وعن الحسن ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضاً ، وعن الكلبي الشجرة التي منها نودي موسى شجرة العوسج ومنها كانت عصاه ، ولما أصبح قال له شعيب إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك فإن الكلأ وإن كان بها كثيراً إلا أنّ فيها تنيناً أخشاه عليك فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها فمشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله فنام فإذا بالتنين قد أقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى دامية فلما أبصرها دامية والتنين مقتولاً ارتاح لذلك ، ولما رجع إلى شعيب مس الغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن فأخبره موسى ففرح وعلم أنّ لموسى والعصا شأناً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 138
144
{فلما قضى موسى الأجل} أي : أتمه وفرغ منه وزوّجه ابنته ، قال مجاهد مكث بعد ذلك عند صهره عشراً أخرى فأقام عنده عشرين سنة ، ثم إنّ شعيباً عليه السلام أراد أن يجازي موسى على رعيته إكراماً له وصلة لابنته فقال له إني وهبت لك من الجداء التي تضعها أغنامي هذه السنة كل أبلق وبلقاء فأوحى الله تعالى إلى موسى في المنام أن اضرب بعصاك الماء الذي في مستقى الأغنام قال فضرب موسى بعصاه الماء ثم سقى الأغنام منه فما أخطأت واحدة منها إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء فعلم شعيب أنّ ذلك رزق ساقه الله عز وجلّ إلى موسى وامرأته فوفى له بشرطه وسلم الأغنام إليه ، ثم إنّ موسى استأذنه في العود إلى مصر فأذن له فخرج {وسار بأهله} أي : امرأته راجعاً إلى أقاربه بمصر {آنس} أي : أبصر من بعيد {من جانب الطور} اسم جبل {ناراً} آنسته رؤيتها وكان في البرية في ليلة مظلمة شديدة البرد وأخذ امرأته الطلق حينئذ {قال لأهله امكثوا} أي : ههنا ، وقرأ حمزة في الوصل بضم الهاء قبل همزة الوصل ، وعبر موسى عليه السلام بضمير الذكور فلعل كان معه بنون فغلبهم على امرأته ، وقد ذكرت غير ذلك في السورة التي قبل هذه ، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لاستبعاد أن يكون في ذلك المكان القفر وفي ذلك الوقت الشديد البرد ناراً {إني آنست ناراً} فتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو ، وسكنها الباقون ، كأنه قيل فماذا تعلم بها فقال معبراً بالترجي لأنه أليق بالتواضع {لعلى آتيكم منها} أي : من عندها {بخبر} أي : عن الطريق لأنه كان قد أخطأها {أوجذوة} أي : قطعة وشعلة {من النار} وقال قتادة ومقاتل : هو العود الذي احترق بعضه تنبيه : من النار صفة لجذوة ولا يجوز تعلقها بآتيكم كما تعلق به منها لأنّ هذه النار هي النار المذكورة ، والعرب إذا قدمت نكرة وأرادت إعادتها أعادتها مضمرة أو معرفة بأل العهدية وقد جمع الأمرين هنا ، وقرأ عاصم بفتح الجيم وحمزة بضمها ، والباقون بالكسر وكلها لغات وجمعها جذى ، ثم استأنف قوله {لعلكم تصطلون} أي : لتكونوا على رجاء من أن تقربوا من النار فتعطفوا عليها للتدفؤ ، وهذا دليل على أنّ الوقت كان شتاء.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 144
فلما أتاها} أي : النار ، وبنى {نودي} للمفعول لأنّ آخر الكلام يدلّ دلالة واضحة على أنّ المنادي هو الله تعالى ولما كان نداؤه تعالى لا يشبه نداء غيره بل يكون من جميع الجوانب ومع ذلك قد يكون لبعض المواضع مزيد شرف بوصف من الأوصاف إمّا بأن يكون أوّل السماع منه أو غيره ذلك أو يكون باعتبار موسى عليه السلام قال {من شاطئ الواد} فمِنْ : لابتداء الغاية ، وقوله تعالى {الأيمن} صفة للشاطئ أو للوادي ، والأيمن من اليمن وهو البركة أو من اليمين المعادل لليسار من العضوين ومعناه على هذا بالنسبة إلى موسى أي : الذي يلي يمينك دون يسارك ، والشاطئ ضفة الوادي والنهر أي : حافته وطرفه وكذا الشط والسيف والساحل كلها بمعنى ، وجمع الشاطئ أشطأ
145
قاله الراغب وشاطأ فلاناً ماشيته سار بها على الشاطئ ، وقوله تعالى {في البقعة المباركة} متعلق بنودي أو بمحذوف على أنه حال من الشاطئ ومعنى المباركة جعلها الله تعالى مباركة لأنّ الله تعالى كلم موسى عليه السلام هناك وبعثه نبياً ، وقال عطاء : يريد المقدسة وقوله تعالى : {من الشجرة} بدل من شاطئ الوادي بإعادة الجار بدل اشتمال لأنّ الشجرة كانت ثابتة على الشاطئ ، قال البقاعي : ولعلّ الشجرة كانت كبيرة فلما وصل إليها دخل النور من طرفها إلى وسطها فدخلها وراءه بحيث توسطها فسمع وهو فيها الكلام من الله تعالى حقيقة وهو المتكلم سبحانه وتعالى لا الشجرة.
قال القشيري : وحصل الإجماع على أنه عليه السلام سمع تلك الليلة كلام الله تعالى ولو كان ذلك نداء الشجرة لكان المتكلم الشجرة وقال التفتازانيّ : في شرح المقاصد إنّ اختيار حجة الإسلام أنه سمع كلامه الأزليّ بلا صوت ولا حرف كما ترى ذاته في الآخرة بلاكمّ ولا كيف.(3/97)
واختلف في الشجرة ما هي ؟
فقال ابن مسعود : كانت سمرة خضراء ، وقال قتادة ومقاتل والكلبي : كانت عوسجة ، وقال وهب : من العليق ، وعن ابن عباس أنها العناب ، ثم ذكر المنادى به بقوله تعالى : {أن يا موسى} فأَنْ هي مفسرة لا مخففة {إنّي أنا الله} أي : المستجمع للأسماء الحسنى والصفات العليا ، وفتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو وسكنها الباقون ثم وصف نفسه سبحانه تعالى بقوله {رب العالمين} أي : خالق الخلائق أجمعين ومربيهم ، قال البيضاوي : هذا وإن خالف ما في طه والنمل في اللفظ فهو طبقه في المقصود انتهى ، وقال ابن عادل : واعلم أنه تعالى قال في سورة النمل {نودي أن بورك من في النار ومن حولها} (النمل : 8)
جزء : 3 رقم الصفحة : 144
وقال ههنا {إني أنا الله رب العالمين} وقال في سورة طه {إني أنا ربك} ولا منافاة بين هذه الأشياء فهو تعالى ذكر الكل إلا أنه تعالى حكى في كل سورة ما اشتمل عليه ذلك النداء ، ثم إنّ الله تعالى أمره أن يلقي عصاه ليريه آية بقوله تعالى :
{وأن ألق عصاك} أي : لأريك فيها آية فألقاها فصارت في الحال حية عظيمة وهي مع عظمها في غاية الخفة {فلما رآها} أي : العصا {تهتز} أي : تتحرّك كأنها في سرعتها وخفتها {جانّ} أي : حية صغيرة {ولى مدبراً} خوفاً منها ولم يلتفت إلى جهتها وهو معنى قوله تعالى {ولم يعقب} أي : موسى عليه السلام وذلك كناية عن شدّة التصميم على الهرب والإسراع فيه خوفاً من الإدراك في الطلب فقيل له {يا موسى أقبل} أي : التفت وتقدّم إليها {ولا تخف} ثم أكد له الأمر لما الآدميُّ مجبول عليه من النفرة وإن اعتقد صحة الخبر بقوله تعالى : {إنك من الآمنين} أي : العريقين في الأمن كعادة إخوانك من المرسلين فإنه لا يخاف لديّ المرسلون ثم زاد طمأنينة بقوله تعالى :
{اسلك} أي : ادخل على الاستقامة مع الخفة والرشاقة {يدك في جيبك} أي : القطع الذي في ثوبك وهو الذي يخرج منه الرأس أو هو الكم كما يدخل السلك وهو الخيط الذي ينظم فيه الدرّ {تخرج بيضاء} بياضاً عظيماً يكون له شأن خارق للعادات {من غير سوء} أي : عيب من أثر الحريق الذي عجز فرعون عن مداواته أو غيره فخرجت ولها شعاع كشعاع الشمس يعشي البصر تنبيه : قد ذكر هذا المعنى بثلاث عبارات إحداها هذه وثانيتها : {واضمم يدك إلى جناحك} (طه : 22)
وثالثتها : {وأدخل يدك في جيبك} (النمل ، 12) .
146
{واضمم إليك جناحك} أي : يديك المبسوطتين تتقي بهما الحية كالخائف الفزع بإدخال اليمنى تحت عضد اليسرى وبالعكس ، أو بإدخالهما في الجيب فيكون تكريراً لغرضٍ آخر وهو أن يكون ذلك في وجه العدو أظهر جراءة ومبدأ لظهور معجزة ويجوز أن يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا حية استعارة من حال الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه ، ومنه ما يحكي عن عمر بن عبد العزيز : أن كاتباً له كان يكتب بين يديه فانفلتت منه فلتة ريح فخجل وانكسر فقام وضرب بقلمه الأرض فقال له عمر : خذ قلمك واضمم إليك جناحك وليفرخ روعك فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي.
ومعنى قوله تعالى {من الرهب} من أجل الرهب أي : إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك تجلداً وضبطاً لنفسك ، جعل الرهب الذي كان يصيبه سبباً وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه ، قال الفراء : أراد بالجناح العصا ومعناه اضمم إليك عصاك ، قال البغويّ : وقيل الرهب الكمّ بلغة حمير ، قال الأصمعي : سمعت بعض الأعراب يقول أعطني ما في رهبك أي : في كمك ومعناه اضمم إليك يدك وأخرجها من الكمّ لأنه تناول العصا ويده في كمه انتهى ، قال الزمخشريّ معترضاً هذا القول :
جزء : 3 رقم الصفحة : 144
ومن بدع التفاسير أن الرهب الكمّ بلغة حمير وأنهم يقولون أعطني ما في رهبك وليت شعري كيف صحته في اللغة وهل سمع من الأثبات الثقات الذين ترضى عربيتهم ثم ليت شعري كيف وقعه في الآية وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل على أن موسى عليه السلام ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمين لها انتهى.(3/98)
ويحتمل أن يكون لها كمّ قصير فمن نفى نظر إلى قصره ومن أثبت نظر إلى أصله وحينئذٍ لا تعارض ، وفي البغوي عن ابن عباس : أن الله تعالى أمره أن يضم يده إلى صدره ليذهب عنه الروع وما ناله من الخوف عند معاينة الحية وقال : وما من خائف بعد موسى عليه السلام إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه ، وقال مجاهد : وكل من فزع فضمّ جناحه إليه ذهب عنه الفزع ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الراء والهاء وحفص بفتح الراء وسكون الهاء ، والباقون بضمّ الراء وسكون الهاء ، والكل لغات ، ولما تم كونه آية بانقلابها إلى البياض ثم رجوعها إلى لونها قال الله تعالى : {فذانك} أي : العصا واليد البيضاء ، وشدد ابن كثير وأبو عمرو النون ، وخففها الباقون {برهانان} أي : سلطانان وحجتان قاهرتان مرسلان {من ربك} أي : المحسن إليك لا يقدر على مثلهما غيره {إلى فرعون وملإيه} أي : وأنت مرسل بهما إليهم كلما أردت ذلك وجدته لا أنهما يكونان لك هنا في هذه الحضرة فقط ، فإن قيل لم سميت الحجة برهاناً ؟
أجيب : بأنّ ذلك لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء برهرهة بتكرير العين واللام معاً والدليل على زيادة النون قولهم أبره الرجل إذا جاء بالبرهان ونظيره تسميتهم إياها سلطاناً من السليط وهو الزيت لإنارتها ، ثم علل الإرسال إليهم على وجه إظهار الآيات لهم واستمرارها بقوله :
{إنهم كانوا} أي : جبلة وطبعاً {قوماً} أي : أقوياء {فاسقين} أي : خارجين عن الطاعة فكانوا أحقاء أن يرسل إليهم ، ولما قال تعالى : {فذانك برهانان} إلى آخره تضمن ذلك أن يذهب موسى بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه فعند ذلك طلب من يعينه بأن {قال رب} أي : أيها المحسن إليّ {إني قتلت منهم
147
نفّساً} هو القبطي السابق وأنت تعلم أني ما خرجت إلا هارباً منهم لأجلها {فأخاف} إن بدأتهم بمثل ذلك {أن يقتلون} به لوحدتي وغربتي وثقل لساني في إقامة الحجج فأخاف أن يفوت المقصود بقتلي ولا يحمي من ذلك إلا أنت وإنّ لساني فيه عقدة.
{وأخي هارون هو أفصح مني لساناً} أي : من جهة اللسان للعقدة التي كانت حصلت له من وضع الجمرة في فيه وهو طفل في كفالة فرعون ، وقيل كانت من أصل الخلقة والفصاحةُ لغةً الخلوص ومنه فصح اللبن خلص من رغوته وفصح الرجل جادت لغته ، وأفصح تكلم بالعربية {فأرسله} أي : بسبب ذلك {معي رِدْءَاً} أي : معيناً من ردأت فلاناً بكذا أي : جعلته له قوّة وعاضداً وردأت الحائط إذا دعمته بخشب أو كبش يدفعه أن يسقط ، وقرأ نافع بنقل حركة الهمزة إلى الدال وحذف الهمزة ، والباقون بسكون الدال وتنوين الهمزة بعدها ، ولما كان له عليه من العطف والشفقة ما يقصر الوصف عنه نبه على ذلك بإجابة السؤال بقوله {يصدّقني} أي : بأن يخلص بفصاحته ما قلته ويبينه ويقيم الأدلة عليه حتى يصير كالشمس وضوحاً فيكون مع تصديقه لي بنفسه سبباً في تصديق غيره لي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 144
وقرأ عاصم وحمزة بضم القاف على الاستئناف أو الصفة لردءاً والباقون بالسكون جواباً للأمر ، قال الرازي : ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت أو يقول للناس صدق موسى وإنما هو أن يخلص بلسانه الفصيح وجوب الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار فهذا هو التصديق المفيد ، وفائدة الفصاحة إنما تظهر في ذلك لا في مجرّد قوله صدقت ، قال السدي : نبيان وآيتان أقوى من نبي واحد وآية واحدة وهذا ظاهر من جهة العادة وأما من جهة الدلالة فلا فرق بين معجز ومعجزين ، ثم علل سؤاله هذا بقوله {إني أخاف أن يكذبون} أي : فرعون وقومه ولساني لا يطاوعني عند المحاجة.
{قال} الله تعالى له مجيباً لسؤاله {سنشدّ عضدك} أي : أمرك {بأخيك} أي : سنقويك ونعينك به {ونجعل لكما سلطاناً} أي : ظهوراً عظيماً وغلبة لهم بالحجج والهيبة لأجل ما ذكرت من الخوف {فلا} أي : فتسبب عن ذلك أنهم لا {يصلون إليكما} بنوع من أنواع الغلبة {بآياتنا} أي : نجعل ذلك بسبب ما يظهر على أيديكما من الآيات العظيمة بنسبتها إلينا ولذلك كانت النتيجة {أنتما ومن اتبعكما} من قومكما وغيرهم {الغالبون} أي : لا غيركم وهذا يدل على أنّ فرعون لم يصل إلى السحرة بشيء مما هددهم به لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين أنفسهم في الله تعالى وليس في القرآن ما يدل على أنه فعل بهم ما أوعدهم به.
قال البقاعي : وكأنه حذف أمرهم هنا لأنه في بيان أمر فرعون وجنوده بدليل ما كرّر من ذكرهم وقد كشفت العاقبة عن أنّ السحرة ليسوا من جنوده بل من حزب الله تعالى وجنده ، ومع ذلك فقد أشار إليهم بهذه الآية والتي بعدها. اه ولما كان التقدير فأتاهم كما أمره الله تعالى وعاضده أخوه كما أخبر الله تعالى ودعاهم إلى الله تعالى وأظهرا ما أمرا به من الآيات بنى عليه مبيناً بالفاء سرعة امتثاله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 144(3/99)
{فلما جاءهم} أي : فرعون وقومه ولما كانت رسالة هارون عليه السلام إنما هي تأييد لموسى عليه السلام أشار إلى ذلك بالتصريح باسم الجائي بقوله تعالى : {موسى بآياتنا} أي : التي أمرناه بها الدالة على جميع الآيات للتساوي في خرق العادة حال كونها {بينات} أي : في غاية الوضوح {قالوا}
148
أي : فرعون وقومه {ما هذا} أي : الذي أظهرته من الآيات {إلا سحر مفترى} أي : مختلق لا أنه معجزة من عند الله ثم ضموا إليه ما يدل على جهلهم وهو قولهم {وما سمعنا} أي : ما حدّثنا {بهذا} أي : الذي تدعونا إليه وتقوله من الرسالة عن الله تعالى {في آبائنا} وأشاروا إلى البدعة التي أضلت كثيراً من الخلق وهي تحكيم عوائد التقليد لا سيما عند تقادمها على القواطع في قولهم {الأولين} وقد كذبوا وافتروا لقد سمعوا بذلك على أيام يوسف عليه السلام .
*وما بالعهد من قدم*
{فقد قال لهم الذي آمن} يا قوم أني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب إلى قوله {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات}.
{و} لما كذبوه وهم الكاذبون {قال} لهم {موسى ربي} أي : المحسن إليّ {أعلم} أي : عالم {بمن جاء بالهدى} أي : الذي أذن الله تعالى فيه وهو حق في نفسه {من عنده} فيعلم أني محق وأنتم مبطلون ، وقرأ ابن كثير بغير واوٍ قبل القاف لأنه قاله جواباً لمقالهم ، والباقون بالواو لأنّ المراد حكاية القولين ليوازن الناظر بينهما ليميز صحيحهما من فاسدهما {ومن تكون له} أي : لكونه منصوراً مؤيداً {عاقبة الدار} أي : الراحة والسكن والاستقرار ، فإن قيل : العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسميا عاقبة الدار لأنّ الدنيا إما أن تكون خاتمتها بخير أو بشر فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمها بالشرّ ؟
.
جزء : 3 رقم الصفحة : 148
أجيب : بأنّ الله تعالى قد وضع الدنيا مجازاً إلى الآخرة وأراد بعباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير ، وما خلقهم إلا لأجله ليبلغوا خاتمة الخير وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تخويف الفجار ، وقرأ حمزة والكسائيّ بالياء على التذكير ، والباقون بالتاء على التأنيث ، ثم علل ذلك بما أجرى الله تعالى به عادته فقال معلماً بأنّ المخذول هو الكاذب إشارة إلى أنه الغالب لكون الله تعالى معه مؤكداً لما استقرّ في الأنفس من أنّ القويّ لا يغلبه الضعيف {إنه لا يفلح} أي : لا يظفر ولا يفوز {الظالمون} أي : الكافرون الذين يمشون كما يمشي من هو في الظلام بغير دليل.
{وقال فرعون} جواباً لهذا الترغيب والترهيب {يا أيها الملأ} أي : الأشراف معظماً لهم استجلاباً لقلوبهم {ما علمت لكم من إله غيري} فتضمن كلامه نفي إلهية غيره وإثبات إلهية نفسه فكأنه قال : ما لكم من إله إلا أنا كما قال الله تعالى{قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض} (يونس : 18)
أي : بما ليس فيهنّ وذلك أنّ العلم تابع للموجود لا يتعلق به إلا على ما هو عليه فإذا كان الشيء معدوماً لم يتعلق به موجود فمن ثم كان انتفاء العلم بوجوده انتفاء لوجوده ، فعبر عن انتفاء وجوده بانتفاء العلم بوجوده ، ويجوز أن يكون على ظاهره وأنّ إلهاً غير معلوم عنده ولكنه مظنون بدليل قوله {وأني لأظنه من الكاذبين} وإذا ظنه كاذباً في إثباته إلهاً غيره ولم يعلمه كاذباً فقد ظنّ أنّ في الوجود إلهاً غيره ولو لم يكن المخذول ظاناً ظناً كاليقين بل عالماً بصحة قول
149
موسى لقول موسى له.
{لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} ثم تسبب عن جهله قوله لوزيره معلماً له صنعة الآجر لأنه أوّل من عمله ، قال عمر رضي الله تعالى عنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر ما علمت أنّ أحداً بنى بالآجر غير فرعون {فأوقد لي} وأضاف الإيقاد إليه إعلاماً بأنه لا بدّ منه {يا هامان} وهو وزيره {على الطين} أي : المتخذ لبناً ليصير آجراً ، ثم تسبب عن الإيقاد قوله {فاجعل لي} أي : منه {صرحاً} أي : قصراً عالياً ، وقيل : منارة ، وقال الزجاج : هو كل بناء متسع مرتفع {لعلي أطلع} أي : أتكلف الطلوع {إلى إله موسى} أي : الذي يدعو إليه فإنه ليس في الأرض أحد بهذا الوصف الذي ذكره فأنا أطلبه في السماء موهماً لهم أنه مما يمكن الوصول إليه وهو قاطع بخلاف ذلك ولكنه يقصد المدافعة من وقت إلى وقت.
جزء : 3 رقم الصفحة : 148(3/100)
قال أهل السير : لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع العمال والفعلة حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء ومن يطبخ الآجر والجص وينجر الخشب ويضرب المسامير فرفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعاً لم يبلغه بنيان أحد من الخلق أراد الله تعالى أن يفتنهم فيه فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه فأمر بنشابه فضرب بها نحو السماء فردّت إليه وهي ملطخة دماً فقال : قد قتلت إله موسى وكان فرعون يصعد على البراذين فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام فضرب الصرح بجناحه فقطعه ثلاث قطع فوقع منها قطعة على عسكر فرعون فقتلت منهم ألف ألف رجل ، ووقعت قطعة في البحر ، وقطعة في المغرب ولم يبق أحد ممن عمل فيه بشيء إلا هلك ثم زادهم شكاً بقوله مؤكداً لأجل رفع ما استقرّ في الأنفس من صدق موسى عليه السلام {وإني لأظنه} أي : موسى عليه السلام {من الكاذبين} أي : دأبه ذلك وفرعون هو الذي قد لبس وكذب ووصف أصدق أهل ذلك الزمان بصفة نفسه الغريقة في العدوان.
{واستكبر} أي : أوجد الكبر بغاية الرغبة فيه {هو} بقوله هذا الذي صدّهم به عن السبيل {وجنوده} بإعراضهم لشدّة رغبتهم في الكبر على الحق والاتباع للباطل {في الأرض} أي : أرض مصر قال البقاعي : ولعله عرّفها إشارة إلى أنه لو قدر على ذلك في غيرها فعل {بغير الحق} أي : بغير استحقاق قال البقاعي : والتعبير بالتعريف يدل على أنّ التعظيم بنوع من الحق ليس بكبر وإن كانت صورته كذلك وأما تكبره سبحانه فهو بالحق كله قال صلى الله عليه وسلم فيما حكاه عن ربه : "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار" {وظنوا} أي : فرعون وجنوده ظناً بنوا عليه اعتقادهم في أصل الدين الذي لا يكون إلا بقاطع {أنهم إلينا} أي : إلى حكمنا خاصة الذي يظهر عند انقطاع الأسباب {لا يرجعون} بالنشور ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم والباقون بضمّ الياء وفتح الجيم ، ولما تسبب عن ذلك إهلاكهم قال تعالى :
{فأخذناه وجنوده} كلهم أخذ قهر ونقمة وذلك علينا هيِّن وأشار تعالى إلى احتقارهم بقوله تعالى : {فنبذناهم} أي : طرحناهم {في اليم} أي : البحر المالح فغرقوا فكانوا على كثرتهم وقوّتهم كحصيات صغار قذفها الرامي الشديد الدرء من يده في البحر ونحو ذلك قوله تعالى : {وجعلنا فيها رواسي شامخات} (المرسلات ، 27)
وقوله تعالى {وحملت
150
الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة} (الحاقة : 14)
جزء : 3 رقم الصفحة : 148
ولما تسبب عن هذه الآيات من العلوم ما لا تحيط به الفهوم قال تعالى :
{فانظر} أي : أيها المعتبر بالآيات الناظر فيها نظر اعتبار {كيف كان عاقبة} أي : آخر أمر {الظالمين} حيث صاروا إلى الهلاك فحذِّر قومك عن مثلها وفي هذا إشارة إلى أنّ كل ظالم تكون عاقبته هكذا إن صابره المظلوم المحق ورابطه {حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين } ولما كان : "من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" قال الله تعالى :
{وجعلناهم} أي : في الدنيا {أئمة} أي : قدوة للضلال بالحمل على الإضلال ، وقيل بالتسمية كقوله تعالى {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً} (الزخرف : 19)
أو بمنع الألطاف الصارفة عنه {يدعون} أي : يوجدون الدعاء لمن اغتر بحالهم فضل بضلالهم {إلى النار} أي : إلى موجباتها من الكفر والمعاصي ، وأمّا أئمة الحق فإنما يدعون إلى موجبات الجنة من فعل الطاعات والنهي عن المنكرات : جعلنا الله تعالى وأحبابنا معهم بمحمد وآله ، ولما كان الغالب من حال الأئمة النصرة وقد أخبر عن خذلانهم في الدنيا قال تعالى : {ويوم القيامة} أي : الذي هو يوم التغابن {لا ينصرون} أي : لا يكون لهم نوع نصرة تدفع العذاب عنهم.
{وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة} أي : طرداً عن الرحمة ودعاء عليهم بذلك من كل من سمع خبرهم بلسانه إن خالفهم أو بفعله الذي يكون عليهم مثل وزره إن وافقهم ، وإنما قال الله تعالى : {الدنيا} ولم يقل الحياة ، قال البقاعي : لأنّ السياق لتحقير أمرهم ودناءة شأنهم.
{ويوم القيامة هم} أي : خاصة ومن شاكلهم {من المقبوحين} أي : المبعدين أيضاً المخزيين مع قبح الوجوه والأشكال والشناعة في الأقوال والأفعال والأحوال من القبح الذي هو ضد الحسن من قولهم : قبح الله العدو أبعده عن كل خير ، وقال أبو عبيدة : من المهلكين ، قال البقاعي : فيا ليت شعري أي : صراحة بعد هذا في أنّ فرعون عدوّ الله في الآخرة كما كان عدوّ الله في الدنيا فلعنة الله على من يقول إنه مات مؤمناً وأنه لا صراحة في القرآن بأنه من أهل النار وعلى من يشك في كفره بعدما ارتكبه من جلي أمره انتهى ، وقد قدّمت الكلام في سورة يونس على قول فرعون وأنا من المسلمين.
ثم إنه تعالى أخبر عن أساس إمامة بني إسرائيل مقسماً عليه مع الافتتاح بحرف التوقع بقوله.(3/101)
{ولقد آتينا} أي : بما لنا من الجلال والكمال {موسى الكتاب} أي : التوراة الجامعة للهدى والخير في الدارين ، قال أبو حيان : وهو أوّل كتاب نزلت فيه الفرائض والأحكام.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 148
من بعدما أهلكنا القرون الأولى} أي : من قوم نوح إلى قوم فرعون وقوله تعالى {بصائر للناس} حال من الكتاب جمع بصيرة وهي نور القلب أي : أنوار القلوب فيبصر بها الحقائق ويميز بين الحق والباطل كما أنّ البصر نور العين الذي تبصر به {وهدى} أي : للعامل بها إلى كل خير
151
{ورحمة} أي : نعمة هنيئة شريفة لأنها قائدة إليهما ، ولما ذكر حالها ذكر حالهم بعد إنزالها بقوله تعالى : {لعلهم يتذكرون} أي : ليكون حالهم حال من يرجى تذكره ، ثم إنّ الله تعالى خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 148
{وما كنت} أي : يا أفضل الخلق {بجانب الغربي} قال قتادة : بجانب الجبل الغربي ، وقال الكلبي : بجانب الوادي الغربي أي : الوادي من الطور الذي رأى موسى عليه السلام فيه النار وهو ما يلي البحر من جهة الغرب على يمين المتوجه إلى ناحية مكة المشرّفة من ناحية مصر فناداه فيه العزيز الجبار وهو ذو طوى {إذ} أي : حين {قضينا} أي : أوحينا {إلى موسى الأمر} أي : أمر الرسالة إلى فرعون وقومه وما يريد أن يفعل من ذلك في أوّله وأثنائه وآخره مجملاً فكان كل ما أخبرنا به مطابقاً تفصيله لإجماله {وما كنت} أي : بوجه من الوجوه {من الشاهدين} لتفاصيل ذلك الأمر الذي أجملناه لموسى عليه السلام حتى تخبر به كله على هذا الوجه الذي آتيناك به في هذه الأساليب المعجزة ، ولا شك أنّ معرفتك لذلك من قبيل الأخبار عن المغيَّبات التي لا تعرف إلا بالوحي ولذلك استدرك عنه بقوله تعالى :
{ولكنا} أي : بما لنا من العظمة {أنشأنا} بعدما أهلكنا أهل ذلك الزمان الذين علموا هذه الأمور بالمشاهدة وهم السبعون المختارون للميقات أو بالإخبار كلهم {قروناً} أي : أمما كثيرة بعد موسى عليه السلام {فتطاول} أي : بمروره وعلوه {عليهم العمر} أي : ولكنا أوحينا إليك أنا أنشأنا قروناً مختلفة بعد موسى عليه السلام فتطاولت عليهم المدد فنسوا العهود
152
واندرست العلوم وانقطع الوحي فحذف المستدرك وهو أوحينا وأقام سببه وهو الإنشاء مقامه على عادة الله تعالى في اختصاراته فهذا الاستدراك شبيه بالاستداركين بعده ، فإن قيل : ما الفائدة في إعادة قوله تعالى : {وما كنت من الشاهدين} بعد قوله : {وما كنت بجانب الغربي} لأنه ثبت بذلك أنه لم يكن شاهداً لأنّ الشاهد لا بدّ أن يكون حاضراً ؟
أجيب : بأنّ ابن عباس قال : التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت ما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 152
وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم ، وحمزة والكسائي بضمّ الهاء والميم ، وحمزة في الوقف بضمّ الهاء وسكون الميم ، والباقون في الوصل بكسر الهاء وضمّ الميم ، ولما نفى العلم عن ذلك بطريق الشهود نفي سبب العلم بذلك بقوله تعالى : {وما كنت ثاوياً} أي : مقيماً إقامة طويلة مع الملازمة بمدين {في أهل مدين} أي : قوم شعيب عليه السلام كمقام موسى وشعيب فيهم {تتلوا} أي : تقرأ {عليهم} تعلماً منهم {آياتنا} العظيمة التي منها قصتهما لتكون ممن يهتم بأمور الوحي ويتعرّف دقيق أخباره فيكون خبرهم وخبر موسى عليه السلام معك {ولكنا كنا مرسلين} إياك رسولاً وأنزلنا عليك كتاباً فيه هذه الأخبار تتلوها عليهم ولولا ذلك ما علمتها ولم تخبرهم بها.
{وما كنت بجانب الطور} أي : بناحية الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام {إذ} أي : حين {نادينا} أي : أوقعنا النداء لموسى عليه السلام فأعطيناه التوراة وأخبرناه بما لا يمكن الاطلاع عليه إلا من قبلنا أو من قبله ، ومن المشهور أنك لم تطلع على شيء من ذلك من قبله لأنك ما خالطت أحداً ممن حمل تلك الأخبار عن موسى عليه السلام ولا أحداً حملها ممن حملها عنه ولكن كان ذلك إليك منا ، وهو معنى قوله تعالى {ولكن} أي : أنزلنا ما أردنا وأرسلناك به {رحمة من ربك} لك خصوصاً وللخلق عموماً.(3/102)
وقيل : إذ نادينا موسى خذ الكتاب بقوّة ، وقال وهب : قال موسى يا رب أرني محمداً قال إنك لن تصل إلى ذلك وإن شئت ناديت أمّته وأسمعتك صوتهم قال : بلى يا رب فقال الله تعالى : يا أمّة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم ، وقال أبو زرعة : نادى يا أمّة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني ، وروي عن ابن عباس ورفعه بعضهم : قال الله تعالى يا أمّة محمد فأجابوه من أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات لبيك اللهمّ لبيك إن الحمد لله والنعمة لك والملك لا شريك لك ، قال الله تعالى يا أمّة محمد إنّ رحمتي سبقت غضبي وعفوي عقابي قد أعطيتكم قبل أن تسألوني وقد أجبتكم من قبل أن تدعوني وقد غفرت لكم من قبل أن تستغفروني من جاء يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً عبدي ورسولي دخل الجنة وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر.
تنبيه : قال البيضاوي : لعل المراد به أي : بقوله تعالى : {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} (القصص : 46)
وقت ما أعطاه التوراة وبالأول أي : قوله تعالى : {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا} حيث استنبأناه لأنهما المذكوران في القصة وقوله تعالى {لتنذر} أي : لتحذر تحذيراً كثيراً {قوماً} أي : أهل قوّة ونجدة ليس بهم عائق عن أعمال الخير العظيمة إلا الإعراض عنك ، وهم العرب ومن في ذلك الزمان من الخلق يتعلق بالفعل المحذوف {ما أتاهم} وعمم النفي بزيادة
153
الجار في قوله تعالى : {من نذير} وزيادة الجار في قوله تعالى {من قبلك} يدل على الزمن القريب وهو زمن الفترة بينه وبين عيسى عليهما الصلاة والسلام وهو خمسمائة وخمسون سنة ونحو هذا قوله تعالى : {لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم} (يس : 6)
جزء : 3 رقم الصفحة : 152
وقيل : ليس المراد زمن الفترة بل ما بينه وبين إسماعيل عليهما السلام على أنّ دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل وما حولهم {لعلهم يتذكرون} أي : يتعظون.
{ولولا أن تصيبهم} أي : في وقت من الأوقات {مصيبة} أي : عظيمة {بما قدّمت أيديهم} أي : من المعاصي التي قضينا بأنها مما لا يعفى عنها {فيقولوا ربنا} أي : أيها المحسن إلينا {لولا} أي : هلا ولم لا {أرسلت إلينا} أي : على وجه التشريف لنا لنكون على علم بأنا ممن يعتني الملك الأعلى به {رسولاً} وأجاب التحضيض الذي شبهوه بالأمر ليكون كل منهما باعثاً على الفعل بقوله تعالى : {فنتبع} أي : فيتسبب عن إرسال رسولك أن نتبع {آياتك ونكون} أي : كوناً هو في غاية الرسوخ {من المؤمنين} أي : المصدقين لك في كل ما أتى به عنك رسولك تنبيه (لولا) الأولى : امتناعية وجوابها محذوف تقديره كما قال الزجاج ما أرسلنا إليهم رسولاً يعني أنّ الحامل على إرسال الرسل إزاحة عللهم بهذا القول فهو كقوله تعالى : {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} (النساء : 165)
والثانية : تحضيضية ونتبع جوابها كما مرّ فلذلك أضمر أن ، فإن قيل : كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول لدخول حرف الامتناع عليها دونه ؟
.
أجيب : بأنّ القول هو المقصود بأن يكون سبباً للإرسال ولكنّ العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها سبب للإرسال بواسطة القول فأدخلت عليها (لولا) وجيء بالقول معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السببية ويؤول معناه إلى قولك ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلاً على كفرهم وقد عاينوا ما ألجؤا به إلى العلم اليقيني ببطلان دينهم لم يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولاً بل إنما يقولون إذا نالهم العقاب ، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم عز وجل وفي هذا من الشهادة القوية على استحاكم كفرهم ورسوخه فيهم ما لا يخفي وهو كقوله تعالى : {ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه} (الأنعام : 28)
ولما كان التقدير ولكنا أرسلناك بالحق لقطع حجتهم هذه بنى عليه.
{فلما جاءهم} أي : أهل مكة {الحق} أي : الذي هو أعم من الكتاب والسنة وما يقاس عليهما وهو في نفسه جدير بأن يقبل لكونه في الذروة العليا من الثبات فكيف وهو {من عندنا} على مالنا من العظمة وهو على لسانك وأنت أعظم الخلق {قالوا} أي : أهل الدعوة من العرب وغيرهم تعنتا وكفراً به {لولا} أي : هلا ولم لا {أوتي} أي : هذا الآتي بما يزعم أنه الحق من الآيات {مثل ما أوتي موسى} من الآيات كاليد البيضاء والعصا وغيرهما من كون الكتاب أنزل عليه جملة واحدة قال الله تعالى : {أو لم يكفروا} أي : العرب ومن بلغته الدعوة من بني إسرائيل ومن كان مثلهم في البشرية والعقل في زمن موسى {بما أوتي موسى} عليه السلام من قبل أي : من قبل مجئ الحق على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ولما كان كأنه قد قيل ما كان
154(3/103)
كفرهم به قيل {قالوا} أي : فرعون وقومه ومن كفر من بني إسرائيل {ساحران} أي : موسى وأخوه عليهما السلام {تظاهرا} أي : أعان كل منهما صاحبه على سحره حتى صار سحرهما معجزاً فغلبا جميع السحرة وتظاهر الساحرين من تظاهر السحرين على قراءة الكوفيين بكسر السين وسكون الحاء ، وقرأ الباقون بفتح السين وكسر الحاء وألف بينهما.
جزء : 3 رقم الصفحة : 152
تنبيه : يجوز أن يكون الضمير لمحمد وموسى عليهما الصلاة والسلام ، قال البقاعي : وهو أقرب وذلك لأنه روي أن قريشاً جاءت إلى اليهود فسألوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم فأخبروهم أنّ نعته في كتابهم فقالوا هذه المقالة فيكون الكلام استئنافاً لجواب من كأنه قال : ما كان كفرهم بهما ؟
فقيل قالوا أي : العرب : الرجلان ساحران أو الكتابان ساحران ظاهر أحدهما الآخر مع علم كل ذي لب أنّ هذا القول زيف لأنه لو كان شرط إعجاز السحر التظاهر لكان سحر فرعون أعجز إعجازاً لأنه تظاهر عليه جميع سحرة بلاد مصر وعجزوا عن معارضة ما أظهر موسى عليه السلام من آياته كالعصا ، وأمّا محمد صلى الله عليه وسلم فقد دعا أهل الأرض من الجنّ والأنس إلى معارضة كتابه وأخبرهم أنهم عاجزون ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً فعجزوا عن آخرهم ، ولما تضمن قولهم ذلك الكفر صرّحوا به {وقالوا} أي : كفار قريش {إنا بكل} أي : من الساحرين أو السحرين اللذين تظاهرا بهما وهما ما أتيا به من عند الله {كافرون} جراءة على الله تعالى وتكبراً على الحق ثم قال الله تعالى :
{قل} أي : لهم إلزاماً إن كنتم صادقين في أني ساحر وكتابي سحر وكذلك موسى عليه السلام {فأتوا بكتاب من عند الله} أي : الملك العلي الأعلى {هو} أي : الذي تأتون به {أهدى منهما} أي : من الكتابين وقوله {أتبعه} أي : وأتركهما جواب الأمر وهو فأتوا {إن كنتم} أي : أيها الكفار {صادقين} أي : في أنا ساحران فأتوا بما ألزمتكم به ، قال البيضاوي : وهذا من الشروط التي يراد بها الإلزام والتبكيت ولعل مجيء حرف الشك للتهكم بهم.
{فإن لم يستجيبوا لك} أي : دعاءك إلى الكتاب الأهدى فحذف المفعول للعلم به ولأن فعل الاستجابة يتعدّى بنفسه إلى الدعاء وباللام إلى الداعي فإذا عدي إليه حذف الدعاء غالباً كقول القائل :
*وداعٍ دعا يا من يجيب إلى الندا ** فلم يستجبه عند ذاك مجيب*
وداعٍ (أي : ورب داع).
الشاهد في يستجبه حيث عدّاه إلى الداعي وحذف الدعاء والتقدير فلم يستجب دعاءه {فاعلم} أنت {أنما يتبعون} أي : بغاية جهدهم فيما هم عليه من الكفر والتكذيب {أهواءَهم} أي : دائماً وأكثر الهوى مخالف للهدى فهم ضالون غير مهتدين بل هم أضلّ الناس وذلك معنى قوله تعالى : {ومن أضلّ ممن اتبع} أي : بغاية جهده {هواه} أي : لا أحد أضل منه فهو استفهام بمعنى النفي وقوله تعالى : {بغير هدى من الله} في موضع الحال للتوكيد والتقييد فإن هوى النفس
155
قد يوافق الهدى {إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين} أي : وإن كانوا أقوى الناس لاتباعهم أهواءهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 152
{ولقد وصلنا} قال ابن عباس : بيّنا ، وقال الفراء : أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضاً {لهم} أي : خاصة فكان تخصيصهم بذلك منّة عظيمة يجب عليهم شكرها {القول} أي : القرآن ، قال مقاتل : بيَّنا لكفار مكة بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم وقال ابن زيد : وصلنا لهم خير الدنيا بخير الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا {لعلهم يتذكرون} أي : ليكون حالهم حال من يرجى لهم أن يرجعوا إلى عقولهم فيجدوا فيما طبع فيها ما يذكرهم بالحق ، ثم كأنه قيل هل تذكر منهم أحد ؟
قيل نعم أهل الكتاب الذين هم أهله حقاً تذكروا وذلك معنى قوله تعالى :
{الذين آتيناهم الكتاب من قبله} أي : قبل القرآن أو قبل محمد صلى الله عليه وسلم {هم به} أي : بما تقدّم {يؤمنون} أيضاً : نزل في جماعة أسلموا من اليهود عبد الله بن سلام وأصحابه ، وقال مقاتل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وقال سعيد بن جبير هم أربعون رجلاً قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا له يا نبيّ الله إنّ لنا أموالاً فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا بها المسلمين فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين فنزل فيهم ذلك إلى قوله تعالى : {ومما رزقناهم ينفقون } وعن ابن عباس : نزلت في ثمانين من أهل الكتاب أربعون من نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الشام ، ثم وصفهم الله تعالى بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 156(3/104)
وإذا يتلى} أي : تتجدّد تلاوة القرآن {عليهم قالوا} أي : مبادرين لذلك {آمنا به} ثم عللوا ذلك بقولهم {إنه الحق} أي : الكامل الذي ليس وراءه إلا الباطل مع كونه {من ربنا} أي : المحسن إلينا ثم عللوا مبادرتهم بقولهم {إنا كنا من قبله} أي : القرآن {مسلمين} أي : منقادين غاية الانقياد مخلصين لله بالتوحيد مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه نبيّ حق.
{أولئك} أي : العالو الرتبة {يؤتون أجرهم مرّتين} أي : لإيمانهم به غيباً وشهادة أي : بالكتاب الأوّل ثم بالكتاب الثاني {بما صبروا} أي : بسبب صبرهم على دينهم ، وقال مجاهد : نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا فأؤذوا ، وعن أبي بردة عن أبي موسى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوّجها ، ورجل كان من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وعبد أحسن عبادة الله تعالى ونصح لسيده" ولما كان الصبر لا يتم إلا بالاتصاف بالمحاسن والانخلاع من المساوي قال تعالى عاطفاً على يؤمنون مشيراً إلى تجديد هذه الأفعال كل حين {ويدرؤن} أي : يدفعون {بالحسنة} من الأقوال والأفعال {السيئة} أي : فيمحونها بها ، وقال ابن عباس : يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك ، وقال مقاتل : يدفعون بها ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين أي : بالصفح والعفو.
156
{ومما رزقناهم} أي : بعظمتنا لا بحول منهم ولا قوّة قليلاً كان أو كثيراً {ينفقون} أي : يتصدّقون معتمدين في الخلف على الذي رزقه ، ولما ذكر الله أنّ السماح بما تضنّ النفوس به من فضول الأموال من أمارات الإيمان أتبعه أنّ خزن ما تبذله الأنفس من فضول الأقوال من علامات العرفان بقوله تعالى :
{وإذاسمعوا اللغو} أي : ما لا ينفع في دين ولا دنيا من شتم وتكذيب وتعيير ونحوه {أعرضوا عنه} تكرّماً عن الخنا ، وقيل اللغو : القبيح من القول ؛ وذلك أنّ المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون لهم تباً لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم {وقالوا} وعظاً وتسميعاً لقائله {لنا} خاصة {أعمالنا} لا تثابون على شيء منها ولا تعاقبون {ولكم} أي : خاصة {أعمالكم} لا نطالب بشيء منها فنحن لا نشتغل بالرد عليكم {سلام عليكم} متاركة لهم وتوديعاً ودعاء لهم بالسلامة عما هم فيه ، لا سلام تحية وإكرام ، ونظير ذلك {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} (الفرقان ، 63) ثم أكد ذلك تعالى بقوله تعالى : حاكياً عنهم {لا نبتغي} أي : لا نكلف أنفسنا أن نطلب {الجاهلين} أي : لا نريد شيئاً من أموالهم وأقوالهم أو غير ذلك من خلالهم ، وقيل لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه قيل نسخ ذلك بالأمر بالقتال وهو بعيد لأنّ ترك المسافهة مندوب إليه وإن كان القتال واجباً ، ونزل في حرصه صلى الله عليه وسلم على إيمان عمه أبي طالب {إنك لا تهدي من أحببت} أي : نفسه أو هدايته بخلق الإيمان في قلبه ، روى سعيد بن المسيب عن أبيه أنه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال : أي : عمّ قل لا إله إلا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل صلى الله عليه وسلم يعرضها ويصدانه بتلك الكلمة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عن ذلك فأنزل الله تعالى : {ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} (التوبة : 113)
جزء : 3 رقم الصفحة : 156
وأنزل الله تعالى في أبي طالب فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم {إنك لا تهدي من أحببت} الآية ، وفي مسلم عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم "أمره بالتوحيد فقال له لولا أن تعيرني قريش تقول إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل الله تعالى الآية" وروي أنّ أبا طالب قال عند موته يا معشر بني هاشم أطيعوا محمداً وصدّقوه تفلحوا وترشدوا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم يا عمّ تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك قال فما تريد يا ابن أخي قال أريد منك كلمة واحدة فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله قال يا ابن أخي قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جزع عند الموت ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة وسبة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدّة وجدك ونصيحتك ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وعبد مناف فإن قيل قال الله تعالى في هذه الآية {أنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} وقال تعالى في آية أخرى : {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } (الشورى : 52)(3/105)
أجيب : بأنه لا تنافي بينهما فإن الذي أثبته وأضافه إليه الدعوة والذي نفى عنه هداية التوفيق وشرح الصدور وهو نور يقذف في القلب فيحيا به القلب كما قال تعالى : {أو
157
من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} (الأنعام : 122)
{وهو أعلم} أي : عالم {بالمهتدين} أي : الذين قد هيأهم لتطلب الهدى عند خلقه لهم سواء كانوا من أهل الكتاب أم من العرب أقارب كانوا أم أباعد ، ثم حكى الله تعالى عن كفار قريش شبهة تتعلق بأحوال الدنيا بقوله تعالى :
{وقالوا إن نتبع الهدى} أي : الإسلام فنوحد الله تعالى من غير إشراك {معك} وأنت على ما أنت عليه من مخالفة الناس {نتخطف} أي : من أيّ خاطف أرادنا لأنا نصير قليلاً في كثير من غير نصير {من أرضنا} كما تتخطف العصافير لمخالفة كافة العرب لنا وليس لنا نسبة إلى كثرتهم ولا قوّتهم فيسرعوا إلينا فيتخطفونا ، أي : يتقصدون خطفنا واحداً واحداً فإنه لا طاقة لنا على إدامة الاجتماع وأن لا يشذ بعضنا عن بعض.
قال المبرد : والخطف الانتزاع بسرعة نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا لنعلم أن الذي تقوله حق ولكنا إن اتبعناك على دينك وخالفنا العرب بذلك وإنما نحن أكلة رأس خفنا أن تخرجنا العرب من أرضنا مكة ، ثم ردّ الله تعالى عليهم هذه الشبهة وألقمهم الحجر بقوله تعالى : {أو لم نمكن} أي : غاية التمكين {لهم} أي : في أوطانهم ومحلّ سكناهم بما لنا من القدرة {حرماً آمنا} أي : ذا أمن يأمن فيه كل خائف حتى الطير من كواسرها والوحش من جوارحها حتى إن سيل الحلّ لا يدخل الحرم بل إذا وصل إليه عدل عنه ، وروي أنّ مكة كانت في الجاهلية لا يعرضها ظلم ولا بغي ولا يبغي فيها أحد إلا أخرجته وكان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه فيها فلا يهيجه ولا يتعرّض له بسوء ، وروى الأزرقي في تاريخ مكة عن حويطب بن عبد العزى قال : كان في الكعبة حلق يدخل الخائف يده فيها فلا يريبه أحد فجاء خائف ليدخل يده فاجتذبه رجل فشلت يده فلقد رأيته في الإسلام وإنه لأشلّ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 156
وعن ابن عباس قال : أخذ رجل ذود ابن عمّ له فأصابه في الحرم فقال : ذودي فقال اللص : كذبت قال فاحلف فحلف عند المقام فقام ربّ الذود بين الركن والمقام باسطاً يديه يدعو فما برح مقامه يدعو حتى ذهب عقل اللص وجعل يصيح بمكة مالي ولفلان رب الذود فبلغ ذلك عبد المطلب فجمع الذود ودفعه إلى المظلوم فخرج به وبقي الآخر حتى وقع من جبل فتردّى فأكلته السباع.
وعن ابن جريج : أنّ غير قريش من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا إن أعارتهم قريش ثياباً فجاءت امرأة لها جمال فطافت عريانة فرآها رجل فأعجبته فدخل فطاف إلى جنبها فأدنى عضده من عضدها فالتزقت عضده بعضدها فخرجا من المسجد هاربين فزعين على وجوههما لما أصابهما من العقوبة فلقيهما شيخ من قريش فأفتاهما أن يعودا إلى المكان الذي أصابا فيه الذنب فيدعوان ويخلصان أن لا يعودا فعادا ودعوا وأخلصا النية فافترقت أعضادهما فذهب كل واحد منهما في ناحية.
وعن عبد العزيز بن رواد أنّ قوماً انتهوا إلى ذي طوى فإذا ظبي قد دنا منهم فأخذ رجل منهم بقائمة من قوائمه فقال له أصحابه : ويحك أرسله فجعل يضحك وأبى أن يرسله فبعر الظبي وبال ثم أرسله فناموا في القائلة ثم انتبهوا فإذا بحية متطوّقة على بطن الرجل الذي أخذ الظبي فلم تنزل الحية عنه حتى كان منه من الحدث مثل ما كان من الظبي.
158
وعن مجاهد قال : دخل قوم مكة تجاراً من الشام في الجاهلية فنزلوا ذا طوى فاختبزوا ملة لهم ولم يكن معهم إدام فرمى رجل منهم ظبية من ظباء الحرم وهي حولهم ترعى فقاموا إليها فسلخوها وطبخوها ليأتدموا بها فبينما قدرهم على النار يغلي لحمه إذ خرجت من تحت القدر عنق من النار عظيمة فأحرقت القوم جميعاً ولم تحرق ثيابهم ولا أمتعتهم.
وعن أيوب بن موسى أنّ امرأة في الجاهلية كان معها ابن عمّ لها صغير فقالت له : يا بني إني أغيب عنك وإني أخاف أن يظلمك أحد فإن جاءك ظالم بعدي فإنّ لله بمكة بيتاً سيمنعك فجاءه رجل فاسترقه فلما رأى الغلام البيت عرفه بالصفة فنزل يشتد حتى تعلق بالبيت فجاءه سيده فمدّ يده إليه ليأخذه فيبست يده فمدّ الأخرى فيبست فاستفتى فأفتي أن ينحر عن كل واحدة من يديه بدنة ففعل فأطلقت يداه وترك الغلام وخلى سبيله.
وعن أبي ربيع بن سالم الكلاعي أنّ رجلاً من كنانة بن هذيل ظلم ابن عمّ له فخوّفه بالدعاء في الحرم فقال هذه ناقتي فلانة اركبها فاذهب إليه فاجتهد في الدعاء في الحرم فجاء في الحرم في الشهر الحرام فقال اللهمّ إني أدعوك جاهداً مضطرّاً على ابن عمي فلان ترميه بداء لا دواء له ثم انصرف فوجد ابن عمه قد رمي في بطنه فصار مثل الزق فما زال ينتفخ حتى انشق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 156(3/106)
وعن عمر رضي الله عنه أنه سأل رجلاً من بني سليم عن ذهاب بصره فقال يا أمير المؤمنين كنا بني ضبعاء عشرة وكان لنا ابن عمّ فكنا نظلمه فكان يذكرنا الله والرحم فلما رأى أنا لا نكف عنه انتهى إلى الحرم في الأشهر الحرم فجعل يرفع يديه ويقول :
*لا همّ أدعوك دعاء جاهداً ** اقتل بني ضبعاء إلا واحداً*
*ثم اضرب الرجل ودعه قاعداً ** أعمى إذا قيد يعيي القائداً*
قال فمات أخوتي التسعة في تسعة أشهر في كل شهر واحد وبقيت أنا فعميت ورماني الله عز وجل في رجلي فليس يلائمني قائد فقال عمر رضى الله تعالى عنه جعل الله هذا في الجاهلية إذ لا دين حرمة حرمها وشرفها ليرجع الناس عن انتهاك ما حرم مخافة تعجيل العقوبة فلما جاء الدين صار التوعد للساعة ويستجيب الله تعالى لمن يشاء فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين وإنما أكثرت من هذه الحكايات ليكون الداخل للحرم على حذر فإنّ الله تعالى حماه ومكَّن أهله في الحرم الذي أمنَّه بحرمة البيت وأمن قطانه بحرمته وكانت العرب في الجاهلية حولهم يتغاورون ويتناجدون وهم آمنون في حرمهم لا يخافون وبحرمة البيت هم قارّون بواد غير ذي زرع والثمرات والأرزاق تجبى إليهم كما قال تعالى :
{يجبى} أي : يجمع ويحمل {إليه} أي : خاصة دون غيره من جزيرة العرب {ثمرات كل شيء} من النبات الذي بأرض العرب من ثمر البلاد الحارة كالبسر والرطب والنبق ، والباردة كالعنب والتفاح والرمّان والخوخ ، فإذا خولهم الله تعالى ما خوّلهم من الأمن والرزق بحرمة البيت وحدها وهم كفرة عبدة أصنام فكيف يستقيم أن يعرّضهم للخوف والتخطف ويسلبهم الأمن إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة وإلى الحرم مجاز.
تنبيه : معنى الكلية هنا الكثرة كقوله تعالى : {وأوتيت من كل شيء} (النمل : 23) ولكن في
159
تعبيره بالمضارع وما بعده إشارة إلى الاستمرار وأنه يأتي إليه بعد ذلك من كل ما في الأرض من المال ما لم يخطر لأحد منهم في بال ، وقرأ نافع بالتاء الفوقية ، والباقون بالياء التحتية ، وأمال حمزة والكسائي محضة ، وورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح ، ثم إنه تعالى بين أنّ الرزق من عنده بقوله تعالى : {رزقاً من لدنا} أي : فلا صنع لأحد فيه بل هو محض تفضل.
تنبيه : انتصاب رزقاً على المصدر من معنى يجبى أو الحال من ثمرات لتخصيصها بالإضافة كما تنصب عن النكرة المخصصة وإن جعلته اسماً للمرزوق انتصب على الحال من ثمرات {ولكن أكثرهم} أي : أهل مكة وغيرهم ممن لا هداية له {لا يعلمون} أي : ليس لهم قابلية للعلم حتى يعلموا أنا نحن الفاعلون لذلك بل هم جهلة لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموا ، وقيل : إنه متعلق بقوله تعالى : {من لدنا} أي : قليل منهم يتدبرون فيعلمون أنّ ذلك رزق من عند الله إذ لو علموا لما خافوا غيره ، ثم بين تعالى أنّ الأمر بالعكس فإنهم أحقِّاء بأن يخافوا من بأس الله تعالى على ما هم عليه بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 156
وكم أهلكنا من قرية} أي : من أهل قرية وأشار إلى سبب الإهلاك بقوله تعالى : {بطرت معيشتها} أي : وقع منها البطر في زمن عيشها الرخيّ الواسع فكان حالهم كحالكم في الأمن وإدرار الرزق فلما بطروا معيشتهم أهلكناهم ، ومعنى بطرهم لها قال عطاء : أنهم أكلوا رزق الله وعبدوا غيره ، وقيل : البطر سوء احتمال الغنى وهو أن لا يحفظ حق الله تعالى فيه.
تنبيه : انتصاب معيشتها إما بحذف الجار واتصال الفعل كما في قوله تعالى : {واختار موسى قومه} (الأعراف : 155)
أو بتقدير حذف ظرف الزمان وأصله بطرت أيام معيشتها ، وإما بتضمين بطرت معنى كفرت أو خسرت ، أو على التمييز ، أو على التشبيه بالمفعول به وهو قريب من سفه نفسه {فتلك مساكنهم} خاوية {لم تسكن من بعدهم} بعد أن طال ما تعالوا فيها ونمَّقوها وزخرفوها وزفوا فيها الأبكار وفرحوا بالأعمال الكبار {إلا} سكوناً {قليلاً} قال ابن عباس : لم يسكنها إلا المسافرون ومارّوا الطريق يوماً أو ساعة من ليل أو نهار ثم تصير يباباً موحشة كالقفار بعد أن كانت متمنعة الفناء ببيض الصفاح وسمر القنا ، قال الزمخشري : ويحتمل أنّ شؤم معاصي المهلكين بقي في أثره ديارهم فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا قليلاً {وكنا} أي : أزلاً وأبداً {نحن} لا غيرنا {الوارثين} منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرّف تصرّفهم في ديارهم وسائر متصرّفاتهم قال القائل :
*تتخلف الآثار عن أصحابها ** حيناً ويدركها الفناء فتتبع*(3/107)
{وما كان ربك} أي : المحسن إليك بالإحسان بإرسالك إلى الناس {مهلك القرى} أي : هذا الجنس كله بجرم وإن عظم {حتى يبعث في أمّها} أي : أعظمها وأشرفها {رسولاً} لأنّ غيرها تبع لها ولم يشترط كونه من أمها فقد كان عيسى عليه السلام من الناصرة وبعث إلى بيت المقدس {يتلوا عليهم} أي : أهل القرى كلهم {آياتنا} الدالة على ما ينبغي لنا من الحكمة وبما لها من الإعجاز على نفوذ الكلمة وباهر العظمة إلزاماً للحجة وقطعاً للمعذرة لئلا يقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً ، ولذلك لما أردنا عموم الخلق بالرسالة جعلنا الرسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء من
160
أم القرى كلها وهي مكة البلد الحرام {وما كنا مهلكي القرى} أي : كلها بعد الإرسال {إلا وأهلها ظالمون} أي : غريقون في الظلم بالعصيان بترك ثمرات الإيمان وتكذيب الرسل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 156
{وما أوتيتم من شيء} أي : من أسباب الدنيا {فمتاع} أي : فهو متاع {الحياة الدنيا} تتمتعون بها أيام حياتكم وليس يعود نفعه إلى غيرها فهو آيل إلى فساد وإن طال زمن التمتع به {وزينتها} أي : فهو زينة الحياة الدنيا التي هي كلها فضلاً عن زينتها إلى فناء فليست هي ولا شيء بأزلي ولا أبدي {وما عند الله} أي : الملك الأعلى وهو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت {خير} على تقدير مشاركة ما في الدنيا له فالخيرية في ظنكم لأنّ الذي عنده أطيب وأكثر وأشهى وأزهى {و} هو مع ذلك كله {أبقى} لأنه وإن شارك متاع الدنيا في أنه لم يكن أزلياً فهو أبدي وهذا جواب عن شبههم فإنهم قالوا تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا فبين تعالى أنّ ذلك خطأ عظيم لأنّ ما عند الله خير وأبقى من وجهين : الأوّل : أنّ المنافع هناك أعظم ، والثاني : أنها خالصة عن الشوائب ومنافع الدنيا مشوبة بالمضار بل المضار فيها أكثر ، وأما أنها أبقى فلإنها دائمة غير منقطعة ومن قابل المتناهي بغير المتناهي كان عدماً فظهر بهذا أنّ منافع الدنيا لا نسبة لها إلى منافع الآخرة فلا جرم نبه على ذلك بقوله تعالى : {أفلا يعقلون} أنّ الباقي خير من الفاني فيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير فمن لم يرجِّح منافع الآخرة على منافع الدنيا فإنه يكون خارجاً عن حدّ العقل ، قال ابن عادل ورحم الله الشافعيّ حيث قال : من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى لأنّ أعقل الناس من أعطى القليل وأخذ الكثير وما هم إلا
161
المشتغلون بالطاعة ، فكأنه رحمه الله تعالى إنما أخذه من هذه الآية انتهى ، وقرأ أبو عمرو بالياء وهو أبلغ في الموعظة لاشتماله على الالتفات للإعراض به عن خطابهم ، والباقون بالتاء على الخطاب جرياً على ما تقدّم.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 161
أفمن وعدناه} على عظمتنا في الغنى والقدرة والصدق {وعداً حسناً} لا شيء أحسن منه في موافقته للأمنية وبقائه وهو الجنة فإن حسن الوعد بحسن الموعود ولذلك سمى الله تعالى الجنة بالحسنى {فهو لاقيه} أي : مدركه لامتناع الخلف في وعده ولذلك عطفه بالفاء المعطية معنى السببية {كمن متعناه متاع الحياة الدنيا} أي : الذي هو مشوب بالآلام مكدر بالمتاعب مستعقب للتحسر على الانقطاع ، وعن ابن عباس أن الله تعالى خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصناف : المؤمن والمنافق والكافر فالمؤمن يتزوّد والمنافق يتزين والكافر يتمتع {ثم هو} مع ذلك كله {يوم القيامة} الذي هو يوم التغابن من خسر فيه لم يربح أصلاً {من المحضرين} أي : المقهورين على الحضور إلى مكان يود لو افتدى منه بملء الأرض ذهباً لم يقبل منه ، قال قتادة يحضره المؤمن والكافر ، قال مجاهد : نزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي جهل ، وقال محمد بن كعب نزلت في حمزة وعلي وفي أبي جهل ، وقال السدّي : نزلت في عمار والوليد بن المغيرة.
تنبيه : ثم لتراخي حال الإحضار عن حال التمتع في الزمان أو الرتبة ، وقرأ ثم هو قالون والكسائي بسكون الهاء ، والباقون بالضم.(3/108)
{ويوم} أي : واذكر يوم {يناديهم} أي : ينادي الله هؤلاء الذين يضلون الناس ويصدّون عن سبيل الله {فيقول} أي : الله تعالى {أين شركائي} من الأوثان وغيرهم ثم بين أنهم لا يستحقون هذا الاسم بقوله تعالى : {الذين كنتم} أي : كوناً غريقين فيه {تزعمون} أنها تشفع ليدفعوا عنكم وعن أنفسهم فيخلصكم من هذا الذي نزل بكم ، تنبيه : تزعمون مفعولاه محذوفان أي : تزعمونهم شركائي {قال الذي حق} أي : ثبت ووجب {عليهم القول} أي : بدخول النار وهم رؤوس الضلالة وهو قوله تعالى : {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} (هود ، 119) وغيره من آيات الوعيد وقولهم {ربنا هؤلاء} إشارة للإتباع {الذين أغوينا} أي : أوقعنا الأغواء وهو الإضلال بهم صفته والعائد حذف وقولهم {أغويناهم} أي : فغووا باختيارهم {كما غوينا} أي : نحن فهؤلاء مبتدأ والذين أغوينا صفته والراجع إلى الموصول محذوف وأغويناهم الخبر والكاف صفة مصدر محذوف تقديره أغويناهم فغووا غياً مثل ما غوينا يعنون أنا لم نغو إلا باختيارنا لا أنّ فوقنا مغوين أغوونا بقسر منهم وإلجاء ، أو دعونا إلى الغي وسوّلوه لنا فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم لأنّ أغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلاً لا قسراً وإلجاء فلا فرق إذاً بين غينا وغيهم وإن كان تسويلنا لهم داعياً إلى الكفر فقد كان في مقابلته دعاء الله تعالى لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل وبما بعث إليهم من الرسل وأنزل إليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر وناهيك بذلك صارفاً عن الكفر وداعياً إلى الإيمان ، وهذا معنى ما حكاه الله تعالى عن الشيطان : {إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} (إبراهيم ، 22) .
