجع فلّهم إلى مكة مقهورين - أخذ أبو سفيان يؤلّب المشركين على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، إذ كان هو الرئيس بعد مقتل من قتل من صناديد قريش ، فاجتمعوا للحرب وكانوا نحو ثلاثة آلاف ، فيهم سبعمائة دارع ، ومعهم مائتا فرس ، وقائدهم أبو سفيان بن حرب ، ومعه زوجه هند بنت عتبة ، وكان جملة النساء خمس عشرة امرأة ، ومعهن الدفوف يضربن بها ويبكين على قتلى بدر ، ويحرضن المشركين على حرب المسلمين ، وساروا من مكة حتى نزلوا مقابل المدينة فى شوال سنة ثلاث من الهجرة ، وكان رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المقام فى المدينة وقتالهم بها ، ورأى باقى الصحابة الخروج لقتالهم ، فخرج فى ألف من الصحابة ، إلى أن صار بين المدينة وأحد ، فانخذل عنه عبد اللّه بن أبىّ ابن سلول فى ثلث الناس ، ونزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الشّعب من أحد ، وجعل ظهره إلى الجبل ، وكان عدة أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سبعمائة ،(4/51)
ج 4 ، ص : 52
فيهم مائة دارع ، ولم يكن معهم من الخيل سوى فرسين ، وكان لواء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع مصعب بن عمير ، وعلى ميمنة المشركين خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبى جهل ، ولواؤهم مع بنى عبد الدار.
ولما التقى الجمعان قامت هند زوج أبى سفيان ومعها النسوة يضربن بالدفوف ، وهى تقول :
ويها بنى عبد الدار ويها حماة الأدبار
ضربا بكل بتّار
وقاتل حمزة قتالا شديدا ، ولما قتل مصعب بن عمير أعطى النبي صلى اللّه عليه وسلم الراية لعلى بن أبى طالب.
ولما انهزم المشركون طمعت الرماة فى الغنيمة ، وفارقوا المكان الذي أمرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم بملازمته ، فأتى خالد بن الوليد مع خيل المشركين من خلف المسلمين ، ووقع الصراخ أن محمدا قد قتل ، وانكشف المسلمون وأصاب العدو منهم ، وكان يوم بلاء على المسلمين ، وكان عدة الشهداء من المسلمين سبعين رجلا ، وعدة قتلى المشركين اثنين وعشرين رجلا ، ووصل العدو إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصابته حجارتهم حتى وقع وأصيب رباعيته ، وشجّ فى وجهه ، وكلمت شفته ، وجعل الدم يسيل على وجهه وهو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم ، وجعل يدعوهم إلى ربهم ، فنزل قوله تعالى : « لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ » .
ودخلت حلقتان من حلق المغفر فى وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الشجة ، ونزع أبو عبيدة بن الجرّاح إحدى الحلقتين من وجهه صلى اللّه عليه وسلم فسقطت ثنيّة من ثنياته ، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى ، وامتص مالك ابن سنان والد أبى سعيد الخدري الدم من وجنته ، وطمع فيه المشركون وأدركوه يريدون منه ما اللّه عاصمه منه كما قال « وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ » وأصابت طلحة يومئذ ضربة شديدة شلت يده ، وهو يدافع عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،(4/52)
ج 4 ، ص : 53
ومثلت هند وصواحبها بالقتلى من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجد عن الأنوف ، وصلمن الآذان ، واتخذن منها قلائد ، وبقرت هند عن كبد حمزة ولا كتها ، ولم تستسغها ، وضرب أبو سفيان شدق حمزة بزجّ الرمح ، وصعد الجبل ، وصرخ بأعلى صوته ، الحرب سجال يوم بيوم بدر ، اعل هبل (صنم بالكعبة) أي ظهر دينك.
ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى : إن موعدكم بدر العام القابل ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : قولوا له : هو بيننا وبينكم ، ثم سار المشركون إلى مكة ، وبحث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن عمه حمزة فوجده مبقور البطن ، مجدوع الأنف ، مصلوم الأذن ، فقال : لئن أظهرنى اللّه عليهم لأمثلنّ بثلاثين منهم ، ثم أمر أن يسجّى عمه ببردته ، ثم صلى عليه ، فكبر سبع تكبيرات ، ثم أتى بالقتلى فوضعهم إلى جانب حمزة واحدا بعد واحد حتى صلى عليهم ثنتين وسبعين صلاة ، ثم أمر بحمزة فدفن ، واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها ، ثم نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك وقال ادفنوهم حيث صرعوا.
إذا علمت ما تقدم سهل عليك فهم هذه الآيات ، وما بعدها مما له صلة بهذه الوقعة الهامة فى تاريخ الإسلام ، وما فيها من عظة وعبرة للمسلمين ، فقد كانت نبراسا لهم فى كل حروبهم وأعمالهم فى حياة النبي صلى اللّه عليه وسلم وبعده - إذ علموا أن مخالفة القائد الأعظم لها أسوأ الآثار ، وأن كل ما حدث فيها إنما جر إليه الطمع فى الغنيمة ، وجمع حطام الدنيا ، وهو ظل زائل وعرض مفارق.
المعنى الجملي
بعد أن نهى اللّه المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين كاشفوهم بالعداوة ، ثم أعلمهم ببغضهم إياهم ، ثم أمرهم بالصبر والتقوى وأنهم إذا فعلوا ذلك لا يضرهم كيدهم شيئا - ذكّرهم فى هذه الآيات بوقعة أحد ، وما كان فيها من كيد المنافقين ،(4/53)
ج 4 ، ص : 54
إذ أذاعوا عن المؤمنين من قالة السوء ما أذاعوا ، ثم خرجوا معهم ، وانشقوا عنهم فى الطريق ، ورجعوا بثلث الجيش ، ليوقعوا الفشل بين صفوفهم ويخذلوهم أمام عدوهم وما كان من كيد المشركين وتألبهم عليهم ، ولم يكن لذلك من واق إلا الصبر حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا مواقعهم ، وإلا تقوى اللّه ، ومن أهم دعائمها طاعة الرسول فيما به أمر وعنه نهى ، وذكّرهم أيضا بما كان يوم بدر من نصرهم على عدوهم على قلتهم ، إذ جعلوا الصبر جنتهم ، وتقوى اللّه عدّتهم ، فأصابوا من عدوهم ما أصابوا ، وكان لهم الفلج عليهم مما لا يزال مكتوبا فى صحيفة الدهر مثلا خالدا لصدق العزيمة ، والبعد عن مطامع هذه الحياة.
الإيضاح
(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) أي واذكر لهم أيها الرسول وقت خروجك من بيتك غدوة وهى غدوة سحر يوم السبت سابع يوم من شوال من سنة ثلاث للهجرة تهيىء أمكنة للقتال ، منها مواضع للرماة ، ومواضع للفرسان ، ومواضع لسائر المؤمنين.
(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي واللّه سميع لما يقول المؤمنون لك فيما شاورتهم فيه من موضع لقائك عدوك وعدوهم ، كقول من قال : اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم فى خارج المدينة ، وقول من قال : لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا ، ولما تشير به أنت عليهم ، عليم بأصلح تلك الآراء لك ولهم وبنيّة كل قائل من أخلص منهم فى قوله وإن أخطأ فى رأيه كالقائلين بالخروج إليهم ، ومن لم يخلص فى قوله وإن كان صوابا كعبد اللّه بن أبىّ ومن معه من المنافقين.
قال ابن جرير : ضرب اللّه مثلا أو مثلين على صدق وعده فى الآية السابقة « وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً » بتذكيرهم بما كان يوم أحد من(4/54)
ج 4 ، ص : 55
وقوع المصيبة بهم عند ترك الرماة الصبر (وذنب الجماعة أو لأمة لا يكون عقابه قاصرا على من اقترفه بل يكون عاما) وبما كان يوم بدر إذ نصرهم على قلتهم وذلتهم.
(إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) أي واللّه سميع عليم حين همت بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وكانا جناحى عسكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - أن تضعفا وتجبنا عن القتال حين رأوا انخزال عبد اللّه بن أبىّ ومن معه عن رسول اللّه.
وهذا الهمّ لم يكن عزيمة ممضاة ، ولكنها كانت حديث نفس وقلما تخلوا النفس عند الشدة من بعض الهلع فإن ساعدها صاحبها ذمّ وإن ردها إلى الثبات والصبر فلا بأس بما فعل ومما يدل على أن ذلك الهمّ لم يصل إلى حد العصيان قوله تعالى :
(وَاللَّهُ وَلِيُّهُما) أي متولى أمورهما لصدق إيمانهما لذلك صرف الفشل عنهما وثبتهما فلم يجيبا داعى الضعف الذي ألمّ بهما عند رجوع المنافقين وكانوا نحو ثلث العسكر بل تذكروا ولاية اللّه للمؤمنين فوثقا به وتوكلا عليه.
(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي إن المؤمنين ينبغى أن يدفعوا ما يعرض لهم من جزع أو مكروه بالتوكل على اللّه لا بحولهم وقوتهم ولا بأنصارهم وأعوانهم ، بعد أخذ الأهبة والعدّة تحقيقا لسنن اللّه فى خلقه إذ جعل الأسباب مفضية إلى المسببات وهو الخالق للسبب والمسبب والموجد للصلة بينها.
فبقدرته تعالى ينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة كما نصر المؤمنين يوم بدر على قلة منهم فى العدد والعدد والسلاح وفى سائر عتاد الجيش ولذا قال.
(وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) أي إنكم إن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا وينصركم ربكم كما نصركم على أعدائكم وأنتم يومئذ فى قلة من العدد وفى غير منعة من الناس حتى أظهركم على عدوكم مع كثرة عددهم وعظيم منعتهم فأنتم اليوم أكثر عددا منكم حينئذ فإن تصبروا لأمر اللّه ينصركم كما نصركم فى ذلك اليوم.(4/55)
ج 4 ، ص : 56
ولا ضير فى الذل إذا لم يكن عن قهر من البغاة والظالمين ، ولم يكن المؤمنون بمقهورين ولا بمستذلّين من الكفار ، وإنما كانت قوتهم أول تكوّنها.
(فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي فاتقوا اللّه ربكم بطاعته واجتناب محارمه ، لتعدّوا أنفسكم لشكره ، على ما منّ به عليكم من النصر على أعدائكم وإظهار دينكم ، ولما هداكم له من الحق الذي ضل عنه مخالفوكم ، إذ من لم يروّض نفسه بالتقوى يغلب عليه الهوى واتباع الشهوات ، فلا يرجى منه الشكر لأنعم اللّه بصرفها فيما خلقت لأجله من الحكم والمنافع.
(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي ولقد نصركم اللّه ببدر فى ذلك الحين الذي كنت تقول فيه لهم : ألن يكفيكم إلخ.
أخرج ابن أبى شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشّعبى أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمدّ المشركين ، فشق ذلك عليهم ، فأنزل اللّه - ألن يكفيكم أن يمدّكم ربكم - إلى قوله : من الملائكة مسوّمين ، فبلغته هزيمة المشركين فلم يمدّ أصحابه ، ولم يمدّوا بالخمسة الآلاف.
(أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) قال الفخر الرازي فى التفسير الكبير : أجمع أهل التفسير والسير أن اللّه تعالى أنزل الملائكة يوم بدر ، وأنهم قاتلوا الكفار.
قال ابن عباس رضى اللّه عنهما : لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر ، وفيما سواه كانوا عددا ومددا لا يقاتلون ولا يضربون.
(بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) أي بلى يكفيكم ذلك ، ثم وعدهم بالزيادة بشرط الصبر والتقوى حثا لهم عليهما وتقوية لقلوبهم.
أي إن تصبروا على لقاء العدو ومناهضتهم ، وتتقوا معصية اللّه ، ومخالفة نبيه(4/56)
ج 4 ، ص : 57
صلى اللّه عليه وسلم ، ويجئكم المشركون من ساعتهم هذه - يمدكم بخمسة آلاف من الملائكة ، ليعجل نصركم ، ويسهل فتحكم.
قال ابن جرير : وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب أن يقال : إن اللّه أخبر عن نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم أنه قال للمؤمنين : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة ، ثم وعدهم بعد الثلاثة. الآلاف بخمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا ، ولا دلالة فى الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف ، ولا بالخمسة الآلاف ، ولا على أنهم لم يمدوا بهم ، وقد يجوز أن يكون اللّه أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أن اللّه أمدهم ، وقد يجوز أن يكون اللّه لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك ، ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف ، ولا بالخمسة الآلاف ، وغير جائز أن يقال فى ذلك قول إلا بخبر تقوم الحجة به ، ولا خبر فنسلم لأحد الفريقين قوله :
غير أن فى القرآن دلالة على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة ، وذلك قوله : « إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ » .
أما فى أحد فالدلالة على أنهم لم يمدّوا أبين منها فى أنهم أمدّوا ، وذلك أنهم لو أمدوا لم يهزموا وينل منهم ما نيل اه.
والإمداد بالملائكة يصح أن يكون من قبيل الإمداد بالمال الذي يزيد فى قوة القوم ، وأن يكون من الإمداد بالأشخاص الذين ينتفع بهم ولو نفعا معنويا ، وذلك أن الملائكة أرواح تلابس النفوس فتمدها بالإلهامات الصالحات التي تثبّتها وتقوى عزيمتها.
(وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) قال الزجاج : وما جعل اللّه ذكر المدد إلا بشرى اه.
يعنى وما جعل اللّه ذلك القول الذي قاله الرسول لكم (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) الآية(4/57)
ج 4 ، ص : 58
إلا بشرى يفرخ بها روعكم ، وطمأنينة لقلوبكم التي طرقها الخوف من كثرة عدد عدوكم وعظيم استعداده.
وفى هذا إيماء إلى أن فى ذكر الإمداد غايتين :
(1) إدخال السرور فى القلوب.
(2) حصول الطمأنينة ببيان أن معونة اللّه ونصرته معهم ، فلا يجبنوا عن المحاربة.
(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) العزيز هو القوى الذي لا يمتنع عليه شىء ، والحكيم هو الذي يدبّر الأمور على خير السنن وأقوم الوسائل ، فيهدى لأسباب النصر الظاهرة والباطنة من يشاء ، ويصرفهما عمن يشاء.
والمراد - أنه يجب توكلكم على اللّه لا على الملائكة ، فيجب على العبد ألا يتكل على الأسباب فقط ، بل يقبل على مسبب الأسباب ، إذ هو الذي لا يعجز عن إجابة الدعوات ، فعليكم ألا تتوقعوا النصر إلا من رحمته ، ولا المعونة إلا من فضله وكرمه.
فإن حصل الإمداد بالملائكة فليس ذلك إلا جزءا من أسباب النصر ، وهناك أسباب أخرى كإلقاء الرعب فى قلوب الأعداء ، ومعرفة المواقع ، كما فعل النبي صلى اللّه عليه وسلم إذ سلك إلى أحد أقرب الطرق وأخفاها على العدو ، وعسكر فى أحسن موضع وهو الشّعب (الوادي) وجعل ظهر عسكره إلى الجبل ، وجعل الرماة من ورائهم ، إلى نحو ذلك من الأسباب التي تمكنه من الظهور على عدوه ، والغلبة عليه.
فلما اختل بعض هذه التدبيرات ، وفات الرماة مواضعهم لم ينتصروا.
والذي عليه أهل العلم أنه لم يحصل يوم أحد إمداد بالملائكة ولا وعد من اللّه بذلك ، وإنما أخبر عن رسوله صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ذلك لأصحابه وجعل الوعد به معلقا على شروط ثلاثة :
(1) الصبر. (2) التقوى. (3) إتيان الأعداء من فورهم ، ولم تتحقق هذه الشروط ، فلم يحصل الإمداد ، ولكن القول أفاد البشارة والطمأنينة.(4/58)
ج 4 ، ص : 59
وحصل الإمداد بالفعل فى وقعة بدر كما تقدم ذكره ، وسيأتى مزيد تفصيل له فى سورة الأنفال.
وربما سأل سائل عن الفارق بين اليومين فقال : لم أمدّ اللّه المؤمنين يوم بدر بملائكة يثبتون قلوبهم ، وحرمهم من ذلك يوم أحد حتى أصاب العدو منهم ما أصاب! وجوابنا عن هذا أن المؤمنين كانوا يوم بدر فى قلة وذلة من الضعف والحاجة ، فلم يكن لهم اعتماد إلا على اللّه ، وما وهبهم من قوة فى أبدانهم ونفوسهم ، وما أمرهم به من الثبات والذكر إذ قال : « إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » .
ولم يكن فى نفوسهم تطلع إلى شىء سوى النصر ، وإقامة الدين والدفاع عن حوزته. فكانت أرواحهم بهذا الإيمان مستعدة لقبول الإلهام من أرواح الملائكة والتقوّى بالاتصال بها.
أما فى يوم أحد فقد كان بعضهم فى أول القتال قريبا من الافتتان بما كان من المنافقين ، ومن ثم همت طائفتان منهم أن تفشلا ، ولكن اللّه ثبتهما وباشرا القتال مع بقية المؤمنين حتى انتصروا وهزموا المشركين ، ثم خرج بعضهم عن التقوى وخالفوا أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم وطمعوا فى الغنيمة وتنازعوا فى الأمر ففشلوا وضعف استعداد أرواحهم ، فلم ترتق إلى الاستمداد من أرواح الملائكة ، فلم يكن لهم منهم مدد.
وحكمة ما حصل تمحيص المؤمنين كما سيأتى فى قوله (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ) الآية ، وتربيتهم بالفعل على إقامة سنن اللّه تعالى فى ارتباط الأسباب بالمسببات ، ومعرفة أن هذه السنن حاكمة حتى على الرسول ، وأن قتل الرسول أو موته لا ينبغى أن يثبط الهمم ، ولا يدعو إلى الانقلاب على الأعقاب ، وأن كل ما يصيب العباد من مصايب فهو نتيجة عملهم ، وعقوبة طبيعية على أفعالهم ، إلى نحو ذلك من الأسرار التي ستعلمها بعد.(4/59)
ج 4 ، ص : 60
ر
وى أحمد ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب « أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يدعو يوم بدر : اللهم أنجز ما وعدتني ، اللهم أنجز ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد فى الأرض أبدا - وما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداؤه فرداه به ثم التزمه من ورائه ، ثم قال : يا نبى اللّه كفاك مناشدتك لربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، وأنزل اللّه يومئذ « إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ » الآية.
(لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) أي إن المقصود من نصركم بامداد الملائكة أن يهلك طائفة منهم ، ويخزى طائفة أخرى ويغيظهم بالهزيمة ، فيرجعوا خائبين لا أمل لهم فى نصر.
وعبر بالطرف لأنه أقرب إلى المؤمنين من الوسط ، فهو أول ما يوصل إليه من الجيش ، وقد أهلك اللّه من المشركين طائفة أول الحرب يوم أحد ، قدر عددهم بنحو ثمانية عشر رجلا.
وعبر بالخيبة دون اليأس ، لأن الأولى لا تكون إلا بعد توقع النصر وانتظاره ، والثانية بعده وبدونه ، وضد الخيبة الظفر ، وضد اليأس الرجاء.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها لبيان أن الأمر كله بيد اللّه فقال :
(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ) أي ليس إليك أيها الرسول من أمر خلقى إلا أن تنفذ فيهم أمرى ، وتنتهى فيهم إلى طاعتى ، ثم أمرهم بعد ذلك ، والقضاء فيهم بيدي دون غيرى ، أقضى فيهم وأحكم بالذي أشاء من التوبة ، أو عاجل العذاب بالقتل والنقم ، أو آجله بما أعددت لأهل الكفر بي من العذاب فى الآخرة.
(أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) أي ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم ، ليس لك من الأمر شىء.
روى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يوم أحد : اللهم العن أبا سفيان ، اللهم العن الحارث بن هشام ،(4/60)
ج 4 ، ص : 61
اللهم العن سهيل بن عمرو ، اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية فتاب اللّه عليهم كلهم » .
وروى أحمد ومسلم عن أنس « أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد ، وشجّ فى وجهه حتى سال الدم على وجهه ، فقال : كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا وهو يدعوهم إلى ربهم ، فأنزل اللّه (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ) الآية.
وإن لما حدث فى وقعة أحد لحكما دينية واجتماعية وحربية يمكن أن نحملها لك فيما يلى :
كان المؤمنون فى وقعة بدر واثقين بنصر اللّه لنبيه وإظهار دينه ، لم يضعف إيمانهم بذلك قلتهم وضعفهم ، ولا إخراج المشركين للمهاجرين من ديارهم وأموالهم ، ولما رأوا تباشير النصر ازدادوا إيمانا بأنهم المنصورون ، وأن جندهم هم الغالبون ولكن خيّل إلى الكثير منهم أن النصر سيكون بالآيات ، وخوارق العادات ، من غير التزام السنن الإلهية التي جعلها اللّه فى هذا الكون ، وبنى عليها نظم الحياة ، وأن وجود الرسول بين ظهرانيهم ، ودعاءه ربه واستغاثته إياه أشد نكالا بالعدو من اتباع السنن الظاهرة التي من أهمها التزام النظام العسكري وإطاعة القائد ، وجودة التعبئة ، وحسن الحيلة ، والتدبير فى وضع الخطط الحربية ، إلى نحو أولئك.
وفاتهم أن الدين الإسلامى دين الفطرة ، لا دين خوارق العادات ، وسلوك طريق المعجزات.
فلما قصّروا فى الأخذ بالأسباب يوم أحد ظهر عليهم عدوهم ، وجرح الرسول ، وإن كان هو لم يقصر ولم ينهزم ، ولكن البلاء إذا نزل لا يخص من كان السبب فى وجوده كما قال تعالى : « وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً » وكان من هذا درس عظيم للمؤمنين لمسوه بأيديهم وعلموا أن الرسول بشر ليس له من أمر العباد شىء ، وإنما هو معلّم وأسوة حسنة فيما يعلم ، والأمر كله للّه يدبره بمقتضى سننه فى الخلق.(4/61)
ج 4 ، ص : 62
هذا البيان الإلهى فى تلك الموقعة التي رأوا نتائجها بأعينهم - برهان ساطع أمام الملأ على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، إذ لو كان زعيما سياسيا ، ومؤسسا لبناء مملكة يريد توطيد دعائمها بفتوحه لأطراف البلاد ، لما قال مثل هذا القول فى مواطن الدفاع ، وحب النصر على الأعداء. ولا سبيل للنصر على العدو إلا بالاستعداد والحيطة ، وحسن التدبير والكياسة الحربية ، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ » ولا قوة إلا بالعلم والمال ، ولا مال إلا إذا انتشر العدل فى الأمة وبث بين أفرادها روح التعاون والشورى فى مهامّ الأمور كما قال : « وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ » .
(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال ابن جرير : أي للّه جميع ما بين أقطار السموات والأرض من مشرق الشمس إلى مغربها ، دونك ودونهم ، يحكم فيهم بما شاء ، ويقضى فيهم بما أحب ، فيتوب على من شاء من خلقه العاصين أمره ونهيه ، ثم يغفر له ، ويعاقب من شاء منهم على جرمه ، فينتقم منه ، فهو الغفور يستر ذنوب من أحب أن يستر عليه ذنوبه من خلقه ، بفضله عليهم بالعفو والصفح ، وهو الرحيم بهم فى تركه عقوبتهم عاجلا على عظيم ما يأتون من المآثم اه.
وفى هذا تأديب من اللّه لرسوله ، وإعلام له بأن الدعاء على المشركين ولعنهم مما لم يكن ينبغى منك ، إذ الأمر كله للّه ، وليس لأحد من أهل السموات والأرض شركة معه ولا رأى ولا تدبير فيهما ، وإن كان ملكا مقرّبا أو نبيا مرسلا ، إلا من سخره اللّه للقيام بشىء من ذلك ، فيكون خاضعا لذلك التسخير ، لا يستطيع الخروج فيه عن السنن العامة التي قام بها نظام الكون ونظام الاجتماع.(4/62)
ج 4 ، ص : 63
[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 136]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)
تفسير المفردات
ضعف الشيء : مثله الذي يثنيه ، فضعف الواحد واحد ، لأنه إذا أضيف إليه ثناه ، وإذا ضاعفت الشيء منحت إليه مثله مرة فأكثر ، وهذه المضاعفة إما فى الزيادة فقط التي هى الربا ، وإما بالنسبة إلى رأس المال كما هو حاصل الآن فقد يستدين الإنسان المائة بثلاثمائة ، واتقوا اللّه : أي اجعلوا لأنفسكم وقاية من عذابه ، أعدت : أي هيئت ، والمسارعة إلى المغفرة والجنة المبادرة إلى الأسباب الموصلة إليهما من الأعمال الصالحة كالإقبال على الصدقات وعمل الخيرات والتوبة عن الآثام كالربا ونحوه ، وعرضها السموات والأرض : يراد به وصفها بالسعة ، والعرب تقول دعوى عريضة أي واسعة عظيمة. والسراء : الحال التي تسر ، والضراء : الحال التي تضر ، وفسرهما ابن عباس باليسر والعسر أي السعة والضيق ، ويقال كظم القربة أي ملأها وسدّ رأسها ، وكظم الباب سده ، وكظم البعير جرّته إذا ازدردها وكف عن الاجترار ، ثم قالوا كظم الغيظ فهو كاظم ، وكظمه الغيظ والغم أخذ(4/63)
ج 4 ، ص : 64
بنفسه فهو مكظوم وكظيم قال تعالى : « ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ » وأخذ فلان بكظم فلان : إذا أخذ بمجرى نفسه ، والغيظ ألم يعرض للنفس إذا هضم حق من حقوقها المادية كالمال أو المعنوية كالشرف والعرض ، فيزعجها ذلك ويحفزها على التشفي والانتقام ، والعفو عن الناس : التجاوز عن ذنوبهم وترك مؤاخذتهم مع القدرة على ذلك ، والإحسان : هنا الإنعام والتفضل على غيرك على وجه لا مذمة فيه ولا قبح ، والفحشاء : الفعلة الشنيعة القبح التي يتعدى أثرها إلى غيرك كالزنا والغيبة ونحوهما ، وظلم النفس : هو الذنب الذي يكون مقصورا على الفاعل كشرب الخمر ونحوه ، وذكر اللّه عند الذنب يكون بتذكر وعده ووعيده ، وأمره ونهيه ، وعظمته وجلاله ، والإصرار : الشدّ من الصر ، ويراد به شرعا الاقامة على القبيح من غير استغفار ورجوع بالتوبة.
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ البطانة من اليهود وأمثالهم من المشركين بشروط ذكرها هى مثار الضرر ، ثم بين لهم أن كيدهم لا يضرهم ما اعتصموا بتقوى اللّه وطاعته وطاعة رسوله ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك بما حدث لهم حين صدقوا اللّه ورسوله من الفوز والفلاح فى وقعة بدر ، وبما حدث لهم حين عصوا اللّه وخالفوا أمر القائد وهو الرسول صلى اللّه عليه وسلم فى وقعة أحد ، وكيف حل بهم البلاء ، ونزلت بهم المصايب مما لم يكونوا ينتظرون القليل منها.
نهاهم هنا عن شر عمل من أعمال اليهود ومن اقتدى بهم من المشركين وهو الربا ، مع بيان أن الربح المتوقع منه ليس هو السبب فى السعادة ، بل السعادة إنما تكون فى تقوى اللّه وامتثال أوامره ، وفى ذلك حث على بذل المال فى سبيل اللّه كالدفاع عن الملة ، وتنفير من البخل والشح والكلب على جمع المال بكل وسيلة مستطاعة ، وشر تلك الوسائل أكل الربا أضعافا مضاعفة.(4/64)
ج 4 ، ص : 65
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) أي لا تأكلوا الربا حال كونه أضعافا مضاعفة بتأخير أجل الدّين الذي هو رأس المال ، وزيادة المال إلى ضعف ما كان كما كنتم تفعلون فى الجاهلية ، فإن الإسلام لا يبيح لكم ذلك ، لما فيه من القسوة واستغلال ضرورة المعوز وحاجته.
قال ابن جرير : لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة فى إسلامكم بعد إذ هداكم اللّه ، كما كنتم تأكلونه فى جاهليتكم. وكان أكلهم ذلك فى جاهليتهم أن الرجل منهم يكون له على الرجل مال إلى أجل ، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه ، فيقول له الذي عليه المال : أخّر دينك عنى وأزيدك على مالك ، فيفعلان ذلك ، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة ، فنهاهم اللّه عز وجل فى إسلامهم عنه اه.
وقال الرازي : كان الرجل فى الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل ، فإذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجدا لذلك المال قال الدائن زد فى المال حتى أزيد فى الأجل ، فربما جعله مائتين ، ثم إذا حل الأجل الثاني فعل مثل ذلك ثم إلى آجال كثيرة ، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها ، فهذا هو المراد من قوله تعالى :
« أَضْعافاً مُضاعَفَةً » اه.
وربا الجاهلية هو ما يسمى فى عصرنا بالربا الفاحش وهو ربح مركب ، وهذه الزيادة الفاحشة كانت بعد حلول الأجل ، ولا شىء منها فى العقد الأول ، كان يعطيه المائة بمائة وعشرة أو أكثر أو أقل ، وكأنهم كانوا يكتفون فى العقد الأول بالقليل من الربح ، فإذا حل الأجل ولم يقض الدين وهو فى قبضتهم اضطروه إلى قبول التضعيف فى مقابلة الإنساء ، وهذا هو الربا النسيئة ، قال ابن عباس : إن نص القرآن الحكيم ينصرف إلى ربا النسيئة الذي كان معروفا عندهم اه.
وعلى الجملة فالربا نوعان :
(1) ربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه فى الجاهلية ، وهو أن يؤخر دينه(4/65)
ج 4 ، ص : 66
ويزيده فى المال ، وكلما أخره زاد فى المال حتى تصير المائة آلافا مؤلفة ، وفى الغالب لا يفعل مثل ذلك إلا معدم محتاج ، فهو يبذل الزيادة ليفتدى من أسر المطالبة ، ولا يزال كذلك يعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده ، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له ، ويزيد مال المرابى من غير نفع يحصل منه لأخيه ، فيأكل مال أخيه بالباطل ، ويوقعه فى المشقة والضرر ، فمن رحمة اللّه وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرّم الربا ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهده ، وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله ، ولم يجىء مثل هذا الوعيد فى كبيرة غيره ، ولهذا كان من أكبر الكبائر.
(2) ربا الفضل كأن يبيع قطعة من الحلي كسوار بأكثر من وزنها دنانير ، أو يبيع كيلة من التمر الجيد بكيلة وحفنة من التمر الرديء مع تراضى المتبايعين ، وحاجة كل منهما إلى ما أخذه.
ومثل هذا لا يدخل فى نهى القرآن ولا فى وعيده ، ولكنه ثبت بالسنة فقد
روى ابن عمر قوله صلى اللّه عليه وسلم « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل سواء بسواء ، ولا تشفوا بعضه على بعض إنى أخشى عليكم الرّماء - الربا - » .
وهذه الآية هى أولى الآيات نزولا فى تحريم الربا ، وآيات البقرة نزلت بعد هذه ، بل هى آخر آيات الأحكام نزولا ، وقد يقول بعض المسلمين الآن : إنا نعيش فى عصر ليس فيه دول إسلامية قوية تقيم الإسلام وتستغنى عمن يخالفها فى أحكامها بل زمام العالم فى أيدى أمم مادية تقبض على الثروة ، وبقية الشعوب عيال عليها ، فمن جاراها فى طرق الكسب - والربا من أهم أركانه - أمكنه أن يعيش معها ، وإلا كان مستعبدا لها.
أفلا تقضى ضرورة كهذه على الشعوب الإسلامية التي تتعامل مع الأوربيين(4/66)
ج 4 ، ص : 67
كالشعب المصري مثلا أن تتعامل بالربا كي تحفظ ثروتها وتنميها ، وحتى لا يستنزف الأجنبى ثروتها وهى مادة حياتها ؟
وجوابا عن هذا نقول :
إن المحرمات فى الإسلام ضربان :
(1) ضرب محرم لذاته لما فيه من الضرر ، ومثل هذا لا يباح إلا لضرورة كأكل الميتة وشرب الخمر. والربا المستعمل الآن هو ربا النسيئة وهو متفق على تحريمه ، فإذا احتاج المسلم إلى الاستقراض ولم يجد من يقرضه إلا بالربا فالإثم على آخذ الربا دون معطيه ، لأن له فيه ضرورة.
(2) ضرب محرم لغيره وهو ربا الفضل لأنه ربما كان سببا فى ربا النسيئة ، وهو يباح للضرورة والحاجة أيضا.
والمسلم يعرف إن كان محتاجا إلى الربا ومضطرا إليه أم لا ، فإن كان محتاجا حل له تناوله ويكون مثله أكل الميتة وشرب الخمر ونحوهما ، وإلا لم يحل ذلك ، إذ الربا يضر بإيمان المؤمنين ، وإن كان زيادة فى مال الرابى فهو فى الحقيقة نقصان ، لأن الفقراء الذين يشاهدونه يأخذ أموالهم بهذا التعامل يلعنونه ويدعون عليه ، وبذلك يسلب اللّه الخير من يديه ، إن عاجلا أو آجلا فى نفسه وماله ، وتتوجه إليه المذمة من الناس لقساوة قلبه ، وغلظ كبده ، وقد ورد فى الأثر : إن آخذ الربا لا يقبل منه صدقة ولا جهاد ولا حج ولا صلاة.
ثم أكد النهى فقال :
(وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي واتقوا اللّه فيما نهيتم عنه من الأمور التي من جملتها الربا ، ولا تكن قلوبكم قاسية على عباده من ذوى الحاجة والبؤس ، فتحملوهم من الدين مالا تحتمله طاقتهم ، وتستغلّوا عوزهم وحاجتهم ، فتشتطوا فى الربا حتى تخربوا بيوتهم وتجعلوهم من ذوى الفاقة والمتربة - لعل ذلك يكون سبب فلا حكم فى دنياكم ، فإن الرحمة وحسن المعونة يوجدان المحبة فى القلوب ، والمحبة أساس السعادة فى الدنيا والآخرة.(4/67)
ج 4 ، ص : 68
ثم زاد النهى تأكيدا فقال :
(وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) أي وابتعدوا عن متابعة المرابين ، وتعاطى ما يتعاطون من أكل الربا الذي يفضى بكم إلى دخول النار التي أعدها اللّه للكافرين.
وفى هذا من شديد الزجر ما لا يخفى فان المؤمنين الذين خوطبوا باتقاء المعاصي إذا علموا أنهم متى فارقوا التقوى أدخلوا هذه النار كان انزعاجهم عن المعاصي أتم ، ومن ثم روى عن أبى حنيفة رحمة اللّه أنه كان يقول : إن هذه أخوف آية فى القرآن حيث أوعد اللّه المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتقوه فى اجتناب محارمه.
ثم بالغ فى النهى وشدّد فيه أيما تشديد فقال :
(وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وأطيعوا اللّه ورسوله فيما نهيا عنه من أكل الربا ، وما أمرا به من الصدقة ، كى ترحموا فى الدنيا بصلاح حال المجتمع وفى الآخرة بحسن الجزاء على أعمالكم ،
وقد ورد فى الأثر « الراحمون يرحمهم الرحمن » رواه أبو داود والترمذي.
(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي وبادروا إلى العمل لما يوصلكم إلى مغفرة ذنوبكم ويدخلكم جنة واسعة المدى أعدّها اللّه لمن اتقاه وامتثل أوامره ، وترك نواهيه ، فاعملوا الخيرات ، وتوبوا عن الآثام كالربا ونحوه ، وتصدقوا على ذوى البؤس والفاقة.
روى أن رسول هرقل ملك الروم قدم على النبي صلى اللّه عليه وسلم بكتاب هرقل وفيه : إنك كتبت تدعونى إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار! فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : سبحان اللّه فأين الليل إذا جاء النهار
[يريد أنه إذا دار الفلك حصل النهار فى جانب من العالم ، والليل فى ضد ذلك الجانب ، فكذا الجنة فى جهة العلو والنار فى جهة السفل ].
وقال أبو مسلم : إن العرض هنا ما يعرض من الثمن فى مقابلة المبيع أي ثمنها لو بيعت كثمن السموات والأرض ، والمراد بذلك عظم مقدارها وجلالة خطرها ، وأنه لا يساويها شىء وإن عظم.
(أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) أي هيئت لهم وفى الآية دليل على أن الجنة مخلوقة الآن ،(4/68)
ج 4 ، ص : 69
وأنها خارجة عن هذا العالم ، إذ أنها تدل على أن الجنة أعظم منه ، فلا يمكن أن يكون محيطا بها.
ثم وصف اللّه المتقين بجملة أوصاف كلها مناقب ومفاخر فقال :
(1) (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ) أي الذين ينفقون فى السعة والضيق ، فينفقون فى كل حال بحسبها ، ولا يتركون الإنفاق بوجه.
وأثر عن عائشة أنها تصدقت بحبة عنب ، وأثر عن بعض السلف أنه تصدق ببصلة ، و
فى الحديث « اتقوا النار ولو بشقّ تمرة ، وردوا السائل ولو بظلف محرق » .
وقد بدأ اللّه وصف المتقين بالإنفاق لأمرين :
(ا) أنه جاء فى مقابلة الربا الذي نهى عنه فى الآية السابقة ، إذ أن الصدقة إعانة للمعوز المحتاج ، وإطعام له ما لا يستحقه ، والربا استغلال الغنى حاجة ذلك المعوز لأكل أمواله بلا مقابل فهى ضده.
ومن ثم لم يرد فى القرآن ذكر الربا إلا ذم وقبّح ، ومدحت معه الزكاة والصدقة ، اقرأ قوله : « وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ ، وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ » وقوله « يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ » .
(ب) أن الانفاق فى حالى اليسر والعسر أدل على التقوى ، لأن المال عزيز على النفس ، فبذله فى طرق الخير والمنافع العامة التي ترضى اللّه يشق عليها ، أما فى السراء فلما يحدثه السرور والغنى من البطر والطغيان وشدة الطمع وبعد الأمل ، وأما فى الضراء فلأن الإنسان يرى أنه أجدر أن يأخذ لا أن يعطى ، ولكنه مع هذه الحال لا يعدم وقتا يجد فيه ما ينفقه فى سبيل اللّه ولو قليلا.
وحب الخير هو الذي يحرك فى الإنسان داعية الب
ِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها ، سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً »
.
ومن هذا ترى أن اللّه جعل من أهم علامات التقوى بذل المال ، كما أن الشح به علامة عدم التقوى ، والتقوى هى السبيل الموصل إلى الجنة.
فانظر إلى أهل الثراء الذين يقبضون أيديهم عن بذل المعونة للأفراد والجماعات ويكنزون فى صناديقهم القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، هل تغنيهم صلاتهم وصومهم شيئا مع هذا الشح البادي على وجوههم ؟ فما هى إلا حركات وأعمال ، مرنوا عليها دون أن يكون لها الأثر الناجع فى نفوسهم ، إذ الصلاة التي يقبلها اللّه ، والصوم الذي يرضاه اللّه ، هو ما ينهى عن الفحشاء والمنكر ، وأىّ منكر أشد من الضنّ بالمال حين الحاجة إليه لنفع أمة أو فرد.(4/69)
صفحة ناقصة مع بعض سابقتها
ج 4 ، ص : 69(4/70)
ج 4 ، ص : 71
ولو جاد المسلمون بأموالهم عند الحاجة إلى البذل لكان لنا شأن آخر بين أرباب الديانات الأخرى ، ولكنا من ذوى العزة والمكانة بينها.
ولكنا صرنا إلى ما ترى ، عسى اللّه أن يغير من نفوس المسلمين ، ويرشدهم إلى ما فيه صلاحهم باتباع أوامر كتابهم ، واجتناب نواهيه ، ففى ذلك السعادة لهم فى الدنيا والأخرى.
(2) (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) أي والممسكين عليه الكافّين عن إمضائه مع القدرة عليه ، ومن أجاب داعى الغيظ وتوجه بعزيمة إلى الانتقام لا يقف عند حد الاعتدال ، ولا يكتفى بالحق ، بل يتجاوزه إلى البغي ، ومن ثم كان من التقوى كظمه ، وقد أثر عن عائشة رضى اللّه عنها أن خادما لها غاظها فقالت : للّه درّ التقوى ، ما تركت لذى غيظ شفاء.
وقال عليه الصلاة والسلام « ما من جرعتين أحبّ إلى اللّه من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بصبر وحسن عزاء ، ومن جرعة غيظ كظمها »
وقال « ليس الشديد بالصّرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب » .
وخلاصة ذلك - هم الذين يكظمون غيظهم عن الإمضاء والنفاذ ، ويردونه فى أجوافهم ، وهذا كقوله فى الآية الأخرى « وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ » .
(3) (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) أي والذين يتجاوزون عن ذنوب الناس ويتركون مؤاخذتهم مع القدرة على ذلك ، وتلك منزلة من ضبط النفس وملك زمامها قلّ من يصل إليها ، وهى أرقى من كظم الغيظ ، إذ ربما كظم المرء غيظه على الحقد والضغينة.
أخرج الطبراني عن أبىّ بن كعب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « من سره أن يشرف له البنيان ، وترفع له الدرجات ، فليعف عمن ظلمه ، ويعط من حرمه ، ويصل من قطعه » .
وفى الآية إيماء إلى حسن موقع عفوه عليه الصلاة والسلام عن الرماة ، وترك مؤاخذتهم بما فعلوا من مخالفة أمره ، وإرشاد له إلى ترك ما عزم عليه من مجازاة المشركين(4/71)
ج 4 ، ص : 72
بما فعلوه بحمزة رضي اللّه عنه حتى قال حين رآه قد مثّل به : لأمثلنّ بسبعين منهم.
(4) (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي واللّه يحب الذين يتفضلون على عباده البائسين ويواسونهم ببعض ما أنعم اللّه به عليهم شكرا له على جزيل نعمائه.
أخرج البيهقي أن جارية لعلى بن الحسين رضي اللّه عنهما جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة ، فسقط الإبريق من يدها فشجه ، فرفع رأسه فقالت : إن اللّه يقول (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) فقال لها قد كظمت غيظى ، قالت (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) قال قد عفا اللّه عنك ، قالت (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال اذهبي فأنت حرة لوجه اللّه تعالى.
والإحسان إلى غيرك إما بإيصال النفع إليه ، وهو الذي عناه اللّه بقوله (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) ويدخل فيه إنفاق العلم بتعليم الجاهلين وهداية الضالين ، وإنفاق المال فى وجوه الخير والعبادات ،
قال صلى اللّه عليه وسلم « السخىّ قريب من اللّه قريب من الجنة ، قريب من الناس ، بعيد من النار ، والبخيل بعيد من اللّه ، بعيد من الجنة ، بعيد من الناس ، قريب من النار » .
وإما بدفع الضر عنه إما فى الدنيا بألا يقابل الإساءة بإساءة أخرى وهو ما عناه اللّه بقوله (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ)
قال صلى اللّه عليه وسلم « من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ اللّه قلبه أمنا وإيمانا »
وإما فى الآخرة بأن يعفو عماله عند الناس من التبعات والحقوق ، وهذا هو المراد بقوله (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) ومن ثم كانت هذه الآية جامعة لوجوه الإحسان إلى غيرك.
وقد ذكر اللّه الجزاء على الإحسان بقوله (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) إذ محبة اللّه للعبد عظم درجات الثواب.
(5) (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) أي والذين إذا فعلوا من القبيح ما يتعدى أثره إلى غيره كالغيبة ونحوها ، أو فعلوا ذنبا يكون مقصورا عليهم كشرب الخمر ونحوه - ذكروا عند ذلك وعد اللّه ووعيده ،(4/72)
ج 4 ، ص : 73
وعظمته وجلاله ، فرجعوا إليه تعالى طالبين مغفرته ، راجين رحمته ، علما منهم أنه لا يغفر الذنوب سواه ، فهو الفعال لما يشاء بمقتضى حكمته وعلمه الواسع.
(وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) جملة جاءت معترضة بين ما قبلها وما بعدها ، تصويبا لفعل التائبين ، وتطييبا لقلوبهم ، وبشارة لهم بسعة الرحمة وقرب المغفرة ، وإعلاء لقدرهم بأنهم علموا أن لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه. وأن من كرمه أن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له ، وأن العبد إذا التجأ إليه ، وتنصل عن الذنب بأقصى ما يقدر عليه عفا عنه وتجاوز عن ذنوبه وإن جلّت ، فإن عفوه أجلّ وكرمه أعظم ، كما أن فيها تحريضا للعباد على التوبة وحثا لهم عليها ، وتحذيرا من اليأس والقنوط.
(وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي ولم يقيموا على القبيح من غير استغفار ورجوع بالتوبة ، و
قد قال عليه الصلاة والسلام « لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار »
يريد صلى اللّه عليه وسلم أن الصغيرة مع الإصرار كبيرة ، وقوله : وهم يعلمون أي بقبحه والنهى عنه والوعيد عليه ، والفائدة من ذكر هذا بيان أنه إذا لم يعلم بقبحه يعذر فى فعله.
والمؤمن المتقى لا يصر على الذنب وهو يعلم نهى اللّه عنه ووعيده عليه ، إذ يعلم أن الذنب فسوق وخروج عن نظام الفطرة السليمة ، واعتداء على حقوق الشريعة.
فالآية تومىء إلى أن المتقين الذين أعد اللّه لهم الجنة لا يصرون على ذنب يرتكبونه صغيرا كان أو كبيرا ، لأن ذكرهم للّه يمنعهم أن يقيموا على الذنوب. إذ الإصرار على الصغائر يجعلها كبائر ، ورب كبيرة أصابها المؤمن بجهالة ، وبادر إلى التوبة منها فكانت مذكّرة له بضعفه البشرى ، ودليلا على أن للغضب سلطانا عليه - تكون دون صغيرة يقترفها مستهينا بها مصرّا عليها مستأنسا بها ، فتزول من نفسه هيبة الشريعة ، ويتجرأ بعد ذلك على ارتكاب الكبائر فيكون من الهالكين ،
وقد رووا حديث « ما أصر من استغفر وإن عاد فى اليوم سبعين مرة »
وقد ضعفه المحدثون ،(4/73)
ج 4 ، ص : 74
إلى أنه ليس المراد من الاستغفار الاستغفار باللسان ، وأنه كاف فى التوبة ، وأن تحريك اللسان بكلمة أستغفر اللّه مرة أو عدة مرات يرفع إثم الذنب ، بل استغفار فيه هو التوبة النصوح التي عرفت معناها فى قوله : « وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ » لا كون اللفظ كفارة للذنب.
(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي إن أولئك المتقين الذين وصفوا بما تقدم من الصفات - لهم أمن من العقاب ، ولهم ثواب عظيم عند ربهم فى جنات تجرى من تحتها الأنهار.
(وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي إن هذا الجزاء إنما هو على تلك الأعمال التي منها ما هو نافع للأمة كإنفاق المال فى وجوهه ، ومنها ما هو إصلاح لنفس العامل ، فهو أجر للعمل وجزاء عليه ، ويتفاوت الناس فى التقوى بحسب ذلك.
وخلاصة ذلك - نعم هذا الجزاء الذي ذكر من المغفرة والجنات أجرا للعاملين تلك الأعمال بدنية كانت كانفاق المال ونفسية كعدم الإضرار بغيرك على تفاوت فى ذلك.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 141]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141)
تفسير المفردات
خلت : مضت ، السنن : واحدها سنة وهى الطريقة المعتبرة والسيرة المتبعة ، من قولهم سن الماء إذا والى صبه ، شبهت به السنة لتوالى أجزائها على نهج واحد ، بيان أي إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب ، هدى أي زيادة بصيرة(4/74)
ج 4 ، ص : 75
وإرشاد إلى طريق الدين القويم ، والموعظة : ما يلين القلب ويدعو إلى التمسك بما فيه طاعة ، الوهن : الضعف فى العمل وفى الرأى وفى الأمر ، والحزن : ألم يعرض للنفس إذا فقدت ما تحب ، والقرح (بالضم والفتح) : عض السلاح ونحوه مما يجرح الجسم ، وقيل هو بالفتح الأثر وبالضم الألم ، والأيام واحدها يوم : وهو الزمن المعروف والمراد بالأيام هنا أزمنة الفوز والظفر ، نداولها : نصرّفها فنديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء كما وقع ذلك فى يومى بدر وأحد وأصل المداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر يقال تداولته الأيدى إذا انتقل من واحد إلى آخر. والشهداء واحدهم شهيد : وهو قتيل المعركة ، وقيل واحدهم شاهد ، والتمحيص التخليص من كل عيب ، ومحّص الذهب بالنار خلصه مما يشوبه ، ومحص اللّه التائبين من الذنوب طهرهم منها ، والمحق : النقصان ، ومنه المحاق لآخر الشهر ، وفى الأساس : محق الشيء محاه وذهب به.
المعنى الجملي
كان الكلام فى سابق الآيات فى قصة أحد وأهم أحداثها ، ثم ذكرهم بوقعة بدر وما كتب لهم فيها من النصر على قلة عددهم وعددهم.
وفى هذه الآيات وما بعدها يذكرهم بسنن اللّه فى خليقته ، وأن من سار على نهجها أدى به ذلك إلى السعادة ، ومن حاد عنها ضل وكانت عاقبته الشقاء والبوار ، وأن الحق لا بد أن ينتصر على الباطل مهما كانت له أول الأمر من صولة ، كما وعد اللّه بذلك على ألسنة رسله. « وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ » وقال : « وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ »
الإيضاح
(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) أي إن أمر البشر فى اجتماعهم وما يعرض فيه من مصارعة الحق للباطل ، وما يلابس ذلك من الحرب والطعان والنزال والملك(4/75)
ج 4 ، ص : 76
والسيادة يجرى على طرق قويمة وقواعد ثابتة اقتضتها الحكمة والمصلحة العامة.
وقد جاء ذكر السنن الإلهية فى مواضع من الكتاب الكريم كقوله : « قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ، وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ » وقوله : فى سياق دعوة الإسلام « وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا » .
والمراد بذلك أن مشيئة اللّه فى خلقه تسير على سنن حكيمة من سار عليها ظفر وإن كان ملحدا أو وثنيا ، ومن تنكبها خسر وإن كان صديقا أو نبيا ، وعلى هذا فلا عجب أن ينهزم المسلمون فى وقعة أحد ، وأن يصل المشركون إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فيشجوا رأسه ، ويكسروا سنه ، ويردوه فى حفرة.
والمسلمون الصادقون أولى الناس بمعرفة تلك السنن فى الأمم وأجدر الناس بأن يسيروا على هديها ، لذلك لم يلبث أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم أن ثابوا إلى رشدهم يومئذ ورجعوا إلى الدفاع عن نبيهم وثبتوا حتى انجلى المشركون عنهم ولم ينالوا ما كانوا يقصدون.
والخلاصة - إن النظر فى أحوال من تقدمكم من الصالحين والمكذبين يهديكم إلى الطريق المستقيم ، فإن أنتم سلكتم سبيل الصالحين فعاقبتكم كعاقبتهم ، وإن سلكتم سبيل المكذبين فحالكم كحالهم.
وفى الآية تذكير لمن خالف أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد وإرشاد لهم إلى أنهم بين عاملى خوف ورجاء ، فهى على أنها بشارة لهم بالنصر على عدوهم إنذار بسوء العاقبة إذا هم حادوا عن سننه ، وساروا فى طريق الضالين ممن قبلهم ، وعلى الجملة فالآية خبر وتشريع وتتضمن وعدا ووعيدا وأمرا ونهيا.
وقد جرت سنة اللّه بأن للمشاهدة فى تثبيت الحقائق ما ليس للقول وحده ،(4/76)
ج 4 ، ص : 77
إذ القول قد ينسى ويقل الاعتبار به. من قبل هذا أرشدهم إلى الاعتبار وقياس ما فى أنفسهم على ما كان لدى غيرهم من قبلهم ومن ثم قال :
(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي فسيروا فى الأرض وتأملوا فيما حل بالأمم قبلكم ليحصل لكم العلم الصحيح المبنى على المشاهدة والاختبار ، وتسترشدوا بذلك إلى أن المصارعة قد وقعت بين الحق والباطل فى الأمم السالفة ، وانتهى أمرها إلى غلبة أهل الحق لأهل الباطل ، وانتصارهم عليهم ما تمسكوا بالصبر والتقوى ، ويدخل فى ذلك اتباع ما أمر اللّه به من الاستعداد للحرب وإعداد العدة لقتال العدو كما أمر اللّه به فى قوله : « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ » .
وجرى ذلك على سنن مستقيمة وأسباب مطردة لا تغيير فيها ولا تبديل.
والسير فى الأرض والبحث عن أحوال الماضين وتعرف ما حل بهم - نعم العون على معرفة تلك السنن والاعتبار بها ، وقد نستفيد هذه الفائدة بالنظر فى كتب التاريخ التي دونها من ساروا فى الأرض ، ورأوا آثار الذين خلوا ، فتحصل لنا العظة والعبرة ، ولكنها تكون دون اعتبار الذين يسيرون فى الأرض بأنفسهم ، ويرون الآثار بأعينهم
تلك آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار
(هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي هذا الذي تقدم بيان للناس كافة وهدى وموعظة للمتقين منهم خاصة ، فالإرشاد عام للناس وحجة على المؤمن والكافر ، التقى منهم والفاجر.
وذلك يدحض ما وقع للمشركين والمنافقين من الشبهة بنحو قولهم لو كان محمد رسولا حقا لما غلب فى وقعة أحد ، فهذا الهدى والبيان يرشد إلى أن سنن اللّه حاكمة على الأنبياء والرسل كما هى حاكمة على سائر خلقه ، فما من قائد يخالفه جنده ، ويتركون حماية الثّغر الذي يؤتون من قبله ، ويخلون بين عدوهم وبين ظهورهم ،(4/77)
ج 4 ، ص : 78
والعدو مشرف عليهم ، إلا كان جيشه عرضة للانكسار إذا كر العدو عليه - قطع خط الرجعة - ولا سيما إذا كان بعد فشل وتنازع ، ومن ثم كان هذا البيان لجميع الناس ، كلّ على قدر استعداده للفهم وقبول الحجة.
وأما كونه هدى وموعظة للمتقين خاصة ، فلأنهم هم الذين يهتدون بمثل هذه الحقائق ، ويتعظون بما ينطبق عليها من الوقائع ، فيستقيمون ويسيرون على النهج السوىّ ، ويتجنبون نتائج الإهمال التي تظهر لهم مضرة عاقبتها ، فالمؤمن حقا هو الذي يهتدى بهدى الكتاب ويسترشد بمواعظه كما قال : « ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ » فالقرآن يهدينا فى مسائل الحرب والتنازع مع غيرنا إلى أن نروز أنفسنا ونعرف كنه استعدادنا لنكون على بصيرة من حقنا فنسير على سنن اللّه فى طلبه وفى حفظه.
وأن نعرف كذلك حال خصمنا ونضع الميزان بيننا وبينه. وإلا كنا غير مهتدين ولا متعظين.
(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ولا تضعفوا عن القتال وما يتبعه من التدبير بسبب ما أصابكم من الجروح والفشل فى يوم أحد. ولا تحزنوا على من فقد منكم فى هذا اليوم. وكيف يلحقكم الوهن والحزن وأنتم الأعلون. فقد مضت سنة اللّه أن يجعل العاقبة للمتقين الذين لا يحيدون عن سنته. بل ينصرون من ينصره ويقيمون العدل. فهم أجدر بذلك من الكافرين الذين يقاتلون لمحض البغي والانتقام ، أو للطمع فيما فى أيدى الناس.
فهمة الكافر على قدر ما يرمى إليه من غرض خسيس ، ولا كذلك همة المؤمن الذي يرمى إلى إقامة صرح العدل فى الدنيا والسعادة الباقية فى الآخرة - إن كنتم مؤمنين بصدق وعد اللّه بنصر من ينصره. وجعل العاقبة للمتقين المتبعين لسنته فى نظم الاجتماع ، حتى صار ذلك الايمان وصفا ثابتا لكم حاكما نفوسكم وأعمالكم.
وإنما نهى عن الحزن على ما فات ، لأن ذلك مما يفقد الإنسان شيئا من(4/78)
ج 4 ، ص : 79
عزيمته ، وبالعكس صلته بما يحب من مال أو متاع أو صديق تكسبه قوة وتوجد فى نفسه سرورا ، والمراد من النهى عن مثل ذلك معالجة النفس بالعمل ولو تكلفا وخلاصة ذلك - الأمر بأخذ الأهبة وإعداد العدّة مع العزيمة الصادقة والحزم والتوكل على اللّه حتى يظفروا بما طلبوا ويستعيضوا مما خسروا.
وقوله وأنتم الأعلون تبشير بما يكون لهم فى المستقبل من النصر ، فإن من احترق الإيمان الصحيح فؤاده ، وتمكن من سويداء قلبه يكون على يقين من العاقبة ، بعد مراعاة السنن والأسباب المطردة للظفر والفلاح.
(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) أي إن كان السلاح قد عضكم وعمل فيكم يوم أحد فقد أصاب المشركين مثل ما أصابكم فى ذلك اليوم ، فقد قتل منهم مثل من قتل منكم فلم يكونوا غالبين.
والخلاصة - إنه لا يسوغ لكم التقاعد عن الجهاد ، وليس لكم العذر فيه لأجل أن مسكم قرح ، فان أعداءكم قد مسهم مثله قبلكم وهم على باطلهم لم يفتروا فى الحرب ولم يهنوا ، فأنتم أجدر بصدق العزيمة لمعرفتكم بحسن العاقبة ، وتمسككم بالحق.
(وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) أي إن مداولة الأيام سنة من سنن اللّه فى المجتمع البشرى ، فمرة تكون الدولة للمبطل ، وأخرى للمحق ، ولكن العاقبة دائما لمن اتبع الحق.
وإنما تكون الدولة لمن عرف أسباب النجاح ورعاها حق رعايتها كالاتفاق وعدم التنازع والثبات وصحة النظر وقوة العزيمة ، وأخذ الأهبة وإعداد ما يستطاع من القوة.
فعليكم أن تقوموا بهذه الأعمال وتحكموها أتم الإحكام حتى تظفروا وتفوزوا ، ولا يكن ما أصابكم من الفشل مضعفا لعزائمكم ، فإن الدنيا دول.
فيوما لنا ويوما علينا ويوما نساء ويوما نسر(4/79)
ج 4 ، ص : 80
ومن أمثال العرب : الحرب سجال ، روى أن أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد فمكث ساعة ، ثم قال أين ابن أبى كبشة ؟ - يعنى محمدا صلى اللّه عليه وسلم وأبو كبشة زوج حليمة السعدية وهو أبوه من الرضاع - أين ابن أبى قحافة ؟ - أبو بكر - أين ابن الخطاب ؟ فقال ؟ عمر : هذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهذا أبو بكر وهأنذا عمر ، فقال أبو سفيان يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال ، فقال عمر رضي اللّه عنه :
لا سواء ، قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار ، فقال إنكم تزعمون ذلك ، فقد خبنا إذن وخسرنا.
(وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي وتلك الأيام نداولها بين الناس ، ليقوم بذلك العدل ، ويستقر النظام ، ويعلم الناظر فى السنن العامة ، والباحث فى الحكم الإلهية أنه لا محاباة فى هذه المداولة ، وليعلم اللّه الذين آمنوا منكم ، لأن الجهاد الاجتماعى الذي يدال به قوم على قوم مما يطهر النفوس ويتميز به الإيمان الصحيح من غيره.
والمراد من قوله (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ) أي وليظهر علمه بذلك للناس بظهور ما يعلم لهم ، إذ علم اللّه بالأشياء ثابت فى الأزل ، فإذا وقعت حصل تغير فى ذلك المعلوم ، فصار حالا بعد أن كان مستقبلا ، فهو كقوله : « لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ » أي ليعلم الناس ذلك ويميزوه.
الخلاصة - إن المراد من مثل هذه العبارة (لِيَعْلَمَ) - ليثبت ويتحقق صدق إيمان الذين آمنوا ، لأنه متى ثبت وتحقق كان اللّه عالما به على أنه حقيقة ثابتة ، إذ علم اللّه لا يكون إلا مطابقا للواقع ، فما لا يعلمه اللّه تعالى لا يكون له حقيقة ثابتة.
(وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) أي وليكرم ناسا منكم بالشهادة والقتل فى سبيل اللّه.
ذاك أن قوما من المسلمين فاتهم يوم بدر ، وكانوا يتمنّون لقاء العدو ، وأن يكون لهم يوم كذلك اليوم يقاتلون فيه ويلتمسون الشهادة.(4/80)
ج 4 ، ص : 81
والقرآن ملىء بتعظيم حال الشهداء ، قال تعالى : « وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ » وقال تعالى : « فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ » .
ومن ثم كان من جملة فوائد هذه المداولة حصول هذا المنصب العظيم لبعض المؤمنين.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها لبيان أن الشهداء يكونون ممن أخلصوا فى إيمانهم وأعمالهم ، ولم يظلموا أنفسهم بمخالفة أوامر اللّه ونواهيه ، والخروج عن سننه فى خلقه فقال :
(وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي إن اللّه لا يصطفى للشهادة الظالمين ما داموا على ظلمهم ، وفى ذلك بشارة للمتقين بمحبة اللّه لهم ، وإنذار للمقصرين بأنه لا يحبهم اللّه ، وتعريض لأعدائهم المشركين بأن اللّه لا يحبهم ، لأنهم ظلموا أنفسهم وسفهوها بعبادة المخلوقات ، وظلموا سواهم بالفساد فى الأرض ، والبغي على الناس وهضم حقوقهم ، ومن المعلوم أن الظلم لا تدوم له سلطة ، ولا تثبت له دولة ، بل تكون دولته سريعة الزوال ، قريبة الانحلال.
(وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ونداول الأيام ليتميز المؤمنون الصادقون من المنافقين ، وتطهر نفوس بعض ضعفاء المؤمنين من كدورتها ، فتصير تبرا خالصا لا كدورة فيه ، فإن الإنسان كثيرا ما يشتبه عليه أمر نفسه ، ولا تتجلى له حقيقتها إلا بالتجارب الكثيرة ، والامتحان بالشدائد العظيمة ، فهى التي تمحصها وتنفى خبثها وزغلها ، كما أن تمحيص الذهب يميز بهرجه من خالصه.
فالمعتقد فى دين أنه الحق قد يخيل إليه وقت الرخاء أنه يسهل عليه بذل ماله ونفسه فى سبيل اللّه ليرفع راية ذلك الدين ويدفع عنه كيد المعتدين ، فإذا جاء البأس ظهر له من نفسه غير ما كان يتصور ، انظر إلى الذين خالفوا أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد وطمعوا فى الغنيمة ، وإلى الذين انهزموا وولوا الأدبار ، كيف محصهم اللّه(4/81)
ج 4 ، ص : 82
بتلك الشدائد فعلموا أن المسلم ما خلق للهو واللعب ، ولا للكسل والتواكل ، ولا لنيل الظفر ونيل السيادة بخوارق العادات ، وتبديل سنن اللّه فى المخلوقات ، بل خلق ليكون أكثر الناس جدّا فى العمل ، وأعظمهم تفانيا فى أداء الواجب اتباعا للنواميس والسنن التي وضعها اللّه فى الخليقة.
وقد تجلى أثر هذا التمحيص فى الغزوات التي تلت هذه الوقعة ففى غزوة (حمراء الأسد) أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم ألا يتبع المشركين فيها إلا من شهد القتال بأحد فامتثل المؤمنون أمره بقلوب مطمئنة ، وعزائم صادقة ، وهم على ما هم عليه من الجراح المبرّحة ، والقلوب المنكسرة.
(وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) أي ويجعل اليأس يسطو على قلوبهم ، وفقد الرجاء يذهب بعزائمهم ، فلا يبقى لديهم شجاعة ولا بأس ، ولا قلّ ولا كثر من عزة النفس ، فيكون وجودهم كالعدم لا فائدة فيه ، ولا أثر له ، فالكافرون المبطلون لا يثبت لهم حال مع المؤمنين الصادقين ، وإنما يظهرون إذا لم يوجد من أهل الحق والعدل من ينازعهم ويقاوم باطلهم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 148]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما م
وكثيرا ما يحدث للداعى التلف والهلاك ، أو ثلم العرض ، أو الإخراج من حظيرة الدين.
(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) هذا خطاب لمن شهد من المسلمين وقعة أحد.
ذاك أن كثيرا من الصحابة وبعضهم لم يشهد بدرا - كانوا يلحّون فى الخروج إلى أحد حيث عسكر المشركون ليكون لهم يوم كيوم بدر ، ويتمنون أن يلقوا الأعداء ويصيبوا من الخير مثل ما أصاب أهل بدر.(4/82)
ج 4 ، ص : 83(4/83)
ج 4 ، ص : 84(4/84)
ج 4 ، ص : 85(4/85)
ج 4 ، ص : 86
فلما كان يوم أحد ولّى منهم من ولّى فعاتبهم اللّه على ذلك.
روى عن الحسن أنه قال : بلغني أن رجالا من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم كانوا يقولون : لئن لقينا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم لنفعلنّ ولنفعلنّ فابتلوا بذلك ، فلا واللّه ما كلّهم صدق فأنزل اللّه عز وجل (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) الآية.
ومعنى قوله فقد رأيتموه - أنكم شاهدتم أسبابه من ملاقاة الشجعان بعدّتهم وأسلحتهم وكرّهم وفرهم ، مشاهدة لا خفاء فيها ولا شبهة ، وكان لها الأثر العميق فى نفوسكم.
ومعنى تمنى الموت تمنى الشهادة فى سبيل اللّه والقتال لنصرة الحق ولو ذهبت نفوسكم دونه.
وصفوة القول - لقد كنتم تتمنون الموت قبل أن تلاقوا القوم فى الميدان ، فهأنتم أولاء قد رأيتم ما كنتم تتمنونه ، وأنتم تنظرون إليه لا تغفلون عنه ، فما بالكم دهشتم عند ما وقع الموت فيكم ، وما بالكم تحزنون وتضعفون عند لقاء ما كنتم تحبون وتتمنون ، ومن تمنى الشيء وسعى إليه لا ينبغى أن يحزنه لقاؤه ويسوءه.
وفى الآية الكريمة تنبيه لكل مؤمن إلى اتقاء الغرور بحديث النفس والتمني والتشهي ، وهديه إلى اختبار نفسه بالعمل الشق وعدم الثقة منها بما دون الجهاد والصبر على المكاره فى سبيل الحق ، حتى يأمن الدعوى الخادعة التي يتوهم فيها أنه صادق فيما يدّعى مع الغفلة أو الجهل بعجزه عنه.
وكثيرا ما يتصور بعض الناس أنه يحب ملته ووطنه ويفكر فى خدمتهما ويتمنى لو يتاح له أن يساهم فى تلك الخدمة بنفسه أو بماله ، حتى إذا احتيج إليه وجد من نفسه الضعف ، فأعرض عن العمل قبل الشروع ، أو بعد أن ذاق مرارته وكابد مشقته.
ولكن المؤمن حقا من وصل الأمر به إلى حد اليقين فيما يعتقد أنه حق ، وذلك يستدعى العمل مهما كان شاقا ، والجهاد مهما كان عسيرا ، والصبر على المكاره ، وإيثار الحق على الباطل.(4/86)
ج 4 ، ص : 87
وقد كان فيمن خوطبوا بهذه الآية جماعة ممن كانوا فى المرتبة العليا من صدق الجهاد والصبر على المكاره ، وأولئك هم المجاهدون الذين ثبتوا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ثبات الجبال الراسيات ، وهم نحو ثلاثين رجلا ، لكنه جعل الخطاب عاما ليكون الإرشاد والنصح عاما للجميع ، فيتهم ذو المراتب العالية أنفسهم بالتقصير ، فيزدادوا كمالا على كمالهم ، ويرعوى المقصرون وينزعوا عن خداع أنفسهم لهم ، وهذا من التمحيص العظيم الذي له أجمل العواقب فى تهذيب الأنفس ، وقد ظهر أثر ذلك فى نفوس أولئك القوم فيما بعد ، وربّاهم تربية كانت بها عزائمهم ماضية ، وهممهم صادقة ، فلم يهنوا ولم يضعفوا ولم يستكينوا فيما حاولوه من جسيم الأمور.
(وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ؟ ) أي إن محمدا ليس إلا بشرا قد مضت الرسل قبله فماتوا وقتل بعضهم كزكريا ويحيي ولم يكتب لأحد منهم الخلد.
أفإن مات كما مات موسى وعيسى وغيرهما من النبيين ، أو قتل كما قتل زكريا ويحيى ، تقلبوا على أعقابكم راجعين عما كنتم عليه ؟ والرسول ليس مقصودا لذاته ، بل المقصود ما أرسل به من الهداية التي يجب على الناس أن يتبعوها.
قال أنس بن النضر فى الساعة التي زاغت فيها الأبصار والبصائر ، وبلغت القلوب فيها الحناجر ، وحين فشا فى الناس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد قتل ، وقال بعض ضعفاء المؤمنين : ليت لنا رسولا إلى عبد اللّه بن أبىّ فيأخذ لنا أمانا من أبى سفيان ، وقال ناس من أهل النفاق : إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول (إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه) ثم قال [اللهم إنى أعتذر إليك مما قال هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل رضي اللّه عنه ]
وأما المؤمنون الصادقون الموقنون ، فمنهم من ثبت معه ، ومنهم من كان بعيدا(4/87)
ج 4 ، ص : 88
عنه فرجع إليه كأبى بكر وعلى وطلحة وأبى دجانة الذي جعل نفسه ترسا دونه ، فكان يقع عليه النّبل وهو لا يتحرك.
والخلاصة - إنّ قتل محمد صلى اللّه عليه وسلم لا يوجب ضعفا فى دينه لأمرين :
(ا) إن محمدا بشر كسائر الأنبياء ، وهؤلاء قد ماتوا أو قتلوا.
(ب) إن الحاجة إلى الرسول هى تبليغ الدين فإذا تم له ذلك فقد حصل الغرض ولا يلزم من قتله فساد دينه.
وفى الآية هداية وإرشاد إلى أنه لا ينبغى أن يكون استمرار الحرب أو عدم استمرارها ذا صلة بوجود القائد بحيث إذا قتل انهزم الجيش ، أو استسلم للأعداء ، بل يجب أن تكون المصالح العامة جارية على نظام ثابت لا يزلزله فقد الرؤساء وعلى هذا تجرى الحكومات والحروب فى عصرنا الحاضر.
ومن توابع هذا النظام أن تعدّ الأمة لكل أمر عدّته ، فتوجد لكل عمل رجالا كثيرين ، حتى إذا فقدت معلما أو مرشدا أو قائدا أو حكيما أو رئيسا أو زعيما وجدت الكثير ممن يقوم مقامه ، ويؤدى لها من الخدمة ما كان يؤديه وحينئذ يتنافس أفرادها ، ويحفزون عزائمهم للوصول إلى ما يمكن أن يصل إليه كسب البشر ، وينال كلّ منه بقدر استعداده وسعيه وتوفيق اللّه له.
(وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً) أي ومن يرجع عن جهاده ومكافحته الأعداء فلن يضر اللّه شيئا بما فعل ، بل يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب ، وحرمانها من الثواب ، فاللّه قد وعد بنصر من ينصره ويعزّ دينه ، ويجعل كلمته هى العليا ، وهو لا محالة منجز وعده.
ولا يحول دون ذلك ارتداد بعض الضعفاء والمنافقين على أعقابهم ، فهو سيثبّت المؤمنين ويمحّصهم حتى يكونوا كالتبر الخالص ، فيقيموا دينه ، وينشروا دعوته ، ويرفعوا شأنه ، وتنشر على الخافقين رايته ، وهو الذي بيده الخلق والأمر وهو القادر على كل شىء.(4/88)
ج 4 ، ص : 89
(وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) له نعمه عليهم بالإيمان والهداية إلى أقوم السبل.
وفى الآية إرشاد إلى أن المصايب التي تحل بالإنسان لا مدخل لها فى كونه على حق أو باطل ، فكثيرا ما يبتلى صاحب الحق بالمصائب والرزايا ، وصاحب الباطل بالنعم والعطايا.
وفيها إيماء إلى أنا لا نعتمد فى معرفة الحق والخير على وجود المعلّم بحيث نتركهما عند موته ، بل نسير على منهاجهما حين وجوده وبعد موته.
والخلاصة - إن اللّه أوجب علينا أن نستضىء بالنور الذي جاء به الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، أما ما يصيب جسمه من جرح أو ألم ، وما يعرض له من حياة أو موت ، فلا مدخل له فى صحة دعوته ، ولا فى إضعاف النور الذي جاء به ، فإنما هو بشر مثلكم خاضع لسنن اللّه كخضوعكم.
(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا) أي ليس من شأن النفوس ولا من سنة اللّه فيها أن تموت بغير إذنه تعالى ومشيئته التي بها يجرى نظام الحياة وترتبط فيها الأسباب بالمسببات.
وقوله كتابا مؤجلا : أي أثبته اللّه مقرونا بأجل معين لا يتغير ، ومؤقتا بوقت لا يتقدم ولا يتأخر ، فكثير من الناس يتعرضون لأسباب المنايا بخوض غمرات الحروب ، أو يتعرضون لعدوى الأمراض ، أو يتصدون لأفاعيل الطبيعة ، وهم مع ذلك لا يصابون بالأذى فالشجاع المقدام قد يسلم فى الحرب ، ويقتل الجبان المتخلف ويفتك المرض بالشاب القوى ، ويترك الضعيف الهزيل ، وتغتال عوامل الأجواء الكهل المستوي وتتجاوز الشيخ الضعيف ، فللأعمار آجال ، وللآجال أقدار لا تخطوها ، والأقدار هى السنن التي عليها تقوم نظم العالم وإن خفيت على بعض الناس ، وإذا كان محيانا ومماتنا بإذن اللّه فلا محل للخوف والجبن ، ولا عذر فى الوهن والضعف ، ومما ينسب إلى علىّ قوله :
أىّ يومىّ من الموت أفرّ يوم لا يقدر أم يوم قدر(4/89)
ج 4 ، ص : 90
يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر
وفى الآية تحريض على الجهاد وتشجيع على لقاء العدو ، فإنه إذا كان الأجل محتوما ومؤقتا بميقات ، وأن أحدا لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خاض المعارك واقتحم المهالك فلا محل إذا للخوف والحذر - إلى ما فيها من الإشارة إلى كلاءة اللّه وحفظه لرسوله مع غلبة العدوّ له والتفافهم عليه وإسلام قومه له نهزة للمختلس ، فلم يبق سبب من أسباب الهلاك إلا قد حصل ، ولكن لما كان اللّه حافظا وناصرا له لم يضرّه شىء ، وفيها إشارة إلى أن قومه قد قصّروا فى الذبّ عنه.
(وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها ، وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) أي ومن قصد بعمله حظ الدنيا أعطاه اللّه شيئا من ثوابها ، ومن قصد الآخرة أعطاه اللّه حظا من ثوابها.
وفى معنى الآية
الحديث : « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى » ...
وفيها تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد ، فتركوا موقعهم الذي أمرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم بلزومه ، وكأنه يقول لهم إن كنتم تريدون ثواب الدنيا فاللّه لا يمنعكم ذلك ، وما عليكم إلا أن تسلكوا سبيله ، ولكن ليس هذا هو الذي يدعوكم إليه محمد صلى اللّه عليه وسلم ، بل يدعوكم إلى خير ترون حظا منه فى الدنيا ، والمعوّل عليه ما فى الآخرة.
فأنتم بين أمرين : إما إرادة الدنيا ، وإما إرادة الآخرة ، ولكل منهما سنن تتبع ، وطرق تسلك ، وفى معنى الآية قوله تعالى : « مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ » .
ومن هدى الإسلام أن يطلب المرء بعمله خيرى الدنيا والآخرة معا ، ويقول :
(رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) واللّه يعطيه كل ما يطلب أو بعضه يحسب سنن اللّه وتدبيره لنظم الحياة.(4/90)
ج 4 ، ص : 91
وعلى الإنسان أن يعلم أن له طورين :
(1) طور عاجل قصير ، وهو طور الحياء الدنيا.
(2) طور آجل أبدىّ ، وهو طور الحياة الآخرة.
وسعادته فى كل من الطورين مرتبطة بإرادته وما توجهه إليه من العمل ، فالناس إنما يتفاضلون بالإرادات والمقاصد : فقوم يحاربون حبا فى الربح والكسب ، أو ضراوة بالفتك والقتل ، فإذا غلبوا أفسدوا فى الأرض وأهلكوا الحرث والنسل ، وقوم يحاربون دفاعا عن الحق وإقامة لقوانين العدل ، فإذا غلبوا عمروا الأرض وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، فهل يستوى الفريقان ، وهما فى المقصد مفترقان ؟
كذلك يطلب الرجل الربح والكسب أحيانا بكل وسيلة مستطاعة طلبا للذاته ، والحصول على شهواته ، فيغلو فى الطمع ، ويمعن فى الحيل ، ولا يبالى أمن الحرام أكل أم من الحلال ؟ يأكل الربا أضعافا مضاعفة ، فيجمع القناطير المقنطرة ، وهو مع ذلك يمنع الماعون ، ولا يحضّ على طعام المسكين ، ولو سئل البذل فى المصالح العامة كان أشد الناس بخلا وأقبضهم كفا ، بينا يطلب آخر الكسب طلبا للتجمل وحبا للكرامة فى قومه وعشيرته ، فيقتصد فى الطلب ، ويتحرى الربح الحلال ، ويلتزم الصدق والأمانة ، ويبتعد عن الفسوق والخيانة ، وهو مع هذا ينفق مما أفاء اللّه به عليه ، فيواسى البائسين ، ويساعد المعوزين ، وتكون له اليد الطّولى فى الأعمال النافعة لأمته ، فيشيد لها المدارس والمعابد ، والملاجئ والمستشفيات ، فهل ينظر الناس إلى هذين نظرة متساوية ، وهل هما فى القرب عند اللّه بمنزلة واحدة ، أو يفضل أحدهما الآخر بحسن القصد والإرادة والميل إلى الخير وحب المصلحة العامة.
وقصارى القول - إن أقدار الرجال تتفاوت وتختلف باختلاف إرادتهم ، فبينما تتسع دائرة وجود الشخص بحسب كبر إرادته وسعة مقصده ، فتحيط بالكرة الأرضية ، بل فوق ذلك بما يكون له من الكرامة فى العالم العلوي - إذا(4/91)
ج 4 ، ص : 92
بآخر تضيق دائرة وجوده إذا هو أخلد إلى الشهوات ، وركن إلى اللذات ، فيكون حظه من عمله كحظ الحشرات ، يأكل ويشرب ويبغى على الضعيف ويخاف من القوى.
واللّه قد جعل عطاءه للناس معلقا على إرادتهم ، ولا يقدر مثل هذا إلا القليل منهم.
(وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) الذين يعرفون أنعم اللّه عليهم ويستعملونها فيما يرقى بهم إلى مراقى الكمال ، فيعملون صالح الأعمال التي ترفع نفوسهم ، وتنفع أمتهم كأنس ابن النضر وأمثاله الذين جاهدوا وصبروا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم بما كان لهم من الإرادة القوية التي كانت السبب فى انجلاء المشركين عن المسلمين.
وبعد أن ضرب اللّه تعالى لهم المثل فى أنفسهم بأنهم كانوا قبل الموقعة يتحرقون شوقا إلى لقاء العدو ، ثم أصابهم ما أصابهم عند لقائه - ضرب لهم المثل بغيرهم من أتباع الأنبياء السالفين وربييهم الذين لم يلحقهم وهن ولا ضعف بعد قتل أنبيائهم ، بل صبروا واحتملوا الإيذاء حتى تغلب الحق على الباطل.
وفى هذا من شديد التوبيخ لأولئك المنهزمين الذين لم يستنوا بسنة الربانيين المجاهدين مع الرسل صلوات اللّه عليهم ، مع أنهم أحدر بذلك منهم إذ كانوا خير أمة أخرجت للناس فقال :
(وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) أي إن كثيرا من النبيين الذين خلوا قد قاتل معهم كثير ممن آمن بهم ، واعتقد أنهم هداة ومعلّمون ، لا أرباب معبودون ، فما وهنوا لما أصاب بعضهم من جرح أو قتل حتى ولو كان المقتول هو نبيهم نفسه ، لأنهم يقاتلون فى سبيل اللّه لا فى سبيل نبيهم ، علما منهم بأن النبي ما هو إلا مبلّغ عن ربه وهاد لأمته « وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ » وما ضعفوا عن جهاد عدوهم ، ولا استكانوا ولا خضعوا له ، ولا ولّوا الأدبار ، بل ثبتوا بعد قتل نبيهم كما ثبتوا معه فى حال الحياة ، إذ هم على يقين من ربهم فى أن الجهاد(4/92)
ج 4 ، ص : 93
فى السبيل التي يرضاها من تقرير العدل فى الأرض وحماية الحق وما يتبع ذلك ويلزمه.
والخلاصة - عليكم أن تعتبروا بحال أولئك الربيين وتصبروا كما صبروا ، فإن دين اللّه واحد ، وسنته فى خلقه واحدة ، ومن ثم طلب إليكم أن تعرفوا عاقبة من سبقكم من الأمم ، وتقتدوا بعمل الصادقين الصابرين منهم ، وتقولوا مثل قول أولئك الربّيين.
وبعد أن بين سبحانه مفاخر أفعالهم أردفها بمحاسن أقوالهم فقال :
(وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي إن هؤلاء الربيين لم يكن لهم من قول عند اشتداد الخطوب ونزول الكوارث إلا الدعاء لربهم بأن يغفر لهم بجهادهم ما كانوا ألمّوا به من الذنوب ، وتجاوزوا فيه حدود الشرائع ، وأن يثبّت أقدامهم على الصراط القويم الذي هداهم إليه ، حتى لا تزحزحهم الفتن ولا يعروهم الفشل والوهن حين مقابلة الأعداء ، وأن ينصرهم على القوم الكافرين الذين يجحدون الآيات ، ويعتدون على أهل الحق ، فلا يمكنونهم من إقامة ميزان القسط ، فما النصر إلا من عند اللّه يؤتيه من يشاء بمقتضى السنن التي هدى إليها خلقه ، وألهمها عباده.
وفى هذا إيماء إلى أن الذنوب والإسراف فى الأمور من عوامل الخذلان ، والطاعة والثبات والاستقامة من أسباب النصر والفلاح ، ومن ثم سألوا ربهم أن يمحو من نفوسهم أثر الذنوب وأن يوفقهم إلى دوام الثبات حين تزلّ الأقدام. وقد قدموا طلب المغفرة من الذنوب على طلب النصر ليكون الدعاء فى حيز القبول ، فإن الدعاء المقرون بالخضوع والطاعة الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة.
وفى طلبهم النصر من اللّه مع كثرة عددهم التي دل عليها قوله : (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) إعلام بأنهم لا يعوّلون على كثرة العدد بل يطلبون العون والمدد الروحاني من اللّه بثبات الأقدام والتمسك بأهداب الحق.(4/93)
ج 4 ، ص : 94
كما أن فى ذكر قولهم هذا دون ذكر ما فيه جزع وخور - تعريضا بأولئك المنهزمين من المسلمين يوم أحد.
(فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا) بالنصر على الأعداء ، والظفر بالغنيمة ، والسيادة فى الأرض ، والكرامة والعزة وحسن الأحدوثة والذكر الحسن ، وقد سمى ذلك ثوابا لأنه جزاء على الطاعة ، وامتثال أوامر اللّه.
(وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) بنيل رضوان اللّه ورحمته ، والقرب منه فى دار الكرامة ، وقد فسّر بقوله تعالى : « فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ » وقوله فى الخبر « فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر » وما حصلوا على ذلك إلا بما قدموا من صالح العمل الذي كان له أحسن الأثر فى نفوسهم فارتقت به إلى حظيرة القدس ، وتخصيص الحسن بهذا الثواب إيذان بفضله ، وأنه المعتدّ به عند اللّه ، وأنه ثواب لا يشوبه أذى ، فهو ليس كثواب الدنيا عرضة للأذى والمنغّصات.
وإنما جمع لهم بين الثوابين ، لأنهم أرادوا بعملهم هاتين السعادتين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة ، كما هو شأن المؤمن « وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً » .
وهذه الآية وأشباهها حجة على الغالين فى الزهد الذين يتحرجون عن الاستمتاع بشىء من لذات الدنيا ، ويعدون ذلك منافيا للتقوى ، ومبعدا عن رضوان اللّه.
(وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) لأنهم هم الذين يقيمون سننه فى أرضه ، ويظهرون بأنفسهم وأعمالهم أنهم جديرون بخلافة اللّه فيها ، ولا تكون أعمالهم إلا بما يرضى اللّه ، فهى من اللّه وللّه.
وقد جاء فى الآية الترتيب هكذا - التوفيق على الطاعة ، ثم الثواب عليها ، ثم المدح على ذلك ، إذ سماهم محسنين ، ليكون فى ذلك توجيه للعبد ليعلم أن كل ذلك بعنايته تعالى وفضله.(4/94)
ج 4 ، ص : 95
[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 151]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
تفسير المفردات
المراد بالذين كفروا : أبو سفيان لأنه كان شجرة الفتن. وقال آخرون المراد عبد اللّه ابن أبىّ وأتباعه من المنافقين الذين ألقوا الشبهات فى قلوب الضعفة من المؤمنين ، وقالوا لو كان محمد رسول اللّه ما وقعت هذه الواقعة ، وإنما هو رجل كسائر الناس يوم له ويوم عليه ، فارجعوا إلى دينكم الذي كنتم عليه ، يردوكم على أعقابكم : أي يرجعوكم إلى الكفر بعد الإيمان ، خاسرين : أي لاستبدالكم ذلة الكفر بعزة الإسلام ، والانقياد للأعداء الذي هو أشق شىء على النفوس ، ولحرمانكم من الثواب والوقوع فى العذاب ، والمولى : الناصر والمعين ، والرعب : شدة الخوف التي تملأ القلب ، والسلطان :
الحجة والبرهان وأصله القوة وسمى البرهان سلطانا لقوته على دفع الباطل ، والمثوى :
المكان الذي يكون مقر الإنسان ومأواه من قولهم ؟ ثوى يثوى ثويا إذا أقام.
المعنى الجملي
بعد أن رغب اللّه المؤمنين فى الاقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان مالهم من الفضل وعظيم الأثر وحسن العاقبة.
نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوء مغبتها فى دينهم ودنياهم ، والخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين - ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم ، فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقون بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم اللّه عن الالتفات إلى كلامهم.(4/95)
ج 4 ، ص : 96
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي إن تطيعوا الذين جحدوا نبوة نبيكم محمد صلى اللّه عليه وسلم فتقبلوا رأيهم وتنتصحوهم فيما يزعمون أنهم لكم فيه ناصحون - يحملوكم على الردة بعد الإيمان والكفر باللّه وآياته ، ويرجعوكم عن إيمانكم ودينكم الذي هداكم اللّه له خاسرين للدنيا والآخرة ، أما خسران الأولى فبخضوعكم لسلطانهم وذلتكم بينهم وحرمانكم من السعادة والملك والتمكين فى الأرض كما وعد اللّه المؤمنين الصادقين « وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً » .
وأما خسران الثانية فيما يصيبكم من العذاب الأبدى فى النار وبئس القرار.
(بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) أي لا تفكروا فى ولاية أبى سفيان وشيعته ، ولا عبد اللّه بن أبىّ وحزبه ، ولا تأبهوا لإغوائهم فإنهم لا يستطيعون لكم نصرا ، وإنما اللّه هو الذي ينصركم بعنايته التي وعدكم بها فى قوله :
« فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ » فقد جرت سنته أن يتولى الصالحين ويخذل الكافرين كما قال : « أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها ، ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ » .
(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي إنه سبحانه سيحكّم فى أعدائكم الكافرين سننه ويلقى فى قلوبهم الرعب بسبب إشراكهم باللّه أصناما ومعبودات لم يقم برهان من عقل ولا نقل على ما زعموا من(4/96)
ج 4 ، ص : 97
ألوهيتها ، وكونها واسطة بين اللّه وخلقه ، وإنما قلدوا فى ذلك آباءهم الذين ضلوا من قبل ، ومن ثم كانوا عرضة لاضطراب القلب ، واتباع خطوات الوهم ، فهم يعدّون الوساوس أسبابا ، والهواجس مؤثرات وعللا ، ويرجون الخير مما لا يرجى منه الخير ، ويخافون مما لا يخاف منه الضّير.
وفى الآية إيماء إلى بطلان الشرك ، وسوء أثره فى النفوس ، إذ طبيعته تورث القلوب الرعب ، باعتقاد أن لبعض المخلوقات تأثيرا غيبيا وراء السنن الإلهية ، والأسباب العادية ، فالمشركون الذين جاهدوا الحق ، وآثروا مقارعة الداعي ومن استجاب له بالسيف ، بغيا وعدوانا - يرتابون فيما هم فيه ويتزلزلون إذا شاهدوا الذين دعوهم ثابتين مطمئنين ، ولا يزال ارتيابهم يزيد حتى تمتلىء قلوبهم رعبا.
والخلاصة - إن طبيعة المشركين إذا قاوموكم أيها المؤمنون ، أن تكون نفوسهم مضطربة ، وقلوبهم ممتلئة رعبا وهلعا منكم فلا تخافوهم ، ولا تبالوا بقول من يدعوكم إلى موالاتهم والالتجاء إليهم.
وبعد أن بين أحوال هؤلاء المشركين فى الدنيا من وقوع الخوف والهلع فى قلوبهم - ذكر أحوالهم فى الآخرة فقال :
(وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) أي إن مسكنهم النار بسبب ظلمهم لأنفسهم بالكفر والجحود ومعاندة الحق ومقاومة أهله ، وظلمهم للناس بسوء المعاملة وفى التعبير بالمثوى المنبئ عن المكث الطويل دليل على الخلود فيها.(4/97)
ج 4 ، ص : 98
[سورة آل عمران (3) : الآيات 152 الى 155]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِن
ركم ، يقال جئت فى آخر الناس ، وفى أخراهم ، وفى أخرياتهم ، فأثابكم : أي جازاكم ، الغم : ألم أو ضيق فى الصدر يكون من الأمر الذي يسوء الإنسان ولا يدرى المخرج منه ، والأمنة : الأمن وهو ضد الخوف ، يغشى : يغطى ويستر ، يقال غشيه النعاس أو النوم أي غطاه كما يلقى الستر على الشيء : لبرز : أي لخرج لسبب من الأسباب ، إلى مضاجعهم : أي مصارعهم التي قدر قتلهم فيها ، وذات الصدور السرائر ، والجمعان جمع المؤمنين وجمع المشركين ، استزلهم أي أوقعهم فى الزلل والخطيئة ، ببعض ما كسبوا : أي بسبب بعض الذنوب التي اقترفوها ، فمنعوا من التأييد الإلهى.
المعنى الجملي
روى ابن جرير عن السّدى قال : لما برز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل فى وجوه خيل المشركين وقال لهم :
لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم ، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم ، وأمّر عليهم عبد اللّه بن جبير ، ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد ، إنكم تزعمون أن اللّه يعجلنا بسيوفكم إلى النار ، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة ، فهل منكم أحد يعجله اللّه بسيفى إلى الجنة ، أو يعجلنى بسيفه إلى النار ؟ فقام إليه على بن أبى طالب فقال : والذي نفسى بيده لا أفارقك حتى يعجلك اللّه بسيفى إلى النار ، أو يعجلنى بسيفك إلى الجنة ، فضربه علىّ فقطع رجله فسقط فانكشفت عورته فقال : أنشدك اللّه والرحم يا ابن عم فتركه ، فكبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال أصحاب علىّ له : ما منعك أن تجهز عليه ؟ قال إن ابن عمى ناشدنى حين انكشفت عورته فاستحييت منه ، ثم شد الزبير بن العوام والمقداد(4/98)
ج 4 ، ص : 99(4/99)
ج 4 ، ص : 100
ابن الأسود على المشركين فهزماهم ، وحمل النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فهزموا أبا سفيان ، فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع.
ثم لما نظر الرماة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فى جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة ، فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر.
فلما رأى خالد قلة الرماة صاح فى خيله ، ثم حمل على أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا ، فشدوا على المسلمين فهزموهم وقتلوا منهم نحو سبعين.
ونستخلص من هذه الرواية أمرين :
(1) أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم ، وأنه قال لهم لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم.
(2) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم ، أما الذين بلغ الإيمان قرارة نفوسهم فقد ثبتوا.
و
روى الواحدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد - قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا ، وقد وعدنا اللّه تعالى النصر ؟ فأنزل اللّه (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ) الآية.
الإيضاح
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) أي ولقد وفى لكم ربكم بوعده الذي وعدكم على لسان رسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم من النصر على العدو حين تقتلونه قتلا ذريعا بتيسير اللّه ومعونته ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعدهم النصر يومئذ إن انتهوا إلى أمره.(4/100)
ج 4 ، ص : 101
(حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) أي صدقكم اللّه وعده حتى ضعفتم فى الرأى والعمل ، فلم تقووا على حبس أنفسكم عن الغنيمة ، وتنازعتم ، فقال بعضكم : ما بقاؤنا هنا وقد انهزم المشركون ؟ وقال آخرون : لا نخالف أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وعصيتم رسولكم وقائدكم بترك أكثر الرماة للمكان الذي أقامهم فيه يحمون ظهور المقاتلة بنصح المشركين بالنبل ، من بعد ما أراكم ما تحبون من النصر والظفر ، فصبرتم على الضراء ولم تصبروا على السراء.
وصفوة القول - إن اللّه نصركم على عدوكم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع وعصيان أمر قائدكم صلى اللّه عليه وسلم ، فانتهى النصر ، لأن اللّه تعالى إنما وعدكم النصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة.
وفى قوله : من بعد ما أراكم ما تحبون - تنبيه إلى عظم المعصية ، لأنه كان من حقهم حين رأوا إكرام اللّه لهم بإنجاز الوعد أن يمتنعوا عن عصيانه ، فلما أقدموا عليه لا جرم سلبهم اللّه ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم.
(مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) وهم الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الشّعب من أحد وذهبوا وراء الغنيمة.
(وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهم الذين ثبتوا من الرماة مع قائدهم عبد اللّه بن جبير وهم نحو عشرة وكان الرماة قبلا نحو خمسين ، والذين ثبتوا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم وهم ثلاثون رجلا.
(ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي ثم كفكم عنهم حتى تحولت الحال من النصرة إلى ضدها ، ليعاملكم معاملة من يمتحن ، ليستبين أمركم وثباتكم على الإيمان.
والخلاصة - إن اللّه صدقكم وعده ، فكنتم تقتلونهم بإذنه ومعونته قتل حسّ واستئصال ، ثم صرفكم عنهم بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم ، وحال بينكم وبين تمام النصر ليمتحنكم بذلك : أي ليكون ذلك ابتلاء واختبارا لكم يمحصكم به ، ويميز الصادقين من المنافقين.(4/101)
ج 4 ، ص : 102
(وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) بذلك التمحيص الذي محا أثر الذنب من نفوسكم حتى صرتم كأنكم لم تفشلوا ، وقد استبان أثر هذا العفو فيما بعد ، كما حدث فى وقعة (حمراء الأسد).
(وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي واللّه ذو فضل وطول على أهل الإيمان به وبرسوله ، فيعفو عن كثير مما يستوجبون به العقوبة من الذنوب ، ولا يذرهم على ما هم عليه من تقصير يهبط بنفوس بعض ، وضعف يلمّ بآخرين ، بل يمحص ما فى صدورهم حتى يكونوا من المخلصين الطائعين المخبتين.
(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) أي صرفكم عنهم حين أصعدتم أو ذهبتم منهزمين ، لا تلتفتون من شدة الدهشة التي عرتكم ، والذّعر الذي فجأكم.
وبينا أنتم فى هذه الحال إذا بالرسول يدعوكم من ورائكم وينادى ، هلمّ إلىّ عباد اللّه ، إلىّ عباد اللّه ، أنا رسول اللّه ، من يكر فله الجنة ، وأنتم لا تسمعون ولا تنظرون ، وقد كان لكم أسوة بالرسول ، فتقتدون به فى الصبر والثبات.
(فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) قال فى الأساس : إنه لفى غمّة من أمره : إذا لم يهتد للخروج منه ، ومنه قوله تعالى : « لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً » والغم الأول ما حصل للصحابة رضوان اللّه عليهم بالهزيمة والقتل ، والغم الثاني للرسول صلى اللّه عليه وسلم بمخالفة أمره ، أي إنكم لما أذقتم الرسول غما بسبب عصيانكم أمره ، أذاقكم اللّه غم الانهزام وقتل الأحباب.
والخلاصة - إنه أذاقكم هذا عوض هذا.
وقد يكون المعنى - جازاكم غما متصلا بغم من الإرجاف بقتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد الجرح والقتل وظفر المشركين بكم حتى صرتم من شدة الدهش يضرب بعضكم بعضا ، وقد فاتتكم الغنيمة التي طمعتم فيها.
(لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) أي لأجل أن تمرنوا على تجرّع الغموم ،(4/102)
ج 4 ، ص : 103
وتتعودوا احتمال الشدائد ، فلا تحزنوا فيما بعد على ما يفوت من المنافع والمغانم.
(وَلا ما أَصابَكُمْ) أي ولا تحزنوا على ما أصابكم من المضارّ ، إذ التربية إنما تكون بالعمل والمران الذي يكمل به الإيمان وتثبت الفضائل.
(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فهو عالم بجميع أعمالكم ومقاصدكم ، والدواعي التي حفزتكم عليها ، وقادر على مجازاتكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
وفى هذا ترغيب فى الطاعة ، وزجر عن الإقدام على المعصية.
(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) أي ثم وهبكم من بعد الغم الذي اعتراكم أمنا أزال عنكم الخوف الذي كان بكم ، حتى نعستم وغلبكم النوم ، لتستردوا ما فقدتم من القوة بما أصابكم من القرح وما عرض لكم من الضعف.
والنوم نعمة كبرى لمن يصاب بمثل تلك المصايب ، وعناية من اللّه يخص بها بعض عباده فى مثل تلك المحن ليخفف وقعها على النفوس.
وعن أبى طلحة رضي اللّه عنه غشينا النعاس ونحن فى مصافنا ، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ، ثم يسقط فيأخذه ، وما من أحد إلا يميل تحت حجفته (ترسه).
وعن الزبير رضي اللّه عنه ، لقد رأيتنى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين اشتد علينا الخوف ، فأرسل اللّه علينا النوم ، واللّه إنى لأسمع معتّب بن قشير والنعاس يغشانى ، ما أسمعه إلا كالحلم يقول : لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا هاهنا.
(يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) قال ابن عباس هم المهاجرون وعامة الأنصار الذين كانوا على بصيرة فى إيمانهم.
(وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) يقال همنى الشيء أي كان من همى وقصدى أي وجماعة من المنافقين كعبد اللّه بن أبىّ ومعتب بن قشير ومن لف لفهم ، قد شغلوا بأنفسهم عن الرسول والدفاع عن الدين.
وخلاصة هذا - إن المؤمنين بعد انتهاء الموقعة صاروا فريقين :(4/103)
ج 4 ، ص : 104
(1) فريق ذكروا ما أصابهم فعرفوا أنه كان بتقصير من بعضهم ، وذكروا وعد اللّه بنصرهم فاستغفروا لذنوبهم ، ووثقوا بوعد ربهم ، وأيقنوا أنهم إن غلبوا هذه المرة بسبب ما أصابهم من الفشل والتنازع وعصيان الرسول ، فإن اللّه سينصرهم بعد ، فأنزل اللّه عليهم النعاس أمنة حتى يستردوا ما فقدوا من قوة ، ويذهب عنهم ما عرض لهم من ضعف.
(2) فريق أذهلهم الخوف حتى صاروا مشغولين عن كل ما سواهم ، إذ الوثوق بوعد اللّه ووعد رسوله لم يصل إلى قرارة نفوسهم ، لأنهم كانوا مكذبين بالرسول فى قلوبهم ، لا جرم عظم الخوف لديهم ، وحق عليهم ما وصفهم اللّه به من قوله :
(يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) غير الحق أي غير الظن الحق الذي يجب أن يظنوه ، إذ كانوا يقولون فى أنفسهم لو كان محمد نبيا حقا ما سلط اللّه عليه الكفار ، وهذا مقال لا يقوله إلا أهل الشرك باللّه.
(يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ؟ ) أي يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار :
هل لنا من النصر والفتح والظفر نصيب ؟ يعنون أنه ليس لهم من ذلك شىء ، لأن اللّه سبحانه وتعالى لا ينصر محمدا صلى اللّه عليه وسلم ، فهم قد فهموا أن النصر وحقية الدين متلازمان ، فما حدث فى ذلك اليوم دليل على أن هذا الدين ليس بحق ، وهذا خطأ كبير ، فإن نصر اللّه رسله لا يمنع أن تكون الحرب سجالا ولكن العاقبة للمتقين.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها.
(قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) أي إن كل أمر يجرى فهو بحسب سننه تعالى فى الخليقة ، ووفق النظم التي وضعها ، وربط فيها الأسباب بالمسببات.
ومن ذلك نصر من ينصره من المؤمنين كما وعد بذلك فى قوله : « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » وقوله : َ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ »
.
(يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) أي يضمرون فى أنفسهم ما لا يستطيعون(4/104)
ج 4 ، ص : 105
إعلانه لك ، فهم يظهرون أنهم يسألون مسترشدين طالبين النصر بقولهم (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ) ويبطنون الإنكار والتكذيب.
(يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) أي يقولون لو كان أمر النصر والظفر بأيدينا كما ادعى محمد أن الأمر كله للّه ولأوليائه ، وأنهم الغالبون لما غلبنا ، ولما قتل من المسلمين من قتل فى هذه المعركة.
وهذا منهم تقرير لرأيهم واستدلال عليه بما وقع لهم ، وقد غفلوا عن أن الآجال محدودة ، والأعمار موقوتة بوقت لا تعدوه ، ومن ثم أمر اللّه نبيه أن يجيبهم بقوله :
(قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) أي لو كنتم فى بيوتكم ولم تخرجوا للقتال - لخرج من بينكم من انتهت آجالهم وثبت فى علم اللّه أنهم يقتلون إلى حيث يقتلون ويسقطون فى البراز (الأرض المستوية) فتكون مصارع ومضاجع لهم.
والخلاصة - إن الحذر لا يدفع القدر ، والتدبير لا يقاوم التقدير فالذين قدر عليهم القتل لا بد أن يقتلوا على كل حال ، وإلا انقلب علم اللّه جهلا ، فقتل من قتل إنما جاء لانتهاء آجالهم كما قدر ذلك فى اللوح المحفوظ ، وكتب مع ذلك أنهم هم الغالبون ، وأن العاقبة لهم ، وأن دين الإسلام سيظهر على الدين كله.
(وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي وقد فعل ذلك ليكون القتل عاقبة من انتهت آجالهم ، وليمتحن ما فى صدور المؤمنين من الإخلاص وعدمه ، فيظهر ما انطوت عليه من ضعف وقوة ، ويمحص ما فى قلوبهم من وساوس الشيطان ، ويطهرها حتى تصل إلى الغاية القصوى من الإيقان.
وقد قيل : لا تكرهوا الفتن ، فإنها حصاد المنافقين.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي عليم بالأسرار والضمائر ، لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء.
وفى هذا ترغيب وترهيب ، وتنبيه إلى أن اللّه غنى عن الابتلاء والامتحان ،(4/105)
ج 4 ، ص : 106
وإنما يظهر ذلك على هذه الصورة لحكم يعلمها كمران المؤمنين على الصبر وتحمل المشاق وإظهار حال المنافقين ، لأن الحقائق قد تخفى على أربابها ، فينخدعون للشعور العارض بدون تمحيص ولا ابتلاء ، كما انخدع الذين تمنوا الموت من قبل أن يلقوه كما تقدم.
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) أي إن الرماة الذين أمرهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم أن يثبتوا فى أماكنهم ليدفعوا المشركين عن ظهور المؤمنين ، ما تركوا هذه المواقع إلا بإيقاع الشيطان لهم فى الزلل واستجراره لهم بالوسوسة ، فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخّص فيها الإنسان سهلت استيلاء الشيطان على نفسه ، فهم قد انحرفوا عن أماكنهم بتأوّل ، إذ ظنوا أنه ليس للمشركين رجعة من هزيمتهم ، فلا يترتب على ذهابهم وراء الغنائم فوات منفعة ولا وقوع فى ضرر ، ولكن هذا التأويل كان سببا فى كل ما جرى من المصايب التي من أجلها ما أصاب الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، والذنب يجر إلى الذنب ، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة ، وعلى هذا فالزلل الذي أوقعهم فيه الشيطان هو ما كان من الهزيمة والفشل بعد توليهم عن مكانهم طمعا فى الغنيمة ، وهذا التولي هو بعض ما كسبوا.
وفى هذا إيماء إلى سنة من سنن اللّه فى أخلاق البشر وأعمالهم ، وهى أن المصايب التي تعرض لهم فى خاصة أنفسهم أو فى شئونهم العامة ، إنما هى آثار طبيعية لبعض أعمالهم ، ولكن اللّه قد يعفو عن بعض الأعمال التي لا أثر لها فى النفس وليست ملكة ولا عادة لها ، بل صدرت هفوة غير متكررة ، وهى التي عناها سبحانه بقوله :
« وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ » وإليها الإشارة بقوله : « وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ » .
فهذه المصايب والعقوبات ، سواء أ كانت فى الدنيا أم فى الآخرة - آثار طبيعية للأعمال السيئة.(4/106)
ج 4 ، ص : 107
(وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) أي إنّ ما صدر منهم من الذنوب فى هذا اليوم يستحق أن يعاقبوا عليه فى الدنيا والآخرة ، لكن اللّه عفا عن عقوبتهم الأخروية ، وجعل عقوبتهم فى الدنيا تربية وتمحيصا.
وفى هذا دفع لاستيلاء اليأس على نفوسهم ، وتحسين لظنونهم.
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي إن اللّه يغفر الذنوب جميعا صغيرها وكبيرها بعد التوبة والاعتذار ، حليم لا يعاجل بالعقوبة على الذنب.
وقد جاءت هذه الجملة كالسبب للعفو عن هؤلاء المتولين وقد كانوا أكثر المقاتلين ، فإنه لم يبق مع النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد إلا ثلاثة عشر رجلا ، خمسة من المهاجرين وباقيهم من الأنصار ، وقد بالغ بعض المنهزمين فى الفرار حتى إن بعضهم لم يرجعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا بعد ثلاثة أيام ، فقال لهم لقد ذهبتم بها عريضة ، وبعضهم رجع فى ذلك اليوم واجتمعوا على الجبل كعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 156 الى 158]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
تفسير المفردات
المراد بالذين كفروا هنا : المنافقون كعبد اللّه بن أبىّ وأصحابه ، ضربوا فى الأرض :
أي سافروا فيها للتجارة والكسب ، لإخوانهم : أي فى شأنهم ، والأخوة تشمل أخوة النسب وأخوة الدين والمودة ، وغزّى : واحدهم غاز وهو المقاتل فى الحرب.(4/107)
ج 4 ، ص : 108
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا - حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) أي لا تكونوا أيها المؤمنون كأولئك المنافقين الذين قالوا فى شأن إخوانهم حين سافروا فى الأرض للتجارة والكسب فماتوا ، أو كانوا غزاة فى وطنهم أو فى بلاد أخرى فقتلوا : لو كانوا مقيمين عندنا ما ماتوا وما قتلوا.
وعبر عن هؤلاء المنافقين بالكافرين ، لبيان أن مثل هذا لا ينبغى أن يصدر من المؤمنين ، بل إنما يصدر من الكافرين ، إذ أن من مات أو قتل فقد انتهى أمره ، فقولهم (لو كان كذا) عبث لأن ما وقع لا يرتفع ، والحسرة عليه لا تفيد ، ومن شأن المؤمنين أن يكونوا صحيحى العقل والإدراك.
إلى أن فى هذا القول جهلا بالدين وجحدا له فإن اللّه يقول : « وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا » .
وعقيدة القضاء والقدر لا تجعل المسلم مجبورا على أفعاله التي تصدر منه ، فإن القضاء تعلق العلم الإلهى بالشيء ، والعلم انكشاف لا يفيد الإلزام ، والقدر وقوع الشيء بحسب العلم ، والعلم لا يكون إلا مطابقا للواقع وإلا كان جهلا.
واللّه تعالى قد جعل للإنسان اختيارا فى أعماله ، لكنه خلقه مع ذلك ناقص القدرة والإرادة والعلم ، فقد يعزم على العمل ثم تنفسخ عزيمته لتغير علمه بالمصلحة(4/108)
ج 4 ، ص : 109
أو لعجزه عن تنفيذ ما عزم عليه ، مع اعتقاده بأنه هو الموافق للمصلحة لمرض يلمّ به ، أو مانع يحول بينه وبين تنفيذ ما عزم عليه.
وإنا لنرى هذا يحدث كل يوم ، فليس الإنسان بقادر على أن يفعل كل ما يشاء كما يخيل إلى الناس اغترارا بما ينفذونه من عزائمهم ، فاختياره فى أعماله وقدرته عليها ومعرفته الأسباب ، كل ذلك له حدود لا يتعداها ، فهو لا يحيط علما بأسباب الموت ، ولا يقدر على اجتناب كل ما يعلم من أسبابه ، وما كل ما يتعرض له يقع ، فالذين يعرّضون أنفسهم لنار الحرب قد يسلم أكثرهم ويقتل أقلهم.
ومن هذا تعلم أن الشيء متى وقع علم أن وقوعه لم يكن منه بد ، وأن الإنسان إذا كان يؤمن بمعونة اللّه وتأييده ، وأنه يوفقه إلى علم ما يجهل من أسباب سعادته ، يكون مع أخذه بالأسباب أنشط فى العمل ، وأبعد عن اليأس والكسل.
(لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا فيمن ماتوا أو قتلوا ما قالوا ، ليكون عاقبة ذلك القول مع الاعتقاد حسرة فى قلوبهم على من فقد من إخوانهم تزيدهم ضعفا وتورثهم ندما على تمكينهم إياهم من التعرض لما ظنوه سببا ضروريا للموت ، فإنكم إذا كنتم مثلهم فى ذلك يصيبكم من الحسرة مثل ما يصيبهم ، وتضعفون عن القتال كما يضعفون ، فلا يكون لكم ميزة عنهم بالعقل الراجح الذي يهدى صاحبه إلى أن الذي وقع كان لا بد أن يقع ، فلا يتحسر عليه ، ولا بالإيمان الصادق الذي يزيد صاحبه إيقانا وتسليما بكل ما يجرى به القضاء (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي واللّه هو المؤثر وحده فى الحياة والموت بمقتضى سننه فى أسبابهما ، وليس للإقامة والسفر مدخل فيهما ، فإن اللّه قد يحيى المسافر والغازي مع تعرضهما لأسباب الهلاك ، ويميت المقيم والقاعد وإن كانا تحت ظلال النعيم.
وقد أثر عن خالد بن الوليد أنه قال عند موته : ما فىّ موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح ، وهأنذا أموت كما يموت العير (الحمار) فلا نامت أعين الجبناء.
(وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا يخفى عليه شىء مما تكنّون فى أنفسكم من المعتقدات(4/109)
ج 4 ، ص : 110
التي لها أثر فى أقوالكم وأفعالكم ، فاجعلوا نفوسكم طاهرة من وساوس الشيطان حتى لا يصدر منها ما يصدر من الكفار.
وفى هذا تهديد للمؤمنين حتى لا يماثلوا الكفار فى أقوالهم وأفعالهم.
ثم بشر من قتل أو مات فى سبيل اللّه بحسن المآل فقال :
(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) الموت فى سبيل اللّه هو الموت فى عمل من الأعمال التي يعملها الإنسان فى سبيل البر والخير التي هدى اللّه الإنسان إليها ويرضاها منه ، فالمحارب قد يموت فى أثناء الحرب من التعب والإعياء ، أو الإتيان بعمل من الأعمال التي تستدعيها الحروب فيكون هذا موتا فى سبيل اللّه.
أي إن مغفرة اللّه ورحمته لمن يموت أو يقتل فى سبيل اللّه ، خير لكم من جميع ما يتمتع به الكفار من المال والمتاع فى هذه الدار الفانية ، فإن هذا ظل زائل ، وذاك نعيم خالد.
والخلاصة - إن ما ينتظره المؤمن المقاتل فى سبيل اللّه من المغفرة التي تمحو ما كان من ذنوبه ، والرحمة التي ترفع درجاته - خير له مما يجمع أولئك الحريصون على الحياة الذين يتمتعون باللذات والشهوات.
فما أجدر المؤمنين أن يؤثروا مغفرة اللّه ورحمته على الحظوظ الفانية ، وألا يتحسروا على من يقتل منهم أو يموت فى سبيل اللّه فإن ما يلقونه بعدهما خير لهم مما كانوا فيه قبلهما.
ثم حثهم على العمل فى سبيل اللّه ، لأن المآل إليه فقال :
(وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) أي إنكم بأى سبب كان هلاككم فإنكم إلى اللّه تحشرون لا إلى غيره ، فيجزى كلا منكم بما يستحق من الجزاء ، فيجازى المحسن على إحسانه ، والمسيء على إساءته ، ولا يرجى من غيره ثواب ، ولا يتوقع منه دفع عقاب ، فآثروا ما يقربكم إليه ، ويجلب لكم رضاه من العمل بطاعته ، وعليكم بالجهاد فى سبيله ، ولا تركنوا إلى الدنيا ولذاتها ، فإنها فانية ، وتلك الحياة الأخرى باقية خالدة.(4/110)
ج 4 ، ص : 111
والمراد من الحشر إلى اللّه فى مثل هذا مما جاء فى القرآن الكريم ، أن الإنسان فى ذلك اليوم الذي يحشر فيه الناس يستقبل ما يلاقيه من اللّه جزاء عمله ، لا يشغله عنه شىء ، فيكون بذلك راجعا عن كل شىء فيه إلى اللّه ، محشورا مع سائر الناس.
أما الإنسان فى هذه الدار فقد يغفل عن اللّه وينسى هيبته وجلاله ، وعظمته وسلطانه ، لاشتغاله بدفع المكاره عن نفسه ، وجلب اللذات والرغائب لها.
وإذا كان هذا مصير كل حى مهما كان سبب موته أو قتله ، فالاشتغال بذكر سبب المصير ومبدئه لا يفيد ، وإنما الذي يجدر بالعاقل هو الاهتمام بالمستقبل والاستعداد له ، والعمل لما به الفوز والسعادة فيه.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 159 الى 160]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
تفسير المفردات
اللين فى المعاملة : الرفق والتلطف فيها ، والفظ : الخشن الشّرس الأخلاق الجافي فى المعاشرة فى القول والفعل ، والغليظ : القاسي الذي لا يتأثر قلبه من شىء ، وانفضّ القوم : تفرقوا كما قال : « وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها » والمشاورة : من قولك شرت العسل إذا اجتنيتها واستخرجتها من موضعها ، والمراد بالأمر سياسة الأمة فى الحرب والسلم والخوف إلى نحو ذلك من المصالح لدنيوية ، والتوكل : إظهار العجز والاعتماد على غيرك والاكتفاء به فى فعل ما تحتاج إليه.(4/111)
ج 4 ، ص : 112
المعنى الجملي
بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين فى الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم فى معاشهم ومعادهم وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم - زاد فى الفضل والإحسان إليهم فى هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى اللّه عليه وسلم على عفوه عنهم وتركه التغليظ عليهم ، وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبىّ صلى اللّه عليه وسلم بعض أصحابه ، وكان من جرّاء ذلك ما كان من الفشل وظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى اللّه عليه وسلم مع من أصيب ، فضبر وتجلد ولان فى معاملة أصحابه وخاطبهم بالرفق ولم يعاتبهم ، اقتداء بكتاب اللّه إذ أنزل فى هذه الواقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين وعصيانهم وتقصيرهم ، حتى ذكر الظنون والهواجس النفسية ، لكن مع العتب المقترن بذكر العفو والوعد بالنصر وإعلاء الكلمة.
الإيضاح
(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) أي إنه قد كان من أصحابك ما يستحق الملامة والتعنيف بمقتضى الطبيعة البشرية ، إذ صدروا عنك حين اشتداد الأهوال ، وشمّروا للهزيمة والحرب قائمة على قدم وساق ، ومع ذلك لنت لهم وعاملتهم بالحسنى بسبب الرحمة التي أنزلها اللّه على قلبك ، وخصّك بها ، إذ أمدك بآداب القرآن العالية ، وحكمه السامية ، حتى هانت عليك المصايب ، وعلّمتك ما لها من المنافع وحسن العواقب.
وقد مدح اللّه نبيه بحسن الخلق فى مواضع من كتابه فقال : « وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ » وقال : « لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ »
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « لا حلم(4/112)
ج 4 ، ص : 113
أحبّ إلى اللّه تعالى من حلم إمام ورفقه ، ولا جهل أبغض إلى اللّه من جهل إمام وخرقه » .
(وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أي ولو كنت خشنا جافيا فى معاملتهم لتفرقوا عنك ، ونفروا منك ، ولم يسكنوا إليك ، ولم يتم أمرك من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط السوىّ.
ذاك أن المقصود من بعثة الرسل تبليغهم شرائع اللّه إلى الخلق ، ولا يتم ذلك إلا إذا مالت قلوبهم إليهم ، وسكنت نفوسهم لديهم ، وذلك إنما يكون إذا كان الرسول رحيما كريما يتجاوز عن ذنب المسيء ، ويعفو عن زلاته ، ويخصه بوجوه البر والمكرمة والشفقة.
(وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أي واسلك معهم سبيل المشورة التي اتبعتها فى هذه الواقعة ودم عليها - فإنهم وإن أخطئوا الرأى فيها ، فإن فى تربيتهم عليها دون الانقياد لرأى الرئيس وإن كان صوابا نفعا فى مستأنف أمرهم ومستقبل حكومتهم ما حافظوا عليها.
فالجماعة أبعد عن الخطإ من الفرد فى أكثر الحالات ، وما ينشأ من الخطر على الأمة بتفويض أمرها إلى واحد مهما حصف رأيه ، أشد من الخطر الذي يترتب على رأى الجماعة.
ولما كانت الاستشارة سبيلا للنزاع ولا سيما إذا كثر المستشارون - أمر اللّه نبيه أن يقرر هذه السنة عملا ، فكان يستشير صحبه بهدوء وسكينة ويصغى إلى كل قول ويرجح رأيا على رأى بما يرى فيه من المصلحة والفائدة بقدر المستطاع.
وقد عمل النبي صلى اللّه عليه وسلم بالشّورى فى حياته ، فكان يسيشير السواد الأعظم من المسلمين ، ويخص بها أهل الرأى والمكانة فى الأمور التي يضر إفشاؤها.
فاستشارهم يوم بدر لما علم بخروج قريش من مكة للحرب ولم يبرم الأمر حتى صرح المهاجرون والأنصار بالموافقة ، واستشارهم يوم أحد كما علمت ، وهكذا كان(4/113)
ج 4 ، ص : 114
يستشيرهم فى كل مهمّ ما لم ينزل عليه فيه وحي ، فإنه إذ ذاك لا بد من نفاذه ، ولم يضع للنبى صلى اللّه عليه وسلم قواعد الشورى ، لأنها تختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية ، وبحسب الزمان والمكان ، ولأنه لو وضع لها قواعد لاتخذها المسلمون دينا وحاولوا العمل بها فى كل زمان ومكان ، ومن ثم قال الصحابة فى اختيار أبى بكر خليفة رضيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لديننا ، إذ أمره بالإمامة فى الصلاة حين مرضه أفلا نرضاه لدنيانا ؟
ولكن الخلفاء فيما بعد لم يتبعوا هذه السنة ، ولا سيما زمن الدولة العباسية ، إذ كان للأعاجم سلطان كبير فى ملكهم ، ثم جرى على ذلك سائر الملوك من المسلمين فيما بعد ، وجاراهم على ذلك علماء الدين ، حتى ظن كثير من غير المسلمين أن السلطة فى الإسلام استبدادية ، وأن الشورى اختيارية ، ولكن هذا بعيد من الصواب ، بعد أن صرح القرآن بالشورى وأمر نبيه بها وهو المعصوم عن الهوى وللشورى فوائد جمة منها :
(1) إنها تبين مقادير العقول والأفهام ، ومقدار الحب والإخلاص للمصالح العامة.
(2) إن عقول الناس متفاوتة وأفكارهم مختلفة ، فربما ظهر لبعضهم من صالح الآراء ما لا يظهر لغيره وإن كان عظيما.
(3) إن الآراء فيها تقلّب على وجوهها ، ويختار الرأى الصائب من بينها.
(4) إنه يظهر فيها اجتماع القلوب على إنجاح المسعى الواحد ، واتفاق القلوب على ذلك مما يعين على حصول المطلوب ، ومن ثم شرعت الاجتماعات فى الصلوات ، وكانت صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة.
وعن الحسن رضي اللّه عنه : قد علم اللّه أن ما به إليهم حاجة ، ولكن أراد أن يستنّ به من بعده ،
وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال « ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم »
وعن أبى هريرة رضي اللّه عنه : ما رأيت أحدا أكثر مشاورة من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم.(4/114)
ج 4 ، ص : 115
(فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي فإذا عقدت القلب على فعل شىء وإمضائه بعد المشاورة ومبادلة الرأى فيه ، فتوكل على اللّه ، وفوّض الأمر إليه بعد أخذ الاهبة واستكمال العدّة ، ومراعاة الأسباب التي جعلها اللّه وسيلة للوصول إلى المسببات كما
ورد فى الحديث « اعقلها وتوكل » .
ولا تتكل على ما أوتيت من حول وقوة ، ولا على إحكام الرأى وأخذ العدة ، فذلك كله ليس بكاف فى النجاح ما لم تقرن به معونة اللّه وتوفيقه ، لأن الموانع الخارجية والعوائق التي تحول دون الوصول إلى البغية ، لا يحيط بها إلا علام الغيوب ، فلا بد من الاتكال عليه والاعتماد على حوله وقوته.
وفى الآية إيماء إلى وجوب إمضاء العزيمة متى استكملت شروطها التي من أهمها المشورة.
وسر هذا أن نقض العزائم خور فى النفس ، وضعف فى الأخلاق يجعل صاحبه غير موثوق به فى قول ولا فعل ، ولا سيما إذا كان رئيس حكومة ، أو قائد جيش ، ومن ثم لم يصغ النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى مشورة من رجع عن رأيه الأول وهو الخروج إلى أحد حين لبس لامته وخرج ، إذ رأى أن هذا شروع فى العمل بعد أن أخذت الشورى حقها.
وبذلك علمهم أن لكل عمل ميقاتا محدودا ، وأن وقت المشورة متى انتهى جاء طور العمل ، وأن الرئيس إذا شرع فى العمل تنفيذا للشورى لا يجوز أن ينقض عزيمته ، ويبطل عمله ، ولو كان يرى أن أهل الشورى أخطئوا الرأى والتدبير كما حدث فى مسألة أحد كما تقدم.
ولا يزال أهل السياسة والحرب فى البلاد ذات الحضارة والمدنية يجرون على هذه القاعدة ويجعلونها دستورا لأعمال أممهم ، ولا ينقضونها على أي حال ، حتى قال أحد كبار الساسة الإنجليز : إن السياسة متى قررت شيئا وشرعت فيه وجب إمضاؤه وامتنع نقضه والرجوع عنه وإن كان خطأ.(4/115)
ج 4 ، ص : 116
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) عليه الواثقين به ، فينصرهم ويرشدهم إلى ما هو خير لهم كما تقتضيه المحبة.
وفى الآية إرشاد للمكلفين ، وترغيب لهم فى التوكل على اللّه ، والرجوع إليه ، والإعراض عن كل ما سواه.
قال الرازي : دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه كما يقول بعض الجهال وإلا كان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل ، بل التوكل عليه أن يراعى الإنسان الأسباب الظاهرة ، ولكن لا يعوّل بقلبه عليها ، بل يعول على عصمة الحكمة اه.
فالتوكل الصحيح إنما يكون مع الأخذ بالأسباب ، وبدونها يكون دعوى التوكل جهلا بالشرع وفسادا فى العقل ، قال تعالى : « فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ » وقال : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ » وقال : « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ » وقال : « وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى » وقال لنبيه لوط « فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ » وقال لموسى عليه السلام : « فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا » وقال حكاية عن نبيه يعقوب لابنه يوسف : « لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً » وقال أيضا حاكيا عنه : « يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ » ففى هذا أمر بالحذر مع التنبيه إلى أنه متوكل على اللّه ، ولا تنافى بينهما ولا غنى للمؤمن عنهما.
روى أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) عن ابن عباس مرفوعا « يدخل الجنة من أمتى سبعون ألفا بغير حساب ، الذين لا يسترقون ، ولا يتطيرون ، ولا يكتوون ، وعلى ربهم يتوكلون »
وقد قرن التوكل بترك الأعمال الوهمية دون غيرها ، إذ لم ينف من(4/116)
ج 4 ، ص : 117
الأعمال إلا الاستشفاء بالرّقية وهى إنما يطلبها الجاهلون بالأسباب الحقيقية ، وإلا التطير وهو التيمن والتشاؤم بحركات الطير ، وإلا الكي بالنار وكانوا يتداوون به فى الجاهلية ، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يكرهه لأمته ، ويعده من الأسباب المؤلمة التي تنافى التوكل ، وقد روى أحمد « لم يتوكل من استرقى أو اكتوى » .
وروى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة « لو أنكم توكلتم على اللّه حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا » وهو ظاهر فى أن التوكل يكون مع السعى ، لأنه ذكر للطير عملا وهو الذهاب صباحا فى طلب الرزق وهى فارغة البطن والرجوع وهى ممتلئتها.
وأخرج ابن حبان فى صحيحه : « حديث الرجل الذي جاء النبي صلى اللّه عليه وسلم وأراد أن يترك ناقته وقال : أ أعقلها وأتوكل ، أو أطلقها وأتوكل ؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : اعقلها وتوكل » .
وقال عبد اللّه ابن الإمام أحمد : قلت لأبى هؤلاء المتوكلون يقولون : نقعد وأرزاقنا على اللّه عز وجل ، قال : ذا قول ردىء خبيث ، يقول اللّه عز وجل : « إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ » وقال أيضا : سألت أبى عن قوم يقولون : نتكل على اللّه ولا نكتسب ، قال : ينبغى للناس كلهم أن يتوكلوا على اللّه ولكن يعوّدون أنفسهم الكسب ، هذا قول إنسان أحمق.
وسر هذا أن الإنسان إذا توكل ولم يستعدّ للأمر ويأخذ له الأهبة بحسب ما سنه اللّه من الأسباب ، أسف وندم وتحسر على ما فات ، وعدّ ملوما عقلا وشرعا ، كما أنه إذا أخذ الأهبة واعتمد عليها وغفل قلبه عن اللّه كان عرضة للهلع والجزع إذا خاب سعيه ولم ينل بغيته ، وربما وقع فى اليأس الذي لا مطمع معه فى فلاح ولا نجاح.
(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) أي إن أراد اللّه نصركم كما حدث يوم بدر حين عملتم بسنته ، وثبتم فى مواقفكم ، واتكلتم على توفيقه ومعونته ، فلا غالب لكم(4/117)
ج 4 ، ص : 118
من الناس الذين جعلهم حرمانهم من التوكل عليه عرضة لليأس والقنوط.
وفى هذا ترغيب فى التوكل على اللّه بعد المشورة والعزيمة الصادقة المترتبة على أخذ الاستعداد بما أوتيه من الحول والقوة.
(وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ؟ ) أي وإن يرد خذلانكم ويمنعكم معونته بما كسبت أيديكم من الفشل والتنازع وعصيان القائد فيما أمركم به كما جرى يوم أحد ، فلا أحد يملك لكم نصرا ولا يدفع عنكم الخذلان.
(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي فليخصه المؤمنون بالتوكل ، لأنه لا ناصر لهم سواه.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 161 الى 164]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)
تفسير المفردات
الغلّ : الأخذ خفية كالسرقة ، ثم غلب استعماله فى السرقة من المغنم قبل القسمة ، ويسمى الغلول أيضا ، وتوفى كل نفس ما كسبت ، أي تعطى جزاء ما عملت تاما وافيا ، وباء : رجع ، والسخط (بفتحتين وبضم فسكون) : الغضب العظيم ، والمأوى :
المصير ، هم درجات أي ذوو درجات ومنازل ، والبصير هو الذي يشاهد ويرى حتى(4/118)
ج 4 ، ص : 119
لا يعزب عنه ما تحت الثرى ، منّ : أي أنعم وتفضل ، من أنفسهم أي من جنسهم من العرب ليفقهوا كلامه ، ويزكيهم أي يطهرهم من أدران الوثنية والعقائد الفاسدة ، من قبل : أي من قبل بعثة الرسول ، ضلال مبين : أي ضلال بيّن لا ريب فيه.
المعنى الجملي
بعد أن حث عز اسمه فيما سلف على الجهاد ، وبين مصير المجاهد فى سبيله - أتبعه هنا بذكر أحكام الجهاد ، ومن جملتها الكف عن الغلول.
روى الكلبي ومقاتل : أن هذه الآية نزلت حين ترك الرماة المركز الذي وضعهم فيه النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد طلبا للغنيمة وقالوا نخشى أن يقول النبي صلى اللّه عليه وسلم من أخذ شيئا من مغنم فهو له ، وألا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر ، فقال لهم عليه الصلاة والسلام : ألم أعهد إليكم ألا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمرى ؟ فقالوا تركنا بقية إخواننا وقوفا ، فقال لهم : بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم.
الإيضاح
(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) أي ما كان من شأن أىّ نبى ولا من سيرته أن يغل ، لأن اللّه عصم أنبياءه منه ، فهو لا يليق بمقامهم ولا يقع منهم ، لأن النبوة أعلى المناصب الإنسانية ، فصاحبها لا يرغب فيما فيه دناءة وخسة.
(وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وكل من يقع منه غلول يأتى بما غل به يوم القيامة حاملا له ، ليفتضح أمره ويزيد به فى عذابه.
أخرج البخاري ومسلم عن أبى هريرة قال : « قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطيبا ، فذكر الغلول وعظمه ، وعظم أمره ثم قال :
ألا لا ألفينّ أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول اللّه أغثنى ، فأقول له لا أملك لك من اللّه شيئا ، قد أبلغتك ، لا ألفينّ أحدكم يجىء(4/119)
ج 4 ، ص : 120
يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة ، فيقول يا رسول اللّه أغثنى ، فأقول لا أملك لك من اللّه شيئا ، قد أبلغتك ، لا ألفينّ أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق ، فيقول يا رسول اللّه أغثنى ، فأقول لا أملك لك من اللّه شيئا ، قد أبلغتك ، لا ألفينّ أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول اللّه أغثنى ، فأقول لا أملك لك من اللّه شيئا ، قد أبلغتك » .
وجعل بعض العلماء هذا الحديث من قبيل التمثيل ، فشبهت حال الغالّ بما يرهقه من أثقال ذنبه وفضيحته به مع من فقد الناصر والمغيث - بحال من يحمل ذلك على عاتقه ، ويقصد أرجى من يمكنه أن يغيثه فيخذله ويتنصل من إغاثته ، وما زال الناس يشبهون الأثقال المعنوية بالأثقال الحسية ، ويعبرون عن ذلك بالحمل كما قال تعالى « اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ، وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ ، إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ » .
وقال أبو مسلم الأصفهانى : إن الإتيان فى الآية معناه : أن اللّه يعلمه أتم العلم وينكشف له أوضح انكشاف ، فالمراد أن كل غلول وخيانة خفية يعلمه اللّه مهما خفى ، ويظهره يوم القيامة للغالّ حتى يعرفه كمعرفة من أتى بشىء يوصله إلى غيره ، كما جاء فى قوله تعالى حكاية عن لقمان : « يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ » فليس معنى الإتيان هنا أنه يحملها ، بل يعلم بها مهما كانت مستترة ، لأن من يأتى بالشيء لا بد أن يكون عالما به.
(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي ثم بعد أن يأتى الغالّ بما غل فيتمثل له كأنه حاضر بين يديه ، ينال جزاء ما كسب مستوفى تاما لا ينقص منه شىء كما قال تعالى : « وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ، وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ؟ وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً » .(4/120)
ج 4 ، ص : 121
وجاء حكم التوفية فى الجزاء عاما لكل كاسب ، وإن كان الكلام فى جزاء الغالّ فحسب - ليكون كالدليل على المقصود من استيفائه الجزاء ، فإنه إذا كان كل كاسب مجزيّا بعمله لا ينقص منه شىء وإن كان جرمه حقيرا ، فالغالّ مع عظم جرمه أولى بذلك.
وقد أردف اللّه توفية ما كسبته كل نفس بالتفصيل الآتي ليبين أن جزاء المطيعين ليس كجزاء المسيئين ، فقال :
(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ ؟ ) أي أ فمن اتقى وسعى فى تحصيل رضا اللّه بفعل الطاعات ، وترك الغلول وغيره من الفواحش والمنكرات حتى زكت نفسه وصفا روحه - يكون جزاؤه كجزاء من انتهى أمره إلى سخط اللّه ، وعظيم غضبه ، بفعل ما يدسّى نفسه من الخطايا من سرقة وغلول وسلب وقتل ، وترك ما يطهرها من فعل الخيرات وعمل الصالحات ؟ .
ثم صرح بالفارق بينهما فقال :
(وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي ومأواه الذي يأوى إليه ، ولا مرجع له غيره ، هى جهنم وساءت منقلبا ومرجعا ومآبا.
ونظير هذه الآية قوله تعالى : « أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ » وقوله : « أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ » .
(هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) أي إن كلا ممن اتبع رضوان اللّه ومن باء بغضب من اللّه طبقات مختلفة ، ومنازل عند اللّه متفاوتة فى حكمه ، وبحسب علمه بشئونهم وبما يستحقون من الجزاء « يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ » .
والخلاصة - إن الناس يتفاوتون فى الجزاء عند اللّه كما يتفاوتون فى الفضائل والمعرفة فى الدنيا ، وما يترتب على ذلك من الأعمال الحسنة أو السيئة.(4/121)
ج 4 ، ص : 122
وهذا التفاوت على مراتب ودرجات يعلو بعضها بعضا ابتداء من الرفيق الأعلى الذي طلبه النبي صلى اللّه عليه وسلم فى مرض موته إلى الدرك الأسفل.
وهذه الدرجات أثر طبيعى لارتقاء الأرواح أو تدليها بالأعمال الصالحة أو السيئة.
(وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فلا يخفى عليه شىء من أعمالهم التي لها التأثير العظيم فى تزكية نفوسهم وفوزها وفلاحها وارتقائها إلى أرفع الدرجات - أو فى تدسيتها التي يترتب عليها الخيبة والخسران والهبوط إلى أسفل الدركات كما قال : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها).
ولا يعلم هذه الدرجات إلا من أحاط بكل شىء علما ، لأنه هو الذي لا يخفى عليه أثر من آثار الأعمال فى الأنفس ، ولا ما يختلج القلوب من الخواطر والهواجس.
وبعد أن نفى الغلول والخيانة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم على أبلغ وجه أكد ذلك بهذه الآية.
(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي إن هذا الرسول ولد فى بلدهم ، ونشأ بين ظهرانيهم ، ولم يروا منه طوال حياته إلا الصدق والأمانة والدعوة إلى اللّه والإعراض عن الدنيا ، فكيف يظن بمن هذه حاله خيانة وغلول ؟ .
وقد وصفه اللّه بأوصاف كل منها يقتضى عظيم المنة :
(1) إنه من أنفسهم أي إنه عربى من جنسهم ، وبذا يكونون أسرع الناس إلى فهم دعوته والاهتداء بهديه ، وأقرب إلى الثقة به من غيرهم ، إلى أنهم إذا كانوا على كثب منه وقفوا على أحواله من الصدق والأمانة ، إلى مالهم بذلك من شرف وجليل خطر كما قال تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وقال :
وكم أب علا بابن ذا شرف كما علت برسول اللّه عدنان
وقد خطب أبو طالب فى تزويج خديجة رضي اللّه عنها للنبى صلى اللّه عليه وسلم بمحضر من بنى هاشم ورؤساء مضر ، فقال :(4/122)
ج 4 ، ص : 123
الحمد للّه الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ، وزرع إسماعيل وضئضىء (أصل) معدّ ، وجعلنا حضنة بيته ، وسوّاس حرمه ، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا ، وجعلنا الحكام على الناس.
ثم إن هذا ابن أخى محمد بن عبد اللّه من لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به ، وهو واللّه بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل.
وتخصيص هذه المنة بالعرب مع أنه بعث للناس كافة لمزيد انتفاعهم به ، على أن هذه النعمة الكبرى ذكرت فى آيات أخرى كقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ).
(2) إنه يتلو عليهم آياته الدالة على قدرة اللّه ووحدانيته وعلمه ، ويوجه النفوس إلى الاستفادة منها ، والاعتبار بها كما جاء فى قوله : « إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ » وقوله « وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها » وقوله « أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ » .
(3) إنه يزكيهم ويطهرهم من العقائد الزائفة ، ووساوس الوثنية وأدرانها إذ أن العرب وغيرهم قبل الإسلام كانوا فوضى فى أخلاقهم وعقائدهم وآدابهم ، فكان محمد صلى اللّه عليه وسلم يقتلع منهم جذور الوثنية ، ويدفع عنهم العقائد الباطلة كاعتقادهم أن وراء الأسباب الطبيعية التي ارتبطت بها المسببات منافع ترجى ، ومضارّ تخشى من بعض المخلوقات ، فيجب تعظيمها والالتجاء إليها ، دفعا لشرها ، وجلبا لخيرها ، وتقربا إلى خالقها.
ولا شك أن من يعتقد مثل هذا يكون أسير الأوهام ، وعبد الخرافات ، يخاف فى موضع الأمن ، ويرجو حيث يجب الحذر والخوف.
(4) إنه يعلمهم الكتاب والحكمة ، فتعليم الكتاب اضطرهم إلى تعلم الكتابة ،(4/123)
ج 4 ، ص : 124
وأخرجهم من الأمية إلى نور العلم والعرفان ، فقد طلب إليهم كتابة القرآن ، واتخذ كتبه للوحى ، وكتب كتبا دعا بها الملوك والرؤساء إلى الإسلام فى سائر الأصقاع المعروفة ، فانتشرت الكتابة بينهم ، وعظمت مدنيتهم ، وامتدت سلطتهم فملكوا الأمم التي كان لها السلطان والصّولة والنفوذ فى تلك الحقبة.
كذلك علّمهم الحكمة وأرشدهم إلى البصر بفهم الأشياء ، ومعرفة أسرارها ، وفقه أحكامها ، وبيان ما فيها من المصالح والحكم ، وهداهم إلى طرق الاستدلال ، ومعرفة الحقائق ، ببراهينها ، فكان ذلك من أكبر البواعث على العمل بها ، والتمسك بأهدابها ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
والخلاصة - إن تعليم الكتاب إشارة إلى معرفة ظواهر الشريعة ، وتعليم الحكمة إشارة إلى فهم أسرارها وعللها وبيان منافعها.
(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي وإنهم كانوا قبل هذه البعثة فى ضلال بيّن واضح ، ولا ضلال أظهر من ضلال قوم يشركون باللّه ويعبدون الأصنام ويسيرون وراء الأوهام ، وهم على ذلك أميون لا يقرءون ولا يكتبون حتى يعرفوا حقيقة ما هم فيه من الضلال.
وإنما جعلها منة لكونها وردت بعد محنة ، فكان موقعها أعظم ، إذ أن بعثة الرسول جاءت بعد جهل وبعد عن الحق ، فكانت أعم نفعا وأتم وقعا.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 165 الى 168]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)(4/124)
ج 4 ، ص : 125
تفسير المفردات
المراد بالمصيبة : ما أصابهم يوم أحد من ظهور المشركين عليهم ، وقتل سبعين منهم ، ومثليها أي ضعفها بقتل سبعين من المشركين ، وأسر سبعين منهم يوم بدر ، أنى هذا ؟
أي من أين لنا هذا ، وهو تعجب مما حل بهم من هذا المصاب ، من عند أنفسكم أي بشؤم معصيتكم ، الجمعان : جمع المؤمنين وجمع المشركين ، فبإذن اللّه أي بإرادته الأزلية وقضائه السابق بارتباط بالمسببات بأسبابها ، فادرءوا أي فادفعوا ، إن كنتم صادقين أي فى دفع المكاره بالحذر.
المعنى الجملي
بعد أن حكى سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم الغلول والخيانة ، ثم برأه منه ، وبين ما بعث لأجله - عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة وبعدها ، وبين خطأهم وضلالهم فى أقوالهم وأفعالهم.
الإيضاح
(أَ وَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا ؟ ) أي لا ينبغى لكم أن تعجبوا مما حل بكم فى هذه الواقعة ، فإن خذلانكم فيها لم يبلغ مبلغ ظفركم فى بدر ، فقد كان نصركم فى تلك الواقعة ضعف انتصار المشركين فى هذه.
فلما ذا نسيتم فضل اللّه عليكم فى بدر فلم تذكروه ، وأخذتم تعجبون مما أصابكم فى أحد وتسألون عن سببه.(4/125)
ج 4 ، ص : 126
وفائدة قوله قد أصبتم مثليها - التنبيه إلى أن أمور الدنيا لا تدوم على نهج واحد فأنتم هزمتموهم مرتين ، فكيف تستبعدون أن يهزموكم مرة واحدة.
وقد كان سبب تعجبهم أنهم قالوا : كيف ننصر الإسلام الذي هو الدين الحق ومعنا الرسول وهم ينصرون دين الشرك باللّه ، ومع ذلك ينصرون علينا ؟ .
وقد أجاب اللّه عن هذه الشبهة بجوابين :
(1) قوله قد أصبتم مثليها.
(2) قوله (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي إن هذا الذي وقع إنما وقع بشؤم معصيتكم لأنكم عصيتم الرسول فى أمور كثيرة :
(ا) إن الرسول صلى اللّه عليه وسلم قال : المصلحة فى البقاء فى المدينة ، فلا نخرج إلى أحد ، فأبيتم إلا الخروج ، وكان الرأى ما رآه الرسول حتى إذا ما دخلها المشركون قاتلوهم على أفواه الأزقة والشوارع ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من سطوح المنازل.
(ب) إنكم فشلتم وضعفتم فى الرأى.
(ح) إنكم تنازعتم وحصلت بينكم مهاترة كلامية.
(د) إنكم عصيتم الرسول صلى اللّه عليه وسلم وفارقتم المكان الذي أمركم بالوقوف فيه لحماية ظهوركم بنضح عدوكم بالنبل إذا أراد أن يكون من ورائكم.
ولا شك أن العقوبات آثار لازمة للأعمال ، واللّه تعالى إنما وعدكم النصر بشرط ترك المعصية كما قال : « إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ » .
(إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو القادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم ، وهو القادر على التخلي عنكم إن خالفتم وعصيتم ، وهو سبحانه قد ربط الأسباب بالمسببات ، ولا يشذ عن ذلك مؤمن ولا كافر.(4/126)
ج 4 ، ص : 127
فوجود الرسول بينكم وأنتم قد خالفتم سنن اللّه فى البشر لا يحميكم مما تقتضيه هذه السنن.
(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ) أي وكل ما أصابكم أيها المؤمنون يوم التقى جمعكم بجمع المشركين فى أحد ، فهو بإذن اللّه وإرادته وقضائه السابق بجعل المسببات نتائج لأسبابها فكل عسكر يخطىء الرأى ، ويعصى قائده ، ويخلّى بين العدو وبين ظهره ، يصاب بمثل ما أصبتم به ، أو بما هو أشد وأنكى منه.
وفى ذلك تسلية للمؤمنين وعبرة تشرح لهم ما تقدم من قوله : « قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ » .
(وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) أي ليظهر علم اللّه بحال المؤمنين من قوة الإيمان وضعفه ، واستفادتهم من المصايب حتى لا يعودوا إلى أسبابها ، وليعرفوا سنن اللّه عند ما يظهر فيهم حكمها ، كما يظهر حال المنافقين الذين أظهروا الإيمان وتبطنوا الكفر ، فيترتب على ذلك العبرة بسوء عاقبة المنافقين حتى فيما ظنوه حزما واتقاء للمكروه ، واحتياطا فى الأمر ، كما تحدث العبرة بحسن عاقبة الصادقين حتى فيما ظنوه شرا وكرهوا حصوله.
(وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا) أي إن هؤلاء المنافقين دعوا إلى القتال ، وقيل لهم : إن كان فى قلبكم حب الدين والذود عنه فقاتلوا لأجله ، وإن لم تكونوا كذلك فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم.
والخلاصة - قاتلوا ابتغاء مرضاة اللّه وإقامة دينه ، أو قاتلوا للدنيا ودافعوا عن أنفسكم وأهليكم ووطنكم ، لكنهم راوغوا وقعدوا وتكاسلوا.
(قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ) أي قالوا : لو نعلم أنكم تلقون قتالا فى خروجكم ما أسلمناكم ، بل كنا نتبعكم ، لكنا نرى أن الأمر سينتهى بدون قتال.
روى أن الآية نزلت فى عبد اللّه بن أبىّ ابن سلول وأصحابه الذين خرجوا من(4/127)
ج 4 ، ص : 128
المدينة فى جملة الألف الذين خرج بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم رجعوا من الطريق وهم ثلاثمائة ليخذلوا المسلمين ، ويوقعوا فيهم الفشل.
ولا شك أن هذا الجواب منهم يدل على كمال النفاق ، وأنه ما كان غرضهم منه إلا التلبيس والاستهزاء ، إذ ذهاب المشركين وهم مدججون بسلاحهم إلى أحد من أقوى الأمارات على أنهم يريدون قتالا.
(هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) أي هم يوم قالوا هذه المقالة « لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ » أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان لظهور أماراته ، بانخذالهم عن نصرة المؤمنين ، واعتذارهم لهم على وجه الخديعة والاستهزاء ، فإن الجهاد فى سبيل اللّه والدفاع عن الأهل والوطن عند هجوم الأعداء مما يجب على المؤمن ، ولا ينبغى تركه بحال.
يرشد إلى ذلك قوله تعالى : « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ » .
وإنما قال : إنهم أقرب إلى الكفر ، ولم يقل إنهم كفار - منعا للنبز بالكفر بالعلامات والقرائن ، دون أن يكون هناك كفر صريح ، ومن ثم كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يعاملهم معاملة المؤمنين ، حتى إنه صلى على رئيسهم عبد اللّه بن أبىّ صلاة الجنازة بعد بضع سنين من وقعة أحد ، إلى أن فضحهم اللّه بقوله : « وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ ، إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ » .
والخلاصة - إنه تعالى كان يعلم أنهم يبطنون الكفر لعملهم عمل الكفار بتركهم الجهاد ، لكنه لم يصرح به ، بل أومأ إليه ، تأديبا لهم عسى أن يتوب على من لم يتمكن الكفر فى قلوبهم ، ومنعا للناس من الهجوم على التكفير بالظّنة ووجود الأمارات فحسب.
(يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) أي إن ما تقوله ألسنتهم مخالف لما تضمره(4/128)
ج 4 ، ص : 129
قلوبهم ، فهم يظهرون الإيمان باللسان ويبطنون الكفر ، فالكذب دأبهم ليستروا به ما يضمرون ، ويؤيدوا ما يظهرون.
وفى ذكر الأفواه والقلوب تصوير لنفاقهم ، وتوضيح لمخالفة ظاهرهم لباطنهم.
والخلاصة - إنهم يتفوهون بقول لا وجود لمنشئه فى قلوبهم كقولهم : لو نعلم قتالا ، وقولهم : لاتبعناكم ، وهم كاذبون فى كل من الأمرين ، فإنهم كانوا عالمين به وقد أصروا على الانخذال وعزموا على الارتداد.
ثم أكد كفرهم ونفاقهم وبين اشتغال قلوبهم بما يخالف أقوالهم من فنون الشر والفساد فقال :
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) من الكفر والكيد للمسلمين وتربص الدوائر بهم ، فهو فى كل حين يبين مخبآت أسرارهم ، ويكشف أستارهم ، ثم يعاقبهم على ذلك فى الدنيا والآخرة.
والخلاصة - إنه لا ينفعهم النفاق ، فاللّه أعلم بما تكنّه سرائرهم وقلوبهم.
وبعد أن ذكر قولا قالوه قبل القتال وبين بطلانه - أردفه قولا قالوه بعده وبيّن فساده ، قال :
(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) أي هم الذين قالوا لأجل إخوانهم الذين قتلوا فى هذه الواقعة ، والحال أنهم قعدوا عن القتال : لو أطاعونا فى القعود ولم يخرجوا للقتال كما لم نخرج - لما قتلوا كما أنّا لم نقتل.
وفى هذا إيماء إلى أنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا.
أخرج ابن جرير عن السّدّى قال : خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى ألف رجل وقد وعدهم الفتح إن صبروا ، فلما خرجوا رجع عبد اللّه بن أبىّ فى ثلاثمائة ، فتبعهم أبو جابر السّلمى يدعوهم ، فقالوا : لو نعلم قتالا لاتبعناكم ، ولئن أطعتنا لترجعنّ معنا ، فنعى اللّه عليهم ذلك بقوله - الذين قالوا لإخوانهم - الآية.
وقد دحض اللّه تعالى حجتهم ، وأبان لهم كذبهم ، ووبخهم على ما قالوا ، فقال لنبيه :(4/129)
ج 4 ، ص : 130
(قُلْ : فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي قل لهم : إن صدور هذا القول الجازم منكم يدل على أنكم قد أحطتم علما بأسباب الموت فى هذه الواقعة ، وإذا جاز فيها جاز فى غيرها ، وحينئذ يمكنكم درء الموت ودفعه عن أنفسكم.
والخلاصة - إنكم إن كنتم صادقين فى أن الحذر يغنى عن القدر ، وأن سلامتكم كانت بسبب قعودكم عن القتال لا بغيره من أسباب النجاة ، فادفعوا سائر صنوف الموت عن أنفسكم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 175]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
تفسير المفردات
الاستبشار : السرور الحاصل بالبشارة ، والذين لم يلحقوا بهم هم الذين بقوا فى الدنيا ، استجابوا أي أجابوا وأطاعوا ، والقرح الجراح فى يوم أحد ، والإحسان(4/130)
ج 4 ، ص : 131
أن يعمل الإنسان العمل على أكمل وجوهه الممكنة ، والتقوى : أن يخاف الإساءة والتقصير فيه ، حسبنا اللّه ، أي اللّه كافينا ، والوكيل : الكافي الذي توكل إليه الأمور ، فانقلبوا ، أي فرجعوا ، والمراد بالنعمة : السلامة والثبات على الإيمان وطاعة الرسول ، والفضل : هو الربح فى التجارة ، والشيطان هنا : شيطان الإنس الذي غش المسلمين ليخذلهم ، وهو نعيم بن مسعود ، يخوّف أولياءه ، أي يخوفكم أنصاره من المشركين.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين فى الجهاد بتحذيرهم عواقبه ، وأنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد ، والقتل بغيض إلى النفوس مكروه لها ، ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء اللّه وقدره كما يحدث الموت ، فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل ، ومن لم يقدّر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد فى سبيل اللّه ، فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ربهم قد خصهم اللّه بالقرب منه ، والكرامة لديه ، وأعطاهم أفضل أنواع الرزق وأوصلهم إلى مراتب الفرح والسرور.
أخرج الإمام أحمد فى جماعة عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « لما أصيب إخوانكم بأحد جعل اللّه أرواحهم فى أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ، وتأوى إلى قناديل من ذهب معلّقة فى ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع اللّه لنا ، فقال اللّه تعالى : - أنا أبلغهم عنكم - فأنزل اللّه هؤلاء الآيات » .
الإيضاح
(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً) أي ولا تحسبن أيها السامع لقول المنافقين الذين ينكرون البعث أو يرتابون فيه ، فيؤثرون الدنيا على الآخرة - أن من قتلوا فى سبيل اللّه أمواتا قد فقدوا الحياة وصاروا عدما.(4/131)
ج 4 ، ص : 132
(بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) أي بل هم أحياء فى عالم آخر غير هذا العالم ، هو خير للشهداء ، لما فيه من الكرامة والشرف عند اللّه ، فليس القتل فى سبيله بضائرهم ، إذا ما صاروا إليه خيرا مما كانوا فيه ، فلو سلم أن الخروج للقتال سبب للقتل لما كان مثبّطا للمؤمنين عن الجهاد عند وجوبه ، كما إذا هاجم المشركون المؤمنين فى مثل وقعة أحد ، أو إذا فتن المسلمون عن دينهم ومنعوا من الدعوة إليه وإقامة شعائره ، كما فعل مشركو العرب مع المسلمين زمن البعثة.
كيف والخروج إلى القتال كثيرا ما يكون سببا للسلامة ، فإن الأمة التي لا تدافع عن نفسها يطمع فيها غيرها ، وإذا هاجمها ظفر بها ونال منها ما يريد.
وهذه الحياة التي أثبتها القرآن الكريم للشهداء حياة غيبية لا ندرك حقيقتها ، ولا نزيد على ما جاء به الوحى.
وقوله : يرزقون تأكيد لكونهم أحياء ، وتحقيق لهذه الحياة.
(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي مسرورين بشرف الشهادة ، والتمتع بالنعيم العاجل ، والزّلفى عند ربهم ، والفوز بالحياة الأبدية.
(وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) أي ويسرّون بإخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا بعد فى سبيل اللّه ، فيلحقوا بهم من خلفهم ، أي أنهم بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم.
وقوله : من خلفهم إشارة إلى أنهم وراءهم يقتفون أثرهم ويحذون حذوهم قدما بقدم ، وفى ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم حثّ للباقين بعدهم على زيادة الطاعة والجد فى الجهاد والرغبة فى نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم ، كما فيه إخماد لحال من يرى نفسه فى خير فيتمنى مثله لإخوانه فى الدين ، وفيه بشرى للمؤمنين بالفوز بالمئاب.
(أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي هم يستبشرون بما تبين لهم من حسن حال إخوانهم الذين تركوهم أحياء ، وهى أنهم عند قتلهم يفوزون بحياة أبدية(4/132)
ج 4 ، ص : 133
لا يكدرها خوف من وقوع مكروه من أهوالها ، ولا حزن من فوات محبوب من نعيمها (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) النعمة هى الثواب الذي يلقاه العامل جزاء عمله ، والفضل هو التفضل الذي يمنّ اللّه به على عباده الطائعين المخبتين إليه ، والمراد بالمؤمنين الشهداء الذين وصفوا بالأوصاف الآتية بعد.
وعبر عنهم يوصف الإيمان للاشارة إلى سموّ مكانته ، ورفعة منزلته وكونه مناط السعادة.
وفى ذلك تحريض على الجهاد ، وترغيب فى الشهادة ، وحثّ على ازدياد الطاعة وبشرى للمؤمنين بالفوز العظيم.
وقد جاءت هذه الجملة كالبيان والتفسير لقوله - لا خوف عليهم ولا هم يحزنون - لأن من كان فى نعمة اللّه وفضله لا يحزن أبدا ، ومن كانت أعماله مشكورة غير مضيعة لا يخاف العاقبة.
ثم وصفهم بحسن أفعالهم الموجب لزيادة أجرهم فقال :
(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي هؤلاء المؤمنون هم الذين أجابوا دعوته ، ولبّوا نداءه ، وأتوا بالعمل على أكمل وجوهه ، واتقوا عاقبة تقصيرهم ، على ما هم عليه من جراح وآلام أصابتهم يوم أحد ، لهم أجر عظيم على ما قاموا به من جليل الأعمال.
وفى قوله : منهم إشارة إلى أن من دعوا لبّوا واستجابوا له ظاهرا وباطنا ، ولكن عرض لبعضهم موانع فى أنفسهم أو أهليهم فلم يخرجوا ، وخرج الباقون.
روى أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا من أحد ، فبلغوا الرّوحاء (موضع بين مكة والمدينة) ندموا وهمّوا بالرجوع حتى يستأصلوا من بقي من المؤمنين ، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة ، فندب أصحابه للخروج فى إثر أبى سفيان وقال : لا يخرجنّ معنا إلا من حضر يومنا بالأمس ، فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع جماعة من أصحابه حتى بلغوا حمراء(4/133)
ج 4 ، ص : 134
الأسد (موضع على ثمانية أميال من المدينة) وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر ، وألقى اللّه الرعب فى قلوب المشركين فذهبوا إلى مكة مسرعين فنزلت الآية.
وتسمى هذه الغزوة غزوة حمراء الأسد ، وهى متصلة بغزوة أحد.
(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ : إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) أي وهم الذين قال لهم نعيم بن مسعود الأشجعى ومن وافقه وأذاع قوله وهم أربعة : إن أبا سفيان وأعوانه جمعوا الجموع لقتالكم فاخشوهم ولا تخرجوا للقائهم.
روى عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة أن الآية نزلت فى غزوة بدر الصغرى.
ذاك أن أبا سفيان قال حين أراد أن ينصرف من أحد : يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : ذاك بيننا وبينك إن شاء اللّه ، فلما كان العام القابل خرج أبو سفيان فى أهل مكة حتى نزل (مجنّة) من ناحية (مرّ الظهران) فألقى اللّه الرعب فى قلبه ، فبدا له الرجوع فلقى نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان : إنى واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقى بموسم بدر ، وإن هذا عام جدب ، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن ، وقد بدا لى أن أرجع ، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج فيزيدهم ذلك جرأة ، فالحق بالمدينة فثبطهم ، ولك عندى عشرة من الإبل أضعها فى يدى سهيل بن عمرو ، فأتى نعيم المدينة فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبى سفيان فقال لهم : ما هذا بالرأى ، أتوكم فى دياركم وقراركم ولم يفلت منكم إلا شريد ، فتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم الجموع عند الموسم ، فو اللّه لا يفلت منكم أحد ، فكان لكلامه وقع شديد فى نفوس قوم منهم ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « والذي نفسى بيده لأخرجنّ ولو وحدي »
فخرج ومعه سبعون راكبا يقولون (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) حتى وافى بدرا الصغرى (بدر الموعد) فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان فلم يلق أحدا ،(4/134)
ج 4 ، ص : 135
لأن أبا سفيان رجع بجيشه إلى مكة وكان معه ألفا رجل فسماه أهل مكة جيش السّويق ، وقالوا لهم إنما خرجتم لتشربوا السويق.
ووافى المسلمون سوق بدر ، وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا أدما وزبيبا فربحوا وأصابوا بالدرهم در همين ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين.
(فَزادَهُمْ إِيماناً) أي زادهم هذا القول إيمانا باللّه وثقة به ، ولم يلتفتوا إلى تخويفهم بل حدث فى قلوبهم عزم وتصميم على محاربة هؤلاء الكافرين ، وطاعة للرسول فى كل ما يأمر به وينهى عنه ، وإن أضناهم ذلك وثقل عليهم ، لما بهم من جراحات عظيمة وقد كانوا فى حاجة إلى قسط من الراحة ، وشىء من التداوى ، لكن وثوقهم ، بنصر اللّه وتغلبهم على عدوهم أنساهم كل هذه المصاعب فلبوا الدعوة سراعا.
والخلاصة - إن هذا القول الذي سمعوه زاد شعورهم بعزة اللّه وعظمته وسلطانه ويقينهم بوعد اللّه ووعيده ، وتبع ذلك زيادة فى العمل ، ودأب على إنفاذ ما طلب الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ولو لا ذلك ما أقدموا على الاستجابة على ما كاد يكون وراء حدود الإمكان.
ونحو الآية قوله تعالى « وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً » .
(وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) أي قالوا معبّرين عن صادق إيمانهم باللّه : اللّه يكفينا ما يهمنا من أمر الذين جمعوا الجموع لنا ، فهو لا يعجزه أن ينصرنا على قلّتنا وكثرتهم ، أو يلقى فى قلوبهم الرعب ، فيكفينا شر بغيهم وكيدهم ، وقد كان الأمر كما ظنوا ، فألقى اللّه الرعب فى قلب أبى سفيان وجيشه على كثرة عددهم وتوافر عددهم ، فولّوا مدبرين ، وكان فى ذلك عزة للّه ولرسوله وللمؤمنين.
أخرج ابن مردويه عن أبى هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « إذا وقعتم فى الأمر العظيم فقولوا : حسبنا اللّه ونعم الوكيل »
وأخرج ابن أبى الدنيا(4/135)
ج 4 ، ص : 136
عن عائشة رضي اللّه عنها « أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا اشتد غمّه مسح بيده على رأسه ولحيته ، ثم تنفس الصّعداء وقال : حسبى اللّه ونعم الوكيل » .
و
أخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « حسبى اللّه ونعم الوكيل أمان كل خائف » .
(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) أي فخرجوا للقاء عدوهم ولم يلقوا منهم كيدا ولا همّا ، ولم يلبثوا أن انقلبوا إلى أهليهم وقد تظاهرت عليهم نعم اللّه فسلموا من تدبير عدوهم ، وأطاعوا رسولهم ، وربحوا فى تجارتهم ، ولم يمسسهم قتل ولا أذى.
روى البيهقي عن ابن عباس أن عيرا مرت فى أيام الموسم فاشتراها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فربح ما لا فقسمه بين أصحابه ، فذلك الفضل.
وأخرج ابن جرير عن السدى قال : أعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين خرج فى بدر الصغرى أصحابه دراهم ابتاعوا بها فى الموسم فأصابوا ربحا كثيرا.
(وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ) أي واتبعوا فى كل ما أتوا من قول أو فعل رضا اللّه الذي هو وسيلة النجاة والسعادة فى الدنيا والآخرة ، فأطاعوا رسوله فى كل ما به أمر ، وعنه نهى.
(وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) إذ تفضل عليهم بزيادة الإيمان ، والتوفيق إلى المبادرة إلى الجهاد ، والجرأة على العدو ، وحفظهم من كل ما يسوءهم.
وفى هذا إلقاء للحسرة فى قلوب المتخلفين منهم ، وإظهار لخطل رأيهم ، إذ حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء.
(إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) أي ليس ذلك الذي قال لكم : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم إلا الشيطان يخوفكم أولياءه وأنصاره المشركين ، ويوهمكم أنهم عدد كثير وأولو قوة وبأس شديد ، وأن من مصلحتكم أن تقعدوا عن لقائهم ، وتحبنوا عن مدافعتهم.(4/136)
ج 4 ، ص : 137
(فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي فلا تخافوا أولئك الأولياء ، ولا تحفلوا بقولهم (فَاخْشَوْهُمْ) فتخافوهم ، بل خافونى فى مخالفة أمرى ، لأنكم أوليائى وأنا وليكم وناصركم إن كنتم راسخى الإيمان قائمين بحقوقه ، فإن من حقه إيثار خوف اللّه تعالى على خوف غيره ، والأمن من شر الشيطان وأوليائه.
وخلاصة ذلك - إنه إذا عرضت لكم أسباب الخوف ، فاستحضروا فى نفوسكم قدرة اللّه الذي بيده كل شىء ، وهو يجير ولا يجار عليه ، وتذكروا وعده بنصركم ، وإظهار دينكم على الدين كله ، وأن الحق يدمغ الباطل فإذا هو زاهق ، واذكروا قوله : « كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ » ثم خذوا أهبتكم ، وتوكلوا على ربكم فإنه لا يدع لخوف غيره مكانا فى قلوبكم.
وفى هذه الآية من العبرة :
(1) إن صادق الإيمان لا يكون جبانا ، فالشجاعة وصف للمؤمن ، لا يبلغ غيره فيها مداه ، إذ أن العلة الحقيقية للجبن هى الخوف من الموت والحرص على الحياة ، وقلب المؤمن لا يتسع لهما.
ولا يزال العالم اليوم يشهد شجاعة الجيوش الإسلامية مع ما منى به المسلمون من ضعف فى إيمانهم ، وجهل بكثير من شئون دينهم.
(2) إن فى استطاعة الإنسان أن يقاوم أسباب الخوف ، ويعوّد نفسه الاستهانة بها بالتمرين والتربية وتعوّد الإقدام إذا عرضت له تلك الأسباب.
(3) إذا عرضت له أسباب الخوف فعليه ألا يسترسل لها حتى لا يتمكن أثرها فى نفسه ، وتتجسم صورتها فى خياله ، بل يغالبها بصرفها عن ذهنه ، وشغله بما يضاده ويذهب بآثارها ، أو يتبدلها بآثار مناقضة لها ، وهذا يدخل فى اختيار الإنسان ، وهو الذي نبط به التكليف.(4/137)
ج 4 ، ص : 138
[سورة آل عمران (3) : الآيات 176 الى 179]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
تفسير المفردات
يسارعون فى الكفر ، أي يسارعون فى نصرته والاهتمام بشئونه والإيجاف فى مقاومة المؤمنين ، حظا فى الآخرة أي نصيبا من الثواب فيها ، اشتروا الكفر أي أخذوا الكفر بدلا من الايمان كما يفعل المشترى من إعطاء شىء وأخذ غيره بدلا منه ، والإملاء : الإمهال والتخلية بين العامل وعمله ليبلغ أقصى مداه ، من قولهم : أملى لفرسه إذا أرخى له الطّول ليرعى كيف شاء ، ومنه الملأ للأرض الواسعة ، والملوان : الليل والنهار ليزدادوا إثما ، أي أفرزته وأزلته ، ومنه الحديث « من ماز أذى عن طريق فهو له صدقة » . على ما أنتم عليه ، أي من اختلاط المؤمن بالمنافق وأشباهه والخبيث والطيب أي المنافق بالمؤمن ، ويجتبى : أي يصطفى ويختار.
المعنى الجملي
لما كان من فوز المشركين فى أحد ما كان ، وأصاب النبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين شىء كثير من الأذى - أظهر بعض المنافقين كفرهم وصاروا يخوفون(4/138)
ج 4 ، ص : 139
المؤمنين ويؤيسونهم من النصر والظفر بعدوهم ، ويقولون لهم : إن محمدا طالب ملك ، فتارة يكون الأمر له ، وتارة عليه ، ولو كان رسولا من عند اللّه ما غلب ، إلى نحو هذه المقالة مما ينفر المسلمين من الإسلام ، فكان الرسول يحزن لذلك ، ويسرف فى الحزن ، فنزلت هذه الآيات تسلية له ، كما سلاه عما يحزن من إعراض الكافرين عن الإيمان ، أو طعنهم فى القرآن ، أو فى شخصه عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى :
« وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ، إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً » وقوله : « فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً » .
الإيضاح
(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) أي ولا يحزنك أيها الرسول مسارعة المنافقين وطائفة من اليهود إلى نصرة الكافرين واهتمامهم بشأنهم ، والإيجاف فى مقاومة الكافرين بكل ما أوتوا من الوسائل ، ومن التثبيط للعزائم ، والنيل من نبيهم ودعوته ، وتأليب المشركين عليهم ، إلى نحو ذلك مما يدور فى خلد العدو لإيذاء عدوه.
ونحو الآية قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا » .
وتوجيه الخطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم تسلية له وإيذان بأنه الرئيس المعتنى بشئونه.
ثم علل هذا النهى وأكمل التسلية بتحقيق نفى ضررهم أبدا بقوله :
(إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً) أي إنهم لن يضروا أولياء اللّه وهم النبي وصحبه ، شيئا من الضر ، فعاقبة هذه المسارعة فى الكفر وبال عليهم لا عليك ولا على المؤمنين ، فإنهم لا يحاربونك فيضروك ، وإنما هم يحاربون اللّه تعالى ، ولا شك أنهم أعجز من(4/139)
ج 4 ، ص : 140
أن يفعلوا ذلك ، فهم إذا لا يضرون إلا أنفسهم ، وفى جعل مضرتهم مضرة للّه تعالى تشريف لهم ، ومزيد مبالغة فى تسليته صلى اللّه عليه وسلم.
ثم بين أنهم لا يضرون إلا أنفسهم فقال :
(يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) أي إن سر ابتلائهم ما هم فيه من الانهماك فى الكفر وقد قضى ذلك بحرمانهم من نعيم الآخرة وفق ما تقتضيه سنة اللّه وإرادته.
(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي إنهم على حرمانهم من الثواب لهم عذاب عظيم لا يقدر قدره.
وبعد أن بين حكم أولئك الذين يسارعون إلى نصرة الكفر والدفاع دونه ومقاومة المؤمنين لأجله ، وأرشد إلى أنه لا يؤبه بهم ، ولا يهتم بشأنهم ، فهم إنما يحاربون اللّه واللّه غالب على أمره - أشار هنا إلى أن هذا حكم عام يشمل كل من آثر الكفر على الإيمان واستبدله به فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الذين أخذوا الكفر بدلا من الإيمان رغبة فيما أخذوا وإعراضا عما تركوا ، فلن يضروا اللّه شيئا ، وإنما يضرون أنفسهم بما لهم من العذاب الأليم الذي لا يقدر قدره.
وفى هذا إيماء إلى شيئين :
(1) تأكيد عدم إضرارهم بالنبي صلى اللّه عليه وسلم.
(2) بيان سخف عقولهم وخطل آرائهم ، إذ هم كفروا أولا ثم آمنوا ثم كفروا بعد ذلك ، وهذا دليل على شدة اضطرابهم ، وعدم ثباتهم ، ومثل هؤلاء لا يخشى منهم شىء مما يحتاج إلى أصالة الرأى وقوة التدبير.
ثم بين أن رغبة الكافرين عن الجهاد حبّا فى الحياة ليس من الخير لهم فقال :
(وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ، إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي ولا يحسبن هؤلاء الكافرون أن إمهالنا لهم وإطالة أعمارهم خير لأنفسهم ، فإنه لا يكون كذلك إلا إذا ازدادوا فيه عملا صالحا ينتفعون به(4/140)
ج 4 ، ص : 141
فى أنفسهم بتزكيتها وتطهيرها من شوائب الأدران وسيىء الأخلاق ، وينتفع به الناس فى تهذيبهم وتحسين معايشهم ، ولكن هؤلاء لا يزدادون بجهلهم وسوء اختيارهم إلا إثما يضرهم فى أنفسهم ، بالتمادى فى مكابرة الحق ، وتأييد سلطان الشر فى الخلق.
فحياة هؤلاء المتخلفين عن الجهاد ليست خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا يوم أحد إذ بقاؤهم صار وسيلة للخزى فى الدنيا والعقاب الدائم فى الآخرة ، وقتل هؤلاء صار سبيلا للثناء الجميل فى الدنيا ، والثواب الجزيل فى الآخرة.
فترغيب أولئك المثبّطين عن الجهاد فى مثل هذه الحياة ، وتزيينها لهم مما لا ينبغى أن يروج إلا عند الجهال الذين لا يفهمون قيمة الحياة الحقة التي يجب أن تكون نصب عين العاقل.
والخلاصة - إن هذا الامهال والتأخير ليس عناية من اللّه بهم ، وإنما هو قد جرى على سننه فى الخلق ، بأن ما يصيب الإنسان من خير أو شر فإنما هو ثمرة عمله ، ومن مقتضى هذه السنة أن يكون الإملاء للكافر علة لغروره ، وسببا لا سترساله فى فجوره ، ونتيجة ذلك الإثم الذي يكسبه العذاب المهين.
وفى الآية من العبرة :
(1) إن من شأن الكافر أن يزداد كفرا بطول عمره ، ويتمكن من العمل بحسب استعداده.
(2) إن من شأن المؤمن إذا أنسأ اللّه أجله أن تكثر حسناته ، وتزداد خيراته ، فليجعل المؤمن هذا دستورا فيما بينه وبين ربه ، ويحاسب نفسه على مقتضاه ، فإذا فقهه وعمل به خرج من الظلمات إلى النور ، وكان من الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصدّيقين.
ثم بين أن الشدائد هى محكّ صدق الإيمان فقال :
(ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) أي ما كان من سنن اللّه فى عباده أن يذر المؤمنين على مثل الحال التي كانوا عليها(4/141)
ج 4 ، ص : 142
حين غزوة أحد ، حتى يميز المؤمن من المنافق ، ويظهر حال كل منهما ، لأن الشدائد هى التي تميز قوىّ الإيمان من ضعيفه ، وتزيل الالتباس بين الصادقين والمنافقين.
أما تكليف ما لا مشقة فيه كالصلاة والصدقة القليلة وغيرهما فيقبلها المنافق ، كما يقبلها صادق الإيمان ، لما فيها من حسن الأحدوثة ، والتمتع بمزايا الإسلام.
وفى الشدائد من الفوائد الشيء الكثير منها :
(1) اتقاء المنافق إذا علم نفاقه ، فقد يفضى صادق الإيمان ببعض أسرار الملة إلى المنافق ، لما يغلب عليه من حسن الظن به ، حين يراه يؤدى الواجبات الظاهرة ، ويشارك الصادقين فى سائر الأعمال ، فإذا هو أفشاها عرف حاله وحذره المسلمون الصادقون.
(2) أن تروز الجماعة حالها ، إذ بتكشف أمر المنافقين تعرف أنهم عليها لا لها ، وكذلك تعرف حال ضعاف الإيمان الذين لم تربّهم الشدائد.
(3) إنها تدفع الغرور عن النفس ، إذ يغتر المؤمن الصادق فلا يدرك ما فى نفسه من ضعف فى الاعتقاد والأخلاق حتى تمحّصه الشدائد وتبيّن له حقيقة أمره.
وقد يدور بخلد بعض الناس أن أقرب وسيلة لتمييز المؤمن الصادق من المنافق ، أن يطلع اللّه المؤمنين على الغيب حتى يعرفوا حقائق أنفسهم وحقائق الناس الذين يعيشون بين ظهرانيهم ، فيعرفوا أن فلانا من أهل الجنة ، وفلانا من أهل النار ، فأجاب اللّه عن هذا فقال :
(وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) أي لم يكن من شأنه تعالى أن يطلع عامة الناس على الغيب ، إذ لو فعل ذلك لأخرج الإنسان من طبيعته ، فإنه تعالى خلقه يحصّل رغائبه ، ويدفع المكاره عنه بالعمل الكسبي الذي تهدى إليه الفطرة وترشد إليه النبوة.
ومن ثم جرت سنته بأن يزيل هذا اللبس ، ويميز الخبيث من الطيب بالامتحان بالشدائد ، والتضحية بالنفس وبذل المال فى سبيل الحق والخير ، كما ابتلى المؤمنون(4/142)
ج 4 ، ص : 143
فى وقعة أحد بخروج العدو بجيش عظيم لمقاتلتهم ، وابتلى الرماة منهم بالمخالفة ، وإخلاء ظهور قومهم لعدوهم ، وابتلوا بظهور العدو عليهم ، جزاء ما فعلوا من المخالفة ، فظهر نفاق المنافقين ، وزلزل ضعفاء المؤمنين زلزالا شديدا ، وثبت كملة المؤمنين ، وصاروا كالجبال الرواسي التي لا تزعزعها الرياح والأعاصير (وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) أي ولكن اللّه يختار من رسله من يشاء ، فيطلعه على ما فى قلوب المنافقين من كفر ونفاق ، وعلى ما ظهر منهم من أقوال وأفعال ، كما حكى عنهم بعضه فيما سلف ، ويفضحهم به على رءوس الأشهاد ، ويخلصكم من كيدهم وخداعهم.
ونحو الآية قوله : « عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ » .
وفى التعبير بالاجتباء إشارة إلى أن الوقوف على أسرار الغيب منصب جليل تتقاصر عنه الهمم ، ولا يؤتيه اللّه إلا لمن اصطفاه لهداية الأمم.
وبعد أن ردّ على ما طعن به المنافقون فى نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم من وقوع الكوارث التي حصلت فى أحد ، وبين أن فيه كثيرا من الفوائد كتمييز الخبيث من الطيب ، أمرهم بالإيمان به فقال :
(فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) أي فآمنوا باللّه ورسله الذين ذكرهم اللّه فى كتابه وقص علينا قصصهم.
وعمم الأمر بالإيمان بالرسل جميعا مع أن سوق الكلام فى الإيمان بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ، للايماء إلى أن الإيمان به يقتضى الإيمان بهم ، لأنه صلى اللّه عليه وسلم مصدق لما بين يديه من الرسل ، وهم شهداء على صحة نبوته.
(وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي وإن تؤمنوا بما جاءوا به من أخبار الغيب ، مع تقوى اللّه بترك ما نهى عنه وفعل ما أمر به ، فلكم أجر عظيم لا يستطاع الوصول إلى معرفة كنهه.(4/143)
ج 4 ، ص : 144
وقلّ أن ذكر القرآن الإيمان إلا إذا قرن به التقوى ، كما قل أن ذكر الصلاة إلا قرن بها الزكاة حثا على عمل البر والرأفة بالفقراء والبائسين ، وإشارة إلى أن الإيمان لا يكمل إلّا بهما
[سورة آل عمران (3) : الآيات 180 الى 184]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)
تفسير المفردات
ما أتاهم أي ما أعطاهم من المال والعلم والجاه ، سيطوقون ما بخلوا به أي سيلزمون إثمه فى الآخرة كما يلزم الطوق الرقبة ، وقد جاء فى أمثالهم : تقلدها طوق الحمامة ، إذا جاء بما يسب به ويذم ، ميراث السموات والأرض أي ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره سنكتب ما قالوا أي سنعاقب عليه ولا نهمله ونقول ذوقوا عذاب الحريق ، أصل الذوق وجود الطعم فى الفم ثم استعمل فى إدراك سائر المحسوسات ، والحريق المحرق(4/144)
ج 4 ، ص : 145
المؤلم ، وعذاب الحريق أي عذاب هو الحريق أي سننتقم منهم ، عهد إلينا أي أمرنا فى التوراة وأوصانا ، القربان : ما يتقرب به إلى اللّه من حيوان ونقد وغيرهما ، والمراد من النار : النار التي تنزل من السماء ، والبينات : هى المعجزات الواضحة ، والزبر ، واحدها زبور : وهو الكتاب ، والمنير : الواضح.
المعنى الجملي
كان الكلام فيما مضى فى التحريض على بذل النفس فى الجهاد فى سبيل اللّه بذكر ما يلاقيه المجاهدون من الكرامة عند ربهم فى جنات النعيم.
وهنا شرع يحت على بذل المال فى الجهاد - والمال شقيق الروح - فذكر أشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله فى هذه السبيل ، وأرشد إلى أن المال ظل زائل ، وأن مدى الحياة قصير ، وأن الوارثين والموروثين سيموتون ويبقى الملك للّه وحده.
ثم ذكر مقالة لليهود قد قالوها ثم كذبهم فيها ثم سلى رسوله وأبان له أن تكذيبهم لك ليس ببدع منهم بل سبقوا من قبل بمثله من الأنبياء السابقين.
الإيضاح
(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) أي ولا يظننّ أحد أن بخل الباخلين بما أعطاهم اللّه من فضله ونعمه هو خيرا لهم ، لأنهم مطالبون بشكران النعم ، والبخل بها كفران لا ينبغى أن يصدر من عاقل.
والمراد من البخل بالفضل البخل به فى أداء الزكاة المفروضة ، وفى الأحوال التي يتعين فيها بذل المال كالإنفاق لصد عدو يجتاح البلاد ويهدد استقلالها ، ويصبح أهلها أذلة بعد أن كانوا أعزة ، أو إنقاذ شخص من مخالب الموت جوعا.
ففى كل هذه الأحوال يجب بذل المال ، لأنه يجرى مجرى دفع الضرر عن النفس.
وليس الذم والوعيد على البخل بما يملك الإنسان من فضل ربه ، إذ أن اللّه أباح لنا الطيبات لنستمتع بها ، ولأن العقل قاض بأن اللّه لا يكلف الناس بذل كل ما يكسبون ويبقون عراة جائعين ، ومن ثم قال فى حق المؤمنين المهتدين « وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ »(4/145)
ج 4 ، ص : 146
وجاءت الآية بطريق التعميم ترغيبا فى بذل المال بدون تحديد ولا تعيين ، ووكل أمر ذلك إلى اجتهاد المؤمن الذي يتبع عاطفة الإيمان التي فى قلبه ، وما تحدثه فى النفس من أريحية بذل الواجب والزيادة عليه ، إذا هو تذكر أن فى ماله حقا للسائل والمحروم.
(بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) أي هو شر عظيم لهم ، وقد نفى أولا أن يكون خيرا ثم أثبت كونه شرا ، لأن المانع للحق إنما يمنعه لأنه يحسب أن فى منعه خيرا له ، لما فى بقاء المال فى يده من الانتفاع به فى التمتع باللذات ، وقضاء الحاجات ، ودفع الغوائل والآفات.
(سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي سيجعل ما بخلوا به من المال طوقا فى أعناقهم ، ويلزمهم ذنبه وعقابه ، ولا يجدون إلى دفعه سبيلا ، كما يقال : طوقنى الأمر أي ألزمنى إياه.
وخلاصة هذا - إن العقاب على البخل لازم لا بدّ منه.
وقال مجاهد : إن المعنى سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة عقوبة لهم فلا يستطيعون ذلك ، ويكون ذلك توبيخا لهم على معنى : هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا ميسورا ، ونظير هذا قوله تعالى : « وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ » .
ويرى بعضهم أن التطويق حقيقى ، وأنهم يطوّقون بطوق يكون سببا لعذابهم فتصير تلك الأموال حيات تلتوى فى أعناقهم ، فقد روى البخاري والنسائي عن أبى هريرة قال : « من آتاه اللّه مالا فلم يؤدّ زكاته مثّل له شجاع (ثعبان) أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ، فيأخذ بلهزمتيه (شدقيه) يقول أنا مالك ، أنا كنزك ثم تلا الآية » .
(وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وللّه وحده لا لأحد سواه ، ما فى السموات والأرض ما يتوارث من مال وغيره ، فينقل من واحد إلى آخر لا يستقر فى يد ،(4/146)
ج 4 ، ص : 147
ولا يسلم التصرف فيه لأحد ، إلى أن يفنى الوارثون والموروثون ، ويبقى مالك الملك ، وهو اللّه رب العالمين.
فما لهؤلاء القوم يبخلون عليه بملكه ، ولا ينفقونه فى سبيله ، وابتغاء مرضاته.
وفى الآية إيماء إلى أن كل ما يعطاه الإنسان من مال وجاه وقوة وعلم فإنه عرض زائل ، وصاحبه فإن غير باق ، فلا ينبغى أن يستبقى الفاني ما هو مثله فى الفناء ، بل عليه أن يضع الأشياء فى مواضعها التي تصلح لها ، وبذا يكون خليفة للّه فى أرضه محسنا للتصرف فيما استخلف.
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي واللّه لا تخفى عليه خافية من أعمالكم ، ولا ما تنطوى عليه جوانحكم ، فيجازى كل عامل بما عمل بحسب تأثير عمله فى تزكية نفسه أو تدسيتها ، ونيته فى فعله كما
جاء فى الحديث : « إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى »
(لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) أي قد سمع اللّه قول هؤلاء الكافرين الذين قالوا هذه المقالة ، ولم يخف عليه ، وسيجزيهم عليه أشد الجزاء.
وهذا أسلوب يتضمن التهديد والوعيد ، كما يتضمن البشارة والوعد بحسن الجزاء فى نحو - سمع اللّه لمن حمده - ويتضمن مزيد العناية وإرادة الإغاثة وإزالة الشكوى فى نحو « قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما » إذ سمع اللّه لعباده يراد به مراقبته لهم فى أقوالهم ، ويلزم من ذلك المعاني التي ذكرناها آنفا.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتت اليهود رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين أنزل اللّه تعالى : « مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً » فقالوا يا محمد : أ فقير ربك يسأل عباده القرض ونحن أغنياء ؟ فأنزل اللّه (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ) الآية.
(سَنَكْتُبُ ما قالُوا) أي سنعاقبهم على ذلك عقابا لا شك فيه ، إذ يلزم من كتابة الذنب وحفظه العقوبة عليه ، وهذا استعمال شائع فى اللغة.(4/147)
ج 4 ، ص : 148
(وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي قتل سلفهم لهم ، وإنما نسبه إليهم للاشارة إلى أنهم راضون بما فعلوه.
وهذا يدل على أن الأمم متكافلة فى الأمور العامة ، ويجب على أفرادها الإنكار على من يفعل المنكر وتغييره أو النهى عنه ، لئلا يفشو فيها ، فيصير خلقا من أخلاقها وعادة مستحكمة فيها ، فتستحق العقوبة فى الدنيا بالضيق والفقر ، والعقوبة فى الآخرة بتدنيس نفوسها ، وأن المتأخر إذا لم ينظر إلى عمل المتقدم ويطبقه على أحكام الشريعة فيستحسن منها ما تستحسنه ، ويستهجن ما تستهجنه - عدّ شريكا له فى إثمه ، ومستحقا لمثل عقوبته.
(وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي سننتقم منهم ونقول لهم هذه المقالة.
ذاك أنهم لما قالوا ما قالوا وقتلوا من الأنبياء من قتلوا ، فقد أذاقوا المسلمين وأتباع الأنبياء ألوانا من العذاب ، وأحرقوا قلوبهم بلهب الإيذاء والكرب ، فجوزوا بهذا العذاب الشديد وقيل لهم : ذوقوا عذاب الحريق ، كما أذقتم أولياء اللّه فى الدنيا ما يكرهون.
والخلاصة - ذوقوا ما أنتم فيه ، فلستم بمتخلصين منه ، وهذا قول يلقى للتشفى الدالّ على كمال الغيظ والغضب (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي إن هذا العذاب المحرق الذي تذوقون حرارته ، بسبب أعمالكم فى الدنيا كقتل الأنبياء ، ووصف اللّه بالفقر ، وجميع ما كان منكم من ضروب الكفر والفسوق والعصيان.
وأضاف العمل إلى الأيدى ، من قبل أن أكثر أعمال الإنسان تزاول باليد وليفيد أن ما عذّبوا عليه هو من عملهم على الحقيقة ، لا أنهم أمروا به ولم يباشروه.
(وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي إن ذلك العذاب أصابكم بعملكم ، وبكونه تعالى عادلا فى حكمه وفعله ، لا يجور ولا يظلم ، فلا يعاقب غير المستحق للعقاب ، ولا يجعل المجرمين كالمتقين ، والكافرين كالمؤمنين كما قال : « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا(4/148)
ج 4 ، ص : 149
السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ »
وقال : « أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ؟ » وقال : « أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ؟ » .
والخلاصة - إن ترك عقاب أمثالكم مساواة بين المحسن والمسيء ووضع للشىء فى غير موضعه ، وهو ظلم كبير لا يصدر إلا ممن كان كثير الظلم مبالغا فيه.
(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ)
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية فى كعب بن الأشرف ومالك بن الصّيف وفنحاص ابن عازوراء فى جماعة آخرين ، أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا : يا محمد تزعم أنك رسول اللّه ، وأنه تعالى أوحى إليك كتابا ، وقد عهد إلينا فى التوراة ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، ويكون للنار دوىّ خفيف حين تنزل من السماء فإن جئتنا بهذا صدقناك ، فنزلت الآية.
وروى ابن جرير أن الرجل منهم كان يتصدق بالصدقة ، فإذا تقبّل منه نزلت عليه نار من السماء فأكلت ما نصدق به.
لكن دعواهم هذا العهد من مفترياتهم وأباطيلهم ، وأكل النار للقربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة ، فهو وسائر المعجزات سواء ، وما مقصدهم من تلك المفتريات إلا عدم الإيمان برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، لأنه لم يأت بما قالوه ، ولو أتى به لآمنوا فرد اللّه عليهم بقوله :
(قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ ، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ؟ ) أي قل موبخالهم ومكذبا : قد جاءكم رسل كثيرون من قبلى كزكريا ويحيى وغيرهما بالمعجزات الدالة على صدق نبوتهم ، وبما كنتم تقترحون وتطلبون ، وأتوا بالقربان الذي تأكله النار ، فما بالكم لم تؤمنوا بهم ، بل اجترأتم على قتلهم ؟(4/149)
ج 4 ، ص : 150
وهذا دليل على أنكم قوم غلاظ الأكباد ، (وبذلك وصفوا فى التوراة) قساة القلوب لا تفقهون الحق ولا تذعنون له ، وأنكم لم تطلبوا هذه المعجزة استرشادا ، بل تعنتا وعنادا.
وقد نسب هذا الفعل إلى من كان فى عصر التنزيل وقد وقع من أسلافهم ، لأنهم راضون عما فعلوه ، معتقدون أنهم على حق فى ذلك ، والأمة فى أخلاقها العامة وعاداتها كالشخص الواحد ، وقد كان هذا معروفا عند العرب وغيرهم ، فتراهم يلصقون جريمة الشخص بقبيلته ، ويؤاخذونها بها.
والخلاصة - إن أسلافكم كانوا متعنتين ، وما أنتم إلا كأسلافكم ، فلم يكن من سنة اللّه إجابتكم إلى ملتمسكم بالإتيان بالقربان ، إذ لا فائدة منه.
(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي فإن كذبوك بعد أن جئتهم بالبينات الساطعة ، والمعجزات الواضحة ، والكتاب الهادي إلى سواء السبيل ، مع استنارة الحجة والدليل - فلا تأس عليهم ، ولا تحزن لعنادهم وكفرهم ، ولا تعجب من فساد طويّتهم ، وعظيم تعنتهم ، فتلك سنة اللّه فى خليقته ، فقد كذّب رسل من قبلك جاءوا بمثل ما جئت به من باهر المعجزات وهزّوا القلوب بالزواجر والعظات ، وأناروا بالكتاب سبيل النجاة ، فلم يغن ذلك عنهم شيئا ، فصبروا على ما نالهم من أذى ، وما نالهم من سخرية واستهزاء.
وفى هذا تسلية للنبى صلى اللّه عليه وسلم وبيان لأن طباع البشر فى كل الأزمنة سواء فمنهم من يتقبل الحق ويقبل عليه بصدر رحب ونفس مطمئنة ، ومنهم من يقاوم الحق والداعي إليه ، ويسفّه أحلام معتنقيه.
فليس بالعجيب منهم أن يقاوموا دعوتك ، ولا أن يفنّدوا حجتك ، فإن نفوسهم منصرفة عن طلب الحق ، وتحرّى سبل الخير.(4/150)
ج 4 ، ص : 151
[سورة آل عمران (3) : الآيات 185 الى 186]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
تفسير المفردات
توفون أجوركم : أي تعطونها وافية كاملة غير منقوصة ، زحزح عن النار : نحّى عنها ، فاز سعد ونجا ، والمتاع : ما يتمتّع وينتفع به مما يباع ويشترى ، والغرور : إصابة الغرّة والغفلة ممن تخدعه وتغشّه ، لتبلونّ أي لتختبرن أي لتعاملنّ معاملة المختبرين لتظهر حالكم على حقيقتها ، فى أموالكم أي بالبذل فى سبيل اللّه وبالجوائح والآفات ، وفى أنفسكم أي بالقتل والأسر فى سبيل اللّه ، وبالأمراض وفقد الأقارب ، الذين أوتوا الكتاب : هم اليهود والنصارى ، والذين أشركوا هم كفار العرب ، أذى كثيرا كالطعن فى الدين والافتراء على اللّه ورسوله ، والصبر : تلقى المكروه بالاحتمال وكظم النفس عليه مع دفعه برويّة ومقاومة ما يحدث من الجزع ، والتقوى الابتعاد عن المعاصي ، من عزم الأمور أي من صواب التدبير ، وما ينبغى لكل عاقل أن يعزم عليه ويأخذ نفسه به ، من قولك عزمت عليك أن تفعل كذا أي ألزمتك إياه على وجه لا يجوز الترخص فيه.
المعنى الجملي
بعد أن سلّى نبيه فيما سلف عن تكذيب قومه له بأن كثيرا من الرسل قبلك قد كذّبوا كما كذّبت ، ولاقوا من أقوامهم من الشدائد مثل ما لاقيت ، بل أشد(4/151)
ج 4 ، ص : 152
مما لاقيت ، فقد قتلوا كثيرا منهم كيحي وزكريا عليهما السلام - زاده هنا تسلية وتعزية أخرى ، فأبان أن كل ما تراه من عنادهم فهو منته إلى غاية ، وكل آت قريب فلا تضجر ولا تحزن على ما ترى منهم ، وأنهم سيجازون على أعمالهم فى دار الجزاء كما تجازى ، وحسبك ما تصيب من حسن الجزاء ، وحسبهم ما أصيبوا به وما يصابون به من الجزاء فى الدنيا ، وسيوفون الجزاء كاملا يوم القيامة.
الإيضاح
(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي كل نفس تذوق طعم مفارقة البدن وتحس به ، وفى هذا إيماء إلى أن النفس لا تموت بموت البدن ، لأن الذي يذوق هو الموجود ، والميت لا يذوق. فالذوق شعور لا يجس به إلا الحي.
(وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وإنما تعطون جزاء أعمالكم كاملا وافيا يوم القيامة ، وفى ذكر التوفية إشارة إلى أن بعض الأجور من خيرا وشر قد تصل إليهم فى الدنيا جزاء أعمالهم ، ويؤيده ما أخرجه الترمذي والطبراني مرفوعا ، « القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران » .
(فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) أي فمن خلص من العذاب ووصل إلى الثواب فقد فاز بالمقصد الأسمى والغاية التي لا مطلب بعدها ،
وقد روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : « من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيّته وهو يؤمن باللّه واليوم الآخر ، وليؤت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه » .
والخلاصة - إن هناك جنة ونارا ، وإن من الناس من يلقى فى هذه ومنهم من يلقى فى تلك ، وإن هول النار عظيم ، وعبر عن النجاة عنها بالزحزحة كأن كل شخص كان مشرفا على السقوط فيها ، لأن أعمالهم سائقة لهم إلى النار ، لأنها أعمال حيوانية تسوق إليها ولا يدخل الجنة أحد إلا إذا زحزح ، فالزحزحة عنها فوز عظيم ، وأولئك(4/152)
ج 4 ، ص : 153
المزحزحون هم الذين غلبت صفاتهم الروحية على الصفات الحيوانية فأخلصوا فى إيمانهم ، وجاهدوا فى اللّه حق جهاده ، ولم يبق فى نفوسهم شائبة من إشراك غير اللّه معه فى عمل من أعمالهم.
(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي وما حياتنا القربى التي نحن فيها ونتمع بلذاتها الحسية من مأكل ومشرب ، أو المعنوية كالجاه والمنصب والسيادة إلا متاع الغرور لأن صاحبها دائما مغرور مخدوع لها ، تشغله كل حين بجلب لذاتها ودفع آلامها ، فهو يتعب لما لا يستحق التعب ، ويشقى لتوهم السعادة.
والخلاصة - إن الدنيا ليست إلا متاعا من شأنه أن يغرّ الإنسان ويشغله عن تكميل نفسه بالمعارف والأخلاق التي ترقى بروحه إلى سعادة الآخرة.
فينبغى له أن يحذر من الإسراف فى الاشتغال بمتاعها عن نفسه وإنفاق الوقت فيما لا يفيد ، إذ ليس للذاتها غاية تنتهى إليها فلا يبلغ حاجة منها إلا طلب أخرى.
فما قضى أحد منها لبانته ولا انتهى أرب منها إلا إلى أرب
وعليه أن يسعى لكسب علم يرقى به عقله ، أو عمل صالح ينتفع به وينفع عباده ، مع إصلاح السريرة ، وخلوص النية ، وقد قال بعض الصوفية : « عليك بنفسك إن لم تشغلها شغلتك » .
(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) بعد أن سلى سبحانه نبيه صلى اللّه عليه وسلم بما سبق آنفا زاد فى تسليته بهذه الآية ، وأبان له أنه كما لقى هو ومن معه من الكفار أذى يوم أحد فسيلقون منهم أذى كثيرا بقدر ما يستطيعون من الإيذاء فى النفس أو فى المال ، والمقصد من هذا الإخبار أن يوطنوا أنفسهم على الصبر وترك الجزع حتى لا يشق عليهم البلاء عند نزوله بهم.
والابتلاء فى الأموال يكون بالبذل فى جميع وجوه البر التي ترفع شأن الامة الإسلامية وتدفع عنها أعداءها وتردّ عنها المكاره وتدفع عنها غوائل الأمراض والأوبئة(4/153)
ج 4 ، ص : 154
والابتلاء فى الأنفس يكون ببذلها فى الجهاد فى سبيل اللّه وبموت من تحب من الأهل والأصدقاء أو بالمدافعة عن الحق ، وفائدة الابتلاء تمييز الخبيث من الطيب ، وفائدة الإخبار به أن نعرف السنن الإلهية ونهيىء أنفسنا لمقاومتها ، فإن من تقع به المصيبة فجأة على غير انتظار يعظم عليه الأمر ويحيط به الغمّ حتى ليقتله فى بعض الأحايين ، لكنه إذا استعد لها اضطلع بها وقوى على حملها.
وكذلك من تحدث له النعمة على غير توقع لها ، فإنها تحدث له دهشة وتهيجا فى الأعصاب ، وربما أصيب بشلل أو اضطراب عقلى أو موت فجائى ، والحوادث المشاهدة فى هذا الباب كثيرة.
(وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) هذا سبيل آخر من الابتلاء فى الأنفس ، وخصه بالذكر لأهميته أي إنكم ستسمعون إيذاء كثيرا من اليهود والنصارى والمشركين ، ومن ذلك حديث الإفك (قذف أم المؤمنين عائشة رضى اللّه عنها) وتألب اليهود عليهم ونقض عهودهم ومحاولتهم قتل النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى أجلاهم عن المدينة فأمن شرهم ، واتفاق اليهود مع أحزاب المشركين وزحفهم على المدينة لاستئصال المسلمين ، فقد حاصروهم وأوقعوا بهم شديد البلاء وضيّقوا عليهم وفى ذلك يقول اللّه تعالى : « إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ، هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً » .
(وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي وإن تصبروا على ما سيحل بكم من البلاء فى أموالكم وأنفسكم ، وعلى ما تسمعون من أهل الكتاب والمشركين من الأذى وتتقوا ما يجب اتقاؤه ، فإن ذلك الصبر والتقوى من معزومات الأمور أي الأمور التي ينبغى أن يعزمها كل أحد ، لما فيه من كمال المزية والشرف.
روى الزهري أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو النبي صلى اللّه عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش فى شعره وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم قدم المدينة(4/154)
ج 4 ، ص : 155
وأهلها أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود ، فأراد النبي أن يستصلحهم كلهم فكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشد الأذى ، فأمر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم بالصبر على ذلك وفيهم أنزل اللّه تعالى : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الآية
[سورة آل عمران (3) : الآيات 187 الى 189]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
تفسير المفردات
الميثاق : العهد المؤكد ، والذين أوتوا الكتاب : هم اليهود والنصارى ، لتبيننه للناس أي لتظهرنّ جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ولا تكتمونه : أي لا تؤولونه ولا تلقون الشبه الفاسدة والتأويلات المزيّفة ، فنبذوه وراء ظهورهم : أي طرحوه ولم يعتدّوا به ، ويقال للأمر المعتنى به جعله نصب عينيه وألقاه بين عينيه ، واشتروا به ثمنا قليلا : أي شيئا من حطام الدنيا الفانية ، بما أوتوا أي بما فعلوا ، أن يحمدوا أي يحمدهم الناس ، بمفازة من العذاب : أي بمنجاة منه ، من قولهم : فاز فلان إذا نجا.
المعنى الجملي
بعد أن حكى سبحانه عن اليهود شبها ومطاعن فى نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وأجاب عنها بما علمت فيما سلف ، أردفه هذه الآية لبيان عجيب حالهم ، وغريب أمرهم ،(4/155)
ج 4 ، ص : 156
وأنه لا يليق بهم أن يطعنوا فى نبوته ، ولا أن يوجهوا شبها لدينه ، ذاك أن اليهود والنصارى أمروا بشرح ما فى التوراة والإنجيل وبيان ما فيهما من الدلائل الناطقة بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وصدق رسالته ، فكيف يليق بهم بعد هذا إيراد تلك المطاعن والشبه وكانوا أجدر الناس بدفعها وأحقهم بتأييده والذّود عن دينه لما فى كتابيهما من البشارة به وتوكيد دعوته ، فالعقل قاض بأن يظاهروه ، ودينهم حاكم بأن يؤيدوه ، ومن العجب العاجب أن يطرحوا حكم العقل والنقل وراءهم ظهريا ، وهل مثل هؤلاء يجدى معهم الحجاج والجدل ، أو تقنعهم قوة الدليل والحجة.
الإيضاح
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) أي واذكروا حين أخذ اللّه العهد والميثاق على الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى بلسان أنبيائهم ، ليبيننّ كتابهم للناس غير كاتمين له ، بأن يوضحوا معانيه كما هى ، ولا يؤولوه ولا يحرفوه عن مواضعه التي وضع لتقريرها ، ويذكروا مقاصده التي أنزل لأجلها ، حتى لا يقع اضطراب ولا لبس فى فهمه.
فإن لم يفعلوا ذلك فإما أن يبينوه على غير وجهه ولا يكون هذا بيانا ولا كشفا لأغراضه ومقاصده ، وإما ألا يبينوه بتاتا ويكون هذا كتمانا له.
وهذه الآية وإن كانت لليهود والنصارى ، فإن العبرة فيها تنطبق على المسلمين أيضا ، فإنهم مع حفظهم لكتابهم وتلاوتهم إياه فى كل مكان ، فى الشوارع والأسواق ومجتمعات الأفراح والأحزان - تركوا تبيينه للناس ، ففقدوا هدايته وعميّت عليهم عظاته وزواجره ، وحكمه وأسراره ، واعترفوا بأنهم انحرفوا عنه وصار القابض على دينه كالقابض على الجمر.
وتبيين الكتاب على ضربين :
(1) تبيينه لغير المؤمنين به لدعوتهم إليه (2) تبيينه للمؤمنين به لهدايتهم وإرشادهم بما أنزل إليهم من ربهم(4/156)
ج 4 ، ص : 157
وكل منهما واجب على العلماء لا هوادة فيه ، وكفى بهذه الآية حجة عليهم وهى آكد من قوله : « وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » .
(فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) أي لم يبالوا به ولم يهتموا بشأنه ، وقد كان من الواجب عليهم أن يجعلوه نصب أعينهم لا شيئا مهملا ملقى وراء الظهور لا ينظر إليه ، ولا يفكّر فى أمره ، فقد كان منهم الذين لا يستفيدون منه شيئا - ويحملونه كما يحمل الحمار الأسفار ، ومنهم الذين يحرّفونه عن مواضعه ، ومنهم الذين لا يعلمون منه إلا أمانى يتمنونها وقراءات يقرءونها.
وإن هذا لينطبق على المسلمين اليوم أتم الانطباق ، فهم قد اتبعوا سنن من قبلهم ونهجوا نهجهم حذو القذّة بالقذة ، فما بالهم عن التذكرة معرضين ، وكتاب اللّه بين أيديهم شاهد عليهم ، وهو يتلى بين ظهرانيهم.
(وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا) أي أخذوا عوضا منه فائدة دنيوية حقيرة فغبنوا فى هذا البيع والشراء ، وهذا الثمن هو ما كان يستفيده الرؤساء من المرءوسين من حطام الدنيا ليتمتعوا بلذاتها الفانية ، وشهواتها الفاسدة ، وكانوا يؤولون الكتاب ويحرفونه لأغراض كثيرة كالخوف من الحكام أو الرجاء فيهم ، فيصرفون نصوصه إلى معان توافق هوى الحاكم ليأمنوا شره ، أو لإرضاء العامة أو الأغنياء بموافقة أهوائهم لاستفادة جاههم ومالهم.
(فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) أي إن ما يشترونه ذميم قبيح لأنهم جعلوا الفاني بدلا من النعيم الدائم الذي يحصل للأمة من اتباعها لكتابها وهديها بإرشاده ، وتهذيب أخلاقها بآدابه وجمع كلمتها حول تعاليمه ، وبذا تحول بينها وبين المستبدين فيها ، وتصبح عزيزة الجانب متكافلة متضامنة ، أمر أهلها بينها شورى.(4/157)
ج 4 ، ص : 158
و
قد روى عن على كرم اللّه وجهه أنه قال : ما أخذ اللّه على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا ،
وعن أبى هريرة أنه قال : لولا ما أخذ اللّه تعالى على أهل الكتاب ما حدثتكم وتلا هذه الآية ، وعن الحسن أنه قال : لولا الميثاق الذي أخذه اللّه تعالى على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه.
(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) كان الكلام قبل هذا مع أهل الكتاب وأنه قد أخذ عليهم الميثاق بتبيين كتابهم للناس فقصروا فى ذلك وتركوا العمل به واشتروا به ثمنا قليلا فاستحقوا العقاب من ربهم.
وهنا ذكر حالا أخرى من أحوالهم ، ليحذر المؤمنين منها ، وهو أنهم كانوا يفرحون بما أتوا من التأويل والتحريف للكتاب ، ويرون لأنفسهم شرفا فيه وفضلا بأنهم أئمة يقتدى بهم ، وكانوا يحبون أن يحمدوا بأنهم حفّاظ الكتاب ومفسروه وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك ، وإنما فعلوا نقيضه إذ حولوه من الهداية إلى ما يوافق أهواء الحكام وأهواء العامة.
ومن عجيب حالهم أنه قد اشتبه أمرهم على الناس ، فهم يحسبون أنهم أولياء اللّه وأنصار دينه وعلماء كتابه وأنهم أبعد الناس عن عذابه وأقربهم من رضوانه ، فبين اللّه كذب هذا الحسبان ونهى عنه وسجل عليهم العذاب.
والخلاصة - لا تظنن أيها المخاطب أن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من تدليسهم عليك ، ويحبون أن تحمدهم بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه ، ناجون من العذاب الدنيوي وهو العذاب الذي يصيب الأمم التي فسدت أخلاقها وساءت أعمالها ، وألفت الفساد والظلم وهو ضربان :
(1) عذاب هو أثر طبيعى للحال التي يكون عليها المبطلون بحسب سنة اللّه فى الاجتماع البشرى بخذلان أهل الباطل والإفساد ، وذهاب استقلالهم ونصرة أهل الحق عليهم وتمكينهم من رقابهم وديارهم وأموالهم ليحل الإصلاح محل الإفساد(4/158)
ج 4 ، ص : 159
والعدل مكان الظلم « وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ » .
(2) عذاب يكون سخطا سماويا كالزلزال والخسف والطوفان وغير ذلك من الجوائح المدمّرة التي نزلت ببعض أقوام الأنبياء الذين كفروا بربهم وكذبوهم وآذوهم عند اشتداد عتوّهم وإيذائهم لرسلهم.
روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سأل اليهود عن شىء فى التوراة فكتموا الحق وأخبروه بخلافه وأروه أنهم قد صدقوا واستحمدوا إليه وفرحوا بما فعلوا ، فأطلع اللّه رسوله على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم.
(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي عذاب عظيم فى الآخرة كفاء فساد أخلاقهم وسوء طويتهم وحبهم للحمد الكاذب ، وقوله بما أوتوا أي بما فعلوا.
قال صاحب الكشاف : أتى وجاء يستعملان بمعنى فعل قال تعالى : « إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا » وقال : « لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا » وقوله : فلا تحسبنهم تأكيد لقوله :
لا تحسبن الذين ، وقد عهد هذا فى الأساليب العربية من إعادة الفعل إذا طال الفصل بينه وبين معموله. قال الزجاج : العرب إذا أطالت القصة تعيد حسبت وما أشبهها إعلاما بأن الذي جرى متصل بالأول فتقول لا تظنن زيدا إذا جاءك وكلمك بكذا وكذا ، فلا تظننه صادقا ، فيفيد لا تظنن توكيدا وتوضيحا ، والفاء زائدة كما فى قوله :
فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعى
(وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي لا تحزنوا أيها المؤمنون ولا تضعفوا ، وبينوا الحق ولا تكتموا منه شيئا ، ولا تشتروا بآيات اللّه ثمنا قليلا ، ولا تفرحوا بما عملتم ، فإن اللّه يكفيكم ما أهمكم ويغنيكم عن هذه المنكرات التي نهيتم عنها فإن للّه ملك السموات والأرض يعطى من يشاء ، وهو على كل شىء قدير ، لا يعز عليه نصركم على من يؤذونكم بأيديهم وألسنتهم من أهل الكتاب والمشركين.(4/159)
ج 4 ، ص : 160
وفى هذا إيماء إلى أن الخير فى اتباع ما أرشد إليه ، وفيه تسلية للنبى صلى اللّه عليه وسلم وللمؤمنين ووعد له بالنصر ، وفيه تعريض بذم أولئك المخالفين ووصفهم بأنهم لا يؤمنون إيمانا صحيحا يظهر أثره فى أخلاقهم وأعمالهم ، إذ لو كانوا كذلك ما تركوا العمل بكتابه وآثروا عليه ما يستفيدونه من حطام الدنيا
[سورة آل عمران (3) : الآيات 190 الى 195]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)
تفسير المفردات
الخلق : التقدير والترتيب الدالّ على النظام والإتقان ، والسموات : ما علاك مما تراه فوقك ، والأرض : ما تعيش عليه ، اختلاف الليل والنهار : تعاقبهما ومجىء كل منهما خلف(4/160)
ج 4 ، ص : 161
الآخر ، لآيات : لأدلة على وجود اللّه وقدرته ، الألباب واحدها لب : وهو العقل ، قياما وقعودا واحدهما قائم وقاعد ، باطلا أي عبثا لا فائدة منه ، سبحانك أي تنزيها لك عما لا يليق بك ، قنا عذاب النار : أي اجعل العمل الصالح وقاية لنا من عذاب النار ، ويقال أخزاه : أي أذله وأهانه ، الذنب : هو التقصير فى المعاملة بين العبد وربه ، والسيئة : هى التقصير فى حقوق العباد ومعاملة الناس بعضهم بعضا ، وتوفنا : أي أمتنا ، والأبرار وأحدهم بارّ : وهو المحسن فى العمل ، على رسلك : أي على تصديق رسلك ، والميعاد :
الوعد ، استجاب : أي أجاب ، لا أضيع عمل عامل : أي لا أترك ثوابه ، بعضكم من بعض : أي مختلطون متعاونون ، فى سبيلى : أي بسبب طاعتى وعبادتى ودينى.
المعنى الجملي
قال الرازي : اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق فى معرفة الحق ، فلما طال الكلام فى تقرير الكلام والجواب عن شبهات المبطلين ، عاد إلى إثارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والألوهية والكبرياء والجلال فذكر هذه الآية.
و
روى الطبراني وابن أبى حاتم عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا بم جاءكم موسى من الآيات ؟ فقالوا عصاه ويده بيضاء للناظرين ، وأتوا النصارى فقالوا كيف كان عيسى ؟ قالوا كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيى الموتى. فأتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقالوا ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ، فدعا ربه فنزلت هذه الآية :
إن فى خلق السموات إلخ فليتفكروا فيها.
الإيضاح
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي إن فى نظام السموات والأرض وبديع تقديرهما وعجيب صنعهما ، وفى اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما بنظام دقيق طوال العام ، نرى آثاره فى أجسامنا وعقولنا بتأثير(4/161)
ج 4 ، ص : 162
حرارة الشمس وبرد الليل ، وفى الحيوان والنبات وغير ذلك - لآيات ودلائل على وحدانية اللّه وكمال علمه وقدرته.
عن عائشة رضى اللّه عنها « أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : هل لك يا عائشة أن تأذنى لى الليلة فى عبادة ربى ؟ فقلت : يا رسول اللّه إنى لأحب قربك وأحب هواك (ما تهوى وتريد) قد أذنت لك ، فقام إلى قربة من ماء فى البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ثم قام يصلى فقرأ من القرآن وجعل يبكى حتى بلغت الدموع حقويه ثم جلس فحمد اللّه وأثنى عليه وجعل يبكى ثم رفع يديه فجعل يبكى حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض ، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكى فقال له : يا رسول اللّه أ تبكي وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا ؟
ثم قال ومالى لا أبكى وقد أنزل اللّه علىّ فى هذه الليلة : إن فى خلق السموات والأرض إلخ ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها » وروى « ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها » .
(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) أي أولو الألباب هم الذين ينظرون ويستفيدون ويهتدون ويستحضرون عظمة اللّه ويتذاكرون حكمته وفضله وجليل نعمه فى جميع أحوالهم من قيام وقعود واضطجاع.
والخلاصة - إنهم هم الذين لا يغفلون عنه تعالى فى عامة أوقاتهم باطمئنان قلوبهم بذكره ، واستغراق سرائرهم بمراقبته.
وذكر اللّه وحده لا يكفى فى الاهتداء ، بل لا بد معه من التفكر فى بديع صنعه وأسرار خليقته ، ومن ثم قال :
(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ويتفكرون فى خلق السموات والأرض ، وما فيهما من الأسرار والمنافع الدالة على العلم الكامل ، والحكمة البالغة ، والقدرة التامة.
والخلاصة - إن الفوز والنجاة إنما يكون بتذكر عظمة اللّه والتفكر فى مخلوقاته(4/162)
ج 4 ، ص : 163
من جهة دلالتها على وجود خالق واحد له العلم والقدرة ، ويتبع ذلك صدق الرسل وأن الكتب التي أنزلت عليهم مفصّلة لأحكام التشريع ، حاوية لكامل الآداب ، وجميل الأخلاق ، ولما يلزم نظم المجتمع فى هذه الحياة ، وللحساب والجزاء على الأعمال بدخول الجنة والنار.
وإنما ذكر التفكر فى خلق اللّه ، لورود النهى عن التفكر فى الخالق ، لعدم الوصول إلى حقيقة ذاته وصفاته.
فقد أخرج الأصبهانى عن عبد اللّه بن سلام قال : خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أصحابه وهم يتفكرون فقال : « تفكروا فى الخلق ولا تفكروا فى الخالق »
وعن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « تفكروا فى آلاء اللّه ولا تفكروا فى اللّه تعالى » .
(رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ) أي يقول الذاكرون المتفكرون : ربنا ما خلقت هذا الذي نشاهده من العوالم العلوية والأرضية باطلا ، ولا أبدعته عبثا ، سبحانك ربنا تنزهت عن الباطل والعبث ، بل كل خلقك حق مشتمل على حكم جليلة ومصالح عظيمة.
والإنسان بعض خلقك لم يخلق عبثا ، فإن لحقه الفناء ، وتفرقت منه الأجزاء ، بعد مفارقة الأرواح للأبدان ، فإنما يهلك منه كونه الفاسد أي الجسم ، ثم يعود بقدرتك فى نشأة أخرى كما بدأته فى النشأة الأولى ، فريق أطاعك واهتدى ، وفريق حقت عليه الضلالة فالأول يدخل الجنة بصالح أعماله والآخر يكبّ فى النار بما اجترح من السيئات ، وما عمل من الموبقات ، جزاء وفاقا.
والخلاصة - إن المؤمن المتفكر يتوجه إلى اللّه بمثل هذا الثناء والدعاء والابتهال بعد أن رأى الدلائل على بديع الحكمة ، وواسع العلم بدقائق الأكوان التي تربط الإنسان بربه.
وفى هذا تعليم للمؤمنين كيف يخاطبون ربهم عند ما يهتدون إلى شىء من معانى إحسانه وكرمه فى بدائع خلقه.(4/163)
ج 4 ، ص : 164
(فَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي فوفقنا بعنايتك لصالح العمل بما فهمنا من الدلائل حتى يكون ذلك وقاية لنا من عذاب النار.
(رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) أي إنهم بعد أن يدعوا ربهم أن يقيهم دخول النار يتوجهون إليه قائلين هذا القول ، دلالة على عظم هذا العقاب وشدته وهو الخزي والفضيحة ، ليكون موقع السؤال أعظم ، لأن من طلب من ربه شيئا وشرح عظم المطلوب وقوّته ، كانت الداعية إلى الدعاء أكمل والإخلاص فى الطلب أشد.
(وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) الظالم هو الذي يتنكب الطريق المستقيم ، وقد وصف من يدخل النار بالظلم للدلالة على أن سبب دخوله إياها هو جوره وظلمه ، وللتشنيع عليه بهذا العمل القبيح.
أي إن هؤلاء المتفكرين الذاكرين ينظرون إلى هيبة ذلك الرب العلىّ الذي خلق تلك الأكوان المملوءة بالأسرار والحكم ، فيعلمون أنه لا يمكن أحدا أن ينتصر عليه ، وأن من عاداه فلا ملجأ له إلا إليه.
(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) المنادى هو الرسول ، وذكره بوصف المنادى تعظيما لشأن هذا النداء ، أي إنهم بعد أن عرفوا اللّه تعالى حق معرفته بالذكر والفكر عبروا عن وصول دعوة الرسول إليهم واستجابتهم دعوته سراعا بدون تلبّث بهذا القول ، لأنه دعاهم إلى ما اهتدوا إليه من قبل وزادهم معرفة وبصيرة فى عالم الغيب والحياة الآخرة.
وفى تقدمة الدعاء بالنداء إشارة إلى كمال توجههم إلى مولاهم وعدم غفلتهم عنه مع إظهار كمال الضراعة والابتهال إلى من عوّدهم الإحسان والإفضال.
(رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) الغفران : الستر والتغطية يقال : رجل مكفّر بالسلاح أي مغطى به ، قال لبيد : « فى ليلة كفر النجوم ظلامها » .
أي إنهم طلبوا من اللّه تعالى فى هذا الدعاء ثلاثة أشياء : غفران الذنوب المتقدمة ، وتكفير السيئات المستقبلة ، وأن تكون وفاتهم مع الأبرار بأن يموتوا على مثل أعمالهم(4/164)
ج 4 ، ص : 165
حتى يكونوا فى درجاتهم يوم القيامة كما يقال فلان فى العطاء مع أصحاب الألوف أي هو مشارك لهم فى أنه يعطى ألفا قال تعالى : « فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ » .
وفى هذا رمز إلى أنهم كانوا يحبون لقاء اللّه « ومن أحب لقاء اللّه أحب اللّه لقاءه » .
(رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) أي ربنا أعطنا ما وعدتنا من حسن الجزاء كالنصر فى الدنيا والنعيم فى الآخرة جزاء على تصديق رسلك واتباعهم.
وخلاصة ذلك - إنهم قالوا أعطنا ذلك بتوفيقنا للثبات على ما نستحق ذلك به إلى أن تتوفانا مع الأبرار ، وفى هذا استشعار بتقصيرهم وعدم الثقة بثباتهم إلا بتوفيق اللّه ومزيد عنايته.
(وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ولا تفضحنا ولا تهتك سترنا يوم القيامة بإدخالنا النار التي يخزى من دخلها.
(إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي لا تخلف ما وعدت به على الإيمان وصالح العمل ، فقد وعدت بسيادة الدنيا فى قولك « وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ » وقلت « إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ » ووعدت بسعادة الآخرة فقلت « وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ » .
(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي فاستجاب لهم ربهم دعاءهم ، لصدقهم فى إيمانهم وذكرهم وتفكيرهم وتنزيههم لربهم وتصديقهم للرسل وشعورهم بالضعف والتقصير فى الشكر واحتياجهم إلى المغفرة.
وإنا لنستخلص من هذه الآية أمورا :
(1) إن الاستجابة يصح أن تكون بغير ما طلب ، فقد سألوه غفران الذنوب وتكفير السيئات والوفاة مع الأبرار ، فأجابهم بأن كل عامل سيوفى جزاء عمله ،(4/165)
ج 4 ، ص : 166
وفى ذلك تنبيه إلى أن العبرة فى النجاة من العذاب والفوز بحسن الثواب ، إنما تكون بإحسان العمل والإخلاص فيه.
(2) إن الذكر والأنثى متساويان عند اللّه فى الجزاء متى تساويا فى العمل حتى لا يغترّ الرجل بقوته ورياسته على المرأة فيظن أنه أقرب إلى اللّه منها.
(3) إن اللّه قد بين علة هذه المساواة بقوله : بعضكم من بعض ، فالرجل مولود من المرأة والمرأة مولودة من الرجل ، فلا فرق بينهما فى البشرية ولا تفاضل إلا بالأعمال.
(4) إنها رفعت قدر النساء المسلمات فى أنفسهن وعند الرجال المسلمين.
(5) إن هذا التشريع قد أصلح معاملة الرجل للمرأة واعترف لها بالكرامة ، وأنكر تلك المعاملة القاسية التي كانت تعاملها بها بعض الأمم فقد كان بعضها يعدها كالبهيمة المسخّرة لمصلحة الرجل ، وبعضها يعدّها غير أهل للتكاليف الدينية ، إذ زعموا أنه ليس لها روح خالد ، فما زعمه الإفرنج من أنهم السبّاقون إلى الاعتراف بكرامة المرأة ومساواتها للرجل ليس مبنيا على أساس صحيح ، فالإسلام هو الذي سبق كل الشرائع فى هذا ، ولا تزال شرائعهم الدينية والمدنية تميّز الرجل من المرأة ، نعم إن المسلمين قصّروا فى تعليم النساء وتربيتهن ، لكن هذا لا يصلح حجة على الدين نفسه.
(6) إن ما يفضل به الرجال النساء من العلم والعقل وما يقومون به من الأعمال الدنيوية التي جرى عرف المجتمع على إسنادها إلى الرجال ، وجعل حظ الرجل فى الإرث مثل حظ الأنثيين لأنه يتحمل نفقة امرأته ، فلا دخل لشىء منه فى التفاضل عند اللّه بثواب وعقاب (فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ). بعد أن ربط اللّه الجزاء بالعمل ، بيّن أن العمل الذي يستحقون به ما طلبوا من تكفير السيئات ، ودخول الجنات ، هو الهجرة من الوطن فى خدمة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، والإخراج من الديار ، بإلجاء الكافرين إياهم إلى الخروج والإيذاء فى سبيل اللّه والقتال والقتل وبذل(4/166)
ج 4 ، ص : 167
لمهجة للّه عز وجل ، كل أولئك يكفر اللّه به عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ولهذه الآية نظائر فى الكتاب الكريم كقوله « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » وقوله : « إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ » وقوله « وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ » .
وقد ذكر اللّه صفات المؤمنين هكذا ، لينبهنا إلى أن نروز أنفسنا ونختبرها ، فإن رأيناها تحتمل الأذى فى سبيل اللّه حتى القتل فلها الرضوان من ربها ، وإلا فلنروّضها حتى تصل إلى هذه المنزلة ، والسر فى هذا التكليف الشاق أن الحق لا يقوى إلا إذا وجد من ينصره ويؤيده ، ويقاوم الباطل وأعوانه ، حتى تكون كلمة اللّه هى العليا وكلمة الباطل هى السفلى ، فيجب على أنصار الحق ألا يفشلوا ولا ينهزموا ، بل يثبتوا مهما لاقوا من المحن والأرزاء ، فقد كتب اللّه النصر لعباده المؤمنين.
(ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الثواب والمثوبة الجزاء ، وقد جعله الدين أثرا طبيعيا للعمل ، فللأعمال تأثير فى نفس العامل بتزكيتها فتكون منعمة فى الآخرة ، أو تدسيتها فتكون معذبة فيها.
وقد وعد اللّه تعالى من فعل ذلك بأمور ثلاثة :
(1) محو السيئات وغفران الذنوب ودل على ذلك بقوله : (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) وذلك ما طلبوه بقولهم (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا).
(2) إعطاء الثواب العظيم وهو قوله : (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وهذا ما طلبوه بقولهم : (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ).
(3) أن يكون هذا الثواب عظيما مقرونا بالتعظيم والإجلال ، وهو قوله :
(مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) وهذا ما طلبوه بقولهم (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) والمعنى لأكفرنّ(4/167)
ج 4 ، ص : 168
عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم الجنات ولأثيبنهم بذلك ثوابا من اللّه لا يقدر عليه غيره.
(وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) أي هو ثواب من عنده مختص به بحيث لا يقدر عليه غيره ، وهذه الجملة تأكيد لشرف ذلك الثواب ، لأنه تعالى قادر على كل شىء ، غنى عن كل أحد ، فهو لا محالة فى غاية الجود والكرم والإحسان.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 200]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
تفسير المفردات
تقول : غرّنى ظاهره أي قبلته على غفلة عن امتحانه ، ويقال فى الثوب إذا نشر ثم أعيد إلى طيّه : رددته على غرّه ، تقلّب الذين كفروا : تصرفهم فى التجارات والمكاسب ، متاع قليل : أي ذلك الكسب والربح متاع قليل ، وإنما وصفه بالقلة لأنه قصير الأمد ، مأواهم : مصيرهم ، جهنم هى الدار التي يجازى فيها الكافرون فى الآخرة ، والمهاد : المكان الموطأ كالفراش ، والنزل : ما يهيأ للضيف النازل ، والأبرار : واحدهم بارّ وهو المتصف بالبر ، خاشعين : أي خاضعين ، اصبروا : أي احبسوا نفوسكم عن الجزع مما ينالها ، وصابروا : أي اصبروا على شدائد الحرب مع أعداء اللّه ، ورابطوا :
أي أقيموا فى الثغور رابطين خيولكم حابسين لها مترصدين للغزو ، والتقوى : أن تقى نفسك من غضب اللّه وسخطه ، والفلاح : هو الفوز والظفر بالبغية المقصودة من العمل.(4/168)
ج 4 ، ص : 169
المعنى الجملي
بعد أن وعد اللّه المؤمنين بالثواب العظيم وكانوا فى الدنيا فى غاية الفقر والشدة ، والكفار كانوا فى رخاء ولين عيش ذكر فى هذه الآية ما يسليهم ويصبّرهم على تلك الشدة ، فبين لهم حقارة ما أوتى هؤلاء من حظوظ الدنيا وذكر أنها متاع قليل زائل ، فلا ينبغى للعاقل أن يوازن بينه وبين النعيم الخالد المقيم.
الإيضاح
(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) أي لا يغرنك يا محمد والمراد أمته ، فكثيرا ما يخاطب سيّد القوم بشىء ويراد أتباعه ، وهذا معنى ما روى عن قتادة أنه قال : واللّه ما غرّوا نبىّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى قبضه اللّه.
وخلاصة المعنى - لا يغرنكم أمنهم على أنفسهم وتصرفهم فى البلاد كيف شاءوا ، وأنتم معاشر المؤمنين خائفون محصورون ، فإن ذلك لا يبقى إلا مدة قليلة ثم ينتقلون إلى أشد العذاب ، فعلى المؤمن أن يجعل مرمى طرفه ذلك الثواب الذي وعده اللّه فهو النعيم الحقيقي الباقي.
(مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي ذلك التقلب فى البلاد الذي يتمتعون به متاع قليل ، عاقبته هذا المأوى الذي ينتهون إليه فى الآخرة فيكونون خالدين فيه أبدا ، بما جنته أنفسهم وكسبته أيديهم.
نزلت الآية فى مشركى مكة إذ كانوا يضربون فى الأرض ، يتّجرون ويكتسبون حين لا يستطيع المسلمون ذلك لوقوف المشركين لهم بالمرصاد والإيقاع بهم أينما ثقفوهم ، وعجز هؤلاء عن مقاومتهم إذا خرجوا من ديارهم للتجارة أو غيرها.
وقد روى من وجه آخر أن بعض المؤمنين قال : إن أعداء اللّه فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية.
وبعد أن بين حال الكافرين ومآل أمرهم ، ذكر عاقبة المؤمنين ليعلموا أنهم فى القسمة غير مغبونين ، فقال :(4/169)
ج 4 ، ص : 170
(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي لكن الذين اتقوا ربهم بفعل الطاعات وترك المنهيات ، لهم جنات النعيم خالدين فيها أبدا.
ونحو الآية قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا » وفى الآية إيماء إلى أن النازلين فيها ضيوف عند ربهم يحفهم بلطفه ، ويخصهم بكرمه وجوده ، وهذه الجنات نعيم جسمانى لهم ، وهناك نعيم روحانى أعطاه اللّه بمحض الفضل والإحسان وإليه الإشارة بقوله :
(وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) أي وما عنده من الكرامة فوق ما تقدم خير وأفضل يتقلب فيه الذين كفروا من المتاع القليل الفاني.
(وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا) بعد أن بين حال المؤمنين وما أعدّ لهم من الثواب وحال الكافرين وما هيأ لهم من العقاب ، ذكر هنا حال فريق من أهل الكتاب يهتدون بهذا القرآن وكانوا من قبله مهتدين بما عندهم من هدى الأنبياء وقد وصفهم اللّه بصفات كلها تستحق المزية والشرف :
الأولى : الإيمان باللّه إيمانا لا تشوبه نزعات الشرك ولا يفارقه الإذعان الباعث على العمل ، لا كمن قال اللّه فيهم « وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ » .
الثانية : الإيمان بما أنزل إلى المسلمين ، وهو ما أوحاه اللّه إلى نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم.
الثالثة : الإيمان بما أنزل إليهم وهو ما أوحاه اللّه إلى أنبيائهم ، والمراد به الإيمان إجمالا وما أرشد إليه القرآن تفصيلا فلا يضير فى ذلك ضياع بعضه ونسيان بعضه الآخر.
الرابعة : الخشوع وهو الثمرة للإيمان الصحيح فإن الخشوع أثر خشية اللّه فى القلب ومنه تفيض على الجوارح والمشاعر ، فيخشع البصر بالانكسار ، ويخشع الصوت بالخفوت والتهدج.(4/170)
ج 4 ، ص : 171
الخامسة : عدم اشتراء شىء من متاع الدنيا بآيات اللّه وهذا أثر لما قبله.
روى النسائي من حديث أنس قال : « لما جاء نعى النجاشي قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : صلّوا عليه ، قالوا : يا رسول اللّه نصلى على عبد حبشى ، فأنزل اللّه هذه الآية » :
(أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي هؤلاء المتصفون بحميد الصفات ، وجليل الأعمال ، لهم ثواب أعمالهم وأجر طاعتهم عند ربهم الذي رباهم بنعمه وهداهم إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.
(إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فهو يحاسب الناس جميعهم فى وقت قصير فيتمثل لهم ما كسبته أيديهم ، وانطوت عليه جوانحهم ، وهو مكتوب فى صحائف أعمالهم ، فما أحرانا أن نشبهها بالصور المتحركة (الأفلام) التي تعرض فيها الحوادث والوقائع فى عصرنا الحاضر.
وقد ختم اللّه هذه السورة بوصية للمؤمنين إذا عملوا بها كانوا أهلا لاستجابة الدعاء وأحق بالنصر فى الدنيا وحسن المثوبة فى الآخرة فقال.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي اصبروا على شدائد الدنيا وآلامها من مرض وفقر وخوف ، وصابروا : أي تحملوا المكاره التي تلحقكم من سواكم ، ويدخل فى ذلك احتمال الأذى من الأهل والجيران وترك الانتقام ممن يسىء إليكم كما قال : « وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ » وإيثار غيركم على أنفسكم كما قال : « وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ » والعفو عمن ظلمكم كما قال « وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى » ودفع شبه المبطلين وحلّ شكوكهم والإجابة عن شبههم ، وقوله ورابطوا : أي اربطوا خيلكم فى الثغور كما يربط العدو خيله استعداد للقتال كما قال تعالى : « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ » ويدخل فى هذا كل ما ولّده العلم فى هذا العصر من وسائل الدفاع من طائرات وقاذفات للقنابل ودبابات ومدافع رشاشة وبنادق وأساطيل بحرية ونحو ذلك مما ضار(4/171)
ج 4 ، ص : 172
ضروريا من آلات الحروب الحديثة ، وصار من فقدها يشبه أن يكون أعزل من السلاح وإن كان مدجّجا به ، ويلزم هذا أن يكونوا عالمين بفنون الحرب والخطط العسكرية بارعين فى العلوم الطبيعية والرياضية ، فكل ذلك واجب على المسلمين فى هذا العصر ، لأن الاستعداد لايتم إلا به.
ولقد أكثر اللّه فى كتابه من ذكر التقوى ويراد بها الوقاية من سخط اللّه وغضبه ، ولا يكون هذا إلا بعد معرفته ومعرفة ما يرضيه وما يسخطه ، ولا يعرف هذا إلا من فهم كتاب اللّه ، وعرف سنة نبيه ، وسيرة السلف الصالح من الأمة الإسلامية. ومن فعل كل ما تقدم فصبر وصابر ورابط لحماية الحق وأهله ونشر دعوته واتقى ربه فى سائر شئونه فقد أفلح وفاز بالسعادة عند ربه.
وهذا الفوز والفلاح بالبغية قد يكون فى شئون الدنيا كما جاء حكاية عن فرعون « وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى » وقد يكون فى شئون الآخرة كقوله تعالى حكاية عن أهل الكهف « وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً » .
وقد يكون فيهما معا ، وأكثر ما جاء فى القرآن من هذا كالذى نحن فيه ، فإن مصابرة الأعداء والمرابطة والتقوى كلها من وسائل الظفر على الأعداء فى الدنيا كما أنها من أسباب السعادة فى الآخرة بعد توافر حسن النية ، وقصد إقامة الحق والعدل.
وفقنا اللّه للعمل إلى ما يرضيه ، حتى نصل إلى سعادة الدارين ، بفضله وإحسانه ، ومنّه وكرمه ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه(4/172)
ج 4 ، ص : 173
سورة النساء
آيها مائة وسبعون وست ، نزلت بعد الممتحنة.
وهى مدنية كلها ، فقد روى البخاري عن عائشة أنها قالت : « ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم » وقد بنى النبي بعائشة فى المدينة فى شوال من السنة الأولى من الهجرة.
ووجه المناسبة بينها وبين آل عمران :
(1) إن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى ، وافتتحت هذه السورة بذلك ، وهذا من آكد المناسبات فى ترتيب السور.
(2) إن فى السابقة ذكر قصة أحد مستوفاة ، وفى هذه ذيل لها وهو قوله :
« فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ » فإنه نزل فى هذه الغزوة على ما ستعرفه بعد.
(3) إنه ذكر فى السالفة الغزوة التي بعد أحد وهى (غزوة حمراء الأسد) بقوله « الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ » وأشير إليها هنا فى قوله :
« وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ » الآية.
ما حوته السورة من الموضوعات
(1) الأمر بتقوى اللّه فى السر والعلن.
(2) تذكير المخاطبين بأنهم من نفس واحدة.
(3) أحكام القرابة والمصاهرة.
(4) أحكام الأنكحة والمواريث.
(5) أحكام القتال.
(6) الحجاج مع أهل الكتاب(4/173)
ج 4 ، ص : 174
(7) بعض أخبار المنافقين.
(8) الكلام مع أهل الكتاب إلى ثلاث آيات فى آخرها.
[سورة النساء (4) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)
تفسير المفردات
الناس : اسم للجنس البشرى ، وهو الحيوان الناطق المنتصب القامة الذي يطلق عليه اسم (إنسان). تساءلون به : أي يسأل به بعضكم بعضا ، بأن يقول سألتك باللّه أن تقضى هذه الحاجة ، والأرحام : أي خافوا حق إضاعة الأرحام ، والرقيب : المراقب وهو المشرف من مكان عال ، والمرقب : المكان الذي يشرف منه الإنسان على ما دونه ، والمراد هنا بالرقيب الحافظ لأن ذلك من لوازمه.
المعنى الجملي
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي أنشأكم من العدم ، ورباكم وشملكم بالجود والكرم ، واذكروا أنه خلقكم من نفس واحدة وجعلكم جنسا تقوم مصالحه على التعاون والتآزر ، وحفظ بعضكم حقوق بعض.
واتقوا اللّه الذي تعظمونه وتتساءلون فيما بينكم باسمه الكريم ، وبحقه على عباده وبما له من السلطان والجبروت ، وتذكّروا حقوق الرحم عليكم فلا تفرّطوا فيها ، فإنكم إن فعلتم ذلك أفسدتم الأسر والعشائر ، فعليكم أن تحافظوا على هاتين الرابطتين(4/174)
ج 4 ، ص : 175
رابطة الإيمان ورابطة الرحم الوشيجة ، واللّه رقيب عليكم يعلم ما تأتون وما تذرون ، ويحاسبكم على النّقير والقطمير « وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً » .
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي أيها الناس احذروا عصيان من رباكم بإحسانه ، وتفضل عليكم بجوده وإنعامه ، وجعلكم أقرباء يجمعكم نسب واحد وأصل واحد.
وجمهرة العلماء على أن المراد بالنفس الواحدة هنا آدم ، وهم لم يأخذوا هذا من نص الآية ، بل أخذوه تسليما وهو أن آدم أبو البشر.
وقال القفّال : إن المراد أنه خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجا هو إنسان يساويه فى الإنسانية ، أو أن الخطاب لقريش الذين كانوا فى عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم وهم آل قصىّ ، وأن المراد بالنفس الواحدة قصىّ اه.
وقال بعض العلماء أبهم اللّه تعالى أمر النفس التي خلق الناس منها ، فلندعها على إبهامها ، فإذا ثبت ما يقوله الباحثون من أن لكل صنف من أصناف البشر أبا كان ذلك غير مخالف لكتابنا ، كما هو مخالف للتوراة التي نصت صراحة على أن آدم أبو البشر فحمل ذلك بعض الناس على الطعن فى كونها من عند اللّه ووحيه.
وقال الأستاذ الإمام : إن ظاهر الآية يأبى أن يكون المراد بالنفس الواحدة آدم لوجهين :
(1) البحث العلمي والتأريخي المعارض لذلك.
(2) إنه قال رجالا كثيرا ونساء ، ولم يقل الرجال والنساء ، ولكن ليس فى القرآن ما ينفى هذا الاعتقاد ولا ما يثبته إثباتا قاطعا لا يحتمل التأويل اه.
وما جاء من مخاطبة الناس بقوله : « يا بَنِي آدَمَ » لا يعد نصّا فى كون جميع البشر من أبنائه إذ يكفى فى صحة هذا الخطاب أن يكون من وجّه إليهم فى زمن التنزيل من أولاد آدم.(4/175)
ج 4 ، ص : 176
بحث فى حقيقة النفس أو الروح
اختلف المسلمون فى حقيقة النفس أو الروح الذي يحيا به الإنسان وتتحقق وحدة جنسه على اختلاف أصنافه ، وأشهر آرائهم فى ذلك : الرأى القائل :
إنها جسم نورانى علوىّ خفيف حىّ متحرك ينفذ فى جوهر الأعضاء ، ويسرى فيها سريان الماء فى الورد والنار فى الفحم ، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار التي تفيض عليها من هذا الجسم اللطيف ، وجد الحسّ والحركة الإرادية والفكر وغيرها ، وإذا فسدت هذه الأعضاء ، وعجزت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن ، وانفصل إلى عالم الأرواح.
ومما يثبت ذلك أن العقل والحفظ والتذكر وهى أمور ثابتة قطعا - ليست من صفات هذا الجسد ، فلابد لها من منشأ وجودى عبر عنه الأقدمون بالنفس أو الروح وما مثلها إلا مثل الكهرباء ، فالماديون الذين يقولون لا روح إلا هذه الحياة ، يكون مثل الجسد عندهم مثل المستودع الكهربائى ، فهو بوضعه الخاص ، وبما يودع فيه من الموادّ تتولد فيه الكهرباء ، فإذا زال شىء مما أودع فيه ، أو أزيل تركيبه الخاص فقد الكهرباء ، وهكذا حال الجسم تتولد فيه الحياة بتركيب مزاجه بكيفية خاصة ، وبزوالها تزول الحياة ، والذين يقولون إن للأرواح استقلالا عن الجسد ، يكون مثل الجسد مثل الآلة التي تدار بكهرباء تأتى إليها من المولّد الكهربائى ، فإذا كانت الآلة على وضع خاص فى أجزائها وأدوانها كانت مستعدة لقبول الكهرباء التي توجه إليها حتى تؤدى وظيفتها ، وإن فقدت منها بعض الأجزاء الرئيسية ، أو اختل وضعها الخاص تصبح غير قابلة للكهرباء ، ومن ثم لا تؤدى وظيفتها الخاصة بها.
(وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها) أي وخلق لتلك النفس التي هى آدم زوجا منها وهى حواء ، قالوا إنه خلقها من ضلعه الأيسر وهو نائم ، وقد صرح بهذا فى الفصل الثاني من سفر التكوين وورد فى بعض الأحاديث ، فقد روى البخاري قوله صلى اللّه عليه وسلم(4/176)
ج 4 ، ص : 177
« إن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها ، وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها » .
وخلاصة هذا - إنه شعّبكم من نفس واحدة أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حواء.
ويرى أبو مسلم الأصفهانى : أن معنى (منها) أي من جنسها كما جاء مثل هذا فى قوله : « وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » وقوله : « لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ » وقوله :
« لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ » فلا فرق بين أسلوب هذه الآية وأساليب الآيات الأخرى ، والمعنى فى الجميع واحد.
ومن ثبت عنده أن حواء خلقت من ضلع آدم فلا يكون مصدر الإثبات عنده هذه الآية ، وإلا كان إخراجا لها عما جاء فى أمثالها اه.
ثم فصل ما أجمله فى قوله : خلقكم من نفس واحدة ، فقال :
(وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً) أي ونشر من آدم وحواء نوعى جنس الإنس وهما الذكور والإناث ، فجعل النسل من الزوجين كليهما ، فجميع سلائل البشر متوالدة من زوجين ذكر وأنثى.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) أي واتقوا اللّه الذي يسأل به بعضكم بعضا ، بأن يقول سألتك باللّه أن تقضى هذه الحاجة ، وهو يرجو بذلك إجابة سؤله ، والمراد من سؤاله باللّه سؤاله بإيمانه به وتعظيمه إياه ، أي أسألك بسبب ذلك أن تفعل كذا.
واتقوا إضاعة حق الأرحام ، فصلوها بالبر والإحسان ولا تقطعوها.
وكرر الأمر بالتقوى للحث عليها ، وعبر أوّلا بلفظ (الربّ) الذي يدل على التربية والإحسان ، ثم بلفظ (اللَّهِ) الذي يدل على الهيبة والقهر للترغيب أولا والترهيب ثانيا(4/177)
ج 4 ، ص : 178
كما قال تعالى : « يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً » كأنه قيل : إنه رباك وأحسن إليك فاتق مخالفته ، لأنه شديد العقاب ، عظيم السطوة.
(إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) أي إنه مشرف على أعمالكم ومناشئها من نفوسكم ، وتأثيرها فى أحوالكم لا يخفى عليه شىء من ذلك ، فلا يشرع لكم من الأحكام إلا ما فيه صلاحكم وسعادتكم فى الدنيا والآخرة.
وفى ذلك تنبيه لنا إلى الإخلاص فى أعمالنا ، إذ من كان متذكرا أن اللّه مراقب لأعماله كان جديرا أن يتقيه ويلتزم حدوده.
[سورة النساء (4) : الآيات 2 الى 4]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)
تفسير المفردات
اليتيم لغة : من مات أبوه مطلقا ، لكن العرف خصصه بمن لم يبلغ مبلغ الرجال ، ولا تتبدلوا : أي لا تستبدلوا ، والخبيث : هو الحرام ، والطيب : هو الحلال ، حوبا كبيرا :
أي إثما عظيما ، القسط : النصيب ، وقسط : جار. قال اللّه تعالى : َ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً »
وأقسط : عدل. قال اللّه تعالى : « وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ » ما طاب لكم : أي مامال إليه القلب منهن ، مثنى وثلاث ورباع : أي ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا ، ذلك أدنى ألا تعولوا : أي ذلك أقرب إلى عدم العول(4/178)
ج 4 ، ص : 179
والجور ، صدقاتهن : مهورهن ، نحلة : أي عطية وهبة ، هنيئا مريئا : الهنيء ما يستلزه الآكل ، والمريء : ما تجمل عاقبته كأن يسهل هضمه وتحسن تغذيته.
المعنى الجملي
بعد أن افتتح سبحانه السورة بذكر ما يجب على العبد أن ينقاد له من التكاليف ، ليبتعد عن سخطه وغضبه فى الدنيا والآخرة - شرع يذكر أنواعها ، وأولها إيتاء اليتامى أموالهم ، وثانيها حكم ما يحل عدده من الزوجات ومتى يجب الاقتصار على واحدة ، ثم وجوب إيتاء الصداق لهن.
الإيضاح
(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) المراد بإيتاء الأموال إياهم : جعلها لهم خاصة وعدم أكل شىء منها بالباطل ، أي أيها الأولياء والأوصياء احفظوا أموال اليتامى ولا تتعرضوا لها بسوء وسلموها لهم متى آنستم منهم الرشد ، فاليتيم ضعيف لا يقدر على حفظ ماله والدفاع عنه.
(وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) أي ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم الذي اكتسبتموه من فضل اللّه.
وخلاصة ذلك - لا تتمتعوا بمال اليتيم فى المواضع والحالات التي من شأنكم أن تتمتعوا فيها بأموالكم ، فاذا فعلتم ذلك فقد جعلتم مال اليتيم بدلا من مالكم.
(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) المراد من الأكل سائر التصرفات المهلكة للأموال ، وإنما ذكر الأكل لأن معظم ما يقع من التصرفات فهو لأجله ، و(إِلى ) بمعنى مع أي لا تأكلوا أموالهم مخلوطة ومضمومة إلى أموالكم حتى لا تفرقوا بينهما ، لأن فى ذلك قلة مبالاة بما لا يحل وتسوية بين الحرام والحلال.
(إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) أي إن هذا الأكل ذنب عظيم وإثم كبير.(4/179)
ج 4 ، ص : 180
(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي وإن أحسستم من أنفسكم الخوف من أكل مال الزوجة اليتيمة فعليكم ألا تتزوجوا بها فان اللّه جعل لكم مندوحة عن اليتامى بما أباحه لكم من التزوّج بغيرهن واحدة أو ثنتين أو ثلاثا أو أربعا ، وتقول العرب فى كلامها اقتسموا ألف الدرهم هذا درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة على معنى أن كل واحد يأخذ درهمين فحسب أو ثلاثة أو أربعة ولو أفردت وقلت اقتسموه درهمين وثلاثة وأربعة لم يسغ استعمالا.
(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) أي ولكن إن خفتم ألا تعدلوا بين الزوجين أو الزوجات فعليكم أن تلزموا واحدة فقط ، والخوف من عدم العدل يصدق بالظن والشك فى ذلك ، فالذى يباح له أن يتزوج ثانية أو أكثر هو من يثق من نفسه بالعدل ثقة لا شك فيها.
(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي اقتصروا على واحدة من الحرائر وتمتعوا بمن تشاءون من السراري لعدم وجوب العدل بينهن ، ولكن لهن حق الكفاية فى نفقات المعيشة بما يتعارفه الناس.
(ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أي اختيار الواحدة أو التسرى أقرب من عدم الجور والظلم.
والخلاصة - إن البعد من الجور سبب فى تشريع الحكم ، وفى هذا إيماء إلى اشتراط العدل ووجوب تحرّيه ، وإلى أنه عزيز المنال كما قال تعالى : « وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ » .
والعدل إنما يكون فيما يدخل تحت طاقة الإنسان كالتسوية فى المسكن والملبس ونحو ذلك ، أما ما لا يدخل فى وسعه من ميل القلب إلى واحدة دون أخرى فلا يكلف الإنسان بالعدل فيه ، وقد كان النبي صلى اللّه عليه وسلم فى آخر عهده يميل إلى عائشة أكثر من سائر نسائه ، لكنه لا يخصها بشىء دونهن إلا برضاهن وإذنهن ،
وكان يقول(4/180)
ج 4 ، ص : 181
« اللهم إن هذا قسمى فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك »
يريد ميل القلب ، وقد استبان لك مما سلف أن إباحة تعدد الزوجات مضيق فيها أشد التضييق ، فهى ضرورة تباح لمن يحتاج إليها بشرط الثقة باقامة العدل والأمن من الجور.
وإن من يرى الفساد الذي يدب فى الأسر التي تتعدد فيها الزوجات ليحكم حكما قاطعا بأن البيت الذي فيه زوجتان أو أكثر لرجل واحد لا تستقيم له حال ولا يستتب فيه نظام.
فانك ترى إحدى الضرتين تغرى ولدها بعداوة إخوته ، وتغرى زوجها بهضم حقوق ولده من غيرها ، وكثيرا ما يطيع أحب نسائه إليه فيدب الفساد فى الأسرة كلها.
إلى أن ذلك ربما جر إلى السرقة والزنا والكذب والقتل فيقتل الولد والده والوالد ولده والزوجة زوجها ، والعكس بالعكس كما دونت ذلك سجلات المحاكم.
فيجب على رجال القضاء والفتيا الذين يعلمون أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وأن من أصول الدين منع الضرر والضرار ، أن ينظروا إلى علاج لهذه الحال ويضعوا من التشريع ما يكفل منع هذه المفاسد على قدر المستطاع.
مزايا تعدد الزوجات عند الحاجة إليه
الأصل فى السعادة الزوجية أن يكون للرجل زوج واحدة ، وذلك منتهى الكمال الذي ينبغى أن يربى عليه الناس ويقنعوا به ، لكن قد يعرض ما يدعو إلى مخالفة ذلك لمصالح هامة تتعلق بحياة الزوجين ، أو حاجة الأمة فيكون التعدد ضربة لازب لا غنى عنه ، ومن ذلك :
(1) أن يتزوج الرجل امرأة عاقرا وهو يود أن يكون له ولد ، فمن مصلحتها أو مصلحتهما معا أن تبقى زوجا له ويتزوج بغيرها ، ولا سيما إذا كان ذا جاه وثروة كأن يكون ملكا أو أميرا.(4/181)
ج 4 ، ص : 182
(2) أن تكبر المرأة وتبلغ سن اليأس ويرى الرجل حاجته إلى العقب ، وهو قادر على القيام بنفقة غير واحدة وكفاية الأولاد الكثيرين وتعليمهم.
(3) أن يرى الرجل أن امرأة واحدة لا تكفيه لإحصانه لأن مزاجه الخاص يدفعه إلى الحاجة إلى النساء ، ومزاجها بعكس هذا ، أو يكون زمن حيضها طويلا يأخذ جزءا كبيرا من الشهر فهو حينئذ أمام أحد أمرين : إما التزوج بثانية ، وإما الزنا الذي يضيع الدين والمال والصحة ، ويكون هذا شرا على الزوجة من ضم واحدة إليها مع العدل بينهما كما هو شرط الإباحة فى الإسلام.
(4) أن تكثر النساء فى الأمة كثرة فاحشة كما يحدث عقب الحروب التي تجتاح البلاد فتذهب بالألوف المؤلفة من الرجال ، فلا وسيلة للمرأة فى التكسب فى هذه الحال إلا ببيع عفافها ، ولا يخفى ما بعد هذا من شقاء على المرأة التي تقوم بالإنفاق على نفسها وعلى ولد ليس له والد يكفله ، ولا سيما عقب الولادة ومدة الرضاعة.
والمشاهد أن اختلاط النساء بالرجال فى المعامل ومحال التجارة وغيرها من الأماكن العامة قد جر إلى كثير من هتك الأعراض والوقوع فى الشقاء والبلاء حتى كتبت غير واحدة من الكاتبات الإنجليزيات ، وأبانت أن هذا التدهور الخلقي لا علاج له إلا بتعدد الزوجات ، مع أن هذا ضد مصلحة المرأة ، وهى تنفر منه بمقتضى شعورها ووجدانها ، وهاك ما قالته إحداهن فى بعض جرائدهن بإيجاز وتلخيص :
لقد كثرت الشاردات من بناتنا وقل الباحثون عن أسباب هذا البلاء ، وإنى لأنظر إليهن وقلبى ينفطر أسى وحزنا عليهن ، وماذا يفيد بثي وحزنى وإن شاركنى فيه الناس جميعا ، لا فائدة إلا العمل على ما يمنع هذه الحال ، وهو كما رأى (تومس) إباحة التزوج بأكثر من واحدة وبهذه الوسيلة تصبح بناتنا ربات بيوت.
إذ لم يجر إلى هذا البلاء إلا إجبار الأوربى على الاكتفاء بامرأة واحدة ، فهو الذي جعل بناتنا شوارد وقذف بهن إلى أعمال الرجال ولا بد أن يتفاقم الشر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة ، فأى ظن وحدس يحيط بعدد الرجال(4/182)
ج 4 ، ص : 183
المتزوجين الذين لهم أولاد من السفاح وقد أصبحوا عالة وعارا على المجتمع ولو أبيح التعدد لما حاق بأولئك الأولاد وبأمهاتهم ما هم فيه من عذاب ولسلم عرضهن وعرض أولادهن من فداحة الحال التي نراها الآن.
ونشرت كاتبة أخرى (مس إنى رود) فى جريدة أخرى تقول :
لأن يشتغل بناتنا فى البيوت خوادم أو شبه خوادم خير لهن وللمجتمع من اشتغالهن فى المعامل حيث تلوّث البنت بأذران الرذيلة التي تبقى لا صقة بها مدى حياتها.
ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة ، والخادم والرقيق ينعمان بأرغد عيش ويعاملان كما يعامل أولاد البيت ولا تمس الأعراض بسوء ، وإنه لعار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتها مثلا للرذائل بكثرة مخالطتهن الرجال.
فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها وتقوم بأعمال البيت وتترك أعمال الرجال للرجال فذلك أضمن لعفافها وهو الكفيل بسعادتها اه.
وصفوة القول : إن تعدد الزوجات يخالف المودة والرحمة وسكون النفس إلى المرأة وهى أركان سعادة الحياة الزوجية ، فلا ينبغى لمسلم أن يقدم عليه إلا ضرورة مع الثقة بما أوجبه اللّه من العدل ، وليس وراء ذلك إلا ظلم المرء لنفسه وامرأته وولده وأمته.
حكمة تعدد زوجات النبي صلى اللّه عليه وسلم
راعى النبي صلى اللّه عليه وسلم المصيحة فى اختيار كل زوجة من زوجاته ، فجذب إليه كبار القبائل بمصاهرتهم وعلم أتباعه احترام النساء وإكرام كرائمهن والعدل بينهن وترك من بعده تسع أمهات للمؤمنين يعلمن نساءهم الأحكام الخاصة بالنساء مما ينبغى أن يعلمنه منهن لامن الرجال ، ولو كان قد ترك واحدة ما كان فيها الغناء كما لو ترك التسع.(4/183)
ج 4 ، ص : 184
وقصارى القول إنه عليه السلام ما أراد بتعدد الزوجات ما يريده الملوك والأمراء والمترفون من التمتع بالنساء ، إذ لو كان قد أراد ذلك لاختارهن من حسان الأبكار لا من الكهلات الثيبات كما
قال لمن اختار ثيبا « هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك ، وتضاحكها وتضاحكك » رواه الشيخان.
(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) الخطاب للأزواج أي وأعطوا النساء اللواتى تعقدون عليهن المهور عطاء هبة يكون رمزا للمودة التي ينبغى أن تكون بينكما ، وآية من آيات المحبة ، ودليلا على وثيق الصلة والرابطة التي تجب أن تكنفكما وتحيط بسماء المنزل الذي تحلان فيه ، وقد جرى عرف الناس بعدم الاكتفاء بهذا العطاء فتراهم يردفونه بأصناف الهدايا والتحف من مآكل وملابس ومصوغات إلى نحو ذلك ، مما يعبر عن حسن تقدير الرجل للمرأة التي يريد أن يجعلها شريكته فى الحياة.
(فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) أي فإن طابت نفوسهن باعطائكم شيئا من الصداق من غير ضرار ولا خديعة فكلوه هنيئا مريئا ولا ذنب عليكم ولا إثم فى أخذه.
ومن ثم لا يجوز للرجل أن يأكل شيئا من مال امرأته إلا إذا علم أن نفسها طيبة به فاذا طلب منها شيئا وحملها الخوف أو الخجل على إعطاء ما طلب فلا يحل له ، ألا ترى أنّ اللّه تعالى نهى عن أخذ شىء من المرأة فى طور المفارقة فقال : « وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ ، وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ، فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً » فالتحذير من أخذه فى طور الرغبة والتحبب وإظهار القدرة على ما يجب عليه من أعباء الزوجية من كفالة المرأة والإنفاق عليها يكون أشد وآكد ، ولكن حب المل جعل الرجال يماكسون فى المهر كما يماكسون فى سلع التجارة ، وصار حبهم للمحافظة على الشرف والكرامة دون حبهم للدرهم والدينار.(4/184)
ج 4 ، ص : 185
[سورة النساء (4) : الآيات 5 الى 6]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)
تفسير المفردات
السفهاء واحدهم سفيه : وهو المبذّر للمال المنفق له فيما لا ينبغى ، وأصل السفه الخفة والاضطراب ، ومنه قيل زمان سفيه : إذا كان كثير الاضطراب ، وثوب سفيه : ردىء النسج ، ثم استعمل فى نقصان العقل فى تدبير المال وهو المراد هنا ، قياما : أي تقوم بها أمور معايشكم ، وتمنع عنكم الفقر. قال الراغب : القيام والقوام ما يقوم به الشيء ويثبت كالعماد والسناد لما يعمد ويسند به ، وارزقوهم : أي وأعطوهم ، والقول المعروف : ما تطيب به النفوس وتألفه كإفهام السفيه أن المال ماله لا فضل لأحد عليه ، آنستم منهم رشدا : أي أبصرتم منهم حسن التصرف فى الأموال ، الإسراف : مجاوزة الحد فى التصرف فى المال ، والبدار : المبادرة والمسارعة إلى الشيء ، يقال بادرت إلى الشيء وبدرت إليه ، فليستعفف :
أي فليعفّ ، والعفة : ترك ما لا ينبغى من الشهوات ، والحسيب : الرقيب.
المعنى الجملي
بعد أن أمرنا اللّه تعالى فى الآيات السالفة بإيتاء اليتامى أموالهم ، وبإيتاء النساء مهورهن أتى فى هذه الآية بشرط للإيتاء يشمل الأمرين معا وهو ألا يكون كل منهما سفيها ، مع بيان أنهم يرزقون فيها ، ويكسون مادامت فى أيديهم مع قول المعروف لهم حتى تحسن أحوالهم ، وأنه لا تسلم إليهم الأموال إلا إذا أونس منهم الرشد ، وأنه لا ينبغى الإسراف(4/185)
ج 4 ، ص : 186
فى أكل أموال اليتامى ، فمن كان من الأولياء غنيا فليعف عن الأكل من أموالهم ، ومن كان فقيرا فليأكل بما يبيحه الشرع ، ويستجيزه أرباب المروءة.
الإيضاح
(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً) هذا خطاب لمجموع الأمة ، والنهى شامل لكل مال يعطى لأىّ سفيه ، أي أعطوا كل يتيم ماله إذا بلغ ، وكل امرأة صداقها إلا إذا كان أحدهما سفيها لا يحسن التصرف فى ماله فامنعوه منه لئلا يضيعه ، واحفظوه له حتى يرشد.
وإنما قال أموالكم ولم يقل أموالهم مع أن الخطاب للأولياء والمال مال السفهاء الذين فى ولايتهم ، لينبهنا إلى أنه إذا ضاع هذا المال وجب على الولي أن ينفق عليه من مال نفسه ، فإضاعته مفضية إلى إضاعة شىء من مال الولي فكأن ماله عين ماله ، وإلى أن الأمة متكافلة فى المصالح ، فمصلحة كل فرد فيها كأنها مصلحة للآخرين.
ومعنى جعل الأموال قياما للناس ، أن بها تقوم وتثبت منافعهم ومرافقهم ، فمنافعهم الخاصة ، ومصالحهم العامة لا تزال قائمة ثابتة مادامت أموالهم فى أيدى الراشدين المقتصدين منهم الذين يحسنون تثميرها وتوفيرها ، ولا يتجاوزون حدود المصلحة فى الإنفاق ، وفى هذا حث عظيم على الاقتصاد بذكر فوائده ، وتنفير من الإسراف والتبذير ببيان مغبته ، فإن الأموال إذا وقعت فى أيدى السفهاء المسرفين فات ما كان من تلك المنافع قائما ، ومن ثم وصف اللّه المؤمنين بقوله : « وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً » . وقد ورد فى السنة النبوية حثّ كثير على الاقتصاد ، من ذلك مارواه أحمد عن ابن مسعود : « ما عال من اقتصد » . ومارواه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر :
« الاقتصاد فى النفقة نصف المعيشة ، والتودد إلى الناس نصف العقل ، وحسن العقل نصف العلم » وإن من أشد العجب أن يكون حال المسلمين اليوم ما نرى من الإسراف والتبذير ، وكتابهم يهديهم إلى ما للاقتصاد من فوائد ، وما للتبذير من مضار ، إلى ما للمال فى هذا الزمن من المنزلة التي لا يقدر قدرها حتى صارت جميع المرافق موقوفة(4/186)
ج 4 ، ص : 187
على المال ، وأصبحت الأمم الجاهلة بطرق الاقتصاد وليس فى أيديها المال مستذلة مستعبدة للأمم الغنية ذات البراعة فى الكسب والإحسان فى الاقتصاد وجمع المال.
ولا سبب لهذا إلا أنا نبذنا هدى القرآن وراء ظهورنا ، وأخذنا بآراء الجاهلين الذين لبسوا على الناس ونفثوا سمومهم وبالغوا فى التزهيد والحث على إنفاق ما تصل إليه الأيدى ، مع أن السلف الصالح كانوا من أشد الناس محافظة على ما فى أيديهم ، وأعرف الناس بتحصيل المال من وجوه الكسب الحلال ، وليت هذا التزهيد أتى بالغرض المسوق لأجله من الترغيب فى الآخرة والعمل لها ، لكنهم زهدوهم فى الدنيا وقطعوهم عن الآخرة فخسروهما معا ، وما ذاك إلا لجهلهم بهدى الإسلام وهو السعى للدنيا والعمل للآخرة كما
ورد فى الأثر « اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا » .
(وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) الرزق يعم وجوه الإنفاق جميعها كالأكل والمبيت والزواج والكسوة ، وإنما خص الكسوة بالذكر ، لأن الناس يتساهلون فيها أحيانا ، وقال (فيها) ولم يقل منها إشارة إلى أن الأموال تتخذ مكانا للرزق بالتجارة فيها فتكون النفقات من الأرباح لا من صلب المال حتى لا يأكلها الإنفاق ، أي أيها الأولياء الذين عهد إليكم حفظ أموال السفهاء وتثميرها حتى كأنها أموالكم ، عليكم أن تنفقوا عليهم فتقدموا لهم كفايتهم من الطعام والثياب ونحو ذلك.
(وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً) أي فليقل كل ولى للمولى عليه إذا كان صغيرا : المال مالك وما أنا إلا خازن له وإذا كبرت رد إليك وإذا كان سفيها وعظه ونصحه ، ورغبه فى ترك التبذير والإسراف ، وعرفه أن عاقبة ذلك الفقر والاحتياج إلى الخلق إلى نحو ذلك ، كما يعلمه كل ما يوصله إلى الرشد ، وبذا قد تحسن حاله ، فربما كان السفه عارضا لا فطريا ، فبالنصح والإرشاد والتأديب يزول ذلك العارض ويصبح رشيدا.(4/187)
ج 4 ، ص : 188
وأين هذا مما يفعله الأولياء والأوصياء من أكل أموال السفهاء ومدهم فى غيهم وسفههم حتى يحولوا بينهم وبين أسباب الرشد ، وما مقصدهم من ذلك إلا بقاء الأموال تحت أيديهم يتمتعون بها ، ويتصرفون فيها بحسب أهوائهم وشهواتهم.
وبعد أن أمر سبحانه بإيتاء اليتامى أموالهم وكان هذا مجملا ذكر كيفية ذلك الإيتاء ووقته فقال :
(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) ابتلاء اليتيم واختباره يكون بإعطائه شيئا من المال يتصرف فيه ، فإن أحسن كان راشدا ، إذ لا معنى للرشد هنا إلا حسن التصرف وإصابة الخير فيه ، وهو نتيجة صحة العقل وجودة الرأى.
وبلوغ النكاح هو الوصول إلى السن التي يستعد فيها المرء للزواج وهو بلوغ الحلم ، وهو فى هذه الحال تتوجه نفسه إلى أن يكون زوجا وأبا ورب أسرة ، ولا يتم له ذلك إلا بالمال ، ومن ثم وجب إيتاؤه إياه إلا إذا بلغ سفيها وخيف أن يضيعه.
والمعنى - أيها الأولياء ابتلوا اليتامى إلى ابتداء البلوغ وهو الحد الذي يبلغون فيه سن النكاح ، فإن آنستم منهم بعد البلوغ رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ، وإلا فاستمروا على الابتلاء حتى تأنسوه منهم ، ويرى أبو حنيفة دفع مال اليتيم إليه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وإن لم يرشد.
(وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) أي ولا تأكلوا أموال اليتامى مسرفين فى الإنفاق منها ولو على اليتيم نفسه ، ولا مبادرين كبرهم إليها أي ولا مسابقين الكبر فى السن التي بها يأخذونها منكم ، فأنتم تطلبون أكل هذا المال كما يطلب كبر السن صاحبه فالسابق منكما هو الذي يظفر به ، فبعض الأولياء الخربى الذمة يستعجلون ببعض التصرفات التي لهم فيها منفعة وليس لليتيم فيها ذلك حتى لا تفوتهم إذا كبر اليتيم وأخذ ماله.
ولما كانت هاتان الحالان - الإسراف ومسابقة كبر اليتيم ببعض التصرف - من مواطن الضعف التي تعرض للانسان نهى اللّه عنهما ونبه(4/188)
ج 4 ، ص : 189
الأولياء إلى خطرهما حتى يراقبوا ربهم إذا عرضتا لهم ، فقد تخادع الإنسان نفسه فى حد الإسراف وخفاء وجه منفعة الولي فى المسابقة إلى بعض الأعمال فى مال اليتيم ، ويغشّها إذا لم يمكن أن يمارى فى ذلك مراء ظاهرا تتضح فيه خيانته.
أما الأكل من مال اليتيم بلا إسراف ولا مبادرة خوف أخذها عند البلوغ ، فقد ذكر اللّه حكمه بقوله :
« وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ » أي فمن كان منكم غنيا غير محتاج إلى شىء من مال اليتيم الذي تحت ولايته فليعفّ عن الأكل من ماله ، ومن كان فقيرا لا يستغنى عن الانتفاع بشىء من مال اليتيم الذي يشغل بعض وقته فى تثميره وحفظه فليأكل منه بالمعروف ، وهو ما يبيحه الشرع ، ولا يستنكره أرباب المروءة ، ولا يعدونه خيانة وطمعا.
قال ابن جرير : إن الأمة مجمعة على أن مال اليتيم ليس مالا للولى ، فليس له أن يأكل منه شيئا ، ولكن له أن يستقرض منه عند الحاجة كما يستقرض له ، وله أن يؤاجر نفسه لليتيم بأجرة معلومة إذا كان اليتيم محتاجا إلى ذلك كما يستأجر له غيره من الأجراء غير مخصوص بها حال غنى ولا حال فقر ، وهكذا الحكم فى أموال المجانين والمعاتيه.
وقد روى أحمد عن ابن عمر رضي اللّه عنه أن رجلا سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : ليس لى مال وإنى ولىّ يتيم فقال : « كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثّل مالا ومن غير أن تقى مالك بماله » .
والحكمة فى هذا أن اليتيم يكون فى بيت الولي كولده ، والخير له فى تربيته أن يخالط الولىّ وأهله فى المؤاكلة والمعاشرة ، فإذا كان الولي غنيا ولا طمع له فى ماله كانت المخالطة مصلحة لليتيم ، وإن كان ينفق فيها شىء من ماله فبقدر حاجته ، وإن كان فقيرا فهو لا يستغنى عن إصابة بعض ما يحتاج إليه من مال اليتيم الغنى الذي فى حجره ، فإن أكل من طعامه ما جرى به العرف بين الخلطاء غير مصيب من صلب(4/189)
ج 4 ، ص : 190
المال شيئا ولا متأثل لنفسه منه عقارا ولا مالا آخر ولا منفق ماله فى مصالحه ومرافقه كان بعمله هذا آكلا بالمعروف.
(فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) أي فإذا دفعتم أيها الأولياء والأوصياء إلى اليتامى أموالهم فأشهدوا عليهم بقبضها وبراءة ذممكم منها ، كى لا يكون بينكم نزاع.
وهذا الإشهاد واجب عند الشافعية والمالكية ، إذ أن تركه يؤدى إلى التخاصم والتقاضي كما هو مشاهد ، وجعله الحنفية مندوبا لا واجبا.
(وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً) أي وكفى اللّه رقيبا عليكم يحاسبكم على ما تسرّون وما تعلنون ، وقد جاء هذا بعد الأمر بالإشهاد ليرشدنا إلى أن الإشهاد وإن أسقط الدعوى بالمال عند القاضي فهو لا يسقط الحق عند اللّه إذا كان الولي خائنا ، فإن اللّه لا يخفى عليه ما يخفى على الشهود والحكام.
وعلى الجملة فإنك ترى أن اللّه تعالى حاط أموال اليتامى بضروب من الصيانة والحفظ ، فأمر باختبار اليتيم قبل دفع ماله إليه ، ونهى عن أكل شىء منه بطرق الإسراف ومبادرة كبره ، وأمر بالإشهاد عليه عند الدفع ، ونبّه إلى مراقبة اللّه تعالى فى جميع التصرفات الخاصة به.
[سورة النساء (4) : الآيات 7 الى 10]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)(4/190)
ج 4 ، ص : 191
تفسير المفردات
مفروضا : أي محتوما لا بد لهم أن يأخذوه. الخشية : الخوف فى محل الأمن ، والسديد : العدل والصواب والسداد (بالكسر) ما يسد به الشيء كالثغر (موضع الخوف من العدو) والقارورة ، وورد قولهم : فيها سداد من عوز بكسر السين : أي فيها الغناء والكفاية ، وصلى اللحم صليا شواه ، فإذا أراد إحراقه يقال أصلاه إصلاء وصلّاه تصلية ، وصلى يده بالنار : أدفأها ، واصطلى : استدفأ ، والسعير : النار المستعرة المشتعلة ، يقال سعرت النار وسعّرتها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فى الآيات السابقة حرمة أكل أموال اليتامى وأمر بإعطائهم أموالهم إذا رشدوا ، ومنع أكل مهور النساء أو تزويجهن بغير مهر.
ذكر هنا أن المال الموروث الذي يحفظه الأولياء لليتامى يشترك فيه الرجال والنساء ، وقد كانوا فى الجاهلية لا يورثون النساء والأولاد الصغار ، ويقولون لا يرث إلا من طاعن بالرماح وحاز الغنيمة ، ثم أمر بإحسان القول إلى اليتامى ، لأن اليتيم مرهف الحسّ يألم للكلمة تهينه ، ولا سيما ذكر أبيه وأمه بسوء ، وقلما يوجد يتيم لا يمتهن ولا يقهر بالسوء من القول ، ثم طلب الإشفاق عليهم ومعاملتهم بالحسنى ، فربما يترك الميت ذرية ضعافا يود أن غيره يعاملهم بمثل هذه المعاملة ، وبعدئذ شدد فى الوعيد ، ونفرّ من أكل أموال اليتامى ظلما وجعل أكله كأكل النار.
وقد روى فى سبب نزول الآية « أن أوس بن الصامت الأنصاري توفّى وترك امرأته أم كحلة وثلاث بنات له منها فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة ميراثه عنهن على سنة الجاهلية ، فجاءت امرأته إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى مسجد الفضيح (مسجد بالمدينة كان يسكنه أهل الصفّة) فشكت إليه أن زوجها أوسا قد مات وخلف ثلاث بنات وليس عندها ما تنفق عليهن منه ، وقد ترك أبوهن مالا حسنا(4/191)
ج 4 ، ص : 192
عند ابني عمه لم يعطياها منه شيئا ، وهن فى حجرى لا يطعمن ولا يسقين ، فدعاهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالا : يا رسول اللّه ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلّا ولا ينكى عدوا ، نكسب عليها ولا تكسب ، فنزلت الآية فأثبتت لهن الميراث. فقال رسول اللّه لا تفرّقا من مال أوس شيئا فإن اللّه جعل لبناته نصيبا مما ترك ولم يبين ، فنزلت (يُوصِيكُمُ اللَّهُ) إلخ فأعطى زوجه الثمن والبنات الثلثين والباقي لبنى العم » .
الإيضاح
(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) أي إذا كان لليتامى مال مما تركه لهم الوالدان والأقربون فهم فيه سواء ، لا فرق بين الرجال والنساء ، ولا فرق بين كونه كثيرا أو قليلا ، وأتى بقوله نصيبا مفروضا ، لبيان أنه حق معين مقطوع به ليس لأحد أن ينقص منه شيئا ولا أن يحابى فيه.
(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً) المراد بذوي القربى من لا يرث منهم كالأخ لأب مع الأخ الشقيق والعم مع الأب.
أي إذا حضر قسمة التركة أحد من ذوى القربى للوارثين فانفحوهم بشىء من الرزق الذي جاءكم من غير كدّ ولا نصب ، فلا ينبغى أن تبخلوا به على المحتاجين من ذوى القربى واليتامى والمساكين وتتركوهم يذهبون منكسرى القلب مضطربى النفس ، وقولوا لهم قولا تطيب به نفوسهم عند ما يعطون ، حتى لا يثقل على أبىّ النفس منهم ما يأخذ ، ويرضى الطامع فى أكثر مما أخذ بالتودد والتلطف فى القول وعدم التغليظ فيه.
والسر فى إعطائهم شيئا من التركة أنه ربما يسرى الحسد إلى نفوسهم ، فينبغى التودّد إليهم واستمالتهم بإعطائهم قدرا من هذا المال هبة أو هدية أو إعداد طعام لهم يوم القسمة ، ليكون فى هذا صلة للرحم ، وشكر للنعمة.(4/192)
ج 4 ، ص : 193
قال سعيد بن جبير : هذا الأمر (أمر الإعطاء) للوجوب وقد هجره الناس كما هجروا العمل بالاستئذان عند دخول البيوت.
وقال الحسن والنخعي : إنّ ما أمرنا أن نرزقهم منه عند القسمة هو الأعيان المنقولة ، وأما الأرضون والرقيق وما أشبه ذلك فلا يجب أن يعطوا منها شيئا بل يكتفى حينئذ بقول المعروف أو بإطعام الطعام.
(وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً) لا يزال الكلام مع الأوصياء والأولياء الذين يقومون على اليتامى والقول السديد منهم أن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ويدعوهم بقولهم يا بنىّ ويا ولدي ونحو ذلك ، وقوله تركوا أي قاربوا أن يتركوا ، وقوله من خلفهم : أي من بعد موتهم ، وقوله خافوا عليهم أي الإهمال والضياع.
(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) ظلما أي على سبيل الظلم وهضم الحقوق لا أكلا بالمعروف عند الحاجة إلى ذلك أو تقدير الأجرة العمل ، وقوله فى بطونهم : أي ملء بطونهم ، وقوله نارا : أي ما هو سبب لعذاب النار(4/193)
ج 4 ، ص : 194
[سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 12]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حكم الميراث مجملا فى قوله : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ، ذكر هنا تفصيل ذلك المجمل فبين أحكام المواريث وفرائضها لإبطال ما كان عليه العرب من نظام التوارث فى الجاهلية من منع الأنثى وصغار الأولاد ، وتوريث بعض من حرمه الإسلام من الميراث.
وقد كانت أسباب الإرث فى الجاهلية ثلاثة :
(1) النسب ، وهو لا يكون إلا للرجال الذين يركبون الخيل ويقاتلون العدو ويأخذون الغنائم وليس للضعيفين المرأة والطفل من ذلك شىء.
(2) التبني - فقد كان الرجل يتبنى ولد غيره فيكون له أحكام الولد فى الميراث وغيره.
(3) الحلف والعهد - فقد كان الرجل يقول لآخر دمى دمك وهدمى هدمك (أي إذا أهدر دمى أهدر دمك) وترثنى وأرثك وتطلب بي وأطلب بك ، فإذا فعلا ذلك ومات أحدهما قبل الآخر كان للحى ما اشترط من مال الميت.(4/194)
ج 4 ، ص : 195
فلما جاء الإسلام أقرهم على الأول والثالث دون الثاني فقال « وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ » والمراد به التوارث بالنسب وقال :
(وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) والمراد به التوارث بالعهد.
وقال (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) والمراد به التوارث بالتبني.
وزاد شيئين آخرين :
(1) الهجرة ، فكان المهاجر يرث من المهاجر وإن كان أجنبيا عنه إذا كان بينهما مخالطة وودّ ولا يرثه غير المهاجر وإن كان من أقاربه.
(2) المؤاخاة - كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يؤاخى بين كل اثنين من الرجال وكان ذلك سببا للتوارث ثم نسخ التوارث بهذين السببين بقوله : « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ » ثم استقر الأمر بعد نزول أحكام الفرائض على أن أسباب الإرث ثلاثة : النسب والنكاح والولاء.
وسبب نزول الآية ما
أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث جابر قال : « جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت : يا رسول اللّه هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك فى أحد شهيدا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا تنكحان إلا ولهما مال فقال يقضى اللّه فى ذلك فنزلت آية الميراث (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) الآية ، فأرسل رسول اللّه إلى عمهما فقال : أعط بنتي سعد الثلثين وأمها الثمن وما بقي فهو لك »
قالوا وهذه أول تركة قسمت فى الإسلام.
الإيضاح
(يُوصِيكُمُ اللَّهُ) الوصية : ما تعهد به إلى غيرك من العمل كما تقول أوصيت المعلم أن يراقب آداب الصبى ويؤدبه على ما يسىء فيه ، وهى فى الحقيقة أمر له بعمل ما عهد إليه له ، فالمراد يأمركم اللّه ويفرض عليكم.(4/195)
ج 4 ، ص : 196 (فِي أَوْلادِكُمْ) أي فى شأن أولادكم من بعدكم ، أو فى ميراثهم ما يستحقونه مما تتركونه من أموالكم سواء كانوا ذكورا أو إناثا كبارا أو صغارا ، ولا خلاف فى أن ولد الولد يقوم مقامه عند فقده أو عدم إرثه لمانع كقتل مورّثه ، قال :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد
(لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أي للذكر منهم مثل نصيب اثنتين من إناثهم إذا كانوا ذكورا وإناثا ، واختير هذا التعبير ولم يقل للأنثى نصف حظ الذكر إيماء إلى أن إرث الأنثى كأنه مقرر معروف وللذكر مثله مرتين ، وإشارة إلى إبطال ما كانت عليه العرب فى الجاهلية من منع توريث النساء.