جزء : 3 رقم الصفحة : 161
تنبيه : اعترض أبو علي على الزمخشريّ في هذا الإعراب بأن الخبر ليس فيه زيادة فائدة على
162
ما في صفته ، فإن قلت قد وصل الخبر بقوله كما غوينا وفيه زيادة قلت الزيادة بالظرف لا تصيِّره أصلاً في الجملة لأنّ الظروف فضلات ، ثم إنه أعرب هو هؤلاء مبتدأ والذين أغوينا خبره وأغويناهم مستأنف ، وأجاب أبو البقاء وغيره بأن الظروف قد تلزم كقولك زيد عمرو قائم في داره ثم أشاروا بقولهم {تبرأنا إليك} أي : من أمورهم إلى أنه لا لوم علينا في الحقيقة بسببهم فهو تقرير للجملة الأولى ولهذا خلت عن العاطف وعلى تقدير إغوائنا لهم {ما كانوا إيانا} أي : خاصة {يعبدون} بل كانوا يعبدون الأوثان بما زينت لهم أهواؤهم وإن كان لنا فيه نوع دعاء إليه وحث عليه فأقل ما نريد أن يوزع العذاب على من كان سبباً في ذلك ، وقيل ما مصدرية متصلة بتبرأنا أي : تبرأنا من عبادتهم إيانا ، ولما لم يلتفت إلى هذا الكلام منهم بل عدّ عدماً لأنه لا طائل تحته أشير إلى الإعراض عنه لأنه لا يستحق جواباً كما قيل رب قول جوابه السكوت ، بقوله تعالى :
{وقيل} أي : ثانياً للأتباع تهكماً بهم وإظهاراً لعجزهم الملزوم لتحيرهم وعظم تأسفهم وذكر ذلك بصيغة المجهول للأستهانة بهم وأنهم من الذل والصغار بحيث يجيبون كل آمر كائناً من كان {ادعوا} أي : كلكم {شركاءكم} أي : الذين ادعيتم جهلاً شركتهم ليدفعوا عنكم العذاب {فدعوهم} تعللاً بما لا يغني وتمسكاً بما يتحقق أنه لا يجدي لفرط الغلبة واستيلاء الحيرة والدهشة {فلم يستجيبوا لهم} أي : لم يجيبوهم لعجزهم عن الإجابة والنصرة ، قال ابن عادل : والأقرب أنّ هذا على سبيل التقريع لأنهم يعلمون أنه لا فائدة في دعائهم {ورأوا} أي : هم {العذاب} عالمين بأنه مواقعهم لا مانع له عنهم فكان الحال حينئذ مقتضياً لأن يقال من كل من يهواهم {لو أنهم كانوا يهتدون} أي : تحصل منهم هداية ساعة من الدهر تأسفاً على أمرهم وتمنياً لخلاصهم ولو أن ذلك كان في طاقتهم وجواب لو محذوف أي : لنجوا من العذاب ولما رأوه أصلاً ، قال الضحاك ومقاتل : يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة.
{ويوم يناديهم} أي : الله تعالى وهم بحيث يسمعهم الداعي وينفذهم البصر قد برزوا لله جميعاً من كان منهم عاصياً ومن كان منهم مطيعاً في صعيد واحد قد أخذنا بأنفاسهم الزحام وتراكب الأقدام على الأقدام وألجمهم العرق وعمهم الغرق {فيقول ماذا} أي : أوضحوا وعينوا جوابكم الذي {أجبتم المرسلين} إليكم ، تنبيه : ويوم معطوف على الأوّل فإنه تعالى يسأل عن إشراكهم به ثم تكذيبهم الأنبياء ولما لم يكن لهم قدم صدق ولا سابق حق بما أتتهم الرسل به من الحجج لم يكن لهم جواب إلا السكوت وهو المراد بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 161(3/109)
فعميت} أي : خفيت وأظلمت {عليهم الأنباء} أي : الأخبار المنجية {يومئذ} التي هي من العظمة بحيث يحق لها في ذلك اليوم أن تذكر ، تنبيه : الأصل فعموا عن الأنباء لكنه عكس مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يفيض ويرد عليه من خارج وإذا أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره وإذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام في ذلك اليوم يفوِّضون إلى علم الله تعالى فما ظنك بالضلال فلهذا قال تعالى : {فهم لا يتساءلون} أي : لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب لفرط الدهشة أو للعلم بأنه مثله هذا حال من أصر على كفره.
{فأما من تاب} عنه وقوله تعالى : {وآمن} تصريح بما علم التزاماً فإن الكفر والإيمان
163
ضدّان لا يمكن ترك أحدهما إلا بأخذ الآخر وقوله تعالى : {وعمل صالحاً} لأجل أن يكون مصدقاً لدعواه باللسان {فعسى} إذا فعل ذلك {أن يكون من المفلحين} عند الله وعسى تحقيق على عادة الكرام ، أو ترجّ من التائب بمعنى فليتوقع أن يفلح ، ولما كان كأنه قيل ما لأهل القسم الأوّل لا يتوخون النجاة من ضيق ذلك البلاء إلى رحب هذا الرجاء وكان الجواب ربك منعهم من ذلك ، وما له لم يقطع لهذا القسم بالفلاح كما قطع لأهل القسم الأوّل بالشقاء كان الجواب.
{وربك يخلق ما يشاء ويختار} لا موجب عليه ولا مانع له {ما كان لهم الخيرة} أي : أن يفعلوا يفعل لهم كل ما يختارونه ، تنبيه : الخيرة بمعنى التخير كالطيرة بمعنى التطير ، وظاهره نفي الاختيار عنهم رأساً ، قال البيضاوي والأمر كذلك عند التحقيق فإن اختيار العبيد مخلوق منوط بدواع لا اختيار لهم فيها ، وقال الرازي في اللوامع : وفيه دليل على أنّ العبد في اختياره غير مختار فلهذا أهل الرضا حطوا الرحال بين يدي ربهم وسلموا الأمور إليه بصفاء التفويض يعني فإن أمرهم أو نهاهم بادروا وإن أصابهم سهام المصائب العظام صابروا وإن أعزهم أعزوا أنفسهم وأكرموا وإن أذلهم رضوا وسلموا فلا يرضيهم إلا ما يرضيه ولا يريدون إلا ما يريده فيمضيه ، قال القائل :
*وقف الهوى لي حيث أنت فليس لي ** متأخر عنه ولا متقدّم
*أجد الملامة في هواك لذيذة ** حباً لذكرك فليلمني اللوّم
*وأهنتني فأهنت نفسي صاغراً ** ما من يهون عليك ممن يكرم*
وقيل ما موصولة مفعول ليختار والراجع محذوف ، والمعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة أي : الخير والصلاح {سبحان الله} تنزيهاً له أن يزاحمه أحد أو ينازع اختياره وتعالى : أي : علا علواً لا تبلغ العقول توجيه كنه مداه {عما يشركون} أي : عن إشراكهم أو مشاركة ما يشاركونه به ، ولما كانت القدرة لا تتم إلا بالعلم قال تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 161
وربك} أي : المحسن إليك المتولي أمر تربيتك {يعلم ما تكنّ} أي : تخفي وتستر {صدورهم} من كونهم يؤمنون على تقدير أن تأتيهم آيات مثل آيات موسى عليه السلام ، أو لا يؤمنون ومن كون ما أظهر من أظهر الإيمان بلسانه خالصاً أو مشوباً ، ومن كونهم يخفون عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم {وما يعلنون} أي : يظهرون من ذلك كل ذلك لديه سواء فلا يكون لهم مراد إلا يخلقه ، فإن قيل هلا اكتفى بقوله تعالى : {ما تكنّ صدورهم} عن قوله : {وما يعلنون} أجيب : بأنّ علم الخفي لا يستلزم علم الجليّ إما لبعد أو لغط أو اختلاط أصوات يمنع تمييز بعضه عن بعض أو غير ذلك ، ولما كان علمه تعالى بذلك إنما هو لكونه إلهاً واحداً فرداً صمداً وكان غيره لا يعلم من علمه إلا ما علمه قال تعالى :
{وهو الله} أي : المستأثر بالإلهية الذي لا سميّ له الذي لا يحيط الواصفون بكنه عظمته ، ثم شرح معنى الاسم الأعظم بقوله تعالى : {لا إله إلا هو} وهذا تنبيه على كونه قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات منزهاً عن النقائص والآفات ، ثم علل ذلك بقوله تعالى : {له} أي : وحده {الحمد} أي : الإحاطة بأوصاف الكمال {في الأولى والآخرة}
164
لأنه المولى للنعم كلها عاجلها وآجلها يحمده المؤمنون في الآخرة كما حمدوه في الدنيا ، فإن قيل الحمد في الدنيا ظاهر فما الحمد في الآخرة ؟
أجيب : بأنهم يحمدونه بقولهم {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} {}(فاطر : 34)
{الحمد لله الذي صدقنا وعده } (الزمر : 74)
{وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } (يونس : 10)
والتوحيد هناك على وجه اللذة لا الكلفة ، وفي الحديث يلهمون التسبيح والتقديس {وله الحكم} أي : القضاء النافذ في كل شيء وقال ابن عباس : حكم لأهل الطاعة بالمغفرة ولأهل المعصية بالشقاء {وإليه} لا إلى غيره {ترجعون} أي : بأيسر أمر يوم النفخ في الصور لبعثرة ما في القبور ، بالبعث والنشور مع أنكم الآن راجعون في جميع أحكامكم إليه ، ومقصورون عليه إن شاء أمضاها وإن أراد ردّها ولواها ففي الآية غاية التقوية لقلوب المطيعين ونهاية الزجر والردع للمتمردين ، ثم بين سبحانه وتعالى بعض ما يجب أن يحمد عليه مما لا يقدر عليه سواه بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 161(3/110)
{قل} أي : يا أفضل الخلق لأهل مكة {أرأيتم} أي : أخبروني {إن جعل الله} أي : الملك الأعلى {عليكم الليل} أي : الذي به اعتدال حرّ النهار {سرمداً} أي : دائماً {إلى يوم القيامة} لا نهار معه {من إله غير الله} أي : العظيم الشأن الذي لا كفء له {يأتيكم بضياء} أي : بنهار تطلبون فيه المعيشة {أفلا تسمعون} أي : ما يقال لكم سماع إصغاء وتدبر.
{قل أرأيتم إن جعل الله} أي : الذي له الأمر كله {عليكم النهار} أي : الذي توازن حرارته برطوبة الليل فيتمّ بها صلاح النبات وغير ذلك من جميع المقدّرات {سرمداً} أي : دائماً {إلى يوم القيامة} لا ليل فيه {من إله غير الله} أي : الجليل الذي ليس له مثل {يأتيكم بليل} أي : ينشأ منه ظلام {تسكنون فيه} استراحة عن متاعب الأشغال ، فإن قيل هلا قيل بنهار تتصرفون فيه كما قيل بليل تسكنون فيه ؟
أجيب : بأنه تعالى ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأنّ المنافع التي تتعلق به متكاثرة ليس التصرف في المعايش وحده والظلام ليس بتلك المنزلة ومن ثمّ قرن بالضياء{أفلا تسمعون} لأن السمع يدرك ما لا يدرك البصر من ذلك منافعه ووصف فوائده وقرن بالليل {أفلا تبصرون} لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ، قال البقاعي : فالآية من الاحتباك ذكر الضياء أولاً دليلاً على حذف الظلام ثانياً والليل والسكون ثانياً دليلاً على حذف النهار والانتشار أوّلاً ولما كان التقدير ومن رحمته جعل لكم السمع والأبصار لتتدبروا آياته وتبصروا في مصنوعاته عطف عليه.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 165
ومن رحمته} أي : التي وسعت كل شيء لا من غيرها من خوف أو رجاء أو تعلق غرض من الأغراض {جعل لكم الليل والنهار} آيتين عظيمتين دبر فيها وبهما جميع مصالحكم فجعل آية الليل {لتسكنوا فيه} فلا تسعوا فيه لمعاشكم {و} جعل آية النهار مبصرة {لتبتغوا من فضله} بأن تسعوا في معاشكم بجهدكم ، قال البقاعي : فالآية من الاحتباك ذكر أوّلاً السكون دليلاً على حذف السعي في المعاش ثانياً وذكر الابتغاء من فضله ثانياً دليلاً على حذف عدم السعي في المعاش أوّلاً
165
{ولعلكم تشكرون} أي : وليكون حالكم حال من يرجى منه الشكر لما يتجدد لكم من تقلبهما من النعم المتوالية التي لا يحصرها إلا خالقها ، وأما الآخرة فلما كانت غير مبنية على الأسباب وكانت الجنة لا تعب فيها بوجه كان لا حاجة فيها لليل.
{ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} تقريع بعد تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله تعالى من الإشراك به كما أنه لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده ، اللهمّ فكما أدخلتنا في أهل توحيدك فأدخلنا في الناجين من وعيدك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم يا أرحم الراحمين ، ويحتمل أن يكون الأوّل لتقرير فساد رأيهم والثاني لبيان أنه لم يكن عن سند وإنما كان محض تَشَهِّ : وهوى ، أو أنه ذكر الثاني كما قال الجلال المحلي ليبنى عليه.
{ونزعنا} أي : أخرجنا وأفردنا بقوّة وسطوة {من كل أمة شهيداً} أي : وهو رسولهم يشهد عليهم بما قالوه {فقلنا} أي : فتسبب عن ذلك أن قلنا للأمم {هاتوا برهانكم} أي : دليلكم القطعي الذي فزعتم في الدنيا إليه وعوّلتم في شرككم عليه كما هو شأن ذوي العقول أنهم لا يبنون شيئاً على غير أساس {فعلموا} أي : بسبب هذا السؤال لمَّا اضطروا ولم يجدوا لهم سنداً {أن الحق} في الإلهية {لله} أي : الملك الذي له الأمر كله لا يشاركه فيه أحد {وضل عنهم} أي : غاب غيبة الضائع {ما كانوا يفترون} أي : يقولونه قول الكاذب المتعمد للكذب لكونه لا دليل عليه ولا شبهة للغلط فيه.
{إن قارون} ويسمى في التوراة تورح {كان من قوم موسى} قال أكثر المفسرين كان ابن عمه لأنّ قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب وموسى عليه السلام ابن عمران بن قاهث بن لاوي وقال ابن إسحاق كان قارون عم موسى فكان أخا عمران وهما ابنا يصهر ولم يكن في بني إسرائيل ؟
اقرأ للتوراة من قارون ولكنه نافق كما نافق السامريّ وكان يسمى النور لحسن صورته.
وعن ابن عباس : كان ابن خالته {فبغى عليهم} أي : تجاوز الحدّ في احتقارهم بما خوّلناه فيه ، قيل كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل وكان يبغي عليهم ويظلمهم ، وقال قتادة : بغى عليهم بكثرة المال ولم يرع لهم حق الإيمان بل استخف بالفقراء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 165
وقال الضحاك : بغى عليهم بالشرك ، وقال شهر بن حوشب زاد في طول ثيابه شبراً ، روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرّ ثوبه خيلاء" ، وقال القفال : طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده ، وقال ابن عباس تكبر عليهم وتجبر ، وقال الكلبيّ حسد هارون عليه السلام على الحبورة.(3/111)
روي أهل الأخبار : أن قارون كان أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون وأجملهم وأغناهم وكان حسن الصوت فبغى وطغى وكان أوّل طغيانه وعصيانه أنّ الله تعالى أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطاً أربعة في كل طرف خيطاً أخضر كلون السماء يذكرون إذا نظروا إليها السماء ويعلمون أني منزل منها كلامي فقال موسى : عليه السلام يا رب افلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضراً فإنّ بني إسرائيل تحقر هذه الخيوط ، فقال الله تعالى : يا موسى أنّ الصغير من
166
أمري ليس بصغير فإن لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير فدعاهم موسى عليه السلام وقال : إنّ الله تعالى يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطاً خضراً كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها ففعل بنو إسرائيل ما أمرهم به واستكبر قارون ولم يفعل وقال إنما يفعل هذا الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم وكان هذا بدء عصيانه وبغيه ، ولما قطع الله تعالى لبني إسرائيل البحر وأغرق فرعون جعل الحبورة لهارون عليه الصلاة والسلام فحصلت له النبوّة والحبورة وكان له القربان والذبح وكان لموسى عليه السلام الرسالة فوجد قارون لذلك في نفسه وقال يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء لا أصبر أنا على هذا فقال موسى : عليه السلام والله ما صنعت ذلك لهارون بل الله تعالى جعلها له فقال قارون : والله لا أصدقك حتى تريني بيانه فجمع موسى عليه السلام رؤساء بني إسرائيل وأمرهم أن يجيء كل رجل منهم بعصا فجاؤوا بها فحزمها وألقاها موسى عليه السلام في قبة له كان يعبد الله تعالى فيها وكان ذلك بأمر الله تعالى ودعا موسى عليه السلام أن يريهم بيان ذلك فباتوا يحرسون عصيهم فأصبحت عصا هارون عليه السلام وقد اهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال موسى : عليه السلام لقارون ألا ترى ما صنع لهارون ؟
عليه السلام فقال : والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر فاعتزل قارون ومعه ناس كثير ، وولي هارون عليه السلام الحبورة وهي رياسة الذبح والقربان وكانت بنو إسرائيل يأتون بهداياهم إلى هارون عليه السلام فيضعها في المذبح وتنزل نار من السماء فتأكلها ، واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال والتبع من بني إسرائيل فكان لا يأتي موسى عليه السلام ولا يجالسه ، وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أن قارون كان من السبعين المختارة الذين سمعوا كلام الله تعالى" ولما ذكر الله تعالى بغيه ذكر سببه الحقيقي بقوله تعالى : {وأتيناه من الكنوز} أي : الأموال المدفونة المذخورة فضلاً عن الظاهرة التي هي بصدد الإنفاق منها لما عساه يعرض من المهمات {ما} أي : الذي أوتي شيء كثير لا يدخل تحت حصر حتى {إنّ مفاتحه} أي : مفاتح الأغلاق التي هو مدفون فيها وراء أبوابها {لتنوء} أي : تميل بجهد ومشقة بثقلها {بالعصبة} أي : الجماعة الكثيرة التي تعصب أي : يقوي بعضهم بعضاً {أولى} أي : أصحاب {القوّة} أي : تميلهم من أثقالها إياهم ، تنبيه : في المبالغة بالتعبير بالكنوز والمفاتيح والنوء والعصبة الموصوفة ما يدل على أنه أوتي من ذلك ما لم يؤته أحد ممن هو في عداده وكل ذلك مما تستبعده العقول فلذلك وقع التأكيد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 165
واختلفوا في عدد العصبة : فقال مجاهد ما بين العشرة إلى خمسة عشر ، وقال الضحاك عن ابن عباس ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وقال قتادة ما بين العشرة إلى الأربعين ، وقيل أربعون رجلاً ، وقيل سبعون وروي عن ابن عباس قال : كان يحمل مفاتيحه أربعون رجلاً ، أقوى ما يكون من الرجال.
وقال جرير عن منصور عن خيثمة قال : وجدت في الإنجيل أن مفاتح خزائن قارون وقر ستين بغلاً ما يزيد فيها مفتاح على أصبع لكل مفتاح كنز ، ويقال كان قارون أينما ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه وكانت من حديد فلما أثقلت عليه جعلت من خشب فثقلت فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلاً ، وفي الباء في بالعصبة : وجهان
167
أنها للتعدية كالهمزة ولا قلب في الكلام والمعنى لتنئ المفاتح العصبة الأقوياء كما تقول أجأته وجئت به وأذهبته وذهبت به ، والثاني : قال أبو عبيدة : إن في الكلام قلباً والأصل لتنوء العصبة بالمفاتح أي : لتنهض بها كقولهم عرضت الناقة على الحوض.
ولما ذكر الله تعالى بغيه ذكر وقته بقوله تعالى : {إذا قال له قومه} أي : من بني إسرائيل {لا تفرح} أي : بكثرة المال فرح بطر فإن الفرح بالعرض الزائل يدل على الركون إليه وذلك يدل على نسيان الآخرة وعلى غاية الجهل وقلة التأمل بالعواقب ، قال ابن عباس : كان فرحه ذلك شركاً لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله عز وجل {إنّ الله} أي : الذي له صفات الكمال {لا يحب} أي : لا يعامل معاملة المحب {الفرحين} أي : البطرين الأشرين الراسخين في الفرح بما يفني الذين لا يشكرون الله تعالى بما أعطاهم فإن فرحهم يدل على سقوط الهمم كما قال تعالى : {ولا تفرحوا بما آتاكم} (الحديد ، 23) وقال القائل في ذلك.(3/112)
*ولست بمفراح إذا الدهر سرني
وقال آخر :
*أشدّ الغم عندي في سرور*
تيقن عنه صاحبه انتقالاً فلا يفرح بالدنيا إلا من رضى بها واطمأن ، فأما من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما فيه عن قريب لم تحدّثه نفسه بالفرح.
{وابتغ} أي : اطلب طلباً تحمد نفسك فيه {فيما آتاك الله} أي : الملك الذي الأمر كله بيده من الغنى والثروة {الدار الآخرة} بأن تقوم بشكر الله فيما أنعم الله عليك وتنفقه في رضا الله تعالى فيجازيك بالجنة {ولا تنس} أي : ولا تترك {نصيبك من الدنيا} قال مجاهد : لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب لأنّ حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل للآخرة ، وقال السدّيّ : بالصدقة وصلة الرحم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 165
وقال عليّ رضي الله تعالى عنه وكرم الله وجهه لا تنسى صحتك وقوّتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة ، روي أنه صلى الله عليه وسلم قال فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن الشبيبة قبل الكبر ومن الحياة قبل الموت فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار ، وعن ميمون الأزدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه "اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك" ، وقال الحسن : أمر أن يقدّم الفضل ويمسك ما يغنيه ، وقال منصور بن
168
زادان قوتك وقوت أهلك {وأحسن} أي : أوقع الإحسان بدفع المال إلى المحاويج والإنفاق في جميع الطاعات ويدخل في ذلك الإعانة بالجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر {كما أحسن الله} الجامع لصفات الكمال {إليك} بأن تعطي عطاء من لا يخاف الفقر كما أوسع الله عليك {ولا تبغ} أي : ولا ترد إرادة ما ، {الفساد في الأرض} بتقتير ولا تبذير ولا تكبر على عباد الله تعالى ولا تحقير ، ثم أتبع ذلك علته مؤكداً لأنّ أكثر المفسدين يبسط لهم في الدنيا وأكثر الناس يستبعد أن يبسط فيها لغير محبوب فقيل {إن الله} أي : العالم بكل شيء القدير على كل شيء {لا يحب المفسدين} أي : لا يعاملهم معاملة من يحبه ، وقيل أن القائل له هذا موسى عليه السلام ، وقيل مؤمنو قومه ، وكيف كان فقد جمع في هذا الوعظ ما فيه مزيد لكنه أبى أن يقبل بل زاد عليه كفر النعمة بأن.
جزء : 3 رقم الصفحة : 165
{قال} أي : قارون في الجواب {إنما أوتيته} أي : هذا المال {على علم} حاصل {عندي} فإنه كان أعلم بني إسرائيل بالتوراة أي : فرآني له أهلاً ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره ، وقيل هو علم الكيمياء ، وقال سعيد ابن المسيب كان موسى يعلم الكيمياء فعلَّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلَّم كالب ابن يوفنا ثلثه وعلَّم قارون ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان ذلك سبب أمواله ، وقيل على علم عندي بالتصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب ، ثم أجاب الله تعالى : عن كلامه بقوله تعالى : {أو لم يعلم أنّ الله} أي : بما له من صفات الجلال والعظمة والكمال {قد أهلك} وقوله تعالى : {من قبله من القرون} فيه تنبيه على أنه لم يتعظ مع مشاهدته للمهلكين الموصوفين مع قرب الزمان وبعده وقوله تعالى : {ومن هو أشدّ منه قوة} أي : في البدن والمعاني من العلم وغيره والأنصار والخدم {وأكثر جمعاً} في المال والرجال آخرهم فرعون الذي شاهده في ملكه وحقق أمره يوم هلكه فيه تعجيب وتوبيخ على اغتراره بقوّته وكثرة ماله مع علمه بذلك لأنه قرأ في التوراة وكان أعلمهم بها وسمعه من حفاظ التواريخ واختلف في معنى قوله عز وجل : {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} فقال قتادة
169
يدخلون النار بغير سؤال ولا حساب ، وقال مجاهد لا تسأل الملائكة عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم وقال الحسن : لا يسئلون سؤال استعلام وإنما يسئلون سؤال توبيخ وتقريع ، وقيل المراد أنّ الله تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة به إلى سؤالهم عن كيفية ذنوبهم وكميتها لأنه تعالى عالم بكل المعلومات فلا حاجة إلى السؤال ، فإن قيل كيف الجمع بين هذا وبين قوله تعالى : {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} (الحجر : 92 ـ 93)
جزء : 3 رقم الصفحة : 169
أجيب : بحمل ذلك على وقتين ، وقال أبو مسلم : السؤال قد يكون للمحاسبة وقد يكون للتوبيخ والتقريع وقد يكون للاستعتاب ، قال ابن عادل : وأليق الوجوه بهذه الآية الاستعتاب لقوله تعالى : {ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون} (النحل ، 84) هذا يوم لا ينطقون ولايؤذن لهم فيعتذرون (المرسلات : 35 ، 36) .
{فخرج} أي : فتسبب عن تجبره واغتراره بماله أن خرج {على قومه} أي : الذين نصحوه في الاقتصاد في شأنه والإكثار في الجود على إخوانه وقوله تعالى : {في زينته} فيه دليل على أنه خرج بأظهر زينته وأكملها وليس في القرآن إلا هذا القدر.(3/113)
والناس ذكروا وجوهاً مختلفة : فقال إبراهيم النخعي أنه خرج هو وقومه في ثياب حمر وصفر ، وقال ابن زيد : في تسعين ألفاً عليهم المعصفرات وقال مقاتل : خرج على بلغة شهباء عليها سرج من ذهب عليه الأرجوان ومعه أربعة آلاف فارس عليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلثمائة جارية بيض عليهنّ الحلي والثياب الحمر على البغال ولما كان كأنه قبل ماذا قال قومه له قيل {قال الذين يريدون الحياة الدنيا} منهم لسفول هممهم وقصور نظرهم على الفاني لكونهم أهل جهل وإن كان قولهم من باب الغبطة لا من باب الحسد الذي هو تمنى زوال نعمة المحسود {يا ليت لنا} أي : نتمنى تمنياً عظيماً أن نؤتى من أيّ مؤت كان وعلى أيّ وصف كان {مثل ما أوتي قارون} أي : من هذه الزينة وما تسبب عنه من العلم حتى لا نزال أصحاب أموال ، ثم عظموها بقولهم مؤكدين لعلمهم أن ثم من يريدان ينكر عليهم {إنه لذو حظ} أي : نصيب وبخت من الدنيا {عظيم} بما أوتيه من العلم الذي كان سبباً له إلى جمع هذا المال وهؤلاء الراغبون يحتمل أن يكونوا من الكفار وأن يكونوا من المسلمين الذين يحبون الدنيا ودل على جهلهم وفضل العلم الرباني وحقارة ما أوتي قارون من المال والعلم الظاهر الذي أدى إلى اتباعه قوله تعالى :
{وقال الذين أوتوا العلم} وهم أهل الدين قال ابن عباس : رضي الله تعالى عنهما يعني الأحبار من بني إسرائيل ، وقال مقاتل : أوتوا العلم بما وعد الله في الآخرة فقالوا للذين تمنوا {ويلكم} ويل : أصله الدعاء بالهلاك ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما يضر ، وهو منصوب بمحذوف أي : ألزمكم الله ويلكم {ثواب الله} أي : الجليل العظيم {خير} أي : من هذا الحطام الذي أوتيه قارون في الدنيا بل من الدنيا وما فيها ومن فاته الخير حل به الويل ، ثم بينوا مستحقه تعظيماً له وترغيباً للسامع في حاله بقولهم {لمن آمن وعمل} تصديقاً لإيمانه {صالحاً} ثم بين تعالى عظمة هذه النصيحة وعلو قدرها بقوله تعالى : {ولا يلقاها} أي : هذه النصيحة التي قالها أهل العلم وهي الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله أو الجنة المثاب بها {إلا الصابرون} أي : على أداء الطاعات والاحتراز عن المحرّمات وعلى الرضا بقضاء الله في كل ما قسم من المنافع والمضار الذين صار الصبر لهم خلقاً ، ولما تسبب عن نظره هذا الذي أوصله إلى الكفر بربه أخذه بالعذاب أشار إلى ذلك بقوله
170
سبحانه وتعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 169
فخسفنا} أي : بمالنا من العظمة {به وبداره الأرض} روي أنه كان يؤذي موسى عليه الصلاة والسلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه كل وقت ولا يزيد إلا عتواً وتجبراً ومعاداة لموسى حتى بنى داراً وجعل بابها من الذهب وضرب على جدرانها صفائح الذهب وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويضاحكونه.(3/114)
قال ابن عباس : نزلت الزكاة على موسى عليه السلام فأتاه قارون فصالحه عن كل ألف دينار بدينار ، وعن كل ألف درهم بدرهم ، وعن كل ألف شاة بشاة ، فلم تسمح بذلك نفسه فجمع بني إسرائيل وقال : لهم إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا : أنت كبيرنا فأمرنا بما شئت قال : آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي فنجعل لها جعلاً حتى تقذف موسى بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فدعاها فجعل لها قارون ألف درهم ، وقيل ألف دينار ، قيل طشتاً من ذهب ، وقيل قال لها إني أمونك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غداً إذا حضر بنو إسرائيل فلما كان من الغد وكان يوم عيد لهم قام موسى عليه السلام خطيباً فقال : من سرق قطعناه ومن زنى غير محصن جلدناه ومن زنى محصناً رجمناه فقال له قارون ولو كنت أنت قال ولو كنت أنا قال إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال : ادعها فإن قالت فهو كما قالت فلما أن جاءت قال : لها موسى يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء فعظم عليها وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة إلا صدقت فتداركها الله تعالى بالتوفيق وقالت في نفسها أحدث اليوم توبة أفضل من أن أوذي رسول الله فقالت لا كذبوا ولكن جعل لي قارون جعلاً على أن أرميك بنفسي فخرّ موسى ساجداً يبكي ويقول : اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى الله تعالى إليه إني أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت فقال موسى : عليه السلام يا بني إسرائيل إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلبث مكانه ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا ولم يبق مع قارون إلا رجلان ثم قال موسى : يا أرض خذيهم فأخذت الأرض بأقدامهم ، وفي رواية كان على فراشه وسريره فأخذته حتى غيبت سريره ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وقارون وصاحباه في كل ذلك يتضرعون إلى موسى ويناشده قارون بالله والرحم ، حتى روي أنه ناشده سبعين مرّة وموسى في كل ذلك لا يلتفت إليه لشدّة غضبه ثم قال : يا أرض خذيهم فانطبقت عليهم الأرض فأوحى الله تعالى إليه ما أغلظ قلبك استغاث بك سبعين مرة فلم ترحمه وعزتي وجلالي لو دعاني مرة واحدة لأجبته ، وفي بعض الآثار لا أجعل الأرض بعدك طوعاً لأحد ، قال قتادة : خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة قال : وأصبح بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم إن موسى إنما دعا على قارون ليستبدّ بداره وكنوزه فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وبأمواله ، فإياكم يا أمة هذا النبيّ أن تردوا ما أتاكم به من الرحمة فتهلكوا ، وإن كنتم أقرب الناس إليه فإن قارون كان من أقارب موسى عليه السلام فإن الأنبياء عليهم السلام كما أنهم لا يوجدون الهدى في قلوب العدا فكذلك لا يمنعونهم من الردى ولا يشفعون إلا لمن ارتضى {فما} فتسبب عنه أنه ما {كان له} أي : لقارون ، وأكد النفي لما استقر في الأذهان أن الأكابر منصورون بزيادة الجار في قوله تعالى : {من فئة} أي : أعوان وأصل الفئة الجماعة من الطير كأنها سميت بذلك لكثرة رجوعها وسرعتها إلى المكان الذي ذهبت منه {ينصرونه من دون الله} أي :
171
جزء : 3 رقم الصفحة : 169
غيره بأن يمنعوا عنه الهلاك {وما كان من المنتصرين} أي : الممتنعين منه من قولهم نصره من عدوه فانتصر إذا منعه منه فامتنع ولما خسف به واستبصر الجهال الذين هم كالبهائم لا يرون إلا المحسوسات ذكر حالهم بقوله :
{وأصبح} أي : وصار ولكنه ذكره لمقابلة المساء {الذين تمنوا} أي : أرادوا إرادة عظيمة بغاية الشفقة أن يكونوا {مكانه} أي : تكون حاله ومنزلته في الدنيا لهم {بالأمس} أي : الزمان الماضي القريب وإن لم يكن يلي يومهم الذي هم فيه فالأمس قد يذكر ولا يراد به اليوم الذي قبل يومك ولكن الوقت المستقرب على طريق الاستعارة {يقولون ويكأنّ الله يبسط} أي : يوسع {الرزق لمن يشاء من عباده} بحسب مشيئته وحكمته لا لكرامته عليه {ويقدر} أي : يضيق على من يشاء لا لهوان من يضيق عليه بل لحكمته وقضائه ابتلاء منه وفتنة و"وي" اسم فعل بمعنى أعجب أي : أتى والكاف بمعنى اللام ، وهذه الكلمة والتي بعدها متصلة بإجماع المصاحف.(3/115)
واختلف القراء في الوقف فالكسائي وقف على الياء قبل الكاف ، ووقف أبو عمرو على الكاف ، ووقف الباقون على النون وعلى الهاء ، وحمزة يسهل الهمزة في الوقف على أصله ، وأما الوصل فلا خلاف فيه بينهم ولما لاح لهم من واقعته أن الرزق إنما هو بيد الله اتبعوه ما دل على أنهم اعتقدوا أيضاً أن الله قادر على ما يريد من غير الرزق كما هو قادر على الرزق من قولهم {لولا أن منّ الله} أي : تفضل الملك الأعظم {علينا} بجوده ولم يعطنا ما تمنيناه من الكنوز على مثل حاله {لخسف بنا} مثل ما خسف به {ويكأنه لا يفلح الكافرون} لنعمة الله تعالى كقارون والمكذبين لرسله وبما وعد لهم من ثواب الآخرة وقوله تعالى :
{تلك الدار الآخرة} إشارة تعظيم وتفخيم لشأنها أي : تلك الدار التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها ، وتلك مبتدأ والدار صفته والخبر {نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض} بالبغي {ولا فساداً} بعمل المعاصي فلم يعلق تعالى الوعد بترك العلو والفساد ولكن بترك ، إرادتهما وميل القلوب إليهما كما قال تعالى : {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} (هود ، 113) فعلق الوعيد بالركون ، وعن علي رضي الله تعالى عنه أن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها ، وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال ذهبت الأماني ههنا ، وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنه كان يرددها حتى قبض ، قال الزمخشري : ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون والفساد لقارون متعلقاً بقوله تعالى : {أن فرعون علا في الأرض} وبقوله تعالى : {ولا تبغ الفساد في الأرض} فيقول من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة ولا يتدبر قوله تعالى {والعاقبة} أي : المحمودة {للمتقين} أي : عقاب الله تعالى بعمل طاعته كما تدبره علي والفضيل وعمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنهم ، ولما بيَّن تعالى أن الدار الآخرة ليست لمن يريد علواً في الأرض ولا فساداً بل هي للمتقين بين بعد ذلك ما يحصل فقال تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 169
من جاء بالحسنة فله خير منها} من عشرة أضعاف إلى سبعين إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يحيط به إلا الله تعالى {ومن جاء بالسيئة} وهي ما نهى الله تعالى عنه ومنه إخافه المؤمنين {فلا يجزى} أي : من أيّ جاز وأظهر ما في هذا الفعل من الضمير العائد على من بقوله تعالى : {الذين عملوا السيئآت} تصويراً لحالهم وتقبيحاً لهم وتنفيراً من عملها
172
{إلا} جزاء {ما كانوا يعملون} أي : مثله وهذا من فضل الله العظيم وكرمه الواسع أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها ويجزي الحسنة بأكثر منها كما مرّ ، فإن قيل قال تعالى : {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} (الإسراء : 7)
كرر ذكر الإحسان واكتفى في ذكر الإساءة بمرة واحدة فما السبب في ذلك ؟
.
أجيب : بأن هذا المقام مقام ترغيب في الدار الآخرة فكانت المبالغة في النهي عن المعصية مبالغة في الدعوة إلى الآخرة ، وأما الآية الأخرى فهي شرح حالهم فكانت المبالغة في ذكر محاسنهم أولى ، فإن قيل كيف أنه تعالى لا يجزي السيئة إلا بمثلها مع أن المتكلم بكلمة الكفر إذا مات في الحال عذب أبد الآبار ؟
أجيب : بأنه كان على عزم أنه لو عاش أبداً لقال ذلك فعومل بمقتضى عزمه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 169
{أن الذي فرض} أي : أنزل {عليك القرآن} قاله أكثر المفسرين ، وقال عطاء : أوجب عليك العمل بالقرآن ، وقال أبو عليّ : فرض عليك أحكامه وفرائضه {لرادّك إلى معاد} أي : معاد ليس لغيرك من البشر وهو المقام المحمود الذي وعدك أن يبعثك فيه وتنكير المعاد لذلك ، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس يعني إلى الموت ، وقال الزهري وعكرمة : إلى يوم القيامة ، وقيل إلى الجنة.
وروى العوفي عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما يعني إلى مكة وهو قول مجاهد ، وقال القتيبي : معاد الرجل بلده ينصرف ثم يعود إلى بلده وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار مهاجراً إلى المدينة سار في غير الطريق مخافة الطلب فلما أمن ورجع إلى الطريق ونزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة اشتاق إليها فأتاه جبريل عليه السلام فقال : اشتقت إلى بلدك ومولدك قال : نعم قال : فإنّ الله تعالى يقول : {أن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد} قال الرازي : وهذا أقرب لأنّ ظاهر المعاد أنه كان فيه وفارقه وحصل له العود إليه وذلك لا يليق إلا بمكة وإن كان سائر الوجوه محتملاً لكن ذلك أقرب ، قال أهل التحقيق : وهذا آخر مما يدل على نبوته لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر فيكون معجزاً ونزل جواباً لقول كفار مكة إنك لفي ضلال مبين {قل} أي : للمشركين {ربي أعلم من جاء بالهدى} وما يستحقه من الثواب في المعاد يعني نفسه {ومن هو في ضلال مبين} يعنيهم وما يستحقونه من العذاب في معادهم فهو الجائي بالهدى وهم في الضلال ، تنبيه : من جاء منصوب بمضمر أي : يعلم أو بأعلم أن جعلناها بمعنى عالم وأعملناها إعماله.(3/116)
{وما كنت ترجو} أي : في سالف الدهر بحال من الأحوال {أن يلقى} أي : ينزل على وجه لم تقدر على رده {إليك الكتاب} أي : يوحى إليك القرآن ، قال البيضاوي أي : سيردك إلى معاد كما ألقى إليك الكتاب وما كنت ترجوه وهو ظاهر على أن المراد بالمعاد مكة وقوله تعالى : {إلا رحمة} استثناء منقطع أي : لكن ألقى إليك الكتاب رحمة {من ربك} أي : فأعطاك القرآن ، وقيل : متصل قال الزمخشري : هذا كلام محمول على المعنى كأنه قيل وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة فيكون استثناء من الأحوال أو من المفعول له {فلا تكونن ظهيراً} أي : معيناً {للكافرين} على دينهم الذي دعوك إليه ، قال مقاتل : وذلك حين دعي إلى دين آبائه ، فذكره الله تعالى نعمه ونهاه عن
173
مظاهرتهم على ما هم عليه.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 173
ولا يصدنك عن آيات الله} أي : قراءتها والعمل بها {بعد إذ نزلت إليك} أي : لا ترجع إليهم في ذلك {وادع} أي : أوجد الدعاء {إلى ربك} أي : إلى عبادته وتوحيده {ولا تكونن من المشكرين} أي : بإعانتهم ، ولم يؤثر الجازم في الفعل لبنائه بخلافه في يصدنك فإنه حذف منه نون الرفع إذ أصله يصدوننك حذفت نون الرفع للجازم ثم حذفت الواو لالتقاء الساكنين.
{ولا تدع} أي : تعبد {مع الله} أي : الجامع لجميع صفات الكمال {إلهاً آخر} فإن قيل : هذا وما قبله لا يقع منه صلى الله عليه وسلم فما فائدة ذلك النهي ؟
أجيب : بأنه ذكر للتهييج وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم أو أن الخطاب وإن كان معه لكن المراد غيره كما في قوله تعالى : {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر : 65)
ثم علل ذلك بقوله تعالى : {لا إله إلا هو} أي : لا نافع ولا ضار ولا معطى ولا مانع إلا هو كقوله تعالى : {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً} (المزمل : 9)
فلا يجوز اتخاذ إله سواه ، ثم علل وحدانيته بقوله تعالى : {كل شيء هالك إلا وجهه} أي : ذاته فإنّ الوجه يعبر به عن الذات ، قال أبو العالية : إلا ما أريد به وجهه ، وقيل : إلا ملكه ، واختلفوا في قوله تعالى : {هالك} فمن الناس من فسر الهلاك بإخراجه عن كونه منتفعاً به بالإماتة أو بتفريق الأجزاء وإن كانت أجزاؤه باقية فإنه يقال هلك الثوب وهلك المتاع ولا يريدون به فناء أجزائه بل خروجه عن كونه منتفعاً به ، ومنهم من قال : معنى كونه هالكاً كونه قابلاً للهلاك في ذاته فإن كل ما عداه تعالى ممكن الوجود قابل للعدم فكان قابلاً للهلاك فأطلق عليه اسم الهالك نظراً إلى هذا الوجه وعلى هذا يحمل قول النسفي في بحر الكلام سبعة لا تفنى : العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار بأهلهما من ملائكة العذاب والحور العين والأرواح {له الحكم} أي : القضاء النافذ في الخلق {وإليه} وحده {ترجعون} أي : في جميع أحوالكم في الدنيا وبالنشور من القبور للجزاء في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم ، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشريّ من قوله صلى الله عليه وسلم "من قرأ سورة طسم القصص كان له من الأجر بعدد من صدّق بموسى وكذب ولم يبق ملك في السموات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه كان صادقاً" ، حديث موضوع.
174
جزء : 3 رقم الصفحة : 173(3/117)
سورة العنكبوت
مكية إلا عشر آيات من أوّلها إلى قوله تعالى {وليعلمنّ المنافقين}
قال الحسن : فإنها مدنية وهي سبع وستون آية ، وألف وتسعمائة وإحدى وثمانون كلمة ، وأربعة آلاف وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفاً.
{بسم الله} الذي أحاط بجميع القوة فأعز جنده {الرحمن} الذي شمل جميع العباد بنعمه {الرحيم} بجميع خلقه وقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 174
{ألم} سبق القول فيه في أوّل البقرة ، ووقوع الاستفهام بعده دليل على استقلاله بنفسه فيكون اسماً للسورة ، أو للقرآن ، أو لله ، أو أنه سرّ استأثر بعلمه الله تعالى ، أو استقلالِه بما يضمر معه بتقديره مبتدأ أو خبراً وغيره مما مرّ أوّل سورة البقرة ، وقيل في ألم أشار بالألف الدال على القائم إلا على المحيط ، ولام الوصلة وميم التمام بطريق الرمز إلى أنه تعالى أرسل جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام ، ولما قال تعالى في آخر السورة المتقدّمة {وادع إلى ربك} (القصص : 87) وكان في الدعاء
175
إليه الحراب والضراب والطعان لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد فشق على البعض ذلك فقال تعالى :
{أحسب الناس} أي : كافةً {أن يتركوا} أي : أظنوا أنهم يتركون بغير اختبار وابتلاء في وقت ما بوجه من الوجوه تنبيه : أن يتركوا سدّ مسدّ مفعولي حسب عند الجمهور {أن} أي : بأن {يقولوا} أي : بقولهم {آمنا وهم} أي : والحال أنهم {لا يفتنون} أي : يختبرون بما تتميز به حقية إيمانهم بمشاق التكاليف كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ليتبين المخلص من المنافق ، والصادق من الكاذب ، ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات فإنّ مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب.
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية : فقال الشعبي : نزلت في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام ثم هاجروا فتبعهم الكفار فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إنها نزلت في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام كانوا يعذبون بمكة.
وقال ابن جريج : نزلت في عمار بن ياسر كان يعذب في الله عز وجل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 175
وقال مقاتل : نزلت في مهجع بن عبد الله مولى عمر كان أوّل قتيل قتل من المسلمين يوم بدر فقال صلى الله عليه وسلم سيد الشهداء مهجع وهو أوّل من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة فجزع عليه أبواه وامرأته فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقيل وهم لا يفتنون بالأوامر والنواهي وذلك أنّ الله تعالى أمرهم في الابتداء بمجرد الإيمان ثم فرض عليهم الصلاة والزكاة وسائر الشرائع فشق على بعض فأنزل الله تعالى هذه الآية ثم عزاهم فقال :
{ولقد فتنا الذين من قبلهم} أي : من الأنبياء والمؤمنين فمنهم من نشر بالمنشار ومنهم من قتل ، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون فكان يسومهم سوء العذاب فذلك سنة قديمة جارية في الأمم كلها فلا ينبغي أن يتوقع خلافه {فليعلمنّ الله} أي : الذي له الكمال كله {الذين صدقوا} في إيمانهم علم مشاهدة للخلق وإلا فالله تعالى لا يخفى عليه خافية {وليعلمن الكاذبين} فيه أي : فيظهر الله الصادقين من الكاذبين في الإيمان.
(فائدة) لبعض المحبين :
*للهوى آية (أي علامة) بها يعرف الصا ** دق في عشقه من الكذاب *
*سهر الليل دائماً ونحول ال ** جسم والموت في رضا الأحباب **
{أم حسب} أي : ظن {الذين يعلمون السيئات} أي : الشرك والمعاصي ، فإن العمل يعم أفعال القلوب والجوارح {أن يسبقونا} أي : يفوتونا فلا ننتقم منهم ، وهذا ساد مسدّ مفعولي حسب. وأم منقطعة والإضراب فيها لأنّ هذا الحساب أبطل من الأوّل لأنّ صاحب ذلك يقدر أن لا يمتحن لإيمانه وصاحب هذا يظن أن لا يجازى بمساويه ، ولهذا عقبه بقوله تعالى : {ساء ما يحكمون} أي : بئس الذي يحكمونه ، أو حكماً يحكمونه ، حكمهم هذا فحذف المخصوص بالذم ، ولما بين بقوله : {أحسب الناس أن يتركوا} أن العبد لا يترك في الدنيا سدى ، وبين في قوله تعالى :
{أم حسب الذين يعملون السيئات} أن من ترك ما كلف به يعذب عذاباً بين أن من يعترف
176
بالآخرة ويعمل لها لا يضيع عمله بقوله تعالى :
{من كان يرجو لقاء الله} أي : الملك الأعلى ، قال ابن عباس ومقاتل : من كان يخشى البعث والحساب والرجاء بمعنى الخوف ، وقال سعيد بن جبير : من كان يطمع في ثواب الله {فإن أجل الله} أي : الوقت المضروب للقائه {لآت} أي : لجاءٍ لا محالة فإنه لا يجوز عليه إخلاف الوعد ، فإن قيل : كيف وقع فإن أجل الله لآت جواباً للشرط ؟
أجيب : بأنه إذا كان وقت اللقاء آتياً كان اللقاء آتياً لا محالة كما تقول من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب ، إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة ، وقال مقاتل يعني : يوم القيامة لكائن ومعنى الآية أن من يخشى الله تعالى ويأمله فليستعد له وليعمل لذلك اليوم كما قال تعالى : {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً} (الكهف : 110)
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 175
وهو السميع} أي : لما قالوه {العليم} يعلم من صدق فيما قال ومن كذب فيثيب ويعاقب على حسب علمه ، قال الرازي : وههنا لطيفة وهي أنّ للعبد أموراً هي أصناف حسناته عمل قلبه وهو التصديق وهو لا يرى ولا يسمع وإنما يعلم ، وعمل لسانه وهو يسمع ، وعمل أعضائه وجوارحه وهو يرى فإذا أتى بهذه الأشياء يجعل الله تعالى لمسموعه ما لا أذن سمعت ، ولمرئيه ما لا عين رأت ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب بشر كما وصف في الخبر في وصف الجنة اه.(3/118)
(تنبيه) لم يذكر الله تعالى من الصفات غير هذين الصفتين كالعزيز والحكيم وذلك لأنه سبق القول في قوله {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمناً } وسبق الفعل بقوله تعالى : {وهم لا يفتنون } وبقوله تعالى : {فليعلمن الله الذين صدقوا} وبقوله تعالى : {أم حسب الذين يعملون السيئات } ولا شك أن القول يدرك بالسمع ، والعمل منه ما يدرك بالبصر ومنه ما لا يدرك به كما علم مما مرّ والعلم يشملها ، ولما بين تعالى أنّ التكليف حسن واقع وإن عليه وعداً وإيعاد ليس لهما دافع بين أن طلب الله تعالى ذلك من المكلف ليس لنفع يعود إليه بقوله تعالى :
{ومن جاهد} أي : بذل جهده في جهاد حرب أو نفس حتى كأنه يسابق آخر في الأعمال الصالحة {فإنما يجاهد لنفسه} لأنّ منفعة جهاده له لا لله تعالى فإنه غني مطلق كما قال تعالى : {إن الله} أي : المتصرّف في عباده بما شاء {لغنيّ عن العالمين} أي : الأنس والجنّ والملائكة وعن عبادتهم ومثل هذا كثير في القرآن كقوله تعالى : {من عمل صالحاً فلنفسه} (فصلت : 6)
وقوله تعالى : {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} (الإسراء : 7)
فينبغي للعبد أن يكثر من العمل الصالح ويخلصه لأنّ من عمل فعلاً يطلب به ملكاً ويعلم أنّ الملك يراه يحسن العمل ويتقنه ، وإذا علم أن عمله لنفسه لا لأحد يكثر منه ، نسأل الله الكريم الفتاح أن يوفقنا للعمل الصالح وأن يفعل ذلك بأهلينا وذريتنا ومحبينا بمحمد وآله ، ولما بين تعالى حال المسيء مجملاً بقوله تعالى : {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا} إشارة إلى التعذيب مجملاً ، وذكر حال المحسن بقوله تعالى : {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه } وكان التقدير فالذين جاهدوا والذين عملوا السيئات لنجزينهم أجمعين ولكنه طواه لأن السياق لأهل الرجاء عطف عليه قوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 175
{والذين آمنوا وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} أي : في الشدة والرخاء على حسب طاقتهم وفي ذلك إشارة إلى أن رحمته تعالى أتم من غضبه وفضله أتم من عدله وأشار بقوله تعالى : {لنكفرنّ عنهم سيئاتهم} إلى أن الإنسان وإن اجتهد لا بد من أن يزل عن الطاعة لأنه مجبول على
177
النقص : "فالصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما لم تؤت الكبائر ، والجمعة ، إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان" ونحو ذلك مما وردت به الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم المختار ، فالصغائر تكفر بعمل الصالحات ، وأما الكبائر فتكفر بالتوبة ، ولما بشرهم بالعفو عن العقاب أتم البشرى بالامتنان بالثواب فقال عاطفاً على ما تقديره ولنثبتنّ لهم حسناتهم {ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون} أي : أحسن جزاء ما عملوه وهو الصالحات ، وأحسن نصب بنزع الخافض وهو الباء ، ولما كان من جملة العمل الصالح الإحسان إلى الوالدين ذكر ذلك بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 177
ووصينا الإنسان بوالديه} أي : وإن عليا {حسناً} أي : برّاً بهما وعطفاً عليهما أي : وصيناه بإيتاء والديه حسناً أو بإيلاء والديه حسناً لأنهما سبب وجود الولد وسبب بقائه بالتربية المعتادة والله تعالى سبب له في الحقيقة بالإرادة وسبب بقائه بالإعادة للسعادة فهو أولى بأن يحسن العبد حاله معه ، فيطيعهما ما لم يأمراه بمعصية الله تعالى كما قال : تعالى : {وإن جاهداك لتشرك بي} وقوله تعالى {ما ليس لك به علم} أي : لا علم لك بإلهيته موافق للواقع فلا مفهوم له أو أنه إذا كان لا يجوز أن يتبع فيما لا يعلم صحته فبالأولى أن لا يتبع فيما يعلم بطلانه {فلا تطعهما} في ذلك كما جاء في الحديث : "لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى" ولا بد من إضمار القول إن لم يضمر قبل ، ثم علل ذلك بقوله تعالى : {إليّ مرجعكم} أي : من آمن منكم ومن كفر ومن برّ والديه ومن عق ، ثم تسبب عنه قوله تعالى : {فأنبئكم بما كنتم تعلمون} أي : أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها فأجازيكم عليها نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص الزهري وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس : "روي أنها لما سمعت بإسلامه قالت له : يا سعد بلغني أنك قد صبأت فوالله لا يظلني سقف بيت من الضِّح ـ وهو بكسر الضاد المعجمة وبحاء مهملة الشمس ـ والريح ، وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد وكان أحب أولادها إليها فأبى سعد ولبثت ثلاثة أيام لا تنتقل من الضح ولا تأكل ولا تشرب فلم يطعها سعد بل قال : والله لو كانت مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم جاء سعد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وشكا إليه فنزلت هذه الآية وهي التي في لقمان والتي في الأحقاف فأمره صلى الله عليه وسلم "أنْ يداريها ويترضاها بالإحسان".(3/119)
وروي أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما مترافقين حتى نزلا المدينة فخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام أخواه لأمّه أسماء بنت مخرمة امرأة من بني تميم بن حنظلة فنزلا بعياش وقالا له : إنّ من دين محمد صلة الأرحام وبرّ الوالدين وقد تركت أمك لا تأكل ولا تشرب ولا تأوي بيتاً حتى تراك وهي أشد حباً لك منا فاستشار عمر فقال : هما يخدعانك ولك عليّ أن أقسم مالي بيني وبينك فما زالا به
178
حتى أطاعهما وعصى عمر فقال عمر : أمّا إذا عصيتني فخذ ناقتي فليس في الدنيا بعير يلحقها فإن رابك منهما ريب فارجع فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل : إن ناقتي قد كلت فاحملني معك قال : نعم فنزل ليوطئ لنفسه وله فأخذاه وشدّاه وأوثقاه وجلده كل واحد منهما مائة جلدة وذهبا به إلى أمه فقالت : لا تزال في عذاب حتى ترجع عن دين محمد فنزلت رضي تعالى الله عنه وأرضاه ونفعنا به في الدنيا والآخرة ، ولما كان التقدير فالذين أشركوا وعملوا السيئات لندخلنهم في المفسدين ولكنه طواه لدلالة السياق عليه عطف عليه زيادة في الحث على الإحسان إلى الوالدين قوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 177
والذين آمنوا وعملوا} تحقيقاً لإيمانهم {الصالحات لندخلهم في الصالحين} أي : الأنبياء والأولياء بأن نحشرهم معهم ، أو ندخلهم وهم الجنة ، والصلاح منتهى درجات المؤمنين ومنتهى أنبياء الله والمرسلين ، ولما بين سبحانه وتعالى المؤمن بقوله تعالى : {فليعلمنّ الله الذين صدقوا} وبين الكافر بقوله تعالى : {وليعلمنّ الكاذبين} بين أنه بقي قسم ثالث مذبذب بقوله تعالى :
{ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله} بأن عذبهم الكفرة على الإيمان {جعل فتنة الناس} أي : له بما يصيبه من أذيتهم في منعه عن الإيمان إلى الكفر {كعذاب الله} أي : في الصرف عن الكفر إلى الإيمان {ولئن} لام قسم {جاء نصر} أي : للمؤمنين {من ربك} أي : بفتح وغنيمة {ليقولنّ} حذف منه نون الرفع لتوالي النونات ، والواو ضمير الجمع لالتقاء الساكنين {إنا كنا معكم} في الإيمان فأشركونا في الغنيمة وأما عند الشدّة فيجبنون كما قال الشاعر :
*وما أكثر الأصحاب حين تعدهم ** ولكنهم في النائبات قليل *
قال الله تعالى : {أو ليس الله بأعلم} أي : بعالم {بما في صدور} أي : قلوب {العالمين} من الإيمان والنفاق.
{وليعلمنّ الله الذين آمنوا} أي : بقلوبهم {وليعلمنّ المنافقين} فيجازي الفريقين ، واللام في الفعلين لام قسم ، ولما بين الفرق الثلاثة وأحوالهم ذكر أن الكافر يدعو من يقول آمنت إلى الكفر بقوله تعالى :
{وقال الذين كفروا} أي : ظاهراً وباطناً {للذين آمنوا} أي : ظاهراً وباطناً لم تتحملون الأذى والذل ؟
{اتبعوا سبيلنا} أي : الذي نسلكه في ديننا تدفعوا عن أنفسكم ذلك ، فقالوا : نخاف من عذاب الله تعالى على خطيئة اتباعكم فقالوا لهم اتبعونا {ولنحمل خطاياكم} إن كان ذلك خطيئة أو إن كان بعث ومؤاخذة ، قال الجلال المحلي : والأمر بمعنى الخبر وهو أولى من قول البيضاوي : وإنما أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين على أمرهم بالاتباع مبالغة في تعليق الحمل بالاتباع والوعد بتخفيف الأوزارعنهم إن كان تشجيعاً للمؤمنين على الاتباع وبهذا الاعتبار رد عليهم وكذبهم بقوله {وما هم} أي : الكفار {بحاملين من خطاياهم} أي : المؤمنين {من شيء أنهم لكاذبون} في ذلك ، قال الزمخشري : وترى في المتسمين بالإسلام من يستن بأولئك فيقول لصاحبه إذا أراد أن يشجعه على ارتكاب بعض العظائم افعل هذا وإثمه في عنقي وكم من مغرور
179
بمثل هذا الضمان من ضعفة العامة وجهلتهم ؟
.
ومنه ما يحكي أن أبا جعفر المنصور رفع إليه بعض أهل الحشو حوائجه فلما قضاها قال : يا أمير المؤمنين بقيت الحاجة العظمى قال : وما هي قال شفاعتك يوم القيامة فقال : له عمرو بن عبيد رحمه الله إياك وهؤلاء فإنهم قطاع الطريق في المأمن ، فإن قيل كيف سماهم الله تعالى كاذبين وإنما ضمنوا شيئاً علم الله تعالى أنهم لا يقدرون على الوفاء به وضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به ، لا يسمى كاذباً لا حين ضمن ولا حين عجز لأنه في الحالين لا يدخل تحت حد الكاذب وهو المخبر عن الشيء لا على ما هو عليه ؟
أجيب : بأنّ الله تعالى شبه حالهم حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به فكان ضمانهم عنده لا على ما عليه المضمون بالكاذبين الذين خبرهم لا على ما عليه المخبر عنهم ، ويجوز أن يراد أنهم كاذبون لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه كالكاذبين الذين يعدون الشيء وفي قلوبهم نية الخلف ، تنبيه : من الأولى : للتبيين ، والثانية : مزيدة ، والتقدير : وما هم بحاملين شيئاً من خطاياهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 177
فإن قيل قال الله تعالى : {وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء} ثم قال الله تعالى : (3/120)
{وليحملنّ} أي : الكفرة {أثقالهم} أي : أثقال ما اقترفته أنفسهم {وأثقالاً مع أثقالهم} أي : أثقالاً بقولهم للمؤمنين : اتبعوا سبيلنا وبإضلالهم مقلديهم فكيف الجمع بينهما ؟
أجيب : بأن قول القائل حمل فلان عن فلان يريد أن حمل فلان خف فإن لم يخف حمله فلا يكون قد حمل منه شيئاً فقوله تعالى : {وما هم بحاملين من خطاياهم } يعني : لا يرفعون عنهم خطيئة بل يحملون أوزار أنفسهم وأوزاراً بسبب إضلالهم كقوله صلى الله عليه وسلم "من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء" وقال تعالى في آية أخرى : {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} (النحل ، 25) من غير أن ينقص من أوزار من تبعهم شيء {وليسئلن يوم القيامة} أي : سؤال توبيخ وتقريع {عما كانوا يفترون} أي : يختلقون من الأكاذيب والأباطيل ، واللام في الفعلين لام قسم وحذف فاعلهما الواو ونون الرفع ، ولما كان السياق للبلاء والامتحان والصبر على الهوان ذكر من الرسل الكرام عليهم السلام من طال صبره على البلاء ولم يفتر عزمه عن نصيحة العباد بقوله تعالى :
{ولقد أرسلنا نوحاً} أي : أوّل رسل الله إلى المخالفين من العباد وهو معنى {إلى قومه} وعمره أربعون سنة فإنّ الكفر كان قد عمّ أهل الأرض وكان عليه السلام أطول الأنبياء ابتلاء بهم ، ولذلك قال الله تعالى مسبباً عن ذلك ومتعقباً : {فلبث فيهم} أي : بعد الرسالة {ألف سنة إلا خمسين عاماً} يدعوهم إلى توحيد الله تعالى فكذبوه {فأخذهم الطوفان} أي : الماء الكثير فغرقوا {وهم ظالمون} قال ابن عباس مشركون ، وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولتابعيه رضي الله تعالى عنهم وتثبيت لهم وتهديد لقريش ، قال ابن عباس : كان عمر نوح عليه السلام ألفاً وخمسين سنة بعث على رأس أربعين سنة ولبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا.
وروي عن ابن عباس أنه بعث وهو ابن أربعمائة وثمانين سنة وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة فإن كان هذا محفوظاً عن ابن عباس فيضاف إلى لبثه في قومه وهو تسعمائة وخمسون
180
سنة فيكون قد عاش ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة ، وأما قبره عليه السلام فروى ابن جرير والأزرقي حديثاً مرسلاً "أنّ قبره بالمسجد الحرام" ، وقيل ببلدة البقاع يعرف اليوم بكرك نوح ، وهناك جامع قد بني بسبب ذلك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 177
وعن وهب أنه عاش ألفاً وأربعمائة سنة ، والآية تدلّ على خلاف قول الأطباء العمر الإنساني لا يزيد على مائة وعشرين سنة ويسمونه العمر الطبيعي ، قال الرازي : ونحن نقول ليس طبيعياً بل هو عطاء إلهي وأمّا العمر الطبيعي فلا يدوم عنده ولا نجده فضلاً عن مائة أو أكثر ، فإن قيل : هلا قال تسعمائة سنة وخمسين ولم جاء التمييز أولاً بالسنة وثانياً بالعام ؟
أجيب : عن الأوّل بأن ما أورده الله تعالى أحكم لأنه لو قيل كما ذكر لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك وكأنه قال تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد إلا أنّ ذلك أخصر وأعذب لفظاً وأملأ بالفائدة ، وفيه نكتة أخرى وهي أنّ القصة مسوقة لذكر ما ابتلي به نوح عليه السلام من أمته وما كابده من طول المصابرة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتاً له فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكبر منه أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره ، وعن الثاني : بأنّ تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيق بالاجتناب في البلاغة إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض نتيجة المتكلم من تفخيم أو تهويل أو تنويه أو نحو ذلك ، والطوفان لغة : ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة من سيل أو ظلام أو نحو ذلك قال العجاج :
*وعمّ طوفان الظلام الأثأبا
جزء : 3 رقم الصفحة : 177
181
{فأنجيناه} أي : نوحاً عليه السلام {وأصحاب السفينة} أي : الذين كانوا فيها من الغرق ، وكانوا ثمانية وسبعين نفساً نصفهم ذكور ونصفهم إناث منهم أولاد نوح سام وحام ويافث ونساؤهم ، وعن محمد بن إسحاق كانوا عشرة خمسة رجال وخمسة نسوة ، وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "كانوا ثمانية نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم" {وجعلناها} أي : السفينة أو الحادثة والقصة {آية} أي : عبرة وعلامة على قدرة الله تعالى وعلمه وإنجائه للطائع وإهلاكه للعاصي {للعالمين} أي : لمن بعدهم من الناس إن عصوا رسولهم فإنه لم يقع في الدهر حادثة أعظم منها ولا أغرب ولا أشهر في تطبيق الماء جميع الأرض بطولها والعرض وإغراق جميع ما عليها من حيوانٍ إنسانٍ وغيره ، ولما ذكر تعالى قصة نوح وكان بلاء إبراهيم عليه السلام عظيماً في قذفه في النار وإخراجه من بلاده اتبعه به بقوله تعالى : (3/121)
{وإبراهيم} وهو منصوب إما باذكر ويكون {إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه} أي : خافوا عقابه بدل اشتمال لأنّ الأحيان تشمل ما فيها ، وإمّا معطوفاً على نوحاً ، وإذ ظرف لأرسلنا أي : أرسلناه حين بلغ من السنّ والعلم مبلغاً صلح فيه لأنْ يعظ قومه وينصحهم ويعرض عليهم الحق ويأمرهم بالعبادة والتقوى {ذلكم} أي : الأمر العظيم الذي هو إخلاصكم في عبادتكم له وتقواكم {خير لكم} أي : من كل شيء {إن كنتم تعلمون} أي : في عداد من يتجدّد له علم فينظر في الأمور بنظر العلم دون نظر الجهل ، ولما أمرهم بما تقدّم ونفى العلم عمن جهل خيريته دل عليه بقوله.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 181
إنما تعبدون من دون الله} أي : غيره {أوثاناً} أي : أصناماً لا تستحق العبادة لأنها حجارة منحوتة لا شرف لها {وتخلقون} أي : تصوّرون بأيديكم {إفكاً} أي : شيئاً مصروفاً عن وجهه فإنه مصنوع وأنتم تسمونه باسم الصانع ، ومربوب وأنتم تسمونه رباً ، أو تقولون كذباً في تسميتها آلهة وادعاء شفاعتها عند الله ، ثم إنّ الله تعالى نفى عنها النفع بقوله تعالى : {إن الذين تعبدون} ضلالاً وعدولاً عن الحق الواضح {من دون} أي : غير {الله} الذي له الملك كله {لا يملكون لكم رزقاً} أي : شيئاً من الرزق الذي لا قوام لكم بدونه وأنتم تعبدونها فكيف بغيركم فتسبب عن ذلك قوله تعالى : {فابتغوا} أي : اطلبوا {عند الله} أي : الذي له صفات الكمال {الرزق} أي : كله فإنه لا شيء منه إلا وهو بيده ، فإن قيل : لم نكر الرزق في قوله تعالى : {لا يملكون لكم رزقاً} ؟
وعرفه في قوله تعالى : {فابتغوا عند الله الرزق} أجيب : بأنه نكره في معرض النفي أي : لا رزق عندهم أصلاً وعرفه عند الإثبات عند الله تعالى أي : كل رزق عنده فاطلبوه منه ، وأيضاً الرزق من الله معروف لقوله تعالى : {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } (هود ، 6) والرزق من الأوثان غير معلوم فنكره لعدم حصول العلم به {واعبدوه} أي : عبادة يقبلها وهي ما كانت خالصة من الشرك {واشكروا} أي : أوقعوا الشكر {له} خاصة على ما أفاض عليكم من النعم ، ثم علل ذلك بقوله تعالى : {إليه} وحده {ترجعون} أي : معنى في الدنيا والآخرة فإنه لا حكم في الحقيقة لأحد سواه ، وحساً بالنشر والحشر بأيسر أمر فيثيب الطائع ويعذب العاصي.