والحكمة فى جعل حظ الذكر كحظ الأنثيين ، أن الذكر يحتاج إلى الإنفاق على نفسه وعلى زوجه فجعل له سهمان ، وأما الأنثى فهى تنفق على نفسها فحسب ، فإن تزوجت كانت نفقتها على زوجها.
ويدخل فى عموم الأولاد :
(1) الكافر لكن السنة بينت أن اختلاف الدين مانع من الإرث ،
قال عليه الصلاة والسلام « لا يتوارث أهل ملتين » .
(2) القاتل عمدا لأحد أبويه ويخرج بالسنة والإجماع.
(3) الرقيق وقد ثبت منعه بالإجماع ، لأن المملوك لا يملك ، بل كل ما يصل إلى يده من المال فهو ملك لسيده ومالكه ، فلو أعطيناه من التركة شيئا كنا معطين ذلك للسيد يكون هو الوارث بالفعل.
(4) الميراث من النبي صلى اللّه عليه وسلم فقد استثنى
بحديث « نحن معاشر الأنبياء لا نورث » .
(فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) أي فإن كانت المولودات نساء ليس معهن ذكر زائدات على ثنتين مهما بلغ عددهن فلهن ثلثا ما ترك والدهن المتوفى أو والدتهن (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) أي وإن كانت المولودة واحدة ليس معها أخ(4/196)
ج 4 ، ص : 197
ولا أخت فلها النصف مما ترك والباقي لسائر الورثة بحسب الاستحقاق كما يعلم من أحكام المواريث.
وخلاصة ذلك - إنه إذا كان الأولاد ذكورا وإناثا كان للذكر مثل حظ الأنثيين وإن كان المولود أنثى واحدة كان لها النصف ، وإن كن ثلاثا فصاعدا كان لهن الثلثان ولم يذكر حكم الثنتين ، ومن ثم اختلفوا فيهما ، فروى عن ابن عباس أن لهما النصف كالواحدة ، والجمهور على أن لهما الثلثين كالعدد الكثير.
وقد علم من ذلك أن البنات لا يستغرق فرضهن التركة ، والولد الذكر إذا انفرد يأخذ التركة ، وإذا كان معه أخ له فأكثر كانت قسمة التركة بينهما أو بينهم بالمساواة.
(وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) أي ولكل من أبوى الميت السدس مما ترك الولد على السواء فى هذه الفريضة إن كان لهذا الميت ولد فأكثر والباقي بعد هذا الثلث يقسمه الأولاد بحسب التفصيل المتقدم.
(فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) أي فإن لم يكن له ولد ولا ولد ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث مما ترك والباقي للأب كما هو معلوم من انحصار الإرث فيهما.
والسر فى تساوى الوالدين فى الميراث مع وجود الأولاد ، الإشارة إلى وجوب احترامهما على السواء ، وفى أن حظ الوالدين من الإرث أقل من حظ الأولاد مع عظم حقهما على الولد ، أنهما يكونان فى الغالب أقل حاجة إلى المال من الأولاد ، إما لكبرهما وإما لتمولهما ، وإما لوجود من تجب عليه نفقتهما من أولادهما الأحياء وأما الأولاد ، فإما أن يكونوا صغارا لا يقدرون على الكسب ، وإما أن يكونوا على كبرهم محتاجين إلى نفقات كثيرة فى الحياة كالزواج وتربية الأطفال ونحو ذلك.
(فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) أي فإن كان للميت مع إرث أبويه له إخوة فلأمه السدس مما ترك ، سواء كان الإخوة ذكورا أو إناثا من الأبوين أو أحدهما ، فكل جمع منهم يحجب الأم من الثلث إلى السدس ، وحكم الأخوين أو الأختين حكم الإخوة عند أكثر الصحابة ، وخالف فى ذلك ابن عباس فقد أثر عنه أنه قال(4/197)
ج 4 ، ص : 198
لعثمان : بم صار الأخوان يردّان الأم من الثلث إلى السدس ، وإنما قال اللّه تعالى :
(فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) والأخوان فى لسان قومك ليسا بإخوة ؟ فقال عثمان : لا أستطيع أن أرد قضاء قضى به من قبلى ومضى فى الأمصار (يريد عثمان أن النبي صلى اللّه عليه وسلم والخلفاء الراشدين أقاموا الاثنين مقام الجماعة فى اعتبار الشرع لا فى اعتبار اللغة) والخلاصة - إن الآية ذكرت حكم الأبوين مع الولد ، وحكمهما منفردين ليس معهما وارث آخر ، وحكمهما مع الإخوة ، ولم يبق إلا حكمهما مع أحد الزوجين ، وجمهور الصحابة على أن الزوج يأخذ نصيبه وهو النصف إن كان رجلا ، والربع إن كان أنثى ، والباقي للأبوين ، ثلثه للأم وباقيه للأب. وقال ابن عباس يأخذ الزوج نصيبه ، وتأخذ الأم ثلث التركة كلها ، ويأخذ الأب ما بقي ، وقال لا أجد فى كتاب اللّه ثلث الباقي.
ومن هذا تعلم أن حقوق الزوجية فى الإرث مقدمة على حقوق الوالدين ، إذ أنهما يتقاسمان ما يبقى بعد أخذ الزوج حصته ، وسرّ هذا أن صلة الزوجية أشد وأقوى من صلة البنوة ، ذاك أنهما يعيشان مجتمعين وجود كل منهما متمم لوجود الآخر حتى كأنه نصف شخصه ، وهما حينئذ منفصلان عن الوالدين أشد الانفصال ، فبهذا كانت حقوق المعيشة بينهما آكد ، ومن ثم جعل الشارع حق المرأة على الرجل فى النفقة هو الحق الأول ، فإذا لم يجد الرجل إلا رغيفين سدّ رمقه بأحدهما ووجب عليه أن يعطى الثاني لامرأته لا لأحد أبويه ولا لغيرهما من أقاربه.
(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) أي يوصيكم بأن لأولاد من يموت منكم كذا من التركة ولأبويه كذا منها من بعد وصية يقع الإيصاء بها من الميت ، ويتحقق نسبتها إليه ومن بعد قضاء دين يتركه عليه.
وقدمت الوصية على الدين فى الذكر مع أن الدين مقدم عليها وفاء كما
قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما رواه علىّ كرم اللّه وجهه وأخرجه عنه جماعة ، لأ تؤخذ كالميراث بلا عوض فتشق على الورثة.(4/198)
ج 4 ، ص : 199
وجاء عطف الدين على الوصية بأو دون الواو إشارة إلى أنهما متساويان فى الوجوب متقدمان على قسمة التركة مجموعين أو منفردين.
ثم أتى بجملة معترضة للتنبيه إلى جهل المرء بعواقب الأمور فقال :
(آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) أي إنكم لا تدرون أىّ الفريقين أقرب لكم نفعا آباؤكم أو أبناؤكم ، فلا تتبعوا فى قسمة التركات ما كان يتعارفه أهل الجاهلية من إعطائها للأقوياء الذين يحاربون الأعداء ، وحرمان الأطفال والنساء لأنهم من الضعفاء ، بل اتبعوا ما أمركم اللّه به ، فهو أعلم منكم بما هو أقرب نفعا لكم مما تقوم به فى الدنيا مصالحكم وتعظم به فى الآخرة أجوركم (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) أي فرض اللّه ما ذكر من الأحكام فريضة لا هوادة فى وجوب العمل بها.
(إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي إنه تعالى لعلمه بشئونكم ولحكمته العظيمة لا يشرع لكم إلا ما فيه المنفعة لكم ، إذ لا تخفى عليه خافية من وجوه المصالح والمنافع - إلى أنه منزه عن الغرض والهوى اللذين من شأنهما أن يمنعا من وضع الشيء فى غير موضعه ، ومن إعطاء الحق لمن يستحقه.
وبعد أن بين سبحانه فرائض الأولاد والوالدين ، وقدم الأهم منهما من حيث حاجته إلى المال المتروك وهم الأولاد - ذكر هنا فرائض الزوجين فقال :
(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) أي ولكم نصف ما تركته الزوجات من المال إن لم يكن لهن ولد ، سواء أ كان منكم أم من غيركم ، وسواء أ كان ذكرا أم أنثى ، وسواء أ كان واحدا أم أكثر ، وسواء أ كان من بطنها مباشرة ، أو صلب بنيها أو بنى بنيها ، وباقى التركة لأولادها ووالديها على ما بينه اللّه فى الآية السالفة : ولا يشترط فى الزوجة أن يكون مدخولا بها ، بل يكفى مجرد العقد.
(فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) والباقي من التركة للأقرب إليها من ذوى الفروض والعصبات أو ذوى الأرحام أو لبيت المال إن لم يكن وارث آخر.(4/199)
ج 4 ، ص : 200
(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) أي لكم ذلك فى تركتهن فى الحالين السابقتين بعد نفاذ الوصية ووفاء الديون ، إذ لا يأخذ الوارث شيئا إلا ما يفضل عنهما إذا وجدا أو وجد أحدهما.
(وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) بحسب التفصيل السابق فى أولادهن فإن كانت واحدة فلها هذا الربع وحدها ، وإن كان له زوجان فأكثر اشتركتا أو اشتركن فيه على طريق التساوي والباقي يكون لمن يستحقه من ذوى القربى وأولى الأرحام.
(فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) والباقي لأولادكم ووالديكم كما تقدم.
(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) بالطريق التي علمتها فيما سلف ، وبهذا تعلم أن فرض الرجل بحق الزواج ضعف فرض المرأة كما فى النسب ، ولم يعط اللّه تعالى للزوجات فى الميراث إلا مثل ما أعطى للزوج الواحدة لإرشادنا إلى أن الأصل الذي ينبغى أن نسير عليه فى الزوجية أن تكون للرجل امرأة واحدة ، وإنما يباح الأكثر بشروط مضيقة ، وأن التعدد من الأمور النادرة التي تدعو إليها الضرورة فلم يراعها الشارع فى الأحكام ، إذ الأحكام إنما توضع للأصل الذي عليه العمل والنادر لا حكم له.
وبعد أن بين سبحانه حكم ميراث الأولاد والوالدين والأزواج ممن يتصل بالميت مباشرة شرع يبين من يتصل به بالواسطة وهو الكلالة. فقال :
(وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) الكلالة لغة : الإحاطة ، ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس ، وسمى من عدا الوالد والولد بالكلالة لأنهم كالدائرة المحيطة بالإنسان وكالإكليل المحيط برأسه ، أما قرابة الولادة ففيها يتفرع بعض من بعض كالشىء الذي يتزايد على نسق واحد.
أي إن كان الميت رجلا أو امرأة موروثا كلالة أي ذا كلالة ليس له ولد ولا والد وله أخ أو أخت من أم ، لأن الأخوين من العصبة سيأتى حكمهما فى آخر السورة (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) إلخ.(4/200)
ج 4 ، ص : 201
(فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) أي إن الأخ لأم يأخذ فى الكلالة السدس ، وكذلك الأخت ، لا فارق بين الذكر والأنثى ، لأن كلا منهما حل محل أمه فأخذ نصيبها ، فإذا تعددوا أخذوا الثلث وكانوا أيضا فيه سواء لا تفاضل بين ذكورهم وإناثهم.
(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) أي من بعد وصية يوصى بها أو دين يقرّبه وهو غير مضارّ للورثة قال النخعي : قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يوص ، وقبض أبو بكر وقد وصى ، فإن أوصى الإنسان فحسن ، وإن لم يوص فحسن أيضا ، ومن الحسن أن ينظر الإنسان فى قدر ما يخلف ومن يخلف ثم يجعل وصيته بحسب ذلك ، فإن كان ماله قليلا وفى الورثة كثرة لم يوص ، وإن كان فى المال كثرة أوصى بحسب ماله وبحسب حاجتهم بعده كثرة وقلة ،
وقد روى عن على أنه قال : لأن أوصى بالخمس أحب إلىّ من أن أوصى بالربع ، ولأن أوصى بالربع أحب إلىّ من أن أوصى بالثلث.
والضرار فى الوصية والدين يقع على وجوه :
1) أن يوصى بأكثر من الثلث ، وهو لا يصح ولا ينفّذ ، وعن ابن عباس أن الضرار فيها من الكبائر.
2) أن يوصى بالثلث فما دونه لا لغرض من القربة والتصدق لوجه اللّه بل لغرض تنقيص حقوق الورثة.
3) أن يقر بدين لأجنبى يستغرق المال كله أو بعضه ، ولا يريد بذلك إلا مضارة الورثة ، وكثيرا ما يفعله المبغضون للوارثين ولا سيما إذا كانوا كلالة ، ومن ثم جاء ذكر هذا القيد (غير مضارّ) فى وصية ميراث الكلالة ، لأن القصد إلى مضارة الوالدين أو الأولاد وكذا الأزواج نادر.
4) أن يقرّ بأن الدين الذي كان له على فلان قد استوفاه ووصل إليه.
(وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ) أي يوصيكم بذلك وصية منه عز وجل ، فهى جديرة أن يعتنى بها ويذعن للعمل بموجبها.(4/201)
ج 4 ، ص : 202
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) أي واللّه عليم بما ينفعكم وبنيات الموصين منكم ، حليم لا يعجل بعقوبتكم بمخالفة أحكامه ولا بالجزاء على مخالفتها عسى أن تتوبوا ، كما لا يبيح لكم أن تعجلوا بعقوبة من تبغضونه فتضاروه فى الوصية ، كما لا يرضى لكم بحرمان النساء والأطفال من الإرث.
وفى هذا إشارة إلى أنه تعالى قد فرضها وهو يعلم ما فيها من الخير والمصلحة لنا ، فمن الواجب أن نذعن لوصاياه وفرائضه ونعمل بما ينزل علينا من هدايته ، كما لا ينبغى أن يغرّ الطامع فى الاعتداء وأكل الحقوق تمتع بعض المعتدين بما أكلوا بالباطل ، فيظن أنهم بمنجاة من العذاب فيتجرأ على مثل ما تجرءوا عليه من الاعتداء ، فإنه إمهال يقتضيه الحلم لا إهمال من العجز وعدم العلم
[سورة النساء (4) : الآيات 13 الى 14]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)
الإيضاح
(تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) حدود الشيء : أطرافه التي يمتاز بها من غيره ، ومنه حدود الدار ، سميت بها الشرائع التي أمر اللّه باتباعها ونهى عن تركها ، فمدار الطاعة على البقاء فى دائرة هذه الحدود ، ومدار العصيان على اعتدائها ، والمشار إليه كل ما ذكر من أول السورة إلى هنا من بيان أموال اليتامى وأحكام الأزواج وأحوال المواريث.
(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) طاعة اللّه : هى ما شرعه من الدين على لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم ،(4/202)
ج 4 ، ص : 203
وطاعة الرسول : هى اتباع ما جاء به من الدين عن ربه ، فطاعته هى بعينها طاعة اللّه كما قال فى هذه السورة (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) فهو إنما يأمرنا بما يوحيه إليه اللّه بما فيه منافع لنا فى الدنيا والآخرة ، وإنما ذكرها مع طاعة اللّه للاشارة إلى أن الإنسان لا يستغنى بعقله وعلمه عن الوحى وأنه لا بد له من هداية الدين إذ لم يكن العقل وحده فى عصر من العصور كافيا لهداية أمة ولا مرقّيا لها بدون معونة الدين ، فاتباع الرسل والعمل بهديهم هو أساس كل مدنية ، والارتقاء المعنوي هو الذي يبعث على الارتقاء المادي ، فالآداب والفضائل التي هى أسس المدنيات تستند كلها إلى الدين ، ولا يكفى فيها بناؤها على العلم والعقل ، والجنات التي تجرى من تحتها الأنهار تقدم تفسيرها ، ونحن نؤمن ونعتقد أنها أرفع مما نرى فى هذه الدنيا ، وليس لنا أن نبحث عن كيفيتها لأنها من عالم الغيب ، والفوز العظيم : الظفر والفلاح الذي لا يذكر بجانبه الفوز بحظوظ الدنيا القصيرة المنغصة بالأكدار (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) وقال فى ذكر أهل الجنة خالدين ، وفى ذكر أهل النار خالدا ، إشارة إلى تمتع أهل الجنة بالاجتماع وأنس بعضهم ببعض ، والمترفون يسرون بمثل هذا التمتع ، وأما الذي فى النار فإن له من العذاب ما يمنعه من الأنس فكأنه وحيد لا يجد لذة فى الاجتماع بغيره ولا أنسابه.
يرشد إلى ذلك قوله تعالى « وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ » وتعدى الحدود الموجب للخلود فى النار : هو الإصرار على الذنب وعدم التوبة عنه ، فللمذنب حالان :
1) غلبة الباعث النفسي من الشهوة أو الغضب على الإنسان حتى يغيب عن ذهنه الأمر الإلهى ، فهو يقع فى الذنب وقلبه غائب عن الوعيد لا يتذكره أو يتذكره ضعيفا كأنه نور ضئيل يلوح فى ظلمة ذلك الباعث المتغلب ثم لا يلبث أن يزول أو يختفى ، حتى إذا سكنت الشهوة أو سكت الغضب وتذكر النهى والوعيد ندم وتاب ولام نفسه أشد اللوم ، ومثل هذا جدير بالنجاة إذ هو من المسارعين إلى الجنة كما قال تعالى فى أوصافهم « وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ » .(4/203)
ج 4 ، ص : 204
2) أن يقدم المرء على الذنب جريئا عليه متعمدا فعله عالما بتحريمه مؤثرا له على الطاعة ، لا يصرفه عنه تذكر النهى والوعيد عليه ، ومثل هذا قد أحاطت به خطيئته فآثر شهوته على طاعة اللّه ورسوله ، فدخل فى عموم قوله تعالى « بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ » .
إذ من يصرّ على المعصية عامدا عالما بالنهى والوعيد لا يكون مؤمنا بصدق الرسول ولا مذعنا لشرعه الذي تنال الرحمة والرضا بالتزامه ، والعذاب والنكال بتعدي حدوده ، فالإصرار على العصيان وعدم استشعار الخوف والندم لا يجتمعان فى قلب المؤمن الإيمان الصحيح المصدّق بوعد اللّه ووعيده.
(وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) المهين المذلّ له وهو عذاب الروح ، فللعصاة عذابان : عذاب جسمانى للبدن العاصي باعتباره حيوانا يتألم ، وعذاب روحانى باعتباره إنسانا يشعر بالكرامة والشرف ويتألم بالإهانة والخزي.
[سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 16]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)
المعنى الجملي
بعد أن أوصى سبحانه بالإحسان إلى النساء ومعاشرتهن بالمعروف والمحافظة على أموالهن وعدم أخذ شىء منها إلا إذا طابت نفسهن بذلك - ذكر هنا التشديد عليهن فيما يأتينه من الفاحشة ، وهو فى الحقيقة إحسان إليهن ، إذ الإحسان فى الدنيا تارة يكون بالثواب ، وأخرى بالزجر والعقاب ، لكف العاصي عن العصيان الذي يوقعه فى الدمار(4/204)
ج 4 ، ص : 205
والبوار ، ومبنى الشرائع على العدل والإنصاف والابتعاد عن طرفى الإفراط والتفريط.
ومن أقبح العصيان الزنا ، ولا سيما من النساء ، لأن الفتنة بهن أكثر ، والضرر منهن أخطر ، لما يفضى إليه من توريث أولاد الزنا وانتسابهم إلى غير آبائهم.
الإيضاح
(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) يقال أتى الفاحشة وجاءها وغشيها إذا فعلها قال تعالى « لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا » وفى التعبير عن الإقدام على الفواحش بهذه العبارات معنى دقيق وهو أن الفاعل لها ذهب إليها بنفسه واختارها بطبعه ، والفاحشة الفعلة القبيحة والمراد بها هنا الزنا لزيادتها فى القبح على كثير من القبائح ، وقوله من نسائكم أي من المؤمنات.
(فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) أي اطلبوا شهادة أربعة رجال أحرار منكم.
قال الزهري « مضت السنة من رسول اللّه والخليفتين بعده ألا تقبل شهادة النساء فى الحدود » والحكمة فى هذا إبعاد النساء عن مواقع الفواحش والجرائم والعقاب والتعذيب رغبة فى أن يكنّ دائما غافلات عن القبائح لا يفكرن فيها ولا يخضن مع أربابها.
والخطاب للمسلمين جميعا لأنهم متكافلون فى أمورهم العامة كما تقدم مرارا ، فهم الذين يختارون لأنفسهم الحكام الذين ينفذون الأحكام ويقيمون الحدود.
(فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) التوفى الاستيفاء وهو القبض ، تقول توفيت مالى على فلان واستوفيته إذا قبضته ، والسبيل الطريق للخروج من الحبس بما يشرعه اللّه من العقوبة لهن.
والمعنى فان شهد الأربعة بفعلها فاحبسوهن فى بيوتهم وامنعوهن الخروج منها عقوبة لهن حتى لا يعدن إلى ارتكابها مرة أخرى إلى أن يمتن ويقبض أرواحهنّ الموت أو يجعل اللّه لهن طريقا بما يشرعه من حدّ الزنا.(4/205)
ج 4 ، ص : 206
وفى الآية إشارة إلى أن منع النساء عن الخروج عند الحاجة إليه فى غير هذه الحالة لمجرد الغيرة أو لمجرد الهوى والتحكم من الرحال لا يجوز ، وكذلك فيها إيماء إلى أن هذه العقوبة مقرونة بما يدل على التوقيت.
وقد روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال « خذوا عنى خذوا عنى ، قد جعل اللّه لهن سبيلا ، الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام »
ومن هذا تعلم أن السبيل كان مجملا فبينه الحديث وخصص عموم آية الجلد الآتية فى سورة النور (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ).
ثم بين عقاب كل من الزانيين فقال :
(وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) أي والزاني والزانية اللذان يرتكبان جريمة الزنا آذوهما بالتأنيب والتوبيخ بعد ثبوت ذلك بشهادة أربعة من الرجال.
وهذا العقاب كان أول الإسلام من قبيل التعزير وأمره مفوض إلى الأمة فى كيفيته ومقداره فلما نزلت آية النور التي تقدم ذكرها وجاء الحديث الشريف السابق بينا مقدار هذا الإيذاء وحدداه ، وبهما استبان أن عقاب الثيب والرجل المتزوج الرجم بالحجارة حتى يموتا وعقاب البكر والرجل الذي لم يتزوج جلد مائة ونفيه سنة.
ثم بين أن هذا العقاب إنما يكون إذا لم يتوبا فإن تابا وأصلحا رفع عنهما ذلك فقال :
(فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) أي فان رجعا عن فعل الفاحشة وندما على ما فات وأصلحا عملهما وغيّرا أحوالهما كما هو شأن المؤمن يطهر نفسه بالإقبال على الطاعة ويزكيها من أدران المعاصي التي فرطت منه ويقوى داعية الخير حتى تغلب داعية الشر فكفوا عن أذاهما بالقول والفعل.
ثم علل الأمر بالإعراض عنهما بقوله :
(إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) التواب الذي يعود على عبده بفضله ومغفرته إذا تاب إليه من ذنبه ، والرحيم واسع الرحمة ، والجملة جاءت تعليلا للأمر بالإعراض ، والخطاب هنا لأولى الأمر والحكام.(4/206)
ج 4 ، ص : 207
[سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)
المعنى الجملي
لما ذكر سبحانه أن من تاب وأصلح تركت عقوبته وأزيل الأذى عنه ، وأنه هو التواب الذي يقبل التوبة عن عباده - ذكر هنا وقت التوبة وشرط قبولها ورغبته فى تعجيلها حتى لا يأتى الموت وهو مصرّ على الذنب فلا تنفعه التوبة ، وأرشد أولياء الأمر إلى الطريق الذي يسلكونه مع العصاة فى معاقبتهم وتأديبهم ، فأمرهنا بالإعراض عن أذى من تاب وأصلح العمل بعد أن فرض عقوبة مرتكبى الفواحش فى الآية السالفة فهذه شرح لذلك الإصلاح فى العمل.
الإيضاح
(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) السوء :
هو العمل القبيح الذي يسوء فاعله إذا كان عاقلا سليم الفطرة ، وهذا شامل للصغائر والكبائر ، والجهالة : الجهل وتغلب السفه على النفس عند ثورة الشهوة أو سورة الغضب حتى يذهب عنها الحلم وتنسى الحق ، وكل من عصى اللّه سمى جاهلا وسمى فعله جهالة كما قال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) وقال تعالى لنوح : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ).
وسر هذا أن العاصي لربه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما أقدم على المعصية ، إذ هو لا يرتكبها إلا جاهلا بحقيقة الوعيد ، ومنتظر الاحتمال العفو والمغفرة ، أو شفاعة الشفعاء التي تصد عنه العقاب.(4/207)
ج 4 ، ص : 208
والزمن القريب : هو الوقت الذي تسكن به ثورة الشهوة أو تنكسر به حدة الغضب ويثوب فاعل السيئة إلى حلمه ويرجع إليه دينه وعقله ، إذ من كان قوىّ الإيمان لا تقع منه المعصية إلا عن بادرة غضب أو شهوة هفوة بعد هفوة ، ثم لا يلبث أن يبادر إلى التوبة ومن ثم ذكر اللّه السوء بلفظ الإفراد هنا ، وقال فيمن لا تقبل توبتهم (يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) إشعارا بأن التوبة إنما تقبل ممن تقع منهم الذنوب آحادا ويلمّون بها إلماما ، ولكنهم لا يصرّون عليها بل يبادرون إلى التوبة منها ، فلا تتمكن من أنفسهم ظلمة المعصية ولا تحيط بهم الخطيئة.
وما
رواه أحمد عن ابن عمر من قوله صلى اللّه عليه وسلم « إن اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر »
فالمراد منه أنه لا ينبغى لأحد أن يقنط من رحمة اللّه وييأس من قبول التوبة مادام حيا ، وليس معناه أنه لا خوف على العبد من التمادي فى الذنوب إذا هو تاب قبل الموت بساعة ، فان هذا مخالف لهدى الدين فى مثل قوله : « وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) ولمثل قوله : « رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ » .
وقد قسموا التوابين طبقات :
(1) من هو سليم الفطرة عظيم الاستعداد للخير ، فهو إذا وقع فى خطيئة مرة كان له منها أكبر عبرة ، فيندم بعدها ويحمل نفسه على الفضيلة ويصرفها عن كل رذيلة.
(2) من تكون داعية الشهوة أقوى فى نفسه وأرسخ فى قلبه ، فإذا أطاع نفسه وارتكب معصية قامت الخواطر الإلهية تحاربه وتوبخه حتى تنتصر عليه وتقهره قهرا تاما فلا يعود بعدها إلى اجتراح إثم ولا وقوع فى ذنب.
(3) من تقوى نفسه بالمجاهدة على اجتناب كبار الإثم والفواحش ، لا على صغار الذنوب والآثام وهناك تكون الحرب فى نفوسهم سجالا بين ما يلمّون به من الصغائر وبين الخواطر الإلهية التي هى جند الإيمان.(4/208)
ج 4 ، ص : 209
(4) من يقع فى الذنب فيتوب ويستغفر ثم يعرض له مرة أخرى فيعود إليه ثم يلوم نفسه ويندم ويستغفر وهلم جرا ، وهؤلاء أدنى طبقات التوّابين ، والنفس الباقية أرخص عندهم من النفس الفانية ، وهم مع ذلك محل للرجاء ، لأن لهم زاجرا من أنفسهم يذكرهم دائما بالرجوع إلى اللّه عقب كل خطيئة ، وهكذا تكون الحرب سجالا بينهم وبين أنفسهم فإما أن تنتصر دواعى الخير فتصح توبتهم ، وإما أن تنكسر أمام جند الشهوة فتحيط بهم خطيئتهم ويكونوا من المصرّين الهالكين.
وخلاصة المعنى - إن التوبة التي أوجب اللّه على نفسه قبولها بوعده الذي هو أثر كرمه وفضله ، ليست إلا لمن يجترح السيئة بجهالة تلابس نفسه من سورة غضب أو تغلب شهوة ، ثم لا يلبث أن يندم على ما فرط منه وينيب إلى ربه ويتوب ويقلع عن ذنبه.
(فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) أي فأولئك الذين فعلوا الذنوب بجهالة وتابوا بعد قريب من الزمن ، يتوب اللّه عليهم ، لأن الذنوب لم ترسخ فى نفوسهم ، ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون.
(وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) وبهذا العلم بشئون عباده ومعرفة مصالحهم جعل التوبة مقبولة حتما ، لأنه يعلم ضعف عباده وأنهم لا يسلمون من عمل السوء ، فلو لم يشرع لهم التوبة لهلكوا باسترسالهم فى المعاصي والسيئات وتعمد اتباع الهوى وخطوات الشيطان لعلمهم أنهم هالكون لا مخالة فلا فائدة من جهاد النفس وتزكيتها.
أما وقد شرع اللّه بحكمته قبول التوبة فقد فتح لهم باب الفضيلة وهداهم إلى محو السيئة بالحسنة ، لكنه لا يقبل إلا التوبة النصوح دون حركات اللسان بالاستغفار والإتيان ببعض المكفرات من الصدقات أو الأذكار مع الإصرار على الذنوب والأوزار ، ومن ثم جمع اللّه فى الآية السابقة بين التوبة وإصلاح العمل.
وقد فعلت الأمم السالفة مثل هذا فاستثقلت التكاليف ، وفسقت عن أمر ربها(4/209)
ج 4 ، ص : 210
واتبعت هواها وجعلت حظها من الدين مجموع حركات لسانية وبدنية لا تهذب خلقا ولا تصلح عملا ولا تمنع النفس من التمتع بشهواتها ، وقد اتبع كثير من المسلمين سنن من قبلهم وحذوا حذوهم شبرا بشبر وذراعا بذراع.
وبعد أن بين حال من تقبل توبتهم ، ذكر حال أضدادهم الذين لا تقبل منهم التوبة فقال :
(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) أي إن سنة اللّه قد مضت بأن التوبة لا تكون للذين يعملون السيئات منهمكين فيها إلى حضور الموت ، وصدور ذلك القول منهم ، لأن هؤلاء قد أحاطت بهم خطيئاتهم ولم تدع للأعمال الصالحة مكانا فى نفوسهم ، فهم أصروا عليها إلى أنّ حضرهم الموت ويئسوا من الحياة التي يتمتعون بها ، وحينئذ يقول أحدهم : إنى تبت الآن وما هو من التائبين بل من المدّعين الكاذبين.
والخلاصة - إن التوبة لمثل هؤلاء ليست مقبولة حتما ، فأمرهم مفوض إلى اللّه تعالى وهو العليم بحالهم ، وحديث قبول توبة العبد ما لم يغرغر أو تبلغ روحه الحلقوم - المراد منه حصول التوبة النصوح ، بأن يدرك المذنب قبح ما كان قد عمله من السيئات ويندم على مزاولتها ويزول حبه لها بحيث لو عاش لما عاد إليها ، وقلما يحصل مثل هذا الإدراك للمصرّ على السيئات المستأنس بها فى عامة أيام الحياة ، وإنما الذي يحصل له إدراك العجز عنها واليأس منها وكراهة ما يتوقعه من قرب العقاب عليها عند الموت.
(وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) أي لا تقبل توبة لهؤلاء ولا لهؤلاء ، وقد سوّى اللّه بين الذين سوّفوا توبتهم إلى أن حضر الموت وبين الذين ماتوا على الكفر فى أن توبتهم لا تقبل ، فكما أن المائت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين ، كذلك المسوّف إلى حضرة الموت ، فكل منهما جاوز الحد المضروب للتوبة ، إذ هى لا تكون إلا عند التكليف والاختيار.(4/210)
ج 4 ، ص : 211
(أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أعتدنا هيأنا وأعددنا ، والأليم المؤلم الموجع : أي هذان الفريقان اللذان استعبدهما سلطان الشهوة وخرجا على سنة الفطرة وهداية الشريعة أعددنا لهم العذاب الموجع فى الدار الآخرة جزاء وفاقا لما اكتسبت أيديهم من السيئات مع إصرارهم عليها حتى الممات إذ أنهم أفسدوا قلوبهم ، ودسّوا نفوسهم ، فصارت تهبط بهم خطاياهم إلى الدرك الأسفل من الهوان ، وتعجز عن الصعود إلى معاهد الكرامة والرضوان.
[سورة النساء (4) : الآيات 19 الى 21]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)
تفسير المفردات
العضل : التضييق والشدة ، ومنه الداء العضال الشديد الذي لا نجاة منه ، والفاحشة : الفعلة الشنيعة الشديدة القبح ، والمبينة : الظاهرة الفاضحة ، والمعروف :
ما تألفه الطباع ولا يستنكره الشرع ولا العرف ولا المروءة ، والبهتان : الكذب الذي يبهت المكذوب عليه ويسكته متحيرا ، والإثم : الحرام ، أفضى : أي وصل إليها الوصول الخاص الذي يكون بين الزوجين ، فيلابس كل منهما الآخر حتى كأنهما شىء واحد ، والميثاق الغليظ : العهد المؤكد الذي يربطكم بهن أقوى رباط وأحكمه.(4/211)
ج 4 ، ص : 212
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه فيما تقدم عن عادات الجاهلية فى أمر اليتامى وأموالهم أعقبه بالنهى عن الاستنان بسنتهم فى النساء وأموالهن ، وقد كانوا يحتقرون النساء ويعدونهن من قبيل المتاع حتى كان الأقربون يرثون زوجة من يموت منهم كما يرثون ماله ، فحرم اللّه عليهم هذا العمل ، روى البخاري وأبو داود أنه كان إذا مات الرجل منهم كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها ، وإن شاءوا لم يزوجوها ، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية فى ذلك. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : جاءت كبيشة ابنة معن بن عاصم من الأوس إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وكانت تحت أبى قيس بن الأسلت فتوّفى عنها فجنح عليها (ضَيْقٍ) ابنه وقالت له : لا أنا ورثت زوجى ولا أنا تركت فأنكح فنزلت الآية.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) أي لا يحل لكم أيها الذين آمنوا باللّه ورسوله أن تسيروا على سنة الجاهلية فى هضم حقوق النساء فتجعلوهن ميراثا لكم كالأموال والعبيد وتتصرفوا فيهن كما تشاءون ، وهنّ كارهات لذلك ، فإن شاء أحدكم تزوج امرأة من يموت من أقاربه ، وإن شاء زوجها غيره ، وإن شاء أمسكها ومنعها الزواج.
(وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ) أي لا يحل لكم إرث النساء ولا التضييق عليهن ومضارتهن ليكرهنكم ويضطرون إلى الافتداء منكم بالمال من ميراث وصداق ونحو ذلك ، فقد كانوا يتزوجون من يعجبهم حسنها ويزوجون من لا تعجبهم أو يمسكونها حتى تفتدى بما كانت ورثت من قريب الوارث. أو ما كانت أخذت من صداق ونحوه أو كل هذا ، وربما كلفوها الزيادة إن علموا أنها تستطيعها.(4/212)
ج 4 ، ص : 213
أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : كانت قريش بمكة ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فلعلها ما توافقه فيفارقها على ألا تتزوج إلا بإذنه ، فيأتى بالشهود فيكتب ذلك عليها ، فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها ، وكثيرا ما كانوا يضيقون عليهن ليفتدين منهم بالمال.
(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي لا تعضلوهن فى أي حال إلا فى الحال التي يأتين فيها بالفاحشة المبينة دون الظنة والشبهة ، فإذا نشزن عن طاعتكم وساءت عشرتهن ولم ينفع معهنّ التأديب ، أو تبين ارتكابهن للزنا أو السرقة أو نحو ذلك من الأمور الفاحشة الممقوتة عند الناس ، فلكم حينئذ أن تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق وغيره من المال ، لأن الفحش قد أتى من جانبها ، وإنما اشترط فى الفاحشة أن تكون مبينة : أي ظاهرة فاضحة لصاحبها ، لأنه ربما ظلم الرجل المرأة بإصابتها الهفوة الصغيرة أو بمجرد سوء الظن والتّهمة فمن الرجال الغيور السيّء الظن الذي يؤاخذ بأتفه الأمور ويعده عظيما ، وإنما أبيح للرجل أن يضيق على امرأته إذا أتت بهذه الفاحشة المبينة ، لأنها ربما كرهته ومالت إلى غيره ، فتؤذيه بفاحش القول أو الفعل ليملها ويسأم معاشرتها فيطلقها فتأخذ ما كان أعطاها وتتزوج غيره وتتمتع بمال الأول ، وربما فعلت مع الثاني ما فعلت مع الأول ، فإذا علم النساء أن العضل والتضييق بيد الرجال ومما أبيح لهم إذا هنّ أهنّهم ، فإن ذلك يكفهن عن ارتكابها والاحتيال بها على أرذل أنواع الكسب.
(وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي وعليكم أن تحسنوا معاشرة نسائكم فتخالطوهنّ بما تألفه طباعهن ولا يستنكره الشرع ولا العرف ، ولا تضيقوا عليهن فى النفقة ولا تؤذوهن بقول ولا فعل ولا تقابلوهن بعبوس الوجه ولا تقطيب الجبين.
وفى كلمة (المعاشرة) معنى المشاركة والمساواة أي عاشروهن بالمعروف وليعاشرنكم كذلك ، فيجب أن يكون كل من الزوجين مدعاة لسرور الآخر وسبب هناءته وسعادته(4/213)
ج 4 ، ص : 214
فى معيشته ومنزله : « وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » .
(فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) أي فإن كرهتموهن لعيب فى أخلاقهن أو دمامة فى خلقهن مما ليس لهن فيه كسب ، أو لتقصير فى العمل الواجب عليهن كخدمة البيت والقيام بشئونه مما لا يخلو عن مثله النساء فى أعمالهن ، أو لميل منكم إلى غيرهن ، فاصبروا ولا تعجلوا بمضارتهن ولا بمفارقتهن ، فربما كرهت النفس ما هو أصلح فى الدين وأوفى إلى الخير ، ومن ذلك :
1) الأولاد النجباء فربّ امرأة يملّها زوجها ويود فراقها ثم يجيئه منها من تقرّبه عينه من الأولاد النجباء فيعلو قدرها عنده بذلك.
2) أن يصلح حالها بصبره وحسن معاشرته ، فتكون من أعظم أسباب سعادته وسروره فى انتظام معيشته وحسن خدمته ، ولا سيما إذا أصيب بالأمراض أو بالفقر والعوز فتكون خير سلوى وعون فى هذه الأحوال ، فيجب على الرجل أن يتذكر مثل ذلك ، كما يذكر أنه قلما يخلو من عيب تصبر عليه امرأته فى الحال والاستقبال.
وقد جاء قوله « وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ » فى سياق حديث النساء دستورا إذا نحن اتبعناه كان له الأثر الصالح فى جميع أعمالنا وهدانا إلى الرشد فى جميع شئوننا ، فكثير مما يكرهه الإنسان يكون له فيه الخير ، ومتى جاء ذلك الخير ظهرت فائدة ذلك الشيء المكروه ، والتجارب أصدق شاهد على ذلك فالقتال لأجل حماية الحق والدفاع عنه يكرهه الطبع لما فيه من المشقة ، لكن فيه إظهار الحق ونصره ورفعة أهله وخذلان الباطل وحزبه ، إلى أن الصبر على احتمال المكروه يمرن النفس على احتمال الأذى ويعوّدها تحمل المشاق فى جسيم الأمور.
والخلاصة - إن الإسلام وصىّ أهله بحسن معاشرة النساء والصبر عليهن إذا كرههن الأزواج ، رجاء أن يكون فيهن خير ، ولا يبيح عضلهن وافتداءهن أنفسهن بالمال(4/214)
ج 4 ، ص : 215
إلا إذا أتين بفاحشة مبينة بحيث يكون إمساكهن سببا فى مهانة الرجل واحتقاره ، أو إذا خافا ألا يقيما حدود اللّه ، وفيما عدا ذلك يجب عليه إذا أراد فراقها أن يعطيها جميع حقوقها وهذا ما أشار إليه بقوله :
(وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) أي وإذا رغبتم أيها الأزواج فى استبدال زوج جديدة مكان زوج سابقة كرهتموها لعدم طاقتكم الصبر على معاشرتها وهى لم تأت بفاحشة مبينة ، وقد كنتم أتيتموها المال الكثير مقبوضا أو ملتزما دفعه إليها فصار دينا فى ذمتكم فلا تأخذوا منه شيئا ، بل عليكم أن تدفعوه لها ، لأنكم إنما استبدلتم غيرها بها لأغراضكم ومصالحكم بدون ذنب ولا جريرة تبيح أخذ شىء منها ، فبأى حق تستحلون ذلك وهى لم تطلب فراقكم ولم تسىء إليكم لتحملكم على طلاقها ؟ وإرادة الاستبدال ليست شرطا فى عدم حلّ أخذ شىء من مالها إذا هو كره عشرتها وأراد الطلاق ، لكنه ذكر لأنه هو الغالب فى مثل هذا الحال ، ألا ترى أنه لو طلقها وهو لا يريد تزوج غيرها ، لأنه اختار الوحدة وعدم التقيد بالنساء وحاجتهم الكثيرة فإنه لا يحل له أخذ شىء من مالها.
ثم أنكر عليهم هذا الفعل ووبخهم عليه أشد التوبيخ فقال :
(أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً ؟ ) أي أ تأخذونه باهتين آثمين ، وقد كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تخاف وتشترى نفسها منه بالمهر الذي دفعه إليها.
وزاده إنكارا آخر مبالغة فى التنفير من ذلك فقال :
(وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) أي إنّ حال هؤلاء الذين يستحلون أخذ مهور النساء إذا أرادوا مفارقتهن بالطلاق لا لذنب جنينه ولا لإثم اجترحنه من الإتيان بفاحشة مبينة أو عدم إقامة حدود اللّه ، وإنما هو الرأى والهوى وكراهة معاشرتهن - عجيب أيّما عجب ، فكيف يستسيغون أخذ ذلك منهنّ بعد أن تأكدت الرابطة بين الزوجين بأقوى رباط حيوىّ بين البشر ، ولابس كل منهما الآخر(4/215)
ج 4 ، ص : 216
حتى صار أحدهما من الآخر بمنزلة الجزء المتمم لوجوده ، فبعد أن أفضى كل منهما إلى الآخر إفضاء ولابسه ملابسة يتكون منها الولد ، يقطع تلك الصلة العظيمة ويطمع فى مالها وهى المظلومة الضعيفة ، وهو القادر على اكتساب المال بسائر الوسائل التي هدى اللّه إليها البشر.
(وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) قال قتادة : هذا الميثاق هو ما أخذ اللّه للنساء على الرجال بقوله (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وقال الأستاذ الإمام : إن هذا الميثاق لا بد أن يكون مناسبا للإفضاء فى أن كلا منهما شأن من شئون الفطرة السليمة وهو الذي أشارت إليه الآية الكريمة « وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » فهذه آية من آيات الفطرة الإلهية هى أقوى ما تعتمد عليها المرأة فى ترك أبويها وإخوتها وسائر أهلها والاتصال برجل غريب عنها تساهمه السراء والضراء وتسكن إليه ويسكن إليها ويكون بينهما من المودة أقوى مما يكون بين ذوى القربى ، ثقة منها بأن صلتها به أقوى من كل صلة وعيشتها معه أهنأ من كل عيشة.
هذه الثقة وذلك الشعور الفطري الذي أودع فى المرأة وجعلها تحسّ بصلة لم تعهد من قبل لا تجد مثلها لدى أحد من الأهل ، وبها تعتقد أنها بالزواج مقبلة على سعادة ليس وراءها سعادة فى الحياة ، هذا هو المركوز فى أعماق النفوس ، وهذا هو الميثاق الغليظ ، فما قيمة من لا يفى بهذا الميثاق ، وما هى مكانته من الإنسانية ؟ اه بتصرف.
وقد استدلوا بذكر القنطار على جواز التغالى فى المهور. وقد روى أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه نهى على المنبر أن يزاد فى الصداق على أربعمائه درهم ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت : أما سمعت اللّه يقول (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) فقال : اللهم عفوا كل الناس أفقه من عمر ، ثم رجع فركب المنبر فقال : إنى كنت نهيتكم أن تزيدوا فى صدقاتهن على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطى من ماله فله ما أحبّ.(4/216)
ج 4 ، ص : 217
هذا ، وإن الشريعة لم تحدد مقدر الصداق بل تركت ذلك للناس لتفاوتهم فى الغنى والفقر فكلّ يعطى بحسب حاله ، ولكن جاء فى السنة الإرشاد إلى اليسر فى ذلك وعدم التغالى فيه ، فمن ذلك ما رواه أحمد والحاكم والبيهقي عن عائشة « إنّ من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها » .
وإن التغالى فى المهور الآن قد صار من أسباب قلة الزواج ، وقلة الزواج تفضى إلى كثرة الزنا والفساد ، والغبن أخيرا على النساء أكثر ، وإنك لترى هذه العادة متمكنة لدى بعض الناس ، حتى إن ولى المرأة ليمتنع عن تزويج بنته للكفء الذي لا يرجى من هو خير منه إذا كان لا يعطيه ما يراه لائقا بكرامته ، ويزوجها لمن هو دونه دينا وخلقا ومن لا يرجو لها سعادة عنده إذا هو أعطاه الكثير الذي يراه محققا لأغراضه وهكذا تتحكم التقاليد والعادات حتى تفسد على الناس سعادتهم وتقوّض نظم بيوتهم وهم لها منقادون بلا تفكير فى العواقب.
[سورة النساء (4) : الآيات 22 الى 23]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)(4/217)
ج 4 ، ص : 218
تفسير المفردات
سلف : أي مضى ، فاحشة : أي شديد القبح ، مقتا : أي ممقوتا مبغوضا عند دوى الطباع السليمة ، ومن ثم كانوا يسمونه نكاح المقت ، ويسمى الولد منه مقيتا : أي مبغوضا محتقرا ، وساء سبيلا : أي بئس طريقا ذلك الطريق الذي اعتادوا سلوكه فى الجاهلية وبئس من يسلكه ، لم يزده السير فيه إلا قبحا ، والجناح الإثم والتضييق.
المعنى الجملي
بعد أن بيّن فى أوائل السورة حكم نكاح اليتامى وعدد من يحل من النساء والشرط فى ذلك ، وبين حكم استبدال زوج مكان زوج وما يجب من المعروف فى معاشرتهن - وصل هذا ببيان ما يحرم نكاحه منهن.
الإيضاح
(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) ذكر اللّه هذا النكاح أوّلا ولم يذكره مع سائر المحرمات فى الآية التالية لأنه كان فاشيا فى الجاهلية ، وقد ذمه اللّه أقبح ذمّ فسماه فاحشة وجعله مبغوضا أشد البغض.
أخرج ابن سعد عن محمد بن كعب قال : كان الرجل إذا توفّى عن امرأته كان ابنه أحق بها أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمّه أو ينكحها من شاء ، فلما مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته ولم ينفق عليها ولم يورّثها من المال شيئا ، فأتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : ارجعي لعل اللّه ينزل فيك شيئا فنزلت (وَلا تَنْكِحُوا) الآية ،
ونزلت أيضا (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) إلخ. والمراد بالنكاح العقد كما قال ابن عباس ، فقد روى ابن جرير والبيهقي عنه أنه قال : كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل بها فهى حرام ، والمراد من الآباء ما يشمل الأجداد إجماعا(4/218)
ج 4 ، ص : 219
(إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) أي لكن ما سلف من ذلك لا مؤاخذة عليه.
والخلاصة - إنكم تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف ومضى فإنه معفوّ عنه.
(إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا) أي إن نكاح أزواج الآباء تمجّه الأذواق السليمة ، وتؤيد ذلك الشريعة التي هدى اللّه الناس بها ، فهو قبيح محتقر والسالك فى طريقه مزدرى عند ذوى العقول الراجحة.
قال الإمام الرازي - القبح ثلاثة أصناف : عقلىّ وشرعى وعادى ، وقد وصف اللّه النكاح بكل ذلك ، فقوله سبحانه (فاحِشَةً) إشارة إلى الأول ، وقوله (مَقْتاً) إشارة إلى الثاني ، وقوله (وَساءَ سَبِيلًا) إشارة إلى الثالث.
بعد هذا بين اللّه أنواع المحرمات لأسباب وعلل تنافى ما فى النكاح من الصلة بين بعض البشر وبعض ، وهى عدة أقسام :
القسم الأول منها ما يحرم من جهة النسب ، وهو أنواع :
1) نكاح الأصول وإليه الإشارة بقوله :
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) والمراد بالأم ما يشمل الجدات : أي إن اللّه قد حرم عليكم أن تتزوجوا أمهاتكم والمراد أنه حكم الآن بهذا التحريم والمنع.
2) نكاح الفروع وذلك قوله :
(وَ بَناتُكُمْ) والمراد بهن ما يشمل بنات أصلابنا أو بنات أولادنا ممن كنا سببا فى ولادتهن وأصولا لهن.
3) نكاح الحواشي القريبة ، وذلك ما عناه سبحانه بقوله :
(وَأَخَواتُكُمْ) سواء أكن شقيقات لكم ، أم كن لأم أو لأب.
(4 و5) نكاح الحواشي البعيدة من جهة الأب والأم وإليهما الإشارة بقوله :(4/219)
ج 4 ، ص : 220
(وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ) والمراد بهما الإناث من جهة العمومة ومن جهة الخئولة فيشمل أولاد الأجداد وإن علوا ، وأولاد الجدات وإن علون.
6) نكاح الحواشي البعيدة من جهة الإخوة ، وذلك قوله :
(وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) من جهة أحد الأبوين أو كليهما.
القسم الثاني ما حرم من جهة الرضاعة ، وإليه الإشارة بقوله :
(وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) وقد نزل اللّه سبحانه الرضاعة منزلة النسب فسمى المرضعة ، أمّا للرضيع ، وبنتها أختا له فأعلمنا بذلك أن جهة الرضاع كجهة النسب ، وقد وضحت السنة ذلك ،
فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لما طلب إليه أن يتزوج ابنة عمه حمزة « إنها لا تحل لى ، إنها ابنة أخى من الرضاعة ، ويحرم من الرضاعة ما يحرم النسب » رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ،
وعلى ذلك جرى المسلمون جيلا بعد جيل فجعلوا زوج المرضعة أبا للرضيع تحرم عليه أصوله وفروعه ولو من غير المرضعة لأنه صاحب اللقاح الذي كان سبب اللبن الذي تغذى منه الرضيع ، وقد روى البخاري عن ابن عباس أنه سئل عن رجل له جاريتان أرضعت إحداهما بنتا والأخرى غلاما ، أ يحل للغلام أن يتزوج الجارية ؟ (قال لا ، اللقاح واحد).
وقد غلب على الناس التساهل فى أمر الرضاعة فيرضعون الولد من امرأة أو من عدة نسوة ولا يهتمون بمعرفة أولاد المرضعة وإخوتها ولا أولاد زوجها من غيرها وإخوته ليعرفوا ما يترتب عليهم فى ذلك من الأحكام كحرمة النكاح وحقوق القرابة الجديدة التي جعلها الشارع كالنسب فكثيرا ما يتزوج الرجل أخته أو عمته أو خالته من الرضاعة وهو لا يدرى.
وظاهر الآية أن قليل الرضاعة ككثيرها ويروى ذلك عن على وابن عباس والحسن والزهري وقتادة ، وبه أخذ أبو حنيفة ومالك. وذهب جماعة إلى أن التحريم إنما يثبت بثلاث رضعات فأكثر ، لأن
النبي صلى اللّه عليه وسلم قال :(4/220)
ج 4 ، ص : 221
« لا تحرّم المصّة والمصّتان »
وقد روى العمل به عن الإمام أحمد ، وذهب جماعة آخرون إلى أن التحريم لا يثبت بأقل من خمس رضعات ويروى هذا عن عبد اللّه بن مسعود وعبد اللّه بن الزبير وهو مذهب الشافعي وأحمد فى ظاهر مذهبه.
ولا يحرم الرضاع إلا فى سنه ومدته المحدودة بقوله تعالى « وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ » وهو مذهب عمر وابن مسعود وابن عباس ، وبه أخذ الشافعي وأحمد وصاحبا أبى حنيفة : أبو يوسف ومحمد ،
وقد روى الدار قطنى عن ابن عباس قوله صلى اللّه عليه وسلم « لا رضاع إلا ما كان فى الحولين »
وروى عن ابن عباس فى رواية أخرى والزهري والحسن وقتادة أن الرضاع المحرّم ما كان قبل الفطم ، فإن فطم الرضيع ولو قبل السنتين امتنع تأثير رضاعه فى التحريم ، وإن استمر رضاعه إلى ما بعد السنتين ولم يفطم كان رضاعه محرما.
القسم الثالث محرمات المصاهرة التي تعرض بسبب الزواج وتحته الأنواع الآتية :
1) (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) ويدخل فى الأمهات الجدات ، ولا يشترط فى تحريم أم المرأة دخوله بالبنت بل يكفى مجرد العقد ، وبهذا قال جمهور الصحابة ومن بعدهم وعليه الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة.
2) (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ) الربائب جمع ربيبة ، وربيب الرجل ولد امرأته من غيره ، سمى ربيبا لأن الرجل يربّه ويسوسه ويؤدبه كما يؤدب ولده ، وقوله : اللاتي فى حجوركم وصف لبيان الحال الغالب فى الربيبة وهى أن تكون فى حجر زوج أمها ، وللاشعار بالمعنى الذي يوضح علة التحريم ويحرك عاطفة الأبوة فى الرجل وهى كونها فى حجره يحنو عليها حنوّه على بنته ، ويدخل فى التحريم كل بنات امرأة الرجل إذا كان قد دخل بها وبنات بناتها وبنات أبنائها ، لأنهن من بناتها فى عرف اللغة.
(فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي إن الرجل إذا عقد نكاحه على امرأة ولم يدخل بها لا يحرم عليه بناتها ، وقال الحنفية : إن من زنى بامرأة يحرم عليه أصولها وفروعها ، وكذلك إذا لمسها بشهوة أو قبّلها أو نظر إلى ما هنالك منها بشهوة ،(4/221)
ج 4 ، ص : 222
وكذلك أيضا إذا لمس يد أمّ امرأته بشهوة فإن امرأته تحرم عليه تحريما مؤبدا ، ولم يوافقهم على ذلك كثير من الأئمة ، لأنه لم يؤثر فيه خبر ولا أثر عن الصحابة فيه شىء وقد كانوا قريبى العهد بالجاهلية التي كان الزنا فاشيا فيها بينهم ، فلو كانوا فهموا لذلك مدركا من الشرع وعلله لسألوا عنه وتوافرت الدواعي على نقل ما أفتوا به.
3) (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) الحلائل واحدها حليلة وهى الزوجة ويقال أيضا للرجل حليل إذ أن الزوجين يحلّان معا فى مكان واحد وفراش واحد.
ويدخل فى الأبناء أبناء الصلب مباشرة أو بواسطة كابن الابن وابن البنت ، فحلائلهما تحرم على الجد ، كما يدخل الابن من الرضاعة فتحرم حليلته لما تقدم من
قوله « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » .
القسم الرابع ما حرم بسبب عارض إذا زال يزول التحريم وهو ما ذكر ، سبحانه بقوله :
(وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) أي وحرّم عليكم الجمع بين الأختين فى الاستمتاع الذي يراد به الولد ، والمذاهب الأربعة متفقة على تحريم الاستمتاع بالأختين بملك اليمين أو بالنكاح ، أو بالنكاح والملك كأن يكون مالكا لإحداهما ومتزوجا للأخرى ، فيحرم عليه أن يستمتع بهما ويجب عليه أن يحرم إحداهما على نفسه كأن يعتق المملوكة أو يهبها ويسلمها للموهوبة له.
ومثل هذا الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ، لأن العلة موجودة فيه أيضا وهى إفضاؤه إلى قطع ما أمر اللّه تعالى بوصله ، كما يدل عليه
قوله صلى اللّه عليه وسلم « فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم » .
والضابط لذلك أنه يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابة لو كانت إحداهما ذكرا لحرم عليه بها نكاح الأخرى.
(إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) أي لكن ما قد سلف قبل التحريم لا تؤاخذون عليه ،(4/222)
ج 4 ، ص : 223
وقد كانوا يجمعون بين الأختين ،
أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن فيروز الديلمي أنه أدركه الإسلام وتحته أختان فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم طلّق أيتهما شئت
وعن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما حرم اللّه إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين.
(إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) فلا يؤاخذكم بما سلف منكم فى زمن الجاهلية إذا أنتم عملتم بشريعة الإسلام ، ومن مغفرته أن يمحو من نفوسكم آثار الأعمال السيئة ويغفر لكم ذنوبكم إذا أنبتم إليه ، ومن رحمته أن شرع لكم من أحكام النكاح ما فيه المصلحة لكم وتوثيق الروابط بينكم ، لتتراحموا وتتعاونوا على البر والتقوى ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله.
وكان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة فى شهر رمضان سنة إحدى وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة ، وله الحمد أولا وآخرا.
تم بحمد اللّه الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس ، أوله : (والمحصنات)(4/223)
ج 4 ، ص : 224
فهرس أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 4 دفع شبهتين من شبهات اليهود.
5 الإجابة عن أولى الشبهتين.
7 الإجابة عن الشبهة الثانية.
8 اتفاق العرب فى الجاهلية والإسلام على تعظيم البيت الحرام وأمن من دخله.
9 آراء العلماء فى المراد من الاستطاعة لوجوب الحج.
11 إيقاد اليهود نار الفتنة بين الأوس والخزرج.
17 الدين نهى عن العصبية الجنسية وأمر بالتمسك بالرابطة الدينية.
18 الاختلاف الذي بين البشر ضربان.
22 ما يجب توافره فى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
32 ضرب الذلة والمسكنة على اليهود.
35 صفات المؤمنين الصادقين من أهل الكتاب.
40 ما يفعله الكافر من وجوه البر فى الدنيا لا أثر له فى الآخرة فلا يفيده شيئا.
44 شروط النهى عن اتخاذ بطانة من الكافرين.
51 وقعة بدر.
51 وقعة أحد ، وذكر السبب فى انخذال المؤمنين.
58 الحكمة فى الإمداد بالملائكة.
59 حكمة ما حصل من خذلان المؤمنين فى أحد.
65 ربا الجاهلية ما يسمى فى عصرنا بالربا الفاحش.(4/224)
ج 4 ، ص : 225
الصفحة المبحث 65 الربا نوعان.
67 المحرمات فى الإسلام ضربان.
69 أوصاف المتقين.
83 الجهاد أقسام.
87 لئن مات محمد لقد مات قبله سائر الأنبياء.
90 من يرد ثواب الدنيا نؤته منها ، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها.
91 للانسان طوران عاجل وآجل.
96 طاعة الكافرين توجب الخسران فى الدنيا والآخرة.
97 أثر الشرك فى النفوس.
99 سبب ما أصاب المسلمين فى وقعة أحد.
103 انقسام المسلمين بعد وقعة أحد إلى فريقين.
106 انخذال المؤمنين أثر طبيعى لما اجترحوه من المخالفات.
113 الشورى فى الإسلام وفوائدها.
115 التردد خور وضعف فى العزائم.
115 وجوب التوكل على اللّه بعد أخذ الأهبة.
116 التوكل الصحيح إنما يتم مع الأخذ بالأسباب ، وبدون ذلك يكون جهلا.
121 الناس يتفاوتون فى الجزاء عند اللّه على حسب تفاوتهم فى الفضائل والمعرفة فى الدنيا والأعمال الصالحة.
122 صفات الرسول صلى اللّه عليه وسلم التي تقتضى طاعته.
126 العقوبات آثار لازمة للأعمال.
127 معاذير المنافقين حين تخلفهم عن القتال.(4/225)
ج 4 ، ص : 226
الصفحة المبحث 131 الشهداء أحياء عند ربهم فى دار الكرامة.
133 غزوة حمراء الأسد.
135 كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا حزبه أمر قال : « حسبى اللّه ونعم الوكيل » .
137 صادق الإيمان لا يكون جبانا ، وإذا عرض له أسباب الخوف قاوم ذلك.
138 تسلية الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن مسارعة قومه إلى الكفر.
141 من شأن المؤمن إذا أنسأ اللّه أجله أن تكثر حسناته وتزداد خيراته.
142 فى الشدائد كثير من الفوائد.
145 الحث على بذل المال فى الجهاد.
150 ليس قومك ببدع من الأمم ، ولا أنت ببدع من الرسل.
153 الابتلاء فى الأموال يكون بالبذل فى وجوه البر ، وفى الأنفس ببذلها فى الجهاد فى سبيل اللّه.
155 كيف يطعن اليهود فى النبىّ صلى اللّه عليه وسلم وهو مذكور فى كتابهم.
156 تبيين الكتاب على ضربين.
158 العذاب أثر طبيعى للذنوب وهو ضربان.
161 استئذان الرسول صلى اللّه عليه وسلم من عائشة فى عبادة ربه.
163 ما يقول الذاكرون المتفكرون فى ابتهالهم إلى ربهم.
165 استجابة الدعاء قد تكون بغير ما يطلب المرء.
166 الإسلام أصلح معاملة الرجل للمرأة واعترف لها بالكرامة.
167 صفات المؤمن وجزاؤه على إحسانه.
170 فضائل مؤمنى أهل الكتاب.(4/226)
ج 4 ، ص : 227
الصفحة المبحث 173 تفسير سورة النساء.
175 البحث العلمي والتأريخي لا يؤيد أن آدم أبو البشر.
176 حقيقة النفس أو الروح.
180 العدل بين الزوجات إنما يكون فيما يدخل تحت طاقة الإنسان.
181 قد تدعو الحاجة إلى تعدد الزوجات.
183 الحكمة فى تعدد زوجات النبي صلى اللّه عليه وسلم.
184 مال المرأة ليس بملك للرجل فلا يحل له إلا بإذنها.
186 الدين حث على الاقتصاد ومنع الإسراف والتبذير.
189 مال اليتيم ليس بمال للولى فليس له أن يأكل منه شيئا بلا حق.
191 كانوا فى الجاهلية لا يورثون النساء والأولاد الصغار.
194 أسباب الإرث فى الجاهلية.
196 الحكمة فى جعل حظ الولد كحظ الأنثيين.
196 الموانع التي تمنع ميراث الولد.
197 السر فى تساوى الوالدين فى الميراث مع وجود الأولاد.
198 حقوق الزوجية فى الميراث مقدمة على حقوق الوالدين.
200 حكمة جعل الزوجات الكثيرات فى الميراث كزوجة واحدة.
200 ميراث الكلالة.
201 الضرار فى الوصية على وجوه.
203 السر فى التعبير بخالدين فى أهل الجنة ، وبخالدا فى أهل النار 203 للمذنب حالان.(4/227)
ج 4 ، ص : 228
الصفحة المبحث 206 كان عقاب الزاني والزانية فى بدء الإسلام الإيذاء والتأنيب.
207 العاصي يسمى جاهلا.
208 التوابون طبقات.
210 من لا تقبل توبته.
212 نهى المؤمنين أن يسيروا على سنة الجاهلية فى هضم حقوق النساء.
213 الأمر بمعاشرة النساء بالمعروف.
214 ربما يكره الإنسان شيئا وفيه الخير الكثير.
215 نهى الزوج عن أخذ شىء من صداق المرأة إذا أراد أن يستبدل بها زوجا غيره.
218 من يحرم التزوج بهن.(4/228)
ج 5 ، ص : 1
الجزء الخامس
[تتمة سورة النساء]
تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الخامس(5/1)
ج 5 ، ص : 2(5/2)
ج 5 ، ص : 3
الجزء الخامس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النساء (4) : الآيات 24 الى 25]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)(5/3)
ج 5 ، ص : 4
تفسير المفردات
المحصنات واحدتهن محصنة (بفتح الصاد) يقال حصنت المرأة (بضم الصاد) حصنا وحصانة : إذا كانت عفيفة فهى حاصن وحاصنة وحصان (بفتح الصاد) ويقال أحصنت المرأة : إذا تزوجت ، لأنها تكون فى حصن الرجل وحمايته ، وأحصنها أهلها زوّجوها ، ما ملكت أيمانكم أي بالسبي فى حروب دينية وأزواجهن كفار فى دار الحرب فينفسخ عند ذلك نكاحهن ويحل الاستمتاع بهن بعد وضع الحامل حملها وحيض غيرها ثم طهرها ، والإحصان : العفة ، والمسافح : الزاني ، والاستمتاع بالشيء : هو التمتع به ، والأجور واحدها أجر : وهو فى الأصل الجزاء الذي يعطى فى مقابلة شىء ما من عمل أو منفعة والمراد به هنا المهر ، فريضة : أي حصة مفروضة محدودة مقدرة ، ولا جناح :
أي لا حرج ولا تضييق ، الاستطاعة : كون الشيء فى طوعك لا يتعاصى عليك ، والطّول الغنى والفضل من مال أو قدرة على تحصيل الرغائب ، والمحصنات هنا الحرائر ، والفتيات الإماء ، محصنات : أي عفيفات ، مسافحات مستأجرات للبغاء ، والأخدان : واحدهم حدن وهو الصاحب ويطلق على الذكر والأنثى ، وهو أن يكون للمرأة حدن يزنى بها سرا فلا تبذل نفسها لكل أحد ، والفاحشة الفعلة القبيحة وهى الزنا ، والمحصنات : هنا الحرائر ، والعذاب : هو الحد الذي قدره الشارع وهو مائة جلدة ، فنصفها خمسون ، ولا رجم عليهن لأنه لا يتنصف ، العنت : الجهد والمشقة
المعنى الجملي
هاتان الآيتان من تتمة ما قبلهما من جهة المعنى فقد ذكر فى أولاهما بقية ما يحرم من النساء وحلّ سوى من تقدم ، ووجوب إعطاء المهور ، وذكر فى الآية الثانية حكم نكاح الإماء وحكم حدهن عند ارتكاب الفاحشة ، لكن من قسموا القرآن(5/4)
ج 5 ، ص : 5
ثلاثين جزءا جعلوهما أول الجزء الخامس ، مراعاة للفظ دون المعنى إذ لو راعوه لجعلوا أول الخامس « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ » .
الإيضاح
(وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي وحرم عليكم نكاح المتزوجات إلا ما ملكت الأيمان بالسبي فى حروب دينية تدافعون بها عن دينكم ، وأزواجهن كفار فى دار الكفر ، وقد رأيتم من المصلحة ألا تعاد السبايا إلى أزواجهن ، فحينئذ ينحل عقد زوجيتهن ويكنّ حلالا لكم بالشروط المعروفة فى كتب الفقه وحكمة هذا أنه لما كان الغالب فى الحروب أن يقتل بعض أزواجهن ويفرّ بعضهم الآخر ولا يعود إلى بلاد المسلمين ، وكان من الواجب كفالة هؤلاء السبايا بالإنفاق عليهن ومنعهن من الفسق - كان من المصلحة لهن وللمجتمع أن يكون لكل واحدة منهن أو أكثر كافل يكفيها البحث عن الرزق أو بذل العرض ، وفى هذا ما لا يخفى من الشقاء على النساء.
والإسلام لم يفرض السبي ولم يحرمه ، لأنه قد يكون من الخير للسبايا أنفسهنّ فى بعض الأحوال كما إذا استأصلت الحرب جميع الرجال من قبيلة محدودة العدد.
فإن رأى المسلمون أن من الخير أن تردّ السبايا إلى قومهن جازلهم ذلك عملا بقاعدة (درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح) فإن كانت الحرب لمطامع الدنيا وحظوظ الملوك فلا يباح فيها السبي.
وقوله : من النساء قيد جىء به لإفادة التعميم ، وبيان أن المراد كل متزوجة لا العفيفات ولا المسلمات.
وقد جاء الإحصان فى القرآن لأربعة معان :
1) التزوج كما فى هذه الآية.
2) العفة كما فى قوله : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ).(5/5)
ج 5 ، ص : 6
3) الحرية كما فى قوله : « وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) :
4) الإسلام كما فى قوله : (فَإِذا أُحْصِنَّ) أي : أسلمن.
أخرج مسلم عن أبى سعيد الخدري أنه قال أصبنا سبيا يوم (أو طاس) ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ، فسألنا النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت الآية فاستحللناهن.
وقال الحنفية إن من سبى معها زوجها لا تحل لغيره ، إذ لا بد من اختلاف الدار بين الزوجين دار الإسلام ودار الحرب.
(كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) أي كتب عليكم تحريم هذه الأنواع كتابا مؤكدا وفرضه فرضا ثابتا محكما لا هوادة فيه ، لأن مصلحتكم فيه ثابتة لا يدخلها شك ولا تغيير (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) أي وأحل اللّه لكم ما وراء ذلكم مما هو خارج من مدلول اللفظ وإفادته ولا يتناوله بنص أو دلالة ، فيدخل بطريق الدلالة فى الأمهات الجدات ، وفى البنات بنات الأولاد ، وفى الجمع بين الأختين الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها كما يؤخذ بعض المحرمات من آيات أخرى كتحريم المشركات ، والمطلقة ثلاثا على مطلّقها فى سورة البقرة.
(أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي أحل لكم ما وراء ذلكم لأجل أن تبتغوه وتطلبوه بأموالكم التي تدفعونها مهرا للزوجة أو ثمنا للأمة ، محصنين أنفسكم وما نعين لها من الاستمتاع بالمحرم باستغناء كل منكما بالآخر ، إذ الفطرة تدعو الرجل إلى الاتصال بالأنثى ، والأنثى إلى الاتصال بالرجل ليزدوجا وينتجا.
فالإحصان هو هذا الاختصاص الذي يمنع النفس أن تذهب أىّ مذهب ، فيتصل كل ذكر بأى امرأة وكل امرأة بأى رجل ، إذ لو فعلا ذلك لما كان القصد من هذا إلا المشاركة فى سفح الماء الذي تفرزه الفطرة إيثارا للذة على المصلحة ، إذ المصلحة تدعو إلى اختصاص كل أنثى بذكر معين ، لتتكوّن بذلك الأسرة ويتعاون الزوجان على تربية أولادهما.(5/6)
ج 5 ، ص : 7
فإذا انتفى هذا المقصد انحصرت الداعية الفطرية فى سفح الماء وصبه ، وذلك هو البلاء العام الذي تصطلى بناره الأمة كلها ، فإن بعض الدول الأوربية التي كثر فيها السفاح وقل النكاح بضعف الدين وقف نموها وقل نسلها وضعفت حتى اضطرت إلى الاعتزاز بمخالفة بعض الدول الأخرى.
والاسترقاق المعروف فى هذا العصر فى بلاد السودان وبلاد الحجاز وبلاد الجراكسة غير شرعى ، وهو محرم لأن أولئك اللواتى تسترفقن حرائر من بنات المسلمين الأحرار ، فلا يجوز الاستمتاع بهن بغير عقد النكاح ، والإسلام برىء من كل هذا ، (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) أي وأىّ امرأة من النساء اللواتى أحللن لكم ، تزوجتموها فأعطوها الأجر ، وهو المهر بعد أن تفرضوه فى مقابلة ذلك الاستمتاع.
وسر هذا أن اللّه لما جعل للرجل على المرأة حق القيام وحق رياسة المنزل الذي يعيشان فيه وحق الاستمتاع بها - فرض لها فى مقابلة ذلك جزاء وأجرا تطيب به نفسها ويتم به العدل بينها وبين زوجها.
والخلاصة - إن أي امرأة طلبتم أن تتمتعوا وتنتفعوا بتزوجها فأعطوها المهر الذي تتفقون عليه عند العقد ، فريضة فرضها اللّه عليكم ، وذلك أن المهر يفرض ويعين فى عقد النكاح ويسمى ذلك إيتاء وإعطاء ، ويقال عقد فلان على فلانة وأمهرها ألفا كما يقال فرض لها ألفا ، ومن هذا قوله تعالى : « وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً » وقوله :
« ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً » فالمهر يتعين بفرضه فى العقد ويصير فى حكم المعطى ، وقد جرت العادة بأن يعطى كله أو أكثره قبل الدخول ، ولكن لا يجب كله إلا بالدخول ، فمن طلق قبله وجب عليه نصفه لا كله ، ومن لم يعط شيئا قبل الدخول وجب عليه كله بعده.
(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) أي ولا تضييق عليكم إذا تراضيتم على النقص فى المهر بعد تقديره أو تركه كله أو الزيادة فيه ، إذ ليس الغرض(5/7)
ج 5 ، ص : 8
من الزوجية إلا أن يكونا فى عيشة راضية يستظلان فيها بظلال المودة والرحمة والهدوء والطمأنينة ، والشارع الحكيم لم يضع لكم إلا ما فيه سعادة الفرد والأمة ، ورقي الشؤون الخاصة والعامة.
(إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) وقد وضع لعباده من الشرائع بحكمته ما فيه صلاحهم ما تمسكوا به ، ومن ذلك أنه فرض عليهم عقد النكاح الذي يحفظ الأموال والأنساب ، وفرض على من يريد الاستمتاع بالمرأة مهرا يكافئها له على قبولها قيامه ورياسته عليها ، ثم أذن للزوجين أن يعملا ما فيه الخير لهما بالرضا فيحطا المهر كله أو بعضه أو يزيدا عليه.
ونكاح المتعة (وهو نكاح المرأة إلى أجل معين كيوم أو أسبوع أو شهر) كان مرخّصا فيه فى بدء الإسلام ، وأباحه النبي لأصحابه فى بعض الغزوات لبعدهم عن نسائهم ، فرخص فيه مرة او مرتين خوفا من الزنا فهو من قبيل ارتكاب أخفّ الضررين ، ثم نهى عنه نهيا مؤبدا ، لأن المتمتّع به لا يكون مقصده الإحصان ، وإنما يكون مقصده المسافحة ، وللأحاديث المصرّحة بتحريمه تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة ، ولنهى عمر فى خلافته وإشادته بتحريمه على المنبر وإقرار الصحابة له على ذلك.
ومنع نكاح المتعة يقتضى منع النكاح بنية الطلاق ، ولكن الفقهاء أجازوه إذا نواه الرجل ولم يشترطه فى العقد ، وإن كان كتمانه يعد حداعا وغشا وعبثا بهذه الرابطة العظيمة التي هى أعظم الروابط البشرية ، وإيثارا للتنقل فى مراتع الشهوات ، إلى ما يترتب على ذلك من العداوة والبغضاء ، وذهاب الثقة بين الزوجين حتى بالصادقين الذين يريدون بالزواج الإحصان والتعاون على تأسيس البيت الصالح والعيشة السعيدة.
(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ ، فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) المحصنات : هنا الحرائر خاصة بدليل مقابلتها بالإماء ، والحرية كانت عندهم داعية الإحصان ، كما كان البغاء من شأن الإماء ، ومن ثم قالت هند للنبى صلى اللّه عليه وسلم على سبيل التعجب : أو تزنى الحرّة ؟ وعبر عن الإماء بالفتيات(5/8)
ج 5 ، ص : 9
تكريما لهن وإرشادا لنا إلى ألا ننادى بالعبد والأمة بل بلفظ الفتى والفتاة ،
وقد روى البخاري قوله صلى اللّه عليه وسلم « لا يقولنّ أحدكم عبدى أمي ، ولا يقل المملوك ربى ، ليقل المالك فتاى وفتاتى ، وليقل المملوك سيدى وسيدتى ، فإنكم المملوكون ، والرب هو اللّه عز وجل » .
والمعنى - ومن لم يستطع منكم طولا فى الحال أو المآل نكاح المحصنات اللواتى أحلّ لكم أن تتغوا نكاحهن بأموالكم وتقصدوا بنكاحهن الإحصان لهن ولانفسكم فلينكح أمة من الإماء المؤمنات ، والطّول (هو السعة المعنوية أو المادية) تختلف باختلاف الأشخاص ، فقد يعجز الرجل عن التزوج بحرة وهو ذو مال يقدر به على المهر لنفور النساء منه لعيب فى خلقه أو خلقه ، وقد يعجز عن القيام بغير المهر من حقوق المرأة الحره ، فإن لها حقوقا كثيرة من النفقة والمساواة وغير ذلك ، وليس للأمة مثل هذه الحقوق.
وقد قدّر الحنفية المهر بدراهم معدودة ، فقال بعضهم : ربع دينار ، وقال بعضهم :
عشرة دراهم.
وليس فى الكتاب ولا فى السنة ما يؤيد هذا التحديد ،
فقد ورد أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لمن يريد الزواج « التمس ولو خاتما من حديد »
وروى أن بعض المسلمين تزوج امرأة وجعل المهر تعليمها شيئا من القرآن.
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي فأنتم أيها المؤمنون إخوة فى الإيمان بعضكم من بعض كما قال : « وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ » فلا ينبغى أن تعدوا نكاح الأمة عارا عند الحاجة إليه.
وفي هذا إشارة إلى أن اللّه قد رفع شأن الفتيات المؤمنات وساوى بينهن وبين الحرائر ، وهو العليم بحقيقة الإيمان ودرجة قوته وكماله ، فرب أمة أكمل إيمانا من حرة فتكون أفضل منها عند اللّه « إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ » .
(فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) الأهل هنا الموالي المالكون لهن ، أي فإذا أحببتم نكاحهن ورغبتم فيه ، لأن الإيمان قد رفع من قدرهن فانكحوهن بإذن موالهن(5/9)
ج 5 ، ص : 10
وقال بعض الفقهاء : المراد من الأهل من لهم عليهن ولاية التزويج ولو غير المالكين كالأب والجد والقاضي والوصي ، إذ لكل منهم تزويج أمة اليتيم.
(وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي وأدوا إليهن مهورهن بإذن أهلهن ، إذ أن المهر هو حق المولى ، لأنه بدل عن حقه فى إباحة الاستمتاع بها ، وقال مالك : المهر حق للزوجة على الزوج وإن كانت أمة فهو لها لا لمولاها ، وإن كان الرقيق لا يملك شيئا لنفسه لأن المهر حق الزوجة تصلح به شأنها ويكون تطييبا لنفسها فى مقابلة رياسة الزوج عليها ، وسيد الأمة مخير بين أن يأخذه منها بحق الملك ، أو يتركه لها لتصلح به شأنها وهو الأفضل والأكمل.
ومعنى قوله : (بِالْمَعْرُوفِ) أي بالمعروف بينكم فى حسن التعامل ومهر المثل وإذن الأهل.
(مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) أي أعطوهن أجورهن حال كونهن متزوجات منكم لا مستأجرات للبغاء جهرا وهن المسافحات ، ولا سرّا وهن متخذات الأخدان والأصحاب.
وقد كان الزنا فى الجاهلية قسمين : سرى وعلنى ، فالسرى يكون خاصا فيكون للمرأة خدن يزنى بها سرا ولا تبذل نفسها لكل أحد ، والعلنى يكون عاما وهو المراد بالسفاح قاله ابن عباس.
وكان البغايا من الإماء ينصبن الرايات الحمر لتعرف منازلهن ، ولا تزال هذه العادة متبعة إلى الآن فى بلاد السودان ، فتوجد بيوت خاصة لشراب الذرة (المريسة) وفيها البغاء العلنى.
وروى عن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرّمون ما ظهر من الزنا ويقولون إنه لؤم ، ويستحلون ما خفى ويقولون : إنه لا بأس به ، وقد نزل فى تحريم هذين النوعين قوله تعالى « وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ » .(5/10)
ج 5 ، ص : 11
وهذان النوعان فاشيان الآن فى بلاد الإفرنج والبلاد التي تقلدهم فى شرورهم كمصر والآستانة وبعض بلاد الهند.
وقصارى القول : إن اللّه فرض فى نكاح الإماء مثل ما فرض فى نكاح الحرائر من الإحصان والعفة لكل من الزوجين ، لكن جعل الإحصان وعدم السفاح فى نكاح الحرائر من قبل الرجال أولا وبالذات فقال (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) لأن الحرائر ولا سيما الأبكار أبعد من الرجال عن الفاحشة وأقل انقيادا لطاعة الشهوة ، إلى أن الرجال هم الطالبون للنساء والقوّامون عليهن.
وجعل قيد الإحصان فى جانب الإماء ، فاشترط على من يريد أن يتزوج أمة أن يتحرى فيها أن تكون محصنة مصونة فى السر والجهر فقال (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) وذلك أن الزنا كان غالبا فى الجاهلية على الإماء وكانوا يشترونهن للاكتساب ببغائهن حتى إن عبد اللّه بن أبىّ كان يكره إماءه على البغاء بعد أن أسلمن فنزل فى ذلك : « وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا » .
إلى أنهن لذلّهن وضعفهن وكونهن مظنّة للانتقال من يد إلى أخرى - لم تمرّن نفوسهن على الاختصاص برجل واحد يرى لهن عليه من الحقوق ما تطمئنّ به نفوسهن فى الحياة الزوجية التي هى من شؤون الفطرة.
(فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) أي إن الإماء إذا زنين بعد إحصانهن بالزواج فعليهن من العقاب نصف ما على المحصنات الكاملات وهن الحرائر إذا زنين ، وهذا العقاب ما بينه سبحانه بقوله « الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ » فتجلد الأمة المتزوجة خمسين جلدة ، وتجلد الحرة مائة.
والسر فى هذا ما قدمناه فيما سلف وهو كون الحرة أبعد عن داعية الفاحشة ، والأمة ضعيفة عن مقاومتها ، فرحم اللّه ضعفها ، وخفف العقاب عنها ، وقد قيدوا المحصنات(5/11)
ج 5 ، ص : 12
هنا بكونهن أبكارا ، لأن من تزوجت تسمى محصنة بالزواج وإن آمت بطلاق أو بموت زوجها وحينئذ ترجم بالحجارة إذا زنت.
وفى الصحيحين وغيرهما عن عمر رضي اللّه عنه : أن الرجم فى كتاب اللّه حق على من زنا إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان حمل أو اعتراف.
وأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم برجم ماعز الأسلمىّ والغامديّة لاعترافهما بالزنا ، لكنه أرجأ المرأة حتى وضعت وأرضعت وفطمت ولدها رواه مسلم وأبو داود (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) أي ذاك الذي ذكر لكم من إباحة نكاح الإماء عند العجز عن الحرائر جائز لمن خشى عليه الضرر من مقاومة دواعى الفطرة ، والتزام الإحصان والعفة ، ففى كثير من الأحيان تفضى هذه المقاومة إلى أعراض عصبية وغير عصبية إذا طال العهد على مقاومتها كما أثبت ذلك الطبّ الحديث.
(وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أي وصبركم عن نكاح الإماء خير لكم من نكاحهن لما فى ذلك من تربية قوة الإرادة ، وتنمية ملكة العفة ، وتغليب العقل على عاطفة الهوى ومن عدم تعريض الولد للرقّ ، وخوف فساد أخلاقه ، بإرثه منها المهانة والذلة ، إذ هى بمنزلة المتاع والحيوان ، فربما ورث شيئا من إحساسها ووجدانها وعواطفها الخسيسة.
وروى عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال : إذا نكح العبد الحرة فقد أعتق نصفه ، وإذا نكح الحر الأمة فقد أرقّ نصفه ، ورحم اللّه القائل :
إذا لم تكن فى منزل المرء حرة تدبّره ضاعت مصالح داره
وسر هذا ما شرحناه من قبل من أن معنى الزوجية حقيقة واحدة مركبة من ذكر وأنثى ، كل منهما نصفها ، فهما شخصان صورة ، واحد اعتبارا بالإحسان والشعور والوجدان والمودة والرحمة ، ومن ثم ساغ أن يطلق على كل منهما لفظ (زوج) لاتحاده بالآخر وإن كان فردا فى ذاته ومستقلا فى شخصه.
(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فهو غفار لمن صدرت منه الهفوات ، كاحتقار الإماء المؤمنات ، والطعن فيهن عند الحديث فى نكاحهن ، وعدم الصبر على معاشرتهن بالمعروف ، وسوء(5/12)
ج 5 ، ص : 13
الظن بهن ، رحيم بعباده ، إذ رخص لهم فيما رخص فيه ببيان أحكام شريعته ، فلا يؤاخذنا بما لا نستطيعه منها
[سورة النساء (4) : الآيات 26 الى 28]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أحكام النكاح فيما سلف على طريق البيان والإسهاب ، ذكر هنا عللها وأحكامها كما هو دأب القرآن الكريم أن يعقب ذكر الأحكام التي يشرعها العباد ببيان العلل والأسباب ، ليكون فى ذلك طمأنينة للقلوب ، وسكون للنفوس لتعلم مغبة ما هى مقدمة عليه من الأعمال ، وعاقبة ما كلفت به من الأفعال ، حتى تقبل عليها وهى مثلجة الصدور عالمة بأن لها فيها سعادة فى دنياها وأخراها ، ولا تكون فى عماية من أمرها فتتيه فى أودية الضلالة ، وتسير قدما لا إلى غاية.
الإيضاح
(يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) جاءت هذه الآيات كأجوبة لأسئلة من شأنها أن تدور بخلد السامع لهذه الأحكام ، فيطوف بخاطره أن يسأل - ما الحكمة في هذه الأحكام وما فائدتها للعباد ، وهل كان من قبلنا من الأمم السالفة كلف بمثلها ، فلم يبح لهم أن يتزوجوا كل امرأة ، وهل كان ما أمرنا اللّه به أو نهانا عنه تشديدا علينا أو تخفيفا عنا ؟(5/13)
ج 5 ، ص : 14
والمعنى : يريد اللّه بما شرعه لكم من الأحكام أن يبين لكم ما فيه مصالحكم ومنافعكم ، وأن يهديكم مناهج من تقدمكم من الأنبياء والصالحين ، لتقتفوا آثارهم وتسيروا سيرتهم ، فالشرائع والتكاليف وإن اختلفت باختلاف أحوال الاجتماع والأزمان كما قال « لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً » فهى متفقة فى مراعاة المصالح العامة للبشر ، فروح الديانات جميعا توحيد اللّه وعبادته والخضوع له على صور مختلفة ، ومآل ذلك تزكية النفس بالأعمال التي تقوم بها وتهذيب الأخلاق لتبعد عن سيىء الأفعال والأقوال.
(وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أي ويريد أن يجعلكم بالعمل بتلك الأحكام تائبين راجعين عما كان قبلها من تلك الأنكحة الضارة التي كان فيها انحراف عن سنن الفطرة ، إذ كنتم تنكحون ما نكح آباؤكم ، وتقطعون أرحامكم ، ولا تلتفتون إلى المعاني السامية التي فى الزوجية ، من تقوية روابط النسب وتجديد قرابة الصهر ، والسعادة التي تثلج قلوب الزوجين ، والمودة والرحمة اللتين تعمر بهما نفوسهما.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فبعلمه المحيط بما فى الأكوان شرع لكم من الدين ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم ، وبحكمته لم يكلفكم بما يشق عليكم ، وبما فيه الأذى والضرر لكم وبها يتقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات.
(وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أي إنه تعالى بما كلفكم به من تلك الشرائع يريد أن يطهرّكم ويزكى نفوسكم فيتوب عليكم.
(وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً) متبعو الشهوات هم الفسقة الذين يدورن مع شهوات أنفسهم وينهمكون فيها ، فكانها أمرتهم باتباعها فامتثلوا أمرها ، فلا يبالون بما قطعوا من وشائج الأرحام ، ولا بما أزالوا من أواصر القرابة ، فليس مقصدهم إلا التمتع باللذة ، أما اللذين يفعلون ما يأمر به الدين فليس غرضهم إلا امتثال أوامره ، لا اتباع شهواتهم ، ولا الجري وراء لذاتهم.
(يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) فأباح لكم عند الضرورة نكاح الإماء قاله مجاهد(5/14)
ج 5 ، ص : 15
وطاوس ، وقيل بل خفف عنكم التكاليف كلها ، ولم يجعل عليكم فى الدين من حرج ، فشريعتكم هى الحنيفية السمحة كما ورد فى الحديث.
(وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) يستميله الهوى والشهوات ، ويستشيطه الخوف والحزن ، ولا يقدر على مقاومة الميل إلى النساء ، ولا يقوى على الضيق عليه فى الاستمتاع بهن.
وقد رحم اللّه عباده فلم يحرّم عليهم منهن إلا ما فى إباحته مفسدة عظيمة وضرر كبير ، ولا يزال الزنا ينتشر حيث يضعف وازع الدين ، ولا يزال الرجال هم المعتدين فهم يفسدون النساء ويغرونهن بالأموال ويحجر الرجل على امرأته ويحجبها بينما يحتال على امرأة غيره ويخرجها من خدرها ، وإنه لغرّ جاهل ، أ فيظن أن غيره لا يحتال على امرأته كما احتال هو على امرأة سواه ؟ فقلما يفسق رجل إلا يكون قدوة لأهل بيته فى الفسق والفجور ،
وفى الحديث : « عفوا تعفّ نساؤكم وبرّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم » رواه الطبراني من حديث جابر.
وقد بلغ الفسق فى هذا الزمن حدّا صار الناس يظنونه من الكياسة ، وزالت غيرتهم ، وأسلسوا القياد لنسائهم كما يسلسن لقيادتهن ، فوهت الروابط الزوجية ، ونخر السوس فى سعادة البيوت ، ووجدت الرذيلة لها مرتعا خصيبا فى أجواء الأسر ، حتى أصبح الرجل لا يثق بنسله ، وكثرت الأمراض والعلل بشتى مظاهرها.
أخرج البيهقي فى شعب الإيمان عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال : ثمانى آيات نزلت فى سورة النساء هى خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت ، وعدّ هذه الآيات الثلاث : يريد اللّه ليبين لكم إلى قوله وخلق الإنسان ضعيفا ، والرابعة إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ، والخامسة : إن اللّه لا يظلم مثقال ذرة ، والسادسة : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفورا رحيما ، والسابعة :
إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، والثامنة : والذين آمنوا باللّه ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم. الآية.(5/15)
ج 5 ، ص : 16
[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 30]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف كيفية معاملة اليتامى وإيتاء أموالهم إليهم عند الرشد وعدم دفع الأموال إلى السفهاء ، ثم بين وجوب دفع المهور للنساء وأنكر عليهم أخذها توجه من الوجوه ، ثم ذكر وجوب إعطاء شىء من أموال اليتامى إلى أقاربهم إذا حضروا القسمة ، ذكر هنا قاعدة عامة للتعامل فى الأموال تطهيرا للأنفس فى جمع المال المحبوب لها فقال :
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) الباطل من البطل والبطلان وهو الضياع والخسار ، وفي الشرع أخذ المال بدون عوض حقيقى يعتد به ، ولا رضا ممن يؤخذ منه ، أو إنفاقه في غير وجه حقيقى نافع ، فيدخل في ذلك النصب والغش والخداع والربا والغبن وإنفاق المال في الوجوه المحرمة والإسراف بوضع المال فيما لا يرضى به العقلاء.
قوله « بَيْنَكُمْ » رمز إلى أن المال المحرم يكون عادة موضع التنازع في التعامل بين الآكل فالمأكول منه كل منهما يريد جذبه إليه ، والمراد بالأكل الأخذ على أي وجه ، وعبر عنه الأكل لأنه أكثر أوجه استعمال المال وأقواها ، وأضاف الأموال إلى الجميع ولم يقل لا يأكل بعضكم مال بعض ، تنبيها إلى تكافل الأمة في الحقوق والمصالح كأن مال كل واحد منها هو مال الأمة جميعها ، فإذا استباح أحدهم أن يأكل مال الآخر بالباطل كان(5/16)
ج 5 ، ص : 17
كأنه أباح لغيره أن يأكل ماله فالحياة قصاص ، وإرشادا إلى أن صاحب المال يجب عليه بذل شىء منه للمحتاج وعدم البخل عليه به ، إذ هو كأنما أعطاه شيئا من ماله.
وبهذا قد وضع الإسلام قواعد عادلة للأموال لدى من يعتنق مبادئه وهى :
1) أن مال الفرد مال الأمة مع احترام الحيازة والملكية وحفظ حقوقها ، فهو يوجب على ذى المال الكثير حقوقا معينة للمصالح العامة ، وعلى ذى المال القليل حقوقا أخرى للبائسين وذوى الحاجات من سائر أصناف البشر ، ويحث على البر والإحسان والصدقات فى جمييع الأوقات.
وبهذا لا يوجد فى بلاد الإسلام مضطر إلى القوت أو عريان ، سواء أ كان مسلما أم غير مسلم ، لأن الإسلام فرض على المسلمين إزالة ضرورة المضطر ، كما فرض فى أموالهم حقوقا للفقراء والمساكين.
وكل فرد يقيم فى بلادهم يرى أن مال الأمة هو ماله ، فإذا اضطر إليه يجده مذخورا له ، كما جعل المال المفروض فى أموال الأغنياء تحت سيطرة الجماعة الحاكمة من الأمة حتى لا يمنعه من فى قلبه مرض ، وحثهم على البذل ورغبهم فيه ، وذمهم على البخل ووكل ذلك إلى أنفسهم ، لتقوى لديهم ملكة السخاء والمروءة والرحمة.
2) أنه لم يبح للمحتاج أن يأخذ ما يحتاج إليه من أيدى أربابه إلا بإذنهم ، حتى لا تنتشر البطالة والكسل بين أفراد الأمة ، وتوجد الفوضى فى الأموال ، والضعف والتواني فى الأعمال ، ويدبّ الفساد فى الأخلاق والآداب.
ولو أقام المسلمون معالم دينهم ، وعملوا بشرائعه ، لضربوا للناس الأمثال واستبان لهم أنه خير شريعة أخرجت للناس ، ولأقاموا مدنية صحيحة فى هذا العصر يتأسى بها كل من يريد سعادة الجماعات ، ولا يجعلها تئنّ تحت أثقال العوز والحاجة ، كما هو حادث الآن من التنافر العام والنظر الشزر من العمال إلى أصحاب رءوس الأموال :
(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) أي لا تكونوا من ذوى الأطماع الذين(5/17)
ج 5 ، ص : 18
يأكلون أموال الناس بغير مقابل لها من عين أو منفعة ، ولكن كلوها بالتجارة التي قوام الحل فيها التراضي ، وذلك هو اللائق بأهل المروءة والدين إذا أرادوا أن يكونوا من أرباب الثراء.
وفى الآية إيماء إلى وجوه شتى من الفوائد :
1) أن مدار حل التجارة على تراضى المتبايعين ، فالغشّ والكذب والتدليس فيها من المحرمات.
2) أن جميع ما فى الدنيا من التجارة وما فى معناها من قبيل الباطل الذي لا بقاء له ولإثبات ، فلا ينبغى أن يشغل العاقل عن الاستعداد للآخرة التي هى خير وأبقى.
3) الإشارة إلى أن معظم أنواع التجارة يدخل فيها الأكل بالباطل ، فإن تحديد قيمة الشيء وجعل ثمنه على قدره بالقسطاس المستقيم يكاد يكون مستحيلا ، ومن ثم يجرى التسامح فيها إذا كان أحد العوضين أكبر من الآخر ، أو إذا كان سبب الزيادة براعة التاجر فى تزيين سلعته ، وترويجها بزخرف القول من غير غش ولا خداع ، فكثيرا ما يشترى الإنسان الشيء وهو يعلم أنه يمكنه شراؤه من موضع آخر بثمن أقلّ ، وما نشأ هذا إلا من خلابة التاجر وكياسته فى تجارته ، فيكون هذا من باطل التجارة الحاصلة بالتراضي فيكون حلالا.
والحكمة فى إباحة ذلك ، الترغيب فى التجارة ، لشدة حاجة الناس إليها ، والتنبيه إلى استعمال ما أوتوا من الذكاء والفطنة فى اختيار الأشياء ، والتدقيق فى المعاملة ، حفظا للأموال حتى لا يذهب شىء منها بالباطل ، أي بدون منفعة تقابلها.
فإذا ما وجد فى التجارة الربح الكثير بلا غش ولا تغرير ، بل بتراض من الطرفين لم يكن فى هذا حرج ، ولولا ذلك ما رغب أحد فى التجارة ، ولا اشتغل بها أحد من أهل الدين ، على شدة حاجة العمران إليها ، وعدم الاستغناء عنها.(5/18)
ج 5 ، ص : 19
ولما كان المال عديل الروح وقد نهينا عن إتلافه بالباطل - كنهينا عن إتلاف النفس ، لكون أكثر إتلافهم لها بالمغامرات لنهب الأموال وما كان متصلا بها ، وربما أدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل ، قال :
(وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا يقتل بعضكم بعضا ، وعبر بذلك للمبالغة فى الزجر ، وللإشعار بتعاون الأمة وتكافلها ووحدتها ، وقد جاء فى الحديث « المؤمنون كالنفس الواحدة » ولأن قتل الإنسان لغيره يفضى إلى قتله قصاصا أو ثأرا ، فكأنه قتل نفسه.
وبهذا علمنا القرآن أن جناية الإنسان على غيره جناية على نفسه ، وجناية على البشر جميعا ، لا على المتصلين به برابطة الدين أو الجنس أو السياسة كما قال تعالى : « مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً » كما أنه أرشدنا باحترام نفوس الناس بعدّها كنفوسنا - إلى أن نحترم نفوسنا بالأولى فلا يباح بحال أن يقتل أحد نفسه ، ليستريح من الغم وشقاء الحياة ، فمهما اشتدت المصايب بالمؤمن ، فعليه أن يصبر ويحتسب ولا ييأس من الفرج الإلهىّ ، ومن ثم لا يكثر بخع النفس (الانتحار) إلا حيث يقل الإيمان ويفشو الكفر والإلحاد.
(إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) أي إنه بنهيكم عن أكل الأموال بالباطل ، وعن قتلكم أنفسكم ، كان رحيما بكم ، إذ حفظ دماءكم كما حفظ أموالكم التي عليها قوام المصالح واستمرار المنافع ، وعلمكم أن تتراحموا وتتوادّوا ويكون كل منكم عونا للآخر ، يحافظ على ما له ويدافع عن نفسه ، إذا جد الجدّ ، ودعت الحاجة إلى الدفاع عنه.
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) العدوان هو التعدي على الحق ، وهو يتعلق بالقصد بأن يتعمد الفاعل الفعل وهو عالم أنه قد تعدى الحق وجاوزه إلى الباطل ، والظلم يتعلق بالفعل نفسه ، بألا يتحرى الفاعل عمل ما يحل ، فيفعل ما لا يحل والوعيد مقرون بالأمرين معا ، فلا بد من قصد الفاعل العدوان ، وأن يكون فعله ظلما حقا ، فإذا وجد أحدهما دون الآخر لم يستحق الفاعل هذا التهديد الشديد ، فإذا قتل الإنسان رجلا كان قد قتل أباه أو ابنه ، فهنا قد وحد العدوان ولم يوجد الظلم ، وإذا سلب(5/19)
ج 5 ، ص : 20
امرؤ مال آخر ظانّا أنه ماله الذي كان قد سرقه أو اغتصبه ثم تبين له أن المال ليس ماله ، وأن هذا الرجل لم يكن هو الذي أخذ ماله ، فها هنا قد وجد الظلم دون العدوان (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) أي وكان ذلك الإصلاء فى النار يسيرا على اللّه ، هينا لا يمنعه منه مانع ، ولا يدفعه عنه دافع ، ولا يشفع فيه إلا بإذنه شافع ، فلا يغترنّ الظالمون المعتدون بحلمه عليهم فى الدنيا ، وعدم معاجلتهم بالعقوبة ، فيظنوا أنهم بمنجاة من عقابه فى الآخرة ، ولا يكوننّ كأولئك المشركين الذين قالوا « نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ » .
[سورة النساء (4) : آية 31]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)
تفسير المفردات
الاجتناب : ترك الشيء جانبا ، والكبائر واحدتها كبيرة ، وهى المعصية العظيمة ، والسيئات واحدتها سيئة ، وهى الفعلة التي تسوء صاحبها عاجلا أو آجلا ، والمراد بها هنا الصغيرة ، ونكفر : نغفر ونمح ، ومدخلا كريما : أي مكانا كريما وهو الجنة.
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه عن أكل أموال الناس بالباطل وعن قتل النفس ، وهما أكبر الذنوب المتعلقة بحقوق العباد ، وتوعد فاعل ذلك بأشد العقوبات - نهى عن جميع الكبائر التي يعظم ضررها ، وتؤذن بضعف إيمان مرتكبها ، ووعد من تركها بالمدخل الكريم.(5/20)
ج 5 ، ص : 21
الإيضاح
(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي إن تتركوا جانبا كبائر ما ينهاكم اللّه عن ارتكابه من الذنوب والآثام نمح عنكم صغائرها فلا نؤاخذكم بها.
وقد اختلف فى عدد الكبائر فقيل هى سبع لما
ورد فى الصحيحين عن أبى هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : وما هى يا رسول اللّه ؟ قال : الشرك باللّه ، وقتل النفس التي حرم اللّه إلا بالحق ، والسحر ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والتولّى يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات »
وفى رواية لهما عن أبى بكرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا بلى يا رسول اللّه ، قال : الإشراك باللّه ، وعقوق الوالدين - وكان متكئا فجلس وقال - ألا وقول الزور وشهادة الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت » .
وفيهما أيضا من
حديث ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه ، قالوا وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه » .
والأحاديث الصحيحة مختلفة فى عددها ، ومجموعها يزيد على سبع ، ومن ثم قال ابن عباس لما قال له رجل : الكبائر سبع : قال : هى إلى سبعين أقرب ، إذ لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار ، ومراده أن كل ذنب يرتكب لعارض يعرض على النفس من استشاطة غضب أو ثورة شهوة ، وصاحبه متمكن من دينه ، يخاف اللّه ولا يستحل محارمه ، فهو من السيئات التي يكفرها اللّه تعالى ، إذ لولا ذلك العارض القاهر للنفس لم يكن ليجترحه تهاونا بالدين ، إذ هو بعد اجتراحه يندم ويتألم ويتوب ويرجع إلى اللّه تعالى ، ويعزم على عدم العودة إلى اقتراف مثله ، فهو إذ ذاك أهل لأن يتوب اللّه عليه ، ويكفر عنه.(5/21)
ج 5 ، ص : 22
وكل ذنب يرتكبه الإنسان مع التهاون بالأمر وعدم المبالاة بنظر اللّه إليه ، ورؤيته إياه حيث نهاه ، فهو مهما كان صغيرا فى صورته ، أو فى ضرره ، يعدّ كبيرا من حيث الإصرار والاستهتار ، فتطفيف الكيل والميزان ولو حبّة لمن اعتاده ، والهمز واللمز (عيب الناس والطعن فى أعراضهم) لمن تعوّده - كل ذلك كبيرة ولا شك.
وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يذكر فى كل مقام ما تمس إليه الحاجة ، ولم يرد الحصر والتحديد.
وقال بعض العلماء : الكبيرة كل ذنب رتّب عليه الشارع حدا أو صرح فيه بوعيد.
(وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً) أي وندخلكم مكانا لكم فيه الكرامة عند ربكم وهى الجنات التي تجرى من تحتها الأنهار ، والعرب تقول : أرض كريمة ، وأرض مكرمة ، أي طيبة جيدة النبات ، قال تعالى : « فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ » .
[سورة النساء (4) : آية 32]
وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32)
تفسير المفردات
التمني : تشهى حصول الأمر المرغوب فيه ، وحديث النفس بما يكون وما لا يكون.
من فضله : أي إحسانه ونعمه المتكاثرة :
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه عن أكل أموال الناس بالباطل ، وعن القتل ، وتوعد فاعلهما بالويل والثبور ، وهما من أفعال الجوارح ، ليصير الظاهر طاهرا عن المعاصي الوخيمة(5/22)
ج 5 ، ص : 23
العاقبة - نهى عن التمني ، وهو التعرض لها بالقلب حسدا ، لتطهر أعمالهم الباطنة ، فيكون الباطن موافقا للظاهر ، ولأن التمني قد يجرّ إلى الأكل ، والأكل قد يقود إلى القتل ، فإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
الإيضاح
(وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ، لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ، وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) أي إن اللّه كلف كلا من الرجال والنساء أعمالا ، فما كان خاصا بالرجال لهم نصيب من أجره لا يشاركهم فيه النساء ، وما كان خاصا بالنساء لهن نصيب من أجره لا يشاركهن فيه الرجال ، وليس لأحدهما أن يتمنى ما هو مختص بالآخر وقد أراد اللّه أن يختص النساء بأعمال البيوت ، والرجال بالأعمال الشاقة التي فى خارجها ليتقن كل منهما عمله ، ويقوم بما يجب عليه مع الإخلاص.
وعلى كل منهما أن يسأل ربه الإعانة والقوّة على ما نيط به من عمل ، ولا يجوز أن يتمنى ما نيط بالآخر ، ويدخل فى هذا النهى تمنى كل ما هو من الأمور الخلقية كالعقل والجمال ، إذ لا فائدة فى تمنيها لمن لم يعطها ، ولا يدخل فيه ما يقع تحت قدرة الإنسان من الأمور الكسبية ، إذ يحمد من الناس أن ينظر بعضهم إلى ما نال الآخرون ويتمنّوا لأنفسهم مثله أو خيرا منه بالسعي والجدّ.
والخلاصة - إنه تعالى طلب إلينا أن نوجه الأنظار إلى ما يقع تحت كسبنا ، ولا نوجهها إلى ما ليس فى استطاعتنا ، فإنما الفضل بالأعمال الكسبية ، فلا تتمنوا شيئا بغير كسبكم وعملكم ، قاله الأستاذ الإمام محمد عبده بتصرّف.
فعلى المسلم أن يعتمد على مواهبه وقواه فى كل مطالبه ، بالجد والاجتهاد مع رجاء فضل اللّه فيما لا يصل إليه كسبه ، إما للجهل به ، وإما للعجز عنه ، فالزارع يجتهد فى زراعته(5/23)
ج 5 ، ص : 24
ويتبع السنن والأسباب التي سنها اللّه لعمله ، ويسأل اللّه أن يمنع الآفات والجوائح عنه ، ويرفع أثمان غلاته إلى نحو أولئك مما هو بيد اللّه.
روى عكرمة أن النساء سألن الجهاد فقلن : وددنا أن اللّه جعل لنا الغزو ، فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال فنزلت.
(وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) أي لا تتمنوا نصيب غيركم ، ولا تحسدوا من فضّل عليكم واسألوا اللّه من إحسانه وإنعامه ، فإن خزائنه مملوءة لا تنفد ،
روى أنه صلى اللّه عليه وسلم قال : « سلوا اللّه من فضله ، فاللّه يحب أن يسأل ، وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج » .
(إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) وبذا فضّل بعض الناس على بعض بحسب مراتب استعدادهم ، وتفاوت اجتهادهم فى معترك الحياة ، ولا يزال العاملون يستزيدونه ولا يزال ينزل عليهم من جوده وكرمه ما يفضلون به القاعدين الكسالى حتى بلغ التفاوت بين الناس فى الفضل حدا بعيدا ، وكاد التفاوت بين الشعوب يكون أبعد من التفاوت بين بعض الحيوان وبعض الإنسان.
[سورة النساء (4) : آية 33]
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)
تفسير المفردات
الموالي : من يحق لهم الاستيلاء على التركة ، مما ترك أي وارثين مما ترك ، والذين عقدت أيمانكم هم الأزواج ، فإن كلا من الزوجين له حق الإرث بالعقد ، والمتعارف عند الناس فى العقد أن يكون بالمصافحة باليدين ، قاله أبو مسلم الأصفهانى.(5/24)
ج 5 ، ص : 25
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه عن أكل أموال الناس بالباطل ، وعن تمنّى أحد ما فضل اللّه به غيرة عليه من المال ، حتى لا يسوقه التمني إلى التعدي ، وهو وإن كان نهيا عاما فالسياق يعين المراد منه ، وهو المال ، لأن أكثر التمني يتعلق به ، ثم ذكر القاعدة العامة فى حيازة الثروة وهى الكسب - انتقل إلى نوع آخر تأتى به الحيازة ، وهو الإرث.
الإيضاح
(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ) أي إن لكل من الرجال الذين لهم نصيب مما اكتسبوا ، ومن النساء اللواتى لهن نصيب مما اكتسبن ، موالى لهم حق الولاية على ما يتركون من كسبهم.
ثم بين هؤلاء الموالي فقال :
(الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) أي إن هؤلاء الموالي هم جميع الورثة من الأصول والفروع والحواشي والأزواج.
(فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) أي فأعطوا هؤلاء الموالي نصيبهم المقدّر لهم ولا تنقصوهم منه شيئا.
(إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) » أي إن اللّه رقيب شاهد على تصرفاتكم فى التركة وغيرها ، فلا يطمعنّ من بيده المال أن يأكل من نصيب أحد الورثة شيئا ، سواء أ كان ذكرا أم أنثى ، كبيرا أم صغيرا.
وجاءت هذه الآية لمنع طمع بعض الوارثين فى بعض.(5/25)
ج 5 ، ص : 26
[سورة النساء (4) : الآيات 34 الى 35]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)
تفسير المفردات
يقال هذا قيّم المرأة وقوّامها إذا كان يقوم بأمرها ويهتم بحفظها ، وما به الفضل قسمان : فطرىّ وهو قوة مزاج الرجل وكماله فى الخلقة ، ويتبع ذلك قوة العقل وصحة النظر فى مبادئ الأمور وغاياتها ، وكسبىّ وهو قدرته على الكسب والتصرف فى الأمور ، ومن ثم كلف الرجال بالإنفاق على النساء والقيام برياسة المنزل ، والقنوت : السكون والطاعة للّه وللأزواج ، والحافظات للغيب : أي اللاتي يحفظن ما يغيب عن الناس ، ولا يقال إلا فى الخلوة بالمرأة ، وتخافون : أي تظنون ، ونشزت الأرض : ارتفعت عما حواليها ، ويراد بها هنا معصية الزوج والترفع عليه ، والبغي : الظلم وتجاوز الحد ، والشقاق : الخلاف الذي يجعل كلّا من المختلفين فى شقّ : أي جانب ، وخوفه توقع حصوله بظهور أسبابه ، والحكم من له حق الحكم والفصل بين الخصمين ، وبعث الحكمين : إرسالهما إلى الزوجين لينظرا فى شكوى كل منهما ويتعرفا ما يرجى أن يصلح بينهما :
المعنى الجملي
لما نهى سبحانه كلّا من الرجال والنساء عن تمنى ما فضل اللّه به بعضهم على بعض ، وأرشدهم إلى الاعتماد فى أمر الرزق على كسبهم وأمرهم أن يؤتوا الوارثين(5/26)
ج 5 ، ص : 27
أنصبتهم ، وفى هذه الأنصبة يستبين تفضيل الرجال على النساء - ذكر هنا أسباب التفضيل.
الإيضاح
(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) أي إن من شأن الرجال أن يقوموا على النساء بالحماية والرعاية ، وتبع هذا فرض الجهاد عليهم دونهنّ ، لأن ذلك من أخص شئون الحماية ، والرعاية ، وتبع هذا فرض الجهاد عليهم دونهنّ ، لأن ذلك من أخص شئون الحماية ، وجعل حظهم من الميراث أكثر من حظهن ، لأن عليهم من النفقة ما ليس عليهن.
وسبب هذا أن اللّه فضّل الرجال على النساء فى الخلقة ، وأعطاهم ما لم يعطهن من الحول والقوة ، كما فضلهم بالقدرة على الإنفاق على النساء من أموالهم ، فإن فى المهور تعويضا للنساء ومكافأة لهن على الدخول تحت رياسة الرجال وقبول القيامة عليهن ، نظير عوض مالىّ يأخذونه كما قال تعالى : « وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ » .
والمراد بالقيام الرياسة التي يتصرف فيها المرءوس بإرادة الرئيس واختياره ، إذ لا معنى للقيام إلا الإرشاد والمراقبة فى تنفيذ ما يرشد إليه ، وملاحظة أعماله ، ومن ذلك حفظ المنزل وعدم مفارقته إلا بإذنه ولو لزيارة القربى ، وتقدير النفقة فيه ، فهو الذي يقدرها بحسب ميسرته ، والمرأة هى التي تنفذ على الوجه الذي يرضيه ، ويناسب حاله سعة وضيقا.
ولقيام الرجل بحماية المرأة وكفايتها مختلف شئونها ، يمكنها أن تقوم بوظيفتها الفطرية ، وهى الحمل والولادة وتربية الأطفال ، وهى آمنة فى سربها ، مكفيّة ما يهمها من أمور أرزاقها.
ثم فصل حال النساء فى الحياة المنزلية التي تكون المرأة فيها تحت رياسة الرجل فذكر أنها قسمان ، وأشار إلى معاملتها فى كل حال منهما فقال :(5/27)
ج 5 ، ص : 28
(فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ) أي فالنساء الصالحات مطيعات للأزواج حافظات لما يجرى بينهن وبينهم فى الخلوة من الرفث والشئون الخاصة بالزوجية ، لا يطلعن أحدا عليها ولو قريبا ، وبالأولى يحفظن العرض من يد تلمس ، أو عين تبصر ، أو أذن تسمع.
وقوله : بما حفظ اللّه ، أي بسبب أمر اللّه بحفظه ، فهن يطعنه ويعصين الهوى.
وفى الآية أكبر عظة وزجر لمن تتفكه من النساء بإفشاء الأسرار الزوجية ولا تحفظ الغيب فيها.
وكذلك عليهن أن يحفظن أموال الرجال وما يتصل بها من الضياع ،
روى ابن جرير والبيهقي عن أبى هريرة قال « خير النساء التي إذا نظرت إليها سرّتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك فى مالك ونفسها ، وقرأ الآية »
وهذا القسم من النساء ليس للرجال عليهن سلطان التأديب ، إذ لا يوجد ما يدعو إليه وإنما سلطانهم على القسم الثاني الذي ذكره اللّه وذكر حكمه بقوله :
(وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) أي واللاتي تأنسون منهن الترفع وتخافون ألا يقمن بحقوق الزوجية على الوجه الذي ترضونه فعليكم أن تعاملوهن على النهج الآتي :
(1) أن تبدءوا بالوعظ الذي ترون أنه يؤثر فى نفوسهن ، فمن النساء من يكفيها التذكير بعقاب اللّه وغضبه ، ومنهن من يؤثر فى أنفسهن التهديد والتحذير من سوء العاقبة فى الدنيا كشماتة الأعداء ، ومنعها بعض رغباتها كالثياب والحلي ونحو ذلك ، وعلى الجملة فاللبيب لا تخفى عليه العظات التي لها المحل الأرفع فى قلب امرأته.
فإن لم يجد ذلك فله أن يجرّب :
(2) الهجر والإعراض فى المضجع ، ويتحقق ذلك بهجرها فى الفراش مع الإعراض والصدّ (وقد جرت العادة بأن الاجتماع فى المضجع يهيج شعور الزوجية ،(5/28)
ج 5 ، ص : 29
فتسكن نفس كل من الزوجين إلى الآخر ، ويزول ما كان فى نفوسهما من اضطراب أثارته الحوادث قبل ذلك).
فإذا هو فعل ذلك دعاها هذا إلى السؤال عن أسباب الهجر والهبوط بها من نشز المخالفة إلى مستوى الموافقة ، فإن لم يفد ذلك فله أن يجرب :
(3) الضرب غير المبرّح : أي غير المؤذى إيذاء شديدا كالضرب باليد أو بعصا صغيرة.
و
قد روى عن مقاتل فى سبب نزول الآية أن سعد بن الربيع - وكان من النقباء - نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبى زهير ، فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : أفرشته كريمتى فلطمها ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم « لتقتصّ من زوجها ، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : ارجعوا هذا جبرائيل أتانى وأنزل اللّه هذه الآية فتلاها صلى اللّه عليه وسلم وقال : أردنا أمرا وأراد اللّه أمرا ، والذي أراده اللّه خير » .
وقد يستعظم بعض من قلد الإفرنج من المسلمين مشروعية ضرب المرأة الناشز ، ولا يستعظمون أن تنشز وتترفع هى عليه ، فتجعله وهو الرئيس مرءوسا محتقرا وتصرّ على نشوزها ، فلا تلين لوعظه ونصحه ، ولا تبالي بإعراضه وهجره ، فإن كان قد ثقل ذلك عليهم فليعلموا أن الإفرنج أنفسهم يضربون نساءهم العالمات المهذبات ، بل فعل هذا حكماؤهم وعلماؤهم وماوكهم وأمراؤهم ، فهو ضرورة لا يستغنى عنها ولا سيما فى دين عام للبدو والحضر من جميع أصناف البشر ، وكيف يستنكر هذا والعقل والفطرة يدعوان إليه إذا فسدت البيئة ، وغلبت الأخلاق الفاسدة ، ولم ير الرجل مناصا منه ولا ترجع المرأة عن نشوزها إلا به.
لكن إذا صلحت البيئة وصارت النساء يستجبن للنصيحة ، أو يزدجرن بالهجر وجب الاستغناء عنه ، إذ نحن مأمورون بالرفق بالنساء واجتناب ظلمهن ، وإمساكهن بمعروف أو تسريحهن بمعروف.
والأخبار التي وردت فى الوصية بالنساء كثيرة ، فمن ذلك ما
رواه البخاري ومسلم(5/29)
ج 5 ، ص : 30
عن عبد اللّه بن زمعة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « أ يضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يضاجعها فى آخر اليوم »
يعنى أنه إذا لم يكن بدّ للرجل من هذا الاتصال الخاص بامرأته ، وهو أقوى وأحكم اجتماع يكون بين اثنين من البشر وقد قضت به الفطرة ، فكيف يليق به بعدئذ أن يجعل امرأته ، وهى كنفسه مهينة كمهانة عبده يضربها بسوطه أو بيده ، فالرجل الكريم يأبى عليه طبعه مثل هذا الجفاء.
والخلاصة - إن الضرب علاج مرّ قد يستغنى عنه الخيّر الكريم ، ولكنه لا يزول من البيوت إلا إذا عم التهذيب الرجال والنساء ، وعرف كلّ ماله من الحقوق وكان للدين سلطان على النفوس يجعلها تراقب اللّه فى السر والعلن وتخشى أمره ونهيه.
ثم رغب فى حسن المعاملة الزوجية فقال :
(فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) أي فإن أطعنكم بواحدة من هذه الخصال التأديبية فلا تبغوا ولا تتجاوزوا ذلك إلى غيرها ، فابدءوا بما بدأ اللّه من الوعظ ، فإن لم يجد فبالهجر ، فإن لم يفد فبالضرب ، فإذا لم يغن فليلجأ إلى التحكيم ، ومتى استقام لكم الظاهر فلا تبحثوا عما فى السرائر.
ثم هدّد وتوعد من يظلم النساء ويبغى عليهن فقال :
(إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) يذكّر سبحانه عباده بقدرته وكبريائه عليهم ، ليتعظوا ويخشوه فى معاملتهن ، فكأنه يقول لهم : إن سلطانه عليكم فوق سلطانكم على نسائكم ، فإذا بغيتم عليهن عاقبكم ، وإن تجاوزتم عن هفواتهن كرما تجاوز عنكم وكفر عنكم سيئاتكم :
وليس بخاف أن الرجال الذين يستذلّون نساءهم إنما يلدون عبيدا لغيرهم ، إذ هم يتربون على الظلم ويستسيغونه ، ولا يكون فى نفوسهم شىء من الكرامة ولا من الشمم والإباء ، وأمة تخرج أبناء كهؤلاء إنما تربى عبيدا أذلاء لا يقومون بنصرتها ، ولا يغارون لكرامتها ، فما أحراهم بأن يكونوا قطعانا من الغنم تزدجر من كل راع وتستجيب لكل ناعق!.(5/30)
ج 5 ، ص : 31
ثم بين الطريق السوىّ الذي يتبع عند حدوث النزاع وخوف الشقاق فقال :
(وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما) هذا الخطاب عام يدخل فيه الزوجان وأقاربهما ، فإن قاموا بذلك فذاك ، وإلا وجب على من بلغه أمرهما من المسلمين أن يسعى فى إصلاح ذات بينهما ، والخلاف بينهما قد يكون بنشوز المرأة ، وقد يكون بظلم الرجل ، فإن كان بالأول فعلى الرجل أن يعالجه بأقرب أنواع التأديب التي ذكرت فى الآية التي سلفت ، وإن كان بالثاني وخيف من تمادى الرجل فى ظلمه أو عجز عن إنزالها عن نشوزها وخيف أن يحول الشقاق بينهما دون إقامتها لأركان الزوجية الثلاث : من السكون والمودة والرحمة ، وجب على الزوجين وذوى القربى أن يبعثوا الحكمين ، وعليهم أن يوجهوا إرادتهم إلى إصلاح ذات البين ، ومتى صدقت الإرادة وصحت العزيمة فاللّه كفيل بالتوفيق.
بفضله وجوده.
وبهذا تعلم شدة عناية اللّه بأحكام نظام الاسر والبيوت ، وكيف لم يذكر مقابل التوفيق وهو التفريق ، لأنه يبغضه ولأنه يود أن يشعر المسلمين بأنه لا ينبغى أن يقع.
ولكن وأسفا لم يعمل المسلمون بهذه الوصية الجليلة إلا قليلا حتى دبّ الفساد فى البيوت ، ونخر فيها سوس العداوة والبغضاء ، ففتك بالأخلاق والآداب ، وسرى من الوالدين إلى الأولاد.
ثم ذكر أن ما شرع من الأحكام جاء وفق الحكمة والمصلحة لأنه من حكيم خبير بأحوال عباده فقال :
(إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) أي إن هذه الأحكام التي شرعت لكم كانت من لدن عليم بأحوال العباد وأخلاقهم ، خبير بما يقع بينهم وبأسبابه ما ظهر منها وما بطن ، ولا يخفى عليه شىء من وسائل الإصلاح بينهما.
وفى الآية إرشاد إلى أن ما يقع بين الزوجين من خلاف وإن ظنّ أنه مستعص(5/31)
ج 5 ، ص : 32
يتعذر علاجه فقد يكون فى الواقع على غير ذلك من أسباب عارضة يسهل على الحكمين الخبيرين بدخائل الزوجين لقربهما منهما أن يمحّصا ما علق من أسبابه بقلوبهما ، فيزيلاها متى حسنت النية وصحت العزيمة ، ولتعلم أيها المؤمن أن رابطة الزوجية أقوى الروابط التي تربط بين اثنين من البشر ، فبها يشعر كل من الزوجين بشركة مادّية ومعنوية ، بها يؤاخذ كل منهما شريكه على أدق الأمور وأصغرها ، فيحاسبه على فلتات اللسان ، وبالظّنّة والوهم ، وخفايا خلجات القلب ، فيغريهما ذلك بالتنازع فى كل ما يقصر فيه أحدهما من الأمور المشتركة بينهما ، وما أكثرها وأعسر التوقي منها! وكثيرا ما يفضى التنازع إلى التقاطع ، والعتاب إلى الكره والبغضاء ، فعليك أن تكون حكيما فى معاملة الزوجة ، خبيرا بطباعها ، وبذا تحسن العشرة بينكما.
وقد صرح علماء الاجتماع بأن السعادة الزوجية قلما تمتع بها زوجان ، وإن كانت أمنية كل الأزواج ، ومن ثم اكتفوا بالمودة العملية ، واجتهدوا فى تربية رجالهم ونسائهم على الاحترام المتبادل جهد المستطاع.
[سورة النساء (4) : الآيات 36 الى 39]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)(5/32)
ج 5 ، ص : 33
تفسير المفردات
عبادة اللّه : الخضوع له والاستشعار بتعظيمه فى السر والعلن بالقلب والجوارح ، والإخلاص له بالاعتراف بوحدانيته إذ لا يقبل عملا بدونها ، والإحسان إلى الوالدين :
قصد البر بهما بالقيام بخدمتهما ، والسعى فى تحصيل مطالبهما ، والإنفاق عليهما بقدر الاستطاعة ، وعدم الخشونة فى الكلام معهما ، وذى القربى : صاحب القرابة من أخ وعمّ وخال وأولاد هؤلاء ، والجار ذى القربى هو الجار القريب الجوار ، والجار الجنب :
هو البعيد القرابة ، والصاحب بالجنب : الرفيق فى السفر أو المنقطع إليك الراجي نفعك ورفدك ، وابن السبيل هو المسافر أو الضيف ، ما ملكت أيمانكم : عبيدكم وإماؤكم ، والمختال : ذو الخيلاء والكبر ، والفخور : الذي يعدد محاسنه تعاظما وتكبرا ، أعتدنا :
هيأنا وأعددنا ، والمهين : ذو الإهانة والذلة ، ورئاء الناس : أي للمراءاة والفخر بما فعل ، والقرين : الصاحب والخليل ، وماذا عليهم : أي أىّ ضرر يحيق بهم لو آمنوا وأنفقوا ؟
المعنى الجملي
كان الكلام من أول السورة فى وصايا ونصائح ، كابتلاء اليتامى قبل تسليمهم أموالهم ، والنهى عن إيتاء الأموال للسفهاء ، وعن قتل النفس ، والإرشاد إلى كيفية معاملة النساء ، وطرق تأديبهن تارة بالموعظة الحسنة وأخرى بالقسوة والشدة مع مراقبة اللّه عز وجل فى كل ذلك.
فناسب بعدئذ التذكير بحسن معاملة الخالق بالإخلاص له فى الطاعة ، وحسن معاملة الطوائف المختلفة من الناس ، وعدم الضن عليهم بالمال فى أوقات الشدة ، مع قصد التقرب إلى اللّه لا لقصد الفخر والخيلاء ، لأن ذاك عمل من لا يرجو ثواب اللّه ، ولا يخشى عقابه.
الإيضاح
(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) عبادة اللّه هى الخضوع له وتمكين هيبته وعظمته من النفس ، والخشوع لسلطانه فى السر والجهر ، وأمارة ذلك العمل بما به أمر ، وترك ما عنه نهى ، وبذا تصلح جميع الأعمال من أقوال وأفعال.(5/33)
ج 5 ، ص : 34
والعبادة هى الخضوع لسلطة غيبية وراء الأسباب المعروفة يرجى خيرها ويخشى شرها ، وهذه السلطة لا تكون لغير اللّه ، فلا يرجى غيره ولا يخشى سواه ، فمن اعتقد أن غيره يشركه فيها كان مشركا ، وإذا نهى اللّه عن إشراك غيره معه ، فلأن ينهى عن إنكار وجوده وجحد ألوهيته أولى.
والإشراك ضروب مختلفة :
منها ما ذكره سبحانه عن مشركى العرب من عبادة الأصنام باتخاذهم أولياء وشفعاء عند اللّه يقربون المتوسل بهم إليه ويقضون الحاجات عنده ، وقد جاء ذكر هذا فى آيات كثيرة كقوله : « وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ » .
ومنها ما ذكره عن النصارى من أنهم عبدوا المسيح عليه السلام ، قال تعالى :
« اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ » .
وأقوى أنواعه ما سماه اللّه دعاء واستشفاعا ، وهو التوسل بغيره له وتوسيطه بينه وبين اللّه ، ولا ينفع مع هذا صلاة ولا صوم ولا أي عبادة أخرى ، وقد فشا هذا النوع بين المسلمين فتراهم يستشفعون ويقولون (يا شيخ العرب - يا سيد يا بدوي ، يا سيدى إبراهيم الدسوقى) إلى غير ذلك.
ويعتذر بعض الناس لمثل هؤلاء ، وغاية ما تصل إليه المعذرة أن يحولوهم من شرك جلىّ واضح إلى شرك أقل منه وضوحا ، ولكنه شرك على كل حال.
وبعد أن أمر اللّه بعبادته وحده لا شريك له أعقبه بالوصية بالوالدين فقال :
(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي أحسنوا بهما ولا تقصّروا فى شىء مما يطلبانه ، لأنهما السبب الظاهر فى وجودكم وتربيتكم بالرحمة والإخلاص ، وقد فصّلت هذه الوصية فى سورة الإسراء بقوله تعالى : « وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ(5/34)
ج 5 ، ص : 35
إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً ، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ، رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً »
والخلاصة - إن العبرة بما فى نفس الولد من قصد البر والإحسان والإخلاص فيه ، بشرط ألا يحدّ الوالدان من حرية الولد واستقلاله فى شئونه الشخصية أو المنزلية ولا فى الأعمال الخاصة بدينه ووطنه ، فإذا أراد أحدهما الاستبداد فى شىء من ذلك ، فليس من البر العمل برأيهما اتباعا لهواهما.
(وَبِذِي الْقُرْبى ) أي وأحسنوا معاملة أقرب الناس إليكم بعد الوالدين ، وإذا أدى المرء حقوق اللّه فصحت عقيدته وصلحت أعماله ، وقام بحقوق الوالدين ، صلح البيت وحسن حال الأسرة ، وإذا صلح البيت كان قوة كبيرة ، فإذا عاون أهله ذوى القربى الذين ينسبون إليهم كان لكل منهم قوة أخرى تتعاون مع هذه الأسرة ، وبذا تتعاون الأمة جمعاء ، وتمدّ يد المعونة لمن هو فى حاجة إليها ممن ذكروا بعد فى قوله :
(وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) لأن اليتيم قد فقد الناصر والمعين وهو الأب ، وقلّما تستطيع الأم مهما اتسعت معارفها أن تقوم بتربيته تربية كاملة ، فعلى القادرين أن يعاونوا فى تربيته ، وإلا كان وجوده جناية على الأمة لجهله وفساد أخلاقه وكان خطرا على من يعاشرهم من لداته وجرثومة فساد بينهم.
وكذلك المساكين لا ينتظم حال المجتمع إلا بالعناية بهم وصلاح حالهم ، وإلا كانوا وبالا عليه.
وهم ضربان : مسكين معذور تجب مواساته ، وهو من كان سبب عدمه الضعف والعجز أو نزول آفات سماوية ذهبت بماله ، ومثل هذا يجب عونه بمساعدته بالمال الذي يسدّ عوزه ويستعين به على الكسب.(5/35)
ج 5 ، ص : 36
ومسكين غير معذور فى تقصيره ، وهو من عدم المال بإسرافه وتبذيره ، ومثل هذا يبذل له النصح ويدل على طرق الكسب ، فإن اتعظ وقبل النصح فبها ، وإلا ترك أمره إلى أولى الأمر فهم أولى بتقويم معوجّه ، وإصلاح ما فسد من أخلاقه.
(وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ) الجوار ضرب من ضروب القرابة فهو قرب بالمكان والسكن ، وقد يأنس الإنسان بجاره القريب أكثر مما يأنس بالنسيب ، فيحسن أن يتعاون الجاران ، ويكون بينهما الرحمة والإحسان ، فإذا لم يحسن أحدهما إلى الآخر فلا خير فيهما لسائر الناس ، وقد حث الدين على الإحسان فى معاملة الجار ولو غير مسلم فقد عاد النبي صلى اللّه عليه وسلم ابن جاره اليهودي ، وذبح ابن عمر شاة فجعل يقول لغلامه : أهديت لجارنا اليهودي ، أهديت لجارنا اليهودي ، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول « ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه »
وروى الشيخان أنه صلى اللّه عليه وسلم قال « من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليحسن إلى جاره » .
وحدد الحسن البصري الجوار بأربعين جارا من كل جانب من الجوانب الأربعة ، والأولى عدم التحديد بالدور وجعل الجار من تجاوره ويتراءى وجهك ووجهه فى غدوك أو رواحك إلى دارك.
وإكرام الجار من شيم العرب قبل الإسلام وزاده الإسلام توكيدا بما جاء فى الكتاب والسنة ، ومن إكرامه إرسال الهدايا إليه ، ودعوته إلى الطعام ، وتعاهده بالزيارة والعيادة إلى نحو ذلك.
(وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) روى عن ابن عباس أنه الرفيق فى السفر والمنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك ، وقيل من صاحبته وعرفته ولو وقتا قصيرا ، فيشمل صاحب الحاجة الذي يمشى بجانبك ، يستشيرك أو يستعين بك.
(وَابْنِ السَّبِيلِ) هو السائح الرّحالة فى غرض صحيح غير محرم ، والأمر بالإحسان إليه يتضمن الترغيب فى السياحة والإعانة عليها ، ويشمل اللقيط أيضا وهو أجدر بالعناية من(5/36)
ج 5 ، ص : 37
اليتيم وأحق بالإحسان إليه ، وقد عنى الأوروبيون بجمع اللقطاء وتربيتهم وتعليمهم ، ولو لا ذلك لاستطار شرهم ، وعمّ ضرّهم ، وقد كنا أحق بهذا الإحسان منهم ، لأن اللّه قد جعل فى أموالنا حقا معلوما للسائل والمحروم.
(وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي وأحسنوا إلى ما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائكم ويشمل هذا تحريرهم وعتقهم وهو أتم الإحسان وأكمله ، ومساعدتهم على شراء أنفسهم دفعة واحدة أو نجوما وأقساطا ، وحسن معاملتهم فى الخدمة بألا يكلفوا ما لا يطيقون ولا يؤذون بقول ولا بفعل ، وقد روى الشيخان قوله صلى اللّه عليه وسلم « هم إخوانكم وخولكم ، جعلهم اللّه تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه » .
وقد أكد النبي صلى اللّه عليه وسلم الوصية بهم فى مرض موته ، وكان ذلك من آخر وصاياه ،
فقد روى أحمد والبيهقي من حديث أنس قال : كانت عامة وصية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين حضره الموت « الصلاة وما ملكت أيمانكم » .
وقد أوصانا سبحانه بهؤلاء حتى لا يظن أن استرقاقهم يجيز امتهانهم ويجعلهم كالحيوانات المسخرة.
ثم ذكر ما هو علة للأمر السابق فقال :
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً) المختال : المتكبر الذي تظهر آثار الكبر فى حركاته وأعماله ، والفخور : المتكبر الذي تظهر آثار الكبر فى أقواله ، فتجده يذكر ما يرى أنه ممتاز به عن الناس زهوا بنفسه ، واحتقارا لغيره.
والمختال الفخور مبغوض عند اللّه ، لأنه احتقر جميع الحقوق التي أوجبها للناس وأوجبها لنفسه من الشعور بعظمته وكبريائه ، فهو كالجاحد لصفات الألوهية التي لا تليق إلا لها.
فالمختال لا يقوم بعبادة ربه حق القيام ، لأن العبادة لا تكون إلا عن خشوع للقلب ، ومن خشع قلبه خشعت جوارحه ، ولا يقوم بحقوق الوالدين ولا ذوى القربى ،(5/37)
ج 5 ، ص : 38
لأنه لا يشعر بحق لغيره عليه ، وبالأولى لا يشعر بحق لليتيم أو المسكين أو لجار قريب أو بعيد ، فهو لا يرجى منه برّ ولا إحسان ، وإنما يتوقع منه إساءة وكفران ، ومن الكبر والخيلاء إطالة الثوب وجر الذيل بطرا ومرحا ، قال تعالى : « وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا » .
وليس من الكبر والخيلاء أن يكون المرء وقورا فى غير غلظة ، عزيز النفس مع الأدب والرقة.
روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر » فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة ، فقال صلى اللّه عليه وسلم « إن اللّه جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمص الناس »
بطر الحق : رده استخفافا وترفعا ، وغمص الناس احتقارهم والازدراء بهم.
ثم بين المختال الفخور فقال :
(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) روى ابن اسحق وابن جرير عن ابن عباس - كان جماعة من اليهود يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم ، فيقولون : لا تنفقوا أموالكم ، فإنا نخشى عليكم الفقر فى ذهابها ولا تسارعوا فى النفقة ، فإنكم لا تدرون ما يكون ، فأنزل اللّه تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ إلى قوله - وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً) :
والمراد بالبخل فى الآية البخل بالإحسان الذي أمر به فيما تقدم ، فيشمل البخل بلين الكلام وإلقاء السلام والنصح فى التعليم وإنقاذ المشرف على التهلكة ، وكتمان ما آتاهم اللّه من فضله يشمل كتمان المال وكتمان العلم.
ثم بين عاقبة أمرهم وعظيم نكالهم فقال :
(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) أي وهيأنا لهؤلاء بكبرهم وبخلهم وعدم شكرهم عذابا يهيهم ويذلهم ، فهو عذاب جامع بين الألم والذلة جزاء لهم على ما اقترفوا ،(5/38)
ج 5 ، ص : 39
وسماهم اللّه كفارا للإيذان بأن هذه أخلاق وأعمال لا تصدر إلا من الكفور ، لا من المؤمن الشكور.
(وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) الرئاء والرياء والمراءاة سواء ، أي إن مانعى الإحسان من أهل الفخر والخيلاء فريقان : فريق يبخلون ويكتمون فضل اللّه عليهم ، وفريق يبذل المال لا شكرا للّه على نعمه ولا اعترافا لعباده بحق ، بل ينفقونها مرائين الناس : أي يقصدون أن يروهم فيعظموا قدرهم ويحمدوا فعلهم.
والكبرياء كما تكون من شىء فى نفس الشخص ، تكون أيضا بما يكون له من المال والنسب ، والمرائى أقل شرا من البخيل ، إذ هو يحمل الناس على قبول فخره واختياله فى مقابلة ما يبذله لهم من مال ، فكأنه رأى لهم عليه حقا عوضا من التعظيم والثناء الذي يطلبه بريائه ، وأما البخيل فقد بلغ من احتقاره للناس أنه لا يرى لهم عليه شيئا من الحقوق ، فهو يكلفهم تعظيمه ، وأمواله مدّخرة فى الصناديق.
والمرائى بخيل فى الحقيقة إذ هو إنما يبذل المال لمن لا حق لهم عنده ، ويبخل على أرباب الحقوق كالزوجة والولد والخادم والأقربين كالوالدين ، ولا يتحرى فى إنفاقه النفع العام ولا الخاص ، وإنما يتحرى مواطن التعظيم والمدح ، وإن كان الإنفاق ضارا كالمساعدة على فسق أو فتنة ، فهو تاجر يشترى تعظيم الناس له وتسخيرهم للقيام بخدمته.
(وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي إن المؤمنين المرائين فى إنفاقهم يثقون بما عند الناس من المدح والثناء والتعظيم والإطراء ، ولا يثقون بما أعد اللّه لعباده من الثواب والجزاء ، ويفضلون التقرب إليهم على التقرب إليه ، فاللّه فى نظرهم أهون من الناس ، فمثل هؤلاء لا يعدّون مؤمنين إيمانا حقيقيا باللّه ولا باليوم الآخر ، بل إيمانهم ضرب من التخيل ليس له ما يؤيده من أثر فى القلب ولا إذعان للنفس ، فهم لا يعرفون اللّه ، وإنما يسمعون الناس يقولون قولا فيقلدونهم فيما يحفظونه منهم ، فهم لا يعرفون أنه موجد الكائنات النافذ علمه وقدرته فيما فى الأرض والسموات ، ولو كانوا مؤمنين باليوم الآخر وأن هناك حياة أبدية لما فضلوا عليها عرض هذه الحياة القصيرة.(5/39)
ج 5 ، ص : 40
ومن أمارات التفرقة بين المخلص والمرائى ، أن الأول قلما يتذكر عمله أو يذكره إلا لمصلحة كترغيب بعض الناس في البذل كأن يقول إنى على ما بي من فقر قد أعطيت كذا درهما فى مصلحة كذا فاللائق بمثلك أن يبذل كذا وكذا درهما.
أما الثاني فهو يلتمس الفرص والمناسبات للفخر والتبجح بما أعطى وما فعل ، كما لا يبذل المال ولا يعمل العمل الصالح إلا بقصد الرياء والسمعة ، إذ ليس له وراء حظوظ الدنيا أمل ولا مطلب.
(وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ ، لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) أي إن هؤلاء المتكبرين ما حملهم على ما فعلوا إلا وسوسة الشيطان وهو بئس الصاحب والخليل - والمقصد من هذا أن حالهم فى الشر كحال الشيطان.
وفى الآية إيماء إلى تأثير قرناء المرء فى سيرته وأن الواجب اختيار القرين الصالح على قرين السوء ، وتعريض بتنفير الأنصار من معاشرة اليهود الذين كانوا ينهونهم عن الإنفاق فى سبيل اللّه ، وبيان أنهم شياطين يعدون الفقر وينهون عن العرف.
أما القرين الصالح فهو عون على الخير مرغّب فيه ، منفر بسيرته ونصحه عن الشر مبعد عنه ، مذكر بالتقصير مبصر بالعيوب ، وكم أصلح القرين الصالح فاسدا ، وكم أفسد قرين السوء صالحا.
(وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ؟ ) أي وما الذي كان يصيبهم من الضرر لو آمنوا باللّه إيمانا صحيحا يظهر أثره فى العمل ؟ وفى هذا الأسلوب إثارة تعجيب الناس من حالهم ، إذ هم لو أخلصوا لما فاتتهم منفعة الدنيا ، ولفازوا مع ذلك بسعادة العقبى.
فكثيرا ما يفوت المرائى ما يرمى إليه من التقرّب إلى الناس وامتلاك قلوبهم ، ويظفر بذلك المخلص الذي لم يكن من همه أن أحدا يعرف ما عمل ، فيكون الأول قد رجع بخفّى حنين ، بينما الثاني فاز بسعادة الدارين فجهله جدير بأن يتعجب منه ، لأنه جهل باللّه وجهل بأحوال الناس ، ولو آمن وأخلص ووثق بوعد اللّه ووعيده لكان فى هذا سعادته ، فالإيمان سلوى من كل(5/40)
ج 5 ، ص : 41
فائت ، وفقده عرضة لليأس من كل خير ، ومن ثم يكثر الانتحار من فاقدى الإيمان.
وأما المؤمن فأقل ما يؤتاه فى المصايب الصبر الذي يخفف وقعها على النفس ، وأكثره رحمة اللّه التي بها تتحول النقمة إلى نعمة بما يستفيد من الاختبار والتمحيص وكمال العبرة والتهذيب.
وقد يبتلى اللّه المؤمن ويمتحن صبره فيعطيه إيمانه من الرجاء به ما تخالط حلاوته مرارة المصيبة حتى تغلبها ، وقد يأنس أحيانا بها لعظم رجائه وصبره ، وهذا وإن كان نادرا فهو واقع حاصل.
(وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً) فينبغى للمؤمن أن يكتفى بعلم اللّه فى إنفاقه ولا يبالى بعلم الناس ، فهو الذي لا ينسى عمل العاملين ولا يظلمهم من أجرهم شيئا.
وفى هذه الآيات الكريمة الهداية الكافية فى معاملة الناس لربهم ولبعضهم بعضا ولكن المسلمين قصّروا فى اتباع هذه الأوامر ، وأعرضوا عن مساعدة ذوى القربى والجيران واليتامى والمساكين ، والشواهد على هذا كثيرة.
[سورة النساء (4) : الآيات 40 الى 42]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)
تفسير المفردات
المثقال : أصله المقدار الذي له ثقل مهما قل ، ثم أطلق على المعيار المخصوص للذهب وغيره ، والذرة أصغر ما يدرك من الأجسام ومن ثم قالوا إنها النملة أو رأسها أو الخردلة أو الهباء (ما يظهر فى نور الشمس الداخل من الكوّة) ولذلك روى عن ابن عباس(5/41)
ج 5 ، ص : 42
رضي اللّه عنهما أنه أدخل يده فى التراب ثم نفخ فيه فقال كل واحدة من هؤلاء ذرة ، والظلم : النقص كما قال تعالى : « كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً » ومن لدنه : من عنده ، والحديث الكلام.
المعنى الجملي
بعد أن بيّن عز اسمه صفات المتكبرين وسوء أحوالهم وتوعدهم على ذلك بأشد أنواع الوعيد - زاد الأمر توكيدا وتشديدا فذكر أنه لا يظلم أحدا من العاملين بوصاياه لا قليلا ولا كثيرا ، بل يوفيه حقه بالقسطاس المستقيم ، وفى هذا أعظم الترغيب لفاعلى البر والإحسان وحفز لهممهم على العمل ، وفى معنى الآية قوله : « فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ » .
الإيضاح
(إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) أي إنه تعالى لا ينقص أحدا من أجر عمله ، والجزاء عليه شيئا ما وإن صغر كذرة الهباء بل يوفيه أجره ، كما لا يعاقبه بغير استحقاق للعقوبة ، إذ أن الثواب والعقاب تابعان لتأثير الأعمال فى النفس بتزكيتها أو تدسيتها ، فالعمل يرفعها إلى أعلى عليين أو يهبط بها إلى أسفل سافلين ، ولذلك درجات ومثاقيل مقدّرة فى نفسها لا يحيط بدقائقها إلا من أحاط بكل شىء علما.
والخلاصة - إن الظلم لا يقع من اللّه تعالى لأنه من النقص الذي يتنزه عنه وهو ذو الكمال المطلق والفضل العظيم ، وقد خلق للناس مشاعر يدركون بها ما لا يدركه الحس ، وشرع لهم من أحكام الدين وآدابه ما لا تستقل عقولهم بالوصول إلى مثله فى هدايتهم وحفظ مصالحهم ، وهى تسوق إلى الخير وتصرف عن الشر وأيدها بالوعد والوعيد ، فمن وقع بعد ذلك فيما يضره ويؤذيه كان هو الظالم لنفسه لأن اللّه لا يظلم أحدا.(5/42)
ج 5 ، ص : 43
(وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) أي إنه تعالى مع كونه لا ينقص أحدا من أجر عمله مثقال ذرة يزيد للمحسن فى حسناته ، فالسيئات جزاؤها بقدرها ، والحسنات يضاعف اللّه تعالى جزاءها عشرة أضعاف أو أضعافا كثيرة كما قال فى آية أخرى : « مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ » وقال : « مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً » .
(وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) إي إنه تعالى لواسع فضله لا يكتفى بجزاء المحسنين على إحسانهم فحسب ، بل يزيدهم من فضله ويعطيهم من لدنه عطاء كبيرا ، وسمى هذا العطاء أجرا ولا مقابل له من الأعمال ، لأنه لما كان تابعا للأجر على العمل سمى باسمه لمجاورته له. وفى ذلك إيماء إلى أنه لا يكون لغير المحسنين ، إذ هو علاوة على أجور أعمالهم ، فلا مطمع للمسيئين فيه.
(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ؟ ) أي إذا كان اللّه لا يضيع من عمل العاملين مثقال ذرة ، فكيف يكون الناس إذا جمعهم اللّه وجاء بالشهداء عليهم وهم أنبياؤهم ، فما من أمة إلا لها بشير ونذير.
وهذه الشهادة عبارة عن عرض أعمال الأمم على أنبيائهم (لا فرق بين اليهود والنصارى والمسلمين) ومقابلة عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم بعقائد الأنبياء وأعمالهم وأخلاقهم ، فمن شهد لهم نبيهم بأنهم على ما جاء به وما أمر الناس بالعمل به فهم ناجون ومن تبرأ منهم أنبياؤهم لمخالفة أعمالهم وعقائدهم لما جاءوا به فأولئك هم الخاسرون وإن ادّعوا اتباعهم والانتماء إليهم.
وقوله : وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ، يراد به شهادة محمد صلى اللّه عليه وسلم خاتم المرسلين على أمته كما قال تعالى :
« وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً » أي إن هذه الأمة بحسن سيرتها تكون شهيدة على الأمم السالفة(5/43)
ج 5 ، ص : 44
وحجة عليها فى انحرافها عن هدى المرسلين ، والرسول صلى اللّه عليه وسلم بسيرته وأخلاقه الغالية وسننه المرضية يكون حجة على من تركها وتساهل فى اتباعها ، وعلى من تغالى فيها وابتدع البدع المحدثة من بعده.
روى البخاري والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث ابن مسعود أنه قال : قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « اقرأ علىّ. قلت : يا رسول اللّه أقرأ عليك ، وعليك أنزل ؟ قال نعم أحب أن أسمعه من غيرى فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) إلخ فقال (حسبك الآن) فإذا عيناه تذرفان » .
فانظر كيف اعتبر بهذه الشهادة الشهيد الأعظم صلى اللّه عليه وسلم فبكى لتذكر هذا اليوم ، وهل نعتبر كما اعتبر ونستعد لهول ذلك اليوم باتباع سنته ونجتهد فى اجتناب البدع والتقاليد التي لم تكن فى عهده ، وبذا نكون أمة وسطا لا تفريط عندها فى الدين ولا إفراط لا فى الشؤون الجسمية ولا فى الشؤون الروحية ، أو نظل فى غوايتنا تقليدا للآباء فنكون كما قال الكافرون « إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ » (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) أي إذا جاء ذلك اليوم الذي نأتى فيه بشهيد على كل أمة ، يتمنى الذين كفروا وعصوا الرسول فلم يتبعوا ما جاء ، أن يصيروا ترابا تسوّى بهم الأرض فيكونوا وإياها سواء كما قال فى سورة النبأَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً »
.
(وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً) أي إنهم يودون لو يكونون ترابا فتسوّى بهم الأرض ولا يكونون قد كتموا اللّه وكذبوا أمامه على أنفسهم بإنكار شركهم وضلالهم كما قال تعالى « وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ، انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ » أي فهم حينئذ يكذبون وينكرون شركهم إما اعتقادا منهم أنّ ما كانوا عليه ليس بشرك وإنما هو استشفاع(5/44)
ج 5 ، ص : 45
وتوسل وإما مكابرة وظنا أن ذلك يجديهم ويدفع عنهم العذاب ، فيشهد عليهم الأنبياء المرسلون أنهم لم يكونوا متبعين لهم فيما أحدثوا من شركهم ، بل كانوا مبتدعين ذلك من عند أنفسهم ، فقد قاسوا ربهم على ملوكهم الظالمين وأمرائهم المستبدين الذين يتركون عقاب بعض المسيئين بشفاعة المقربين ، فإذا شهدوا عليهم تمنوا لو كانوا قد سوّيت بهم الأرض وما افتروا ذلك الكذب.
[سورة النساء (4) : آية 43]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)
تفسير المفردات
الغائط : المنخفض من الأرض كالوادى ، وأهل البادية والقرى الصغيرة يقصدونه عند قضاء الحاجة للستر والاستخفاء عن الناس ، وملامسة النساء : الإفضاء إليهن ، تيمموا : اقصدوا ، والصعيد : وجه الأرض ، والطيب : الطاهر ، العفوّ : ذو العفو ، والعفو عن الذنب : محوه وجعله كأن لم يكن ، والغفور : ذو المغفرة ، والمغفرة : ستر الذنوب بعدم الحساب عليها.
المعنى الجملي
بعد أن وصف سبحانه الوقوف بين يديه يوم العرض والأهوال التي تؤدى إلى تمنى الكافر العدم فيقول : يا ليتنى كنت ترابا ، والتي تجعله لا يستطيع أن يكتم(5/45)
ج 5 ، ص : 46
اللّه حديثا ، وذكر أنه لا ينجو فى ذلك اليوم إلا من كان طاهر القلب والجوارح بالإيمان به والطاعة لرسوله - وصف فى هذه الآية الوقوف بين يديه فى مقام الأنس ، وحضرة القدس ، المنجى من هول الوقوف فى ذلك اليوم ، وطلب فيه استكمال القوى العقلية وتوجيهها إلى جانب العلى الأعلى بألا تكون مشغولة بذكرى غيره ، طاهرة من الأنجاس والأخباث ، لتكون على أتم العدّة للوقوف فى ذلك الموقف الرهيب ، مستشعرة تلك العظمة والجلال والكبرياء.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ)
أي لا تصلّوا حال السكر حتى تعلموا قبل الشروع فيها ما ستقرءونه وما ستعملونه ، ذاك أن حال السكر لا يتأتى معها الخشوع والخضوع والحضور مع اللّه بمناجاته بكتابه وذكره ودعائه.
وهذا الخطاب موجه إلى المسلمين قبل السكر بأن يجتنبوه إذا ظنوا أنهم سيصلّون ، ليحتاطوا فيجتنبوه فى أكثر الأوقات ، وقد كان هذا تمهيدا لتحريم السكر تحريما باتا لا هوادة فيه ، إذ من يتقى أن يجىء عليه وقت الصلاة وهو سكران يترك الشرب عامة النهار وأول الليل لتفرّق الصلوات الخمس فى هذه المدة. فلم يبق للسكر إلا وقت النوم من بعد العشاء إلى السحر فيقلّ الشراب لمزاحمة النوم له ، وأول النهار من صلاة الفجر إلى وقت الظهيرة وقت الكسب والعمل لأكثر الناس ، ويقل أن يسكر فيه إلا أصحاب البطالة والكسل.
وقد ورد أنهم كانوا بعد نزولها يشربون بعد العشاء فلا يصبحون إلا وقد زال السكر وصاروا يعلمون ما يقولون.
روى أبو داود والترمذي عن على كرم اللّه وجهه قال « صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت منا وحضرت الصلاة فقدّمونى فقرأت قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون ، فنزلت الآية.(5/46)
ج 5 ، ص : 47
و
روى ابن جرير عن علىّ أن الإمام كان يومئذ عبد الرحمن وأن الصلاة صلاة المغرب - وكان ذلك قبل أن تحرّم الخمر.
ويفترق المعنى بين الأسلوبين (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) ولا تقربوا الصلاة سكارى إذ الأول يتضمن النهى عن السكر الذي يخشى أن يمتد إلى وقت الصلاة فيفضى إلى أدائها فى أثنائه وخلاصة المعنى عليه احذروا أن يكون السكر وصفا لكم عند حضور الصلاة فتصلوا وأنتم سكارى ، فامتثال هذا النهى إنما يكون بترك السكر فى وقت الصلاة وفيما يقرب منها ، والثاني يتضمن النهى عن الصلاة حال السكر فحسب.
وأما نهيهم عن الصلاة جنبا فلا يتضمن نهيهم عن الجنابة قبل الصلاة ، لأنها من سنن الفطرة وإنما ينهاهم عن الصلاة فى أثنائها حتى يغتسلوا ولهذا قال جنبا ولم يقل وأنتم جنب.
(وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) أي ولا تقربوا الصلاة جنبا فى أي حال إلا حال كونكم عابرى سبيل : أي مجتازين الطريق ،
وقد روى أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم فى المسجد وكان يصيبهم الجنابة ولا يحدون ممرّا إلا فيه فرخّص لهم فى ذلك ولم يأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بسد تلك الأبواب والكوى إلا فى آخر عمره الشريف ولم يستثن إلا خوخة أبى بكر رضي اللّه عنه (الخوخة الكوّة والباب الصغير).
(حَتَّى تَغْتَسِلُوا) أي لا تقربوا الصلاة جنبا إلى أن تغتسلوا ، إلا ما رخص لكم فيه من عبور السبيل فى المسجد.
وحكمة الاغتسال من الجنابة أن الجنابة تحدث تهيجا فى الأعصاب فيتأثر البدن كله ويحدث فتور وضعف فيه يزيله الاغتسال بالماء ، ومن ثم
ورد فى الحديث « إنما الماء من الماء » رواه مسلم :
والخلاصة - إن الذين طلب الصلاة حال العلم والفهم وتدبر القرآن والذكر ، وذلك يتوقف على الصحو وترك السكر ، كما طلب أن يكون الجسم نظيفا نشيطا وذلك لا يكون إلا بإزالة الجنابة.(5/47)
ج 5 ، ص : 48
ولما كانت الصلاة فريضة موقوتة لا هوادة فيها لأنها تذكّر المرء ربه وتعدّه للتقوى ، وكان الاغتسال من الجنابة يتعسر فى بعض الحالات ويتعذر فى بعضها الآخر ، رخص سبحانه لنا فى ترك استعمال الماء والاستعاضة عنه بالتيمم ، فقال :
(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) المراد بالمرض المرض الذي يخاف زيادته باستعمال الماء كبعض الأمراض الجلدية والقروح كالحصبة والجدرىّ أو نحو ذلك ، والسفر يشمل الطويل والقصير ، والمراد بالمجيء من الغائط الحدث الأصغر بخروج شىء من أحد السبيلين (القبل والدبر) وملامسة النساء : غشيانهن.
ففى هذه الحالات (المرض. السفر. فقد الماء عقب الحدث الأصغر الموجب للوضوء والحدث الأكبر الموجب للغسل) اقصدوا وتحروا صعيدا طيبا : أي وجها طاهرا من الأرض لا قذارة فيه ولا أوساخ ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ثم صلّوا.
والخلاصة - إن حكم المريض والمسافر إذا أرادا الصلاة كحكم المحدث حدثا أصغر أو ملامس النساء ولم يجد الماء فعلى كل هؤلاء التيمم فقط قاله الأستاذ الإمام.
لكن المعروف فى المذاهب الأربعة أن شرط التيمم فى السفر فقد الماء فلا يجوز مع وجوده ، وهذا بخلاف ظاهر الآية.
ومن تأمل فى رخص السفر التي منها قصر الصلاة وإباحة الفطر فى رمضان لا يستنكر أن يرخص للمسافر فى ترك الغسل والوضوء مع وجود الماء وهما دون الصلاة والصيام فى نظر الدين ، فالمشاهد أن الوضوء والغسل يشقان على المسافر الواجد للماء فى هذا الزمان الذي سهلت فيه وسائل السفر فى السكك الحديدية والبواخر ، فكيف تكون المشقة للمسافرين على ظهور الإبل فى مفاوز الحجاز وجبالها ، فأشق ما يشق فى السفر الغسل والوضوء وإن كان الماء حاضرا مستغنى عنه ، ففى البواخر يوجد الماء وتوجد الحمامات للاغتسال بالماء الساخن والماء البارد ولكنها خاصة بالأغنياء الذين يركبون فى الدرجة(5/48)
ج 5 ، ص : 49
الأولى والثانية ، وهؤلاء الأغنياء منهم من يصيبه دوار شديد يتعذر معه الاغتسال ، أو خفيف يشق معه الاغتسال ولا يتعذر ، فإذا كانت هذه السفن التي يوجد فيها الماء على هذه الحال يتعسر فيها الاغتسال أو يتعذر فكيف يكون الاغتسال فى قطر السكك الحديدية أو فى قوافل الجمال والبغال ؟ .
روى أن هذه الآية نزلت فى بعض أسفار النبي صلى اللّه عليه وسلم وقد انقطع عقد لعائشة ، فأقام النبي صلى اللّه عليه وسلم يلتمسه والناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فلما نزلت وصلّوا بالتيمم جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة فجعل يقول 6 ما أكثر بركتكم يا آل أبى بكر! ، وفى رواية : يرحمك اللّه يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل اللّه تعالى فيه للمسلمين فرجا.
ثم ذكر منشأ السهولة واليسر فقال :
(إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) العفو هنا التيسير والسهولة ، ومنه قوله تعالى « خُذِ الْعَفْوَ »
وقوله صلى اللّه عليه وسلم « قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق »
أي أسقطتها تيسيرا عليكم ، ومن عفوه وتسهيله أن أسقط فى حال المرض والسفر وجوب الوضوء والغسل.
وفى ذلك إيماء إلى أن ما كان من الخطأ فى صلاة السكارى كقولهم : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون - مغفور لهم لا يؤاخذون عليه.
قال السيد حسن صديق خان فى شرحه ل [لروضة الندية] : قد كثر الاختباط فى تفسير هذه الآية : وإن كنتم مرضى أو على سفر إلخ ، والحق أن قيد عدم وجود الماء راجع إلى قوله (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) فتكون الأعذار ثلاثة :
السفر والمرض وعدم وجود الماء فى الحضر ، وهذا ظاهر على قول من يقول : إن القيد إذا وقع بعد جمل متصلة كان قيدا لآخرها ، وأما على قول من يقول إنه يكون قيدا للجميع إلا أن يمنع مانع فكذلك أيضا لأنه قد وجد المانع هنا من تقييد السفر والمرض بعدم وجود الماء - وهو أن كل واحد منهما عذر مستقل فى غير هذا الباب(5/49)
ج 5 ، ص : 50
كالصوم ، ويؤيد هذا أحاديث التيمم التي وردت مطلقة وغير مقيدة بالحضر اه.
ومنه تعلم أن رأيه كرأى الأستاذ الإمام من أن السفر وحده عذر كاف فى التيمم وجد الماء أو لم يوجد.
[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)
تفسير المفردات
ألم تر : أي ألم تنظر ، نصيبا : حظا ، السبيل : الطريق القويم ، وليا : أي يتولى شؤونكم ، نصيرا : معينا يدفع شرهم عنكم ، من الذين هادوا : هم اليهود ، غير مسمع :
يحتمل أن يكون المعنى غير مسمع مكروها ، وأن يكون غير مقبول منك ولا مجاب إلى ما تدعو إليه ، وراعنا : إما بمعنى ارقبنا وانظرنا نكلمك ، وإما بمعنى كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها ، وهى (راعينا). ليّا بألسنتهم : أي فتلا بها وتحريفا ، طعنا فى الدين :
قدحا فيه ، أقوم : أعدل وأسدّ ، إلا قليلا : أي إلا قليلا من الإيمان لا يعبأ به.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر اللّه سبحانه فى سابق الآيات كثيرا من الأحكام الشرعية ووعد فاعلها بجزيل الثواب ، وأوعد تاركها بشديد العقاب ، انتقل هنا إلى ذكر حال بعض الأمم(5/50)
ج 5 ، ص : 51
الذين تركوا أحكام دينهم وحرّفوا كتابهم واشتروا الضلالة بالهدى ، لينبه الذين خوطبوا بالأحكام المتقدمة إلى أن اللّه مهيمن عليهم كما هيمن على من قبلهم ، فإذا هم قصّروا أخذهم بالعقاب الذي رتبه على ترك أحكام دينه فى الدنيا والآخرة ، والمؤمنون باللّه حقا بعد أن سمعوا الوعد والوعيد المتقدمين لا بد أن يأخذوا بهذه الأحكام على الوجه الموصّل إلى إصلاح الأنفس ، وذلك هو الأثر المطلوب منها ، ولن يكون ذلك إلا إذا أخذت بصورها ومعانيها ، لا بأخذها بصورها الظاهرة فحسب.
وقد اكتفى بعض الأمم من الدين ببعض رسومه الظاهرة فقط كبعض اليهود الذين كانوا يكتفون ببعض القرابين وأحكام الدين الظاهرة ، وهذا لا يكفى فى اتباع الدين والقيام به على الوجه المصلح للنفوس كما أراده اللّه.
فأرشدنا سبحانه إلى أن عمل الرسوم الظاهرة فى الدين كالغسل والتيمم لا يغنى عنهم شيئا إذا لم يطهروا القلوب حتى ينالوا مرضاته ويكونوا أهلا لكرامته ، ولا يكون حالهم كحال بعض من سبقهم من الأمم.
الإيضاح
(أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) أي ألم تنظر إلى هؤلاء الذين أعطوا طائفة من الكتاب الإلهى ، كيف حرموا هدايته واستبدلوا بها ضدها ، فهم يختارون الضلالة لأنفسهم ويريدون أن تضلوا أيها المؤمنون طريق الحق القويم كما ضلوا هم ، فهم دائبون على الكيد لكم ، ليردوكم عن دينكم إن استطاعوا.
والتعبير بالشراء دون الاختيار للإيماء إلى أنهم كانوا فرحين بما عملوا ، ظانين أن الخير كل الخير فيما صنعوا ، والتعبير بالنصيب يدل على أنهم لم يحفظوا كتابهم كله ، إذ هم لم يستظهروه زمن التنزيل كما حفظ القرآن ولم يكتبوا منه نسخا متعددة فى العصر الأول كما فعلنا حتى إذا ما فقد بعضها قام مقامه بعض آخر ، بل كان عند اليهود نسخة(5/51)
ج 5 ، ص : 52
من التوراة هى التي كتبها موسى عليه السلام ففقدت ، ويؤيد هذا قوله تعالى « فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ » .
والخلاصة - إنهم لم يأخذوا الكتاب كله ، بل تركوا كثيرا من أحكامه لم يعملوا بها وزادوا عليها ، والزيادة فيه كالنقص منه ، فالتوراة تنهاهم عن الكذب وإيذاء الناس وأكل الربا وكانوا يفعلون ذلك ، وزاد لهم علماؤهم ورؤساؤهم كثيرا من الأحكام والرسوم الدينية فتمسكوا بها وهى ليست من التوراة ولا مما يعرفونه عن موسى عليه السلام.
فالذى لم يعملوا به من التوراة قسمان : أحدهما ما أضاعوه ونسوه ، وثانيهما ما حفظوا حكمه وتركوا العمل به ، وهو كثير أيضا.
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) أي واللّه أعلم منكم بمن هم أعداؤكم فأنتم تظنون فى المنافقين أنهم منكم وما هم منكم ، فهم يكيدون لكم فى الخفاء ويغشّونكم فى الجهر ، فيبرزون الخديعة فى معرض النصيحة ، ويظهرون لكم الولاء والرغبة والنصرة ، واللّه أعلم بما فى قلوبهم من العداوة والبغضاء.
(وَ كَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً) فهو الذي يرشدكم إلى ما فيه خيركم وفلا حكم ، وهو الذي ينصركم على أعدائكم بتوفيقكم لصالح العمل والهداية لأسباب النصر من الاجتماع والتعاون وسائر الوسائل التي تؤدى إلى القوة ، فلا تطلبوا الولاية من غيره ولا النصرة من سواه ، وعليكم باتباع السنن التي وضعها فى هذه الحياة ، ومنها عدم الاستعانة بالأعداء الذين لا يعملون إلا لمصالحهم الخاصة كاليهود وغيرهم.
(مِنَ الَّذِينَ هادُوا) هذا بيان للمراد من الذين أوتوا الكتاب بأنهم يهود ونصارى ، وقوله (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) وقوله (وَكَفى بِاللَّهِ) جملتان معترضتان بين البيان والمبيّن.
ثم بين المراد من اشترائهم الضلالة بالهدى فقال :
(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) التحريف يطلق على معنيين : أحدهما تأويل القول بحمله على غير معناه الذي وضع له ، كما يؤوّلون البشارات التي وردت فى النبي صلى اللّه عليه وسلم ويؤولون ما ورد فى المسيح ويحملونه على شخص آخر ولا يزالون ينتظرونه(5/52)
ج 5 ، ص : 53
إلى اليوم. وثانيهما أخذ كلمة أو طائفة من الكلم من موضع من الكتاب ووضعها فى موضع آخر ، وقد حصل هذا فى كتب اليهود ، خلطوا ما يؤثر عن موسى بما كتب بعده بزمن طويل ، وكذلك ما وقع فى كلام غيره من أنبيائهم. اعترف بهذا بعض العلماء من أهل الكتاب ، وقد كانوا يقصدون بهذا التحريف الإصلاح فى زعمهم ، وسبب هذا النوع من التحريف أنه وجدت عندهم قراطيس متفرقة من التوراة بعد فقد النسخة التي كتبها موسى عليه السلام وأرادوا أن يؤلفوا بينها فجاء فيها ذلك الخلط بالزيادة والتكرار ، كما أثبت ذلك بعض الباحثين من المسلمين كالشيخ رحمة اللّه الهندي فى كتابه [إظهار الحق ] وأورد له من الشواهد ما لا يحصى.
(وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا) أي ويقول هؤلاء اليهود للنبى صلى اللّه عليه وسلم : سمعنا قولك وعصينا أمرك ، وقد روى عن مجاهد أنهم قالوا للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، سمعنا قولك ولكن لا نطيعك ، وكذلك كانوا يقولون له (اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) يدعون عليه ، على معنى لا أسمعك اللّه ، فى الموضع الذي يقول فيه المتأدبون للمخاطبين « لا سمعت أذى أو لا سمعت مكروها » .
وكذلك كانوا يقولون له : راعنا ، وقد روى أن اليهود كانوا يتسابون بكلمة (راعينا) العبرانية فسمعوا بعض المؤمنين يقولون للنبى صلى اللّه عليه وسلم : راعنا من المراعاة فافترصوها ، وصاروا يلوون ألسنتهم بالكلمة ويصرفونها إلى المعنى الآخر.
(لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) أي هم يلوون ألسنتهم فيجعلونها فى الظاهر راعنا وبلىّ اللسان وإمالته (راعينا) قصدا منهم للسّباب والشتم والسخرية ، أو جعله راعيا من رعاة الغنم أو من الرعونة ، ومن تحريف اللسان وليّه خطابهم للنبى صلى اللّه عليه وسلم وتحيته بقولهم (السام - الموت - عليكم) يوهمون بفتل اللسان وجمجته أنهم يقولون له (السلام عليكم) وقد ثبت هذا فى صحيح الأحاديث ، كما
ثبت أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد أن علم عنهم ذلك كان يحيهم بقوله (وعليكم)
أي كل أحد يموت.
(وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ) أي ولو أنهم(5/53)
ج 5 ، ص : 54
قالوا سمعنا قولك وأطعنا أمرك ، لعلمهم بصدقك ولوجود الأدلة والبينات المتظاهرة على ذلك ، وكذلك لو قالوا : اسمع منا ما نقول وانظرنا : أي أمهلنا وانتظرنا ولا تعجل علينا حتى نتفهم عنك ما تقول ، لكان ذلك خيرا لهم وأصوب مما قالوه ، لما فيه من الأدب والفائدة وحسن العاقبة.
ثم بين عاقبة أمرهم فقال :
(وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ) أي ولكن خذلهم اللّه وأبعدهم عن الطاعة بسبب كفرهم ، إذا مضت سنة اللّه فى البشر بأن الكفر يمنع صاحبه من التفكر والتروّى والأدب فى الخطاب ، ويجعله بعيدا من الخير والرحمة ، فلا يمتّ إليهما بسبب ، ولا يصل إليهما برحم ولا نسب.
(فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) أي فهم لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا يعتدّ به ، فهو لا يصلح عملا ولا يطهر نفسا ولا يرقى عقلا ، ولو كان إيمانهم بنبيهم وكتابهم إيمانا كاملا لهداهم إلى التصديق بمن جاء مصدقا لما معهم من الكتاب ، وبين لهم ما نسوا منه وما حرفوا فيه ، كما جاءهم بمكارم الأخلاق والنظم الكاملة فى الاجتماع والتشريع ، وبما إن اتبعوه كانوا على الهدى والرشاد ، وعلى الحق والسداد.
[سورة النساء (4) : آية 47]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47)
تفسير المفردات
الكتاب : التوراة ، الطمس : إزالة الأثر بمحوه أو إخفائه كما تطمس آثار الدار وأعلام الطرق ، إما بأن تنقل حجارتها ، وإما بأن تسفوها الرياح ، ومنه الطمس على الأموال فى قوله « رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ » أي أزلها وأهلكها ، والطمس على(5/54)
ج 5 ، ص : 55
الأعين فى قوله « وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ » إما إزالة نورها وإما محو حدقتها ، والوجه تارة يراد به الوجه المعروف ، وتارة وجه النفس وهو ما تتوجه إليه من المقاصد كما قال تعالى « أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ » وقال « وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ » وقال « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً » والأدبار واحدها دبر ، وهو الخلف والقفا ، والارتداد : هو الرجوع إلى الوراء ، إما فى الحسيات وإما فى المعاني ، ومن الأول الارتداد والفرار فى القتال ، ومن الثاني قوله « إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ » ونلعنهم : نهلكهم ، كما لعنا أصحاب السبت ، أي كما أهلكنا أصحاب السبت ، وقيل مسخهم اللّه وجعلهم قردة وخنازير كما أخرجه ابن جرير عن الحسن.
المعنى الجملي
بعد أن نعى على أهل الكتاب فى الآية السالفة اشتراءهم الضلالة بالهدى بتحريفهم بعض الكتاب وإضاعة بعضه الآخر - ألزمهم هنا بالعمل بما عرفوا وحفظوا بأن يؤمنوا بالقرآن ، ذلك أن إيمانهم بالتوراة يستدعى الإيمان بما يصدّقها ، وحذّرهم من مخالفة ذلك ، وتوعدهم بالويل والثبور ، وعظائم الأمور.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) أي أيها اليهود والنصارى آمنوا بالكتاب الذي جاء مصدقا لما معكم ، من تقرير التوحيد والابتعاد عن الشرك ، وما يقوّى ذلك الإيمان من ترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وتلك هى أصول الدين وأركانه ، والمقصد الأسمى من إرسال جميع الرسل ، ولا خلاف بينهم فى ذلك ، وإنما الخلاف فى التفاصيل وطرق حمل الناس عليها ، وهدايتهم بها ، وترقيتهم فى معارج الفلاح بحسب السنن التي وضعها اللّه فى ارتقاء البشر ، بتعاقب الأجيال ، واختلاف الأزمان.(5/55)
ج 5 ، ص : 56
انظر إلى الحكومات المختلفة المتعاقبة تجد أن رائدها العدل ، ولكن الوسائل الموصلة إليه تختلف باختلاف الأمم والبيئة والزمان والمكان ، فتغيير الحاكم الجديد لبعض ما كان عليه من قبله ليس ببدع ولا مستنكر إذا كان مقصده إقامة ميزان العدل فيما بين الناس ، وحينئذ يسمى مصدقا لما قبله ، لا مكذبا ولا مخالفا.
والقرآن قرر نبوة داود وسليمان وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام فيما جاءوا به ووبّخ المدعين اتباعهم على إضاعتهم بعض ما جاءوا به وتحريف بعضه الآخر ، وعلى عدم الاهتداء والعمل بما هو محفوظ عندهم ، حتى إن أكثرهم هدموا الأسس التي جاء بها الأنبياء ، ومن أعظمها التوحيد ، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه والمسيح ابن مريم ، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا.
(مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) أي آمنوا قبل أن يحل بكم العقاب من طمس الوجوه والرد على الأدبار : أي من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التي توجهتم بها من كيد الإسلام ، ونردها خاسرة إلى الوراء بإظهار الإسلام ونصره عليكم ، وقد كان لهم عند نزول الآية شىء من المكانة والقوة والعلم والمعرفة.
وجعل بعضهم الرد على الأدبار حسيا فقال : نردهم على أدبارهم بالجلاء إلى فلسطين والشام ، وهى بلادهم التي جاءوا منها.
وخلاصة المعنى - آمنوا قبل أن نعمّى عليكم السبيل بما نبصّر المؤمنين بشؤونكم ونغريهم بكم ، فتردّوا على أدباركم بأن يكون سعيكم إلى غير الخير لكم.
(أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ)
أي آمنوا قبل أن تقعوا فى الخيبة والخذلان وذهاب العزة باستيلاء المؤمنين عليكم وإجلائكم من دياركم كما حدث لطائفة منكم ، أو بالهلاك كما وقع بقتل طائفة أخرى وهلاكها.
ثم هددهم وتوعدهم فقال :
(وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) المراد من الأمر الأمر التكوينىّ المعبر عنه بقوله عز من قائل « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » أي إنما أمره بإيقاع شىء ما(5/56)
ج 5 ، ص : 57
نافذ لا محالة ، ومن هذا ما أوعدتم به ، قال ابن عباس : يريد لا رادّ لحكمه ولا ناقض لأمره ، فلا يتعذر عليه شىء يريد أن يفعله ، كما تقول فى الشيء الذي لا شك فى حصوله :
هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد.
والخلاصة - إنه يقول لهم : أنتم تعلمون أن وعيد اللّه للأمم السالفة قد وقع ولا محالة ، فاحترسوا وكونوا على حذر من وعيده لكم.
[سورة النساء (4) : الآيات 48 الى 50]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)
تفسير المفردات
يقال افترى فلان الكذب إذا اعتمله واختلقه ، وأصله من الفري بمعنى القطع ، وتزكية النفس مدحها ، قال تعالى « فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى » والظلم النقص ، والفتيل : ما يكون فى شق نواة التمر مثل الخيط ، وبه يضرب المثل فى الشيء الحقير كما يضرب بمثقال الذرة ، قال الراغب : الإثم والآثام اسم للأفعال المبطّئة عن الثواب : أي عن الخيرات التي يثاب المرء عليها ، وقد يطلق الإثم على ما كان ضارّا.
المعنى الجملي
بعد أن هدد سبحانه اليهود على الكفر وتوعدهم عليه بأشد الوعيد كطمس الوجوه والرد على الأدبار ، ثم بين أن ذلك الوعيد واقع لا محالة بقوله : وكان أمر اللّه مفعولا.
ذكر هنا أن هذا الوعيد وشديد التهديد إنما هو لجريمة الكفر ، فأما سائر الذنوب سواه فاللّه قد يغفرها ويتجاوز عن زلاتها.(5/57)
ج 5 ، ص : 58
أخرج ابن المنذر عن أبى مجلز قال : لما نزل قوله تعالى « قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ » قام النبي صلى اللّه عليه وسلم على المنبر فتلاها على الناس ، فقام إليه رجل فقال :
والشرك باللّه ، فسكت ، ثم قام إليه فقال يا رسول اللّه والشرك باللّه تعالى فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية.
الإيضاح
(إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الشرك باللّه ضربان :
1) شرك فى الألوهية ، وهو الشعور بسلطة وراء الأسباب والسنن الكونية لغير اللّه تعالى.
2) شرك فى الربوبية ، وهو الأخذ بشىء من أحكام الدين بالتحليل والتحريم عن بعض البشر دون الوحى ، وهذا ما أشار إليه الكتاب الكريم بقوله « اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ » وقد فسر النبي صلى اللّه عليه وسلم اتخاذهم أربابا بطاعتهم واتباعهم فى أحكام الحلال والحرام.
وقد سرى الشرك فى الألوهية والربوبية إلى بعض المسلمين منذ قرون كثيرة.
وفى الآية إيماء إلى تسمية أهل الكتاب بالمشركين ، وكأنه يقول لهم : لا يغرّنكم انتماؤكم إلى الكتب والأنبياء ، وقد هدمتم أساس الدين بالشرك الذي لا يغفره اللّه بحال.
والحكمة فى عدم مغفرة الشرك أن الدين إنما شرع لتزكية النفوس وتطهير الأرواح وترقية العقول ، والشرك ينافى كل هذا ، لأنه منتهى ما تهبط إليه العقول ، ومنه تتولد سائر الرذائل التي تفسد الأفراد والجماعات ، فبه يرفعون من دونهم أو من هم مثلهم إلى مرتبة التقديس والخضوع لهم ، باعتبار أن السلطة العليا بأيديهم ، وأن إرضاءهم وطاعتهم هو إرضاء للّه وطاعة له.(5/58)
ج 5 ، ص : 59
وبالتوحيد يعتق المرء من رق العبودية لأحد من البشر أو لشىء من الأشياء السماوية أو الأرضية ، ويكون حرا كريما لا يخضع إلا لمن خضعت لسننه الكائنات ، بما أقامه من ربط الأسباب بالمسببات.
والخلاصة - إن أرواح الموحدين تكون راقية لا تهبط بها الذنوب إلى الحضيض الذي تهوى إليه أرواح المشركين ، إذ مهما عمل المشرك من الطيبات ، فإن روحه تبقى مظلمة بالعبودية والخضوع لغير اللّه ، ومهما أذنب الموحدون ، فإن ذنوبهم لا تحيط بأرواحهم ، إذ خيرهم يغلب شرهم ، ولا يبعد بهم الأمد وهم فى غفلة عن ربهم كما قال تعالى « إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ » فهم يسرعون إلى التوبة ويتبعون السيئة بالحسنة حتى يذهب أثرها من النفس ، وذلك هو غفرانها.
(وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) أي ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده الذين أذنبوا ، ومشيئة اللّه تعالى تكون وفق حكمته ، وعلى مقتضى سنته فى خليقته ، وقد جرت سنته بألا يغفر الذنوب التي لا يتوب صاحبها ، ولا يتبعها بالحسنات التي تزيل آثارها من نفس فاعلها.
وقصارى ذلك - إن الشرك لإفساده للنفوس يترتب عليه العقاب حتما فى الدنيا والآخرة ، وما عداه لا يصل إلى درجته فى إفساد النفوس ، فمغفرته ممكنة تتعلق بها المشيئة الإلهية ، فمنه ما يكون تأثيره السيء فى النفوس قويا ، ومنه ما يكون ضعيفا يغفر بالتأثير بصالح العمل.
(وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) أي ومن يجعل لغير اللّه شركة مع اللّه قيّوم السموات والأرض - سواء أ كانت الشركة بالإيجاد أو بالتحليل والتحريم - فقد اخترع ذنبا عظيم الضرر ، تستصغر فى جنب عظمته جميع الذنوب والآثام ، فهو جدير بألا يغفر ، وما دونه قد يمحى بالغفران.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) أي انظر واعجب من الذين يدّعون أنهم أزكياء(5/59)
ج 5 ، ص : 60
بررة عند اللّه ، مع ما هم عليه من الكفر وعظيم الذنب ، زعما منهم أن اللّه يكفر لهم ذنوبهم التي عملوها ، واللّه لا يغفر لكافر شيئا من كفره ومعاصيه.
وتزكية النفس تارة تكون بالعمل الذي يجعلها زاكية طاهرة كثيرة الخير والبركة بتنمية فضائلها وكمالاتها ، ولا يكون ذلك إلا بابتعادها عن الشرور والآثام التي تعوقها عن الخير وهذه التزكية محمودة ، وهى التي عناها اللّه سبحانه بقوله : « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها » .
وتارة تكون بالقول بادعاء الكمال والزكاة ، وقد اتفق العقلاء على استهجان تزكية المرء نفسه بالقول ولو حقا ، ومصدر هذه التزكية الجهل والغرور ، ومن آثاره السيئة الاستكبار عن قبول الحق ، والانتفاع بالنصح.
روى ابن جرير عن الحسن أن الآية نزلت فى اليهود والنصارى حيث قالوا « نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ » وقالوا « لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى » وقالت اليهود « لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً » وروى عن السدى أنه قال :
نزلت فى اليهود حيث قالوا : إنا نعلم أبناءنا التوراة صغارا فلا تكون لهم ذنوب ، وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا ، ما عملنا بالنهار كفّر عنا بالليل.
وقد رد اللّه عليهم دعواهم الزكاة والطهارة فقال :
(بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي لا عبرة بتزكيتكم أنفسكم بأن تقولوا : نحن أبناء اللّه وأحباؤه ، وبأنكم لا تعذبون فى النار ، لأنكم شعب اللّه المختار ، وتتفاخروا بنسبكم وبدينكم ، بل اللّه يزكى من يشاء من عباده ، من أي شعب كان ، ومن أي قبيلة كانت ، فيهديهم إلى صحيح العقائد ، وفاضل الآداب ، وصالح الأعمال.
(وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) أي ولا ينقص اللّه هؤلاء الذين يزكون أنفسهم شيئا من الجزاء على أعمالهم.
فخذلانهم فى الدنيا بالعبودية لغيرهم ، وفى الآخرة بالعذاب والحرمان من النعيم والثواب ، ما كان بظلم من اللّه عز اسمه ، بل كان بنقصان درجات أعمالهم ، وعجزها(5/60)
ج 5 ، ص : 61
عن الصعود بأرواحهم إلى مستوى الرفعة والكرامة ، لتزكيتهم إياها بالقول الباطل دون الفعل ، فلم تصل بهم نفوسهم إلى مراتب الفوز والفلاح.
وفى الآية موضعان من العبرة :
1) أن اللّه يجزى عامل الخير بعمله ولو مشركا ، لأن لعمله أثرا فى نفسه يكون مناط.
الجزاء ، فيخفف عذابه عن عذاب غيره كما ورد فى الأحاديث ، إن بعض المشركين يخفف عنهم العذاب بعمل لهم ، فحاتم الطائي بكرمه ، وأبو طالب بكفالته النبي صلى اللّه عليه وسلم ونصره إياه ، وأبو لهب لعتقه جاريته ثوبة حين بشرته بمولد النبي صلى اللّه عليه وسلم.
2) أن يحذر المسلمون الغرور بدينهم كما كان أهل الكتاب فى عصر التنزيل وما له ، وأن يبتعدوا عن تزكية أنفسهم بالقول ، واحتقار من عداهم من المشركين ، وأن يعلموا أن اللّه لا يحابى فى نظم الخليقة أحدا لا مسلما ولا يهوديا ولا نصرانيا ، ألا ترى أن خاتم النبيين قد شجّ رأسه ، وكسرت سنّه ، وردّى فى حفرة من جراء تقصير عسكره فيما يجب من اتباع أمر القائد وعدم مخالفته ، وأن يهتدوا بكتاب اللّه وبسنته فى الأمم ، وأن يتركوا وساوس الدجالين الذين يصرفونهم عن الاهتداء بهدى كتابهم ، ويشغلونهم بما لم ينزل اللّه به عليهم سلطانا ، فإنه ما زال ملكهم وما ذهب عزهم إلا بتركهم لهدى دينهم ، واتباعهم لأولئك الدجالين والمشعوذين.
ثم أكد التعجيب من حالهم الذي فهم من الآية السابقة فقال :
(انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) أي انظر كيف يكذبون على اللّه بتزكية أنفسهم وزعمهم أن اللّه يعاملهم معاملة خاصة بهم ، لا كما يعامل سائر عباده.
(وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) أي إن تزكية النفس ، والغرور بالدين والجنس ، مما يبطّىء عن نافع العمل الذي يثاب عليه الناس ، وكفى بهذا إثما ظاهرا ، لأنه لا أثر له من حق ، ولا سمة عليه من صواب ، فاللّه لا يعامل شعبا معاملة خاصة تغاير سننه التي وضعها فى الخليقة ، وما مصدر هذه الدعوى إلا الغرور والجهل ، وكفى بذلك شرا مستطيرا.(5/61)
ج 5 ، ص : 62
[سورة النساء (4) : الآيات 51 الى 55]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)
تفسير المفردات
الجبت : أصله الجبس ، وهو الرديء الذي لا خير فيه ، ويراد به هنا الأوهام والخرافات والدّجل ، والطاغوت ما تكون عبادته والإيمان به سببا للطغيان والخروج من الحق ، من مخلوق يعبد ، ورئيس يقلّد ، وهوى يتّبع ، وروى عن عمر ومجاهد أنه الشيطان ، والنقير : النقرة التي فى ظهر النواة ، ومنها تنبت النخلة يضرب بها المثل فى الشيء الحقير التافه ، كما يضرب المثل بالقطمير وهو القشرة الرقيقة التي على النواة بينها وبين التمرة ، والحسد تمنى زوال النعمة عن صاحبها المستحق لها ، والناس هنا محمد صلى اللّه عليه وسلم ومن آمن معه ، والفضل النبوة والكرامة فى الدين والدنيا ، والكتاب العلم بظاهر الشريعة ، والحكمة العلم بالأسرار المودعة فيها ، والملك العظيم ما كان لأنبياء بنى إسرائيل كداود وسليمان عليهما السلام ، وصدّ عن الشيء : أعرض عنه ، ونار مسعرة : موقدة ، ويقال أوقدت النار وأسعرتها.(5/62)
ج 5 ، ص : 63
المعنى الجملي
أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال : كان الذين حزّبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبنى قريظة ، هم حيّ بن أخطب ، وسلّام بن أبى الحقيق ، وأبو عمارة ، وهوذة بن قيس ، وباقيهم من بنى النّضير ، فلما قدموا على قريش قالوا هؤلاء أحبار اليهود وأهل العلم بالكتب الأولى ، فاسألوهم أ دينكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم فقالوا دينكم خير من دينه ، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه ، فأنزل اللّه (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ - إلى قوله - مُلْكاً عَظِيماً) قاله السيوطي فى لباب النقول.
وقد تكون هذه الآيات نزلت بعد غزوة الأحزاب أو فى أثنائها ، إذ نقض اليهود عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم واتفقوا مع المشركين على استئصال شأفة المسلمين حتى لا يظهروا عليهم ، ومن ثم فضلوهم على المؤمنين ، كما أن هذا التفضيل ربما كان عند النداء بالنفير للحرب.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ؟ ) أي ألم تنظر إلى حال هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، كيف حرموا هدايته وهداية العقل والفطرة ، وآمنوا بالدجل والخرافات ، وصدقوا بالأصنام والأوثان ، ونصروا أهلها من المشركين على المؤمنين المصدقين بنبوة أنبيائهم والمعترفين بحقية كتبهم ؟ .
(وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) أي ويقولون إن المشركين أرشد طريقة فى الدين من المؤمنين الذين اتبعوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم.
قال ابن جرير : إن اللّه وصف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من اليهود بتعظيمهم غير اللّه بالعبادة ، والإذعان له بالطاعة فى الكفر باللّه ورسوله ومعصيتهما ، وأنهم قالوا إن أهل الكفر باللّه أولى بالحق من أهل الإيمان به ، وأن دين أهل التكذيب للّه ورسوله أعدل وأصوب من دين أهل التصديق للّه ورسوله اه.(5/63)
ج 5 ، ص : 64
وروى عن عكرمة أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وأمرهم أن يغزوه ، وقال إنا معكم نقاتله ، فقالوا إنكم أهل كتاب وهو صاحب كتاب ، ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم ، فإن أردت أن تخرج معنا فاسجد لهدين الصنمين وآمن بهما ففعل ، ثم قالوا : نحن أهدى أم محمد ؟ فنحن ننحر الكوماء (الناقة الضخمة السّنام) ونسقى اللبن على الماء ، ونصل الرحم ، ونقرى الضيف ، ونطوف بهذا البيت ، ومحمد قطع رحمه ، وخرج من من بلده ، فقال : بل أنتم خير وأهدى.
ثم بين عاقبة أمرهم وشديد نكالهم فقال :
(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ) أي أولئك الذين اقتضت سنن اللّه فى خلقه أن يكونوا بعيدين عن رحمته ، مطرودين من فضله وجوده.
(وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) أي ومن يبعده اللّه من رحمته فلن ينصره أحد من دونه ، إذ لا سبيل لأحد إلى تغيير سننه تعالى فى خليقته ، وهو قد جعل الخذلان نصيب من يؤمنون بالجبت والطاغوت ، إذ هم قد تجاوزوا سنن الفطرة واتبعوا الخرافات والأوهام ، لأنه إنما ينصر المؤمنين باجتنابهم ذلكَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ »
.
ثم انتقل من توبيخهم على الإيمان بالجبت والطاغوت ، وتفضيلهم المشركين على المؤمنين ، إلى توبيخهم على البخل والأثرة ، وطمعهم فى أن يعود إليهم الملك فى آخر الزمان ، وأنه سيخرج منهم من يجدد ملكهم ودولتهم ويدعو إلى دينهم فقال :
(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) أي إنهم لا حظ لهم من الملك ، إذ هم فقدوه بظلمهم وطغيانهم ، وإيمانهم بالجبت والطاغوت.
(فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) أي إنه لو كان لهم نصيب من الملك لا تبعوا طريق.
البخل والأثرة ، وحصروا منافعه فى أنفسهم ، فلا يعطون الناس منه نقيرا.
والخلاصة - إن اليهود ذوو أثرة وشحّ يشق عليهم أن ينتفع منهم غير اليهودي ، فإذا صار لهم ملك حرصوا على منع الناس أدنى النفع وأحقره ، ومن كانت هذه حاله(5/64)
ج 5 ، ص : 65
حرص أشد الحرص على ألا يظهر نبى من العرب يكون لأصحابه ملك يخضع لهم فيه بنو إسرائيل ، ولا تزال هذه حالهم إلى اليوم ، فإن تم لهم ما يسعون إليه من إعادة ملكهم إلى بيت المقدس وما حوله فإنهم يطردون المسلمين والنصارى من تلك الأرض المقدسة ولا يعطونهم منها نقيرا.
ولكن هل يعود الملك كما يريدون ؟ ليس فى الآية ما يثبت ذلك ولا ما ينفيه ، وإنما الذي فيها بيان طباعهم فيه لو حصل.
ثم انتقل من توبيخهم بالبخل إلى توبيخهم بالحسد فقال :
(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي إن هؤلاء يريدون أن يضيق فضل اللّه بعباده ، ولا يحبون أن يكون لأمة فضل أكثر مما لهم أو مثله ، لما استحوذ عليهم من الغرور بنسبهم وتقاليدهم مع سوء حالهم.
وهم قد رأوا أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم بعد أن أعطى النبوة جعله اللّه كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أعوانا وأنصارا من أجل هذا حسدوه حسدا عظيما.
وبعد أن ذكر أن كثرة نعمه عليه صارت سببا لحسد هؤلاء اليهود ، بين ما يدفع ذلك الحسد فقال :
(فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) أي إن يحسدوا محمدا على ما أوتى فقد أخطئوا ، إذ ليس هذا ببدع منا ، لأنا قد آتينا مثل هذا من قبل لآل إبراهيم والعرب منهم فإنهم من ذرية ولده إسماعيل ، فلم لم تعجبوا مما آتى آل إبراهيم وتعجبون مما آتى محمدا صلى اللّه عليه وسلم ؟ ولم لا يكون مستبعدا فى حق هؤلاء ومستبعدا فى حق محمد صلى اللّه عليه وسلم ؟
وفى الآية رمز إلى أنه سيكون للمسلمين ملك عظيم يتبع النبوة والحكمة ، وقد ظهرت تباشيره عند نزول الآيات بالمدينة ، فقد قويت شوكتهم وأخذ أمرهم يعظم رويدا رويدا.
والخلاصة - إن اليهود إما مغرورون مخدوعون يظنون أن فضل اللّه لا يعدوهم ، ورحمته تضيق بغيرهم ، وإما حاسبون أن ملك الكون فى أيديهم ، فهم لا يعطون(5/65)
ج 5 ، ص : 66
أحدا منه ولو حقيرا كالنقير ، وإما حاسدون للعرب على ما أعطاهم اللّه من الكتاب والحكمة والملك الذي ظهرت مبادئه ومقدماته.
(فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) قوله به أي بمن تقدم من الأنبياء كإبراهيم وآله ، أي إن أولئك الأنبياء مع ما اختصوا به من النبوة والملك لم تؤمن أممهم جميعا بهم بل منهم من آمن بهم ومنهم من بقي على كفره ، فلا تعجب أيها الرسول مما عليه قومك فإن هذه حال جميع الأمم مع أنبيائهم.
وفى هذا تسلية للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، ليكون أشد صبرا على ما يناله من قبلهم من الأذى والجحود والإنكار « فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً » .
(وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) أي إن انصرف عنهم بعض العذاب فى الدنيا فكفاهم ما أعدّ لهم من سعير جهنم فى العقبى ، لأنهم آثروا اتباع الباطل والعمل بما يزينه لهم على اتباع الحق ، ولا يزال ذلك دأبهم حتى يرديهم فى دار الشقاء والنكال وهى جهنم وبئس القرار.
[سورة النساء (4) : الآيات 56 الى 57]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)
تفسير المفردات
نصليهم : نشويهم بالنار ، يقال شاة مصلية ، أي مشوية ، ونضجت : احترقت وتهرأت وتلاشت ، من قولهم نضج الثمر واللحم نضحا : إذا أدركا ، ليذوقوا العذاب :(5/66)
ج 5 ، ص : 67
أي ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كما تقول للعزيز : أعزك اللّه : أي أدام لك العز وزادك فيه والعزيز هو القادر الغالب على أمره ، والحكيم : هو المدبر للأشياء وفق الحكمة والصواب ، ومطهرة : أي من العيوب والأدناس الحسية والمعنوية ، وقوله : ظلا ظليلا كقوله ليل أليل وصف للمبالغة والتأكيد فى المعنى : أي ظل وارف لا يصيب صاحبه حر ولا سموم ، ودائم لا تنسخه الشمس ، وقد يعبر بالظل عن العزة والمتعة والرفاهية فيقال « السلطان ظل اللّه فى أرضه » . ولما كانت بلاد العرب غاية فى الحرارة كان الظل عندهم أعظم أسباب الراحة ، وكان ذلك عندهم رمزا للنعيم المقيم ، والآيات : الأدلة التي ترشد إلى أن هذا الدين حق ، ومن أجلّها القرآن لأنه أول الدلائل وأظهر الآيات وأوضحها ، والكفر بها يعم إنكارها والغفلة عن النظر فيها وإلقاء الشبهات والشكوك مع العلم بصحتها عنادا وحسدا ، والخلود : الدوام ، وقد أكده بقوله أبدا ، ومطهرة : أي بريئات من المعايب الجسمانية والطباع الردية.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه فى الآية السالفة أن ممن دعوا إلى التصديق بالأنبياء فريقا نأى وأعرض عن اتباع الحق ، ثم توعد من أعرض بسعير جهنم.
فصل هنا الوعيد بذكر أحوال الفريقين وما يلاقيه كل منهم من الجزاء يوم القيامة.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً) أي طن اللّه تعالى قد أعد لمن جحد بآياته التي أنزلها على أنبيائه نارا مسعرة تشويهم وتحرق أجسامهم حتى تفقدها الحس والإدراك.
(كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) أي كلما فقدت التماسك الحيوى وبعدت عن الحس والحياة بدلها جلودا أخرى حية تشعر بالألم وتحس بالعذاب.
قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا عليه سحائب الرحمة فى كتابه [الإسلام(5/67)
ج 5 ، ص : 68
والطب الحديث ] والحكمة فى تبديل جلود الكفار ، أن أعصاب الألم هى فى الطبقة الجلدية ، وأما الأنسجة والعضلات والأعضاء الداخلية فالإحساس فيها ضعيف ، ولذلك يعلم الطبيب أن الحرق البسيط الذي لا يتجاوز الجلد يحدث ألما شديدا ، بخلاف الحرق الشديد الذي يتجاوز الجلد إلى الأنسجة ، لأنه مع شدته وخطره لا يحدث ألما كثيرا ، فاللّه يقول لنا إن النار كلما أكلت الجلد الذي فيه الأعصاب نجدده كى يستمر الألم بلا انقطاع ، ويذوقوا العذاب الأليم ، وهنا تظهر حكمة اللّه قبل أن يعرفها الإنسان ، وكان اللّه عزيزا حكيما اه.
ثم ذكر السبب فيما تقدم فقال :
(لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ليدوم لهم ذوق العذاب ، لأن الإحساس يصل إلى النفس بواسطة الحياة فى الجلد ، وفى هذا إزالة لوهم ربما يعرض لبعض الناس قياسا على ما يعهدون فى أنفسهم فى الدنيا من أن الذي يتعود الألم يقلّ شعوره به ويصير عاديا عنده ، كما يشاهد فى كثير من الآلام والأمراض التي يطول أمدها.
وفى التعبير بيذوقوا إيماء إلى أن إحساسهم بذلك العذاب يكون كإحساس الذائق المذوق لا يدخل فيه نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق.
ثم أكد سابق الكلام وبين علته فقال :
(إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً) أي إنه تعالى عزيز قادر لا يمتنع عليه شىء مما توعد به أو وعد ، حكيم يعاقب من يعاقبه وفق الحكمة ، ومن حكمته أن ربط الأسباب بالمسببات فلا يستطيع أحد أن يغلبه على أمره فيبطل اطرادها ، فهو كما جعل الكفر والمعاصي سببا للعذاب كما تقدم فى الآية ، جعل الإيمان والعمل الصالح سببا للنعيم ، وذلك ما بينه بقوله :
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي إن الذين آمنوا باللّه وصدقوا برسوله سيدخلون جنات يتمتعون بنعيمها العظيم كفاء ما أخبتوا إلى ربهم وقدّموا من عمل صالح ، لأن الإيمان وحده(5/68)
ج 5 ، ص : 69
لا يكفى لتزكية النفس وإعدادها لهذا الجزاء ، بل لا بد معه من عمل صالح يشعر به المرء بالقرب من ربه والشعور بهيبته وجلال سلطانه.
(لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي لهم أزواج مبرآت من العيوب الجسمانية والعيوب الخلقية ، فليس فيهن ما يوحشهم منهن ولا ما يكدر صفوهم ، وبذا تكمل سعادتهم ويتم سرورهم فى تلك الحياة التي لا نعرف كنهها ، وإنما نفهمها على طريق التمثيل وقياس الغائب على الشاهد.
(وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا) أي ونجعلهم فى مكان لا حرّ فيه ولا قرّ.
وفى ذلك إيماء إلى تمام النعمة والتمتع برغد العيش وكمال الرفاهية.
[سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 59]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)
تفسير المفردات
الأمانة : الشيء الذي يحفظ ليؤدّى إلى صاحبه ، ويسمى من يحفظها ويؤديها حفيظا وأمينا ووفيّا ، ومن لا يحفظها ولا يؤديها خائنا ، والعدل : إيصال الحق إلى صاحبه من أقرب الطرق إليه ، والتأويل بيان المآل والعاقبة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السابقة الأجر العظيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات وكان من أجلّ تلك الأعمال أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس - لا جرم أمر بهما فى هذه الآية.(5/69)
ج 5 ، ص : 70
روى عن ابن عباس قال : لما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة دعا عثمان ابن طلحة ، فلما أتاه قال أرنى المفتاح (مفتاح الكعبة) فلما بسط يده إليه قام العباس فقال : يا رسول اللّه بأبى أنت وأمي اجمعه لى مع السقاية ، فكف عثمان يده فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هات المفتاح يا عثمان ، فقال هاك أمانة اللّه ، فقام ففتح الكعبة ثم خرج فطاف بالبيت ثم نزل عليه جبريل برد المفتاح فدعا عثمان بن طلحة فأعطاه المفتاح ثم قال (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) حتى فرغ من الآية)
الإيضاح
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) الأمانة على أنواع :
1) أمانة العبد مع ربه ، وهى ما عهد إليه حفظه من الائتمار بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه ، واستعمال مشاعره وجوارحه فيما ينفعه ويقرّبه من ربه ، وقد ورد فى الأثر :
إن المعاصي كلها خيانة للّه عز وجل.
2) أمانة العبد مع الناس ، ومن ذلك رد الودائع إلى أربابها وعدم الغش وحفظ السر ونحو ذلك مما يجب للأهل والأقربين وعامة الناس والحكام.
ويدخل فى ذلك عدل الأمراء مع الرعية وعدل العلماء مع العوام بأن يرشدوهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم فى دنياهم وأخراهم من أمور التربية الحسنة وكسب الحلال ، ومن المواعظ والأحكام التي تقوّى إيمانهم وتنقذهم من الشرور والآثام وترغبهم فى الخير والإحسان ، وعدل الرجل مع زوجه بألا يفشى أحد الزوجين سرا للآخر ولا سيما السر الذي يختص بهما ولا يطلع عليه عادة سواهما.
3) أمانة الإنسان مع نفسه ، بألا يختار لنفسه إلا ما هو الأصلح والأنفع له فى الدين والدنيا ، وألا يقدم على عمل يضره فى آخرته أو دنياه ، ويتوقى أسباب الأمراض والأوبئة بقدر معرفته وما يعرف من الأطباء ، وذلك يحتاج إلى معرفة علم الصحة ولا سيما فى أوقات انتشار الأمراض والأوبئة.(5/70)
ج 5 ، ص : 71
(وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) أمر اللّه بالعدل فى آيات كثيرة : منها هذه الآية ، ومنها « اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى » وقوله « كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ » وقوله « فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ » والحكم بين الناس له طرق : منها الولاية العامة والقضاء وتحكيم المتخاصمين لشخص فى قضية خاصة.
والحكم بالعدل يحتاج إلى أمور :
1) فهم الدعوى من المدّعى والجواب من المدّعى عليه ، ليعرف موضوع التنازع والتخاصم بأدلته من الخصمين.
2) خلوّ الحاكم من التحيز والميل إلى أحد الخصمين.
3) معرفة الحاكم الحكم الذي شرعه اللّه ليفصل بين الناس على مثاله من الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة.
4) تولية القادرين على القيام بأعباء الأحكام.
وقد أمر المسلمون بالعدل فى الأحكام والأقوال والأفعال والأخلاق ، قال تعالى « وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى »
.
ثم بين حسن العدل وأداء الأمانة فقال :
(إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) أي نعم الشيء الذي يعظكم به أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس ، إذ لا يعظكم إلا بما فيه صلاحكم وفلاحكم وسعادتكم فى الدارين.
(إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) أي عليكم أن تعملوا بأمر اللّه ووعظه ، فإنه أعلم منكم بالمسموعات والمبصرات ، فإذا حكمتم بالعدل فهو سميع لذلك الحكم ، وإن أديتم الأمانة فهو بصير بذلك.
وفى هذا وعد عظيم للمطيع ، ووعيد شديد للعاصى ، وإلى ذلك الإشارة بقوله عليه السلام « اعبد اللّه كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » وفيه أيضا إيماء إلى الاهتمام بحكم القضاة والولاة لأنه قد فوض إليهم النظر فى مصالح العباد.(5/71)
ج 5 ، ص : 72
وبعد أن أمر سبحانه برد الأمانات إلى أهلها ، وبالحكم بين الناس بالعدل مخاطبا بذلك جمهور الأمة ، أمر بطاعة اللّه والرسول وطاعة أولى الأمر ، إذ لا تقوم المصالح العامة إلا بذلك ، فقال :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) أي أطيعوا اللّه واعملوا بكتابه ، وأطيعوا الرسول لأنه يبين للناس ما نزل إليهم ، فقد جرت سنة اللّه بأن يبلغ عنه شرعه رسل منهم تكفل بعصمتهم وأوجب علينا طاعتهم.
وأطيعوا أولى الأمر ، وهم الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس فى الحاجات والمصالح العامة ، فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر وحكم وجب أن يطاعوا فيه بشرط أن يكونوا أمناء وألا يخالفوا أمر اللّه ولا سنة رسوله التي عرفت بالتواتر ، وأن يكونوا مختارين فى بحثهم فى الأمر واتفاقهم عليه.
وأما العبادات وما كان من قبيل الاعتقاد الديني فلا يتعلق به أمر أهل الحل والعقد بل إنما يؤخذ عن اللّه ورسوله فحسب ، وليس لأحد رأى فيه إلا ما يكون فى فهمه.
فأهل الحل والعقد من المؤمنين إذا أجمعوا على أمر من مصالح الأمة ليس فيه نص عن الشارع وكانوا مختارين فى ذلك غير مكرهين بقوة أحد ولا نفوذه فطاعتهم واجبة ، كما فعل عمر حين استشار أهل الرأى من الصحابة فى الديوان الذي أنشأه وفى غيره من لمصالح التي أحدثها برأى أولى الأمر من الصحابة ولم تكن فى زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم ولم يعترض عليه أحد من علمائهم فى ذلك.
(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) أي فإذا لم يوجد نص على الحكم فى الكتاب ولا فى السنة ينظر أولو الأمر فيه ، لأنهم هم الذين يوثق بهم ، فإذا اتفقوا وأجمعوا وجب العمل بما أجمعوا عليه ، وإن اختلفوا وتنازعوا وجب عرض ذلك على الكتاب والسنة وما فيهما من القواعد العامة ، فما كان موافقا لهما علم أنه صالح لنا ووجب الأخذ به ، وما كان مخالفا لهما علم أنه غير صالح ووجب تركه ، وبذا يزول التنازع وتجتمع(5/72)
ج 5 ، ص : 73
الكلمة ، وهذا الرد واستنباط الفصل فى الخلاف من القواعد هو الذي يعبر عنه بالقياس والأول هو الإجماع الذي يعتدّ به.
ومما تقدم تعلم أن الآية مبينة لأصول الدين فى الحكومة الإسلامية ، وهى :
1) الأصل الأول القرآن الكريم ، والعمل به هو طاعة اللّه تعالى.
2) الأصل الثاني سنة رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، والعمل به طاعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم.
3) الأصل الثالث إجماع أولى الأمر وهم أهل الحل والعقد الذين تثق بهم الأمة من العلماء والرؤساء فى الجيش والمصالح العامة كالتجار والصناع والزراع ، ورؤساء العمال والأحزاب ومديرى الصحف ورؤساء تحريرها - وطاعتهم حينئذ هى طاعة أولى الأمر.
4) الأصل الرابع عرض المسائل المتنازع فيها على القواعد والأحكام العامة المعلومة فى الكتاب والسنة ، وذلك قوله : فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى اللّه والرسول.
فهذه الأربعة الأصول هى مصادر الشريعة ، ولا بد من وجود جماعة يقومون بعرض المسائل المتنازع فيها على الكتاب والسنة ممن يختارهم أولو الأمر من علماء هذا الشأن.
ويجب على الحكام الحكم بما يقرّونه ، وبذلك تكون الدولة الإسلامية مؤلفة من جماعتين : الأولى الجماعة المبينة للأحكام الذين يسمون الآن (الهيئة التشريعية) والجماعة الثانية جماعة الحاكمين والمنفذين وهم الذين يسمون (الهيئة التنفيذية).
وعلى الأمة أن تقبل هذه الأحكام وتخضع لها سرا وجهرا ، وهى بذلك لا تكون خاضعة لأحد من البشر ، لأنها لم تعمل إلا بحكم اللّه تعالى أو حكم رسوله صلى اللّه عليه وسلم بإذنه ، أو حكم نفسها الذي استنبطه لها جماعة أهل الحل والعقد والعلم والخبرة من أفرادها الذين وثقت بإخلاصهم وعدم اتفاقهم إلا على ما هو الأصلح لها.
(إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي ردوا الشيء المتنازع فيه إلى اللّه ورسوله بعرضه على الكتاب والسنة إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر ، فإن المؤمن لا يقدم شيئا على حكم اللّه ، كما أنه يهتم باليوم الآخر أشد من اهتمامه بحظوظ الدنيا.(5/73)
ج 5 ، ص : 74
وفى هذا دليل على أن من لا يقدم اتباع الكتاب والسنة على أهوائه وحظوظه فإنه لا يكون مؤمنا حقا.
(ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي ذلك الردّ للشىء المتنازع فيه إلى اللّه ورسوله خير لكم ، لأنه أقوى الأسس فى حكومتكم ، واللّه أعلم منكم بما هو الخير لكم ، ومن ثم لم يشرع لكم فى كتابه وعلى لسان رسوله إلا ما فيه مصالحكم ومنافعكم وما هو أحسن عاقبة لما فيه من قطع عرق التنازع وسد ذرائع الفتن.
[سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 63]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)
تفسير المفردات
الزعم فى أصل اللغة : القول حقا كان أو باطلا ثم كثر استعماله فى الكذب ، قال الراغب : الزعم حكاية قول يكون مظنة للكذب ، وقد جاء فى القرآن فى كل موضع ذم القائلين به كقوله « زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ » وقوله « قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا » . والطاغوت : بمعنى الطغيان الكثير ، ضلالا بعيدا : أي بعيدا صاحبه(5/74)
ج 5 ، ص : 75
عن الحق ، إذ هو لا يهتدى إلى الطريق الموصلة إليه ، صدودا : أي إعراضا متعمدا عن قبول حكمك ، إحسانا : أي فى المعاملة بين الخصوم ، وتوفيقا : أي بينهم وبين خصومهم بالصلح ، فأعرض عنهم : أي اصرف وجهك عنهم ، وعظهم : أي ذكرهم بالخير على الوجه الذي ترقّ له قلوبهم ، قولا بليغا : أي يبلغ من نفوسهم الأثر الذي تريد أن تحدثه فيها.
المعنى الجملي
بعد أن أوجب سبحانه فى الآية السالفة على جميع المؤمنين طاعة اللّه وطاعة الرسول ذكر فى هذه الآية أن المنافقين والذين فى قلوبهم مرض لا يطيعون الرسول ولا يرضون بحكمه بل يريدون حكم غيره. أخرج الطبراني عن ابن عباس قال « كان أبو برزة الأسلمىّ كاهنا يقضى بين اليهود فيما يتنافرون فيه ، فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل اللّه تعالى : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا ؟ - إلى قوله - إلا إحسانا وتوفيقا » .
وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي : أحاكمك إلى أهل دينك أو قال إلى النبي لأنه قد علم أنه لا يأخذ الرشوة فى الحكم فاختلفا ثم اتفقا على أن يأتيا كاهنا فى جهينة فنزلت.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) أي انظر إلى عجيب أمر هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بك وآمنوا بمن قبلك من الأنبياء ويأتون بما ينافى الإيمان ، إذ الإيمان الصحيح بكتب اللّه ورسله يقتضى العمل بما شرعه اللّه على ألسنة أولئك الرسل وترك العمل مع الاستطاعة دليل على أن الإيمان غير راسخ فى نفس مدّعيه فكيف إذا عمل بضد ما شرعه اللّه ؟ فهؤلاء المنافقون إذ هربوا من التحاكم إليك(5/75)
ج 5 ، ص : 76
وقبلوا التحاكم إلى مصدر الطغيان والضلال من أولئك الكهنة والمشعوذين - سواء أ كان أبا برزة الأسلمى أم كعب بن الأشرف - دليل على أن الإيمان ليس له أثر فى نفوسهم ، بل هى كلمات يقولونها بأفواههم لا تعبر عما تلجلج فى صدورهم ، وكيف يزعمون الإيمان بك وكتابك المنزل عليك يأمرهم بالكفر بالجبت والطاغوت فى نحو قوله « وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ » وقوله « فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى » وهم يتحاكمون إليه ؟ فألسنتهم تدّعى الإيمان باللّه وبما أنزله على رسله ، وأفعالهم تدلّ على كفرهم باللّه وإيمانهم بالطاغوت وإيثارهم لحكمه.
ويدخل فى هؤلاء كل من يتحاكم إلى الدّجالين كالعرّافين وأصحاب المندل والرمل ومدّعى الكشف والولاية.
وفى الآية إيماء إلى أن من رد شيئا من أوامر اللّه أو أوامر الرسول صلى اللّه عليه وسلم فهو خارج من الإسلام ، سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد ، ومن أجل هذا حكم الصحابة بردّة الذين منعوا الزكاة وقتلهم وسبى ذراريهم.
(وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً) أي ويريد الشيطان أن يجعل بينهم وبين الحق مسافة بعيدة ، فهم لشدة بعدهم عن الحق لا يهتدون إلى الطريق الموصلة إليه.
والخلاصة - إن الواجب على المسلمين ألا يقبلوا قول أحد ولا يعملوا برأيه فى شىء له حكم فى كتاب اللّه أو سنة رسوله ، وما لا حكم له فيهما فالعمل فيه برأى أولى الأمر ، لأنه أقرب إلى المصلحة.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) أي وإذا قيل لأولئك الزاعمين للإيمان الذين يريدون التحاكم إلى الطاغوت :
تعالوا إلى ما أنزل اللّه فى القرآن لنعمل به ونحكّمه فيما بيننا ، وإلى الرسول ليحكم بيننا(5/76)
ج 5 ، ص : 77
بما أراه اللّه ، رأيتهم يعرضون عنك ويرغبون عن حكمك إعراضا متعمدا منهم ، وهذه الآية مؤكدة لما دلت عليه الآية التي قبلها من نفاق هؤلاء الذين يرغبون عن حكم اللّه وحكم رسوله إلى حكم الطاغوت من أصحاب الأهواء ، لأن حكم الرسول لا يكون إلا حقا متى بينت الدعوى على وجهها وأما حكم غيره بشريعته فقد يقع فيه الخطأ بجهل القاضي بالحكم ، أو بجهل تطبيقه على الدعوى.
وهى أيضا دالة على أن من أعرض عن حكم اللّه متعمدا ، ولا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به ، فإنه يكون منافقا لا يعتقد ما يزعمه من الإيمان ، ولا ما يدّعيه من الإسلام.
(فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) أي فكيف يفعلون إذا أطلعك اللّه على شأنهم فى إعراضهم عن حكم اللّه وعن التحاكم إليك ، وتبين أن عملهم يكذب دعواهم ، وأن تلك الحال التي اختاروا فيها التحاكم إلى غير الرسول لا تدوم لهم ، وأنه يوشك أن يقعوا فى مصاب بسبب ما قدمت أيديهم من هذه الأعمال وأمثالها ، ثم اضطروا إلى الرجوع إليك لتكشفه عنهم ، واعتذروا عن صدودهم بأنهم ما كانوا يريدون بالتحاكم إلى غير الرسول إلا إحسانا فى المعاملة وتوفيقا بينهم وبين خصومهم بالصلح أو بالجمع بين منفعة الخصمين ويحلفون باللّه على ذلك وهم مخادعون.
وفى الآية وعيد شديد لهم على ما فعلوا ، وأنهم سيندمون حين لا ينفعهم الندم ، ويعتذرون ولا يغنى عنهم الاعتذار.
(أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) هذا أسلوب يستعمل فيما يعظم من خير أو شر ، مسرة أو حزن ، فيقول الرجل لمن يحبه ويحفظ وده : اللّه يعلم ما فى نفسى لك ، أي إنه لكثرته وقوته لا يقدر على معرفته إلا اللّه تعالى ، ويقول فى العدو الماكر المخادع :
اللّه يعلم ما فى قلبه ، أي إن ما فى قلبه من الخبث والخديعة بلغ حدا كبيرا لا يعلمه إلا علام الغيوب.(5/77)
ج 5 ، ص : 78
فالمعنى هنا أن ما فى قلوبهم من الكفر والحقد والكيد وتربص الدوائر بالمؤمنين بلغ من الفظاعة مقدارا لا يحيط به إلا من يعلم السر وأخفى.
(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً) طلب إليه سبحانه أن يعاملهم بثلاثة أشياء.
1) الإعراض عنهم وعدم الإقبال عليهم بالبشاشة والتكريم ، إذ هذا يحدث فى نفوسهم الهواجس والخوف من سوء العاقبة ، وهم لم يكونوا على يقين من أسباب كفرهم ونفاقهم ، وكانوا يحذرون أن تنزل عليه سورة تنبئهم بما فى قلوبهم ، وإذا استمر هذا الإعراض عنهم ظنوا الظنون ، وقالوا لعله عرف ما فى نفوسنا ، لعله يريد أن يؤاخذنا بما فى بواطننا.
2) النصح والتذكير بالخير على وجه ترقّ له قلوبهم ويبعثهم على التأمل فيما يلقى إليهم من العظات والزواجر.
3) القول البليغ المؤثر فى النفس الذي يغتمون به ويستشعرون منه الخوف بأن يتوعدهم بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق ، ويخبرهم بأن ما فى نفوسهم من مكنونات الشر والنفاق غير خاف على العليم بالسر والنجوى ، وأنه لا فرق بينهم وبين الكفار ، وإنما رفع اللّه عنهم السيف لأنهم أظهروا الإيمان وأسرّوا الكفر وأضمروه ، فإن فعلوا ما ينكشف به غطاؤهم لم يبق إلا السيف ، وفى الآية شهادة للنبى صلى اللّه عليه وسلم بالقدرة على بليغ الكلام وتفويض أمر الوعظ والقول البليغ إليه ، لأن لكل مقام مقالا ، والكلام يختلف تأثيره باختلاف أفهام المخاطبين ، كما أن فيها شهادة له بالحكمة ووضع الكلام فى مواضعه ، وهذا نحو ما وصف اللّه به نبيه داود « وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ » .
قال القاضي عياض فى كتابه [الشفاء] فى وصف بلاغته صلى اللّه عليه وسلم :
أما فصاحة اللسان وبلاغة القول فقد كان صلى اللّه عليه وسلم من ذلك بالمحل(5/78)
ج 5 ، ص : 79
الأرفع ، والموضع الذي لا يجهل ، قد أوتى جوامع الكلم ، وحص ببدائع الحكم ، وعلم ألسنة العرب ، يخاطب كل أمة بلسانها ، ويحاورها بلغتها ... حتى كان كثير من أصحابه يسألونه فى غير موضع عن شرح كلامه وتفسير قوله ... وليس كلامه مع قريش والأنصار وأهل الحجاز ونحد ككلامه مع ذى المعشار الهمداني وطهفة النّهدى والأشعث بن قيس ووائل بن حجر الكندي وغيرهم من أقيال حضر موت وملوك اليمن اه.
[سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 65]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)
تفسير المفردات
إذن اللّه : إعلامه الذي نطق به وحيه وطرق آذانكم - كقوله : أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول - استغفروا اللّه : أي طلبوا مغفرته وندموا على ما فعلوا ، واستغفر لهم الرسول : أي دعا اللّه أن يغفر لهم ، يحكموك : يجعلوك حكما ويفوضوا الأمر إليك ، وشجر : اختلف واختلط الأمر فيه ، مأخوذ من التفاف الشجر ، فإن الشجر تتداخل بعض أغصانه فى بعض ، حرجا : ضيقا ، قضيت : حكمت ، التسليم : الانقياد والإذعان.
المعنى الجملي
بعد أن أوجب سبحانه فيما سلف طاعة اللّه وطاعة الرسول وشنع على من رغب عن التحاكم إلى الرسول وآثر عليه التحاكم إلى الطاغوت - ذكر هنا ما هو كالدليل على استحقاق الرسول للطاعة ، وعلى استحقاق المنافقين الذين لم يقبلوا التحاكم للمقت والخذلان ، لأنهم لم يرضوا بحكم الرسول صلى اللّه عليه وسلم.(5/79)
ج 5 ، ص : 80
الإيضاح
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي إن سنتنا فى هذا الرسول كسنتنا فى الرسل قبله ، فما نرسلهم إلا ليطاعوا بإذن اللّه ، فمن خرج عن طاعتهم أو رغب عن حكمهم ، خرج عن حكمنا وسنتنا وارتكب أكبر الآثام.
وجىء بقوله : بإذن اللّه ، لبيان أن الطاعة الذاتية لا تكون إلا للّه رب العالمين ، لكنه قد أمر أن تطاع رسله فطاعتهم واجبة بإذنه وإيجابه.
(وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) أي ولو أن أولئك القوم حين ظلموا أنفسهم ورغبوا عن حكمك إلى حكم الطاغوت - جاءوك فاستغفروا اللّه من ذنبهم وندموا على ما فرط منهم وتابوا توبة نصوحا ودعا لهم الرسول بالمغفرة ، لتقبل اللّه توبتهم وغمرهم بإحسانه ، فرحمته وسعت كل شىء.
وإنما قرن استغفار الرسول باستغفار اللّه ، لأن ذنبهم لم يكن ظلما لأنفسهم فحسب بل تعدى إلى إيذاء الرسول من حيث إنهم أعرضوا عن حكمه وهو صاحب الحق فى الحكم وحده ، فكان لا بد فى توبتهم وندمهم على ما فرط منهم أن يظهروا ذلك للرسول ليصفح عنهم ، لأنهم اعتدوا على حقه ، وليدعو لهم بالمغفرة ، إذ أعرضوا عن حكمه.
وفى الآية إيماء إلى أن التوبة الصحيحة تقبل حتما إذا استكملت شرائطها ، ومنها أن تكون عقب الذنب مباشرة ، وقد سمى اللّه ترك طاعة الرسول ظلما للأنفس ، أي إفسادا لها ، لأن الرسول هو الهادي إلى مصالح الناس فى الدنيا والأخرى ، وهذا الظلم شامل للاعتداء والبغي والتحاكم إلى الطاغوت وغير ذلك.
والاستغفار لا يكون مقبولا إلا إذا ناجى العبد ربه عازما على اجتناب الذنب وعدم العودة إليه مع الصدق والإخلاص للّه فى ذلك - أما الاستغفار باللسان عقب(5/80)
ج 5 ، ص : 81
الذنب دون أن يوجد هذا التوجه بالقلب فلا يكون استغفارا معتدّا به عند اللّه ، إذ لا بد أن يشعر القلب أوّلا بألم المعصية وسوء مغبتها ، وبالحاجة إلى التزكى من دنسها ، مع العزم القوىّ على اجتناب هذا الدنس ، ومتى أخلص الداعي أجاب اللّه دعاءه بإعطائه ما طلب أو بغيره من الأجر والثواب.
(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أقسم سبحانه بربوبيته لرسوله بأن أولئك الذين رغبوا عن التحاكم إليك هم ومن ماثلهم من المنافقين ، لا يؤمنون إيمانا حقا وهو إيمان الإذعان والانقياد إلا إذا كملت لهم ثلاث خصال :
(1) أن يحكموا الرسول فى القضايا التي يختصمون فيها ويشتجرون ولا يتبين لهم وجه الحق فيها (2) ألا يجدوا حرجا وضيقا فيما يحكم به : أي أن تذعن نفوسهم لقضائه وحكمه فيما شجر بينهم بلا امتعاض من قبوله والعمل به ، إذ المؤمن الكامل ينشرح صدره لحكم الرسول لأول وهلة ، لأنه الحق وأن الخير والسعادة فى الإذعان له.
(3) الانقياد والتسليم لذلك الحكم ، فكثيرا ما يعرف الشخص أن الحكم حق ، لكنه يتمرد عن قبوله عنادا أو يتردد فى ذلك.
وفى هذه الآية إشارة إلى شيئين :
(1) عصمة النبي صلى اللّه عليه وسلم بمعنى أنه لا يحكم إلا بالحق المطابق لصورة الدعوى وظاهرها لا بحسب الواقع فى نفسه ، إذ الحكم فى شريعته على الظاهر ، واللّه يتولى السرائر ،
وقد قال صلى اللّه عليه وسلم « إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلىّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هى قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها » رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن ،
ومن ثم كانوا يسألونه إذا أمر بأمر لم يظهر لهم أنه الرأى ، أعن وحي هو أم عن رأى ؟ فإن كان عن وحي(5/81)
ج 5 ، ص : 82
أطاعوا وسلموا ، وإن كان عن رأى ذكروا ما عندهم ، وربما يرجع إليهم كما حدث يوم بدر.
(2) أنهم لا يكونون مؤمنين إيمانا صحيحا مستحقا للفوز بالثواب والنجاة من العقاب إلا إذا كانوا موقنين بقلوبهم مذعنين فى بواطنهم بصدق الرسول فى كل ما جاء به الدين.
ومن أمارة ذلك أن يحكّموه فيما شجر بينهم من خلاف ، وألا يجدوا ضيقا وحرجا فى حكمه ، إذ الضيق إنما يلازم قلب من لم يخضع ، وأن ينقادوا انقيادا كاملا بلا تمرد ولا عناد فى قبوله.
[سورة النساء (4) : الآيات 66 الى 68]
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)
تفسير المفردات
كتبنا : أي فرضنا ، ما يوعظون به : أي من الأوامر والنواهي المقرونة بذكر حكمها وأحكامها ، والوعد لمن عمل بها ، والوعيد لمن صدّ عنها ، والتثبت : التقوية وجعل الشيء ثابتا راسخا.
المعنى الجملي
بعد أن بين عز اسمه فيما سلف أن الإيمان لا يتم إلا بتحكيم الرسول فيما شجر بينهم من خلاف مع التسليم والانقياد لحكمه - ذكر هنا قصور كثير من الناس فى ذلك ، لوهن إسلامهم وضعف إيمانهم.(5/82)
ج 5 ، ص : 83
الإيضاح
(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) أن اقتلوا أنفسكم : أي اقتلوها ببخع النفس (الانتحار) - كما أمر بنو إسرائيل بذلك ليتوبوا من عبادة العجل ، وقوله أو اخرجوا من دياركم بالهجرة إلى بلاد أخرى ، وقوله ما فعلوه : أي المأمور به من القتل والهجرة من الوطن.
بين اللّه لنا فى هذه الآية أن صادق الإيمان هو الذي يطيع اللّه فى كل ما يأمر به ، فى السهل والصعب ، والمحبوب والمكروه ، ولو كان ذلك بقتل النفس والخروج من الديار (الجسم دار الروح والوطن دار الجسم) أما المنافق فيعبد اللّه على ما يوافق هواه وشهواته ، فإن أصابه خير اطمأن به ورضى ، وإن ناله أذى انقلب على وجهه وارتد على عقبه وباء بالخسران فى الدنيا والآخرة.
(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) أي ولو أنهم فعلوا ما أمروا به وتركوا ما نهوا عنه لكان ذلك خيرا لهم فى مصالحهم ، وأشد تثبيتا لهم فى إيمانهم ، إذ الأعمال هى التي تطبع الأخلاق والفضائل فى نفس العامل ، وتبدد الأوهام والمخاوف من نفسه فبذل المال مثلا آية من آيات الإيمان وقربة من أعظم القرب ، فمن فعله كان مؤمنا إيمانا صادقا ، ومن آمن بذلك ولم يفعله كان علمه بمنافعه ومزاياه له وللأمة والدين علما ناقصا ، فكلما دعا الداعي إلى البذل طاف به طائف البخل والإمساك ، وعرض له شبح الفقر والإملاق ، أو نقصان المال عن مال بعض الأقران ، لكنه إذا اعتدل البذل صار السخاء خلقا له وسجية ، وقلما امتنع عن فعله حين تدعو الحاجة إليه ، إذ الطاعة تدعو إلى مثلها ، فالمرء يطلب الخير أوّلا حتى إذا حصّله طلب أن يكون الحاصل ثابتا قويا.
(وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً ، وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي ولو أنهم فعلوا هذا الخير العظيم وامتثلوا ما أمروا به وأخلصوا العمل لأعطيناهم الثواب العظيم من عندنا ، وكيف لا يكون عظيما وقد وصفه النبي صلى اللّه عليه وسلم
بقوله « فيها ما لا عين رأت(5/83)
ج 5 ، ص : 84
ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر »
ولهديناهم إلى طريق العمل الصالح على الوجه المرضى الموصل إلى الفوز بالسعادة فى الدنيا والآخرة ، وهو صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين كما ذكر ذلك سبحانه بقوله :
[سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)
تفسير المفردات
الصدّيق : من غلب عليه الصدق ، وقيل من صدق فى قوله واعتقاده كما قال (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) والشهيد : هو الذي يشهد بصحة الدين تارة بالحجة والبرهان ، وأخرى بالسيف والسنان ، والصالح : من صلحت نفسه وصلح عمله وغلبت حسناته سيئاته.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه بطاعته وطاعة الرسول ، ثم شنّع على الذين تحاكموا إلى الطاغوت وصدوا عن الرسول ، ثم رغب فى تلك الطاعة بقوله : لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ، حث على الطاعة وشوّق إليها بذكر مزاياها وبيان حسن عواقبها وأنها منتهى ما تصل إليه الهمم ، وأرفع ما تشرئبّ إليه الأعناق.
الإيضاح
(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) أي إن كل من يطيع اللّه ورسوله على الوجه المبين فى الآيات(5/84)
ج 5 ، ص : 85
السالفة ويفعل الأوامر ويترك النواهي يكون يوم القيامة مرافقا لأقرب عباد اللّه وأرفعهم درجات عنه ، وهم الأصناف الأربعة الذين ذكروا فى الآية وهم صفوة اللّه من عباده ، وقد وجدوا فى كل أمة ، ومن أطاع اللّه ورسوله من هذه الأمة كان منهم وحشر يوم القيامة معهم.
(وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) أي إن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين يكونون كالرفقاء له من شدة محبتهم إياه وسرورهم برؤيته.
روى الطبراني وابن مردويه عن عائشة قالت « جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه إنك لأحب إلىّ من نفسى ، وإنك لأحب إلىّ من ولدي ، وإنى لأكون فى البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتى فانظر إليك ، وإذا ذكرت موتى وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين ، وإنى إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك ، فلم يردّ النبي صلى اللّه عليه وسلم شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ) الآية » .
وأخرج ابن أبى حاتم عن مسروق أن سبب نزولها قول الصحابة : يا رسول اللّه ما ينبغى لنا أن نفارقك فى الدنيا فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا ولم نرك. وقال الكلبي :
إن ثوبان مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان شديد الحب له قليل الصبر عنه ، وقد نحل جسمه وتغير لونه خوف عدم رؤيته صلى اللّه عليه وسلم بعد الموت ، فذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
ويؤيد هذه الروايات ما
رواه الطبراني مرفوعا « من أحب قوما حشره اللّه معهم »
وما
أخرجه الشيخان عن أنس « المرء مع من أحب »
وآية المحبة الطاعة كما قال تعالى « قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ » .
(ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ) أي إن هذا الذي ذكر من الجزاء لمن يطيع اللّه والرسول هو الفضل الذي لا يعلوه فضل ، فإن السموّ إلى إحدى تلك المنازل فى الدنيا ومرافقة أهلها فى الآخرة هو منتهى ما يأمله المرء من السعادة ، وبه يتفاضل الناس فيفضل بعضهم بعضا.(5/85)
ج 5 ، ص : 86
(وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً) أي كفى به سبحانه عليما بالعصاة والمطيعين ، والمنافقين والمخلصين ومن يصلح لمرافقة هؤلاء ومن لا يصلح ، فهو لا يعزب عن علمه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء.
وليحذر المنافقون المراءون لعلهم يتذكرون فيتوبوا ، وليطمئن المؤمنون الصادقون لعلهم ينشطون ويزدادون فى الطاعة ، ويبتعدون عن التقصير.
[سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 73]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73)
تفسير المفردات
حذركم ، الحذر والحذر كالمثل والمثل : الاحتراس والاستعداد لاتقاء شر العدو ، النفر : الانزعاج عن الشيء وإلى الشيء كالنزوع عن الشيء وإلى الشيء ، ومن الأول « وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً » ومن الثاني النفر إلى الحرب ، والثبات : واحدها ثبة : وهى الجماعة المنفردة ، والتبطؤ : يطلق على الإبطاء وعلى الحمل على البطء ، والبطء : التأخر عن الانبعاث فى السير ، مصيبة كقتل وهزيمة شهيدا : أي حاضرا معهم ، فضل : كفتح وغنيمة.(5/86)
ج 5 ، ص : 87
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فى هذه السورة كثيرا من الأمور الدينية من عبادته تعالى وعدم الشرك به ، والمدنية كمعاملة ذوى القربى والجيران واليتامى والمساكين ، والشخصية كأحكام الزواج والمصاهرة والمواريث ، بيّن فى هذه الآيات بعض الأحكام الحربية والسياسية ، ورسم لنا الطريق التي نسير عليها فى حفظ ملتنا وحكومتنا المبنية على تلك الأصول من الأعداء.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) أي احترسوا واستعدوا لاتقاء شر العدوّ ، بأن تعرفوا حاله ومبلغ استعداده وقوته ، وإذا كان لكم أعداء كثيرون فاعرفوا ما بينهم من وفاق وخلاف ، واعرفوا الوسائل لمقاومتهم إذا هجموا ، واعملوا بتلك الوسائل ، ويدخل فى ذلك معرفة حال العدو ومعرفة أرضه وبلاده وأسلحته واستعمالها وما يتوقف على ذلك من معرفة الهندسة والكيمياء وجر الأثقال ، وعلى الجملة اتخاذ أهبة الحرب المستعملة فيها من طيارات وقنابل ودبابات وبوارج مدرّعة ومدافع مضادة للطائرات إلى نحو ذلك حتى لا يهاجمكم على غرّة أو يهددكم فى دياركم ، وحتى لا يعارضكم فى إقامة دينكم أو دعوتكم إليه.
وقد كان النبي صلى اللّه عليه وسلم والصحابة على علم بأرض عدوهم ، كما كان لهم عيون وجواسيس يأتونهم بالأخبار (قلم مخابرات) ولما أخبروه بنقض قريش للعهد (إخلالهم بشروط المعاهدة فى صلح الحديبية) استعد لفتح مكة ولم يفلح أبو سفيان فى تجديد العهد مرة أخرى ، وقد كان يظن أن المسلمين لم يعلموا بنكثهم له.
وقد قال أبو بكر لخالد بن الوليد فى حرب اليمامة : حاربهم بمثل ما يحاربونك به ، السيف بالسيف والرمح بالرمح.(5/87)
ج 5 ، ص : 88
وما رواه الحاكم عن عائشة « لا يغنى حدر من قدر » لا يناقض أخذ الحذر ، لأن الأمر بالحذر داخل فى القدر ، فالأمر به لندفع عنا شر الأعداء ، لا لندفع القدر ونبطله ، إذ القدر هو جريان الأمور بنظام تأتى فيه الأسباب على قدر المسببات ، والحذر من جملة الأسباب فهو عمل بمقتضى القدر لا بما يضاده.
(فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) أي فانفروا جماعة إثر جماعة بأن تكونوا فصائل وفرقا - إذا كان الجيش كبيرا أو موقع العدو يستدعى ذلك - أو تنفر الأمة كلها جميعا إذا اقتضت الحال ذلك بحسب قوة العدو.
والخلاصة - إنكم إما أن تنفروا جماعات جماعات ، وإما أن ينفر جميع المؤمنين على الإطلاق بحسب حال العدو.
وامتثال هذا الأمر يقتضى أن تكون الأمة على استعداد دائم للجهاد بأن يتعلم كل فرد من أفرادها فنون الحرب ويتمرن عليها ، وأن تقتنى السلاح الذي تحتاج إليه فى هذا النضال ، وتعلم كيفية استعماله فى كل زمان بما يناسبه.
ومن هذا تعلم أن الحكومة الإسلامية يجب عليها أن تقيم هذا الواجب بنفسها لا أن تبقى عالة على غيرها ، وعلى الأمة أن تساعدها عليه ، بل تلزمها إياه إذا قصرت فيه ، بعكس ما نراه الآن من تراخى الأمم الإسلامية وضعفها وتوانيها فى ذلك ، حتى طمعت فيها كل الدول التي تجاورها واجتاحتها من أطرافها واجتثت كثيرا من كورها وأقاليمها.
وقد شدد الدين أيما تشديد فى هذا الأمر فجاء مثل هذا فى قوله تعالى « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ » وجاءت أحاديث كثيرة بهذا المعنى.
(وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) أي ليتثاقلن ويتأخرنّ عن الجهاد ، والخطاب لجماعة المؤمنين بحسب الظاهر ، ومنهم المنافقون وضعفة الإيمان والجبناء فالمنافقون يرغبون عن الحرب ، لأنهم لا يحبون أن يبقى الإسلام وأهله ولا أن يدافعوا عنه ، ويحموا بيضته(5/88)
ج 5 ، ص : 89
فهم يبطّئون عن القتال ويبطئون غيرهم عن النفر إليه ، والجبناء وضعفة الإيمان يبطئون بأنفسهم عن القتال خورا وخوفا من صليل السيوف ومن الكرّ والفر ومقابلة العدو وهو شاكى السلاح.
ثم فصل أحوال هؤلاء الضعفاء فقال :
(فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) أي قال ذلك المبطّئ فرحا بما فعل حامدا رأيه شاكرا ربه ، إذا أصابتكم المصيبة من قتل أو هزيمة - إن اللّه قد أنعم علىّ بالقعود فلم أكن حاضرا معهم فيصيبنى مثل ما أصابهم من البلاء والشدة.
(وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) أي ولئن منّ اللّه عليكم بالظفر وفتح البلاد فغنمتم وأخذتم السبايا والأسرى ليقولن قول من ليس منكم ومن لم تجمعه مودة بكم - ليتنى كنت معهم فأفوز كما فازوا ، فهو قد نسى ما يجب عليه من مدّ يد المعونة إليكم وبذل كل ما يمكنه من نفس أو مال ليتمّ ذلك الظفر.
ولكن ضعف إيمانه أو جبنه منعه عن هذا ، إذ هذا التمني بعد فوات الفرصة دليل على ضعف العقل وكونه ممن يشرى الحياة الدنيا بالآخرة ، وفى قوله : كأن لم تكن بينكم وبينه مودة تقريع وتوبيخ بألطف القول وأرقّ العبارة ، إذ أن قليلا من المودة كان ينبغى أن يمنع مثل هذا التمني وأن يعد هذا الإحجام نعمة ، فهذا يشعر بأن صاحبه لا يرى نعمة اللّه على المؤمنين نعمة وفضلا عليه ، ولا ما يصيبهم من جهد وبلاء كأنه يصيبه هو ، مع أن القرآن يصرح بأن المؤمنين إخوة ، والحديث يدل على أنهم كأعضاء الجسم الواحد وكالبنيان يشد بعضه بعضا.
ومن فوائد هذا الأسلوب أنه يؤثر فى نفس سامعه تأثيرا لا يدنو من مثله الطعن بهجر القول ، إذ يدعو صاحبه إلى التأمل والتفكر فى حقيقة حاله ومعاتبة نفسه ، والتوبة إلى ربه ، والرجوع إلى أوامر دينه.(5/89)
ج 5 ، ص : 90
[سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 76]
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76)
تفسير المفردات
سبيل اللّه : هى تأييد الحق والانتصار له ، بإعلاء كلمة الدين ونشر دعوته ، ودفاع الأعداء إذا هددوا أمتنا ، أو أغاروا على أرضنا ، أو نهبوا أموالنا ، أو صدونا عن استعمال حقوقنا مع الناس ، ويشرون : يبيعون كما جاء فى قوله « وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ » وقوله « وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ » وقوله « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ » . والطاغوت : من الطغيان ، وهو مجاوزة الحق والعدل والخير إلى الباطل والظلم والشر ، والكيد : السعى فى الفساد على وجه الحيلة.
المعنى الجملي
بعد أن بين عز اسمه حال ضعفاء الإيمان الذين يبطئون عن القتال فى سبيله دلهم بهذه الآية على طريق تطهير نفوسهم من ذلك الذنب العظيم ذنب القعود عن القتال ، وأمر به إيثارا لما عند اللّه من الأجر والثواب على ما فى الدنيا من نعيم زائل ، وعرضي يفنى.(5/90)
ج 5 ، ص : 91
الإيضاح
(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي فليقاتل فى سبيل اللّه من أراد أن يبيع الحياة الدنيا ويبذلها ويجعل الآخرة ثمنا لها وعوضا منها ، لأنه يكون قد أعز دين اللّه وجعل كلمته هى العليا ، وكلمة الذين كفروا هى السفلى ، واللّه عزيز ذو انتقام.
ثم رغّب فى القتال بعد الأمر به بذكر الثواب عليه فقال :
(وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي ومن يقاتل فى سبيله فيظفر به عدوه أو يظفر هو بعدوه ، فإن اللّه سيؤتيه أجرا عظيما من عنده خالدا أبدا فى دار الجزاء.
وفى الآية إيماء إلى شرف الجهاد ، لأنه إنما كان فى سبيل الحق والعدل والخير لا فى سبيل الهوى والطمع ، كما أن فيها إيماء إلى أنه ينبغى للمقاتل أن يوطن نفسه على أحد الأمرين : إما أن يقتله العدو ويكرم نفسه بالشهادة ، وإما أن يظفر به فيعزّ كلمة الحق والدين ، ولا يحدّث نفسه بالهرب بحال ، لأنه إن فعل ذلك فما أسرع ما يقع فى ذلك الفخّ الذي نصبه لنفسه.
ثم زاد ترغيبا فيه فقال :
(وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي وأىّ عذر لكم يمنعكم أن تقاتلوا فى سبيل اللّه لتقيموا التوحيد مقام الشرك ، وتحلّوا الخير محل الشر ، وتضعوا العدل والرحمة موضع الظلم والقسوة.
(وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) أي وفى سبيل المستضعفين إخوانكم فى الدين الذين استذلهم أهل مكة الأقوياء الجبابرة وآذوهم أشد الإيذاء ، ليمنعوهم من الهجرة ويفتنوهم عن دينهم ويردوهم فى ملتهم.
وقد جعل اللّه هؤلاء سبيلا لإثارة النخوة وهزّ الأريحية ، وإيقاظ شعور الرحمة والأنفة ، فوصفهم بما يجعل نفس الحر تشتعل حماسة وغيرة على إنقاذهم والسعى فى رفع الظلم عنهم فقال :(5/91)
ج 5 ، ص : 92
(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) أي إن هؤلاء المستضعفين فقدوا النصير والمعين ، وتقطعت بهم أسباب الرجاء ، فاستغاثوا بربهم ودعوه ليفرّج كربهم ويخرجهم من تلك القرية (مكة) لظلم أهلها لهم ويسخّر لهم بعنايته من يتولى أمرهم وينصرهم على من ظلمهم فيتمكنوا بذلك من الهجرة إليكم ويرتبطوا بكم بأقوى الروابط وهى رابطة الإيمان فهى أقوى من رابطة الأنساب والأوطان ، وما كل أحد من المسلمين قدر على الهجرة ، فقد كانوا يصدونهم عنها ويعذبون مريديها عذابا شديدا ، وما شرع القتال إلا لعدم حرية الدين ، وظلم المشركين للمسلمين ، فالقتال قبيح ولا يجيزه العقل السليم إلا لإزالة قبيح أشد منه ضررا ، والأمور بمقاصدها وغاياتها كما قال :
(الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) أي إن المؤمنين إنما يقاتلون لأجل إعلاء كلمة الحق ، والكافرين إنما يقاتلون اتباعا لوسوسة الشيطان وتزيينا للكفر ، فلو ترك المؤمنون القتال لغلب الطغيان وعم الفساد « وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ » .
ثم حث مرة أخرى على القتال وبين لهم ضعف عدوهم فقال :
(فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) أي فقاتلوا أيها المؤمنون أولياء الرحمن - أولياء الشيطان الذين زين لهم الشيطان بوسوسته وخداعه أن فى الظلم وإهلاك الحرث والنسل شرفا لهم أيّما شرف.
وقد جرت سنة اللّه أن الحق يعلو والباطل يسفل ، وأن الذي يبقى هو الأصلح والأمثل فالذين يقاتلون فى سبيل اللّه يطلبون ما تقتضيه سنة العمران ، والذين يقاتلون فى سبيل الشيطان يطلبون الانتقام والاستعلاء فى الأرض بغير الحق ، وتسخير الناس لأغراضهم وشهواتهم ، وسنن العمران تأبى ذلك فلا يكون لذلك قوة ولا بقاء ، إلا لنومة أهل الحق عن حقهم ، فإذا هم أفاقوا من غفوتهم تغلب الحق على الباطل ورده خاسئا محسورا.(5/92)
ج 5 ، ص : 93
إلى أن الذين يقاتلون فى تأييد الحق تتوجه هممهم إلى إتمام الاستعداد ويكونون أجدر بالثبات والصبر ، وفى ذلك من القوة ما ليس فى كثرة العدد والعدد.
وهذا فى الحروب الدينية التي قد تركها المسلمون منذ أزمان طويلة ، ولو وجدت فى الأرض حكومة إسلامية تقيم القرآن وتحوط الدين وأهله بما أوجبه من إعداد العدّة للحرب لاتخذها أهل المدنية قدوة لهم وإماما فى أعمالهم.
[سورة النساء (4) : الآيات 77 الى 79]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)
تفسير المفردات
كفوا أيديكم : أي عن القتال ، كتب عليهم : أي أمروا به ، يخشون الناس :
أي يخافون أن يقتلهم المشركون ، كخشية اللّه : أي كما يخافون أن ينزل اللّه عليهم بأسه(5/93)
ج 5 ، ص : 94
وعذابه ، لو لا أخرتنا إلى أجل قريب : أي هلا تركتنا حتى نموت حتف أنوفنا بآجالنا القريبة ، متاع الدنيا : ما يستمتعون به من لذاتها ، قليل : أي سريع الزوال ، أينما تكونوا يدرككم الموت : أي فى أي مكان كنتم يلحقكم الموت ، البروج المشيدة :
القصور العالية المطلية بالشيّد ، وهو الجص ، أو الحصون والقلاع المتينة التي تعتصم فيها حامية الجند ، حسنة : أي شىء يحسن عند صاحبه كالرضاء والخصب والظفر بالغنيمة ، سيئة : هى ما تسوء صاحبها كالشدة والبأساء والضراء والهزيمة والجرح والقتل ، يفقهون حديثا : يفهمون كلاما يوعظون به.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه بأخذ الحذر والاستعداد للقتال والنفر له ، وذكر حال المبطئين الذين ضعفت قلوبهم ، وأمرهم بالقتال فى سبيله وفى سبيل إنقاذ المستضعفين.
ذكر هنا أن الإسلام كلفهم ترك ما كانوا عليه فى الجاهلية من تخاصم وتلاحم وحروب مستمرة ولا سيما بين قبيلتى الأوس والخزرج ، فإن الحروب بينهم لم تنقطع إلا بمجىء الإسلام ، وأمرهم بكف أيديهم عن القتال والعدوان على غيرهم ، وطلب إليهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لما فيهما من تهذيب النفوس والعطف والرحمة حتى خمدت من نفوس كثير منهم حمية الجاهلية وحل محلها شريف العواطف الإنسانية ، إلى أن اشتدت الحاجة إلى القتال للذود عن بيضة الإسلام ودفع العدوان من أولئك المشركين الذين آذوا المسلمين وأحبوا فتنتهم فى دينهم وردهم إلى ما كانوا عليه ، ففرضه عليهم فكرهه المنافقون والضعفاء فنعى ذلك عليهم ووبخهم أشد التوبيخ.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) الخطاب لجماعة المسلمين وفيهم المنافقون والضعفاء ، أي ألم تر إلى أولئك الذين أمرهم اللّه بحقن الدماء(5/94)
ج 5 ، ص : 95
وكف الأيدى من الاعتداء ، وإقامة الصلاة والخشوع للّه ، وإيتاء الزكاة التي تمكّن الإيمان فى القلوب ، وتشد أواصر التراحم بين الخلق ، وقد كانوا من قبل ذوى إحن وأحقاد وتخاصم وتلاحم وحروب مستمرة ، فلما جاء الإسلام أحبوا أن يكتب عليهم القتال ليسيروا على ما تعودوه ، ولكن حين كتب عليهم كرهه الضعفاء منهم وخافوا أن يقاتلهم الكفار وينزلوا بهم النكال والوبال ، كما خافوا أن ينزل اللّه بهم بأسه وعقابه بل رجح خوفهم من الناس على خوفهم من اللّه.
ثم بين شدة هلعهم من القتال فقال حكاية عنهم :
(وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي وقالوا ربنا لما ذا كتبت علينا القتال فى هذا الوقت ؟ هلا أخرتنا حينا من الدهر نموت حتف أنوفنا موتا طبيعيا ، وربما لا يكونون قد قصدوا وقتا معينا بل قصدوا من ذلك الهرب والتفصى عن القتال كما تقول لمن يرهقك عسرا فى أمره : أمهلنى قليلا ، أنظرنى إلى أجل.
وقد أمر اللّه رسوله أن يردّ عليهم شبهتهم فقال :
(قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى ) أي إن طلبكم للإنظار إنما هو خشية الموت والرغبة فى متاع الدنيا ولذاتها ، مع أن كل ما يتمتع به فى الدنيا فهو قليل بالنسبة إلى متاع الآخرة ، لأنه محدود فان ، ومتاع الآخرة كثير باق ولا يناله إلا من اتقى اللّه وابتعد عن الأسباب التي تدنس النفس بالشرك والأخلاق الذميمة ، فحاسبوا أنفسكم واعلموا أنكم ستجزون بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
(وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) أي ولا تنقصون من الجزاء على أعمالكم مقدار فتيل - والفتيل ما يكون فى شق نواة التمر مثل الخيط ، وبه يضرب المثل فى القلة والحقارة - .
ثم رغهم فى القتال وبين لهم أن الموت مصير كل شىء فقال :
(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) أي إن الموت أمر محتم لا مهرب منه ، فهو لا بد أن يدرككم فى أي مكان ولو تحصنتم فى شواهق القصور التي يسكنها ذوو الثراء والنعمة أو فى القلاع والحصون التي تقطنها حامية الجند ، وإذا كان الموت لا مفر منه ، وكان المرء قد يقتحم غمار الوغى ، ولا يصاب بالأذى ، وقد يموت(5/95)
ج 5 ، ص : 96
المعتصم فى البروج والحصون وهو فى غضارة العيش فلا عذر لكم أيها المثبطون المبطئون ولما ذا تختارون لأنفسكم الحقير على العظيم ؟ ولما ذا لا تدافعون عن الحق وتمنعون الشر أن يفشو حتى تستحقوا مرضاة اللّه وسعادة الآخرة ؟ ولما ذا تكرهون القتال وتجبنون وتخافون الناس وتتمنون البقاء ، أليس هذا بضعف فى الدين وركّة فى العقل وخور فى العزيمة تؤاخذون بها وتقوم عليكم بها الحجة.
ثم ذكر سبحانه شأنا آخر من شئونهم أشد دلالة على الحمق وضعف العقل ومرض القلب فقال (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ، قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي إن أصابهم رخاء ونعمة قالوا إن اللّه أكرمهم بها عناية بهم وليس لهداية الرسول أثر فى ذلك ، وإن أصابهم شدة وجهد قالوا هذا من شؤم محمد علينا ، وهذه مقالة اليهود والمنافقين حين قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة وأصابهم القحط والجدب ، وهذا زعم باطل منهم ، فكل من النعمة والبلية من عند اللّه خلقا وإيجادا يقع فى ملكه بحسب السنن التي وضعها والأسباب والمسببات التي أوجدها (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) أي ماذا أصاب هؤلاء القوم وماذا دهاهم فى عقولهم ؟ فهم لا يعقلون حقيقة ما يلقونه من الحديث ولا ما يلقى إليهم ، وإنما يأخذون بما يطفو من المعنى بادىء الرأى دون تمحيص ولا تحقيق ، وإذا كانوا قد حرموا هذا الفقه من كل حديث ، فما أحراهم أن يحرموه من حديث يبلغه الرسول عن ربه فى الإخبار عن نظم الاجتماع وارتباط الأسباب بالمسببات ، وعما أحاط اللّه به المصطفين الأخيار من وافر الفضل وخصهم به من جميل الرعاية ، فتلك الحكم العالية لا تنال إلا بفضل الروية وطول الأناة والتدبير ، ومن وصل إلى هذا القدر من الفهم لا يقول إن السيئة لا تقع بشؤم أحد ، بل ينسب كل شىء إلى سببه.
وفى الآية إيماء إلى أن حصيف الرأى يجب أن يطلب فقه القول دون الأخذ بالجمل والظواهر ، إذ من قنع بذلك بقي فى عماية ويظل طوال دهره غرّا جاهلا بما يحيط به من نظم هذا العالم.(5/96)
ج 5 ، ص : 97
(ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) هذا خطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، والمقصود منه من أرسل إليهم.
أي إن كل حسنة تصيبك أيها المؤمن فهى من فضل اللّه وجوده ، فهو الذي سخر لك المنافع التي تتمتع بها وتحسن لديك ، فقد سخر لك الهواء الذي يحفظ الحياة ، والماء العذب الذي يمد كل الأحياء ، وأزواج النبات والحيوان وغيرهما من موادّ الغذاء وأنعم عليك بوسائل الراحة والهناء ، وكل سيئة تصيبك فهى من نفسك فإنك بما أوتيت من قدرة على العمل ، واختيار فى درء المفاسد وجلب المنافع ، وترجيح لبعض المقاصد على بعض ، قد تخطىء فى معرفة ما يسوء وما ينفع ، لأنك لا تضبط إرادتك وهواك ، ولا تحيط علما بالسنن والأسباب ، فأنت ترجح بعضا على بعض إما بالهوى أو قبل أن تحيط خبرا بمعرفة النافع والضار فتقع فيما يسوء.
والخلاصة - إن هاهنا شيئين لا بد من معرفتهما :
1) إن كل شىء من عند اللّه على معنى أنه خالق الأشياء وواضع النظم والسنن للوصول إلى هذه الأشياء بسعى الإنسان وكسبه ، وكل شىء حسن بهذا الاعتبار لأنه مظهر الإبداع والنظام.
2) إن الإنسان لا يقع فيما يسوءه إلا بتقصير منه فى معرفة السنن والأسباب ، فالسوء إنما ينسب إلى الأشياء بتصرف الإنسان باعتبار أنها تسوءه وليس بذاتىّ لها ، ومن ثم ينسب ذلك إلى الإنسان ، فالمرض مثلا يسوءه ، وهو إنما يكون بتقصيره فى السير على نهج الفطرة فى التغذية ، فقد يكون من تخمة قادته إليها شهوته أو من إفراط فى تعب أو راحة أو من تعرض للبرد القارس أو للحر الشديد أو نحو أولئك من لأسباب التي ترجع كلها إلى سوء الاختيار ، كما أن الأمراض الموروثة هى من جناية الإنسان على الإنسان فهى من نفسه أيضا ، لا من أصل الفطرة والطبيعة التي هى محض خلق اللّه دون اختيار الإنسان لنفسه ، فالوالدان قد يجنيان على المرء بتعريض أنفسهما(5/97)
ج 5 ، ص : 98
للمرض الذي ينتقل إلى نسلهما بالوراثة ، كما يجنيان عليه فى صغره بعدم وقايته من أسبابه حين يكون اختيارهما له تاما قائما مقام اختياره لنفسه.
وأحيانا تسند الأشياء جميعها إلى اللّه ويقال إنها من عنده بمعنى أنه هو الخالق لها والواضع لسنن الأسباب والمسببات فيها.
ويسند إلى الإنسان منها كل ماله فيه كسب وعمل اختياري سواء كان من الحسنات والسيئات ، وقد مضى بهذا كلام الناس وأيدته نصوص الكتاب والسنة كقوله تعالى « مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ » .
وبهذا الاعتبار يقال إصابة الحسنة من فضل اللّه تعالى مطلقا ، وإصابة السيئة من نفس الإنسان مطلقا ، ولكل من الإطلاقين مقام يقال فيه ، والمقام الذي سيقت له الآية فى بيان نفى الشؤم والتطير وإبطالهما ، ليعلم الناس أن ما يصيبهم من السيئات لا يكون بشؤم أحد ، وكانوا يتشاءمون ويتطيرون فى الجاهلية ، وقد أبطل ذلك الإسلام لكنه لا يزال فاشيا إلى الآن.
وينبغى للإنسان حينما تصيبه سيئة أن يبحث عن سببها من نفسه ، لأنها إنما تصيبه لجهله بالسنن التي وضعها اللّه من التماس المنافع من أسبابها ، واتقاء المضار بالبعد عن أسبابها ، بترجيحه فعل ما ينفع على فعل ما يضر.
وقد تضافرت الآثار على أن طاعة اللّه من أسباب النعم ، وأن عصيانه مما يجلب النقم وطاعته إنما تكون باتباع سنته وصرف ما وهب من الوسائل فيما وهب لأجله ، وهذه الآية أصل من أصول الاجتماع وعلم النفس ، وفيها شفاء للناس من خرافات الوثنية ، وارتفاع وتكريم للنفس الإنسانية.
(وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا) والرسول ليس عليه إلا البلاغ ، وليس له دخل فيما يصيب الناس من الحسنات والسيئات ، لأنه لم يرسل إلا للتبليغ والهداية ، لا للتصرف فى نظم الكون وتحويل سنن الاجتماع أو تبديلها ، فما زعمه أولئك الجاهلون من أن السيئة(5/98)
ج 5 ، ص : 99
تصيبهم بشؤمه ، محض خرافة لا مستند لها من عقل أو نقل ومخالف لما بينه اللّه تعالى من وظيفة الرسل.
(وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) أنك أرسلت للناس كافة بشيرا ونذيرا لا مسيطرا ولا جبارا ولا مغيّرا لنظم الكون وتحويل سنن الاجتماع أو تبديلها « فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا » .
[سورة النساء (4) : الآيات 80 الى 82]
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه فيما تقدم بطاعة اللّه وطاعة الرسول وبين جزاء المطيع وأحوال الناس فى هذه الطاعة بحسب قوة الإيمان وضعفه ، ثم أمر بالقتال وبين مراتب الناس فى الامتثال له ، أعاد هنا الأمر بالطاعة وبين أنها أولا وبالذات للّه ، ولغيره بالتبع ، وبين ضروب مراوغة الضعفاء والمنافقين.
الإيضاح
(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) أي إن من أطاع الرسول فقد أطاع اللّه لأنه الآمر والناهي فى الحقيقة ، والرسول إنما هو مبلّغ للأمر والنهى فليست الطاعة له(5/99)
ج 5 ، ص : 100
بالذات وإنما هى لمن بلغ عنه ، إذ قد جرت سنته سبحانه ألا يأمر الناس ولا ينهاهم إلا بواسطة رسل منهم يفهمون عنهم ما يوحيه إليهم ليبلغوه عنه.
أما ما يقوله الرسول من تلقاء نفسه وما يأمر به مما يستحسنه باجتهاده ورأيه من أمور المعيشة كتأبير النخل (تلقيحه بطلع الذكر) ونحوه مما يسميه العلماء أمر إرشاد ، فطاعته فيه ليست من الفرائض التي فرضها اللّه ، لأنه ليس دينا ولا شرعا عنه تعالى ، فقد أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بكيل الطعام كالقمح وغيره من الحبوب عند طحنه وعند عجنه وهو من التدبير والاقتصاد فى البيوت ، وأكثر المسلمين أهملوه إلا من تعوّد منهم التدبير وحسن التقدير فى المنازل ، وكذلك أمر بأكل الزيت والادّهان به.
وقد كان الصحابة رضوان اللّه عليهم إذا شكّوا فى الأمر أمن عند اللّه هو أم من رأى الرسول واجتهاده ؟ وكان لهم فى ذلك رأى آخر سألوه ، فإن أجابهم بأنه من اللّه أطاعوه بلا تردّد ، وإن قال إنه من رأيه ذكروا رأيهم ، وربما رجع النبي صلى اللّه عليه وسلم عن رأيه إلى رأيهم كما فعل فى بدر وأحد.
روى مقاتل أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقول « من أحبنى فقد أحب اللّه ومن أطاعنى فقد أطاع اللّه ، فقال المنافقون : ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل ؟ لقد قارف الشرك ، قد نهى أن نعبد غير اللّه ويريد أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى ، فأنزل اللّه هذه الآية » .
فالمؤمن حقا لا يكون خاضعا إلا لخالقه وحده دون أحد من خلقه ، والخروج عن ذلك شرك ، وهو نوعان :
1) أن ترى لبعض المخلوقات سلطة غيبية وراء الأسباب العادية ، ومن ثم ترجو نفعها وتخاف ضرها وتدعوها وتذل لها ، وذلك هو الشرك فى الألوهية.
2) أن ترى لبعض المخلوقين حق التشريع والتحليل والتحريم ، كما فسر النبىّ صلى اللّه عليه وسلم قوله تعالى « اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ » بطاعتهم فيما يحللون ويحرمون ، وذلك هو الشرك فى الربوبية.(5/100)
ج 5 ، ص : 101
ذاك أن المؤمن يحب أن يكون أعز الناس نفسا وأعظمهم كرامة ، فلا يرضى أن يستعبده سلطان ظالم ولا حاكم مستعبد ، إذ هو يعلم علم اليقين أن الكل عبيد مسخرون للّه تعالى يخضعون لأمره ، وأن ذلك منتهى سعادتهم فى الدارين.
(وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي ومن أعرض عن طاعتك التي هى طاعة اللّه فليس لك أن تكرهه عليها ، لأنك ما أرسلت إلا مبشرا ونذيرا ولم ترسل مسيطرا أو رقيبا تحفظ على الناس أفعالهم وأقوالهم ، فالإيمان والطاعة إنما يكونان بالاختيار بعد الإقناع والاختبار.
(وَيَقُولُونَ طاعَةٌ) أي ويقول ذلك الفريق الذين أخبر اللّه عنهم أنهم يخشون الناس كخشية اللّه أو أشد خشية ، إذا أمرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم بأمر : أمرك طاعة - أي أمرك مطاع ، إظهارا لكمال الانقياد والخضوع.
(فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) البراز - بفتح الباء - الأرض الفضاء ، والتبييت ما يدبر فى الليل من رأى ونية وعزم على عمل ، ومنه تبييت العدو للإيقاع به ليلا ، أي إذا خرجوا من المكان الذي يكونون معك فيه إلى البراز وهم منصرفون إلى بيوتهم ، دبر جماعة منهم ليلا غير الذي قالوا لك وأظهروه من الطاعة نهارا.
روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال : هم ناس يقولون عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : آمنا باللّه ورسوله ليأمنوا على دمائهم وأموالهم ، وإذا برزوا من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالفوا إلى غير ما قالوا عنده فعاتبهم اللّه على ذلك.
(وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) أي يبينه لك فى كتابه ويفضحهم بمثل هذه الآيات ، وفى هذا من التهديد الشيء الكثير.
(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تهتمّ بما يبيتون ولا تؤاخذهم بما أسروا ولم يعلنوا.
(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي فوّض الأمر إليه ، وثق به فى جميع أمورك ، فإن اللّه يكفيك شرهم وينتقم لك منهم.(5/101)
ج 5 ، ص : 102
(وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) لمن توكل عليه ، فهو قادر على إيقاع الجزاء بهم ، وعليم بمقدار ما يستحقون منه ، لا يعجزه منه شىء.
(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) أصل التدبر التأمل فى أدبار الأمور وعواقبها ، ثم استعمل فى كل تأمل سواء كان نظرا فى حقيقة الشيء وأجزائه ، أو سوابقه وأسبابه ، أو لواحقه وأعقابه ، وتدبر الكلام هو النظر والتفكر فى غاياته ومقاصده التي يرمى إليها ، وعاقبة من يعمل به ومن يخالفه.
أي أجهل هؤلاء القوم حقيقة الرسالة وكنه هذه الهداية فلا يتدبرون القرآن الذي يدل على حقيقتها ؟ ولو تدبروه لعرفوا أنه الحق من ربهم وأن ما وعد به المتقين الصادقين وما أنذر به الكافرين والمنافقين واقع لا محالة ، فهو إذ صدق فى الإخبار عما يبيتون فى أنفسهم من القول يصدق كذلك فيما أخبر عن سوء مصيرهم والوبال والنكال فى عاقبتهم.
(وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) أي ولو كان من عندك لا من عند اللّه الذي أرسله به لوجدوا فيه اختلافا كثيرا لأسباب كثيرة :
1) أن أي مخلوق لا يستطيع تصوير الحقائق كما صورها القرآن بلا اختلاف ولا تفاوت فى شىء منها.
2) أنه حكى عن الماضي الذي لم يشاهده محمد صلى اللّه عليه وسلم ولم يقف على تاريخه ، وعن الآتي فوقع كما أنبأ به ، وعن الحاضر فأخبر عن خبايا الأنفس ومكنونات الضمائر كما أخبر عما بيتته هذه الطائفة مخالفا لما تقول للرسول أو ما يقوله لها فتقبله فى حضرته وترفضه فى غيبته.
3) أن أحدا لا يستطيع أن يأتى بمثله فى بيان أصول العقائد وقواعد الشرائع وسياسة الشعوب والقبائل مع عدم الاختلاف والتفاوت فى شىء من ذلك.
4) أن أحدا لا يستطيع أن يأتى بمثله فى سنن الاجتماع ونواميس العمران وطبائع الملل والأقوام مع إيراد الشواهد وضرب الأمثال وتكرار القصة الواحدة بالعبارات(5/102)
ج 5 ، ص : 103
لبليغة تنويعا للعبرة وتلوينا للموعظة ، واتفاق كل ذلك وتواطئه على الصدق ، وبراءته من الاختلاف والتناقض.
5) أن أحدا لا يستطيع أن يأتى بمثله فيما جاء به من فنون القول وألوان العبر فى أنواع المخلوقات فى الأرض أو فى السموات ، فقد تكلم على الخلق والتكوين ووصف جميع الكائنات كالكواكب ونظامها والرياح والبحار والحيوان والنبات وما فيها من الحكم والآيات ، وكان فى كل ذلك يؤيد بعضه بعضا لا تفاوت فيه ، ولا اختلاف بين معانيه.
6) أنه أخبر عن عالم الغيب والدار الآخرة وما فيها من الحساب على الأعمال والجزاء العادل ، وكان فى كل ذلك جاريا على سنة اللّه تعالى فى تأثير الأعمال الاختيارية فى الأرواح ، مع الالتئام بين الآيات الكثيرة ، وهو غاية الغايات فى ذلك عند من أوتى الحكمة وفصل الخطاب.
هذا إلى أنه نزل منجما بحسب الوقائع والأحوال ، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم عند نزول الآية أو الآيات يأمر بأن توضع فى محلها من سورة كذا ، وهو يحفظه حفظا ، وقد جرت العادة بأن من يأتى بكلام من عنده فى مناسبات مختلفة لا يتذكر جميع ما سبق له فى السنين الطوال ولا يستحضره حتى يجعل الآخر موافقا للأول مع أن بعض الآيات كان ينزل فى أيام المحن والكروب ، وبعضها عند تنازع الأقوام حين الخصام.
إلى أنّ كر الغداة ومر العشى لا يزيده إلا جدّة ، ولا يزيد أحكامه إلا ثباتا ورسوخا ، وكلما اتسعت دائرة العلوم والمعارف ونمت أحوال العمران زاد إيمان الناس به ، إذ تتوثق روابط الصلة بين الدين والعلم وتتظاهر أحكامه مع نواميس الاجتماع وشؤون الكون.
والخلاصة - إن تدبر القرآن وتأمل ما امتاز به هو طريق الهداية القويم ، وصراط الحق المستقيم ، فإنه يرشد إلى كونه من عند اللّه ، وإلى وجوب الاهتداء به ،(5/103)
ج 5 ، ص : 104
وإلى أنه معقول فى نفسه موافق للفطرة ملائم للمصلحة ، وفيه سعادة الخلق فى الدنيا والآخرة.
ولو تدبر المسلمون القرآن واهتدوا به فى كل زمان لما فسدت أخلاقهم وآدابهم ، ولما ظلم واستبد حكامهم ، ولما زال ملكهم وسلطانهم ، ولما صاروا عالة فى معايشهم على سواهم.
وهذا التدبر لا يمنع أن يستنبط أولو الأمر الأحكام العامة فى السياسة والقضاء والإدارة ، وتتبعهم فيها سائر الأمة.
[سورة النساء (4) : آية 83]
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)
تفسير المفردات
أذاع الشيء وأذاع به. نشره وأشاعه بين الناس ، وردّ الشيء : أرجعه وأعاده ، والاستنباط : استخراج ما كان مستترا عن الأبصار ، فضل اللّه : هو هدايتكم بطاعة الرسول ، إلا قليلا : أي قليلا منكم ممن أوتوا صفاء الفطرة وسلامتها.
المعنى الجملي
قال ابن جرير : إن هذه الآية نزلت فى الطائفة التي كانت تبيّت غير ما يقول لها الرسول أو تقول له اه. ولا يبعد أن تكون فى جمهور المسلمين بلا تعيين ، لأن المشاهد فى أحوال الناس أن الإذاعة بمثل أخبار الأمن والخوف لا تكون من دأب المنافقين خاصة ، بل هى مما يلهج به الناس فى مختلف البيئات بحسب المناسبات وإن كانت(5/104)
ج 5 ، ص : 105
تختلف نياتهم ، فالمنافق قد يذيع ما يذيعه لأجل الضرر ، وضعيف الإيمان قد يذيع استشفاء مما فى صدره من الإحن والبغضاء ، وغيرهما قد يذيع رغبة فى كشف الأسرار وابتلاء الأخبار ، وهذا أمر معتاد بين الناس وهو كثير الضرر إذا شغلوا به عن أعمالهم ، وضرره أكثر إذا أذاعوه وعلمه جواسيس العدوّ ، لما يكون لذلك من العواقب الوخيمة.
على الأمة ، ومثل ذلك سائر الأمور السياسية والشؤون العامة التي لا ينبغى أن تعدو الخاصة وتصل إلى العامة.
الإيضاح
(وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) أي إن هؤلاء الضعفة من المسلمين الذين لا خبرة لهم بالشئون العامة قد بلغ من طيشهم وخفة أحلامهم أن كل خير يصل إليهم يستفزهم ويطلق ألسنتهم بالكلام فيه وإذاعته بين الناس ، سواء أ كان من ناحية الجيش الذي يغزو ويقاتل العدو ، أو من ناحية المركز العام للسلطة ، ولا ينبغى أن تشيع العامة أخبار الحرب وأسرارها ، ولا أن تخوض فى السياسة العامة للدولة ، لأن ذلك مضرّة لها ومفسدة لشؤونها ومرافقها العامة وعلاقاتها مع غيرها من الأمم إلى أن فى ذلك مشغلة لهم عن شؤونهم الخاصة وضياع زمن كانوا فيه أحوج إلى العمل بما يفيدهم ويفيد الأمة.
وهذا بيان لجناية ضعفاء الإيمان إثر بيان جناية المنافقين.
ثم بين ما ينبغى أن يفعل فى مثل هذه الحال فقال :
(وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي ولو أن أولئك المذيعين فوضوا الكلام فى الأمور العامة إلى الرسول وهو الإمام الأعظم والقائد العام فى الحرب ، وإلى أولى الأمر من أهل الحل والعقد ورجال الشّورى ، لوجدوا علم ذلك عندهم ، لأنهم هم الذين يستنبطون مثله ، ويستخرجون خفاياه بدقة نظرهم ، إذ لكل طائفة منهم استعداد للإحاطة ببعض المسائل المتعلقة بسياسة الأمة دون بعض(5/105)
ج 5 ، ص : 106
فهذا أخصائي فى المسائل المالية ، وذاك فى الأمور القضائية ، وذاك فى بناء القناطر والجسور ورابع فى شؤون الحرب ، وكل هذه المسائل يدرسها رجال الشورى [مجلس الوزراء بالاصطلاح العصرى ] ويستنبطون منها ما يكون فيه المصلحة للدولة وينفذونه ، ولا ينبغى أن تذيعه العامة لما فى ذلك من الضرر بها من سائر الوجوه والاعتبارات.
ثم امتنّ سبحانه على صادقى الإيمان من عباده فقال :
(وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا) أي ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته بكم ، إذ هداكم لطاعته وطاعة رسوله ظاهرا وباطنا ، ورد الأمور العامة إلى الرسول وإلى أولى الأمر منكم ، لاتبعتم وسوسة الشيطان كما اتبعته تلك الطائفة التي تقول للرسول : طاعة لك وتبيت غير ذلك ، والتي تذيع أمر الأمن والخوف وتفسد على الأمة سياستها ، ولأخذتم بآراء المنافقين فيما تأتون وما تذرون ، ولم تهتدوا إلى الصواب ، إلا قليلا منكم ممن استنارت عقولهم بنور الإيمان وعرفوا الأحكام بالاقتباس من مشكاة النبوة كأبى بكر وعمر وعثمان وعلى ، فهى كقوله تعالى « وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً » .
[سورة النساء (4) : آية 84]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)
تفسير المفردات
التحريض : الحث على الشيء بتزيينه وتسهيل الأمر فيه ، والبأس القوة ، وكان بأس الكافرين متجها إلى إذلال المؤمنين لإيمانهم ، والتنكيل : معاقبة المجرم بما يكون فيه عبرة ونكال لغيره بحيث يمنعه أن يفعل مثل فعله.(5/106)
ج 5 ، ص : 107
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه بالجهاد ورغب فيه أشد الترغيب ، وذكر قلة رغبة المنافقين فيه ، وسعيهم فى تثبيط المسلمين عنه ، عاد هنا إلى الأمر به مرة أخرى.
الإيضاح
(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وإذا أردت الفوز والظفر على الأعداء فقاتل فى سبيل اللّه امتثالا لأمره ، وأنت لا تكلف إلا أفعال نفسك دون أفعال الذين قالوا : لم كتبت علينا القتال ؟ والذين يقولون : لك طاعة ويبيتون غير ذلك ، فمن أطاع اللّه لا يضيره عصيان من عصاه ، وعليك أن تحث غيرك على القتال وتحرضه عليه ، لا أن تلزمه ذلك بالقهر والجبروت.
وفى الآية إيماء إلى أنه صلى اللّه عليه وسلم كلّف قتال الكافرين الذين قاوموا دعوته بقوتهم وبأسهم وإن كان وحده ، كما أنها تدل على أنه صلى اللّه عليه وسلم أعطى من الشجاعة ما لم يعط أحد من العالمين ، وفى سيرته الشريفة أصدق الأدلة على ذلك ، فقد تصدى لمقاومة الناس جميعا بدعوتهم إلى ترك ما هم عليه من الضلال ، وحين قاتلوه قاتلهم ، وقد انهزم عنه أصحابه فى أحد فبقى ثابتا كالجبل لا يتزلزل.
(عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) عسى هنا للتهيئة والإعداد فهى بمعنى الخبر والوعد ، وخبره تعالى حق فإنه لا يخلف الميعاد.
والمعنى - إن تحريض النبي للمؤمنين على القتال معه هو الذي يحملهم بباعث الإيمان والإذعان النفسي على الاستعداد له وتوطين النفس عليه ، بينما هو يعدّ الكافرين لترك الاعتداء على المؤمنين وكف بأسهم عنهم ، إذ لا شىء أدعى إلى ترك القتال من الاستعداد للقتال كما قال أبو تمام :
وأخافكم كى تغمدوا أسيافكم إن الدم المغبرّ يحرسه الدم(5/107)
ج 5 ، ص : 108
وعلى هذا النحو جرى عمل الممالك الكبيرة فى هذا العصر ، فكل دولة منها تبذل منتهى ما فى وسعها من اتخاذ العدّة والعتاد فى البر والبحر وتنظيم الجيوش لتكون القوى بينها متوازنة ولا تطمع القوية فى الضعيفة ، إذ يغريها ضعفها بالإقدام على حربها (وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا) أي لا تخافوا بأس هؤلاء الكافرين وشدتهم ولا يصدنكم ذلك عن طاعة الرسول والعمل بتحريضه ، فإن اللّه الذي وعد الرسول بالنصر أشد منهم بأسا وأشد منهم تنكيلا ، وقد جرت سنته أن تكون العاقبة للمتقين ما استمسكوا بأوامره وتركوا نواهيه وأعدوا العدّة مع الصبر والثبات والتباعد عن أسباب الخذلان والفشل.
[سورة النساء (4) : الآيات 85 الى 87]
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87)
تفسير المفردات
قال الراغب : الشفع ضم الشيء إلى مثله ، والشفاعة : الانضمام إلى آخر ناصرا له وسائلا عنه ، نصيب : حظ ، كفل : نصيب ، مقيتا : أي مقتدرا أو حافظا أو شاهدا.
قال الراغب : وحقيقته قائما عليه يحفظه ويعينه ، فهو مأخوذ من القوت وهو ما يمسك الرمق من الرزق وتحفظ به الحياة ، يقال قاته يقوته إذا أطعمه قوته ، وأقاته يقيته إذا جعل له ما يقوته ، والتحية : مصدر حيّاه إذا قال له حيّاك اللّه ، وهى فى الأصل الدعاء بالحياة ثم صار اسما لكل دعاء وثناء كقولهم : أنعم صباحا وأنعم مساء ، وعم صباحا(5/108)
ج 5 ، ص : 109
وعم مساء ، وجعل الشارع تحية المسلمين (السلام عليكم) إشارة إلى أن الدين دين سلام وأمان ، الحسيب : المحاسب على العمل ، كالجليس بمعنى المجالس وقد يراد به المكافئ والكافي ، من قولهم : حسبك كذا إذا كان يكفيك.
المعنى الجملي
بعد أن أمر اللّه تعالى نبيه أن يحرض المؤمنين على الجهاد وذكر أنه ليس عليه وزر من تمرد وعصى - بين فى هذه الآية أنهم حين أطاعوك ولبّوا دعوتك أصابهم من هذه الطاعة خير كثير ، وأن لك من هذا الخير نصيبا تستحق عليه الأجر ، لأنك قد بذلت الجهد فى ترغيبهم فيه بجعل نفسك شفيعا ونصيرا لهم فى الوصول إلى تحصيل هذه الأغراض الشريفة.