182
ولما فرغ من بيان التوحيد أتى بعده بالتهديد فقال :
{وإن تكذبوا} أي : وإن تكذبوني {فقد} أي : فيكفيكم في الوعظ والتهديد معرفتكم بأنه قد {كذب أمم} أي : في الأزمان الكائنة {من قبلكم} أي : من قبلي من الرسل فجرى الأمر فيهم على سنن واحد لم يختلف قط في نجاة المطيع للرّسول ، وهلاك العاصي له ، ولم يضرّ ذلك الرسول شيئاً وما أضروا به إلا أنفسهم {وما على الرسول} أن يقهركم على التصديق بل ما عليه {إلا البلاغ المبين} الموضح مع ظهوره في نفسه بلا مرية بحيث لا يبقى فيه شك بإظهار المعجزة وإقامة الأدلة على الوحدانية.
تنبيه : في المخاطب بهذه الآية والآيات بعدها إلى قوله تعالى : {فما كان جواب قومه} وجهان الأوّل : أنه قوم إبراهيم عليه السلام لأنّ القصة له فكأنّ إبراهيم عليه السلام قال لقومه : إن تكذبوني فقد كذب أمم من قبلكم ، وإنما أتيت بما عليّ من التبليغ فإنّ الرسول ليس عليه إلا التبليغ والبيان ، فإن قيل : إنّ إبراهيم عليه السلام لم يسبقه إلا قوم نوح وهم أمّة واحدة ؟
أجيب : بأن قبل قوم نوح أيضاً كان أقوام كقوم إدريس وقوم شيث وآدم ، وأيضاً فإنّ نوحاً عليه السلام عاش أكثر من ألف سنة وكان القرن يموت وتجيء أولاده والآباء يوصون الأبناء بالامتناع من الاتباع فكفى بقوم نوح أمما ولقد عاش إدريس ألف سنة في قومه إلى أن رفع إلى السماء وآمن به ألف إنسان منهم على عدد سنيه وأعقابهم على التكذيب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 181
الثاني : أنّ الآية مع قوم محمد صلى الله عليه وسلم لأنّ هذه القصص أكثرها المقصود منه تذكير قومه بحال من مضى حتى يمتنعوا من التكذيب ويرتدعوا خوفاً من التعذيب فقال في أثناء حكاياتهم يا قوم : إن تكذبوا فقد كذب قبلكم أقوام هلكوا فإن كذبتم فإني أخاف عليكم أن يقع بكم ما وقع بغيركم ، وعلى هذا اقتصر الجلال المحلي والبقاعي.
وهذه الآية تدل كما قال ابن عادل : على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأنّ الرسول إذا بلغ شيئاً ولم يبينه فلم يأت بالبلاغ المبين.
{أو لم يروا} أي : ينظروا {كيف يبدئ الله} أي : الذي له كل كمال {الخلق} أي : يخلقهم الله تعالى ابتداء نطفة ثم مضغة ثم علقة {ثم} هو لا غيره {يعيده} أي : الخلق كما كان {إنّ ذلك} أي : المذكور من الخلق الأوّل والثاني {على الله} أي : الجامع لكل كمال ، المنزه عن كل شائبة نقص {يسير} فكيف ينكرون الثاني ؟
، فإن قيل : متى رأى الإنسان بدء الخلق حتى يقال أو لم يروا كيف يبدأ الله الخلق ؟
.(3/122)
أجيب : بأنّ المراد بالرؤية العلم الواضح الذي هو كالرؤية فالعاقل يعلم أنّ البدء من الله تعالى لأنّ الخلق الأول لا يكون من مخلوق وإلا لما كان الخلق الأول خلقاً أوّل فهو من الله تعالى ، فإن قيل علق الرؤية بالكيفية لا بالخلق ولم يقل أو لم يروا أنّ الله خلق أو بدأ الخلق والكيفية غير معلومة ؟
أجيب : بأنّ هذا القدر من الكيفية معلوم وهو أنه خلقه ولم يكُ شيئاً مذكوراً وأنه خلقه من نطفة هي من غذاء هو من ماء وتراب وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة ، فإن قيل : لمَ أبرز اسمه تعالى في أن ذلك على الله يسير ولم يقل إن ذلك عليه كما قال : ثم يعيده من غير إبراز ؟
.
أجيب : بأنه مع إقامة البرهان على أنه يسير أكده بإظهار اسمه فإنه يوجب المعرفة أيضاً بكون ذلك يسيراً فإن الإنسان إذا سمع لفظ الله وفهم معناه أنه الحيّ القادر بقدرة كاملة لا يعجزه شيء ،
183
محيط بذرات كل نافذ الإرادة يقطع بجواز الإعادة ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف تروا بالتاء على الخطاب على تقدير القول ، والباقون بالياء على الغيْبة ، ولما ساق تعالى هذا الدليل الذي حاجَّ به الخليل قومه قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 181
قل} أي : لهؤلاء الذين تعبدوا بما تقلدوا بمذاهب آبائهم {سيروا} إن لم تقتدوا بأبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وتتأمّلوا ما أقام من الدليل القاطع والبرهان الساطع {في الأرض} إن لم يكفكم النظر في أحوال بلادكم {فانظروا} أي : نظر اعتبار {كيف بدأ} ربكم الذي خلقكم ورزقكم {الخلق} من الحيوان والنبات والزروع والأشجار وغير ذلك مما تضمنته الجبال والسهول {ثم الله} أي : الحائز لجميع صفات الكمال {ينشئ النشأة الآخرة} بعد النشأة الأولى ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الشين وألف بعد الشين ممدودة قبل الهمزة ، والباقون بسكون الشين والهمزة بعد الشين ، ثم علل ذلك بقوله تعالى : {إن الله على كل شيء قدير} لأن نسبة الأشياء كلها إليه واحدة ، فإن قيل : أبرز اسم الله في الآية الأولى عند البدء فقال كيف يبدأ الله. وأضمره عند الإعادة وههنا أضمره عند البدء وأبرزه عند الإعادة فقال ثم الله ينشئ ؟
أجيب : بأنه في الآية الأولى لم يسبق ذكر الله تعالى بفعل حتى يسند إليه البدء فقال : كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده اكتفاء بالأولى ، وفي الثانية : كان ذكر البدء مسنداً إلى الله تعالى فاكتفى به ولم يبرزه ، وأمّا إظهاره عند الإنشاء ثانياً فقال ثم الله ينشئ مع أنه كان يكفي أن يقول ثم ينشئ النشأة الآخرة فلحكمة بالغة وهي أنه مع إقامة البرهان على إمكان الإعادة أظهر اسمه حتى يفهم به صفات كماله ونعوت جلاله فيقطع بجواز الإعادة فقال : ثم الله مظهراً ليقع في ذهن الإنسان من اسمه كمال قدرته وشمول علمه ونفوذ إرادته فيعترف بوقوع بدئه وجواز إعادته.
فإن قيل : قال في الأولى {أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق} بلفظ المستقبل وههنا قال : {فانظروا كيف بدأ الخلق} بلفظ الماضي فما الحكمة ؟
أجيب : بأن الدليل الأوّل هو الدليل النفسي الموجب للعلم وهو موجب للعلم ببدء الخلق ، وأمّا الدليل الثاني : فمعناه إن كان ليس لكم علم بأن الله يبدأ الخلق فانظروا إلى الأشياء المخلوقة فيحصل لكم العلم بأنّ الله بدأ خلقاً ، ويحصل من هذا القدر العلم بأنه ينشئ كما بدأ ذلك.
فإن قيل قال في هذه الآية : {إنّ الله على كل شيء قدير} وقال في الأولى : {إن ذلك على الله يسير} فما فائدته ؟
أجيب بأنّ فيه فائدتين الأولى أن الدليل الأوّل هو الدليل : النفسي وهو وإن كان موجباً للعلم التامّ ولكن عند انضمام الدليل الآفاقي إليه يحصل العلم التامّ لأنه بالنظر إلى نفسه علم حاجته إلى غيره ووجوده منه فيتم علمه بأنّ كل شيء من الله تعالى فقال عند تمام الدليل : {إنّ الله على كل شيء قدير} وقال عند الدليل الواحد إنّ ذلك وهو الإعادة على الله يسير ، الثانية : أنّ العلم الأوّل أتم وإن كان الثاني أعمّ وكون الأعم يسيراً على الفاعل أتم من كونه مقدوراً له بدليل قولك لمن يحمل مائة رطل إنه قادر عليه ، فإذا سألت عن حمله عشرة أرطال تقول ذلك سهل يسير عليه فتقول : كان التقدير إن لم يحصل لكم العلم التامّ بأنّ هذه الأمور عند الله سهلة يسيرة فسيروا في الأرض لتعلموا أنه مقدور ونفس كونه مقدوراً كافٍ في إمكان الإعادة ولما تم الدليل على الإعادة أنتج لا محالة أنه :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 181
يعذب} أي : بعدله {من يشاء} تعذيبه أي : منكم ومن غيركم في الدنيا والآخرة {ويرحم} أي : بفضله ورحمته {من يشاء} رحمته فلا
184(3/123)
يمسه سوء ، فإن قيل : لم قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أنّ رحمته سابقة كما قال صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى : "سبقت رحمتي غضبي" ؟
أجيب : بأنّ السابق ذكر الكفار فذكر العذاب لسبق ذكر مستحقه بحكم الإيعاد وعقبه بالرحمة ، فذكر الرحمة وقع تبعاً لئلا يكون العذاب مذكوراً وحده وهذا تحقيق قوله : "رحمتي سبقت غضبي" {وإليه} وحده {تقلبون} أي : تردون بعد موتكم بأيسر سعي.
{وما أنتم بمعجزين} ربكم عن إدراككم {في الأرض} كيف انقلبتم في ظاهرها وباطنها واختلف في معنى قوله تعالى : {ولا في السماء} لأنّ الخطاب مع الآدميين وهم ليسوا في السماء فقال الفراء معناه : ولا مَنْ في السماء بمعجز إن عصى كقول حسان بن ثابت رضى الله تعالى عنه :
*فمن يهجو رسول الله منكم ** ويمدحه وينصره سواء*
أراد ومن يمدحه وينصره فأضمر (من) يريد أنه لا يعجز أهل الأرض من في الأرض ولا أهل السماء من في السماء فالمعنى أنّ من في السماء عطف بتقدير إن يعصى وقال الفراء : وهذا من غوامض العربية ، وقال قُطْرب : وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيها كقول القائل : ما يفوتني فلان هنا ولا في البصرة أي : ولا في البصرة لو كان بها وكقوله تعالى : {إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض} (الرحمن : 33)
أي : على تقدير إن تكونوا فيها.
وقال ابن عادل : وأبعد من ذلك من قدر موصولين محذوفين ، أي : وما أنتم بمعجزين مَنْ في الأرض من الجنّ والأنس ولا مَنْ في السماء من الملائكة فكيف تعجزون خالقهما ، وعلى قول الجمهور يكون المفعول محذوفاً أي : وما أنتم بمعجزين أي : فائتين ما يريد الله تعالى ، وقال البقاعي : ويمكن أن يكون له نظر إلى قصة نمروذ وبنائه الصرح الذي أراد به التوصل إلى السماء لا سيما والآيات مكتنفة بقصة إبراهيم عليه السلام من قبلها ومن بعدها ، ولما أخبرهم بأنهم مقدور عليهم وكان ربما يتوهم أن غيرهم ينصرهم صرح بنفيه في قوله تعالى {ومالكم} أي : أجمعين وأشار إلى سفول رتبة كل من سواه بقوله تعالى : {من دون الله} أي : غيره وأكد النفي بإثبات الجار بقوله {من ولي} أي : قريب يحميكم لأجل القرابة {ولا نصير} ينصركم من عذابه ، ولما بين الأصلين التوحيد والإعادة وقررهما بالبرهان هدد كل من خالفه على سبيل التفصيل بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 181
والذين كفروا} أي : ستروا ما أظهرت لهم أنوار العقول {بآيات الله} أي : بسبب دلائل الملك الأعظم المرئية والمسموعة التي لا أوضح منها {ولقائه} بالبعث بعد الموت الذي أخبر به وأقام الدليل عليه {أولئك} أي : البعداء البغضاء {يئسوا} أي : متحققين يأسهم من الآن بل من الأزل لأنهم لم يرجوا لقاء الله يوماً ولا قال قائل منهم : ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين
185
{من رحمتي} أي : من أن أفعل بهم من الإكرام بدخول الجنة وغيرها فعل الراحم {وأولئك لهم عذاب أليم} أي : مؤلم بالغ ألمه ، فإن قيل هلا اكتفى بقوله تعالى : {أولئك} مرة واحدة ؟
أجيب : بأن ذلك كرّر تفخيماً للأمر فاليأس وصف لهم لأنّ المؤمن دائماً يكون راجياً خائفاً ، وأمّا الكافر فلا يخطر بباله رجاء ولا خوف.
وعن قتادة : أن الله تعالى ذمّ قوماً هانوا عليه فقال : {أولئك يئسوا من رحمتي} وقال {ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} (يوسف : 87)
فينبغي للمؤمن أن لا ييأس من روح الله ولا من رحمته وأن لا يأمن عذابه وعقابه ، فصفة المؤمن أن يكون راجياً لله خائفاً ثم إنّ الله تعالى أخبر عن فظاظة قوم إبراهيم وتكبرهم بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 181(3/124)
{فما كان جواب قومه} لما أمرهم بالتوحيد وتقوى الله تعالى {إلا أن قالوا} أي : قال بعضهم لبعض أو قاله واحد منهم وكان الباقون راضين {اقتلوه أو حرّقوه} بالنار ، فإن قيل كيف سمى قولهم اقتلوه أو حرّقوه جواباً مع أنه ليس بجواب ؟
أجيب عنه من وجهين : أحدهما : أنه خرج مخرج كلام المتكبر كما يقول الملك لرسول خصمه جوابكم السيف مع أن السيف ليس بجواب وإنما معناه لا أقابل بالجواب وإنما أقابل بالسيف ، وثانيهما : أن الله تعالى أراد بيان صلابتهم وأنهم ذكروا ما ليس بجواب في معرض الجواب فبين أنهم لم يكن لهم جواب أصلاً ، وذلك أن من لا يجيب غيره وسكت لا يعلم أنه يقدر على الجواب أم لا لجواز أن يكون سكوته عن الجواب لعدم الالتفات ، وأما إذا أجاب بجواب فاسد علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه ، ثم إنهم استقرّ رأيهم على الإحراق فجمعوا له حطباً إلى أن ملؤوا ما بين الجبال وأضرموا فيه النار حتى أحرقت ما دنا منها بعظيم الاشتعال وقذفوه فيها بالمنجنيق {فأنجاه الله} بما له من كمال العظمة {من النار} أي : من إحراقها وأذاها ونفعته بأن أحرقت وثاقه {إن في ذلك } أي : ما ذكر من أمره وما اشتملت عليه قصته من الحكم {لآيات} أي : براهين قاطعة على جميع أمر الله من تصرفه في الأعيان والمعاني لكون النار لم تحرقه وأحرقت وثاقه وكل ما مرّ عليها من طائر وإخمادها مع عظمتها في زمان يسير وإنشاء روض مكانها ، وروي أنه لم ينتفع في ذلك اليوم الذي ألقي فيه إبراهيم عليه السلام بالنار وذلك لذهاب حرقها {لقوم يؤمنون} أي : يصدقون بتوحيد الله وقدرته لأنهم المنتفعون بالفحص عنها والتأمّل فيها.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 186
وقال} أي : إبراهيم عليه السلام غير هائب لتهديدهم بقتل أو غيره {إنما اتخذتم} أي : أخذتم باصطناع وتكلف وأشار إلى عظمة الله وعلوّ شأنه {من دون الله} الذي كل شيء تحت قهره {أوثاناً} أي : أصناماً تبعدونها وما مصدرية {مودّة بينكم} أي : تواددتم على محبتها {في الحياة الدنيا} بالاجتماع عندها والتواصل في أمرها بالتناصر والتعاضد كما يتفق ناس على مذهب فيكون ذلك سبب تصادقهم ، وهذا دال على أن جمع الفسوق لأهل الدنيا هو العادة المستمرّة ، وأن الحب في الله والاجتماع له عزيز جدّاً لما فيه من قطع علائق الدنيا وشهواتها التي زينت للناس على ما فيها من الإلباس وعظيم البأس ، وقرأ نافع وابن عامر وشعبة مودّة بالنصب والتنوين وبينكم بنصب النون فنصب مودّة على أنه مفعول له أي : لأجل مودّة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي برفع مودّة من غير تنوين وكسر النون على أنّ مودّة خبر مبتدأ محذوف أي : هي مودّة ، والباقون بنصب مودّة من غير تنوين وكسر النون وهذا أيضاً كإعراب المنوّنة ، ولما أشار إلى هذا النفع الذي هو في الحقيقة ضراً تبع ذلك ما يعقبه من الضرّ البالغ معبراً
186
بأداة البعد بقوله : {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} فينكر كل منكم محاسن أخيه ويتبرأ منه وتلعن الأتباع القادة وتلعن القادة الأتباع كما قال تعالى : {ويلعن بعضكم بعضاً} (العنكبوت ، 25) وتنكرون كلكم عبادة الأوثان تارة إذا تحققتم أنها ضرر لا نفع لها وتقرّون بها أخرى طالبين نصرتها راجين منفعتها وتنكر الأوثان عبادتكم وتجحد منفعتكم {ومأواكم} أي : جميعاً أنتم والأوثان {النار وما لكم من ناصرين} يحمونكم منها ، ثم بين تعالى أوّل من آمن بإبراهيم بقوله تعالى :
{فآمن له} أي : لأجل دعائه له مع ما رأى من الآيات {لوط} وكان ابن أخيه هاران وهو أوّل من صدّقه من الرجال {وقال} أي : إبراهيم عليه السلام لما هو جدير بالإنكار من الهجرة لصعوبتها {إني مهاجر} أي : خارج من أرضي وعشيرتي على وجه يهمّ فمنتقل ومنحاز {إلى ربي} أي : إلى أرض ليس فيها أنيس ولا عشير ولا من ترجى نصرته ولا من تنفع مودّته فهاجر من كوثى من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى الأرض المقدّسة فكانت هجرتان ، ومن ثم قالوا لكل نبيّ هجرة ولإبراهيم عليه السلام هجرتان ، وهو أوّل من هاجر في الله وكان معه في هجرته لوط وامرأته سارة ، قال مقاتل وكان إذ ذاك ابن خمس وسبعين سنة.
فإن قيل : لمَ لَمْ يقل : إني مهاجر إلى حيث أمرني ربي مع أنّ المهاجرة توهم الجهة ؟
أجيب : بأنّ هذا القول ليس في الإخلاص كقوله إلى ربي لأنّ الملك إذا صدر منه أمر برواح الأخيار ثم إن واحداً منهم سار إلى ذلك الموضع لغرض نفسه فقد هاجر إلى حيث أمره الملك ولكن ليس مخلصاً لوجهه فلذا قال مهاجر إلى ربي يعني يوجهني إلى الجهة المأمور بالهجرة إليها ليس طلباً للجهة وإنما هو طلب لله ، ثم علل ذلك بما يسليه عن فراق أرضه وأهل ودّه من ذوي رحمه وأنسابه بقوله : {إنه هو} أي : وحده {العزيز} أي : فهو جدير بإعزاز من انقطع إليه {الحكيم} فهو إذا أعز أحداً منعته حكمته من التعرّض له بالإذلال بفعل أو مقال ، ولما كان التقدير فأعززناه بما ظنّ بنا عطف عليه قوله :
{(3/125)
جزء : 3 رقم الصفحة : 186
ووهبنا له} أي : بعظيم قدرتنا شكراً على هجرته {إسحاق} من زوجته سارة رضي الله تعالى عنها التي جمعت إلى العقم في شبابها اليأس في كبرها {ويعقوب} من ولده إسحاق عليهما السلام فإن قيل لِمَ لَمْ يذكر إسماعيل عليه السلام وذكر إسحاق وعقبه ؟
أجيب : بأن هذه السورة لما كان السياق فيها للامتحان وكان إبراهيم عليه السلام قد ابتلي في إسماعيل بفراقه مع أمّه ووضعهما في مضيعة من الأرض لا أنيس فيها لم يذكره تصريحاً في سياق الامتنان وأفرد إسحاق لأنه لم يبتل فيه بشيء من ذلك ولأن الامتنان به لكون أمّه عجوزاً عقيماً أكبر وأعظم لأنها أعجب ، وذكر إسماعيل تلويحاً في قوله تعالى {وجعلنا} أي : بعزتنا وحكمتنا {في ذرّيته} من ولد إسحاق وإسماعيل عليهما السلام {النبوّة} فلم يكن بعده نبيّ أجنبي عنه بل جميع الأنبياء من ذرّية إسحاق إلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فإنه من ذرّية إسماعيل قاله بعض العلماء ، فإن قيل إن الله تعالى جعل في ذرّيته النبوة أجابة لدعائه والوالد يسوّي بين أولاده فكيف صارت النبوّة في ولد إسحاق عليه السلام أكثر ؟
.
أجيب : بأنّ الله تعالى قسم الزمان من وقت إبراهيم إلى يوم القيامة قسمين والناس أجمعين فالقسم الأوّل من الزمان : بعث الله تعالى فيه أنبياء فيهم فضائل جمة وجاؤوا تترى واحداً بعد واحد مجتمعين في عصر واحد كلهم من ذرّية إسحاق عليه السلام ، ثم في القسم الثاني : من الزمان : أخرج من ذرّية ولده إسماعيل عليه السلام واحداً اجتمع فيه ما كان فيهم وأرسله إلى كافة الخلق وهو
187
محمد صلى الله عليه وسلم وجعله خاتم النبيين وقد دام الخلق على دين أولاد إسحاق أكثر من أربعة آلاف سنة ولا يبعد أن تبقى الخلق على دين ذرية إسماعيل ذلك المقدار {والكتاب} فلم ينزل كتاب إلا على أولاده ، فإن قيل : لم أفرد الكتاب مع أنها أربعة التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ؟
أجيب : بأنه أفرده ليدلّ مع تناوله جنسية الكتب الأربعة أنه لا شيء يستحق أن يكتب إلا ما أنزل فيها أو كان راجعاً إليها ولو جمع لم يفد هذا المعنى {وآتيناه أجره} على هجرته {في الدنيا} بما خصصناه به مما لا يقدر عليه غيرنا من سعة الرزق ورغد العيش وكثرة الولد والحزم في الشيخوخة وكثرة النسل ، والثناء الحسن والمحبة من جميع الخلق وغير ذلك.
قال الرازي : وفي الآية لطيفة وهي أنّ الله تعالى بدل جميع أحوال إبراهيم عليه السلام في الدنيا بأضدادها لما أراد القوم تعذييه بالنار كان وحيداً فريداً فبدل الله تعالى وحدته بالكثرة حتى ملأ الدنيا من ذريته ، ولما كان أوّلاً بعث إلى قومه وأقاربه الأقربين ضالين مضلين من جملتهم آزر بدل الله تعالى أقاربه بأقارب مهتدين هادين وهم ذرّيته الذين جعلت فيهم النبوّة والكتاب ، وكان أولاً لا جاه له ولا مال وهما غاية المذلة الدنيوية آتاه الله تعالى من المال والجاه حتى كان له من المواشي ما علم الله تعالى عدده حتى قيل إنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس بأطواق الذهب وأما الجاه فصار بحيث تقرن الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة فصار معروفاً بشيخ المرسلين بعد أن كان خاملاً حتى قال قائلهم سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم وهذا الكلام لا يقال إلا للمجهول عند الناس.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 186
وإنه في الآخرة} أي : التي هي الدار ومحلّ الاستقرار {لمن الصالحين} أي : الذين خصصناهم بالسعادة وجعلنا لهم الحسنى وزيادة ، قال ابن عباس : مثل آدم ونوح ، وفي إعراب قوله تعالى :
{ولوطاً} ما تقدّم في إعراب نصب إبراهيم {إذ} أي : حين {قال لقومه} أهل سدوم الذين سكن فيهم وصاهرهم وانقطع إليهم فصاروا قومه حين فارق عمه الخليل إبراهيم عليهما السلام منكراً ما رأى من حالهم وقبيح فعالهم مؤكداً له {أئنكم لتأتون الفاحشة} وهي أدبار الرجال المجاوزة للحدّ في القبح فكأنها لذلك لا فاحشة غيرها ثم علل كونها فاحشة استئنافاً بقوله : {ما سبقكم بها} وهي حالة مبينة لعظيم جراءتهم على المنكر أي : غير مسبوقين به وأغرق في النفي بقوله : {من أحد} وزاد بقوله : {من العالمين} أي : كلهم من الأنس والجنّ أي : فضلاً عن خصوص الناس ثم كرّر الإنكار تأكيداً التجاوز قبحها الذي ينكرونه بقوله : (3/126)
{أئنكم لتأتون الرجال} إتيان الشهوة وعطف عليها ما ضموه إليها من المناكر بقوله {وتقطعون السبيل} أي : طريق المارّة بالقتل وأخذ المال بفعلكم الفاحشة بمن يمرّ بكم فترك الناس الممرّ بكم أو تقطعون سبيل النساء بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث {وتأتون في ناديكم المنكر} أي : تفعلون في متحدّثكم فعل الفاحشة بعضكم ببعض وهو مما تنكره الشرائع والمروءآت والعقول وأنتم لا تتحاشون عن شيء منه في المجتمع الذي يتحاشى فيه الإنسان من فعل خلاف الأولى من غير أن يستحي بعضكم من بعض ، قال ابن عباس : المنكر هو الحذف بالحصا والرمي بالبنادق والفرقعة ومضع العلك والسواك بين الناس وحلّ الأزار والسباب والتضارط في مجالسهم والفحش
188
والمزاح ، وعن عائشة رضى الله تعالى عنها كانوا يتحابقون ، وقيل : السخرية بمن يمرّ بهم ، وقيل المجاهرة في ناديهم بذلك العمل وكل معصية فإظهارها أقبح من سترها ، ولذلك جاء "من خرق جلباب الحياء فلا غيبة له" ولا يقال للمجلس نادياً إلا ما دام فيه أهله فإذا قاموا عنه لم يسمّ نادياً ، وعن مكحول في أخلاق قوم لوط مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء وحلّ الإزار والصفير والحذف واللوطية ، ودلّ على عنادهم بقوله تعالى مسبباً عن هذه الفضائح بالنهي عن تلك القبائح {فما كان جواب قومه} أي : الذين فيهم قوّة ونجدة بحيث يخشى شرّهم ويتقى أذاهم لما أنكر عليهم ما أنكر {إلا أن قالوا} عناداً وجهلاً واستهزاءً {ائتنا بعذاب الله} وعبروا بالاسم الأعظم زيادة في الجراءة {إن كنت من الصادقين} أي : في استقباح ذلك وأنّ العذاب نازل بفاعليه ، فإن قيل : قال قوم إبراهيم عليه السلام اقتلوه أو حرّقوه وقال قوم لوط : {ائتنا بعذاب الله إنّ كنت من الصادقين} وما هدّدوه مع أنّ إبراهيم كان أعظم من لوط فإنّ لوطاً كان من قومه ؟
أجيب : بأنّ إبراهيم كان يقدح في دينهم ويشتم آلهتهم ويعدّد صفات نقصهم بقوله لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يغني والسب في الدين صعب فجعلوا جزاءه القتل والتحريق ، ولوط كان ينكر عليهم فعلهم وينسبهم إلى ارتكاب المحرّم وهم ما كانوا يقولون إن هذا واجب من الدين فلم يصعب عليهم مثل ما صعب على قوم إبراهيم كلام إبراهيم فقالوا له : إنك تقول إن هذا حرام والله يعذب عليه فإن كنت صادقاً فائتنا بالعذاب ، فإن قيل : إنّ الله تعالى قال في موضع آخر.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 186
فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم} (النمل ، 56) وقال هنا : {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله } فكيف الجمع ؟
أجيب : بأنّ لوطاً كان ثابتاً على الإرشاد مكرّراً على النهي والوعيد فقالوا أولاً : ائتنا ، ثم لما كثر ذلك منه ولم يسكت عنهم قالوا : أخرجوا ولما أيس منهم طلب النصرة من الله بأن.
{قال} أي : لوط عليه السلام معرضاً عنهم مقبلاً بكليته على المحسن إليه {رب} أي : أيها المحسن إليّ {انصرني على القوم} أي : الذين فيهم من القوّة ما لا طاقة لي بهم معه {المفسدين} أي : العاصين بإتيان الرجال ووصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب وإشعاراً بأنهم أحقاء بأن يعجل لهم العذاب ولما دعا لوط على قومه بقوله رب إلى آخره استجاب الله تعالى دعاءه وأمر ملائكته بإهلاكهم وأرسلهم مبشرين ومنذرين كما قال تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 186
189
{ولما جاءت} وأسقط أن لأنه لم يتصل القول بأوّل المجيء بل كان قبله السلام والضيافة وعظم الرسل بقوله تعالى : {رسلنا} أي : من الملائكة تعظيماً لهم في أنفسهم {إبراهيم بالبشرى} أي : بإسحاق ولداً له ويعقوب ولداً لإسحاق عليهما السلام.(3/127)
{قالوا} أي : الرسل عليهم السلام لإبراهيم عليه السلام بعد أن بشروه وتوجهوا نحو سدوم {إنا مهلكوا أهل هذه القرية} أي : قرية سدوم ، والإضافة لفظية لأنّ المعنى على الاستقبال ، ثم عللوا ذلك بقولهم : {إنّ أهلها كانوا ظالمين} أي : غريقين في هذا الوصف فلا حيلة في رجوعهم عنه ، فإن قيل قال تعالى في قوم نوح : {فأخذهم الطوفان وهم ظالمون} (العنكبوت ، 14) ففي ذلك إشارة إلى أنهم كانوا على ظلمهم حين أخذهم ولم يقل فأخذهم وكانوا ظالمين وهنا قال : {إنّ أهلها كانوا ظالمين} ولم يقل وهم ظالمون ؟
أجيب : بأنه لا فرق في الموضعين في كونهما مهلكين وهم مصرون على الظلم لكن هناك الإخبار من الله تعالى عن الماضي حيث قال فأخذهم وهم عند الوقوع في العذاب ظالمون وههنا الإخبار من الملائكة عن المستقبل حيث قالوا : {إنا مهلكوا} فذكروا ما أمروا به فإنّ الكلام عن الملك بغير إذنه سوء أدب ، وهم كانوا ظالمين في وقت الأمر وكونهم يبقون كذلك لا علم لهم به ، ولما قالت الملائكة لإبراهيم عليه السلام ذلك {قال} لهم مؤكداً تنبيهاً على حالة ابن أخيه {إنّ فيها لوطاً} ولم يقل عليه السلام إن منهم لوطاً لأنه نزيل عندهم فلذا جاء بالتصريح بالسؤال عنه {قالوا} أي : الرسل عليهم السلام له : {نحن أعلم} منك {بمن فيها} أي : من لوط وغيره {لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} أي : الباقين في العذاب وهم الفجرة لتعم وجهها معهم الغبرة ، وقرأ حمزة والكسائي بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم بعدها ، والباقون بفتح النون وتشديد الجيم بعدها.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 189
ولما أن جاءت رسلنا لوطاً} أي : المعظمون بنا {سيء} أي : حصلت له المساءة والغم {بهم} أي : بسببهم مخافة أن يقصدهم قومه بسوء لما رأى من حسن أشكالهم وهو يظنّ أنهم من
190
الناس لأنهم جاؤوا من عند إبراهيم عليه السلام إليه على صورة البشر ، روي أنهم كانوا يجلسون مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصاً فإذا مرّ بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه كان أولى به ، قيل : إنه كان يأخذه معه وينكحه ويغرّمه ثلاثة دراهم ولهم قاض بذلك ، ولهذا يقال : أجور من قاضي سدوم.
{وضاق} أي : بأعمال الحيلة في الدفع عنهم {بهم ذرعاً} أي : ذرعه أي : طاقته والأصل في ذلك أنّ من طالت ذراعه نال ما لا يناله قصيرها يضرب مثلاً في العجز والقدرة ، ولما رأوه على هذه الحالة خفضوا عليه {قالوا} له {لا تخف} إنا رسل ربك لإهلاكهم {ولا تحزن} أي : على تمكنهم منا أو على أحد ممن يهلك فإنه ليس في أحد منهم خير يؤسف عليه بسببه فإنهم وصلوا في الخبث إلى حدّ لا مطمع في الرجوع عنه مع ملازمته لدعائهم من غير ملل ولا ضجر ، ثم عللوا ذلك بقولهم مبالغين في التأكيد : {إنا منجوك} أي : مبالغون في إنجائك وقولهم : {وأهلك} منصوب على محل الكاف {إلا امرأتك كانت من الغابرين} فإن قيل : القوم عذبوا بسبب ما صدر منهم من الفاحشة وامرأته لم يصدر منها ذلك فكيف كانت من الغابرين معهم ؟
.
أجيب : بأنّ الدال على الشرّ كفاعله كما أنّ الدال على الخير كفاعله وهي كانت تدل القوم على ضيوف لوط حتى كانوا يقصدونهم فبالدلالة صارت كأحدهم ، فإن قيل ما مناسبة قولهم إنا منجوك لقولهم لا تخف ولا تحزن فإنّ خوفه ما كان على نفسه ؟
أجيب : بأنّ لوطاً لما ضاق عليهم وحزن لأجلهم قالوا له : لا تخف أي : علينا ولا تحزن لأجلنا فإنا ملائكة ، ثم قالوا له : يا لوط خفت علينا وحزنت لأجلنا ففي مقابلة خوفك وقت الخوف نزيل خوفك وننجيك ، وفي مقابلة حزنك نزيل حزنك ولا نتركك تفجع في أهلك فقالوا إنا منجوك وأهلك ، وقرأ ابن كثير وشعبة وحمزة والكسائي بسكون النون وتخفيف الجيم والباقون بفتح النون وتشديد الجيم ثم إنهم بعد بشارة لوط بالتنجية قالوا له :
{إنا منزلون} أي : لا محالة {على أهل هذه القرية رجزاً} أي : عذاباً {من السماء} فهو عظيم وقعه ، شديد صدعه ، واختلف في ذلك الرجز فقيل : حجارة وقيل : نار ، وقيل : خسف ، وعلى هذا يكون المراد أنّ الأمر بالخسف والقضاء به من السماء ، وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد الزاي ، والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي ، تنبيه : كلام الملائكة مع لوط جرى على نمط كلامهم مع إبراهيم عليه السلام فقدموا البشارة على إنزال العذاب ثم قالوا إنا منجوك ثم قالوا إنا منزلون ولم يعللوا التنجية فلم يقولوا إنا منجوك لأنك نبيّ أو عابد وعللوا الإهلاك فقالوا : {بما كانوا يفسقون} أي : يخرجون في كل وقت من دائرة العقل والحياء كقولهم هناك إنّ أهلها كانوا ظالمين ، ولما كان التقدير ففعلت رسلنا ما وعدوه به من إنجائه وإهلاك جميع قراهم فتركناها كأن لم يسكنها أحد عطف عليه قوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 189(3/128)
ولقد تركنا} أي : بما لنا من العظمة {منها} أي : من تلك القرى {آية} أي : علامة على قدرتنا على كل ما نريد {بينة} أي : ظاهرة ، قال ابن عباس : منازلهم الخربة ، وقال قتادة هي الحجارة التي أهلكوا بها أبقاها الله تعالى حتى أدركها أوائل هذه الأمة ، وقال مجاهد هو ظهور الماء الأسود على وجه الأرض ، فائدة : اتفق القراء على إدغام الدال في التاء.
191
تنبيه : في هذه الآية إشارة إلى غفلة المخاطبين بهذه القصة من العرب وغيرهم وأنه ليس بينهم وبين الهدى إلا تفكرهم في أمرهم مع الانخلاع من الهوى وإنما يكون ذلك {لقوم يعقلون} أي : يتدبرون فعد من لم يستبصر بذلك غير عاقل ، تنبيه : ههنا أسئلة : (الأوّل) كيف جعل الآية في نوح وإبراهيم عليهما السلام بالنجاة فقال : {فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية} (العنكبوت ، 15) وقال : {فأنجاه الله من النار إنّ في ذلك لآيات} (العنكبوت ، 24) وجعل ههنا الهلاك آية ، (الثاني) : ما الحكمة في قوله تعالى في السفينة {جعلناها آية} ولم يقل بينة وقال ههنا آية بينة ، (الثالث) : ما الحكمة في قوله تعالى هناك {للعالمين} وقال ههنا : {لقوم يعقلون} ؟
أجيب عن الأوّل : بأنّ الآية في إبراهيم كانت في النجاة لأنّ في ذلك الوقت لم يكن إهلاك ، وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي علا الجبال بأسرها أمر عجيب إلهي وما به النجاة وهو السفينة كان باقياً والغرق لم يبق له بعده أثر محسوس في البلاد فجعل الباقي آية ، وأما ههنا فنجاة لوط لم تكن بأمر يبقى في أثره للحس ، والهلاك أثره محسوس في البلاد فجعل الآية الأمر الباقي ههنا البلاد وهناك السفينة.
وههنا لطيفة : وهي أنّ الله تعالى آية قدرته موجودة في الإنجاء والإهلاك فذكر من كل باب آية وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة وآخر آيات الهلاك لأنها أثر الغضب ورحمته سابقة ، وعن الثاني بأنّ الإنجاء بالسفينة لا يفتقر إلى أمر آخر ، وأمّا الآية ههنا الخسف وجعل ديارهم المعمورة عاليها سافلها وهو ليس بمعتاد وإنما ذلك بإرادة قادر يخصصه بمكان دون مكان وبزمان دون زمان فهي بينة لا يمكن الجاهل أن يقول هذا أمر يكون كذلك وكان له أن يقول في السفينة أمرها يكون كذلك فيقال له فلو دام الماء حتى ينفد زادهم كيف كانت تحصل لهم النجاة ولو سلط الله تعالى عليهم الريح العاصفة كيف تكون أحوالهم ، وعن الثالث بأنّ السفينة موجودة معلومة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال السفينة يتذكرون بها حالة نوح وإذا ركبوها يطلبون من الله النجاة منه ولا يثق أحد بمجرّد السفينة بل يكون دائماً مرتجف القلب متضرّعاً إلى الله تعالى طالباً للنجاة ، وأمّا أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليه إلا من مر بها ويصل إليها ويكون له عقل يعلم أنّ ذلك من الله تعالى وإراداته بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان دون زمان ، ولما كان شعيب عليه السلام أيضاً قد ابتلي بتكذيب قومه اتبع قصته بقصة لوط بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 189
وإلى مدين} أي : ولقد أرسلنا أو بعثنا إلى مدين {أخاهم} أي : من النسب والبلد {شعيباً} ومدين قيل : اسم رجل في الأصل وجهل وله ذرية فاشتهر في القبيلة كتميم وقيس وغيرهما ، وقيل : اسم ماء نسب القوم إليه فاشتهر في القوم ، قال الرازي : والأوّل كأنه أصح لأنّ الله تعالى أضاف الماء إلى مدين بقوله تعالى : {ولما ورد ماء مدين} (القصص : 23)
ولو كان اسماً للماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقية والأصل في الإضافة التغاير والحقيقة ، فإن قيل : قال تعالى في نوح : {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه} (القصص : 23)
فقدم نوحاً في الذكر وعرف القوم بالإضافة إليه ، وكذلك في إبراهيم ولوط وههنا ذكر القوم أولاً وأضاف إليهم أخاهم شعيباً ، فما الحكمة في ذلك ؟
.
أجيب : بأنّ الأصل في الجميع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم لأنّ الرسل لا تبعث إلى غير
192
معينين وإنما تبعث الرسل إلى قوم محتاجين إلى الرسل فيرسل الله تعالى إليهم من يختاره ، غير أنّ قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاصة ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها فعرفوا بنبيهم عليه السلام فقيل قوم نوح وقوم لوط فأمّا قوم شعيب وهود وصالح فكان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس فجرى الكلام على أصله قال تعالى : {وإلى عاد أخاهم هوداً} {وإلى مدين أخاهم شعيباً} {فقال} أي : فتسبب عن إرساله وبعثه أن قال : {يا قوم اعبدوا الله} أي : الملك الأعلى وحده ولا تشركوا به شيئاً فإنّ العبادة التي فيها شرك ظاهر أو خفي عدم لأنّ الله تعالى أغنى الشركاء فهو لا يقبل إلا ما كان له خالصاً.(3/129)
فإن قيل : لم يذكر عن لوط عليه السلام أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد ، وذكر عن شعيب ذلك ؟
أجيب : بأنّ لوطاً كان من قوم إبراهيم وفي زمانه وكان إبراهيم سبقه بذلك واجتهد فيه حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق من إبراهيم فلم يحتج لوط إلى ذكره وإنما ذكر ما اختص به من المنع من الفاحشة وغيرها وإن كان هو أبداً يأمر بالتوحيد إذ ما من رسول إلا ويكون أكثر كلامه في التوحيد ، وأمّا شعيب فكان بعد انقراض ذلك الزمن وذلك القوم فكان هو أصلاً في التوحيد فبدأ به ، ولما كان السياق لإقامة الأدلة على البعث الذي هو من مقاصد السورة قال : {وأرجوا اليوم الآخر} أي : وافعلوا ما ترجون به العاقبة فأقيم المسبب مقام السبب ، أو أمروا بالرجاء والمراد اشتراط ما يسوّغه من الإيمان كما يؤمر الكافر بالشرعيات على إرادة الشرط ، وقيل : هو من الرجاء بمعنى الخوف {ولا تعثوا في الأرض} حال كونكم {مفسدين} أي : متعمدين الفساد ، ولما تسبب عن هذا النصح وتعقبه تكذيبهم تسبب عنه وتعقبه إهلاكهم تحقيقاً لأنّ أهل السيئآت لا يسبقوننا قال تعالى : {فكذبوه} في ذلك ، فإن قيل ما حكاه الله تعالى عن شعيب أمر ونهي والأمر لا يكذب ولا يصدق فإنّ من قال لغيره : اعبد الله لا يقال له كذبت ؟
أجيب : بأنّ شعيباً كان يقول الله واحد فاعبدوه ، والحشر كائن فارجوه ، والفساد محرّم فلا تقربوه ، وهذه فيها إخبارات فكذبوه فيما أخبر به {فأخذتهم الرجفة} أي : الزلزلة الشديدة ، وعن الضحاك صيحة جبريل لأنّ القلوب رجفت بها {فأصبحوا في دارهم} أي : في بلدهم أو دورهم فاكتفى بالواحد ولم يجمع لأمن اللبس {جاثمين} أي : باركين على الركب ميتين فإن قيل : قال تعالى في الأعراف وههنا : فأخذتهم الرجفة وقال في هود : فأخذتهم الصيحة والحكاية واحدة ؟
أجيب : بأنه لا تعارض بينهما فإن الصيحة كانت سبباً للرجفة لأنّ جبريل لما صاح تزلزلت الأرض من صيحته فرجفت قلوبهم ، والإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 189
فإن قيل ما الحكمة في أنه تعالى إذا قال فأخذتهم الصيحة قال في ديارهم وحيث قال فأخذتهم الرجفة قال في دارهم ؟
أجيب : بأنّ المراد من الدار هو الديار والإضافة إلى الجمع يجوز أن تكون بلفظ الجمع وأن تكون بلفظ الواحد إذا أمن اللبس كما مرّ ، وإنما اختلف اللفظ للطيفة وهي أنّ الرجفة هائلة في نفسها فلم تحتج إلى تهويلها ، وأمّا الصيحة فغير هائلة في نفسها لكن تلك الصيحة لما كانت عظيمة حتى أخذت الزلزلة في الأرض ذكر الديار بلفظ الجمع حتى تعلم هيئتها ، والرجفة بمعنى الزلزلة عظيمة عند كلامه فلم تحتج إلى معظم لأمرها ، ولما كان معنى ختام قصة مدين فأهلكناهم عطف على ذلك المعنى قوله تعالى :
{وعاداً} أي : وأهلكنا أيضاً عاداً {وثموداً} مع ما كانوا فيه من العتو والتكبر والعلوّ لأنّ من المقاصد
193
العظيمة الدلالة على اتباع بعض هذه الأمم بعضاً في الخير والشرّ على نسق والجري بهم في إهلاك المكذبين وإنجاء المصدقين طبقاً عن طبق ، وقرأ حمزة وحفص في الوصل وثمود بغير تنوين على تأويل القبيلة وفي الوقف بسكون الدال ، والباقون بالتنوين وفي الوقف بالألف {وقد تبين لكم} أي : ما حل بهم من مساكنهم أي : ما وصف من هلاكهم وما كانوا فيه من شدّة الأجسام وسفه الأحلام وعلوّ الاهتمام وتقرب الأذهان وعظم الشأن عند مروركم بتلك المساكن ونظركم إليها في ضربكم في التجارة إلى الشام فصرفوا في الإقبال على الاستمتاع بالعرض الفاني من هذه الدنيا فأملوا بعيداً وبنوا مشيداً ولم يغن عنهم شيء من ذلك شيئاً من أمر الله {وزين لهم الشيطان} البعيد من الرحمة ، المحترق باللعنة بقوّة احتياله ومحبوب ضلاله ومحاله {أعمالهم} أي : الفاسدة من الكفر والمعاصي فأقبلوا بكليتهم عليها {فصدّهم} أي : فتسبب عن ذلك صدّهم {عن السبيل} أي : منعهم عن سلوك الطريق الذي لا طريق إلا هو لكونه يوصل إلى النجاة ، وغيره يوصل إلى الهلاك ، ولما كان ذلك ربما ظنّ لفرط غباوتهم قال : {وكانوا مستبصرين} أي : معدودين بين الناس من البصراء العقلاء ، ولما كان فرعون ومن ذكر معه من العتوّ بمكان لا يخفى لما أوتوا من القوّة بالأموال والرجال قال :
جزء : 3 رقم الصفحة : 189(3/130)
{وقارون} أي : وأهلكنا قارون وقومه لأنّ وقوعه في أسباب الهلاك أعجب لكونه من بني إسرائيل ولأنه ابتلي بالمال والعلم فكان ذلك سبب إعجابه فتكبر على موسى وهارون عليهما السلام فكان ذلك سبب هلاكه {وفرعون وهامان} وزيره الذي أوقد له على الطين فباع سعادته ليكونه ذنباً لغيره {ولقد جاءهم} من قبل {موسى بالبينات} أي : بالحجج الظاهرات التي لم تدع لبساً {فاستكبروا} أي : طلبوا أن يكونوا أكبر من كل كبير بأن كانت أفعالهم أفعال من يطلب ذلك {في الأرض} بعد مجيء موسى عليه السلام إليهم أكثر مما كانوا قبله {وما كانوا سابقين} أي : فائتين بل أدركهم أمر الله ، مِنْ سبق طالبه إذا فاته.
{فكلاً} أي : فتسبب عن تكذيبهم أنّ كلاً {أخذنا} أي : بما لنا من العظمة {بذنبه} أي : أخذ عقوبة ليعلم أنه لا أحد يعجزنا {فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً} أي : ريحاً عاصفاً فيها حصباء كقوم لوط وعاد {ومنهم من أخذته الصيحة} أي : التي تظهر شدتها الريح الحاملة لها الموافقة لقصدها فترجف لعظمتها الأرض كمدين وثمود {ومنهم من خسفنا به الأرض} أي : غيبناه فيها كقارون وجماعته {ومنهم من أغرقنا} بالغمر في الماء كقوم نوح وفرعون وقومه وعذاب قوم صالح المعدّ في الإغراق والمعدّ في الخسف فتارة يهلك بريح تقذف بالحجارة من السماء كقوم لوط أو من الأرض كعاد {وما كان الله} أي : الذي لا شيء من الجلال والكمال إلا له {ليظلمهم} أي : فيعذبهم بغير ذنب {ولكن كانوا أنفسهم} لا غيرها {يظلمون} بارتكاب المعاصي ولم يقبلوا النصح مع هجرهم ، ولا خافوا العقوبة على ضعفهم ، ولما بين تعالى أنه أهلك من أشرك عاجلاً وعذب من كذب آجلاً ولم ينفعه معبوده مثل تعالى اتخاذه ذلك معبوداً باتخاذ العنكبوت بيتاً فقال :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 194
مثل الذين اتخذوا} أي : تكلفوا أن اتخذوا {من دون الله} أي : الذي لا كفء له فرضوا بالدون الذي لا ينفع ولا يضرّ عوضاً عمن لا تكيفه الأوهام والظنون {أولياء} ينصرونهم بزعمهم من معبودات وغيرها في الضعف والوهن.
194
{كمثل العنكبوت} أي : الدابة المعروفة ذات الأرجل الكثيرة الطوال {اتخذت بيتاً} أي : تكلفت أخذه في صنعتها له ليقيها الردى ويحميها البلاء كما تكلف هؤلاء اصطناع أربابهم ليقوهم ويحفظوهم بزعمهم فكان ذلك البيت مع تكلفها في أمره وتعبها الشديد في شأنه في غاية الوهن {وإن} أي : والحال إن {أوهن البيوت} أي : أضعفها {لبيت العنكبوت} لا يدفع عنها حرّاً ولا بردا كذلك الأصنام لا تنفع عابديها {لو كانوا يعلمون} أي : لو كانوا يعلمون أنّ هذا مثلهم وأن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن ، وأيضاً أنه إذا صح تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت فقد تبين أنّ دينهم أوهن الأديان لو كانوا يعلمون أي : لو كان لهم نوع مّا من العلم لانتفعوا به ولعلموا أنّ هذا مثلهم فأبعدوا عن اعتقاد ما هذا مثلهم ، ولقائل أن يقول مثل المشرك الذي يعبد الوثن بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله مثل عنكبوت تتخذ بيتاً بالإضافة إلى رجل يبني بيتاً بآجر وجص أو ينحته من صخر وكان أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً بيت العنكبوت كذلك الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً عبادة الأوثان ، فإن قيل : لم مثل تعالى باتخاذ العنكبوت ولم يمثل بنسجها ؟
أجيب : بأنّ نسجها فيه فائدة لولاه لما حصلت وهو اصطياد الذباب به من غير أن يفوتها ما هو أعظم منه واتخاذهم الأوثان يفيدهم ما هو أقل من الذباب من متاع الدنيا ولكن يفوتهم ما هو أعظم منها وهو الدار الآخرة التي هي خير وأبقى فليس اتخاذهم كنسج العنكبوت ، تنبيه : نون العنكبوت أصلية والواو والتاء مزيدتان بدليل جمعة على عناكب وتصغيره عنيكب ويذكر ويؤنث فمن التأنيث قوله تعالى {اتخذت} ومن التذكير قول القائل :
*على هطالهم منهم بيوت ** كأن العنكبوت هو ابتناها*
وهذا مطرد في أسماء الأجناس تذكر وتؤنث ، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص البيوت بضم الباء ، والباقون بكسرها ، ولما كان ضرب المثل بالشيء لا يصح إلا من العالم بذلك الشيء قال الله تعالى :
{إن الله} أي : الذي له صفات الكمال {يعلم ما} أي : الذي {يدعون} أي : يعبدون {من دونه} أي : غيره {من شيء} أي : سواء كان صنماً أم إنسياً أم جنياً {وهو العزيز} في ملكه {الحكيم} في صنعه ، وقرأ أبو عمرو وعاصم يدعون بالياء التحتية ، والباقون بالفوقية ، ولما ذكر مثلهم وما تتوقف صحته عليه كان كأنه قيل : على وجه التعظيم : هذا المثل مثلهم فعطف عليه قوله تعالى إشارة إلى أمثال القرآن كلها تعظيماً لها وتنبيهاً على جليل قدرها وعلوّ شأنها.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 194(3/131)
وتلك الأمثال} أي : العالية عن أن تنال بنوع احتيال ، ثم استأنف قوله تعالى {نضربها} أي : بمالنا من العظمة بياناً {للناس} أي : تصويراً للمعاني المعقولات بصور المحسوسات لعلها تقرب من عقولهم فينتفعوا بها ، وهكذا حال التشبيهات كلها هي طرق إلى إفهام المعاني المحتجبة في الأستار تبرزها وتكشف عنها وتصوّرها ، روي أنّ الكفار قالوا كيف يضرب خالق الأرض والسموات الأمثال بالهوام والحشرات كالذباب والبعوض والعنكبوت ؟
فقال الله تعالى مجهلاً لهم : {وما يعقلها} أي : حق تعقلها فينتفع بها {إلا العالمون} أي : الذين هيؤا للعلم وجعل طبعاً
195
لهم بما بث في قلوبهم من أنواره وأشرق في صدورهم من أسراره ، فهم يضعون الأشياء مواضعها ، روى الحارث بن أبي أسامة عن جابر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : "العالم : الذي عقل عن الله وعمل بطاعته واجتنب سخطه" قال البغويّ : والمثل كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأوّل يريد أمثال القرآن التي يشبه بها أحوال كفار هذه الأمّة بأحوال كفار الأمم المتقدّمة ، ولما قدّم تعالى أنه لا معجز له سبحانه ولا ناصر لمن خذله استدل على ذلك بقوله تعالى :
{خلق الله} أي : الذي لا يدانى في عظمته {السموات والأرض بالحق} أي : الأمر الذي يطابقه الواقع ، أو بسبب إثبات الحق وإبطال الباطل ، أو بسبب أنه محق غير قاصد به باطلاً فإنّ المقصود بالذات من خلقهما إفاضة الجود والدلالة على ذاته وصفاته كما أشار إليه بقوله تعالى : {إنّ في ذلك لآية} أي : دلالة ظاهرة على قدرته تعالى {للمؤمنين} وأُختص المؤمنون بذلك لأنهم المنتفعون به ، ثم خاطب تعالى رأس أهل الإيمان بقوله تعالى :
{اتل ما أوحي إليك من الكتاب} أي : القرآن الجامع لكل خير لتعلم أن نوحاً ولوطاً وغيرهما كانوا على ما أنت عليه بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة ، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة ، وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ولما أرشد تعالى إلى مفتاح العلم دلّ على قانون العمل بقوله تعالى : {وأقم الصلاة} أي : التي هي أحق العبادات ، ثم علل ذلك بقوله تعالى : {إنّ الصلاة تنهى} أي : توجد النهي وتجدّده للمواظب على إقامتها بجميع حدودها {عن الفحشاء} أي : عن الخصال التي بلغ قبحها {والمنكر} وهو ما لا يعرف في الشرع ، فإن قيل : كم من مصلّ يرتكب الفحشاء ؟
أجيب : بأنّ المراد الصلاة التي هي الصلاة عند الله تعالى المستحق بها الثواب بأن يدخل فيها مقدّماً للتوبة النصوح متقياً لقوله تعالى : {إنما يتقبل الله من المتقين} (المائدة ، 37)
جزء : 3 رقم الصفحة : 194
ويصليها خاشعاً بالقلب والجوارح ، فقد روي عن حاتم كأنّ رجليّ على الصراط والجنة عن يميني والنار عن شمالي وملك الموت من فوقي وأصلي بين الخوف والرجاء ، ثم يحوطها بعد أن يصليها ولا يحبطها فهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وقال ابن مسعود وابن عباس : إن الصلاة تنهى وتزجر عن معاصي الله عز وجل فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله تعالى إلا بعداً ، وقال الحسن وقتادة : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه ، وقيل من كان مراعياً للصلاة جره ذلك إلى أن ينتهي عن السيئات يوماً ما ، فقد روي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل فقال : "إن صلاته لتردعه".
وروي أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلوات ولا يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه فوصف له فقال : إنّ صلاته ستنهاه فلم يلبث أن تاب ، وقال ابن عوف : معنى الآية إن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها ، وعلى كل حال فإنّ المراعي للصلاة لا بدّ أن يكون أبعد من الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها ، وأيضاً فكم من مصلين تنهاهم الصلاة عن الفحشاء والمنكر ،
196
واللفظ لا يقتضي أن لا يخرج واحد من المصلين عن قضيتها كما تقول : إن زيداً ينهى عن المنكر فليس غرضك أنه ينهى عن جميع المناكر وإنما تريد أن هذه الخصلة موجودة فيه وحاصلة منه من غير اقتضاء للعموم ، وقيل : المراد بالصلاة القرآن كما قال تعالى : {ولا تجهر بصلاتك} (الإسراء : 110)
أي : بقراءتك وأراد به من يقرأ القرآن في الصلاة فالقرآن ينهاه عن الفحشاء والمنكر ، روي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن رجلاً يقرأ القرآن الليل كله ويصبح سارقاً قال ستنهاه قراءته ، ولما كان الناهي في الحقيقة إنما هو ذكر الله أتبع ذلك بقوله تعالى : (3/132)
{ولذكر الله أكبر} أي : لأنّ ذكر المستحق لكل صفات كمال أكبر من كل شيء فذكر الله تعالى أفضل الطاعات ، قال صلى الله عليه وسلم "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير من إعطاء الذهب والفضة وأن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا : وما ذاك يا رسول الله قال : ذكر الله" وسئل صلى الله عليه وسلم أي : العبادة أفضل عند الله درجة يوم القيامة قال : "الذاكرون الله كثيراً ، قالوا يا رسول الله ومن الغازين في سبيل الله فقال : لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً لكان الذاكر الله كثيراً أفضل منه درجة".
جزء : 3 رقم الصفحة : 194
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على جبل في طريق مكة يقال له جمدان فقال : "سيروا هذا جمدان سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله قال الذاكرون الله كثيراً والذاكرات" أو والصلاة أكبر من غيرها من الطاعات وسماها بذكر الله كما قال تعالى : {فاسعوا إلى ذكر الله} (الجمعة : 9)
وإنما قال ولذكر الله أكبر ليستقلّ بالتعليل كأنه قال والصلاة أكبر لأنها ذكر الله ، وعن ابن عباس : ولذكر الله تعالى إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته ، وقال عطاء : ولذكر الله أكبر من أن يتقى معه معصية.
{والله} أي : المحيط علماً وقدرة {يعلم} أي : في كل وقت {ما تصنعون} من الخير والشرّ فيجازيكم على ذلك ، ولما بين تعالى طريقة إرشاد المشركين بين طريقة إرشاد أهل الكتاب بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 194
197
{ولا تجادلوا أهل الكتاب} أي : اليهود والنصارى ظناً منكم أنّ الجدال ينفع أو يزيد في اليقين أو يردّ واحداً عن ضلال مبين {إلا بالتي} أي : بالمجادلة التي {هي أحسن} كمعارضة الخشونة باللين ، والغضب بالكظم والدعاء إلى الله تعالى بآياته والتنبيه على حججه كما قال تعالى : {ادفع بالتي هي أحسن} (المؤمنون ، 96) {إلا الذين ظلموا منهم} بأن حاربوا وأبوا أن يقروا بالجزية فجادلوهم بالسيف إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية ، وقيل : إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل إلا الذين أثبتوا الولد والشريك وقالوا يد الله مغلولة ، وعن قتادة : الآية منسوخة بقوله تعالى : {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} (التوبة : 29)
ولا مجادلة أشدّ من السيف ، ولما بين تعالى عن موجب الخلاف أمر بالاستعطاف بقوله تعالى : {وقولوا} أي : لمن قبل الإقرار بالجزية إذا أخبروكم بشيء مما في كتبهم {آمنا بالذي أنزل إلينا} أي : من هذا الكتاب المعجز {وأنزل إليكم} من كتبكم أي : لأنه في أصله حق وإن كان قد نسخ ، منه ما نسخ وإن حدثوكم بشيء منه وليس عندكم ما يصدقه ولا ما يكذبه فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، لما روى أبو داوود أنه صلى الله عليه وسلم قال : "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن قالوا باطلاً لم تصدقوهم وإن قالوا حقاً لم تكذبوهم" أي : فإن هذا أدعى إلى الإنصاف وأنفى للخلاف ، ولما لم يكن هذا جامعاً للفريقين أتبعه بما يجمعه بقوله تعالى : {وإلهنا وإلهكم واحد} أي : لا إله لنا غيره ، وإن ادّعى بعضكم عزيراً والمسيح {ونحن له} خاصة {مسلمون} أي : خاضعون منقادون أتم انقياد فيما يأمرنا به بعد الأصول من الفروع سواء كانت موافقة لفروعكم كالتوجه بالصلاة إلى بيت المقدس ، أو ناسخة كالتوجه إلى الكعبة ولا نتخذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله لنأخذ ما يشرعونه لنا مخالفاً لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 197
وكذلك} أي : ومثل ذلك الإنزال الذي أنزلناه إلى أنبيائهم من التوراة وغيرها {أنزلنا إليك الكتاب} أي : القرآن مصدّقاً لسائر الكتب الإلهية وهو تحقيق لقوله تعالى {فالذين آتيناهم الكتاب} أي : التوراة كعبد الله بن سلام وغيره {يؤمنون به} أي : بالقرآن {ومن هؤلاء} أي : أهل مكة أو ممن في عهده صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين {من يؤمن به} وهم مؤمنو أهل مكة وأهل الكتابين {وما يجحد} أي : ينكر ، قال قتادة : والجحود : إنما يكون بعد المعرفة {بآياتنا} أي : التي جاوزت أقصى غايات العظمة حتى إنها استحقت الإضافة إلينا {إلا الكافرون} أي : اليهود ظهر لهم أنّ القرآن حق والجائي به محق وجحدوا ذلك وهذا تنفير لهم عما هم عليه يعني أنكم آمنتم بكل شيء وامتزتم عن المشركين بكل فضيلة إلا هذه المسألة الواحدة وبإنكارها تلحقون بهم وتعطلون مزاياكم فإنّ الجاحد بآية يصير كافراً.
{وما} أي : وأنزلنا إليك الكتاب والحال أنك ما {كنت تتلو} أي : تقرأ أصلاً {من قبله} أي : هذا الكتاب الذي أنزلناه إليك ، وأكد استغراق الكتب بقوله تعالى : {من كتاب} أصلاً {ولا تخطه} أي : تجدّد وتلازم خطه وصور الخط ، وأكده بقوله : {بيمينك} فإن قيل ما فائدة قوله
198(3/133)
بيمينك ؟
أجيب : بأنه ذكر اليمين التي هي أقوى الجارحتين وهي التي يزاول بها الخط زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتباً ، ألا ترى أنك إذا قلت في الإثبات رأيت الأمير يخط هذا الكتاب بيمينه كان أشّذ لإثباتك أنه تولى كتبه فكذلك النفي ، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا تحدث الريبة في أمره لعاقل إلا بالمواظبة القوية التي ينشأ عنها ملكه فكيف إذا لم يحصل أصل الفعل ولذلك قال تعالى : {إذاً} أي : لو كنت ممن يخط ويقرأ {لارتاب} أي : شك {المبطلون} أي : اليهود فيك وقالوا : الذي في التوراة أنه أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب ، أو لارتاب مشركو مكة وقالوا لعله تعلمه أو التقطه من كتب الأوّلين وكتبه بيده.