الإيضاح
(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) أي من يجعل نفسه شفيعا لك ويناصرك فى القتال - وقد أمرت به وحدك - يكن له من شفاعته نصيب بما يناله من الفوز والشرف والغنيمة فى الدنيا عند ما ينتصر الحق على الباطل ، وبما يناله من الثواب فى الآخرة فى جميع الحالات ، سواء أدرك النصر فى الدنيا أم لم يدركه.
ووصف الشفاعة بالحسنة لأنها تأييد ونصر للحق ، ومثل هذا كل من يعاون فاعل الخير ويساعده.
(وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) أي ومن ينضم إلى عدوك فيقاتل معه أو يخذل المؤمنين عن قتاله يكن له نصيب من سوء العاقبة بما يناله من الخذلان فى الدنيا والعقاب فى الآخرة ، وهذه هى الشفاعة السيئة لأنها إعانة على السيئات ، وسمى هذا النصيب كفلا ، لأنه نصيب مكفول للشافع ، إذ هو أثر عمله ، أو محدود لأنه على قدره.(5/109)
ج 5 ، ص : 110
والخلاصة - إن من ينضم إلى غيره معينا له فى فعل حسن يكن له منه نصيب ، ومن ينضم إلى غيره معينا له فى فعل سيىء ينله منه سوء وشدة.
ويدخل فى الآية شفاعة الناس بعضهم لبعض ، وهى قسمان : حسنة ، وسيئة فالحسنة أن يشفع الشافع لإزالة ضرر ورفع مظلمة عن مظلوم أو جر منفعة إلى مستحق ليس فى جرها إليه ضرر ولا ضرار والسيئة أن يشفع فى إسقاط حد ، أو هضم حق ، أو إعطائه لغير مستحق ، أو محاباة فى عمل بما يوصل إلى الخلل والزلل ، ولأجل هذا قال العلماء : الشفاعة الحسنة ما كانت فيما استحسنه الشرع ، والسيئة : فيما كرهه أو حرّمه.
وفى الآية من العبرة لنا أن نتذكر أن الحاكم العادل لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإخباره بما لم يكن يعلم من مظلمة المشفوع له أو استحقاقه لما يطلب له ، ولا يقبل الشفاعة لإرضاء الشافع فيما يخالف الحق والعدل ويخالف المصلحة العامة.
أما الحاكم الظالم فتروج عنده الشفاعات ، لأنه يحابى أعوانه المقربين منه ليكونوا شركاء له فى استبداده ليثبتوا على خدمته وإخلاصهم له ، والحكومات التي تروج فيها الشفاعات وتعتمد عليها الرعية فى كل ما تطلب تضيع فيها الحقوق ، ويحل الظلم محل العدل ، ويسرى من الدولة إلى الأمة ، فيعم فيها الفساد ويختل نظام الأعمال.
(وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) أي وكان اللّه مقتدرا على كل شىء فلا يعجزه أن يعطى الشافع نصيبا وكفلا من شفاعته على قدرها فى النفع والضر ، ويجازى كلّا بما يستحق ، لأن سننه قد قضت بأن يربط الجزاء بالعمل.
وبعد أن علّم سبحانه المؤمنين طريق الشفاعة الحسنة والسيئة وهى من أسباب التواصل بين الناس ، علّمهم سنة التحية بينهم وبين إخوانهم ليؤدبهم بأدب دينه ويزكيهم ويطهر نفوسهم من الغل والحسد فقال :
(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) أي وإذا حياكم أحد بتحية فردوها بتحية مثلها ، أو بتحية أحسن منها ، فقولوا لمن قال : السلام عليكم - وعليكم السلام ، أو وعليكم السلام ورحمة اللّه ، وإذا قال هذا فى تحيته فالأحسن أن تقولوا :
وعليكم السلام ورحمة اللّه وبركاته ، وهكذا يزيد المجيب على المبتدئ كلمة أو أكثر.(5/110)
ج 5 ، ص : 111
وقد يكون حسن الجواب بمعناه أو كيفية أدائه وإن كان بمثل لفظ المبتدئ بالتحية أو مساويه فى الألفاظ أو أخصر منه ، فمن قال لك : السلام عليكم بصوت خافت يشعر بقلة العناية ، فقلت له : وعليكم السلام بصوت أرفع وبإقبال يشعر بالعناية وزيادة الإقبال والتكريم كنت قد حييته بتحية أحسن من تحيته فى صفتها ، وإن كانت مثلها فى لفظها.
والخلاصة - إن الجواب عن التحية له مرتبتان : أدناهما ردها بعينها ، وأعلاهما الجواب عنها بأحسن منها ، والمجيب مخير بينهما ،
وقد روى ابن جرير عن ابن عباس عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال « من سلم عليك من خلق اللّه فاردد عليه وإن كان مجوسيا فإن اللّه يقول (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها)
ومن قال لخصمه السلام عليكم فقد أمنه على نفسه ، وكانت العرب تقصد هذا المعنى والوفاء من شيمتها ، وبعض المسلمين الآن يكره أن يحييهم غيرهم بلفظ السلام ، كما يكرهون رد السلام على غير المسلم ، وكأنهم غفلوا عن أن الآداب الإسلامية إذا ألفت عرفوا فضل الإسلام وجذبهم ذلك إليه.
والسنة أن يسلم القادم على من يقدم عليه ، وإذا تلاقى الرجلان يبدأ الكبير فى السن أو القدر بالسلام ،
وقد جاء فى الصحيحين أنه « يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير »
وروى « أن النبي صلى اللّه عليه وسلم مر بصبيان فسلم عليهم »
وروى الترمذي « أنه مر بنسوة فأومأ بيده بالتسليم »
وقد ورد فى الصحيحين قوله صلى اللّه عليه وسلم « إن أفضل الإسلام وخيره إطعام الطعام وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف »
وروى الحاكم قوله صلى اللّه عليه وسلم « أفشوا السلام تسلموا »
: (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) أي إنه تعالى رقيب عليكم فى مراعاة هذه الصلة بينكم بالتحية ويحاسبكم على ذلك.
وفى هذا إشارة إلى تأكيد أمر هذه الصلة بين الناس ، ووجوب رد التحية على من بسلم علينا ويحيينا.(5/111)
ج 5 ، ص : 112
وبعد أن حث رسوله صلى اللّه عليه وسلم على الجهاد وأمر المسلمين بمشاركته فيه ، وأمرهم بإظهار المودة وقت السلم ، بين أنهم مجزيون على كل هذا فى يوم لا ريب فيه فقال :
(اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) جمعت هذه الآية التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء فى الدار الآخرة ، وهما الركنان الأساسيان للدين ، وقد أرسل الرسل جميعا لتبليغ الناس ما يجب عليهم من إقامتهما وتأييدهما بصالح الأعمال ، والقرآن قد يصرح بهما تارة معا ، وبالأول منهما تارة أخرى أثناء ذكر الأحكام ، إذ هما العون الأكبر والباعث الأقوى على العمل بها ولا سيما أحكام القتال الذي يبذل المرء فيه نفسه ونفيسه للدفاع عن حرية الدين ونشر هدايته وتأمين دعاته وأهله.
والمعنى - اللّه لا إله إلا هو ، فلا تقصّروا فى عبادته والخضوع لأمره ونهيه ، فإن فى ذلك سعادتكم وارتقاء أرواحكم وعقولكم وتحريركم من رق العبودية لأمثالكم من البشر ، بل من دونهم من المعبودات التي ذل لها المشركون ، وهو سبحانه سيجمعكم ويحشركم إلى يوم القيامة ، وهو يوم لا ريب فيه ولا فيما يكون فيه من الجزاء على الأعمال.
(وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً ؟ ) أي لا أحد أصدق منه عز وجل ، إذ كلامه تعالى عن علم محيط بسائر الكائنات كما قال تعالى « لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى » فلا يمكن أن يكون خبره غير صادق بسبب النقص فى العلم أو الغرض أو الحاجة ، لأنه تعالى غنىّ عن العالمين.
أما كلام غيره فهو محتمل للصدق والكذب عن عمد وعلم أو عن سهو وجهل ، وقد دل الدليل على أن القرآن كلام اللّه ، فلم يبق عذر لمن قام عليه الدليل إذا آثر على قوله أقوال المخلوقين كما هو دأب الضالين.
[سورة النساء (4) : الآيات 88 الى 91]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)(5/112)
ج 5 ، ص : 113
تفسير المفردات
الفئة : الجماعة ، والركس بوزن النصر : إرجاع الشيء منكوسا على رأسه إن كان له رأس ، أو متحولا عن حال إلى أردأ منها كتحول الطعام والعلف إلى الرجيع والروث والمراد به هنا تحولهم إلى الغدر والقتال بعد أن أظهروا الولاء والتحيز إلى المسلمين ، والسبيل : الطريق ، والولي : النصير والمعين ، يصلون : أي يتصلون بهم ، الميثاق :
العهد ، حصرت : ضاقت ، السلم : الاستسلام والانقياد ، الفتنة : الشرك ، ثقفتموهم :
وجدتموهم ، السلطان المبين : الحجة الواضحة.(5/113)
ج 5 ، ص : 114
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أحكام القتال وختمها ببيان أنه لا إله غيره يخشى ضره ، أو يرجى خيره فتترك هذه الأحكام لأجله - ذكر هنا أنه لا ينبغي التردد فى أمر المنافقين وتقسيمهم فئتين ، مع أن دلائل كفرهم ظاهرة جلية ، فيجب أن تقطعوا بكفرهم وتقاتلوهم حيثما وجدوا.
روى ابن جرير عن ابن عباس أنها نزلت فى قوم أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يعينون المشركين على المسلمين ، فاختلف المسلمون فى شأنهم وتشاجروا فنزلت الآية.
الإيضاح
(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) أي فما لكم صرتم فى المنافقين فئتين واختلفتم فى كفرهم مع تظاهر الأدلة عليه ، فليس لكم أن تختلفوا فى شأنهم ، بل عليكم أن تقطعوا بثبوته.
وهؤلاء فريق من المشركين كانوا يظهرون المودة للمسلمين والولاء لهم وهم كاذبون فيما يظهرون فضلهم ، مع أمثالهم من المشركين ، لكنهم يحتاطون ويظهرون الولاء للمسلمين إذا رأوا منهم القوة ، فإذا ما ظهر لهم منهم ضعف انقلبوا عليهم وأظهروا لهم العداوة.
وكان المؤمنون فى أمرهم فرقتين ، فرقة ترى أنهم يعدّون من الأولياء ويستعان بهم على سائر المشركين المجاهرين لهم بالعداوة ، وفرقة ترى أن يعاملوا كما يعامل غيرهم من المشركين المعلنين العداوة.
(وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) أي كيف تفترقون فى شأنهم واللّه قد صرفهم عن الحق الذي أنتم عليه بما كسبوا من أعمال الشرك واجترحوا من المعاصي ، حتى إنهم لا ينظرون إليكم نظرة المودة والإخاء ، بل نظرة العداوة والبغضاء ، ويتربصون بكم الدوائر.(5/114)
ج 5 ، ص : 115
وقد جعلهم اللّه مركسين كأنهم قد نكسوا على رءوسهم وصاروا يمشون على وجوههم كما قال تعالى « أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ؟ » لأنهم قد فسدت فطرتهم وأحاطت بهم خطيئاتهم ، فأوغلوا فى الضلال ، وبعدوا عن الحق ، حتى لم يعد يجول فى أذهانهم إلا الثبات على ما هم فيه ومقاومة ما عداه.
وقد نسبه اللّه تعالى إليه لأنه ما كان سببا إلا بسنته فى تأثير الأعمال الاختيارية فى نفوس العالمين.
(أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ؟ ) أي إنه ليس فى استطاعتكم أن تبدلوا سنن اللّه فى نفوس الناس فتريدوا أن تحصلوا على مقاصد وغايات ضد ما انطبع فيها من الأخلاق والصفات ، بتأثير ما كسبته طوال عمرها من الأعمال.
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) أي ومن تقضى سننه فى خلقه أن يكون ضالا عن طريق الحق فلن تجد له سبيلا يصل بسلوكها إليه ، فإن للحق سبيلا واحدة هى صراط الفطرة المستقيم ، وللباطل سبلا كثيرة عن يمين سبيل الحق وعن شمالها ، كل من سلك منها سبيلا بعد عن سبيل الحق بقدر إيغاله فى السبيل التي سلكها كما قال تعالى « وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ » وقد أوضح النبي صلى اللّه عليه وسلم معنى الآية بالخطوط الحسية ، فخط فى الأرض خطا وجعله مثالا لسبيل اللّه ، وخط على جانبيه خطوطا لسبل الشيطان ، وهذه الخطوط المستقيمة لا تلتقى مع الخط الأول بحال.
وسبيل الفطرة تقتضى أن يعرض الإنسان جميع أعماله على سنن العقل ويتّبع ما يظهر له أنه الحق الذي فيه منفعته عاجلا وآجلا ، وفيه كماله الإنسانى.
وأكثر ما يصده عن هذه السبيل التقليد والغرور وظنه أنه ليس هناك ما هو أكمل مما هو فيه ، وبهذا يقطع على نفسه طريق العقل والنظر فى النفع والضر والحق والباطل.
وشبهته فى ترك صراط الفطرة أن عقله قاصر عن التمييز بين الحق والباطل والخير(5/115)
ج 5 ، ص : 116
والشر ، فعليه أن يتبع ما وجد عليه الآباء والأجداد من زعماء عصره ولو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون.
ثم ذكر سبحانه ما يجول فى صدور أولئك المنافقين من أمانىّ فقال :
(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) أي إن هؤلاء لا يقنعون بما هم عليه من الضلال والغواية ، بل يطمعون أن تكونوا أمثالهم وتحذوا حذوهم حتى يقضى على الإسلام الذي أنتم عليه ، وهذا منتهى ما يكون من الغلوّ والتمادي فى الكفر ، حيث لا يكتفون بضلالهم بل يرجون إضلال غيرهم.
ثم حذر المؤمنين من غوائل نفاقهم فقال :
(فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي وإذا كانت هذه حالهم فلا تتخذوا منهم أنصارا يساعدونكم على المشركين حتى يؤمنوا ويهاجروا ويشاركوكم فى سائر شئونكم ، فإن الصادقين فى إيمانهم لا يدعون النبي صلى اللّه عليه وسلم ومن معه عرضة للخطر ، ولا يتركون الهجرة إلا إذا عجزوا عنها ، وإذا فتركهم لها علامة على نفاقهم الذي اختلفتم فيه.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي فإن أعرضوا عن الهجرة فى سبيل اللّه ولزموا مواضعهم فى خارج المدينة فخذوهم إذا قدرتم عليهم واقتلوهم أينما وجدتموهم فى الحلّ أو فى الحرم ، ولا تتخذوا منهم وليا يتولى شيئا من مهامّ أموركم ولا نصيرا ينصركم على أعدائكم.
وقد استثنى منهم من تؤمن غائلتهم بأحد أمرين :
(1) (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي إلا الذين يتصلون بقوم معاهدين للمسلمين فيدخلون فى عهدهم ويرضون بحكمهم فيمتنع قتالهم مثلهم.
(أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) أي أو جاءوكم قد ضاقت صدورهم عن قتالكم وعن قتال قومهم فلا تنشرح لأحد الأمرين.
وخلاصة ذلك - أن يجيئوا المسلمين مسالمين لا يقاتلونهم ولا يقاتلون قومهم معهم(5/116)
ج 5 ، ص : 117
بل يكونون على الحياد ، فهم لا يقاتلون المسلمين حفظا للعهد ولا يقاتلون قومهم ، لأنهم قومهم ، وقبول معذرة الفريقين موافق لما بنى عليه الإسلام من التسامح والسماحة وعدم الاعتداء كما قال « وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا » .
(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ) أي إن اللّه تعالى رحمكم بأن كف بأس هاتين الفئتين وصرفهم عن قتالكم وقذف الرعب فى قلوبهم ، ولو شاء لسلطهم عليكم بأن يلهمهم من الآراء ويسوق إليهم من الأخبار ما به يرجحون ذلك فيقاتلوكم ، ولكنه بتوفيقه ونظامه فى الأسباب والمسببات ، وسننه فى الأفراد والجماعات ، جعل الناس فى ذلك العصر أصنافا ثلاثة :
1) سليمو الفطرة الذين حصفت آراؤهم فسارعوا إلى الإيمان واستناروا بنور الإسلام.
2) المسالمون الذين رجحوا أن يكونوا على الحياد لا مع المشركين ولا مع المؤمنين.
3) الموغلون فى الضلال والشرك والمحافظون على القديم وهم المحاربون.
(فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) أي فإن اعتزلتكم إحدى هاتين الفئتين ولم تقاتلكم بل ألقت إليكم السلم وأعطتكم زمام أمرها ، فما جعل اللّه لكم من سبيل تسلكونها للاعتداء عليها ، إذ من قواعد ديننا ألا نعتدى إلا على من يعتدى علينا ولا نقاتل إلا من قاتلنا.
روى ابن أبى حاتم وابن مردويه عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال « لما ظهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم قال سراقة بلغني أنه عليه الصلاة والسلام يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومى من بنى مدلج فأتيته فقلت أنشدك النعمة ، فقالوا مه ، فقال دعوه ، ما تريد ؟ قلت بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومى وأنا أريد أن توادعهم ، فإن أسلم قومك أسلموا ، وإن لم يسلموا لم تخش بقلوب قومك عليهم ، فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيد خالد فقال (اذهب معه فافعل ما يريد) فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ، ومن وصل إليهم من الناس كان له مثل عهدهم ، فأنزل اللّه تعالى (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ - حتى بلغ - إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ) فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم » .(5/117)
ج 5 ، ص : 118
وقال الرازي : إن النبي صلى اللّه عليه وسلم وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمى على ألا يعينه ولا يعين عليه ، وعلى أن كل من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل ما لهلال.
ثم بين سبحانه حال جماعة آخرين وبالغ فى ذمهم فقال :
(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) هؤلاء فريق ممن لم يهتدوا بالإسلام ولم يتصدوا إلى مجالدة أهله وقتالهم فكانوا مذبذبين بين المؤمنين والكافرين ، فهم قد غلت عليهم أرواحهم ، ورخصت عليهم عقولهم ، يظهرون لكل من الفئتين أنهم منهم أو معهم وقد روى عن مجاهد أن ناسا كانوا يأتون النبي صلى اللّه عليه وسلم فيسلمون رياء ، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون فى الأوثان ، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا.
(كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها) أي كلما دعوا إلى الشرك (كما روى عن السدى) أركسوا فيه وتحولوا إليه أقبح تحول ، فهم يريدون أن يأمنوا جانب المسلمين.
إما بإظهار الإسلام ، وإما بالعهد على السلم وترك القتال ثم يفتنهم المشركون أي : يحملونهم على الشرك أو على مساعدتهم على قتال المسلمين ، فيرتكسون ويتحولون شر التحول معهم ، وهكذا يفعلون ذلك المرة بعد المرة ، فهم قد مردوا على النفاق.
وقد بين اللّه حكمهم بقوله :
(فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي فإن لم يعتزلوكم ويتركوكم وشأنكم ويلتزموا الحياد ويلقوا إليكم السلم : أي زمام المسالمة على الطريق التي ترونها نافعة لكم ، ويكفوا أيديهم عن القتال مع المشركين أو عن الدسائس - فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم فلا علاج لهم غير ذلك كما ثبت بالتجارب والاختبار.
(وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي وأولئكم جعلنا لكم عليهم حجة واضحة ، وبرهانا ظاهرا على قتالهم.(5/118)
ج 5 ، ص : 119
قال الرازي : قال الأكثرون وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن قتالنا لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم.
ونظيره قوله « وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا » إذ خص فيها الأمر بقتال من يقاتلنا دون من لم يقاتلنا.
[سورة النساء (4) : الآيات 92 الى 93]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أحكام قتال المنافقين الذين يظهرون الإسلام خداعا ويسرّون الكفر ويساعدون أهله على قتال المؤمنين ، والذين يعاهدون المسلمين على السلم ويحالفونهم على الولاء والنصر ، ثم يغدرون ويكونون عونا لأعدائهم عليهم - ذكر هنا قتل من لا يحل قتله من المؤمنين والمعاهدين والذميين وما يقع منهم من ذلك عمدا أو خطأ.
روى ابن جرير فى سبب نزول الآية عن عكرمة قال : كان الحارث بن يزيد من بنى عامر بن لؤى يعذب عيّاش بن أبى ربيعة مع أبى جهل. ثم خرج الحارث مهاجرا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فلقيه عياش بالحرّة من أرباض المدينة ، فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر ثم جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره فنزلت الآية فقرأها النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم قال له قم فحرّر.(5/119)
ج 5 ، ص : 120
الإيضاح
(وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) أي ليس من شأن المؤمن ولا من خلقه أن يقتل أحدا من المؤمنين ، إذ الإيمان وهو صاحب السلطان على النفس والحاكم على الإرادة والمصرّف لها يمنعه أن يجترح هذه الكبيرة عمدا ، لكنه قد يفعل ذلك خطأ (والخطأ ما لا يقارنه قصد إلى الفعل أو الشخص أو لا يقصد به زهوق الروح غالبا).
ذلك أنه لا يكمل إيمان المؤمن إلا إذا شعر بحقوق الإيمان عليه وهى حقوق للّه وحقوق للعباد ومن الثانية القصاص لما فى ذلك من الزجر عن القتل ، ولما فى تركه من الاستهزاء بحقوق الدماء ، ومن استهزأ بها كان قد انتهك أكبر حق من حقوق الأمة ، وهدّ ركنا من أركان الإيمان ، يرشد إلى ذلك قوله « مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً » .
وسبب العقوبة على الفعل الخطأ كالقتل أن الخطأ لا يخلو من التهاون وعدم العناية ومثله النسيان ، إذ من شأنهما أن يعاقب اللّه عليهما ، ومن ثم أمرنا اللّه تعالى أن ندعوه ألا يؤاخذنا عليهما بقوله « رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا » كما ثبت بنص القرآن أن آدم نسى وسمى مخالفته معصية وعوقب عليها لكن
ورد فى السنة قوله صلى اللّه عليه وسلم « وضع اللّه عن هذه الأمة ثلاثا : الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه » رواه ابن ماجه.
(وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) تحرير الرقبة عتقها من الرقّ : أي ومن قتل مؤمنا خطأ بأن أراد رمى صيد أو غرض فأصاب مؤمنا ، أو ضربه بما لا يقتل عادة كأن صفعه باليد أو ضربه بعصا فمات وهو لم يكن يقصد قتله ، فعليه عتق رقبة من أهل الإيمان ، لأنه لما أعدم نفسا مؤمنة كان كفارته أن يوجد نفسا (والعتق كالإيجاد من العدم).
(وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) الدية : هى المال الواجب بالجناية على الحر فى النفس أو فيما دونها ويعطى إلى ورثة المقتول عوضا عن دمه : أي وعليه من الجزاء مع عتق الرقبة دية(5/120)
ج 5 ، ص : 121
يدفعها إلى أهل المقتول ، وقد بينتها السنة وحددتها على الوجه الذي كان مقبولا عند العرب وهى مائة بعير مختلفة فى السن أو قيمتها إذا حصل التراضي بين الدافع والمستحق ، ودية المرأة نصف دية الرجل ، لأن المنفعة التي تفوت أهل الرجل بفقده أعظم من المنفعة التي تفوت بفقدها.
وقد روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا جاء فيه « إن من اعتبط (قتل بغير سبب شرعى) مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود (أي قصاص يقتل به) إلا أن يرضى أولياء المقتول - وإن فى النفس الدية مائة من الإبل - ثم قال وعلى أهل الذهب ألف دينار »
وفى هذا دليل على أن دية الإبل على أهلها إذا كانت هى رأس أموالهم ، وأن الذين يتعاملون بالذهب كأهل المدن تكون من الذهب أو الفضة ، وعلى أن هذا أصل لا قيمة للإبل.
(إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أي إن الدية تجب على القاتل قتلا خطأ لأهل المقتول إلا أن يعفوا عنها ويسقطوها باختيارهم ، لأنها إنما وجدت تطييبا لقلوبهم حتى لا تقع عداوة ولا بغضاء بينهم وبين القاتل ، وتعويضا عما يفوتهم من المنفعة بقتله ، فإذا هم عفوا فقد طابت نفوسهم وانتفى المحذور وكانوا هم ذوى الفضل على القاتل ، وقد سمى اللّه هذا العفو تصدقا ترغيبا فيه.
(فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي فإن كان المقتول من أعدائكم وهو مؤمن كالحارث بن يزيد كان من قريش وهم أعداء النبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنون فى حرب معهم ولم يعلم المسلمون إيمانه لأنه لم يهاجر وقد قتله عياش حين خروجه مهاجرا وهو لم يعلم بذلك ، ومثله كل من آمن فى دار الحرب ولم يعلم المسلمون بإيمانه حين قتله - فالواجب على قاتله عتق رقبة من أهل الإيمان فقط ، ولا تجب الدية لأهله لأنهم أعداء يحاربون المسلمين فلا يعطون من أموالهم ما يستعينون به على قتالهم والتنكيل بهم.(5/121)
ج 5 ، ص : 122
(وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) وهم الذين عاهدوكم على السلم لا يقاتلونكم ولا تقاتلونهم كما هو حال الدول فى العصر الحاضر يعقد بعضهم معاهدات ومواثيق مع بعض آخر ألا يقاتلوهم ولا يساعدوا عليهم عدوا.
(فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي فالواجب فى قتل المعاهد كالواجب فى قتل المؤمن دية إلى أهله تكون عوضا عن حقهم ، وعتق رقبة مؤمنة تكون كفارة عن حق اللّه الذي حرم قتل المعاهد كما حرم قتل المؤمن ، ولم يعين هذه الدية للإشارة إلى أن للعرف العام والخاص حكمه ولا سيما إذا ذكر ذلك فى عقد الميثاق الذي بينهما ، لأن هذا النص يكون أقطع لعرق النزاع وأجدر بالتراضي.
وقد اختلف الفقهاء فى دية غير المسلمين لاختلاف الرواية فى ذلك ،
روى أحمد والترمذي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال « عقل (دية) الكافر نصف دية المسلم »
وروى عن أحمد « أن ديته كدية المسلم إن قتل عمدا وإلا فنصف ديته » وذهب الزهري وأبو حنيفة إلى أن ديته كدية المسلم لظاهر الآية فى أهل الميثاق وهم المعاهدون وأهل الذمة وعلى الجملة فالروايات متعارضة ومن ثم اختلف فيها الفقهاء.
وظاهر الآية يدل على أن الدية على القاتل ولكن السنة بينت أن العاقلة (العائلة) وهم عصبته الأقربون هم الذين يدفعون الدية.
وحكمة هذا تقرير التضامن بين الأقربين ، وإذا عجزت العاقلة عن دفعها جعلت فى بيت المال (وزارة المالية).
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) أي فمن لم يجد رقبة يعتقها بأن لم يجد مالا يشتريها به من مالكها ليحررها من الرق ، أو لم يجد رقيقا (وهذا مقصد من مقاصد الإسلام) فعليه صيام شهرين متتابعين قمريين لا يفصل بين يومين منهما إفطار فى النهار ، فإن أفطر يوما بغير عذر شرعى استأنفه وكان ما صامه قبل كأن لم يكن.
(تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ) أي قد شرعها لكم ، ليتوب عليكم ويطهر نفوسكم من التهاون وقلة التحري التي تفضى إلى القتل الخطأ.(5/122)
ج 5 ، ص : 123
(وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي وكان اللّه عليما بأحوال النفوس وما يطهرها ، حكيما فيما شرعه من الأحكام والآداب التي بها هدايتكم وإرشادكم إلى ما فيه سعادتكم فى الدنيا والآخرة.
(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) خالدا فيها أي ماكثا إلى الأبد أو ما كثا مكثا طويلا ، غضب اللّه عليه أي انتقم منه ، لعنه : أبعده عن رحمته ، أعد له : أي هيأ له.
وللعلماء فى توبة قاتل المؤمن عمدا آراء ثلاثة :
1) يرى ابن عباس وفريق من السلف أن قاتل المؤمن عمدا لا تقبل له توبة وهو خالد فى النار أبدا ، ويدل على ذلك ما
أخرجه أحمد والنسائي عن معاوية قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول « كل ذنب عسى اللّه أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا »
و
أخرج البيهقي عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « من أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة اللّه تعالى »
وروى عن البراء بن عازب أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال « لزوال الدنيا وما فيها أهون عند اللّه من قتل مؤمن ، ولو أن أهل سمواته وأهل أرضه اشتركوا فى دم مؤمن لأدخلهم اللّه تعالى النار »
وعن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال « لو أن الثقلين اجتمعوا على قتل مؤمن لأكبّهم اللّه تعالى على مناخرهم فى النار وإن اللّه تعالى حرم الجنة على القاتل والآمر به » .
وهؤلاء يرون أن التائب من الشرك وقد كان قاتلا زانيا تقبل توبته ولا تقبل توبة المؤمن الذي ارتكب القتل وحده ، إذ الأول لم يؤمن بالشريعة التي تحرم هذه الأمور فله شبه عذر إذا هو كان متبعا لهواه بالكفر وما يتبعه ولم يكن ظهر له صدق النبوة فلما ظهر له الدليل على أن ما كان عليه كفر وضلال وتاب وأناب وعمل صالحا كان جديرا بالعفو.(5/123)
ج 5 ، ص : 124
وأما المؤمن الموقن بصحة النبوة وحرمة القتل فلا عذر له ، إذ هو يعلم أن المؤمن أخ له ونصير ، فكيف يعمد بعد هذا إلى الاستهانة بأمر اللّه وحكمه وتوهين أمر دينه بهدم أركان قوته ، ومن ثم يهن المسلمون ويضعفون ويكون بأسهم بينهم شديدا.
وإنك لترى أنه ما انحلت الرابطة بين المسلمين وانفصمت عروة الوفاق بينهم إلا بعد أن أقدم بعضهم على سفك دماء بعض ورجحوا شهوة الغضب والانتقام على أمر اللّه تعالى ، ومن رجح شهوات نفسه الضارة على أمر اللّه وعلى مصلحة المؤمنين بغير شبهة فهو جدير بالخلود فى النار والغضب واللعنة ، إذ هؤلاء قد تجرءوا على حدود دينه ولم يبق للشرع حرمة فى قلوبهم.
قال فى الكشاف : هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد ، والإبراق والإرعاد ، أمر عظيم ، وخطب جليل ، ومن ثم روى عن ابن عباس أن توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة ... والعجب من قوم يقرءون هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث (الأحاديث التي تقدم ذكرها) وقول ابن عباس بمنع التوبة ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة واتباعهم هواهم وما يخيل إليهم منالهم أن يطمعوا فى العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة « أ فلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ؟ » اه.
2) يرى فريق آخر أن المراد بالخلود المكث الطويل لا الدوام لتظاهر النصوص القاطعة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم ، وما فى الآية إخبار من اللّه بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه ذلك كما جاء فى قوله عز اسمه « وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها » فإنه لو كان المراد منها أنه سبحانه يجزى كل سيئة بمثلها لعارضه قوله جل شأنه « وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ » ومن ثم
روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرفوعا أنه قال هو جزاؤه إن جازاه
، وبهذا قال جمع من العلماء وقالوا هو كما يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر : إن فعلت فجزاؤك القتل والضرب ، وهو إن لم يجازه لم يكن كذابا ، وقد روى عن ابن عباس جواز المغفرة بلا توبة أيضا ، وقال فى الآية هى جزاؤه ، فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له.(5/124)
ج 5 ، ص : 125
3) ويرى فريق ثالث أن حكم الآية إنما هو للقاتل المستحل ، وحكمه مما لا شك فيه ، وعكرمة وابن جريج فسرا متعمدا مستحلا فى الآية.
أي : ومن يقتل مؤمنا متعمدا لقتله مستحلا له ، فجزاؤه جهنم خالدا فيها أبدا.
[سورة النساء (4) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)
تفسير المفردات
الضرب فى الأرض : السير فيها بالسفر للتجارة أو الجهاد ، لأن المسافر يضرب الأرض برجليه وعصاه أو بقوائم راحلته ، فى سبيل اللّه : أي لجهاد أعدائكم ، فتبينوا أي تثبتوا وتأنّوا ، ألقى إليكم السلام : أي انقاد واستسلم لكم فلم يقاتلكم ، عرض الحياة الدنيا : أي متاعها الحاضر الذي يأخذ منه البر والفاجر ، مغانم كثيرة : أي رزق وفضل كثير.
المعنى الجملي
بعد أن بين عز اسمه فى الآيات السابقة أنه ليس من شأن المؤمن أن يقتل مؤمنا إلا على سبيل الخطأ ، وأن من قتل مؤمنا متعمدا فلا جزاء له إلا جهنم خالدا فيها أبدا.
أراد هنا أن ينبه المؤمنين إلى ضرب من ضروب قتل الخطأ كان يحصل فى ذلك العهد عند السفر إلى أرض المشركين حين انتشر الإسلام ولم يبق مكان فى بلاد العرب وقبائلهم يخلو من المسلمين أو ممن يميل إلى الإسلام ويتحينون الفرص للاتصال(5/125)
ج 5 ، ص : 126
بأهله ، فأعلمهم ألا يحسبوا كل من يجدونه فى دار الكفر كافرا ، وأن يتبينوا من تظهر عليهم علامات الإسلام كالشهادة والسلام الذي هو تحية المؤمنين ، وألا يحملوا مثل هذا على الخداع ، إذ ربما يكون الإيمان قد طاف على هذه القلوب وألمّ بها إن لم يكن قد تمكن فيها ، ومن ثم أمر بالتثبت ونهى عن إنكار إسلام من يدعى الإسلام ولو بإلقاء تحيته ، فما بالك بمن ينطق بالشهادتين ، وأبان أن الذي يدعوه إلى ظن هذا الظن إنما هو ابتغاء عرض الحياة الدنيا ؟ وبهذا أرشد المؤمن إلى أن يتهم نفسه ويفتش عن قلبه ولا يبنى الظن على ميله وهواه ، بل عليه أن يتقبل الظاهر حتى يستبين له خلافه.
وفى سبب نزول هذه الآية روايات كثيرة : منها ما
أخرجه البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال « مر رجل من بنى سليم بنفر من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يسوق غنما له فسلم عليهم ، فقالوا ما سلم علينا إلا ليتعوّذ منا ، فعمدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت الآية » .
وأخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن عبد اللّه بن أبى حدرد الأسلمى قال : « بعثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة ومحلّم بن جثامة ، فمر بنا عامر بن الأضبط الأشجعى فسلم علينا فحمل عليه محلم فقتله ، فلما قدمنا على النبي صلى اللّه عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الآية » .
وأخرج البزار من وجه آخر عن ابن عباس قال : « بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سريّة فيها المقداد ، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرّقوا وبقي رجل له مال كثير فقال أشهد أن لا إله إلا اللّه ، فقتله المقداد فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم كيف لك بلا إله إلا اللّه غدا ؟ وأنزل اللّه هذه الآية » .
ولا مانع من تعدد الوقائع قبل نزول الآية وأن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقروها على أصحاب كل واقعة فيرون أنهم سبب نزولها.(5/126)
ج 5 ، ص : 127
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا) أي يا أيها الذين صدقوا اللّه وصدقوا رسوله واتبعوا الأوامر وتركوا النواهي ، إذا سرتم للغزو وجهاد الأعداء رفعة لدينه وإعلاء لكلمته ، تأنوا فى قتل من اشتبه عليكم أمره فلم تعلموا أ مسلم هو أم كافر ؟ ولا تعجلوا فى قتل أحد إلا إذا علمتم يقينا أنه حرب لكم وللّه والرسول (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ولا تقولوا لمن انقاد لكم واستسلم ولم يقاتلكم وأظهر أنه من أهل ملتكم - إنك لست بمؤمن حقا فتقتلوه ابتغاء متاع الدنيا وحطامها الزائل السريع التحول والانتقال ، فعند اللّه أرزاق كثيرة ونعم لا تحصى ولا تعد ، يغنّمكموها فيغنيكم إذا شاء.
(كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) أي إنكم أول ما دخلتم فى الإسلام حقنت دماؤكم وأموالكم بالنطق بكلمة الشهادة من غير انتظار لمعرفة أن ما فى القلب موافق لما فى اللسان ، ومنّ اللّه عليكم بذلك ، فعليكم أن تعملوا مع الداخلين فى الإسلام كما عمل معكم وأن تعتبروا بظاهر القول ولا تقولوا إن إقدامهم على التكلم بهذه الكلمة إنما كان لأجل الخوف من السيف.
(فَتَبَيَّنُوا) أي فكونوا على بينة من الأمر الذي تقدمون عليه ولا تأخذوا بالظن ، بل تدبروا ليظهر لكم أن الإيمان العاصم من حقن الدماء يكفى فيه ظاهر الحال كما كفى معكم من قبل.
وفى إعادة التبيين مرة أخرى المبالغة فى التحذير من ذلك الفعل والوعيد عليه.
(إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي إنه تعالى خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شىء من البواعث التي حفزتكم على الفعل ، فإن كانت ابتغاء حظ الحياة الدنيا فهو يجازيكم على ذلك فلا تفعلوا بل تثبتوا وتبينوا ، وإن كان محض الدفاع عن الحق فهو مثيبكم على ذلك.
وفى هذا وعيد وتحذير شديد من الوقوع فى مثل هذا الخطأ.(5/127)
ج 5 ، ص : 128
وكذلك فيه إرشاد إلى ألا نحكم بتكفير من يخالفنا من أهل القبلة والعلم الصحيح والدعوة إلى كتاب اللّه وسنة رسوله بمجرد المخالفة لنا فى رأى أو عقيدة ، فإن مثل هذا لا يقدم عليه المسلم جزافا.
وعلينا أن ننظر بعد هذا كله إلى أن الإسلام منع قتل من يلقى السلم ومن بينه وبين المسلمين عهد وميثاق إما على النصر وإما على ترك القتال ، ورغب عن ابتغاء عرض الدنيا بالقتال ، ليكون لمحض رفع العدوان والبغي وتقرير الحق والإصلاح.
وأين هذا مما تفعله الدول الآن من القتال للربح وجمع الأموال وهم ينقضون العهد والميثاق مع الضعفاء ولا يلتزمون حفظ المعاهدات إلا مع الأقوياء ؟ .
[سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96]
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)
تفسير المفردات
الضرر : المرض والعلل التي يعجز صاحبها معها عن الجهاد كالعمى والعرج ، المثوبة الحسنى : هى الجنة.
المعنى الجملي
بعد أن عاتب اللّه المؤمنين على ما صدر منهم من قتل من تكلم بالشهادة - ذكر فضيلة الجهاد وأن من نصب نفسه له فقد فاز فوزا عظيما ، فعليه أن يحترز من الوقوع فى الهفوات التي تخلّ بهذا المنصب العظيم.(5/128)
ج 5 ، ص : 129
روى أن الآية نزلت فى كعب بن مالك من بنى سلمة ومرارة بن الربيع من بنى عمرو بن عوف والربيع وهلال بن أمية من بنى واقف حين تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى غزوة بدر.
الإيضاح
(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي لا يكون القاعدون عن الجهاد بأموالهم بخلا بها وحرصا عليها ، وبأنفسهم إيثارا للراحة والنعيم على التعب وركوب الأخطار - مساوين للمجاهدين الذين يبذلون أموالهم فى الاستعداد للجهاد بالسلاح والخيل والمئونة ، ويبذلون أنفسهم بتعريضها للقتل فى سبيل الحق ومنع تعدى حزب الطاغوت ، لأن المجاهدين هم الذين يحمون الأمة والبلاد ، والقاعدين لا يأخذون حذرهم ولا يعدّون عدّتهم للدفاع ويكونون عرضة لتعدى غيرهم عليهم كما قال تعالى « وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ » أي بغلبة أهل الطاغوت عليها ، ولكن النكوص عن الجهاد لا يكون مذمة وبخلا إلا مع القدرة ، أما مع العجز والضرر كالعمى والزمانة والمرض فلا تبعة فيه حينئذ.
ثم بين ما أجمله أولا من التفاضل الذي بين الفريقين وعدم تساويهما فقال :
(فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) أي إن اللّه تعالى رفع المجاهدين على القاعدين درجة لا يقدر قدرها ولا يدرك كنهها ، وهى ما خوّلهم اللّه عاجلا فى الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل ودفع شر الأعداء عن الأمة والبلاد.
(وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى ) أي ووعد اللّه كلا ممن جاهد وقعد عن الجهاد عجزا منه مع تمنى القدرة عليه المثوبة الحسنى وهى الجنة ، فكل منهما كامل الإيمان مخلص للّه فى العمل.(5/129)
ج 5 ، ص : 130
(وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) أي وفضل اللّه المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولى الضرر أجرا عظيما.
ثم بين هذا الأجر العظيم فقال :
(دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) هذه الدرجات هى ما ادخره اللّه لعباده من المنازل الرفيعة التي يقصر الحصر عن عدها كما قال تعالى « انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا » ودرجات الآخرة مبنية على درجات الدنيا من قوة الإيمان باللّه ، وإيثار رضاه على الراحة والنعيم ، وترجيح المصلحا العامة على الشهوات الخاصة.
والمغفرة المقرونة بهذه الدرجات هى المغفرة لما يفرط منهم من الذنوب التي لا تكفّرها سائر الحسنات التي يأتى بها القاعدون.
والرحمة هى ما يخصهم به الرحمن زيادة على ذلك من فضله وإحسانه ، وقد صح من
حديث أنس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك ودنا من المدينة قال « إن فى المدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه ، قالوا يا رسول اللّه وهم بالمدينة ؟ قال نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر » .
(وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان شأن اللّه وصفته الغفران لمن يستحق المغفرة ، والرحمة لمن يؤتميه ذلك تفضلا منه وإحسانا.
[سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 100]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)(5/130)
ج 5 ، ص : 131
تفسير المفردات
توفى الشيء : أخذه وافيا تاما ، وتوفى الملائكة للناس : قبض أرواحهم حين الموت والمأوى : المسكن ، مراغما : مكانا للهجرة ومأوى يصيب فيه الخير والسعة فيرغم بذلك أنوف من كانوا مستضعفين له ، وقع أجره على اللّه : أي وجب ، والوقوع والوجوب يتواردان على معنى واحد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السالفة فضل المجاهدين فى سبيل اللّه على القاعدين بغير عجز - ذكر حال قوم أخلدوا إلى السكون وقعدوا عن نصرة الدين ، وعذروا أنفسهم بأنهم فى أرض الكفر حيث اضطهدهم الكافرون ومنعوهم من إقامة الحق وهم عاجزون عن مقاومتهم ، ولكنهم فى الحقيقة غير معذورين ، لأنه كان يجب عليهم الهجرة إلى المؤمنين الذين يعتزون بهم ، إذ هم بحبهم لبلادهم وإخلادهم إلى أرضهم وسكونهم إلى أهليهم ومعارفهم ضعفاء فى الحق لا مستضعفون ، وهم بضعفهم هذا قد حرموا أنفسهم بترك الهجرة من خير الدنيا مما أفاء اللّه به على المؤمنين ، ومن خير الآخرة بإقامة الحق وإعلاء كلمة الدين.
وظلمهم لأنفسهم : هو تركهم العمل بالحق خوفا من الأذى وفقد الكرامة عند ذوى قرابتهم من المبطلين.
وهذا الاعتذار وما أشبهه مما يعتذر به الذين سايروا أهل البدع على بدعهم فى عصرنا الحاضر بحجة دفع الأذى عن أنفسهم بمداراة المبطلين ، وذلك عذر لا يعتد به ، إذا الواجب(5/131)
ج 5 ، ص : 132
عليهم إقامة الحق مع احتمال الأذى فى سبيل اللّه ، أو الهجرة إلى حيث يتمكنون من إقامة دينهم.
أخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال « إن سبب نزول الآية أن قوما من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يخفون الإسلام فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم فقال المسلمون هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستغفروا لهم ، فنزلت الآية فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم وأنه لا عذر لهم فخرجوا فلحق بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا فنزلت « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ » فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا فنزلت « ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا » الآية فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا فلحقوهم فنجا من نجا وقتل من قتل » .
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) أي إن الذين تتوفاهم الملائكة وتقبض أرواحهم حين انتهاء آجالهم حالة كونهم ظالمى أنفسهم برضاهم بالإقامة فى دار الذل والظلم حيث لا حرية لهم فى أعمالهم الدينية ، ولا يتمكنون من إقامة دينهم ونصره وتأييده.
(قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ؟ ) أي تقول لهم الملائكة بعد توفيها لهم فى أىّ شىء كنتم من أمر دينكم ؟ أي إنهم لم يكونوا فى شىء منه ، إذ هم قدروا على الهجرة ولم يهاجروا.
(قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) هذا اعتذار عن تقصيرهم الذي وبخوا عليه :
أي إننا لم نستطع أن نكون فى شىء يعتد به من أمر ديننا لاستضعاف الكفار لنا فعجزنا عن القيام بواجبات الدين بين أهل مكة ، وهذه حجة لم تتقبلها الملائكة ، ومن ثم ردوا عليهم المعذرة فقالوا لهم :
(أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها ؟ ) وترحلوا إلى قطر آخر من الأرض ،(5/132)
ج 5 ، ص : 133
تقدرون فيه على إقامة الدين وتحرروا أنفسكم من رق الذل الذي لا يليق بالمؤمن ، ولا هو من خصاله.
(فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أي إن أولئك الذين فصّلت حالهم الفظيعة نسكنهم فى الآخرة جهنم لتركهم ما كان مفروضا عليهم ، إذ كانت الهجرة واجبة فى صدر الإسلام.
(وَساءَتْ مَصِيراً) أي وقبحت جهنم مصيرا لهم ، لأن كل ما فيها يسوءهم ، وفى هذا إيماء إلى أن الرجل إذا كان فى بلد لا يتمكن فيه من إقامة دينه كما يجب لبعض الأسباب ، أو علم أنه فى غير بلده أقوم بحق اللّه وأدوم على العبادة وجبت عليه الهجرة.
أما المقيم فى دار الكفر ولا يمنع ولا يؤذى إذ هو عمل بدينه وأقام أحكامه بلا نكير فلا يجب عليه أن يهاجر ، كما هو مشاهد من المسلمين المقيمين فى بلاد الإنكليز الآن ، إلى أن الإقامة فيها ربما كانت سببا من أسباب ظهور محاسن الإسلام وإقبال الناس عليه.
(إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) أي إن أولئك الذين اعتذروا عن عدم إقامة دينهم وعدم الفرار به هجرة إلى اللّه ورسوله غير صادقين فى اعتذارهم.
أما الاستضعاف الحقيقي فهو عذر مقبول كأولئك الشيوخ الضعفاء والعجزة كعياش بن أبى ربيعة وسلمة بن هشام ، والنساء كأم الفضل أم عبد اللّه بن عباس ، والولدان كعبد اللّه المذكور وغيره.
(لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا) أي إنهم قد ضاقت بهم الحيل فلم يستطيعوا ركوب واحدة منها ، وعمّيت عليهم الطرق فلم يهتدوا طريقا منها ، إما للعجز كمرض وزمانة ، وإما للفقر ، وإما للجهل بمسالك الأرض ومضايقها بحيث لو خرجوا لهلكوا كما قالوا فى أمثالهم « قتلت أرض جاهلها » وقد أثر عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أنه قال : كنت أنا وأمي من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون إلى الهجرة سبيلا ، والمراد بالولدان هنا المراهقون الذين قربوا من البلوغ وعقلوا ما يعقل(5/133)
ج 5 ، ص : 134
الرجال والنساء فيلحقون بهم فى التكليف بوجوب الهجرة معهم ، أو أن تكليفهم هو تكليف أوليائهم بإخراجهم من ديار الكفر.
(فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) أي إن أولئك المستضعفين الذين لم يهاجروا للعجز وتقطع الأسباب يرجى أن يعفو اللّه عنهم ولا يؤاخذهم بالإقامة فى دار الكفر.
وفى هذا إيماء إلى أن العفو مطموع فيه غير مجزوم به ، وإلى أن أمر الهجرة مشدّد فيه ولو باستعمال الحيل والبحث عن مضايق السبل ، وبذا لا يخدع أحد ممن يحب وطنه نفسه ، فيعدّ ما ليس بمانع مانعا.
وهذا الرجاء الذي تفيده (عسى) بالنسبة إلى المخاطب ، أو إنها هنا للتهيئة والإعداد : أي إنه تعالى يعدّهم ويهيئهم لعفوه ، وفى هذا رمز إلى تعظيم أمر الهجرة ، وإلى أن تركها جرم عظيم ، وإلى أنه ينبغى أن يترصد لها الفرصة السانحة ويعلّق قلبه بها.
(وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً) أي وكان شأن اللّه تعالى العفو عن الذنوب التي لها أعذار صحيحة بعدم المؤاخذة عليها ، ومغفرتها بسترها وعدم فضيحة صاحبها فى الآخرة.
ثم رغب سبحانه فى أمر الهجرة ونشط المستضعفين لما جرت به العادة من أن الإنسان يتهيب الأمر المخالف لما اعتاده وأنس به ، ويتخيل مصاعب ومشقات لا توجد إلا فى خياله ، وأن ما يتصوره بعض الناس من عسر الهجرة لا محل له وأن عسرها إلى يسر فقال :
(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) أي إن من يهاجر فى سبيل اللّه : أي لقصد رضاه وإقامة دينه كما يجب وكما يحب اللّه تعالى ، يجد فى الأرض سبيلا يرغم به أنوف من كانوا مستضعفين له ، ومأوى يصيب فيه الخير والسعة فوق النجاة من الاضطهاد والذل.
وفى هذا وعد للمهاجرين فى سبيله بتسهيل سبل العيش لهم وإرغامهم أعداءهم والظفر بهم.(5/134)
ج 5 ، ص : 135
وبعد أن وعد سبحانه من يهاجر بالظفر بما يحب ، ومن وجدان السبل ميسورة أمامه ، ومن سعة العيش - وعد من يموت فى الطريق قبل وصوله دار الهجرة بالأجر العظيم الذي ضمنه له عز وجل إذا كان يقصد بهجرته رضا اللّه ونصرة رسوله فى حياته ، وإقامة سننه بعد وفاته ، وكان مستحقا لهذا الأجر ولو مات بعد أن تجاوز عتبة الباب ولو لم يصب تعبا ولا مشقة ، فإن نية الهجرة مع الإخلاص كافية لاستحقاقه له كما
فى الحديث « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى »
فقال :
(وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) وفى إبهام هذا الأجر وجعله حقا واجبا عليه تعالى إيذان بعظم قدره وتأكيد ثبوته ووجوبه ، وللّه تعالى أن يوجب على نفسه ما يشاء ، وليس لغيره أن يوجب عليه شيئا ، إذ لا سلطان فوق سلطانه.
وما أعظم الفارق بين هذا الوعد المؤكد وبين وعد تاركي الهجرة لضعف أو عجز بأنهم محل رجاء وطمع عند اللّه.
(وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان شأن اللّه الغفران أزلا وأبدا لأمثال هؤلاء المهاجرين الذين دعاهم إيمانهم لترك أوطانهم لإقامة دينه واتباع سبيله ، والرحمة الشاملة لهم بعطفه وإحسانه.
روى ابن جرير عن ابن جبير « أنها نزلت فى جندب بن ضمرة وكان بلغه قوله تعالى - إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم - الآية وهو بمكة حين بعث بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى مسلميها فقال لبنيه : احملوني فإنى لست من المستضعفين وإنى لأهتدى إلى الطريق ، وإنى لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير وتوجهوا به إلى المدينة ، وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم (موضع قرب المدينة) ولما أدركه الموت أخذ يصفق بيمينه على شماله ويقول : اللهم هذه لك وهذه لرسولك صلى اللّه عليه وسلم ، أبايعك على ما بايع عليه رسولك ، ولما بلغ خبر موته الصحابة رضي اللّه عنهم قالوا لبنيه مات بالمدينة فنزلت »
وروى غير ذلك.(5/135)
ج 5 ، ص : 136
وقد ذكر غير واحد من العلماء أن من سار لأمر فيه ثواب كطلب علم وحج وكسب حلال ومات قبل الوصول إلى المقصد فله هذا الحكم.
أخرج البيهقي عن أبى هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « من خرج حاجّا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ، ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ، ومن خرج غازيا فى سبيل اللّه فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة » .
السبب فى شرع الهجرة فى صدر الإسلام
شرعت الهجرة فى صدر الإسلام لأسباب ثلاثة تتعلق بحال الفرد وحال الجماعة :
1) البعد عن الاضطهاد فى أمور الدين بإقامة شعائره بحيث يكون المسلم حرا فى تصرفه كما يعتقد ، فكل شخص يظن أنه ربما يفتن عن دينه أو يكون ممنوعا من إقامته ، يجب عليه أن يهاجر منه إلى مكان لا خطر فيه على نفسه ولا على دينه ، فإن لم يفعل ذلك فقد ارتكب إثما كبيرا ، وحمل وزرا عظيما.
2) تلقى الدين والنفقة فيه ، وقد كان ذلك فى عصر النبي صلى اللّه عليه وسلم حين كان إرسال الدعاة والمرشدين من قبله متعذرا لتصدى المشركين لهم وحرمانهم من أداء وظائفهم لما لهم من القوة والبطش ، وهذا الحكم فى كل من يقيم ببلد ليس فيه علماء يقيمون أحكام الدين ، عليه أن يهاجر إلى بلد يتلقى فيه أمور دينه وأحكام شريعته.
3) أنه يجب على جماعة المسلمين أن تكون لهم دولة قوية تنشر دعوة الإسلام وتقيم أحكامه وحدوده وتحمى دعاته وأهله من عدوان العادين ، فإذا خيف على هذه الدولة من غارة الأعداء وجب على المسلمين أينما كانوا أن يشدوا أزرها حتى تقوى وتقوم بما يجب عليها ، مهما بعدت دارهم وشط مزارهم ، وإلا كانوا راضين بضعفها ومعينين لأعداء الإسلام على إبطال الدعوة وتشريد الدعاة.
وقد كانت هذه الأسباب موفورة قبل فتح مكة ، فلما يسرّ اللّه فتحها وقوى(5/136)
ج 5 ، ص : 137
الإسلام على الشرك فى جزيرة العرب كلها ودخل الناس فى دين اللّه أفواجا وأرسل النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى أطراف الجزيرة وغيرها من يعلّم الناس شرائع الإسلام زالت هذه الأسباب ،
وقد روى ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال « لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا » رواه أحمد والشيخان ،
وإذا وجد أحد الأسباب الثلاثة المتقدمة فى أي عصر وجبت الهجرة وأهمها اعتداء الكفار على بلاد المسلمين وخوف استيلائهم عليها.
[سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 103]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)
تفسير المفردات
ضربتم فى الأرض : أي سافرتم فيها ، لأن المسافر يضرب الأرض برجليه وعصاه أو بقوائم راحلته ، والقصر بالفتح من القصر (كعنب) ضد الطول ، وقصرت الشيء :(5/137)
ج 5 ، ص : 138
جعلته قصيرا ، والجناح : التضييق من جنح البعير إذا انكسرت جوانحه (أضلاعه) لثقل حمله ، يفتنكم : يؤذوكم بقتل أو غيره ، إقامة الصلاة : الذكر الذي يدعى به للدخول فيها ، والأسلحة : واحدها سلاح ، وهو كل ما يقاتل به كالسيف والخنجر والمسدس والبندقية من أسلحة العصر الحاضر ، قضيتم الصلاة : أي أديتموها ، فأقيموا الصلاة : أي ائتوا بها مقوّمة تامة الأركان والشروط ، كتابا موقوتا : فرضا منجما فى أوقات محدودة لا بد من أدائها فيها.
المعنى الجملي
كان الكلام فى سابق الآيات فى الجهاد والحثّ عليه لإقامة الدين وحفظه وإيجاب الهجرة لأجل ذلك ، وتوبيخ من لم يهاجر من أرض لا يقدر على إقامة دينه فيها ، والجهاد يستلزم السفر ، وذكر هنا أحكام من سافر للجهاد أو هاجر فى سبيل اللّه إذا أراد الصلاة وخاف أن يفتن عنها ، فبين أنه يجوز له أن يقصر منها وأن يصلى جماعتها بالطريقة التي ذكرت فى الآية الثانية من هذه الآيات.
الإيضاح
(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وإذا سافرتم أىّ سفر فليس عليكم تضييق ولا ميل عن محجة الدين إذا قصرتم الصلاة : أي تركتم شيئا منها فتكون قصيرة ، بشرط أن تخافوا فتنة الكافرين لكم بالقتل أو الأسر أو غيرهما ، وليس هذا خاصا بزمن الحرب بل إذا خاف المصلى قطاع الطريق كان له أن يقصر هذا القصر ، وليس هذا هو قصر الصلاة الرباعية فى السفر المبين فى كتب الفقه ، إذ هذا مأخوذ من السنة المتواترة بل المراد هنا القصر فى صلاة الخوف المذكور فى الآية الأولى والمبين في الآية التي بعدها وفى سورة البقرة بقوله تعالى « فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً » .
فالآية التي هنا بصدد القصر من عدد الركعات بأن تصلى طائفة مع الإمام ركعة(5/138)
ج 5 ، ص : 139
واحدة فإذا أتمتها تأتى الطائفة الأخرى وهى التي كانت تحرس الأولى فتصلى معه الركعة الثانية ، وآية البقرة فى القصر من هيئة الصلاة بالترخيص فى عدم إقامة صورتها ، بأن يكتفى المشاة والركبان بالإيماء عن الركوع والسجود.
صلاة القصر فى السفر وشرطها
كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يصلى الظهر والعصر والعشاء فى السفر ركعتين ركعتين وكذلك فعل أبو بكر وعمر وسائر الصحابة ،
ففى صحيح البخاري عن ابن عمر رضى اللّه عنهما قال : صحبت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكان فى السفر لا يزيد على ركعتين ، وأبا بكر وعمر وعثمان - يعنى فى صدر خلافته ، وإلا فعثمان قد أتم فى آخر خلافته وكان ذلك أحد الأسباب التي أنكرت عليه ، وقد خرّج لفعله تأويلات اه.
قال ابن القيم وأحسن ما اعتذر به عن عثمان أنه قد تزوج بمنى ، والمسافر إذا أقام فى موضع وتزوج فيه أتم صلاته فيه وهو قول الحنفية والمالكية.
وقد روى الشيخان عن عائشة قالت « فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فلما هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة زيد فى صلاة الحضر وأقرّت صلاة السفر » .
وقال عمر بن الخطاب : صلاة السفر ركعتان ، والجمعة ركعتان ، والعيد ركعتان ، تمام غير قصر على لسان محمد صلى اللّه عليه وسلم وقد خاب من افترى ، وكان قد سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم ما بالنا نقصر ؟ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « صدقة تصدق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته » .
وقال أمية بن خالد لعبد اللّه بن عمر : إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف فى القرآن ولا نجد صلاة السفر فى القرآن (يعنى صلاة الرباعية ركعتين) فقال له ابن عمر : يا أخى إن اللّه بعث محمدا صلى اللّه عليه وسلم ولا نعلم شيئا فإنما نفعل كما رأينا محمدا صلى اللّه عليه وسلم يفعل.
فالحق ما عليه الحنفية وغيرهم من وجوب القصر فى السفر خلافا للشافعية الذين أجازوا الإتمام.(5/139)
ج 5 ، ص : 140
وشرط القصر فى الصلاة والإفطار فى رمضان أن يكون السفر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشى الأقدام بالاقتصاد فى البر وجرى السفينة والريح معتدلة فى البحر ،
لحديث أنس أنه قال حين سئل عن قصر الصلاة « كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أيام أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين » رواه أحمد ومسلم وأبو داود ،
وقدره الشافعي بمسيرة يومين ، وحقق المرحوم أحمد الحسيني بك فى كتابه [دليل المسافر] أن هذه المسافة تقدر بنحو 81 ك م عند الحنفية ، وبنحو 89 ك م لدى الشافعية والمالكية والحنابلة ، وعلى هذا فالمسافر من القاهرة إلى طنطا فما فوقها يقصر الصلاة عند الحنفية لأن المسافة بينهما 87 ك م وإلى المحطة التي تليها (شبر النملة) لدى المذاهب الثلاثة لأن المسافة بينهما 93 ك م.
كيفية صلاة الخوف
ثم بين سبحانه ما قبله من النص المجمل الوارد فى مشروعية القصر وبيان كيفيته عند الضرورة ، وذكر هذا البيان فى القرآن واكتفى فيما عداه بالبيان بطريق السنة لمزيد الحاجة إليه ، لما فيه من كثرة التغيير عن الهيئة الأصلية فقال :
(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) أي وإذا كنت أيها الرسول فى جماعتك من المؤمنين وأردت أن تقيم بهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك بعد أن تجعلهم طائفتين ، ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدوّ يحرسون المصلين خوفا من الاعتداء ، وليحمل الذين يقومون معك فى الصلاة أسلحتهم ولا يدعوها وقت الصلاة ، لئلا يضطروا إلى المكافحة عقبها مباشرة أو قبل إتمامها فيكونوا مستعدين لها.
(فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) أي فإذا سجد الذين يقومون معك فى الصلاة فليكن الذين يحرسونكم من خلفكم ، إذ أحوج ما يكون المصلّى للحراسة حين السجود لأنه لا يرى من يهمّ به.(5/140)
ج 5 ، ص : 141
ويجب حينئذ أن يكون الباقون مستعدين للقيام مقامهم والصلاة مع النبي صلى اللّه عليه وسلم كما صلوا ، وهو قوله :
(وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) أي ولتأت الطائفة الأخرى الذين لم يصلوا لاشتغالهم بالحراسة فليصلوا كما صلت الطائفة الأولى ، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم فى الصلاة كما فعل الذين من قبلهم.
وحكمة الأمر بالحذر للطائفة الثانية أن العدوّ قلّما يتنبه أول الصلاة لبدء المسلمين فيها ، إذ هو إذا رآهم صفا ظن أنهم قد اصطفوا للقتال واستعدوا للحرب والنزال ، فإذا رآهم سجدوا علم أنهم فى صلاة ، فيخشى أن يميل على الطائفة الأخرى عند قيامها فى الصلاة كما يتربص ذلك بهم عند كل غفلة.
وقد بين اللّه تعالى علة الأمر بأخذ الحذر والسلاح حتى فى الصلاة بقوله :
(وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) أي تمنى أعداؤكم الذين كفروا باللّه وبما أنزل عليكم لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم التي بها بلاغكم فى سفركم بأن تشغلكم صلاتكم عنها فيميلون حينئذ عليكم ويحملون حملة واحدة وأنتم مشغولون بالصلاة واضعون السلاح تاركون حماية المتاع والزاد فيصيبون منكم غرّة فيقتلون من استطاعوا قتله وينتهبون ما استطاعوا نهبه فلا تغفلوا عنهم.
وقد يعرض لبعض المحاربين أعذار يشق فيها حمل السلاح ومن ثم رخص فى تركه لصاحب العذر فقال :
(وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) أي ولا إثم عليكم فى وضع أسلحتكم إذا أصابكم أذى من مطر تمطرونه فيشق عليكم حمل السلاح مع ثقله فى ثيابكم ، وربما أفسد الماء السلاح إذ يجعله يصدأ ، أو إذا كنتم مرضى بالجراح أو غير الجراح من العلل ، ولكن يجب عليكم فى جميع الأحوال أن تأخذوا حذركم ولا تغفلوا عن أنفسكم ولا عن أسلحتكم وأمتعتكم ، فإن عدوكم لا يغفل عنكم ولا يرحمكم ، والضرورات تقدر بقدرها.(5/141)
ج 5 ، ص : 142
(إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) بما هداكم إليه من أسباب النصر بأخذ الأهبة والحذر والاعتصام بالصبر والصلاة رجاء ما عند اللّه من المثوبة والأجر.
فهذا العذاب المهين هو عذاب غلب المسلمين وانتصارهم عليهم إذا قاموا بما أمرهم اللّه تعالى به ، ويؤيده قوله تعالى « فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ » وقوله : « قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ » .
روى البخاري أن هذه الرخصة التي فى الآية نزلت فى عبد الرحمن بن عوف وكان جريحا ، وروى أحمد والحاكم والبيهقي عن ابن عياش الزرقي قال « كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى عسفان فاستقبلنا المشركون وعليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا النبي صلى اللّه عليه وسلم الظهر فقالوا قد كانوا على حال لو أصبنا غرّتهم ثم قالوا يأتى عليهم الآن صلاة هى أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم فنزل جبريل بين الظهر والعصر بهذه الآيات (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) » الحديث ،
و
قد روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم ذات الرقاع « أن طائفة صفت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم وطائفة وجاه العدو (اتجاهه مراقبة له) فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو ، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة الثانية التي بقيت من صلاته فأتموا فسلم بهم »
وسميت هذه الغزوة ذات الرقاع ، لأنها نقبت أقدامهم فلفوا على أرجلهم الرقاع والخرق.
وقد قال بهذه الصلاة أفقه الصحابة عليهم الرضوان على وابن عباس وابن مسعود وابن عمرو وزيد بن ثابت وأبو هريرة وأبو موسى ، ومن فقهاء الأمصار مالك والشافعي وغيرهما.
(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) أي فإذا أديتم الصلاة على هذه الصورة فاذكروا اللّه تعالى فى أنفسكم بتذكر وعده بنصر من ينصرونه(5/142)
ج 5 ، ص : 143
فى الدنيا ونيل الثواب فى الآخرة ، وبألسنتكم بالحمد والتكبير والدعاء وعلى كل حال تكونون عليها من قيام فى المسابقة والمقارعة ، وقعود للرمى أو المصارعة ، واضطجاع من الجراح أو المخادعة ، فذكر اللّه مما يقوّى القلوب ويعلى الهمم ، ويجعل متاعب الدنيا حقيرة ومشاقها سهلة ، والثبات والصبر يعقبهما الفلاح والنصر كما قال تعالى فى سورة الأنفال « إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » .
والخلاصة : إننا أمرنا بالذكر على كل حال نكون عليها فى الحرب كما يدل على ذلك السياق ، فأجدر بأن نؤمر به فى حال السلم ، إلى أن المؤالنين فى جهاد مستمر وحروب دائمة ، فهم تارة يجاهدون الأعداء ، وأخرى يجاهدون الأهواء ، ومن ثم أمرهم اللّه بالذكر فى كثير من الآي كقوله « الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ » لما فى ذلك من تربية النفس وصفاء الروح وتذكر جلال اللّه وعظمته ، وأن كل شىء هيّن فى سبيله وابتغاء مرضاته.
وقد روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال : لا يفرض اللّه على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء معلوما ، ثم عذر أهلها فى حال العذر ، غير الذكر فإن اللّه لم يجعل له حدا ينتهى إليه ولم يعذر أحدا فى تركه ، إلا مغلوبا على عقله فقال : فاذكروا اللّه قياما وقعودا وعلى جنوبكم : أي بالليل والنهار فى البر والبحر ، وفى السفر والحضر ، والغنى والفقر ، والسقم والصحة ، والسر والعلانية ، وعلى كل حال اه.
(فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) الاطمئنان : السكون بعد اضطراب وانزعاج : أي فإذا سكنت قلوبكم من الخوف وأمنتم بعد أن تضع الحرب أوزارها فأدوا الصلاة بتعديل أركانها ومراعاة شرائطها ولا تقصروا من هيئتها كما أذن لكم حال الخوف.
ثم علل وجوب المحافظة على الصلاة حتى فى وقت الخوف ولو مع القصر منها فقال (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) يقال وقت العمل يقته ووقته توقيتا إذا جعل له وقتا يؤدّى فيه : أي إن الصلاة كانت فى حكم اللّه فرضا مؤكدا فى أوقات(5/143)
ج 5 ، ص : 144
محدودة لا بد من أدائها فيها بقدر الإمكان ، فأداؤها فى أوقاتها مع القصر بشرطه خير من تأخيرها لتؤدى تامة كاملة.
والحكمة فى توقيتها فى تلك الأوقات المعلومة أن الأشياء إن لم يكن لها وقت معين لا يحافظ عليها الجم الغفير من الناس.
إلى ما فى هذا النوع من الذكر المهذب للنفس من التربية العملية للأمة الإسلامية ، بأن تلتزم أداء أعمالها فى أوقات معينة مع عدم الهوادة فيها ، ومن قصر فيها فى تلك الأوقات الخمسة فى اليوم والليلة فهو جدير بأن ينسى ربه ويغرق فى بحار الغفلة.
ومن قوى إيمانه وزكت نفسه لا يكتفى بهذا القدر القليل من ذكر اللّه ومناجاته بل يزيد عليه من النوافل ما شاء اللّه أن يزيد.
والخلاصة : إن الصلوات الخمس إنما كانت موقوتة لتكون مذكرة للمؤمن بربه فى الأوقات المختلفة ، لئلا تحمله الغفلة على الشر أو التقصير فى الخير ، ولمن يريد الكمال فى النوافل والأذكار أن يختار الأوقات التي يرى أنها أوفق بحاله.
[سورة النساء (4) : آية 104]
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)
تفسير المفردات
الوهن : الضعف ، والابتغاء : الطلب.
المعنى الجملي
كان الكلام فيما سلف فى شأن الحرب وما يقع فيها ، وبيان كيفية الصلاة فى أثنائها ، وما يلاحظ فيها إذا كان العد ومتأهبا للحرب من اليقظة وأخذ الحذر وحمل(5/144)
ج 5 ، ص : 145
السلاح فى أثنائها ، وبين فى أثناء السياق شدة عداوة الكفار لهم وتربصهم غفلتهم وإهمالهم ليوقعوا بهم.
وهنا نهى عن الضعف فى لقائهم ، وأقام الحجة على كون المشركين أجدر بالخوف منهم ، لأن ما فى القتال من الألم والمشقة يستوى فيه المؤمن والكافر ، ويمتاز المؤمن بأن له من الرجاء فى ربه ما ليس عند الكافر ، فهو يرجو منه النصر والمعونة ، ويعتقد أنه قادر على إنجاز وعده ، كما يرجو منه المثوبة على حسن بلائه فى سبيله وقوة الرجاء تخفف الآلام ، وتنسيه التعب والنّصب.
الإيضاح
(وَ لا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) أي ولا تضعفوا فى طلب القوم الذين ناصبوكم العداوة بل عليكم أن تستعدوا لقتالهم بعد الفراغ من الصلاة مع أخذ الحذر وحمل السلاح عند أدائها ، وذلك فى معنى الأمر بالهجوم.
وسرّ هذا أن الذي يوجه همته إلى المهاجمة تشتد عزيمته وتعلو همته ، أما الذي يلتزم الدفاع فحسب فإنه يكون خائر العزيمة ضعيف القوة.
(إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) أي إن ما ينالكم من الآلام ينالهم منه مثله ، فهم بشر مثلكم ، وهم مع هذا يصبرون ، فما لكم لا تصبرون وأنتم أولى منهم بالصبر ؟ وبين سبب هذا بقوله :
(وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ) من ظهور دينكم الحق على سائر الأديان الباطلة ومن الثواب الجزيل والنعيم المقيم فى الآخرة.
إلى أنه تعالى قد وعدكم إحدى الحسنيين النصر : أو الجنة بالشهادة إذا نصرتم دينه ودافعتم عن حماه ، وهذا الوعد من الرحمن مع خلوص الإيمان يدعوان إلى الرجاء والأمل ويضاعفان العزيمة ، ويحثان صاحبهما على العمل بصبر وثبات.
أما اليائس من هذا الوعد الكريم فإنه يكون ضعيف العزيمة ميت الهمة ،(5/145)
ج 5 ، ص : 146
يغلب عليه الجزع والفتور ، فإن تساويتم فى الآلام فقد فضلتموهم فى الثقة بحسن العاقبة ، فأنتم أجدر منهم بالإقدام والجرأة.
(وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) وقد ثبت فى واسع علمه ومضت به سننه أن العاقبة للمتقين والنصرة لهم على الكافرين ، ماداموا عاملين بهديه سائرين على الطريق التي وضعها لنصرة الحق على الباطل من الأخذ بالأسباب وكثرة العدد والغدد ، فإذا هم فعلوا ذلك كانوا أشد منهم قتالا وأحسن منهم نظاما ، وبذا يفوزون بالمطلوب وبحسن العاقبة.
[سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 113]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)(5/146)
ج 5 ، ص : 147
تفسير المفردات
بما أراك اللّه : أي بما عرّفك وأوحى به إليك ، خصيما : أي تخاصم وتناضل عنهم ، يختانون أنفسهم : يخونونها ويتكلفون ما يخالف الفطرة مما يعود عليهم بالضرر ، والمجادلة أشد المخاصمة ، والوكيل : هو الذي يوكل إليه الأمر فى الحفظ والحماية ، والمراد بالسوء هنا :
ما يسوء الإنسان به غيره ، وبالظلم : ما كان ضرره خاصا بالعامل كالحلف الكاذب ، والاستغفار : طلب المغفرة من اللّه مع الشعور بقبح الذنب والتوبة منه ، والكسب :
ما يجرّ منفعة أو يدفع مضرة ، والإثم الذنب ، والخطيئة : الذنب غير المتعمد ، والإثم ما يصدر عنه مع ملاحظة أنه ذنب ، يرم به : أي يقذفه به ويسنده إليه ، احتمل : كلف نفسه أن تحمل ، والبهتان : الكذب على غيرك بما يبهت منه ويتحير عند سماعه.
المعنى الجملي
بعد أن حذر اللّه المؤمنين من المنافقين أعداء الحق وأمرهم أن يستعدوا لمجاهدتهم خوف أن يطمسوا معالم الحق ويهلكوا أهله - أمرهم هنا أن يقوموا بحفظ الحق وألا يحابوا فيه أحدا.
روى ابن جرير عن قتادة : أن هؤلاء الآيات أنزلت فى شأن طعمة بن أبيرق وكان رجلا من الأنصار ، ثم أحد بنى ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ، ثم قذفها على يهودى كان يغشاهم يقال له زيد بن السمين ، فجاء اليهودي إلى نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم يهتف ، فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر ، جاءوا إلى نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبى اللّه عليه الصلاة السلام قد همّ بقبول عذره حتى أنزل(5/147)
ج 5 ، ص : 148
اللّه فى شأنه (وَلا تُجادِلْ)
إلخ وكان طعمة قذف بها بريئا ، فلما بين اللّه شأن طعمة نافق ولحق بالمشركين بمكة فأنزل اللّه فيه (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) الآية » .
الإيضاح
(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ) أي إنا أنزلنا إليك هذا القرآن بتحقيق الحق وبيانه ، لأجل أن تحكم بين الناس بما أعلمك اللّه به من الأحكام.
(وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) أي ولا تكن لمن خان خصما : أي مخاصما ومدافعا تدافع عنه من طالبه بحقه الذي خان فيه.
وخلاصة ذلك - إن عليك ألا تتهاون فى تحرى الحق اغترارا بلحن الخائنين وقوة جدلهم فى الخصومة ، لئلا تكون خصيما لهم وتقع فى ورطة الدفاع عنهم ، ويؤيد هذا
حديث أم سلمة « إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلىّ ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى بنحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار » .
(وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ) مما يعرض لك من شؤون البشر وأحوالهم بالميل إلى من تراه ألحن بحجته ، أو الركون إلى مسلم لأجل إسلامه تحسينا للظن به ، فهذا ونحوه صورته صورة من أتى ذنبا يوجب الاستغفار وإن لم يكن متعمدا للزيغ عن العدل ، والتحيز للخصم.
وفى هذا من زيادة الحرص على الحق والتشديد فيه ما لا يخفى ، حتى كأن مجرد الالتفات إلى قول المخادع يجب الاحتراس منه.
كما أن فيه إيماء إلى أن الاعتقاد الشخصي والميل الفطري والديني لا ينبغى أن يظهر لهما أثر فى مجلس القضاء ، وإلى أن القاضي لا يساعد من يظن أنه صاحب الحق ، بل عليه أن يساوى بين المتخاصمين فى كل شىء.
والنبي صلى اللّه عليه وسلم لم يحكم فى هذه القضية قبل نزول الآيات ولم يعمل بغير ما يعتقد أنه تأييد للحق ، لكنه أحسن الظن فى أمر بيّن له علام الغيوب حقيقة الواقع فيه ، وما ينبغى له أن يعامل به ذويه.(5/148)
ج 5 ، ص : 149
ثم رغبهم فى المغفرة فقال :
(إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي إنه تعالى مبالغ فى المغفرة والرحمة لمن استغفره.
(وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ)
هذا الخطاب وجه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو أعدل الناس وأكملهم مبالغة فى التحذير من هذه الخلة المعهودة فى كثير من الحكام ، وسمى خيانة غيرهم خيانة لأنفسهم ، لأن ضررها عائد إليهم ، والذين يختانون هم هذا السارق ومن عاونه ، لأنه شريك له فى الإثم والخيانة ، ولهم نظراء فى كل زمان ومكان.
وخلاصة المعنى - لا تدافع عن هؤلاء الخونة ولا تساعدهم عند التخاصم.
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً)
المراد بعدم الحب البغض والسخط : أي إن اللّه يبغض من اعتاد الخيانة وألفت نفسه اجتراح السيئات وضريت عليها ولم يعدّ للعقاب الإلهىّ الرهبة والخشية التي ينبغى أن يفكّر مثله فيها ، وإنما يحب اللّه أهل الأمانة والاستقامة.
ثم بين أحوال الخائنين ، ونعى عليهم أفعالهم فقال :
(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ)
أي إن شأن هؤلاء الخوانين أنهم يستترون من الناس عند اجتراحهم الآثام إما حياء وإما خوفا من ضررهم ، ولا يستترون من اللّه ولا يستحيون منه بتركها لضعف إيمانهم ، إذ الإيمان يمنع من الإصرار وتكرار الذنب ولا تقع الخيانة من صاحبه إلا عن غفلة أو جهالة عارضة لا تدوم ، فمن يعلم أن اللّه يراه فى حنادس الظلمات لا بد أن يترك الذنب والخيانة حياء منه تعالى وخوفا من عقابه ، وهو تعالى شاهدهم حين يدبرون ليلا ما لا يرضى من القول ، تبرئة لأنفسهم ورمى غيرهم بجريمتهم.
ثم توعدهم على عظيم جرمهم فقال :
(وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً)
أي حافظا لأعمالهم ، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض ، فلا سبيل إلى نجاتهم من عقابه.
ثم حذر المؤمنين من مساعدة هؤلاء الخوانين والحدب عليهم فقال :(5/149)
ج 5 ، ص : 150
(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا)
أي يا هؤلاء أنتم جادلتم عنهم وحاولتم تبرئتهم فى الحياة الدنيا ، فمن يجادل اللّه عنهم يوم القيامة ، يوم يكون الخصم والحاكم هو اللّه تعالى المحيط بأعمالهم وأحوالهم وأحوال الخلق كافة ؟ أي فلا يمكن أن يجادل هناك أحد عنهم ولا أن يكون وكيلا بالخصومة لهم ، فعلى المؤمنين أن يراقبوا اللّه تعالى فى مثل ذلك ولا يظنوا أن من أمكنه أن ينال الفوز والحكم له وأخذه من قضاة الدنيا بغير حق ، يمكنه أن يظفر به فى الآخرة « يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ » .
فى الآية إيماء إلى أن حكم الحاكم فى الدنيا لا يجيز للمحكوم له أن يأخذ به إذا علم أنه حكم له بغير حقه ، كما أن فيها توبيخا وتقريعا لأولئك الذين أرادوا مساعدة بنى أبيرق على اليهودي.
ثم رغب فى التوبة من الذنوب وحث عليها فقال :
(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً)
أي ومن يعمل قبيحا يسوء به غيره ، أو يظلم نفسه بفعل معصية تختص به كالحلف الكاذب يجد اللّه غفارا لذنوبه ، رحيما متفضلا عليه بالعفو والمغفرة.
وفى ذلك حث وترغيب لطعمة وقومه فى التوبة والاستغفار ، كما أن فيها بيانا للمخرج من الذنب بعد وقوعه ، وفيها تحذير من أعداء الحق والعدل الذين يحاولون هدمهما ، وهما أسس الشرائع.
والمراد بوجدان اللّه غفورا رحيما : هو أن التائب المستغفر يجد أثر المغفرة فى نفسه بكراهة الذنب وذهاب داعيته ويجد أثر الرحمة بالرغبة فى الأعمال الصالحة التي تطهر النفس وتزيل الدّرن منها.
ثم حذر من فعل الذنوب والآثام وذكر عظيم ضرها فقال :
(وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ)
أي ومن يعمل الإثم وير أنه قد كسبه وانتفع به فإنما كسبه وبال على نفسه وضرر لا نفع له فيه ، كما يخطر على بال من يجهل عواقب الآثام فى الدنيا والآخرة ، من فضيحة للآثم ومهانة له بين الناس وعند الحاكم(5/150)
ج 5 ، ص : 151
العادل كما وقع لأصحاب هذه القصة الذين نزلت فى شأنهم هذه الآيات ، ومن خزى فى الآخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم.
(وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)
أي إنه تعالى بعلمه الواسع حدد للناس شرائع يضرهم تجاوزها ، وبحكمته جعل لها عقابا يضر المتجاوز لها ، فهو إذا يضر نفسه ولا يضر اللّه شيئا.
(وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً)
أي ومن يكسب ذنبا خطأ بلا تعمد أو إثما يصدر عنه مع ملاحظة أنه ذنب ثم يبرئ نفسه وينسبه إلى برىء ويزعم أنه هو الذي كسبه فقد كلف نفسه وزر البهتان بافترائه على البريء واتهامه إياه.
وقد فشا هذا بين المسلمين فى هذا الزمان ، ولم يكن لهذا من سبب إلا ترك هداية الدين وقلة الوازع النفسي والغفلة عن الأوامر والنواهي التي جاءت بها الشريعة.
وبعد أن ذكر المختانين أنفسهم ومحاولتهم زحزحة الرسول صلوات اللّه عليه عن الحق ، بين فضله ونعمته عليه فقال :
(وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ)
أي إنه تعالى بفضله ورحمته عليك صرف نفوس الأشرار عن الطمع فى إضلالك والهمّ بذلك ، لأنه إذا توجهت همتهم إلى التلبيس على شخص ومحاولة صرفه عن الحق ، احتاج إلى طائفة من الوقت لمقاومتهم وكشف حيلهم وتمييز تلبيسهم حتى تمحص الحقائق وينجلى الرشد من الغىّ ، فيضيع وقت هو فى أشد الحاجة إليه لصرفه فى عمل نافع ، ومن ثم تفضل على نبيه صلى اللّه عليه وسلم ورحمه بصرف كيد الأشرار عنه وزحزحته عن صراط اللّه الذي أقامه عليه.
والخلاصة - إنه لولا فضل اللّه عليك بالنبوة والتأييد بالعصمة ورحمته لك ببيان حقيقة الواقع لهمت طائفة منهم أن يضلوك عن الحكم العادل المنطبق على حقيقة القضية فى نفسها ، ولكنهم قبل أن يطمعوا فى ذلك ويهموا به جاءك الوحى ببيان الحق وإقامة أركان العدل والمساواة فيه بين جميع الخلق.(5/151)
ج 5 ، ص : 152
(وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ)
بانحرافهم عن الصراط السوىّ الذي هداهم الإسلام إليه (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ)
وقد عصمك اللّه من الناس ومن اتباع الهوى فى الحكم بينهم.
(وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)
علمت مما سلف أن الكتاب هو القرآن ، والحكمة : فقه مقاصد الدين وأسراره ووجه موافقتها للفطرة وانطباقها على ستن الاجتماع البشرى ومصالح الناس فى كل زمان ومكان.
(وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ)
من الكتاب والشريعة ، وخصوصا ما تضمنته هذه الآيات من العلم بحقيقة الواقعة التي تخاصم فيها بعض المسلمين مع اليهودي.
(وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)
إذ أرسلك للناس كافة ، وجعلك خاتم النبيين ، واختصك بنعم كثيرة ومزايا لا تدخل تحت حصر ، فيجب أن تكون أعظم الناس شكرا له ، كما يجب على أمتك مثل ذلك ليكونوا خير أمة أخرجت للناس قدوة لغيرهم فى جميع الخيرات.
[سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 115]
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115)
تفسير المفردات
النجوى : المسارّة بالحديث ، أو هو جمع واحده نجىّ بمعنى المتناجين : أي المتسارّين المعروف : ما تعرفه النفوس وتقره وتتلقاه بالقبول ، وبغى الشيء : طلبه ، والمشاقّة : المعاداة(5/152)
ج 5 ، ص : 153
والمخالفة مأخوذة من الشّق كأن كل واحد من المتعاديين يكون فى شق غير الذي فيه الآخر.
المعنى الجملي
لا يزال الحديث فى الذين يختانون أنفسهم ويستخفون من الناس ولا يستخفون من اللّه ، وهم طعمة بن أبيرق ومن أراد مساعدته من بنى جلدته.
الإيضاح
(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) أي لا خير فى كثير من تناجى أولئك الذين يسرّون الحديث من جماعة طعمة الذين أرادوا مساعدته على اتهام اليهودي وبهته ومن سائر الناس ، ولكن الخير كل الخير فى نجواى ، من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ، وإنما قال فى كثير لأن من النجوى ما يكون فى الشؤون الخاصة كالزراعة والتجارة مثلا فلا توصف بالشر ولا هى مقصودة من الخير ، وإنما المراد بالنجوى الكثيرة المنفي عنها الخير هى النجوى فى شؤون الناس ومن ثم استثنى منها الأشياء الثلاثة التي هى جماع الخير للناس.
والكتاب الحكيم يجعل النجوى مظنّة الإثم والشر ، ومن ثم خاطب اللّه المؤمنين بقوله « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ » .
والسرّ فى كون النجوى مظنة الشر فى الأكثر أن العادة قد جرت بحب إظهار الخير والتحدث به فى الملأ. وأن الشر والإثم هو الذي يذكر فى السر والنجوى ،
وفى الأثر « الإثم ما حاك فى النفس وكرهت أن يطّلع عليه الناس » .
وقد استثنى اللّه من النجوى التي لا خير فى أكثرها أمورا ثلاثة ، لأن خيريتها أو كمالها تتوقف على الكتمان وجعل التعاون عليها سرا والحديث فيها نجوى.(5/153)
ج 5 ، ص : 154
فالصدقة وهى من الخير قد يؤذى إظهارها المتصدّق عليه ويضع من كرامته ، ومن ثم قال عز من قائل « إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ » .
وقد يكون الجهر بالأمر بها والحث عليها أشد إيذاء وإهانة من إيتائه إياها جهرا ولومع الإخلاص وابتغاء مرضاة اللّه.
وكذلك الأمر بالمعروف على مسمع من الناس فكثيرا ما يستاء منه المأمور به ولا سيما إذا كان الآمر من أقرانه لأنه يرى فى أمره إياه استعلاء عليه بالعلم والفضل وإبهاما له بالتقصير أو الجهل ، فمن ثم كانت النجوى به أبعد عن الإيذاء ، ومثله الإصلاح بين الناس ، فإنه ربما ترتب على إظهاره والتحدث به كثير من الشر ، ألا ترى أن بعض الناس إذا علم أن ما يطالب به من الصلح كان بأمر فلان من الناس لا يستجيب ولا يقبل ، أو يصده عن الرضا به ذكره بين الناس وعلمه بأنه كان بسعى وتواطؤ.
أخرج البيهقي عن أبى أيوب الأنصاري : أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال له « يا أبا أيوب ، ألا أدلك على صدقة خير لك من حمر النّعم ؟ فقال بلى يا رسول اللّه ، قال تصلح بين الناس إذا تفاسدوا ، وتقرّب بينهم إذا تباعدوا »
وعن عبد اللّه بن عمر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « أفضل الصدقة إصلاح ذات البين » .
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي ومن يفعل هذه الأعمال الثلاثة من الطاعات لوجه اللّه وطلب مرضاته فإن اللّه سيؤتيه الثواب العظيم والأجر الجزيل ، وإنما تنال مرضاة اللّه بالشيء إذا فعل على الوجه الذي يحصل به الخير ويتم به النفع الذي شرع لأجله ، وبذا ترقى روح الفاعل له ارتقاء تصل به إلى ذلك الفضل وتنال قربا معنويا من اللّه وتصير أهلا للجزاء الأوفى فى حياة أشرف من هذه الحياة وأرقى.(5/154)
ج 5 ، ص : 155
والخلاصة - إن ابتغاء مرضاته إنما تطلب بالإخلاص وعدم إرادة السمعة والرياء كما يفعل المتفاخرون من الأغنياء (تصدقنا. أعطينا منحنا. عملنا وعملنا) فهؤلاء إنما يبتغون الربح بما يبذلون أو يعملون لا مرضاة للّه تعالى. ولذلك يشق عليهم أن بكون خفيا ، وأن يخلصوا فى الحديث عنه نجيّا ، لأن الاستفادة منه بجذب القلوب إليهم ، وتسخير الناس لخدمتهم ، ورفعهم لمكانتهم ، إنما تكون بإظهاره لهم ليتعلق الرجاء فيهم.
وبعد أن وعد اللّه بالجزاء الحسن من يتناجون بالخير ويبتغون نفع الناس مرضاة اللّه عز وجل - أوعد الذين يتناجون بالشر ويبيّتون ما يكيدون به للناس فقال :
(وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) أي ومن يشاقق الرسول بارتداده عن الإسلام وإظهار عداوته له من بعد ما ظهرت له الهداية على لسانه وقامت عليه الحجة ويتبع سبيلا غير سبيل أهل الهدى - نوله ما تولى : أي نتركه وما اختار لنفسه ونكله إلى ما توكل عليه.
وفى هذا بيان لسنة اللّه فى عمل الإنسان ، وإيضاح لما أوتيه من الإرادة والاستقلال والعمل بالاختيار ، فالوجهة التي يتولاها ويختارها لنفسه يوليه اللّه إياها : أي يجعله واليا لها وسائرا على طريقها ، فلا يجد من القدرة الإلهية ما يجبره على ترك ما اختار لنفسه بحسب الاستعداد والإدراك وعمل ما يرى أنه خير له وأنفع فى عاجله أو آجله أو فيهما معا ، ثم ندخله جهنم ونعذبه أشد العذاب ، لأنه استحب العمى على الهدى وعاند الحق واتبع الهوى ، وما أقبحها عاقبة لمن تفكر وتدبر! وقد اشترط فى هذا الوعيد أن يتبين له الهدى أما من لم يتبين له فلا يدخل فيه وهم أصناف : فمنهم من نظر فى الدليل ولم يظهر له الحق وبقي متوجها إلى طلبه بتكرار النظر والاستدلال مع الإخلاص وهذا معذور غير مؤاخذ ، ومنهم من لم تبلغه الدعوة الإسلامية أو بلغته مشوهة معكوسة ككثير من أهل أوربا فى العصر الحاضر ، وحال هؤلاء كحال من سبقهم ، ومنهم من اتبع الهدى تقليدا لمن يثق به كآبائه وخاصة أهله ،(5/155)
ج 5 ، ص : 156
وهذا لم يتبين له الهدى ، ولذلك يتركه إلى كل ما يقره عليه أهله ورؤساؤه من البدع والضلالات.
[سورة النساء (4) : الآيات 116 الى 122]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120)
أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)
تفسير المفردات
يدعون : أي يتوجهون ويطلبون منها المعونة لهيبة غيبية لا يعقل الإنسان معناها ، إلا إناثا : أي أمواتا ، والعرب تطلق على الميت أنثى لضعفه وعجزه ، والشيطان هو الخبيث المؤذى من الجن والإنس ، والمريد والمارد من مرد على الشيء إذا مرن عليه حتى صار يأتيه بلا تكلف ، والمراد أنه مرد على الإغواء والإضلال أو تمرد واستكبر عن الطاعة ، واللعن :
هو الطرد والإبعاد مع السخط والإهانة ، والنصيب : الحصة والسهم من الشيء ، والمفروض :
المعيّن ، والأمانى : جمع أمنية ، يقال تمنى الشيء إذا أحب أن يكون له وإن لم يتخذ له أسبابه ، والتمني : تقدير شىء فى النفس وتصويره فيها سواء أ كان عن تخمين وظن أم كان عن رؤية وبناء على أصل ، ولكنه يغلب فيما يبنى على الحدس والتخمين وما لا حقيقة له ،(5/156)
ج 5 ، ص : 157
البتك : القطع ، وسيف باتك : أي قاطع والتبتيك : التقطيع ، والغرور : الباطل ، والمحيص المهرب والمخلص ، يقال : وقعوا فى حيص بيص وفى حاص باص : أي فى أمر يعسر التخلص منه.
المعنى الجملي
علمت فيما سلف أن قوله تعالى : إنا أنزلنا إليك إلخ نزلت فى شأن طعمة بن أبيرق سارق الدرع ورميه اليهودي بسرقته ، وأن قوله : ومن يشاقق الرسول إلخ نزلت فى ارتداده عن الدين ولحوقه بالمشركين ، وهنا ذكر أنه لو لم يرتد لم يكن محروما من رحمة اللّه ولكنه بارتداده صار بينه وبين رحمته حجاب أيما حجاب فإن كل ذنب يجوز أن يغفره اللّه للناس إلا ذنب الشرك ، فإن صاحبه مطرود من عفوه ورحمته.
الإيضاح
(إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)/ 116 تقدم هذا النص بعينه فى غرض آخر من هذه السورة ، وأعاد هنا مرة أخرى ، لأنه إنما ترجى الهداية والموعظة بإبراز المعاني التي يراد إيداعها فى نفوس السامعين فى كل سياق يقصد فيه توجيها إليها وإعدادها لقبولها ، ولن يتم ذلك إلا بتكرار المقاصد الأساسية من تلك المعاني حتى تتمكن فى النفوس بذلك التكرار ، ومن ثم نرى رجال الدين والسياسة الذين عرفوا سنن الاجتماع وفهموا طبائع البشر وأخلاقهم يكررون فى خطبهم ومقالاتهم ، أغراضهم ومقاصدهم التي ينشرونها فى الصحف والكتب ، فإن الذهن إذا تكرر عليه مدح الشيء أو ذمه أثر فيه.
المعنى - أكد اللّه لعباده أنه لا يغفر البتة لأحد أشرك به سواه ، وأنه قد يغفر لمن يشاء من المذنبين مادون الشرك من الذنوب فلا يعذبهم عليه.
ذاك أن الشرك هو منتهى فساد الأرواح وضلال العقول ، فكل خير يلابسه لا يقوى على إضعاف مفاسده وآثامه والعروج بها إلى جوار ربها ، إذ أنها تكون(5/157)
ج 5 ، ص : 158
موزعة بين شركاء يحولون بينها وبين الخلوص إليه عز وجل ، واللّه لا يقبل إلا ما كان خالصا له.
وبعض الناس ممن يسمون أنفسهم بالموحدين يفعلون كما يفعل سائر المشركين ، فيدعون حين يشتد الكرب ويعظم الخطب غير اللّه وحده أو مع اللّه ولا يسمون عملهم دعاء ، بل يسمونه توسلا واستشفاعا ، ويسمون من يدعونهم أولياء وشفعاء ، ولو لم يكن منهم إلا هذا الدعاء لقضاء الحاجات ، وتفريج الكربات ، لكفى ذلك عبادة وشركا باللّه ،
وقد قال النبي صلى اللّه عليه وسلم « الدعاء هو العبادة » رواه أبو داود
: أي إن العبادة جدّ العبادة إنما تكون فى الدعاء الذي يفيض على اللسان من قرارة النفس حين وقوع الخطب ، واشتداد الكرب ، وهذا ما تسمعه من أصحاب الحاجات ، عند حدوث الملمات ، وفى هياكل العبادات ، ولدى قبور الأموات ، فكل ذلك يمثل الخشوع والخضوع ، ويذرف من العين الدموع « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ » .
وما عدا هذا الدعاء من العبادات ، جلّه يفعل بالتعليم ، ويكون فى الغالب خاليا من الشعور الذي به يكون القول أو الفعل عبادة ، إذ هو خال من معنى العبادة وروحها وهو الشعور بالسلطة الغيبية التي هى وراء الأسباب العادية ، ولا سيما الأدعية التي تكون فى الصلوات أو فى غير الصلوات ، إذ نرى الحافظ لها يحرك بها لسانه وقلبه مشغول بشواغل أخرى ، فمثل هذا لا يمثّل العبادة الحقة التي تملأ القلب نورا ، والنفس استسلاما وخضوعا ، والروح طهارة وزكاء.
(وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً) أي ومن يشرك باللّه شيئا فيدعوه معه ويذكر اسمه مع اسمه ، أو يدعوه وحده ملاحظا أنه يقر به إليه زلفى - فقد ضل عن القصد ، وبعد عن سبيل الرشد ضلالا بعيدا فى سبيل الغواية ، لأنه ضلال يفسد العقل ، ويكدّر صفاء الروح ويجعله يخضع لعبد مثله ، ويخضع أمام مخلوق يحاكيه ويكون عبدا للخرافات والأوهام.(5/158)
ج 5 ، ص : 159
وخلاصة ما تقدم :
1) إن الشرك فى العبادة الذي يتجلى فى الدعاء ، هو أقوى أنواع الشرك ، لأنه يكون باعتقاد ناشىء عن وجدان حاكم على النفس مستعبد لها.
2) إن دون هذا - الشرك المبنى على الفكر والنظر الذي يحاجك فيه صاحبه بالشبهات ، المنتزعة من تشبيه الخالق بالمخلوق ، وقياسه على ظلمة الملوك ، كقولهم : إن الإنسان الخاطئ لا يليق أن يخاطب الإله العظيم مباشرة ، بل عليه أن يتخذ له وليا يكون واسطة بينه وبينه ، كما يتخذ آحاد الرعية الوسائط إلى الملوك والأمراء من المقربين إليهم.
ومثله من يشرك فى ربوبية اللّه باتخاذ بعض المخلوقين شارعين يحلّون له ما يرون تحليله ويحرّمون عليه ما يرون تحريمه فيتبعهم فى ذلك 3) إن الجزاء فى الآخرة يكون تابعا لما تكون عليه النفس فى الدنيا من سلامة العقيدة ، ومقدار درجة الفضيلة ، التي يلازمها فعل الخيرات ، أو فساد الفطرة وخطأ العقيدة ، والتدنس بالرذيلة ، التي يلازمها فعل السيئات.
4) إن الناس متفاوتون فيما بين ذلك من درجات ودركات ، أخسها الشرك وأعلاها التوحيد ، ولكل منهم صفات تناسبها ، فلو جاز أن يغفر الشرك ويجعل صاحبه مع النبيين والصديقين والملائكة المقربين لكان ذلك نقضا لسنة اللّه التي لا تبديل فيها ولا تغيير.
(إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) أي هؤلاء المشركون لا يدعون لقضاء حاجتهم وتفريج كربهم إلا أمواتا فقد كانوا يعظمون الموتى ويدعونها كما يفعل ذلك كثير من أهل الكتاب ومسلمى هذه القرون ، أو إلا إناثا كاللات والعزّى ، وقد كان لكل قبيلة صنم يسمونه أنثى بنى فلان (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) أي وما يعبدون بعبادتها إلا شيطانا مريدا ، إذ هو الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم بها ، فكانت طاعتهم له عبادة.(5/159)
ج 5 ، ص : 160
(لَعَنَهُ اللَّهُ) أي أبعده اللّه عن رحمته وفضله ، فإنه داعية الشر والباطل فى نفس الإنسان بما يوسوس فى صدره ويعده ويمنّيه.
(وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) النصيب المفروض هو ما للشيطان فى نفس كل أحد من الاستعداد للشر ، إذ ما من إنسان إلا يشعر من نفسه بوسوسة الشيطان ، فإن لم يكن بالشرك فبالمعصية والإصرار عليها أو الرياء فى العبادة ، لكن اللّه أخبر أنه ليس له سلطان على عباده المخلصين ، وقد جاء فى القرآن والحديث ما يدل على هذا.
والخلاصة - إن الشيطان خلق متمردا على الحق ، بعيدا من الخير ، مغرى بإغواء البشر وإضلالهم.
(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) إضلال الشيطان لمن يضلهم هو صرفهم عن العقائد الصحيحة ، وشغلهم عن الدلائل الموصلة إلى الحق والهدى ، وتمنيته لهم : تزيينه لهم الاستعجال باللذات الحاضرة والتسويف بالتوبة والعمل الصالح.
والخلاصة - إن من شأن الشيطان ومقتضى طبعه إضلال العباد وشغلهم بالأمانى الباطلة ، كرحمة اللّه للمجرمين بغير توبة ، والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة ، وتزيين لذّات الحياة العاجلة على ثواب الآجلة ونعيمها.
(وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) أي ولآمرنهم بالضلال فليقطّعنّ آذان الأنعام بموجب أمرى ، والمراد به ما كانوا يفعلونه من قطع آذان بعض الأنعام لأصنامهم كالبحائر التي كانوا يقطعون آذانها أو يشقونها شقا واسعا ويتركون الحمل عليها ، وهذا من سخيف أعمالهم الوثنية الدالة على ضعف عقولهم.
(وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) تغيير خلق اللّه وسوء التصرف فيه شامل للتغيير الحسى كالخصاء ، وروى ذلك عن ابن عباس وأنس بن مالك ، وللتغيير المعنوي. وروى أيضا عن ابن عباس وغيره ، وعلى هذا فالمراد بخلق اللّه دينه ، لأنه دين الفطرة وهى(5/160)
ج 5 ، ص : 161
الخلقة قال تعالى : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ » أي إنه يراد به تغيير الفطرة الإنسانية عما فطرت عليه من الميل إلى النظر والاستدلال وطلب الحق وتربيتها وتعويدها الأباطيل والرذائل والمنكرات ، فاللّه قد أحسن كل شىء خلقه ، وهؤلاء يفسدون ما خلق اللّه ويطمسون عقول الناس.
والخلاصة - إن الدين الفطري الذي هو من خلق اللّه وآثار قدرته ليس هو مجموع الأحكام التي جاء بها الرسل ليبلغوها للناس ، بل هو ما أودعه اللّه فى فطرة البشر من توحيده والاعتراف بقدرته وجلاله ، وهو ما أشار إليه فى الحديث « كل مولود يولد على الفطرة » .
ومن أهم أسس هذا الدين الفطرية العبودية للسلطة الغيبية التي تنتهى إليها الأسباب ، وتقف دون الوصول إلى حقيقتها العقول.
(وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) أي ومن يتبع الشيطان ووسوسته وإغواءه وهو البعيد من أسباب رحمة اللّه وفضله ، فقد خسر خسرانا ظاهرا فى الدنيا والآخرة إذ أنه يكون أسير الأوهام والخرافات ، يتخبط فى عمله على غير هدى ، ويفوته الانتفاع التام بما وهبه اللّه من العقل والمواهب الكسبية التي أوتيها الإنسان وميّز بها من بين أصناف الحيوان.
(يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) فيعد الناس الفقر إذا هم أنفقوا شيئا من أموالهم فى سبيل اللّه ، ويوسوس لهم بأن أموالهم تنفد أو تقلّ ويصبحون فقراء أذلاء ، ويعدهم الغنى والثروة حين الإغراء بالقمار ، ويعد من يغريه بالتعصب لرأيه وإيذاء مخالفه فيه من أهل دينه للجاه والشهرة وبعد الصيت.
ويؤيد هذه الوعود بالأمانى الباطلة يلقيها إليهم.(5/161)
ج 5 ، ص : 162
ويدخل فى وعد الشيطان وتمنيته ما يكون من أوليائه من الإنس ، وهم قرناء السوء الذين يزينون للناس الضلال والمعاصي ويمدونهم فى الطغيان وينشرون مذاهبهم الفاسدة وآراءهم الضالة التي يبتغون بها الرفعة والجاه والمال ، وهؤلاء يوجدون فى كل زمان ومكان.
(وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) أي وما يعدهم الشيطان إلا باطلا يغترون به ولا يملكون منه ما يحبون ، فيزين لهم النفع فى بعض الأشياء وهى مشتملة على كثير من الآلام والمضارّ فالزانى أو المقامر أو شارب الخمر يخيل إليه أنه يتمتع باللذات بينما هو فى الحقيقة يتمتع بلذائذ وقتية تعقبها آلام دنيوية طويلة المدى ، وخيمة العواقب ، إلى عذاب أخروى لا يعلم كنهه إلا من أحاط يكل شىء علما.
وبعد أن بين حال أولياء الشيطان وما يعدهم به الشيطان - ذكر عاقبتهم فقال :
(أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) أي أولئك الذين يعبث بهم الشيطان بوسوسته ، أو بإغواء دعاة الباطل من أوليائه ، مأواهم جهنم لا يجدون عنها مهربا يفرّون إليه ، إذ هم بطبيعتهم ينجذبون إليها ويتهافتون عليها تهافت الفراش على النار ، فتصلى وجوههم وجنوبهم وظهورهم.
ثم بعدئذ ذكر عاقبة من لا يستجيب دعوة الشيطان ولا يصيخ لأمره ونهيه فقال :
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي إنهم سيتمتعون بالنعيم المقيم فى جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، وذلك هو الفوز العظيم لمن سمت نفسه عن دنس الشرك ، فلم تجعل للّه أندادا ولم تحط بها الخطيئة فى صباحها ومسائها فى غدوّها ورواحها.
ثم ذكر أن ما وعدهم به هو الوعد الحق الذي لا شك فيه فقال :
(وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ؟ ) أي ذلك الذي وعدكم اللّه به هو الوعد الحق ، فهو القادر على أن يعطى ما وعد بفضله وجوده ، وواسع كرمه ورحمته ، وأما وعد الشيطان فهو غرور من القول وزور ، إذ هو عاجز عن الوفاء فهو يدلى إلى(5/162)
ج 5 ، ص : 163
أوليائه بباطله ، فحقه ألا يستجاب له أمر ولا نهى ، ولا تتّبع له نصيحة ، فوساوسه أباطيل ، وسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
[سورة النساء (4) : الآيات 123 الى 126]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)
تفسير المفردات
الأمانى ، واحدها أمنية : وهى الصورة التي تحصل فى النفس ، من تمنى الشيء وتقديره ، وكثيرا ما يطلق التمني على ما لا حقيقة له ، ومن ثم يعبرون به عن الكذب كما قال عثمان رضي اللّه عنه : ما تعنّيت ولا تمنّيت منذ أسلمت. وليا : أي يلى أمره ويدفع العقاب عنه ، ولا نصيرا : أي ينصره وينقذه مما يحل به ، والنقير والنقرة : النكتة التي تكون فى ظهر النواة ، وبها يضرب المثل فى القلة ، الحنيف : المائل عن الزيغ والضلال ، والخليل :
المحب لمن يحبه ، من الخلة (بالضم) وهى المودة والمحبة التي تتخلل النفس وتمازجها قال شاعرهم :
قد تخللّت مسلك الروح منى وبذا سمى الخليل خليلا
محيطا : أي عالما بالأشياء قادرا عليها.(5/163)
ج 5 ، ص : 164
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فى الآيات السالفة أن الشيطان يعدهم ويمنيهم ، ويدخل فى تلك الأمانى ما كان يمنّيه أهل الكتاب من الغرور بدينهم ، إذ كانوا يرون أنهم شعب اللّه الخاص ، ويقولون : إنهم أبناء اللّه وأحباؤه ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات ، وقد سرى لهم هذا الغرور من اتكالهم على الشفاعات وزعمهم أن فضلهم على غيرهم من البشر بمن بعث فيهم من الأنبياء ، فهم يدخلون الجنة بكرامتهم لا بأعمالهم.
حذّرنا فى هذه الآيات الكريمات أن نكون مثلهم ، وكانت هذه الأمانى قد دبّت إلى المسلمين فى عصر النبي صلى اللّه عليه وسلم كما دل على ذلك قوله « أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ » الآية ، فلضعفاء الإيمان من المسلمين فى الصدر الأول ولأمثالهم فى كل زمان أنزلت هذه الموعظة ، ولو تدبروها لما كان لهذه الأمانى عليهم من سلطان.
أخرج ابن أبى شيبة عن الحسن موقوفا. « ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر فى القلب وصدّقه العمل »
وقال الحسن : إن قوما غرّتهم المغفرة فخرجوا من الدنيا وهم مملوءون بالذنوب ، ولو صدقوا لأحسنوا العمل.
وأخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدّى قال « التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى فقال اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ، ديننا قبل دينكم وكتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم ونحن على دين إبراهيم ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا. وقالت النصارى مثل ذلك ، فقال المسلمون : كتابنا بعد كتابكم ونبينا بعد نبيكم ، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم ، فنحن خير منكم ، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق(5/164)
ج 5 ، ص : 165
ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا ، فأنزل اللّه ليس بأمانيكم إلخ الآية » فأفلج اللّه حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان الأخرى.
الإيضاح
(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) أي ليس فضل الدين وشرفه ولا نجاة أهله به أن يقول القائل منهم : إن دينى أفضل وأكمل ، بل عليه أن يعمل بما يهديه إليه ، فإن الجزاء إنما يكون على العمل ، لا على التمني والغرور : فليس أمر نجاتكم ولا أمر نجاة أهل الكتاب منوطا بالأمانى فى الدين ، فالأديان لم تشرع للتفاخر والتباهي ، ولا تحصل فائدتها بالانتساب إليها دون العمل بها.
ثم أكد ذلك وبيّنه بقوله :
(مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) أي إن من يعمل سوءا يلق جزاءه ، لأن الجزاء بحسب سننه تعالى أثر طبيعى للعمل ، لا يتخلف فى اتباع بعض الأنبياء وينزل بغيرهم كما يتوهم أصحاب الأمانى والظنون ، فعلى الصادق فى دينه أن يحاسب نفسه على العمل بما هداه إليه كتابه ورسوله ، ويجعل ذلك المعيار فى سعادته ، لا أن يجعل تكأته أن هذا الكتاب أكمل ، ولا أن ذلك الرسول أفضل.
روى « أنه لما نزل قوله (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) راع ذلك أبا بكر وأخافه ، فسأل النبي صلى اللّه عليه وسلم ، قال : من ينج مع هذا يا رسول اللّه ؟ فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : أما تحزن ، أما تمرض ، أما يصيبك البلاء ؟ قال بلى يا رسول اللّه قال هو ذاك » .
وأخرج مسلم وغيره عن أبى هريرة قال : لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وبلغت منهم ما شاء اللّه تعالى فشكوا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : « سدّدوا وقاربوا ، فإن فى كل ما أصاب المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنّكبة ينكبها »
والأحاديث بهذا المعنى كثيرة ، ومن ثم يرى عامة العلماء أن الأمراض والأسقام ومصايب الدنيا وهمومها يكفر اللّه بها الخطايا.(5/165)
ج 5 ، ص : 166
ويرى بعضهم أن المصايب لا تكفّر إلا إذا أثرت فى النفس تأثيرا صالحا وكانت سببا فى قوة الإيمان وترك السوء والتوبة منه والرغبة فى صالح العمل بما تحدثه من العبرة فتكون مربّية لعقله ونفسه ، أما إذا ضاعفت الذنوب كالمصايب التي تحمل صاحبها على الجزع ومهانة النفس وضعف الإيمان إلى ذنوب أخرى لم يكونوا ليقترفوها لولا المصيبة فلا تكفر شيئا من الخطايا بل تزيدها.
(وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي من يعمل السوء ويستحق العقاب عليه لا يجد له وليا غير اللّه يتولى أمره ويدفع الجزاء عنه ، ولا نصيرا ينصره وينقذه مما يحلّ به لا من الأنبياء الذين تفاخر بهم ولا من غيرهم من المخلوقات التي اتخذها بعض البشر آلهة وأربابا ، فكل تلك الأمانى تكون أضغاث أحلام ، وإنما يكون المدار فى ذلك على الإيمان والأعمال كما قال :
(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) أي ومن يعمل كل ما يستطيع عمله من الأعمال التي تصلح بها النفوس فى أخلاقها وآدابها وأحوالها الاجتماعية ، سواء كان العامل ذكرا أو أنثى وهو مطمئن القلب بالإيمان - فأولئك العاملون المؤمنون باللّه واليوم الآخر يدخلون الجنة بزكاء أنفسهم وطهارة أرواحهم ولا يظلمون من أجور أعمالهم شيئا ولو حقيرا كالنقير.
وفى هذه الآية وما قبلها من العبرة والموعظة ما يهدم صروح الأمانى التي يأوى إليها الكسالى وذوو الجهالة من المسلمين الذين يظنون أن اللّه يحابى من يسمى نفسه مسلما ويفضله على اليهودي والنصراني لأجل هذا اللقب ، فالذين يفخرون بالانتساب إليه وقد نبذوه وراء ظهورهم وجرموا الاهتداء بهديه ، هم فى ضلال مبين.
وبعد أن بين سبحانه أن النجاة والسعادة منوطان بصالح الأعمال مع الإيمان أردف ذلك ذكر درجات الكمال فقال :
(وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي لا أحد أحسن ممن جعل قلبه خالصا للّه وحده ، فلا يتوجه إلى غيره فى دعاء ولا رجاء ، ولا يجعل بينه وبينه حجابا(5/166)
ج 5 ، ص : 167
من الوسطاء والشفعاء ، ولا يرى فى الوجود إلا هو ، ويعتقد أنه سبحانه ربط الأسباب بالمسببات ، فلا يطلب شيئا إلا من خزائن رحمته ، ولا يأتى بيوت هذه الخزائن إلا من مسالكها ، وهى السنن والأسباب التي سنها فى الخليقة.
وهو مع هذا الإيمان الكامل والتوحيد الخالص ، محسن للعمل متحلّ بأحسن الأخلاق والفضائل.
وقد عبر عن توجه القلب بإسلام الوجه ، لأن الوجه أعظم مظهر لما فى النفس من إقبال وإعراض ، وسرور وكآبة ، وما فيه هو الذي يدل على ما فى السريرة.
(وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أي واتبع إبراهيم فى حنيفيته التي كان عليها ، بميله عن الوثنية وأهلها ، وتبريه مما كان عليه أبوه وقومه منها ، قال تعالى : « وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ. وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ » .
(وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا) أي اصطفاه اللّه لإقامة دينه فى بلاد غلبت عليها الوثنية ، وأفسد الشرك عقول أهلها ، وقد بلغ من الزلفى عند ربه ما صح به أن يسمى خليلا ، فقد اختصه بكرامة ومنزلة تشبه الخليل لدى خليله ، ومن كانت له هذه المنزلة كان جديرا أن تتّبع ملّته وتأتسي طريقته.
والخلاصة - إنه منّ عليه بسلامة الفطرة وقوة العقل وصفاء الروح وكمال المعرفة وفنائه فى التوحيد.
ثم ذكر ما هو كالعلة لما سبق بقوله :
(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إن كل ما فى السموات والأرض ملك له ومن خلقه ، مهما اختلفت صفات المخلوقات ، فجميعها مملوكة عابدة له خاضعة لأمره.
(وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) إحاطة قهر وتسخير ، وإحاطة علم وتدبير ، وإحاطة وجود ، لأن هذه الموجودات ليس وجودها من ذاتها ولا هى ابتدعت نفسها بل وجودها(5/167)
ج 5 ، ص : 168
مستمد من ذلك الوجود الأعلى ، فالوجود الإلهى هو المحيط بكل موجود ، فوجب أن يخلص له الخلق ، ويتوجه إليه العباد.
وقد جاءت هذه الآية خاتمة لما تقدم لفوائد :
1) بيان الدليل على أنه المستحق وحده لإسلام الوجه له والتوجه إليه فى كل حال لأنه هو المالك لكل شىء ، وغيره لا تملك لنفسه شيئا.
2) نفى ما يتوهم فى اتخاذ اللّه إبراهيم حليلا من أن هناك شيئا من المقاربة فى حقيقة الذات والصفات.
3) التذكير بقدرته تعالى على إنجاز وعده ووعيده فى الآيات التي قبلها ، إذ من له ما فى السموات والأرض خلقا وملكا فهو أكرم من وعد.
[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 130]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)(5/168)
ج 5 ، ص : 169
تفسير المفردات
يستفتونك : أي يطلبون منك الفتيا ، يفتيكم : يبين لكم ما أشكل عليكم ، يقال :
أفتاء إفتاء وفتيا وفتوى ، وأفتيت فلانا رؤياه عبّرتها له ، ما كتب لهن : أي ما فرض لهن من الميراث ، وأن تقوموا : أي تعنوا عناية خاصة ، بالقسط : أي بالعدل ، خافت :
أي توقعت ما تكره بوقوع بعض أسبابه ، أو ظهور بعض أماراته ، نشوزا : ترفعا وتكبرا ، إعراضا : ميلا وانحرافا ، فلا جناح : أي لا إثم ولا حرج ، أحضرت الأنفس الشحّ : أي إن الشح حاضر لها لا يغيب عنها ، المعلّقة التي ليست مطلّقة ولا ذات بعل ، من سعته : من غناه ، واسعا : غنيّا.
المعنى الجملي
كان الكلام أول السورة فى الأحكام المتعلقة بالنساء واليتامى والقرابة ، ومن قوله :
واعبدوا اللّه إلى هنا فى أحكام عامة فى أسس الدين وأصوله وأحوال أهل الكتاب والمنافقين والقتال - ثم عاد الكلام هنا إلى أحكام النساء لشعور الناس بالحاجة إلى زيادة البيان فى تلك الأحكام ، فالآيات السالفة أوجبت مراعاة حقوق الضعيفين : المرأة واليتيم وجعلت للنساء حقوقا مؤكدة فى المهر والإرث ، وحرمت ظلمهن ، وأباحت تعدد الزوجات وحددت العدد الذي يحل منهنّ حين الخوف من عدم الظلم ، ولكن ربما يحدث لهم الاشتباه فى بعض الوقائع المتعلقة بها كأن يقع الاشتباه فى حقيقة العدل الواجب بين النساء ، هل يدخل العدل فى الحب أو فى لوازمه من زيادة الإقبال على المحبوبة والتبسط فى الاستمتاع بها أولا ، وهل يحل للرجل أن يمنع اليتيمة ما كتب اللّه لها من الإرث حين يرغب فى نكاحها ؟ وبماذا يصالح امرأته إذا أرادت أن تفتدى منه ؟ - كل هذا مما تشتد الحاجة إلى معرفته بعد العمل بتلك الأحكام ، فمن ثم جاءت هذه الآيات مبينة أتم البيان لذلك.(5/169)
ج 5 ، ص : 170
أخرج ابن جرير قال : كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم فى المال ويعمل فيه ، ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئا ، فلما نزلت آيات المواريث فى سورة النساء شق ذلك على الناس وقالوا : أ يرث الصغير الذي لا يقوم فى المال والمرأة التي هى كذلك فيرثان كما يرث الرجل ، فرجوا أن يأتى فى ذلك حدث من السماء فانتظروا ، فلما رأوا أنه لا يأتى حدث قالوا لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بدّ ، ثم قالوا سلوا ، فسألوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
الإيضاح
(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) أي يطلبون منك الفتيا فى شأنهن ببيان ما غمض وأشكل من أحكامهن ، من جهة حقوقهن المالية والزوجية ، كالعدل فى المعاملة حين العشرة ، وحين الفرقة والنشوز.
(قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) بما يوحيه إليك من الأحكام فى كتابه.
(وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) أي ويفتيكم فى شأنهن ما يتلى عليكم فى الكتاب مما نزل قبل هذا الاستفتاء فى أحكام معاملة يتامى النساء اللاتي قد جرت عادتكم ألا تعطوهن ما كتب لهن من الإرث إذا كان فى أيديكم ، لولايتكم عليهن وترغبون فى أن تنكحوهن لجمالهن والتمتع بأموالهن ، أو عن أن تنكحوهن لدمامتهن فلا تنكحوهن ولا تنكحونهن غيركم حتى يبقى ما لهن فى أيديكم ، وقد كان الرجل منهم يضم اليتيمة ومالها إلى نفسه ، فإن كانت جميلة تزوجها وأكل المال ، وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيرثها ، وما يتلى عليكم أيضا فى شأن المستضعفين من الولدان الذين لا تعطونهم نصيبهم من الميراث ، وقد كانوا إنما يورّثون الرجال دون الأطفال والنساء.
والخلاصة - إن الذي يتلى عليهم فى الضعيفين : المرأة واليتيم هو ما تقدم فى أول(5/170)
ج 5 ، ص : 171
السورة وأن اللّه يذكرهم بتلك الآيات المفصلة ليتدبروها ويتأملوا معانيها ثم يعملوا بها ، إذ قد جرت طباع البشر أن يتغافلوا عن دقائق الأحكام والعظات التي ترجعهم عن أهوائهم وتؤنبهم على اتباع شهواتهم.
(وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) أي يفتيكم أن تقوموا لليتامى من هؤلاء النساء والولدان المستضعفين بالقسط ، بأن تهتموا بهم اهتماما خاصا وتعنوا بشأنهم ويجرى العدل فى معاملتهم على أكمل الوجوه وأتمها ، فإن ذلك هو الواجب الذي لا هوادة فيه ، ولا خيرة فى شأنه.
ثم رغبهم فى العمل بما فيه فائدة لليتامى ، وحبب إليهم النّصفة فقال :
(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) أي وما تفعلوه من الخير لليتامى فهو مما لا يعزب عن علمه ، وهو مجازيكم به ولا يضيع عنده شىء منه.
(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) أي وإن توقعت من بعلها نشوزا وترفعا عليها بما لاح لها من مخايل ذلك وأماراته ، بأن منعها نفسه ونفقته والمودة والرحمة التي تكون بين الرجل والمرأة ، أو آذاها بسبّ أو ضرب أو نحو ذلك ، أو إعراضا عنها بأن قلل من محادثتها ومؤانستها لبعض أسباب من طعن فى سن أو دمامة أو شىء فى الأخلاق أو الخلق أو ملال لها أو طموح إلى غيرها أو نحو ذلك.
والواجب عليها أن تتثبت فيما تراه من أمارات الإعراض فربما كان الذي شغله عن مسامرتها والرغبة عن مباعلتها ، مسائل من مشاكل الحياة الدنيوية أو الدينية ، وهى أسباب خارجية لا دخل له فيها ، ولا تعلق لها بكراهتها والجفوة عنها ، وحينئذ عليها أن تعذره ، وتصبر على ما لا تحب من ذلك ، أما إذا استبان لها أن ذلك لكراهته إياها ورغبته عنها.
(فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) أي فلا بأس بهما فى أن يصلحا بينهما صلحا كأن تسمح له ببعض حقها عليه فى النفقة أو المبيت معها ، أو بحقها كله فيهما أو فى أحدهما ، لتبقى فى عصمته مكرّمة ، أو تسمح له ببعض المهر ومتعة الطلاق أو بكل(5/171)
ج 5 ، ص : 172
ذلك ليطلقها كما جاء فى قوله تعالى : « فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ » وإنما يحل له ذلك إذا كان برضاها ، لاعتقادها أن فى ذلك الخير لها بلا ظلم لها ولا إهانة.
وقد روى أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها وكان لها منه ولد فقالت له :
لا تطلقنى ودعنى أقوم على ولدي وتقسم لى فى كل شهرين ، فقال إن كان هذا يصلح فهو أحبّ إلىّ ، فأقرها على ما طلبت.
(وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من التسريح والفراق ، لأن رابطة الزوجية من أعظم الروابط وأحقها بالحفظ ، وميثاقها من أغلظ المواثيق.
وعروض الخلاف بين الزوجين وما يترتب عليه من نشوز وإعراض وسوء معاشرة من الأمور الطبيعية التي لا يمكن زوالها من البشر.
وأجمل ما جاء فى الإسلام لمنعه هو المساواة بينهما فى كل شىء إلا القيام برياسة الأسرة ، لأنه أقوى من المرأة بدنا وعقلا وأقدر على الكسب وعليه النفقة كما جاء فى قوله « وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ » .
فيجب على الرجل أن يعاشرها بالمعروف وأن يتحرى العدل بقدر المستطاع.
(وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) أي إن النفوس عرضة له ، فإذا عرض لها داع من دواعى البذل ألمّ بها الشح والبخل ونهاها أن تبذل ما ينبغى بذله لأجل الصلح ، فالنساء حريصات على حقوقهن فى القسم والنفقة وحسن العشرة ، والرجال حريصون على أموالهم أيضا ، فينبغى أن يكون التسامح بينهما كاملا ، إذ هما قد ارتبطا ارتباطا وثيقا بذلك الميثاق العظيم وأفضى بعضهما إلى بعض.
ثم رغب فى بقاء الرابطة الزوجية جهد المستطاع فقال :
(وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي وإن تحسنوا العشرة فيما بينكم وتتقوا أسباب النشوز والإعراض وما يترتب عليهما من الشقاق ، فإن اللّه كان خبيرا بذلك لا يخفى عليه شىء منه ، فهو يجازى من أحسن الحسنى ويثيبه على ذلك.
ثم بين أن العدل بين النساء فى حكم المستحيل ، فعلى الرجل أن يعمل جهد المستطاع قال(5/172)
ج 5 ، ص : 173
(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) أي مهما حرصتم على العدل والمساواة بين المرأتين ، حتى لا يقع ميل إلى إحداهما ولا زيادة ولا نقص ، فلن تستطيعوا ذلك ولو قدرتم عليه لما قدرتم على إرضائها به ، ومن ثم رفع اللّه ذلك عنكم وما كلفكم إلا العدل فيما تستطيعون بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم ، لأن الباعث على الكثير من هذا الميل هو الوجدان النفسي والميل القلبي الذي لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره ولا يملك آثاره الطبيعية ، ولهذا خفف اللّه ذلك عنكم وبين أن العدل الكامل غير مستطاع ولا يتعلق به تكليف.
(فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) أي وإذا كان ذلك غير مستطاع فعليكم ألا تميلوا كل الميل إلى من تحبون منهن وتعرضوا عن الأخرى.
(فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) أي فتجعلوها كأنها ليست بالمتزوجة ولا بالمطلقة ، فإن الذي يغفره لكم من الميل هو ما لا يدخل فى اختياركم ولا يكون فيه تعمد التقصير أو الإهمال ، أما ما يقع تحت اختياركم فعليكم أن تقوموا به ، إذ لا هوادة فيه.
(وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي وإن تصلحوا فى معاملة النساء وتتقوا ظلمهن وتفضيل بعضهن على بعض فيما يدخل فى اختياركم كالقسم والنفقة فإن اللّه يغفر لكم ما دون ذلك مما لا يدخل فى اختياركم كالحب وزيادة الإقبال وغير ذلك.
وفى الآية عظة وعبرة لمن يتأملها من عبّاد الشهوات الذين لا يقصدون من الزوجية إلا التمتع باللذات الحيوانية دون مراعاة أهم أسس الحياة الزوجية التي ذكرها اللّه فى قوله :
« وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » ولا يلاحظون أمر النسل وإصلاح الذرية ، هؤلاء السفهاء الذوّاقون الذين يكثرون من الزواج ما استطاعوا ، ولا باعث لهم إلا حب التنقل والملل من السابقة ، ولا يخطر لهم أمر العدل فى بال - عليهم أن يتقوا اللّه ويكفروا فى ميثاق الزوجية وفى حقوقها المؤكدة وفى عاقبة نسلهم وشؤون ذريتهم وفى حال أمتهم التي تتألف من هذه البيوت المبنية على أسس الشهوات والأهواء وفى حال ذريتهم التي تنشأ بين أمهات متعاديات.(5/173)
ج 5 ، ص : 174
ثم بين أن الفراق قد يكون فيه الخير إذا لم يمكن الوفاق فقال :
(وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) أي وإن يتفرق الزوجان اللذان يخافان ألا يقيما حدود اللّه ، بأن كره الرجل امرأته لدمامتها أو كبرها وأراد أن يتزوج غيرها أو كان عنده زوجان ولم يقدر على العدل بينهما - يغن اللّه كلا منهما عن صاحبه بسعةفضله ووافر إحسانه وجوده ، فقد يسخّر للمرأة رجلا خيرا منه ، كما يهيىء له امرأة أخرى تحصنه وترضيه وتقوم بشؤون بيته وأولاده ، ولن يكون كل منهما جديرا بعناية اللّه وإغنائه عن الآخر ، إلا إذا التزما حدود اللّه ، بأن اجتهدا فى الوفاق والصلح وظهر لهما بعد التفكير والتروّى فى الأسباب أنه غير مستطاع ، فافترقا وهما حافظان لكرامتهما عما يجعلهما عرضة للنقد ونهش العرض ، فإن ذلك مما يرغب الناس فيهما ، لما يرونه فيهما من الأخلاق الفاضلة وعدم التلاحي والتنابذ والتهاجى واختلاق الأكاذيب ، فالرجل ذو الخلق الكريم إذا علم أن امرأة اختلفت مع بعلها لأنها لم تقبل أن تعيش مع من يعرض عنها أو يترفع عليها بل أحبت أن تعيش معه بطريق عادلة - رأى فيها أفضل صفات الزوجية.
وكذلك كرائم النساء وأولياؤهن يرغبون فى الرجل إذا علموا أنه يمسك المرأة بمعروف أو يسرحها بإحسان ولا يلجئه إلى الطلاق إلا الخوف من عدم إقامة حدود اللّه.
(وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً) أي وكان اللّه ولا يزال واسع الفضل والرحمة ، حكيما فيما شرعه من الأحكام التي جعلها وفق مصالح العباد.
[سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 134]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)(5/174)
ج 5 ، ص : 175
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه بالعدل والإحسان إلى اليتامى والمساكين ، بين أنه ما أمر بهذه الأشياء لاحتياجه إلى أعمال العباد ، لأن كل ما فى السموات والأرض ملكه فهو مستغن عنهم وقادر على إثابتهم على طاعته فيما شرعه لخيرهم ومصلحتهم ، بل ليزدادوا بتدبرها إيمانا يحملهم على العمل بها والوقوف عند حدودها.
الإيضاح
(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا ، فهو وحده مدبر الأكوان ، فلا يتعذر عليه الإغناء بعد الفقر ولا الإيناس بعد الوحشة إلى نحو هذا مما ينبىء بعظيم القدرة وكمال الجود والإحسان.
(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) أي ولقد أمرنا من قبلكم من اليهود والنصارى وغيرهم من سالف الأمم كما أمرناكم بتقوى اللّه فى إقامة سننه وإقامة شريعته ، فبالأولى ترقى معارفكم ، وبالثانية تزكو نفوسكم وتنتظم مصالحكم الدينية والدنيوية.
(وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي وإن تكفروا أنعم اللّه وتجحدوا فضله وإحسانه فاعلموا أنه سبحانه مالك الملك والملكوت لا يضره كفركم ومعاصيكم كما لا ينفعه شكركم وتقواكم ، وقد وصاكم وإياهم بهما لرحمته لا لحاجته.
ثم زاد ما سلف توكيدا فقال :
(وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً) أي وكان اللّه غنيا عن كل شىء بذاته. محمودا بذاته(5/175)
ج 5 ، ص : 176
وكمال صفاته ، فهو لا يحتاج إلى شكركم لتكميل نفسه « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ »
وفى الحديث القدسي « يا عبادى إنّكم لن تبلغوا ضرّى فتضرونى ، ولن تبلغوا نفعى فتنفعونى ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك فى ملكى شيئا ، يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك فى ملكى شيئا ، يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا فى صعيد واحد فسألونى فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندى إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل فى البحر ، يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفّيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد اللّه ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه » رواه مسلم.
ثم أعاد ما سلف لزيادة التوكيد فقال :
(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) أي له سبحانه ما فيهما خلقا وملكا يتصرف فيهما كيفما شاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة ، وكفى به قيّما وكفيلا يوكّل به أمر العباد فى أرزاقهم وأقواتهم وسائر شؤونهم.
(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) أي إن يرد إفناءكم واستئصالكم من الوجود وإيجاد قوم آخرين من البشر يحلون محلكم فى الحكم والتصرف فهو قادر على ذلك ، لأن كل ما فى السموات والأرض فهو تحت قبضته وخاضع لسلطانه.
والخلاصة - إن إبقاءكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم ، ولأن مشيئته لم تتعلق بهذا الإفناء لحكم ومصالح أرادها سبحانه ، لا لعجز عن ذلك ، تعالى اللّه علوا كبيرا.
ومثل هذه الآية قوله تعالى « إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ » وقوله « وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ » .
وفى هذه الآيات تهديد للمشركين الذين كانوا يؤذون النبي صلى اللّه عليه وسلم ويقاومون دعوته ، وتنبيه للناس إلى التأمل فى سنن اللّه التي جرت فى حياة الأمم وموتها ، وإن هذه السنن إذا تعلقت بها المشيئة وقعت لا محالة.(5/176)
ج 5 ، ص : 177
(وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) أي وكان اللّه قديرا على ذلك الإفناء وإيجاد خلق آخر ، إذ بيده ملكوت كل شىء ، لكنه لحكم يعلمها لم تتعلق إرادته بذلك.
(مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي من يرد منكم بسعيه وجهاده فى حياته نعيم الدنيا بالمال والجاه ونحوهما ، فعند اللّه ثواب الدارين معا بما أعطاكم من العقل والشعور وهداية الحواس ، فعليكم أن تطلبوهما معا ، ولا تكتفوا بما هو أدناهما وهو ما يفنى وتتركوا أغلاهما وهو ما يبقى ، مع أن الجمع بينهما هيّن ميسور لكم وهو تحت قدرتكم وسلطانكم ، فمن خطل الرأى أن تتركوا ذلك وترغبوا عنه ، بل عليكم أن تقولوا - ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار - .
وفى الآية إيماء إلى أن الدين يهدى أهله إلى السعادتين ، وإلى أن ثواب الدنيا والآخرة من فضله تعالى ورحمته.
(وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً) أي وكان اللّه سميعا لأقوال عباده حين مخاطباتهم ومناجاتهم ، بصيرا بجميع أمورهم فى سائر حالاتهم ، فعليهم أن يراقبوه فى الأقوال والأفعال ، وبذا تزكو نفوسهم وتقف عند حدود الفضيلة التي بها تستقيم أمورهم فى دنياهم ويستعدون لحياة أبدية فى آخرتهم يكون فيها نعيمهم وثوابهم.
[سورة النساء (4) : الآيات 135 الى 136]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)(5/177)
ج 5 ، ص : 178
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه بالقسط فى اليتامى والنساء فى سياق الاستفتاء فيهن ، لأن حقهن آكد وضعفهن معهود - عمم الأمر هنا بالقسط بين الناس ، لأن قوام أمور الاجتماع لا يكون إلا بالعدل ، وحفظ النظام لا يتم إلا به وبما فيه من الشهادة للّه بالحق ولو على النفس والوالدين والأقربين وعدم محاباة أحد لغناه أو لفقره ، لأن العدل مقدم على حقوق النفس وحقوق القرابة وغيرها ، وقد كانت سنة الجاهلية محاباة ذوى القربى ، لأنه يعتزّ بهم كما كانوا يظلمون النساء واليتامى لضعفن وعدم الاعتزاز بهن.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) القوام : هو المبالغ فى القيام بالشيء والإتيان به مستوفيا تاما لا نقص فيه ، وقد أمر اللّه بإقامة الصلاة وإقامة الشهادة وإقامة الوزن بالقسط تأكيدا للعناية بهذه الأشياء. أي فلتجعلوا العناية بإقامة القسط على وجهه صفة ثابتة لكم راسخة فى نفوسكم ، والعدل كما يكون فى الحكم بين الناس ممن يوليه السلطان أو يحكّمه الناس فيما بينهم ، يكون فى العمل كالقيام بما يجب بين الزوجات والأولاد من النّصفة والمساواة بينهم ، ولو سار المسلمون على هدى القرآن لكانوا أعدل الأمم وأقومهم بالقسط ، وقد كانوا كذلك ردحا من الدهر حين كانوا مهتدين بهديه ، ولكن قد خلف من بعدهم خلف نبذوا تلك الهداية وراء ظهورهم فصارت تضرب بهم الأمثال فى ظلم حكامهم وسوء أحوالهم.
(شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أي كونوا شهداء للّه بأن تتحرّوا الحق الذي يرضاه ويأمر به من غير مراعاة أحد ولا محاباته ، ولو كانت الشهادة على أنفسكم بأن يثبت بها الحق عليكم (ومن أقر على نفسه بحق فقد شهد عليها ،(5/178)
ج 5 ، ص : 179
لأن الشهادة إظهار الحق) أو على والديكم وأقرب الناس إليكم كأولادكم وإخوتكم ، إذ ليس من بر الوالدين ولا من صلة ذوى الرحم أن يعانوا على ما ليس لهم بحق الإعراض عن الشهادة عليهم أوليّها والتحريف فيها ، بل البر والصلة فى الحق والمعروف.
وليس من شك فى أن الحياة قصاص ، فالذين يتعاونون على الظلم وهضم حقوق الناس ، يتعاون الناس على ظلمهم وهضم حقوقهم ، فتكون المحاباة من أسباب فشوّ الظلم والعدوان والمفاسد التي لا يؤمن شرها.
(إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما) أي إن يكن المشهود عليه من الأقارب أو غيرهم غنيا أو فقيرا فاللّه أولى بهما ، وشرعه أحق أن يتبع فيهما ، فحذار أن تحابوا غنيا طمعا فى برّه ، ولا خوفا من أذاه وشره ، ولا فقيرا عطفا عليه وشفقة به ، فمرضاة كل منهما ليست خيرا لكم ولا لهما من مرضاة اللّه ، ولستم أعلم بمصلحتهما من ربهما ، ولو لا أنه يعلم أن العدل وإقامة الشهادة بالحق خير للشاهد والمشهود عليه لما شرع ذلك ولا أوجبه.
وروى ابن جرير عن السّدى فى سبب نزول الآية : أن رجلين فقيرا وغنيا اختصما إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فكان حلفه (ميله القلبي) مع الفقير ، يرى أن الفقير لا يظلم الغنى ، فأبى اللّه إلا أن يقوم بالقسط فى الغنى والفقير.
وقال قتادة فى هذه الآية : هذا فى الشهادة ، فأقم الشهادة يا ابن آدم ولو على نفسك أو الوالدين أو على ذوى قرابتك وأشراف قومك ، فإنما الشهادة للّه وليست للناس ، والعدل ميزان اللّه فى الأرض ، به يرد اللّه من الشديد على الضعيف ، ومن الصادق على الكاذب ، ومن المبطل على المحق اه.
(فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) أي فلا تتبعوا الهوى لئلا تعدلوا عن الحق إلى الباطل ، إذ فى الهوى الزلل.
(وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي وإن تلووا ألسنتكم بالشهادة وتحرّفوها أو تعرضوا عنها فلا تؤدوها فاللّه خبير بأعمالكم لا يخفى عليه قصدكم فهو مجازيكم بما تعملون.(5/179)
ج 5 ، ص : 180
وعبر بالخبير ولم يعبر بالعليم ، لأن الخبرة العلم بدقائق الأمور وخفاياها ، والشهادة يكثر فيها الغشّ والاحتيال حتى لقد يغش الإنسان فيها نفسه ويلتمس المعاذير فى كتمان الشهادة أو تحريفها.