فإن قيل : لم سماهم مبطلين ولو لم يكن أمياً وقالوا ليس بالذي نجده في كتبنا لكانوا صادقين محقين ولكان أهل مكة أيضاً على حق في قولهم لعله تعلمه أو كتبه بيده فإنه رجل كاتب قارئ ؟
أجيب : بأنه سماهم مبطلين لأنهم كفروا به وهو أمي بعيد من الريب فكأنه قال : هؤلاء المبطلون في كفرهم به لو لم يكن أمياً لارتابوا أشدّ الريب فحينئذٍ ليس بقارئ ولا كاتب فلا وجه لارتيابهم ، وأيضاً سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يكونوا أميين ووجب الإيمان بهم وما جاؤوا به لكونهم مصدقين من جهة الحكيم بالمعجزات ، فهب أنه قارئ كاتب فما لهم لم يؤمنوا به من الوجه الذي آمنوا منه بموسى وعيسى على أنّ المنزل إليهم معجز وهذا المنزل معجز فإذاً هم مبطلون حيث لم يؤمنوا وهو أمي ومبطلون حيث لم يؤمنوا وهو غير أمي ، ولما كان التقدير ولكنه لا ريب لهم أصلاً ولا شبهة لقولهم أنه باطل قال تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 197
بل هو} أي : القرآن الذي جئت به وارتابوا فيه فكانوا مبطلين لذلك على كل تقدير {آيات} أي : دلالات {بينات} أي : واضحات جدّاً في الدلالة على صدقك {في صدور الذين أوتوا العلم} أي : المؤمنين يحفظونه فلا يقدر أحد على تحريف شيء منه لبيان الحق لديهم ، وفي ذلك إشارة إلى أن خفاءه عن غيرهم ، وقال ابن عباس وقتادة : بل هو يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب لأنهم يجدونه بنعته ووصفه في كتبهم {وما يجحد} وكان الأصل به ولكنه أشار إلى عظمته بقوله تعالى : {بآياتنا} أي : ينكرها بعد المعرفة على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا والبيان الذي لا يجهله أحد {إلا الظالمون} أي : المتوغلون في الظلم المكابرون.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى ههنا {إلا الظالمون} ومن قبل قال {إلا الكافرون} ؟
أجيب : بأن ما من حرف ولا حركة في القرآن إلا وفيه فائدة ثم إنّ العقول البشرية تدرك بعضها ولا تصل إلى أكثرها وما أوتي البشر من العلم إلا قليلاً ولكن الحكمة هنا أنهم قبل بيان المعجزة قيل لهم إن لكم المزايا فلا تبطلوها بإنكار محمد صلى الله عليه وسلم فتكونوا كافرين فلفظ الكافر هناك أبلغ فمنعهم عن ذلك استنكافهم عن الكفر ، ثم بعد بيان المعجزة قال لهم : إن جحدتم هذه الآية لزمكم إنكار إرسال الرسل فتلتحقون في أوّل الأمر بالمشركين حكماً وتلتحقون عند جحد هذه الآيات بالمشركين حقيقة فتكونوا ظالمين أي : مشركين كما قال تعالى : {إنّ الشرك لظلم عظيم} (لقمان : 13)
فهذا اللفظ ههنا أبلغ ، ولما كان التقدير جحدوها بما لهم من الرسوخ في الظلم ولم يعدوها آيات فضلاً عن كونها بينات عطف عليه قوله تعالى :
{وقالوا} موهمين مكراً إظهاراً للصفة بأدنى ما يدل على الصدق {لولا} أي : هلا {أنزل عليه} أي : محمد صلى الله عليه وسلم على أيّ وجه كان من وجوه الإنزال {آية} تكون
199
بحيث تدل قطعاً على صدق الآتي بها {من ربه} أي : الذي يدعي إحسانه إليه كما أنزل على الأنبياء قبله كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى عليهم السلام ليستدل بها على صدق مقاله وصحة ما يدعيه من حاله ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص آيات بالجمع لأنّ بعده {قل إنما الآيات} بالجمع إجماعاً ، والباقون آية بالإفراد لأنّ غالب ما جاء في القرآن كذلك ، ولما كان هذا إنكاراً للشمس بعد شروقها ومكابرة فيما تحدى به من المعجزات بعد حقوقها أشار إليه بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 197
قل} أي : لهم إرخاء للعنان حتى كأنك ما أتيتهم بشيء {إنما الآيات عند الله} أي : الذي له الأمر كله ينزل أيتها شاء فلا يقدر على إنزال شيء منها غيره فإنما الإله هو لا سواه ولو شاء أن ينزل ما يقترحونه لفعل {وإنما أنا ندير مبين} أي : فليس من شأني إلا الإنذار وإبانته بما أعطيته من الآيات وليس لي أن أقترح عليه الآيات فأقول أنزل علي آية كذا دون آية كذا على أنّ المقصود من الآيات الدلالة على الصدق وهي كلها في حكم آية واحدة في ذلك ، ولم يذكر البشارة لأنه ليس من أسلوبها وقوله تعالى : (3/134)
{أو لم يكفهم} جواب لقولهم لولا أنزل عليه آيات من ربه أي : إن كانوا طائعين للحق غير متيقنين آية مغنية عن كل آية {إنا أنزلنا} أي : بما لنا من العظمة {عليك الكتاب} أي : القرآن الجامع لسعادة الدارين بحيث صار خلقاً لك {يتلى عليهم} أي : تتجدّد متابعة قراءته عليهم شيئاً بعد شيء في كل مكان وفي كل زمان من كل مقال مصدقاً لما في الكتب القديمة من نعتك وغيره من الآيات الدالة على صدقك فأعظم به آية باقية لا تزول ولا تضمحل إذ كل آية سواه منقضية ماضية وتكون في مكان دون مكان ، فالقرآن أتم من كل معجزة لوجوه :
الأوّل : أنّ تلك المعجزات وجدت وما دامت فإن قلب العصا ثعبان وإحياء الميت لم يبق لنا منه أثر فلو أنكره واحد لم يمكن إثباتها معه بدون الكتاب ، وأما القرآن فهو باق لو أنكره واحد فيقال أئت بآية من مثله.
الثاني : أنّ قلب ، العصا ثعباناً كان في آن واحد ولم يره من لم يكن في ذلك المكان ، وأما القرآن فقد وصل إلى المشرق والمغرب وسمعه كل أحد ، وههنا لطيفة : وهي أنّ آيات نبينا صلى الله عليه وسلم كانت أشياء لا تختص بمكان دون مكان لأنّ من جملتها انشقاق القمر وهو يعم الأرض لأنّ الخسوف إذا وقع عمّ وذلك لأنّ نبوّته كانت عامّة لا تختص بقطر دون قطر ، وغاض بحر ساوة في قطر وسقط إيوان كسرى في قطر ، وانهدمت الكنيسة بالروم في قطر آخر إعلاماً بأنه يكون أمراً عامّا ، الثالث : أنّ غير هذه المعجزة يقول الكافر المعاند هذا سحر وعمل يد والقرآن لا يمكن هذا القول فيه ، وقال أبو العباس المرسي : خشع بعض الصحابة من سماع بعض اليهود يقرأ التوراة فعوتبوا إذ تخشعوا من غير القرآن وهم إنما تخشعوا من التوراة وهي كلام الله تعالى فما ظنك بمن أعرض عن كتاب الله وتخشع بالملاهي والغناء ، ولما كان هذا القرآن أعظم من كل آية يقترحونها قال تعالى : {إن في ذلك} أي : إنزال الكتاب على هذا الوجه البعيد المنال البديع المثال {لرحمة} أي : نعمة عظيمة في كل لحظة وتطهيراً لخبث النفوس في كل لمحة {وذكرى} أي : عظيمة مستمرّاً تذكرها ، ولما عمّ بالقول خص من حيث النفع فقال {لقوم يؤمنون} لأنهم المنتفعون بذلك ، ولما كان من المعلوم أنهم يقولون : نحن لا نصدق أنّ هذا الكتاب من عند الله فضلاً عن أن
200
نكتفي به قال تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 197
قل} أي : جواباً لما قد يقولونه من نحو هذا {كفى بالله} أي : الحائز لجميع العظمة وسائر الكمالات {بيني وبينكم شهيداً} أني قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ونصحتكم وأنذرتكم وأنهم قابلوني بالجحد والتكذيب وقد صدقني بالمعجزات ، وروي أنّ كعب بن الأشرف وغيره قالوا يا محمد من يشهد لك أنك رسول الله فنزلت ، ثم وصف الشهيد وعلل كفايته بقوله : {يعلم ما في السموات} أي : كلها {والأرض} أي : كذلك لا يخفى عليه شيء من ذلك فهو عليم بما تنسبونه إليه من التقوّل عليه وبما أنسبه أنا إليه من هذا القرآن الذي يشهد لي به عجزكم عنه فهو شاهدي ، والله في الحقيقة هو الشاهد لي فيه بالثناء عليّ والشهادة لي بالصدق لأنه قد ثبت بالعجز عنه أنه كلامه.
ولما بين تعالى الطريقين في إرشاد الفريقين المشركين وأهل الكتاب عاد إلى الكامل الشامل لهما والإنكار العامّ فقال : {والذين آمنوا بالباطل} أي : وهو ما يعبد من دون الله {وكفروا بالله} أي : الذي يجب الإيمان به والشكر له لأنّ له الكمال كله وكل ما سواه هالك ليس له من ذاته إلا العدم {أولئك} أي : البعداء البغضاء {هم الخاسرون} أي : العريقون في الخسارة فإنهم خسروا أنفسهم أبد الآبدين ، فإن قيل : قوله {أولئك هم الخاسرون} يقتضي الحصر في من آمن بالباطل وكفر بالله فمن يأتي بأحدهما دون الآخر لا يكون كذلك ؟
أجيب : بأنه يستحيل أن يكون الآتي بأحدهما لا يكون آتياً بالآخر لأنّ المؤمن بما سوى الله تعالى مشرك لأنه جعل غير الله مثله وغير الله عاجز ممكن باطل فيكون الله تعالى كذلك ومن كفر بالله تعالى وأنكره فيكون قائلاً بأنّ العالم واجب الوجود إله فيكون قائلاً بأنّ غير الله إله فيكون إثباتاً لغير الله وإيماناً به.
فإن قيل : إذا كان الإيمان بما سواه كفراً به فيكون كل من آمن بالباطل فقد كفر بالله فهل لهذا العطف فائدة غير التأكيد الذي في قول القائل قم ولا تقعد وأقرب مني ولا تبعد ؟
أجيب : بأنّ فيه فائدة غيرها وهو أنه ذكر الثاني لبيان قبح الأوّل كقول القائل : أتقول بالباطل وتترك الحق لبيان أنّ القول بالباطل قبيح ، ولما أنذرهم صلى الله عليه وسلم وأوعد بالعذاب إن لم يؤمنوا أخبر الله تعالى عنهم بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 197
201(3/135)
{ويستعجلونك بالعذاب} نزلت في النضر بن الحارث حين قال : فأمطر علينا حجارة من السماء إن كنت من الصادقين ويجعلون تأخيره عنهم شبهة لهم فيما يزعمون من التكذيب {ولولا أجل مسمى} قد ضرب لوقت عذابهم فلا تقدّم فيه ولا تأخر {لجاءهم العذاب} وقت استعجالهم لأنّ القدرة تامّة والعلم محيط {وليأتينهم بغتة} أي : فجأة في الدنيا كوقعة بدر أو الآخرة عند نزول الموت بهم {وهم لا يشعرون} بل هم في غاية الغفلة عنه والاشتغال بما ينسيه ، ثم زاد في التعجب من جهلهم بقوله تعالى مبدلاً :
{يستعجلونك بالعذاب} أي : يطلبون منك إيقاعه بهم ناجزاً ولو كان في غير وقته الأليق به ولو علموا ما هم صائرون إليه لتمنوا أنهم لم يخلقوا فضلاً عن أن يستعجلوا ، ولأعملوا جميع جهدهم في الخلاص منه {وإنّ جهنم} التي هي من عذاب الآخرة {لمحيطة بالكافرين} أي : ستحيط بهم يوم يأتيهم العذاب أو هي كالمحيطة بهم الآن لإحاطة الكفر والمعاصي التي توجبها بهم ، وأتى بالظاهر موضع المضمر تنبيهاً على ما استحقوا به عذابها وتعميماً لكل من اتصف به ، ثم ذكر تعالى كيفية إحاطة جهنم بقوله عز وجل.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 201
يوم يغشاهم العذاب} أي : يلحقهم ويلصق بهم {من فوقهم ومن تحت أرجلهم} فعلم بذلك إحاطته من جميع الجوانب ، فإن قيل : لم خص الجانبين ولم يذكر اليمين والشمال وخلف وقدّام ؟
أجيب : بأنّ المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا ونار الدنيا تحيط بالجوانب الأربعة فإنّ من يدخلها تكون الشعلة قدّامه وخلفه ويمينه ويساره ، وأمّا النار من فوق فلا تنزل وإنما تصعد من أسفل في العادة وتحت الأقدام لا تبقى الشعلة بل تنطفئ الشعلة التي تحت القدم ونار جهنم تنزل من فوق ولا تنطفئ بالدوس موضع القدم.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : {من فوقهم ومن تحت أرجلهم} ولم يقل من فوق رؤوسهم ولا قال من فوقهم ومن تحتهم بل ذكر المضاف إليه عند ذكر تحت ولم يذكره عند ذكر فوق ؟
أجيب : بأن نزول النار من فوق سواء كان من سمت الرأس أم من موضع آخر عجب لأنّ طبع النار الصعود إلى فوق فلهذا لم يخصه بالرؤوس ، وأمّا بقاء النار تحت القدم فهو عجب وإلا فمن جوانب القدم في الدنيا تكون الشعلة فذكر العجيب وهو ما تحت الأرجل حيث لم ينطفئ بالدوس ، وأمّا فوق فعلى الإطلاق وقوله تعالى {ونقول} قرأ نافع والكوفيون بالياء أي : الموكل بالعذاب من ملائكته بأمره ، والباقون بالنون أي : نأمر بالعذاب ، ولما بين عذاب أجسامهم بين عذاب أرواحهم وهو أن يقال لهم على سبيل التنكيل والإهانة {ذوقوا ما كنتم تعملون} جعل ذلك عين ما كانوا يعملون مبالغة بطريق اسم المسبب على السبب فإن عملهم كان سبباً لعذابهم وهذا كثير في الاستعمال ، ولما ذكر تعالى حال المشركين على حدة وحال أهل الكتاب على حدة وجمعهما في الإنذار وجعلهما من أهل النار اشتدّ عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المؤمنين ومنعهم من العبادة قال تعالى : .
{يا عبادي الذين آمنوا} فشرفهم بالإضافة إليه {إن أرضي واسعة} أي : في الذات والرزق
202
وكل ما تريدون من الرفق إن لم تتمكنوا بسبب هؤلاء المعاندين الذين يفتنونكم في دينكم ، قال مقاتل والكلبي : نزلت في ضعفاء مسلمي مكة يقول الله تعالى : إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فاخرجوا منها فإنّ أرض المدينة واسعة آمنة وقال مجاهد : إن أرضي واسعة فهاجروا وجاهدوا وفيها ، وقال سعيد بن جبير : إذا عمل في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها فإن أرضي واسعة ، وكذا يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث تتهيأ له العبادة ولكن صارت البلدان في زماننا كلها متساوية فلا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 201
وقرأ بفتح الياء ابن عامر ، والباقون بتسكينها ، وقيل نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة وقالوا : نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة فأنزل الله تعالى هذه الآية ولم يعذرهم بترك الخروج ، وقال مطرف بن عبد الله : أرضي واسعة يعني رزقي لكم واسع فاخرجوا ، روى الثعلبي عن الحسن البصري مرسلاً : "من فرّ بدينه من أرض إلى أرض ولو كان شبراً استوجب الجنة ، وكان رفيق إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما".
تنبيه : قوله تعالى : {يا عبادي} لا يدخل فيه الكافر لوجوه : الأوّل : قوله تعالى : {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} (الحجر : 42)
والكافر تحت سلطنة الشيطان فلا يدخل في قوله تعالى يا عبادي. الثاني : قوله تعالى : {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} (الزمر : 53)(3/136)
الثالث : أنّ العباد مأخوذ من العبادة والكافر لا يعبد الله فلا يدخل في قوله تعالى {يا عبادي} وإنما يختص بالمؤمنين الذين يعبدونه ، الرابع : الإضافة بين الله تعالى والعبد يقول العبد إلهي ويقول الله عبدي ، فإن قيل : إذا كان عباده لا يتناول إلا المؤمنين فما الفائدة في قوله {الذين آمنوا} مع أن الوصف إنما يذكر لتمييز الموصوف كما يقال : يا أيها المكلفون المؤمنون ، يا أيها الرجال العقلاء تمييزاً بين الكافر والجاهل ؟
أجيب : بأنّ الوصف يذكر لا لتمييز بل لمجرّد بيان أنّ فيه الوصف كما يقال : الأنبياء المكرمون ، والملائكة المطهرون ، مع أن كل نبيّ مكرم ، وكل ملك مطهر ، وإنما يقال لبيان أن فيهم الإكرام والطهارة ، ومثله قولنا ، الله العظيم فههنا ذكر لبيان أنهم مؤمنون ولما كانت الإقامة بمكة قبل الفتح موِدّية إلى الفتنة قال تعالى : {فإياي} أي : خاصة بالهجرة إلى أرض تأمنون فيها {فاعبدون} أي : وحدون وإن كان بالهجرة وكانت هجرة الأهل والأوطان شديدة ، فإن قيل : قوله تعالى : {يا عبادي} يفهم منه كونهم عابدين فما الفائدة في الأمر بالعبادة ؟
أجيب : بأنّ فيه فائدتين أحداهما : المداومة أي : يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل ، الثانية : الإخلاص أي : يا من تعبدني أخلص العمل لي ولا تعبد غيري ، فإن قيل ما معنى الفاء في فاعبدون ؟
أجيب : بأن الفاء جواب شرط محذوف لأنّ المعنى إنّ أرضي واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرضي فأخلصوها في غيرها ، ولما أمر الله تعالى عباده بالحرص على العبادة وصدق الاهتمام بها حتى يتطلبوا لها أوفق
203
البلاد وإن بعدت وشق عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان خوّفهم بالموت لتهون عليهم الهجرة بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 201
كل نفس ذائقة الموت} أي : كل نفس مفارقة ما ألفته حتى بدناً طالما لبسته وأنسها وأنسته فإن أطاعت ربها أنجت نفسها ولم تنقصها الطاعة من الأجل شيئاً وإلا أوبقت نفسها ولم تزدها المعصية في الأجل شيئاً فإذا قدّر الإنسان أنه ميت سهلت عليه الهجرة فإنه إن لم يفارق بعض مألوفه بها فارق كل مألوفه بالموت ، وقد ورد "أكثروا من ذكر هادم اللذات أي : الموت فإنه ما ذكر في قليل أي : من العمل إلا كثره ولا ذكر في كثير أي : من أمل الدنيا إلا قلله ، ولما هوّن أمر الهجرة حذر من رضي في دينه بنقص شيء من الأشياء حثاً على الاستعداد بغاية الجهد في التزّود للمعاد بقوله تعالى : {ثم إلينا ترجعون} على أيسر وجه فنجازي كلاً منكم بما عمل ، وقرأ أبو بكر بالياء التحتية ، والباقون بالتاء الفوقية.
{والذين آمنوا وعملوا} أي : تصديقاً لإيمانهم {الصالحات لنبؤنهم} أي : لننزلنهم {من الجنة غرفاً} أي : بيوتاً عالية ، قال البقاعي : تحتها قاعات واسعة ، وقرأ حمزة والكسائي بعد النون بثاء مثلثة ساكنة وبعدها واو مكسورة وبعد الواو ياء مفتوحة أي : لنثوينهم أي : لنقيمنهم من الثواء وهو الإقامة يقال ثوى الرجل إذا أقام فيكون انتصاب غرفاً لإجرائه مجرى لننزلنهم ، أو بنزع الخافض اتساعاً أي : في غرف أو تشبيه الظرف المؤقت بالمبهم كقوله : {لأقعدنّ لهم صراطك} (الأعراف : 16) ، والباقون بعد النون بباء موحدة وبعدها واو مشدّدة وبعد الواو همزة مفتوحة وعلى هذه القراءة فانتصابها على أنها مفعول ثان لأنّ بّوأ يتعدّى لاثنين ، قال الله تعالى : {تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال} (آل عمران : 121)
ويتعدّى باللام قال تعالى : {وإذ بوّأنا لإبراهيم} (الحج : 26) ، ولما كانت العلالي لا تروق إلا بالرياض قال تعالى : {تجري من تحتها الأنهار} ومن المعلوم أنه لا يكون في موضع أنهار إلا أن يكون فيه بساتين كبار وزروع ورياض وأزهار فيشرفون عليها من تلك العلالي ، ولما كانت بحالة لا نكر فيها يوجب هجرة في لحظة ما كنى عنه بقوله تعالى : {خالدين فيها} أي : لا يبغون عنها حولاً ، ثم عظم أمرها وشرف قدرها بقوله تعالى : {نعم أجر العاملين} أي : هذا الأجر وهذا في مقابلة قوله تعالى للكافر : {ذوقوا ما كنتم تعملون} (العنكبوت : 55) ، ثم وصفهم بما يرغب في الهجرة بقوله تعالى :
{الذين صبروا} أي : أوجدوا هذه الحقيقة حتى استقرّت عندهم فكانت سجية لهم فأوقفوها على كل شاق من التكاليف من هجرة وغيرها فإنّ الإنسان قل أن ينفك عن أمر شاق ينبغي الصبر عليه ، ثم رغب في الاستراحة بالتفويض إليه بقوله تعالى : {وعلى ربهم} أي : المحسن إليهم وحده لا على أهل ولا وطن {يتوكلون} أي : يوجدون التوكل إيجاداً مستمرّاً لتجديد كل مهم يعرض لهم ، ولما أشار بالتوكل إلى أنه الكافي في أمر الرزق في الوطن والغربة لا مال ولا أهل قال عاطفاً على ما تقديره فكأين من متوكل عليه كفاه ولم يحوجه إلى أحد سواه فليبادر من أنقذه من الكفر وهداه إلى الهجرة طلباً لرضاه.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 201
وكأين من دابة} أي : كثير من الدواب العاقلة وغيرها {لا
204(3/137)
تحمل} أي : لا تطيق أن تحمل {رزقها} أي : لا تدخر شيئاً لساعة أخرى لأنها قد لا تدرك نفع ذلك وقد تدركه وتتوكل ، وعن الحسن : لا تدخر إنما تصبح فيرزقها الله تعالى ، وعن ابن عيينة : ليس شيئاً يخبأ إلا الإنسان والنملة والفارة ، وعن بعضهم قال رأيت البلبل يدخر في حنية ، ويقال للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها أو لا تجده أو لا تطيق حمله لضعفها ، ثم كأنه قيل فمن يرزقها فقيل {الله} أي : المحيط علماً وقدرة المتصف بكل كمال {يرزقها} على ضعفها وهي لا تدخر {وإياكم} مع قوتكم وادخاركم واجتهادكم لا فرق بين ترزيقه لها على ضعفها وعدم ادخارها ، وترزيقه لكم على قوتكم وادخاركم فإنه هو المسبب وحده فإنّ الفريقين تارة يجدون وتارة لا يجدون فصار الإدخار وعدمه غير معتدّ به ولا منظوراً إليه ، وقرأ ابن كثير بعد الكاف بألف وبعد الألف همزة مكسورة ، والباقون بعد الكاف همزة مفتوحة وبعدها ياء مشدّدة ، ووقف أبو عمرو على الياء ، ووقف الباقون على النون ، وحمزة في الوقف يسهل الهمزة على أصله.
تنبيه : كأين كلمة مركبة من كاف التشبيه وأي : التي تستعمل استعمال من وما ركبتا وجعل المركب بمعنى كم ثم لم تكتب إلا بالنون ليفصل بين المركب وغير المركب لأنّ كأي تستعمل غير مركبة كما يقول القائل : رأيت رجلاً كأيّ رجل يكون وحينئذٍ لا يكون كأي : مركباً فإذا كان كأيّ ههنا مركباً كتب بالنون للتمييز {وهو السميع} لأقوالكم نخشى الفقر والضيعة {العليم} بما في ضمائركم.
واختلف في سبب نزول هذه الآية فعن ابن عمر أنه قال دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطاً من حوائط الأنصار : "فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتقط الرطب بيده ويأكل فقال كل يا ابن عمر قلت : لا أشتهيه يا رسول الله قال لكني أشتهيه وهذه صبح رابعة لم أطعم طعاماً ولم أجده فقلت : يا رسول الله إن الله المستعان فقال : يا ابن عمر لو سألت ربي لأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر أضعافاً مضاعفة ولكني أجوع يوماً وأشبع يوماً فكيف بك يا ابن عمر إذا عمرت وبقيت في حثالة من الناس يخبئون رزق سنة ويضعف اليقين فنزلت {وكأين من دابة} (العنكبوت : 60)
جزء : 3 رقم الصفحة : 201
وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : للمؤمنين الذين كانوا بمكة وآذاهم المشركون "هاجروا إلى المدينة فقالوا : كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال فمن يطعمنا ويسقينا فنزلت" وعن أنس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم "كان لا يدخر شيئاً" وقال صلى الله عليه وسلم "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً" وقال صلى الله عليه وسلم "أيها الناس ليس شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به ، وليس شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه ، وإنّ الروح الأمين نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته".
205
{ولئن} اللام لام قسم {سألتهم} أي : كفار مكة وغيرهم {من خلق السموات والأرض} وسوّاهما على هذا النظام العظيم {وسخر الشمس والقمر} لإصلاح الأقوات ومعرفة الأوقات وغير ذلك من المنافع {ليقولنّ الله} أي : الذي له جميع صفات الكمال لما تقرّر في نظرهم من ذلك وتلقوه من آبائهم موافقة للحق في نفس الأمر {فأنى} أي : فكيف ومن أيّ وجه {يؤفكون} أي : يصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك ، فإن قيل : ذكر في السموات والأرض الخلق ، وفي الشمس والقمر التسخير ؟
أجيب : بأنّ مجرد خلق السموات والأرض آية ظاهرة بخلاف خلق الشمس والقمر فإنهما لو كانا في موضع واحد لا يتحرّكان ما حصل الليل والنهار ولا الصيف ولا الشتاء فإذاً الحكمة الظاهرة في تحريكهما وتسخيرهما ، ولما كان قد يشكل على ذلك التفاوت في الرزق عند من لم يتأمّل حق التأمّل فيقول : ما بال الخلق متفاوتين في الرزق قال تعالى :
{الله} أي : بما له من الإحاطة بصفات الكمال {يبسط الرزق} بقدرته التامّة امتحاناً {لِمنْ يشاء من عباده} على حسب ما يعلم من بواطنهم {ويقدر} أي : يضيق {له} بعد البسط أو لمن يشاء ابتلاء فظهر من ذلك قدرته وحكمته وأنت ترى الملوك وغيرهم من الأقوياء يفاوتون في الرزق بين عمالهم بحسب ما يعلمون من علمهم الناقص بأحوالهم فما ظنك بملك الملوك العالم علماً لا تدنو من ساحته ظنون ولا شكوك كما قال تعالى : {إن الله} أي : الذي له صفات الكمال {بكل شيء} أي : من المرزوقين ومن الأرزاق وكيف يمنع أو يساق وغير ذلك {عليم} يعلم مقادير الحاجات والأرزاق فهو على ذلك كله قدير يعلم ما يصلح العباد من ذلك وما يفسدهم ويعطيهم بحسب ذلك إن شاء وكم رام بعض الأقوياء إغناء فقير وإفقار غني فكشف الحال عن فساد ما راموا من الانتقال ، ولما قال الله تعالى : {الله يبسط الرزق} ذكر اعترافهم بذلك بقوله تعالى :
{(3/138)
جزء : 3 رقم الصفحة : 201
ولئن} اللام لام قسم {سألتهم من نزل من السماء ماءً} بعد أن كان مضبوطاً في جهة العلو {فأحيا به الأرض} الغبراء وأشار بإثبات الجار إلى قرب الإنبات من زمان الممات فقال : {من بعد موتها} فصارت خضراء تهتز بعد أن لم يكن لها شيء من ذلك {ليقولنّ الله} معترفين بأنه الموجد للممكنات بأسرها أصولها وفروعها ، ثم إنهم يشركون به بعض مخلوقاته الذي لا يقدر على شيء من ذلك فلما ثبت أنه الخالق بدءً وإعادة كما يشاهد في كل زمان قال منبهاً على عظمة صفاته اللازم من إثباتها صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم {قل} يا أفضل الخلق متعجباً منهم في جمودهم كيف يقرون بما يلزمهم التوحيد ثم لا يوحدون ؟
{الحمد لله} الذي لا سميّ له وليس لغيره إحاطة من الأشياء فلزمتهم الحجة بما أقروا به من إحاطته وهم لا يثبتون ذلك بإعراضهم {بل أكثرهم لا يعقلون} فيناقضون حيث يقرون بأنه المبدئ لكل ما عداه ثم إنهم يشركون به غيره مما هم معترفون بأنه خلقه فهم لا يعرفون معنى الحمد حيث لم يعملوا به ، ومنهم من آمن بعد ذلك فكان في الذروة من كمال العقل في التوحيد الذي يلزمه سائر الفروع ، ومنهم من كان دون ذلك فكان نفي العقل عنه مقيداً بالكمال ، ولما تبين بهذه الآيات أنّ الدنيا مبنية على الفناء والزوال والتقلع والارتحال وصح أن السرور بها في غير موضعه فلذلك قال مشيراً بعد سلب العقل عنهم إلى أنهم فيها كالبهائم يتهارجون :
{وما هذه الحياة الدنيا} فحقرها بالإشارة ولفظ الدناءة مع الإشارة إلى هذا الاعتراف فهذا الاسم كاف
206
في الإلزام بالاعتراف بالأخرى {إلا لهو} وهو الاستمتاع بلذات الدنيا {ولعب} وهو العبث وسميت بهما لأنها فانية ، وقيل : اللهو الإعراض عن الحق ، واللعب : الإقبال على الباطل ، فإن قيل : قد قال تعالى في الأنعام : {وما الحياة الدنيا} (آل عمران ، 185) ولم يقل {وما هذه الحياة} وقال ههنا : {وما هذه الحياة} فما فائدته أجيب بأن المذكور من قبل ههنا أمر الدنيا فأحيا به الأرض من بعد موتها فقال هذه والمذكور قبلها هناك الآخرة حيث قال {يا حسرتنا على ما فرّطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} (الأنعام : 31)
فلم تكن الدنيا في ذلك الوقت في خاطرهم فقال تعالى : {وما الحياة الدنيا} ، فإن قيل ما الحكمة في تقديمه هناك اللعب على اللهو وههنا أخر اللعب عن اللهو ؟
أجيب : بأنه لما كان المذكور من قبل هناك الآخرة وإظهارهم للحسرة ففي ذلك الوعد يبعد الاستغراق في الدنيا بل نفس الاشتغال بها فأخذ الأبعد ، وههنا لما كان المذكور من قبل الدنيا وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها والاستغراق فيها ، اللهمّ إلا لمانع يمنع من الاستغراق فيشتغل بها من غير استغراق فيها أو لعاصم يعصمه فلا يشتغل بها أصلاً وكان الاستغراق أقرب من عدمه فقدم اللهو ، ولما كانوا ينكرون الحياة بعد الموت أخبر على سبيل التأكيد أنه لا حياة غيرها بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 201
وإن الدار الآخرة لهي} أي : خاصة {الحيوان} أي : الحياة التامّة الباقية ، فإن قيل ما الحكمة في قوله تعالى هناك {ولدار الآخرة خير} وقال ههنا : {وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان} ؟
أجيب : بأنه لما كان الحاصل هناك حال إظهار الحسرة ما كان المكلف يحتاج إلى وازع قوي فقال : الآخرة خير ، ولما كان الحال هنا حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى وازع قوي فقال لا حياة إلا حياة الآخرة ، والحيوان مصدر حيي وقياسه حييان فقلبت الياء الثانية واواً وبه سمي ما فيه حياة حيواناً وهو أبلغ من الحياة لما في بناء فعلان من الحركة والاضطراب اللازم للحياة ولذلك اختير عليها ههنا ، ولما كانوا قد غلطوا في الدارين كليهما فنزلوا كل واحدة منهما غير منزلتها فعدوا الدنيا وجوداً دائماً على هذه الحالة وعدوا الآخرة عدماً لا وجود لها بوجه قال تعالى : {لو كانوا يعلمون} أي : لم يؤثروا عليها الدنيا التي أصلها عدم الحياة والحياة فيها عارضة سريعة الزوال ، فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى في الأنعام : {أفلا يعقلون} وقال ههنا : {لو كانوا يعلمون} ؟
أجيب : بأن المثبت هناك كون الآخرة خيراً ولأنه ظاهر لا يتوقف إلا على العقل والمثبت هنا أن لا حياة إلا حياة الآخرة وهذا دقيق لا يعرف إلا بعلم نافع.
{فإذا} أي : فتسبب عن عدم عقلهم المستلزم لعدم علمهم إنهم إذا {ركبوا} البحر {في الفلك} أي : السفن {دعوا الله} أي : الملك الأعلى {مخلصين} بالتوحيد {له الدين} معرضين عن الشركاء بالقلب واللسان حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون سواه لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد إلا هو {فلما نجاهم} أي : الله سبحانه وتعالى موصلاً لهم {إلى البرّ إذا هم} أي : حين
207
الوصول إلى البرّ {يشركون} كما كانوا فهذا إخبار عنهم بأنهم عند الشدائد مقرون أن القادر على كشفها هو الله عز وجل وحده فإذا زالت عادوا إلى كفرهم.(3/139)
قال عكرمة : كان أهل الجاهلية إذا ركبوا في البحر حملوا معهم الأصنام فإذا اشتدّ عليهم الريح ألقوها في البحر وقالوا يا رب يا رب ، وقال الرازي في اللوامع : وهذا دليل على أن معرفة الرب في فطرة كل إنسان وأنهم إن غفلوا في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء انتهى ، فعلم أن الاشتغال بالدنيا هو الصادّ عن كل خير وأن الانقطاع عنها معين للفطرة الأولى المستقيمة ولهذا تجد الفقراء أقرب إلى كل خير ، وفي اللام في قوله تعالى :
{ليكفروا بما آتيناهم} وجهان : أظهرهما أن اللام فيه لام كي أي : يشركون ليكونوا كافرين بشركهم نعمة النجاة فيكون ذلك فعل من لا عقل له أصلاً وهم يتحاشون عن مثل ذلك ، والثاني : كونها للأمر {وليتمتعوا} باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادّهم عليها ، وقرأ ورش وأبو عمرو وابن عامر وعاصم بالكسر وهي محتملة للوجهين المتقدّمين ، والباقون بالسكون وهي ظاهرة في الأمر فإن كانت اللام الأولى للأمر فقد عطف أمراً على مثله ، فإن قيل كونها للأمر مشكل إذ كيف يأمر الله تعالى بالكفر وهو متوعد عليه ؟
أجيب : بأن ذلك على سبيل التهديد كقوله تعالى : {اعملوا ما شئتم} (فصلت : 40)
جزء : 3 رقم الصفحة : 201
وإن كانت للعلة فقد عطف كلاماً على كلام فيكون المعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يستمتعون به في العاجلة من غير نصيب في الآخرة {فسوف يعلمون} يومئذٍ ما يحلّ بهم من العقاب ، ولما كان الإنسان يكون في البحر على أخوف ما يكون وفي بيته يكون على آمن ما يكون لا سيما إذا كان بيته في بلد حصين فلما ذكر الله المشركين عند الخوف الشديد ورأوا أنفسهم في تلك الحالة راجعة إلى الله ذكرهم حالهم عند الأمر العظيم بقوله تعالى :
{أولم يروا} أي : أهل مكة بعيون بصائرهم {أنا جعلنا} بعظمتنا لهم {حرماً} وقال {آمناً} لأنه لا خوف على من دخله ، فلما أمن كل من دخله كان كأنه هو نفسه الآمن وهو حرم مكة فإنها مدينتهم وبلدهم وفيها سكناهم ومولدهم وهي حصينة بحصن الله وآمنة موجبة للتوحيد والإخلاص لأنكم في أخوف ما أنتم دعوتم الله وفي آمن ما حصلتم عليه كفرتم بالله ، وهذا متناقض لأن دعاءكم في ذلك الوقت على سبيل الإخلاص فما كان إلا لقطعكم بأن النعمة من الله لا غير وهذه النعمة العظيمة التي حصلتم وقد اعترفتم بأنها لا تكون إلا من الله فكيف تكفرون بها ؟
والأصنام التي قلتم في حال الخوف أنها لا أمن لها كيف آمنتم بها في حال الأمن {و} الحال أنه {يتخطف الناس من حولهم} أي : من حول من فيه من كل جهة قتلا وسبياً مع قلة من بمكة وكثرة من حولهم فالذي خرق العادة في فعل ذلك حتى صار على هذا السنن قادر على أن يعكس الحال فيجعل من بالحرم متخطفاً ومن حوله آمناً أو يجعل الكل في الخوف على منهاج واحد {أفبالباطل} من الشياطين والأديان وغيرهما {يؤمنون} والحال أنه لا يشك عاقل في بطلانه {وبنعمة الله} التي أحدثها لهم من الإنجاء وإرسال محمد صلى الله عليه وسلم {يكفرون} حيث جعلوا موضع شكرهم له على النجاة وغيرها شركهم بعبادة غيره.
{ومن أظلم} أي : أشدّ وضعاً للأشياء في غير مواضعها {ممن افترى} أي : تعمد {على الله كذباً} أي : أيّ كذب كان من الشرك وغيره كما كانوا يقولون {إذا فعلوا فاحشة وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} {أو كذب بالحق} أي : النبيّ صلى الله عليه وسلم أو القرآن المعجز المبين على لسان هذا
208
الرسول الأمين الذي ما أخبر خبراً إلا طابقه الواقع {لما} أي : حين {جاءه} من غير إمهال إلى أن ينظر ويتأمل بل سارع إلى التكذيب أوّل ما سمعه وقوله تعالى : {أليس في جهنم مثوىً للكافرين} استفهام تقرير لمثواهم كقوله :
*
جزء : 3 رقم الصفحة : 201
ألستم خير من ركب المطايا ** وأندى العالمين بطون راح*
قال بعضهم : ولو كان استفهاماً ما أعطاه الخليفة مائة من الإبل ، وحقيقته أن الهمزة همزة الإنكار دخلت على النفي فرجع إلى معنى التقرير ، والمعنى أما لهذا الكافر المكذب مثوى في جهنم حتى اجترأ مثل هذه الجراءة ؟
.
{والذين جاهدوا} أي : أوقعوا الجهاد بغاية جهدهم على ما دلّ عليه بالمفاعلة {فينا} أي : بسبب حقنا ومراقبتنا خاصة بلزوم الطاعات من جهاد الكفار وغيرهم من كل ما ينبغي الجهاد فيه بالقول والفعل في الشدّة والرخاء ومخالفة الهوى عند هجوم الفتن وشدائد المحن مستحضرين لعظمتنا {لنهدينهم} مما نجعل لهم من النور الذي لا يضل من صحبه هداية تليق بعظمتنا {سبلنا} أي : طريق السير إلينا وهي الطريق المستقيمة والطريق المستقيمة هي التي توصل إلى رضا الله عز وجل ، قال سفيان بن عيينة : إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور فإنّ الله تعالى قال {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وقال الحسن : الجهاد مخالفة الهوى ، وقال الفضيل بن عياض : والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به ، وقال سهل بن عبد الله : والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا ، وقال أبو سليمان الداراني : والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا ، وعن بعضهم : من عمل بما يعلم وفق لما لم يعلم ، وقيل : إن الذي نرى من جهلنا بما لم نعلم إنما هو من تقصيرنا فيما نعلم ، وقيل : المجاهدة هي الصبر على الطاعة ، وقرأ أبو عمرو بسكون الباء الموحدة ، والباقون بضمها {وإن الله} أي : بعظمته وجلاله وكبريائه {لمع المحسنين} أي : المؤمنين بالنصرة والمعونة في دنياهم والمغفرة والثواب في عقباهم ، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشريّ من أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المؤمنين والمنافقين" فهو حديث موضوع ، ورواه ابن عادل عن أبي أمامة عن أبي بن كعب.
209
جزء : 3 رقم الصفحة : 201(3/140)
سورة الروم
مكية وهي ستون آية ، وثمانمائة وتسع عشرة كلمة ، وثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفاً
{بسم الله} الذي يملك الأمر كله {الرحمن} الذي رحم الخلق كلهم بنصب الدلائل {الرحيم} الذي لطف بأوليائه وقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 209
{الم} تقدّم الكلام على ذلك في أوّل سورة البقرة ، وقال البقاعي : لما ختم سبحانه وتعالى التي قبلها بأنه مع المحسنين قال : {ألم} مشيراً بألف القيام والعلو ولام الوصلة وميم التمام إلى أن الله الملك الأعلى القيوم أرسل جبريل عليه الصلاة والسلام الذي هو وصلة بينه وبين أنبيائه عليهم السلام إلى أشرف خلقه محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث لإتمام مكارم الأخلاق يوحي إليه وحياً معلماً بالشاهد والغائب فيأتي الأمر على ما أخبر به دليلاً على صحة رسالته وكمال علم مرسله وشمول قدرته ووجوب وحدانيته.
{غلبت الروم} وهم أهل كتاب ، غلبتهم فارس وليسوا أهل كتاب بل يعبدون الأوثان.
{في أدنى الأرض} أي : أقرب أرض الروم إلى فارس بالجزيرة ، التقى فيها الجيشان والبادي بالغزو الفرس {وهم} أي : الروم {من بعد غلبهم} أضيف المصدر إلى المفعول أي : غلبة فارس إياهم {سيغلبون} فارس.
210(3/141)
{في بضع سنين} وهو ما بين الثلاث إلى التسع أو العشر ، فالتقى الجيشان في السنة السابعة من الالتقاء الأوّل وغلبت الروم فارس ، وسبب نزول هذه الآية على ما ذكره المفسرون أنه كان بين فارس والروم قتال وكان المشركون يودّون أن تغلب فارس لأن أهل فارس كانوا مجوساً أميين ، والمسلمون يودّون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل كتاب فبعث كسرى جيشاً إلى الروم واستعمل عليه رجلاً يقال له شهريار ، وبعث قيصر جيشاً واستعمل عليه رجلاً يدعى بخنس ، فالتقى مع شهريار بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب فغلبت فارس الروم ، وبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة فشق ذلك عليهم وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يكره أن تظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم ، وفرح كفار مكة وقالوا للمسلمين : إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم ولنظهرن عليكم فنزلت هذه الآية. فخرج أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى الكفار فقال : فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا فوالله لتظهرنّ الروم على فارس ، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم فقال له أبيّ بن خلف الجمحي : كذبت يا أبا فضيل فقال أبو بكر : أنت أكذب يا عدوّ الله فقال : اجعل بيننا أجلاً أناحبك عليه ـ والمناحبة المراهنة ـ فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما فإن ظهرت الروم على فارس غرمتَ وإن ظهرت فارس غرمتُ وجعلا الأجل ثلاث سنين ، فجاء أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادّه في الأجل ، فخرج أبو بكر فلقي أبياً فقال : لعلك ندمت قال : لا فتعال أزايدك في الخطر وأمادّك في الأجل فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين. وقيل : إلى سبع سنين قال : قد فعلت ، فلما خشي أبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه وقال : إني أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي كفيلاً فكفله له ابنه عبد الله بن أبي بكر ، فلما أراد أبيّ بن خلف أن يخرج إلى أُحد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه وقال : والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلاً فأعطاه كفيلاً ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبيّ بن خلف فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بارزه ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم ، وقيل كان يوم بدر فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبيّ وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تصدّق به ، وهذه الآية من الآيات البينة الشاهدة على صحة النبوّة وأنّ القرآن من عند الله لأنه أنبأ عن علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 210
فإن قيل : كيف صحت المناحبة وإنما هي قمار ؟
أجيب : بأن قتادة رحمه الله تعالى قال : كان ذلك قبل تحريم القمار ، وقال الزمخشري : ومذهب أبي حنيفة ومحمد أن العقود الفاسدة من عقود الربا وغيرها جائزة في دار الحرب بين المسلمين والكفار وقد احتجا على صحة ذلك بما عقده أبو بكر رضي الله عنه بينه وبين أبي بن خلف. ولما كان تغلب ملك على ملك من الأمور الهائلة وكان الإخبار به قبل كونه أهول ذكر علة ذلك بقوله تعالى : {لله} أي : وحده {الأمر من قبل} أي : قبل جولة فارس على الروم ثم دولة الروم على فارس {ومن بعد} أي : بعد دولة الروم عليهم ودولتهم على الروم ، ولما أخبر تعالى بهذه المعجزة أخبر بمعجزة أخرى بقوله تعالى : {ويومئذ} أي : تغلب الروم على فارس {يفرح المؤمنون} أي : العريقون في هذا الوصف من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم
{بنصر الله} أي : الذي لا رادّ لأمره للروم على فارس ، وقد فرحوا بذلك وعلموا به يوم
211
وقوعه يوم بدر بنزول جبريل عليه السلام بذلك فيه مع فرحهم بنصرهم على المشركين فيه ، قال السدي : فرح النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك ، وعن أبي سعيد الخدري : وافق ذلك يوم بدر وفي هذا اليوم نصر المؤمنون. {ينصرُ من يشاء} من ضعيف وقوي لأنه لا مانع له ولا يسأل عما يفعل ، فالغلبة لا تدل على الحق بل الله قد يزيد ثواب المؤمن فيبتليه ويسلط عليه الأعادي ، وقد يختار تعجيل العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر قبل يوم المعاد {وهو العزيز} فلا يعز من عادى ولا يذل من والى ، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بالضم ، ولما كان السياق لبشارة المؤمنين قال {الرحيم} فيخصهم بالأعمال الزكية والأخلاق المرضية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 210(3/142)
{وعد الله} أي : الذي له جميع صفات الكمال ، مصدر مؤكد ناصبه مضمر أي : وعدهم الله ذلك وعداً بظهور الروم على فارس {لا يخلف الله} أي : الذي له الأمر كله {وعده} به ، وهذا مقرّر لمعنى هذا المصدر ، ويجوز أن يكون قوله تعالى : {لا يخلف الله وعده} حالاً من المصدر فيكون كالمصدر الموصوف فهو مبين للنوع كأنه قيل : وعد الله وعداً غير مخلف {ولكن أكثر الناس} لجهلهم وعدم تفكرهم {لا يعلمون} ذلك. وقوله تعالى :
{يعلمون} بدل من قوله تعالى {لا يعلمون} وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه ليعلمه أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يجاوز الدنيا {ظاهراً من الحياة الدنيا} يفيد أن للدنيا ظاهراً وباطناً : فظاهرها : ما يعرفه الجهال من أمر معايشهم كيف يكسبون ويتجرون ومتى يغرسون ويزرعون ويحصدون وكيف يبنون ويعرشون ، قال الحسن : إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه وهو لا يخطئ ، وهو لا يحسن يصلي. وأمثال هذا الهم كثير وهو وإن كان عند أهل الدنيا عظيماً فهو عند الله حقير فلذلك حقره لأنهم ما زادوا فيه على أن ساووا البهائم في إدراكها ما ينفعها فتستجلبه بضروب من الحيل ، وما يضرها فتدفعه بأنواع من الخداع ، وأما علم باطنها : وهو أنها مجاز إلى الآخرة يتزوّد منها بالطاعة فهو ممدوح ، وفي تنكير الظاهر إشارة إلى أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة ظواهرها {وهم} أي : هؤلاء الموصوفون خاصة {عن الآخرة} أي : التي هي المقصودة بالذات ، وما خلقت الدنيا إلا للتوصل بها إليها ليظهر الحكم بالقسط وجميع صفات العز والكبر والجلال والإكرام {هم غافلون} أي : في غاية الاستغراق والإضراب عنها بحيث لا تخطر في خواطرهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 212
تنبيه : هم الثانية يجوز أن تكون مبتدأً ، وغافلون خبره ، والجملة خبر هم الأولى ، وأن تكون تكريراً للأولى ، {وغافلون} خبراً للأولى ، وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ومقرّها ومعلمها ، وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع.
{أولم يتفكروا} أي : يجتهدوا في إعمال الفكر ، وقوله تعالى {في أنفسهم} يحتمل أن يكون ظرفاً كأنه قيل : أَوَلَمْ يحدثوا الفكر في أنفسهم أي : في قلوبهم الفارغة من التفكر ، والتفكر لا يكون إلا في القلوب ، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين كقولك : اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك. وأن يكون صلة أي : أو لم يتفكروا في أحوالها خصوصاً فيعلموا أن من كان منهم قادراً
212
كاملاً لا يخلف وعده وهو إنسان ناقص فكيف بالإله الحق. ويعلموا أن الذي ساوى بينهم في الإيجاد من العدم وطورهم في أطوار الصور ، وفاوت بينهم في القوى والقدر ، وبين أحوالهم في الطول والقصر ، وسلط بعضهم على بعض بأنواع الضرر ، ومات أكثرهم مظلوماً قبل القصاص والظفر ، لا بدّ في حكمته البالغة من جمعه العدل بينهم في جزاء من وفى أو غدر ، أو شكر أو كفر. ففي ذلك دلالة على وحدانية الله تعالى وعلى الحشر ، ثم ذكر تعالى نتيجة ذلك وعلله بقوله في أسلوب التأكيد لأجل إنكارهم. وعلى التقدير الأوّل يكون المتفكر فيه {ما خلق الله} أي : بعز جلاله وعلوه في كماله {السموات والأرض} على ما هما عليه من النظام المحكم والقانون المتقن ، قال البقاعي : وإفراد الأرض لعدم دليل حسي أو عقلي يدلهم على تعدّدها بخلاف السماء ا.ه وقد يردّ هذا بقوله تعالى : {خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهنّ} (الطلاق : 120)
{وما بينهما} من المعاني التي بها كمال منافعهما {إلا} خلقاً متلبساً {بالحق} أي : الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع ، فإذا ذكر البعث الذي هو مبدأ الآخرة التي هذا أسلوبها وجد الواقع في تصوير النطف ونفخ الروح وتمييز الصالح منهما للتصوير من الفاسد يطابق ذلك ، وإذا تدبر النبات بعد أن كان هشيماً قد نزل عليه الماء فزها واهتز وربا وجده مطابقاً لأمر البعث ، وإذا ذكر القدرة فرأى اختلاف الليل والنهار وسير الكواكب الصغار والكبار ، وإمطار الأمطار وإجراء الأنهار ، ونحو ذلك من الأسرار رآه مطابقاً لكل ما يخطر بالبال ، ولما كان عندهم أن هذا الوجود حياة وموت لا إلى نفاد قال تعالى {وأجل} لا بد أن ينتهي إليه {مسمى} أي : في العلم من الأزل ، لذلك يفنى عند انتهائه وبعده البعث ، ولما كانوا ينكرون أنهم على كفر أكد قوله تعالى {وإن كثيراً من الناس} مع ذلك على وضوحه {بلقاء ربهم} أي : الذي ملأهم إحساناً برجوعهم في الآخرة إلى العرض عليه للثواب والعقاب {لكافرون} أي : لا يؤمنون بالبعث بعد الموت.
جزء : 3 رقم الصفحة : 212(3/143)
فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى ههنا {وإن كثيراً من الناس} وقال من قبل {ولكن أكثر الناس} ؟
أجيب : بأن فائدته أنه من قبل لم يذكر دليلاً على الأصلين وههنا قد ذكر الدلائل الراسخة والبراهين اللائحة ، ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل. فبعد الدليل لا بد أن يؤمن من ذلك جمع فلا يبقى الأكثر كما هو ، فقال بعد إقامة الدليل : و{إن كثيراً} وقال قبله : {ولكن أكثر الناس} لأنه بعد الدليل لا يمكن الذهول عنه وهو السموات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه والأرض التي تحته ، فلهذا ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمثالهم وحكاية أشكالهم فقال :
{أو لم يسيروا في الأرض} أي : سير اعتبار ، وقوله تعالى {فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} من الأمم وهي إهلاكهم بتكذيبهم رسلهم تقريراً لسيرهم في أقطار الأرض ، ونظرهم إلى آثار المدمرين كعاد وثمود {كانوا أشدّ منهم} أي : العرب {قوّة} أي : في أبدانهم وعقولهم {وأثاروا الأرض} أي : حرثوها وقلبوها للزرع والغرس والمعادن والمياه وغير ذلك {وعمروها} أي : أولئك السالفون {أكثر مما عمروها} أي : هؤلاء الذين أرسلت إليهم بل ليس لهم من إثارة الأرض وعمارتها كبير أمر ، فإن بلاد العرب إنما هي في جبال سود ، وفياف غبر ، فما هو إلا تهكم بهم وبيان لضعف حالهم في دنياهم التي لا فخر لهم بغيرها {وجاءتهم رسلهم بالبينات} أي :
213
بالحجج الظاهرات مثل ما أتاكم به رسولنا من وعودنا الصادقة وأمورنا الخارقة كأمر الإسراء وما أظهر فيه من الغرائب كالإخبار : "بأن العير تقدِم في يوم كذا يقدُمها جمل صفته كذا وغرائره كذا فظهر كذلك" وما آمنتم به كما لم يؤمن من كان أشدّ منكم قوّة {فما} أي : تسبب أنه ما {كان الله} أي : على مالهم من أوصاف الكمال مريداً {ليظلمهم} بأن يفعل معهم فعل من تعدونه أنتم ظالماً بأن يهلكهم في الدنيا ثم يقتص منهم في القيامة قبل إقامة الحجة عليهم بإرسال الرسل بالبينات {ولكن كانوا} بغاية جهدهم {أنفسهم} أي : خاصة {يظلمون} أي : يجدّدون الظلم لها بإيقاع الضر موقع مجلب النفع.
{ثم كان عاقبة} أي : آخر أمر {الذين أساؤا} وقوله تعالى {السوأى} تأنيث الأسوأ وهو الأقبح كما أن الحسنى تأنيث الأحسن ، والمعنى : أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار ثم إن عاقبتهم السوأى ، إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر ، أي : العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة وهي جهنم التي أعدت للكافرين. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو عاقبة بالرفع على أنها اسم كان والسوأى خبرها ، والباقون بالنصب على أنها خبر كان. وقيل : السوأى اسم لجهنم كما أن الحسنى اسم للجنة ، وإساءتهم {أن} أي : بأن {كذبوا بآيات الله} أي : القرآن. وقيل : تفسير السوأى ما بعده وهو قوله تعالى {أن كذبوا} أي : ثم كان عاقبة المسيئين التكذيب ، حملتهم تلك السيئات على أن كذبوا بآيات الله {وكانوا بها} مع كونها أبعد شيء عن الهزء {يستهزئون} أي : يستمرون على ذلك بتحديده في كل حين. ولما كان حاصل ما مضى أنه تعالى قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء صرح بذلك في قوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 212
الله} أي : المحيط علماً وقدرة {يبدأ الخلق} أي : بدأ منه ما رأيتم وهو يجدد في كل وقت ما يريد من ذلك كما تشاهدون {ثم يعيده} أي : خلقهم بعد موتهم أحياء ، ولم يقل يعيدهم لرده إلى الخلق {ثم إليه ترجعون} للجزاء فيجزيهم بأعمالهم ، وقرأ أبو عمرو وشعبة بالياء على الغيبة على النسق الماضي والباقون بالتاء على الخطاب أي : إليه ترجعون معنى في أموركم كلها في الدنيا وإن كنتم لقصور النظر تنسبونها للأسباب ، وحساً بعد قيام الساعة ، وهي أبلغ من القراءة الأولى ؛ لأنها أنص على المقصود ، ولما ذكر الرجوع أتبعه ببعض أحواله بقوله تعالى :
{يوم تقوم الساعة} سميت بذلك إشارة إلى عظيم القدرة عليها مع كثرة الخلائق على ما هم فيه من العظماء والكبراء والرؤساء {يبلس المجرمون} أي : يسكت المشركون لانقطاع حجتهم ، فالإبلاس أن يبقى يائساً ساكتاً متحيراً. يقال : ناظرته فأبلس. ومنه الناقة المبلاس أي : التي لا ترغو ، وقال مجاهد : مفتضحون ، وقال قتادة : المعنى : ييأس المشركون من كل خير ، ولما كان الساكت ربما أغناه عن الكلام غيره نفي ذلك بقوله تعالى محققاً له بجعله ماضياً.
{ولم يكن} ومعناه لا يكون {لهم من شركائهم} أي : ممن أشركوهم بالله وهم الأصنام {شفعواء} ينقذونهم مما هم فيه ليتبين لهم غلطهم وجهلهم المفرط في قولهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، ولما ذكر تعالى حال الشفعاء معهم ذكر حالهم مع الشفعاء بقوله تعالى : {وكانوا بشركائهم} أي : خاصة {كافرين} أي : متبرئين منهم بأنهم ليسوا بآلهة ، وقيل : كانوا في الدنيا كافرين بسببهم ،
214
وكتب شفعاء في المصحف بواو قبل الألف كما كتب علماء بني إسرائيل ، وكذلك كتب السوأى بألف قبل الياء إثباتاً للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها.(3/144)
{ويوم تقوم الساعة} أي : ويا له من يوم ، وزاد في تهويله بقوله تعالى : {يومئذٍ يتفرّقون} أي : المؤمنون الذين يفرحون بنصر الله والكافرون فرقة لا اجتماع بعدها ، هؤلاء في عليين وهؤلاء في أسفل سافلين كما قال عز من قائل.
{فأمّا الذين آمنوا} أي : أقروا بالإيمان بأنفسهم {وعملوا} تصديقاً لإقرارهم {الصالحات فهم} أي : خاصة {في روضة} وهي أرض عظيمة جداً منبسطة واسعة ذات ماء غدق ونبات معجب بهيج. هذا أصلها في اللغة ، قال الطبري : ولا نجد أحسن منظراً ولا أطيب نشراً من الرياض اه والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه. والروضة عند العرب : كل أرض ذات نبات وماء. ومن أمثالهم : أحسن من بيضة في روضة ، يريدون بيضة النعامة {يحبرون} قال أبو بكر بن عياش : التيجان على رؤوسهم ، وقال أبو عبيدة : يسرون أي : على سبيل التجدد كل وقت سروراً تشرق له الوجوه وتبسم الأفواه وتزهر العيون فيظهر حسنها وبهجتها ، فتظهر النعمة بظهور آثارها على أسهل الوجوه وأيسرها ، وقال ابن عباس : يكرمون ، وقال قتادة : ينعمون ، وقال الأوزاعي عن يحيى بن كثير : يحبرون هو السماع في الجنة ، وقال الأوزاعي : إذا أخذ في السماع لم يبق في الجنة شجرة إلا وردت ، وقال : ليس أحد من خلق الله أحسن صوتاً من إسرافيل ، فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم وتسبيحهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 212
وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الجنة وما فيها من النعيم وفي آخر القوم أعرابيّ قال يا رسول الله هل في الجنة من سماع ؟
قال : "نعم يا أعرابي إنّ في الجنة نهراً حافتاه الأبكار من كل بيضاء خوصانية يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة" قال الدارمي : فسألت أبا الدرداء بم يتغنين قال : بالتسبيح وروي أن في الجنة لأشجاراً عليها أجراس من فضة فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحاً من تحت العرش فتقع في تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طرباً".
جزء : 3 رقم الصفحة : 212
215
{وأما الذين كفروا} أي : غطوا ما كشفته أنوار العقول {وكذبوا} عناداً {بآياتنا} التي لا أصدق منها ولا أضوأ من أنوارها بما لها من عظمتنا وهو القرآن {ولقاء الآخرة} أي : بالبعث وغيره {فأولئك} أي : البغضاء البعداء {في العذاب} الكامل لا غيره {محضرون} أي : مدخلون لا يغيبون عنه.
{فسبحان الله} أي : سبحوا الله تعالى بمعنى صلوا {حين تمسون} أي : حين تدخلون في المساء وفيه صلاتان : المغرب والعشاء {وحين تصبحون} أي : تدخلون في الصباح وفيه صلاة الصبح. وقوله تعالى.
{وله الحمد في السموات والأرض} اعتراض ومعناه : يحمده أهلهما. وقوله تعالى {وعشياً} عطف على حين وفيه صلاة العصر {وحين تظهرون} أي : تدخلون في الظهيرة وفيه صلاة الظهر ، قال نافع بن الأزرق لابن عباس : هل تجد الصلوات الخمس في مواقيتها في القرآن ؟
فقرأ هاتين الآيتين وقال : جمعت الآيتان الصلوات الخمس ومواقيتها ، وإنما خص هذه الأوقات مع أن أفضل الأعمال أدومها ؛ لأنّ الإنسان لا يقدر أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح لأنه محتاج إلى ما يعيشه من مأكول ومشروب وغير ذلك ، فخفف الله عنه العبادة في غالب الأوقات وأمره بها في أوّل النهار ووسطه وآخره وفي أوّل الليل ووسطه فإذا صلى العبد ركعتي الفجر فكأنما سبح قدر ساعتين ، وكذلك باقي الركعات وهن سبع عشرة مع ركعتي الفجر ، فإذا صلى الإنسان الصلوات الخمس في أوقاتها فكأنما سبح الله سبع عشرة ساعة من الليل والنهار ، بقي عليه سبع ساعات من جميع الليل والنهار وهي مقدار النوم ، والنائم مرفوع عنه القلم فيكون قد صرف جميع أوقاته بالتسبيح في العبادة ، أو بمعنى : نزهوه من السوء بالثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما يتجدد فيها من نعم الله تعالى الظاهرة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 215
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر ، " وعنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال
216(3/145)
مثل ما قال وزاد عليه" وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" وعن جويرية بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها أنه خرج ذات غداة من عندها وكان اسمها برّة فحوّله رسول الله صلى الله عليه وسلم فسماها جويرية فكره أن يقال خرج من عند برّة ، فخرج وهي في مسجدها أي : مصلاها ، فرجع بعد ما تعالى النهار فقال : "مازلت في مجلسك هذا منذ خرجت بعد قالت نعم فقال لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزن بكلماتك لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته".
وعن سعد بن أبي وقاص قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أيعجز أحدكم أن يكتسب في كل يوم ألف حسنة فسأله سائل من جلسائه كيف يكتسب كل يوم ألف حسنة قال : يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة" وفي غير رواية مسلم ويحط بغير ألف ، ولما كان الإنسان عند الإصباح يخرج من سنة النوم إلى سنة الوجود وهي اليقظة ، وعند العشاء يخرج من اليقظة إلى النوم أتبعه الأحياء والإماتة حقيقة بقوله تعالى :
{يخرج الحيّ} كالإنسان والطائر {من الميت} كالنطفة والبيضة {ويخرج الميت} كالبيضة والنطفة {من الحيّ} على عكس ذلك ، أو يعقب الحياة الموت وبالعكس ، وقيل : يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن {ويحيي الأرض} أي : بالمطر وإخراج النبات {بعد موتها} أي : يبسها {وكذلك} أي : ومثل هذا الإخراج {تخرجون} بأيسر أمر من الأرض بعد تفرّق أجسامكم فيها أحياء للبعث والحساب ، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي الميت بكسر الياء المشددة ، والباقون بالسكون ، وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه بفتح التاء قبل الخاء وضم الراء على البناء للفاعل ، والباقون بضمّ التاء وفتح الراء على البناء للمفعول.
{ومن آياته} أي : ومن جملة علامات توحيده وكمال قدرته {أن خلقكم} أي : أصلكم وهو آدم عليه السلام {من تراب} لم يكن له أصلاً اتصاف ما بحياة ، أو أنه خلقكم من نطفة ، والنطفة من الغذاء ، والغداء إنما يتولد من الماء والتراب {ثم} أي : بعد إخراجكم منه {إذا أنتم بشر تنتشرون} في الأرض كقوله تعالى {وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء} (النساء : 1)
جزء : 3 رقم الصفحة : 215
تنبيه : الترتيب والمهلة ههنا ظاهران ، فإنهم يصيرون بشراً بعد أطوار كثيرة ، وتنتشرون حال. وإذا هي الفجائية إلا أنّ الفجائية أكثر ما تقع بعد الفاء ؛ لأنها تقتضي التعقيب. ووجه وقوعها مع ثم بالنسبة إلى ما يليق بالحالة الخاصة أي : بعد تلك الأطوار التي قصها علينا في موضع آخر من كونها نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً مجرداً ثم عظماً مكسواً لحماً فاجأ البشرية والانتشار.
217
{ومن آياته} أي : على ذلك {أن خلق لكم} أي : لأجلكم ليبقى نوعكم بالتوالد وفي تقديم الجار وهو قوله تعالى {من أنفسكم} أي : جنسكم بعد إيجادها من ذات أبيكم آدم عليه السلام {أزواجا} إناثاً هن شفع لكم دلالة ظاهرة على حرمة التزّوج من غير الجنس كالجن ، قال البقاعي : والتعبير بالنفس أظهر في كونها من بدن الرجل أي : فخلق حواء من ضلع آدم {لتسكنوا} مائلين {إليها} بالشهوة والألفة من قولهم : سكن إليه إذا مال وانقطع واطمأن إليه ، ولم يجعلها من غير جنسكم لئلا تنفروا منها ، قال ابن عادل : والصحيح أنّ المراد من جنسكم كما قال تعالى {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} (التوبة : 128)
ويدل عليه قوله تعالى {لتسكنوا إليها} يعني أنّ الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر أي : لا تثبت نفسه معه ولا يميل قلبه إليه. ولما كان المقصود بالسكن لا ينتظم إلا بدوام الإلفة قال تعالى {وجعل} أي : صير بسبب الخلق على هذه الصفة {بينكم مودة} أي : معنى من المعاني يوجب أن لا يحب أحد من الزوجين أن يصل إلى صاحبه شيء يكرهه {ورحمة} أي : معنى يحمل كُلاّ على أن يجتهد للآخر في جلب الخير ودفع الضر ، وقيل : المودّة كناية عن الجماع والرحمة عن الولد تمسكاً بقوله تعالى : {ذكر رحمة ربك عبده زكريا} (مريم ، 2) وقوله تعالى : {ورحمة منا} (مريم ، 1 ، ) {إن في ذلك} أي : الذي تقدم من خلق الأزواج على الحال المذكور وما يتبعه من المنافع {لآيات} أي : دلالات واضحات
218
على قدرة فاعله وحكمته {لقوم يتفكرون} أي : يستعملون أفكارهم على القوانين المحرّرة ويجتهدون في ذلك فيعلمون ما في ذلك من الحكم ، ولما بين تعالى دلائل الأنفس ذكر دلائل الآفاق بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 215(3/146)
ومن آياته} أي : الدالة على ذلك {خلق السموات} على علوها وإحكامها {والأرض} على اتساعها وإتقانها ، وقدّم السماء على الأرض لأنّ السماء كالذكر لها ، ولما أشار إلى دلائل الأنفس والآفاق ذكر ما هو من صفات الأنفس بقوله تعالى : {واختلاف ألسنتكم} أي : لغاتكم من العربية والعجمية وغيرهما ، ونغماتكم وهيآتها ، فلا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس ولا جهارة ولا شدّة ولا رخاوة ولا لكنة ولا فصاحة ولا غير ذلك من صفات النطق وأشكاله وأنتم من نفس واحدة {و} اختلاف {ألوانكم} من أبيض وأسود وأشقر وأسمر وغير ذلك من اختلاف الألوان وأنتم بنو رجل واحد وهو آدم عليه السلام ، والحكمة في ذلك : أنّ الإنسان يحتاج إلى التمييز بين الأشخاص ليعرف صاحب الحق من غيره والعدو من الصديق ليحترز قبل وصول العدو إليه ، وليقبل على الصديق قبل أن يفوته الإقبال عليه ، وذلك قد يكون بالبصر فخلق اختلاف الصور ، وقد يكون بالسمع فخلق اختلاف الأصوات ، وأما اللمس والشم والذوق فلا يفيد فائدة في معرفة العدو والصديق فلا يقع التمييز بين كل واحد بشكله وحليته وصورته ، ولو اتفقت الصور والأصوات وتشاكلت وكانت ضرباً واحداً لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت مصالح كثيرة وربما رأيت توأمين يشتبهان في الحلية فيروك الخطأ في التمييز بينهما ، فسبحان من خلق الخلق على ما أراد وكيف أراد ، وفي ذلك آية بينة حيث ولدوا من أب واحد وتفرعوا من أصل فذ وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله تعالى مختلفون متفاوتون ، ولما كان هذا مع كونه في غاية الوضوح لا يختص بجنس من الخلق دون غيره قال {إن في ذلك} أي : الأمر العظيم العالي الرتبة في بيانه وظهور برهانه {لآيات} أي : دلالات واضحات جداً على وحدانيته تعالى {للعالمين} أي : ذوي العقول والعلم لا يختص به صنف منهم دون صنف من جنّ ولا أنس ولا غيرهم ، فهذا هو حكمة قوله تعالى هنا للعالمين وفيما تقدّم بقوله تعالى : {لقوم يتفكرون} ، (يونس : 24)
وقرأ حفص وحده بكسر اللام ، ولما ذكر تعالى بعض العرضيات اللازمة وهو الاختلاف ذكر الأعراض المفارقة ومن جملتها النوم بالليل والحركة في النهار طلباً للرزق كما قال تعالى :
{ومن آياته} الدالة على القدرة والعلم {منامكم} أي : نومكم ومكانه وزمانه الذي يغلبكم بحيث لا تستطيعون له دفعاً {بالليل والنهار} قيلولة {وابتغاؤكم من فضله} أي : منامكم في الزمانين لاستراحة القوى النفسانية وقوة القوى الطبيعية ، وطلب معاشكم فيهما فإن كثيراً ما يكسب الإنسان بالليل ، أو منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار خلف ، وضم بين الزمانين والفعلين بعاطفين وهما الواوان إشعاراً بأنّ كلاًّ من الزمانين وإن اختص بأحدهما فهو صالح للآخر عند الحاجة ، ويؤيده آيات أخر كقوله تعالى {وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً} (النبأ : 10 ـ 11)
جزء : 3 رقم الصفحة : 215
وقوله تعالى : {وجعلنا آية النهار مبصرة} (الإسراء : 12)
ويكون التقدير هكذا : ومن آياته منامكم وابتغاؤكم بالليل والنهار من فضله. وأخر الابتغاء وقرنه في اللفظ بالفضل إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من كسبه وبحذقه بل من فضل ربه. ولهذا قرن الابتغاء بالفضل في كثير من المواضع منها قوله تعالى {فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} (الجمعة : 10)
وقوله تعالى {ولتبتغوا من فضله} تنبيه : قدم الله تعالى المنام بالليل على الابتغاء بالنهار في الذكر لأنّ الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة ، فلا يبتغي إلا محتاج في الحال أو خائف من المآل {إن في ذلك} أي : الأمر العظيم العلي الرتبة من إيجاد النوم بعد النشاط والنشاط بعد النوم الذي هو الموت الأصغر وإيجاد كل من الملوين بعد إعدامهما ، والجد في الابتغاء بعد المفارقة في التحصيل {لآيات} عديدة على القدرة والعلم لا سيما البعث {لقوم يسمعون} أي : من الدعاة والنصاح سماع تفهم واستبصار فإنّ الحكمة فيه ظاهرة.(3/147)
تنبيه : قال هنا {آيات لقوم يسمعون} وقال تعالى من قبل {لقوم يتفكرون} وقال تعالى {للعالمين} لأنّ المنام بالليل والابتغاء يظن الجاهل أو الغافل أنهما مما يقتضيه طبع الحيوان فلا يظهر لكل أحد كونهما من نعم الله تعالى ، فلم يقل آيات للعالمين ، ولأن الأمرين الأولين وهما اختلاف الألسنة والألوان من اللوازم ، والمنام والابتغاء من الأمور المفارقة ، فالنظر إليهما لا يدوم لزوالهما في بعض الأوقات ولا كذلك اختلاف الألسنة والألوان فإنهما يدومان بدوام الإنسان فجعلهما آيات عليه ، وأما قوله تعالى {لقوم يتفكرون} فإن من الأشياء ما يعلم من غير تفكر. ومنها ما يكفي فيه مجرّد الفكرة ، ومنها ما يحتاج إلى موقف يوقف عليه ومرشد يرشد إليه فيفهمه إذا سمعه من ذلك المرشد ، ومنها ما يحتاج بعض الناس في تفهمه إلى أمثال حسية كالأشكال الهندسية لأنّ خلق الأزواج لا يقع لأحد أنه بالطبع إلا إذا كان جامد الفكرة ، فإذا تفكر علم كون ذلك الخلق آية ، وأمّا المنام والابتغاء فقد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد وقد يحتاج إلى مرشد معين لفكره فقال {لقوم يسمعون} ويجعلون بالهم من كلام المرشد ، ولما ذكر تعالى العرضيات اللازمة للأنفس والمفارقة ذكر العرضيات التي للآفاق بقوله تعالى :
{ومن آياته} الدالة على عظيم قدرته {يريكم البرق} أي : إراءتكم له على هيئآت وكيفيات
219
طال ما شاهدتموها تارة تأتي بما يضر وتارة بما يسر كما قال تعالى {خوفاً} أي : للإخافة من الصواعق المحرقة {وطمعاً} أي : وللإطماع في المياه العذبة {وينزل من السماء ماء} أي : الذي لا يمكن لأحد غيره دعواه ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي ، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي {فيحيي به} أي : بذلك الماء خاصة لأنّ أكثر الأرض لا يسقى بغيره {الأرض} أي : بالنبات الذي هو لها كالروح لجسد الإنسان {بعد موتها} أي : يبسها {إن في ذلك} أي : الأمر العظيم العالي القدر {لآيات} لا سيما على القدرة على البعث {لقوم يعقلون} أي : يتدبرون فيستعملون عقولهم في استنباط أسبابها وكيفية تكوّنها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع.
جزء : 3 رقم الصفحة : 215
تنبيه : كما قدّم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء ، وكما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافع كذلك في تقديم الرعد والبرق على المطر منفعة ، وهي أنّ البرق إذا لاح فالذي لا يكون تحت كن يخاف الابتلال فيستعد له ، والذي له صهريج أو مصنع يحتاج إلى الماء ، أو زرع يسوي مجاري الماء وأيضاً أهل البوادي لا يعلمون البلاد المعشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب دون جانب.
واعلم أن دلائل البرق وفوائده وإن لم تظهر للمقيمين في البلاد فهي ظاهرة للبادين ، فلهذا جعل تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة وآية ، فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى هنا {آيات لقوم يعقلون} وفيما تقدم {لقوم يتفكرون} ؟
أجيب : بأنه لما كان حدوث الولد من الوالد أمراً عادياً مطرداً قليل الاختلاف كان يتطرق إلى الأوهام العامية أنّ ذلك بالطبيعة لأنّ المطرد أقوى إلى الطبيعة من المختلف ، والبرق والمطر ليس أمراً مطرداً غير مختلف بل يختلف إذ يقع ببلدة دون بلدة ، وفي وقت دون وقت ، وتارة يكون قوياً وتارة يكون ضعيفاً ، فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار فقال هو آية لمن كان له عقل وإن لم يتفكر تفكراً تاماً ، ثم ذكر تعالى من لوازم السماء والأرض قيامهما بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 215
{ومن آياته} أي : على تمام القدرة وكمال الحكمة {أن تقوم السماء والأرض بأمره} قال ابن مسعود ، قامتا على غير عمد بأمره أي : بإرادته ، فإنّ الأرض لثقلها يتعجب الإنسان من وقوفها وعدم نزولها وكون السماء في علوها يتعجب من علوها وثباتها من غير عمد وهذا من اللوازم ، فإنّ الأرض لا تخرج عن مكانها الذي هي فيه ، وإنما أفرد السماء والأرض لأنّ السماء الأولى والأرض الأولى لا تقبل النزاع ؛ لأنها مشاهدة مع صلاحية اللفظ بالكل لأنه جنس.
تنبيه : ذكر تعالى من كل باب أمرين أما من الأنفس فقوله تعالى {خلقكم} {وخلق لكم} واستدل بخلق الزوجين ، ومن الآفاق السماء والأرض فقال تعالى {خلق السموات والأرض} (الروم : 22)
ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان واختلاف الألوان ومن عوارض الآفاق البرق والأمطار ، ومن لوازمهما قيام السماء والأرض ؛ لأنّ الواحد يكفي للإقرار بالحق والثاني يفيد الاستقرار ، ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين ، فإنّ قول أحدهما يفيد الظنّ وقول الآخر يفيد تأكيده ولهذا قال إبراهيم عليه السلام {بلى ولكن ليطمئن قلبي} (البقرة : 260)
جزء : 3 رقم الصفحة : 220
فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى هنا {ومن آياته أن تقوم} (الروم : 25)(3/148)
وقال تعالى قبله {ومن آياته يريكم البرق} (الروم : 24)
ولم يقل أن يريكم ليصير كالمصدر بأن ؟
أجيب : بأنّ القيام لما كان غير معتبر أخرج الفعل بأن عن الفعل المستقبل ولم يذكر معه الحروف المصدرية ،
220
فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى ذكر ست دلائل وذكر في أربع منها {إنّ في ذلك لآيات} (يونس : 67)
ولم يذكر في الأوّل وهو قوله تعالى {ومن آياته أن خلقكم من تراب} ولا في الآخر وهو قوله {من آياته أن تقوم السماء والأرض} (الروم : 25)
؟
أجيب : عن ذلك : أما عن الأوّل فلأنّ قوله بعده {ومن آياته أن خلق لكم} (الروم : 21)
أيضاً دليل الأنفس فخلق الأنفس ، وخلق الأزواج من باب واحد على ما تقدّم من أنه تعالى ذكر من كل باب أمرين للتقرير والتوكيد ، فلما قال في الثانية إنّ في ذلك لآيات كان عائداً إليهما ، وأمّا في قيام السماء والأرض فلأنه ذكر في الآيات السماوية أنها آيات للعالمين ولقوم يعقلون وذلك لظهورها ، فلما كان في أوّل الأمر ظاهراً ففي آخر الأمر بعد سرد الأدلة يكون أظهر فلم يميز أحداً في ذلك عن الآخر ، ثم إنه تعالى لما ذكر الدليل على القدرة والتوحيد ذكر مدلوله وهو قدرته على الإعادة بقوله تعالى : {ثم إذا دعاكم} وأشار إلى هوان ذلك القول عنده بقوله عز وجل {دعوة} أي : واحدة {من الأرض} بأن ينفخ إسرافيل في الصور للبعث من القبور فيها فيقول : أيها الموتى اخرجوا {إذا أنتم تخرجون} أي : منها أحياء بعد اضمحلالكم بالموت والبلا فلا تبقى نسمة من الأوّلين والآخرين إلا قامت تنظر كما قال تعالى {ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} (الزمر : 68)
فإن قيل : بم يتعلق من الأرض بالفعل أم بالمصدر ؟
أجيب : بهيهات إذا جاء نهر الله وهو الفعل بطل نهر معقل وهو المصدر ، وثم إما لتراخي زمانه أو لعظم ما فيه. فإن قيل : ما الفرق بين إذا وإذا ؟
أجيب : بأنّ الأولى للشرط والثانية للمفاجأة وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط ، ولذلك نابت مناب الفاء في جواب الأولى.
تنبيه : قال ههنا : إذا أنتم تخرجون وقال تعالى في خلق الإنسان أوّلاً ثم إذا أنتم بشر ، تنتشرون لأنّ هناك يكون خلق وتقدير وتدريج حتى يصير التراب قابلاً للحياة فينفخ فيه روحه فإذا هو بشر ، وأمّا في الإعادة فلا يكون تدريج وتراخ بل يكون بدء خروج فلم يقل ههنا ثم ، ولما ذكر تعالى الآيات التي تدلّ على القدرة على الحشر الذي هو الأصل الآخر والوحدانية التي هي الأصل الأوّل أشار إليهما بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 220
وله من في السموات والأرض} ملكاً وخلقاً {كل له قانتون} قال ابن عباس : كل له مطيعون في الحياة والفناء والموت والبعث وإن عصوا في العبادة ، وقال الكلبي : هذا خاص بمن كان منهم مطيعاً ، ونفس السموات والأرضين له وملكه فكل له منقادون ، فلا شريك له أصلاً ثم ذكر المدلول الآخر بقوله تعالى :
{وهو الذي يبدؤ الخلق} أي : على سبيل التجديد كما تشاهدون ، وأشار إلى تعظيم الإعادة بأداة التراخي فقال {ثم يعيده} أي : بعد الموت للبعث. وفي قوله تعالى {وهو أهون عليه} قولان أحدهما : أنها للتفضيل على بابها ، وعلى هذا يقال : كيف يتصوّر التفضيل والإعادة والبداءة بالنسبة إلى الله تعالى على حدّ سواء ؟
وفي ذلك أجوبة أحدها : إنّ ذلك بالنسبة إلى اعتقاد البشر باعتبار المشاهدة من أنّ إعادة الشيء أهون من اختراعه لاحتياج الابتداء إلى إعمال فكر غالباً وإن كان هذا منتفياً عن الباري سبحانه وتعالى ، فخوطبوا بحسب ما ألفوه. ثانيها : أنّ الضمير في عليه ليس عائداً على الله تعالى إنما يعود على الخلق أي : والعود أهون على الخلق أي : أسرع ؛ لأنّ البداءة فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن صارت إنساناً ، والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات فكأنه قيل : وهو أقصر عليه وأيسر وأقل انتقالاً ، والمعنى : يقومون بصيحة واحدة فيكون أهون عليهم يعني : أن يقوموا نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً إلى أن يصيروا
221
رجالاً ونساء ، وهي رواية الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس. ثالثها : أنّ الضمير في عليه يعود على المخلوق بمعنى : والإعادة أهون على المخلوق أي : إعادته شيئاً بعدما أنشأه ، هذا في عرف المخلوقين فكيف ينكرون ذلك في جانب الله تعالى والثاني : أنّ أهون ليس للتفضيل بل هي صيغة بمعنى هين كقولهم : الله أكبر أي : كبير ، وهي رواية العوفيّ عن ابن عباس ، وقد يجئ أفعل بمعنى الفاعل كقول الفرزدق :
*إنّ الذي سمك السماء بنى لنا ** بيتاً دعائمه أعز وأطول*(3/149)
أي : عزيزة طويلة وعود الضمير على الباري تعالى أولى ليوافق الضمير في قوله تعالى {وله المثل} أي : الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامّة والحكمة الشاملة. قال ابن عباس : هو أنه ليس كمثله شيء ، وقال قتادة : هو أنه لا إله إلا هو ، قال البيضاوي : ومن فسره بلا إله إلا الله أراد به الوصف بالوحدانية {الأعلى} أي : الذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه ، ولما كان الخلق لقصورهم مقيدين بما لهم به نوع مشاهدة قال {في السموات والأرض} أي : اللتين خلقهما ولم يستعصيا عليه فكيف يستعصي عليه شيء فيهما {وهو} أي : وحده {العزيز} أي : الذي إذا أراد شيئاً كان له في غاية الانقياد كائناً ما كان {الحكيم} أي : الذي إذا أراد شيئاً أتقنه فلم يقدر غيره إلى التوصل إلى بعض شيء منه ، ولا تتمّ حكمة هذا الكون على هذه الصورة إلا بالبعث بل هي الحكمة العظمى ليصل كل ذي حق إلى حقه بأقصى التحرير. ولما أبان من هذا أنه تعالى المنفرد بالملك بشمول العلم وتمام القدرة وكمال الحكمة اتصل بحسن أمثاله وإحكام مقاله وفعاله قوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 220
ضرب} أي : جعل {لكم} بحكمته أيها المشركون في أمر الأصنام وبيان الإبطال من يشرك بها وفساد قوله بأجلى ما يكون من التقرير {مثلاً} مبتدأ {من أنفسكم} التي هي أقرب الأشياء إليكم ، ثم بين المثل بقوله تعالى : {هل لكم} أي : يا من عبدوا مع الله غيره {مما} أي : من بعض ما {ملكت أيمانكم} أي : من العبيد والإماء الذين هم بشر مثلكم وعمم في النفي الذي هو المراد بالاستفهام بزيادة الجار بقوله تعالى : {من شركاء} أي : في حالة من الحالات يسوغ لكم بذلك أن تجعلوا لله شركاء {في ما رزقناكم} من الأموال وغيرها مع ضعف ملككم فيه فائدة {في} مقطوعة عن {ما} {فأنتم} أي : يا معاشر الأحرار والعبيد {فيه} أي : الشيء الذي وقعت فيه الشركة {سواء} فيكون أنتم وهم شركاء يتصرّفون فيه كتصرّفكم مع أنهم بشر مثلكم. فإن قيل : أيُّ : فرق بين مِنْ الأولى والثانية والثالثة في قوله تعالى من أنفسكم ؟
أجيب : بأن الأولى : للابتداء كأنه قال : أخذ مثلاً وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي من أنفسكم ولم يبعد ، والثانية : للتبعيض ، والثالثة : مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي ، ثم بين المساواة بقوله تعالى : {تخافونهم} أي : معاشر السادة في التصرّف في ذلك الشيء المشترك {كخيفتكم أنفسكم} أي : كما تخافون بعض من تشاركونه ممن يساويكم
222
في الحرية والعظمة أن تتصرّفوا في الأمر المشترك بشيء لا يرضيه وبدون إذنه ، وظهر أنّ حالكم في عبيدكم مثل له فيما أشركتموهم به موضح لبطلانه ، فإذا لم ترضوا هذا لأنفسكم وهو أن تستوي عبيدكم معكم في الملك فكيف ترضونه لخالقكم في هذه الشركاء التي زعمتموها فتسوّونها به وهي من أضعف خلقه أفلا تستحيون {كذلك} أي : مثل هذا التفصيل العالي {نفصل الآيات} أي : نبينها ، فإنّ التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها {لقوم يعقلون} أي : يتدبرون هذه الدلائل بعقولهم ، والأمر لا يخفى بعد ذلك إلا على من لا عقل له.
{بل اتبع الذين ظلموا} أي : أشركوا فإنهم وضعوا الشيء في غير موضعه.
فعل الماشي في الظلام {أهواءهم} وهي ما تميل إليه نفوسهم {بغير علم} أي : جاهلين لا يكفهم ، شيء فإن العالم إذا اتبع هواه ربما ردعه علمه ، ثم بين تعالى أنّ ذلك بإرادته بقوله تعالى : {فمن يهدي من أضل الله} أي : الذي له الأمر كله أي : لا يقدر أحد على هدايته {وما لهم من ناصرين} أي : مانعين يمنعونهم من عذاب الله لا من الأصنام ولا من غيرها ، ولما تحرّرت الأدلة وانتصبت الأعلام أقبل تعالى على خلاصة خلقه إيذاناً بأنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره بقوله سبحانه.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 220
فأقم وجهك} أي : قصدك كله {للدين} أي : أخلص دينك لله قاله سعيد بن جبير ، وقال غيره : سدّد عملك ، والوجه ما يتوجه إليه ، وقيل : أقبل بكلك على الدين ، عبر بالوجه عن الذات كقوله تعالى {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص : 88)
أي : ذاته بصفاته. وقوله تعالى {حنيفاً} حال من فاعل أقم أو مفعوله أو من الدين ، ومعنى حنيفاً أي : مائلاً إليه مستقيماً عليه ومل عن كل شيء لا يكون في قلبك شيء آخر ، وهذا قريب من معنى قوله تعالى {ولا تكوننّ من المشركين} وقوله تعالى {فطرت الله} أي : خلقته منصوب على الإغراء أو المصدر بما دلّ عليه ما بعدها وهي بتاء مجرورة ، وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء ، والباقون بالتاء ، ثم أكد ذلك بقوله تعالى : {التي فطر الناس} قال ابن عباس : خلق الناس {عليها} وهو دينه وهو التوحيد. قال صلى الله عليه وسلم "ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" فقوله على الفطرة على العهد الذي أخذه عليهم بقوله تعالى : {ألست بربكم قالوا بلى} (الأعراف : 172)(3/150)
وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار وهي الحنيفية التي وقعت الخلقة عليها ، وإن عبد غيره قال الله تعالى {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله} (لقمان : 25)
وقال {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (الزمر : 3)
ولكن لا عبرة بالإيمان الفطريّ في أحكام الدنيا وإنما يعتبر الإيمان الشرعيّ المأمور به ، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين ، وقيل : الآية مخصوصة بالمؤمنين وهم الذين فطرهم الله تعالى على الإسلام ، روي عن عبد الله بن المبارك قال : معنى الحديث : أن كل مولود يولد على فطرته أي : على خلقته التي جبل عليها في علم الله من السعادة والشقاء ، وكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليه وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها ، فمن علامات الشقاوة أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين فيحملانه لشقائه على اعتقاده دينهما ، وقيل : معنى الحديث : أنّ كل مولود يولد في مبدأ الفطرة على الخلقة أي : الجبلة السليمة والطبع المتهيء لقبول الدين ، فلو ترك عليها لاستمرّ على
223
لزومها ؛ لأنّ هذا الدين موجود حُسنه في العقول وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره لآفة من النشوء والتقليد ، فمن يسلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره. ذكر هذه المعاني أبو سليمان الخطابي في كتابه ، ولما كانت سلامة الفطرة أمراً مستمرّاً قال تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 220
لا تبديل لخلق الله} أي : الملك الأعلى الذي لا كفء له فلا يقدر أحد أن يغيره ، فمن حمل الفطرة على الدين قال معناه : لا تبديل لدين الله ، فهو خبر بمعنى النهي أي : لا تبدّلوا دين الله. قاله مجاهد وإبراهيم. والمعنى : إلزموا فطرة الله أي : دين الله واتبعوه ولا تبدّلوا التوحيد بالشرك ، ومن حملها على الخلقة قال : معناه لا تبديل لخلق الله أي : ما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة ، فلا يصير السعيد شقياً ولا الشقي سعيداً ، وقال عكرمة : معناه تحريم إخصاء البهائم أي : في غير المأكول وفي المأكول الكبير ، أمّا المأكول الصغير فإنه يجوز ، ويلحق بالخصي المحرّم كل تغيير محرّم كالوشم {ذلك} أي : الشأن العظيم {الدين القيم} أي : المستقيم الذي لا عوج فيه توحيد الله تعالى {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أن ذلك هو الدين المستقيم لعدم تدبرهم. وقوله تعالى :
{منيبين} أي : راجعين {إليه} تعالى فيما أمر به ونهى عنه حال من فاعل أقم ، قال الزمخشريّ : فإن قلت : لم وحدّ الخطاب أوّلاً ثم جمع ؟
قلت : خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّلاً ، وخطاب الرسول خطاب لأمّته مع ما فيه من التعظيم للإمام ، ثم جمع بعد ذلك للبيان والتلخيص {واتقوه} أي : خافوه فإنكم وإن عبدتموه فلا تأمنوا أن تزيغوا عن سبيله {وأقيموا الصلاة} أي : داوموا عليها وعلى أدائها في أوقاتها {ولا تكونوا من المشركين} أي : لا تكونوا ممن يدخل في عدادهم بمواددةٍ أو معاشرةٍ أو عملٍ تشابهونهم فيه ، فإنه من تشبه بقوم فهو منهم ، وهو عامّ في كل مشرك سواء كان بعبادة صنمٍ أونارٍ أو غير ذلك. وقوله تعالى.
{من الذين} بدل من المشركين بإعادة الجار {فرّقوا دينهم} أي : الذي هو الفطرة الأولى ، فعبد كل قوم منهم شيئاً ودانوا ديناً غير دين مَن سواهم وهو معنى {وكانوا شيعاً} أي : فرقاً متخالفين كل واحدة منهم تتشايع من دان بدينها على من خالفهم حتى كفّر بعضهم بعضاً واستباحوا الدماء والأموال ، فعلم قطعاً أنهم كلهم ليسوا على الحق ، وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الفاء وتخفيف الراء ، والباقون بغير ألف وتشديد الراء ، فعلى القراءة الأولى فارقوا أي : تركوا دينهم الذي أمروا به. ولما كان هذا أمر يتعجب من وقوعه زاده عجباً بقوله تعالى : استئنافاً {كل حزب} أي : منهم {بما لديهم} أي : عندهم {فرحون} أي : مسرورون ظناً منهم أنهم صادفوا الحق وفازوا به دون غيرهم ، ولما بين تعالى التوحيد بالدليل وبالمثل بين أنّ لهم حالة يعترفون بها وإن كانوا ينكرونها في وقت وهي حالة الشدّة بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 220
224
أي : قحط وشدّة {دعوا ربهم} أي : الذي لم يشركه في الإحسان إليهم أحد {منيبين} أي : راجعين من جميع ضلالاتهم {إليه} أي : دون غيره علماً منهم بأنه لا فرج لهم عند شيء غيره ، قال الرازي : في اللوامع في أواخر العنكبوت : وهذا دليل على أنّ معرفة الرب في فطرة كل إنسان وأنهم إن غفلوا في السرّاء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضرّاء {ثم إذا أذاقهم منه رحمة} أي : خلاصاً من ذلك الضرّ {إذا فريق منهم بربهم} أي : المحسن إليهم دائماً المجدّد لهم هذا الإحسان من هذا الضر {يشركون} أي : فاجأ فريق منهم الإشراك بربهم الذي عافاهم ، فإذا الفجائية وقعت جواب الشرط ؛ لأنها كالفاء في أنها للتعقيب ، ولا تقع أوّل كلام ، وقد تجامعها الفاء زائدة ، فإن قيل : ما الحكمة في قوله ههنا إذا فريق منهم وقال في العنكبوت {فلما نجاهم إلى البرّ إذا هم يشركون} (العنكبوت : 65)(3/151)
جزء : 3 رقم الصفحة : 224
ولم يقل فريق ؟
أجيب : بأنّ المذكور هناك غير معين وهو ما يكون من هول البحر ، والمتخلص منه بالنسبة إلى الخلق قليل ، والذي لا يشرك منهم بعد الخلاص فرقة منهم فهم في غاية القلة ، فلم يجعل المشركين فريقاً لقلة مَنْ خرج من الشرك ، وأمّا المذكور ههنا الضرّ مطلقاً فيتناول ضرَ البحر والأمراض والأهوال ، والمتخلص من أنواع الضرّ خلق كثير بل جميع الناس قد يكونون قد وقعوا في ضرّ ما فتخلصوا منه ، والذي لا يبقى بعد الخلاص مشركاً من جميع الأنواع إذا جمع فهم خلق عظيم وهو جميع المسلمين ، فإنهم تخلصوا من ضرّ ولم يبقوا مشركين ، وأمّا المسلمون فلم يتخلصوا من ضرّ البحر بأجمعهم ، فلما كان الناجي من الضرّ المؤمن جمعاً كثيراً سُمّي الباقي فريقاً. وقوله تعالى :
{ليكفروا بما آتيناهم} يجوز أن تكون اللام فيه لام كي وأن تكون لام الأمر ، ومعناه التهديد كقوله تعالى {اعملوا ما شئتم} ثم خاطب هؤلاء الذين فعلوا هذا خطاب
225
تهديد بقوله تعالى : {فتمتعوا فسوف تعلمون} عاقبة تمتعكم في الآخرة وفي هذا التفات من الغيبة.
{أم أنزلنا عليهم سلطاناً} أي : دليلاً واضحاً قاهراً أو ذا سلطان أي : ملك معه برهان ، فقوله تعالى {فهو يتكلم} على الأوّل كلاماً مجازياً وعلى الثاني كلاماً حقيقياً ، وعلى كلا الحالين هو جواب للاستفهام الذي تضمنته أم المنقطعة {بما} أي : بصحة ما {كانوا به يشركون} أي : فيأمرهم بالإشراك بحيث لا يجدوا بداً من متابعته لتزول عنهم الملامة ، وهذا الاستفهام بمعنى الإنكار أي : ما أنزلنا بما يقولون سلطاناً ، قال ابن عباس : حجة وعذراً ، وقال قتادة : كتاباً يتكلم بما كانوا به يشركون أي : ينطق بشركهم ، ولما بين تعالى حال المشرك الظاهر شركه بيّن تعالى حال المشرك الذي دونه وهو مَنْ تكون عبادته للدنيا بقوله تعالى :
{وإذا} معبراً بأداء التحقيق إشارة إلى أنّ الرحمة أكثر من النقمة ، وأسند الفعل إليه في مقام العظمة إشارة إلى سعة جوده فقال {أذقنا الناس رحمة} أي : نعمة من خصب وكثرة مطر وغنى ونحوه لا سبب لها إلا رحمتنا {فرحوا بها} أي : فرح بطر مطمئنين من زوالها ناسين شكر من أنعم بها ، ولا ينبغي أن يكون العبد كذلك. فإن قيل : الفرح بالرحمة مأمور به قال تعالى : {بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} (يونس ، 58) وههنا ذمّهم على الفرح بالرحمة ؟
أجيب : بأنه هناك فرحوا برحمة الله من حيث أنها مضافة إلى الله وههنا فرحوا بنفس الرحمة حتى لو كان المطر من غير الله لكان فرحهم به مثل فرحهم إذا كان من الله تعالى {وإن تصبهم سيئة} أي : شدّة من جدب وقلة مطر وفقر ونحوه {بما قدّمت أيديهم} من السيئات {إذا هم يقنطون} أي : ييأسون من رحمة الله وهذا خلاف وصف المؤمنين فإنهم يشكرونه عند النعمة ويرجونه عند الشدّة ، وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر النون بعد القاف ، والباقون بالفتح.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 224
أو لم يروا} أي : يعلموا {أن الله يبسط الرزق} أي : يوسعه {لمن يشاء} امتحاناً {ويقدر} أي : يضيق لمن يشاء ابتلاء ، وهذا شأنه دائماً مع الشخص الواحد في أوقات متعاقبة متباعدة ومتقاربة ومع الأشخاص ولو في الوقت الواحد ، فلو اعتبروا حال قبضه سبحانه لم يبطروا ، ولو اعتبروا حال بسطه لم يقنطوا بل كان حالهم الصبر في البلاء ، والشكر في الرخاء ، والإقلاع عن السيئة التي نزل بسببها القضاء ، ولما لم تغن عن أحد منهم في استجلاب الرزق قوّته وغزارة عقله ودقة مكره وكثرة حيله ، ولا ضرّه ضعفه وقلة عقله وعجز حيلته وكان ذلك أمراً عظيماً ومنزعاً مع شدّة ظهوره وجلالته خفياً دقيقاً قال بعضهم :
*كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ** وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا*
أشار سبحانه إلى عظمته بقوله مؤكداً لأنّ عملهم في شدّة اهتمامهم بالسعي في الدنيا عمل مَنْ يظنّ أنّ تحصيله إنما هو على قدر الاجتهاد في الأسباب {إن في ذلك} أي : الأمر العظيم من الإقتار في وقت والإغناء في آخر والتوسيع على شخص والتقتير على آخر ، والأمن من زوال الحاضر من النعم مع تكرّر المشاهد للزوال في النفس والغير واليأس من حصولها عند المحنة مع كثرة وجدان الفرج وغير ذلك من أسرار آلائه {لآيات} أي : دلالات واضحات على الوحدانية لله
226
تعالى وتمام العلم وكمال القدرة وأنه لا فاعل في الحقيقة إلا هو لكن {لقوم} أي : ذوي همم وكفاية القيام بما يحق لهم أن يقوموا به {يؤمنون} أي : يوجدون هذا الوصف ويديمون تجديده كل وقت لما يتواصل عندهم من قيام الأدلة بإدامة التأمّل والإمعان والتفكر والاعتماد في الرزق على من قال {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} (القمر : 17)(3/152)
أي : من طالب علم فيعان عليه ، فلا يفرحون بالنعم إذا حصلت خوفاً من زوالها إذا أراد القادر ذلك ، ولا يغتمون بها إذا زالت رجاء في إقبالها فضلاً من الرازق ؛ لأنّ أفضل العبادة انتظار الفرج بل همهم بما عليهم من وظائف العبادة واجبها ومندوبها ، ومعرضون عما سوى ذلك قد وكلوا أمر الرزق إلى من تولى أمره وفرغ من قسمه وقام بضمانه وهو القدير العليم ، ولما أفهم ذلك عدم الاكتراث بالدنيا لأنّ الاكتراث بها لا يزيدها ، والتهاون بها لا ينقصها قال تعالى مخاطباً لأعظم المتأهلين لتنفيذ أوامره :
{فآت} يا خير الخلق {ذا القربى} أي : القرابة {حقه} أي : من البرّ والصلة ؛ لأنه أحق الناس بالبر وصلة الرحم جوداً وكرماً {والمسكين} سواء كان ذا قرابة أم لا {وابن السبيل} وهو المسافر كذلك من الصدقة ، وأمّة النبيّ صلى الله عليه وسلم تبع له في ذلك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 224
تنبيه : عدم ذكر بقية الأصناف يدلّ على أنّ ذلك في صدقة التطوّع ، ودخل الفقير من باب أولى لأنه أسوأ حالاً من المسكين ، فإن قيل : كيف تعلق قوله تعالى {فآت ذا القربى حقه} بما قبله حتى جيء بالفاء ؟
أجيب : بأنه لما ذكر أنّ السيئة أصابتهم بما قدّمت أيديهم أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك ، وقد احتج أبو حنيفة بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب ، وعند الشافعي رضي الله عنه لا نفقة بالقرابة إلا على الولد والوالدين. قاس سائر القرابة على ابن العمّ ؛ لأنه لا ولادة بينهم ، ولما أمر بالإيثار رغب فيه بقوله تعالى : {ذلك} أي : الإيثار العالي الرتبة {خير للذين يريدون وجه الله} أي : ذاته أو جهته وجانبه أي : يقصدون بمعروفهم إياه خالصاً لوجهه كقوله تعالى {إلا ابتغاء وجه ربه الاعلى} أي : يقصدون جهة التقرّب إلى الله تعالى لا جهة أخرى ، والمعنيان متقاربان ولكن الطريقة مختلفة {وأولئك} أي : العالو الرتبة لغناهم عن كل فان {هم المفلحون} أي : الفائزون الذين لا يشوب فلاحهم شيء ، وأمّا غيرهم فخائب : أمّا من لم ينفق فواضح ، وأما من أنفق على وجه الرياء فقد خسر ماله وأبقى عليه وباله كما قال تعالى :
{وما آتيتم من ربوا} أي : مال على وجه الربا المحرّم بزيادة في المعاملة أو المكروه بعطية يتوقع بها مزيد مكافأة ، وكان هذا مما حرم على النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى {ولا تمنن تستكثر} (المدير : 6)
أي : لا تعط وتطلب أكثر مما أعطيته تشريفاً له ، وكره لعامّة الناس فسمي باسم المطلوب من الزيادة في المعاملة فالربا ربوان : فالحرام : كل قرض يؤخذ فيه أكثر منه أو يجرّ منفعة ، والذي ليس بحرام أن يستدعي بهديته أو بهبته أكثر منها ، وقرأ ابن كثير بقصر الهمزة بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا ، والباقون بمدّها {ليربو} أي : يزيد ويكثر ذلك {في أموال الناس} أي : يحصل فيه زيادة تكون أموال الناس ظرفاً لها فهو كناية عن أنّ الزيادة التي يأخذها المرابي من أموالهم لا يملكها أصلاً ، وقرأ نافع بتاء الخطاب بعد اللام مضمومة وسكون الواو ، والباقون بالياء التحتية مفتوحة وفتح الواو {فلا يربو} أي : يزكو وينمو فلا ثواب فيه {عند الله} أي : الملك الأعلى الذي له الغنى المطلق وصفات الكمال ، وكل ما لا يربو عند الله فهو ممحوق لا وجود له فمآله إلى فناء وإن كثر {يمحق
227
الله الربوا ويربى الصدقات} (البقرة : 276)
جزء : 3 رقم الصفحة : 224
ولما ذكر ما زيادته نقص أتبعه ما نقصه زيادة بقوله {وما آتيتم} أي : أعطيتم {من زكاة} أي : صدقة ، وعبر عنها بذلك ليفيد الطهارة والزيادة أي : تطهرون بها أموالكم من الشبه ، وأبدانكم من موادّ الخبث ، وأخلاقكم من الغلّ والدنس ، ولما كان الإخلاص عزيزاً أشار إلى عظمته بتكريره بقوله عز وجل {تريدون} أي : بها {وجه الله} أي : عظمة الملك الأعلى ، فيعرفون من حقه ما يتلاشى عندهم كل ما سواه فيخلصون له {فأولئك هم المضعفون} أي : ذوو الإضعاف الذين ضاعفوا أموالهم في الدنيا بسبب ذلك بالحفظ والبركة ، وفي الآخرة بكثرة الثواب عند الله من عشر أمثال إلى ما لا حصر له.
ونظير المضعف المقوي والموسر لذي القوّة واليسار ، ولما وضح بهذا أنه لا زيادة إلا فيما يزيده الله ولا تخير إلا فيما يختاره الله بين تعالى ذلك بطريق لا أوضح منه بقوله تعالى : (3/153)
{الله} أي : بعظيم جلاله لا غيره {الذي خلقكم} أي : أوجدكم على ما أنتم عليه من التقدير لا تملكون شيئاً {ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم} أي : ممن أشركتم بالله {من يفعل من ذلكم} مشيراً إلى علوّ رتبته بأداة البعد وخطاب الكل ، ولما كان الاستفهام الإنكاريّ التوبيخي في معنى النفي قال مؤكداً له مستغرقاً لكل ما يمكن منه ولو قلّ جدّاً : {من شيء} أي : يستحق هذا الوصف الذي تطلقونه عليه ، ولما لزمهم قطعاً أن يقولوا : لا وعزتك ما لهم ولا لأحد منهم فعل شيء من ذلك ، قال تعالى معرضاً عنهم منزهاً لنفسه الشريفة : {سبحانه} أي : تنزه تنزهاً لا يحيط به الوصف من أن يكون محتاجاً إلى شريك {وتعالى} أي : علوّاً لا تصل إليه العقول {عما يشركون} في أن يفعلوا شيئاً من ذلك.
تنبيه : يجوز في خبر الجلالة الكريمة وجهان : أظهرهما : أنه الموصول بعدها ، والثاني : أنه الجملة من قوله تعالى {هل من شركائكم} والموصول صفة والراجع من ذلكم لأنه بمعنى من أفعاله ، ومن الأولى والثانية يفيدان شيوع الحكم في جنس الشركاء والأفعال ، والثالثة مزيدة لتعميم النفي ، فكل منهما مستقلة بتأكيد لتعجيز الشركاء ، وقرأ حمزة والكسائي بتاء الخطاب ، والباقون بالياء التحتية ، ولما بين لهم تعالى من حقارة شركائهم ما كان حقهم به أن يرجعوا فلم يفعلوا أتبعه ما أصابهم به على غير ما كان في أسلافهم عقوبة لهم على قبيح ما ارتكبوا استعظاماً للتوبة بقوله تعالى :
{ظهر الفساد} أي : النقص في جميع ما ينفع الخلق {في البر} بالقحط والخوف وقلة المطر ونحو ذلك {والبحر} بالغرق وقلة الفوائد من الصيد ونحوه من كل ما كان يحصل منه. وقلة المطر كما تؤثر في البرّ تؤثر في البحر فتخلوا أجواف الأصداف من اللؤلؤ ، وذلك لأنّ الصدف إذا جاء المطر يرتفع على وجه الماء وينفتح فما وقع فيه من المطر صار لؤلؤاً وقالوا : إذا انقطع القطر عميت دوابّ البحر ، وقيل : المراد بالبرّ البوادي والمفاوز ، وبالبحر المدائن والقرى التي على المياه الجارية ، قال عكرمة : العرب تسمي المطر بحراً تقول : أجدب البرّ وانقطعت مادّة البحر ، ثم بين سببه بقوله تعالى : {بما كسبت أيدي الناس} أي : بسبب شؤم ذنوبهم ومعاصيهم كقوله تعالى {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} (الشورى : 30)
جزء : 3 رقم الصفحة : 224
قال ابن عباس : الفساد في البرّ قتل
228
أحد بني آدم أخاه ، وفي البحر غصب الملك الجبار السفينة ، قال الضحاك : كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة ، وكان ماء البحر عذباً ، وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم ، فلما قتل قابيل هابيل اقشعرّت الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحاً زعاقاً ، وقصد الحيوانات بعضها بعضا ، وقال قتادة : هذا قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم امتلأت الأرض ظلماً ، فلما بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم رجع راجعون من الناس ، وقيل : أراد بالناس كفار. مكة ولما ذكر تعالى علية البدائية ثنى بعلية الجزائية بقوله تعالى :
{ليذيقهم بعض الذي عملوا} كرماً وحلماً ويعفو عن كثير إمّا أصلاً ورأساً ، وإمّا عن المعاجلة به ، ويؤخره إلى وقت ما في الدنيا أو الآخرة ، وقرأ قنبل بالنون بعد اللام ، والباقون بالياء التحتية ، ثم ثلث بالعلة الغائية بقوله تعالى : {لعلهم يرجعون} أي : عما هم عليه ، ولما بين تعالى حالهم بظهور الفساد في أحوالهم بسبب فساد أقوالهم بين لهم ضلال أمثالهم وأشكالهم الذين كانت أفعالهم كأفعالهم بقوله تعالى : لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
جزء : 3 رقم الصفحة : 224
{قل} أي : لهؤلاء الذين لا همّ لهم سوى الدنيا {سيروا في الأرض} فإنّ سيركم الماضي لكونه لم تصحبه عبرة عدمٌ {فانظروا} نظرَ اعتبار {كيف كان عاقبة الذين من قبل} أي : من قبل أيامكم لتروا منازلهم ومساكنهم خالية فتعلموا أنّ الله تعالى أذاقهم وبال أمرهم وأوقعهم في حفائر مكرهم {كان أكثرهم مشركين} أي : فلذلك أهلكناهم ولم تغن عنهم كثرتهم وأنجينا المؤمنين وما ضرّتهم قلتهم ، ولما نهى الله تعالى الكفار عما هم عليه أمر المؤمنين بما هم عليه وخاطب النبيّ صلى الله عليه وسلم ليعلم المؤمن فضيلة ما هو مكلف به فإنه أمر به أشرف الأنبياء بقوله تعالى :
{فأقم وجهك للدين القيم} أي : المستقيم وهو دين الإسلام {من قبل أن يأتي يوم} أي : عظيم {لا مردّ له} أي : لا يقدر أن يرده أحد. وقوله تعالى {من الله} يجوز أن يتعلق بيأتي أو بمحذوف يدل عليه المصدر أي : لا يردّه من الله أحد. والمراد به يوم القيامة لا يقدر أحد على رده من الله ، وغيره عاجز عن رده فلا بد من وقوعه {يومئذ} أي : إذ يأتي {يصدّعون} أي : يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير ، ثم أشار إلى التفرّق بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 229(3/154)
من كفر} أي : منهم {فعليه كفره} أي : وبال كفره {ومن عمل صالحاً} أي : بالإيمان وما يترتب عليه {فلأنفسهم يمهدون} أي : يوطئون منازلهم في القبور وفي الجنة بل وفي الدنيا فإن الله تعالى يعزهم بعز طاعته.
تنبيه : أظهر قوله تعالى صالحاً ولم يضمر لئلا يتوهم عود الضمير على من كفر وبشارة بأنّ أهل الجنة كثير وإن كانوا قليلاً ؛ لأنّ الله تعالى هو مولاهم فهو مزكيهم. وأفرد الشرط وجمع الجزاء في قوله تعالى {فلأنفسهم يمهدون} (الروم : 44)
إشارة إلى أنّ الرحمة أعم من الغضب فتشمله وأهله وذريته ، وفيه ترغيب في العمل من غير نظر إلى مساعد ، وبأنه ينفع نفسه وغيره لأنّ المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وأقل ما ينفع والديه وشيخه في ذلك العمل. وقوله تعالى :
{ليجزي} أي : الله سبحانه وتعالى الذي أنزل هذه السورة لبيان أنه ينصر أولياءه لإحسانه لأنه مع المحسنين ، ولذلك اقتصر هنا على ذكرهم بقوله تعالى : {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي : تصديقاً لإيمانهم {من فضله} علة ليمهدون أو ليصدعون ، والاقتصار على جزاء الموصوفين للإشعار بأنه المقصود بالذات والاكتفاء عن فحوى قوله تعالى {إنه لا يحب الكافرين} فإن فيه إثبات البغض لهم فيعذبهم ، والمحبة للمؤمنين فيثيبهم ، وتأكيدُ اختصاص
229
الصلاح المفهوم من ترك ضميرهم إلى التصريح بهم تعليل لهم ، وقوله تعالى {من فضله} دال على أنّ الإثابة بمحض الفضل. ولما ذكر تعالى ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر أنه بسبب العمل الصالح لأن الكريم لا يذكر لإحسانه عوضاً ويذكر لأضداده سبباً لئلا يتوهم به الظلم قال تعالى :
{ومن آياته} أي : دلالاته الواضحة {أن يرسل الرياح مبشرات} أي : بالمطر كما قال تعالى {بشراً بين يدي رحمته} أي : قبل المطر ، وقيل : مبشرات بصلاح الأهوية والأحوال فإن الرياح لو لم تهب لظهر الوباء والفساد ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الريح بالإفراد على إرادة الجنس ، والباقون بالجمع وهي الجنوب والشمال والصبا ؛ لأنها رياح الرحمة ، وأمّا الدبور فريح العذاب ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً" وقوله تعالى {وليذيقكم} أي : بها {من رحمته} أي : من نعمته من المياه العذبة والأشجار الرطبة وصحة الأبدان وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا خالقها ، معطوف على مبشرات على المعنى كأنه قيل : ليبشركم وليذيقكم ، أو على علة محذوفة دل عليها مبشرات ، أو على يرسل بإضمار فعل معلل دل عليه أي : وليذيقكم أرسلها {ولتجري الفلك} أي : السفن في جميع البحار وما جرى مجراها عند هبوبها ، وإنما زاد {بأمره} لأن الريح قد تهب ولا تكون موافقة فلا بدّ من إرساء السفن والاحتيال لحبسها ، وربما عصفت وأغرقتها {ولتبتغوا} أي : تطلبوا {من فضله} من رزقه بالتجارة في البحر {ولعلكم} أي : ولتكونوا إذا فعل بكم ذلك على رجاء من أنكم {تشكرون} على ما أنعم عليكم من نعمه ودفع عنكم من نقمه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 229
تنبيه : قال تعالى في ظهر الفساد {ليذيقهم بعض الذي عملوا} (الروم : 41)
وقال ههنا {وليذيقكم من رحمته} فخاطبهم ههنا تشريفاً ولأنّ رحمته قريب من المحسنين وحينئذ فالمحسن قريب فيخاطب ، والمسيء بعيد فلم يخاطب ، وقال هناك {بعض الذي عملوا} فأضاف ما أصابهم إلى أنفسهم وأضاف ما أصاب المؤمن إلى رحمته فقال تعالى : {من رحمته} لأنّ الكريم لا يذكر لرحمته وإحسانه عوضاً فلا يقول : أعطيتك لأنك فعلت كذا بل يقول : هذا لك مني ، وأما ما فعلت من الحسنة فجزاؤه بعد عندي. وأيضاً فلو قال : أرسلت لسبب فعلكم لا يكون بشارة عظيمة ، وأما إذا قال : من رحمته كان غاية البشارة ، وأيضاً فلو قال : بما فعلتم لكان ذلك موهماً لنقصان ثوابهم في الآخرة ، وأما في حق الكفار فإذا قال : بما فعلتم أنبأ عن نقصان عقابهم وهو كذلك وقال هناك {لعلهم يرجعون} وقال هنا : {ولعلكم تشكرون} فالواو إشارة إلى توفيقهم للشكر في النعم ، وعطف على النعم قوله تعالى :
{ولقد أرسلنا} أي : بما لنا من القوة. وقال تعالى {من قبلك رسلاً} تنبيهاً على أنه خاتم النبيين بتخصيص إرسال غيره بما قبل زمانه وقال {إلى قومهم} إعلاماً بأنّ أمر الله إذا جاء لا ينفع فيه قريب ولا بعيد {فجاؤهم بالبينات} فانقسم قومهم إلى مسلمين ومجرمين {فانتقمنا} أي : فكانت معاداة المسلمين للمجرمين فينا سبباً ؛ لأنا انتقمنا بما لنا من العظمة {من الذين أجرموا} أي : أهلكنا الذين كذبوهم لإجرامهم وهو قطع ما أمرناهم بوصله.
230(3/155)
ولما كان محط الفائدة إلزامه سبحانه لنفسه بما تفضل به قدمه تعجيلاً للسرور وتطييباً للنفوس فقال تعالى {وكان} أي : على سبيل الثبات والدوام {حقاً علينا} أي : مما أوجبناه بوعدنا الذي لا خلف فيه {نصر المؤمنين} أي : العريقين في ذلك الوصف في الدنيا والآخرة ، ولم يزل هذا دأبنا في كل ملة على مدى الدهر فليعتدّ هؤلاء لمثل هذا وليأخذوا لمثل ذلك أهبة لينظروا من المغلوب وهل ينفعهم شيء ، روى الترمذي وحسنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يردّ عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا قوله تعالى {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} قال البقاعي : فالآية من الاحتباك أي : وهو أن يؤتى بكلامين يحذف من كل منهما شيء يكون نظمهما بحيث يدل ما أثبت في كلٍ على ما حذف من الآخر ، فحذف أوّلاً الإهلاك الذي هو أثر الخذلان لدلالة النصر عليه ، وثانياً الإنعام لدلالة الانتقام عليه ، ثم نبه تعالى على كمال قدرته فهو الناصر للمؤمنين بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 229
الله} أي : وحده {الذي يرسل} مرة بعد أخرى {الرياح} مضطربة هائجة بعد أن كانت ساكنة {فتثير سحاباً} أي : تزعجه وتنشره {فيبسطه} بعد اجتماعه {في السماء} أي : جهة العلو {كيف يشاء} في أيّ ناحية شاء قليلاً تارة كمسير ساعة وكثيراً أخرى كمسير أيام على حسب إرادته واختياره لا مدخل فيه لطبيعة ولا غيرها {ويجعله} إذا أراد {كسفاً} أي : قطعاً غير متصل بعضها ببعض اتصالاً يمنع نزول الماء ، وقرأ ابن عامر بسكون السين بخلاف عن هشام ، والباقون بفتحها {فترى} بسبب إرسال الله له أو بسبب جعله ذا مسامّ وفروج يا من هو من أهل الرؤية ، أو يا أشرف خلقنا الذي لا يعرف هذا حق معرفته سواه {الودق} أي : المطر {يخرج من خلاله} أي : السحاب الذي هو اسم جنس في حالتي الاتصال والانفصال {فإذا أصاب} أي : الله {به} أي : بالودق {من} أي : أرض من {يشاء} ونبه على أن ذلك فضل منه لا يجب عليه لأحد شيء أصلاً بقوله تعالى : {من عباده} أي : الذين لم تزل عبادته واجبة عليهم جديرون بملازمة شكره والخضوع لأمره {إذا هم يستبشرون} أي : يظهر عليهم البشر وهو السرور الذي تشرق له البشرة حال الإصابة ظهوراً بالغاً عظيماً بما يرجونه مما يحدث عنه من الأثر النافع من الخصب والرطوبة واللين ، ثم بين تعالى عجزهم بقوله تعالى :
{وإن} أي : والحال أنهم {كانوا} في الزمن الماضي {من قبل أن ينزل عليهم} أي : المطر ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بسكون النون وتخفيف الزاي ، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي. وقوله تعالى {من قبله} من باب التكرير والتأكيد كقوله تعالى {فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها} (الحشر : 17)
ومعنى التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول بعدما استحكم بأسهم. وقوله تعالى {لمبلسين} إشارة إلى أنه تمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اهتمامهم بذلك ، وقبل الأولى ترجع إلى المطر والثانية إلى إنشاء السحاب فلا تأكيد.
{فانظر إلى آثار رحمت الله} والرحمة : هي الغيث وأثرها هو النبات ، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بألف بعد الثاء المثلثة ، والباقون بغير ألف ورسمت رحمت هذه مجرورة ، فوقف ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء والباقون بالتاء {كيف يحيى} أي : الله
231
{الأرض} بإخراج النبات {بعد موتها} أي : يبسها {إن ذلك} أي : القادر العظيم الشأن الذي قدر على إحياء الأرض {لمحيي الموتى} كلها من الحيوانات والنباتات أي : ما زال قادراً على ذلك كما قال تعالى {وهو على كل شيء} من ذلك وغيره {قدير} لأنّ نسبة القدرة منه سبحانه وتعالى إلى كل ممكن على حد سواء ، ولما بين أنهم عند توقف الخير يكونون آيسين وعند ظهوره يكونون مستبشرين بين أن تلك الحالة أيضاً لا يدومون عليها بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 229
{ولئن أرسلنا} أي : بعد وجود هذا الأثر الحسن {ريحاً} عقيماً {فرأوه} أي : الأثر لأنّ الرحمة هي الغيث وأثرها هو النبات أو الزرع لدلالة السياق عليه {مصفراً} قد بدل وأخذ في التلف من شدّة يبس الريح إمّا بالحرّ أو البرد ، وقيل : رأوا السحاب لأنه إذا كان مصفراً لم يمطر ، ويجوز أن يكون الضمير للريح من التعبير بالسبب عن المسبب.(3/156)
تنبيه : اللام موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط. وقوله تعالى {لظلوا} أي : لصاروا {من بعده} أي : اصفراره {يكفرون} أي : بيأسهم من روح الله ، جواب سدّ مسدّ الجزاء ولذلك فسر بالاستقبال. تنبيه : سمى النافعة رياحاً والضارّة ريحاً لوجوه : أحدها : أنّ النافعة كثيرة الأنواع كثيرة الأفراد فجمعها لأن في كل يوم وليلة تهب نفحات من الرياح النافعة ولا تهب الريح الضارّة في أعوام بل الضارّة لا تهب في الدهور. ثانيها : أنّ النافعة لا تكون إلا رياحاً وأما الضارة فنفخة واحدة تقبل كريح السموم. ثالثها : جاء في الحديث أنّ ريحاً هبت فقال عليه الصلاة والسلام : "اللهمّ اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً" إشارة إلى قوله تعالى {فأرسلنا عليهم الريح العقيم} (الذاريات : 41)
جزء : 3 رقم الصفحة : 232
وقوله تعالى {ريحاً صرصراً} إلى قوله {تنزع الناس} (القمر : 19 ـ 20)
ولما علم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وجوه الأدلة ووعد وأوعد لم يزدهم دعاؤه إلا فرارا وكفراً وإرصاداً قال تعالى :
{فإنك لا تسمع الموتى} أي : ليس في قدرتك إسماع الذين لا حياة لهم فلا نظر ولا سمع ، أو موتى القلوب إسماعاً ينفعهم لأنه مما اختص به الله تعالى ، وهؤلاء مثل
232
الأموات ؛ لأنّ الله تعالى قد ختم على مشاعرهم {ولا تسمع الصم} أي : الذين لا سماع لهم {الدعاء} إذا دعوتهم. ولما كان الأصم قد يحس بدعائك إذا كان مقبلاً بحاسة بصره قال تعالى {إذا ولوا} وذكر الفعل ولم يقل ولت إشارة إلى قوّة التولي لئلا يظنّ أنه أطلق على المجانبة مثلاً ولهذا قال تعالى {مدبرين} وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية في الوصل ، والباقون بالتحقيق وإذا. وقف حمزة وهشام على الدعاء وأبدلا الهمزة ألفاً مع المدّة والتوسط والقصر.
{وما أنت بهادي العمي} أي : بموجد لهم هداية {عن ضلالتهم} إذا ضلوا عن الطريق ، وقرأ حمزة بتاء الخطاب مفتوحة وسكون الهاء والعمي بنصب الياء ، والباقون بالباء الموحدة مكسورة وفتح الهاء والعمي بالخفض. تنبيه : قد جعل الله تعالى الكافر بهذه الصفات وهو أنه شبهه أولاً بالميت ، وإرشاد الميت محال والمحال أبعد من الممكن ، ثم بالأصم وإرشاد الأصم صعب فإنه لا يسمع الكلام وإنما يفهم بالإشارة والإفهام بالإشارة صعب ، ثم بالأعمى وإرشاد الأعمى أيضاً صعب فإنك إذا قلت له مثلاً : الطريق عن يمينك فإنه يدور إلى يمينه لكنه لا يبقى عليه بل يتحير عن قريب ، فإرشاد الأصم أصعب. ولهذا تكون المعاشرة مع الأعمى أسهل من المعاشرة مع الأصم الذي لا يسمع لأنّ غايته الإفهام وليس كل ما يفهم بالكلام يفهم بالإشارة فإنّ المعدوم والغائب لا إشارة إليه ، فبدأ أولاً بالميت لأنه أعلى ثم بالأدون منه وهو الأصم ، وقيده بقوله تعالى : {إذا ولوا مدبرين} ليكون أدخل في الامتناع لأنّ الأصم ، وإن كان يفهم فإنما يفهم بالإشارة فإذا ولى لا يكون نظره إلى المشير ، فامتنع إفهامه بالإشارة أيضاً ثم بأدنى منه وهو الأعمى لما مرّ. ثم قال تعالى.
{إن} أي : ما {تسمع} أي : سماع إفهام وقبول {إلا من يؤمن بآياتنا} أي : القرآن فأثبت للمؤمن استماع الآيات فلزم أن يكون المؤمن حياً سميعاً بصيراً لأن المؤمن ينظر في البراهين ويسمع زواجر الوعظ فتظهر منه الأفعال الحسنة ويفعل ما يجب عليه {فهم مسلمون} أي : مطيعون كما قال تعالى عنهم {وقالوا سمعنا وأطعنا} (البقرة : 285)
جزء : 3 رقم الصفحة : 232
ولما أعاد تعالى دليل الآفاق بقوله تعالى : {الله الذي يرسل الرياح} أعاد دليلاً من دلائل الأنفس وهو خلق الآدمي وذكر أحواله بقوله تعالى :
{الله} أي : الجامع لصفات الكمال {الذي خلقكم من ضعف} أي : ماء ذي ضعف لقوله تعالى {ألم نخلقكم من ماء مهين} {ثم جعل من بعد ضعف} آخر وهو ضعف الطفولية {قوة} أي : قوّة الشباب {ثم جعل من بعد قوّة ضعفاً} أي : ضعف الكبر {وشيبة} أي : شيب الهرم وهي بياض في الشعر يحصل أوّله في الغالب في السنة الثالثة والأربعين وهو أوّل سنّ الاكتهال ، والأخذُ في النقص بالفعل بعد الخمسين إلى أن يزيد النقص في الثالثة والستين وهو أوّل سنّ الشيخوخة ، ويقوى الضعف إلى ما شاء الله تعالى ، وقرأ عاصم وحمزة بخلاف عن حفص بفتح الضاد في الثلاثة وهو لغة تميم ، والباقون بالضم وهو لغة قريش ، ولما كانت هذه هي العادة الغالبة وكان الناس متفاوتين فيها وكان من الناس من يطعن في السن وهو قويّ وأنتج ذلك كله لابدّ أن يكون التصرف بالاختيار مع شمول العلم وتمام القدرة قال تعالى {يخلق ما يشاء} أي : من هذا وغيره {وهو العليم} بتدبير خلقه {القدير} على ما يشاء.
233(3/157)
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى هنا {وهو العليم القدير} وقوله تعالى من قبل {وهو العزيز الحكيم} والعزة إشارة إلى كمال القدرة والحكمة إشارة إلى كمال العلم فقدم القدرة هناك على العلم ؟
أجيب : بأنّ المذكور هناك الإعادة بقوله تعالى : {وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم} (الروم : 27)
لأنّ الإعادة بقوله تعالى : كن فيكون ، فالقدرة هناك أظهر وههنا المذكور الإبداء وهو أطوار وأحوال والعلم بكل حال حاصل فالعلم ههنا أظهر. ثم إنّ قوله تعالى {وهو العليم القدير} فيه تبشير وإنذار ؛ لأنه إذا كان عالماً بأحوال الخلق يكون عالماً بأحوال المخلوق فإن عملوا خيراً علمه ، وإن عملوا شرّاً علمه ، ثم إذا كان قادراً وعلم الخير أثاب وإذا علم الشرّ عاقب ، ولما كان العلم بالأحوال قبل الإثابة والعقاب اللذين هما بالقدرة والعلم قدم العلم ، وأمّا الآية الأخرى فالعلم بتلك الأحوال قبل العقاب فقال : {وهو العزيز الحكيم} ، ولما ثبتت قدرته تعالى على البعث وغيره عطف على قوله أول السورة {ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون}.
{ويوم تقوم الساعة} أي : القيامة سميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا ، أو لأنها تقع بغتة ، أو إعلاماً بتيسيرها على الله تعالى ، وصارت علماً عليها بالغلبة كالكوكب للزهرة {يقسم} أي : يحلف {المجرمون} أي : الكافرون.
جزء : 3 رقم الصفحة : 232
وقوله تعالى {ما لبثوا} جواب قوله تعالى يقسم وهو على المعنى إذ لو حكي قولهم بعينه لقيل ما لبثنا أي : في الدنيا {غير ساعة} استقلوا أجل الدنيا لما عاينوا في الآخرة ، وقال مقاتل والكلبي : ما لبثوا في قبورهم غير ساعة كما قال تعالى {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} (النازعات : 46)
وكما قال تعالى {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} (الأحقاف : 35)
وقيل : فيما بين فناء الدنيا والبعث. وفي حديث رواه الشيخان : "ما بين النفختين أربعون" وهو محتمل للساعات والأيام والأعوام {كذلك} أي : مثل ذلك الصرف عن حقائق الأمور إلى شكوكها {كانوا} في الدنيا كوناً هو كالجبلة لهم {يؤفكون} أي : يصرفون عن الحق في الدنيا ، وقال مقاتل والكلبي : كذبوا في قولهم غير ساعة كما كذبوا في الدنيا أن لا بعث ، والمعنى : أنّ الله تعالى أراد أن يفضحهم فحلفوا على شيء تبين لأهل الجمع أنهم كاذبون فيه ، ثم ذكر إنكار المؤمنين عليهم بقوله تعالى :
{وقال الذين أوّتوا العلم والإيمان} وهم الملائكة والأنبياء والمؤمنين {لقد لبثتم في كتاب الله} أي : فيما كتب الله لكم في سابق علمه وقضائه ، أو في اللوح المحفوظ ، أو فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث فيكون في كتاب الله متعلق بلبثتم ، وقال مقاتل وقتادة : فيه تقديم وتأخيره معناه : وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان لقد لبثتم {إلى يوم البعث} و(في) ترد بمعنى (الباء) فردّوا ما قال هؤلاء الكفار وحلفوا عليه وأطلعوهم على الحقيقة ، ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم {فهذا يوم البعث} الذي أنكرتموه ، وقراء نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة عند التاء المثناة ، والباقون بالإدغام.