فليتدبر المسلمون ذلك ، وليعملوا بهدى كتابهم ، ويقيموا الشهادة بالحق ، ففى ذلك فلاحهم فى دينهم ودنياهم.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) هذا خطاب لمؤمنى اليهود
فقد روى عن ابن عباس « أن هذه الآية نزلت فى عبد اللّه بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وسلام بن أخت عبد اللّه بن سلام ويامين بن يامين ، إذ أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقالوا نؤمن بك وبكتابك وبموسى وبالتوراة وعزير ونكفر بما سوى ذلك من الكتب والرسل ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - بل آمنوا باللّه ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله - فقالوا لا نفعل ، فنزلت ، قال فآمنوا كلهم »
وقيل : إن الخطاب فيها للمؤمنين كافة ، والمعنى ازدادوا فى الإيمان طمأنينة ويقينا وآمنوا برسوله خاتم النبيين وبالقرآن الذي نزّله عليه وبالكتب التي نزّلها على رسله من قبله ، فإنه لم يترك عباده فى زمن ما محرومين من البينات والهدى.
وبعد أن أمر بالإيمان بما ذكر توعد من كفر بذلك فقال :
(وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً) أي ومن يكفر باللّه أو بملائكته أو ببعض كتبه أو رسله أو اليوم الآخر (وهى أسس الدين وأركانه) فقد ضل عن صراط الحق الذي ينجّى صاحبه فى الآخرة من العذاب الأليم ، ويمتعه بالنعيم المقيم.
ومن فرّق بين كتب اللّه ورسله فآمن ببعض وكفر ببعض كاليهود والنصارى(5/180)
ج 5 ، ص : 181
فلا يعتدّ بإيمانه ، لأنه إما يتبع الهوى ، أو يقلد عن جهل وعمى ، ذاك أن سر الرسالة هى الهداية ولم يكن بعض النبيين فيها بأكمل من بعض ، فإذا كفر ببعض الكتب أو الرسل كان كفره بها دليلا على أنه لم يؤمن بشىء منها إيمانا صحيحا مبنيا على فهم حقيقتها والبصر بحكمتها ، وكل ذلك من الضلال البعيد عن طرق الهداية.
[سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 141]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)
المعنى الجملي
ذكر اللّه تعالى فى هذه الآيات حال قوم من أهل الضلال البعيد - آمنوا فى الظاهر نفاقا وكان الكفر قد استحوذ على قلوبهم ولم يجعل فيها مكانا للاستعداد للفهم ، ومن ثم لم يمنعهم ذلك من الرجوع إلى الكفر مرة بعد أخرى ، إذ هم لم يفقهوا(5/181)
ج 5 ، ص : 182
حقيقة الإيمان ولا ذاقوا حلاوته ، ولا أشربت قلوبهم حبه ، ولا عرفوا فضائله ومناقبه.
ثم أوعد بعدئذ المنافقين بالعذاب الأليم وذكر أنهم أنصار الكافرين على المؤمنين ، فلا ينبغى للمؤمنين أن يتخذوا منهم أولياء ، ولا أن يبتغوا عندهم جاها ولا منزلة.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا) أي إن هؤلاء قد استبان من ذبذبتهم واضطراب أحوالهم من إيمان إلى كفر ، ثم من كفر إلى إيمان وهكذا دواليك - أنهم قد فقدوا الاستعداد لفهم حقيقة الإيمان وفقه مزاياه وفضائله ومثلهم لا يرجى لهم - بحسب سنن اللّه فى خليقته - أن يهتدوا إلى الخير ولا أن يسترشدوا إلى نافع ولا أن يسلكوا سبيل اللّه ، فجدير بهم أن يمنع اللّه عنهم رحمته ورضوانه ، ومغفرته وإحسانه ، لأن أرواحهم قد دنّست ، وقلوبهم قد عميت ، فلم تكن محلا للمغفرة ولا للرجاء فى ثواب.
واللّه أرحم الراحمين واسع المغفرة لم يكن ليحرم أحدا المغفرة والهداية بمحض الخلق والمشيئة ، وإنما مشيئته مقترنة بحكمته ، وقد جرت سنة اللّه وحكمته الأزلية بأن يكون كسب البشر لعلومهم وأعمالهم مؤثرا فى نفوسهم ، فمن طال عليه أمد التقليد حجب عن عقله نور الدليل ، ومن طال عليه عهد الفسوق والعصيان حرم من أسباب الغفران التي ذكرها سبحانه فى قوله « وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى » .
ولا شك أن المغفرة وهى محو أثر الذنب من النفس إنما تكون بتأثير التوبة والعمل الصالح الذي يزيل ما علق فى النفس من تلك الآثام كما قال تعالى « إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ » .
(بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) البشارة لا تستعمل غالبا إلا فى سارّ الأخبار ، إذ هى مأخوذة من انبساط بشرة الوجه ، فاستعمالها فى الأخبار السيئة يكون من باب(5/182)
ج 5 ، ص : 183
التهكم والتوبيخ ، أي بشر المنافقين بالعذاب المؤلم الذي لا يقدر قدره ، ولا يحيط بكنهه إلا علام الغيوب.
ثم بين بعض صفاتهم التي تستوجب الذم فقال :
(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي هؤلاء المنافقون هم الذين يتخذون الكافرين المعادين للمؤمنين أولياء وأنصارا ، ويتجاوزون ولاية المؤمنين ويتركونها ، ويمالئون الكافرين عليهم ، اعتقادا منهم أن الدّولة ستكون لهم ، فيجعلون لهم يدا عندهم ثم وبخهم على ما فعلوا فقال :
(أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ ؟ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) العزة : القوة والمنعة : أي إن كانوا هم بذلك يطلبون عندهم الغلبة والمنعة ، فإن العزة للّه يؤتيها من يشاء ، فعليهم أن يطلبوها منه تعالى بصادق إيمانهم واتباعهم هدايته التي أرشد إليها أنبياءه ، وبيّنوا لهم أسبابها ، وقد آتاها المؤمنين حينما اهتدوا بكتابه ، وساروا على سننه ونهجوا نهجه ، فلما أعرضوا عن هذه الهداية التي اعتز بها أسلافهم ذلوا وخنعوا لعدوهم وصار منهم منافقون يوالون الكافرين يبتغون عندهم عزة وشرفا وما هم لها بمدركين.
وبعدئذ نهى المؤمنين أن يجلسوا مع من يتنقص الدين ويزدرى بأحكامه فقال :
(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) الخطاب موجه إلى كل من يظهر الإيمان سواء أ كان مؤمنا حقا أم منافقا ، وما نزله فى الكتاب هو قوله فى سورة الأنعام المكية « وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ » وقد كان بعض المسلمين يجلسون مع المشركين وهم يخوضون فى الكفر وذم الإسلام والاستهزاء بالقرآن ولا يستطيعون الإنكار عليهم لضعفهم وقوة المشركين ، فأمروا بالإعراض عنهم وعدم الجلوس معهم فى هذه الحال.
ثم إن يهود المدينة كانوا يفعلون فعل مشركى مكة ، وكان المنافقون يجلسون معهم ويستمعون إليهم فنهى اللّه المؤمنين عن ذلك.(5/183)
ج 5 ، ص : 184
والخلاصة - إنكم إذا سمعتم الكلام الذي يتضمن جعل الآيات فى موضع السخرية والاحتقار فابتعدوا عنهم ، ولا ترجعوا إليهم حتى يعودوا إلى حديث آخر.
وفى الآية دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يدل على التنقص والاستهزاء بالأدلة الشرعية والأحكام الدينية كما يقع من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء العلماء بالكتاب والسنة ولم يبق فى أيديهم إلا قال إمام مذهبنا كذا وقال فلان من أتباعه كذا ، وإذا استدل أحد بآية قرآنية أو بحديث نبوى سخروا منه وظنوا أنه قد جاء بخطب شنيع ، وجعلوا رأى إمامهم مقدما على ما نطق به الكتاب ، وأرشدت إليه السنة.
(إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) أي إنكم إن قعدتم معهم تكونوا شركاء لهم فى الكفر ، لأنكم رضيتم به ووافقتموهم عليه.
وفى الآية إيماء إلى أن من يقر المنكر ويسكت عليه يقع فى الإثم ، وإلى أن إنكار الشيء يمنع من انتشاره بين الناس.
وقد وقع فى هذا المنكر كثير من المسلمين ، فإنهم يرون الملحدين فى البلاد يخوضون فى آيات اللّه ويستهزئون بالدين وهم يسكتون عن ذلك ولا يبدون إنكارا ، ولا اشمئزازا ولا صدا ولا إعراضا.
(إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) أي إنهم كما اجتمعوا على الاستهزاء بآيات اللّه فى الدنيا سيجتمعون فى العقاب يوم القيامة.
ولا يخفى ما فى هذا من الوعيد للكفار والمنافقين ثم بين بعض أحوال المنافقين فقال :
(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) يتربصون ينتظرون ما يحدث من خير أو شر : أي إن هؤلاء المنافقين ينتظرون ما يحدث لكم من كسر أو نصر ، وشر أو خير.
(فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ؟ ) أي فإن نصركم اللّه وفتح عليكم ادّعوا أنهم كانوا معكم فيستحقون مشاركتكم فى النعمة وإعطاءهم من الغنيمة.
(وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا : أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الاستحواذ : الاستيلاء على الشيء والتمكن من تسخيره أو التصرف فيه : أي وإن كان(5/184)
ج 5 ، ص : 185
للكافرين نصيب من الظفر منّوا عليهم بأنهم كانوا عونا لهم على المؤمنين ، بتخذيلهم والتواني فى الحرب معهم وإلقاء الكلام الذي تخور به عزائمهم عن قتالكم ، فاعرفوا لنا هذا الفضل وهاتوا نصيبنا مما أصبتم.
والسر فى التعبير عن ظفر المؤمنين بالفتح وأنه من اللّه ، وعن ظفر الكافرين بالنصيب - الإيماء إلى أن العاقبة للحق دائما ، وأن الباطل ينهزم أمامه مهما كان له أول أمره من صولة ودولة ، وقد يقع أثناء ذلك نصيب من الظفر للباطل ولكن تنتهى بغلبة الحق عليه كما قالَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ »
مادام أهله متبعين لسنة اللّه بأخذ الأهبة وإعداد العدّة كما أمر بذلك الكتاب العزيز بقوله « وَأَعِدُّوا لَهُمْمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ »
.
وإنما غلب المسلمون فى هذه العصور على أمرهم وفتح الكافرون بلادهم التي فتحوها من قبل بقوة إيمانهم ، لأنهم تركوا أخذ الأهبة وإعداد العدة ، وقام أعداؤهم بكل ما تستدعيه الحروب الحاضرة فأنشئوا البوارج والمدافع والدبابات المدرعة ، والغواصات المهلكة ، والطائرات المنقضّة ، إلى نحو ذلك من آلات التدمير والهلاك فى البر والبحر والجور ووسائل ذلك من علوم طبيعية أو آلية (ميكانيكية) أو رياضية.
(فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي فاللّه يحكم بين المؤمنين الصادقين والمنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر حكما يليق بشأن كل من الثواب والعقاب ، فيثيب أحباءه ويعاقب أعداءه ، أما فى الدنيا فأنتم وهم سواء فى عصمة الأنفس والأموال كما
جاء فى الحديث « فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم » .
(وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) أي إن المؤمنين ما داموا مستمسكين بدينهم متبعين لأمره ونهيه قائمين بعمل ما يستدعيه الدفاع عن بيضة الدين من أخذ الأهبة وإعداد العدّة لن يغلبهم الكافرون ، ولن يكون لهم عليهم سلطان ، وما غلب المسلمون على أمرهم إلا بتركهم هدى كتابهم وتركهم أوامر دينهم وراءهم(5/185)
ج 5 ، ص : 186
ظهريّا ، فذلوا بعد عزة ، وأجلب الكفار عليهم بخيلهم ورجلهم ودخلوا عليهم فى عقر دارهم ، وامتلكوا بلادهم ، وللّه الأمر من قبل ومن بعد.
[سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 143]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)
تفسير المفردات
الخداع : إيهام غيرك أن الشيء على ما يحب ويريد بتزيينك له وهو على غير ذلك.
كسالى : واحدهم كسلان ، وهو المتثاقل المتباطئ ، المراءاة : من الرؤية ، وهى أن يكون من يرائيك بحيث تراه كما يراك ، فالمرائى يريهم عمله وهم يرونه استحسان ذلك العمل الذبذبة : حكاية صوت الحركة للشىء المعلق ثم استعملت فى كل اضطراب وحركة.
المعنى الجملي
لا يزال الحديث فى المنافقين وبيان أحوالهم بعد أن ذكر طرفا منها قبل ذلك.
الإيضاح
(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ)
أي يخادعون رسول اللّه فيظهرون له الإيمان ويبطنون الكفر ، ونسب ذلك إلى اللّه من جهة أن معاملة الرسول بذلك كمعاملة اللّه به كما قال تعالى « إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ » .
وفى جعل ذلك خداعا للّه تنبيه إلى شيئين ، فظاعة فعلهم فيما تحرّوه من الخديعة ،(5/186)
ج 5 ، ص : 187
إذ هم بمخادعتهم للرسول إنما يخادعون اللّه ، وعظم شأن المقصود بالخداع ، وهو الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأن معاملته بذلك كمعاملة اللّه به.
(وَهُوَ خادِعُهُمْ)
أي مجازيهم على خداعهم ، وسمى ذلك مخادعة مشاكلة للفظ الأول ، ونظيره « وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ » وإنما جعل كذلك لأنه قد استعمل فى المعاني المذمومة التي تتضمن الكذب أو تدل على ضعف صاحبها وعجزه غالبا.
وخلاصة المعنى - إنه عبر عن سنة اللّه فى عاقبة أمرهم فى العاجل والآجل من حيث إنها جاءت على غير ما يحبون بلفظ مأخوذ من المخادعة ، إذ أنهم بمخادعتهم للرسول والمؤمنين يسيرون فى طريق يضلّون فيه وينتهون إلى الخزي والوبال من حيث هم يطلبون السلامة والنجاة ، فمخادعتهم لأنفسهم بسوء اختيارهم لها هو مخادعة اللّه لهم ، إذ جرت سنته تعالى فيمن يعمل مثل عملهم أن يلاقى الخزي فى الدنيا والنكال فى الآخرة ، وهكذا حال المنافقين فى كل أمة وملة يخادعون ويكذبون ، ويكيدون ويغشّون ، ويتولون أعداء أمتهم يبتغون بذلك يدا عندهم يمتون بها إليهم إذا دالت دولتهم ، وكتب التاريخ ملأى بأخبار هؤلاء الأشرار ، ويكثر عددهم فى الأمم فى أطوار الضعف وقوة الأعداء ، إذ هم طلاب منافع يلتمسونها من كل فج ، ويسلكون لها كل طريق ، ولو فيما يضر أمتهم والناس أجمعين ، وقد روى عن ابن عباس أنه قال : خداعه تعالى لهم أن يعطيهم نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم وبقوا فى ظلمة ، ودليله قوله تعالى « كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ » .
(وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى )
أي متباطئين متثاقلين ليست لديهم رغبة تبعثهم على عمل ، ولا نشاط يدفعهم على فعل ، لأنهم لا يرجون ثوابا فى الآخرة ، ولا يخشون عقابا إذ لا إيمان لهم ، وإنما يخشون الناس ، فإذا كانوا بمعزل عن المؤمنين(5/187)
ج 5 ، ص : 188
تركوها ، وإذا كانوا معهم سايروهم بالقيام بها ، ومن كانت هذه حاله وقع عمله على وجه الكسل والفتور.
(يُراؤُنَ النَّاسَ)
بها ، أي يبتغون بذلك أن يراهم المؤمنون فيعدوهم منهم.
(وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)
أي لا يصلّون إلا قليلا ، فإذا لم يرهم أحد لم يصلوا وإذا كانوا مع الناس راءوهم وصلّوا معهم.
(مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) أي مضطربين مائلين تارة إلى المؤمنين ، وتارة إلى الكافرين ، لا يخلصون إلى أحد الفريقين ، لأنهم طلاب منافع ، ولا يدرون لمن تكون العاقبة ، فمتى ظهرت الغلبة لأحدهما ادعوا أنهم منه كما بين اللّه ذلك فيما سلف.
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) أي ومن قضت سنته أن يكون ضالا عن الحق موغلا فى الباطل ، بما قدم من عمل ، وتخلق به من خلق ، فلن تجد له سبيلا للهداية باجتهادك والمبالغة فى إقناعه بالحجة والدليل ، فإن سنة اللّه لا تتبدل ولا تتحول.
[سورة النساء (4) : الآيات 144 الى 147]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)(5/188)
ج 5 ، ص : 189
المعنى الجملي
بعد أن ذم سبحانه المنافقين بأنهم مذبذبون لا يستقر لهم قرار ، فهم تارة مع المؤمنين ، وأخرى مع الكافرين ، حذر المؤمنين أن يفعلوا فعلهم وأن يوالى بعض ضعفائهم الكافرين دون المؤمنين ، يبتغون عندهم العزة ويرجون منهم المنفعة كما فعل حاطب بن أبى بلتعة ، إذ كتب إلى كفار قريش يخبرهم بما عزم عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم فى شأنهم لأنه كان له عندهم أهل ومال.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) المراد بالولاية هنا النصرة بالقول أو بالفعل بما يكون فيه ضرر للمسلمين ، وهذا كقوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ » .
أما استخدام الذميين منهم فى الحكومة الإسلامية فليس بمحظور ، والصحابة رضوان اللّه عليهم استخدموهم فى الدواوين الأميرية ، وأبو إسحاق الصابي جعل وزيرا فى الدولة العباسية.
(أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) السلطان : الحجة والبرهان ، والمبين هنا بمعنى البين فى نفسه.
والمعنى - أ تريدون أن تجعلوا للّه عليكم حجة بينة فى استحقاقكم للعقاب إذا اتخذتموهم أولياء من دون المؤمنين ؟ فإن عملا كهذا لا يصدر إلا من منافق.
(إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) الدرك والدرك بالسكون والتحريك :
الطبقة أسفل من الأخرى ، فإذا كانت أعلى منها كانت درجة ، والنار سبع دركات سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة ، وفى الآية إشارة إلى أن دار العذاب فى الآخرة ذات دركات بعضها أسفل من بعض ، كما أن دار النعيم درجات بعضها أعلى من بعض.(5/189)
ج 5 ، ص : 190
وإنما كان المنافقون فى الدرك الأسفل من النار ، لأنهم شر أهلها ، إذ هم جمعوا بين الكفر والنفاق ومخادعة الرسول والمؤمنين وغشهم ، فأرواحهم أسفل الأرواح ، ونفوسهم أحط النفوس ، ومن ثم كانوا أجدر الناس بالدرك الأسفل منها.
أما أكثر الكفار فقد غلب عليهم الجهل بحقيقة التوحيد ، فهم مع إيمانهم باللّه يشركون به غيره ، من صنم أو وثن يتخذونه شفيعا عنده ووسيطا بينه وبينه ، وقد قاسوا ذلك على معاملة الملوك المستبدين ، والأمراء الظالمين.
(وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) ينقذهم من ذلك العذاب أو يخففه عنهم فيرفعهم من الطبقة السفلى إلى ما فوقها.
(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) أي هذا الجزاء الشديد الذي أعده اللّه للمنافقين لا يكون للذين تابوا من النفاق والكفر وندموا على ما فرط منهم وأتبعوا ذلك بأمور ثلاثة :
(1) اجتهادهم فى صالح الأعمال التي تغسل أدران النفاق ، بأن يلتزموا الصدق فى القول والعمل مع الأمانة والوفاء بالوعد ، ويخلصوا النصح للّه ورسوله ، ويقيموا الصلاة مع الخشوع والخضوع ومراقبة اللّه فى السر والعلن.
(2) اعتصامهم باللّه بأن يكون غرضهم من التوبة وصلاح العمل مرضاة اللّه ، مع التمسك بكتابه ، والتخلق بآدابه ، والاعتبار بمواعظه ، والرجاء فى وعده ، والخوف من وعيده ، والائتمار بأوامره ، والانتهاء عن نواهيه ، كما قال تعالى : « فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً » .
(3) إخلاصهم للّه بأن يدعوه وحده ولا يدعوا من دونه أحدا لكشف ضر ولا لجلب نفع ، بل يكون كل ما يتعلق بالدين والعبادة خالصا له وحده كما قال :(5/190)
ج 5 ، ص : 191
« إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ » وكما جاء فى قوله : « فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ » .
(فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أي فأولئك التائبون يكونون مع المؤمنين ، لأنهم يؤمنون كإيمانهم ويعملون كعملهم فيجزون جزاءهم.
(وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) أي وسوف يعطيهم اللّه الأجر العظيم الذي لا يقدر قدره ، كما قال تعالى : « فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ » .
ثم بين أن تعذيبهم إنما كان لكفرهم بأنعم اللّه عليهم فقال :
(ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ؟ ) الاستفهام للإنكار. أي إنه تعالى لا يعذب أحدا من خلقه انتقاما منه ، ولا طلبا لنفع ولا دفعا لضر ، لأنه تعالى غنى عن كل أحد ، منزه عن جلب منفعة له ، وعن دفع مضرة عنه ، بل ذلك جزاء كفرهم بأنعم اللّه عليهم ، فهو قد أنعم عليهم بالعقل والحواس والجوارح والوجدان ، لكنهم استعملوها فى غير ما خلقت لأجله من الاهتداء بها لتكميل نفوسهم بالفضائل والعلوم والمعارف ، كما كفروا بخالق هذه القوى فاتخذوا له شركاء ، ولا ينفعهم تسميتهم شفعاء أو وسطاء ، حتى فسدت فطرتهم ، ودنست أرواحهم ، ولو آمنوا وشكروا لطهرت أرواحهم ، وظهرت آثار ذلك فى عقولهم وسائر أعمالهم التي تصلحهم فى معاشهم ومعادهم ، واستحقوا بذلك رضوان اللّه « وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ » .
(وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً) أي يجعل ثواب المؤمنين الشاكرين بحسب علمه بأحوالهم ، ونيلهم من الدرجات أكثر مما يستحقون ، جزاء على شكرهم وإيمانهم كما قال : « وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ(5/191)
ج 5 ، ص : 192
عَذابِي لَشَدِيدٌ »
فهو يجزى بيسير الطاعات ، رفيع الدرجات ، ويعطى بالعمل فى أيام معدودة ، نعما فى الآخرة غير محدودة.
وفقنا اللّه لصالح العمل ، وجعلنا من المؤمنين الشاكرين.
وصلى اللّه على محمد وصحبه وسلم.
وكان الفراغ من كتابة مسوّدة هذا الجزء فى اليوم الثاني من المحرم سنة اثنتين وستين وثلاثمائة بعد الألف ، بمدينة حلوان من أرباض القاهرة بالديار المصرية.(5/192)
ج 5 ، ص : 193
فهرس أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 5 جاء الإحصان فى القرآن لعدة معان 7 الاسترقاق المعروف الآن فى بلاد الحجاز ، والسودان ، وبلاد الجراكسة ليس بشرعى 8 نكاح المتعة (النكاح المؤقت) حرام كالنكاح بنية الطلاق.
10 كان الزنا فى الجاهلية قسمين سرّى وعلنى كما هو الآن فى كثير من البلاد الإفرنجية ومن قلدهم فى البلاد الإسلامية.
17 مال الفرد مال الأمة مع احترام الحيازة والملكية ، ولا يباح للمحتاج أن يأخذه إلا بإذن صاحبه.
18 مدار حل التجارة على التراضي فلا ينبغى أن يكون فيها غش ولا تدليس.
19 الدين قد جعل قتل غيرك قتلا لنفسك.
27 أسباب قوامة الرجال على النساء.
28 النهج القويم فى معاملة المرأة.
30 الرجال الذين يستذلون نساءهم يلدون عبيدا لغيرهم.
31 علاج الشقاق بين الزوجين إرسال حكمين حكم من أهله وحكم من أهلها.
37 أمرنا بحسن معاملة الخادم والمولى.(5/193)
ج 5 ، ص : 194
الصفحة المبحث 39 المرائى بخيل فى الحقيقة - الفارق بينه وبين المخلص فى عمله.
40 القرين الصالح عون على الخير.
44 يوم القيامة يود الكافر لو تسوى به الأرض ويكون ترابا.
47 حكمة الاغتسال من الجنابة.
51 أهل الكتاب اشتروا الضلالة بالهدى فحرفوا الكلم عن مواضعه.
55 اتفق الرسل جميعا فى أسس الدين واختلفوا فى التفاصيل.
58 ضروب الشرك - الحكمة فى عدم مغفرته.
61 تحذير المسلمين من الغرور بدينهم كما فعل أهل الكتاب.
65 هل يعود الملك إلى اليهود ؟ .
68 الحكمة فى تبديل جلود الكفار - رأى الطلب فى ذلك.
69 أزواج الجنة مبرآت من العيوب الجسمية والنفسية.
70 الأمانة ضروب وأنواع.
73 الأصول التي بنى عليها التشريع فى الإسلام.
76 التحاكم إلى الدجالين وأصحاب المندل والرمل ومدعى الكشف والولاية 77 المنافقون يصدون عن التحاكم إلى الرسول.
83 صادق الإيمان من يطيع اللّه فى المحبوب والمكروه.
92 جرت سنة اللّه أن الحق يعلو على الباطل وأن البقاء للأصلح.
97 كل شىء من عند اللّه ، فهو خالق الأشياء وواضع نظمها.
98 طاعة اللّه من أسباب النعم ، وعصيانه مما يجلب النقم.
102 لو كان القرآن من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
117 الناس فى عصر التنزيل كانوا ثلاث فرق بالنسبة إلى هذا الدين 123 للعلماء فى توبة قاتل المؤمن عمدا آراء ثلاثة.(5/194)
ج 5 ، ص : 195
الصفحة المبحث 131 لا تقبل مسايرة أهل البدع والأهواء خوفا من الأذى 133 إذا لم يستطع الرجل إقامة دينه فى بلد وجبت عليه الهجرة منه إلى بلد آخر.
135 من سافر لأمر فيه ثواب كطلب علم وحج ومات قبل الوصول إلى مقصده كتب له أجر فعل ذلك.
136 السبب فى شرع الهجرة فى صدر الإسلام.
139 صلاة القصر فى السفر وشرطها.
144 الحكمة فى توقيت الصلاة.
148 لا ينبغى أن يظهر الميل الفطري أو الديني فى مجلس القضاء.
149 من شأن العاصين أن يستتروا من الناس حين اجتراح السيئات ، ولا يستحيون من اللّه.
153 النجوى مظنة الشر ولا خير فيها إلا فى الأمر بصدقة أو معروف.
أو إصلاح بين الناس.
155 من يرتد عن الإسلام بعد ما ظهرت له الهداية على لسان رسله فمأواه جهنم وبئس المصير.
157 لا يغفر اللّه الشرك لأحد ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
159 الشرك أصناف.
161 من يتبع وساوس الشيطان فقد خسر خسرانا مبينا.
162 وعد الشيطان غرور من القول وزور.
165 كل ما أصاب المسلم كفارة له حتى الشوكة يشاكها.
166 النجاة والسعادة فى الآخرة منوطان بصالح العمل مع الإيمان.
170 فى الكتاب ما يجب من معاملة الضعيفين المرأة واليتيم.(5/195)
ج 5 ، ص : 196
الصفحة المبحث 171 إذا خافت المرأة من الزوج نشوزا وإعراضا فلا بأس فى أن تتسامح فى بعض.
حقوقها عليه أو كلها لتبقى فى عصمته.
172 العدل غير مستطاع بين الأزواج فيجب مراعاته على قدر الإمكان.
173 ميثاق الزوجية ميثاق مؤكد يجب احترامه.
174 إذا افترق الزوجان وراعيا حدود اللّه يسر اللّه لهما من فضله وجوده خير العوض من صاحبه.
178 تحرى الحق والعدل فى الشهادة ولو على النفس أو الوالدين والأقربين.
182 المغفرة إنما تكون بتأثير التوبة والعمل الصالح فى النفس حتى يزيل ما علق بها من الآثام.
183 نهينا عن الجلوس فى الأماكن التي فيها ذم الإسلام والاستهزاء بالقرآن.
185 ما غلب المسلمون فى هذه العصور ولا فتح الكفار بلادهم إلا بترك الأهبة.
وإعداد العدة.
185 لن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا ما داموا مستمسكين بدينهم متبعين لأوامره.
187 المنافقون فى كل أمة وملة يخادعون ويكذبون ويتولون أعداء أمتهم يبتغون بذلك يدا عندهم.
190 المنافق إذا تاب واجتهد فى صالح الأعمال واعتصم باللّه وأخلص له العمل يعفو اللّه عنه.
191 العذاب جزاء على الجرائم التي تصدر عن الفاعل لها.(5/196)
ج 6 ، ص : 1
الجزء السادس
[تتمة سورة النساء]
تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء السادس(6/1)
ج 6 ، ص : 2(6/2)
ج 6 ، ص : 3
بسم اللّه الرحمن الرحيم
[سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 149]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه كثيرا من عيوب المنافقين ومفاسدهم لإقامة الحجة عليهم ، وحذّر المؤمنين من مثل أعمالهم وأخلاقهم كما قال : « وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ » .
بين هنا حكم الجهر بالسوء من القول وإبداء الخير وإخفائه ، حتى لا يستدل المؤمنون بذكر عيوب المنافقين والكافرين فى القرآن على استحباب الجهر بالسوء من القول أو مشروعيته إذا كان حقا على الإطلاق فيفشو ذلك ، وفى هذا من الضرر ما سنذكره.(6/3)
ج 6 ، ص : 4
الإيضاح
(لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) حب اللّه لشىء هو الرضا به والإثابة عليه ، والجهر يقابل السر والإخفاء ، والسوء من القول ما يسوء من يقال فيه كذكر عيوبه.
ومساويه التي تؤذى كرامته.
والمعنى - أنه تعالى لا يحب من عباده أن يجهروا فيما بينهم بذكر العيوب والسيئات لما فى ذلك من المفاسد الكثيرة التي أهمها :
1) إنه مجلبة للعداوة والبغضاء بين من يجهر بالسوء ومن ينسب إليه هذا السوء ، وقد يصل الأمر إلى هضم الحقوق وسفك الدماء.
2) إنه يؤثر فى نفوس السامعين تأثيرا ضارا بهم ، فقد جرت العادة بأن الناس يقتدى بعضهم ببعض ، فمن رأى إنسانا يسبّ آخر لضغائن بينه وبينه ، أو لكراهته إياه قلده فى ذلك ، ولا سيما إذا كان من الأحداث الذين يغلب عليهم التقليد أو من طبقة دون طبقته ، إذ عامة الناس يقلدون خواصهم ، فإذا ظهرت المنكرات فى الخاصة لا تلبث أن تصل إلى العامة وتفشو بينهم. ومن تميل نفسه إلى منكر أو فاحشة يجترئ على ارتكابهما إذا علم أن له سلفا وقدوة فيهما ، فسماع السوء كعمل السوء فذاك يؤثر فى نفس السامع وهذا يؤثر فى نفس الرائي والناظر ، وأقل هذه الأضرار أنه يضعف فى النفس استقباحه واستبشاعه خصوصا إذا تكرر السماع أو النظر.
وكثير من الناس يجهل مبلغ تأثير الكلام فى القلوب ، فلا ينزهون ألسنتهم عن السوء من القول ولا أسماعهم عن الإصغاء إليه.
والخلاصة - إن اللّه لا يحب الجهر بالسوء من القول ولا الإسرار به ، إذ هو قد نهى عن النجوى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، لكنه خص الجهر هنا بالذكر لمناسبة بيان مفاسد الكفار والمنافقين فى هذا السياق.(6/4)
ج 6 ، ص : 5
والجهر بالسوء أشد ضرارا من الإسرار به ، لأن ضرره وفساده يفشو فى جمهرة الناس ويعم سائر الطبقات.
(إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) أي لكن من ظلمه ظالم فجهر بالشكوى من ظلمه شارحا ظلامته لحاكم أو غيره ممن ترجى نجدته ومساعدته على إزالة هذا الظلم فلا حرج عليه فى ذلك ، فإن اللّه لا يحب لعباده أن يسكتوا على الظلم ، ولا أن يخضعوا للضيم ، بل يحب لهم العزة والإباء.
فها هنا تعارضت مفسدتان : مفسدة الجهر بالشكوى من الظلم بقول السوء ، ومفسدة السكوت على الظلم وهو مدعاة فشوّه والتمادي فيه ، وذاك مما يؤدى إلى هلاك الأمم وخراب العمران ، وكانت ثانيتهما أخف الضررين فأجيزت للضرورة التي تقدّر بقدرها وإذا فلا يجوز للمظلوم أن يتمادى فى الجهر بالسوء بما لا دخل له فى دفع الظلم
وفى الحديث « إن لصاحب الحق مقالا » رواه الإمام أحمد.
(وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً) فلا يفوته قول من أقوال من يجهر بالسوء ولا يعزب عن علمه البواعث التي أدت إليه ، إذ لا يخفى عليه شىء من أقوال العباد ولا من أفعالهم ونياتهم فيها ، فمن جهر بالسوء الذي لا يحبه اللّه لعباده لضرره ومفسدته لظلم وقع عليه فاللّه لا يؤاخذه ، بل ربما أثابه على ذلك لإراحة الناس من شر فاعله ، فإن الظالم إن لم يؤاخذ على ظلمه يزدد فيه ضراوة وإصرارا.
(إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) أي إن فاعلى الخير سرا وجهرا والعافين عمن يسىء إليهم يجزيهم ربهم من جنس ما عملوا ، فيعفو عن سيئاتهم ويجزل مثوبتهم ، واللّه من شأنه العفو وهو القدير الذي لا يعجزه الثواب الكثير على العمل القليل.(6/5)
ج 6 ، ص : 6
[سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 152]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)
المعنى الجملي
بين سبحانه فى هذه الآيات أن للإيمان ركنين يبنى عليهما ما عداهما ، ولا يقبل الإيمان بدونهما ، وهما الإيمان به وبجميع رسله بدون تفرقة بين رسول وآخر. ومن أنكرهما أو أحدهما فقد كفر وعاقبته العذاب الأليم فى جهنم وبئس القرار.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) ليس المراد أنهم يصرحون بالكفر بل هو ما تقتضيه آراؤهم ومذاهبهم ، وقوله :
نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، بيان لتفريقهم بين اللّه ورسله.
والخلاصة - إن الكافرين بالرسل فريقان : فريق لا يؤمن بأحد منهم ، لإنكارهم النبوات وزعمهم أن ما أتى به الأنبياء من الهدى والشرائع هو من عند أنفسهم لا من عند اللّه ، وأكثر الملحدين فى هذا العصر من ذلك الفريق. وفريق آخر يؤمن ببعض الرسل دون بعض كقول اليهود نؤمن بموسى ونكفر بعيسى ومحمد فهما ليسا برسولين ، وقول النصارى نؤمن بموسى وعيسى ونكفر بمحمد ، والفريقان كافرون مستحقون للعذاب ، ولا عبرة بما يدعونه إيمانا.
(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) أي وأعددنا لكل كافر سواء أ كان منهم(6/6)
ج 6 ، ص : 7
أم من غيرهم عذابا فيه ذل وإهانة لهم جزاء كفرهم الذي ظنوا فيه العزة والكرامة.
ذاك أن من يؤمن باللّه ولا يؤمن بوحيه إلى رسله لا يكون إيمانه صحيحا ولا يهتدى إلى ما يجب له من الشكر ولا يعرف كيف يعبده على الوجه الذي يرضيه ، ومن ثم نرى أمثال هؤلاء ماديين لاتهمهم إلا شهواتهم كما أن من يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون.
ببعض كأهل الكتاب لا يعتدّ بقولهم ، لأن الإيمان بالرسالة على الوجه الحق إنما يكون بفهمها وفهم صفات الرسل ووظائفهم وتأثير هدايتهم.
ومن فهم هذا حق الفهم علم أن صفات الرسل قد ظهرت بأكملها فى محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فهو قد جاء بكتاب حوى ما لم يحوه كتاب آخر مع أنه نشأ بين قوم أميين ، ونقل كتابه وأصول دينه بالتواتر القطعي والأسانيد المتصلة دون غيره من الكتب.
وبعد أن ذكر حال الفريقين السالفى الذكر ذكر حال فريق ثالث فقال :
(وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي والذين آمنوا باللّه وجميع الرسل وعملوا بشريعة آخرهم ، علما منهم بأن جميعهم مرسل من عند اللّه ، وما مثلهم إلا مثل ولاة يرسلهم السلطان إلى البلاد ومثل الكتب التي جاءوا بها مثل القوانين التي يصدر السلطان مراسيم للعمل بها ، فكل وال منهم إنما ينفذ أوامر السلطان وكل قانون يعمل به لأنه منه ، وكل قانون جديد ينسخ ما قبله ويمنع العمل به. وأولئك يؤتيهم اللّه أجورهم بحسب حالهم فى العمل ، لأنهم وقد صح إيمانهم به وبرسله يهديهم إلى العمل الصالح ، إذ هو الأثر اللازم لذلك الإيمان الصحيح.
ولم يقل فى هؤلاء إنهم هم المؤمنون حقا كما قال فى أولئك هم الكافرون حقا ، لئلا يدور بخلد أحد أن كمال الإيمان يوجد بدون العمل الصالح فيغتر بذلك ويترك العمل النافع وهذا مما لا يتلاءم مع نصوص الدين ، فلقد وصف اللّه المؤمنين حقا بقوله : « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ » .(6/7)
ج 6 ، ص : 8
(وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان اللّه غفورا لهفوات من صح إيمانه ولم يشرك بربه أحدا ، ولم يفرّق بين أحد من رسله ، رحيما به يعامله بالإحسان ويضاعف حسناته ويزيد على ما وعد تفضلا منه ورحمة.
[سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 159]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)(6/8)
ج 6 ، ص : 9
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فى سابق الآيات حال الذين يكفرون باللّه ورسله ويفرقون بين اللّه ورسله فيقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض وهم أهل الكتاب ، بين فى هذه الآيات بعض حوادث لليهود تدل على شديد تعنتهم وجهلهم بحقيقة الدين.
الإيضاح
(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) فقد قالوا إن موسى عليه السلام جاء بالألواح من عند اللّه فائتنا بألواح من عنده تكون بخط سماوى يشهد أنك رسول اللّه إلينا.
أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : إن اليهود قالوا لمحمد صلى اللّه عليه وسلم لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند اللّه يكون فيه (من اللّه تعالى إلى فلان إنك رسول اللّه وإلى فلان إنك رسول اللّه ، وهكذا ذكروا أسماء معينة من أحبارهم ، وما مقصدهم من ذلك إلا التعنت والتحكم لا طلب الحجة لأجل الاقتناع) وقال الحسن لو سألوه ذلك استرشادا لأعطاهم ما سألوا (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) أي عيانا ننظر إليه ونشاهده : أي لا تعجب أيها الرسول من سؤالهم وتستنكره فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ، وكل من السؤالين يدل على جهل أو عناد.
ذاك أن سؤال الرؤية جهرة دليل على الجهل باللّه ، إذ هم ظنوا أن اللّه جسم محدود تدركه الأبصار ، وأما سؤال إنزال الكتاب فهو دليل إما على العناد لأنهم اقترحوا ما اقترحوا تعجيزا ومراوغة ، وإما على الجهل بمعنى النبوة والرسالة مع ما ظهر فيهم من أنبياء ، إذ هم لا يميزون بين الآيات الصحيحة التي يؤيد اللّه بها رسله وبين الشعوذة وحيل السحرة المخالفة للعادة ، وكتبهم قد بينت لهم أنه يقوم فيهم أنبياء كذبة وأن النبي(6/9)
ج 6 ، ص : 10
يعرف بدعوته إلى التوحيد والحق لا بمجرد أعجوبة يعملها كما نصت على ذلك التوراة فى سفر تثنية الاشتراع وغيره.
وأيا ما كان فلا فائدة فى إجابتهم إلى ما طلبوا كما قال تعالى : « وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ » .
ونسب سؤال موسى إليهم والذين سألوا إنما هم سلفهم ، لأن الخلف والسلف سواسية فى الأخلاق والصفات ، فالأبناء يرثون الآباء ولا سيما اليهود الذين يأبون مصاهرة الغرباء ، ولأن سنة القرآن قد جرت على أن الأمة تعد كالشخص الواحد فى اتباع خلفها لسلفها ، فينسب إلى المتأخر ما فعله المتقدم كما سبق هذا فى سورة البقرة فى مخاطبة اليهود وغيرهم.
(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) الصواعق نيران جوية تنشأ من اتحاد الكهرباء الموجبة بالكهرباء السالبة ، وقوله بظلمهم : أي بسبب ظلمهم : أي إن اللّه تعالى عاقبهم على جهلهم بإنزال الصاعقة عليهم عذابا لهم ، إذ شبهوا الخالق بالمخلوق ورفعوا أنفسهم فوق أقدارها كما قال تعالى « وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ » .
(ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) تقدم هذا فى سورة البقرة : أي وبعد أن جاءتهم المعجزات على يد موسى عليه السلام من قلب العصا حية واليد بيضاء وفلق البحر وغيرها ، اتخذوا العجل إلها وعبدوه ، فعفونا عن ذلك الذنب حين تابوا ، فتوبوا أنتم مثلهم حتى نعفو عنكم مثلهم.
(وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) السلطان هنا بمعنى السلطة : أي إننا أعطيناه سلطة ظاهرة فأخضعناهم له على تمردهم وعنادهم حتى فى قتل أنفسهم.
وفى هذا بشارة للنبى صلى اللّه عليه وسلم بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندون فإنك ستتغلب عليهم آخرا وتقهرهم.
ثم حكى عز اسمه عنهم سائر جهالاتهم وإصرارهم على أباطيلهم وقد تقدم بعضها فى سورة البقرة فقال :(6/10)
ج 6 ، ص : 11
(وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ) الطور الجبل المعروف رفع فوقهم كأنه ظلة وقد كانوا فى واديه ، وقوله بميثاقهم : أي بسبب ميثاقهم أن يأخذوا ما أنزل إليهم بقوة ويعملوا به مخلصين ثم امتنعوا من العمل بما جاء به فرفع عليهم الجبل فخافوا وقبلوا العمل به.
(وَ قُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) الباب هو باب المدينة وهى بيت المقدس وقيل أريحا ، وقوله سجدا : أي خاضعى الرءوس مائلى الأعناق ذلة وانكسارا لعظمته : أي وقلنا لهم على لسان يوشع عليه السلام ادخلوا باب هذه القرية بذلة وانكسار.
(وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) والاعتداء تجاوز الحد ، والاعتداء فى السبت هو اصطياد الحيتان فيه : أي وقلنا لهم على لسان داود عليه السلام لا تتجاوزوا حدود اللّه فيه بالعمل الدنيوي ، وقد خالفوا فى السبت وفى دخول الباب.
(وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) الميثاق الغليظ العهد المؤكد : أي وأخذنا منهم عهدا مؤكدا ليأخذنّ التوراة بقوة ، وليقيمنّ حدود اللّه ولا يتعدونها ، ويتبع ذلك البشارة بعيسى ومحمد عليهما السلام وهو موجود إلى الآن فى الفصل التاسع والعشرين وما بعده من سفر تثنية الاشتراع وهو آخر التوراة التي بأيديهم.
(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي فبسبب نقض أهل الكتاب للميثاق الذي واثقهم اللّه به فأحلوا ما حرمه وحرموا ما أحله ، وكفرهم بآياته وحججه الدالة على صدق أنبيائه ، وقتل الأنبياء الذين أرسلوا لهدايتهم كزكريا ويحيى عليهما السلام.
(وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع أغلف وهو ما عليه غلاف : أي لا ينفذ إليها شىء مما جاء به الرسول ولا يؤثر فيها وهذا كقوله حكاية عن المشركين « وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ » وغير ذلك من سيئاتهم التي ستذكر بعد - فعلنا بهم ما فعلنا من لعن إلى غضب إلى ضرب الذلة والمسكنة وإزالة الملك والاستقلال ، لأن هذه الذنوب فرقت شملهم وذهبت بقوتهم وأفسدت أخلاقهم إلى غير ذلك من أنواع البلاء التي سببها الكفر والعصيان.(6/11)
ج 6 ، ص : 12
(بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) طبع اللّه عليها جعلها كالسكة المطبوعة (الدراهم مثلا) فى قساوتها وجعلها بوضع خاص لا تقبل غيره : أي ليس ما وصفوا به قلوبهم هو الحق الواقع ، بل لأن اللّه ختم عليها بسبب كفرهم الكسبي وماله من الأثر القبيح فى أعمالهم وأخلاقهم ، فهم باستمرارهم على ذلك الكفر لا ينظرون فى شىء آخر نظر استدلال واعتبار ، مع أنه من الأمور التي يصل إليها اختيارهم ، ولكنهم لا يختارون إلا ما ألفوا وتعودوا.
(فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) أي إلا قليلا من الإيمان لا يعتد به ، لأنه تفريق بين اللّه ورسله ، فالكفر ببعضهم كالكفر بجميعهم ، وهم قد كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام.
(وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) المراد بالكفر هنا الكفر بعيسى عليه السلام بدليل ما بعده ، وبالكفر الذي قبله الكفر بمحمد صلى اللّه عليه وسلم بقرينة قوله : وقالوا قلوبنا غلف ، والبهتان : الكذب الذي يبهت من يقال فيه : أي يدهشه ويحيّره لبعده وغرابته ، والمراد به هنا رميها بالفاحشة.
والمعنى - إن اللّه طبع على قلوبهم بكفرهم بعيسى وأمه ورميهم إياها بالكذب العظيم ، وأي بهتان تبهت به العذراء التقية أعظم من هذا ؟ .
والخلاصة - إن هذا الكفر والبهتان من أسباب ما حل بهم من غضب اللّه.
(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ) أي وبسبب قولهم هذا القول المؤذن بالجرأة على الباطل والاستهزاء بآيات اللّه.
وذكروه بوصف الرسالة تهكما واستهزاء بدعوته ، بناء على أنه إنما ادعى النبوة والرسالة فيهم لا الألوهية كما ادعت النصارى ، إذ جاء فى إنجيل يوحنا (وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته).
(وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) أي والحال أنهم ما قتلوه كما ادعوا ، وما صلبوه كما زعموا وشاع بين الناس ، ولكن وقع لهم الشبه فظنوا أنهم صلبوا عيسى(6/12)
ج 6 ، ص : 13
وهم إنما صلبوا غيره ، ومثل هذا الشبه يحدث كثيرا فى كل زمان وتحكى عنه نوادر وحوادث غاية فى الغرابة لكنها قد وقعت فعلا.
فقد ذكر بعض المؤلفين فى الطب الشرعي من الإنجليز حادثة وقعت سنة 1539 فى فرنسا استحضر فيها 150 شخصا لمعرفة شخص يدعى (مارتين جير) جزم أربعون منهم بأنه هو هو وقال خمسون انه غيره والباقون ترددوا ولم يمكنهم أن يبدوا رأيا ثم اتضح من التحقيق أن هذا الشخص كان غير مارتين جير وانخدع به هؤلاء الشهود المثبتون وعاش مع زوجته مارتين محوطا بأقاربه وأصحابه ومعارفه ثلاث سنوات وكلهم مصدق أنه مارتين ، ولما حكمت المحكمة عليه بظهور كذبه بالدلائل القاطعة استأنف الحكم فى محكمة أخرى فأحضر ثلاثون شاهدا أقسم عشرة منهم بأنه هو مارتين ، وقال سبعة إنه غيره وتردد الباقون.
على أن هذا الحادث من خوارق العادات التي أيد اللّه بها نبيه عيسى بن مريم وأنقذه من أعدائه فألقى شبهه على غيره وغيّر شكله ، فخرج من بينهم وهم لا يشعرون ، وفى أناجيلهم وكتبهم نصوص متفرقة تؤيد هذا الوجه وإذا قال قائل : وإذا كان المسيح قد نجا من أعدائه فأين ذهب ؟ والجواب أنا إذا قلنا إنه رفع بروحه وجسده إلى السماء فلا ترد هذه الشبهة ، وإذا قلنا إن اللّه توفاه فى الدنيا ثم رفعه إليه كما رفع إدريس عليهما السلام فلا غرابة فى ذلك ، فإن أخاه موسى عليه السلام قد انفرد عن قومه فى مكان لم يعرفه أحد منهم ، وكانوا ألوفا عدة خاضعين لأمره ونهيه ، فكيف يستغرب أن يفرّ عيسى عليه السلام من قوم هم أعداء له ، لا ولى له فيهم ولا نصير إلا أفراد من الضعفاء قد انفضّوا من حوله وقت الشدة ، وقد أنكره أمثلهم بطرس الحوارى ثلاث مرات ؟ .
(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ) قال فى لسان العرب : الشك ضد اليقين ، فالشك فى صلب المسيح هو التردد فيه أهو المصلوب أم غيره ؟(6/13)
ج 6 ، ص : 14
والمعنى - وإن الذين اختلفوا فى شأن عيسى من أهل الكتاب لفى تردد من حقيقة أمره ، إذ ليس لهم به من علم قطعىّ الثبوت ، وإنما هم يتبعون الظن والقرائن التي ترجح بعض الآراء على بغض ، وقد جاء فى بعض الأناجيل التي يعوّلون عليها أنه قال لتلاميذه (كلكم تشكّون فى هذه الليلة) أي الليلة التي يطلب فيها للقتل (إنجيل متى من 26 - 31 ومرقس من 14 - 27).
وإذا كانت أناجيلهم تنطق بأنه أخبر تلاميذه أو عرف الناس له بأنهم سيشكون فيه فى ذلك الوقت ، وخبره صادق قطعا ، فهل من العجيب اشتباه غيرهم وشكّ من دونهم فى أمره ؟ .
(وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً) أي وما قتلوا عيسى بن مريم وهم متيقنون أنه هو بعينه ، إذ هم لم يكونوا يعرفونه حق المعرفة ، والأناجيل التي يعوّل عليها صريحة فى أن الذي أسلمه إلى الجند هو يهوذا الاسخريوطي وقد جعل لهم علامة أن من قبله يكون هو المسيح فلما قبّله قبضوا عليه ، وإنجيل برنابا يصرح بأن الجنود أخذوا يهوذا الاسخريوطي نفسه ظنا أنه هو المسيح ، لأنه ألقى عليه شبهه ، ومن هذا تعلم أن الجند ما كانوا يعرفون شخص المسيح معرفة يقينية.
والخلاصة - إن روايات المسلمين جميعها متفقة على أن عيسى عليه السلام نجا من أعدائه ومريدى قتله فقتلوا آخر ظنا منهم أنه هو.
(بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) هذه الآية كآية آل عمران « إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا » وقد روى عن ابن عباس أنه فسر التوفى بالإماتة ، وعن ابن جريج تفسيره بالأخذ والقبض والمراد منه ومن الرفع إنقاذه من الذين كفروا بعناية من اللّه بعد أن اصطفاه إليه وقربه.
وقال ابن جرير نقلا عن ابن جريج : فرفعه إياه توفيه إياه وتطهيره من الذين كفروا أي فليس المراد الرفع إلى السماء بالروح والجسد ولا بالروح فقط ، وفى تفسير ابن عباس(6/14)
ج 6 ، ص : 15
معنى الرفع رفع الروح ، ولكن المشهور بين جمهرة المفسرين وغيرهم أن اللّه تعالى رفعه بروحه وجسده إلى السماء بدليل حديث المعراج ، إذ أن النبي صلى اللّه عليه وسلم رآه هو وابن خالته يحيى فى السماء الثانية ، وأنت ترى أنه لا دليل لهم فى ذلك إذ لو دل هذا على ما يقولون لدل على رفع يحيى وسائر من رآهم من الأنبياء فى سائر السموات ولا قائل بذلك.
وقال الرازي - المعنى رافعك إلى محل كرامتى ، وجعله رفعا للتفخيم والتعظيم كقوله حكاية عن إبراهيم « إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي » وهو إنما ذهب من العراق إلى الشام ، والمراد رفعه إلى مكان لا يملك الحكم فيه عليه إلا اللّه اه.
(وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي إن اللّه عزيز يغلب ولا يغلب ، وبهذه العزة أنقذ عبده ورسوله من اليهود الماكرين وحكام الروم الظالمين ، وبحكمته جازى كل عامل بعمله ، ومن ثم أحل باليهود ما أحل بهم من الذلة والمسكنة والتشريد فى الأرض ، وسيوفيهم جزاءهم يوم القيامة « يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ » .
(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي وإن كل أحد من أهل الكتاب عند ما يدركه الموت ينكشف له الحق فى أمر عيسى وسواه من أمور الدين فيؤمن بعيسى إيمانا حقا لا زيغ فيه ولا ضلال ، فاليهودى يعلم أنه رسول صادق فى رسالته ليس بالكذاب ، والنصراني يعلم أنه عبد اللّه ورسوله وليس بإله وليس هو بابن للّه.
وفائدة إخبارهم بذلك - بيان أنه لا ينفعهم حينئذ فعليهم أن يبادروا به قبل أن يضطرّوا إليه مع عدم الجدوى والفائدة.
(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي ويوم القيامة يشهد عيسى عليهم بما تظهر به حقيقة حاله معهم كما حكى اللّه عنه من قوله : « ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ » فهو يشهد(6/15)
ج 6 ، ص : 16
للمؤمنين منهم بالإيمان حال التكليف والاختيار وعلى الكافر بالكفر ، إذ هو مرسل إليهم وكل نبى شهيد على قومه كما قال تعالى (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) وقد ورد فى الآثار ما يدل على اطلاع الناس قبل موتهم على منازلهم من الآخرة ، فيبشّرون برضوان اللّه أو بعذابه وعقوبته ،
روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « إن المؤمن إذا حضره الموت بشّر برضوان اللّه وكرامته ، وإن الكافر إذا حضر (حضره الموت) بشر بعذاب اللّه وعقوبته »
وروى ابن مردويه عن ابن عباس « ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار » .
وهذا يؤيد ما روى عن ابن عباس فى تفسير الآية من أن الملائكة تخاطب من يموت من أهل الكتاب قبل خروج روحه بحقيقة أمر المسيح ، مع الإنكار الشديد والتقبيح.
[سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 162]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فضائح اليهود وقبيح أعمالهم ، ذكر هنا تشديده عليهم فى الدنيا والآخرة ، أما فى الدنيا فبتحريم طيبات كانت محللة لهم ، وأما فى الآخرة فبما(6/16)
ج 6 ، ص : 17
بينه اللّه بقوله (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) ثم بين أن فريقا منهم آمنوا إيمانا صادقا وعملوا الصالحات فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وتوعدهم بالأجر العظيم يوم القيامة
الإيضاح
(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) أي فبسبب ظلمهم استحقوا تحريم طيبات كانت محلّلة لهم ولمن قبلهم عقوبة وتربية لهم ، لعلهم يرجعون عن ظلمهم ، وكانوا كلما ارتكبوا معصية يحرم عليهم نوع من الطيبات وهم مع ذلك كانوا يفترون على اللّه الكذب ، ويقولون لسنا بأول من حرمت عليه ، بل كانت محرمة على نوح وإبراهيم فكذبهم اللّه فى مواضع كثيرة كقوله : « كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ » .
أما الطيبات التي حرمها عليهم فهى ما بيّن فى قوله عز اسمه « وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ » الآية. وقد أبهمها اللّه هنا ، لأن الغرض من السياق العبرة بكونها عقوبة ، لا بيانها فى نفسها ، كما أبهم الظلم الذي كان سببا فى العقوبة ، ليعلم أن أىّ نوع منه يكون سببا للعقاب فى الدنيا قبل الآخرة.
والعقاب إما دنيوى كالتكاليف الشاقة زمن التشريع ، والجزاء الوارد فى الكتب على الجرائم كالحد والتعزير وما اقتضته السنن التي سنها اللّه فى نظم الاجتماع من كون الظلم سببا لضعف الأمم وفساد عمرانها واستيلاء الأمم الأخرى عليها ، وإما أخروىّ وهو ما بيّنه فى الكتاب الكريم من العذاب فى النار.
ثم بين هذا الظلم وفصله بعد ذكره إجمالا ، ليكون أوقع فى النفس ، وأبلغ فى الموعظة.
(وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً) الصدّ والصدود : المنع ، وهو يشمل صدهم أنفسهم عن سبيل اللّه بما كانوا يعصون به موسى ويعاندونه مرارا ، وصدّهم الناس عن سبيل اللّه بسوء القدوة ، أو بالأمر بالمنكر والنهى عن المعروف.(6/17)
ج 6 ، ص : 18
(وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) أي وبسبب أخذهم الربا وقد نهوا عنه على ألسنة أنبيائهم ، والتوراة التي بين أيديهم إنما تصرح بتحريم أخذهم الربا من شعبهم ومن إخوتهم دون الأجانب ، فقد جاء فى سفر الخروج (إن أقرضت فضة لشعبى الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابى ، لا تضعوا عليه ربا) وفى سفر تثنية الاشتراع (لا تقرض أخاك بربا ، ربا فضة أو ربا شىء ما مما يقرض بربا ، للأجنبى تقرض بربا ، ولكن لأخيك لا تقرض بربا) وهذه عبارة التوراة التي كتبت بعد السبي ، وثبت تحريفها بالشواهد الكثيرة ، أما النسخة التي كتبها موسى فقد فقدت باتفاق اليهود والنصارى.
وبعض أنبيائهم قد نهوا عن الربا إطلاقا فلم يقيدوه بشعب إسرائيل كقول داود فى المزمور الخامس عشر : فضته لا يعطيها بالربا ، ولا يأخذ الرشوة من البريء ، وقول سليمان فى سفر الأمثال (المكثر ماله بالربا والمرابحة ، فلن يرحم الفقراء بجمعه) (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أي بالرشوة والخيانة ونحوهما مما أخذ فيه المال بلا مقابل يعتدّ به.
ونحو الآية قوله تعالى : « سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ » والسحت :
الكسب الحرام فقد كانوا يأخذون أثمان الكتب التي يكتبونها بأيديهم ثم يقولون هى من عند اللّه.
وبعد أن ذكر وجوه الذنوب التي اقترفوها ، والجرائم التي ارتكبوها ، بين جزاءهم عليها فى الآخرة فقال :
(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي وأعددنا للذين كفروا منهم برسل اللّه عذابا مؤلما فى نار جهنم خالدين فيها أبدا.
وبعد أن بين فى هذا السياق سوء حال اليهود وكفرهم وعصيانهم وأطلق القول فى ذلك ، وكان هذا مما يوهم أنه شامل لكل أفرادهم ، جاء الاستدراك عقبه ببيان حال خيارهم الذين لم يذهب عمى التقليد بنور عقولهم فقال :
(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ(6/18)
ج 6 ، ص : 19
قَبْلِكَ)
أي لكن أهل العلم الصحيح بالدين منهم المستبصرون فيه غير التابعين للظن الذين لا يشترون به ثمنا قليلا من المال والجاه ، والمؤمنون من أمتك إيمان إذعان لا إيمان عصبية وجدل ، يؤمنون بما أنزل إليك من البينات والهدى وما أنزل على موسى وعيسى وغيرهما من الرسل ، ولا يفرقون بين اللّه ورسله بهوى ولا عصبية.
روى ابن إسحق والبيهقي فى الدلائل عن ابن عباس أن الآية نزلت فى عبد اللّه بن سلام وأسيد بن سعية وثعلبة بن سعية حين فارقوا يهود وأسلموا.
(وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) أي وأخص منهم المقيمين الصلاة الذين يؤدونها على وجه الكمال ، فهم أجدر المؤمنين بالرسوخ فى الإيمان ، إذ إقامتها بإتمام أركانها علامة كمال الإيمان واطمئنان النفس به.
(وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي والمؤتون الزكاة والمؤمنون باللّه واليوم الآخر مثل المقيمين الصلاة فى استحقاق المدح بالتبع ، إذ إقامتها تستدعى إيتاء الزكاة ، فإن الذي يقيمها على الوجه الذي طلبه الدين لا يمنع الزكاة ، إذ هى مما تزكى النفس وتعلى الهمة وتهوّن على النفس المال ، قال تعالى : « إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ » الآية.
(أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) أي هؤلاء الذين وصفوا بما ذكر كله سنعطيهم أجرا عظيما لا يدرك وصفه إلا علّام الغيوب.
[سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 166]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)(6/19)
ج 6 ، ص : 20
المعنى الجملي
لا يزال الحديث مع أهل الكتاب ، فإنه ذكر عنهم أوّلا أنهم يفرقون بين اللّه ورسله فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، ثم انتقل إلى ذكر شىء من عنادهم وإعناتهم للنبى صلى اللّه عليه وسلم وطلبهم أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، وبيّن أنه لا غرابة فى ذلك فقد شاغبوا موسى من قبله وسألوه ما هو أكبر من ذلك ، ثم ذكر كفرهم بعيسى عليه السلام وبهتهم أمّه ومحاولتهم قتله وصلبه ، وفى كل هذا دليل على تأصل العناد فيهم ، ولولا ذلك لما شاغبوك ، فإن الدليل على نبوتك أوضح مما يدّعون الإيمان بمثله ممن قبلك - وهنا ختم الكلام فى محاجتهم ببيان أن الوحى جنس واحد ، ولو كان إيمانهم بالرسل السابقين صحيحا لما كفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم.
الإيضاح
(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) الوحى لغة : الإيماء والإشارة كما قال تعالى : « فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا » والإلهام الذي يقع فى النفس كما قال : « وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ » وما يكون غريزة دائمة كما قال : « وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ » والإعلام فى خفاء بأن تعلم إنسانا بأمر تخفيه على غيره كما قال :
« شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ » .
ووحي اللّه إلى أنبيائه عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل اللّه بواسطة أو بغير واسطة ، والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت ، ويفرق بينه(6/20)
ج 6 ، ص : 21
وبين الإلهام بأن الإلهام وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب على غير شعور منها من أين أتى ؟ وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور.
والمعنى - إنا قد أوحينا إليك هذا القرآن كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ممن يؤمن بهم ، واللّه لم ينزل على أحد منهم كتابا من السماء كما سألوك للتعجيز والعناد ، لأن الوحى ضرب من الإعلام السريع الخفىّ ، وليس هو بالأمر المشاهد الحسىّ.
وقد بدأ سبحانه بذكر نوح لأنه أقدم الأنبياء ، وقصص بعثته فى سفر التكوين وهو أحد الأسفار الخمسة التي تتضمنها التوراة.
(وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ). الأسباط واحدهم سبط ، وهو ولد الولد ، وأسباط بنى إسرائيل اثنا عشر سبطا ، وهم أبناء يعقوب العشرة وولدا ابنه يوسف ، والأسباط فى بنى إسرائيل كالقبائل فى ولد إسماعيل.
(وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) الزبور : الكتاب وكل كتاب زبور ، وهو هنا اسم للكتاب المنزل على داود ، وقد أفرد بالذكر لأن له شأنا خاصا عند أهل الكتاب.
(وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أي وأرسلنا غير هؤلاء رسلا آخرين قد قصصناهم عليك من قبل تنزيل هذه السورة ، وهم الذين ذكرت أسماؤهم فى السور المكية كقوله فى سورة الأنعام فى سياق الكلام عن إبراهيم « وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ » .
وأجمع السور لقصص الأنبياء هود والشعراء.(6/21)
ج 6 ، ص : 22
(وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) كالذين أرسلوا إلى الأمم المجهول تاريخها عند قومك وعند أهل الكتاب المجاورين لبلادك كالصين واليابان والهند وأوروبا وأمريقا.
وإنما لم يقص اللّه علينا خبرهم لأن القصد من القصص العبرة والتثبيت والذكرى والاحتجاج على نبوته صلى اللّه عليه وسلم كما أشار إلى ذلك فى قوله تعالى : « لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ » وقوله : « وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ » وكل هذا يثبت بذكر من قصهم اللّه علينا من الرسل ، وعلينا أن نعلم أن اللّه أرسل رسلا فى كل الأمم فكانت رحمته بهم عامة لا مختصة بشعب معين كما يزعم أهل الكتاب ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى : « وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ » وقوله : « وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ » وهذه حقيقة دل عليها الدين السماوىّ ولم يكن يعلمها أهل الكتاب الذين يزعمون أن القرآن مقتبس من كتبهم ، وكم فيه من حقائق جلّاها للناظرين بجميل بيانه ، واهتدى العلم الصحيح بعد قرون خلت إلى معرفتها ، وما كان العقل وحده يكشف عنها لولا أن هدى إليها الكتاب الكريم.
(وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً) خاصا له ميزه عن غيره من ضروب الوحى العام لأولئك النبيين ، وليس لنا أن نخوض فى معرفة حقيقته ، لأنا لم نكن من أهله ، على أنا لا نعرف حقيقة كلام بعضنا بعضا ، وكيف تحمل ذرّات الهواء الأصوات إلى الآذان فضلا عن أن نعرف حقيقة كلام الباري.
والوحى إلى الأنبياء يسمى تكليما ، والتكليم لهم يسمى وحيا كما قال تعالى :
« وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ » .
والحكمة فى الحجاب الاستعداد بالتوجه إلى شىء واحد تتحد فيه هموم النفس وأهواؤها المتفرقة كما كان شأن موسى إذ رأى النار فى الشجرة(6/22)
ج 6 ، ص : 23
والرسول الذي يرسله اللّه فيوحى بإذنه ما يشاء هو ملك الوحى المعبر عنه بالروح الأمين.
(رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) أي أرسلنا رسلا قد قصصنا بعضهم عليك ولم نقصص بعضا آخر ، ليكونوا مبشرين من آمن وعمل صالحا بالثواب العظيم ، وينذروا من كفر وأجرم بالعذاب الأليم ، إذ لو لم يرسلهم لكان للناس أن يحتجوا إذا هم أجرموا أو كفروا بأنهم ما فعلوا ذلك إلا لجهلهم ما يجب من الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى : « وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى » وقال « وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا » .
والخلاصة - إن من حكمة إرسال الرسل قطع حجة الناس واعتذارهم بالجهل عند ما يحاسبهم اللّه ويقضى بعقابهم ، فلولا إرسالهم لكان لهم أن يحتجوا فى الآخرة على عذابهم فيها وعلى عذاب الدنيا الذي كان قد أصابهم بظلمهم.
والدّين وضع إلهىّ لا يستقل العقل بالوصول إليه ولا يعرف إلا بالوحى وهو موافق لسنن الفطرة فى تزكية النفوس وإعدادها للحياة الأبدية فى عالم القدس ، ويترتب على العمل به أو تركه جزاء حدده اللّه فى الدنيا والآخرة ، ولن يكون هذا الجزاء إلا لمن بلغته الدعوة على الوجه الصحيح.
(وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي وكان اللّه عزيزا لا يغالب فى أمر يريده ، ومن عزته ألا يجاب المتعنت إلى مطلوبه ، حكيما فى جميع أفعاله ، وحكمته تقضى هذا الامتناع عن الإجابة لأنه يعلم أنه لو فعل ذلك لأصرّوا على لجاجهم كما فعلوا مع موسى بعد أن جاءهم بما طلبوا.
(لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) هذا استدراك على ما علم من السياق من إنكارهم نبوته صلى اللّه عليه وسلم وعدم شهادتهم بها ، وهى واضحة عندهم فى مرتبة المشهود به ، لكنهم استبدلوا المباهتة والمكابرة بالشهادة والإيمان ، فسألوه أن(6/23)
ج 6 ، ص : 24
ينزل عليهم كتابا من السماء يثبت دعواه ، ويكون شاهدا له ، فكأنه تعالى يقول لرسوله صلى اللّه عليه وسلم : إنهم مع وضوح نبوتك لا يشهدون بما أنزل إليك ، لكن اللّه يشهد به.
ثم أكد هذه الشهادة فقال :
(أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي فإنه أنزله بعلمه الخاص الذي لم تكن تعلمه أنت ولا قومك بتأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان ، وبما فيه من العلوم الإلهية والأدبية والسياسية والاجتماعية ، ومن علوم الأنبياء والرسل والأمم ، وبما له من السلطان على الأرواح بهدايته ، وبما فيه من أنباء الغيب عن الماضي والحاضر والمستقبل وهو بهذه المزايا مثبت لشهادة اللّه به وأنه وحي من عنده.
والخلاصة - كأن اللّه تعالى يقول لنبيه إن جحود هؤلاء اليهود وعدم شهادتهم لك لا يضرك بشىء ، فاللّه يشهد بما أنزل إليك من الوحى وأنت على يقين منه ، وقد أيد اللّه شهادته لك بما أودعه فيه مما عجز عنه البشر فكان بذلك مثبتا لكونه أنزل عليك من لدنه ، كما أيده بتصديق ما أنزله فيه من الوعد بالفلاح والنصر لمن اتبعك والوعيد لمن عاداك بالخذلان والخسران.
(وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) أي والملائكة يشهدون بذلك أيضا ، لأن الذي نزل به إليك هو الروح الأمين ، وهو منهم كما يؤيدك بجند منهم يثبّتونك ويثبّتون المؤمنين فى القتال كما فى غزوة بدر ، قال تعالى : « إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ » .
(وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) على ما شهد به لك ، حيث نصب الدليل ، وأوضح السبيل ، فشهادته أصدق ، وقوله الحق « قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً ؟ قُلِ : اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ »
.
[سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 170]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)(6/24)
ج 6 ، ص : 25
المعنى الجملي
بعد أن أزال سبحانه فى الآيات السالفة ما كان لليهود من شبهة ، فى نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم بشهادة اللّه بما أنزل عليه مما لم يستطع البشر أن يأتوا بمثله - أنذر فى هذه الآيات من يصرّ منهم على الكفر ، ويستمر على الإعراض والظلم ، وبيّن لهم سوء العاقبة.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً) أي إن الذين كفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقرآن ، وصدوا غيرهم عن سبيل اللّه بإلقاء الشبهات فى قلوبهم كقولهم : لو كان رسولا لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء كما نزلت التوراة على موسى ، وقولهم : إن اللّه تعالى ذكر فى التوراة أن شريعة موسى لا تبدل ولا تنسخ إلى يوم القيامة ، قد ضلوا ضلالا بعيدا ، لأن أشد الناس ضلالا من كان ضالّا ويعتقد فى نفسه أنه محق ، ويتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال ، فهو قد سار فى سبيل الشيطان ، وبعد عن سبيل اللّه ، فلم يعد يفقه أنها هى الموصلة إلى خير العاقبة.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) أي إن الذين كفروا بما أنزل إليك ، وظلموا أنفسهم بإعراضهم عن الطريق الموصل إلى الخير والسعادة وظلموا غيرهم بإغوائهم إياهم بزخرف قولهم ، وسوء سيرتهم ، وصدهم عن الصراط المستقيم -(6/25)
ج 6 ، ص : 26
ليس من سنته تعالى أن يغفر لهم ذلك الكفر والظلم يوم الحساب والجزاء ، لأن الكفر والظلم قد أفسدا فطرتهم وأثرا فى نفوسهم وأعميا قلوبهم وجعلاها تستمرئ قبيح الأفعال ، وتهوى شر الخلال والأعمال - ولا يزول هذا إلا إذا اتجهت نفوسهم إلى ما يضادّ ذلك ، من إيمان صحيح وعمل صالح يزكى النفوس مما ران عليها ويطهرها وينشئها نشأة أخرى ، ولا سبيل إلى ذلك يوم الجزاء والحساب ، ومن ثم قال تعالى.
(وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) أي وليس من شأنه أن يهدى أمثالهم طريقا يوصلهم إلى الجزاء على أعمالهم إلا طريق جهنم ، فهى الطريق التي ينتهى إليها من دسى نفسه بالكفر والظلم ، وأوغل فى السير فيها طول عمره ، واستمرأ الشرور والمفاسد ، حتى هوت به إلى واد سحيق.
فانتظار المغفرة ودخول الجنات لأمثال هؤلاء انتظار لإبطال نظام العالم ونقضى لسنن اللّه وحكمته فى خلق الإنسان.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجرى على اليبس
(خالِدِينَ فِيها أَبَداً) الخلود بقاء الشيء مدة طويلة على حال واحدة لا يطرأ عليه فيها تغيير ولا فناء ، والأبد : الزمن الممتد ، وتأبد الشيء : بقي أبدا وأبد بالمكان أبودا :
أقام به ولم يبرحه ، أي يدخلونها ويذوقون عذابها حال كونهم خالدين فيها أبدا لا يخرجون منها.
(وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) أي وكان ذلك الجزاء سهلا على اللّه دون غيره ، لأنه مقتضى حكمته وسننه ، وليس بالعزيز على قدرته.
وفى هذا تحقير لأمرهم وبيان لأن اللّه لا يعبأ بهم ولا يبالى بشأنهم.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب وردّ شبهاتهم واقتراحهم ما اقترحوا تعنتا وعنادا - خاطب جميع الناس وأمرهم بالإيمان وشفعه بالوعد على عمل الخير والوعيد على عمل الشر ، للإيماء إلى أن(6/26)
ج 6 ، ص : 27
المحجة قد وضحت ، والحجة قد لزمت ، فلم تبق معذرة فى الإعراض والصدّ عن اتباع الدعوة وقبول الحق من هذا الرسول الكريم ، وقد كان اليهود ينتظرون من اللّه مسيحا ونبيّا بشر بهما أنبياؤهم ، فقد جاء فى الفصل الأوّل من إنجيل يوحنا - أنهم أرسلوا بعض الكهنة والأحبار إلى يوحنا (يحي عليه السلام) ليسألوه من هو ؟ وكانت قد ظهرت عليه أمارات النبوة - فسألوه أ أنت المسيح ؟ قال : لا ، قالوا : أ أنت النبي ؟
قال : لا - من هذا تعلم أن يهود العرب ونصاراهم لما سمعوا هذه الآية زمن التنزيل فهموا أن المراد به الرسول الذي بشرهم به موسى صلى اللّه عليه وسلم فى التوراة فى سفر تثنية الاشتراع ، وعيسى فى الإنجيل وغيرهما من الأنبياء.
(فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) أي فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم ، لأنه يزكيكم ويطهركم من الدنس والرجس ويؤهلكم للسعادة الأبدية.
(وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وإن تكفروا فإن اللّه غنىّ عن إيمانكم وقادر على جزائكم بما يقتضيه كفركم وسوء عملكم ، فإن له ما فى السموات والأرض ملكا وخلقا ، وكلهم عبيده ينقادون لحكمه طوعا أو كرها ، فعبادة الكره وعدم الاختيار تكون بالخضوع لقدرته وسننه فى الأكوان ، وهى عامة فى جميع الخلق سواء منها العاقل وغيره ، وعبادة الاختيار خاصة بالمؤمنين الأخيار والملائكة الأبرار.
(وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي وكان شأنه تعالى العلم المحيط والحكمة الكاملة فى جميع أفعاله وأحكامه ، فهو لا يخفى عليه أمركم فى إيمانكم وكفركم وسائر أحوالكم ، ومن حكمته أن يجازيكم على ما تجترحون من الآثام والموبقات ، فإنه لم يخلقكم عبثا ولن يترككم سدى ، فطوبى لمن نهى النفس عن الهوى ، وآثر الآخرة على الدنيا ، وويل لمن أعرض عن ذكر ربه ، وأعرض عن أمره ونهيه ، وحالف الشيطان وحزبه.(6/27)
ج 6 ، ص : 28
[سورة النساء (4) : الآيات 171 الى 173]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)
تفسير المفردات
الغلوّ : مجاوزة الحد ، وكلمته : أي لأنه حدث بكلمة « كن » من غير مادة معتادة ، ألقاها إلى مريم : أي أوصلها وأبلغها إياها ، وروح منه : أي لأنه خلق بنفخ من روح اللّه ، وهو جبريل ، الاستنكاف : الامتناع عن الشيء أنفة وكبرا ، والاستكبار أن يجعل الإنسان نفسه كبيرة فوق ما هى عليه غرورا وإعجابا بها.
المعنى الجملي
بعد أن انتهى من محاجة اليهود وإقامة الحجة عليهم ، وهم قد غلوا فى تحقير عيسى وإهانته وكفروا به - ذكر هنا محاجة النصارى خاصة ودحض شبهاتهم ، وهم قد غلوا فى تعظيم عيسى وتقديسه ، كما دحض شبهات اليهود فيما سلف.(6/28)
ج 6 ، ص : 29
الإيضاح
(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) أي لا تتجاوزوا الحدود التي حدها اللّه ، فإن الزيادة فى الدين كالنقص فيه ، ولا تعتقدوا إلا القول الحق الثابت بنصّ دينىّ متواتر ، أو برهان عقلىّ قاطع ، وليس لكم على ما زعمتم من دعوى الاتحاد والحلول واتخاذ الصاحبة والولد شىء منها.
(إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ) إلى بنى إسرائيل ، وقد أمرهم بأن يعبدوا اللّه وحده ولا يشركوا به شيئا ، وزهدهم فى الدنيا ، وحثهم على التقوى ، وبشرهم بمحمد خاتم النبيين ، وأرشدهم إلى الاعتدال فى كل شىء ، فهداهم إلى الجمع بين حقوق الأبدان وحقوق الأديان.
(وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) وهو مكوّن بكلمته وأمره الذي هو « كن » من غير وساطة أب ولا نطفة ، فإنه لما أرسل إليها الروح الأمين جبريل بشرها بأنه مأمور بأن يهب لها غلاما زكيا ، فاستنكرت ذلك ، إذ هى عذراء لم تتزوج فقال لها :
« كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » فكلمة (كن) هى الكلمة الدالة على التكوين بمحض القدرة عند إرادة خلق الشيء وإيجاده.
وهو أيضا مؤيد بروح منه كما قال تعالى : « وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ » وكما قال فى صفات المؤمنين « أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ » .
وآية اللّه فى خلق عيسى بكلمته وجعله بشرا سويّا بما نفخ فيه من روحه كآيته فى خلق آدم بكلمته وما نفخ فيه من روحه ، فخلقهما كان بغير السنة العامة فى خلق الناس من ذكر وأنثى « إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » .
وزعم بعض النصارى أن كلمة (منه) تدل على أن عيسى جزء من اللّه بمعنى أنه ابنه ، فقد نقل بعض المفسرين أن طبيبا نصرانيا للرشيد ناظر على بن حسين الواقدي(6/29)
ج 6 ، ص : 30
المروزي ذات يوم فقال له : إن فى كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى وتلا الآية ، فقرأ له الواقدىّ قوله تعالى « وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ » فلئن صح ما تقول لزم أن تكون جميع هذه الأشياء جزءا منه تبارك وتعالى - فأفحم النصراني وأسلم ففرح بذلك الرشيد ووصل الواقدىّ بصلة عظيمة وقد جاء فى إنجيل متى (أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا ، لما كانت أمه مريم مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس). وفى إنجيل لوقا تفصيل لظهور الملك جبريل لها وتبشيره إياها بولد ومحاورتهما فى ذلك ، ومنها أنها سألته عن كيفية ذلك فقال لها (الروح القدس يحلّ عليك).
وفى هذا الفصل أن اليصابات أم يحيى امتلأت من الروح القدس ، وبذلك حملت بيحيى ، وكانت عاقرا ، وأن زكريا أباه امتلأ من الروح القدس.
ومن هذا تعلم أن روح القدس عندهم وعندنا واحد وهو ملك من ملائكة اللّه الذين لا يحصى عددهم ، وأن عيسى خلق بوساطته ، وكذلك يحيى ، وكان خلقه من وجه آخر ، إذ كان أبوه شيخا كبيرا وأمه عاقرا ولكن الواسطة والسبب واحد ، وهو الملك المسمى بروح القدس ، أيدهم اللّه به رجالا ونساء ، فلا يستفاد إذا من قوله : وروح منه ، أنه جزء من اللّه ، تعالى اللّه عن التركيب والتجزؤ والحلول والاتحاد بخلقه.
(فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) أي فآمنوا باللّه إيمانا يليق به ، وهو أنه واحد أحد تنزه عن صفات الحوادث ، وأن كل ما فى الكون مخلوق له ، وهو الخالق له ، وأن الأرض فى مجموع ملكه أقل من حبة رمل بالنسبة إلى اليابس منها ، ومن نقطة ماء بالنسبة إلى بحارها وأنهارها ، وآمنوا برسله كلهم إيمانا يليق بشأنهم وهو أنهم عبيد له خصهم بضروب من التكريم والتعظيم ، وألهمهم بضرب من العلم والهداية بالوحى ليعلموا الناس كيف يوحّدون ربهم ويعبدونه ويشكرونه ، ولا تقولوا : الآلهة ثلاثة :(6/30)
ج 6 ، ص : 31
الآب والابن وروح القدس ، أو اللّه ثلاثة أقانيم كل منها عين الآخر ، وكل منها إله كامل ، ومجموعها إله واحد.
فإن فى هذا تركا للتوحيد الذي هو ملة إبراهيم وسائر الأنبياء ، واتباعا لعقيدة الوثنيين ، والجمع بين التثليث والتوحيد تناقض تحيله العقول ، ولا يقبله أولو الألباب.
(انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) أي انتهوا عنه وقولوا قولا آخر خيرا لكم منه ، وهو قول جميع النبيين والمرسلين الذين جاءوا بتوحيد اللّه وتنزيهه ، فإن المسيح الذي سميتموه إلها يقول كما فى إنجيل يوحنا (وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته).
(إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ) بالذات منزه عن التعدد ، فليس له أجزاء ولا أقانيم ، ولا هو مركب ولا متحد بشىء من المخلوقات.
(سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) أي تقدس عن أن يكون له ولد كما قلتم فى المسيح إنه ابنه ، أو إنه هو عينه ، فإنه تبارك وتعالى ليس له مماثل فيكون له منه زوج يتزوجها فتلد له ولدا.
والتعبير بالولد دون الابن الذي يعبرون به فى كلامهم ، لبيان أنهم إذا كانوا يريدون الابن الحقيقي الذي يفهم من هذا اللفظ فلا بد أن يكون ولدا أي مولودا من تلقيح أبيه لأمه ، وهذا محال على اللّه تعالى ، وإن أرادوا الابن المجازى لا الحقيقي فلا خصوصية لعيسى فى ذلك ، لأنه قد أطلق فى كتب العهد العتيق والعهد الجديد على إسرائيل وداود وغيرهما من الأخيار.
(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إنه ليس له ولد يصح أن يسمى ابنا له حقيقة ، بل له كل ما فى السموات وما فى الأرض خلقا وملكا ، والمسيح من جملتها كما قال تعالى : « إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً » .
ولا فرق فى هذا بين الملائكة والنبيين ، ولا بين من خلقه ابتداء من غير أب(6/31)
ج 6 ، ص : 32
ولا أمّ كالملائكة وآدم ، ومن خلقه من أصل واحد كحواء وعيسى ، ومن خلق من الزوجين الذكر والأنثى ، فكل هؤلاء عبيده يحتاجون إلى فضله وكرمه وجوده ، وهو يتصرف فيهم كما يشاء.
(وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) أي كفى به حافظا ووكيلا إذا وكلوا أمورهم إليه ، فهو غنى عن الولد ، فإن الولد إنما يحتاج إليه أبوه ليعينه فى حياته ، ويقوم مقامه بعد وفاته ، واللّه تعالى منزه عن كل ذلك.
عقيدة التثليث - منشؤها
اعلم أن عقيدة التثليث وثنية نقلها الوثنيون المتنصرون إلى النصرانية واعتمدوا فيها على بعض ألفاظ فى الكتب اليهودية جعلوها تكأة لهم على ما أرادوا وحرّفوا فيها وأوّلوا ، لتفيد ما ادّعوا ، وبذا هدموا آيات التوحيد ، وقد فصل ذلك علماء أوروبا وأتوا عليه بشواهد كثيرة من الآثار القديمة والتاريخ ، فقال البحاثة موريس فى كتابه (الآثار الهندية القديمة) كان عند أكثر الأمم البائدة تعاليم دينية جاء فيها القول باللاهوت الثلاثي أو الثالوثى.
وقال مستر فابر فى كتابه (أصل الوثنية) كما نجد عند الهنود ثالوثا مؤلفا من برهما وفشنو وسيفا ، نجد عند البوذيين ثالوثا فإنهم يقولون إن (بوذه) إله ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.
وقال مستر دوان فى كتابه (خرافات التوراة) وكان قسيسو هيكل منفيس بمصر يعبرون عن الثالوث المقدس فى تعليمهم المبتدئين بقولهم إن الأول خلق الثاني وهما خلقا الثالث ، وبذلك تم الثالوث المقدس ، وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكى - هل كان قبله أحد أعظم منه ؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه ؟ فأجابه الكاهن :
نعم يوجد من هو أعظم وهو اللّه قبل كل شىء ثم الكلمة ومعهما روح القدس ، ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوة الأبدية ، فاذهب يا فانى ، يا صاحب الحياة القصيرة ، ثم قال المؤلف : لا ريب أن تسمية الأقنوم الثاني من الثالوث المقدس (كلمة) هو من أصل وثنى مصرى دخل فى غيره من الديانات المسيحية و(أبولوّ)(6/32)
ج 6 ، ص : 33
المدفون فى (دهلى) يدعى الكلمة ، وفى علم اللاهوت الإسكندرى الذي كان يعلمه (بلاتو) قبل المسيح بسنين عدة (الكلمة هى الإله الثاني) ويدعى أيضا ابن اللّه البكر وقال هيجين فى كتابه (الانكلوسكسون) كان الفرس يسمون (متروسا) الكلمة والوسيط ومخلص الفرس ، وقال دوان : كان الفرس يعبدون إلها مثلث الأقانيم مثل الهنود ويسمون الأقانيم (أو زمرد مترات. أهرمن). فأوزمرد الخلاق ومترات ابن اللّه المخلص والوسيط. وأهرمن الملك ، والمشهور عن مجوس الفرس التثنية دون التثليث فكانوا يقولون بإله هو مصدر النور والخير وإله هو مصدر الظلمة والشر.
وقال صاحب كتاب (ترقى الأفكار الدينية) إن اليونانيين كانوا يقولون إن الإله مثلث الأقانيم وكان قساوستهم إذا شرعوا فى تقديم الذبائح يرشّون المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات (إشارة إلى الثالوث) ويرشون المجتمعين حول المذبح ثلاث مرات ، ويأخذون البخور من المبخرة بثلاث أصابع ، ويعتقدون أن الحكماء قالوا إنه يجب أن تكون جميع الأشياء المقدسة مثلثة ، ولهم اعتناء بهذا العدد فى جميع شعائرهم الدينية.
وقد اقتبست الكنيسة بعد دخول نصرانية قسطنطين فيهم هذه الشعائر كلها ، ونسخت بها شريعة المسيح التي هى التوراة ، وظلموا المسيح بنسبتها إليه.
والخلاصة - إن الديانة النصرانية بنيت على أساس التوحيد الخالص ، فحوّلها الكهنة إلى ديانة وثنية تقول بتثليث غير معقول أخذوه من تثليث اليونان والرومان المقتبس من تثليث المصريين والبراهمة اقتباسا مشوّها ، ونسخوا شريعة سماوية برمّتها ، واستبدلوا بها بدعا وتقاليد غريبة عنها ، فقد كانت ديانة زهد وتواضع ، فجعلوها ديانة طمع وجشع وكبرياء وترف وأثرة واستعباد للبشر ، ديانة نسبوها إلى المسيح وليس عندهم نص فيها يدل على التثليث ، بل عندهم نصوص من كلامه تدل على التوحيد وإبطال التثليث ، ولو لم يكن عندهم من النصوص فى هذه العقيدة إلا ما رواه يوحنا فى إنجيله لكفى من قوله عليه السلام (وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحيققى(6/33)
ج 6 ، ص : 34
وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) فهذا نص واضح فى أنه هو الإله وحده وأنه هو رسوله.
وقال مرقص فى الفصل الثاني عشر من إنجيله : إن أحد الكتبة سأل يسوع عن أول الوصايا فأجابه ، أول الوصايا : اسمع يا إسرائيل ، الرب إلهنا رب واحد إلخ ، فقال له الكاتب (جيدا) يا معلّم بالحق قلت ، لأنه واحد وليس آخر سواه ، فلما رأى يسوع أنه أجاب بعقل قال له (لست بعيدا عن ملكوت السموات) ومن هذا النص يعلم أن التوحيد الخالص هو العقيدة المعقولة التي تؤخذ على ظاهرها بلا تأويل « 1 » .
َنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)
أي لن يأنف المسيح ولن يترفع عن أن يكون عبد اللّه لعلمه بعظمة اللّه وما يجب له من العبودية والشكر ، ولا الملائكة المقربون يستنكف أحد منهم أن يكون عبدا له.
ومن هذه الآية يفهم أن الملائكة أعظم من المسيح خلقا وأفعالا ، ومنهم روح القدس الذي بنفخة منه خلق المسيح ، ومن ثم استدل بها كثير من العلماء على تفصيل الملائكة المقربين على الأنبياء. إذ السياق فى ردّ غلوّ النصارى فى المسيح باتخاذه إلها ورفعه عن مقام العبودية فالرد عليهم يقتضى الترقي من الرفيع إلى الأرفع كما تقول إن فلانا التقى لا يستنكف من تقبيل يد الوزير ولا الأمير ، فإذا بدأت بذكر الأمير لم يعد لذكر الوزير فائدة ، بل يكون لغوا لأنه يندمج فى الأول بالطريق الأولى.
وقال آخرون إن الآية لا تدل على ذلك لأنها فى معرض تفضيل هؤلاء الملائكة فى عظم الخلق والقدرة على الأعمال العظيمة وهو المناسب للرد على من استكبروا خلق المسيح من غير أب وصدور بعض الآيات عنه فجعلوه إلها ، مع أن الملائكة خلقوا من غير أب ولا أم ويعملون ما هو أعظم من آيات المسيح فهم بهذا أفضل منه وأعظم.
__________________________________________________
(1) كل ما تقدم فى هذا الفصل مقتبس من تفسير المنار.(6/34)
ج 6 ، ص : 35
وأيا كان فالتفاضل فى هذا من الرجم بالغيب ، إذ لا يعلم إلا بنص مع أنه ليس له فائدة فى إيمان ولا عملَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً)
. أي ومن يترفع عن عبادته تعالى أنفة وكبرا فيرى أنه لا يليق به ذلك فسيجزيه أشد الجزاء ، إذ يحشر الناس جميعا للجزاء ، المستنكفين منهم والمستكبرين مع غيرهم فى صعيد واحد كما ورد فى الحديث ثم يحاسبهم ويجزيهم على أعمالهم.
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي فهؤلاء الذين عملوا الصالحات سيعطيهم أجورهم وافية كاملة على إيمانهم وعملهم الصالح بحسب سنته سبحانه فى ترتيب الجزاء على مقدار تأثير الإيمان والعمل الصالح فى النفس وتزكيتها وطهارتها من أدران الشرور والآثام.
(وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي فهؤلاء يعذبون عذابا مؤلما يستحقونه بحسب سنته أيضا ، لكن لا يزيدهم على ما يستحقون شيئا لأن رحمته سبقت غضبه ، فهو يجازى المحسن على إحسانه بالعدل والفضل ، ويجازى المسيء على إساءته بالعدل.
(وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي ولا يجدون لهم من غير اللّه تعالى وليا يلى أمورهم ويدبر مصالحهم ، ولا نصيرا ينصرهم من بأسه ويرفع عنهم العذاب ، إذ لا عاصم اليوم من أمر اللّه « يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ » .
[سورة النساء (4) : الآيات 174 الى 175]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)(6/35)
ج 6 ، ص : 36
المعنى الجملي
بعد أن حاجّ أهل الزيغ والضلال جميعا ، فحاجّ النصارى فى الآية السابقة ، وحاج اليهود فى الآية التي قبلها ، وحاج المنافقين والمشركين أثناء السورة وفى سور كثيرة غيرها ، وأقام الحجة عليهم جميعا وظهرت نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ظهور الشمس فى رائعة النهار - نادى الناس كافة ودعاهم إلى اتباع برهانه والاهتداء بنوره.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قد جاءكم من قبل ربكم برهان جلىّ يبين لكم حقيقة الإيمان به وبجميع ما أنتم فى حاجة إليه من أمر دينكم مؤيد بالدلائل والبينات ، ألا وهو النبي الأمى الذي هو برهان على حقية ما جاء به بسيرته العملية ، ودعوته التشريعية ، فإن أمّيّا لم يتعلم فى مدرسة ولم يعن فى طفولته بما كان يسمى عند قومه علما كالشعر والنسب وأيام العرب بل ترك ولدان المشركين وشأنهم ولم يحضر سمّار قومه ولا معاهد لهوهم ، ولم يحظ من التربية المنزلية والتأديب الاجتماعى فى أول نشأته ما يؤهله للمنصب الذي تصدّى له فى كهولته ، وهو تربية الأمم تربية دينية اجتماعية سياسية حربية ، وهو مع هذا قد قام به على أتم وجه وأكمل طريق - لهو برهان على عناية اللّه به ، وتأييده إياه بوحيه وهديه.
(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) أي وأنزلنا إليكم بما أوحينا إليه كتابا هو كالنور فى الهداية للناس ، مبينا لكل ما أنزل لبيانه من توحيد اللّه وربوبيته وهو المقصد الأعلى الذي بعث به جميع الرسل وكان كل منهم يدعو أمته إليه ويستجيب له الناس بقدر استعدادهم لفهم حقيقته ، ثم لا يلبثون أن يشوّهوه بالشرك وضروب الوثنية التي تدنس النفوس وتهبط بها من أوج العزة والكرامة إلى المهانة والذلة بالخضوع لبعض مخلوقات من جنسهم أو من أجناس أخرى.(6/36)
ج 6 ، ص : 37
ولما تغلغلت الوثنية فى جميع الأديان المعروفة وأفسدتها على أهلها ، أنزل اللّه لهداية البشر هذا النور المبين وهو القرآن ، فبين لمن يفهم لغته حقيقة التوحيد بالدلائل والبراهين الكونية والعقلية مع ضرب الأمثال وذكر شىء من القصص لكشف ما ران على هذه العقيدة من شهات المضلين وأوهام الضالين التي مزجتها بالشرك.
هذا البيان الذي جاء به القرآن لتقرير التوحيد واجتثاث جذور الوثنية لم يكن معهودا مثله من الحكماء ولا من الأنبياء ، فمن ثم وجب أن يكون من رب العالمين « وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ » .
والخلاصة - إن محمدا النبي الأمى صلى اللّه عليه وسلم كان برهانا على حقية دينه ، وكتابه القرآن أنزل من العلم الإلهى ولم يكن لعلمه الكسبي أن يأتى بمثله ، وأنزل نورا مبيّنا لجميع الناس ما هم فى حاجة إليه فى معاشهم ومعادهم ليتدبروا آياته ويسعدوا به فى حياتهم الدنيا وينالوا به الخير فى العقبى.
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) الاعتصام التمسك بما يعصم ويحفظ ، أي فأما الذين يعتصمون بهذا القرآن فيدخلهم اللّه فى رحمة خاصة منه لا يدخل فيها سواهم ، وفضل خاصّ لا يتفضل به على غيرهم ، ولكنه يختص من يشاء بما شاء من أنواعهما. وقال ابن عباس : الرحمة الجنة ، والفضل ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
(وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي ويهديهم طريقا قويما وهداية خاصة تبلّغهم السعادة فى الدنيا بالعزة والكرامة وفى الآخرة بالجنة والرضوان ، وهذا الصراط المستقيم لا يهدى إليه إلا الاعتصام بالقرآن الكريم واتباع سنة سيد المرسلين ، والمراد أنه يوقفهم ويثبّتهم على تلك الهداية إلى الصراط المستقيم وسكت عن القسم الآخر المقابل لهؤلاء المؤمنين المعتصمين للإيذان بأنه بعد ظهور البرهان لا ينبغى أن يوجد ، وإن وجد لا يؤبه له ولا يهتمّ بشأنه.(6/37)
ج 6 ، ص : 38
[سورة النساء (4) : آية 176]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
المعنى الجملي
بعد أن تكلم فى أول السورة فى أحكام الأموال ، ختم آخرها بذلك ليكون الآخر مشاكلا للأول ، والوسط مشتمل على المناظرة مع فرق المخالفين للدين.
روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن جابر بن عبد اللّه قال : « دخل علىّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ ثم صبّ علىّ فعقلت ، فقلت إنه لا يرثنى إلا كلالة فكيف الميراث ؟ فنزلت آية الميراث (يريد هذه الآية) » .
و
روى ابن عبد الرزاق وابن جرير عن ابن سيرين قال نزلت (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) والنبي صلى اللّه عليه وسلم فى مسير له وإلى جنبه حذيفة بن اليمان فبلغها النبىّ صلى اللّه عليه وسلم حذيفة ، وبلغها حذيفة عمر بن الخطاب وهو يسير خلفه ، فلما استخلف عمر سأل عنها حذيفة ورجا أن يكون عنده تفسيرها ، فقال له حذيفة :
واللّه إنك لعاجز إن ظننت أن إمارتك تحملني على أن أحدثك ما لم أحدّثك يومئذ فقال عمر لم أرد هذا رحمك اللّه »
قال الخطابي : أنزل اللّه فى الكلالة آيتين إحداهما فى الشتاء وهى التي فى أول سورة النساء وفيها إجمال وإبهام لا يكاد يتبين المعنى من ظاهرها ، ثم أنزل الآية الأخرى فى الصيف وهى التي فى آخرها وفيها من زيادة البيان ما ليس فى آية الشتاء ، فأحال السائل عليها ليتبين المراد بالكلالة المذكورة فيها اه.(6/38)
ج 6 ، ص : 39
الإيضاح
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) الكلالة : ما عدا الوالد والولد من القرابة وقيل الإخوة من الأم ، قال فى لسان العرب - وهو المستعمل - والمعنى يطلبون منك أيها النبي الفتيا فيمن يورث كلالة كجابر بن عبد اللّه ليس له والد ولا ولد وله أخوات من العصبة لم يفرض لهم شىء فى التركة من قبل ، وإنما فرض للإخوة من الأم ، السدس للواحد منهم والثلث لما زاد على الواحد وهم شركاء فيه مهما كثروا لأنه ميراث أمهم ليس لها سواه ، فقل لهم جوابا عما سألتم عنه.
(إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) هلك مات - أي إن هلك امرؤ غير ذى ولد والحال أن له أختا من أبويه معا أو من أبيه فقط فلها نصف ما ترك.
(وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) أي والأخ يرث أخته إذا ماتت إن لم يكن لها ولد ذكر ولا أنثى ، ولا والد يحجبه عن إرثها ، وإنما أطلق الإرث ولم يبين النصيب لأن الأخ ليس صاحب فرض معين بحيث لا يزيد ولا ينقص بل هو عصبة يحوز كل التركة عند عدم وجود أحد من أصحاب الفروض ، وعند وجود أحد منهم يرث هو معه كلالة جميع ما بقي.
(فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) فإن كان من يرث بالأخوّة أختين فلهما الثلثان مما ترك أخوهما كلالة ، وكذا إن كن أكثر من ثنتين كأخوات جابر فقد كن سبعا أو تسعا والباقي لمن يوجد من العصبة إن لم يكن هناك أحد من أصحاب الفروض كالزوجة وإلا أخذ كل ذى فرض فرضه أوّلا.
(وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أي وإن كان من يرثون بالأخوّة كلالة ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين كما هى القاعدة(6/39)
ج 6 ، ص : 40
فى كل صنف اجتمع منه أفراد فى درجة واحدة إلا أولاد الأم فإنهم شركاء فى سدس أمهم لحلولهم محلها ، ولولا ذلك لم يرثوا ، إذ هم ليسوا من عصبة الميت.
(يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أي يبين اللّه لكم أمور دينكم التي من أولها تفصيل هذه الأحكام كراهة أن تضلوا : أي لتتقوا بمعرفتها الضلال فى قسمة التركات وغيرها.
(وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهو لم يشرع لكم من الأحكام إلا ما علم أن فيه الخير لكم لصلاح أنفسكم ، وذلك شأنه فى جميع أفعاله وأحكامه ، فكلها موافقة للحكمة ، دالة على واسع العلم وعظيم الرحمة.(6/40)
ج 6 ، ص : 41
سورة المائدة
هذه السورة تسمى سورة المائدة وسورة العقود وسورة المنقذة ، وهى مدنية بناء على المشهور من أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولو فى مكة ، وقد روى فى الصحيحين عن عمر :
أن قوله تعالى « اليوم أكملت لكم دينكم إلخ نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع » .
وآياتها مائة وعشرون فى العدّ الكوفي ، ومائة وثنتان وعشرون فى العد الحجازي ، ومائة وثلاث وعشرون فى العدّ البصري ووجه التناسب بينها وبين ما قبلها من وجوه :
1) إن سورة النساء اشتملت على عدّة عقود صريحا وضمنا ، فالصريح عقود الأنكحة والصداق والحلف والمعاهدة والأمان ، والضمنى عقود الوصية والوديعة والوكالة والإجارة.
2) إن سورة النساء مهدت لتحريم الخمر ، وسورة المائدة حرّمتها البتة فكانت متممة لشىء مما قبلها.
3) إن معظم سورة المائدة فى محاجة اليهود والنصارى مع ذكر شىء عن المنافقين والمشركين ، وقد تكرر ذكر ذلك فى سورة النساء وأطيل به فى آخرها.
ووجه تقديم النساء وتأخير المائدة أن الأولى بدئت بيا أيها الناس وفيها الخطاب بذلك فى مواضع ، وهذا أشبه بالتنزيل المكي ، والثانية بيا أيها الذين آمنوا وفيها الخطاب بذلك فى مواضع ، وهذا أشبه بالتنزيل المدني المتأخر عن الأول.
[سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)(6/41)
ج 6 ، ص : 42
تفسير المفردات
الوفاء والإيفاء : الإتيان بالشيء وافيا لا نقص فيه ، قال تعالى : « وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ » والعقود واحدها عقد ، وهو فى الأصل ضد الحلّ ثم أطلق على الجمع بين أطراف الشيء وربط بعضها ببعض ، ويستعمل فى الأجسام الصّلبة كعقد الحبل وعقد البناء ، ويقال عقد اليمين وعقد النكاح : أي أبرمه كما قال تعالى « وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ » والبهيمة : ما لا نطق له ، لما فى صوته من الإبهام ، وخص فى العرف بما عدا السباع والطير ، والأنعام : البقر والإبل والغنم. الحرم : جمع حرام ، وهو المحرم بالحج أو العمرة ، وشعائر اللّه معالم دينه ، وغلب فى مناسك الحج واحدها شعيرة ، والهدى ما يهدى إلى الكعبة من الأنعام ليذبح هناك ، وهو من النسك ، والقلائد : واحدها قلادة وهو ما يعلق فى العنق ، وكانوا يقلدون الإبل من الهدى بنعل أو حبل أو لحا شجر ليعرف فلا يتعرض له أحد ، آمّين : أي قاصدين ، وفضلا : أي ربحا فى التجارة ورضوانا : أي رضا من اللّه يحول بينهم وبين عقوبته فى الدنيا ، يجرمنكم : من جرمه الشيء أي حمله عليه وجعله يجرمه : أي يكسبه ويفعله ، وأصل الجرم قطع النمرة من الشجرة ، والشنآن : البغض مطلقا ، أو الذي يصحبه التقزّز من المبغوض.(6/42)
ج 6 ، ص : 43
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) روى عن ابن عباس : أن المراد بالعقود عهود اللّه التي عهد بها إلى عباده : أي ما أحلّ وما حرم ، وما فرض وما حدّ فى القرآن كله ، لا غدر فيها ولا نكث ، وقال الراغب : العقود ثلاثة أضرب : عقد بين اللّه وبين العبد ، وعقد بين العبد ونفسه ، وعقد بينه وبين غيره من البشر.
وكل واحد منها إما أن يوجبه العقل الذي أودعه اللّه فى الإنسان ويتوصل إليه بديهة العقل أو بأدنى نظر ويدل على ذلك قوله تعالى : « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ؟ قالُوا بَلى » وإما أن يوجبه الشرع وهو ما دلنا عليه كتاب اللّه وسنة نبيه صلى اللّه عليه وسلم.
وأساس العقود فى الإسلام هو هذه الجملة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أي إنه يجب على كل مؤمن أن يفى بما عقده وارتبط به من قول أو فعل كما أمر اللّه ما لم يحرّم حلالا أو يحلل حراما كالعقد على أكل شىء من أموال الناس بالباطل كالربا والميسر (القمار) والرّشوة ونحو ذلك.
ثم شرع يفصل الأحكام التي أمر بالإيفاء بها وبدأ بما يتعلق بضروريات معايشهم فقال :
(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي أحل اللّه لكم أكل البهيمة من الأنعام وهى الأزواج الثمانية المذكورة فى سورة الأنعام ، وألحق بها الظباء وبقر الوحش ونحوهما ، إلا ما حرم فيما سيتلى عليكم فى الآية السالفة من هذه السورة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) إلخ.
(غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي أحلت لكم بهيمة الأنعام حال كونكم غير محلى الصيد الذي حرمه اللّه عليكم : أي لا تجعلوه حلالا باصطياده أو الأكل منه وأنتم محرمون بالحج أو العمرة أو كليهما أو داخلون فى أرض الحرم ، فلا يحل الصيد لمن كان(6/43)
ج 6 ، ص : 44
فى أرض الحرم ولو لم يكن محرما ولا للمحرم بالحج أو العمرة وإن كان فى خارج حدود الحرم بأن نوى الدخول فى هذا النسك وبدأ بأعماله كالتّلبية ولبس المخيط.
والخلاصة - أحلّت لكم هذه الأشياء غير محلى الاصطياد ولا أكل الصيد فى الإحرام.
(إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) الحكم القضاء : أي إن اللّه جل ثناؤه يقضى فى خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله وتحريم ما أراد تحريمه كما شاء بحسب الحكم والمصالح التي يعلمها سبحانه ، فأوفوا بعقوده وعهوده ولا تنكثوها ولا تنقضوها.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ) شعائر اللّه ما أراد جعله أمارات تعلمون بها الهدى من الضلال كمناسك الحج وسائر فرائض دينه من حلال وحرام وحدود حدّها لكم.
والمعنى - يا أيها الذين آمنوا لا تجعلوا شعائر دين اللّه حلالا لكم تتصرفون فيها كما تشاءون بل اعملوا بما بيّنه لكم ، ولا تتهاونوا بحرمتها وتحولوا بينها وبين المتنسكين بها وتصدوا الناس عن الحج فى أشهر الحج.
(وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) المراد به هنا ذو القعدة وذو الحجة والمحرم : أي ولا تحلوا الشهر الحرام بأن تقاتلوا فيه أعداءكم من المشركين كما روى عن ابن عباس وقتادة.
(وَلَا الْهَدْيَ) أي ولا تحلوا الهدى الذي يهدى إلى البيت الحرام من الأنعام للتوسعة على من هناك من عاكف وباد تقربا إلى اللّه ، وذلك بأن تمنعوا بلوغه محله من بيت اللّه بأخذه غصبا وذبحه أو سرقته أو حبسه عند من أخذه.
(وَلَا الْقَلائِدَ) ولا تحلوا ذوات القلائد من الهدى وهى البدن ، وكأنه قال لا تحلوا الهدى مقلّدا ولا غير مقلد ، وخص المقلد بالذكر لأنه أكرم الهدى وأشرفه.
(وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) أي ولا تحلوا قتال قاصدى البيت الحرام لزيارته ، فتصدوهم عن ذلك بأيّ وجه كان.(6/44)
ج 6 ، ص : 45
(يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) أي يطلبون ربحا فى التجارة ورضا من اللّه يحول بينهم وبين عقوبته فى الدنيا ، لئلا يحل بهم ما حل بغيرهم فى عاجل دنياهم.
وهذا كلام مع المشركين ، كما روى عن قتادة أنه قال : هم المشركون يلتمسون فضل اللّه ورضوانه فيما يصلح لهم دنياهم ، وفى رواية أخرى عنه : والرضوان الذي يبتغون أن يصلح لهم معايشهم فى الدنيا وألا يعجّل لهم العقوبة.
ثم صرح بما فهم من قوله : غير محلى الصيد وأنتم حرم فقال :
(وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) أي وإذا خرجتم من إحرامكم بالحج أو العمرة أو من أرض الحرم فاصطادوا إن شئتم ، فإنما حرم عليكم الصيد فى أرض الحرم وفى حال الإحرام فقط.
(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) أي ولا يحملنّكم بغض قوم وعداوتهم على أن تعتدوا عليهم ، لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام ، وقد كان المشركون صدّوا المؤمنين عن العمرة عام الحديبية ، فنهى المؤمنون أن يعتدوا عليهم عام حجة الوداع وهو العام الذي نزلت فيه هذه السورة لأجل اعتدائهم السابق.
ولما كان اعتداء قوم على قوم لا يحصل إلا بالتعاون قفّى على النهى عن الاعتداء بقوله :
(وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) البر : التوسع فى فعل الخير ، والتقوى : اتقاء ما يضر صاحبه فى دينه أو دنياه ، والإثم كل ذنب ومعصية ، والعدوان : تجاوز حدود الشرع والعرف فى المعاملة والخروج عن العدل فيها ،
وفى الحديث « البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك فى النفس وكرهت أن يطّلع عليه الناس » رواه مسلم وأصحاب السنن
،
وروى أحمد والدارمي عن وابصة بن معبد الجهني أنه قال : « أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : جئت تسأل عن البر والإثم ؟ قلت نعم » وكان قد جاء لأجل ذلك ، فأخبره النبي صلى اللّه عليه وسلم بما فى نفسه وأجابه فقال :(6/45)
ج 6 ، ص : 46
« استفت قلبك ، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأنّ إليه القلب ، والإثم ما حاك فى النفس وتردّد فى الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك » .
والأمر بالتعاون على البر والتقوى من أركان الهداية الاجتماعية فى القرآن ، إذ يوجب على الناس أن يعين بعضهم بعضا على كل ما ينفع الناس أفرادا وجماعات فى دينهم ودنياهم وعلى كل عمل من أعمال التقوى التي يدفعون بها المفاسد والمضار عن أنفسهم.
وقد كان المسلمون فى الصدر الأول يتعاونون على البر والتقوى بدون حاجة إلى ارتباط بعهد كما تفعله الجماعات اليوم ، فإن عهد اللّه وميثاقه كان مغنيا لهم عن غيره ، ولكن لما نكثوا ذلك العهد صاروا فى حاجة إلى تأليف هذه الجماعات لجمع طوائف المسلمين وحملهم على إقامة هذا الواجب (التعاون على البر والتقوى).
وقلما ترى أحدا الآن يعينك على عمل من أعمال البر إلا إذا كان مرتبطا بعهد معك لغرض معين ومن ثم كان تأليف الجماعات مما يتوقف عليه أداء هذا الواجب غالبا.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي واتقوا اللّه بالسير على سننه التي بينها لكم فى كتابه وفى نظم خلقه ، حتى لا يصيبكم عقابه بالإعراض عن هدايته ، فهو شديد العقاب لمن لم يتقه باتباع شرعه ومراعاة سننه فى خلقه ، إذ لا محاباة ولا هوادة فى عقابه ، فهو لم يأمر بشىء إلا إذا كان نافعا ولم ينه عن شىء إلا إذا كان ضارا ، وكذلك بعدم مراعاة السنن ، لأن لذلك تأثيرا فى خلق الإنسان وعقائده وأعماله وكل ذلك مما يوقعه فى الغواية وينتهى به إلى سوء العاقبة.
وهذا العقاب يشمل عقاب الدنيا والآخرة كما جاء فى بعض الآيات التصريح بذلك ، وفى بعضها التصريح بأحدهما كقوله فى عذاب الأمم فى الدنيا « وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ » .(6/46)
ج 6 ، ص : 47
[سورة المائدة (5) : آية 3]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
الإيضاح
هذا شروع فى بيان المحرمات التي أشير إليها فى أول السورة بقوله (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) وهى عشرة أنواع :
(الأول الميتة) ويراد بها عرفا ما مات حتف أنفه : أي بدون فعل فاعل ، ويراد بها فى عرف الشرع ما مات ولم يذكه الإنسان لأجل أكله. والحكمة فى التحريم :
1) استقذار الطباع السليمة لها.
2) أن فى أكلها مهانة تنافى عزة النفس وكرامتها.
3) الضرر الذي ينشأ من أكلها سواء كانت قد ماتت بمرض أو شدة ضعف أو بجراثيم (ميكروبات) انحلت بها قواها.
4) تعويد المسلم ألا يأكل إلا مما كان له قصد فى إزهاق روحه.
(الثاني الدم) والمراد به الدم المسفوح : أي المائع الذي يسفح ويراق من الحيوان وإن جمد بعد ذلك ، بخلاف المتجمد طبيعة كالطحال والكبد وما يتخلل اللحم عادة فإنه لا يسمى مسفوحا.
وحكمة تحريم الدم الضرر والاستقذار أيضا ، أما الضرر فلأنه عسر الهضم جدّ العسر ، ويحمل كثيرا من الموادّ العفنة التي تنحلّ من الجسم ، وهى فضلات لفظتها(6/47)
ج 6 ، ص : 48
الطبيعة كما تلفظ البراز ونحوه واستعاضت عنها بموادّ جديدة من الدم ، وقد يكون فيه جراثيم بعض الأمراض المعدية وهى تكون فيه أكثر مما تكون فى اللحم ومن أجل هذا اتفق الأطباء على وجوب غلى اللبن قبل شربه ، لقتل ما عسى أن يكون قد علق به من جراثيم الأمراض المعدية.
(الثالث لحم الخنزير) لما فيه من الضرر والاستقذار لملازمته للقاذورات ورغبته فيها ، أما ضرره فقد أثبته الطب الحديث ، إذ أثبت أن له ضررا يأتى من أكله القاذورات ، فإن أكله يولد الديدان الشريطية كالدودة الوحيدة ودودة أخرى تسمى الشعرة الحلزونية وهى تنشأ من أكله الفيران الميتة ، كما أثبت أن لحمه أعسر اللحوم هضما لكثرة الشحم فى أليافه العضلية ، وأن الموادّ الدهنية التي فيه تمنع وصول عصير المعدة إلى الطعام فيعسر هضم الموادّ الزلالية وتتعب معدة آكله ويشعر بثقل فى بطنه واضطراب فى قلبه ، فإن ذرعه القيء فقذف هذه المواد الخبيثة خفّ ضرره ، وإلا تهيجت المعدة وأصيب بالإسهال ، ولولا أن العادة قد جرت بتناول السموم أكلا وشر با وتدخينا ولولا ما يعالجون به لحم الخنزير لتخفيف ضرره لما أمكن الناس أن يأكلوه ولا سيما أهل البلاد الحارة.
(الرابع ما أهلّ لغير اللّه به) الإهلال رفع الصوت ، يقال أهلّ فلان بالحج إذا رفع صوته بالتّلبية له (لبيك اللهم لبيك) واستهلّ الصبىّ إذا صرخ عند الولادة والمراد به ما ذبح على ذكر غير اللّه تعالى من المخلوقات التي يعظمها الناس تعظيما دينيا ويتقربون إليها بالذبائح ، وكانوا يذبحون لأصنامهم فيرفعون أصواتهم بقولهم باسم اللات أو باسم العزّى.
وحكمة التحريم فى هذا أنه من عبادة غير اللّه ، فالأكل منه مشاركة لأهله ومشايعة لهم عليه ، وهو مما يجب إنكاره لا إقراره.
ويدخل فى ذلك ما ذكر عند ذبحه اسم نبى أو ولىّ كما يفعل بعض أهل الكتاب وجهلة المسلمين الذين اتبعوا من قبلهم وساروا على نهجهم باعا فباعا وذراعا فذراعا.(6/48)
ج 6 ، ص : 49
(الخامس المنخنقة) وقد روى ابن جرير فى تفسيرها أقوالا فعن السدى أنها التي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق فتموت ، وعن ابن عباس والضحاك هى التي تختنق فتموت ، وفى رواية عن الضحاك هى الشاة توثق فيقتلها خناقها ، ثم قال :
وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : هى التي تختنق إما فى وثاقها أو بإدخال رأسها فى الموضع الذي لا تقدر على التخلص منه فتختنق حتى تموت.
وهى بهذا المعنى من قبيل ما مات حتف أنفه من حيث إنه لم يمت بتذكية الإنسان له لأجل أكله فهى داخلة فى الميتة ، وإنما خصها بالذكر لأن بعض العرب فى الجاهلية كانوا يأكلونها ، ولئلا يشتبه فيها بعض الناس لأن لموتها سببا معروفا.
والعبرة فى الشرع بالتذكية التي تكون بقصد الإنسان لأجل الأكل حتى يكون واثقا من صحة البهيمة التي يريد التغذي بها.
(السادس الموقوذة) الوقذ : شدة الضرب ، وشاة وقيذ وموقوذة ، والموقوذة هى التي تقتل بعصا أو بحجارة لاحدّ لها فتموت بلا ذكاة ، وكانوا يأكلونها فى الجاهلية.
والوقذ يحرم فى الإسلام ، لأنه تعذيب للحيوان ،
قال صلى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه كتب الإحسان على كل شىء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة ، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته » رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن.
ولما كان الوقذ محرما حرم ما قتل به ، وهى تدخل فى عموم الميتة على الوجه الذي ذكرنا ، فإنها لم تذكّ تذكية شرعية ، ويدخل فى الموقوذة ما رمى بالبندق (وهو نحو كرة من الطين تجفف ويرمى بها بعد يبسها) لما
روى « أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهى عن الخذف (الرمي بالحصا والخزف وكل يابس غير محدد سواء رمى باليد أو المخذفة أو المقلاع) وقال. إنه لا يفقأ العين ولا ينكى العدوّ ولا يحرز صيدا »
ففى هذا الحديث نص على العلة وهو أنه تعذيب للحيوان وليس سببا مطردا ولا غالبا للقتل.
أما بندق الرّصاص المستعمل الآن وما فى حكمه فإنه يصيد وينكأ ، ولذا أفتى العلماء بجواز الصيد به.(6/49)
ج 6 ، ص : 50
(السابع المتردّية) وهى التي تقع من مكان مرتفع كجبل ، أو منخفض كبئر ونحوها فتموت ، وهى فى حكم الميتة ، لأنه لم يكن للإنسان عمل فى إماتتها ولا قصد به إلى أكلها.
(الثامن النطيحة) وهى التي تنطحها بهيمة أخرى فتموت من النّطاح من غير أن يكون للإنسان عمل فى أمانتها.
(التاسع ما أكل السبع) وهو ما قتله بعض سباع الوحوش كالاسد والذئب والنمر ليأكله ، وأكله منه ليس بشرط للتحريم ، إذ يكفى فرسه إياه وقتله فى تحريمه.
وكان العرب فى الجاهلية يأكلون بعض فرائس السباع ، ولكنه مما تأنفه أكثر الطباع ، وأكثر الناس يعدّ أكله ذلة ومهانة وإن كانوا لا يخشون منه ضررا.
(إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أي إلا ما أدركتموه وفيه بقية حياة ويضطرب اضطراب المذبوح فذكيتموه وأمتموه إماتة شرعية لأجل أكله - وهو استثناء من جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل التذكية من الميتة والدم والخنزير وما أكل السبع ، وذلك هو - ما أهلّ لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة.
وخلاصة المعنى - ولكن لا يحرم عليكم ما ذكيتموه بفعلكم مما يقبل التذكية ، ويكفى فى صحة إدراك ذكاة ما ذكر أن يكون فيه رمق من الحياة بأن يطرف بعينه أو يضرب بذنبه ،
وقد قال على كرم اللّه وجهه : إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهى تحرك يدا أو رجلا فكلها.
(العاشر ما ذبح على النصب) والنصب واحد الأنصاب ، وهى حجارة كانت حول الكعبة عددها ثلاثمائة وستون حجرا وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة.
ومن هذا تعلم أن ما ذبح على النصب هو من جنس ما أهلّ به لغير اللّه من حيث إنه يذبح بقصد العبادة لغير اللّه تعالى ، وخص بالذكر لإزالة وهم من يتوهم أنه قد يحل(6/50)
ج 6 ، ص : 51
لقصد تعظيم البيت الحرام إذا لم يذكر اسم غير اللّه عليه ، وهو من خرافات الجاهلية التي جاء الإسلام بمحوها.
وخلاصة ما تقدم - إن اللّه تعالى أحلّ أكل بهيمة الأنعام وسائر الطيبات من الحيوان ، ما دبّ منها على الأرض ، وما طار فى الهواء ، وما سبح فى البحر ، ولم يحرم إلا الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل به لغير اللّه.
وقد كان بعض العرب يذبح الحيوان على اسم غير اللّه وهو شرك وفسق ، وبعضهم يأكل الميتة ويقول لم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل اللّه ؟ ولكن الفارق بينهما ما فى هذا من مظنة الضرر ، وفيه مهانة للنفس ، ومن ثم جعل اللّه حل أكل المسلم لذلك منوطا بإتمام موته والإجهاز عليه بفعله هو ليذكر اسم اللّه عليه فلا يكون من عمل الشرك ، ولئلا يقع فى مهانة أكل الميتة وخسة آكلها بأكله المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وفريسة السبع - إلى ما فى الموقوذة من إقرار الواقذ على القسوة وظلم الحيوان وذلك محرم شرعا.
ثم أضاف إلى محرمات الطعام التي كان أهل الجاهلية يستحلونها عملا آخر من أعمالهم وخرافاتهم فقال :
(وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) الأزلام واحدها زلم : وهو قطعة من الخشب على هيئة السهم ، لكن لا يركب فيه النصل الذي يجرح ما يرمى به من صيد وغيره وكانت الأزلام ثلاثة ، كتب على أحدها « أمرنى ربى » وعلى الثاني « نهانى ربى » والثالث غفل ليس عليه شىء ، فإذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو زواجا أو بيعا أو نحو ذلك أجال « حرّك » هذه الأزلام ، فإن خرج له الزلم المكتوب عليه « أمرنى ربى » مضى لما أراد ، وإن خرج المكتوب عليه « نهانى ربى » أمسك عن ذلك ولم يمض فيه ، وإن خرج الغفل الذي لا كتابة عليه أعاد الاستقسام ، وهو : طلب معرفة ما قسم له دون ما لم يقسم بواسطة الأزلام.(6/51)
ج 6 ، ص : 52
أي وحرّم عليكم أن تطلبوا علم ما قسم لكم بالأزلام كما كانت تفعل العرب فى الجاهلية.
وحكمة هذا التحريم أنه من الخرافات والأوهام التي لا يركن إليها إلا من كان ضعيف العقل ، يفعل ما يفعل من غير بينة ولا بصيرة ، ويترك ما يترك كذلك ، ويجعل نفسه ألعوبة للكهنة والسّدنة ، ويتفاءل ويتشاءم بما لا فأل فيه ولا شؤم ، ومن ثمّ أبطل ذلك دين العقل والبصيرة كما أبطل التطيّر والكهانة والعيافة والعرافة وسائر خرافات الجاهلية ، إلى أن فيها افتراء على اللّه إن أرادوا بقولهم « أمرنى ربى » اللّه عز وجل ، وجهلا وشركا إن أرادوا به الصنم ، إلى أن فيه طلبا لعلم الغيب الذي استأثر اللّه به.
وقد استنّ بعض جهال المسلمين بسنة مشركى الجاهلية ، أو بما يشبهها فتراهم يستقسمون بالسّبح وغيرها ويسمون ذلك استخارة أو فألا فيقتطعون طائفة من حب السّبحة ويحركونها حبة بعد أخرى ، يقولون : « افعل » على واحدة « لا تفعل » على الثانية ، ويكون الحكم الفصل للحبة الأخيرة ، وما هذا بالاستخارة التي ورد الإذن بها ، بل قد ورد ما يؤيد تحريمها.
ومنهم من يستقسم أو يأخذ الفأل من القرآن الكريم فيصبغون عملهم بصبغة الدين ويلبسون الباطل ثوب الحق ، ولم يرد فى هذا نص يجوّز العمل به ، ولكن الإلف والعادة جعلا هذا البدع مستحسنة وتأولوا لها اسم الفأل الحسن
ورووا فى ذلك حديث أبى هريرة عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « كان يعجبه الفأل الحسن »
وليس هذا من الفأل الحسن ، بل الفأل ضد الطيرة التي أبطلتها الأحاديث.
والعجيب من أمر بعض المسلمين أنهم تركوا الاهتداء بالقرآن وحرموه على أنفسهم واكتفوا من الإيمان به والتعظيم له بالاستقسام به كما كانت الجاهلية تستقسم بالأزلام ، أو الاستشفاء بمداد تكتب به آياته فى كاغد أو جام (فنجان) وكل هذا من الضلالات والخرافات التي لم يرد شىء منها عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا عن السلف الصالح.(6/52)
ج 6 ، ص : 53
وأعجب من ذلك جعل بعض الدجالين الاستقسام من قبيل الاستخارة وجعل بعضهم له من قبيل القرعة المشروعة ، وكل ذلك ضلال ، إذ لا بينة فيه ولا سلطان.
والاستخارة التي وردت بها السنة هى التوجه إلى اللّه والالتجاء إليه بالصلاة والدعاء بأن يزيل عن المستخير الحيرة ويرشده إلى ما فيه الفائدة فيما تتعارض فيه الدلائل والبينات ، فلا يستبين له إن كان الخير فى الإقدام أو فى الترك ، فإذا شرح اللّه صدره لشىء أمضاه.
وقد روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن من حديث جابر بن عبد اللّه قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة كما يعلمنا سورة من القرآن يقول :
«
إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل : اللهم إنى أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لى فى دينى ومعاشى وعاجل أمرى وآجله فاقدره لى ويسره لى ثم بارك لى فبه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لى فى دينى ومعاشى وعاجل أمرى وآجله فاصرفه عنى واصرفني عنه واقدر لى الخير حيث كان ثم أرضنى به » قال ويسمى حاجته.
والقرعة تشبه هذا بل أمرها أظهر ، فإنها إنما تكون للترجيح بين المتساويين قطعا كالقسمة بين اثنين ، إذ لا وجه لإلزام من تقسم بينهما بأن يأخذ زيد منهما هذه الحصة وعمرو الأخرى ، فتكون القرعة طريقة حسنة عادلة.
(ذلِكُمْ فِسْقٌ) أي كل محرم مما سلف فسق وخروج من طاعة اللّه ورغبة عن شرعه إلى معصيته.
(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) اليوم هو يوم عرفة من حجة الوداع من السنة العاشرة للهجرة وكان يوم جمعة ، وهو اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية المبينة لما يقر من الأحكام التي أبطل بها الإسلام بقايا مهانة الجاهلية وخبائثها(6/53)
ج 6 ، ص : 54
وأوهامها ، والمبشرة بظهور المسلمين على المشركين ظهورا تاما لا مطمع لهم فى زواله ، ولا حاجة معه إلى شىء من مداراتهم أو الخوف من عاقبة أمرهم.
روى البيهقي فى كتاب شعب الإيمان عن ابن عباس فى قوله : « الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ » يقول يئس أهل مكة أن ترجعوا إلى دينهم ، وهو عبادة الأوثان أبدا (فَلا تَخْشَوْهُمْ) فى اتباع محمد (واخشون) فى عبادة الأوثان وتكذيب محمد.
والخلاصة - إن اللّه أخبر المؤمنين بأن الكفار قد يئسوا من زوال دينهم ، وأنه ينبغى لهم - وقد بدّلهم بضعفهم قوة ، وبخوفهم أمنا ، وبفقرهم غنى - ألّا يخشوا غيره ، وقد عرفوا فضله وإعزازه لهم.
وإجمال المعنى - اليوم انقطع رجاؤهم من إبطال دينكم ورجوعكم عنه ، لما شاهدوا من فضل اللّه عليكم ، إذ وفّى بوعده ، وأظهره على الدين كله.
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) فى الآية بشارات ثلاث فسرها السلف بما سنذكره بعد :
روى عن ابن عباس أنه قال : لما كان النبي صلى اللّه عليه وسلم واقفا بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يده والمسلمون يدعون اللّه (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أي حلالكم وحرامكم ، فلم ينزل بعده حلال ولا حرام (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أي منّتى فلم يحج معكم مشرك (وَرَضِيتُ) أي اخترت (لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).
وقد مكث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد نزول هذه الآية واحدا وثمانين يوما ثم قبضه اللّه إليه.
وروى ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا أنه قال : أخبر اللّه نبيه والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا ، وقد أتمه فلا ينقص أبدا ، وقد رضيه فلا يسخط أبدا :
وقال صاحب الكشاف : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) كفيتكم أمر عدوكم وجعلت اليد العليا لكم كما تقول الملوك : اليوم كمل لنا الملك ، وكمل لنا ما نريد.
إذا كفوا من ينازعهم الملك ووصلوا إلى أغراضهم ومنافعهم.(6/54)
ج 6 ، ص : 55
(وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين ، وهدم منار الجاهلية وإبطال مناسكها وأن لم يحج معكم مشرك ولم يطف بالبيت عريان.
(وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) يعنى اخترته لكم من بين الأديان وآذنتكم بأنه هو الدين المرضى وحده « وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ » اه.
(فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) الاضطرار : حمل الإنسان على ما يضره وإلجاؤه إليه ، والمخمصة : المجاعة تخمص لها البطون : أي تضمر ، والمتجانف للإثم :
المائل المنحرف إليه المختار له ، أي فمن وقع فى ضرورة تناول شىء من المحرمات بسبب مجاعة تخمص لها البطون ويخاف منها الموت أو مبادئه حال كونه غير مختار للإثم ، بأن يأكل منه ما يزيد على ما يمسك به رمقه ، فإن ذلك حرام كما روى عن ابن عباس ومجاهد وقتادة رضى اللّه عنهم.
وفى معنى الآية ما جاء فى سورة البقرة « فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ » أي فمن اضطر غير طالب له ولا متعدّ ومتجاوز قدر الضرورة فلا إثم عليه.
وإنما اشترط هذا لأن الإباحة للضرورة وهى تقدّر بقدرها ، وذلك نافع للمضطر أدبا وطبعا لأنه يمنعه أن يتجرأ على ما تعود فيه مهانة له وضرر.
(فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن اضطر إلى أكل شىء مما ذكر فأكل فى مجاعة لا يجد فيها غيره وهو غير مائل إليه لذاته ولا جائر فيه متجاوز قدر الضرورة ، فإن اللّه غفور لمثله لا يؤاخذه عليه ، وهو رحيم به يرحمه ويحسن إليه.
ولما كان الأصل فى الأشياء الحلّ ، لأن اللّه سخر لنا ما فى الأرض جميعا لننتفع به ، والمحظور علينا هو ما يضرنا ، ولكن الناس يتصدّون أحيانا لفعل ما يضرهم وترك ما ينفعهم ، كما كانت تفعل العرب إذا استباحت أكل الميتة والدم ونحوها من الخبائث وحرمت على نفسها بعض الطيبات من الأنعام بخرافات وأوهام باطلة كالبحيرة والسائبة ونحوهما - كانت الحاجة ماسة إلى بيان ما يحله اللّه تعالى مما حرموه بعد بيان ما حرمه مما أحلوه فقال :(6/55)
ج 6 ، ص : 56
[سورة المائدة (5) : الآيات 4 الى 5]
يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)
تفسير المفردات
الطيب : ضد الخبيث ، والجوارح : واحدها جارحة ، وهى الصائدة من الكلاب والفهود والطيور ، من الجرح بمعنى الكسب قال تعالى « وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ » أي ما كسبتم ، ومكلبين من التكليب وهو تعليم الكلاب وإضراؤها بالصيد ، ثم استعمل فى تعليم الجوارح مطلقا ، والمحصنات هنا الحرائر ، وقيل العفيفات عن الزنا ، والأجور : المهور ، والمراد بالمحصنين الأعفّاء عن الزنا ، مسافحين مجاهرين بالزنا ، متخذى أخدان : مسرّين به ، والخدن : الصديق يقع على الذكر والأنثى ، حبط عمله : بطل ثواب عمله.
المعنى الجملي
روى ابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي « أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما أمر أبا رافع بقتل الكلاب فى المدينة جاء الناس فقالوا : يا رسول اللّه ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فأنزل اللّه الآية فقرأها » .(6/56)
ج 6 ، ص : 57
و
روى ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير أن عدى بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين سألا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالا : يا رسول اللّه قد حرم اللّه الميتة فماذا يحل لنا ؟
فنزلت الآيات.
الإيضاح
(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) أي يسألك المؤمنون ماذا أحل اللّه لهم من الطعام ؟
(قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ) الطيبات ما تستطيبها النفوس السليمة الفطرة ، المعتدلة المعيشة بمقتضى طبعها فتأكلها باشتهاء وما أكله الإنسان كذلك يسيغه ويهضمه بسهولة ويتغذى به غذاء صالحا ، وما يستخبثه ويعافه لا يسهل عليه هضمه ويضره غالبا ، فما حرمه اللّه فى الآية السابقة خبيث بشهادة اللّه الموافقة للفطرة المعتدلة ، وأصحاب الفطر السليمة يعافون أكل الميتة حتف أنفها وما ماثلها من فرائس السباع والمترديات والنطائح والدم المسفوح ، وكذلك الخنزير يعافه من يعرف ضرره وانهما كه فى أكل القاذورات.
والخلاصة - أحل لكم أيها المكلفون ما يستطاب أكله ويشتهى دون ما يخبث أو يعاف ، وأحل لكم صيد الجوارح بشرط أن يكون الجارح الذي صاده مما أدّبه الناس وعلموه الصيد حتى يصح أن ينسب الصيد إليهم ويكون قتل الجارح له كتذكية مرسله إياه.
أما الطيبات فهى ما عدا المنصوص على تحريمه كبهيمة الأنعام وصيد البر والبحر أي ما من شأنه أن يصاد منهما ، فالبحر كل حيوانه يصاد ، والبر يصاد منه ما يؤكل ما عدا سباع الوحش والطير ،
لحديث ابن عباس « نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أكل كل ذى ناب من السباع وكل ذى مخلب من الطير »
وحديث أبى ثعلبة الخشني « كل ذى ناب من السباع فأكله حرام » رواهما أحمد ومسلم وأصحاب السنن.
(فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) أي فكلوا من الصيد ما تمسكه الجوارح عليكم ،(6/57)
ج 6 ، ص : 58
أي تصيده لأجلكم فتحبسه وتقفه عليكم بعدم أكلها منه فإن أكلت منه فلا يحل أكل ما فضل عنها عند الجمهور ، لأنه مثل فريسة السبع المحرمة فى الآية السالفة.
(وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) أي وسمّوا عليه عند إرساله كما روى ذلك عن ابن عباس لحديث عدىّ بن حاتم « إذا أرسلت كلبك وسميت فأخذ فقتل فكل » والتسمية واجبة عند أبى حنيفة ، ومستحبة عند الشافعي.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي واتقوا اللّه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه ، ولا تقدموا على مخالفته فتأكلوا من صيد الجوارح غير المعلّمة ، أو مما لم تمسك عليكم من صيدها وأمسكته على نفسها ، أو تطعموا ما لم يسمّ اللّه عليه من الصيد والذبائح مما صاده أهل الأوثان ، فإن اللّه قد حرم ذلك عليكم فاجتنبوه ، واعلموا أن اللّه لا يضيع شيئا من أعمالكم ، بل تحاسبون عليها وتجازون فى الدنيا والآخرة ، وهو يحاسب الناس كلهم يوم القيامة فى وقت واحد ، فما أجدر حسابه أن يكون سريعا!.
وبعد أن بين وجوب التذكية للذبائح لإبعاد المسلمين مما كان عليه المشركون من أكل الميتة. وشدد فى التسمية على الطعام من صيد أو ذبيحة ، لإبعادهم عما كانوا عليه من الذبح لغير اللّه بالإهلال به لأصنامهم ، ليطهرهم من كل ما كانوا عليه من أدران الشرك. بيّن حكم مؤاكلة أهل الكتاب ومناكحتهم ، لأنهم لما كانوا فى الأصل أهل توحيد ثم سرت إليها نزعات الشرك ممن دخل فى دينهم من المشركين كان هذا مظنّة التشديد فى مؤاكلتهم ومنا كحتهم ، كما شدد فى أكل ذبائح مشركى العرب ونكاح نسائهم ، فذكر أنا لا نعاملهم معاملة المشركين فى ذلك ، بل تحل لنا مؤاكلتهم ونكاح نسائهم فقال :
(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) أي اليوم أحلّت لكم الطيبات على سبيل التفصيل بعد أن كانت حلالا بالإجمال ، وصار حكمها مستقرا ثابتا.
(وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) الطعام هنا الذبائح لأن غيرها حلال بأصله ، والذين أوتوا الكتاب : هم اليهود والنصارى أي وذبائح أهل الكتاب ممن(6/58)
ج 6 ، ص : 59
أوتوا التوراة والإنجيل ودانوا بهما أو بأحدهما حلال لكم دون ذبائح أهل الشرك الذين لا كتاب لهم من عبدة الأصنام والأوثان.
وروى ابن جرير عن أبى الدرداء وابن زيد أنهما سئلا عما ذبحوه للكنائس فأفتيا بأكله ، قال ابن زيد : أحل اللّه طعامهم ولم يستثن منه شيئا ، وقال أبو الدرداء - وقد سئل عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها جرجيس أهدوه لها. أ نأكل منه ؟ اللهم عفوا ، إنما هم أهل كتاب ، طعامهم حل لنا وطعامنا حل لهم ، وأمره بأكله.
(وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) أي وذبائحكم أيها المؤمنون حل لأهل الكتاب ، فلا جناح عليكم أن تطعموهم من طعامكم أو تبيعوهم منه.
وفائدة ذكر ذلك بيان أن إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين ، وليس كذلك إباحة المناكحة ، فذكره للتميز بين النوعين.
(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).
المحصنات هنا الحرائر : أي وأحل لكم أيها المؤمنون نكاح الحرائر من المؤمنات ونكاح الحرائر من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهم اليهود والنصارى إذا أعطيتم من نكحتم من محصناتكم ومحصناتهم مهورهن.
وتقييد الحل بإتيان المهور لتأكيد الوجوب لا لاشتراطه فى الحل ، وتخصيص الحرائر بالذكر للحث على ما هو الأولى منهن ، لا لأن من عداهن لا يحل ، إذ نكاح الإماء المسلمات صحيح بالاتفاق. وكذا نكاح الإماء الكتابيات عند أبى حنيفة.
(مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) المحصنون : الأعفاء عن الزنا ، والمسافحون الذين يأتون الفاحشة مجاهرين بها ، والمتخذو الأخدان : الذين يأتونها سرّا بالاختصاص بخدن من الأخدان ، والخدن يطلق على الصاحب والصاحبة : أي هن حل لكم إذا آتيتموهن أجورهن فعلا والتزمتم به حال كونكم أعفّاء عن الزنا جهرا وسرا ،(6/59)
ج 6 ، ص : 60
إذ المقصد من الزواج أن يكون الرجل محصنا والمرأة محصنة يعف كل منهما الآخر ويجعله فى حصن يمنعه من الفاحشة على أىّ وجه كانت ، فلا يزنى الرجل جهرة ولا سرا باتخاذ صاحبة خاصة به ، ولا تكون المرأة كذلك.
(وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي ومن ينكر شرائع الإسلام التي من جملتها ما بيّن هنا من الأحكام المتعلقة بالحل والحرمة ويمتنع عن قبولها فقد حبط عمله الصالح الذي عمله قبل ذلك وبطل ثوابه وخسر فى الآخرة ما أعده اللّه للمؤمنين من الجزاء العظيم على الإيمان الصحيح ، وهو إيمان الإذعان والعمل.
روى ابن جرير عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أن ناسا من المسلمين قالوا كيف نتزوج نساءهم : يعنى نساء أهل الكتاب وهم على غير ديننا ؟ فأنزل اللّه عز ذكره : ومن يكفر بالإيمان إلخ. فأحل اللّه تزويجهن على علم اه.