تنبيه : سبب اختلاف الفريقين أنّ الموعود بوعد إذا ضرب له أجل إن علم أنّ مصيره إلى النار
234
وهو الكافر يستقل مدّة اللبث ويختار تأخير الحشر والإبقاء في القبر ، وإن علم أنّ مصيره إلى الجنة وهو المؤمن فيستكثر المدة ولا يريد تأخيرها فيختلف الفريقان ، وفي هذه الفاء قولان : أظهرهما : أنها عاطفة هذه الجملة على لبثتم ، وقال الزمخشريّ : هي جواب شرط مقدّر أي : إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث أي : فقد تبين بطلان ما قلتم ، ولما كان التقدير قد أتى فقد تبين أنه كما كنا به عالمين فلو كان لكم نوع من العلم لصدقتمونا في إخبارنا به فنفعكم ذلك الآن ، عطف عليه قوله تعالى {ولكنكم كنتم} أي : كوناً هو كالجبلة لكم في إنكاركم له {لا تعلمون} أي : ليس لكم علم أصلاً لتفريطكم في طلب العلم من أبوابه والتوصل إليه بأسبابه فلذلك كذبتم به فاستوجبتم جزاء ذلك التكذيب اليوم ، ولما كانت الآيات دالة على أنّ هذه الدار دار عمل وأنّ الآخرة دار جزاء وأنّ البرزخ حائل بينهما فلا يكون في واحدة منهما ما للأخرى ، تسبب عن ذلك قوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 232(3/158)
فيومئذ} أي : إذ يقع ذلك ويقول الذين أوتوا العلم تلك المقالة {لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم} في إنكارهم له {ولا هم يستعتبون} أي : لا يطلب منهم الرجوع إلى ما يرضي الله تعالى كما دعوا إليه في الدنيا ، من قولهم : استعتبني فلان فأعتبته أي : استرضاني فأرضيته ، وقرأ الكوفيون لا ينفع بالياء التحتية لأنّ المعذرة بمعنى العذر ولأنّ تأنيثها غير حقيقي وقد فصل بينهما ، والباقون بالتاء الفوقية ، ثم أشار تعالى إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار وأنه لم يبق من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم تقصير بقوله تعالى :
{ولقد ضربنا} أي : جعلنا {للناس في هذا القرآن} أي : في هذه السورة وغيرها {من كل مثل} أي : معنى غريب هو أوضح وأثبت من أعلام الجبال في عبارة هي أرشق من سائر الأمثال ، فإن طلبوا شيئاً آخر غير ذلك فهو عناد محض ؛ لأنّ من كذب دليلاً حقاً لا يصعب عليه تكذيب الدلائل بل لا يجوز للمستدل أن يشرع في دليل آخر بعد ذكره دليلاً جيداً مستقيماً ظاهراً لا إشكال عليه وعانده الخصم وهذا من العالم فكيف بالنبيّ صلى الله عليه وسلم
فإن قيل : الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذكروا أنواعاً من الدلائل ؟
أجيب : بأنهم سردوها سرداً ثم قرروا فرداً فرداً كمن يقول : الدليل عليه من وجوه الأوّل : كذا ، والثاني : كذا ، والثالث : كذا ، وفي مثل هذا عدم الالتفات إلى عناد المعاند ؛ لأنه يريد تضييع الوقت كي لا يتمكن المستدل من الإتيان بجميع ما وعد من الدليل فتنحط درجته ، وإلى هذا أشار بقوله تعالى : {ولئن} اللام لام قسم {جئتهم} يا أفضل الخلق {بآية} مثل العصا واليد لموسى عليه السلام {ليقولنّ الذين كفروا} منهم {إن} أي : ما {أنتم إلا مبطلون} أي : أصحاب أباطيل ، فإن قيل : لم وحد في قوله تعالى {جئتهم} وجمع في قوله تعالى {إن أنتم} ؟
أجيب : بأنّ ذلك لنكتة وهي أنه تعالى أخبر في موضع آخر فقال : {ولئن جئتهم بكل آية} أي : جاءت بها الرسل فقال الكفار : ما أنتم أيها المدّعون الرسالة كلكم إلا كذا. وقال الجلال المحلي : إن أنتم أي : محمد وأصحابه ، وأمّا الذين آمنوا فيقولون نحن بهذه الآية مؤمنون.
{كذلك} أي : مثل هذا الطبع العظيم {يطبع الله} أي : الذي له العظمة والكمال {على قلوب الذين لا يعلمون} توحيد الله ، فإن قيل : من لا يعلم شيئاً أي : فائدة في الإخبار عن الطبع على قلبه ؟
أجيب : بأنّ معناه أنّ من لا يعلم الآن فقد طبع على قلبه من قبل. ثم إنه تعالى سلّى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 232
فاصبر} أي : على إنذارهم مع هذا الجفاء
235
والردّ بالباطل والأذى فإنّ الكل فعلنا لم يخرج منه شيء عن إرادتنا {إنّ وعد الله} أي : الذي له الكمال كله بنصرك وإظهار دينك على الدين كله وفي كل ما وعد به {حق} أي : ثابت جدّاً يطابقه الواقع كما يكشف عنه الزمان وتأتي به مطايا الحدثان. ولما كان التقدير فلا تعجل عطف عليه قوله تعالى {ولا يستخفنك} أي : يحملنك على الخفة ويطلب أن تخف باستعجال النصر خوفاً من عواقب تأخيره وتنفيرك عن التبليغ {الذين لا يوقنون} أي : أذى الذين لا يصدقون بوعدنا من البعث والحشر وغير ذلك تصديقاً ثابتاً في القلب بل هم إما شاكون وأدنى شيء يزلزلهم كمن يعبد الله على حرف ، أو مكذبون فهم بالغون في العداوة والتكذيب حتى إنهم لا يصدّقون في وعد الله بنصر الروم على فارس كأنهم على ثقة وبصيرة من أمرهم في أنّ ذلك لا يكون. فإذا صدق الله وعده في ذلك بإظهاره عن قرب علموا كذبهم عياناً ، وعلموا إن كان لهم علم أنّ الوعد بالساعة لإقامة العدل على الظالم والعود بالفضل على المحسن كذلك يأتي وهم صاغرون ويحشرون وهم داخرون.
{وسيعلم الذين ظلموا أي : منقلب ينقلبون} فقد انعطف آخر السورة على أوّلها واتصل به اتصال القريب بالقريب. وها أنا أسأل الله تعالى القريب المجيب أن يغفر ذنوب من كتب هذا وهو محمد الشربيني الخطيب ويفعل ذلك بوالديه وأولاده ومشايخه وكل محب له وحبيب ، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشريّ عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك يسبح الله بين السماء والأرض وأدرك ما صنع في يومه وليلته" حديث موضوع رواه الثعلبيّ في تفسيره والله تعالى أعلم بالصواب.
236
جزء : 3 رقم الصفحة : 232(3/159)
سورة لقمان
مكية أو إلا {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام} الآيتينوهي أربع أو ثلاث وثلاثون آية ، وخمسمائة وثمانوأربعون كلمة ، وألفان ومائة وعشرة أحرف
{بسم الله} أي : الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً {الرحمن} الذي شملت نعمته سائر بريته {الرحيم} بأوليائه فخصهم بمعرفته قوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 236
{ألم} تقدّم الكلام عليه في أوّل سورة البقرة ، وقيل : إنه أشار بذلك إلى أن الله الملك الأعلى أرسل جبريل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم بوحي ناطق من الحكم والأحكام بما لم ينطق به من قبله إمام ولا يلحقه في ذلك نبي مدى الأيام فهو المبدأ وهو الختام ، وإلى ذلك أومأ بتعبيره بأداة البعد في قوله تعالى :
237
{تلك} أي : الآيات التي هي من العلوّ والعظمة بمكان {آيات الكتاب} أي : الجامع لجميع أنواع الخير {الحكيم} بوضع الأشياء في حواق مراتبها فلا يستطاع نقص شيء من إبرامه ، ولا معارضة شيء من كلامه الدال ذلك على تمام علم منزله وشمول عظمته وقدرته ، والإضافة بمعنى من ، وقوله تعالى :
{هدى ورحمة} بالرفع وهي قراءة حمزة خبر مبتدأ مضمر هي أو هو ، وقرأ الباقون بالنصب على الحال من آيات والعامل ما في اسم الإشارة من معنى الفعل. وقال تعالى {للمحسنين} إشارة إلى أنّ رحمة الله قريب من المحسنين فإنه تعالى قال في البقرة : {ذلك الكتاب} ولم يقل الحكيم وههنا قال : الحكيم ؛ لأنه لما زاد ذكر وصف في الكتاب زاد ذكراً من أحواله فقال {هدى ورحمة} وقال هناك {هدى للمتقين} فقوله تعالى هدى في مقابلة قوله تعالى الكتاب ، وقوله تعالى : ورحمة في مقابلة قوله تعالى : الحكيم ، ووصف الكتاب بالحكيم على معنى ذي الحكمة كقوله تعالى في عيشة راضية أي : ذات رضا. وقوله تعالى هناك : للمتقين وقوله تعالى هنا للمحسنين لأنه لما ذكر أنه هدى ولم يذكر شيئاً آخر قال للمتقين أي : يهدي به من يتقي الشرك والعناد ، وههنا زاد قوله تعالى ورحمة فقال للمحسنين كما قال تعالى : {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (يونس : 26) فناسب زيادة
جزء : 3 رقم الصفحة : 237
قوله تعالى ورحمة ولأنّ المحسن يتقي وزيادة ثم وصف المحسنين بقوله تعالى :
{الذين يقيمون الصلاة} أي : يجعلونها كأنها قائمة بسبب إتقان جميع ما أمر به فيها وندب إليه ، ودخل فيها الحج لأنه لا يعظم البيت في كل يوم خمس مرّات إلا معظم له بالحج فعلاً أو قوّة {ويؤتون الزكاة} أي : كلها فدخل فيها الصوم ؛ لأنه لا يؤّدي زكاة الفطر إلا من صامه فعلاً أو قوّة. ولما كان الإيمان أساس هذه الأركان وكان الإيمان بالبعث جامعاً لجميع أنواعه وحاملاً على سائر وجوه الإحسان قال تعالى {وهم بالآخرة} أي : التي تقدّم أنّ المجرمين عنها غافلون {هم يوقنون} أي : يؤمنون بها إيمان موقن فهو لا يفعل شيئاً ينافي الإيمان ، ولا يغفل عنه طرفة عين ، فهو في الذورة العليا من ذلك فهو يعبد الله تعالى كأنه يراه ، فآية البقرة بداية وهذه نهاية ، ولما كانت هذه الخلال أمهات الأفعال الموجبة للكمال وكانت مساوية من وجه لآية البقرة ختمها بختامها بعد أن زمها بزمامها فقال.
{أولئك} أي : العالو الرتبة الحائزون من منازل القرب أعظم رتبة {على هدى} أي : متمكنون منه تمكن المستعلي على الشيء ، وقال {من ربهم} تذكيراً لهم بأنه لولا إحسانه لما وصلوا إلى شيء ليلزموا تمريغ الجباه على الأعتاب خوفاً من الإعجاب {وأولئك هم المفلحون} أي : الظافرون بكل مراد ، لما بين سبحانه وتعالى حال من تحلى بهذا الحال فترقى إلى حلية أهل الكمال بين حال أضدادهم بقوله تعالى :
{ومن الناس من يشتري لهو الحديث} أي : ما يلهي عما يعني كالأحاديث التي لا أصل لها والأساطير التي لا اعتبار فيها والمضاحك وفضول الكلام ، فإن قيل : ما معنى إضافة اللهو إلى الحديث ؟
أجيب : بأنّ معناها التبيين وهي الإضافة بمعنى من وأن يضاف الشيء إلى ما هو منه كقوله : جبة خزَ وباب ساجٍ ، والمعنى : من يشترى اللهو من الحديث لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره فبين بالحديث ، والمراد بالحديث الحديث المنكر كما جاء في الحديث :
238
"الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش" ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى مِنْ التبعيضية ، كأنه قيل : ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو.
قال الكلبي ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة كان يتجر فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم ويحدّث بها قريشاً ويقول : إنّ محمداً يحدّثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدّثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة ، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقال مجاهد : يعني شراء المغنيات والمغنين. ووجه الكلام على هذا التأويل : من يشتري ذات أو ذا لهو الحديث.
جزء : 3 رقم الصفحة : 237(3/160)
وقيل : كان النضر يشتري المغنيات ولا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينة فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ويقول : هذا خير لك مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه ، وعن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهنّ وأثمانهنّ حرام" وفي مثل هذا نزلت الآية وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت" ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن ثمن الكلب وكسب المزمار" وقال مكحول : من اشترى جارية ضرابة ليمسكها لغنائها وضربها مقيماً عليه حتى يموت لم أصل عليه إن الله تعالى ليقول {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} الآية ، وعن الحسن وغيره قالوا : لهو الحديث هو الغناء ، والآية نزلت فيه ومعنى يشتري لهو الحديث يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن ، وقال أبو الصهباء : سألت ابن مسعود عن هذه الآية فقال : هو الغناء والله الذي لا إله إلا هو يردّدها ثلاث مرّات. وقال إبراهيم النخعيّ : الغناء ينبت النفاق في القلب ، قال وكان أصحابنا يأخذون بأفواه السكك يخرقون الدفوف ، وقال ابن جريج : لهو الحديث هو الطبل ، وقال الضحاك : هو الشرك ، وقال قتادة : هو كل لهو ولعب ، وقيل : الغناء منفدة للمال مسخطة للرّب مفسدة للقلب {ليضلّ عن سبيل الله} أي : الطريق الواضح الموصل للملك الأعلى المستجمع لصفات الكمال ضدّ ما كان عليه المحسنون من الهدى ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء قبل الضاد من الضلالة بمعنى ليثبت على ضلاله ، والباقون بضمها ، ونكر قوله تعالى {بغير علم} ليفيد السلب العامّ لكل نوع من أنواع العلم أي : لأنه لا علم بشيء من حال السبيل ولا حال غيرها علماً يستحق إطلاق العلم عليه ، فإن قيل : ما معنى قوله تعالى بغير علم ؟
أجيب : بأنه تعالى لما جعله مشترياً لهو الحديث بالقرآن قال يشتري بغير علم بالتجارة بغير بصيرة بها حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق. ونحوه قوله تعالى {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} (البقرة : 16)
أي : وما كانوا مهتدين بالتجارة وبصراء بها {ويتخذها} أي : السبيل التي لا أشرف منها مع ما ثبت له من الجهل المطلق {هزواً} أي : مهزوّا بها ، وقرأ حمزة والكسائي
239
وحفص بنصب الذال عطفاً على يضلّ ، والباقون بالرفع على يشتري ، وسكن حمزة زاي هزواً وضمها الباقون ، ولما انفتح هذا الشقاء الدائم بينه بقوله تعالى : {أولئك} أي : هؤلاء البعداء البغضاء {لهم عذاب مهين} لإهانتهم الحق باستثناء الباطل عليه ، ولما كان الإنسان قد يكون غافلاً فإذا نبه انتبه نبه سبحانه وتعالى على أن هذا الإنسان المنهمك في أسباب الخسران لا يزداد على ممرّ الزمان إلا مفاجأة لكل ما يرد عليه من البيان بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 237
وإذا تتلى عليه آياتنا} أي : تتجدّد عليه تلاوتها أي : تلاوة القرآن من كل تال كان {ولى} أي : بعد السماع مطلق التولية سواء كان على المجانبة أو مدبراً {مستكبراً} أي : طالباً للكبر موجداً له بالإعراض عن الطاعة {كأن} أي : كأنه لم {يسمعها} فهو لم يزل على حالة الكبر {كأن في أذنيه وقراً} أي : صمماً يستوي معه تكليم غيره له وسكوته (تنبيه) : جملتا التشبيه حالان من ضمير ولى ، أو الثانية بيان للأولى. وقرأ نافع بسكون الذال ، والباقون بضمنها ، ولما تسبب عن ذلك استحقاقه لما يزيل كبره وعظمته قال تعالى {فبشره} أي : أعلمه {بعذاب أليم} أي : مؤلم ، وذكر البشارة تهكم به وهو النضر بن الحارث كما مرّت الإشارة إليه ، ولما بين تعالى حال المعرض عن سماع الآيات بين حال من يقبل على تلك الآيات بقوله تعالى :
{إن الذين آمنوا} أي : أوجدوا الإيمان {وعملوا} أي : تصديقاً له {الصالحات لهم جنات} أي : بساتين {النعيم} أي : نعيم جنات فعكس للمبالغة كما أنّ لهؤلاء العذاب المهين ، ووحد العذاب وجمع الرحمة إشارة إلى أنّ الرحمة واسعة أكثر من الغضب ، ولما كان ذلك قد لا يكون دائماً وكان السرور بشيء قد ينقطع قال تعالى :
{خالدين فيها} أي : دائماً ، وقوله تعالى {وعد الله} أي : الذي لا شيء أجل منه مصدر مؤكد لنفسه ؛ لأنّ قوله تعالى جنات في معنى وعدهم الله تعالى ذلك وقوله تعالى {حقاً} مصدر مؤكد لغيره أي : لمضمون تلك الجملة الأولى وعاملهما مختلف ، فتقدير الأولى : وعد. الله ذلك وعداً. وتقدير الثانية : أحق ذلك حقاً فأكد نعيم الجنات ولم يؤكد العذاب المهين {وهو العزيز} أي : فلا يغلبه شيء {الحكيم} أي : الذي لا يضع شيئاً إلا في محله ، ولما ختم بصفتي العزة وهي غاية القدرة و الحكمة وهي ثمرة العلم دل عليهما بإتقان أفعاله بقوله تعالى : (3/161)
{خلق السموات} على علوّها وكبرها وضخامتها {بغير عمد} وقوله تعالى {ترونها} فيه وجهان : أحدهما : أنه راجع إلى السموات إذ ليست بعمد أصلاً وأنتم ترونها كذلك بغير عمد ، الثاني : أنه راجع إلى العمد ومعناه بغير عمد مرئية ، وعلى كلا الوجهين هي ثابتة لا تزول وليس ذلك إلا بقدرة قادر مختار ، تنبيه : أكثر المفسرين أنّ السموات مبسوطة كصحف مستوية لقوله تعالى {يوم نطوي السماء كطيّ السجلّ للكتب} (الأنبياء : 104)
وقال بعضهم : إنها مستديرة وهو قول جميع المهندسين والغزالي رحمه الله تعالى حيث قال : ونحن نوافقهم في ذلك فإنّ لهم عليّ دليلاً من المحسوسات ومخالفة الحس لا تجوز ، وإن كان في الباب خبر يؤّول بما يحتمله فضلاً عن أن ليس في القرآن والخبر ما يدل على ذلك صريحاً بل فيه ما يدل على الاستدارة كقوله تعالى {كل في فلك يسبحون}
240
(الأنبياء : 33)
جزء : 3 رقم الصفحة : 237
والفلك اسم لشيء مستدير بل الواجب أنّ السموات سواء كانت مستديرة أو صفيحة مستقيمة هي مخلوقة لله تعالى باختيار لا بإيجاب وطبع ، ولما ذكر تعالى العمد المقلة ذكر الأوتاد المقرّة بقوله تعالى : {وألقى في الأرض} أي : التي أنتم عليها جبالاً {رواسي} والعجب أنها من فوقها وجميع الرواسي التي تعرفونها تكون من تحت تثبتها عن {أن تميد} أي : تتحرك {بكم} كما هو شأن ما على ظهر الماء {وبث} أي : فرّق {فيها من كل دابة} وقوله تعالى :
{وأنزلنا} أي : بما لنا من القوّة {من السما ماء} فيه التفات عن الغيبة ، ولما تسبب عن ذلك تدبير الأقوات وكان من آثار الحكمة التابعة للعلم دل عليه بقوله تعالى : {فأنبتنا} أي : بما لنا من العلوّ في الحكمة {فيها} أي : الأرض بخلط الماء بترابها {من كل زوج} أي : صنف من النبات متشابه {كريم} بما له من البهجة والنضرة الجالبة للسرور ، وفي هذا دليل على عزته التي هي كمال القدرة ، وحكمته التي هل كمال العلم مهدبه قاعدة التوحيد وقرّرها بقوله تعالى :
{هذا} أي : الذي تشاهدونه كله {خلق الله} أي : الذي له جميع الكمال فلا كفء له ، فإن ادعيتم ذلك {فأروني ماذا خلق الذين من دونه} أي : غيره ، بكتهم بأنّ هذه الأشياء العظيمة مما خلقه تعالى وأنشأه ، فأروني ما خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة.
تنبيه : ما استفهام إنكار مبتدأ و(ذا) بمعنى الذي بصلته خبره ، وأروني معلق عن العمل ، وما بعده سدّ مسدّ المفعولين ، ثم أضرب عن تبكيتهم بقوله تعالى : {بل} منبهاً على أنّ الجواب ليس لهم خلق هكذا كان الأصل ولكنه قال تعالى {الظالمون} أي : العريقون في الظلم تعميماً وتنبيهاً على الوصف الذي أوجب لهم كونهم {في ضلال} عظيم جدّاً محيط بهم {مبين} أي : في غاية الوضوح وهو كونهم يضعون الأشياء في غير مواضعها لأنهم في مثل الظلام لا نور لهم لانحجاب شمس الأنوار عنهم بجبل الهوى فلا حكمة لهم ، ثم إنه تعالى لما نفاها عنهم أثبتها لبعض أوليائه بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 237
{ولقد آتينا} بما لنا من العظمة والحكمة {لقمان} وهو عبد من عبيدنا المطيعين لنا {الحكمة} وهو العلم المؤيد بالعمل أو العمل المحكم بالعلم ، قال ابن قتيبة : لا يقال لشخص حكيم حتى يجتمع له الحكمة في القول والفعل.
قال : ولا يسمى المتكلم بالحكمة حكيماً حتى يكون عاملاً بها ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي العقل والفهم والفطنة ، واختلف في نسبه وفي سبب حكمته فقيل : هو لقمان بن باعورا ابن أخت أيوب عليه السلام أو ابن خالته ، وقيل : كان من أولاد آزر وعاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام وأخذ عنه العلم وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام فلما بعث قطع الفتوى فقيل : له فقال ألا أكتفي إذا كفيت ، وقيل كان قاضياً في بني إسرائيل وأكثر الأقاويل أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 241
أخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه سئل أكان لقمان نبياً قال : لا لم يوح إليه وكان رجلاً حكيماً ، وعن ابن عباس : لقمان لم يكن نبياً ولا ملكاً ولكن كان راعياً أسود ورزقه الله تعالى العتق ورضي قوله ووصيته فقص أمره في القرآن لتتمسكوا بوصيته ، وقال ابن المسيب : كان أسود من سودان مصر خياطاً ، وقال مجاهد : كان عبداً أسود غليظ الشفتين مشقق القدمين ، وقيل كان نجاراً ، وقيل كان راعياً ، وقيل كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة حطب ، وقال عكرمة والشعبي : كان نبياً ، وقيل خير بين النبوّة والحكمة ، فاختار الحكمة ، وعنه أنه قال لرجل ينظر إليه إن كنت
241(3/162)
تراني أسود فقلبي أبيض ، وعن عكرمة قال : كان لقمان أهون مملوك على سيده وأوّل ما رؤي من حكمته أنه بينما هو مع مولاه إذ دخل المخرج وأطال فيه الجلوس فنادى لقمان أنّ طول الجلوس على الحاجة يسيح منه الكبد ويكون منه الباسور ويصعد الحرّ إلى الرأس فخرج وكتب حكمته على الحش. قال : وسكر مولاه فخاطر قوماً على أن يشرب ماء بحيرة فلما أفاق عرف ما وقع منه فدعا لقمان فقال لمثل هذا كنت أخبؤك قال اجمعهم فلما اجتمعوا قال على أي. شيء خاطرتموه. قالوا : على أن يشرب ماء هذه البحيرة. قال : فإن لها موادّاً فاحبسوا موادها عنه ، قال : وكيف نستطيع أن نحبس موادها. قال : فكيف يستطيع أن يشربها ولها مواد.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي مسلم الخولاني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لقمان كان عبداً كثير التفكر ، حسن الظنّ ، كثير الصمت ، أحب الله فأحبه الله فمنّ عليه بالحكمة نودي بالخلافة قبل داوود فقيل له يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس. قال لقمان : إن أجبرني ربي قبلت فإني أعلم أنه إن فعل ذلك أعانني وعلمني وعصمني ، وإن خيرني اخترت العافية ولم أسأل البلاء فقالت الملائكة : يا لقمان لم ؟
قال : لأنّ الحاكم بأشدّ المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان فيخذل أو يعان ، فإن أصاب فبالحري أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلاً فهو خير من أن يكون شريفاً ضائعاً ، ومن تخير الدنيا على الآخرة. نفته الدنيا ولا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه وهو يتكلم بها ، ثم نودي داود بعده بالخلافة فقبلها ولم يشترط ما اشترط لقمان فوقع في الذي حكاه الله عنه فصفح الله تعالى عنه وتجاوز ، وكان لقمان يؤازره أي : يساعده بعلمه وحكمته فقال داود طوبى لك يا لقمان أوتيت الحكمة فصرفت عنك البلية وأوتي داود الخلافة فابتلى بالذنب والفتنة".
جزء : 3 رقم الصفحة : 241
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : "خير الله تعالى لقمان بين الحكمة والنبوّة فاختار الحكمة فأتاه جبريل وهو نائم فذرّ عليه الحكمة فأصبح ينطق بها فقيل له : كيف اخترت الحكمة على النبوّة وقد خيرك ربك ؛ فقال إنه لو أرسل إلي بالنبوّة عزمة لرجوت فيها الفوز منه ولكنت أرجو أن أقوم بها ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوّة فكانت الحكمة أحب إليّ". وروي أنه دخل على داود وهو يصنع الدروع وقد لين الله له الحديد كالطين فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت ، فلما أتمها لبسها وقال : نعم لبوس الحرب أنت. فقال : الصمت حكمة وقليل فاعله. فقال له داود لحق ما سميت حكيماً ، وروي أنّ مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين فأخرج اللسان والقلب ثم أمره بمثل ذلك وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب فسأله عن ذلك فقال : هما أطيب ما فيها إذا طابا وأخبث ما فيها إذا خبثا ، وروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال ألست فلان الراعي فيم بلغت ما بلغت قال بصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني ، وعن ابن المسيب أنه قال لأسود : لا تحزن فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان بلال ومهجع مولى عمر ولقمان كان أسود نوبياً ذا مشافر ، وروي سادات السودان أربعة
242
لقمان الحبشي والنجاشي وبلال ومهجع.
وعن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : "الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في العزلة وواحد في الصمت" وقال لقمان لا مال كصحة ولا نعيم كطيب نفس ، وقال ضرب الوالد لولده كالسماد للزرع ، ولما كانت الحكمة هي الإقبال على الله قال الله تعالى {أن اشكر لله} أي : وقلنا له أن أشكر لله على ما أعطاك من الحكمة {ومن يشكر} أي : يجدّد الشكر ويتعاهده بنفسه كائناً من كان {فإنما يشكر لنفسه} أي : لأنّ ثواب شكره له {ومن كفر} أي : النعمة {فإن الله غني} عن الشكر وغيره {حميد} أي : له جميع المحامد وإن كفره جميع الخلق.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 241(3/163)
و} اذكر {إذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني} تصغير إشفاق ، وقرأ حفص بفتح الياء وسكنها ابن كثير ، وكسرها الباقون {لا تشرك بالله} أي : الملك الأعظم {إن الشرك} أي : بالله {لظلم عظيم} فرجع إليه وأسلم ثم قال له أيضاً : يا بني اتخذ تقوى الله تعالى تجارة يأتيك الفرج من غير بضاعة ، يا بني احضر الجنائز ولا تحضر العرس ، فإنّ الجنائز تذكر الآخرة والعرس يشهيك الدنيا ، يا بني لا تأكل شبعاً من شبع فاتك أن تلقيه للكلب خير من أن تأكله ، يا بني لا تكونن أعجز من هذا الديك الذي يصوّت بالأسحار وأنت النائم على فراشك ، يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة ، يا بنيّ لا ترغب في ودّ الجاهل فترى أنك ترضى عمله ، يا بنيّ اتق الله ولا تُري الناس أنك تخشى ليكرموك بذلك وقلبك فاجر ، يا بني ما ندمت على الصمت قط فإنّ الكلام إذا كان من فضة كان السكوت من ذهب ، يا بني اعتزل الشر كيما يعتزلك فإنّ الشرّ للشرّ خلف ، يا بني إياك وشدّة الغضب فإنّ شدّة الغضب ممحقة لفؤاد الحكيم ، يا بني عليك بمجالس العلماء واستمع كلام الحكماء فإن الله تعالى يحي القلب الميت بنور الحكمة كما يحي الأرض بوابل المطر فإن من كذب ذهب ماء وجهه ومن ساء خلقه كثر غمه ، ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم ، يا بني لا ترسل رسولاً جاهلاً فإن لم تجد حكيماً فكن رسول نفسك ، يا بني لا تنكح أمة غيرك فتورث بنيك حزناً طويلاً ، يا بني يأتي على الناس زمان لا تقرّ فيه عين حليم ، يا بني اختر المجالس على عينك فإذا رأيت المجلس يذكر فيه الله عز وجلّ فاجلس معهم فإنك إن تك عالماً ينفعك علمك ، وإن تك غبياً يعلموك ، وإن يطلع الله عز وجلّ عليهم برحمة تصبك معهم ، يا بنيّ لا تجلس في المجلس الذي لا يذكر فيه الله تعالى فإنك إن تكن عالماً لا ينفعك علمك ، وإن تكن غبياً يزيدوك غباوة وإن يطلع الله تعالى عليهم بعد ذلك بسخط يصبك معهم ، يا بني لا يأكل طعامك إلا الأتقياء وشاور في أمرك العلماء ، يا بني إنّ الدنيا أمر عميق وقد غرق فيها ناس كثير فاجعل سفينتك فيها تقوى الله وحشوها الإيمان بالله ، وشراعها التوكل على الله لعلك أن تنجو ولا أراك ناجياً ، يا بني إني حملت الجندل والحديد فلم أحمل شيئاً أثقل من جار السوء ، وذقت المرارة كلها فلم أذق أشد من الفقر ، يا بني كن ممن لا يبتغي محمدة الناس ولا يكسب مذمتهم فنفسه عنهم في غنى والناس منه في راحة ، يا بُنَّي إنّ الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك ، يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإنّ الله ليحي القلوب بنور الحكمة كما يحي الأرض الميتة بوابل السماء ، يا بني لا تتعلم ما لا تعلم حتى تعمل بما تعلم ، يا بني إذا أردت أن تواخي رجلاً فأغضبه
243
قبل ذلك ، فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذره ، يا بني إنك منذ نزلت إلى الدنيا استدبرتها واستقبلت الآخرة فدار أنت إليها تسير أقرب من دار أنت عنها تباعد ، يا بني عود لسانك أن يقول : اللهم اغفر لي فإن لله ساعات لا ترد ، يا بني إياك والدين فإنه ذل النهار وهم الليل ، يا بني ارج الله رجاء لا يجرئك على معصيته وخف الله خوفاً لا يؤيسك من رحمته ا.ه. وإنما أكثرت من ذلك لعل الله ينفعنى ومن طالعه بذلك ، وسيأتي في كلام الله تعالى زيادة على ذلك واقتصرت على هذا القدر وإلا فمواعظه لابنه لو أراد شخص الإكثار منها لجعل منها مجلدات.
جزء : 3 رقم الصفحة : 241
فقد أخرج ابن أبي الدنيا عن حفص بن عمر الكندي قال : وضع لقمان عليه السلام جراباً من خردل إلى جنبه وجعل يعظ ابنه موعظة ويخرج خردلة فنفذ الخردل فقال : يا بني وعظتك موعظة لو وعظتها جبلاً لتفطر فتفطر ابنه. فسبحان من يعز ويذل ، ويغني ويفقر ، ويشفي ويمرض ، ويرفع من يشاء وإن كان عبداً فلا بدع أن يخص محمداً صلى الله عليه وسلم ذا النسب العالي والمنصب المنيف بالرسالة من بين قريش وإن لم يكن من أهل الدنيا المتعظمين بها ، ولما ذكر سبحانه ما أوصى به ولده من شكر المنعم الأوّل الذي لم يشركه في إيجاده أحد وذكر ما عليه الشرك من الفظاعة والشناعة أتبعه وصيته سبحانه للولد بالوالد لكونه المنعم الثاني بالسببية في وجوده بقوله تعالى : (3/164)
{ووصينا الإنسان بوالديه} أي : أمرناه أن يبرهما ويطيعهما ويقوم بهما ، ثم بين تعالى السبب في ذلك بقوله تعالى : {حملته أمه وهناً} أي : حال كونها ذات وهن بحمله وبالغ في جعلها نفس الفعل دلالة على شدّة ذلك الضعف {على وهن} أي : ضعف الحمل ، وضعف الطلق ، وضعف الولادة ، ثم أشار إلى ما لها عليه من المنة بعد ذلك بالشفقة وحسن الكفالة وهو لا يملك لنفسه شيئاً بقوله تعالى : {وفصاله} أي : فطامه من الرضاعة بعد وضعه {في عامين} تقاسي فيهما في منامه وقيامه ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى ، فإن قيل وصى الله تعالى بالوالدين وذكر السبب في حق الأم مع أن الأب وجد منه أكثر من الأم لأنه حمله في صلبه سنين ورباه بكسبه سنين فهو أبلغ ؟
أجيب : بأن المشقة الحاصلة للأم أعظم فإن الأب حمله خفيفاً لكونه من جملة جسده والأم حملته ثقيلاً آدمياً مودعاً فيها وبعد وضعه وتربيته ليلاً ونهاراً وبينهما ما لا يخفى من المشقة ، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لمن قال له : من أبر ؟
: "أمك ثم أمك ثم أمك ثم قال بعد ذلك ثم أباك" وقوله تعالى {أن اشكر لي} لأني المنعم في الحقيقة {ولوالديك} أي : لكوني جعلتهما سبباً لوجودك والإحسان بتربيتك تفسير لوصينا أو عدة له ، ثم علل الأمر بالشكر محذراً بقوله تعالى : {إليّ} لا إلى غيري {المصير} فأحاسبك على شركك ومعاصيك ، وعن القيام بحقوقهما ، قال سفيان بن عيينة في هذه الآية : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر لله ، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر للوالدين ، ولما ذكر تعالى وصيته بهما وأكد حقهما أتبعه الدليل على ما ذكر لقمان من قباحة الشرك بقوله تعالى :
{وإن جاهداك} أي : مع ما أمرتك به من طاعتهما {على أن تشرك بي} وقوله تعالى {وما ليس لك به علم} موافق للواقع لأنه لا يمكن أن يدل علم من أنواع العلوم على شيء من الشرك بل العلوم كلها دالة على الوحدانية.
244
ولما قرر ذلك على هذا المنوال البديع قال مسبباً عنه {فلا تطعهما} أي : في ذلك ولو اجتمعا على المجاهدة لك عليه بل خالفهما ، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به لأن أمرهما بذلك مناف للحكمة حامل على محض الجور والسفه ففيه تنبيه لقريش على محض الغلط في التقليد لآبائهم في ذلك ، وربما أفهم ذلك الإعراض عنهما بالكلية فلهذا قال تعالى {وصاحبهما في الدنيا} أي : في أمورها التي لا تتعلق بالدين ما دمت حياً بها {معروفاً} ببرهما إن كانا على دين يقران عليه ومعاملتهما بالحلم والإحتمال وما تقتضيه مكارم الأخلاق ومعالي الشيم ، ولما كان ذلك قد يجرّ إلى نوع وهن في الدين ببعض محاباة نفي ذلك بقوله تعالى : {واتبع} أي : بالغ في أن تتبع {سبيل} أي : دين وطريق {من أناب} أي : أقبل خاضعاً {إليّ} لم يلتفت إلى عبادة غيري وهم المخلصون ، فإن ذلك لا يخرجك عن برهما ولا عن توحيد الله تعالى ولا عن الإخلاص له.
جزء : 3 رقم الصفحة : 241
تنبيه : في هذا حث على معرفة الرجال بالحق وأمر بحك المشايخ وغيرهم على محك الكتاب والسنة ، فمن كان عمله موافقاً لهما اتبع ، ومن كان عمله مخالفاً لهما اجتنب. وإذا كان مرجع أمورهم كلها إليه في الدنيا ففي الآخرة كذلك كما قال تعالى {ثم إليّ} أي : في الآخرة {مرجعكم فأنبئكم} أي : أفعل فعل من يبالغ في التعقيب والاختبار عقب ذلك وتبيينه لأنّ ذلك أنسب شيء للحكمة وتعقب كل شيء بحسب ما يليق به {بما كنتم تعملون} أي : تجيددون عمله من صغير وكبير ، وجليل وحقير ، فأجازي من أريد وأغفر لمن أريد ، فأعد لذلك عدته ، ولا تعمل عمل من ليس له مرجع يحاسب فيه ويجازي على مثاقيل الذر من أعماله ، والآيتان معترضتان في تضاعيف وصية لقمان تأكيداً لما فيها من النهي عن الشرك كأنه قال تعالى : وصينا بمثل ما وصى به وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك فإنهما مع أنهما تلو الباري في استحقاق التعظيم والطاعة لا يجوز أن يتبعا في الإشراك فما ظنكم بغيرهما ونزولهما في سعد بن أبي وقاص وأمه مكثت لإسلامه ثلاثاً لم تطعم فيها شيئاً ، ولذلك قيل من أناب إليّ هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه فإن سعداً أسلم بدعوة أبي بكر له ، ثم إن ابن لقمان قال لأبيه : يا أبتِ إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله تعالى فقال.
{يا بني} مجيباً له مستعطفاً مصغراً له بالنسبة إلى حلم شيء من غضب الله تعالى {إنها} أي : الخطيئة {إن تك} وأسقط النون لغرض الإيجاز في الإيصاء {مثقال} أي : وزن ، ثم حقرها بقوله {حبة} وزاد في ذلك بقوله {من خردل} أي : إن تكن في الصغر كحبة الخردل ، وقرأ نافع مثقال بالرفع على أنّ الهاء ضمير الخطيئة كما مر أو القصة وكان تامة ، وتأنيثها الإضافة المثقال إلى الحبة كقول الأعشى :
*وتشرق بالقول الذي قد ذكرته ** كما شرقت صدر القناة من الدم*
245(3/165)
والشرق الغصة ، يقال شرق بريقه أي : غص ، والشاهد في شرقت حيث أنه لإضافة الصدر إلى القناة ، وصدرها ما فوق نصفها ، ثم أثبت النون في قوله مبيناً عن صغرها {فتكن} إشارة إلى ثباتها في مكانها وليزداد شوق النفس إلى محط الفائدة ويذهب الوهم كل مذهب معبراً عن أعظم الخفاء وأتم الأحوال {في صخرة} أيّ صخرة كانت ولو أنها أشد الصخور وأخفاها ، ولما أخفى وضيق أظهر ووسع ورفع وخفض ليكون أعظم لضياعها لحقارتها بقوله {أو في السموات} أي : في أيّ مكان منها على سعة أرجائها وتباعد أنحائها ، وأعاد أونصاً على إرادة كل منهما على حدته بقوله {أو في الأرض} أي : كذلك وهذا كما ترى لا ينفي أن تكون الصخرة فيهما أو في غيرهما أو في أحدهما.
جزء : 3 رقم الصفحة : 241
وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ بن رياح أنه لما وعظ لقمان ابنه وقال إنها إن تك الآية أخذ حبة من خردل فأتى بها إلى اليرموك فألقاها في عرضه ، ثم مكث ما شاء الله تعالى ، ثم ذكرها وبسط يده فأقبل بها ذباب حتى وضعها في راحته ، وقال بعض المفسرين : المراد بالصخرة : صخرة عليها الثور وهي لا في الأرض ولا في السماء ، وقال الزمخشري : فيه إضمار تقديره إن تكن في صخرة أو في موضع آخر في السموات أو في الأرض ، وقيل : هذا من تقديم الخاص وتأخير العامّ وهو جائز في مثل هذا التقسيم ، وقيل : خفاء الشيء يكون بطرق : منها : أن يكون في غاية الصغر ، ومنها : أن يكون بعيداً ، ومنها أن يكون في ظلمة ، ومنها : أن يكون وراء حجاب فإذا امتنعت هذه الأمور فلا يخفى في العادة فأثبت لله الرؤية والعلم مع انتفاء الشرائط بقوله إن تك مثقال حبة من خردل إشارة إلى الصغر ، وقوله فتكن في صخرة إشارة إلى الحجاب وقوله أو في السموات إشارة إلى البعد فإنها أبعد الأبعاد ، وقوله أو في الأرض إشارة إلى الظلمات فإن جوف الأرض أظلم الأماكن وقوله {يأت بها الله} أبلغ من قول القائل يعلمها الله لأنّ من يظهر له شيء ولا يقدر على إظهاره لغيره يكون حاله في العلم دون حال من يظهر له الشيء ويظهره لغيره ، فقوله يأت بها الله أي : يظهرها للإشهاد يوم القيامة فيحاسب بها عاملها.
{إنّ الله} أي : الملك العظيم {لطيف} أي : نافذ القدرة يتوصل علمه إلى كل خفي عالم بكنهه ، وعن قتادة لطيف باستخراجها {خبير} أي : عالم ببواطن الأمور فيعلم مستقرها ، روي في بعض الكتب أنّ هذه آخر كلمة تكلم بها لقمان فانشقت مرارته من هيبتها فمات.
قال الحسن : معنى الآية هو الإحاطة بالأشياء صغيرها وكبيرها ، ولما نبه على إحاطة علمه سبحانه وإقامته للحساب أمره بما يدخره لذلك توسلاً إليه وتخشعاً لديه وهو رأس ما يصلح به العمل ويصحح التوحيد ويصدقه بقوله :
{يا بني} مكرر للمناداة تنبيهاً على فرط النصيحة لفرط الشفقة {أقم الصلاة} أي : بجميع حدودها وشروطها ولا تغفل عنها تسبباً في نجاة نفسك وتصفية سرك فإن إقامتها وهو الإتيان بها على النحو المرضي مانعة من الخلل في العمل ، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لأنها الإقبال على من وحدته ، فاعتقدت أنه الفاعل وحده وأعرضت عن كل ما سواه لأنه في التحقيق عدم ولهذا الإقبال والإعراض كانت ثابتة للتوحيد وبهذا يعلم أن الصلاة كانت في سائر الملل غير أن هيآتها اختلفت وترك ذكر الزكاة تنبيهاً على أنه من حكمته ، والحكمة تخليه وتخلى ولده من الدنيا حتى ما يكفيهم لقوتهم ولما ، أمره بتكميله في نفسه توفية لحق الحق عطف على ذلك تكميله لغيره بقوله {وأمر
246
بالمعروف} أي : كل من تقدر على أمره تهذيباً لغيرك وشفقة على نفسك لتخليص أبناء جنسك {وإنه} أي : كل من قدرت على نهيه {عن المنكر} حباً لأخيك ما تحب لنفسك تحقيقاً لنصيحتك وتكميلاً لعبادتك ، ومن هذا الطراز قول أبي الأسود رحمه الله تعالى :
*
جزء : 3 رقم الصفحة : 241
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ** فإن انتهت عنه فأنت حكيم*
لأنه أمره أولاً بالمعروف وهو الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر ، فإذا أمر نفسه ونهاها ناسب أن يأمر غيره وينهاه ، وهذا وإن كان من قول لقمان إلا أنه لما كان في سياق المدح له كنا مخاطبين به ، فإن قيل كيف قدم في وصيته لابنه الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر وحين أمر أنه قدم النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف فقال : لا تشرك بالله ثم قال أقم الصلاة ؟
أجيب : بأنه كان يعلم أنّ ابنه معترف بوجود الإله فما أمره بهذا المعروف بل نهاه عن المنكر الذي ترتب على هذا المعروف ، وأمّا ابنه فأمره أمراً مطلقاً والمعروف يقدم على المنكر ، ولما كان القابض على دينه في غالب الأزمان كالقابض على الجمر قال له {واصبر} صبراً عظيماً بحيث تكون مستعلياً {على ما} أي : الذي {أصابك} أي : في عبادتك وغيرها من الأمر بالمعروف وغيره سواء أكان بواسطة العباد أم لا كالمرض ، وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة وختمها بالصبر لأنهما ملاك الاستعانة قال تعالى {واستعينوا بالصبر والصلاة} (البقرة : 45)(3/166)
وأخرج أحمد عن هشام ابن عروة عن أبيه قال : مكتوب في الحكمة يعني حكمة لقمان عليه السلام لتكن كلمتك طيبة وليكن وجهك بسيطاً تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطايا. وقال : مكتوب في الحكمة أو في التوراة الرفق رأس الحكمة ، وقال : مكتوب في التوراة كما تَرحمون تُرحمون ، وقال : مكتوب في الحكمة كما تزرعون تحصدون ، وقال : مكتوب في الحكمة أحبب خليلك وخليل أبيك ، وقيل للقمان : أي الناس شر ؟
قال : الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً ، ومن حكمته أنه قال : أقصر عن اللجاجة ولا أنطق فيما لا يعنيني ولا أكون مضحاكاً من غير عجب ولا مشاء لغير أرب ، ومنها من كان له من نفسه واعظ كان له من الله حافظ ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله بذلك عزاً ، والذل في طاعة الله أقرب من التعزز بالمعصية ، ومنها أنه كان يقول ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن : الحليم عند الغضب ، والشجاع عند الحرب ، وأخوك عند حاجتك إليه.
ولما كان ما أحكمه لولده عظيم الجدوى وجعل ختامه الصبر الذي هو ملاك الأعمال نبه بذلك بقوله على سبيل الاستئناف أو التعليل {إن ذلك} أي : الأمر العظيم الذي أوصيك به لا سيما الصبر على المصائب {من عزم الأمور} أي : معزوماتها تسمية لاسم المفعول أو الفاعل بالمصدر أي : الأمور المقطوع بها المفروضة ، أو القاطعة الجازمة وبجزم فاعلها ، ثم حذره عن الكبر معبراً عنه بلازمه لأن نفي الأعم نفي للأخص بقوله."
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 241
ولا تصعر خدّك} أي : لا تمله متعمداً إمالته بإمالة العنق متكلفاً لها صرفاً عن الحالة القاصدة ، قال أبو عبيدة : وأصل الصعر داء يصيب البعير يلوى منه عنقه ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم بغير ألف بعد الصاد وتشديد العين ، والباقون بألف بعد الصاد وتخفيف العين ، والرسم يحتملها فإنه رسم بغير ألف
247
وهما لغتان لغة الحجاز التخفيف ، وتميم التثقيل ، ولما كان ذلك قد يكون لغرض من الأغراض التي لا تدوم أشار إلى المقصود بقوله {للناس} بلام العلة أي : لا تفعل ذلك لأجل الإمالة عنهم وذلك لا يكون إلا تهاوناً بهم من الكبر بل أقبل عليهم بوجهك كله مستبشراً منبسطاً من غير كبر ولا عتو ، وعن ابن عباس لا تتكبر فتحقر الناس وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك ، وقيل هو الرجل يكون بينك وبينه الشحنة فيلقاك فتعرض عنه ، وقيل هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه تكبراً ، وقيل معناه : لا تحقر الفقير ، ليكن الفقير والغني عندك سواء ، ثم أتبع ذلك ما يلزمه بقوله {ولا تمش} وأشار بقوله {في الأرض} إلى أنّ أصله تراب وهو لا يقدر أن يعدوه وسيصير إليه وأوقع المصدر موقع الحال والعلة في قوله {مرحاً} أي : اختيالاً وتبختراً أي : لا تكن منك هذه الحقيقة لأن ذلك مشي أشر بطر متكبر فهو جدير بأن يظلم صاحبه ويفحش ويبغي بل أمش هوناً فإن ذلك يفضي بك إلى التواضع فتصل إلى كل خير فترفق بك الأرض إذا صرت في بطنها {إنّ الله} أي : الذي له الكبرياء والعظمة {لا يحب} أي : يعذب {كل مختال} أي : مراء للناس في مشيه متبختر يرى له فضلاً على الناس {فخور} على الناس بنفسه يظن أن إسباغ النعم الدنيوية من محبة الله تعالى له وذلك من جهله ، فإن الله يسبغ نعمه على الكافر الجاحد فينبغي للعارف أن لا يتكبر على عباده فإن الكبر هو الذي تردى به سبحانه فمن نازعه فيه قصمه ، ولما كان النهي عن ذلك أمراً بضدّه قال :
{واقصد} أي : اقتصد واسلك الطريق الوسطى {في مشيك} بين ذلك قواماً أي : ليكن مشيك قصداً لا تخيلاً ولا إسراعاً أي : بين مشيين لا تدب دبيب المتماوتين ولا تثب وثب الشطار ، قال صلى الله عليه وسلم "سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن" وأمّا قول عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما : كان إذا مشى أسرع ، فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت ، وقال عطاء : امش بالوقار والسكينة لقوله تعالى يمشون : على الأرض هوناً وعن ابن مسعود : كانوا ينهون عن وثب اليهود ودبيب النصارى ، والقصد في الأفعال كالقسط في الأوزان ، قاله الرازي : في اللوامع وهو المشي الهون الذي ليس فيه تصنع للخلق لا بتواضع ، ولا بتكبر {واغضض} أي : انقص {من صوتك} لئلا يكون صوتك منكراً وتكون برفع الصوت فوق الحاجة كالأذان فهو مأمور به ، وكانت الجاهلية يتمدحون برفع الصوت قال القائل :
*
جزء : 3 رقم الصفحة : 241
جهير الكلام جهير العطاس ** جهير الروى جهير النغم*
وقال مقاتل : اخفض من صوتك ، فإن قيل : لم ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي ؟
أجيب : بأن رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوته وربما يخرق الغشاء الذي داخل الأذن ، وأما سرعة المشي فلا تؤذي وإن آذت فلا تؤذي غير من في طريقه ، والصوت يبلغ من على اليمين واليسار ولأنّ المشي يؤذي آلة المشي ، والصوت يؤذي آلة السمع وآلة السمع على باب القلب فإنّ الكلام ينتقل من السمع إلى القلب ، ولا كذلك المشي. وأيضاً فلأن قبح القول
248(3/167)
أقبح من قبح الفعل وحسنه أحسن ، لأنّ اللسان ترجمان القلب ، ولما كان رفع الصوت فوق الحاجة منكر كما أن خفضه دونها تماوت وتكبر وكان قد أشار إلى النهي عن هذا بمن فأفهم أنّ الطرفين مذمومان علل النهي عن الأوّل بقوله {إن أنكر} أي : أفظع وأبشع وأوحش {الأصوات} كلها المشتركة في المكاره برفعها فوق الحاجة ، وأخلى الكلام من لفظ التشبيه ، وأخرجه مخرج الاستعارة تصوير الصوت الرافع صوته فوق الحاجة بصورة النهاق وجعل المصوت كذلك حماراً مبالغة في التهجين وتنبيهاً على أنه من الكراهة بمكان فقال {لصوت الحمير} أي : هذا الجنس لما له من العلو المفرط من غير حاجة فإنّ كل حيوان قد يفهم من صوته أنه يصيح من ثقل أو تعب كالبعير أو لغير ذلك ، والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق بصوت أوّله زفير وآخره شهيق وهما فعل أهل النار ، وأفرد الصوت ليكون نصاً على إرادة الجنس لئلا يظن أنّ الاجتماع شرط في ذلك ، ولذكر الحمار مع ذلك من بلاغة الشتم والذم ما ليس لغيره ولذلك يستهجن التصريح باسمه بل يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به فيقولون الطويل الأذنين كما يكنى عن الأشياء المستقذرة وقد عد في مساوئ الأداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من ذوي المروءة من العرب من لا يركب الحمار استنكافاً ، وإن بلغت منه الرحلة ، وإنما ركبه صلى الله عليه وسلم لمخالفته عادتهم وإظهاره التواضع من نفسه ، وأمّا الرفع مع الحاجة فغير مذموم فإنه ليس بمستنكر ولا مستبشع.
فإن قيل كيف يفهم كونه أنكر الأصوات مع أن حز المنشار بالمبرد ودق النحاس بالحديد أشد صوتاً ؟
أجيب : من وجهين : الأوّل : المراد أنكر أصوات الحيوانات صوت الحمير فلا يرد السؤال ، والثاني : أن الصوت الشديد لحاجة ومصلحة لا يستبشع ولا ينكر صوته كما مرت الإشارة إليه ، بخلاف صوت الحمير ، قال موسى بن أعين سمعت سفيان الثوري يقول في قوله تعالى {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} قال : صياح كل شيء تسبيح لله تعالى إلا الحمار ، وقال جعفر الصادق في ذلك : هي العطسة القبيحة المنكرة ، وقال وهب : تكلم لقمان باثني عشر ألف كلمة من الحكمة أدخلها الناس في كلامهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 241
قال خالد الربعي : كان لقمان عبداً ومن حكمته أنه دفع إليه مولاه شاة فقال له : اذبحها وائتني بأطيب مضغتين فيها فأتاه باللسان والقلب ثم دفع إليه شاة أخرى فقال اذبحها وائتني بأخبث مضغتين منها فأتاه باللسان والقلب فسأله مولاه فقال : ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا وقد مرت الإشارة إلى ذلك.
ومن حكمته أنه قال لابنه : يا بني لا ينزلن بك أمر رضيته أو كرهته إلا جعلت في الضمير منك إن ذلك خير لك ، ثم قال لابنه : يا بني إن الله قد بعث نبياً هلم حتى نأتيه فنصدقه فخرج على حمار وابنه على حمار وتزودا ، ثم سارا أياماً وليالي حتى لقيتهما مفازة فأخذا أهبتها لها فدخلا فسارا ما شاء الله تعالى حتى ظهرا وقد تعالى النهار ، واشتد الحر ، ونفد الماء والزاد ، واستبطأ حماريهما فنزلا وجعلا يشتدان على سوقهما فبينما هما كذلك إذ نظر لقمان أمامه فإذا هو بسواد ودخان فقال في نفسه : السواد الشجر والدخان العمران والناس ، فبينما هما يشتدان إذ وطئ ابن لقمان على عظم ناتئ على الطريق فخر مغشياً عليه فوثب إليه لقمان وضمه إلى صدره واستخرج العظم بأسنانه ثم نظر إليه لقمان فذرفت عيناه فقال : يا أبت أنت تبكي وأنت تقول هذا خير لي وقد
249
نفد الطعام والماء وبقيت أنا وأنت في هذا المكان فإن ذهبت وتركتني على حالي ذهبت بهم وغم ما بقيت ، وإن أقمت معي متنا جميعاً ، فقال : يا بني أمّا بكائي فرقة الوالدين ، وأمّا ما قلت كيف يكون هذا خيراً فلعل ما صرف عنك ، أعظم مما ابتليت به ولعل ما ابتليت به أيسر مما صرف عنك ، ثم نظر لقمان أمامه فلم ير ذلك الدخان والسواد وإذا بشخص أقبل على فرس أبلق عليه ثياب بياض وعمامة بيضاء يمسح الهواء مسحاً فلم يزل يرمقه بعينه حتى كان منه قريباً فتوارى عنه ؛ ثم صاح به أنت لقمان قال نعم ، قال أنت الحكيم ، قال كذلك يقال : قال ما قال لك ابنك. قال : يا عبد الله من أنت ؟
أسمع كلامك ولا أرى وجهك ، قال : أنا جبريل أمرني ربي بخسف هذه القرية ومن فيها فأخبرت أنكما تريدانها فدعوت ربي أن يحبسكما عني بما شاء فحبسكما بما ابتلى به ابنك ولولا ذلك لخسفت بكما مع من خسفت ، ثم مسح جبريل عليه السلام بيده على قدم ابنه فاستوى قائماً ومسح بيده على الذي كان فيه الطعام فامتلأ طعاماً وعلى الذي كان فيه الماء فامتلأ ماء ثم حملهما وحماريهما فرحل بهما كما يرحل الطير فإذا هما في الدار التي خرجا بعد أيام وليال منها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 241(3/168)
وعن عبد الله بن دينار أن لقمان قدم من سفر فلقي غلامه في الطريق فقال : ما فعل أبي ؟
فقال : مات. قال : الحمد لله ملكت أمري ، قال : ما فعلت أمي ؟
قال : ماتت ، قال : ذهب همي. قال : ما فعلت امرأتي ؟
قال : ماتت ، قال : جدد فراشي. قال : ما فعلت أختي ؟
قال : ماتت. قال : سترت عورتي ، قال : ما فعل أخي ؟
قال : مات ، قال : انقطع ظهري.
وعن أبي قلابة قال : قيل للقمان أي الناس أصبر ؟
قال : صبر لا معه أذى ، قيل : فأيّ الناس أعلم ؟
قال : من ازداد من علم الناس إلى علمه ، قيل : فأي الناس خير ؟
قال : الغني ، قيل الغني من المال ؟
قال : لا ، ولكن الغني من التمس عنده خير وجد وإلا أغنى نفسه عن الناس.
وعن سفيان : قيل للقمان : أي الناس شر ؟
قال : الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً ، وعن عبد الله بن زيد قال قال لقمان ألا إن يد الله على أفواه الحكماء لا يتكلم أحدهم إلا ما هيأ الله تعالى له ، ولما استدل سبحانه بقوله تعالى : {خلق السموات بغير عمد} على الوحدانية وبين بحكمة لقمان أنّ معرفة ذلك غير مختصة بالنبوّة استدل ثانياً على الوحدانية بالنعم بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 241
250
{ألم تروا} أي : تعلموا علماً هو في ظهوره كالمشاهدة {أن الله} أي : الحائز لكل كمال {سخر لكم} أي : لأجلكم {ما في السموات} من الإنارة والإظلام والشمس والقمر والنجوم والسحاب والمطر والبرد وغير ذلك من الإنعامات مما لا يحصى ، كما قال {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} {و} سخر لكم {ما في الأرض} من البحار والثمار والآبار والأنهار والدواب والمعادن وغير ذلك مما لا يحصى {وأسبغ} أي : أوسع وأتم {عليكم} وقوله تعالى {نعمه} قرأه نافع وأبو عمرو وحفص بفتح العين وبعد الميم هاء مضمومة ، والباقون بسكون العين وبعد الميم تاء مفتوحة منونة ، ومعناها الجمع أيضاً كقوله تعالى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (إبراهيم : 34)
واختلف في قوله عز وجل {ظاهرة وباطنة} على أقوال : فقال عكرمة عن ابن عباس : النعمة الظاهرة : القرآن والإسلام ، والباطنة : ما ستر عليك من الذنوب ولم يعجل عليك بالنقمة ، وقال الضحاك : الظاهرة حسن الصورة وتسوية الأعضاء والباطنة المعرفة ، وقال مقاتل : الظاهرة تسوية الخلق والرزق والإسلام ، والباطنة ما ستر من الذنوب ، وقال الربيع : الظاهرة الجوارح والباطنة القلب ، وقال عطاء الظاهرة تخفيف الشرائع والباطنة الشفاعة ، وقال مجاهد : الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء والباطنة الإمداد بالملائكة ، وقال سهل بن عبد الله : الظاهرة اتباع الرسول والباطنة محبته ، وقيل الظاهرة تمام الرزق والباطنة تمام الخلق ، وقيل الظاهرة الإمداد بالملائكة والباطنة إلقاء الرعب في قلوب الكفار ، وقيل الظاهرة الإقرار باللسان والباطنة الاعتقاد بالقلب ، وقيل الظاهرة البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح الظاهرة ، والباطنة القلب والعقل والفهم وما أشبه ذلك ، ويروى في دعاء موسى : عليه السلام إلهي دلني على إخفاء نعمتك على عبادك ، فقال : أخفى نعمتي عليهم النفس ، ويروى أن أيسر ما يعذب به أهل النار الأخذ بالأنفاس ، ونزل في النضر بن الحارث وأبي بن خلف وأشباههم كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في الله تعالى وفي صفاته.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 250
ومن الناس} أي : أهل مكة {من يجادل} أي : يحاجج فلا لهو أعظم من جداله ولا كبر مثل كبره ولا ضلال مثل ضلاله وأظهر زيادة التشنيع على هذا المجادل بقوله تعالى : {في الله} أي : المحيط علماً وقدرة ثم بين تعالى مجادلته أنها {بغير علم} أي : مستفاد من دليل بل بألفاظ في ركاكة معانيها لعدم إسنادها إلى حس ولا عقل ملحقة بأصوات الحيوانات العجم فكان بذلك حماراً تابعاً للهوى {ولا هدى} أي : من رسول عُهِد منه سداد الأقوال والأفعال بما أبدى من المعجزات والآيات البينات فوجب أخذ أقواله مسلمة وإن لم يظهر معناها {ولا كتاب} أي : من الله تعالى ، ثم وصفه بما هو لازم له بقوله تعالى : {منير} أي : بين غاية البيان ؛ بل إنما يجادل بالتقليد كما قال تعالى :
251(3/169)
{وإذا قيل} أي : من أي : قائل كان {لهم} أي : المجادلين هذا الجدال {اتبعوا ما أنزل الله} أي : الذي خلقكم وخلق آباءكم الأوّلين {قالوا} جحوداً لا نفعل {بل نتبع} وإن أتيتنا بكل دليل {ما وجدنا عليه آباءنا} لأنهم أثبت منا عقولاً وأقوم قيلاً وأهدى سبيلا ، فهذه المجادلة في غاية القبح فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلام الله وهم يأخذون بكلام آبائهم ، وبين كلام الله تعالى وبين كلام العلماء بون عظيم فكيف ما بين كلام الله تعالى وكلام الجهال {أولو} أي : أيتبعونهم ولو {كان الشيطان} أي : البعيد من الرحمه ، المحترق باللعنة {يدعوهم} إلى الضلال فيوبقهم فيما يسخط الرحمن فيؤديهم لك {إلى عذاب السعير} وجواب لو محذوف مثل لا تتبعوه ، والاستفهام للإنكار والتعجب ، والمعنى أن الله تعالى يدعوهم إلى الثواب والشيطان يدعوهم إلى العذاب وهم مع هذا يتبعون الشيطان ، ولما بين تعالى حال المشرك والمجادل في الله بين تعالى حال المسلم المستسلم لأمر الله تعالى بقوله تعالى :
{ومن يسلم} أي : في الحال والاستقبال {وجهه} أي : قصده وتوجهه وذاته كلها {إلى الله} أي : الذي له صفات الكمال بأن فوض أمره إليه فلم يبق لنفسه أمر أصلاً فهو لا يتحرك إلا بأمر من أوامره سبحانه {وهو} أي : والحال أنه {محسن} أي : مخلص بباطنه كما أخلص بظاهره فهو دائماً في حال الشهود {فقد استمسك} أي : أوجد الإمساك بغاية ما يقدر عليه من القوّة في تأدية الأمور {بالعروة الوثقى} أي : اعتصم بالعهد الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه ؛ لأنّ أوثق العرى جانب الله تعالى فإن كل ما عداه هالك منقطع وهو باق لا انقطاع له ، وهذا من باب التمثيل مثل حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق جبل فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه ، فإن قيل كيف قال ههنا {ومن يسلم وجهه إلى الله} فعداه بإلى ، وقال في البقرة {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن} (البقرة : 112)
جزء : 3 رقم الصفحة : 250
فعداه باللام ؟
أجيب : بأن أسلم يتعدّى تارة باللام ، وتارة بإلى ، كما يتعدّى أرسل تارة باللام وتارة بإلى قال تعالى {وأرسلناك للناس رسولاً} وقال تعالى {كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً} {وإلى الله} أي : الملك الأعلى {عاقبة الأمور} أي : مصير جميع الأشياء إليه ، كما أنّ منه باديتها ، وإنما خص العاقبة لأنهم مقرون بالبادية ، ولما بين تعالى حال المسلم رجع إلى بيان حال الكافر فقال تعالى :
{ومن كفر} أي : ستر ما أداه إليه عقله من أن الله تعالى لا شريك له وأن لا قدرة أصلاً لأحدٍ سواه ولم يسلم وجهه إليه {فلا يحزنك} أي : يهمك ويوجعك {كفره} كائناً من كان ، فإنه لم يفتك شيء فيه ولا معجز لنا ليحزنك ولا تبعة عليك بسببه في الدنيا وفي الآخرة ، وأفرد الضمير في كفره اعتباراً بلفظ من لإرادة التنصيص على كل فرد ، وفي التعبير هنا بالماضي وفي الأوّل بالمضارع بشارة بدخول كثير في هذا الدين وأنهم لا يرتدون بعد إسلامهم ، وترغيب في الإسلام لكل من كان خارجاً عنه فالآية من الاحتباك ، ذكر الحزن ثانياً دليلاً على حذف ضدّه أوّلاً ، وذكر الاستمساك أوّلاً دليلاً على حذف ضدّه ثانياً {إلينا} أي : في الدارين {مرجعهم فننبئهم} أي : بسبب إحاطتنا بأمرهم وعقب رجوعهم {بما عملوا} أي : ونجازيهم عليه إن أردنا {إن الله} أي : الذي لا كفء له {عليم} أي : محيط العلم بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال {بذات الصدور} أي : لا يخفى عليه سرّهم وعلانيتهم فينبئهم بما أسرّت صدورهم.
0
{نمتعهم} أي : نمهلهم ليتمتعوا بنعيم الدنيا {قليلاً} أي : إلى انقضاء آجالهم فإن كل آت قريب ، وإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل {ثم نضطرّهم} أي : نلجئهم ونردّهم في الآخرة {إلى عذاب غليظ} أي : شديد ثقيل لا ينقطع عنهم أصلاً ولا يجدون لهم منه محيصاً من جهة من جهاته فكأنه في شدّته وثقله جرم عظيم غليظ جدّاً إذا ترك على شيء لا يقدر على الخلاص منه ، ثم إنه تعالى لما سلى قلب النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : {فلا يحزنك كفره} أي : لا تحزن على تكذيبهم فإن صدقك وكذبهم يتبين عن قريب وهو رجوعهم إلينا على أنه لا يتأخر إلى ذلك اليوم بل يتبين قبل يوم القيامة كما قال تعالى : (3/170)
{ولئن} اللام لام قسم {سألتهم من خلق السموات} أي : بأسرها ومن فيها {والأرض} كذلك وقوله تعالى {ليقولنّ الله} أي : المسمى بهذا الاسم حذف منه نون الرفع لتوالي والأمثال وواو الضمير لالتقاء الساكنين ، فقد أقرّوا بأن كل ما أشركوا به بعض خلقه ومصنوع من مصنوعاته ، ولما تبين بذلك صدقه صلى الله عليه وسلم وكذبهم قال الله تعالى مستأنفاً {قل الحمد} أي : الإحاطة بجميع أوصاف الكمال {لله} أي : الذي له الإحاطة الشاملة من غير تقييد بخلق الخافقين ولا غيره على ظهور الحجة عليهم بالتوحيد {بل أكثرهم لا يعلمون} أي : ليس لهم علم يمنعهم من تكذيبك مع اعترافهم بما يوجب تصديقك ، ولما أثبت لنفسه سبحانه الإحاطة بأوصاف الكمال استدلّ على ذلك بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 250
لله} أي : الملك الأعظم {ما فيّ السموات} كلها {والأرض} كذلك ملكاً وخلقاً فلا يستحق العبادة فيهما غيره ، ولما ثبت ذلك أنتج قطعاً قوله تعالى {إن الله} أي : الذي لا كفء له {هو} أي : وحده {الغني} مطلقاً لأن جميع الأشياء له ومحتاجة إليه وليس محتاجاً إلى شيء أصلاً {الحميد} أي : المستحق لجميع المحامد لأنه المنعم على الإطلاق المحمود بكل لسان من ألسنة الأحوال والأقوال لأنه هو الذي أنطقها ومن قيد الخرس أطلقها ، ولما قال تعالى {لله ما في السموات والأرض} أوهم تناهي ملكه لانحصار ما في السموات والأرض فيهما وحكم العقل الصريح بتناهيهما ، بين تعالى أنه لأحد ولا ضبط لمعلوماته ومقدوراته الموجبة لحمده بقوله تعالى :
{ولو أن ما في الأرض} أي : كلها ، ودل على الاستغراق وتقضي كل فرد فرد من أفراد الجنس بقوله تعالى : {من شجرة} حيث وحدها {أقلام} أي : والشجرة يمدّها من بعدها على سبيل المبالغة سبع شجرات وأنّ ما في الأرض من البحر مداد لتلك الأقلام {والبحر} أي : والحال أنّ البحر {يمده} أي : يكون مداداً له وزيادة فيه {من بعده} أي : من ورائه {سبعة أبحر} تكتب بتلك الأقلام وذلك المداد الذي الأرض كلها له دواة {ما نفدت كلمات الله} وفنيت الأقلام والمداد ، قال المفسرون : نزل بمكة قوله تعالى.
{ويسئلونك عن الروح} (الإسراء ، 85)
الآية فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه أحبار اليهود فقالوا يا محمد بلغنا أنك تقول وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أفعنيتنا أم قومك فقال صلى الله عليه وسلم "كلاً قد عنيت ، فقالوا : ألست تتلو فيما جاءك أنّا أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فقال : صلى الله عليه وسلم هي في علم الله تعالى قليل وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم ، قالوا : يا محمد كيف تزعم هذا وأنت تقول ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً
253
فكيف يجتمع هذا علم قليل وخير كثير ؟
فأنزل الله تعالى هذه الآية" ، وقال قتادة إنّ المشركين قالوا : إن القرآن وما يأتي به محمد يوشك أن ينفد فينقطع فنزلت ، فإن قيل كان مقتضى الكلام أن يقال : ولو أنّ الشجر أقلام والبحر مداد ؟
أجيب : بأنه أغنى عن ذكر المداد قوله تعالى يمدّه لأنه من مدّ الدواة وأمدّها جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة وجعل الأبحر السبعة مملوأة مداداً فهي تصب فيه مدادها أبداً صباً لا ينقطع ، والمعنى : ولو أن أشجار الأرض أقلام ، والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله ما نفدت كلماته ونفدت الأقلام والمداد كقوله تعالى {قل لو كان البحر مداد الكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} (الكهف : 109)
جزء : 3 رقم الصفحة : 250
لأنّ المحصور لا يفي بما ليس بمحصور ، فيا لها من عظمة لا تتناهى ، ومن كبرياء لا يجارى ولا يضاهى.(3/171)
فإن قيل لم قيل من شجرة على التوحيد دون اسم الجنس ؟
أجيب : بأنه أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا وقد بريت أقلاماً ، فإن قيل الكلمات جمع قلة والموضع موضع التكثير لا التقليل فهلا قيل كلم الله ؟
أجيب : بأنّ معناه أنّ كلماته لا تفي بها البحار فكيف بكلمه ، وقرأ أبو عمرو : والبحر بنصب الراء وذلك من وجهين : أحدهما : العطف على اسم أن ، أي : ولو أنّ البحر ، ويمدّه الخبر ، والثاني : النصب بفعل مضمر يفسره يمدّه والواو حينئذ للحال والجملة حالية ، ولم يحتج إلى ضمير رابط بين الحال وصاحبها للاستغناء عنه بالواو ، والتقدير : ولو أنّ الذي في الأرض حال كون البحر ممدوداً بكذا ، وقرأ الباقون برفع الراء وذلك من وجهين : أيضاً أحدهما : العطف على أن وما في حيزها ، والثاني : أنه مبتدأ ، ويمدّه الخبر ، والجملة حالية والرابط الواو تنبيه : قوله تعالى سبعة ، ليس لانحصارها في سبعة وإنما الإشارة إلى المدد والكثرة ولو بألف بحر ، وإنما خصصت السبعة بالذكر من بين الأعداد لأنها عدد كثير يحصر المعدودات في العادة ، ويدل على ذلك وجهان : الأوّل : أن المعلوم عند كل أحد لحاجته إليه هو الزمان والمكان فالزمان منحصر في سبعة أيام والمكان منحصر في سبعة أقاليم ، ولأنّ الكواكب السيارة سبعة والمنجمون ينسبون إليها أموراً فصارت السبعة كالعدد الحاصر للكثرات الواقعة في العادة فاستعملت في كل كثير.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء" الثاني : أن في السبعة معنى يخصها ولذلك كانت السموات سبعاً والأرضون سبعاً وأبواب جهنم سبعاً وأبواب الجنة ثمانية ، لأنها الحسنى وزيادة ، فالزيادة هي الثامن ؛ لأن العرب عند الثامن يزيدون واو تقول القراء لها واو الثمانية وليس ذلك إلا للإستئناف لأنّ العدد تم بالسبعة ، ثم بين نتيجة ذلك بقوله تعالى : {إن الله} أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {عزيز} أي : كامل القدرة لا نهاية لمقدوراته {حكيم} أي : كامل العلم لا نهاية لمعلوماته.
254
تنبيه : قد علم مما تقرّر أنّ الآية من الاحتباك ذكر الأقلام دليلاً على حذف مدادها وذكر السبعة في مبالغة الأبحر دليلاً على حذفها في الأشجار ، ولما ختم تعالى بهاتين الصفتين بعد إثبات القدرة على الإبداع من غير انتهاء ذكر بعض آثارها في البعث بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 250
ما خلقكم} أي : كلكم في عزته وحكمته إلا كخلق نفس واحدة ، وأعاد النافي نصاً على كل واحد من الخلق والبعث على حدته بقوله تعالى : {ولا بعثكم} أي : كلكم {إلا كنفس} أي : كبعث نفس ، وبين الأفراد تحقيقاً للمراد تأكيداً للسهولة بقوله تعالى : {واحدة} فإن كلماته مع كونها غير نافذة نافذة وقدرته مع كونها باقية بالغة فنسبة القليل والكثير إلى قدرته على حدّ سواء ؛ لأنه لا يشغله شأن ، عن شأن ، ثم دل على ذلك بقوله تعالى : مؤكداً {إن الله} أي : الملك الأعلى {سميع} أي : بالغ السمع يسمع كل مسموع {بصير} أي : بليغ البصر يبصر كل مبصر لا يشغله شيء عن شيء ، ولما قرّر تعالى هذه الآية الخارقة دل عليها بأمر محسوس يشاهد كل يوم مرّتين بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 250
{ألم تر} وهو محتمل وجهين : أحدهما : أن يكون الخطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الأكثر وكأنه تعالى ترك الخطاب مع غيره ؛ لأن من هو غيره من الكفار لا فائدة في الخطاب معهم ومن هو غيره من المؤمنين فهم تبع له ، والوجه الثاني : المراد منه الوعظ والواعظ يخاطب ولايعين أحداً فيقول لجمع عظيم : يا مسكين إلى الله مصيرك فمن نصيرك ولماذا تقصيرك {أنّ الله} أي : بجلاله وعز كماله {يولج} أي : يدخل إدخالاً لا مرية فيه {الليل في النهار} فيغيب فيه بحيث لا يرى شيء منه فإذا النهار قد عمّ الأرض كلها أسرع من اللمح {ويولج النهار} أي : يدخله كذلك {في الليل} فيخفى حتى لا يبقى له أثر فإذا الليل قد طبق الآفاق مشارقها ومغاربها في مثل الطرف فيميز سبحانه كلاً منهما من الآخر بعد اضمحلاله فكذلك الخلق والبعث في قدرته بعزته وحكمته لبلوغ سمعه ونفوذ بصره {وسخر الشمس} آية للنهار يدخل الليل فيه {والقمر} أي : آية لليل كذلك ثم استأنف ما سخرا فيه بقوله تعالى : {كل} أي : منهما {يجري} أي : في فلكه سائراً متمادياً وبالغاً ومنتهياً {إلى أجل مسمى} لا يتعداه في منازل معروفة في جميع الفلك لا يزيد ولا ينقص هذا في الشهر مرّة وتلك في السنة مرّة ، لا يقدر واحد منهما أن يتعدّى طوره ولا أن ينقض دوره ولا أن يغير سيره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 255
تنبيه : قال تعالى يولج بصيغة المستقبل ، وقال في الشمس والقمر وسخر بصيغة الماضي لأن إيلاج الليل في النهار أمر يتجدّد كل يوم وتسخير الشمس والقمر أمر مستمرّ كما قال تعالى {حتى عاد كالعرجون القديم} (يس : 39)(3/172)
وقال ههنا إلى أجل ، وفي الزمر لأجل ؛ لأن المعنيين لائقان بالحرفين فلا عليك في أيهما وقع. قال الأكثرون : هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وقيل : عامّ ، ولما كان الليل والنهار محل الأفعال بين أنّ ما يقع في هذين الزمانين اللذين هما بتصرف الله لا يخفى عليه بقوله تعالى : {وإنّ الله} أي : بما له من صفات الكمال {بما تعملون} أي : في كل وقت على سبيل التجدّد {خبير} أي : لا يخفى عليه شيء منه ؛ لأنه الخالق له كله دقه وجله ولما ثبت بهذه الأوصاف الحسنى والأفعال العليا أنه لا موجد بالحقيقة إلا الله تعالى :
قال تعالى {ذلك} أي : المذكور {بأنّ} أي : بسبب أن {الله} أي : الذي لا عظيم سواه {هو} وحده {الحق} أي : بسبب أنه الثابت في ذاته الواجب من جميع جهاته المستحق للعبادة {وأنّ ما
255
يدعون} أي : هؤلاء المختوم على مداركهم وأشار إلى سفول رتبتهم بقوله تعالى : {من دونه} أي : غيره {الباطل} أي : العدم في حدّ ذاته لا يستحق أن تضاف إليه الإلهية بوجه من الوجوه ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص يدعون بالياء على الغيبة ، والباقون بالتاء على الخطاب وإن مقطوعة من ما في الرسم {وأنّ الله} أي : الملك الأعظم وحده {هو العليّ} على خلقه بالقهر فله الصفات العليا والأسماء الحسنى {الكبير} أي : العظيم في ذاته وصفاته. ولما قال تعالى {ألم تر أنّ الله يولج الليل في النهار وسخر الشمس والقمر} ذكر آية سماوية وأشار إلى السبب والمسبب ذكر بعده آية أرضية تدلّ على باهر قدرته وكمال نعمته وشمول إنعامه وأشار إلى السبب والمسبب بقوله تعالى :
{ألم تر} وفي المخاطب بذلك ما تقدّم {أنّ الفلك} أي : السفن كباراً وصغاراً {تجري} أي : بكم حاملة ما تعجزون عن نقل مثله في البرّ {في البحر} أي : على وجه الماء {بنعمة الله} أي : بإنعام الملك الأعلى المحيط علماً وقدرة المحسن إليكم بتعليم صفتها حتى تهيأت لذلك على يد أبيكم نوح العبد الشكور عليه السلام ، وقيل : نعمة الله هنا هي الريح التي تتحرك بأمر الله {ليريكم من آياته} أي : عجائب قدرته ودلائله التي تدلكم على أنه الحق الذي أثبت بوجوب وجوده ما ترون من الأحمال الثقال على وجه الماء الذي ترسب فيه الإبرة فما دونها {إن في ذلك} أي : الأمر الهائل البديع الرفيع {لآيات} أي : دلالات واضحات على ماله من صفات الكمال {لكل صبار} على المشاق فيبعث نفسه في التفكير في عدم غرقه وفي مسيره إلى البلاد الشاسعة والأقطار البعيدة ، وفي كون سيره ذهاباً وإياباً تارة بريحين ، وتارة بريح واحدة. وفي إنجاء أبيه نوح عليه السلام ومن أراد الله تعالى من خلقه بها وإغراق غيرهم من جميع أهل الأرض ، وفي غير ذلك من شؤونه وأموره {شكور} أي : مبالغ في كل من الصبر والشكر لأنهما الإيمان ، كما ورد : الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر ، وعلم من صيغة المبالغة في كل منهما أنه لا يعرف في الرخاء من عظمة الله ما كان يعرفه في الشدّة إلا من طبعهم الله تعالى على ذلك ووفقهم له وأعانهم عليه ، ولهذا قال تعالى {وقليل من عبادي الشكور} (سبأ : 13)
جزء : 3 رقم الصفحة : 255
وها أنا أسأل الله الحنان المنان من فضله أن يجعلني منهم ويفعل ذلك بأهلي وأحبابي فإنه كريم جواد ، ولما ذكر تعالى أن في ذلك لآيات ذكر أنّ الكل معترفون غير أنّ البصير يدركه أوّلاً ومن في بصيرته ضعف لا يدركه أوّلاً كما قال تعالى :
{وإذا غشيهم} أي : علاهم وهم في الفلك حتى صار كالمغطي لهم {موج} أي : هذا الجنس وأفرده لشدّة اضطرابه وإتيانه شيئاً في أثر شيء متابعاً يركب بعضه بعضاً كأنه شيء واحد ، وأصله من الحركة والازدحام واختلف في قوله تعالى {كالظلل} فقال مقاتل : كالجبال ، وقال الكلبي : كالسحاب. والظلل جمع ظلة شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها ، فإن قيل : كيف جعل الموج وهو واحد كالظلل وهو جمع ؟
أجيب : بأنّ الموج يأتي منه شيء بعد شيء فلما صاروا إلى هذه الحالة {دعوا الله} أي : مستحضرين لما يقدر عليه الإنسان من كماله بجلاله وجماله عالمين بجميع مضمون الآية السابقة من حقيته وعلوّه وكبريائه وبطلان ما يدعونه من دونه {مخلصين له الدّين} أي : الدعاء بأن ينجيهم لا يدعون شيئاً سواه بأنفسهم ولا قلوبهم لما اضطرّهم إلى ذلك {فلما نجاهم} أي : خلصهم من تلك الأهوال {إلى البر} نزلوا عن تلك المرتبة التي أخلصوا فيها الدين وانقسموا قسمين {فمنهم} أي : تسبب عن نعمة الإنجاء أنه كان منهم {مقتصد} أي : عدل موف في البرّ بما قد عاهد الله عليه في البحر من
256(3/173)
التوحيد له ، بمعنى أنه ثبت على ذلك وهم قليل كما دل عليه التصريح بالتبعيض ، قيل : نزلت في عكرمة بن أبي جهل هرب في عام الفتح إلى البحر فجاءتهم ريح عاصف فقال عكرمة : لئن نجاني الله من هذه لأرجعنّ إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولأضعنّ يدي في يده فسكنت الريح فرجع عكرمة إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه ، قال مجاهد : مقتصد في القول مضمر للكفر ، قال الكلبي : مقتصد في القول أي : من الكفار لأنّ بعضهم كان أشدّ قولاً وأعلى في الافتراء من بعض ومنهم جاحد للنعمة ملق لجلبات الحياء في التصريح بذلك وهو الأكثر كما دل عليه ترك التصريح فيه بالتبعيض.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى في العنكبوت {فلما نجاهم إلى البرّ إذا هم يشركون} (العنكبوت : 65)
وقال هنا {فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد} ؟
أجيب : بأنه لما ذكر ههنا أمراً عظيماً وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد ، وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معاينة مثل ذلك الأمر ، فذكر إشراكهم حيث لم يبق عندهم أثر وقوله تعالى {وما يجحدنا بآياتنا إلا كل ختار} أي : غدّار فإنه نقض للعهد الفطري أي : لما كان في البحر والختر أشدّ الغدر {كفور} أي : للنعم في مقابله قوله تعالى إن في ذلك لآيات أي : يعترف بها الصبار الشكور ، ويجحدها الختار الكفور ، فالصبار في موازنة الختار لفظاً ومعنى ، والكفور في موازنة الشكور كذلك أما لفظا فيهما فظاهر ، وأمّا كون الختار في موازنة الصبار معنى فلأن الختار هو الغدّار الكثير الغدر أو شديد الغدر مثال مبالغة من الختر وهو أشدّ الغدر ، والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر ؛ لأنّ الصبور لا يعهده منه الإضرار فإنه يصبر ويفوّض الأمر إلى الله تعالى ، وأما الغدّار ليعاهدك ولا يصبر على العهد فينقضه. وأما أن الكفور في مقابلة الشكور معنى فظاهر ، ولما ذكر تعالى الدلائل من أول السورة إلى هنا وعظ بالتقوى بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 255
يا أيها الناس} أي : عامّة. وقيل : أهل مكة {اتقوا ربكم} أي : الذي لا محسن إليكم غيره {واخشوا} أي : خافوا {يوماً} لا يشبه الأيام ولا يعدّ هول البحر ولا غيره عند أدنى هول من أهواله شيئاً بوجه {لا يجزي} أي : لا يقضي ولا يغني {والد عن ولده} والراجع إلى الموصوف محذوف أي : لا يجزي فيه. وفي التعبير بالمضارع إشارة إلى أنّ الوالد لا تزال تدعوه الوالدية إلى الشفقة على الولد ويتجدّد عنده العطف والرقة. والمفعول إما محذوف لأنه أشدّ في النفي وإما مدلول عليه بما في الشق الذي بعده. وقوله تعالى {ولا مولود} عطف على والد أو مبتدأ وخبره {هو جاز عن والده} أي : فيه {شيئاً} من الجزاء وتغيير النظم للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي ، وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة {إنّ وعد الله} أي : الذي له معاقد العز والجلال {حق} أي : أنّ هذا اليوم الذي هذا شأنه هو كائن ؛ لأنّ الله تعالى وعد به ووعده حق ، وقيل : إنّ وعد الله حق بأن لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً لأنه وعد بأن لا تزر وازرة وزر أخرى ووعد الله حق {فلا تغرّنكم الحياة الدنيا} بزخرفها ورونقها فإنها زائلة لوقوع اليوم المذكور بالوعد الحق {ولا يغرّنكم بالله} أي : الذي لا أعظم منه ولا مكافئ مع ولايته معكم {الغرور} أي : الكثير الغرور المبالغ فيه وهو الشيطان الذي لا أحقر منه لما جمع من البعد والطرد والاحتراق مع عداوته بما يزين لكم من أمرها ويلهيكم به من تعظيم قدرها وينسيكم كيدها وغدرها وتعبها وأذاها فيوجب ذلك لكم الإعراض عن ذلك اليوم فلا تعدّونه معاداً فلا تتخذون له زاد لما اقترن بغروره من حلم الله تعالى وإمهاله ، قال سعيد بن جبير : الغرة بالله أن
257
يعمل المعصية ويتمنى المغفرة ، وروي أنّ الحارث بن عمرو أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال متى قيام الساعة وإني قد ألقيت حباً في الأرض فمتى السماء تمطر ، وحمل امرأتي أذكر أم أنثى وما أعمل غداً وأين أموت ؟
فنزل قوله تعالى :
{إن الله} أي : بما له من العظمة وجميع أوصاف الكمال {عنده} أي : خاصة {علم الساعة} أي : وقت قيامها لا علم لغيره بذلك أصلاً {وينزل الغيث} أي : في أوانه المقدّر له والمحل المعين له في علمه ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح النون وتشديد الزاي ، والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي {ويعلم ما في الأرحام} أي : من ذكر أو أنثى أحيّ أو ميت تامّ أو ناقص {وما تدري نفس} أي : من الأنفس البشرية وغيرها {ماذا تكسب غداً} أي : من خير أو شرّ وربما تعزم على شيء وتفعل خلافه.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 255(3/174)
وما تدري نفس بأي : أرض تموت} أي : كما لا تدري في أي : وقت تموت ويعلمه الله تعالى ، وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : جاء رجل من أهل البادية فقال : يا رسول الله إنّ امرأتي حبلى فأخبرني ما تلد ، وبلادنا مجدبة فأخبرني متى ينزل الغيث ، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وعن عكرمة أنّ رجلاً يقال له الوارث من بني حازن جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد متى قيام الساعة وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب ، وقد تركت امرأتي حبلى فمتى تلد ، وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غداً ، وقد علمت بأيّ أرض ولدت فبأي أرض أموت ؟
فنزلت هذه الآية ، وعن قتادة قال : خمس من الغيب استأثر الله بهنّ فلم يطلع عليهنّ ملكاً مقرّباً ولا نبياً مرسلاً : إنّ الله عنده علم الساعة فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي : سنة ولا في أي : شهر أليلاً أم نهاراً ، وينزل الغيث فلا يعلم أحد متى ينزل أليلاً أم نهاراً ، ويعلم ما في الأرحام فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكر أم أنثى أحمر أم أسود ، ولا تدري نفس ماذا تكسب غداً أخيراً أم شراً ، وما تدري نفس بأي أرض تموت ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض أفي بحر أم في برّ أم سهل أم جبل.
وعن أحمد وابن أبي شيبة موقوفاً على شهر بن حوشب أنّ ملك الموت مرّ على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه فقال الرجل : من هذا ؟
فقال : ملك الموت ، فقال : فكأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند ، فأمر سليمان الريح فحلمته إلى بلاد الهند فوق سحابة فلما استقرّ فيها قبض روحه ملك الموت ، عليه السلام ثم جاء إلى سليمان عليه السلام فسأله عن نظره إلى الرجل ، فقال ملك الموت : كان دوام نظري إليه تعجباً منه إذا أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك ، وعن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهنّ إلا الله لا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا متى تقوم الساعة إلا الله ، ولا ما في الأرحام إلا الله ، ولا متى ينزل الغيث إلا الله ، وما تدري نفس بأي : أرض تموت إلا الله".
وعن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه أنّ رجلاً قال : يا رسول الله متى الساعة ؟
قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ، ولكن سأحدثكم بأشراطها : إذا ولدت الأمة ربتها فذاك من
258
أشراطها ، وإذا كانت الحفاة الرعاة رؤوس الناس فذاك من أشراطها ، وإذا تطاول رعاء الغنم في البنيان فذاك من أشراطها. وخمس من الغيب لا يعلمهنّ إلا الله ، ثم تلا إنّ الله عنده علم الساعة إلى آخر الآية ، وعن أبي أمامة أنّ إعرابياً وقف على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر على ناقة له عشراء فقال : يا محمد ما في بطن ناقتي هذه ؟
فقال له رجل من الأنصار : دع عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهلم إلي حتى أخبرك ، وقعت أنت عليها وفي بطنها ولد منك ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : "إنّ الله يحب كل حيي كريم ويبغض كل قاس لئيم متفحش ثم أقبل على الأعرابي فقال خمس لا يعلمهنّ إلا الله إنّ الله عنده علم الساعة الآية" وعن سلمة بن الأكوع قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء إذ جاءه رجل على فرس فقال له من أنت : "قال أنا رسول الله قال متى الساعة قال غيب وما يعلم الغيب إلا الله قال ما في بطن فرسي قال غيب وما يعلم الغيب إلا الله قال فمتى نمطر قال غيب وما يعلم الغيب إلا الله" وعن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : "أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس إنّ الله عنده علم الساعة الآية".
جزء : 3 رقم الصفحة : 255
وعن ابن مسعود قال أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم مفاتيح كل شيء غير خمس : إنّ الله عنده علم الساعة الآية ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لم يعم على نبيكم إلا الخمس من سرائر الغيب هذه الآية في آخر لقمان : إنّ الله عنده علم الساعة إلى آخر السورة ، وعن ربعي قال حدّثني رجل من بني عامر أنه قال : يا رسول الله هل بقي من العلم شيء لا تعلمه ؟
فقال : "لقد علمني الله خيراً وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله الخمس إن الله عنده علم الساعة الآية".(3/175)
وعن بنت معوّذ قالت : دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة عرسي وعندي جاريتان تغنيان وتقولان : وفينا نبيّ يعلم ما في غد فقال : "أما هذا فلا تقولاه ما يعلم ما في غد إلا الله" وعن ابن عزة الهذلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تدري نفس بأي : أرض تموت" ، وعن أبي مالك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم "بينما هو جالس في مجلس فيه أصحابه جاءه جبريل في غير صورته يحسبه رجلاً من المسلمين فسلم فردّ ، عليه السلام ثم وضع يده على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : يا رسول الله ما الإسلام ؟
قال : أن تسلم وجهك لله وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، قال : فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت قال نعم ثم قال ما الإيمان قال أن تؤمن بالله واليوم
259
الآخر والملائكة والكتاب والنبيين والموت والحياة بعد الموت والجنة والنار والحساب والميزان والقدر خيره وشرّه ، قال فإذا فعلت ذلك فقد آمنت قال نعم ثم قال ما الإحسان قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن كنت لا تراه فإنه يراك قال فإذا فعلت ذلك فقد أحسنت قال نعم ثم قال فمتى الساعة يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان الله خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله : إنّ الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت".
{إن الله} أي : المختص بأوصاف الكمال {عليم} أي : شامل علمه للأمور كلها كلياتها وجزئياتها ، فأثبت العلم المطلق لنفسه سبحانه بعد أن نفاه عن الغير في هذه الخمس {خبير} أي : يعلم خبايا الأمور وخفايا الصدور ، كما يعلم ظواهرها وجلاياها كل عنده على حدّ سواء فهو الحكيم في ذاته وصفاته ، ولذلك أخفى هذه المفاتيح عن عباده ؛ لأنه لو أطلعهم عليها لفات كثير من الحكم باختلال هذا النظام على ما فيه من الأحكام فقد انطبق آخر السورة بإثبات العلم والخبر مع تقرير أمر الساعة التي هي مفتاح الدار الآخرة على أوّلها المخبر بحكمة صفته التي من علمها حق علمها وتخلق بما دعت إليه وحضت عليه ، لا سيما الإيقان بالآخرة كان حيكماً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 255
فسبحان من هذا كلامه وتعالى كبرياؤه وعز مرامه. وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقاً يوم القيامة ، وأعطي من الحسنات عشراً بعدد من عمل المعروف ونهى عن المنكر" حديث موضوع.
260
جزء : 3 رقم الصفحة : 255(3/176)
سورة السجدة
مكية وهي ثلاثون آية ، وستمائة وثمانون كلمة ، وألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفاً
{بسم الله} ذي الجلال والإكرام {الرحمن} بعموم البشارة والنذارة {الرحيم} الذي أسكن في قلوب أحبابه الشوق إليه والخضوع بين يديه وتقدّم في البقرة وغيرها الكلام على.
جزء : 3 رقم الصفحة : 260
{ألم} ومما لم يسبق أنها إشارة إلى أنّ الله تعالى أرسل جبريل عليه السلام إلى محمد الفاتح الخاتم صلى الله عليه وسلم بكتاب معجز دال بإعجازه على صحة رسالته ووحدانية من أرسله ، وسرد سبحانه هذه الأحرف في أوائل أربع من هذه السور فزادت على الطواسين بواحدة إشارة إلى أنّ هذه المعاني في غاية الثبات لا انقطاع لها ، ولما كان المقصود في التي قبلها إثبات الحكمة لمنزل هذا الكتاب الذي فيه تبيان كل شيء أخبر سبحانه وتعالى عن هذا بأنه من عنده بقوله تعالى :
{تنزيل الكتاب} أي : الجامع لكل هدى على ما ترون من التدريج من السماء {لا ريب} أي : لا شك {فيه} لأنّ نافي الشك هو الإعجاز معه لا ينفك عنه فكل ما تقولونه مما يخالف ذلك تعنت أو جهل من غير ريب حال كونه {من ربّ العالمين} أي : الخالق لهم المدبر لمصالحهم فلا يجوز في عقل ولا يخطر في بال ولا يقع في وهم ولا يتصوّر في خيال أنه يصل شيء من كتابه تعالى إلى هذا النبي الكريم بغير أمره ، ولا يتخيل أنّ شيئاً منه ليس بقول الله تعالى ثم لا يتخيل أنه من كلامه ولكنه أخذه من بعض أهل الكتاب ؛ لأنّ هذا لا يفعل مع بعض الملوك فكيف بملك الملوك فكيف بمن هو عالم بالسرّ والجهر ، محيطٌ علمه بالخفي والجلي.
261
تنبيه : في تنزيل الكتاب إعرابات مختلفة ، وأظهرها ما جرى عليه الجلال المحلي من أنّ تنزيل الكتاب مبتدأ ، ولا ريب فيه خبر أوّل ومن رب العالمين خبر ثان. وقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 261
أم يقولون} أي : مع ذلك الذي لا يمتري فيه عاقل {افتراه} أي : تعمد كذبه ، أم فيه هي المنقطعة والإضراب للانتقال لا للإبطال ، وقيل الميم صلة ، أي : أتقولون افتراه. وقوله تعالى {بل هو الحق} أي : الثابت ثباتاً لا يضاهيه ثبات شيء من الكتب قبله إضراب ثان ، ولو قيل بأنه إضراب إبطاليّ لنفس افتراه وحده لكان صواباً ، وعلى هذا يقال : كل ما في القرآن إضراب فهو إضراب انتقالي ، إلا هذا فإنه يجوز أن يكون إبطالياً لأنه إبطال لقولهم أي : ليس هو كما قالوا مفترى بل هو الحق. وفي كلام الزمخشري ما يرشد إلى هذا فإنه قال : والضمير في فيه راجع إلى مضمون الجملة كأنه قيل لا ريب في ذلك أي : في كونه من رب العالمين. قال ابن عادل : ويشهد لوجاهته أم يقولون افتراه لأنّ قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين وكذلك قوله بل هو الحق من ربك وما فيه من تقرير أنه من عند الله ، وهذا أسلوب صحيح محكم انتهى. وقوله تعالى {من ربك} أي : المحسن إليك بإنزاله وإحكامه حال من الحق ، والعامل فيه محذوف على القاعدة وهو العامل أيضاً في
{لتنذر} ويجوز أن يكون العامل في لتنذر غيره ، أي : أنزله لتنذر {قوماً} أي : ذوي قوّة وجلد ومنعة {ما أتاهم من نذير} أي : رسول في هذه الأزمان القريبة لقول ابن عباس أنّ المراد الفترة ، ويؤيده إثبات الجار في قوله تعالى {من قبلك} ولما ذكر تعالى علة الإنزال أتبعه علة الإنذار بقوله تعالى : {لعلهم يهتدون} أي : ليكون حالهم في مجاري العادات حال من تُرجى هدايته إلى كمال الشريعة ، وأمّا التوحيد فلا عذر لأحد فيه مع إقامة الله تعالى من حجة العقل ومع ما أتقنه الرسل عليهم الصلاة والسلام آدم فمن بعده من أوضح النقل بآثار دعواتهم وبقايا دلالاتهم ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن أبيه : "أبي وأبوك في النار" وغير ذلك من الأدلة الدالة على أنّ من مات قبل دعوته على الشرك فهو في النار ، لكن ذكر بعض العلماء أنّ من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنّ الله تعالى أحيا له أبويه وأسلما على يديه ولا بدع في ذلك ، فإنّ الله تعالى أكرمه بأشياء لا تحصر ، ولما ذكر تعالى : الرسالة وبين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل قال : {الله} أي : الحاوي لجميع صفات الكمال وحده {الذي خلق السموات} كلها {والأرض} بأسرها {وما بينهما} من المنافع العينية والمعنوية {في ستة أيام} كما يأتي تفصيله في فصلت إن شاء الله تعالى {ثم استوى على العرش} وهو في اللغة سرير الملك استواء يليق به تعالى لم تعهد ، وأمثله وهو أنه تعالى أخذ في تدبيره وتدبير ما حواه بنفسه لا شريك له ولا نائب فيه ولا وزير كما تعهدون من ملوك الدنيا إذا امتنعت ممالكهم وتباعدت أطرافها وتناءت أقطارها {ما لكم من دونه} لأن كل ما سواه دونه وتحت قهره ، ودل على عموم النفي بقوله تعالى : {من ولي} أي : يلي أموركم ويقوم بمصالحكم وينصركم إذا حل بكم شيء مما تنذرون به {ولا شفيع} يشفع عنده في تدبيركم أو في أحد منكم بغير إذن. {أفلا تتذكرون} هذا فتؤمنون.
262
ولما نفى أن يكون له وزيرٌ أو شريكٌ في الخلق ذكر كيف يفعل في هذا الملك العظيم الذي أبدعه فقال مستأنفاً مفسراً للمراد بالاستواء :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 261(3/177)
يدبر الأمر} أي : كل أمر هذا العالم بأن يفعل في ذلك فعل الناظر في أدباره لإتقان خواتمه ولوازمه ، كما نظر في إقباله لأحكام فواتحه وعوازمه ، لا يكل شيئاً منه إلى أحد من خلقه. قال الرازي في اللوامع : وهذا دليل على أن استواءه على العرش بمعنى إظهاره القدرة ، والعرش مظهر التدبير لا مقر لمدبر.
ولما كان المقصود للقرب إنما هو تدبير ما يمكن مشاهدتهم له من العالم قال تعالى مفرداً : {من السماء} أي : فينزل ذلك الأمر الذي أتقنه كما يتقن من ينظر في إدبار ما يعمله {إلى الأرض} أي : غير متعرض إلى ما فوق ذلك ، على أن السماء تشمل كل عال فيدخل جميع العالم العلوي ، والأرض تشمل كل ما سفل فيشمل ذلك العالم السفلي.
تنبيه : ههنا همزتان مكسورتان ، فقالون وابن كثير يسهل الأولى كالياء مع المد والقصر ، وورش وقنبل يسهل الثانية ، ولهما إبدالهما من غير مدَ ، وأسقط أبو عمرو الأولى مع المد والقصر والباقون بتحقيقهما. ولما كان الصعود أشق من النزول على ما جرت به العوائد فكان بذلك مستبعداً ؛ أشار إلى ذلك بقوله تعالى : {ثم يعرج} أي : يصعد {إليه} أي : بصعود الملك إلى الله تعالى أي : إلى الموضع الذي شرفه أو أمره بالكون فيه كقوله تعالى {إني ذاهب إلى ربي} (الصافات : 99)
{ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله} (النساء : 100)
ونحو ذلك ، أو إلى الموضع الذي ابتدأ منه نزول التدبير إلى السماء كأنه صاعد في معارج ، وهي الدرج على ما تتعارفون بينكم في أسرع من لمح البصر {في يوم} أي : من أيام الدنيا {كان مقداره} لو كان الصاعد واحداً منكم على ما تعهدون {ألف سنة مما تعدون} من سنيكم التي تعهدون ، قال البقاعي : والذي دل على هذا التقدير شيء من العرف وشيء من اللفظ ، أما اللفظ فالتعبير بكان مع انتظام الكلام بدونها لو أريد غير ذلك ، وأما العرف فهو أن الإنسان المتمكن يبني البيت العظيم العالي في سنة مثلاً ، فإذا فرغه صعد إليه خادمه إلى أعلاه في أقل من درجتين من درج الرمل ، فلا تكون نسبة ذلك من زمن بنائه الأجر ، أو لا يبعد هذا وهو خلق محتاج ، فما ظنّك بمن خلق الخلق في ستة أيام ولو شاء لخلقهم في لمحة ، وهو غني عن كل شيء قادر على كل شيء انتهى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 261
فنزول الأمر وعروج العمل في مسافة ألف سنة مما تعدون وهو ما بين السماء والأرض فإن مسافته خمسمائة سنة ، فينزل في مسيرة خمسمائة سنة ، ويعرج في خمسمائة سنة فهو مقدار ألف سنة كأنه تعالى يقول : لو سار أحد من بني آدم لم يقطعه إلا في ألف سنة ، والملائكة يقطعونه في يوم واحد ، هذا في وصف عروج الملك من الأرض إلى السماء ، وأما قوله تعالى : {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} فأراد مدة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي هي مقام جبريل ، عليه السلام فسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا. قاله مجاهد والضحاك ، وورد أنه صلى الله عليه وسلم قال : "بين السماء والأرض خمسمائة عام ثم قال : أتدرون ما الذي فوقها ؟
قلنا : الله ورسوله أعلم قال : سماء أخرى أتدرون كم بينها وبينها ؟
قلنا : الله ورسوله أعلم قال : خمسمائة عام حتى عد سبع سموات ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك ؟
قلنا : الله ورسوله أعلم قال : العرش ثم قال : أتدرون ما بينه وبين السماء
263
السابعة ؟
قلنا : الله ورسوله أعلم قال مسيرة خمسمائة عام ، ثم قال : ما هذه تحتكم ؟
قلنا : الله ورسوله أعلم قال : أرض ، أتدرون ما تحتها ؟
قلنا : الله ورسوله أعلم قال : أرض أخرى أتدرون كم بينها ؟
قلنا : الله ورسوله أعلم قال : مسيرة سبعمائة عام ، حتى عد سبع أرضين ثم قال : أيمُ الله لو دليتم بحبل لهبط على علم الله وقدرته" وروي : "مَثَلُ السموات والأرض في الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة ، وإن فضل الكرسي على السموات والأرض كفضل الفلاة على تلك الحلقة".
وقوله تعالى : {وسع كرسيه السموات والأرض} (البقرة : 255)
يدل على أن الكرسي محيط بالكل. وقيل : مقدار ألف سنة وخمسين ألف سنة كلها في القيامة ، ومعناه حينئذ : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا ثم يعرج أي : يرجع الأمر والتدبير إليه بعد فناء الدنيا في يوم كان مقداره ذلك ، وذلك اليوم يتفاوت ، فهو على الكافر كخمسين ألف سنة ، وعلى المؤمن دون ذلك. بل جاء في الحديث أنه يكون على المؤمن كمثل صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا.(3/178)
وقيل : إن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر ؛ وذلك لأن من نفد أمره غاية النفاذ في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنين متطاولة ، فقوله : {في يوم كان مقداره ألف سنة} يعني : يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة ، فكم يكون شهر منه وكم يكون سنة منه وكم يكون دهر منه ؟
وعلى هذا فلا فرق بين هذا وبين قوله : {مقداره خمسين ألف سنة} لأن ذلك إذا كان إشارة إلى دوام نفاذ الأمر فسواء يعبر بألف سنة أو بخمسين ألف سنة لا يتفاوت ، إلا أن المبالغة بالخمسين أكثر ، وسيأتي بيان فائدتها في موضعها إن شاء الله تعالى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 261
ولما تقرر هذا من عالم الأشباح والخلق ، ثم عالم الأرواح والأمر بيّن أنه تعالى عالم بما كان وما يكون بقوله تعالى :
{ذلك} أي : الإله الواحد القهار ، {عالم الغيب والشهادة} أي : ما غاب عن الخلق ، ومنه الذي تقدمت مفاتيحه وما حضر وظهر فيدبر أمرهما {العزيز} أي : الغالب على أمره {الرحيم} على العباد في تدبيره ، وفيه إيماء بأنه تعالى يراعي المصالح تفضلاً وإحساناً.
ولما ذكر تعالى الدليل على الوحدانية من الآفاق بقوله تعالى : {خلق السموات والأرض وما بينهما} ذكر الدليل عليها من الأنفس بقوله تعالى :
{الذي أحسن كل شيء خلقه} قال ابن عباس : أتقنه وأحكمه ، فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن كما قال تعالى : {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} (التين : 4)
وقال مقاتل : علم كيف يخلق كل شيء من قول القائل : فلان يحسن كذا إذا كان يتقنه ، وقيل : خلق كل حيوان على صورة لم يخلق البعض على صورة البعض ، وقيل : معناه أحسن إلى كل خلقه.
وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام فعلاً ماضياً ، والجملة صفة للمضاف أو المضاف إليه ، والباقون بسكونها على أنه بدل من كل شيء بدل اشتمال والضمير عائد على كل شيء.
ولما كان الحيوان أشرف الأجناس وكان الإنسان أشرفه خصه بالذكر ليقوم دليل الوحدانية
264
بالأنفس كما قام بالآفاق. فقال دالاً على البعث : {وبدأ خلق الإنسان} أي : آدم عليه السلام {من طين} قال الرازي : ويمكن أن يقال الطين ماء وتراب مجتمعان ، فالآدمي أصله مني ، والمني أصله غذاء ، والأغذية إما حيوانية أو نباتية ، والحيوانية ترجع إلى النباتية والنبات وجوده بالماء والتراب الذي هو الطين.
{ثم جعل نسله} أي : ذريته {من سلالة} أي : نطفة سميت سلالة لأنها تسل من الإنسان أي : تنفصل منه وتخرج من صلبه ، ونحوه قولهم للولد : سليل ، هذا على التفسير الأول ؛ لأن آدم كان من الطين ونسله من سلالة {من ماء مهين} أي : ضعيف ، وعلى التفسير الثاني هو أن أصله من طين ، ثم يوجد من ذلك الأصل سلالة هي ماء مهين وهو نطفة الرجل ، وأشار إلى عظمة ما بعد ذلك من خلقه وتطويره بقوله تعالى :
{ثم سواه} قومه بتصوير أعضائه وإبداع المعاني على ما ينبغي {ونفخ فيه} أي : آدم {من روحه} أي : جعله حياً حساساً بعد أن كان جماداً ، وإضافة الروح إلى الله تعالى إضافة تشريف كبيت الله ، وناقة الله ، فيا له من شرف ما أعلاه ، ففيه إشعار بأنه خلق عجيب وإن له شأناً له مناسبة ما إلى الحضرة الربوبية ، قال البيضاوي : ولأجله أي : ولأجل كون أن له شأناً إلى آخره. روي : من عرف نفسه فقد عرف ربه. هذا الحديث لا أصل له ، وبتقدير أن له أصلاً ليس معناه ما ذكر بل معناه : من عرف نفسه وتأمل في حقيقتها عرف أن له صانعاً موجداً له ، وإليه أشار بقوله تعالى : {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} (الذاريات : 21)
جزء : 3 رقم الصفحة : 261
ثم ذكر ما يترتب على نفخ الروح في الجسد مخاطباً للذرية بقوله تعالى : {وجعل لكم} بعد أن كنتم نطفاً أمواتاً {السمع} أي : لتدركوا به ما يقال لكم {والأبصار} أي : لتدركوا بها الأشياء على ما هي عليه {والأفئدة} أي : القلوب المودعة غرائز العقول.
فإن قيل : ما الحكمة في تقديم السمع على البصر والبصر على الأفئدة ؟
أجيب بأن الإنسان يسمع أولاً كلاماً فينظر إلى قائله ليعرفه ثم يتفكر بقلبه في ذلك الكلام ليفهم معناه ، فإن قيل : ما الحكمة في ذكره المصدر في السمع وفي البصر والفؤاد الاسم ، ولهذا جمع الأبصار والأفئدة ولم يجمع السمع ؛ لأن المصدر لا يجمع ؟
أجيب : بأن السمع قوة واحدة ولها محل واحد وهو الأُذن ولا اختيار لها فيه ، وإن الصوت من أي جانب كان واصل إليه ولا قدرة للأُذن على تخصيص السمع بإدراك البعض دون البعض ، وأما البصر فمحله العين ولها فيه اختيار فإنها تتحرك إلى جانب المرئي دون غيره ، وكذلك الفؤاد محله الإدراك وله نوع اختيار يلتفت إلى ما يريدون غيره.(3/179)
فالسمع أصل دون محله لعدم الاختيار له ، والعين كالأصل ، وقوة الإبصار آلتها ، والفؤاد كذلك ، وقوة الفهم آلته ، فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة ، وفي الإبصار والأفئدة الاسم الذي هو محل القوة ، ولأن السمع قوة واحدة لها محل واحد ، ولهذا لا يسمع الإنسان في زمان واحد كلامين على وجه يضبطهما ويرى في زمان واحد صورتين فأكثر ويثبتهما.
فإن قيل : لم قدم السمع هنا وقدم القول في قوله تعالى في البقرة {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم} (البقرة : 7)
أجيب : بأنه تعالى عند الإعطاء ذكر الأدنى ثم ارتقى إلى الأعلى
265
فكأنه قال : أعطاكم السمع ثم أعطاكم ما هو أشرف منه وهو القلب ، وعند السلب قال : ليس لهم قلب يدركون به ولا ما هو دونه وهو السمع الذي يسمعون به ممن له قلب يفهم الحقائق ويستخرجها.
ولما لم يبادروا إلى الإيمان عند التذكير بهذه النعم الجسام قال تعالى : {قليلاً ما تشكرون} أي : تشكرون شكراً قليلاً ، فما مزيدة مؤكدة للقلة.
وقوله تعالى : {وقالوا} معطوف على ما سبق منهم فإنهم قالوا : محمد ليس برسول ، والإله ليس بواحد ، والبعث ليس بممكن فدل على صحة الرسالة بنفي الريب عن الكتاب ، ثم على الوحدانية بشمول القدرة وإحاطة العلم بإبداع الخلق على وجه هو نعمة لهم ، وختم بالتعجب من كفرهم وكان استبعادهم للبعث الذي هو الثابت الأصل من أعظم كفرهم وهو قولهم {أئذا} أي : انبعث إذا {ضللنا} أي : غبنا {في الأرض} أي : صرنا تراباً مخلوطاً بتراب الأرض لا نتميز منه ، وأصله من ضل الماء في اللبن إذا أذهب فيه ، وقولهم {أئنا لفي خلق جديد} أي : يجدد خلقنا استفهام إنكاري زيادة في الاستبعاد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 261
فإن قيل : إنه تعالى ذكر الرسالة من قبل وذكر دليلها وهو التنزيل الذي لا ريب فيه ، وذكر الوحدانية ، وذكر دليلها وهو خلق السموات والأرض وخلق الإنسان من طين. ولما ذكر إنكارهم الحشر لم يذكر الدليل ؟
أجيب : بأنه ذكر دليله أيضاً وهو أن خلقة الإنسان ابتداء دليل على قدرته على الإعادة ، ولهذا استدل تعالى على إنكار الحشر بالخلق الأول ثم يعيده وهو أهون عليه وقوله تعالى : {الذي أنشأها أول مرة} (يس : 79)
وأيضاً {خلق السموات والأرض} كما قال : {أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أنه يخلق مثلهم بلى} (يس : 8)
وقرأ نافع والكسائي {أئذا ضللنا في الأرض} أنا الأول : بالاستفهام والثاني : بالخبر ، وقرأ ابن عامر الأول بالخبر الثاني بالاستفهام ، والباقون بالاستفهام فيهما ، ومذهب قالون وأبي عمرو في الاستفهام تسهيل الثانية وإدخال الألف بينها وبين همزة الاستفهام ، وورش وابن كثير بتسهيل الثانية من غير إدخال وهشام يسهل الثانية ويحققها مع الإدخال ، والباقون بتحقيقهما من غير إدخال. وقوله تعالى {بل هم بلقاء ربهم كافرون} أي : جاحدون إضراب عن الأول أي : ليس إنكارهم لمجرد الخلق ثانياً ، بل يكفرون بجميع أحوال الآخرة ، حتى لو صدقوا بالخلق الثاني لما اعترفوا بالعذاب والثواب ، أو يكون المعنى لم ينكروا البعث لنفسه بل لكفرهم بلقاء الله ، فإنهم كرهوه فأنكروا المفضي إليه ، ثم بين لهم ما يكون من الموت إلى العذاب بقوله تعالى :
{قل} أي : يا أفضل الخلق لهم {يتوفاكم} أي : يقبض أرواحكم {ملك الموت الذي وكل بكم} أي : بقبض أرواحكم وهو عزرائيل عليه السلام والتوفي : استيفاء العدد ، معناه : أن يقبض أرواحهم حتى لا يبقى أحد من العدد الذي كتب عليه الموت ، روي أن ملك الموت جعلت له الدنيا مثل راحةٍ لليد يأخذ منها صاحبها ما أحب من غير مشقة ، فهو يقبض أنفس الخلق من مشارق الأرض ومغاربها ، وله أعوان من ملائكة الرحمة وأعوان من ملائكة العذاب. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب ، وقال مجاهد : جعلت الأرض مثل الطست يتناول منها حيث يشاء.
وفي بعض الأخبار : أن ملك الموت على معراج بين السماء والأرض فتنزع أعوانه روح
266
الإنسان ، فإذا بلغ ثغرة نحره قبضه ملك الموت ، وعن معاذ بن جبل أن لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب وهو يتصفح وجوه الناس فما من أهل بيت إلا وملك الموت يتصفحهم في كل يوم مرتين ، فإذا رأى إنساناً قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة وقال : الآن يزار بك عسكر الموت ، فيصير ملقىً لا روح في شيء منه وهو على حاله كاملاً لا نقص في شيء منه يدعى الخلل بسببه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 261
فإذا كان هذا فعل عبد من عبيده تعالى صرّفه في ذلك فقام به كما ترونه مع أن ممازجة الروح للبدن أشد من ممازجة تراب البدن لبقية التراب ؛ لأنه ربما يستدل بعض الحذق على بعض ذلك بنوع دليل من شم ونحوه ، فكيف يستبعد شيء من الأشياء على رب العالمين ومدبر الخلائق أجمعين. نسأل الله تعالى أن يقبضنا على التوحيد ، وأن يستعملنا في طاعته ما أحيانا ويفعل ذلك بأهلنا وإحبائنا.(3/180)
ولما قام هذا البرهان القطعي على قدرته التامة علم أن التقدير : ثم يعيدكم خلقاً جديداً كما كنتم أول مرة فحذفه كما هو عادة القرآن في حذف كل ما دل عليه السياق ولم يدع داع إلى ذكره ، وعطف عليه قوله تعالى {ثم إلى ربكم} أي : الذي ابتدأ خلقكم وتربيتكم وأحسن إليكم غاية الإحسان {ترجعون} أي : تصيرون إليه أحياء فيجزيكم بأعمالكم.
ولما تقرر دليل البعث بما لا خفاء فيه ولا لبس شرع في بعض أحواله بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 261
{ولو ترى} أي : تبصر {إذ المجرمون} أي : الكافرون {ناكسوا رؤوسهم} أي : مطأطؤها خوفاً وخجلاً وحزناً وذلاً {عند ربهم} المحسن إليهم المتوحد بتدبيرهم قائلين بغاية الذل والرقة {ربنا} أي : المحسن إلينا {أبصرنا} أي : ما كنا نكذب به {وسمعنا} منك تصديق الرسل فيما كذبناهم فيه {فارجعنا} بمالك من هذه الصفة المقتضية للإحسان إلى الدنيا دار العمل {نعمل صالحاً} فيها {إنا موقنون} أي : ثابت لنا الآن الإيقان بجميع ما أخبرنا به عنك.
فلا ينفعهم ذلك ولا يرجعون ، وجواب لو محذوف تقديره : لرأيت أمراً فظيعاً ، والمخاطب يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شفاء لصدره ، فإنهم كانوا يؤذونه بالتكذيب ، ويحتمل أن يكون عاماً. وإذ على بابها من المضي لأن لو تصرف المضارع للمضي ، وإنما جيء هنا ماضياً لتحقيق وقوعه نحو {أتى أمر الله} (النحل : 1)
وجعله أبو البقاء مما وقع فيه إذ موقع إذا ولا حاجة إليه. وقوله تعالى :
{ولو شئنا} أي : بما لنا من العظمة {لآتينا كل نفس} أي : مكلفة لأن الكلام
267
فيها {هداها} فتهتدي بالإيمان والطاعة باختيار منها جواب عن قولهم {ربنا أبصرنا وسمعنا} وذلك أن الله تعالى قال : إني لو أردت منكم الإيمان لهديتكم في الدنيا ، ولما لم أهدكم تبين أني ما أردت ولا شئت إيمانكم فلا أردكم ، وهذا صريح في الدلالة على صحة مذهب أهل السنة حيث قالوا : إن الله تعالى ما أراد الإيمان من الكافر وما شاء منه إلا الكفر {ولكن} لم أشأ ذلك لأنه {حق القول مني} وأنا من لا يخلف الميعاد ؛ لأن الإخلاف إما العجزٍ أو نسيانٍ أو حاجةٍ ولا شيء من ذلك يليق بجنابي ولا يحل بساحتي ، وأكد لأجل إنكارهم فقال مقسماً : {لأملأن جهنم} أي : التي هي محل إهانتي {من الجنة} أي : الجن طائفة إبليس ، وكأنه تعالى أنثهم تحقيراً لهم عند من يستعظم أمرهم وبدأ بهم لاستعظامهم لهم ولأنهم الذين أضلوهم {والناس أجمعين} حيث قلت لإبليس : {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} (ص : 85)
جزء : 3 رقم الصفحة : 267
فلذلك شئت كفر الكافر وعصيان العاصي بعد أن جعلت لهم اختياراً ، وغيبت العاقبة عنهم ، فصار الكسب ينسب إليهم ظاهراً والخلق في الحقيقة والمشيئة لي.
ولما تسبب عن هذا القول الصادق أنه لا محيص بهم عن عذابهم قال لهم الخزنة إذا دخلوا جهنم :
{فذوقوا} العذاب {بما} أي : بسبب ما {نسيتم لقاء يومكم} وحققه وبين ذلك بقوله تعالى : {هذا} أي : بترككم الإيمان به {إنا نسيناكم} أي : عاملناكم بمالنا من العظمة ولكم من الحقارة معاملة الناسي لكم فتركناكم في العذاب {وذوقوا عذاب الخلد} أي : المختص بأنه لا آخر له {بما} أي : بسبب ما {كنتم تعملون} أي : من الكفر والتكذيب وإنكار البعث.
ولما ذكر تعالى علامة أهل الكفر أن ذكر علامة أهل الإيمان بقوله تعالى :
{إنما يؤمن بآياتنا} أي : الدالة على عظمتنا {الذين إذا ذكروا بها} أي : من أي : مذكر كان في أي : وقت كان {خروا سجداً} أي : بادروا إلى السجود مبادرة من كأنه سقط من غير قصد خضعاً لله من شدة تواضعهم وخشيتهم وإخباتهم خضوعاً ثابتاً دائماً {وسبحوا} أي : أوقعوا التسبيح به عن كل شائبة نقص متلبسين {بحمد ربهم} أي : قالوا سبحان الله وبحمده. وقيل : صلوا بأمر ربهم.
ولما تضمن هذا تواضعهم صرح به في قوله تعالى {وهم لا يستكبرون} أي : عن الإيمان والطاعة كما يفعل من يصير مستكبراً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا مكاناً لموضع جبهته في غير وقت الصلاة" وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل إبليس يبكي يقول : يا ويلتي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار" وهذه من عزائم سجود القرآن فتسن للقارئ والمستمع والسامع.
ولما كان المتواضع ربما ينسب إلى الكسل نفى ذلك عنهم مبيناً لما تضمنته الآية السالفة من خوفهم بقوله تعالى :
{تتجافى} أي : ترتفع وتنبو {جنوبهم عن المضاجع} عبر به عن ترك النوم ، قال ابن رواحة :
268
*نبيٌّ تجافى جنبه عن فراشه ** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع*(3/181)
والمضاجع : جمع المضجع وهو الموضع الذي يضجع عليه يعني الفراش وهم المتهجدون الذين يقيمون الصلاة. قال أنس : "نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم وعن أنس أيضاً قال : "نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون صلاة المغرب إلى صلاة العشاء" قال عطاء : هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخرة والفجر في جماعة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 267
وعنه صلى الله عليه وسلم "من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة ، ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة" وعن أنس كنا نجتنب الفرش قبل صلاة العشاء ، وعنه أيضاً قال : "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم راقداً قط قبل العشاء ولا متحدثاً بعدها" فإن هذه الآية نزلت في ذلك ، وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "هم الذين لا ينامون قبل العشاء فأثنى عليهم" فلما ذكر ذلك جعل الرجل يعتزل فراشه مخافة أن تغلبه عينه فوقه قبل أن ينام الصغير ويكسل الكبير.
وعن مالك بن دينار قال : سألت أنساً عن هذه الآية فقال : كان قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين الأولين يصلون المغرب ويصلون بعدها إلى العشاء الآخرة فنزلت هذه الآية فيهم ، وعن ابن أبي حازم قال : هي ما بين المغرب والعشاء صلاة الأوابين ، وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} قال : قيام العبد من الليل ، وعن معاذ بن جبل أيضاً قال : "كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه وهو يسير فقلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال : لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير ؟
الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة ، وصلاة الرجل من جوف الليل ، ثم قرأ {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} حتى بلغ {يعملون} ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده ، وذروة سنامه الجهاد ، ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟
فقلت : بلى يا نبي الله فأخذ بلسانه فقال : كف عنك هذا فقلت : يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال : ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم".
وعن كعب قال : إذا حشر الناس نادى مناد : هذا يوم الفصل أين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع أين الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم
ثم يخرج عنق من نار فيقول : أمرت بثلاثٍ : بمن جَعَلَ مع الله إلهاً آخر ، وبكل جبار عنيد ، وبكل معتدٍ ، لأَنَا أعرف بالرجل من الوالد
269
بولده والمولود بوالده ، ويؤمر بفقراء المسلمين إلى الجنة فيحبسون فيقولون : تحبسونا ما كان لنا أموال وما كنا أمراء ، وعن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى ربكم وتكفير للسيئات ومنهاة عن الآثام ومطردة للداء".
جزء : 3 رقم الصفحة : 267
وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "عجب ربنا من رجلين : رجل ثار عن وطائه ولحافه بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقاً مما عندي ، ورجل غزا في سبيل الله فانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه من الانهزام وما عليه في الرجوع فرجع حتى هريق دمه" وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يقوم الليل حتى تنفطر قدماه فقلت : لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال : أفلا أكون عبداً شكوراً" وعن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها أعدّها الله لمن ألان الكلام ، وأطعم الطعام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام".
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ربيعة الخرشي قال : يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد فيكونون ما شاء الله أن يكونوا ، ثم ينادي منادٍ : سيعلم أهل الجمع لمن يكون العز اليوم والكرم ، ليقم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً فيقومون وفيهم قلة ، ثم يلبث ما شاء الله أن يلبث ، ثم يعود فينادي المنادي : سيعلم أهل الجمع لمن العز اليوم والكرم ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله
فيقومون وهم أكثر من الأولين ثم يلبث ما شاء الله أن يلبث ثم يعود فينادي المنادي : سيعلم أهل الجمع لمن العز اليوم والكرم ، ليقم الحامدون على كل حال فيقومون وهم أكثر من الأولين ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {تتجافى في جنوبهم عن المضاجع} يقول : تتجافى لذكر الله إما في الصلاة وإما في قيام أو قعود أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله.(3/182)
ولما كان هجران المضجع قد يكون لغير العبادة بين أنه لها بقوله تعالى : مبيناً لحالهم {يدعون} أي : داعين {ربهم} الذي عوّدهم بإحسانه ثم علله بقوله تعالى : {خوفاً} أي : من سخطه وعقابه ، فإن أسباب الخوف من نقائصهم كثيرة سواء أعرفوا سبباً يوجب خوفاً أو لا لأنهم لا يأمنون مكر الله لأنه يفعل ما يشاء {وطمعاً} في رضاه الموجب لثوابه ، وقال ابن عباس : خوفاً من النار وطمعاً في الجنة وعبر به دون الرجاء إشارة إلى أنهم لشدة معرفتهم بنقائصهم لا يعدون أعمالهم شيئاً بل يطلبون فضله بغير سبب وإن كانوا مجتهدين في طاعته.
ولما كانت العبادة تقطع غالباً عن التوسع في الدنيا بما دعت نفس العابد إلى التمسك بما في يده خوفاً من نقص العبادة عند الحاجة ، وصفهم الله تعالى بقوله تعالى : {ومما رزقناهم} أي :
270
بعظمتنا لا بحول منهم ولا قوة {ينفقون} من غير إسراف ولا تقتير في جميع وجوه القرب التي شرعناها لهم فلا يبخلون بما عندهم اعتماداً على الخلاق الرزَّاق الذي ضمن الخلق فهم بما ضمن لهم أوثق منهم بما عندهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 267
ولما ذكر تعالى جزاء المستكبرين ذكر جزاء المتواضعين بقوله عز من قائل :
{فلا تعلم نفس} أي : من جميع النفوس مقربة ولا غيرها {ما أُخفي} أي : خبئ {لهم} أي : لهؤلاء المذكورين من مفاتيح الغيوب وخزائنها كما كانوا يخفون أعمالهم في الصلاة في جوف الليل وبالصدقة وبغير ذلك ، وقرأ حمزة بسكون الياء والباقون بالفتح.
ولما كانت العين لا تقر فتهجع إلا عند الأمن والسرور قال تعالى {من قرة أعين} أي : من شيء نفيس تقرّ به أعينهم لأجل ما أقلقوها عن قرارها بالنوم ، ثم صرح بما أفهمته فاء السبب بقوله تعالى : {جزاء} أي : أخفاها لهم لجزائهم {بما} أي : بسبب ما {كانوا يعملون} أي : من الطاعات في دار الدنيا. روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال أبو هريرة اقرؤا إن شئتهم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم} الآية وعن ابن مسعود قال : "إنه لمكتوب في التوراة لقد أعد الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر ، ولا يعلم ملك مقرب ولا نبي مرسل وإنه لفي القرآن {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}.
وعن ابن عمر قال : إن الرجل من أهل الجنة ليجيء فيشرف عليه النساء فيقلن : يا فلان بن فلان ما أنت بمن خرجت من عندها بأولى بك منا فيقول : ومن أنتن ؟
فيقلن : نحن من اللاتي قال الله تعالى : {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} وعن عامر بن عبد الواحد قال : بلغني أن الرجل من أهل الجنة يمكث في مكان سبعين سنة ، ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه فتقول له : قد آن لك أن يكون لنا منك نصيب فيقول : من أنت فتقول : أنا مزيد ، فيمكث معها سبعين سنة ويلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه ، فتقول : قد آن لك أن يكون لنا منك نصيب فيقول : من أنت فتقول : أنا التي قال الله تعالى {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}.
وعن سعيد بن جبير قال : يدخلون عليهم على مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات معهم التحف من الله من جنات عدن ما ليس في جناتهم ، وذلك قوله تعالى : {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} وعن كعب قال : سأصف لكم منزل رجل من أهل الجنة كان يطلب حلالاً ويأكل حلالاً حتى لقي الله تعالى على ذلك ، فإنه يعطى يوم القيامة قصراً من لؤلؤة واحدة ليس فيها صدع ولا وصل ، فيها سبعون ألف غرفة ، وأسفل الغرف سبعون ألف بيت كل بيت سقفه صفائح الذهب والفضة ليس بموصول ، ولولا أن الله تعالى سخر النظر لذهب بصره من نوره غلظ الحائط
271
خمس عشر ميلاً وطوله في السماء سبعون ميلاً ، في كل بيت سبعون ألف باب يدخل عليه في كل بيت من كل باب سبعون ألف خادم لا يراهم من في هذا البيت ولا يراهم من في هذا البيت ، فإذا خرج من قصره سار في ملكه مثل عمر الدنيا يسير في ملكه عن يمينه وعن يساره ومن ورائه ، وأزواجه معه وليس معه ذكر غيره ومن بين يديه ملائكة قد سخروا له وبين أزواجه ستر ، وبين يديه ستر ووصاف ووصائف قد أفهموا ما يشتهي وما تشتهي أزواجه ، ولا يموت هو ولا أزواجه ولا خدّامه أبداً ، نعيمهم يزداد كل يوم من غير أن يبلي الأول ، وقرة عين لا تنقطع أبداً ، لا يدخل عليه فيه روعة أبداً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 267(3/183)
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "والذي نفسي بيده لو أن أحد أهل الجنة رجل أضاف آدم فمن دونه فوضع لهم طعاماً وشراباً حتى خرجوا من عنده لا ينقصه ذلك شيئاً مما أعطاه الله" وعن سهل بن سعد قال : "بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصف الجنة حتى انتهى ثم قال : فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم قال : {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} الآيتين قال القرطبي : إنهم أخفوا عملاً وأخفى لهم ثواباً فقدموا على الله فقرت تلك الأعين ، وعن أبي اليمان قال : الجنة مائة درجة أولها درجة فضة وأرضها فضة ومساكنها فضة وآنيتها فضة وترابها المسك ، والثانية ذهب وأرضها ذهب ومساكنها ذهب وآنيتها ذهب وترابها المسك ، والثالثة لؤلؤ وأرضها لؤلؤ ومساكنها لؤلؤ وآنيتها لؤلؤ وترابها المسك وسبع وتسعون بعد ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وتلا هذه الآية {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} الآية.
وعن المغيرة بن شعبة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام سأل ربه فقال : أي : رب ، أي : أهل الجنة أدنى منزلة ؟
فقال : رجل يجيء بعدما دخل أهل الجنة الجنة فيقال له : ادخل فيقول كيف أدخل وقد نزلوا منازلهم وأخذوا أخذاتهم فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ما كان لملك من ملوك الدنيا فيقول : نعم أي : رب قد رضيت فيقال له : فإن لك هذا وعشرة أمثاله معه فيقول : قد رضيت أي رب فيقال له : فإن لك هذا وما اشتهت نفسك ولذت عينك فقال موسى : أي : رب فأي أهل الجنة أرفع منزلة ؟
قال : إياها أردت وسأحدثك عنهم ، إني غرست كرامتهم بيدي ، وختمت عليها فلا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال : ومصداق ذلك في كتاب الله {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}.