والمغزى من الآية تعظيم شأن ما أحله اللّه وما حرمه والتغليظ على من خالف ذلك.(6/60)
ج 6 ، ص : 61
[سورة المائدة (5) : الآيات 6 الى 7]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
المعنى الجملي
اعلم أن بين العبد وربه عهدين : عهد الربوبية والإحسان ، وعهد العبودية والطاعة ، وبعد أن وفى له سبحانه بالعهد الأول وبيّن له ما يحل وما يحرم من لذات الحياة فى الطعام والنكاح ، طلب إليهم الوفاء بالعهد الثاني ، وهو عهد الطاعة ، وأعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة ، والصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة ، لا جرم بدأ اللّه بذكر فرائض الوضوء.
وبعد أن بين لنا طائفة من الأحكام المتعلقة بالعادات والعبادات ذكرنا بعهده وميثاقه علينا وما التزمناه من السمع والطاعة له ولرسوله بقبول دينه الحق لنقوم به مخلصين.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة على حد قوله تعالى : « فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ » أي إذا أردت قراءته ، وجمهور المسلمين على أن الطهارة لا تجب على من قام إلى الصلاة إلا إذا كان محدثا.
أي إذا قمتم إلى الصلاة محدثين فاغسلوا إلخ. وهذا التقييد مستفاد من السنة العملية فى الصدر الأول ،
فقد روى أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث بريدة قال : « كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفّيه ، وصلى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر يا رسول اللّه إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال : عمدا فعلته يا عمر »
وروى البخاري وأصحاب السنن عن عمرو(6/61)
ج 6 ، ص : 62
ابن عامر الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول : « كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، قال قلت : فأنتم كيف تصنعون ؟ قال : كنا نصلى الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث »
وروى أحمد والشيخان من حديث أبى هريرة مرفوعا « لا يقبل اللّه صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ »
فهذه الأخبار تدل على أن المسلمين لم يكونوا فى عهد النبي يتوضئون لكل صلاة ، وإنما كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة غالبا ، وصلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد أمام الناس لبيان جواز ذلك.
ومن ذلك يعلم أن الوضوء لكل صلاة عزيمة وهو الأفضل ، وإنما يجب على من أحدث. وآخر الآية يدل على ذلك ، فإنه ذكر الحدثين ووجوب التيمم على من لم يجد الماء بعدهما فعلم منه أن من وجده وجب عليه أن يتطهر به عقبهما ، ولو كانت الطهارة واجبة لكل صلاة لما كان لهذا معنى.
والخلاصة - إن الوضوء لا يجب إلا على المحدث ، وإنما يستحب تجديده لكل صلاة (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) الغسل (بالفتح) إسالة الماء على الشيء لإزالة ما عليه من وسخ ونحوه ، والوجوه واحدها وجه ، وحدّه من أعلى تسطيح الجبهة إلى أسفل اللّحيين طولا ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضا ، والأيدى واحدها يد ، وحدّها فى الوضوء من رءوس الأصابع إلى المرفق ، وهو أعلى الذراع وأسفل العضد.
روى مسلم من حديث أبى هريرة : أنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع فى العضد ، ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع فى العضد ، ثم مسح رأسه ، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع فى الساق ، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع فى الساق ، ثم قال : هكذا رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتوضأ.
(وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) الرأس معروف ويمسح ما عدا الوجه منه وقد اختلف فقهاء الأمصار فى أقل ما يحصل به فرض مسح الرأس ، فقال الشافعي يكفى أقل ما يصدق عليه اسم المسح ولو شعرة ، وقال مالك يحب مسح الكل أخذا بالاحتياط ، وأوجب(6/62)
ج 6 ، ص : 63
أبو حنيفة مسح الربع ، لأن المسح إنما يكون باليد وهى تستوعب مقدار الربع فى الغالب. ولما
روى « أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم توضأ ومسح على ناصيته »
(وهى مقدار الربع).
(وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) الكعبان هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق من الجانبين ، أي واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين ، ويؤيده عمل النبي صلى اللّه عليه وسلم وعمل الصحابة وقول أكثر الأئمة
فقد روى مسلم عن أبى هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم رأى رجلا لم يغسل عقبه فقال : « ويل للأعقاب من النار »
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال : تخلّف عنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى سفرة فأدركنا وقد وقد أرهقنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا قال فنادى بأعلى صوته « ويل للأعقاب من النار » مرتين أو ثلاثا.
ويقوم المسح على الخفين عند لبسهما مقام غسل الأرجل ، وقد روى ذلك خلائق لا يحصون من الصحابة ،
قال الحسن : حدثنى سبعون من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (كان يمسح على الخفين)
وقال الحافظ بن حجر :
قد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر ، وأقوى الأحاديث حجة فيه حديث جرير
،
فقد روى أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل له : تفعل هكذا ؟ قال نعم. رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه.
والخلاصة - إن غسل الرجلين المكشوفتين ومسح المستورتين هو الثابت بالسنة لمتواترة المبينة للقرآن ، والموافق لحكمة هذه الطهارة.
(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) الجنب : لفظ يستعمل للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث ، والمراد به المضاجعة والوقاع : أي وإن كنتم أصابتكم جنابة قبل أن تقوموا إلى(6/63)
ج 6 ، ص : 64
صلاتكم فقمتم إليها فتطهروا منها بغسل البدن كله قبل دخولكم فى صلاتكم التي قمتم إليها وفى معنى الوقاع خروج المنىّ بالاحتلام فهو جنابة شرعا ،
وفى الحديث « إنما الماء من الماء » رواه مسلم
، أي إنما يجب ماء الغسل من الماء الدافق الذي يخرج من الإنسان بأى سبب كان خروجه.
ولما بين سبحانه وجوب الطهارتين ، وكان المسلم لا بدّ له من طهارة الوضوء مرة أو أكثر من ذلك فى اليوم ، ولا بد له من الغسل فى كل أسبوع أو أكثر مرة غالبا - بين الرخصة فى تركهما عند المشقة أو العجز ، لأن الدّين يسر لا حرج فيه ولا عنت فقال :
(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ) أي وإن كنتم مرضى مرضا جلديا كالجدرىّ والجرب وغيرهما القروح والجروح أو أىّ مرض يشقّ فيه استعمال الماء أو يضر.
(أَوْ عَلى سَفَرٍ) طال أو قصر مهما كان السبب فيه ، ومن شأن السفر أن يشق فيه الوضوء والغسل.
(أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) الغائط المكان المنخفض من الأرض ، ويراد به شرعا قضاء الحاجة من بول وغائط ، أي أحدثتم الحدث الموجب للوضوء عند إرادة الصلاة ونحوها كالطواف ، ويسمى الحدث الأصغر.
(أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) المراد بالملامسة المباشرة المشتركة بين الرجال والنساء ، والحدث الموجب للغسل يسمى الحدث الأكبر.
(فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) أي إذا كنتم على حال من هذه الأحوال الثلاث : المرض أو السفر أو فقد الماء عند الحاجة إليه لإحدى الطهارتين فاقصدوا ترابا أو مكانا من وجه الأرض طاهرا لا نجاسة عليه فاضربوا بأيديكم عليه وألصقوها بوجوهكم وأيديكم إلى الرسغين بحيث يصيبها أثر منه.
(ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) أي ما يريد اللّه ليجعل عليكم فيما شرعه لكم فى هذه الآية وفى غيرها حرجا ما ، أي أدنى ضيق وأقل مشقة ، لأنه تعالى غنىّ(6/64)
ج 6 ، ص : 65
عنكم رحيم بكم ، فلا يشرع لكم إلا ما فيه الخير والنفع لكم.
(وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) من الأقذار والرذائل والمنكرات والعقائد الفاسدة فتكونوا أنظف الناس أبدانا ، وأزكاهم نفوسا ، وأصحهم أجسادا ، وأرقاهم أرواحا.
(وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) فيجمع لكم بين طهارة الأبدان وطهارة الأرواح ، والإنسان إنما هو روح وجسد ، والصلاة تطهر الروح وتزكى النفس ، فهى تنهى عن الفحشاء والمنكر وتعوّد المصلى مراقبة ربه فى السر والعلن ، وخشيته حين الإساءة والرجاء فيه لدى الإحسان ، والطهارة التي جعلها اللّه شرطا للدخول فى الصلاة ومقدمة لها تطهر البدن وتنشطه ، فيسهل بذلك العمل من عبادة وغيرها ، فما أجلّ نعم اللّه على عباده ، وما أجدر من هدى بهداه بدوام الشكر عليه ، ومن ثم ختم الآية الكريمة بقوله :
(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي وليعدكم بذلك لدوام شكرهم على تلك النعم الظاهرة والباطنة.
الحكمة فى شرع الوضوء والغسل
للوضوء والغسل فوائد أهمها :
(1) أن غسل البدن كله وغسل الأطراف يفيد صاحبه نشاطا وهمة ويزيل ما يعرض للجسد من الفتور والاسترخاء بسبب الحدث أو بغيره من الأعمال التي تؤثر تأثيره ، وبذا يقيم الصلاة على وجهها ويعطيها حقها من الخشوع ومراقبة اللّه تعالى.
إذ المشاهد أنه إذا بلغ الإنسان من هذه اللذة الجسمية غايتها بالوقاع أو الإنزال حصل تهيج عصبى كبير يعقبه فتور شديد بحسب سنة رد الفعل ، ولا يعيد نشاطه إلا غسل البدن كله.
(2) أن النظافة ركن الصحة البدنية ، فإن الوسخ والأقذار مجلبة الأمراض والأدواء الكثيرة ، ومن ثم نرى الأطباء يشددون فى أيام الأوبئة والأمراض المعدية فى المبالغة فى النظافة ، وجدير بالمسلمين أن يكونوا أصح الناس أجسادا وأقلهم أمراضا ،(6/65)
ج 6 ، ص : 66
لأن دينهم مبنى على المبالغة فى نظافة الأبدان والثياب والأمكنة ، فإذا هم فعلوا ما أوجبه الدين تنتفى الأسباب التي تولد جراثيم الأمراض عند الناس.
(3) تكريم المسلم نفسه لدى نفسه وأهله وقومه الذين يعيش معهم ، إذ من كان نظيف البدن للثياب كان جديرا بحضور كل مجتمع ولقاء أشراف الناس وفضلائهم ، ومن كان وسخا قذرا فإنه يكون محتقرا عند كرام الناس ولا يعدونه أهلا لأن يحضر مجالسهم ويشعر فى نفسه بالضعة والهوان.
ولأجل هذا ورد الأمر بالغسل والطيب ولبس الثياب النظيفة يوم الجمعة لأنه يوم يجتمع فيه الناس فى المساجد لعبادة اللّه تعالى ،
روى مالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم من طرق عدة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال « غسل الجمعة واجب على كل محتلم »
أي بالغ مكلف.
وبعد أن بين سبحانه هذه الأحكام وذكر رفع الحرج الذي تم به الإنعام ذكّرنا بنعمه التي أنعم بها علينا فقال :
(وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي وتذكروا أيها المؤمنون إذ كنتم كفارا متباغضين فأصبحتم بهداية الدين إخوانا متحابين وتذكروا العهد الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا صلى اللّه عليه وسلم على السمع والطاعة فى المنشط والمكره (المحبوب - والمكروه) والعسر واليسر حين قلتم له سمعنا ما أمرتنا به ونهيتنا عنه ، وأطعناك فيه فلا نعصيك فى معروف ، وكل ما جئتنا به فهو معروف.
وكل نبى بعث فى قوم أخذ عليهم ميثاق اللّه بالسمع والطاعة وقبول الدعوة.
والدخول فى الدين يعدّ قبولا لهذا العهد ، فعلينا أن نعد هذا التذكير خطابا لنا كما عده السلف من الصحابة خطابا لهم.
واتقوا اللّه فلا تنقضوا عهده وتخالفوا ما أمركم به وما نهاكم عنه سواء أ كان فى هذه الآيات أم فى غيرها.(6/66)
ج 6 ، ص : 67
(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فلا يخفى عليه ما أضمره كل واحد ممن أخذ عليه الميثاق من نية الوفاء به أو عدم الوفاء ، وما تنطوى عليه السرائر من الإخلاص أو الرياء.
[سورة المائدة (5) : الآيات 8 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
تفسير المفردات
القوّام بالشيء : هو القائم به حق القيام ، شهداء بالقسط : أي شهداء بالعدل بلا محاباة ، ولا يجرمنكم. أي ولا يحملنكم ، والشنآن : العداوة والبغضاء ، الخبير : العالم بالشيء على وجه الدقة والضبط ، والجحيم : النار العظيمة ، وهى هنا دار العذاب وأصحابها هم ملازموها ، بسط إليه يده : بطش به ، وبسط إليه لسانه : شتمه ، والتقوى : هى اتقاء عقاب اللّه وسخطه بترك معاصيه.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه عباده بالوفاء بالعقود عامة ، ثم امتن عليهم بإباحة كثير من الطيبات لهم وتحريم ما يضرهم من الطعام إلا فى حال الضرورة ، ثم ذكر حل طعام(6/67)
ج 6 ، ص : 68
أهل الكتاب ونسائهم إذا كن محصنات ، ثم أمرهم بالطهارة مع رفع الحرج عنهم - ذكر هنا ما ينبغى أن يكون من معاملتهم سواهم سواء أ كانوا أعداء أم أولياء ، ثم ذكر وعده لعباده الذين يعملون الصالحات ووعيده لمن كفر وكذب بالآيات ، وختمها بذكر المنة الشاملة ، والنعمة الكاملة ، إذ أنقذهم من أعدائهم وأظهرهم عليهم ، وكانوا على وشك الإيقاع بهم ، ولكن رحمهم وكبت أعداءهم وردّهم صاغرين ، ليكون الشكر أتم ، والوفاء ألزم.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ) أي ليكن من دأبكم وعادتكم القيام بالحق فى أنفسكم بالإخلاص للّه فى كل ما تعملونه من أمر دينكم وأمر دنياكم ، بأن تريدوا بعملكم الخير والتزام الحق بدون اعتداء على أحد ، وفى غيركم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ابتغاء مرضاة اللّه.
(شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) الشهادة هنا عبارة عن إظهار الحق للحاكم ليحكم به ، أو إظهاره هو له بالحكم به أو الإقرار به لصاحبه ، وفى كل حال تكون بالعدل بلا محاباة لمشهود له ولا لمشهود عليه ، لأجل قرابة أو مال أو جاه ، ولا تركه لفقر أو مسكنة.
فالعدل هو ميزان الحقوق ، إذ متى وقع الجور فى أمة لأى سبب زالت الثقة من الناس وانتشرت المفاسد ، وتقطعت روابط المجتمع ، فلا يلبث أن يسلط اللّه عليهم بعض عباده الذين هم أقرب منهم إلى العدل فيذيقوهم الوبال والنكال ، وتلك سنة اللّه فى حاضر الأمم وغابرها ، ولكن الناس لا يعتبرون.
(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) أي ولا تحملنكم العداوة والبغضاء لقوم على عدم العدل فى أمرهم بالشهادة لهم بحقهم إذا كانوا أصحاب حق ، أو الحكم لهم بذلك فالمؤمن يؤثر العدل على الجور والمحاباة ، ويجعله فوق الأهواء وحظوظ الأنفس وفوق المحبة والعداوة مهما كان سببهما.(6/68)
ج 6 ، ص : 69
(اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ) هذه الجملة توكيد للجملة السالفة للعناية بأمر العدل وأنه فريضة لا هوادة فيها ، لأنه أقرب لتقوى اللّه والبعد عن سخطه. وتركه من أكبر المعاصي ، لما ينشأ عنه من المفاسد التي تقوّض نظم المجتمعات ، وتقطع الروابط بين الأفراد ، وتجعل بأسهم بينهم شديدا.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي واتقوا سخطه وعقابه لأنه لا يخفى عليه شىء من أعمالكم ظاهرها وباطنها ، واحذروا أن يجازيكم بالعدل على ترككم للعدل ، وقد مضت سنته فى خلقه بأن يجعل جزاء ترك العدل فى الدنيا الذلة والمهانة للأمم والأفراد ، وفى الآخرة الخزي يوم الحساب.
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال التي يصلح بها أمر العباد فى أنفسهم وفى روابطهم الاجتماعية ، ومن أهمها العدل فيما بينهم وتقوى اللّه فى جميع أحوالهم.
ثم بين سبحانه ما وعدهم به بعد أن ذكره أوّلا مجملا لتتوجه النفس للسؤال عنه حتى إذا جاء تأكد فى النفس وتقرر هذا الوعد فقال :
(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) المغفرة الستر ، والإيمان والعمل الصالح يستران ويمحوان من النفس ما يكون فيها من سوء أثر الأعمال السالفة فيغلب عليها حب الحق والخير وتكون أهلا للوصول إلى عالم القدس والطهر ، والأجر العظيم هو الجزاء المضاعف على الإيمان والعمل الصالح فضلا من اللّه ورحمة من لدنه.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الكفر هنا هو الكفر باللّه ورسله ، لا فارق فى ذلك بين كفر بالجميع وكفر بالبعض.
وآيات اللّه قسمان آياته المنزلة على رسله وآياتها التي أقامها فى الأنفس والآفاق للدلالة على وحدانيته وكماله وقدرته وإرادته ، وعلى صدق رسله فيما يبلغون عنه ، والجحيم النار العظيمة كما قال تعالى حكاية عن قوم إبراهيم « قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ »(6/69)
ج 6 ، ص : 70
أي إن هؤلاء الكفار المكذبين سيصلون العذاب فى نار عظيمة أعدها اللّه لمن كفر وكذب بآياته ، لأن نفوسهم قد فسدت ، وسوء أعمالهم قد ران على قلوبهم ، فأصبحوا صمّا عميا لا يبصرون.
« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ » .
روى من طرق عدة أن الآية نزلت فى رجل من قبيلة محارب همّ بقتل النبي صلى اللّه عليه وسلم أرسله قومه لذلك وكان بيده سيف وليس مع النبي صلى اللّه عليه وسلم سلاح وكان منفردا.
روى الحاكم من حديث جابر قال : « قام على رأس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال : من يمنعك ؟ قال اللّه ، فوقع السيف من يده فأخذه النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال : من يمنعك ؟ قال كن خير آخذ ، قال تشهد أن لا إله إلا اللّه وأنى رسول اللّه قال : أعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك ، فخلّى سبيله ، فجاء إلى قومه وقال جئتكم من عند خير الناس » .
وفى رواية أخرى « إن السيف الذي كان بيد الأعرابى كان سيف النبي صلى اللّه عليه وسلم علّقه فى شجرة وقت الراحة ، فأخذه الرجل وجعل يهزه ويهم بقتل النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ثم سقط من يده فأخذه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال من يمنعك منى ؟ قال لا أحد ، ثم صاح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأصحابه فأخبرهم وأبى أن يعاقبه » .
وعلى هذا فالمراد تذكيرهم بنعمة اللّه عليهم بدفع الشر والمكروه عن نبيهم ، فإنه لو حصل ذلك لكان من المحن الكبرى التي تصيب المسلمين.
وقيل إن المراد تذكيرهم بما أنعم اللّه عليهم من قوة الإسلام وعظمة شوكة المسلمين ، فبعد أن كانوا أذلاء مغلوبين على أمرهم بدّل اللّه الحال غير الحال وأصبحوا أعزة بعد الذلة وغالبين بعد أن كانوا مقهورين ، فهو سبحانه يذكر المسلمين بوقائع الاعتداء كلها(6/70)
ج 6 ، ص : 71
سواء فى ذلك حادثة المحاربي وأمثالها ، لأن حفظه لأولئك السلف هو حفظه لذلك الدين القويم ، فالنبى صلى اللّه عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ، وأصحابه هم الذين تلقوها عنه وأدّوها لمن بعدهم قولا وعملا.
ومن فوائد هذا التذكير للمتأخر ترغيبه فى التأسى بالسلف فى القيام بما جاء به الدين من الحق والعدل والبر.
ومعنى قوله : إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ، أي شارفوا أن يمدوا أيديهم إليكم بصنوف البلاء من قتل ونهب فكفّ اللّه تعالى بلطفه ورحمته أيديهم عنكم فلم يستطيعوا تنفيذ ما همّوا به.
(وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي واتقوا اللّه الذي أراكم قدرته على أعدائكم وقت ضعفكم وقوتهم ، وتوكلوا عليه وحده فقد أراكم عنايته بمن يكلون أمورهم إليه بعد مراعاة سننه والسير عليها في اتقاء كل ما يخشى ضره وتسوء عاقبته ، لا على أوليائكم وحلفائكم ، لأن الأولياء قد تنقطع بهم الأسباب ويجيبون داعى اليأس إذا اشتد البأس ، والحلفاء قد يغدرون كما غدر بنو النضير وغيرهم ، ولكن المؤمن المتوكل على اللّه إذا همّ أن ييأس تذكر أن اللّه وليه وهو الذي بيده ملكوت كل شىء ، وهو الذي يجير ولا يجار عليه ، فتتجدد قوته ويفرّ منه اليأس فينصره اللّه ويخذل أعداءه كما حدث لأولئك الكملة المتوكلين مع سيد المرسلين أيام ضعفهم وقلتهم وفقرهم وتألب الناس كلهم عليهم.(6/71)
ج 6 ، ص : 72
[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 14]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)
تفسير المفردات
نقيب القوم : من ينقّب عن أحوالهم ويبحث عن شئونهم ، ونقب عليهم نقابة صار نقيبا عليهم ، والتعزيز : النصرة مع التعظيم ، وأقرضتم اللّه : أي بذلتم المال فوق ما أوجبه عليكم ، والقرض الحسن : ما كان عن طيب نفس. سواء السبيل : وسطه ، لعناهم : طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا. وقاسية : يابسة غليظة تنبو من قبول الحق.
والتحريف : إمالة الشيء عن موضعه إلى أي جانب من الجوانب. والخائنة : الخيانة.
الإغراء. أصله التجريش ، يقال أغرى الشيء بالشيء والمراد هنا تفرق الأهواء الموجب للعداوة والبغضاء.
المعنى الجملي
بعد أن ذكّرنا اللّه بميثاقه الذي واثقنا به على السمع والطاعة لخاتم النبيين صلى اللّه عليه وسلم - بين لنا فى هذه الآيات أخذ الميثاق على اليهود والنصارى ، وما كان من نقضهم له ، ومن عقابه لهم على ذلك ، فى الدنيا بضروب الذلة والمسكنة ، وفى الآخرة بالخزي والعذاب ، لنعتبر بحالهم ، ونبتعد أن نكون على مثالهم ، وليشرح لنا العلة فى كفرهم(6/72)
ج 6 ، ص : 73
بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وسبب تصدّيهم لإيذائه وعداوة أمته ، وليقيم الحجة عليهم بما تراه من ذكر المحاجة ، وبيان أنواع كفرهم وضلالهم.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي ولقد أخذ اللّه العهود والمواثيق على بنى إسرائيل ليعملنّ بما فى التوراة ، وفيها شريعتهم التي اختارها لهم ، ولا يزال هذا الميثاق فى آخر الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام.
(وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) نقباء بنى إسرائيل زعماء أسباطهم الاثني عشر ، والمراد ببعثهم إرسالهم لمقاتلة الجبارين الذين سيأتى ذكرهم بعد.
روى أنه لما نجابنو إسرائيل بعد هلاك فرعون ، أمرهم اللّه بالسير إلى بيت المقدس وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة وقال لهم إنى جعلتها لكم وطنا ودار هجرة فاخر جوا إليها وجاهدوا من فيها وإنى ناصركم ، وأمر نبيه موسى عليه السلام أن يأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا بالوفاء بتنفيذ ما أمروا به فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بنى إسرائيل وتكفل له به النقباء وسار بهم ، فلما دنا من الأرض المقدسة بعث النقباء يتحسسون الأخبار فرأوا أجساما قوية وشوكة وقوة فهابوهم ورجعوا وحدّثوا قومهم بما رأوا ، وقد كان موسى نهاهم عن ذلك فنكثوا الميثاق إلا نقيبين ، وهما اللدان قال فيهما « قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ » الآية ،
وسيأتى الكلام فى ذلك بعد.
(وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ) أي وقال اللّه هذا لموسى ، وهو بلّغه عنه ، ومعنى كونه معهم أنه ناصرهم ومعينهم ما داموا محافظين على الميثاق ، وهو راء لأفعالهم ، سميع لأقوالهم عليم بضمائرهم ، وقادر على مجازاتهم.
(لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي لئن(6/73)
ج 6 ، ص : 74
أدّيتم الصلاة على وجهها ، وأعطيتم ما فرض عليكم من الصدقات التي تتزكى بها نفوسكم وآمنتم برسلى الذين أرسلهم إليكم بعد موسى ، كداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد ونصرتموهم معظّمين لهم ، وبذلتم من المال زيادة على ما أوجبه اللّه عليكم بالزكاة فكنتم بذلك بمثابة من أقرض ماله لغنىّ ملىء وفىّ لا يضيع عليه ، بل يجده أمامه عند شدة الحاجة إليه - لئن فعلتم كل هذا لأزيلنّ بتلك الحسنات تأثير سيئاتكم التي سلفت منكم من نفوسكم ، فلا يبقى فيها رجس ولا خبث يقتضى العقاب ، فإن الحسنات يذهبن السيئات كما يغسل الماء الأدران والأوساخ ، ولأدخلنكم تلك الجنات التي لا يدخلها إلا من كان طاهرا من الشرك وما يتبعه من المعاصي والآثام التي تفسد الفطرة.
(فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي فمن جحد منكم شيئا مما أمرته به فتركه ، أو عمل شيئا مما نهيته عنه بعد أخذ الميثاق عليه بالوفاء لى بطاعتي واجتنابه معصيتى - فقد أخطأ الطريق الواضح وضلّ الصراط المستقيم الذي يوصل سالكه إلى إصلاح قلبه وتزكية نفسه ويجعله أهلا لجوار ربه فى تلك الجنات.
ثم بيّن أنهم لم يوفوا بهذا العهد فجازاهم على سوء صنيعهم فقال :
(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) أي فبسبب نقضهم للميثاق الذي أخذ عليهم - ومن ذلك الإيمان بمن يرسلون من الرسل ونصرهم وتبجيلهم وتعظيمهم - استحقوا مقتنا وغضبنا والبعد من ألطافنا ، فإن نقض الميثاق أفسد فطرتهم ودنس نفوسهم ، وقسّى قلوبهم ، حتى قتلوا الأنبياء بغير حق وافتروا على مريم وأهانوا ولدها الذي أرسل إليهم ، ولإصلاح ما فسد من عقائدهم وأخلاقهم ، وحاولوا قتله وافتخروا بذلك - فبكل هذا بعدوا عن رحمة اللّه ، إذ جرت سنته أن الأعمال السيئة تؤثر فى النفوس آثارا سيئة ، فتجعل القلوب قاسية لا تؤثر فيها الحجة والموعظة ، ومن ثم تستحق مقت اللّه وغضبه والبعد من فضله ورحمته ، وما مثل هذا إلا مثل من يهمل العناية بنفسه ، ولا يراعى القوانين الصحية فهو لا شك سيصاب بالأمراض والأسقام ، ولا يلومنّ حينئذ إلا نفسه ، إذ كان هو السبب فى ذلك بإهماله.(6/74)
ج 6 ، ص : 75
(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) تحريف الكلم عن مواضعه يكون : إما بتحريف الألفاظ بالتقديم والتأخير والزيادة والنقصان ، وإما بتحريف المعاني بحمل الألفاظ على غير ما وضعت له ، وكل منهما قد وقع فى التوراة وغيرها من كتبهم ، فإن التوراة التي كتبها موسى ، وأخذ العهد والميثاق على بنى إسرائيل بحفظها كما نص على ذلك فى الفصل الحادي والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع ، قد فقدت باتفاق مؤرخى اليهود والنصارى عند سبى البابليين لليهود ولم يكن عندهم إلا هذه النسخة ولم يكونوا يستظهرونها ، كما كان المسلمون يستظهرون القرآن فى عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم.
وهناك أسفار خمسة ينسبونها إلى موسى - فيها خبر كتابته التوراة وأخذه للعهد عليهم بحفظها ، ولا شك أن هذا ليس منها قطعا ، وفيها خبر موته وأنه لم يقم بعده أحد مثله إلى ذلك الوقت ، أي الوقت الذي كتب فيه سفر تثنية الاشتراع ، وفى هذا أكبر دليل على أن الكاتب كان بعد موسى بردح طويل من الزمن كما أن فيها كثيرا من الكلمات البابلية الدالة على أنها كتبت بعد السبي.
لكل هذا حقق كثير من مؤرخى الفرنجة أن هذه التوراة التي بين أيديهم كتبت بعد موسى ببضعة قرون ، كتبها عزرا الكاهن بعد أن أذن لبنى إسرائيل بالعودة إلى بلادهم.
(وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) روى عن ابن عباس أنه قال : نسوا الكتاب وعن مجاهد أنه قال : نسوا كتاب اللّه إذ أنزل عليهم ، ومرادهما أنهم نسوا طائفة من أصل الكتاب ، وقال بعضهم : نسوا الكتاب بترك العمل به.
وفى الحق أنهم أضاعوا كتابهم وفقدوه عند ما أحرق البابليون هيكلهم وخرّبوا عاصمتهم وسبوا من بقي منهم حيا ، فلما عادت إليهم الحرية جمعوا ما كانوا قد حفظوه من التوراة ووعوه وعملوا به.
وهذا من أعظم الأدلة على أن القرآن معجزة محمد صلى اللّه عليه وسلم أثبتها التاريخ بعد بعثة النبي بعدة قرون من موت موسى.(6/75)
ج 6 ، ص : 76
(وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) الخائنة بمعنى الخيانة كالقائلة بمعنى القيلولة والخاطئة بمعنى الخطيئة أي إنك أيها النبي لا تزال تطلع من هؤلاء اليهود على خيانة إثر خيانة ، فلا تظننّ أنك أمنت كيدهم بتأمينك إياهم على أنفسهم ، فهم قوم لا وفاء لهم ولا أمان ، فمن نقض عهد اللّه وميثاقه فكيف يرجى منه وفاء ؟ وكيف يطمع منه فى أمانة ؟
(إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) كعبد اللّه بن سلام وإخوانه ممن أسلموا وصدقوا اللّه ورسوله فلا تظننّ بهم سوءا ولا تخف منهم خيانة ولا خداعا.
(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي فاعف عما فرط من هؤلاء القليل ، واصفح عمن أساء منهم ، وعاملهم بالإحسان الذي يحبه اللّه تعالى ، فأنت أحق الناس باتباع ما يحبه اللّه ويرضاه ، وهذا رأى أبى مسلم ، وقال غيره : فاعف عن هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل ، واصفح لهم عن جرمهم ، فانى أحب من أحسن العفو والصفح إلى من أساء إليه ، إيثارا للاحسان والفضل على ما يقتضيه العدل.
وقد ثبت أن النبي صلى اللّه عليه وسلم رغب عند ما دخل المدينة فى مصالحة اليهود وموادعتهم فعقد معهم العهد على ألا يحاربوه ولا يظاهروا من يحاربه ولا يمالئوا عليه عدوّا له ، وأن يكونوا آمنين على أنفسهم وأموالهم وحريتهم ، وكان إذ ذاك منهم ثلاث طوائف حول المدينة وهم بنو قينقاع وبنو النّضير وبنو قريظة فنقضوا العهد وهمّوا بقتل النبي صلى اللّه عليه وسلم فحلّ له قتالهم ، ولكنه رجح السلم على الحرب واكتفى بطردهم من جواره وبعث إليهم « أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنونى وقد أجّلتكم عشرا فمن وجدته بها بعد ذلك ضربت عنقه » فأقاموا يتجهزون أياما ثم ثبّط عزيمتهم عبد اللّه بن أبىّ وأرسل إليهم ألا تخافوا إن معى ألفين يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان ، وكان رئيسهم المطاع حيىّ بن أخطب(6/76)
ج 6 ، ص : 77
شديد العداوة للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، وهو الذي زين لهم قتله والغدر به فركن إلى قول ابن أبىّ ، وبعث إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم إنا لن نخرج من المدينة فافعل ما بدا لك.
فعلم النبي صلى اللّه عليه وسلم أنهم يريدون الحرب فخرج هو والمسلمون للقائهم يحمل لواءه على بن أبى طالب كرم اللّه وجهه ، فلما وصلوا إليهم أقاموا على حصونهم يرمونهم بالنبل والحجارة ، ولما اشتد عليهم الحصار ورأوا ألا سبيل لهم إلى المقاومة رضوا بالخروج سالمين وعلموا أن وعد ابن أبىّ كان هو الغدر والخيانة بعينها ، وقد كان النبي صلى اللّه عليه وسلم قادرا حينئذ على استئصالهم والقضاء عليهم ولكنه اختار العفو والإحسان واكتفى بإبعادهم عن المدينة على أن يخرجوا منها ، وليس معهم إلا أولادهم وما حملت الإبل إلا السلاح ، ورحلوا إلى خيبر.
وهذه الآية نزلت بعد هذا كله لأنها من آخر ما نزل ، ولم يعاقب اليهود بعدها على خيانة ولا غدر ، ولكنه أوصى بإجلائهم عن جزيرة العرب.
(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أي وكذلك أخذنا من النصارى الثبات على طاعتنا وأداء فرائضنا واتباع رسلنا والتصديق بهم ، فسلكوا فى ميثاقنا الذي أخذناه عليهم طريق اليهود الضالين ، فبدلوا دينهم ونقضوا الميثاق الذي أخذناه عليهم بالوفاء بعهدنا.
(فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) لأن نسيان حظ عظيم من كتابهم كان سببا فى تفرقهم فى الدين واتباع أهوائهم ، وتبع هذا أن وقعت بينهم العداوة والبغضاء بمقتضى سننه تعالى فى هذه الحياة ، ومن أجل هذا نسبه سبحانه إلى نفسه مع أنه من أعمالهم الاختيارية ، لأنه كان نتيجة حتمية لتلك السنن التي وضعت فى الخليقة (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) أي وسينبئهم اللّه عند الحساب فى الآخرة بما كانوا صنعوا فى الدنيا من نقض للميثاق ، ونكث للعهد ، وتبديل للكتاب ،(6/77)
ج 6 ، ص : 78
وتحريف للأوامر والنواهي ، ويجازيهم على ذلك بقدر ما يستحقون ، ليعلموا أنه حكم عدل لا يظلم مثقال ذرة بين اللّه فى هذه الآية أن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كما نسى اليهود ، وسرّ هذا أن المسيح عليه السلام لم يكتب ما ذكّرهم به من المواعظ وتوحيد اللّه وتنزيهه وطرق الإرشاد إلى عبادته ، وكان الذين اتبعوه من العامة ، وأمثلهم حواريّه ، وهم من الصيادين ، وقد اشتد اليهود فى مطاردتهم فى كل مكان ، ومن ثم لم تكن لهم جماعات ذات نفوذ وقوة وعلم تدوّن ما حفظوه من الإنجيل إلى أن كثيرا من الناس كانوا يبثون تعاليم باطلة عن المسيح ، ومنهم من كتب مثل هذا حتى إن الكتب التي سمّوها الأناجيل كانت كثيرة جدا ، ولم تظهر الأناجيل الأربعة التي عليها المعوّل عندهم الآن إلا بعد ثلاثة قرون من تاريخ المسيح ، عند ما صار للنصارى دولة بدخول الملك قسطنطين فى النصرانية ، وإدخاله إياها فى طور جديد من الوثنية وهى تاريخ ناقص للمسيح ، على ما بها من تعارض وتناقض ، مع كونها مجهولة الأصل والتاريخ ، وقد أقاموا بناء دينهم وكتبهم التي يسمونها (العهد الجديد) على أساس كتب اليهود التي يسمونها كتب العهد العتيق وقد علمت شأنها فيما سلف.
[سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 16]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)(6/78)
ج 6 ، ص : 79
المعنى الجملي
بعد أن بيّن سبحانه أنه أخذ الميثاق على اليهود والنصارى ، كما أخذه على هذه الأمة وأنهم نقضوا العهد والميثاق ، وتركوا ما أمروا به ، وأنهم أضاعوا حظا عظيما مما أوحاه إليهم ولم يقيموا ما حفظوا منه - دعاهم عقب ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وبالكتاب الذي جاء به.
وهذا البيان من دلائل نبوّته صلى اللّه عليه وسلم ، وهو من معجزات القرآن الكثيرة المنبثة فى تضاعيفه.
الإيضاح
(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) قال ابن عباس : أخفوا صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وأخفوا أمر الرجم ، وعفا عن كثير مما أخفوه ، فلم يفضحهم ببيانه اه.
أي يا أهل الكتاب إنا أرسلنا إليكم محمدا رسول اللّه وخاتم النبيين يبيّن لكم كثيرا من الأحكام التي كنتم تخفونها ، وقد أنزلها اللّه عليكم كحكم رجم الزاني وهو مما حفظتموه من أحكام التوراة كما هو ثابت فى سفر التثنية ، لكنكم لم تلتزموا العمل به وأنكره عالمكم ابن صوريا أمام النبي صلى اللّه عليه وسلم فأقسم عليه وناشده اللّه فاعترف به ، وكذلك أخفى اليهود والنصارى صفات النبي صلى اللّه عليه وسلم والبشارات به وحرفوها بالحمل على معان أخرى ، إلى ما أضاعوه من كتبهم ونسوه كنسيان اليهود ما جاء فى التوراة من أخبار الحساب والجزاء فى الآخرة ، وأظهره الرسول لهم ، وكانت الحجة عليهم فيه أقوى ، إذ هم يعلمون أنه نبىّ أمي لم يطلع على شىء من كتبهم ، ومن ثم آمن به من آمن من علمائهم المنصفين ، واعترفوا بعد إيمانهم بما بقي عندهم من البشارات وصفات النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وكان هذا البيان من دلائل نبوته صلى اللّه عليه وسلم ومعجزات القرآن التي لا ينبغى أن يمترى أحد فيها ، ومع هذا فقد كان يعفو عن كثير مما كانوا(6/79)
ج 6 ، ص : 80
يخفونه ، ولا يظهر الكثير مما يكتمونه ، وإنما لم يظهره لأنه لا حاجة إلى إظهاره فى الدين ، والفائدة فى ذكر بعضه إعلامهم بأن الرسول عالم بكل ما يخفونه ، فيكون ذلك داعيا لترك الإخفاء حتى لا يفتضحوا ومن شأن علماء السوء فى كل أمة أن يكتموا من العلم ما يكون حجة عليهم وكاشفا عن سوء حالهم ، أو يحرّفوه بحمله على غير ظاهر معناه.
(قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) النور هو النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وسمى بذلك لأنه للبصيرة كالنور للبصر ، فكما أنه لولا النور ما أدرك البصر شيئا من المبصرات ، كذلك لولا ما جاء به النبي صلى اللّه عليه وسلم من القرآن والإسلام لما أدرك ذو البصيرة من أهل الكتاب ولا من غيرهم حقيقة الدين الحق ، ولا ما طرأ على التوراة والإنجيل من ضياع بعضها أو نسيانه ، وعبث الرؤساء بالبعض الآخر بإخفاء شىء منه أو تحريفه ، ولظلّوا فى ظلمات الجهل والكفر لا يبصرون.
والكتاب المبين : هو القرآن الكريم وهو بيّن فى نفسه ، مبيّن لما يحتاج إليه الناس لهدايتهم.
(يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)
قوله : من اتبع رضوانه ، أي من كان همه من الدين ابتغاء رضوان اللّه ، لا تقرير ما ألفه ونشأ عليه وأخذه من أسلافه مع ترك النظر والاستدلال ، والسلام بمعنى السلامة : أي طرق السلامة من كل مخافة ، وقوله من الظلمات إلى النور : أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، وقوله : بإذنه أي بإرادته أو بتوفيقه بالجري على سننه تعالى فى تأثير الأعمال الصالحة والعقائد الصحيحة فى النفوس وإصلاحها إياها ، وقوله : إلى صراط مستقيم ، أي إلى الدين الحق لأنه واحد ومتفق من جميع جهاته أما الباطل فمتعدد الطرق ، وكلها معوجة ملتوية.
وقد ذكر سبحانه للكتاب ثلاث فوائد :
1) إن المتبع لما يرضى اللّه بالإيمان بهذا الكتاب - يهديه إلى الطرق التي يسلم بها فى الدنيا والآخرة من كل ما يبعده عن الشقاء والهلاك ، فيقوم فى الدنيا بحقوق اللّه(6/80)
ج 6 ، ص : 81
والحقوق الواجبة عليه لنفسه (روحية كانت أو جسدية) وللناس ، ويكون فى الآخرة منعما نعيما روحيا وجسديا.
وخلاصة ذلك : إنه يتبع دينا يجد فيه ما يوصله إلى السلامة من الشقاء فى الدنيا والآخرة ، لأنه دين الإخلاص والعدل والمساواة.
(1) إنه يخرج معتنقيه من ظلمات الوثنية والأوهام والخرافات التي أفسد بها الرؤساء جميع الأديان - إلى نور التوحيد الخالص الذي يجعل صاحبه حرا كريما بين يدى الخلق خاضعا للخاللق وحده.
(2) إنه يهدى إلى الطريق الموصل إلى المقصد والغاية من الدين إذا اعتصم به من اتبعه على الوجه الصحيح الذي أنزل لأجله ، كما عمل بذلك أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين لهم بإحسان
[سورة المائدة (5) : الآيات 17 الى 19]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
المعنى الجملي
بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب عامة بين ما كفر به النصارى خاصة(6/81)
ج 6 ، ص : 82
الإيضاح
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) المسيحيون فى هذا العصر فرق ثلاث : الكاثوليك والأرثوذ كس والبروتستانت (أي إصلاح النصرانية) وهذا المذهب الأخير حدث من نحو أربعة قرون وصار هو المذهب السائد فى أعظم الأمم مدنية وارتقاء كالولايات المتحدة وانجلترا وألمانيا ، وقد أزال هذا المذهب كثيرا من التقاليد والخرافات النصرانية التي كانت قبله واستبدل بها تقاليد أخرى ، ومع كل هذا فهؤلاء المصلحون لم يستطيعوا أن يرجعوا المسيحية إلى التوحيد الصحيح الذي هو دين المسيح ودين سائر الأنبياء ، فلا يزالون يقولون بالتثليث ويعدون الموحّد غير مسيحى كما تقول بذلك الفرقتان الكبيرتان الأخريان.
وجميع فرق النصارى فى هذا العصر تقول : إن اللّه هو المسيح بن مريم وإن المسيح ابن مريم هو اللّه ، ولكن النصارى القدماء لم يكونوا متفقين على هذه العقيدة إذ كان بعضهم يفسر الآب والابن وروح القدس بأنها الوجود والعلم والحياة والقول بها لا ينافى توحيد الخالق كما أنه يوجد الآن فى نصارى أوربا وغيرهم موحدون يعتقدون أن المسيح نبى ورسول لا إله.
قال الدكتور بوست البروتستانتى فى تاريخ الكتاب المقدس (طبيعة اللّه عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر : اللّه الآب ، واللّه الابن ، واللّه الروح القدس ، فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن وإلى الابن الفدى ، وإلى الروح المقدس التطهير.
غير أن هذه الثلاثة الأقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء).
والعمدة عندهم فى هذه العقيدة عبارة جاءت فى إنجيل يوحنا وهى (فى البدء كانت الكلمة ، والكلمة كان عند اللّه ، واللّه هو الكلمة) وقد فسروا الكلمة بالمسيح فيصير معنى الفقرة الثالثة من إنجيل يوحنا (واللّه هو المسيح بن مريم) وهذا عين ما أسنده القرآن إليهم.(6/82)
ج 6 ، ص : 83
ولا شك أن هذه العقيدة وثنية أخذت عن قدماء المصريين والبراهمة والبوذيين وغيرهم من وثنى الشرق والغرب.
(قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ؟ ) أي قل أيها النبي الكريم لهؤلاء النصارى : من يقدر على دفع الهلاك والموت عن المسيح وأمه ، بل عن سائر الخلق جميعا إن أراد أن يهلكهم ويبيدهم ؟
وخلاصة هذا - إن المسيح وأمه من المخلوقات القابلة للفناء والهلاك كسائر أهل الأرض ، فإذا أراد اللّه أن يهلكهما ويهلك أهل الأرض جميعا لا يستطيع أحد أن يردّ إرادته ، لأنه هو مالك الملك الذي يصرّفه بمقتضى مشيئته وإرادته ، وإذا كان المسيح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولا عن أمه الهلاك كما لا يستطيع أن يدفعه عن غيره ، فكيف يكون هو اللّه الذي بيده ملكوت كل شىء ؟
ثم ذكر ما هو كالدليل على ذلك فقال :
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي فمن يملك من اللّه شيئا إن أراد إهلاك المسيح وأمه وأهل الأرض قاطبة ؟ فهو صاحب الملك المطلق والتصرف فى السموات والأرض وما بينهما أي وما بين العالمين العلوي والسفلى بالنسبة إليكم.
ثم دفع شبهة تحوك فى صدورهم من كيفية خلق عيسى فقال :
(يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي إن تلك الشبهة التي عرضت لكم وجعلتكم تزعمون أن المسيح بشر وإله - هو أنه خلق على غير السنة العامة وأنه عمل أعمالا عجيبة لا تصدر من عامة البشر ، فاللّه له ملك السموات والأرض ، ويخلق الخلق على مقتضى مشيئته ، فقد يخلق بعض الأحياء من مادة لا توصف بذكورة ولا أنوثة كأصول أنواع الحيوان ، ومن ذلك أبو البشر آدم عليه السلام ، وقد يخلق بعضها من أنثى فقط ، وقد يخلق بعضها من ذكر وأنثى ، وشكل الخلق وسببه لا يدل على امتياز لبعضها عن بعض ، ولا على ألوهية لبعضها ، ولا حلول الإله الخالق فيها ، فسنة اللّه فى خلق المسيح ومزاياه لا تدل على كونه إلها وربّا ، لأن هذه المزايا فى الخلق كلها بمشيئة الخالق ولا يخرج بها المخلوق عن كونه مخلوقا.(6/83)
ج 6 ، ص : 84
(وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وبقدرته يخلق ما يشاء ، فتارة يخلق الإنسان من الذكر والأنثى ، وتارة بدون أب ولا أم كما فى آدم ، وأخرى من أم ولا أب له كما فى عيسى عليه السلام.
والخلاصة - إن كل ما تعلقت به مشيئته ينفذ بقدرته ، وإنما يعدّ بعضه غريبا بالنسبة إلى علم البشر الناقص لا بالنسبة إليه تعالى ، وكذلك غرابة بعض أفعالهم قد تكون عن علم كسبىّ يجهله غيرهم ، أو عن تأييد ربانىّ لا صنع لهم فيه ولا تأثير
روى ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي فى الدلائل عن ابن عباس قال : أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابن أبىّ وبحرىّ بن عمرو وشاس بن عدى من اليهود فكلمهم وكلموه ودعاهم إلى اللّه وحذّرهم نقمته فقالو : ما تخوفنا يا محمد ؟ نحن واللّه أبناء اللّه وأحباؤه ، كما قالت النصارى ذلك فأنزل اللّه فيهم :
(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)
إلى آخر الآية ، وقد جاء إطلاق هذا اللفظ (أبناء للّه) فى الإنجيل على الملائكة وعلى المؤمنين الصالحين كما حكاه متّى فى وعظ المسيح على الجبل من قوله : (طوبى لصانعى السلام ، لأنهم أبناء اللّه يدعون) وكقول بولس فى رسالته إلى أهل رومية (لأن كل الذين ينقادون بروح اللّه فألئك هم أبناء اللّه) ومن هذا يعلم أن (ابْنُ اللَّهِ) يستعمل فى كتبهم بمعنى حبيب اللّه الذي يعامله معاملة الأب لابنه من الرحمة والإحسان والتكريم ، ولكن النصارى تحكموا فى هذا اللقب فجعلوه بمعنى الابن الحقيقي للمسيح ، وبالمعنى المجازى بالنسبة إلى غيره من الصالحين.
وقد رد اللّه عليهم بقوله لنبيه :
(قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ؟ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أي قل لهم أيها النبي إذا كان الأمر كما زعمتم ، فلم يعذبكم اللّه بذنوبكم فى الدنيا كما ترون ؟ من تخريب الوثنيين لمسجدكم الأكبر ، ولبلدكم المرة بعد المرة ، ومن إزالة ملككم من الأرض ، والأب لا يعذب ابنه ، والحبيب لا يعذب حبيبه ، فلستم إذا(6/84)
ج 6 ، ص : 85
أبناء اللّه ولا أحباؤه ، بل أنتم بشر من جملة ما خلق ، واللّه سبحانه لا يحابى أحدا ، وإنما يغفر لمن يعلم أنه مستحق للمغفرة ، ويعذب من يعلم أنه مستحق للعذاب ، فارجعوا عن غروركم بأنفسكم وسلفكم وكتبكم ، فكل هذا لا يجزيكم فتيلا ولا قطميرا وإنما الذي ينفعكم هو الإيمان الصحيح وصالح الأعمال ، فالجزاء إنما يكون عليها ، لا على الأسماء والألقاب :
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي إنه تعالى الخالق ذو التصرف المطلق فى كل شىء بمقتضى علمه وحكمته وعدله وفضله ، وجميع المخلوقات عبيد له ، لا أبناء ولا بنات « إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً » وفى ختمها بقوله « وإليه المصير » إشارة إلى أنه سيعذبهم فى الآخرة على هذا الكفر والدعاوى الباطلة ، وأنهم عند ما يصيرون إليه يعلمون أنهم عبيد آبقون يجازون ، لا أبناء ولا أحباء يحابون.
وقد كان اليهود يعتقدون أنهم شعب اللّه الخاص ميّزهم عن سائر البشر ، فليس لشعب آخر أن يطلب مساواته بهم وإن كان أصح منهم إيمانا وأصح أعمالا ، ولا ينبغى أن يتبعوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم ، لأنه عربى لا إسرائيلى ، والفاضل لا يتبع المفضول ، واللّه لا يعاملهم إلا معاملة الوالد لأبنائه الأعزاء ، والنصارى قد زادوا عليهم غرورا فهم قد ادّعوا أن المسيح فداهم بنفسه وأنهم أبناء اللّه بولادة الروح ، والمسيح ابنه الحقيقي ويخاطبون اللّه تعالى بلقب الأب.
وقد جاهد النبي صلى اللّه عليه وسلم غرور اليهود جهادا عظيما ولم يجد ذلك فيهم شيئا فرفضوا دعوته وردوا ما جاءهم به من أن العمل مرضاة اللّه وبه تنال تزكية النفس وإصلاحها كما جاهد صلف النصارى وكبرهم ، وكانوا زمن التنزيل أشد من اليهود فسادا وظلما وعدوانا بشهادة المؤرخين ، ومع كل هذا يدّعون أنهم أبناء اللّه وأحباؤه ، وأنهم ليسوا فى حاجة إلى إصلاح دينهم ولا دنياهم كما فعل اليهود مثل ذلك(6/85)
ج 6 ، ص : 86
والخلاصة - إن هذه الآيات تبين لنا سنة اللّه فى البشر ، وأن الجزاء إنما يكون على الأعمال لا على الأسماء والألقاب.
(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أي قد جاءكم رسولنا الذي بشّرتم به فى كتبكم وأخبركم به أنبياؤكم ، فقد جاء على لسان موسى (أنه سيقيم نبيا من بنى إسماعيل إخوتكم) وعلى لسان عيسى (أنه سيجيئ البارقليط روح الحق الذي يعلمكم كل شى ء) وفى الإنجيل الرابع إن اليهود أرسلوا كهنة ولاويين (أحبارا) فسألوا يوحنا عليه السلام : أ أنت المسيح ؟ قال : لا. أ أنت إيليا ؟ قال : لا.
أأنت النبىّ ؟ قال : لا.
هذا الرسول هو محمد بن عبد اللّه النبي الأمى يبين لكم على فترة من الرسل أي على انقطاع منهم وطول عهد بالوحى - جميع ما أنتم فى حاجة إليه من أمور دينكم ودنياكم من عقائد أفسدتها عليكم نزغات الوثنية ، وأخلاق وآداب صحيحة أفسدها عليكم إفراطكم فى الأمور المادية والروحية ، وعبادات وأحكام تصلح أمور الأفراد والمجتمع.
ويدخل فى ذلك ما بينه لكم مما كنتم تخفون من الكتاب لإقامة الحجة عليكم ، ولولا أنه رسول من عند اللّه لما تسنى له أن يعرف شيئا مما جاء به.
وقد أرسل - صلوات اللّه عليه - وقد فشا التغيير والتحريف فى الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول زمانها ، فاختلط فيها الحق بالباطل والصدق بالكذب ، وصار ذلك عذرا ظاهرا فى إعراض الخلق عن العبادات ، إذ لهم أن يقولوا : يا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادتك ، ولكن كيف نعبدك ؟ فبعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم فى ذلك الحين لإزالة هذا العذر الذي بينه سبحانه بقوله :
(أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) أي إننا إنما بعثناه إليكم كراهة أن تقولوا ما جاءنا من بشير يبشرنا بحسن العاقبة للمؤمنين ، وينذرنا بسوء عاقبة المفسدين الضالين(6/86)
ج 6 ، ص : 87
ثم بين أنه أزال هذا العذر فقال :
(فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) يبين لكم أمر النجاة والخلاص والسعادة الأبدية ، وأنها منوطة بالإيمان والأعمال ، وأن اللّه لا يحابى أحدا.
(وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن دلائل قدرته نصر نبيه صلى اللّه عليه وسلم وإعلاء كلمته فى الدنيا ، وفى ذلك رمز لكم إن كنتم من ذوى الأحلام إلى ما يكون له من المنزلة فى الدار الآخرة.
روى ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي فى الدلائل عن ابن عباس قال : دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يهود إلى الإسلام فرغّبهم فيه وحذّرهم ، فأبوا عليه ، فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب : يا معشر يهود اتقوا اللّه فو اللّه لتعلمن أنه رسول اللّه ، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته ، فقال رافع ابن حريملة ووهب بن يهودا : إنا ما قلنا لكم هذا ، وما أنزل من كتاب من بعد موسى ، ولا أرسل اللّه بشيرا ولا نذيرا بعده فأنزل اللّه الآية.
[سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 26]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)(6/87)
ج 6 ، ص : 88
المعنى الجملي
بعد أن أقام سبحانه الحجة على بنى إسرائيل ، وأثبت لهم رسالة نبيه صلى اللّه عليه وسلم بما أوحاه إليه بشأنهم وشأن كتبهم وأنبائهم من البشارات وأخبار الغيب وتحريف الكتب ونسيان حظ منها ، وأيد ذلك بدحض شبهاتهم وإبطال غرورهم ، وهم مع كل هذا لم يزدادوا إلا كفرا وعنادا - قص علينا فى هذه الآيات خبرا من أخبارهم مع موسى عليه السلام ، وهو المنقذ لهم من الرقّ والعبودية واضطهاد المصريين لهم إلى الحرية والاستقلال ، لكنهم مع هذا كله كانوا يخالفونه ويعصون أوامره - ليعلم الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه أن مكابرتهم للحق خلق من أخلاقهم ، توارثوها من أسلافهم ، وتأصلت فى طباعهم ، فلا بدع إذا هم أعرضوا عن دعوتك ، وصدوا عن هديك - وفى هذا من تسلية النبي صلى اللّه عليه وسلم ما لا يخفى ، إلى ما فيه من زيادة معرفة طبائع الأمم ، وسنن الاجتماع البشرى.
الإيضاح
(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ ، وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي واذكر أيها الرسول الكريم لبنى إسرائيل وسائر من تبلغهم دعوتك حين قول موسى لقومه بعد أن أنقذهم من ظلم فرعون وقومه وأخرجهم من ذلك البلد الظالم أهله : يا قوم اذكروا نعمة اللّه عليكم واشكروه على ذلك بالطاعة له ، لأن ذلك يوجب مزيدها كما قال تعالى : « لَئِنْ(6/88)
ج 6 ، ص : 89
شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ »
وتركها يوجب المؤاخذة والعذاب الشديد كما قال تعالى « وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ » .
وقد بين لهم موسى أصناف هذه النعم التي منحها لهم مولاهم وحصرها فى ثلاثة أشياء :
(1) وهو أرفعها قدرا وأعلاها ذكرا ، أنه جعل كثيرا منهم أنبياء كموسى وهرون ومن كان قبلهما ، وقد حكى ابن جرير أن السبعين الذين اختارهم موسى ليصعدوا معه الجبل حين يصعده لمناجاة ربه صاروا كلهم أنبياء ، والمعروف أن النبوة عند أهل الكتاب المراد منها الإخبار ببعض الأمور الغيبية التي تقع فى المستقبل بوحي أو إلهام من اللّه عز وجل ، وقد كان جميع أنبيائهم من بعد موسى يحكمون بما فى التوراة ويعملون بها حتى المسيح عليه السلام.
(2) أنه جعلهم ملوكا ، والمراد من الملك هنا الحرية فى تدبير أمورهم وأمور أسرهم بأنفسهم ، وفى هذا من تعظيم هذه النعمة ما لا يخفى ، يؤيد هذا ما
رواه أبو سعيد الخدري مرفوعا « كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا »
وما
رواه أبو داود عن زيد بن أسلم « من كان له بيت وخادم فهو ملك » .
ولا شك أن من كان متمتعا بمثل هذا كان متمتعا بنحو ما يتمتع به الملوك من الراحة والحرية فى التصرف فى سياسة بيته ، والناس يقولون إلى الآن لمن كان مخدوما مع عشيرته هانئا فى معيشته مالكا لمسكنه (هذا ملك - أو ملك زمانه) يريدون أنه يعيش عيشة الملوك.
(3) أنه آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ، أي عالمى زمانهم وشعوبه التي كانت مستعبدة للطغاة من الملوك فقد خصهم بأنواع عظيمة من الإكرام ، فقد فلق البحر لهم وأهلك عدوهم ، وأورثهم أموالهم ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وأظل فوقهم الغمام.
وبعد أن ذكّرهم موسى بهذه النعم وشرحها لهم - أمرهم بمجاهدة العدو ، وأبان لهم أن اللّه ناصرهم ما نصروه فقال :(6/89)
ج 6 ، ص : 90
(يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) المقدسة المطهرة من الوثنية ، لما بعث اللّه فيها من الأنبياء الدعاة إلى التوحيد ، روى ابن عساكر عن معاذ بن جبل أن الأرض المقدسة ما بين العريش إلى الفرات ، وبعضهم يسمى القسم الشمالي من هذا القطر باسم سورية ، والباقي باسم فلسطين ، أو بلاد المقدس ، أو الأرض المقدسة ، أو أرض الميعاد ، لأن اللّه وعد بها ذرية إبراهيم ، ويدخل فيما وعد اللّه به إبراهيم الحجاز وما جاوره من بلاد العرب.
فقول موسى : كتب اللّه لكم ، يريد به ما وعد اللّه به إبراهيم من حق السكنى فى تلك البلاد المقدسة ، لا أن المراد أنها تكون كلها ملكا لهم لا يزاحمهم فيها أحد ، لأن هذا مخالف للواقع ، ولن يخلف اللّه وعده ، فاستنباط اليهود من ذلك الوعد أنه لا بد أن يعود لهم ذلك الملك ليس بصحيح.
ونص هذا الوعد فى سفر التكوين من التوراة إنه لما مر إبراهيم بأرض الكنعانيين ظهر له الرب وقال : (لنسلك أعطى هذه الأرض) وجاء فيه أيضا فى ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا : (لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات).
(وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي لا نرجعوا عما جئتكم به من التوحيد والعدل والهدى والرشاد إلى الوثنية والفساد فى الأرض ، بالظلم والبغي واتباع الأهواء ، فإن فى هذا الرجوع خسرانا لكم ، إذ تخسرون فيه هذه النعم ، ومنها الأرض المقدسة التي ستعطونها جزاء شكركم ، فتحرمون من خيراتها وبركاتها ، وقد جاء فى بعض أوصافها (إنها تفيض لبنا وعسلا) وتعاقبون بالتيه أربعين سنة ينقرض فيها المرتدون على أدبارهم.
(قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ ، وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) الجبار لغة : الطويل القوىّ المستكبر العاتي المتمرد الذي يجبر غيره(6/90)
ج 6 ، ص : 91
على ما يريد من قولهم : نخلة جبارة ، أي طويلة لا ينال ثمرها بالأيدى.
إن سكان تلك البلاد فى ذلك الحين هم بنى عناق ، وكانوا أولى قوة وبأس ، طوال القامة ضخام الأجسام ، وقد ورد فى وصفهم فى الإسرائيليات من الخرافات التي كان يبثها اليهود فى المسلمين ما لا يصدقه العقل ولا ينطبق على ما عرف من سنن اللّه فى خلقه كقولهم : إن العيون (الجواسيس) الاثنى عشر الذين بعثهم موسى إلى ما وراء الأردن ليتجسسوا ويخبروه بحال تلك الأرض ومن فيها قبل أن يدخلها قومه ، رآهم أحد الجبارين فوضعهم كلهم فى كسائه ، وفى رواية أخرى إن أحدهم كان يجنى الفاكهة فكان كلما أصاب واحدا من هؤلاء العيون وضعه فى كمّه مع الفاكهة - إلى نحو أولئك من روايات بعيدة عن الصدق ، فالمصريون هم هم ، ونسل الكنعانيين مشاهد معروف لا يمكن أن تكون أصوله على ما وصفوا.
وهذه القصة مبسوطة فى السفر الرابع من أسفار التوراة ففيها : إن الجواسيس تجسسوا أرض كنعان كما أمروا وأنهم قطعوا فى عودتهم زرجونة فيها عنقود عنب واحد حملوه بعتلة بين اثنين منهم مع شىء من الرمان والتين ، وقالوا لموسى وهو فى ملأ بنى إسرائيل : قد صرنا إلى الأرض التي بعثتنا إليها فإذا هى بالحقيقة تدرّ لبنا وعسلا وهذا ثمرها ، غير أن الشعب الساكنين فيها أقوياء ، والمدن حصينة عظيمة جدا ، ورأينا ثمّ أيضا بنى عناق - إلى أن قال : وقد رأينا ثمّ من الجبابرة ، جبابرة بنى عناق ، فصرنا فى عيوننا كالجراد ، وكذلك كنا فى عيونهم - وذكر فى فصل آخر : تذمّر بنى إسرائيل من أمر موسى لهم بدخول تلك الأرض ، وأنهم بكوا وتمنّوا لو أنهم ماتوا فى أرض مصر أو فى البرّيّة وقالوا : لما ذا أتى الرب إلى هذه الأرض حتى نسقط تحت السيف وتصير نساؤنا وأطفالنا غنيمة ، أ ليس خيرا لنا أن نرجع إلى مصر ؟ إلخ.
والخلاصة - إن موسى لما قرب بقومه من حدود الأرض المقدسة العامرة الآهلة أمرهم بدخولها مع الاستعداد لقتال من يقاتلهم من أهلها ، وإنهم لما غلب عليهم من(6/91)
ج 6 ، ص : 92
الضعف والذل واضطهاد المصريين لهم وظلمهم إياهم ، أبوا وتمردوا واعتذروا بضعفهم وقوة أهل تلك البلاد وحاولوا الرجوع إلى مصر وقالوا لموسى : إنا لن ندخل هذه الأرض ما دام هؤلاء الجبارون فيها ، وقولهم (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) تأكيد لما فهم مما قبله مشعر بأنه لا علة لا متناعهم إلا ما ذكروه.
وفى إجابتهم هذه دليل على منتهى الضعف وحور العزيمة ، وعلى أنهم لا يريدون أن يأخذوا شيئا باستعمال قواهم البدنية ولا العقلية ، ولا أن يدفعوا الشر عن أنفسهم ولا أن يجلبوا لها الخير ، بل يريدون أن يعيشوا بالخوارق والآيات ماداموا فى هذه الحياة ولا شك أن أمة كهذه لا تستحق أن تتمتع بنعيم الاستقلال ، وتحيا حياة العز والكرامة ، وتكون ذات تصرف مطلق فى شئونها ، ومن ثمّ لم تفم لها دولة بعد « وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً » .
(قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا) قوله : يخافون أي يخافون اللّه تعالى ، وقوله : أنعم اللّه عليهما أي بالطاعة والتوفيق لما يرضيه ، حتى فى حال الخوف والذّعر ، والتوراة وتبعها المفسرون قاطبة على أن الرجلين هما يوشع بن نون وكالب بن يفنة ، وأنهما كانا يحثّان القوم على الطاعة ودخول أرض الجبارين ، ثقة بوعد اللّه بالنصر وتأييده إياهم.
(ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ. وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ادخلوا عليهم باب المدينة فإذا فعلتم ذلك نصركم اللّه وأيدكم بروح من عنده ، بعد أن تعملوا ما فى طاقتكم من طاعة ربكم وتثقوا به فيما لا يصل إليه كسبكم ، إن كنتم مؤمنين بأن وعد اللّه حق ، وأنه قادر على الوفاء به ، وإنما جزم هذان الرجلان بأنهم سيغلبون إذا دخلوا ، ثقة بنبوّة موسى ، وهو قد أخبرهم بأن اللّه أمرهم بدخول الأرض المقدسة التي كتبها لهم ، لا جرم قطعا بالنصر والغلبة على العدو.
(قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) أي إنهم أصروا على العناد والتمرد ، ولم تغن عنهم عظات الرجلين(6/92)
ج 6 ، ص : 93
شيئا ، فأكدوا لموسى أنهم لا يدخلون هذه الأرض مدى حياتهم ما دام فيها الجبارون ، لأنهم لا طاقة لهم بالحرب والقتال ، إذ ليسوا من أهله ، فإن صحت عزيمتك على ذلك فاذهب أنت وربك الذي أمرك بذلك فقاتلا الجبارين وأخرجاهم من هذه الأرض وإنا هاهنا قاعدون منتظرون.
وهذا القول الذي صدر منهم بدل على منتهى الجفاء والبعد عن الأدب ، وليس هذا بالغريب من أمثال هؤلاء الذين عبدوا العجل وكان دأبهم الشّغب مع أنبيائهم وقتلوا كثيرا منهم كإشعيا وزكريا ، وقص القرآن كثيرا من فساد طباعهم وقسوتهم وغلظتهم.
(قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) أي قال موسى باثا شكواه إلى ربه ، معتذرا من فسق قومه عن أمره الذي يبلّغه عنه - إنى لا أملك أمر أحد أحمله على طاعتك إلا أمر نفسى وأمر أخى ولا أثق بغيرنا أن يطيعك فى اليسر والعسر والمنشط والمكره (المحبوب والمكروه).
وفى هذا إيماء إلى أنه لم يكن موقنا بثبات يوشع وكالب ورغبتهما فى الطاعة إذا أمر اللّه بدخول أرض الجبارين والتصدّى لقتالهم ، فإن من يجرؤ على القتال مع الجيش الكبير فربما لا يجرؤ عليه مع العدد القليل ، فلما رأى من بلائه معه فى مقاومة فرعون وقومه ، ولسياسة أمور بنى إسرائيل عند مناجاة ربه ، ولما يعلم من تأييد اللّه له بمثل ما أيده به (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الفرق : الفصل بين الشيئين أو الأشياء أي فافصل بيننا (يريد نفسه وأخاه) وبين القوم الفاسقين عن طاعتك بقضاء تقضيه بيننا ، فتحكم لنا بما نستحق ، وعليهم بما يستحقون ، فقد صرنا خصما لهم وصاروا خصما لنا ، وقيل إن المعنى : إنك إذا أخذتهم بالعقاب على قسوتهم فلا تعاقبنا معهم فى الدنيا.
(قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) التيه : الحيرة ، يقال تاه يتيه : إذا تحيّر ومفازة تيهاء إذا تحير فيها سالكها لعدم الأعلام التي يهتدى بها ،(6/93)
ج 6 ، ص : 94
والتحريم : المنع أي قال اللّه لموسى مجيبا دعوته : إن الأرض المقدسة محرمة على بنى إسرائيل تحريما فعليا لا تكليفا شرعيا ، مدة أربعين سنة يتيهون فيها فى الأرض : أي يسيرون فيها فى برّية تائهين متحيرين لا يدرون أين مصيرهم.
(فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الأسى : الحزن ، يقال أسيت عليه أسى وأسيت له أي فلا تحزن عليهم ، لأنهم فاسقون متمردون مستحقون لهذا التأديب الإلهىّ جاء فى الفصل الرابع من سفر العدد أن بنى إسرائيل لما تمردوا وعصوا أمر ربهم ، سقط موسى وهرون على وجوههما أمامهم ، وأن يوشع وكالب مزّقا ثيابهما ونهيا الشعب عن التمرد وعن الخوف من الجبارين ليطيع ، فهمّ الشعب برجمهما وطهر مجد الرب لموسى فى خيمة الاجتماع (وقال الرب لموسى : حتى متى يهيننى هذا الشعب ؟ حتى متى لا يصدقوننى بجميع الآيات التي عملت فى وسطهم ؟ إنى أضربهم بالوباء وأبيدهم وأصيّرك شعبا أكبر وأعظم منهم) فشفع موسى فيهم لئلا يشمت بهم المصريون وبه ، فقبل الرب شفاعته ثم قال (إن جميع الرجال الذين رأوا مجدى وآياتي التي عملتها فى مصر وفى البرية وجربونى الآن عشر مرات ولم يسمعوا قولى ، لن يروا الأرض التي خلفت لآبائهم ، وجميع الذين أهانونى لا يرونها) واستثنى الرب كالبا فقط ، ثم قال (أنا الرب قد تكلمت ، لأفعلنّ هذا بكل هذه الجماعة الشريرة المتفقة علىّ ، فى هذا القفر يفنون ، وفيه يموتون).
وإن فى هذا العقاب الإلهىّ لعبرة لأولى الألباب ، يستفيدون منها أن الشعوب التي تنشأ فى مهد الاستعباد تذهب أخلاقها ، ويذهب بأسها ، وتضرب عليها الذلة والمسكنة وتأنس بالمهانة ، وإذا طال عليها الأمد أصبحت تلك الصفات غرائز وطباعا خلقية لها ، فإذا خرجوا من بيئتهم ورفع عنهم نير الظلم والاستعباد حنّوا إلى ما كانوا فيه ، وتاقت نفوسهم إلى الرجوع إليه ، وهذا شأن البشر فى جميع ما يألفون ، ويجرون عليه من خير وشر.(6/94)
ج 6 ، ص : 95
وقد أفسد ظلم الفراعنة فطرة بنى إسرائيل فى مصر وطبع عليهم بطابع الذلة والمهانة ، وقد أراهم اللّه تعالى ما لم ير أحدا من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته ، وصدق رسوله موسى عليه السلام ، وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من العبودية إلى نعيم الحرية ، ومع هذا كله كانوا إذا أصابهم نصب أو جوع أو كلّفوا أمرا يشق عليهم يتطيرون بموسى ، ويذكرون مصر ويحنّون إلى العودة إليها ، وحين غاب عنهم لمناجاة ربه اتخذوا لهم عجلا من حليّهم وعبدوه ، وكان اللّه يعلم أن نفوسهم ميتة لا تطيعهم على دخول أرض الجبارين ، وأن وعده تعالى لأجدادهم إنما يتم إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ فى الوثنية ، ونشأ بعده جيل جديد يعيش فى حرية البداوة وعدل الشريعة.
وعلى هذه السّنّة العادلة أمر اللّه بنى إسرائيل بدخول الأرض المقدسة بعد أن أراهم عجائب تأييده لرسوله ، لكنهم أبوا واستكبروا فأخذهم بذنوبهم وأنشأ من بعدهم قوما آخرين جعلهم الأئمة الوارثين بهممهم الموافقة لسنته فى الاجتماع.
[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 32]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)(6/95)
ج 6 ، ص : 96
تفسير المفردات
التلاوة : القراءة ، ولا تكاد تستعمل إلا فى قراءة كلام اللّه تعالى ، والنبأ : الخبر الذي يهتمّ به لفائدة ومنفعة عظيمة ، والقربان : ما يتقرب به إلى اللّه تعالى من الذبائح وغيرها ، وهو فى الأصل مصدر ، فلهذا يستوى فيه الواحد وغيره ، وبسط اليد إليه : مدها ليقتله ، البوء. اللزوم ، وفى النهاية لابن الأثير : أبوء بنعمتك علىّ ، وأبوء بذنبي : أي ألتزم وأقر ، فطوعت : أي فشجعت وزيّنت ، والسوءة : ما يسوء ظهوره ، والويل :
حلول الشر ، والويلة : الفضيحة والبلية : أي وافضيحتاه ، والأجل : فى الأصل الجناية ، يقال أحل عليهم شرا : أي جنى عليهم جناية ، ثم استعمل فى تعليل الجنايات ، ثم اتّسع فيه فاستعمل فى كل سبب ، والبينات : الآيات الواضحة ، والإسراف : البعد عن حد الاعتدال مع عدم المبالاة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه حسد اليهود للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، وإعراضهم عن دعوته مع وضوح البرهانات الدالة على صدقه وكثرة الآيات المثبتة لنبوته حتى همّ قوم منهم أن يبسطوا أيديهم لقتله وقتل كبار أصحابه ، كما ذكر ذلك فى قوله : « إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ » ذكر هنا قصة ابني آدم بيانا لكون الحسد الذي صرف اليهود عن الإيمان بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ، وحملهم على عداوته عريقا فى الآدميين وأثرا من آثار سلفهم كان لهؤلاء منه الحظ الأوفر ،(6/96)
ج 6 ، ص : 97
فلا تعجب من حالهم بعد هذا ، فإن لهم أشباها ونظائر فى البشر كابنى آدم ، وقد حدث بينهم من أجل التحاسد سفك الدماء وقتل الأخ أخاه وبذر تلك البذور السيئة فى بنى آدم إلى قيام الساعة.
الإيضاح
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) جمهرة العلماء على أن هذين الابنين هما ابنا آدم من صلبه ، وفى سفر التكوين أنهما أول أولاد آدم ، اسم أحدهما قاين أو قايين وهو البكر ، وسماه المفسرون والمؤرخون من المسلمين قابيل وهو القاتل ، واسم الثاني هابيل وهو المقتول ، وقد ذكروا روايات غريبة عنهما لا تعرف إلا من الوحى ، وفى وصف اللّه تعالى ما قاله « بالحق » دليل على أن ما يلوكه الناس سوى ذلك فباطل.
أي واتل أيها الرسول على أهل الكتاب وغيرهم من الناس ذلك النبأ العظيم نبأ ابني آدم تلاوة كاشفة للحق ، مظهرة له مبينة لغرائز البشر وطبائعهم ، وهى أنهم جبلوا على التباين والاختلاف الذي يفضى إلى التحاسد والبغي والقتل ، ليعلموا الحكمة فيما شرعه اللّه فى عقاب البغاة من الأفراد والجماعات ، ويفقهوا أن بغى اليهود على الرسول والمؤمنين ليس من دينهم فى شىء ، وإنما ذاك للحسد والبغضاء ، فما مثلهم إلا مثل ابني آدم ، إذ حسد شرّهما خيرهما ، فبغى عليه فقتله ، وكان مآله ما بينه اللّه فى الآيات بعد :
(إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما) أي اتل عليهم نبأهما وقت تقديم كل منهما القربان وما تبعه من البغي والعدوان ، فتقبل اللّه من أحدهما قربانه لتقواه وإخلاصه وطيب نفسه به ، ولم يتقبل من الآخر لعدم التقوى والإخلاص ، ولم يبين لنا سبحانه كيف علما أنه تقبّل من أحدهما دون الآخر ، وربما كان ذلك بوحي من اللّه لأبيهما آدم عليه السلام.
روى عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما أن أحدهما كان صاحب حرث وزرع(6/97)
ج 6 ، ص : 98
فقرب شر ما عنده وأرداه ، غير طيّبة به نفسه ، وكان الآخر صاحب غنم وقرّب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها ، طيّبة به نفسه ، كما روى عن بعضهم أن القربان المقبول كانت تجىء النار من السماء لتأكله ولا تأكل غير المقبول ، وكل هذا من الأخبار الإسرائيلية التي ليس لها مستند يوثق به.
والقرابين عند اليهود أنواع :
(منها) المحرّقات للتكفير عن الخطايا بذبح ذكور البقر والغنم السالمة من العيوب.
(ومنها) التقدمات من الدقيق والزيت والألبان.
(ومنها) ذبائح السلامة لشكر الرب تعالى.
والقربان عند النصارى ما يقدسه الكاهن من الخبز والخمر فيتحول فى اعتقادهم إلى لحم المسيح ودمه حقيقة.
والقربان عند المسلمين اسم لذبائح النسك كالأضاحى وغيرها.
(قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) أي إنّ من لم يتقبل منه توعّد أخاه وحلف ليقتلنه ، فأجابه الآخر أحسن جواب.
(قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي لا يقبل اللّه الصدقات وغيرها من الأعمال إلا ممن يتصف بتقوى اللّه والخوف من عقابه باجتنابه الشرك وسائر المعاصي كالرياء والشح واتباع الأهواء.
وخلاصة جوابه - إننى لم أذنب إليك ذنبا تقتلنى به ، فطن كان اللّه لم يتقبل قربانك فحاسب نفسك لتعرف سبب ذلك ، فإن اللّه إنما يتقبل من المتقين ، فاحمل نفسك على تقوى اللّه والإخلاص له فى العمل ، ثم تقرب إليه بالطيبات يتقبل منك ، قال تعالى : « لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ » وفى الحديث : « إن اللّه تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب » .
وفى هذا من العبرة ما كان ينبغى أن يتعظ به المراءون الذين يبغون بما يتصدقون به الصيت واجتلاب الثناء من الناس وحسن الأحدوثة.(6/98)
ج 6 ، ص : 99
ثم بين سبحانه ما يجب للناس من احترام الدماء وحفظ الأنفس ولا سيما بين الإخوة فقال :
(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) أي إن مددت يدك لتقتلنى فما أنا بالمجازي لك على السيئة بسيئة مثلها فذاك لا يتفق مع شمائلى وصفاتى ، إذ لست ممن يتصف بهذه الصفة المنكرة التي تنافى تقوى اللّه والخوف من عذابه وهذا ما عناه بقوله :
ثم بين علة امتناعه عن قتله فقال :
(إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أي إنى أخاف اللّه وأخشى أن يرانى باسطا يدى إلى الإجرام وسفك الدماء بغير حق ، وهو رب العالمين الذي يغذّيهم بنعمه ، ويربّيهم بفضله وإحسانه ، فالاعتداء على أرواحهم أكبر مفسدة لهذه التربية.
ولا شك أن هذا الجواب يتضمن أبلغ الموعظة والاستعطاف لأخيه العازم على الجناية ، وليس فى الكلام ما يدل على عدم الدفاع البتة ، ولكن فيه التصريح بعدم الإقدام على القتل ، و
قد روى أحمد والشيخان وغيرهم قوله صلى اللّه عليه وسلم « إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول فى النار ، قيل يا رسول اللّه هذا القاتل! فما بال المقتول ؟ قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه » .
ثم قفّى على عظته البالغة ، ونصائحه النافعة بالتذكير بعذاب الآخرة ، من قبل أن الوعظ لا يؤثر فى كل نفس فقال :
(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أي إنى أريد بالابتعاد من مقابلة الجريمة بمثلها أن ترجع إن فعلتها ملتبسا بإثمى وإثمك أي بإثم قتلك إياى ، وإثمك الخاص بك الذي كان من آثاره عدم قبول قربانك ، وروى هذا عن ابن عباس.
وقيل إن المراد - أن القاتل يحمل فى الآخرة إثم من قتله إن كان له آثام لأن الذنوب والآثام التي فيها حقوق العباد لا يغفر اللّه منها شيئا حتى يأخذ لكل ذى حق حقه فيعطى المظلوم من حسنات الظالم ما يساوى حقه إن كانت له حسنات توازى ذلك ،(6/99)
ج 6 ، ص : 100
أو يحمل الظالم من آثام المظلوم وأوزاره ما يوازى ذلك إن كان له آثام وأوزار ، وما نقص من هذا أو ذاك يستعاض عنه بما يوازيه من الجزاء فى الجنة أو النار.
(فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي فتكون بما حملت من الإثمين من أهل النار فى الآخرة جزاء ظلمك ، والنار جزاء كل ظالم.
وقد سلك فى عظته وجوها تأخذ بمجامع اللب ، ويرعوى لها فؤاد المنصف ، فقد تبرأ من كونه سببا فى حرمانه من تقبل القربان ، لأن سبب التقبل عند اللّه هو التقوى. ثم انتقل إلى تذكيره بما يجب من خوف اللّه ، ثم إلى تذكيره بأن المعتدى يحمل إثم نفسه وإثم من اعتدى عليه ، ثم إلى تذكيره بعذاب النار لأنها مثوى الظالمين.
ثم أبان سبحانه أن المواعظ لم تجد فيه فتيلا ولا قطميرا ، فماذا تغنى الزواجر والعظات فى نفس الحاسد الظالم ؟ فقال :
(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ) أي إنه كان يهاب قتل أخيه وتجبن فطرته دونه ، وما زالت نفسه الأمارة تشجعه عليه حتى تجرأ وقتله عقب التطويع بلا تفكر ولا تدبر فى العاقبة ، والمشاهد بالاختبار من أعمال الناس أن من تحدثه نفسه بالقتل يجد من نفسه صارفا أو عدة صوارف تنهاه عن القتل حتى تطوع له نفسه القتل بترجيح الفعل على الترك ، فحينئذ يقتل إن قدر.
(فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي من الذين خسروا أنفسهم فى الدنيا والآخرة ، فهو فى الدنيا قد قتل أبر الناس به وهو الأخ التقى الصالح ، وخسر لآخرة لأنه لم يصر أهلا لنعيمها الذي أعد للمتقين.
ثم بين أن الإنسان قد يستفيد من تجارب سواه فقال :
(فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) لما كان الإنسان فى أعماله موكولا إلى كسبه واختياره ، وكان هذا القتل أول قتل وقع من بنى آدم - لم يعرف القاتل كيف يوارى حثه أخيه مقتول الذي يسوؤه أن يراها(6/100)
ج 6 ، ص : 101
بارزة للعيان ، وفى ذلك دليل على أن الإنسان فى نشأته الأولى كان ساذجا قليل المعرفة ، لكن لما فيه من الاستعداد والعقل كان يستفيد من كل شىء علما واختبارا وتنمية لمعارفه وعلومه ، وقد أعلمنا اللّه أن القاتل تعلم دفن أخيه من الغراب فإنه تعالى بعث غرابا إلى ذلك المكان الذي هو فيه فبحث فى الأرض أي حفر برجليه فيها يفتش عن شىء كالطعام ونحوه فأحدث حفرة فى الأرض فلما رآها القاتل - وقد كان متحيرا فى مواراة أخيه زالت الحيرة واهتدى إلى دفنه فى حفرة مثلها.
وقوله ليريه : أي إنه تعالى ألهم الغراب ذلك ليتعلم ابن آدم منه الدفن ، وحين رأى القاتل الغراب يبحث فى الأرض ، تعلم منه سنة الدفن وظهر له جهله وضعفه ، كما أشار إلى ذلك سبحانه حاكيا عنه :
(قالَ : يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) أي قال وا فضيحتى أقبلى فقد آن الأوان لمجيئك ، فهل بلغ من عجزى أن كنت دون الغراب علما وتصرفا ؟ والندم الذي أظهره من الأمور التي تعرض لكل من يفعل شيئا ثم يتبين له خطأ فعله وسوء عاقبته.
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضى اللّه عنه « لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل (نصيب) من دمها لأنه أول من سن القتل » .
والندم الذي يكون توبة هو ما يصدر من الشخص خوفا من اللّه وحسرة على تعدى حدوده ، وهو الذي عناه
النبي صلى اللّه عليه وسلم بقوله : « الندم توبة » رواه أحمد والبخاري والحاكم والبيهقي.
ثم ذكر نتائج هذا القتل فقال :
(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) أي إنه بسبب هذا الجرم الفظيع والقتل الشنيع الذي فعله أحد هذين الأخوين ظلما وعدوانا فرضنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أي بغير سبب موجب للقصاص الذي شرعه فى قوله « وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها(6/101)
ج 6 ، ص : 102
أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ »
الآية ، أو قتل نفسا بغير سبب فساد فى الأرض يسلب الأمن والطمأنينة وإهلاك الحرث والنسل كما تفعله عصابات اللصوص المسلحة المستعدة لقتل الأنفس ونهب الأموال أو إفساد الأمر على الدولة التي تقوم بتنفيذ حدود اللّه تعالى من يفعل شيئا من ذلك فكأنما قتل الناس جميعا ، إذ الواحد يمثل النوع ، فمن استحل دمه بغير وجه حق استحل دم كل واحد كذلك لأنه مثله ، والمقصد من ذلك تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه ، أي فكما أن قتل كل الخلق مستعظم مستبشع لدى الناس كلهم فكذلك قتل الواحد مستفظع مستعظم ، وكيف لا يكون مستعظما وقد قال تعالى : « وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً » .
(وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) أي ومن كان سببا فى حياة نفس واحدة بإنقاذها من موت كانت مشرفة عليه فكأنما أحيا الناس جميعا ، لأن الباعث له على الإنقاذ - وهو الشفقة والرحمة واحترام الحياة الإنسانية والوقوف عند حدود الشرائع - دليل على أنه إذا استطاع أن ينقذهم كلهم من الهلاك لا يدخر وسعا ولا ينى فى ذلك.
وفى الآية إرشاد إلى ما يجب من وحدة البشر وحرص كل منهم على حياة الجميع والابتعاد عن ضرر كل فرد ، فانتهاك حرمة الفرد انتهاك لحرمة الجميع ، والقيام بحق الفرد بمقدار ما قرر له فى الشرع قيام بحق الجميع ، وتقدم أن قلنا إن القرآن كثيرا ما يشير إلى وحدة الأمة ووجوب تكافلها حتى إنه ليسند أعمال المتقدمين منها إلى المتأخرين ويشير إلى أن جناية الإنسان على غيره تعد جناية على البشر كلهم.
وقد وردت قصة ابني آدم فى الفصل الرابع من سفر التكوين ، فقد جاء فيه :
إن قايين لما قدّم للرب من ثمرات الأرض وقدم هابيل قربانا من أبكار غنمه ونظر الرب إلى هابيل وقربانه دون أخيه اغتاظ قايين وقتل هابيل فسأله الرب عنه : أين هو فأجاب : لا أعلم ، هل أنا حارس لأخى ، فلعنه الرب وطرده عن وجه الأرض ، فندم(6/102)
ج 6 ، ص : 103
واسترحم الرب وخاف أن يقتله كل من وجده ، فقال له الرب لذلك : كل من قتل قايين فسبعة أضعاف ينتقم منه وجعل الرب لقايين علامة لكى لا يقتله كل من وجده ، فخرج قايين من لدن الرب وسكن فى أرض نود شرقى عدن.
ثم ذكر أن بنى إسرائيل غلاظ القلوب مسرفون فى القتل وفى غيره مع كثرة مجىء الرسل لهم فقال :
(وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) أي ولقد جاءتهم الرسل بالآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم ، المؤكدة لوجوب مراعاته والمحافظة عليه ، فلم تغن عن الكثير منهم شيئا ، إذ لم تهذب نفوسهم ولم تطهّر أخلاقهم ، فكانوا بعد كل هذا التشديد عليهم فى أمر القتل يسرفون فيه وفى سائر ضروب البغي والعدوان.
والعبرة فى قصة ابني آدم أن الحسد كان مثار أول جناية فى البشر ، ولا يزال هو أسّ المفاسد فى المجتمع ، فترى الحاسد تثقل عليه نعمة اللّه على أخيه نسبا أو جنسا أودينا فيبغى عليه ولو بما فيه ضرر له ولهذا المحسود.
والأمة التي تنتشر بين أفرادها هذه الرذيلة قلما تتوجه همم أبنائها إلى ما يرقى شأنهم بين الأمم الأخرى ، وقلما يتعاونون على ما فيه صلاحهم وتقدمهم فى سائر مرافق الحياة فيصبحون عبيدا لسواهم بعد أن كانوا سادة ، وأذلاء بعد أن كانوا فى عزة وبلهنية من العيش.
[سورة المائدة (5) : الآيات 33 الى 34]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)(6/103)
ج 6 ، ص : 104
تفسير المفردات
المحاربة : من الحرب ضد السلم ، والسلم : السلامة من الأذى والضرر والآفات والأمن على النفس والمال ، والأصل فى معنى كلمة الحرب التعدي وسلب المال ، وحربية الرجل : ماله الذي يعيش به ، والفساد : ضد الصلاح ، وكل ما يخرج عن وضعه الذي يكون به صالحا نافعا يقال إنه فسد ، ومن كان سببا لفساد شىء يقال إنه أفسده ، فإزالة الأمن على الأنفس أو الأموال أو الأعراض ومعارضته تنفيذ الشريعة العادلة كل ذلك إفساد فى الأرض ، والتقتيل : المبالغة فى القتل بكونه حتما لا هوادة فيه ولا عفو من ولى الدم ، والتصليب المبالغة فى الصلب أو تكرار الصلب كما قال الشافعي :
يصلب بعد القتل ثلاثة أيام بأن يربط على خشبة ونحوها منتصب القامة ممدود اليدين ، وربما طعنوا المصلوب ليعجلوا موته ، وتقطيع الأيدى والأرجل من خلاف : معناه إذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى ، والعكس بالعكس ، والنفي من الأرض :
النقل من البلد أو القطر الذي أفسدوا فيه إلى غيره من بلاد الإسلام إذا كانوا مسلمين ، فإن كانوا كفارا جاز نفيهم إلى بعض بلاد الإسلام أو بعض بلاد الكفر ، والخزي :
الذل والفضيحة ، ومن قبل أن تقدروا عليهم : أي من قبل التمكن من عقابهم.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه فظاعة جرم القتل ، وشدّد فى تبعة القاتل فذكر أن من قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا - ذكر هنا العقاب الذي يؤخذ به المفسدون فى الأرض حتى لا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم ، وقد ذهب أكثر الأئمة إلى أن الآيتين نزلتا فى عكل وعرينة ،
فقد روى أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن عن أنس « أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى اللّه عليه وسلم وتكلموا بالإسلام ، فاستوخموا المدينة (وجدوها رديئة المناخ) فأمر لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم بذود(6/104)
ج 6 ، ص : 105
(بضع من الإيل) وراع وأمرهم أن يخرجوا فليشربوا من أبوالها وألبانها ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرّة كفروا بعد إسلامهم ، وقتلوا راعى النبي واستاقوا الذود ، فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم فبعث الطلب فى آثارهم ، فأمر بهم فسّمروا أعينهم (كحلوها بمسامير الحديد المحماة) وقطعوا أيديهم وتركوا فى ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم »
زاد البخاري أن قتادة الذي روى الحديث عن أنس قال : « بلغنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد ذلك كان يحثّ على الصدقة وينهى عن المثلة »
وروى أبو داود والنسائي عن أبى الزناد « أن رسول اللّه لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار ، عاتبه اللّه فى ذلك فأنزل : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا) الآية.
الإيضاح
(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) أي إن جزاء الذين يفعلون ما ذكر - عقابهم ما سيذكر بعد على سبيل الترتيب والتوزيع على جناياتهم ومفاسدهم لكل منها ما يليق بها من العقوبة.
وقد جعل هذا النوع من العدوان محاربة للّه ورسوله ، لأنه اعتداء على الحق والعدل الذي أنزل اللّه على رسوله ، ولما فيه من عدم الإذعان لدينه وشرعه فى حفظ الحقوق كما قال تعالى فى المصرّين على أكل الربا « فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ » .
فمن لم يذعنوا لأحكام الشريعة يعدوا محاربين للّه والرسول ، ويجب على الإمام الذي يقيم العدل ويحفظ النظام أن يقاتلهم على ذلك كما فعل أبو بكر بمانعى الزكاة ، حتى يفيئوا ويرجعوا إلى أمر اللّه ، ومن رجع منهم فى أي وقت يقبل منه ويكفّ عنه ، وقوله : ويسعون فى الأرض فسادا أي يسعون فيها سعى فساد أي مفسدين لما صلح من أمور الناس فى نظم الاجتماع وأسباب المعاش.(6/105)
ج 6 ، ص : 106
وجمهور العلماء على أن الآية نزلت فى قطاع الطريق من المسلمين كما تدل على ذلك حادثة العرنيّين الذين خدعوا النبي صلى اللّه عليه وسلم والمسلمين بإظهار الإسلام حتى إذا تمكنوا من الإفساد بالقتل والسلب عادوا إلى قومهم وأظهروا شركهم معهم ، وقد عاقبهم النبي صلى اللّه عليه وسلم بمثل عقوبتهم عملا بقوله تعالى « وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها » .
ويشترط فى المحاربين ثلاثة شروط :
(1) أن يكون معهم سلاح وإلا كانوا غير محاربين.
(2) أن يكون ذلك فى الصحراء فإن فعلوا ذلك فى البنيان لم يكونوا محاربين كما قال أبو حنيفة والثّورى وإسحق.
(3) أن يأتوا مجاهرة ويأخذوا المال ، فإن أخذوه خفية فهم سرّاق ، وإن اختطفوه وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم ، وكذا إن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة فاستلبوا منها شيئا ، لأنهم لا يرجعون إلى قوة ومنعة ، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهم قطاع طريق.
والجزاء الذي يعاقب به أمثال هؤلاء المفسدين أحد أنواع أربعة : إما القتل أو الصلب أو تقطيع الأيدى والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض ، وفوض لأولى الأمر الاجتهاد فى تقدير العقوبة بقدر الجريمة.
والحكمة فى عدم التعيين والتفصيل أن المفاسد كثيرة تختلف باختلاف الزمان والمكان وضررها يختلف كذلك ، فمنها القتل ومنها السلب ومنها هتك الأعراض ومنها إهلاك الحرث والنسل أي قطع الشجر وقلع الزرع وقتل المواشي والدواب أو الجمع بين جريمتين أو أكثر من هذه المفاسد ، فللإمام أن يقتلهم إن قتلوا ، أو يصلبهم إن جمعوا بين أخذ المال والقتل ، أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال أو ينفوا من الأرض إن أخافوا الناس وقطعوا عليهم الطرق.(6/106)
ج 6 ، ص : 107
وهؤلاء المفسدون ضوعفت لهم العقوبات ، فالقتل العمد العدوان يوجب القتل ، ويجوز لولى الأمر العفو وترك القصاص ، فغلظ ذلك فى قاطع الطريق وصار القتل حتما لاهوادة فيه ولا يجوز العفو عنه ، وأخذ المال يتعلق به قطع اليد اليمنى فى غير قاطع الطريق فغلظ فى قاطع الطريق بقطع الطرفين ، وإن جمعوا بين القتل وأخذ المال جمع فى حقهم بين القتل والصلب ، لأن بقاءهم مصلوبين فى ممر الطرق يكون سببا لاشتهار إيقاع هذه العقوبة ، فيصير ذلك زاجرا لغيرهم على الإقدام على مثل هذه المعصية ، وإن اقتصروا على مجرد الإخافة عوقبوا بعقوبة خفيفة وهى النفي من الأرض.
ثم بين آثار هذه العقوبة فى الدنيا والآخرة فقال :
(لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ذلك الذي ذكر من عقابهم - ذل لهم وفضيحة فى الدنيا ليكونوا عبرة وعظة لغيرهم من المسلمين ، ولهم فى الآخرة عذاب عظيم بقدر تأثير إفسادهم فى تدنيس نفوسهم وتدسيتها وظلمة أرواحهم بما اجترحت من الذنوب والآثام.
ثم استثنى ممن يستحقون العقوبة من تاب فقال :
(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) أي لكم أن تعاقبوا هذا العقاب الذي تقدم ذكره من قطعوا الطريق وعاثوا فى الأرض فسادا إلا من تابوا إلى اللّه وأنابوا من قبل أن يتمكن منهم الحاكم ويقدر على عقوبتهم ، فإن توبتهم حينئذ وهم فى قوة ومنعة جديرة بأن تكون توبة خالصة للّه صادرة عن اعتقاد بقبح الذنب والعزم على عدم العودة إلى فعل مثله وليس سببها الخوف من عقاب الدنيا ، وإذا فهم قد تركوا الإفساد ومحاربة اللّه ورسوله ، ومن ثم لا يجمع لهم بين أشد العقاب فى الدنيا والعذاب فى الآخرة بل يصيرون لمغفرة اللّه ورحمته كما قال :
(فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فاعلموا أن اللّه غفور لما فرط من ذنوبهم ، رحيم بهم يرفع العقاب عنهم ، وهذه التوبة ترفع عنهم حق اللّه كله من عقاب فى الدنيا والآخرة ، ولكن تبقى حقوق العباد فلمن سلبهم التائب أموالهم أيام إفساده أن يطالبوه بها ، ولمن قتل منهم أحدا أن يطالبوه بدمه ، وهم مخيرون بين القصاص والدية والعفو ،(6/107)
ج 6 ، ص : 108
فقد ثبت عن الصحابة إسقاط الحد عمن تاب ، ولم يثبت أن أحدا تقاضى التائب حقا ولم يسمع له الحاكم.
وإذا فتوبته لا تصح إلا إذا أعاد الأموال المسلوبة إلى أربابها ، فإذا رأى ولىّ الأمر إسقاط حق مالىّ عن المفسد مراعاة للمصلحة العامة وجب أن يضمنه من بيت المال (وزارة المالية) :
والخلاصة - إن هانين الآيتين تضمنتا عقاب المحاربين المفسدين فى الأرض الذين يعملون أعمالا مخلّة بالأمن على الأنفس والأموال والأعراض فى بلاد الإسلام معتصمين فى ذلك بقوتهم مع عدم الإذعان لأحكام الشريعة باختيارهم ، وهو أن يطاردهم الحكام ويتتبعوهم حتى إذا قدروا عليهم عاقبوهم بتلك العقوبات بعد تقدير كل مفسدة بقدرها ومراعاة المصلحة العامة ، ومن تاب قبل القدرة عليه لا يعاقب بما هنا من العقوبات ، بل حكمه حكم سائر المسلمين.
[سورة المائدة (5) : الآيات 35 الى 37]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه فيما سلف أن اليهود قد هموا ببسط أيديهم إلى الرسول حسدا منهم له ، وغرورا بدينهم ، واعتقادا منهم أنهم أبناء اللّه وأحباؤه - أمر المؤمنين بأن يتقوه ويبتغوا إليه الوسيلة بالعمل الصالح ولا يفتتنوا بدينهم كما فعل أهل الكتاب.
ثم أكد ذلك فبين أن الفوز والفلاح لا يكون إلا بهما ، فمن لم ينلهما لا قى من الأهوال يوم القيامة ما لا يستطاع وصفه.(6/108)
ج 6 ، ص : 109
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) اتقاء اللّه هو اتقاء سخطه وعقابه بعدم مخالفة دينه وشرعه ، والوسيلة ما يتوصل به إلى مرضاته والقرب منه واستحقاق مثوبته فى دار الكرامة.
روى ابن جرير عن قتادة أنه قال فى تفسير الآية أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه ،
وروى أحمد والبخاري وأصحاب السنن من حديث جابر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « من قال حين يسمع النداء - الآذان - اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته ، حلت له شفاعتى يوم القيامة »
و
روى أحمد ومسلم من حديث عبد اللّه بن عمر أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول : « إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علىّ فإنه من صلى علىّ صلاة صلى اللّه عليه عشرا ، ثم سلوا لى الوسيلة ، فإنها منزلة فى الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد اللّه ، وأرجو أن أكون هو ، فمن سأل لى الوسيلة حلت عليه الشفاعة » .
وبهذا يعلم أن هذه الوسيلة هى أعلى منازل الجنة ، فمن دعا اللّه تعالى أن يجعلها للنبى صلى اللّه عليه وسلم كافأه النبي صلى اللّه عليه وسلم بالشفاعة ، وهى دعاء أيضا والجزاء من جنس العمل.
(وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) الجهاد من الجهد وهو المشقة والتعب ، وسبيل اللّه هى طريق الحق والخير والفضيلة ، وكل جهد فى الدفاع عن الحق وحمل الناس عليه فهو جهاد فى سبيل اللّه.
أي جاهدوا أنفسكم بكفها عن أهوائها ، وحملها على النّصفة والعدل فى جميع الأحوال ، وجاهدوا أعدائى وأعداءكم ، وأتبعوا أنفسكم فى قتالهم ومنعهم من مقاومة الدعوة.(6/109)
ج 6 ، ص : 110
(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي افعلوا كل هذا رجاء الفوز والفلاح ، والسعادة فى المعاش والمعاد والخلود فى جنات النعيم.
وبعد فلم يؤثر عن صحابى ولا تابعي ولا أحد من علماء السلف أن الوسيلة هى التقرب إلى اللّه تعالى بغير ما شرعه اللّه للناس من الإيمان والعمل كالدعاء ونحوه.
ولكن جدّ فى القرون الوسطى التوسل بأشخاص الأنبياء والصالحين أي جعلهم وسائل إلى اللّه تعالى والإقسام بهم على اللّه ، وطلب قضاء الحاجات ودفع الضر وجلب النفع منهم عند قبورهم أو بعيدا عنها ، وكثر هذا حتى أصبح الناس يدعون مع اللّه أصحاب القبور فى الحاجات أو يدعونهم من دون اللّه ، وألّف بعض الناس كتبا فى هذا ، وزعم أنهم يسمعون ويستجيبون للداعى ، وشغف العامة بمثل هذا القول المخالف لقول اللّه تعالى : « فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً » وقوله : « إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ » وقوله : « وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ » والذي عليه المعول فى ذلك أن لفظ التوسل يراد به أحد معان ثلاثة :
(1) التوسل إلى اللّه بطاعته والتقرب إليه بفعل ما يرضيه ، وهذا فرض حتم وبه جاءت الشرائع وهو أس كل دين.
(2) التوسل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بدعائه وشفاعته كما كان الصحابة يفعلون ، وهذا كان فى حال حياته ، ولهذا قال عمر بن الخطاب : « اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا » أي بدعائه وشفاعته ، ويوم القيامة يتوسل المؤمنون بدعاء النبي صلى اللّه عليه وسلم وشفاعته.
(3) التوسل باللّه بمعنى الإقسام بذاته ، وهذا لم تكن الصحابة تفعله فى الاستسقاء ونحوه لا فى حياة النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا بعد مماته لا عند قبره ولا بعيدا عنه ،(6/110)
ج 6 ، ص : 111
ولا يعرف هذا فى شىء من الأدعية المأثورة عندهم ، وإنما ينقل شىء من ذلك فى أحاديث ضعيفة أو عمن ليس قوله حجة ، وقد قال أبو حنيفة وأصحابه : إن مثل هذا لا يجوز ، وقالوا لا يسأل بمخلوق ولا يقول أحد أسألك بحق أنبيائك ، ولا ينبغى لأحد أن يدعو اللّه إلا به ، وكرهوا أن يقال بمعاقد العز من عرشك ، أو بحق خلقك لأنه لا حقّ للخلق على الخالق.
والخلاصة - إن الوسيلة ما تتقرب به إلى اللّه وترجو أن تصل به إلى مرضاته ، بما شرّعه لتزكية نفسك ، وقد دل كتاب اللّه فى جملته وتفصيله على أن مدار النجاة والفلاح هو الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى : « وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى . وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى . ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى » وقال : « لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى » وقال : « هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » .
نعم دلت السنة على أن دعاء المؤمن لغيره قد ينفعه ، وثبت أيضا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان حريصا على إيمان عمه أبى طالب فأنزل اللّه عليه « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ » .
والخلاصة - إن العمدة فى تقرب الإنسان إلى اللّه وابتغاء مرضاته هو إيمانه وعمله لنفسه ، فإذا لم يعمل لنفسه ما شرعه اللّه وجعله سبب فلاحه ، فهل يكون قد ابتغى إليه الوسيلة بطلب الدعاء من بعض عباده المكرمين أو طلبه منهم بعد موتهم أن يشفعوا له أي يدعوا له.
كلا إن الطلب من الميت غير مشروع فضلا عن أنه لا يعلم إن كان مقبولا أو غير مقبول ، فإن ذلك من أمور الآخرة « وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ » .
وما روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فى ذلك كله ضعيف بل موضوع ،
وحديث الأعمى الذي علّمه أن يقول : « أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة »
لا يصلح حجة فى هذا الباب ، لأنه إنما توسل بدعاء النبي صلى اللّه عليه وسلم وشفاعته ، وقد أمره(6/111)
ج 6 ، ص : 112
النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يقول : « اللهم شفّعه فىّ »
وقد رد اللّه عليه بصره حين دعا له النبي صلى اللّه عليه وسلم وكان ذلك من معجزاته صلى اللّه عليه وسلم.
والحلف بالمخلوقات حرام عند أبى حنيفة والشافعي ، وحكى إجماع الصحابة على ذلك حتى قال عبد اللّه بن مسعود وعبد اللّه بن عباس وعبد اللّه بن عمر : لأن أحلف باللّه كاذبا أحب إلىّ من أن أحلف بغير اللّه صادقا ،
وقد جاء فى الصحيحين أنه قال : « من كان حالفا فليحلف باللّه »
وقال : « لا تحلفوا بآبائكم فإن اللّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم » .
والحلف بالأنبياء ليس بيمين عند مالك وأبى حنيفة والشافعي فلا كفارة فيه ، وكذلك الحلف بالمخلوقات المحترمة كالعرش والكرسي والكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم والملائكة والصالحين والملوك وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين.
ثم أكد ما سبق من أن مدار الفوز والفلاح تقوى اللّه وتزكية النفس فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الذين جحدوا ربوبية ربهم وعبدوا غيره من عجل أو صنم أو وثن وهلكوا وهم على هذه الحال قبل التوبة ، لو أن لهم ملك ما فى الأرض كلها وضعفه معه ليفتدوا به من عقاب اللّه إياهم على تركهم أمره وعبادتهم غيره فافتدوا بذلك كله يوم القيامة ما تقبل اللّه منهم ذلك فداء وعوضا من عذابهم وعقابهم ، بل هو معذبهم عذابا موجعا مؤلما لهم لأن سنته تعالى قد مضت بأن سبب الفلاح والنجاة إنما يكون من نفس الإنسان لا من خارج عنها « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها » .
وهذا هو الفارق بين الإسلام وغيره من الأديان فالنصارى يعتقدون أن خلاصهم وسعادتهم يكون بالمسيح فدية لهم يفتديهم بنفسه مهما كانت حالهم ، والمسلمون يعتقدون أن العمدة فى النجاة تزكية النفس بالفضائل والأعمال الصالحة.(6/112)
ج 6 ، ص : 113
ثم ذكر ما يلاقونه من الأهوال حينئذ فقال :
(يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) المقيم هو الثابت الذي لا يرتحل أبدا ، أي يتمنون الخروج من النار دار العذاب والشقاء بعد دخولهم فيها وما هم بخارجين منها البتة
[سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 40]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه عقاب المحاربين الذين يفسدون فى الأرض ويأكلون أموال الناس بالباطل جهرة ، وأمر بتقوى اللّه وابتغاء الوسيلة والجهاد فى سبيله ، وهى الأعمال التي يكمل بها الإيمان وتتهذب بها النفوس حتى تنفر من الحرام وتبتعد عن المعاصي.
ذكر هنا عقاب اللصوص الذين يأكلونها كذلك خفية ، وجمع فى هذه الآيات بين الوازع الداخلى وهو الإيمان والصلاح ، والوازع الخارجي وهو الخوف من العقاب والنكال.
الإيضاح
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) أي ومن سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا يا ولاة الأمور والقضاة والحكام يده من الكف إلى الرّسغ ، لأن السرقة تحصل بالكف(6/113)
ج 6 ، ص : 114
مباشرة ، والساعد والعضد يحملان الكف كما يحملهما معهما البدن ، والتي تقطع أولا هى اليمنى لأن التناول غالبا يكون بها.
وقد اختلف الأئمة فى المقدار الذي يوجب قطع اليد فى السرقة ، فروى عن الحسن البصري وداود الظاهري أنه يثبت القطع بالقليل والكثير لظاهر الآية
وللحديث « لعن اللّه السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الجمل فتقطع يده » رواه الشيخان عن أبى هريرة
، وجمهور العلماء من السلف والخلف على أن القطع لا يكون إلا فى سرقة ربع دينار « ربع مثقال من الذهب » أو ثلاثة دراهم من الفضة
لحديث عائشة : « كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقطع يد السارق فى ربع دينار فصاعدا » رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن
،
ولحديث ابن عمر فى الصحيحين أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قطع فى مجنّ (ترس) ثمنه ثلاثة دراهم.
ويرى الحنفية أن القطع لا يكون إلا فى عشرة دراهم فأكثر لا ما دونها ، ولا بد أن يكون المال محفوظا فى حرز وإلا فلا قطع.
وتثبت السرقة بالإقرار أو البينة ، ويسقط الحد بالعفو عن السارق قبل رفع أمره إلى الامام.
(جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ) النكال من النكل (بالكسر) وهو قيد الدابة ، ونكل عن الشيء امتنع لمانع صرفه عنه ، فالنكال ما ينكل الناس ويمنعهم أن يسرقوا.
أي اقطعوا أيديهما جزاء لهما بعملهما وكسبهما السيّء نكالا وعبرة لغيرهما ، ولا عبرة أعظم من قطع اليد الذي يفضح صاحبه طول حياته ويسمه بميسم العار والخزي ، ولا شك أن هذه العقوبة أجدر بمنع السرقة وتأمين الناس على أموالهم وأرواحهم ، فالأرواح كثيرا ما تتبع الأموال إذا قاوم أهلها السّراق ، وحاولوا منعهم من أخذها.
(وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي عزيز فى انتقامه من هذا السارق والسارقة وغيرهما من أهل المعاصي ، حكيم فى صنعه فهو يضع الحدود والعقوبات بحسب الحكمة التي توافق(6/114)
ج 6 ، ص : 115
المصلحة ، فما أمر بأمر إلا وهو صلاح ، ولا نهى عن أمر إلا وهو فساد ، وكأنه يقول :
اشتدوا على السرق فاقطعوهم يدا يدا ورجلا رجلا.
(فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن تاب من السرّاق ورجع عن السرقة بعد ظلمه لنفسه بعمله ما نهاه اللّه عنه من سرقة أموال الناس وأصلح نفسه وزكاها بأعمال البر فإن اللّه يقبل توبته ويرجع إليه بالرضا ويغفر له ويرحمه.
ولا يسقط الحد عن التائب ولا تصح التوبة إلا بإعادة المال المسروق بعينه إن كان باقيا وإلا فدفع قيمته إن قدر.
ثم بين أن عقاب السراق والعفو عن التائبين جاء وفق الحكمة والعدل والرحمة فقال :
(أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي ألم تعلم أيها الرسول أن اللّه له ملك السموات والأرض يدبر الأمر فيها بحكمته وعدله ورحمته وفضله ، ومن حكمته أنه وضع هذا العقاب لكل من يسرق ما يعد به سارقا كما وضع العقاب للمحاربين المفسدين فى الأرض ، وأنه يغفر للتائبين من هؤلاء وهؤلاء ويرحمهم إذا صدقوا فى التوبة وأصلحوا عملهم ، وأنه يعذب من يشاء تعذيبه من العصاة تربية له وتأمينا لعباده من أذاه وشره ، كما أنه يرحم من يشاء من التائبين برحمته وفضله ، ترغيبا لهم فى تزكية أنفسهم ، وهو القادر على كل شىء من التعذيب والرحمة لا يعجزه شىء فى تدبير ملكه.(6/115)
ج 6 ، ص : 116
[سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 43]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
تفسير المفردات
الحزن : ألم يجده الإنسان عند فوت ما يحب ، وسارع إلى الشيء : إذا أسرع إليه من خارج ليصل إليه ، وأسرع فيه : إذا أسرع فيه وهو داخل فيه ، وهنا كان الكفار داخلين فى ظرف الكفر ، محيطا بهم سرادقه ، والفتنة : الاختبار كما يفتن الذهب بالنار فيظهر مقدار ما فيه من الغش والزغل ، والسّحت : ما خبث من المكاسب وحرّم ، فلزم عنه العار وقبح الذكر كثمن الكلب والخنزير والخمر والرشوة فى الحكم ، والقسط : العدل.
المعنى الجملي
أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر عن البراء بن عازب قال : « مرّ النبي صلى اللّه عليه وسلم بيهودى محمّما « 1 » مجلودا ، فدعاهم فقال : أ هكذا تجدون حد الزاني فى كتابكم ؟ قالوا : نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال : أنشدك باللّه الذي أنزل التوراة على موسى ، أ هكذا تجدون حد الزاني فى كتابكم ؟ قال : اللهم لا ، ولولا
__________________________________________________
(1) التحميم وضع الحمة أي الفحمة فى الوجه ، وهو كالتسخيم الذي جاء فى الرواية الأخرى من السخام : وهو سواد القدر(6/116)
ج 6 ، ص : 117
أنك نشدتنى بهذا لم أخبرك ، نجد حد الزاني فى كتابنا الرجم ، ولكنه كثر فى أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شىء نقيمه على الشريف والوضيع ، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : اللهم إنى أول من أحيا أمرك إذ أماتوه وأمر به فرجم فأنزل اللّه (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ - إلى قوله - إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ » .
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم عن عمر قال : « إن اليهود أتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا فقال : ما تجدون فى كتابكم ؟ قالوا نسخّم وجوههما ويخزيان ، قال : كذبتم إن فيها الرجم (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فجاءوا بالتوراة وجاءوا بقارئ لهم أعور يقال له ابن صوريا فقرأ حتى إذا أتى إلى موضع منها وضع يده عليه ، فقيل له : ارفع يدك فرفع يده فإذا هى تلوح (أي آية الرجم) فقالوا : يا محمد إن فيها الرجم ، ولكنا كنا نتكاتمه بيننا ، فأمر بهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرجما ، فلقد يجأ عليها (ينحنى) يقيها الحجارة بنفسه » .
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) خاطب اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم بقوله يا أيها النبي فى مواضع كثيرة وما خاطبه بيا أيها الرسول إلا فى هذا الموضع وموضع آخر بعده « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ » وهذا الخطاب للتشريف والتعظيم وتأديب المؤمنين وتعليمهم أن يخاطبوه بوصفه كما كان يفعل بعض أصحابه بقولهم (يا رسول اللّه) وجهل هذا بعض الأعراب لخشونتهم وسذاجة فطرتهم فكانوا ينادونه (يا محمد) حتى أنزل اللّه « لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً » فكفّوا عن ندائه باسمه.(6/117)
ج 6 ، ص : 118
أي لا تهتمّ أيها الرسول بهؤلاء المنافقين الذين يسارعون فى إظهار الكفر والتحيز إلى أعدائه المؤمنين عند ما يرون الفرصة سانحة ، فاللّه يكفيك شرهم ، ويقيك ضرّهم ، وينصرك عليهم وعلى من شايعهم وناصرهم.
والنهى عن الحزن وهو أمر طبعى وليس للإنسان اختيار فيه يراد به النهى عن لوازمه التي يفعلها الناس مختارين من تذكر المصايب وتعظيم شأنها ، وبذا يتجدد الألم ويبعد أمد السلوى.
ثم بين أن أولئك المسارعين فى الكفر من المنافقين ومن اليهود فقال :
(مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) أي لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر من المنافقين الذين ادعوا الإيمان بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم.
(وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) الذين هادوا هم اليهود ، والمراد بالسماع سماع القبول والاعتقاد بصحة ما يقال ، والمراد بالكذب ما يقوله رؤساؤهم فى النبي صلى اللّه عليه وسلم وفى أحكام دينهم التي يتلاعبون فيها بأهوائهم.
أي إن هؤلاء القوم كثيرو الاستماع لكلام الرسول صلوات اللّه عليه والإخبار عنه لأجل الكذب عليه بالتحريف واستنباط الشبهات ، فهم جواسيس بين المسلمين لأعدائهم يبلغون الرؤساء أعداء الإسلام كل ما يقفون عليه ، ليكون ما يفترون عليه من الكذب متقبلا ، لأنه مبنى على وقائع معينة ، يزيدون فى روايتها وينقصون ، ويحرفون منها ما يحرفون وقد جرت العادة بأن الكذب لا يجد له نفوقا بين الناس إلا ممن يشاهد ويرى ، أما البعيد فيظهر اختلاق كذبه سريعا ، ولهذا كانوا ينقلون تلك الأكاذيب لمن لم يأت النبي صلى اللّه عليه وسلم من الرؤساء وذوى الكيد ، ليسمعوا منه بآذانهم إما كبرا وتمردا وإما خوفا على أنفسهم وهذا معنى قوله : سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ، أي سماعون لأجلهم.
(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي يحرفون كلم التوراة من بعد وضعه(6/118)
ج 6 ، ص : 119
فى مواضعه إما تحريفا لفظيا بإبدال كلمة بكلمة أو بإخفائه وكتمانه أو بالزيادة فيه أو بالنقص منه ، وإما تحريفا معنويا بحمل اللفظ على غير ما وضع له.
(يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أي يقولون لمن أرسلوهم إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم ليسألوه عن حكم الرجل والمرأة اللذين زنيا منهم وأرادوا أن يحابوهما بعدم رجمهما ، إن أعطاكم محمد رخصة بالجلد عوضا عن الرجم فخذوها وارضوا بها ، وإن حكم بالرجم فاحذروا قبول ذلك ولا ترضوا به.
وقد سبق أن ذكرنا أنهم جاءوا فسألهم عن حد الزناة فى التوراة فقالوا :
نفضحهم ويجلدون ، وجاءوا بالتوراة فوضع أحدهم يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها ، وما بعدها فقال له عبد اللّه بن سلام : ارفع يدك فرفع فإذا هى آية الرجم فاعترفوا بصدق النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وظهر كذبهم وعبثهم بشريعتهم وكتابهم.
(وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) أي ومن يرد اللّه أن يختبر فى دينه فيظهر الاختبار كفره وضلاله فلن تملك له أيها الرسول من اللّه شيئا من الهداية والرشد فهؤلاء المنافقون والجاحدون من اليهود قد أظهرت لك فتنة اللّه واختباره إياهم مقدار فسادهم ، فهم يقبلون الكذب دون الحق وهم محرفون كاتمون لأحكام كتابهم ، اتباعا لأهؤائهم ومرضاة لرؤسائهم ، وذوى الجاه فيهم :
فلا تحزن بعد هذا على مسارعتهم فى الكفر ، ولا تطمع فى جذبهم إلى الإيمان ، فإنك لا تملك لأحد نفعا ، وإنما عليك البلاغ والبيان ، ولا تخف عاقبة نفاقهم فإنما العاقبة للمتقين من أهل الإيمان ، ولهم الخزي والهوان.
(أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) أي إن أولئك الذين بلغت منهم الفتنة ذلك المبلغ هم الذين لم يريد اللّه تطهير قلوبهم من الكفر والنفاق ، لأن إرادته إنما تتعلق بما اقتضته سننه العادلة فى نفوس البشر ، من أنها إذا دأبت على الباطل ومرنت على الكيد والشر ، وألفت الخلاف والضر ، تحيط بها خطيئتها ، وتطبق عليها ظلمتها ، فلا يبقى لديها لنور الحق منفذ ، وتصبح غير قابلة للاستبصار والاعتبار الذي(6/119)
ج 6 ، ص : 120
جعله اللّه وسيلة للاتعاظ والهداية فهؤلاء الرؤساء من اليهود وأعوانهم لا تقبل طباعهم سواها ، فلا تتعلق إرادته سبحانه بتطهيرهم ، وإلا كان ذلك خلافا لما اقتضته سننه وتبديلا لنظمه فى خلقه ، ولن تجد لسنة اللّه تبديلا.
(لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) فخزى المنافقين فى الدنيا هتك أستارهم باطلاع الرسول على كذبهم وخوفهم من القتل ، وخزى اليهود فضيحتهم بظهور كذبهم فى كتمان نصوص كتابهم فى إيجاب الرجم ، وعلوّ الحق على باطلهم ، وقد صدق الوعيد على كل يهود الحجاز ، كما يصدق على كل من يفسدون كفسادهم ولا يغنى عنهم الانتساب إلى نبىّ لم يتبعوه ولا تنفعهم دعوى الإيمان بكل نبى لم يتبعوه وعذابهم فى الآخرة نجزم بحصوله ولا نعلم مقدار كنهه ، وحقيقة أمره.
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) أعاد اللّه وصفهم بكثرة السماع للكذب للتأكيد وتقرير المعنى ، وإفادة اهتمام المتكلم بأمره وبيان أن أمرهم كله مبنى على الكذب الذي هو شر الرذائل وأضر المفاسد ، وهكذا شأن الأمم الذليلة تلوذ بالكذب وتدرأ به عن نفسها ما تتوقع من ضر بما يلحقها.
وكذلك انتشر بين أفرادها أكل السحت ، لأنها كانت تعيش بالمحاباة والرشا فى الأحكام ، ففسدت بينها أمور المعاملات وكذلك استبدلت الطمع بالعفة وكان أحبار اليهود ورؤساؤهم عصر التنزيل كذابين أكالين للسحت من رشوة وغيرها من الدناءات ، كما هو دأب سائر الأمم عهد فسادها ، وأزمان انحطاطها.
(فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي فإن جاءوك متحاكمين إليك فأنت مخير بين الحكم بينهم والإعراض عنهم وتركهم إلى رؤسائهم ، وهذا التخيير خاص بالمعاهدين دون أهل الذمة ، فلا يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين الأجانب الذين هم فى بلادهم وإن تحاكموا إليهم ، بل هم مخيرون يرجحون فى كل حال ما يرونه من المصلحة.(6/120)
ج 6 ، ص : 121
وأما أهل الذمة فيجب الحكم بينهم إذا تحاكموا إلينا ، لأن من أخذت منه الجزية تجرى عليه أحكام الإسلام فى البيوع والمواريث وسائر العقود إلا فى بيع الخمر والخنزير ، فإنهم يقرّون عليه ، ويمنعون من الزنا كالمسلمين فإنهم نهوا عنه ولا يرجمون ، إذ من شروط الرجم الإسلام.
(وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) أي وإن اخترت الإعراض عنهم ولم تحكم بينهم فلن يضروك شيئا من الضرر فاللّه حافظك من ضرهم.
(وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي وإن اخترت أن تحكم بينهم فاحكم بالعدل الذي أمرت به ، وهو ما تضمنه القرآن واشتملت عليه شريعة الإسلام.
(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي وكيف يحكمونك فى قضية كقضية الزانيين وعندهم التوراة وهى شريعتهم فيها حكم اللّه فيما يحكمونك فيه ثم يتولون عن حكمك بعد أن رضوا به وآثروه على شريعتهم لموافقته إياها.
وخلاصة ذلك - إن أمرهم لمن أعجب العجب ، وما سبب ذلك إلا أنهم ليسوا مؤمنين بالتوراة إيمانا صحيحا ولا هم مؤمنين بك ، إذ المؤمن بشرع لا يرغب عنه إلى غيره إلا إذا آمن بأن ما رغب إليه شرع من اللّه أيضا أيد به الأول أو نسخه لحكمة اقتضت ذلك.
ولكن هؤلاء تركوا حكم التوراة التي يدعون الإيمان بها لأنه لم يوافق أهواءهم وجاءوك يطلبون حكمك ، رجاء أن يوافق أهواءهم ثم يتولون ويعرضون عنه ، إذ لم يأت وفق مرادهم.
وقد جاء فى سفر التثنية بعد بيان أن من تزوج عذراء فوجدها ثيبا ترجم عند باب بيت أبيها (وإذا وجد رجل مضطجع مع امرأة زوج بعل يقتل الاثنان ، الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة ، فتنزع الشر من إسرائيل ، وإذا كانت فتاة عذراء مخطوبة(6/121)
ج 6 ، ص : 122
لرجل فوجدها رجل فى المدينة فاضطجع معها فأخرجوهما كليهما إلى باب المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا ، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ فى المدينة والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه ، فتنزع الشر من وسطك).
[سورة المائدة (5) : الآيات 44 الى 47]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)
تفسير المفردات
التوراة : الكتاب الذي أنزل على موسى ، والذين هادوا : هم اليهود ، والربانيون :
هم المنسوبون إلى الرب بمعنى الخالق المدبر لأمر الملك ، والأحبار : واحدهم حبر وهو العالم ، بما استحفظوا من كتاب اللّه أي بما طلب إليهم حفظه منه ، وشهداء(6/122)
ج 6 ، ص : 123
أي رقباء على الكتاب وعلى من يريد العبث به : قفّاه به تقفية : جعله يقفو أثره كما قال : « وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ » والفاسقون أي الخارجون من حظيرة الدين المتجاوزون لأحكامه وآدابه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه عجب حال اليهود من تركهم حكم التوراة وهم يعلمونه ، وطلبهم من النبي صلى اللّه عليه وسلم الحكم بينهم ورضاهم به إذا وافق أهواءهم وتركهم له إذا جاء على غير ما يريدون.
ذكر أمر التوراة وأنها أنزلت هداية لبنى إسرائيل ثم أعرضوا عن العمل بها ، لما عرض لهم من الفساد ، وفى ذلك من العبرة أن الانتماء إلى الدين لا ينفع أهله إذا لم يقيموه ويهتدوا بهديه ، وأن إيثار أهل الكتاب أهواءهم على هدى دينهم هو الذي أعماهم عن نور القرآن والاهتداء به.
الإيضاح
(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) أي إنا أنزلنا التوراة على موسى مشتملة على هدى وإرشاد للناس إلى الحق ، ونور وضياء يكشف به ما تشابه عليهم وأظلم ، وبهذا الهدى خرج بنو إسرائيل من وثنية المصريين وضلالهم ، وبذلك النور أبصروا طريق الاستقلال فى أمر دينهم ودنياهم.
(يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا) أي أنزلناها قانونا يحكم به النبيون الذين أسلموا وجوههم للّه مخلصين له الدين - موسى ومن بعده من أنبياء بنى إسرائيل إلى عيسى عليه السلام ، للذين هادوا أي لليهود خاصة ، لأنها شريعة خاصة بهم لا عامة ، ولم يكن لداود وسليمان وعيسى شريعة دونها.
(وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ) أي ويحكم بها الربانيون والأحبار فى الأزمنة التي لم يكن فيها أنبياء معهم أو يحكمون مع وجودهم بإذنهم بسبب(6/123)
ج 6 ، ص : 124
ما أودعوه من الكتاب وائتمنوا عليه وطلب منهم أنبياؤهم حفظه ، كالعهد الذي أخذه موسى بأمر اللّه على شيوخ بنى إسرائيل بعد أن كتب التوراة أن يحفظوها ولا يحيدوا عنها.
ويروى عن أمير المؤمنين على كرم اللّه وجهه أنه قال : أنا ربانى هذه الأمة ،
وأطلق لقب حبر الأمة فى الإسلام على ابن عباس رضى اللّه عنهما ، وأطلق لقب الرباني على علىّ المرتضى عليه الرحمة.
وقال ابن جرير : الربانيون جمع ربانى وهم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم والقيام بمصالحهم ، والأحبار جمع حبر وهو العالم المحكم للشىء اه.
(وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) أي وكان السلف الصالح منهم رقباء على الكتاب وعلى من تحدّثه نفسه العبث به كما فعل عبد اللّه بن سلام فى مسألة الرجم ، لا كما فعل الخلف من كتمان بعض أحكامه اتباعا للهوى ، أو خوفا من أشرافهم إن أقاموا عليهم حدوده ، وطمعا فى صلاتهم إذا هم حابوهم.
ومما كتموه صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم والبشارة به.
ثم خاطب اللّه تعالى رؤساء اليهود الذين كانوا زمن التنزيل لا يخافون اللّه فى الكتمان والتبديل بعد أن قص سيرة السلف الصالح من بنى إسرائيل لعلهم يعتبرون ويرعوون عن غيّهم فقال :
(فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)
أي وإذا كان الحال كما ذكر أيها الأحبار ولا شك أنكم لا تنكرونه كما تنكرون غيره مما قصه اللّه على رسوله من سير أسلافهم - فلا تخشوا الناس فتكتموا ما عندكم من الكتاب خشية أحد ، أو طمعا فى منفعة عاجلة منه ، واخشوني واقتدوا بمن كان قبلكم من الربانيين والأحبار واحفظوا التوراة ولا تعدلوا عن ذلك ، فإن النفع والضر بيدي.
(وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا) أي ولا تتركوا بيانها للناس والعمل بها لقاء منفعة دنيوية قليلة تأخذونها من الناس كرشوة أو جاه أو غيرهما من الحظوظ العاجلة التي تصدكم(6/124)
ج 6 ، ص : 125
عن الاهتداء بآيات اللّه وتمنعكم عن الخير العظيم الذي تنالونه من ربكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم.
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) أي وكل من رغب عن الحكم بما أنزل اللّه وأخفاه وحكم بغيره كحكم اليهود فى الزانيين المحصنين بالتحميم ، وكتمانهم الرجم وقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفى بعضها بنصف الدية ، واللّه قد سوى بين الجميع فى الحكم فأولئك هم الكافرون الذين ستروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينه ، وغطوه وأظهروا لهم غيره وقضوا به.
قال الرازي نقلا عن عكرمة : إن الحكم بالكفر على من حكم بغير ما أنزل اللّه - إنما يكون فيمن أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أما من عرف بقلبه كونه حكم اللّه وأقرّ بلسانه كونه حكم اللّه إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل اللّه ولكنه تارك له فلا يدخل تحت هذه الآية.
وأخرج ابن جرير عن أبى صالح قال : الثلاثة الآيات التي فى المائدة ومن لم يحكم بما أنزل اللّه إلخ. ليس فى الإسلام منها شىء هى فى الكفار ، وعن الشعبي أنه قال :
الثلاث الآيات التي فى المائدة أولها فى هذه الأمة والثانية فى اليهود والثالثة فى النصارى.
وخلاصة المعنى - ومن لم يحكم بما أنزل اللّه مستهينا به منكرا له كان كافرا لجحوده به واستخفافه بأمره.
(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) أي إن الجروح ذوات قصاص يعتبر فى جزائها المساواة بقدر الاستطاعة.
وقد جاء فى التوراة فى الفصل الحادي والعشرين من سفر الخروج (وإن حصلت أذية تعطى نفسا بنفس ، وعينا بعين ، وسنا بسن ، ويدا بيد ، ورجلا برجل ، وكيّا بكى ، وجرحا بجرح ، ورضّا برضّ).
وجاء فى الفصل الرابع والعشرين من سفر اللاويين (وإذا أمات أحد إنسانا(6/125)
ج 6 ، ص : 126
فإنه يقتل ، ومن أمات بهيمة يعوّض عنها نفسا بنفس ، وإذا أحدث إنسان فى قريبه عيبا فكما فعل كذلك يفعل به ، كسر بكسر ، وعين بعين ، وسن بسن ، كما أحدث عيبا فى الإنسان كذلك يحدث فيه) (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) أي فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص وعفا عن الجاني فهذا التصدق كفارة له ، يكفر اللّه بها ذنوبه ويعفو عنه كما عفا عن أخيه.
وهذا كقوله تعالى « وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى »
وروى عبادة بن الصامت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال « من تصدق من جسده بشىء كفر اللّه تعالى عنه بقدره من ذنوبه ،
ويقرب منه
قوله صلى اللّه عليه وسلم « أ يعجز أحدكم أن يكون كأبى ضمضم ؟ كان إذا خرج من بيته تصدق بعرضه على الناس » .
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي إن كل من أعرض عما أنزل اللّه من القصاص المبنى على قاعدة العدل والمساواة بين الناس وحكم بغيره فهو من الظالمين ، إذ العدول عن ذلك لا يكون إلا بتفضيل أحد الخصمين على الآخر وغمص حق المفضّل عليه وظلمه.
(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) أي وبعثنا عيسى بن مريم بعد هؤلاء النبيين الذين كانوا يحكمون بالتوراة متبعا طريقهم جاريا على هديهم مصدقا للتوراة التي تقدمته بقوله وعمله ، فشريعة عيسى عليه السلام هى التوراة ، وقد نقلوا عنه فى أناجيلهم أنه قال ما جئت لأنقض الناموس (شريعة التوراة) وإنما جئت لأتمم - أي لأزيد عليها ما شاء اللّه أن أزيد من الأحكام والمواعظ ، ولكن النصارى نسخوها وتركوا العمل بها اتباعا لبولس.
(وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي وأعطيناه الإنجيل حال كونه مشتملا على الهدى ومنقذا من(6/126)
ج 6 ، ص : 127
الضلال فى العقائد والأعمال ، كالتوحيد والتنزيه النافي للوثنية التي هى مصدر الخرافات والأباطيل.
وعلى النور الذي يبصر به طالب الحق طريقه الموصل إليه ، وهو مصدق للتوراة التي تقدمته ، أي إنه مشتمل على النص بتصديقها زيادة على تصديق المسيح لها بقوله وعمله.
وقد وصف القرآن الإنجيل بمثل ما وصف به التوراة ، وبكونه مصدقا لها ، وجعله هدى وموعظة للمتقين ، لأنهم هم الذين ينتفعون بهداه ، لحرصهم عليه وعنايتهم به :
والسر فى ذلك أن أسرار الشريعة وبيان حكمتها والمقصد منها ، ومعرفة أن بعد هذه التوراة ، وهذا الإنجيل هداية أعم وأشمل وهى التي يجىء بها النبي الأخير (البارقليط) الأعظم.
(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ) أي وقلنا لهم : ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه من الأحكام ، والمراد وأمرناهم بالعمل به ، فهو كقوله فى أهل التوراة « وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها » .
وخلاصة ذلك - زجرهم عن تحريف ما فى الإنجيل وتغييره ، مثل ما فعل اليهود من إخفاء أحكام التوراة.
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي المتمردون الخارجون عن حكمه.
والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على أحكام ، وأن عيسى عليه السلام كان مستقلا بشرع ، مأمورا بالعمل بما فيه من الأحكام قلّت أو كثرت ، لا بما فى التوراة خاصة ، ويشهد لذلك
حديث البخاري « أعطى أهل التوراة التوراة ، فعملوا بها وأهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به »
وقال الشّهرستانى فى الملل والنحل (جميع بنى إسرائيل كانوا متعبدين بشريعة موسى عليه السلام ، مكلّفين التزام أحكام التوراة والإنجيل النازل على عيسى عليه السلام(6/127)
ج 6 ، ص : 128
لا يحتضن أحكاما ولا يستبطن حلالا ولا حراما ، ولكنه رموز وأمثال ومواعظ وما سواها من الشرائع والأحكام محال على التوراة).
[سورة المائدة (5) : الآيات 48 الى 50]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
تفسير المفردات
المهيمن على الشيء : القائم على شئونه وله حق مراقبته وتولى رعايته ، والشّرعة والشريعة : مورد الماء من النهر ونحوه ، وكل ما شرعت فيه من شىء فهو شريعة.
ومن ذلك شريعة الإسلام لشروع أهلها فيها ، والمنهاج : السبيل والسنة ، والابتلاء :
الاختبار ، استبقوا : ابتدروا وسارعوا ، أن يفتنوك : أي يميلوا بك من الحق إلى الباطل(6/128)
ج 6 ، ص : 129
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه إنزال التوراة ثم الإنجيل على بنى إسرائيل ، وذكر ما أودعه فيهما من الهدى والنور وما ألزمهم به من إقامتهما وما أوعدهم به من العقاب على ترك الحكم بهما.
ذكر هنا إنزاله القرآن على خاتم الأنبياء محمد صلى اللّه عليه وسلم ومنزلته من الكتب قبله ، وأن الحكمة اقتضت تعدد الشرائع والمناهج لهداية البشر.
الإيضاح
(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) أي وأنزلنا إليك أيها الرسول الكتاب (القرآن الكريم) الذي أكملنا به الدين مشتملا على الحق مقررا له « لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ » مصدقا لما تقدمه من الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل ، ومهيمنا وشهيدا عليها بما بيّنه من حقيقة أمرها ، وما كان من حال من خوطبوا بها من نسيان حظ عظيم منها وتحريف كثير مما بقي وتأويله والإعراض عن العمل به.
روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) يعنى أمينا عليه يحكم على ما كان قبله من الكتب.
(فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) أي وإذا كان هذا شأن القرآن ومنزلته مما قبله من الكتب الإلهية ، وهو أنه رقيب وشهيد عليها ، فاحكم بين أهل الكتاب بما أنزل اللّه إليك فيه من الأحكام ، دون ما أنزله إليهم ، إذ شريعتك ناسخة لشريعتهم.
(وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) أي ولا تتبع ما يريدون ، وهو الحكم بما يسهل عليهم ويخفف احتماله مائلا بذلك عما جاءك من الحق الذي لا شك فيه ولا ريب.(6/129)
ج 6 ، ص : 130
(لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) أي لكل أمة منكم أيها الناس جعلنا شريعة أوجبنا عليهم إقامة أحكامها ، ومنهاجا وطريقا فرضنا عليهم سلوكه لتزكية أنفسهم وإصلاح سرائرهم من قبل أن الشرائع العملية تختلف باختلاف أحوال الاجتماع وطبائع البشر واستعداداتهم وإن اتفق الرسل جميعا فى أصل الدين ، وهو توحيد اللّه والإخلاص له فى السر والعلن وإسلام الوجه له.
روى عن قتادة أنه قال فى تفسيرها : أي سبيلا وسنة ، والسنن مختلفة ، للتوراة شريعة ، وللإنجيل شريعة ، وللقرآن شريعة ، يحل اللّه فيها ما يشاء ، ويحرم ما يشاء ، كى يعلم من يطيعه ممن يعصيه ، ولكن الدين الذي لا يقبل غيره هو التوحيد والإخلاص الذي جاءت به الرسل وروى عنه أنه قال : الدين واحد والشريعة مختلفة.
ومن هذا يفهم أن الشريعة هى الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل وينسخ اللاحق منها السابق وأن الدين هو الأصول الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأنبياء.
وهذا هو العرف الجاري الآن إذ يخصون الشريعة بما يتعلق بالقضاء وما يتخاصم فيه إلى الحكام.
والخلاصة - إن الشريعة اسم للأحكام العملية ، وإنها أخص من كلمة (الدين) وتدخل فى مسمى الدين من جهة أن العامل بها يدين للّه تعالى بعمله. ويخضع له ويتوجه إليه ، مبتغيا مرضاته وثوابه بإذنه.
(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي ولو شاء تعالى أن يجعلكم أمة واحدة ذات شريعة واحدة ومنهاج واحد تسيرون عليه وتعملون به ، بأن يخلقكم على استعداد واحد ، وأخلاق واحدة ، وطور واحد فى معيشتكم ، فتصلح لكم شريعة واحدة فى كل الأزمان ، فتكونون كسائر أنواع المخلوقات التي يقف استعدادها عند مستوى معين كالطير أو كالنحل - لفعل ذلك إذ هو داخل تحت قدرته تعالى لا يستعصى عليه.(6/130)
ج 6 ، ص : 131
(وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي ولكن لم يشأ ذلك ، بل شاء أن يجعلكم نوعا ذا عقل وفكر واستعداد للفهم والعلم ، يرتقى فى أطوار الحياة بالتدريج ويخضع لسنة الارتقاء ، فلا تصلح له شريعة واحدة فى كل أطواره وفى سائر جماعاته ، فكانت الشرائع فى أطوار الطفولة من نوع يغلب عليه المادة ، وفى طور التمييز تغلب عليه العواطف والوجدانات النفسية ، وفى طور الرشد واستقلال العقل ختمت الشرائع والمناهج بالدين المحمدي المبنى على فتح باب الاجتهاد الفكرى وجعل أمره شورى فى القضاء والسياسة وأصول الاجتماع بين أولى العلم والرأى.
والخلاصة - إنه سبحانه عاملنا معاملة المختبر لاستعدادنا فيما آتانا من المناهج والشرائع لتظهر حكمته فى تمييز نوعنا عن غيره من الأنواع التي تدب على وجه البسيطة ، بأن جمع لنا بين الحيوانية والملكية.
وإنك لو نظرت إلى سالف الشرائع ترى الشريعة اليهودية مبنية على الشدة ، وليس لأهلها فيها رأى ولا اجتهاد إذ هى نزلت لقوم ألفوا الذل والاستعباد ، فوجب أخذهم بالشدة والصرامة ، وترى الشريعة النصرانية تأمر أهلها بأن يسلموا أمورهم للمتغلبين عليهم من أهل السلطة والحكم ويقبلوا كل ما يسامون به من ذل وخسف ويجعلوا عنايتهم بالأمور الروحية وتربية الوجدانات النفسية ، وترى الديانة الإسلامية قائمة على أساس الاستقلال والعقل جامعة بين مصالح الروح والجسد « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ » ولا يليق ذلك إلا بأمة بلغت سن الرشد العقلي والارتقاء الفكرى ، ومن ثم كانت أحكامها الدنيوية قليلة فى كتابها ، وفوض الأمر فيها إلى الاجتهاد ، إذ الراشد يفوض أمره إلى نفسه ، ومن ثم صارت صالحة لكل زمان ومكان ، إذ مدارها على الاجتهاد وطاعة أولى الأمر ، فمنع الاجتهاد فيها يبطل مزيتها ويجعلها لا تصلح لجميع الأزمان ولا لجميع الأمكنة ، إذ أنك تعلم أن للزمان والمكان والأحوال من التشريع ما يوافقه ، انظر إلى الإمام الشافعي تجد أنه حين كان بالعراق وضع أسسا للتشريع والأحكام (المذهب القديم) فلما انتقل إلى مصر ورأى عادات أهلها وأطوارهم(6/131)
ج 6 ، ص : 132
غير كثيرا من تشريعه إلى ما يناسب الشعب الذي يعيش بين ظهرانيه (المذهب الجديد) وما سرّ هذا إلا ما علمت من خضوع التشريع للزمان والمكان ثم بين أن الشرائع إنما وضعت للاستباق إلى الخير لتجازى كل نفس بما عملت فقال :
(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا إلى ما هو خير لكم فى دينكم ودنياكم ، وابتدروا الخيرات وصالح الأعمال ، انتهازا للفرصة وإحرازا للفضل ، فالسابقون السابقون أولئك المقربون.
وإنكم إلى اللّه دون غيره ترجعون جميعا فى الحياة الثانية فينبئكم عند الحساب بحقيقة ما كنتم تختلفون فيه فى الدنيا من أمور الدين ، ويجازى المحسن على قدر إحسانه ، والمسيء بإساءته ، فاجعلوا الشرائع سببا للتنافس فى الخيرات ، لا لإقامة الشحناء والعداوة بين الأجناس والعصبيات.
(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) أي إنا أنزلنا إليك الكتاب فيه حكم اللّه ، وأنزلنا إليك فيه :
أن احكم بينهم بما أنزل اللّه ولا تتبع أهواءهم بالاستماع لهم وقبول كلامهم ولو لمصلحة فى ذلك كتأليف قلوبهم وجذبهم إلى الإسلام ، فالحق لا يوصل إليه بطريق الباطل ، واحذرهم أن يفتنوك وينزلوك عن بعض ما أنزل اللّه إليك لتحكم بغيره.
أخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن عباس قال : قال كعب بن أسد وعبد اللّه ابن صوريا وشاس بن قيس من اليهود : اذهبوا بنا إلى محمد ، لعلّنا نفتنه عن دينه فأتوه ، فقالوا : يا محمد إنك عرفت أنّا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم ، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا ، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنخاصمهم إليك فتقضى لنا عليهم ونؤمن لك ونصدقك ، فأبى ذلك وأنزل اللّه عز وجل فيهم.
(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ - إلى قوله : لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) اه. يريد أن الحكمة فى إنزال هذه الآية إقرار النبي على ما فعل والأمر بالثبات على ما سار عليه من التزام حكم اللّه ، وعدم الانخداع لليهود.(6/132)
ج 6 ، ص : 133
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) أي فإن أعرضوا عن حكمك بعد تحاكمهم إليك ، فما ذاك إلا لأن اللّه يريد أن يعذبهم فى الحياة الدنيا قبل الآخرة ببعض ذنوبهم ، لأن استثقالهم لأحكام التوراة وتحاكمهم إليك لعلك تتبع أهواءهم ، ومحاولتهم لفتنتك عن بعض ما أنزل إليك - كل هذه أمارات على فساد الأخلاق وانحلال روابط الاجتماع ، ولا بد أن تكون نتيجتها وقوع العذاب بهم ، وقد حل بيهود المدينة وما حولها بغدرهم ما حل ، فقد أجلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بنى النّضير عنها ، وقتل بنى قريظة.
(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) أي متمردون فى الكفر مصرّون عليه خارجون من الحدود والشرائع التي اختارها اللّه لعباده.
وفى هذا تسلية للنبى صلى اللّه عليه وسلم على عدم إذعانهم لما جاء به من الهدى والدين وإعراضهم عن ذلك النور الذي أنزل إليه.
(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ؟ ) أي أ يتولون عن قبول حكمك بما أنزل اللّه ، فيبغون حكم الجاهلية المبنى على التحيز والهوى لجانب دون آخر وترجيح القوىّ على الضعيف ؟ .
روى « أن بنى النضير تحاكموا إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم فى خصومة كانت بينهم وبين بنى قريظة وطلب بعضهم من النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل وجعل دية القرظي ضعفى دية النّضيرى لمكان القوة والضعف فقال عليه السلام القتلى بواء (سواء) فقال بنو النضير نحن لا نرضى بذلك فنزلت الآية » .
وخلاصة ذلك - توبيخهم والتعجيب من حالهم بأنهم أهل كتاب وعلم ، ومع ذلك كانوا يبغون حكم الجاهلية الذي يجىء به محض الجهل وصريح الهوى.
(وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي لا أحد أحسن حكما من حكم اللّه لقوم يوقنون بدينه ويذعنون لشرعه ، لأنه حكم جامع بين منتهى العدل والحق(6/133)
ج 6 ، ص : 134
من الحاكم ، والقبول والإذعان من المحكوم له والمحكوم عليه ، وبهذا يحصل التفاضل بين الشرائع الإلهية والقوانين البشرية.
والخلاصة - إن مما ينبغى التعجب منه من أحوالهم أنهم يطلبون حكم الجاهلية الجائر ، ويؤثرونه على حكم اللّه العادل ، وفى الأول تفضيل القوىّ على الضعيف واستذلاله واستئصال شأفته ، وفى الثاني العدل الذي يستقيم به أمر الخلق ، وبه يستتب الأمن والرضا والطمأنينة بين الناس ويشعر كل منهم بالهدوء وراحة الضمير.
[سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 53]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)
تفسير المفردات
الولاية : ولاية التناصر والمحالفة على المؤمنين ، فى قلوبهم مرض : أي إن إيمانهم معتل غير صحيح ، الدائرة : ما يدور به الزمان من المصايب والدواهي التي تحيط بالمرء إحاطة الدائرة بما فيها ، والفتح : القضاء ، وهو يكون بفتح البلاد وبغير ذلك ، وحبطت أي بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها نفاقا كالصلاة والصيام والجهاد معكم فخسروا أجرها وثوابها.(6/134)
ج 6 ، ص : 135
المعنى الجملي
أخرج ابن أبى شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال : « جاء عبادة بن الصامت من بنى الخزرج إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه إن لى موالى من اليهود كثير عددهم ، وإنى أبرأ إلى اللّه ورسوله من ولاية يهود ، وأتولّى اللّه ورسوله ، فقال عبد اللّه بن أبىّ : إنى رجل أخاف الدوائر ، لا أبرأ من موالاة موالىّ ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعبد اللّه بن أبىّ « يا أبا الحباب ، أ رأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة فهو لك دونه » قال إذن أقبل فأنزل اللّه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى ... إلى قوله : وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
وروى أرباب السير : أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قدم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام : قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه أحدا ولا يوالوا عليه عدوه ، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم ، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة. وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه ، بل انتظروا ما يئول إليه أمره وأمر أعدائه ، ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره فى الباطن ، ومنهم من دخل معه فى الظاهر وهو مع عدوه فى الباطن ليأمن الفريقين ، وهؤلاء هم المنافقون.
وقد عامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره ربه به ، فصالح يهود المدينة وكتب بينه وبينهم كتاب أمن ، وكانوا ثلاثة طوائف حول المدينة : بنى قينقاع وبنى النضير ، وبنى قريظة - فحاربته بنو قينقاع بعد بدر وأظهروا البغي والحسد ، ثم نقض العهد بنو النضير بعد ذلك بستة أشهر ، ثم نقض بنو النضير العهد لما خرج إلى غزوة الخندق ، وكانوا من أشد اليهود عداوة للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، وقد حارب كل طائفة وأظهره اللّه عليها ، وكان نصارى العرب والروم حربا عليه كاليهود.(6/135)
ج 6 ، ص : 136
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) إلخ أي لا يوالى أفراد أو جماعات من المسلمين أولئك اليهود والنصارى المعاندين للنبى والمؤمنين ، ويعاهدونهم على التناصر من دون المؤمنين ، رجاء أن يحتاجوا إلى نصرهم إذا خذل المسلمون وغلبوا على أمرهم.
قال ابن جرير : إن اللّه تعالى نهى المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارا وحلفاء على أهل الإيمان باللّه ورسوله ، وأخبر أن من اتخذهم نصيرا وحليفا ووليّا من دون اللّه ورسوله فهو منهم فى التحزب على اللّه ورسوله والمؤمنين ، وأن اللّه ورسوله منه بريئان ... إلى أن قال : غير أنه لا شك أن الآية نزلت فى منافق كان يوالى يهود أو نصارى جزعا على نفسه من دوائر الدهر لأن الآية التي بعد هذه تدل على ذلك اه.
ثم ذكر علة هذا النهى فقال :
(بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي إن اليهود بعضهم أنصار بعض والنصارى بعضهم أنصار بعض ، ولم يكن للمؤمنين منهم ولى ولا نصير إذ كان اليهود قد نقضوا ما عقده الرسول معهم من العهد من غير أن يبدأهم بقتال ولا عدوان فصار الجميع حربا للرسول ومن معه من المؤمنين.
ثم توعد من يفعل ذلك فقال :
(وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي ومن ينصرهم أو يستنصر بهم من دون المؤمنين وهم أعداء لكم فإنه فى الحقيقة منهم لا منكم لأنه معهم عليكم ، إذ لا يتصور أن يقع ذلك من مؤمن صادق.
قال ابن جرير فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم ، فإنه لا يتولى متولّ أحدا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض ، وإذا رضيه ورضى دينه فقد عادى من خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه اه.
ومن هذا تعلم أنه إذا وقعت الموالاة والمحالفة والمناصرة بين المختلفين فى الدين(6/136)
ج 6 ، ص : 137
لمصالح دنيوية لا تدخل فى النهى الذي فى الآية ، كما إذا حالف المسلمون أمة غير مسلمة على أمة مثلها لا تفاق مصلحة المسلمين مع مصلحتها ، فمثل هذا لا يكون محظورا.
ثم ذكر العلة والسبب فى الوعيد السابق فقال :
(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن من يوالى أعداء المؤمنين وينصرهم أو يستنصر بهم فهو ظالم بوضعه الولاية فى غير موضعها ، واللّه لا يهديه لخير ولا يرشده إلى حق.
ثم أخبر أن فريقا من ضعاف الإيمان يفعل ذلك فقال :
(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ) أي فترى المنافقين الذين اعتل إيمانهم ولم يصل إلى مرتبة اليقين كعبد اللّه بن أبىّ وغيره من المنافقين يمتّون إلى اليهود بالولاء والعهود ، ويسارعون فى هذه السبيل التي سلكوها ، وكلما سنحت لهم الفرصة لتوثيق ولائهم وتأكيده ابتدروها ليزيد تمكنا وثباتا.
ثم ذكر السبب الذي حداهم إلى ذلك فقال :
(يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) أي يقولون بألسنتهم : نحن نخشى أن تقع بنا مصيبة من مصايب الدهر فنحتاج إلى نصرتهم لنا ، فعلينا أن نتخذ لنا أيادى عندهم فى السراء ، ننتفع بها إذا مستنا الضراء.
وخلاصة ذلك - إنهم يخشون أن تدول الدّولة لليهود أو المشركين على المؤمنين فيحل بهم العقاب ، لأنهم فى شك من نصر اللّه لنبيه وإظهار دينه على الدين كله ، إذ لم يوقنوا بنبوته ولا بصدقها ، وهكذا شأن المنافقين فى كل زمان ومكان ، فكثير من وزراء بعض الدول الضعيفة يتخذ له يدا عند دولة قوية يلجأ إليها إذا أصابته دائرة فتغلغل نفوذ هذه الدول فى أحشاء هذه الدولة ، وضعف استقلالها فى بلادها بعملهم ، وللّه الأمر من قبل ومن بعد.
ثم رد على هؤلاء المنافقين وقطع أطماعهم وبشر المؤمنين فقال :
(فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) أي فلعل اللّه بفضله وصدق ما وعد به رسوله يأتى بالفتح والفصل بين للمؤمنين(6/137)
ج 6 ، ص : 138
ومن يعاديهم من اليهود والنصارى ، أو بأمر من عنده فى هؤلاء المنافقين كفضيحتهم أو الإيقاع بهم ، فيصبحوا نادمين على ما كتموه وأضمروه فى أنفسهم من اتخاذ الأولياء على المؤمنين ، وتوقع الدوائر عليهم.
والفتح : إما فتح مكة الذي كان به ظهور الإسلام والثقة بقوته وإنجاز اللّه وعده لرسوله ، وإما فتح بلاد اليهود فى الحجاز كخيبر وغيرها ، والأمر إما الإيقاع باليهود وإجلاؤهم عن موطنهم وإخراجهم من حصونهم وصياصيهم ، وإما القهر والإيجاف عليهم بالخيل والركاب كبنى قريظة ، وإما بإلقاء الرعب فى قلوبهم حتى يعطوا بأيديهم كبنى النّضير ، وإما ضرب الجزية على اليهود والنصارى فينقطع أمل المنافقين ويندمون على ما كان من إسرارهم بالولاء لهم.
(وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ؟ ) أي ويقول بعض المؤمنين لبعض متعجبين من حال المنافقين ، إذا أقسموا بأغلظ الأيمان لهم إنهم معكم وإنهم معاضدوكم على أعدائكم اليهود ، فلما حل بهم ما حل أظهروا ما كانوا يسرّونه من موالاتهم وممالأتهم على المؤمنين كما قال فى سورة براءة « وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ » أي فهم لفرقهم وخوفهم يظهرون الإسلام تقيّة.
(حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) أي ويقول المؤمنون : حبطت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها نفاقا كالصلاة والصوم والجهاد معنا ليقنعونا بأنهم منا ، فخسروا بذلك ما كانوا يرجون لها من أجر وثواب لو صلحت حالهم وقوى إيمانهم.
وفى هاتين الآيتين إخبار بالغيب ، وقد صدق اللّه وعده ، وخذل الكافرين ، وفضح المنافقين ، والعاقبة للمتقين ، ولكن أنّى لهم أن يعتبروا بمثل هذا ؟ « وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ » .(6/138)
ج 6 ، ص : 139
[سورة المائدة (5) : آية 54]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن من يتولّى الكافرين من دون اللّه يعدّ منهم ، وأن الذين يسارعون فيهم مرضى القلوب مرتدون بتولّيهم إياهم ، فإن أخفوا ذلك فإظهارهم للإيمان نفاق.
بيّن هنا حقيقة دعمها بخبر من الغيب يظهره الزمن المستقبل ، فالحقيقة أن المنافقين ومرضى القلوب لا غناء فيهم ولا يعتد بهم فى نصر الدين وإقامة الحق فاللّه إنما يقيم دينه بصادقى الإيمان الذين يحبهم فيزيدهم رسوخا فى الحق وقوة على إقامته ، ويحبونه فيؤثرون ما يحبه من إقامة الحق والعدل على سائر ما يحبون من مال ومتاع وأهل وولد.
وخبر الغيب أنه سيرتدّ بعض الذين آمنوا عن الإسلام جهرا ولا يضره ذلك ، لأن اللّه تعالى يسخّر من ينصره ويحفظه.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) روى ابن جرير عن قتادة قال : أنزل اللّه هذه الآية وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس ، فلما قبض اللّه نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد - أهل المدينة وأهل مكة وأهل البحرين من عبد القيس - قالوا (أي المرتدون) نصلّى ولا نزكى ، واللّه لا تغصب أموالنا ، فكلّم أبو بكر فى ذلك فقيل له : إنهم لو قد فقهوا لهذا أعطوها وزادوها فقال : لا واللّه ، لا أفرق بين شىء(6/139)
ج 6 ، ص : 140
جمع اللّه بينه ، ولو منعوا عقالا مما فرض اللّه ورسوله لقاتلتهم عليه ، فبعث اللّه عصابة مع أبى بكر فقاتل على ما قاتل عليه نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى سبى وقتل وحرق بالنيران أناسا ارتدوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة ، فقاتلهم حتى أقروا بالماعون (الزكاة) صغرة (واحدهم صاغر ، وهو المهين الذليل) أقمياء (واحدهم قمىء ، وهو الذليل الضعيف) فأتته وفود العرب فخيرهم بين خطّة محزية أو حرب مجلية ، فاختاروا الخطة المخزية (وكانت أهون عليهم) أن يقروا أن قتلاهم فى النار : وأن قتلى المؤمنين فى الجنة ، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردوه عليهم ، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال اه.
وعلى هذا فالقوم الذين يحبهم اللّه ويحبونه هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ، قاله قتادة والضحاك ، ورجح ابن جرير أن الآية نزلت فى قوم أبى موسى الأشعري من أهل اليمن ، لما
روى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال : - هم قوم أبى موسى -
وإن لم يكونوا قاتلوا المرتدين مع أبى بكر ، لأن اللّه وعد بأن يأتى بخير من المرتدين بدلا منهم ، ولم يقل إنهم يقاتلون المرتدين ، ويكفى فى صدق الوعد أن يقاتلوا ولو غير المرتدين.
وقد ارتد كثير من القبائل فى عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم وبعده ، فقد ارتدت إحدى عشرة فرقة منها ثلاث فى عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وهم :
(1) بنو مدلج ورئيسهم ذو الخمار وهو الأسود العنسي وكان كاهنا ، تنبأ باليمن واستولى على بلاده وأخرج عمال النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فكتب النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وسادات اليمن ، فأهلكه اللّه على يدى فيروز الدّيلمى ، بيّته فقتله ، وأخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقتله فسرّ به المسلمون ، وقبض عليه السلام من الغد.
(2) بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب ، وقد تنبأ مسيلمة وكتب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من مسيلمة رسول اللّه إلى محمد رسول اللّه ، سلام عليك : أما بعد(6/140)
ج 6 ، ص : 141
فإنى قد أشركت فى الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشا قوم يعتدون ، فكتب إليه النبي صلى اللّه عليه وسلم : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، من محمد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذاب (السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى ، أما بعد ف إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وكان ذلك سنة عشر ، وحاربه أبو بكر ، وقتله وحشىّ قاتل حمزة ، وكان يقول : قتلت فى جاهليتى خير الناس ، وفى إسلامى شر الناس.
(3) بنو أسد وزعيمهم طليحة بن خويلد ، وقد تنبأ فبعث إليه أبو بكر خالد بن الوليد فانهزم وهرب إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه.
وارتدت سبع فى عهد أبى بكر ، وهم :
(1) فزارة قوم عينية بن حصن.
(2) غطفان قوم قرّة بن سلمة القشيري.
(3) بنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل.
(4) بنو يربوع قوم مالك بن نويرة.
(5) بعض بنى تميم وزعيمته سجاح بنت المنذر الكاهنة ، وقد تنبأت وزوجت نفسها من مسيلمة ، ولها قصص طويل فى التاريخ ، وصح أنها أسلمت بعد ذلك وحسن إسلامها.
(6) كندة قوم الأشعث بن قيس.
(7) بنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد ، وقد كفى اللّه المؤمنين شرهم على يد أبى بكر رضى اللّه عنه ، وارتدت قبيلة واحدة فى عهد عمر رضي اللّه عنه وهم غسّان قوم جبلة بن الأيهم ، تنصّر جبلة ولحق بالشام ومات مرتدا. ويروى أن عمر كتب إلى أحبار الشام لما لحق بهم كتابا جاء فيه : إن جبلة ورد إلىّ فى سراة قومه فأسلم فأكرمته ثم سار إلى مكة فطاف فوطئ إزاره رجل من بنى فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه فاستعدى الفزاري على جبلة إلىّ فحكمت إما بالعفو وإما بالقصاص ، فقال :
أتقتص منى وأنا ملك وهو سوقة ، فقلت شملك وإياه الإسلام ، فما تفضله إلا بالعافية ،(6/141)
ج 6 ، ص : 142
فسأل جبلة التأخير إلى الغد ، فلما كان من الليل ركب مع بنى عمه ولحق بالشام مرتدا.
وروى أنه ندم على ما فعل وأنشد :
تنصّرت بعد الحق عارا للطمة ولم يك فيها لو صبرت لها ضرر.
فأدركنى منها لجاج حميّة فبعت لها العين الصحيحة بالعور
فياليت أمي لم تلدنى وليتنى صبرت على القول الذي قاله عمر
وهؤلاء المرتدون لم يقاتلهم أحد ، فإن أبا بكر هو الذي قاتل جماهير المرتدين بمن معه من المهاجرين والأنصار وقد وصف اللّه هؤلاء المؤمنين بست صفلت.
(1) إنه تعالى يحبهم ، وحبّه تعالى وبغضه شأن من شئونه لا نبحث عن كنهه ولا عن كيفيته.
(2) إنهم يحبون اللّه تعالى ، وحب المؤمنين للّه جاء فى غير موضع من القرآن كقوله : « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ »
وفى حديث أنس فى الصحيحين « ثلاثة من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون اللّه ورسوله أحبّ إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا للّه ، وأن يكره أن يعود فى الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه كما يكره أن يلقى فى النار » .
(3 ، 4) الذلة على المؤمنين والعزة على الكافرين وهما بمعنى ما جاء فى قوله تعالى :
« أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ » (5) الجهاد فى سبيل اللّه ، وسبيل اللّه هو طريق الحق والخير الموصلة إلى مرضاته تعالى ، ومن أعظم الجهاد بذل النفس والمال فى قتال أعداء الحق ، وهو من أكبر آيات المؤمنين الصادقين.
(6) كونهم لا يخافون لومة لائم ، وفى ذلك تعريض بالمنافقين الذين يخافون لوم أوليائهم من اليهود لهم إذا هم قاتلوا مع المؤمنين ، إذ هم لا يرغبون فى جزاء أو ثناء من الناس ، بل يعملون العمل لإحقاق الحق وإبطال الباطل.(6/142)
ج 6 ، ص : 143
(ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي ذلك الذي تقدم من الصفات فضل اللّه يعطيه من يشا من عباده وبه يمتازون عن غيرهم ، وهذه المشيئة وفق السنن التي أقام بها أمر النظام فى خلقه فجعل من الناس الكسب والعمل نفسيا كان أو بدنيا ، ومنه سبحانه آلات الكسب والقوى ما بين بدنية وعقلية ، حسية ومعنوية ، كما أن منه التوفيق والهداية واللطف والمعونة.
(وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فعلينا ألا نغفل عن فضله ومنته ، ولا عما يقتضيه ذلك من الشكر له والإنابة إليه ، والإخبات والعبادة له.
[سورة المائدة (5) : الآيات 55 الى 56]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه فى الآيات المتقدمة عن موالاة الكافرين ، أمر فى هذه الآية بموالاة من تجب موالاتهم ، وهم اللّه ورسوله والمؤمنون.
الإيضاح
(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي لا ولىّ لكم أيها المؤمنون ولا ناصر ينصركم إلا اللّه ورسوله والمؤمنون الصادقون الذين اتصفوا بتلك الصفات الآتية بعد :
وفى هذا تعريض بمن ينصر مرضى القلوب فى توليهم الكفار من دون اللّه ولما كانت كلمة (المؤمنين) تشمل كل من أسلم ولو ظاهرا بيّن المراد منها بقوله :
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) قال فى الأساس : العرب تسمى من آمن باللّه ولم يعبد الأوثان راكعا ، وقال أبو مسلم المراد بالركوع الخضوع(6/143)
ج 6 ، ص : 144
أي إن المؤمنين الذين يقومون بحق الولاية والنصرة لكم هم الذين يقيمون الصلاة ويؤدونها حق الأداء باشتمالها على الآداب الظاهرة والباطنة ، ويعطون الزكاة مستحقيها وهم خاضعون لأوامر اللّه مع طيب نفس وهدوء بال لا خوفا ولا رياء ولا سمعة ، دون المنافقين الذين يقولون : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ويأتون بصورة الصلاة لا بروحها ومعناها المقصود منها ، فإذا هم قاموا إليها قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون اللّه إلا قليلا.
(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ) أي إذا كان اللّه وليكم وناصركم ، وكان الرسول والذين آمنوا أولياء لكم بالتبع لولايته فأنتم بذلك حزب اللّه واللّه ناصركم ، ومن يتولّ اللّه بالإيمان به والتوكل عليه ويتول الرسول والمؤمنين بنصرهم وشد أزرهم والاستنصار لهم دون أعدائهم فإنهم هم الغالبون ، ولا يغلب من يتولاهم ، لأنهم حزب اللّه.
[سورة المائدة (5) : الآيات 57 الى 63]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61)
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)(6/144)
ج 6 ، ص : 145
تفسير المفردات
نقم منه كذا : إذا أنكره عليه وعابه به بالقول أو الفعل ، والمثوبة : من ثاب إليه إذا رجع ، ويراد به الجزاء والثواب ، والطاغوت : من الطغيان ، وهو مجاوزة الحد المشروع وهو يشمل كل من أطاعوه فى معصية اللّه تعالى ، والسحت : الدنيء من المحرمات.
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء من دونه وبين العلة فى ذلك فأرشد إلى أن بعضهم أولياء بعض ، ولا يوالى المؤمنين منهم أحد ، ولا يواليهم ممن يدعون الإيمان إلا مرضى القلوب والمنافقون الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر.
أعاد النهى هنا عن اتخاذ الكفار عامة أولياء مع بيان الوصف الذي لأجله كان النهى ، وهو إيذاؤهم للمؤمنين بجميع ضروب الإيذاء ، ومقاومتهم دينهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) أي لا تتخذوا اليهود والنصارى الذين جاءتهم الرسل والأنبياء وأنزلت عليهم الكتب من قبل بعث نبينا صلى اللّه عليه وسلم ومن قبل نزول كتابنا - أولياء وأنصارا حلفاء ، فإنهم لا يألونكم خبالا وإن أظهروا لكم مودة وصداقة ،(6/145)
ج 6 ، ص : 146
ذلك لأنهم اتخذوا هذا الدين هزوا ولعبا فكان أحدهم يظهر الإيمان للمؤمنين وهو على كفره مقيم ، وبعد اليسير من الزمن يظهر الكفر بلسانه بعد أن كان يبدى الإيمان قولا وهو مستبطن للكفر تلاعبا بالدين واستهزاء به كما قال تعالى عنهم « وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ » .
وكذلك نهى اللّه عن موالاة جميع المشركين ، لأن موالاة المسلمين لهم بعد أن أظهرهم اللّه عليهم بفتح مكة ودخول الناس فى دين اللّه أفواجا - تكون قوة لهم وإقرارا على شركهم الذي جاء الإسلام لمحوه من جزيرة العرب.
وقد نهج الإسلام مع أهل الكتاب سياسة غير سياسته مع مشركى العرب ، فأباح أكل طعامهم ونكاح نسائهم وشرع قبول الجزية منهم وإقرارهم على دينهم.
وخصهم هنا بلقب أهل الكتاب ولقّب المشركين بالكفار ، وفى آيات أخرى بالمشركين والذين أشركوا ، لأنهم لوثنيتهم عريقون فى الشرك والكفر أصلاء فيه ، أما أهل الكتاب فالشرك والكفر قد عرض للكثير منهم عروضا وليس من أصل دينهم.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي وخافوا اللّه أيها المؤمنون فى موالاة هؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا حتى لا يضيع الغرض منها وتكون وهنا لكم ونصرا لهم - إن كنتم صادقى الإيمان تحفظون كرامته وتجتنبون مهانته ، وتصدقون بالجزاء والوعيد علىمعصيته تعالى (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً) أي وإذا أذّن مؤذنكم داعيا إلى الصلاة سخر من دعوتكم إليها من نهيتم عن ولايتهم من أهل الكتاب والمشركين ، واتخذوها هزوا ولعبا.
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) أي ذلك الفعل الذي يفعلونه وهو الهزؤ والسخرية(6/146)
ج 6 ، ص : 147
إنما كان لجهلهم بحقيقة الأديان وما أوجب اللّه فيها من تعظيمه والثناء عليه بما هو أهله ، ولو كان عندهم عقل لخشعت قلوبهم كلما سمعوا المؤذن يكبر اللّه تعالى ويمجده بصوته الندىّ ويدعو إلى الصلاة له والفلاح بمناجاته وذكره ، فهو ذكر مؤثّر فى النفوس لا تخفى محاسنه على من يعقل الحكمة فى إرسال الشرائع ويؤمن باللّه العلى الكبير.
(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ ؟ ) أي قل يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى :
هل تعيبون علينا من شىء وتكرهوننا لأجله ، إلا إيماننا الصادق باللّه وتوحيده وإثبات صفات الكمال له ، وإيماننا بما أنزل إلينا وبما أنزل من قبل على رسله ، لقلة إنصافكم ، ولأن أكثركم فاسقون خارجون عن حظيرة الإيمان الصحيح وليس لكم من الدين إلا العصبية الجنسية ، والتقاليد الباطلة.
والخلاصة - إنه ما عندنا سوى ذلك ، وهذا مما لا يعاب ولا ينقم منه ، بل يمدح صاحبه ويكرم ، لكنكم لفسقكم وخروجكم من حظيرة الدين الصحيح عبتم الحسن من غيركم ، ورضيتم بالقبيح من أنفسكم.
روى ابن جرير عن ابن عباس قال « أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نفر من اليهود أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبى رافع فى جماعة فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال : (أومن بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا لا نؤمن بمن آمن به فأنزل اللّه فيهم (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ ...) » إلخ.
وفى قوله : (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) دقة فى الأحكام على الأمم والشعوب ، إذ هو يحكم على الكثير أو الأكثر وما عمم إلا استثنى ، وقد كان فى أهل الكتاب ناس لا يزالون معتصمين بأصول الدين وجوهره من التوحيد وحب الحق والعدل ، وهؤلاء هم الذين سارعوا إلى الإسلام عند ما عرفوا حقيقة أمره وتجلى لهم صدق الداعي إليه(6/147)
ج 6 ، ص : 148
ثم ردّ على الاستفهام التهكمى باستفهام تهكمى مثله فقال :
(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ) استعمال المثوبة فى الجزاء الحسن أكثر من استعمالها فى الجزاء السيّء ، وقيل إن استعمالها فى الجزاء السيّء من باب التهكم والازدراء.
أي هل أنبئكم أيها المستهزءون بديننا وأذاننا مما هو شر من عملكم هذا جزاء وثوابا عند اللّه.
وهذا السؤال يستدعى سؤالا منهم عن ذلك الذي هو شر (ما هو) فأجابهم بقوله (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) من لعنه اللّه : أي جزاء من لعنه على حد قوله تعالى « وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى » أي ولكن البر برّ من اتقى أي إن الذي هو شر من ذلك ثوابا وجزاء جزاء من لعنه اللّه وغضب عليه إلخ.
وفى هذا انتقال بهم من تبكيت لهم بإقامة الحجة على هزئهم ولعبهم بما ذكر - إلى ما هو أشد منه تبكيتا وتشنيعا عليهم ، ذلك هو التذكير بسوء حال آبائهم مع أنبيائهم وما كان من جزاء اللّه لهم على فسقهم وتمردهم بأشد ما جازى به الفاسقين الذين ظلموا أنفسهم - من اللعن والغضب والمسخ وعبادة الطاغوت.
أما اللعن فقد ذكر فى عدة مواضع من القرآن الكريم مع بيان أسبابه ، والغضب الإلهى يستلزم اللعنة ، واللعنة تلزمه ، إذ هى منتهى المؤاخذة لمن غضب اللّه عليه.
وأما جعله منهم قردة وخنازير فقد تقدم فى سورة البقرة « وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ » وسيأتى فى سورة الأعراف « فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ » وجمهرة العلماء على أنهم مسخوا فكانوا قردة وخنازير على الحقيقة وانقرضوا ، لأن الممسوخ لا يكون له نسل ، ونقل ابن جرير عن مجاهد أنه قال : مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه اللّه لهم كما ضرب المثل بقوله « كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً » .(6/148)
ج 6 ، ص : 149
(أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) أي إن أولئك الذين اتصفوا بما ذكر من المخازي وشنيع الأمور شر مكانا ، إذ لا مكان لهم فى الآخرة إلا النار ، وهم أضل عن قصد سواء الطريق ووسطه الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.
ومثل هؤلاء لا يحملهم على الاستهزاء بدين المسلمين وبصلاتهم وأذانهم إلا الجهل وعمى البصيرة.
ثم بين حال المنافقين منهم فقال :
(وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) أي وإذا جاءكم المنافقون من اليهود قالوا للرسول ولكم إننا آمنا بالرسول وما أنزل عليه ، وحالهم الواقعة منهم أنهم دخلوا عليكم وهم مقيمون على الكفر والضلال وخرجوا وهم كذلك ، فحالهم عند خروجهم كحالهم عند دخولهم لم يتحولوا عن كفرهم بالرسول وما نزل من الحق ؟
ولكنهم قوم دأبهم الخداع والنفاق كما جاء فى سورة البقرة : « وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ؟ » الآية.
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) حين دخولهم من قصد تسقّط الأخبار والتوسل إلى ذلك بالنفاق والخداع ، وحين خروجهم من الكيد والمكر والكذب الذي يلقونه إلى البعداء من قومهم كما علمت مما سلف عند قوله (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ).
وفى قوله : وهم قد خرجوا به تأكيد لكونهم حين الخروج كما هم حين الدخول ، واحتيج إليه لمجيئه على خلاف المعروف ، لأن من كان يجالس الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه يسمع منه العلم والحكمة ، ويرى من أحاسن أخلاقه ما يؤثّر فى القلوب ويلين قاسيها - يرجع عن سوء عقيدته ، وتصفو نفسه من كدورتها إلا إذا كان متعنتا مخادعا ، فإن الذكرى لا تنفعه ، والعظات والزواجر لا تؤثر فيه.
وقد كان الرجل يجىء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم يريد قتله حتى إذا رآه وسمع كلامه انجابت عن قلبه ظلمات الكفر والفسوق وآمن به وأحبه ، وما شذّ هؤلاء(6/149)
ج 6 ، ص : 150
إلا لسوء نيتهم ، وفساد طويّتهم ، وذلك ما صرف قلوبهم عن التذكر والاعتبار ووجّه هممهم إلى الكيد والخداع ، فلم يكن لديهم عقول تعى وتفقه مغزى الحكم والآداب.
ثم ذكر من شئونهم ما هو شر مما سلف فقال :
(وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي وترى أيها الرسول كثيرا من هؤلاء اليهود الذين اتخذوا دينك هزوا ولعبا - يسارعون فى الظلم والعدوان وتجاوز الحدود التي ضربها اللّه للناس ، وفى أكل السحت وكل ما يعود على فاعله بالضرر فى الدين والدنيا ، فهم غارقون فى الإثم والعدوان ، فكلما قدروا عليهما ابتدروهما ولم يتأخروا عن ارتكابهما.
ثم بالغ فى قبح هذه الأعمال فقال :
(لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي واللّه ما أقبح هذا العمل الذي يعمله هؤلاء من مسارعتهم فى كل ما يفسد الأخلاق ، ويدنّس النفوس ، ويقوّض نظم المجتمع ، وويل للأمة التي يعيش فيها أمثال هؤلاء ، فهلّا نهاهم علماؤهم وزهادهم وعبّادهم عن أفعالهم بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر قبل أن يستفحل الشر ، ويعم الضّر ؟ وإلى هذا أشار بقوله :
(لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) قال فى الكشاف : لا يسمى العامل صانعا ولا العمل صناعة حتى يتمكن فيه العامل ويتدرب وينسب إليه ، وفاعل المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها ، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه فى فعل غيره ، فإذا فرّط فى الإنكار على المعصية كان أشد إثما وأعظم جرما من الفاعل لها اه.
أي هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون فيما ذكر من المعاصي - أئمتهم فى التربية والسياسة ، وعلماء الدين من الأحبار والرهبان ، لبئس ما كانوا يصنعون من الرضى بهذه الأوزار والخطايا ، وتركهم فريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
روى عن ابن عباس أنه قال : ما فى القرآن أشد توبيخا من هذه الآية - يريد بذلك أنها حجة على العلماء إذا هم قصروا فى الهداية والإرشاد ، وتركوا النهى عن الشرور(6/150)
ج 6 ، ص : 151
والآثام التي تفسد نظم الحياة للفرد والمجتمع ، فحق على العلماء والحكام أن يعتبروا بهذا النعي على اليهود ساسة وعلماء ومربّين فيزدجروا ويعلموا أن هذه موعظة وذكرى لهم إن نفعت الذكرى.
[سورة المائدة (5) : الآيات 64 الى 66]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)
تفسير المفردات
لليد لغة معان عدة : الجارحة ، والنعمة ، تقول لفلان عندى يد أشكره عليها ، والقدرة كما قال تعالى « أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ » أي ذوى القوة والعقول والملك ، كما تقول هذه الضيعة فى يد فلان أي ملكه وقال تعالى « الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ » أي فى ملكه ، وغلّت أيديهم أي أمسكت وانقبضت عن العطاء ، وهو دعاء عليهم بالبخل ، يداه مبسوطتان أي هو كثير العطاء ، والحرب : ضد السلم فهى تصدق بالإخلال بالأمن والسلب والنهب ولو بغير قتل ، وبتهييج الفتن والإغراء بالقتل ، وإقامة التوراة : العمل بما فيها على أتم الوجوه سواء فى ذلك عمل النفس بالإيمان والإذعان ، وعمل الجوارح(6/151)
ج 6 ، ص : 152
والقوى البدنية ، وقوله : لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم أي لوسع اللّه عليهم موارد الرزق ، والمقتصدة : المعتدلة فى أمر الدين فلا تغلو بالإفراط ولا تهمل بالتقصير.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فى الآيات السالفة بعض مخازيهم من مسارعتهم فى الإثم والعدوان وأكل السحت إلى نحو أولئك مما اختلت به نظم المجتمع فى الأفراد والجماعات ، فأصبحوا قوما أنانية ، همة كل واحد منهم جمع المال واكتسابه على أىّ صورة كان وبأى وجه جمع ، وقد أثّر هذا فى أخلاقهم وأعمالهم أشد الأثر كما تشهد بذلك كتب دينهم - ذكر هنا أفظع مخازيهم وأقبحها ، بجرأتهم على ربهم ووصفهم إياه بما ليس من صفته ، وإنكارهم جميل أياديه عندهم ، وكثرة صفحه عنهم ، وعفوه عن عظيم جرمهم توبيخا لهم ، وتعريفا لنبيه صلى اللّه عليه وسلم قديم جهلهم ، واحتجاجا له بأنه مبعوث ورسول ، إذ أخبر بخفي علومهم ومكنون أخبارهم التي لا يعلمها إلا أحبارهم دون غيرهم من اليهود.
روى ابن إسحق والطبراني عن ابن عباس قال « قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس للنبى صلى اللّه عليه وسلم : إن ربك بخيل لا ينفق فأنزل اللّه (وَقالَتِ الْيَهُودُ ...) » الآية
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنها نزلت فى فنحاص رأس يهود بنى قينقاع. وروى ابن جرير عن عكرمة مثله ، وروى عن مجاهد أنهم قالوا : لقد يجهدنا اللّه يا بنى إسرائيل حتى جعل يده إلى نحره - يريدون أنه ضيّق عليهم الرزق.
وروى عن ابن عباس أنه قال : ليس يعنون بذلك أن يد اللّه موثقة ، لكنهم يقولون إنه بخيل أمسك ما عنده ، تعالى ربنا عما يقول الظالمون.
الإيضاح
(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) أي قال ذلك بعض منهم ، ونسبه إلى الأمة بناء على التكافل العام بين أفرادها وكونها كالشخص الواحد ، وأن الناس فى كل زمان(6/152)
ج 6 ، ص : 153
يعزون إلى الأمة ما يسمعون من بعض أفرادها وقد جرت سنة القرآن أن ينسب إلى المتأخرين ما قاله أو فعله سلفهم منذ قرون.
ولا عجب فى صدور هذا القول من بعض الأشخاص منهم ، فإنا نرى من المسلمين فى عصرنا مثله فى الشكوى من اللّه عز وجل والاعتراض عليه عند الضيق وفى إبّان المصايب.
ثم دعا عليهم بالبخل والطرد من رحمته فقال :
(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) هذا دعاء عليهم بالبخل وانقباض الأيدى عن العطاء والإمساك عن الإنفاق فى سبيل البر والخير وما زالوا أبخل الأمم ، فلا يكاد أحد منهم يبذل شيئا إلا إذا كان يرى أن له من ورائه ربحا ، كما دعا عليهم بالطرد والبعد من رحمته وعنايته الخاصة بعباده المؤمنين.
وقيل إن المراد بغل الأيدى ربطها إلى الأعناق بالأغلال فى الدنيا أو فى النار أو فيهما ، فقد نقل عن الحسن البصري أنه قال : يغلّون فى الدنيا أسارى ، وفى الآخرة معذبين بأغلال جهنم ، وقال فى تفسير اللعنة : عذّبوا فى الدنيا بالجزية وفى الآخرة بالنار.
ثم رد سبحانه عليهم ما قالوه وأثبت لنفسه غاية الجود وسعة العطاء وأن كل ما فى العالم من خير هو سجل من ذلك الجود فقال :
(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) أي بل هو الجواد المتصرف وفق حكمته وسننه فى الاجتماع.
وتقتير الرزق على بعض العباد لا ينافى سعة الجود ، وسريانه فى كل الوجود ، فإن له سبحانه الإرادة والمشيئة فى تفضيل بعض الناس على بعض فى الرزق بحسب السنن التي أقام بها نظام الخلق.
وعبر عن سعة الجود ببسط اليدين ، لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ فى العطاء جهد استطاعته ، يعطى بكلتا يديه كما قال الأعشى يمدح جوادا :
يداك يدا جود فكفّ مفيدة وكفّ إذا ما ضنّ بالزاد تنفق(6/153)
ج 6 ، ص : 154
(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) أي إن هذا الذي أنزلناه عليك أيها النبي من خفىّ أمور هؤلاء اليهود المعاصرين لك ، ومن أحوال سلفهم ، وشئون كتبهم ، وحقائق تاريخهم - هو من أعظم الأدلة على نبوتك ، وكان ينبغى أن يجذبهم إلى الإيمان بك ، إذ لولا النبوة والوحى ما علمت من هذا شيئا ، فلا تعرف الماضي لأنك أمي لم تقرأ الكتب ، ولا تعرف الحاضر لأنه من مكرهم الخفىّ ، وكيدهم السّرّى - لكنهم لطغيانهم وتجاوزهم الحدود فى الكفر والحسد للعرب لم يجذبهم ذلك إلى الإيمان ، ولم يقرب إلا قليلا منهم ، وو اللّه ليزيدين ذلك كثيرا منهم طغيانا فى بغضك وعداوتك ، وكفرا بما جئت به.
وقال قتادة : حملهم حسد محمد صلى اللّه عليه وسلم والعرب على أن تركوا القرآن وكفروا بمحمد ودينه.
(وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي وألقينا بين اليهود والنصارى العداوة والبغضاء فهى لا تنقطع أبدا ، وهى على أشدها الآن فى روسيا وألمانيا ، وأقلها فى انجلترا وفرنسا.
واليهود مع كونهم المديرين لأعظم الأعمال المالية ولهم النفوذ والتأثير فى السياسة وسائر شئون الاجتماع مبغوضون من جماهير النصارى.
وقد ألّفت كتب كثيرة فى فرنسا وغيرها فى التحريض عليهم ، واستأصلت شأفتهم ألمانيا وكثير من البلاد المجاورة لها بعد الحرب العظمى ، وأصبح هذا الشعب عندهم من أقبح شعوب العالم ، وكذلك العداوة بين بعض النصارى وبعض لا تزال آثارها تظهر بين حين وآخر لدى الدول الكبرى القوية ، فهى دائما فى استعداد لحرب يسحق بها بعضهم بعضا ، والحرب القائمة الآن بين الدول المسيحية الكبري أكبر برهان على صدق ذلك.
(كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ) أي كلما هموا بالكيد للرسول وللمؤمنين الصادقين خذلهم اللّه ، وهم إما أن يخيبوا فى سعيهم ولا يتم لهم ما أرادوا من الإغراء والتحريض ، وإما أن ينصر اللّه رسوله والمؤمنين.(6/154)
ج 6 ، ص : 155
والمعروف فى كتب السيرة أن اليهود كانوا يغرون المشركين بالنبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين ، ومنهم من سعى لتحريض الروم على غزوهم ، ومنهم من كان يؤوى أعداءهم ويساعدهم ، ككعب بن الأشرف ، وما سبب ذلك إلا الحسد والعصبية ، وخوف الأحبار والرهبان من إزالة الإسلام لامتيازاتهم العلمية والدينية التي كانوا معروفين بها فى بلاد الحجاز ، فكانت عداوتهم للمسلمين عداوة سياسية جنسية ليست من طبيعة الدين ولا روحه ، والدليل على ذلك أن اليهود كان لهم ضلع بعد ذلك مع المسلمين فى الشام والأندلس ، لما رأوا من عدلهم وإزالة الجور والظلم الذي كان عليه الروم والقوط.
وكذلك عداوة النصارى للمسلمين كانت سياسية وكانت على أشدها بينهم وبين الروم المستعمرين للبلاد المجاورة للحجاز كالشام ومصر ، وكان نصارى البلاد أقرب ميلا إلى المسلمين بعد أن وثقوا بعدلهم ، وزال عنهم ظلم الروم مع كونهم من أهل دينهم ، وقد جرت العادة أن الناس يتبعون فى العداوة أو المودة ما تمليه عليهم منافعهم ومصالحهم.
(وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أي إن ما يأتونه من عداوة النبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين وإيقاد الفتن والحروب لم يكن بقصد الإصلاح للأخلاق وشئون العمران والاجتماع ، بل كانوا يقصدون السعى فى الأرض للفساد ، ويحاولون الكيد للمؤمنين ومنع اجتماع كلمة العرب ، ويودون ألا يخرجوا من الأمية إلى العلم والعرفان ، ولا من الوثنية إلى التوحيد ، حسدا لهم وحبا فى دوام امتيازهم عنهم.
(وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) فى الأرض بل يبغضهم ، ومن ثم لا ينجح سعيهم ، ولا يصلح عملهم ، لأنهم يريدون أن يبطلوا حكمته تعالى فى صلاح الناس ، وعمران البلاد.
ومن ثم أبطل سبحانه كل ما كاده أولئك القوم للنبى صلى اللّه عليه وسلم والعرب والإسلام ، وأصلح بالإسلام ما كانوا خرّبوه من البلاد ، ونصر المسلمين على كل من ناوأهم ، وكذلك هم تركوا التوراة والإنجيل وهما قد أنزلا لهداية الناس إلى الصلاح والإصلاح ، فزال ملكهم وسلط اللّه عليهم غيرهم.(6/155)
ج 6 ، ص : 156
ثم ندّمهم على سوء أعمالهم فقال :
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي ولو أنهم آمنوا باللّه ورسوله واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم لكفرنا عنهم سيئاتهم التي اقترفوها ومحونا عنهم ذنوبهم ولم نفضحهم بها ، ولأدخلناهم فى الآخرة جنات ينعمون بها.
وفى ذلك إعلام من اللّه بعظم معاصى اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم ، ودلالة على سعة رحمته ، وفتحه باب التوبة لكل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبلغ سيئات اليهود والنصارى ، وإخبار بأن الإيمان لا ينجّى إلا إذا شفع بالتقوى ، ومن ثم قال الحسن : هذا العمود فأين الأطناب ؟
(وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي ولو أقاموا ما فى التوراة والإنجيل المنزّلين بنور التوحيد ، المبشّرين بالنبي الذي يأتى من أبناء إسماعيل ، والذي قال فيه عيسى عليه السلام :
إنه روح الحق الذي يعلمهم كل شى.
وأقاموا ما أنزل إليهم من ربهم على هذا النبي الكريم الذي بشرت به كتبهم - لوسع اللّه عليهم رزقهم ، ولأعطتهم السماء مطرها وبركتها ، والأرض نباتها وخيرها ، كما قال تعالى : « لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ » .
وفى هذا تنبيه إلى أن ما أصابهم من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم ، لا من قصور فى فيض اللّه وعظيم عطائه ، وإشارة إلى أنهم لو أقاموهما ما عاندوا النبي ذلك العناد ، فالدين عندهم إنما كان أمانى يتمنّونها ، وبدعا وتقاليد يتوارثونها ، فهم بين غلوّ وتقصير وإفراط وتفريط.
ثم ذكر أنهم ليسوا سواسية فى أفعالهم وأقوالهم فقال :
(مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) أي منهم جماعة معتدلة فى أمر دينها لا تفرط ولا تهمل ، وهم الذين أسلموا كعبد اللّه بن سلام وأضرابه من اليهود ،(6/156)
ج 6 ، ص : 157
والنجاشي وأصحابه من النصارى ، وكثير منهم أجلاف متعصبون ، ساء ما يعملون من كفرهم باللّه واجتراح المعاصي ، ويزعم النصارى منهم أن المسيح ابن اللّه ويكذبون بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، ويكذب اليهود بعيسى ومحمد صلى اللّه عليهما.
والمعتدلون لا تخلو منهم أمة ، لكنهم يكثرون فى طور صلاح الأمة وارتقائها ، ويقلّون فى طور فسادها وانحلالها ، ولا تهلك الأمم إلا بكثرة من يعمل السوء من أشرارها ، وقلة من يعمل الصالحات من أخيارها ، وهؤلاء المعتدلون هم السباقون إلى كل صلاح وإصلاح يقوم به المجددون من الأنبياء فى مختلف العصور ، ومن ثم قبل هذا الدين الجديد هؤلاء المقتصدون من أهل الكتاب ومن غيرهم فكانوا مع إخوانهم العرب من المجددين للتوحيد والفضائل والآداب ، والمحبين للعلوم والفنون.
روي ابن أبى حاتم عن جبير بن نفير أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « يوشك أن يرفع العلم ، قلت : وكيف وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا ؟ فقال :
ثكلتك أمك يا ابن نفير ، إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة ، أو ليست التوراة والإنجيل بأيدى اليهود والنصارى ، فما أغنى ذلك عنهم حين تركوا أمر اللّه ، ثم قرأ : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) الآية » .
وأخرج أحمد وابن ماجه عن زياد بن لبيد قال : « ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم شيئا فقال : وذلك عند ذهاب العلم ، قلنا : يا رسول اللّه وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ قال : ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة ، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشى ء » .
ومغزى هذا أن العبرة فى الأديان هو العمل بها والاهتداء بهديها ، وقد كان أهل الكتاب فى ذلك العصر أبعد ما كانوا عن هداية دينهم مع شدة عصبيتهم الجنسية له ، كما هو شأن المسلمين اليوم.
وهذه الشهادة لبعض أهل الكتاب بالقصد والاعتدال لها نظائر فى آيات أخرى(6/157)
ج 6 ، ص : 158
كقوله تعالى : « وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ » وقوله « وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ » الآية.
[سورة المائدة (5) : الآيات 67 الى 69]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي يا أيها الرسول بلّغ إلى الخلق جميع ما أنزل إليك من ربك مالك أمرك ومبلّغك إلى كمالك ، ولا تخش فى ذلك أحدا ولا تخف أن ينالك من ذلك مكروه.
ثم أكد ما سلف بقوله :
(وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) أي وإن لم تفعل ما أمرت به من التبليغ لما أنزل إليك ، بأن كتمته ولو إلى حين خوفا من الأذى بالقول أو بالفعل - فحسبك جرما أنك ما بلغت الرسالة ولا قمت بما بعثت لأجله ، وهو تبليغ الناس ما أنزل إليهم من ربهم كما قال تعالى « إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ » .
والحكمة فى التصريح بالأمر بالتبليغ وتأكيده بجعل كتمان بعضه ككتمان(6/158)
ج 6 ، ص : 159
كله ، مع العلم بأن الرسل صلوات اللّه عليهم معصومون من كتمان شىء مما أمرهم اللّه بتبليغه وإلا بطلت حكمة الرسالة بعدم ثقة الناس بالتبليغ - الحكمة فى ذلك بالنظر إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم إعلامه بأن التبليغ حتم لا يجوز كتمانه على أي حال بتأخير شىء عن وقته على سبيل الاجتهاد ، ولولا هذا النص لكان للرسول أن يجتهد بتأخير بعض الوحى إلى أن يقوى استعداد الناس لقبوله ، ولا يحملهم سماعه على رده وإيذاء الرسول لأجله.
والحكمة بالنسبة إلى الناس أن يعرفوا هذه الحقيقة بالنص ، فلا يعذروا إذا اختلفوا فيها باختلاف الرأى والفهم.
ومن هذا تعلم أن ما نقل من الأقوال والآراء من جواز كتمان بعض الوحى غير القرآن عن كل الناس أو عن جمهورهم لا يتفق مع الدين فى شىء ، ولا يعوّل على ما رووه من الأخبار الضعيفة ، والأحاديث الموضوعة فى هذا الباب.
والحق الذي لا شبهة فيه أن الرسول بلغ جميع ما أنزل إليه من القرآن ، وبيّنه ولم يخصّ أحدا بشىء من علم الدين ، وأنه لا امتياز لأحد عن أحد فى علم الدين إلا بفهم القرآن فهما يتوسل إليه بعلم السنة ، وآثار علماء الصحابة والتابعين ، وعلماء الأمصار فى الصدر الأول ، وبمعرفة مفردات اللغة العربية وأساليبها ، ومعرفة علوم الكون وشئون البشر وسنن اللّه فى الخلق.
روى ابن مردويه عن ابن عباس قال : « سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أىّ آية من السماء أنزلت أشد عليك ؟ فقال : كنت بمنى أيام موسم ، واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس فى الموسم ، فنزل علىّ جبريل فقال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) الآية قال - فقمت عند العقبة فقلت :
أيها الناس من ينصرنى على أن أبلغ رسالات ربى ولكم الجنة ؟ أيها الناس قولوا لا إله إلا اللّه وأنا رسول إليكم ، تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة - قال صلى اللّه عليه وسلم فما بقي رجل ولا أمة ولا صبى إلا يرمون علىّ بالتراب والحجارة(6/159)
ج 6 ، ص : 160
ويقولون : كذاب صابىء فعرض علىّ عارض فقال : اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون ، وانصرني عليهم أن يجيبونى إلى طاعتك ، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه » .
(وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي يمنعك من فتكهم ، مأخوذ من عصام القربة :
وهو ما توكأ به أي يربط به فمها من سير جلد أو خيط ، والناس هم الكفار الذين يتضمن تبليغ الوحى بيان كفرهم وضلالهم ، وفساد عقائدهم وأعمالهم ، والنعي عليهم وعلى سلفهم ، وكان ذلك يغيظهم ويحملهم على إيذائه صلى اللّه عليه وسلم بالقول أو بالفعل ، وائتمروا به بعد موت أبى طالب وقرروا قتله فى دار الندوة ولكن اللّه تعالى عصمه منهم ، وكذلك فعل اليهود بعد الهجرة.
روى الترمذي وأبو الشيخ والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عن بضعة رجال من الصحابة « أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يحرس فى مكة قبل نزول هذه الآية ، وكان العباس ممن يحرسه ، فلما نزلت ترك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحرس » وروى « أن أبا طالب كان يبعث مع رسول اللّه من يحرسه إذا خرج حتى نزل (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فذهب ليبعث معه ، فقال يا عم إن اللّه حفظنى لا حاجة لى إلى من تبعث » .
وقد وضعت هذه الآية وهى مكية فى سياق تبليغ أهل الكتاب وهو مدنى ، لتدل على أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان عرضة لإيذائهم أيضا ، وأن اللّه تعالى عصما من كيدهم ، ولتذكّر بما كان من إيذاء مشركى قومه من قبلهم.
ثم ذكر ما هو كالسبب فى العصمة فقال :
(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي إنه تعالى لا يهدى أولئك القوم الكافرين الذين هم بصدد إيذائك على التبليغ إلى ما يريدون ، بل يكونون خائبين ، وتتم كلمات اللّه تعالى حتى يكمل بها الدين.
ثم بين أن الانتساب إلى الأديان لا ينفع أهلها إلا إذا عملوا بها فقال :
(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قل لأهل الكتاب من اليهود والنصارى فيما تبلغهم عن ربك (لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ) يعتد به من أمر الدين ، ولا ينفعكم الانتساب إلى موسى وعيسى والنبيين.(6/160)
ج 6 ، ص : 161
(حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) فيما دعيا إليه من التوحيد الخالص ، والعمل الصالح ، وفيما بشرا به من بعثة النبي الذي يجىء من ولد إسماعيل الذي سماه المسيح روح الحق والبارقليط.
(وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) على لسان محمد وهو القرآن المجيد فهو الذي أكمل به دين الأنبياء والمرسلين بحسب سنن اللّه فى الكون.
(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) أي وأقسم بأن الكثير من أهل الكتاب لا يزيدهم القرآن الذي أكمل اللّه به الدين المنزل على محمد خاتم النبيين إلا غلوّا فى تكذيبهم وكفرا على كفرهم ، لأنهم لم ينظروا فيه نظرة إنصاف ، بل نظروا إليه بعين العصبية والعدوان ، إذ كانوا على تقاليد وثنية ، وأعمال وعادات سخيفة ، فلم يكن لهم من الدين الذي يدينون به ما يقرّبهم إلى فهم حقيقة الإسلام ، ليعلموا أن دين اللّه واحد ، وأن ما سبق بدء وهذا إتمام.
أما غير الكثير وهم الذين حافظوا على التوحيد ولم تحجبهم عن نور الحق شتى التقاليد فهم الذين ينظرون إلى القرآن بعين البصيرة ، فيعلمون أنه الحق من ربهم ، وأن من أنزل عليه هو النبي المبشر به فى كتبهم ، فيسارعون إلى الإيمان به بحسب حظهم من سلامة الوجدان واطمئنان النفس ، بما لديها من العلم والعرفان.
(فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) قال الراغب : الأسى الحزن ، وأصله إتباع الفائت بالغم ، أي فلا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم ، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك ولا إلى المؤمنين ، وحسبك اللّه ومن اتبعك من مؤمنى قومك ومن مؤمنى أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام وغيره من علمائهم.
والعبرة للمسلم من هذه الآية أن يعلم أنه لا يكون على شىء يعتدّ به من أمر الدين حتى يقيم القرآن وما أنزل إليه من ربه فيه ويهتدى بهديه ، فحجة اللّه على عباده واحدة ، فإذا كان اللّه لا يقبل من أهل الكتاب قبلنا ما ورثوه من تلك التقاليد التي صدتهم عما عندهم من وحي اللّه ، فإنه لا يقبل منا مثل ذلك مع حفظنا لكتابنا(6/161)
ج 6 ، ص : 162
والناس عن مثل هذا غافلون ، وإلى حكمة الدين ومقاصده لا ينظرون ، ويحسبون أنهم على شىء ، ألا إنهم هم الكاذبون.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن الذين صدقوا اللّه ورسوله ، والذين دخلوا اليهودية ، والصابئين الذين يعبدون الملائكة ويصلّون إلى غير القبلة ، والنصارى ، من أخلص منهم الإيمان بما ذكر دواما وثباتا كما فى المؤمنين المخلصين ، أو إيجادا وإنشاء كما هو حال المنافقين وغيرهم من الطوائف الأخرى ، فلا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم من لذات الدنيا وعيشها بعد معاينتهم ما أكرمهم اللّه به من جزيل ثوابه.
وفى الآية إيماء إلى أن أهل الكتاب لم يقيموا دين اللّه ، لا الوسائل منه ولا المقاصد ، فلا هم حفظوا نصوص الكتب كلها ، ولا هم تركوا ما عندهم منها على ظواهرها ، ولا هم آمنوا باللّه واليوم الآخر على الوجه الذي كان عليه سلفهم الصالح ، ولا هم عملوا الصالحات كما كانوا يعملون ، إلا قليلا منهم عذّبوا على توحيد اللّه ورموا بالزندقة لرفضهم تقاليد الكنائس والبدع التي شرعها الأحبار والرهبان ، كما أن فيها ترغيبا لمن عدا من ذكروا فى الإيمان والعمل الصالح ليكون لهم من الجزاء مثل ما لأولئك.
[سورة المائدة (5) : الآيات 70 الى 75]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)(6/162)
ج 6 ، ص : 163
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه أخذ الميثاق على بنى إسرائيل وبعث فيهم النقباء - أعاد التذكير به هنا مرة أخرى ، وبيّن عتوّهم وشدة تمردهم وما كان من سوء معاملتهم لأنبيائهم.
الإيضاح
(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) الميثاق هو العهد الموثّق ، وقد أخذ اللّه عليهم العهد فى التوراة بتوحيده واتباع الأحكام التي شرعها لهدى خلقه وتحليهم بحلي الفضائل ومكارم الأخلاق ، وقد نقضوا هذا الميثاق كما تقدم أول السورة وعاملوا الرسل تلك المعاملة - وهو أنه كلما جاءهم رسول بشىء لا تهواه أنفسهم عاملوه بأحد الأمرين إما التكذيب المستلزم للإعراض والعصيان وإما القتل وسفك الدماء.
وخلاصة ذلك - إنهم بلغوا من الفساد واتباع الأهواء أخشنها مركبا ، وأشدها(6/163)
ج 6 ، ص : 164
عتوا وضلالا ، حتى لم يعد يؤثر فى قلوبهم وعظ الرسل ولا هديهم ، بل صار ذلك مغريا لهم بزيادة الكفر والتكذيب وقتل أولئك الهداة البررة والسادة الأخيار.
ثم ذكر ما سولته لهم أنفسهم على سوء أفعالهم فقال :
(وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الفتنة الاختبار بشدائد الأمور كتسلط الأمم القوية عليهم بالقتل والتخريب والاضطهاد : أي وظنوا ظنا قويا تمكن من نفوسهم أنه لا تقع لهم فتنة بما فعلوا من الفساد ، لأنهم كانوا يقولون نحن أبناء اللّه وأحباؤه ، ويعتقدون أن نبوة أسلافهم وآبائهم تدفع عنهم العقاب الذي يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب.
ثم بين نتائج ذلك فقال :
(فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) أي فعموا عن آيات اللّه التي أنزلها فى كتبه مرشدة إلى عقابه للأمم المفسدة الظالمة ، وعما وضعه من السنن فى خلقه مصدقا لذلك ، وصموا عن سماع المواعظ التي جاءهم بها أولئك الرسل وأنذروهم بالعقاب إذا هم خالفوها ونقضوا الميثاق وخرجوا عن هدى الدين ، وظلموا أنفسهم واتبعوا أهواءهم وساروا فى غيهم ، وانهمكوا فى ضلالهم ، فسلط اللّه عليهم من سامهم الخسف وأوقع بهم البوار والدمار ، فجاس البابليون خلال ديارهم ، وأحرقوا المسجد الأقصى ونهبوا أموالهم وسبوا أولادهم ونساءهم وسلبوهم أموالهم وثلوّا عروش ملكهم ، ثم رحمهم اللّه وتاب عليهم حين أقلعوا عن الفساد وأعاد إليهم ملكهم وعزهم على يد ملك من ملوك الفرس ، إذ جاء إلى بيت المقدس وعمره وردّ من بقي من بنى إسرائيل فى أسر بختنصّر إلى وطنهم ، ورجع من تفرق منهم فى الأقطار فاستقروا وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا.
ثم عموا وصموا مرة أخرى وعادوا إلى ظلمهم وفسادهم فى الأرض وقتلوا الأنبياء بغير حق فقتلوا زكريا وأشعيا وأرادوا قتل عيسى عليه السلام ، فسلط اللّه عليهم الفرس ثم الروم (الرومانيين) فأزالوا ملكهم واستقلالهم.(6/164)
ج 6 ، ص : 165
وفى قوله (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) إشارة إلى أن عمى البصيرة والصمم عن المواعظ لم يكن للجميع بل كان للكثير منهم ، واللّه تعالى يعاقب الأمم بذنوبها إذا كثرت وشاعت فيها ، إذ العبرة بالغالب لا بالأفل النادر الذي لا يؤثر فى صلاح ولا فساد ومن ثم قال تعالى :
« وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً » .
(وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) لنبيه وخاتم أنبيائه من الكيد والمكر وتدبير الإيقاع به وتأليب القبائل والشعوب المختلفة لتكون يدا واحدة للفتك به ، وما سبب ذلك إلا اتباعهم للهوى ، وأنهم عموا وصموا مرة أخرى فصاروا لا يبصرون ما جاء به من النور والهدى ولا يسمعون ما يتلوه عليهم من الآيات ، وسيعاقبهم اللّه على ذلك بمثل ما عاقبهم به من قبل وينكّل بهم أشد النكال ، ويذيقهم أنواع الوبال.
وبعد أن عدد قبائح اليهود ومخازيهم شرع يفصل قبائح النصارى ويبطل أقوالهم الفاسدة وآراءهم الزائفة ، فقال :
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) أي أقسم إن هؤلاء الذين ادّعوا أن اللّه هو المسيح بن مريم - قد كفروا وصلّوا ضلالا بعيدا ، إذ هم فى إطرائه ومدحه غلوا أشد من غلوّ اليهود فى الكفر به وتحقيره ، وقولهم عليه وعلى أمه الصدّيقة بهتانا عظيما وقد صارت هذه المقالة هى العقيدة الشائعة عندهم ، ومن عدل عنها عدّ مارقا من الدين فقالوا : إن الإله مركب من ثلاثة أصول يسمونها (الأقانيم الثلاثة) وهى الآب والابن وروح القدس فالمسيح هو الابن واللّه هو الآب وقد حل الآب فى الابن واتحد به فكون روح القدس ، وكل واحد من هذه الثلاثة عين الآخرين.
وخلاصة ذلك - اللّه هو المسيح ، والمسيح هو اللّه كما يزعمون.
ثم ذكر أن المسيح يكذبكم فى ذلك فحكى عنه :
(وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي والحال أن المسيح قال لهم ضد ما يقولون. فقد أمرهم بعبادة اللّه وحده ، معترفا بأنه ربه وربهم ، ودعا بنى إسرائيل الذين أرسل إليهم إلى عبادة اللّه وحده ، ولا يزال هذا الأمر محفوظا فى الأناجيل التي كتبت لبيان بعض سيرته وتاريخه ففى إنجيل يوحنا (وهذه هى الحياة الأبدية(6/165)
ج 6 ، ص : 166
أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) فدين المسيح مبنى على التوحيد المحض ، وهو دين اللّه الذي أرسل به جميع رسله.
وفى هذه المقالة تنبيه إلى ما هو الحجة القاطعة على فساد قول النصارى لأنه عليه السلام لم يفرق بين نفسه وغيره فى أن دلائل الحدوث ظاهرة على الجميع.
وبعد أن أمرهم عليه السلام بالتوحيد الخالص ، أتبعه بالتحذير من الشرك والوعيد عليه ، فقال :
(إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي إن كل من يشرك باللّه شيئا من ملك أو بشر أو كوكب أو حجر أو نحو ذلك فيجعله ندّا له أو متحدا به ، أو يدعوه لجلب نفع أو دفع ضرر ، أو يزعم أنه يقرّ به إليه زلفى فيتخذه شفيعا ليؤثر فى إرادته تعالى وعلمه ، ويحمله على شىء غير ما سبق به علمه وخصصته إرادته فى الأزل - من يفعل ذلك فإن اللّه قد حرم عليه الجنة فى سابق علمه ، وبمقتضى شرعه الذي أوحاه إلى جميع رسله ، فلا مأوى له إلا النار التي هى دار العذاب والذل والهوان - وما للظالمين لأنفسهم بشركهم باللّه من نصير ينصرهم ولا شفيع ينقذهم مما يحل بهم « مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ » .
وفى هذا إيماء إلى أن النصارى كانوا يتكلمون على كثير من القديسين ، إذ كانت وثنية الشفاعة قد فشت فيهم وإن لم تكن من أصل دينهم.
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) أي لقد كفر الذين قالوا إن اللّه خالق السموات والأرض وما بينهما - ثالث أقانيم ثلاثة ، أب والد غير مولود ، وابن مولود غير والد ، وزوج متتبعة بينهما.
والخلاصة - إن الفرق ثلاثة :
(1) إن إلههم ثالث ثلاثة (2) إن اللّه هو المسيح ابن مريم (3) إن المسيح هو ابن اللّه وليس هو اللّه والمتأخرون من النصارى يقولون بالأقانيم الثلاثة وأن كل واحد منهما عين الآخر(6/166)
ج 6 ، ص : 167
فالآب عين الابن وعين روح القدس ، ولما كان المسيح هو الابن كان عين الآب وروح القدس أيضا ، وقد ذكرنا فيما سلف أن النصارى أخذوا عقيدة التثليث من قدماء الوثنيين.
ثم ردّ اللّه عليهم ما قالوه بلا روية ولا بصيرة ، فقال :
(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي ولا يوجد إله إلا من اتصف بالوحدانية وهو الإله الذي لا تركيب فى ذاته ولا فى صفاته ، فليس ثمّ تعدد ذوات وأعيان ، ولا تعدد أجناس وأنواع ، ولا تعدد جزئيات وأجزاء.
ثم توعدهم على هذه المقالة فقال :
(وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي وإن لم يتهوا عن قولهم بالتثليث ويتركوه ، ويعتصموا بعروة التوحيد ويعتقدوه ، فو اللّه ليصيبّهم عذاب شديد يوم القيامة جزاء كفرهم.
وفى الآية إيماء إلى أن هذا العذاب لا يمس إلا الذين كفروا منهم خاصة دون من تاب وأناب إلى اللّه تعالى ورجع عن عقيدة التثليث وغيرها.
ثم تعجب من حالهم بإصرارهم على التثليث بعد أن ظهرت لهم البينات ، وقامت عليهم الحجج المبطلة له ، والنذر بالعذاب المرتب عليه ، فقال :
(أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ؟ ) أي أ يسمعون ما ذكر من التفنيد لآرائهم والوعيد عليها ، ثم لا يحملهم ذلك على التوبة والرجوع إلى التوحيد واستغفار اللّه عما فرط منهم ، والحال أن ربهم واسع الرحمة عظيم المغفرة يقبل التوبة من عباده ويغفر لهم ما فرط من الزلات إذا هم آمنوا وأحسنوا واتقوا وعملوا الصالحات.
ثم ذكر أن المسيح رسول كغيره من الرسل وأقام الدليل على ذلك فقال :
(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) أي ليس المسيح إلا رسول من الرسل الذين بعثهم اللّه لهداية عباده ، قد مضت من قبله رسل اختصهم مثله بالرسالة وأيدهم بالآيات ، وأمه صديقة فلها فى الفضل مرتبة(6/167)
ج 6 ، ص : 168
تلى مرتبة الأنبياء والمرسلين.
ونحو الآية قوله : « وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ » .
أما حقيقتهما النوعية والجنسية فهى مساوية لحقيقة غيرهما من أفراد نوعهما وجنسهما فهما يأكلان الطعام ليقيما بنيتهما ويمدّا حياتهما لئلا ينحل بدنهما ويهلكا ، وكذلك يعرض لهما ما يستلزمه أكل الطعام من الحاجة إلى دفع الفضلات ، فلا يمكن أن يكون كل منهما إلها خالقا ولا ربا معبودا ، ومن السفه أن يحتقر الإنسان نفسه ويحتقر جنسه ويرفع بعض المخلوقات المساوية له فى الماهية والمشخصات والممتازة بميزات عرضية فيجعل نفسه عبدا لها ويسميها آلهة أو أربابا.
وبعد أن بين حالهما بيانا لا يحوم حوله شائبة من الريب ، تعجب من حال من يدّعى لهما الربوبية ولا يرعوى عن غيه وضلاله ولا يتأمل فيما هو عليه من أفن الرأى والخطأ ، فقال :
(انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) الآيات هى الدلائل القاطعة ببطلان ما يدّعون ، ويؤفكون أي يصرفون عن التأمل فيها لسوء استعدادهم وخبث نفوسهم.
أي انظر أيها السامع نظرة عقل وفكر ، كيف نبين لهؤلاء النصارى الآيات والبراهين البالغة أقصى الغايات فى الوضوح على بطلان ما يدّعون فى أمر المسيح ثم هم بعد ذلك يعرضون عنها ، وكيف لا ينتقلون من مقدماتها إلى نتائجها ، ومن مباديها إلى غاياتها ، فكأنهم فقدوا عقولهم وصارت أفئدتهم هواء.
[سورة المائدة (5) : الآيات 76 الى 81]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80)
وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)(6/168)
ج 6 ، ص : 169
تفسير المفردات
الغلو : الإفراط وتجاوز الحد ، والأهواء : الآراء التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة ، واللعن : الحرمان من لطف اللّه وعنايته ، يتولون الذين كفروا : أي يوالونهم ويزينون لهم أهواءهم.
الإيضاح
(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً ؟ ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء النصارى وأمثالهم ممن عبدوا غير اللّه - أ تعبدون من دونه أي متجاوزين عبادته وحده - ما لا يملك لكم ضرا تخشونه أن يعاقبكم به إذا أنتم تركتم عبادته ، ولا يملك لكم نفعا ترجون أن يجزيكم به إذا عبدتموه ؟ .
وفى هذا إيماء إلى دحض مقالتهم بالحجة والدليل فإن اليهود ، وقد كانوا يعادون المسيح ويقصدونه بالسوء لم يقدر على الإضرار بهم ، وأنصاره وصحابته مع شديد محبتهم له لم يستطع إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم ، والعاجز عن الضر والنفع كيف يعقل أن يكون إلها ؟ .(6/169)
ج 6 ، ص : 170
وإذا كان قول النصارى فى المسيح من أشد أنواع الغلوّ فى الدين بتعظيم الأنبياء فوق ما يجب أن يكون لهم من التعظيم وكان إيذاء اليهود له وسعيهم فى قتله من الغلو فى الجمود على تقاليد الدين التي ابتدعوها واتباع أهوائهم بلا علم ، وكان هذا الغلوّ هو الذي دعاهم إلى قتل زكريا واشعيا قال تعالى :
(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) سواء السبيل : وسطه الذي لا غلوّ فيه ولا تفريط وهو الإسلام ، وضلالهم : ترك شريعتهم واتباعهم الأهواء الفاسدة الموافقة لشهوات النفوس الجامحة بها إلى الحصول على اللذات والإعراض عن الدين جانبا ، وضلالهم عنه هو : إعراضهم عن اتباعه.
نهى سبحانه أهل الكتاب الذين كانوا فى عصر التنزيل عن الغلوّ الذي كان عليه من قبلهم من أهل ملتهم ، وعن التقليد الذي كان سبب ضلالهم ، إذ هم قد اتبعوا أهواءهم وتركوا سنن الرسل والنبيين والصالحين من قبلهم ، لأن كل أولئك كانوا موحدين وكانوا ينكرون الشرك والغلو فى الدين ، فعقيدة التثليث وتلك الشعائر الكنسية المستحدثة من بعدهم كشرع عبادات لم يأذن بها اللّه ، وتحريم ما لم يحرمه اللّه من الطيبات بل حرمها القسيسون والرهبان على أنفسهم وعلى من اتبعهم ، مبالغة فى التنسك والزهد أو رياء وسمعة ، وجعل الأنبياء والصالحين أربابا ينفعون ويضرون بسلطة غيبية لهم فوق سنن اللّه فى الأسباب والمسببات الكسبية ، ولذا جعلوهم آلهة يعبدون من دون اللّه أو مع اللّه.
كل أولئك قد ضلوا به وأضلوا كثيرا ممن اتبعهم فيه وسيكون سبب شقائهم وعذابهم فى الآخرة إن لم يرجعوا عنه وينيبوا إلى اللّه منه.
وبعد أن بين اللّه ضلالهم وإضلالهم ذكر أسباب ذلك وأرشد إلى ما أخذهم به ، فقال :
(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ(6/170)
ج 6 ، ص : 171
بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)
أي لعن اللّه الذين كفروا من بنى إسرائيل فى الزبور والإنجيل على لسان هذين النبيين ، فقد لعن داود عليه السلام من اعتدى منهم فى السبت أو لعن العاصين المعتدين عامة ، وكذلك لعنهم عيسى عليه السلام وهو آخر أنبيائهم ، وما سبب ذلك اللعن الذي امتدّ واستمر إلا تماديتهم فى العصيان وتمردهم على الأديان ، كما يدل عليه قوله : وكانوا يعتدون.
ثم بين سبحانه أسباب استمرارهم على العصيان وتعدى الحدود فقال :
(كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) أي كان من دأبهم ألا ينهى أحد منهم أحدا عن منكر يقترفه مهما قبح وعظم ضرره ، والنهى عن المنكر هو حفاظ الدين ، وسياج الفضائل والآداب ، فإذا تجرأ المستهترون على إظهار فسقهم وفجورهم ورآهم الغوغاء من الناس قلدوهم فيه ، وزال قبحه من نفوسهم ، وصار عادة لهم ، وزال سلطان الدين من قلوبهم وتركت أحكامه وراءهم ظهريا.
وفى الآية إيماء إلى فشوّ المنكرات فيهم وانتشار مفاسدها بينهم ، إذ لولا ذلك كان ترك التناهى شأنا من شئونهم ، وعادة من عاداتهم.
(لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) هذا تقبيح لسوء فعلهم وتعجب منه وذم لهم على اقتراف بعضهم للمنكرات وإصرارهم عليها ، وسكوت آخرين ورضاهم بها ، وفى سوق الآية إرشاد للمؤمنين وعبرة لهم ، حتى لا يفعلوا فعلهم فيكونوا مثلهم ويحل بهم من غضب اللّه ولعنه مثل ما حل ببني إسرائيل.
روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود أنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « إن أول ما دخل النقص على بنى إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق اللّه ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب اللّه قلوب بعضهم ببعض ثم قال : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا - إلى قوله فاسِقُونَ) ثم قال صلى اللّه عليه وسلم : كلا ، واللّه لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ثم لتأخذنّ على يد الظالم ولتأطرنّه (تعطفنّه)(6/171)
ج 6 ، ص : 172
على الحق أطرا ولتقسرنّه على الحق قسرا ، أو ليضربنّ اللّه قلوب بعضكم ببعض ، ثم يلعنكم كما لعنهم » .
وأخرج الخطيب من طريق أبى سلمة عن أبيه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال « والذي نفس محمد بيده ليخرجنّ من أمتى ناس من قبورهم فى صورة القردة والخنازير بما داهنوا أهل المعاصي وكفّوا عن نهيهم وهم يستطيعون » .
والآثار فى هذا الباب كثيرة ، وفيها وعيد عظيم على ترك التناهى ، فهل من مدّكر ، وإلى متى نعرض عن أوامر ديننا ، ولا نرعوى عن غيّنا ، ولا نتّبع أوامر شرعنا ؟ .
وبعد أن ذكر اللّه لنبيه أحوال أسلافهم ذكر له أحوال حاضريهم مما يدل على رسوخ تلك الملكات فيهم ، فقال :
(تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ترى أيها الرسول الكريم كثيرا من بنى إسرائيل يتولون الذين كفروا من مشركى قومك ويحالفونهم عليك ويحرّضونهم على قتالك ، وأنت تؤمن باللّه وبما أنزله على رسله وأنبيائه وتشهد لهم بصدق الرسالة وأولئك المشركون لا يؤمنون بكتاب ولا رسول ولا يعبدون إلها واحدا ، ولولا اتباع الهوى وتزيين الشيطان لهم أعمالهم ما فعلوا ذلك ، ولا دار هذا بخاطرهم ، وما استحبّوا العمى على الهدى « وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ » وقد روى أن كعب بن الأشرف وأصحابه ذهبوا إلى مكة واستجاشوا المشركين على الرسول صلى اللّه عليه وسلم ولكن لم يتم لهم ما أرادوا ، إذ لم يلبّوا لهم دعوة ، ولا استجابوا لهم كلمة.
(لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) أي بئس شيئا قدموه لأنفسهم فى آخرتهم - الأعمال التي أوجبت سخط اللّه وعظيم غضبه وسيجزون بها شر الجزاء ، إذ سيحيط بهم العذاب ولا يجدون عنه مصرفا ، ويخلدون فى النار أبدا ، فالنجاة منه إنما تكون برضا اللّه عن عبده ، وهم لم يعملوا إلا ما يوجب سخطه وشديد غضبه(6/172)
ج 6 ، ص : 173
(وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ) أي ولو كان أولئك اليهود الذين يتولون الكافرين من مشركى العرب - يؤمنون بالنبي الذي يدّعون اتباعه وهو موسى عليه السلام وما أنزل إليه من الهدى والبينات ، لما اتخذوا أولئك الكافرين ممن يعبدون الأوثان والأصنام أولياء وأنصارا ، إذ كانت العقيدة الدينية تصدهم عن ذلك وتدفع عنهم هذه الآصار والآثام التي يقترفونها.
والخلاصة - إن هذه الولاية بين اليهود والمشركين لم يكن لها من سبب إلا اتفاق الفريقين على الكفر باللّه ورسوله ، والتعاون على حربه ، وإبطال دعوته ، والتنكيل بمن آمن به.
ويرى مجاهد أن المراد بالذين كفروا المنافقون أي : إن أولئك المنافقين كفار ولو كانوا يؤمنون باللّه والنبي وما أنزل إليه كما يدّعون ما اتخذهم اليهود أولياء لهم ، فتولّيهم إياهم من أعظم الأدلة على أنهم يسترون الكفر ويظهرون الإيمان نفاقا ، وكان اليهود يتولون المشركين والمنافقين جميعا لاشتراكهم فى عداوة النبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين.
وقد بين اللّه أسباب هذه الألفة والعلة الجامعة بينهم فقال :
(وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي ولكن كثيرا منهم متمردون فى النفاق ، خارجون عن حظيرة الدين ، لا يريدون إلا الرياسة والجاه ، ويسعون إلى تحصيلها من أي طريق قدروا عليه ، ومتى سار الكثير من الأمة على طريق تبعه الباقون ، إذ لا عبرة بالقليل فى سيرة الأمة وأعمالها.
وكان الفراغ من مسوّدة تفسير هذا الجزء فى الليلة الثالثة من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية بحلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية ، وللّه الحمد أولا وآخر ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(6/173)
ج 6 ، ص : 174
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 4 مفاسد الجهر بالسوء من القول.
9 سؤال أهل الكتاب للرسول أن ينزل عليهم كتابا من السماء.
13 حدوث الاشتباه فى الأشخاص لتقارب الشبه جد التقارب.
14 المراد من التوفى والرفع فى قوله تعالى : « إنى متوفيك ورافعك إلىّ » .
18 فى التوراة التي بين أيديهم جواز أخذ الربا من غير اليهود.
23 حكمة إرسال الرسل.
29 آية اللّه فى خلق عيسى كآيته فى خلق آدم 32 عقيدة التثليث عقيدة وثنية.
37 الديانة النصرانية أساسها التوحيد الخالص وحوّلها الكهنة إلى الوثنية.
43 العقود ثلاثة أضرب.
45 الأمر بالتعاون على البر والتقوى.
47 الحكة فى تحريم أكل الميتة والدم.
49 الوقذ تعذيب للحيوان.
52 الاستقسام بالسبح والقرآن.
53 الاستخارة التي ورد النص عليها.(6/174)
ج 6 ، ص : 175
الصفحة المبحث 58 حكم مؤاكلة أهل الكتاب ومناكحتهم.
65 الحكمة فى شرع الوضوء والغسل 69 آيات اللّه قسمان.
73 نقباء بنى إسرائيل.
75 تحريف الكلم وأنواعه.
79 القرآن يبين كثيرا مما كان يخفيه أهل الكتاب 85 اليهود يعتقدون أنهم شعب اللّه المختار من سائر البشر 93 عقاب بنى إسرائيل بالتيه أربعين سنة.
98 القرابين لدى اليهود والنصارى والمسلمين.
101 متى يكون الندم توبة ؟ .
103 العبرة من قصص ابني آدم.
105 جزاء قطاع الطرق.
109 معنى الوسيلة والتوسل.
114 المقدار الذي يوجب قطع اليد عند السرقة.
116 إنكار اليهود لحكم الزاني فى التوراة حتى أطلعهم النبي صلى اللّه عليه وسلم.
118 كان من وظيفة اليهود التجسس للمشركين فى عهد الرسول صلى اللّه عليه وسلم 120 اليهودي سماع للكذب على الرسول أكال للسحت.
121 اليهود تركوا التوراة وتحاكموا إلى الرسول ليحكم على حسب أهوائهم.
124 كتمان اليهود لوصف النبي صلى اللّه عليه وسلم والبشارة به.
128 الإنجيل لا يحتضن أحكاما.
130 الشريعة اسم للأحكام العملية ، والدين أعم من ذلك.
130 الشرائع تختلف باختلاف الزمان والمكان.(6/175)
ج 6 ، ص : 176
الصفحة المبحث 133 توبيخ اليهود على طلب حكم الجاهلية وهم أهل كتاب.
135 عند قدوم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة انقسم الكافرون أقساما ثلاثة.
136 الموالاة بين المختلفين فى الدين لمصالح دنيوية ليس بالمنهي عنها.
139 ارتد كثير من القبائل فى عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم وبعده.
142 صفة المؤمن حقا.
143 اللّه ورسوله ولىّ المؤمنين.
145 النهى عن موالاة أهل الكتاب والمشركين.
146 الإسلام نهج مع أهل الكتاب سياسة غير سياسته مع مشركى العرب.
150 النعي على اليهود لتركهم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
157 المقصد من الأديان العمل بها.
160 كان الرسول صلى اللّه عليه وسلم يحرس حتى نزل (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فترك ذلك.
161 المسلم ليس على شىء يعتدّ به من الدين حتى يقيم القرآن ويهتدى بهديه.
165 النصارى يقولون : اللّه هو المسيح والمسيح هو اللّه.
166 النصارى فرق ثلاث.
170 نهى اللّه أهل الكتاب عن الغلوّ فى دينهم.
172 كان كثير من أهل الكتاب يوالون المشركين.(6/176)
ج 7 ، ص : 3
الجزء السابع
[تتمة سورة المائدة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)
تفسير المفردات
العداوة : البغضاء يظهر أثرها فى القول والعمل ، والمودة : محبة يظهر أثرها في القول والعمل ، والناس هم يهود الحجاز ومشركو العرب ونصارى الحبشة فى عصر(7/3)
ج 7 ، ص : 4
التنزيل ، والقسيسون : واحدهم قسيس ، وقسوس ، واحدهم قسّ : وهو الرئيس الديني فوق الشماس ودون الأسقف ، والأصل فى القسيسين أن يكونوا من أهل العلم بدينهم وكتبهم ، لأنهم رعاة ومفتون ، والرهبان ، واحدهم راهب : وهو المتبتّل المنقطع فى دير أو صومعة للعبادة وحرمان النفس من التنعيم بالزوج والولد ولذات الطعام والزينة ، وذكر القسيسين والرهبان للجمع بين العبّاد والعلماء ، تفيض من الدمع : أي تمتلىء دمعا حتى يتدفق من جوانبها لكثرته ، مع الشاهدين : أي مع الذين يشهدون بحقية نبيك صلى اللّه عليه وسلم وكتابك ، الإثابة : المجازاة ، وقوله بما قالوا : أي بما قالوه عن اعتقاد.
المعنى الجملي
بعد أن حاجّ سبحانه وتعالى أهل الكتاب ، وذكر من مخازيهم أنهم اتخذوا الدين الإسلامى هزوا ولعبا ، وأن اليهود منهم قالوا : يد اللّه مغلولة ، وأنهم قتلوا رسلهم تارة وكذبوهم أخرى ، وأن النصارى منهم اعتقدوا عقائد زائفة فمنهم من قال المسيح ابن اللّه ، ومنهم من قال إن اللّه ثالث ثلاثة ، وقد عابهم على ذلك وكرّ عليهم بالحجة إثر الحجة لتفنيد ما كانوا يعتقدون.
ذكر هنا أحوالهم في عداوتهم للمؤمنين ومحبتهم لهم ومقدار تلك المحبة والعداوة ، وبين حال المشركين مع المؤمنين بالتبع لهم.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدى قال : بعث النجاشي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اثنى عشر رجلا ، سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ينظرون إليه ويسألونه فلما لقوه وقرأ عليهم ما أنزل اللّه بكوا وآمنوا. وأنزل اللّه فيهم « وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ » الآية.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر ابن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون فى رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة فلما بلغ(7/4)
ج 7 ، ص : 5
ذلك المشركين بعثوا عمرو بن العاص فى رهط منهم ذكروا أنهم سبقوا أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى النجاشي فقالوا : إنه قد خرج فينا رجل سفّه عقول قريش وأحلامها ، زعم أنه نبى وأنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال : إن جاءونى نظرت فيما يقولون ، فلما قدم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأتوا إلى باب النجاشي قالوا له : استأذن لأولياء اللّه ، فقال ائذن لهم فمرحبا بأولياء اللّه ، فلما دخلوا عليه سلموا فقال لهم ما يمنعكم أن تحيونى بتحيتى ؟ قالوا إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة ، فقال لهم ما يقول صاحبكم فى عيسى وأمه ؟ قالوا بقول عبد اللّه ورسوله وكلمة من اللّه وروح منه ألقاها إلى مريم ، ويقول فى مريم إنها العذراء الطيبة البتول ، قال فأخذ عودا من الأرض فقال : مازاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم هذا العود « أي مثله فى صغره » فكره المشركون قوله ، وتغيرت له وجوههم ، فقال : هل تقرءون شيئا مما أنزل عليكم ؟ قالوا نعم ، قال فاقرءوا فقرءوا ، وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان كلما قرءوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق وهذا ما أشار إليه بقوله « ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق » .
الإيضاح
(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي قسما لتجدن أيها الرسول أشد الناس عداوة للذين صدّقوك واتبعوك وصدقوا بما جئتهم به ، اليهود والمشركين من عبدة الأوثان الذين اتخذوها آلهة يعبدونها من دون اللّه.
وأشد ما لاقى النبي صلى اللّه عليه وسلم من العداوة والإيذاء ، كان من يهود الحجاز فى المدينة وما حولها ، ومن مشركى العرب ولا سيما مكة وما قرب منها.
وقد كان اليهود والمشركون مشتركين فى بعض الصفات والأخلاق التي اقتضت عداوتهم الشديدة للمؤمنين كالكبر ، والعتوّ ، والبغي ، وغلبة الحياة المادية ، والأثرة(7/5)
ج 7 ، ص : 6
والقسوة ، وضعف عاطفة الحنان والرحمة ، والعصبية الجنسية ، والحميّة القوية ، ولكنّ مشركى العرب على جاهليتهم كانوا أرق من اليهود قلوبا ، وأعظم سخاء وإيثارا ، وأكثر حرية في الفكر واستقلالا فى الرأى.
وقدّم سبحانه ذكر اليهود للإشارة إلى تفوقهم على العرب فيما وصفوا به ، فضلا عما امتازوا به من قتل بعض الأنبياء وإيذاء بعض آخر ، واستحلال أكل أموال غيرهم بالباطل.
ولم يكن ميلهم مع المسلمين فى البلاد المقدسة والشام والأندلس إلا ميلا وراء مصلحتهم الخاصة ، إذ هم تفيئوا ظلال عدلهم ، واستراحوا به من اضطهاد النصارى فى تلك البلاد.
(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا ، الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ) أي ولتجدنّ أقرب الناس محبة للذين آمنوا بك وصدقوك - الذين قالوا إنا نصارى - فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم رأى من نصارى الحبشة أحسن المودة بحماية المهاجرين الذين أرسلهم صلى اللّه عليه وسلم فى أول الإسلام من مكة إلى الحبشة ، خوفا عليهم من مشركيها الذين كانوا يؤذونهم أشد الإيذاء ، ليفتنوهم عن دينهم.
ولما أرسل النبي صلى اللّه عليه وسلم كتبه إلى الملوك ورؤساء الشعوب كان النصارى منهم أحسنهم ردا ، فهرقل ملك الروم فى الشام حاول إقناع رعيته بقبول الإسلام فلم يستطع ، لجمودهم على التقليد فاكتفى بالرد الحسن ، والمقوقس عظيم القبط فى مصر كان أحسن منه ردا ، وإن لم يكن أكثر منه ميلا إلى الإسلام ، وأرسل للنبى صلى اللّه عليه وسلم هدية حسنة ، ثم لما فتحت مصر والشام وعرف أهلهما ما للإسلام من مزايا أهر عوا إلى الدخول فى الدين أفواجا وكان القبط أسرع إليه قبولا.
والخلاصة - إن النبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين به رأوا فى عصره من مودة النصارى وقربهم من الإسلام بقدر مارأوا من عداوة اليهود والمشركين ، وأن من توقف من ملوكهم عن الإسلام فما كان توقفه إلا ضنا بملكه ، وأن النجاشي أصحمة ملك(7/6)
ج 7 ، ص : 7
الحبشة قد أسلمت معه بطانته من رجال الدين والدنيا ، ولكن الإسلام لم ينتشر فى الحبشة بعد موته ، ولم يهتم المسلمون بإقامة دينهم فى تلك البلاد كما فعلوا فى مصر والشام.
ثم بين سبحانه وتعالى سبب مودة النصارى للذين آمنوا فقال :
(ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي إن السبب فى هذه المودة أن منهم قسيسين يتولون تعليمهم التعليم الديني ويهذبون أخلاقهم ويربون فيهم الآداب والفضائل ، ورهبانا يعوّدونهم الزهد والتقشف والإعراض عن زخرف الدنيا ونعيمها ، ويكبرون فى نفوسهم الخوف من اللّه والانقطاع لعبادته ، وأنهم لا يستكبرون عن الإذعان للحق إذا ظهر أنه الحق ، إذ من فضائل دينهم التواضع والتذلل والخضوع لكل حاكم ، بل إنهم أمروا بمحبة الأعداء ، وإدارة الخدّ الأيسر لمن ضرب الخد الأيمن. فكل أولئك يؤثّر فى جمهور الأمة وسوادها الأعظم ، وقد عهد من النصارى قبول سلطة المخالف لهم طوعا واختيارا ، بخلاف اليهود فإنهم إذا أظهروا الرضا اضطرارا أسرّوا الكيد وأضمروا المكر ، لأن الشريعة اليهودية تولد فى نفوسهم العصبية الجنسية والحميّة القومية ، لأنها خاصة بشعب إسرائيل ، وأحكامها ونصوصها مبنية على ذلك.
(وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) أي وإذا سمع أولئك الذين قالوا إنا نصارى ما أنزل إلى الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم الذي بعثه اللّه رحمة للعالمين ترى أعينهم تفيض من الدمع حتى يتدفق من جوانبها لكثرته من أجل ما عرفوه من الحق الذي بيّنه لهم القرآن الكريم ، ولم يمنعهم ما يمنع غيرهم من عتوّ واستكبار.
ثم ذكر سبحانه ما يكون منهم من القول إثر بيان ما كان من حالهم فقال :
(يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي يقولون هذه المقالة قاصدين بها إنشاء الإيمان والتضرع إلى اللّه والخضوع له بأن يتقبله منهم ويكتبهم مع أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم الذين جعلهم اللّه تعالى شهداء على الناس ، لأنهم كانوا يعلمون من كتبهم ومما يتناقلونه عن أسلافهم أن النبي الأخير الذي يكمل به الدين ويتم به التشريع(7/7)
ج 7 ، ص : 8
العام يكون متبعوه شهداء على الناس ويكونون حجة على المشركين والمبطلين كما جاء فى الآية الأخرى « وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً » .
ثم زادوا كلامهم توكيدا فقالوا :
(وما لنا لا نؤمن باللّه وما جاءنا من الحق ؟ ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) أي وأىّ مانع يمنعنا من الإيمان باللّه الذي لا إله إلا هو ، ويصدنا عن اتباع ما جاءنا من الحق على لسان هذا النبي الكريم ، بعد أن ظهر لنا أنه هو روح الحق الذي بشر به المسيح ؟ وإننا لنطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الذين صلحت أنفسهم بالعقائد الصحيحة ، والفضائل والآداب الكاملة ، وهم أتباع هذا النبي الكريم الذين استبان لنا أثر صلاحهم وشاهدناه بأعيننا بعد ما كان منهم من فساد فى الأرض وعتوّ كبير فى جاهليتهم.
والخلاصة - إنه لا مانع لنا من هذا الإيمان بعد أن تظاهرت أسبابه ، وتحققت موجباته فوجب علينا الجري على سننه ، واتباع نهجه وطريقه.
ثم بين سبحانه ما جازاهم به على ذلك فقال :
(فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أي فجزاهم اللّه وأعطاهم من الثواب بما نطقت به ألسنتهم معبرا عما فى قلوبهم من خالص الإيمان وصحيح الاعتقاد - جنات وحدائق فى دار النعيم تجرى من تحت أشجارها الوارفة الظلال ، الأنهار التي تسيل مياهها سلسبيلا ، يخلدون فيها أبدا فلا يسلبها منهم أحد ، ولا هم يرغبون عنها ويودون لو تركوها ، ومثل هذا الجزاء قد أعده للذين أخلصوا فى عقائدهم وأحسنوا أعمالهم.
وعلينا أن نقف فى وصف نعيم الآخرة على ما جاء به القرآن الكريم وصحت به السنة النبوية ، ولا نعد وذلك إلى ما وراءه ، فإن النعيم الروحاني والرضوان الإلهى لا يمكن أن يعبر عنه الكلام ولا يحيط به الوصف ، فنحن فى عالم يخالف(7/8)
ج 7 ، ص : 9
ذلك العالم فى أوصافه وخواصه ، مهما أكثرنا من الوصف ، فلا نصل إلى شىء مما أعده اللّه لهم هناك « فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ » .
وبعد أن بين سبحانه ما أعدّ لعباده المحسنين من عظيم الثواب جزاء صادق إيمانهم ذكر جزاء المسيئين إلى أنفسهم بالكفران والتكذيب جريا على سنة القرآن فى الجمع بين الوعد والوعيد قال :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الجاحم والجحيم : ما اشتد حرّه من النار أي وأما الذين جحدوا توحيد اللّه وأنكروا نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وكذبوا بآيات كتابه ، فأولئك هم أصحاب النار وسكانها المقيمون فيها لا يبرحونها.
[سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
المعنى الجملي
بعد أن مدح سبحانه النصارى بأنهم أقرب الناس مودة للمؤمنين وذكر من أسباب ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا ، ظن المؤمنون أن فى هذا ترغيبا فى الرهبانية وظن الميالون للتقشف والزهد أنها منزلة تقرّ بهم إلى اللّه ، ولن تتحقق إلا بترك التمتع بالطيبات من الطعام واللباس والنساء إما دائما كامتناع الرهبان من الزواج ، وإما فى أوقات معينة كأنواع الصيام التي ابتدعوها ، فأزال اللّه هذا الظن وقطع عرق هذا الوهم بذلك النهى الصريح.
روى ابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس فى قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) قال : نزلت هذه الآية فى رهط من(7/9)
ج 7 ، ص : 10
الصحابة قالوا نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح فى الأرض كما تفعل الرهبان فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا : نعم ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم « لكنى أصوم وأفطر ، وأصلّى وأنام ، وأنكح النساء فمن أخذ بسنتى فهو منى ، ومن لم يأخذ بسنتى فليس منى » .
و
أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة أن عثمان بن مظعون وعلى ابن أبى طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالما مولى أبى حذيفة وقدامة تبتلّوا فجلسوا فى البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرّموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بنى إسرائيل ، وهمّوا بالاختصاء وأجمعوا على القيام بالليل وصيام النهار فنزلت الآية « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ » الآية فلما نزلت بعث إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : « إن لأنفسكم حقا ، وإن لأعينكم حقا ، وإن لأهلكم حقا ، فصلوا وناموا ، وصوموا ، وأفطروا فليس منا من ترك سنتنا » فقالوا : اللهم صدّقنا واتبعنا ما أنزلت مع الرسول.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) الطيبات :
الأشياء التي تستلذها النفوس وتميل إليها القلوب ، أي لا تحرّموا على أنفسكم ما أحل اللّه لكم من الطيبات بأن تتركوا التمتع بها عمدا تنسكا وتقربا إلى اللّه ، ولا تعتدوا فيها وتتجاوزوا حد الاعتدال إلى الإسراف الضار بالجسد بأن تزيدوا على الشّبع والرّى ، أو تجعلوا التمتع بها أكبر همكم فى الحياة ، أو تشغلكم عن الأمور النافعة من العلوم والأعمال المفيدة لكم ولبنى وطنكم.
والآية بمعنى قوله تعالى : « وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا » أو لا تعتدوها : أي الطيبات بتجاوزها إلى الخبائث المحرمة.(7/10)
ج 7 ، ص : 11
والخلاصة - إن الاعتداء يشمل أمرين : الاعتداء فى الشيء نفسه بالإسراف فيه ، والاعتداء بتجاوزه إلى غيره مما ليس من جنسه وهو الخبائث.
ثم علل الهى عن الاعتداء بما ينفر منه فقال :
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي لا يحب اللّه من يتجاوز حدود شرائعه ولو بقصد عبادته وتحريم طيباته التي أحلها ، سواء أ كان التحريم من غير التزام بيمين أو نذر أو بالتزام ، وكل منهما غير جائز.
والالتزام قد يكون لرياضة النفس وتهذيبها بالحرمان من الطيبات ، وقد يكون ناشئا عن بادرة غضب من زوجة أو ولد كمن يحلف باللّه أو بالطلاق ألا يأكل من هذا الطعام أو نحوه من المباحات ، أو يقول إن فعل كذا فهو برىء من الإسلام أو من اللّه ورسوله أو نحو ذلك وكل هذا منهى عنه شرعا ولا يحرم على أحد شىء منها يحرمه على نفسه بهذه الأقوال ، ولا كفارة فى يمين يحلفه الحالف فى نحو ذلك عند الشافعي.
وتحريم الطيبات والزينة وتعذيب النفس من العبادات المأثورة عند قدماء اليهود واليونان قلدهم فيها أهل الكتاب خصوصا النصارى فإنهم قد شددوا على أنفسهم وحرموا عليها ما لم تحرّمه الكتب المقدسة على ما فيها من الشدة والصرامة والمبالغة فى الزهد.
ولما جاء الإسلام وأرسل اللّه نبيه محمدا خاتم النبيين بما فيه السعادة التامة للبشر فى دنياهم وآخرتهم أباح للبشر على لسانه الزينة والطيبات وأرشدهم إلى إعطاء البدن حقه والروح حقه ، فالإنسان ما هو إلا روح وجسد فيجب العدل بينهما ، وبذا كانت الأمة الإسلامية أمة وسطا تشهد على جميع الأمم وتكون حجة عليها يوم القيامة.
والحكمة فى ذلك النهى أن اللّه يحب أن يستعمل عباده نعمه فيها خلقت لأجله ويشكروه على ذلك ، ويكره لهم أن يجنوا على الشريعة التي شرعها لهم فيغلوا فيها بتحريم ما لم يحرمه ، كما يكره لهم أن يفرطوا فيها بإباحة ما حرمه أو ترك ما فرضه ، وقد أشار إلى ذلك بقوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ(7/11)
ج 7 ، ص : 12
وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ »
وورد فى الأثر « إن اللّه طيّب لا يقبل إلا طيبا » .
(وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً) أي وكلوا مما رزقكم اللّه من الحلال فى نقسه لا من المحرمات كالميتة والدم المسفوح ولجم الخنزير ، ومن الحلال فى كسبه وتناوله بألا يكون ربا ولا سحتا ، ولا سرقة ، مع كونه مستلذا غير مستقذر لذاته أو لطارئ. يطرأ عليه من فساد أو تغير لطول مكث ونحوه.
والأكل فى الآية يراد به التمتع الشامل للشرب ونحوه من حلال غير مسكر ولا ضار ، ومن كل طيب غير مستقذر فى ذاته أو لطارئ يطرأ عليه.
والخلاصة - إنه ينبغى للمؤمن أن يتمتع بما تيسر له من الطيبات بلا تأثم ولا تحرج ، ويحضر قلبه أنه عامل بشرع اللّه مقيم لسنة الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها ، شاكر له بالاعتراف والحمد والثناء عليه ، كما أن امتناعه عن الطيبات التي رزقه اللّه إياها مع الداعية الفطرية إلى الاستمتاع بها إثم يجنيه على نفسه فى الدنيا ويستحق به عقاب الآخرة ، لزيادته فى دين اللّه قربات لم يأذن بها ، ولإضاعة حقوق اللّه وحقوق عباده كإضاعة حقوق امرأته وعياله.
والتحريم والتحليل تشريع وهو من حقوق اللّه فمن انتحله لنفسه كان مدعيا الربوبية أو كالمدعى لها.
وعن الحسن البصري : إن اللّه أدب عباده فأحسن أدبهم فقال : « لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ » ما عاب اللّه قوما وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا ، ولا عذر قوما زواها عنهم فعصوه. وعنه أنه قيل له فلان لا يأكل الفالوذج ويقول لا أؤدى شكره ، قال أ فيشرب الماء البارد ؟ قالوا نعم ، قال إنه جاهل ، إن نعمة اللّه عليه فى الماء البارد أكثر من نعمته عليه فى الفالوذج (البلوظة).
(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي واتقوه فى الأكل واللباس والنساء وغيرها ، فلا تفتاتوا عليه فى تحليل ولا تحريم ، ولا تعتدوا حدوده فيما أحل وما حرم ،(7/12)
ج 7 ، ص : 13
إذ من جعل شهوة بطنه أكبر همه كان من المسرفين ، ومن بالغ فى الشبع وعرّض معدته وأمعاءه للتّخمة كان من المسرفين ، ومن أنفق فى ذلك أكثر من طاقته وعرّض نفسه لذل الدين أو أكل أموال الناس بالباطل فهو من المسرفين واللّه يقول « وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ » والخلاصة - إن هدى القرآن فى الطيبات هو ما تقتضيه الفطرة السليمة المعتدلة من التمتع بها مع الاعتدال والتزام الحلال. والاعتدال هو الصراط المستقيم الذي يقل سالكه ، فكثير من الناس يحيدون عنه ويميلون فى التمتع إلى جانب الإفراط والإسراف ، ويكونون كالأنعام بل أضل لأنهم يجنون على أنفسهم حتى قال بعض الحكماء إن أكثر الناس يحفرون قبورهم بأسنانهم.
وقليلون منهم ينحرفون إلى جانب التفريط والتقتير إما اضطرارا لبؤسهم وعدمهم وإما اختيارا كالزهاد والمتقشفين.
وسبيل الاعتدال سبيل شاقة على النفوس ، عسرة على سالكها ، كلها تدل على فضيلة العقل ورجحانه.
والمعروف من سيرة الرسول أنه كان يأكل ما وجده فتارة يأكل أطيب الطعام كلحوم الأنعام والطير والدجاج ، وتارة يأكل أخشنه كخبز الشعير بالملح أو الزيت أو الخل ، وحينا يجوع وأخرى يشبع ، فكان فى كل ذلك قدوة للموسر والمعسر.
وما كان يهمه أمر الطعام ، لكنه كان يعنى بأمر الشراب
ففى حديث عائشة « كان أحبّ الشراب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخلو البارد »
قال المحدّثون :
ويدخل فى ذلك الماء القراح والماء المحلى بالعسل أو نقيع التمر أو الزبيب.(7/13)
ج 7 ، ص : 14
[سورة المائدة (5) : آية 89]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
تفسير المفردات
اللغو فى اليمين : قول الرجل فى الكلام من غير قصد لا واللّه وبلى واللّه ، بما عقدتم الأيمان : أي بما صممتم عليه منها وقصدتموه ، وأصل العقد نقيض الحل فعقد الأيمان توكيدها بالقصد والغرض الصحيح ، وتعقيدها : المبالغة فى توكيدها ، وأصل الكفارة من الكفر ، وهو الستر والتغطية ثم صارت فى اصطلاح الشرع اسما لأعمال تكفّر بعض الذنوب والمؤاخذات أي تغطّيها وتخفيها حتى لا يكون لها أثر يؤاخذ به المرء لا فى الدنيا ولا فى الآخرة ، والأوسط : أي الأغلب من الطعام فى البيوت لا الدون الذي يتقشّف به أحيانا ولا الأعلى الذي يتوسع به أحيانا أخرى ، وتحرير الرقبة : هو إعتاق الرقيق المملوك.
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه وتعالى عن تحريم الطيبات وعن الاعتداء فيها وتجاوز الحدود ، لأن قوما من المسلمين تنسّكوا وحرّموا على أنفسهم اللحم والنساء وغيرها من الطيبات تقربا إلى اللّه - سألوا عما يصنعون بأيمانهم التي حلفوا عليها فأنزل اللّه تعالى هذه الآية جوابا لهم عما سألوا.
روى ابن حرير عن ابن عباس قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) فى القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم على أنفسهم قالوا يا رسول اللّه كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ؟ فأنزل اللّه تعالى : « لا يؤاخذكم اللّه(7/14)
ج 7 ، ص : 15
باللغو فى أيمانكم »
وأخرج أبو الشيخ عن يعلى بن مسلم قال : سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية ... قال اقرأ ما قبلها فقرأت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ - إلى قوله - لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ).
الإيضاح
(لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) أي لا يواخذكم اللّه بالأيمان التي تحلفونها بلا قصد ، كما يقول الرجل فى كلامه بدون قصد لا واللّه ، وبلى واللّه ، فلا مؤاخذة على مثل هذه بكفارة فى الدنيا ، ولا عقوبة فى الآخرة.
(وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) أي ولكن يؤاخذكم بما صممتم عليه من الأيمان وقصدتموه إذا أنتم حنثنم فيه.
وهذه المؤاخذة بينها سبحانه بقوله :
(فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي فالذى يكفر عقد اليمين إذا نقض ، أو إذا أريد نقضه بالحنث به هو إحدى هذه المبرّات الثلاث على سبيل التخيير :
(1) إطعام عشرة مساكين ، وجبة واحدة لكل منهم من الطعام الغالب الذي يأكله أهلوكم فى بيوتكم ، لا من أردئه الذي يتقشفون به تارة ، ولا من أعلاه الذي يتوسعون به تارة أخرى كطعام العيد ونحوه مما تكرم به الأضياف فمن كان أكثر طعام أهله خبز البر وأكثر إدامه اللحم بالخضر أو بدونها فلا يجزئ ما دون ذلك مما يأكلونه إذا قرفت أنفسهم من كثرة أكل الدسم ليعود إليها نشاطها ، والأعلى مجزئ على كل حال لأنه من الوسط وزيادة ، والثريد بالمرق وقليل من اللحم ، أو الخبز مع الملوخية أو الرز أو العدس من أوسط الطعام فى مصر وكثير من الأقطار الشرقية الآن ، وكان التمر أوسط طعام أهل المدينة فى العصر الأول ، وأجاز أبو حنيفة إطعام مسكين واحد عشرة أيام.
(2) كسوة عشرة مساكين ، وهى تختلف باختلاف البلاد والأزمنة كالطعام(7/15)
ج 7 ، ص : 16
فيجزئ فى مصر القميص الطويل الذي يسمى (بالجلابية) مع السراويل أو بدونه ، وهذا يساوى الإزار والرداء أو العباءة فى العصر الأول ، ولا يجزئ ما يوضع على الرأس من طربوش أو عمامة ، ولا ما يلبس فى الرجلين من الأحذية والجوارب ولا نحو منديل أو منشفة.
(3) تحرير رقبة أي إعتاق رقيق ، وغلب استعمال الرقبة فى المملوك والأسير ، وقد يعبر أحيانا عن ذلك بفك الرقبة كقوله تعالى : « فَكُّ رَقَبَةٍ » ولا يشترط أن تكون الرقبة مؤمنة فيجزئ عتق الكافرة عند أبى حنيفة ، واشترط الشافعي ومالك وأحمد إيمانها.
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) أي فمن لم يستطع واحدا من الثلاثة المتقدمة فعليه أن يصوم ثلاثة أيام متتابعات ، فإن عجز عن ذلك لمرض ، صام عند القدرة ، فإن لم يقدر يرجى له عفو اللّه ورحمته إذا صحت نيته وصدقت عزيمته.
والاستطاعة أن يجد ذلك القدر فاضلا عن قوته وقوت عياله يومه وليلته وعن كسوته بقدر ما يطعم أو يكسو ،
وقد روى ابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : لما نزلت آية الكفارة قال حذيفة يا رسول اللّه نحن بالخيار فقال صلى اللّه عليه وسلم « أنت بالخيار إن شئت أعتقت وإن شئت كسوت ، وإن شئت أطعمت ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات »
(ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) با للّه أو بأحد أسمائه وحنثتم ، أو أردتم الحنث باليمين (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) فلا تبذلوها فى أتفه الأمور وأحقرها ، ولا تكثروا من الأيمان الصادقة فضلا عن الأيمان الكاذبة قال تعالى : « وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ » وإذا حلفتم فلا تنسوا ما حلفتم عليه ولا تحنثوا فيه إلا لضرورة تعرض ، أو مصلحة تجعل الحنث رابحا.
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي وعلى هذا النحو الشافي الوافي يبين اللّه لكم أعلام شريعته وأحكام دينه ، ليعدّكم ويؤهّلكم بذلك(7/16)
ج 7 ، ص : 17
إلى شكر نعمه على الوجه الذي يحبه ويرضاه ويكون سببا فى المزيد من فضله وإحسانه.
وهاهنا مسائل تتعلق بالأيمان يجمل بك أن تعرفها تكملة لدينك :
1 - لا يجوز الحلف بغير اللّه تعالى وأسمائه وصفاته
قال صلى اللّه عليه وسلم « من كان حالفا فلا يحلف إلا با للّه » رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر ،
ورويا أيضا عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سمع عمر وهو يحلف بأبيه فقال « إن اللّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفا فليحلف با للّه أو ليصمت »
وروى أحمد والبخاري عن ابن عمر قال : « كان أكثر ما يحلف به النبي صلى اللّه عليه وسلم لا ومقلّب القلوب »
والمحرّم أن يحلف بغير اللّه حلفا يلتزم به ما حلف عليه والبر به فعلا أو تركا ، لأن الشارع جعل هذا خاصا بالحلف با للّه وأسمائه وصفاته ، أما ما يجىء لتأكيد الكلام ويجرى على ألسنة الناس دون قصد لليمين فلا يدخل فى باب النهى نح
وقوله صلى اللّه عليه وسلم للأعرابى « أفلح وأبيه إن صدق » .
ويدخل فى النهى الحلف بالنبي والكعبة وسائر ما هو معظم شرعا تعظيما يليق به ، ولقد كان غلوّ الناس فى تعظيم أنبيائهم والصالحين منهم سببا فى هدم الدين واستبدال الوثنية به.
2 - يجوز الحنث لمصلحة راجحة مع التكفير قبله لما
رواه أحمد والشيخان فى صحيحيهما عن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفّر عن يمينك »
وفى لفظ عن أبى داود والنسائي « فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير »
ودل اختلاف الرواية فى تقديم الأمر بالكفارة أو تأخيره على جواز الأمرين :
والحلف باعتبار المحلوف عليه أقسام :
(1) حلف على فعل واجب أو ترك حرام ، وهذا تأكيد لما كلف اللّه به ، لحنث ويكون الإثم مضاعفا.(7/17)
ج 7 ، ص : 18
(ب) حلف على ترك واجب أو فعل محرم ، ويجب فى هذا الحنث لأن اليمين معصية ، ومن ذلك الحلف على إيذاء الوالدين وعقوقهما أو منع ذى حق حقه الواجب له ، والحلف على ترك المباح كالطيب من الطعام ، فإن فى ذلك تشريعا بتحريم ما أحل اللّه كما فعلت الجاهلية فى تحريم بعض الطيبات.
(ج) حلف على فعل مندوب أو ترك مكروه ، وهذا طاعة يندب له الوفاء به ويكره الحنث ، ومن ذلك الحلف على ترك طعام معين كالطعام الذي فى هذه الصحفة مثلا ، كما فعل عبد اللّه بن رواحة فى تحريمه الطعام على نفسه ثم أكله منه لأجل الضيف
فقد أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن زيد بن أسلم « أن عبد اللّه بن رواحة ضافه ضيف من أهله وهو عند النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له ، فقال لامرأته حبست ضيفى من أجلى ؟ هو علىّ حرام ، فقالت امرأته هو علىّ حرام ، قال الضيف هو علىّ حرام ، فلما رأى ذلك وضع يده وقال : كلوا باسم اللّه ثم ذهب إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : قد أصبت ، فأنزل اللّه « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ » .
3 - الأيمان ثلاثة أقسام :
(1) ما ليس من أيمان المسلمين كالحلف بالمخلوقات نحو الكعبة والملائكة والمشايخ والملوك والآباء وتربتهم وهذه يمين غير منعقدة ، ولا كفارة فيها ، بل هى منهى عنها نهى تحريم لما تقدم من الأحاديث.
(ب) يمين باللّه تعالى كقوله واللّه لأفعلن ، وهذه يمين منعقدة فيها الكفارة عند الحنث.
(ج) أيمان فى معنى الحلف باللّه يريد بها الحالف تعظيم الخالق كالحلف بالنذر والحرام والطلاق والعتاق كقوله إن فعلت كذا فعلىّ صيام شهر ، أو الحج إلى بيت اللّه ، أو الحل علىّ حرام لا أفعل كذا ، أو الطلاق يلزمنى لا أفعل كذا ، أو إن فعلته(7/18)
ج 7 ، ص : 19
فنسائى طوالق أو عبيدى أحرار ، أو كل ما أملكه صدقة أو نحو ذلك. والصحيح الموافق للأقوال الثابتة عن الصحابة - وعليه يدل الكتاب والسنة - أنه يجزئه كفارة يمين فى جميع ذلك كما قال تعالى : « ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ » وقال : « قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ » وثبت فى الصحيح أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال « من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه » .
4 - الأيمان مبنية على العرف والنية لا على مدلولات اللغة واصطلاحات الشرع ، فمن حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لا يحنث وإن سماه اللّه لحما طريا إلا إن نواه أو كان يدخل في عموم اللحم فى عرف قومه ، كما أن من يحلّف غيره يمينا على شىء فالعبرة بنية المحلّف لا الحالف ، فقد روى مسلم وابن ماجه « اليمين على نية المستحلف » .
واليمين الغموس التي يهضم بها الحق أو يقصد بها الخيانة والغش لا يكفرها عتق ولا صدقة ولا صيام ، بل لا بد من التوبة وأداء الحق والاستقامة قال تعالى :
« وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ »
وقال صلى اللّه عليه وسلم : « من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى اللّه وهو عليه غضبان » رواه البخاري ومسلم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 93]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)(7/19)
ج 7 ، ص : 20
تفسير المفردات
الخمر : كل شراب مسكر ، والميسر : لغة القمار بالقداح فى كل شىء ثم استعمل فى كل مقامرة ، والأنصاب : حجارة كانوا يذبحون قرا بينهم عندها ، وروى أنهم كانوا يعبدونها ويتقربون إليها ، والأزلام : قداح أي قطع رقيقة من الخشب بهيئة السهام كانوا يستقسمون بها فى الجاهلية لأجل التفاؤل أو التشاؤم ، والرجس : المستقذر حسا أو معنى ، يقال رجل رجس ورجال أرجاس ، والرجس على أوجه : إما من جهة الطبع ، وإما من جهة العقل ، وإما من جهة الشرع كالخمر والميسر ، وإما من كل ذلك كالميتة لأنها تعاف طبعا وعقلا وشرعا ، والعداوة : تجاوز الحق إلى الإيذاء ، وطعم الشيء يطعمه : ذاق طعمه ، ثم استعمل فى ذوق طعم الشيء من طعام وشراب ، ومن الأول « فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا » أي أكلّم ، ومن الثاني « فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي » أي من لم يذق طعم مائه.
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه فيما سلف عن تحريم ما أحل اللّه من الطيبات وأمر بأكل ما رزق اللّه من الحلال الطيب وكان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر ، لا جرم أن بين عز اسمه أنهما غير داخلين فيما يحل. بل هما مما يحرم
وقد روى ابن جرير وابن مردويه(7/20)
ج 7 ، ص : 21
فى سبب نزول الآيات أن سعد بن أبى وقاص رضي اللّه عنه قال : « فىّ نزل تحريم الخمر - صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فأتاه ناس فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر وذلك قبل تحريمها ، فتفاخروا فقالت الأنصار : الأنصار خير. وقالت قريش : قريش خير ، فأهوى رجل بلحى جزور (فك رأس جزور) فضرب على أنفى ففزره. قال فأتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكرت له ذلك فنزلت » .
وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي وابن مردويه عن ابن عباس قال :
إنما نزل تحريم الخمر فى قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا ، فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض ، فلما أن صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه وبرأسه ولحيته فيقول :
صنع بي هذا أخى فلان واللّه لو كان رءوفا رحيما ما صنع بي هذا ، حتى وقعت الضغائن فى قلوبهم فأنزل اللّه هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فقال ناس من المتكلفين : هى رجس وهى فى بطن فلان قتل يوم بدر ، وفى بطن فلان قتل يوم أحد ، فأنزل اللّه (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) الآية.
وفى مسند أحمد ومسند أبى داود والترمذي « أن عمر كان يدعو اللّه تعالى : اللهم بيّن لنا فى الخمر بيانا شافيا ، فلما نزلت آية البقرة قرأها عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم فظل على دعائه ، وكذلك لما نزلت آية النساء ، فلما نزلت آية المائدة دعى فقرئت عليه فلما بلغ قول اللّه تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قال : انتهينا انتهينا » .
والحكمة فى تحريم الخمر بالتدريج أن الناس كانوا مغرمين بحبها كلفين بها فلو حرمت فى أول الإسلام لكان تحريمها صارفا لكثير من المدمنين لها عن الإسلام ، ومن ثم جاء تحريمها أولا فى سورة البقرة على وجه فيه مجال للاجتهاد فيتركها من لم تتمكن فتنتها من نفسه ، ثم ذكرها فى سورة النساء بما يقتضى تحريمها فى الأوقات القريبة من وقت الصلاة ، إذ نهى عن القرب من الصلاة فى حال السكر فلم يبق لمن يصرّ(7/21)
ج 7 ، ص : 22
على شربها إلا الاغتباق بعد صلاة العشاء وضرره قليل ، والصبوح من بعد صلاة الفجر لمن لا عمل له فلا يخشى أن يمتد سكره إلى وقت الظهر ، ثم تركهم اللّه على هذه الحال زمنا قوى فيه الدين وكثرت الوقائع التي ظهر لهم بها إثمها وضررها ، فحرمها تحريما باتا لا هوادة فيه.
روى ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت فى البقرة « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ » شربها قوم لقوله (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) وتركها قوم لقوله (إِثْمٌ كَبِيرٌ) منهم عثمان بن مظعون حتى نزلت الآية التي فى النساء « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى » فتركها قوم وشربها قوم ، يتركونها بالنهار حين الصلاة ويشربونها بالليل ، حتى نزلت الآية التي فى المائدة (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية قال عمر : أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام ؟ بعد لك وسحقا. فتركها الناس ووقع فى صدور أناس منها وقالوا ما حرم علينا شىء أشد من الخمر ، حتى جعل الرجل يلقى صاحبه فيقول إن فى نفسى شيئا فيقول صاحبه لعلك تذكر الخمر ، فيقول نعم ، فيقول إن فى نفسى مثل ما فى نفسك حتى ذكر ذلك قوم واجتمعوا فيه فقالوا : كيف نتكلم ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شاهد (حاضر) وخافوا أن ينزل فيهم (أي قرآن) فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد أعدّوا له حجة فقالوا : أ رأيت حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعبد اللّه بن حجش أ ليسوا فى الجنة ؟ قال بلى ، قالوا أ ليسوا قد مضوا وهم يشربون الخمر ؟ فحرم علينا شىء دخلوا الجنة وهم يشربونه ؟ فقال :
(قد سمع اللّه ما قلتم ، فإن شاء أجابكم) فأنزل اللّه : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ؟ ) فقالوا انتهينا. ونزل فى الذين ذكروا حمزة وأصحابه (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) الآية.(7/22)
ج 7 ، ص : 23
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي يا أيها الذين صدقوا اللّه ورسوله إن الخمر التي تشربونها ، والميسر الذي تتياسرونه ، والأنصاب التي تذبحون عندها ، والأزلام التي تستقسمون بها - إثم سخطه اللّه وكرهه لكم ، وهو من عمل الشيطان وتحسينه لكم لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربكم ، ولا مما يرضاه لكم.
(فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي فاتركوا هذا الرجس ولا تعملوه وكونوا فى جانب غير الجانب الذي هو فيه ، رجاء أن تفلحوا وتفوزوا بما فرض عليكم من تزكية أنفسكم وسلامة أبدانكم والتوادّ فيما بينكم.
وبعد أن أمر اللّه باجتناب الخمر والميسر ذكر أن فيهما مفسدتين إحداهما دنيوية وثانيتهما دينية وقد أشار إليهما بقوله :
(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) أي إن الشيطان يريد لكم شرب الخمر ومياسرتكم بالقداح ليعادى بعضكم بعضا ويبغّض بعضكم إلى بعض عند الشراب والمياسرة ، فيشتت أمركم بعد تأليف اللّه بينكم بالإيمان ، وجمعه بينكم بأخوّة الإسلام ، ويصرفكم بالسكر والاشتغال بالميسر عن ذكر اللّه الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم ، وعن الصلاة التي فرضها عليكم ، تزكية لنفوسكم وتطهيرا لقلوبكم.
أما كون الخمر سببا لوقوع العداوة والبغضاء بين الناس حتى الأصدقاء منهم ، فلأن شارب الخمر يسكر فيفقد العقل الذي يمنع من الأقوال والأعمال القبيحة التي تسوء الناس ، كما يستولى عليه حب الفخر الكاذب ، ويسرع إليه الغضب بالباطل ، وكثيرا ما يجتمع الشّرب على مائدة الشراب فيثير السكر كثيرا من ألوان البغضاء بينهم ، وقد ينشأ القتل والضرب والسلب والفسق والفجور وإفشاء الأسرار وهتك الأستار وخيانة الحكومات والأوطان.(7/23)
ج 7 ، ص : 24
وأما الميسر فهو مثار العداوة والبغضاء بين المتقامرين ، فإن تعداهم فإلى الشامتين والعائبين ومن تضيع عليهم حقوقهم من الدائنين وغير الدائنين ، وكثيرا ما يفرّط المقامر فى حقوق الوالدين والزوج والأولاد حتى يوشك أن يمقته كل أحد.
والميسر مع ما فيه من التوسعة على المحتاجين ، فيه إجحاف بأرباب الأموال ، لأن من صار مغلوبا فى القمار مرة دعاه ذلك إلى اللجاج فيه رجاء أن يغلب فيه مرة أخرى ، وقد يتفق ألا يحصل له ذلك إلى ألا يبقى له شىء من المال ، ولا شك أنه بعد ذلك سيصير فقيرا مسكينا ، ويصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا له غالبين.
وأما صد الخمر والميسر عن ذكر اللّه وعن الصلاة (وهما مفسدتهما الدينية) فذلك أظهر من كونهما مثارا للعداوة والبغضاء (وهما مفسدتهما الاجتماعية) لأن كل سكرة من سكرات الخمر ، وكل مرة من لعب القمار تصد السكران واللاعب وتصرفه عن ذكر اللّه الذي هو روح الدين ، وعن الصلاة وهى عماد الدين ، إذ السكران لا عقل له يذكر به آلاء اللّه وآياته ، ويثنى عليه بأسمائه وصفاته ، أو يقيم الصلاة التي هى ذكر اللّه ، ولو ذكر السكران ربه وحاول الصلاة لم تصح له ، وكذلك المقامر تتوجه جميع قواه العقلية إلى اللعب الذي يرجو منه الربح ويخشى الخسارة ، فلا يتوجه همه إلى ذكر اللّه ولا يتذكر أوقات الصلاة وما يجب عليه من المحافظة عليها.
وقد دلت المشاهدة على أن القمار أكثر الأعمال التي تشغل القلب وتصرفه عن كل ما سواه ، بل يحدث الحريق فى دار المقامر أو تحل المصايب بالأهل والولد ويستغاث به فلا يغيث بل يمضى فى لعبه ، والنوادر فى ذلك كثيرة.
إلى أن المقامر إذا تذكر الصلاة وترك اللعب لأجلها فإنه لا يؤدى منها إلا الحركات بدون أدنى تدبر أو خشوع ، لكنه على كل حال يفضل السكران إذ أنه لا يكاد يضبط أفعال الصلاة.
واللعب بالشّطرنج أو بالنرد إذا كان على مال دخل فى الميسر وكان حراما ، وإذا(7/24)
ج 7 ، ص : 25
لم يكن كذلك فلا وجه للقول بتحريمه إلا إذا تحقق كونه رجسا من عمل الشيطان موقعا فى العداوة والبغضاء صادّا عن ذكر اللّه وعن الصلاة بأن كان من المكثرين اللعب أو ممن يداومون عليه ، والشافعي كرهه لما فيه من إضاعة الوقت بلا فائدة.
ولما بين جل اسمه علة تحريم الميسر وحكمته أكد ذلك التحريم فقال :
(فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) هذا أمر بالانتهاء جاء بأسلوب الاستفهام وكان ذلك غاية فى البلاغة ، فكأنه قيل : قد تلى عليكم ما فيها من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم مع كل هذا منتهون ؟ أو أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا.
وقد أكد اللّه تحريم الخمر والميسر بوجوه من التأكيد :
(1) أنه سماهما رجسا ، والرجس كلمة تدل على منتهى ما يكون من القبح والخبث ، ومن ثم
قال صلى اللّه عليه وسلم « الخمر أم الخبائث » .
(2) أنه قرنها بالأنصاب والأزلام التي هى من أعمال الوثنية وخرافات الشرك ، وقد روى ابن ماجه عن أبى هريرة قوله صلى اللّه عليه وسلم « مدمن الخمر كعابد وثن » (3) أنه جعلهما من عمل الشيطان ، لما ينشأ عنهما من الشرور والطغيان وسخط الرحمن.
(4) أنه جعل اجتنابهما سبيلا للفلاح والفوز بالنجاة.
(5 ، 6) أنه جعلهما مثارا للعداوة والبغضاء ، وهما من أقبح المفاسد الدنيوية التي تولد كثيرا من المعاصي فى الأموال والأعراض والأنفس.
(7 ، 8) أنهما جعلا صادّين عن ذكر اللّه وعن الصلاة ، وهما روح الدين وعماده وزاده وعتاده.
(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي وأطيعوا اللّه تعالى فيما أمركم به من اجتناب الخمر والميسر وغيرهما من سائر المحرمات كالأنصاب والأزلام ونحوهما ، وأطيعوا الرسول فيما بينه لكم مما نزل عليكم من نحو قوله « كل مسكر خمر وكل خمر حرام » .(7/25)
ج 7 ، ص : 26
(وَاحْذَرُوا) أي واحذروا ما يصيبكم إذا أنتم خالفتم أمرهما من فتنة فى الدنيا وعذاب فى الآخرة ، فإنه سبحانه لم يحرّم عليكم إلا ما فيه ضرر لكم فى دنياكم وآخرتكم كما قال : « فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » .
(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي فإن أعرضتم عن اتباع أمرهما فالحجة قد قامت عليكم ، والرسول قد خرج من عهدة التبليغ والإعذار والإنذار ، وما بعد ذلك من عقاب للمخالف فأمره إلى اللّه كما قال عز اسمه « فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ » .
وفى هذا تهديد كثير ووعيد شديد لمن خالف أوامر اللّه وفعل نواهيه.
(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)
أي ليس على الذين آمنوا وعملوا صالح الأعمال من الأحياء والأموات إثم ومؤاخذة فيما أكلوا من الميسر أو شربوا من الخمر فيما مضى قبل تحريمها وتحريم غيرهما مما لم يكن محرما ثم حرم ، إذا ما اتقوا اللّه وآمنوا بما كان قد نزل من الأحكام ، وعملوا الصالحات التي كانت قد شرعت كالصلاة والصيام وغيرهما ، ثم اتقوا ما حرّم عليهم بعد ذلك عند العلم به.
وآمنوا بما نزل فيه وفى غيره ، ثم استمروا على التقوى وأحسنوا صالح أعمالهم فأتوا بها على وجه الكمال وتمموا نقص فرائضها بنوافل الطاعات ، واللّه يحب المحسنين فلا يبقى فى قلوبهم أثرا من الآثار السيئة التي وصف بها الخمر والميسر من الإيقاع فى العداوة والصد عن ذكر اللّه وعن الصلاة.
والخلاصة - إن من صحّ إيمانه وصلح عمله وعمل فى كل حين بنصوص الدين وما أداه إليه اجتهاده واستمر على ذلك حتى ارتقى إلى مقام الإحسان ، فلا يحول ما كان قد أكل أو شرب مما لم يكن محرما عليه بحسب اعتقاده - دون تزكية نفسه وتطهير قلبه.(7/26)
ج 7 ، ص : 27
روى أنه لما نزل تحريم الخمر قال بعض الصحابة : فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر فنزلت الآية.
تتمة - اختلف العلماء فى التداوى بالخمر والنجاسات والسموم ، وأصح الآراء فى ذلك أنه يجوز لما فى الصحيحين أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أذن للعرنّيين بالتداوى بأبوال الإبل ، بشرط الاضطرار الذي يبيح المحرم من طعام وشراب بدليل قوله تعالى « وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ » كمن غصّ بلقمة فكاد يختنق فلم يجد ما يسيغها به سوى الخمر ، وكمن أصابته نوبة ألم فى القلب كادت تقضى عليه وقد أخبره الطبيب بأن لا سبيل لدفع الخطر سوى شرب مقدار من الخمر من النوع المعروف (باسم كونياك) فقد يرى الطبيب أنه يتعين فى بعض الأحيان لعلاج ما يعرض من آلام القلب لدرء الخطر كما ثبت بالتجربة.
أما التداوى بالخمر لمن يظن نفعها ولو بإخبار الطبيب كتقوية المعدة أو الدم أو نحو ذلك مما تسمعه من كثير من الناس فذلك منهى عنه
للحديث « إنه ليس بدواء ولكنه داء » رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
و
كان سببه أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الخمر وكان يصنعها فنهاه عنها فقال : إنما أصنعها للدواء فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك.
وقوله : (ولكنه داء) هذا هو رأى الأطباء ، إذ أن المادة المسكرة من الخمر سمّ تتوالد منها أمراض كثيرة يموت بها فى كل عام عدد لا يحصى من الناس.
والذين يشربون الخمر ولو بقصد التداوى يؤثر سمّها فى أعصابهم بكثرة التعاطي فتصير مطلوبة عندهم لذاتها فيضرهم سمها ، فعلى المسلم الصادق الإيمان ألا يغتر برأى بعض الأطباء الذين يصفونها للتداوى لمثل الأمراض التي يصفونها لها عادة.
وقد دلت التجارب على أن الذين يبتلون بشربها لا يقدمون على ذلك إلا بإغراء المعاشرين من الأهل والأصحاب ، على استبشاعهم لها واعتقادهم ضررها ومخالفتهم(7/27)
ج 7 ، ص : 28
أوامر دينهم ، لكن الذي يسهل عليهم ذلك ظنهم أن الضرر المتيقن إنما يكون بالإسراف والانهماك فى الشراب ، وأن القليل منها إن لم ينفع فلا يضر ، فلا ينبغى تركه مع ما فيه من لذة النشوة والذهول عن همؤم الدنيا وآلامها.
إلى ما فى ذلك من مجاملة الإخوان ، لكنهم مخدوعون إذ هم لو سألوا من سبقهم إلى هذه البلوى وأسرف فى السكر حتى فسدت صحته ومروءته وضاعت ثروته ، هل كنت حين بدأت تنوى الإسراف والإدمان ؟ لأجابك بأنه ما كان يقصد إلا النزر القليل فى فترات متطاولة من الزمن ، وما كان يعلم أن القليل يجر إلى الكثير الذي يصيبه بالداء الدوىّ ولا يجد إلى الخلاص منه سبيلا.
وقد يعرض لبعض من يؤمن بحرمة الخمر شبهات فيقول إن الخمر المتخذة من العنب هى المحرمة لذاتها وأن ما عداها لا يحرم منه إلا المقدار المسكر فعلا ، لكنهم واهمون فيما فهموا ، إذ
جاء فى الحديث الصحيح قوله صلى اللّه عليه وسلم : « كل مسكر خمر وكل خمر حرام » .
وآخر تعلة لهم الغرور بكرم اللّه وعفوه ، أو اعتمادهم على بعض الأعمال الصالحة - ولا سيما ما يسمونه بالمكفّرات - أو على الشفاعات وهذا الجهل والغرور يصبح عقيدة فى نفوسهم بما يسمعونه من كلام فساق الشعراء المدمنين كأبى نواس كقوله :
تكثّر ما استطعت من المعاصي فإنك واجد ربا غفورا
وقوله : ورجوت عفو اللّه معتمدا على خير الأنام محمد المبعوث
ولو صح أمثال هذا الهذيان لكان الدين لغوا وعبثا. ولكان المسلم يضرب بأوامر دينه عرض الحائط انتظارا لشفاعة ترجى أو عفو ربما أتيح له من فضل ربه ، وكان التقى والفاجر سواء
وقد ثبت فى صحيح الأحاديث « أنه كان يؤتى بالشارب فى عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم فيضرب بالأيدى والجريد وبالثياب والنعال »
وفى حديث أنس : « أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أتى برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين »(7/28)