ونزل في علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه والوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان لأمه حين تنازعا فقال الوليد بن عقبة لعلي : اسكت فإنك صبي وأنا شيخ وأنا والله أبسط منك لساناً وأحد منك سناناً وأشجع جناناً وأملأ منك حشواً في الكتيبة ، فقال له علي اسكت فإنك فاسق.
{أفمن كان مؤمناً} أي : راسخاً في التصديق بجميع ما أخبرت به الرسل {كمن كان فاسقاً} أي : راسخاً في الفسق خارجاً عن دائرة الإذعان وقال تعالى {لا يستوون} ولم يقل تعالى لا يستويان ؛ لأنه لم يرد مؤمناً واحداً ولا فاسقاً واحداً بل أراد جميع المؤمنين وجميع الفاسقين فلا
272
يستوي جمع من هؤلاء بجميع من أولئك ولا فرد بفرد. قال قتادة : لا يستوون لا في الدنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 267
ولما نفى استواءهم أتبعه حال كلَ على سبيل التفصيل وبدأ بحال المؤمن بقوله تعالى :
{أما الذي آمنوا وعملوا} أي : تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} أي : الطاعات {فلهم جنات المأوى} أي : التي يأوي إليها المؤمنون فإنها المأوى الحقيقي والدنيا منزل مرتحل عنها لا محالة ، وهي نوع من الجنات قال الله تعالى : {ولقد رآه نزله أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى} (النجم : 13 ، 15)
سميت بذلك لما روى عن ابن عباس قال : تأوي إليها أرواح الشهداء وقيل هي عن يمين العرش {نزلاً} أي : عداداً لهم أول قدومهم قال البقاعي : كما يهيأ للضيف على ما لاح أي : عند قدومه {بما} أي : بسبب ما {كانوا يعملون} من الطاعات فإن أعمالهم من رحمة ربهم ، وإذا كانت هذه الجناب نزلاً فماظنك بما بعد ذلك هو لعمري ما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" وهم كل لحظة في زيادة لأن قدرة الله تعالى لا نهاية لها ، فإياك أن تخادع أو يغرنك ملحد ، ثم ثنى بحال الكافر بقوله تعالى :
{وأما الذين فسقوا} أي : خرجوا عن دائرة الإيمان الذي هو معدن التواضع وأهل للمصاحبة والملازمة {فمأواهم النار} أي : التي لا صلاحية فيها للإيواء بوجه من الوجوه ملجؤهم ومنزلهم أي : فالنار لهم مكان جنة المأوى للمؤمنين {كلما أرادوا} أي : وهم مجتمعون ، فكيف إذا أراد بعضهم {أن يخرجوا منها} بأن يخيل إليهم ما يظنون به القدرة على الخروج منها كما كانوا يخرجون نفوسهم من محيط الأدلة ومن دائرة الطاعات إلى ميدان المعاصي والزلات فيعالجون الخروج ، فإذا ظنوا أنه تيسر لهم وهم بعد في غمراتها {أعيدوا فيها} فهو عبارة عن خلودهم فيها {وقيل لهم} أي : من أي : قائل وكل بهم {ذوقوا عذاب النار} إهانة لهم وزيادة في تغيظهم وقوله تعالى {الذي كنتم به تكذبون} صفة لعذاب ، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة للنار قال : وذكر على معنى الجحيم والحريق.
ولما كان المؤمنون الآن يتمنون إصابتهم بشيء من الهوان قال تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 267
{ولنذيقهم من العذاب الأدنى} أي : عذاب الدنيا ، قال الحسن : هو مصائب الدنيا
273(3/184)
وأسقامها وقال عكرمة : الجوع بمكة تسع سنين أكلوا فيها الجيف والعظام والكلاب ، وقال ابن مسعود : هو القتل بالسيف يوم بدر {دون العذاب الأكبر} وهو عذاب الآخرة فإن عذاب الدنيا لا نسبة له إلى عذاب الآخرة ، فإن قيل : ما الحكمة في مقابلة الأدنى بالأكبر ، والأدنى إنما هو في مقابلة الأقصى والأكبر إنما هو في مقابلة الأصغر.
أجيب : بأنه حصل في عذاب الدنيا أمران : أحدهما : أنه قريب ، والآخر : أنه قليل صغير ، وحصل في عذاب الآخرة أيضاً أمران : أحدهما : أنه بعيد ، والآخر : أنه عظيم كبير ، لكن العرف في عذاب الدنيا هو أنه الذي يصلح للتخويف ، فإن العذاب الآجل وإن كان قليلاً فلا يحترز عنه بعض الناس أكثر مما يحترز من العذاب الشديد إذا كان آجلاً ، وكذا الثواب العاجل قد يرغب فيه بعض الناس ويستبعد الثواب العظيم الآجل.
وأما في عذاب الآخرة فالذي يصلح للتخويف به هو العظيم والكبير لا البعيد ؛ لما ذكر. فقال في عذاب الدنيا : العذاب الأدنى ليحترز العاقل ولو قال تعالى : ولنذيقنهم من العذاب الأصغر ما كان ليحترز عنه لصغره وعدم فهم كونه عاجلاً ، وقال في عذاب الآخرة : الأكبر لذلك المعنى ، ولو قال : من العذاب الأبعد الأقصى لما حصل التخويف به مثل ما يحصل بوصفه من الكبر {لعلهم يرجعون} إلى الإيمان أي : من بقي منهم بعد بدر ، فإن قيل : ما الحكمة في هذا الترجي وهو على الله تعالى محال ، أجيب بوجهين : أحدهما : معناه لنذيقنهم إذاقة الراجي كقوله تعالى {إنا نسيناكم} يعني تركناكم كما يترك الناسي حيث لا يلتفت إليه أصلاً كذلك هنا ، والثاني : نذيقنهم العذاب ، إذاقة يقول القائل : لعلهم يرجعون بسببه.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 273
ومن} أي : لا أحد {أظلم ممن ذكر بآيات ربه} أي : القرآن {ثم أعرض عنها} فلم يتفكر فيها ، وثم لاستبعاد الإعراض عنها مع فرط وضوحها وإرشادها إلى أسباب السعادة بعد التذكر بها عقلاً كما في بيت الحماسة :
*وما يكشف الغماء إلا ابن حرة ** يرى غمرات الموت ثم يزورها*
أي : لا يكشف الأمر العظيم إلا رجل كريم موصوف بما ذكر ، والغماء بتشديد الميم والمد أي : في مدة اقتحام الحرب ، والشاهد في قوله : ثم يزورها ، إذ المعنى أنه استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها {إنا من المجرمين} أي : الكافرين {منتقمون} وعبر بصيغة العظمة تنبيهاً على أن الذي يحصل لهم من العذاب لا يدخل تحت الوصف على مجرد العداد في الظالمين فكيف إذا كانوا أظلم الظالمين ، والجملة الاسمية تدل على دوام ذلك عليهم في الدنيا أما باطناً بالاستدراج بالنعم ، وأما ظاهراً بإحلال النقم وفي الآخرة بدوام العذاب على ممر الآباد.
ولما قرر الأصول الثلاثة وعاد إلى الأصل الذي بدأ به وهو الرسالة المذكورة في قوله تعالى {لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير} (القصص : 46)
بين أنه ليس بدعا من الرسل بقوله تعالى :
{ولقد آتينا موسى الكتاب} أي : الجامع للأحكام وهو التوراة فكان قبلك رسل مثلك ، وذكر موسى عليه السلام لقربه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو أول من أنزل عليه كتاب من أنبياء بني إسرائيل بعد فترة كثيرة من الأنبياء بينه
274
وبين يوسف عليهما السلام ، ولم يختر عيسى عليه السلام للذكر والاستدلال لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوته وأما النصارى فكانوا يعترفون بنبوءة موسى عليه السلام فذكر المجمع عليه {فلا تكن في مريه} واختلف في الهاء في قوله تعالى {من لقائه} على أقوال : أحدها : أنها عائدة على موسى عليه السلام والمصدر مضاف لمفعوله أي : من لقائك موسى ليلة الإسراء.
وامتحن المبرد الزجاج في هذه المسألة فأجاب بما ذكر قال ابن عباس وغيره : المعنى فلا تكن في شك من لقاء موسى فإنك تراه وتلقاه ، روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "رأيت ليلة أسري بي موسى رجلا آدم طوالاً جعداً كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى رجلاً مربوعاً إلى الحمرة والبياض سبط الرأس ، ورأيت مالكاً خازن النار والدجال في آيات آراهن الله إياه" وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتيت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو يصلي في قبره" ، فإن قيل : قد صح في حديث المعراج أنه رآه في السماء السادسة ومراجعته في أمر الصلاة ، فكيف الجمع بين هذين الحديثين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 273
أجيب : بأنه يحتمل أن تكون رؤيته في قبره عند الكثيب الأحمر قبل صعوده إلى السماء وذلك في طريقه إلى بيت المقدس ، فلما صعد إلى السماء السادسة وجده هناك قد سبقه لما يريده الله تعالى وهو على كل شيء قدير.(3/185)
فإن قيل : كيف تصح منه الصلاة في قبره وهو ميت وقد سقط عنه التكليف وهو في الدار الآخرة وهي ليست دار عمل ، وكذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الأنبياء وهم يحجون ؟
أجيب عن ذلك بأجوبة : الأول : أن الأنبياء أفضل من الشهداء ، والشهداء أحياء عند ربهم فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا كما صح في الحديث ، وأن يتقربوا إلى الله تعالى بما استطاعوا لأنهم وإن كانوا قد توفوا لكنهم بمنزلة الأحياء في هذه الدار التي هي دار العمل إلى أن تفنى ويفضوا إلى دار الجزاء التي هي الجنة.
الجواب الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم رأى حالهم التي كانوا عليها في حياتهم ومثلوا له كيف كانوا وكيف كان حجهم وصلاتهم. الجواب الثالث : أن التكليف وإن ارتفع عنهم في الآخرة لكن الذكر والشكر والدعاء لا يرتفع قال الله تعالى {دعواهم فيها سبحانك اللهم} (يونس : 10)
وقال صلى الله عليه وسلم "يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس" فالعبد يعبد ربه تعالى في الجنة أكثر ما كان يعبده في دار الدنيا ، وكيف لا يكون ذلك وقد صار مثل حال الملائكة الذين قال الله تعالى في حقهم {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} (الأنبياء : 20)
غاية ما في الباب أن العبادة ليست عليهم بتكليف بل هي مقتضى الطبع. ثانيها : أن الضمير يعود إلى الكتاب وحينئذ يجوز أن تكون الإضافة للفاعل أي : من لقاء الكتاب لموسى أو المعول أي : من لقاء موسى الكتاب لأن اللقاء تصح نسبته إلى كل منهما ؛ لأن من لقيك فقد لقيته. قال السدي : المعنى فلا تكن في مرية من لقائه أي : تلقى موسى كتاب الله تعالى بالرضا والقبول.
275
ثالثها : أنه يعود على الكتاب على حذف مضاف أي : من لقاء مثل كتاب موسى.
رابعها : أنه عائد على ملك الموت عليه السلام لتقدم ذكره. خامسها : عوده على الرجوع المفهوم من قوله {إلى ربكم ترجعون} أي : لا تكن في مرية من لقاء الرجوع. سادسها : أنه يعود على ما يفهم من سياق الكلام مما ابتلي به موسى من الابتلاء والامتحان قاله الحسن أي : لا بد أن تلقى ما لقي موسى من قومه ، واختار موسى عليه السلام الحكمة وهي أن أحداً من الأنبياء لم يؤذه من قومه إلا الذين لم يؤمنوا ، وأما الذين آمنوا به فلم يخالفوه غير قوم موسى عليه السلام فإن من لم يؤمن به آذاه كفرعون ، ومن آمن به من بني إسرائيل آذاه أيضاً بالمخالفة ، فطلبوا أشياء مثل رؤية الله جهرة ، وكقولهم {فاذهب أنت وربك فقاتلا} (المائدة : 24)
جزء : 3 رقم الصفحة : 273
وأظهر هذه الأقوال أن الضمير إما لموسى وإما للكتاب ، واختلف في الضمير أيضاً في قوله تعالى {وجعلناه} على قولين : أحدهما : يرجع إلى موسى أي : وجعلنا موسى {هدى} أي : هادياً {لبني إسرائيل} كما جعلناك هادياً لأمتك. والثاني : أنه يرجع إلى الكتاب أي : وجعلنا كتاب موسى هادياً كما جعلنا كتابك كذلك.
{وجعلنا منهم} أي : من أنبيائهم وأحبارهم {أئمة يهدون} أي : يرفعون البيان ويعملون على حسبه {بأمرنا} أي : بما نزلنا فيه من الأوامر ، كذلك جعلنا من أمتك صحابة يهدون ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة قبل الميم ، ولهم أيضاً إبدالها ياء ، وحققها الباقون ومد هشام بين الهمزتين بخلاف عنه ، وقوله تعالى {لما صبروا} قرأ حمزة والكسائي بكسر اللام وتخفيف الميم أي : بسبب صبرهم على دينهم وعلى البلاء من عدوهم ولأجله ، وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد الميم أي : حين صبرهم على ذلك ، وإن كان الصبر أيضاً إنما هو بتوفيق الله تعالى {وكانوا بآياتنا} الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا لما لها من العظمة {يوقنون} أي : لا يرتابون في شيء منها ولا يعملون فعل الشاك فيها بالإعراض.
ولما أفهم قوله تعالى منهم أنه كان منهم من يضل عن أمر الله قال الله تعالى :
{إن ربك} أي : المحسن إليك بإرسالك ليعظم ثوابك {هو} أي : وحده {يفصل بينهم} أي : بين الهادين والمهديين والضالين والمضلين {يوم القيامة} بالقضاء الحق {فيما كانوا فيه يختلفون} أي : من أمر الدين لا يخفي عليه شيء منه وأما غير ما اختلفوا فيه ، فالحكم فيه لهم أو عليهم ، وما اختلفوا فيه لا على وجه القصد فيقع في محل العفو.
ولما أعاد ذكر الرسالة أعاد ذكر التوحيد بقوله تعالى :
{أولم يهد} أي : يبين كما رواه البخاري عن ابن عباس {لهم كم أهلكنا} أي : كثرة من أهلكنا {من قبلهم من القرون} الماضين من المعرضين عن الآيات ، ونجينا من آمن بها. وقوله تعالى {يمشون} حال من ضمير لهم {في مساكنهم} أي : في أسفارهم إلى الشام وغيرها كمساكن عاد وثمود وقوم لوط فيعتبروا {إن في ذلك} أي : الأمر العظيم {لآيات} أي : دلالات على قدرتنا {أفلا يسمعون} سماع تدبر واتعاظ فيتعظوا بها.
276(3/186)
{أولم} أي : أيقولون في إنكار البعث أئذا ضللنا في الأرض ولم {يروا أنا} بما لنا من العظمة {نسوق الماء} أي : من السماء أو الأرض {إلى الأرض الجرز} أي : التي جرز نباتها أي : قطع باليبس والتهشم أو بأيدي الناس فصارت ملساء لا نبات فيها ، وفي البخاري عن ابن عباس أنها التي لا تمطر إلا مطراً لا يغني عنها شيئاً ، ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز ويدل عليه قوله تعالى {فنخرج به} من أعمال الأرض بذلك الماء {زرعاً} أي : نبتاً لا ساق له باختلاط الماء بالتراب ، وقيل الجرز : اسم موضع باليمن {تأكل منه أنعامهم} أي : من حبه وورقه وتبنه وحشيشه {وأنفسهم} أي : من الحبوب والأقوات ، وقدّم الأنعام لوقوع الامتنان بها لأن بها قوامهم في معايشهم وأبدانهم ولأن الزرع غذاء للدواب لابد منه ، وأما غذاء الإنسان فقد يصلح للحيوان فكان الحيوان يأكل الزرع ، ثم الإنسان يأكل من الحيوان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 273
فإن قيل : في سورة عيسى قدم ما للإنسان أولاً فما الحكمة ؟
أجيب : بأن السياق فيها لطعام الإنسان الذي هو نهاية الزرع حيث قال : {فلينظر الإنسان إلى طعامه} (عبس : 24)
ثم قال : {فأنبتنا فيها حباً} (عبس : 27)
وذكر من طعامه من العنب وغيره ما لا يصلح للأنعام فقدمه ، وهذا السياق لمطلق إخراج الزرع ، وأول صلاحه إنما هو لأكل الأنعام ولا يصلح للإنسان. ولما كانت هذه الآية مبصرة قال {أفلا يبصرون} هذا فيعلموا أنا نقدر على إعادتهم بخلاف الآية الماضية فإنها كانت مسموعة فقال : {أفلا يسمعون}.
ثم لما بين الرسالة والتوحيد بين الحشر بقوله تعالى :
{ويقولون} أي : مع هذا البيان الذي ليس معه خفاء {متى هذا الفتح} أي : يوم القيامة وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم ويوم نصرهم عليهم وقيل : هو يوم بدر ، وعن مجاهد والحسن يوم فتح مكة {إن كنتم صادقين} أي : عريقين في الصدق بالإخبار بأنه لابد من وقوعه حتى نؤمن إذا رأيناه ، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
{قل} أي : لهؤلاء الجهلة {يوم الفتح} أي : الذي تستهزئون به وهو يوم القيامة {لا ينفع الذين كفروا} أي : غطوا آيات ربهم التي لا خفاء بها ، سواء في ذلك أنتم وغيركم ممن اتصف بهذا الوصف {إيمانهم} لأنه ليس إيماناً بالغيب {ولا هم ينظرون} أي : يمهلون في إيقاع العذاب بهم لحظة ما من منتظر ما ، فإن قيل : قد سألوا عن وقت الفتح فكيف ينطبق هذا الكلام جواباً عن سؤالهم ؟
أجيب : بأنه كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح استعجالاً منهم على وجه التكذيب والاستهزاء ، فأجيبوا على حسب ما علم من غرضهم في سؤالهم فقيل لهم : لا تستعجلوا بعد ولا تستهزؤا فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان ، واستنظرتم في إدارك العذاب فلم تنظروا.
فإن قيل : فمن فسره بيوم الفتح أو بيوم بدر كيف يستقيم على تفسيره أن لا ينفعهم الإيمان وقد نفع الطلقاء يوم فتح مكة وناساً يوم بدر ، أجيب : بأن المراد أن المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل كما لم ينفع فرعون إيمانه حال إدراك الغرق وقوله تعالى :
{فأعرض عنهم} أي : لا تبال بتكذيبهم {وانتظر} أي : إنزال العذاب بهم {إنهم منتظرون} أي : بك حادث موت أو قتل فيستريحون منك ، كان ذلك قبل الأمر بقتالهم وقيل : انتظر عذابهم بيقينك إنهم منتظرونه بلفظهم استهزاء كما قالوا {فأتنا بما تعدنا} (الأعراف : 70)
وعن أبي هريرة قال : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة ألم تنزيل في الركعة
277
الأولى ، وهل أتى على الإنسان أي : في الركعة الثانية" وعن جابر قال : "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ تبارك ، وألم تنزيل ، ويقول : هما يفضلان على كل سورة في القرآن بسبعين حسنة ومن قرأهما كتب له سبعون حسنة ورفع له سبعون درجة".
جزء : 3 رقم الصفحة : 273
وعن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من قرأ سورة ألم تنزيل أعطي من الأجر كمن أحيا ليلة القدر" وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عنه صلى الله عليه وسلم "من قرأ ألم تنزيل في بيته لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام" قال شيخ شيخنا ابن حجر : لم أجده. والله تعالى أعلم بالصواب.
278
جزء : 3 رقم الصفحة : 273(3/187)
سورة الأحزاب
مدنية وهي ثلاث وسبعون آية ، وألف ومائتانوثمانون كلمة ، وخمسة آلاف وتسعمائة وتسعون حرفاً
وعن أبي ذر قال : قال أبيّ بن كعب : كم تعدون سورة الأحزاب قال : ثلاثاً وسبعين آية قال : والذي يحلف به أبيّ بن كعب أن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول ، ولقد قرأنا منها آية الرجم الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم أراد أبيّ أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن وأما ما حكي أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض.
{بسم الله} الذي مهما أراد كان {الرحمن} الذي شملت رحمته كل موجود بالكرم والجود {الرحيم} لمن توكل عليه بالعطف عليه.
ونزل في أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور عمرو بن سفيان السلمي لما قدموا المدينة ونزلوا على عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين بعد قتال أحد وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه ، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده عمر بن الخطاب : ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزة ومناة وقل : إن لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربك ، فشق على النبي صلى الله عليه وسلم قولهم فقال عمر : يا رسول الله ائذن لي في قتلهم فقال إني قد أعطيتهم الأمان فقال عمر : أخرجوا في لعنة الله وغضبه ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يخرجهم من المدينة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 278
279
{يا أيها النبي اتق الله} وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن أهل مكة منهم الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة دعوا صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن قوله على أن يعطوه شطر أموالهم ، وخوّفه المنافقون من اليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه فأنزل الله تعالى : {يا أيها النبي اتق الله} أي : دم على التقوى كما يقول الرجل لغيره وهو قائم : قم قائماً أي : اثبت قائماً فسقط بذلك ما يقال الأمر بالشيء لا يكون إلا عند اشتغال المأمور بغير المأمور به إذ لا يصح أن يقال للجالس : اجلس ، وللساكت : اسكت ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان متقياً لأن الأمر بالمداومة يصح في ذلك فيقال للجالس : اجلس هنا حتى آتيك ، ويقال للساكت : قد أحسنت فاسكت تسلم أي : دم على ما أنت عليه.
وأيضاً من جهة العقل : أن الملك يتقي منه عادة على ثلاثة أوجه : بعضهم يخاف من عقابه ، وبعضهم يخاف من قطع ثوابه ، وثالث يخاف من احتجابه ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بالتقوى بالأول ولا بالثاني ، وأما الثالث فالمخلص لا يأمنه ما دام في الدنيا ، فكيف والأمور البدنية شاغلة ، فالآدمي في الدنيا تارة مع الله والأخرى مقبل على مالا بد منه وإن كان معه الله ، ولهذا أشار بقوله عليه الصلاة والسلام {إنما أن بشر مثلكم يوحى إلي} (الكهف : 110)
جزء : 3 رقم الصفحة : 279
يعني برفع الحجاب عني وقت الوحي ثم أعود إليكم كأني منكم ، فأمر بتقوى توجب إدامة الحضور ، وقال الضحاك : معناه اتق الله ولا تنقض الذي بينك وبينهم ، وقيل : الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد الأمة.
تنبيه : جعل الله تعالى نداء نبيه صلى الله عليه وسلم بالنبي والرسول في قوله تعالى {يا أيها النبي اتق الله} {يا أيها النبي لم تحرم} (التحريم : 1)
{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك} (المائدة : 67)
وترك نداءه باسمه كما قال تعالى : يا آدم يا موسى يا عيسى يا داود كرامة وتشريفاً وتنويهاً بفضله ، فإن قيل : إن لم يوقع اسمه في النداء فقد أوقعه في الأخبار في قوله تعالى {محمد رسول الله} (الفتح : 29)
{وما محمد إلا رسول} (آل عمران : 144)
أجيب : بأن ذلك لتعليم الناس أنه رسول الله وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به فلا تفاوت بين النداء والإخبار ، ألا ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الإخبار كيف ذكره بنحو ما ذكر في النداء {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} (التوبة : 128)
{وقال الرسول يا رب} (الفرقان ، 30) {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب : 21)
{والله ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة : 62)
{النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} (الأحزاب : 6)
{ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي} (المائدة : 81)
{إن الله وملائكته يصلون على النبي} (الأحزاب : 56)
وقرأ نافع النبئ بالهمزة والباقون بغير همز.
280
ولما وجه إليه صلى الله عليه وسلم الأمر بخشية الولي الودود أتبعه النهي عن الالتفات لنحو العدو الحسود بقوله تعالى : {ولا تطع الكافرين والمنافقين} في شيء من الأشياء لم يتقدم إليك من الخالق فيه أمر وإن لاحَ لائح خوفٍ أو برق رجاء فجانبهم واحترس منهم ، فإنهم أعداء الله تعالى وأعداء المؤمنين ، لا يريدون إلا المضارة والمضادة. قال أبو حيان : سبب نزولها أنه روى : "أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان يحب إسلام اليهود فتابعه ناس على النفاق وكل يلين لهم جانبه ، وكانوا يظهرون النصائح من طريق المخادعة فنزلت تحذيراً لهم منهم وتنبيهاً على عداوتهم" انتهى وبهذا سقط ما قيل : لم خص الكافر والمنافق بالذكر ولأن ذكر غيرهما لا حاجة إليه لأنه لا يكون عنده إلا مطاعاً ولأن كل من طلب من النبي صلى الله عليه وسلم طاعته فهو كافر أو منافق ؛ لأن من يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأمر إيجاب معتقداً أنه لم يفعله يعاقبه بحق يكون كافراً ، وقرأ أبو عمرو والدوري عن الكسائي ، الكافرين بالإمالة محضة ، وورش بين بين والباقون بالفتح.
جزء : 3 رقم الصفحة : 279(3/188)
ثم علل تعالى الأمر والنهي بما يزيل الهموم ويوجب الإقبال عليهما واللزوم بقوله تعالى : {إن الله} أي : بعظيم كماله {كان} أزلاً وأبداً {عليماً} أي : شامل العلم {حكيماً} أي : بالغ الحكمة فهو تعالى لم يأمرك بأمر إلا وقد علم ما يترتب عليه ، وأحكم إصلاح الحال فيه.
ولما كان ذلك مفهماً لمخالفة كل ما يدعو إليه كافر ، وكان الكافر ربما دعا إلى شيء من مكارم الأخلاق قيده بقوله تعالى :
{واتبع} أي : بغاية جهدك {ما يوحى} أي : يلقى إلقاء خفياً كما يفعل المحب مع حبيبه {إليك من ربك} أي : المحسن إليك بصلاح جميع أمرك ، وأتى موضع الضمير بالظاهر ليدل على الإحسان في التربية ليقوى على امتثال ما أمرت به الآية السالفة.
ولما أمر باتباع الوحي رغبه فيه بالتعليل بأوضح من التعليل الأول في أن مكرهم خفي بقوله تعالى مذكراً بالاسم الأعظم بجميع ما يدل عليه من الأسماء الحسنى زيادة في التقوى على الامتثال مؤكداً للترغيب {أن الله} أي : بعظمته وكماله {كان} أزلاً وأبداً {بما يعملون} أي : الفريقان من المكايد وإن دق {خبيراً} أي : فلا تهتم بشأنهم ، فإنه سبحانه كافيكه وإن تعاظم ، وقرأ أبو عمرو {بما يعملون خبيراً} {وبما يعملون بصيراً} بالياء على الغيبة على أن الواو ضمير الكفرة والمنافقين والباقون بالتاء على الخطاب فيهما.
ولما كان الآدمي موضع الحاجة قال تعالى :
{وتوكل} أي : دع الاعتماد على التدبير في أمورك واعتمد فيها {على الله} أي : المحيط علماً وقدرة فإنه يكفيك في جميع أمورك {وكفى بالله} أي : الذي له الأمر كله على الإطلاق {وكيلا} أي : موكولاً إليه الأمور كلها فلا تلتفت في شيء من أمرك إلى غيره ؛ لأنه ليس لك قلبان تصرف كل واحد منهما إلى واحد كما قال تعالى :
{ما جعل الله} أي : الذي له الحكمة البالغة والعظمة الباهرة {لرجل} أي : لأحد من بني آدم ولا غيره ، وعبر بالرجل لأنه أقوى جسماً وفهماً فيفهم غيره من باب أولى ، وأشار إلى التأكيد بقوله تعالى : {من قلبين} وأكد الحقيقة وقررها وجلاها وصورها بقوله تعالى : {في جوفه} أي : ما جمع الله تعالى قلبين في جوف ؛ لأن القلب معدن الروح الحيواني المتعلق للنفس الإنساني أولاً ، ومنبع القوى بأسرها ومدبر البدن بإذن الله تعالى وذلك يمنع التعدد {وما جعل أزواجكم اللائي}
281
أباح لكم التمتع بهن {تظاهرون منهن} كما يقول الإنسان للواحدة منهن : أنت عليّ كظهر أمي {أمهاتكم} بما حرم عليكم من الاستمتاع بهن حتى تجعلوا ذلك على التأبيد وترتبوا على ذلك أحكام الأمهات كلها {وما جعل أدعياءكم} جمع دعيّ وهو من يدعي لغير أبيه {أبناءكم} حقيقة ليجعل لهم إرثكم ويحرم عليكم حلائلهم وغير ذلك من أحكام الأبناء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 279
والمعنى : أن الله سبحانه وتعالى كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين لأنه لا يخلو أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب ، فأحدهما فضلة غير محتاج إليها ، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً عالماً ظاناً موقناً شاكاً في حالة واحدة لم ير أيضاً أن تكون المرأة الواحدة أما لرجل زوجاً له ، لأن الأم مخدومة مخفوض لها الجناح ، والمرأة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوكة ، وهما حالتان متنافيتان ولم ير أيضاً أن يكون الرجل الواحد دعيا لرجل وابناً له ؛ لأن البنوة أصالة في النسب وعراقة فيه ، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير ، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلاً غير أصيل.
وهذا مثل ضربه الله تعالى في زيد بن حارثة وهو رجل من كلب سبي صغيراً وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهبته له وطلبه أبوه وعمه فخير فاختار النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبوه وعمه :
يا زيد أتختار العبودية على الربوبية قال : ما أنا بمفارق هذا الرجل فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصه عليه أعتقه وتبناه قبل الوحي ، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب ، فلما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وكانت تحت زيد بن حارثة قال المنافقون : تزوج امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية فيه ، وكذا قوله تعالى : {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} (الأحزاب : 40)(3/189)
وروي أن رجلاً كان يسمى أبا معمر جميل بن معمر الفهري وكان رجلاً لبيباً حافظاً لما يسمع ، فقالت قريش : ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان ، وكان يقول : لي قلبان أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد ، فلما هزم الله تعالى المشركين يوم بدر انهزم أبو معمر فيهم فلقيه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له : ما فعل الناس فقال له : بين مقتول وهارب فقال له : فما بالك إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك ؟
فقال : ما ظننت إلا أنهما في رجلي فأكذب الله تعالى قوله" ، وقولهم وضربه مثلاً في الظهار والتبني.
وعن ابن عباس : "كان المنافقون يقولون : لمحمد قلبان فأكذبهم الله تعالى" وقيل سها في صلاته فقالت اليهود : له قلبان قلب مع أصحابه وقلب معكم ، وعن الحسن نزلت في أن الواحد يقول : لي نفسان نفس تأمرني ونفس تنهاني ، فإن قيل : ما وجه تعدية الظهار وأخواته بمن ؟
أجيب : بأن الظهار كان طلاقاً في الجاهلية فكانوا بتجنبون المرأة المظاهر منها كما يتجنبون المطلقة ، فكان قولهم : تظاهر منها ، تباعد منها جهة الظهار ، فلما تضمن معنى التباعد منها عدي بمن.
جزء : 3 رقم الصفحة : 279
فإن قيل : ما معنى قولهم : أنت علي كظهر أمي ، أجيب : بأنهم أرادوا أن يقولوا : أنت عليّ
282
حرام كبطن أمي فكنوا عن البطن بالظهر لئلا يذكروا البطن الذي ذكره يقارب ذكر الفرج ؛ لأنه عمود البطن ، ومنه حديث عمر : يجيء به أحدهم على عمود بطنه أراد على ظهره ، ووجه آخر : وهو أن إتيان المرأة وظهرها إلى السماء كان محرماً عندهم محظوراً ، وكان أهل المدينة يقولون : إذا أتيت المرأة ووجهها إلى الأرض جاء الولد أحول ، فلقصد المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه شبهها بالظهر ، ثم لم يقنع بذلك حتى جعله كظهر أمه ، وهو منكر وزور وفيه كفارة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة المجادلة.
وقرأ ابن عامر والكوفيون اللائي بالهمزة المكسورة والياء بعدها في الوصل ، وسهل الياء كالهمزة ورش ، والبزي وأبو عمرو مع المد والقصر ، وعن أبي عمرو والبزي أيضاً إبدالها ياء ساكنة مع المد لا غير ، وقالون وقنبل بالهمزة ولا ياء بعدها ، وقرأ تظهرون عاصم بضم التاء ، وتخفيف الظاء وألف بعدها وكسر الهاء مخففة ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء والظاء مخففتين وألف بعد الظاء وفتح الهاء مخففة ، وابن عامر كذلك إلا أنه يشدد الظاء ، والباقون بفتح التاء والظاء والهاء مع تشديد الظاء والهاء ولا ألف بعد الظاء وقوله تعالى : {ذلكم} إشارة إلى كل ما ذكر وإلى الأخير {قولكم بأفواهكم} أي : مجرد قول لسان من غير حقيقة كالهذيان {والله} أي : المحيط علماً وقدرة وله جميع صفات الكمال {يقول الحق} أي : ماله حقيقة الثابت الذي يوافق ظاهره باطنه فلا قدرة لأحد على نقضه ، فإن أخبر عن شيء فهو كما قال : {وهو} أي : وحده {يهدي السبيل} أي : يرشد إلى سبيل الحق.
ولما كان كأنه قيل فما تقول اهدنا إلى سبيل الحق قال تعالى :
{ادعوهم} أي : الأدعياء {لآبائهم} أي : الذين ولدوهم إن علموا ولذا قال زيد بن حارثة : قال صلى الله عليه وسلم "من دعي إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام" وأخرجه الشيخان عن سعد بن أبي وقاص ، ثم علل تعالى ذلك بقوله تعالى : {هو} أي : هذا الدعاء {أقسط} أي : أقرب إلى العدل من التبني ، وإن كان إنما هو لمزيد الشفقة على المُتَبَنَّى والإحسان إليه {عند الله} أي : الجامع لصفات الكمال ، وعن ابن عمران زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن {ادعوهم لآبائهم} الآية وقيل : كان الرجل في الجاهلة إذا أعجبه جلد الرجل وظرفه ضمه إلى نفسه وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده من ميراثه ، وكان ينسب إليه فيقال : فلان ابن فلان ، أما إذا جهلوا فهو ما ذكر بقوله تعالى : {فإن لم تعلموا آباءهم} لجهل أصلي أو طارئ {فإخوانكم} أي : فهم إخوانكم {في الدين} إن كانوا دخلوا في دينكم أي : قولوا لهم إخواننا {ومواليكم} إن كانوا محررين أي : قولوا موالي فلان ، وعن مقاتل إن لم تعلموا لهم أباً فانسبوهم إخوانكم في الدين أي : أن تقول : عبد الله وعبد الرحمن وعبيد الله وأشباههم من الأسماء ، وأن يدعى إلى اسم مولاه وقيل : مواليكم أولياؤكم في الدين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 279
ولما كان عادتهم الخوف مما سبق من أحوالهم على النهي لشدة ورعهم أخبرهم أنه تعالى أسقط عنهم ذلك لكونه خطأ ، وساقه على وجه يعمم ما بعد النهي أيضاً بقوله تعالى : {وليس
283(3/190)
عليكم جناح} أي : إثم وميل واعوجاج ، وعبر بالظرف ليفيد أن الخطأ لا إثم فيه بوجه ، ولو عبر بالباء لظن أن فيه إثماً ولكن يعفي عنه فقال تعالى : {فيما أخطأتم به} أي : من الدعاء بالنبوة والمظاهرة ، أو في شيء قبل النهي أو بعده ودل قوله تعالى {ولكن ما} أي : الإثم فيما {تعمدت قلوبكم} على زوال الحرج أيضاً فيما وقع بعد النهي على سبيل النسيان ، أو سبق اللسان ، ودل تأنيث الفعل على أنه لا يتعمد بعد البيان الشافي إلا قلب فيه رخاوة الأنوثة ، ودل جمع الكثرة على عموم الإثم إن لم ينته المتعمد.
تنبيه : يجوز في ما هذه وجهان :
أحدهما : أن تكون مجرورة المحل عطف على ما المجرورة قبلها بفي. والتقدير : ولكن الجناح فيما تعمدت كما مرت الإشارة إليه.
والثاني : أنها مرفوعة المحل بالابتداء ، والخبر محذوف. وتقديره : تؤاخذون به أو عليكم فيه الجناح ونحوه ، ولما كان هذا الكرم خاصاً بما تقدم عمم سبحانه وتعالى بقوله {وكان الله} أزلاً وأبداً {غفوراً} أي : من صفته الستر البليغ على المذنب التائب {رحيماً} به ، ولما نهى تعالى عن التبني وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة مولاه لما اختاره على أبيه وعمه كما مر علل تعالى النهي فيه بالخصوص بقوله تعالى : دالاً على أن الأمر أعظم من ذلك :
{النبي} أي : الذي ينبئه الله تعالى بدقائق الأحوال في بدائع الأقوال ، ويرفعه دائماً في مراقي الكمال ولا يزيد أن يشغله بولد ولا مال {أولى بالمؤمنين} أي : الراسخين في الإيمان فغيرهم أولى في كل شيء من أمور الدين والدنيا لما حازه من الحضرة الربانية {من أنفسهم} فضلاً عن آبائهم في نفوذ حكمه فيهم ووجوب طاعته عليهم ، روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرؤا إن شئتم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} فأي مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا ، فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه".
وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول : "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك ديناً فإليّ ، ومن ترك مالاً فهو لورثته" وعن أبي هريرة قال : كان المؤمن إذا توفي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل : هل عليه دين ؟
فإن قالوا : نعم قال : هل ترك وفاء لدينه ، فإن قالوا : نعم صلى عليه وإن قالوا : لا قال : صلوا على صاحبكم ، وإنما لم يصل عليه صلى الله عليه وسلم أولاً فيما إذا لم يترك وفاء لأن
284
شفاعته صلى الله عليه وسلم لا ترد ، وقد ورد إن نفس المؤمن محبوسة عن مقامها الكريم ما لم يوف دينه ، وهو محمول على من قصر في وفائه في حال حياته ، أما من لم يقصر لفقره مثلاً فلا ، كما أوضحت ذلك في شرح المنهاج في باب الرهن.
جزء : 3 رقم الصفحة : 279
وإنما كان صلى الله عليه وسلم أولى بهم من أنفسهم لأنه لا يدعوهم إلا إلى العقل والحكمة ، ولا يأمرهم إلا بما ينجيهم ، وأنفسهم إنما تدعوهم إلى الهوى والفتنة فتأمرهم بما يرد بهم ، فهو يتصرف فيهم تصرف الآباء بل أعظم بهذا السبب الرباني فأي : حاجة إلى السبب الجسماني {وأزواجه أمهاتهم} أي : المؤمنين أي : مثلهن في تحريم نكاحهن ووجوب احترامهن وطاعتهن إكراماً له صلى الله عليه وسلم لافى حكم الخلوة والنظر والظهار والمسافرة والنفقة والميراث ، وهو صلى الله عليه وسلم أب للرجال والنساء ، وأما قوله تعالى : {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} (الأحزاب ، 40) فمعناه ليس أحد من رجالكم ولد صلبه وسيأتي ذلك ويحرم سؤالهن إلا من وراء حجاب ، وسيأتي ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى في محله.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بغلام وهو يقرأ في المصحف "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم" فقال : يا غلام حكتها فقال : هذا مصحف أبي فذهب إليه فسأله فقال : إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالأسواق ، ومعنى ذلك : أن هذا كان يقرأ أولاً ، ونسخ لما روي عن عكرمة أنه قال : كان في الحرف الأول {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} وهو أبوهم ، وعن الحسن قال في القراءة الأولى : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وقوله تعالى : {وأولوا الأرحام} أي : القرابات بأنواع النسب من النبوة وغيرها {بعضهم أولى} بحق القرابة {ببعض} أي : في التوارث ، ثم نسخ لما كان في صدر الإسلام فإنهم كانوا فيه يتوارثون بالحلف والنصر فيقول : ذمتي ذمتك ترثني وأرثك ، ثم نسخ بالإسلام والهجرة ، ثم نسخ بآية المواريث وبالآية التي في آخر الأنفال وأعادها تأكيداً ، فإن آية المواريث مقدمة ترتيباً ونزولاً على آية الأنفال ، وآية الأنفال على هذه كذلك وقوله تعالى : {في كتاب الله} يحتمل أن ذلك في اللوح المحفوظ أو فيما أنزل وهو هذه الآيات المذكورة أو فيما فرض الله.(3/191)
ولما بين أنهم أولى لسبب القرابة بين المفضل عليه بقوله تعالى : {من} أي : هم أولى بسبب القرابة من {المؤمنين} الأنصار من غير قرابة مرجحة {والمهاجرين} أي : ومن المهاجرين المؤمنين من غير قرابة كذلك وقوله تعالى : {إلا أن تفعلوا} استثناء منقطع كما جرى عليه الجلال المحلي أي : لكن أن تفعلوا {إلى أوليائكم معروفاً} بوصية فجائز ، ويجوز أن يكون استثناء من أعم العام كما قاله الزمخشري في معنى النفع والإحسان كما تقول : القريب أولى من الأجنبي إلا في الوصية ، تريد أنه أحق منه في كل نفع من ميراث وهبة وهدية وصدقة وغير ذلك إلا في الوصية ، والمراد بفعل المعروف التوصية لأنه لا وصية لوراث وعدّى تفعلوا بإلى ؛ لأنه في معنى تسدوا. والمراد بالأولياء : المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين {كان ذلك} أي : ما ذكر من آيتي {ادعوهم} {والنبي أولى} وقيل : أول ما نسخ من الآيات الإرث بالإيمان والهجرة ثابتاً {في الكتاب} أي : اللوح المحفوظ والقرآن {مسطوراً} قال الأصبهاني : وقيل في التوراة قال البقاعي : لأن في التوراة إذا نزل رجل بقوم من أهل دينه فعليهم أن يكرموه ويواسوه ، وميراثه لذوي قرابته ، فالآية من الاحتباك ، أثبت وصف الإيمان أولاً دليلاً على حذفه ثانياً ووصف الهجرة ثانياً
285
دليلاً على حذف النصرة أولاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 279
وإنما كان صلى الله عليه وسلم أولى بهم من أنفسهم لأنه لا يدعوهم إلا إلى العقل والحكمة ، ولا يأمرهم إلا بما ينجيهم ، وأنفسهم إنما تدعوهم إلى الهوى والفتنة فتأمرهم بما يرد بهم ، فهو يتصرف فيهم تصرف الآباء بل أعظم بهذا السبب الرباني فأي : حاجة إلى السبب الجسماني {وأزواجه أمهاتهم} أي : المؤمنين أي : مثلهن في تحريم نكاحهن ووجوب احترامهن وطاعتهن إكراماً له صلى الله عليه وسلم لافى حكم الخلوة والنظر والظهار والمسافرة والنفقة والميراث ، وهو صلى الله عليه وسلم أب للرجال والنساء ، وأما قوله تعالى : {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} (الأحزاب ، 40) فمعناه ليس أحد من رجالكم ولد صلبه وسيأتي ذلك ويحرم سؤالهن إلا من وراء حجاب ، وسيأتي ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى في محله.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بغلام وهو يقرأ في المصحف "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم" فقال : يا غلام حكتها فقال : هذا مصحف أبي فذهب إليه فسأله فقال : إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالأسواق ، ومعنى ذلك : أن هذا كان يقرأ أولاً ، ونسخ لما روي عن عكرمة أنه قال : كان في الحرف الأول {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} وهو أبوهم ، وعن الحسن قال في القراءة الأولى : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وقوله تعالى : {وأولوا الأرحام} أي : القرابات بأنواع النسب من النبوة وغيرها {بعضهم أولى} بحق القرابة {ببعض} أي : في التوارث ، ثم نسخ لما كان في صدر الإسلام فإنهم كانوا فيه يتوارثون بالحلف والنصر فيقول : ذمتي ذمتك ترثني وأرثك ، ثم نسخ بالإسلام والهجرة ، ثم نسخ بآية المواريث وبالآية التي في آخر الأنفال وأعادها تأكيداً ، فإن آية المواريث مقدمة ترتيباً ونزولاً على آية الأنفال ، وآية الأنفال على هذه كذلك وقوله تعالى : {في كتاب الله} يحتمل أن ذلك في اللوح المحفوظ أو فيما أنزل وهو هذه الآيات المذكورة أو فيما فرض الله.
ولما بين أنهم أولى لسبب القرابة بين المفضل عليه بقوله تعالى : {من} أي : هم أولى بسبب القرابة من {المؤمنين} الأنصار من غير قرابة مرجحة {والمهاجرين} أي : ومن المهاجرين المؤمنين من غير قرابة كذلك وقوله تعالى : {إلا أن تفعلوا} استثناء منقطع كما جرى عليه الجلال المحلي أي : لكن أن تفعلوا {إلى أوليائكم معروفاً} بوصية فجائز ، ويجوز أن يكون استثناء من أعم العام كما قاله الزمخشري في معنى النفع والإحسان كما تقول : القريب أولى من الأجنبي إلا في الوصية ، تريد أنه أحق منه في كل نفع من ميراث وهبة وهدية وصدقة وغير ذلك إلا في الوصية ، والمراد بفعل المعروف التوصية لأنه لا وصية لوراث وعدّى تفعلوا بإلى ؛ لأنه في معنى تسدوا. والمراد بالأولياء : المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين {كان ذلك} أي : ما ذكر من آيتي {ادعوهم} {والنبي أولى} وقيل : أول ما نسخ من الآيات الإرث بالإيمان والهجرة ثابتاً {في الكتاب} أي : اللوح المحفوظ والقرآن {مسطوراً} قال الأصبهاني : وقيل في التوراة قال البقاعي : لأن في التوراة إذا نزل رجل بقوم من أهل دينه فعليهم أن يكرموه ويواسوه ، وميراثه لذوي قرابته ، فالآية من الاحتباك ، أثبت وصف الإيمان أولاً دليلاً على حذفه ثانياً ووصف الهجرة ثانياً
285
دليلاً على حذف النصرة أولاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 279(3/192)
{وإذ} أي : واذكر حين {أخذنا} بعظمتنا {من النبيين ميثاقهم} أي : عهودهم في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم في المنشط والمكره وفي تصديق بعضهم لبعض وفي اتباعك فيما أخبرنا به في قولنا : {لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه} (آل عمران : 88)
وقولهم أقررنا.
ولما ذكر ما أخذ على جميع الأنبياء من العهد في إبلاغ ما يوحى إليهم والعمل بمقتضاه ذكر ما أخذ عليهم من العهد في التبليغ بقوله تعالى : {ومنك} أي : في قولنا في هذه السورة {اتق الله واتبع ما يوحى إليك} (الأحزاب : 1 ـ 2)
وفي المائدة : 67 {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} فلا تهتم بمراعاة عدو ولا خليل حقير ولا جليل.
ولما أتم المراد إجمالاً وعموماً وخصه صلى الله عليه وسلم من ذلك العموم مبتدئاً به لقوله صلى الله عليه وسلم "كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث" بياناً بتشريفه ، ولأنه المقصود بالذات أتبعه بقية أولي العزم الذين هم أصحاب الكتب ومشاهير أرباب الشرائع ورتبهم على ترتيبهم في الزمان ؛ لأنه لم يقصد المفاضلة بينهم بالتأسية بالمتقدمين والمتأخرين قال {ومن نوح} أول الرسل إلى المخالفين {وإبراهيم} أبي الأنبياء {وموسى} أول أصحاب الكتب من بني إسرائيل {وعيسى بن مريم} ختام أنبياء بني إسرائيل ، ونسبه إلى أمه مناداة على من ضل فيه بدعوى الألوهية وبالتوبيخ والتسجيل بالفضيحة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 286
تنبيه : ذكر هذه الخمسة من عطف الخاص على العام كما علم مما تقرر ، وقوله تعالى : {وأخذنا} أي : بعظمتنا في ذلك {منهم ميثاقاً غليظاً} أي : شديداً بالوفاء بما حملوه وهو الميثاق الأول ، وإنما كرر لزيادة وصفه بالغلظ وهو استعارة من وصف الأجرام ، والمراد : عظم الميثاق وجلالة شأنه في بابه ، وقيل : الميثاق الغليظ اليمين بالله على الوفاء بما حملوه ثم أخذ الميثاق.
{ليسأل} أي : الله تعالى يوم القيامة {الصادقين} أي : الأنبياء الذين صدقوا عهدهم {عن صدقهم} أي : عما قالوه لقومهم تبكيتاً للكافرين بهم ، وقيل : ليسأل المصدقين للأنبياء عن تصديقهم ؛ لأن من قال للصادق : صدقت كان صادقاً في قوله ، وقيل : ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم به أممهم ، وقيل : ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم بقلوبهم وقوله تعالى : {وأعد للكافرين عذاباً أليماً} أي : مؤلماً معطوف على أخذنا من النبيين ؛ لأن المعنى : أن الله تعالى أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين ، وأعد للكافرين عذاباً أليماً ، ويجوز أن يعطف على ما دل عليه ليسأل الصادقين ، كأنه قال : أثاب المؤمنين وأعد للكافرين ، وقيل : إنه قد حذف من الثاني ما أثبت مقابله في الأول ، ومن الأول ما أثبت مقابله في الثاني والتقدير : ليسأل الصادقين عن صدقهم فأثابهم ويسأل الكافرين عما كذبوا به رسلهم وأعد لهم عذاباً أليماً.
ثم حقق الله تعالى ما سبق لهم من الأمر بتقوى الله تعالى بحيث لا يبقى معه الخوف من أحد
286
بقوله تعالى :
{يا أيها الذين آمنوا اذكروا} ورغبهم في الشكر بذكر الإحسان والتصريح بالاسم الأعظم بقوله تعالى : {نعمة الله} أي : الملك الأعلى الذي لا كفء له {عليكم} أي : لتشكروه عليها بالنفوذ ، لأمره وعبر بالنعمة ؛ لأنها المقصودة بالذات ، والمراد إنعامه يوم الأحزاب وهو يوم الخندق ، ثم ذكر وقت تلك النعمة زيادة في تصويرها ليذكر لهم ما كان فيه منها بقوله تعالى : {إذ} أي : حين {جاءتكم جنود} أي : الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير ، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بالإظهار والباقون بالإدغام {فأرسلنا} أي : تسبب عن ذلك أنا لما رأينا عجزكم عن مقابلتهم ومقاومتهم أرسلنا {عليهم ريحاً} وهي ريح الصبا قال عكرمة : قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب :
انطلقي بنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الشمال : إن الحرة لا تسري بالليل فكانت الريح التي أرسلت لهم الصبا لما روى ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" لأن الصبا ريح فيها روح ما هبت على محزون إلا زال حزنه {وجنوداً} أي : وأرسلنا جنوداً من الملائكة {لم تروها} وكانوا ألفاً ولم تقاتل يومئذ ، فبعث الله عليهم تلك الليلة ريحاً باردة فقلعت الأوتاد ، وقطعت أطناب الفساطيط ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور ، وجالت الخيل بعضها على بعض ، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيد كل حي يقول : يا بني فلان هلم إليَّ ، وإذا اجتمعوا عنده قالوا : النجاء النجاء فانهزموا من غير قتال لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب {وكان الله} أي : الذي له جميع صفات الجلال والجمال {بما يعملون} أي : الأحزاب من التحزب والتجمع والمكر وغير ذلك {بصيراً} أي : بالغ الإبصار والعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 286(3/193)
تنبيه : قال البخاري : قال موسى بن عقبة : كانت غزوة الخندق وهي الأحزاب في شوال سنة أربع ، روى محمد بن إسحاق عن مشايخه قال : دخل حديث بعضهم في بعض أن نفراً من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهودة بن قيس ، وأبو عمار الوائلي في نفر من بني النضير ، ونفر من بني وائل وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ، فقالت لهم قريش : يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول ، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد فديننا خير أم دينه ؟
قالوا : دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فهم الذين قال الله تعالى فيهم : {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} (النساء : 51)
إلى قوله تعالى : {وكفى بجهنم سعيراً} (النساء ، 55)
فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمعوا على ذلك ، ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاؤوا غطفان فدعوهم إلى ذلك وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه ، وأن قريشاً قد بايعوهم على ذلك ، فأجابوهم فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن ، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة ، وكان الذي أشار به على النبي صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي رضي الله عنه وكان أول مشهد شهده سلمان رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ حُرٌّ فقال : يا رسول الله إنا كنا
287
بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا ، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى أكملوه وأحكموه ، قال أنس رضي الله عنه : "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم فلما رأى ما بهم من النصب والجزع قال :
*اللهم إن العيش عيش الآخرة ** فاغفر للأنصار والمهاجرة*
فقالوا مجيبين له :
*نحن الذين بايعوا محمدا ** على الجهاد ما بقينا أبدا*
قال البراء : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغبرَّ بطنه وهو يقول :
"والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا إن الأولى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا ورفع بها صوت أبينا أبينا" فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش في عشرة آلاف من الأحابيش ، وبني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان حتى نزلت بمجمع الأسيال من رومة بين الجرف والغابة ، وأقبلت غطفان في ألف ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن ، وعامر بن الطفيل من هوازن ، وانضافت لهم اليهود من قريظة والنضير حتى نزلوا إلى جانب أحد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 286
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب هناك عسكره ، والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا إلى الآطام ، ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة ، وكان بنو غطفان من أعلى الوادي من قبل المشرق ، وقريش من أسفل الوادي من قبل المغرب كما قال تعالى :
{إذ جاؤكم} وهو بدل من إذ جاءتكم {من فوقكم} أي : من أعلى الوادي {ومن أسفل منكم} أي : من أسفل الوادي {وإذ} أي : واذكر حين {زاغت الأبصار} أي : مالت عن سداد القصد فعل الواله الجزع بما حصل لهم من الغفلة الحاصلة من الرعب ، وقوله تعالى : {وبلغت القلوب الحناجر} جمع حنجرة وهي منتهى الحلقوم كناية عن شدة الرعب والخفقان. قال البقاعي : ويجوز وهو الأقرب أن يكون ذلك حقيقة بجذب الطحال والرئة لها عند ذلك بانتفاخهما إلى أعلى الصدر ، ولهذا يقال للجبان انتفخ سحره أي : رئته ، فلما اشتد البلاء على الناس بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عمرو وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
288(3/194)
وأصحابه ، فجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشارهما فيه فقالا : يا رسول الله أشيء أنزل الله تعالى به لابد لنا من عمل به أم أمر تحبه فتصنعه أم شيء تصنعه لنا ، قال : لا والله بل لكم ، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد ، وكالبوكم من كل جانب ، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم ، فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا قرى أو بيعاً ، أفحين أكرمنا الله تعالى بالإسلام وأعزنا الله تعالى بك نعطيهم أموالنا ، ما لنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، فقال صلى الله عليه وسلم أنت وذلك ، فتناول سعد رضي الله تعالى عنه الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة ثم قال : ليجهدوا علينا.
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدوهم محاصرهم ولم يكن بينهم قتال إلا فوارس من قريش ، عمرو بن عبد ودَ أخو بني عامر بن لؤي ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان ، ونوفل بن عبد الله ، وضرار بن الخطاب ، ومرداس أخو محارب بن فهر ، قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيلهم ومروا على بني كنانة فقالوا : تهيؤوا للحرب يا بني كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان ، ثم أقبلوا نحو الخندق حتى وقفوا عليه ، فلما رأوه قالوا : والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها ، ثم تيمموا مكاناً من الخندق ضيقاً فضربوا خيولهم فاقتحمت فيه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع.
جزء : 3 رقم الصفحة : 286
وخرج عليّ رضي الله تعالى عنه في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها خيلهم ، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم ، وكان عمرو بن عبد ودَ قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحداً ، فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مكانه ، فلما وقف هو وخيله قال له علي : يا عمرو إنك كنت تعاهد الله تعالى لا يدعوك رجل من قريش إلى خصلتين إلا أخذت منه إحداهما ، قال له : أجل قال له علي : فإني أدعوك إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وإلى الإسلام قال : لا حاجة لي بذلك قال : فإني أدعوك إلى البراز قال : ولم يا ابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك.
قال عليّ : ولكني والله أحب أن أقتلك ، فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فنقره أو ضرب وجهه ، ثم أقبل على عليّ فتنازلا وتجاولا فقتله عليّ ، وخرجت خيله مهزومة حتى اقتحمت من الخندق هاربة ، وقتل مع عمرو رجلان منبه بن عثمان أصابه سهم فمات بمكة ، ونوفل بن عبد الله المخزومي وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة فقال : يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه ، فنزل إليه عليّ رضي الله تعالى عنه فقتله فغلب المسلمون على جسده فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حاجة لنا في جسده وثمنه فشأنكم به فخلى بينهم وبينه.
ولما نشأ عن هذا تقلب القلوب وتجدد ذهاب الأفكار كل مذهب ، عبر بالمضارع الدال على دوام التجدد بقوله تعالى : {وتظنون بالله} الذي له صفات الكمال {الظنوناً} أي : أنواع الظن ، فظن المخلصون الثُّبت القلوب أن الله تعالى منجز وعده في إعلاء دينه ، أو ممتحنهم ، فخافوا الزلل ، وروي أن المسلمين قالوا : بلغت القلوب الحناجر فهل من شيء نقوله ؟
فقال صلى الله عليه وسلم "قولوا
289
اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا" وأما الضعاف القلوب والمنافقون فقالوا : ما حكى الله عنهم فيما سيأتي ، وقرأ نافع وابن عامر الظنونا هنا والرسولا والسبيلا في آخر السورة بإثبات الألف في الثلاثة وقفاً ووصولاً ، وأبو عمرو وحمزة بحذف الألف وقفاً ووصلا قال الزمخشري : وهو القياس والباقون بالألف في الوقف دون الوصل زادوها في الفاصلة كما زادوها في القافية قال :
*أقلي اللوم عاذل والعتابا*
ورسم الثلاثة بالألف ولما كانت الشدة في الحقيقة إنما هي للثابت لأنه ما عنده إلا الهلاك أو النصرة قال تعالى : (3/195)
{هنالك} أي : في ذلك الوقت العظيم البعيد الرتبة {ابتلي المؤمنون} اختبروا فظهر المخلص من المنافق والثابت من المتزلزل {زلزلوا} أي : حركوا وأزعجوا بما يرون من الأهوال بتظافر الأعداء مع الكثرة وتطاير الأراجيف {زلزلاً شديداً} فثبتوا تثبيت الله تعالى لهم على عدوهم ، وعن صفية قالت : مر بنا رجل من اليهود فجعل يطوف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بيننا وبينهم من يدفع عنا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إذا أتانا آت قالت : فقلت يا حسان إن هذا اليهودي يطوف بنا كما ترى بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عوراتنا من ورائنا من يهود ، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فانزل إليه فاقتله فقال : يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا.
جزء : 3 رقم الصفحة : 286
قالت : فلما قال ذلك ولم أر عنده شيئاً احتجزت ثم أخذت عموداً ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته ، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل قال : ما لي بسلبه من حاجة يا ابنة عبد المطلب" وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن غطفان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإنما الحرب خدعة ، فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى قريظة وكان لهم نديماً في الجاهلية فقال لهم : يا بني قريظة قد عرفتم وِدِّي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم قالوا : صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم : إن قريشاً وغطفان جاؤوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه ، وإن قريشاً وغطفان ليسوا كهيئتكم البلد بلدكم وبه أموالكم وأولادكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره ، وإن قريشاً وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره إن رأو نهزة وغنيمة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ، والرجل ببلدكم لا طاقة لكم
290
به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمداً صلى الله عليه وسلم حين تناجزوه.
قالوا : لقد أشرت برأي ونصح ، ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمداً ، وقد بلغني أمر رأيته أن حقاً علي أن أبلغكم نصحاً لكم فاكتموا علي قالوا : نفعل قال : تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد ، وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ، ثم نكون معك على من بقي منهم فأرسل إليهم أن نعم ، فإن بعثت إليكم اليهود يلتمسون رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلاً واحداً.
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان أنتم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهموني ، قالوا صدقت قال فاكتموا علي قالوا : نفعل ، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم مثل ما حذرهم فلما كانت ليلة السبت في شوال سنة خمس ، وكان مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان فقالوا : إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فأعدوا للقتال حتى نناجز محمداً صلى الله عليه وسلم ونفرغ مما بيننا وبينه ، فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخف عليكم ، ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمداً صلى الله عليه وسلم فإنا نخشى إن ضرمتكم الحرب واشتدت عليكم أن تسيروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا ، ولا طاقة لنا بذلك من محمد صلى الله عليه وسلم
جزء : 3 رقم الصفحة : 286(3/196)
فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان : تعلمن والله أن الذي حدثكم به نعيم ابن مسعود لحق ، فأرسلوا إلى بني قريظة أنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا ، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا ، فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا : إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا ، فإن وجدوا فرصة انتهزوها ، وإن يكن غير ذلك استمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم ، فأرسلوا إلى قريش وغطفان أنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً ، فأبوا عليهم. وخذل الله تعالى بينهم وبعث الله تعالى عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم ، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم قال : من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله تعالى الجنة ؟
.
قال حذيفة : فما قام منا رجل ، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل ، ثم التفت إلينا فقال مثله فأسكت القوم وما قام منا رجل ، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويَّاً من الليل ثم التفت إلينا فقال : ألا من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة ؟
فما قام رجل من شدة الخوف وشدة البرد ، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا حذيفة فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني فقلت : لبيك يا رسول الله وقمت حتى أتيته وإن جنبي يضطربان ، فمسح رأسي ووجهي ثم قال : ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم ولا تحدثن شيئاً حتى ترجع إليّ ، ثم قال : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته ، فأخذت سهمي وشددت عليّ أسلابي ، ثم انطلقت أمشي نحوهم كأني أمشي في حمام ، فذهبت فدخلت في القوم وقد أرسل الله
291
عليهم ريحاً ، وجنود الله تعالى تفعل فيهم ما تفعل وأبو سفيان قاعد يصطلي فأخذت سهماً فوضعته في كبد قوسي فأردت أن أرميه ـ ولو رميته لأصبته ـ فذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تحدثن شيئاً حتى ترجع ، فرددت سهمي في كنانتي ، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله تعالى بهم لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء قام فقال : يا معشر قريش ليأخذن كل منكم بيد جليسه فلينظر من هو ، فأخذت بيد جليسي فقلت : من أنت قال : سبحان الله أما تعرفني أنا فلان فإذا رجل من هوازن فقال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخف وأخلفنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ، وبلغنا من هذه الريح ما ترون ، فارتحلوا فإني مرتحل ، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 286
وسمعت غطفان بما فعلت قريش فاستمروا راجعين إلى بلادهم قال : فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني أمشي في حمام فأتيته وهو قائم يصلي فلما أخبرته الخبر ضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل قال : فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفء ، فأدناني النبي صلى الله عليه وسلم فأنامني عند رجليه وألقى عليّ طرف ثوبه ، وألصق صدري ببطن قدميه فلم أزل نائماً حتى أصبحت فقال : قم يا نومان.
ثم إن الله تعالى بيَّن حال غير الثابتين بقوله تعالى :
{وإذ يقول المنافقون} معتب بن قشير وقيل : عبد الله بن أبيّ وأصحابه {والذين في قلوبهم مرض} أي : ضعف اعتقاد {ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} أي : باطلاً استدرجنا به إلى الانسلاخ عما كنا عليه من دين آبائنا ، وإلى الثبات على ما صرنا إليه بعد ذلك الانسلاخ بما وعدنا به من ظهور هذا الدين على الدين كله والتمكين في البلاد حتى حفر الخندق ، فإنه قال : إنه أبصر بما برق له من ضوء صخرة سلمان مدينة صنعاء من اليمن وقصور كسرى من الحيرة من أرض فارس ، وقصور الشام من أرض الروم ، وإن تابعيه ليظهرون على ذلك كله ، وقد صدق الله وعده في جميع ذلك حتى في لبس سراقة بن مالك بن جعثم سوار كسرى بن هرمز كما هو مذكور في دلائل النبوة للبيهقي ، وكذبوا في شكهم ففاز المصدقون وخاب الذين هم في ريبهم يترددون.
{وإذ قالت طائفة منهم} أي : من المنافقين وهم أوس بن قبطي وأصحابه {يا أهل يثرب} أي : المدينة وقال أبو عبيدة : يثرب اسم أرض ومدينة الرسول صلى الله عليه وسلم في ناحية منها ، وفي بعض الأخبار : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تسمى المدينة يثرب ، وقال : هي طابة كأنه كره تلك اللفظة فعدلوا عن هذا الاسم الذي وسمها به النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاسم الذي كانت تدعى به قديماً مع نهيه عنه ، واحتمال قبحه باشتقاقه من الثرب الذي هو اللوم والتعنيف ، وقال أهل اللغة : يثرب اسم المدينة وقيل : اسم البقعة التي فيها المدينة. وامتناع صرفها إما للعلمية والوزن أو العلمية والتأنيث ، وأما يثرب بالمثناة وفتح الراء فموضع آخر باليمن قال الشاعر :
292(3/197)
*وعدت وكان الخلف منك سجية ** مواعيد عرقوب أخاه بيثرب*
وقال آخر :
*وقد وعدتك موعداً لو وفت به ** مواعيد عرقوب أخاه بيثرب*
وقرأ {لا مقام} حفص بضم الميم أي : لا إقامة {لكم} في مكان القتال ومصارعة الأبطال ، والباقون بفتحها أي : لا مكان لكم تنزلون وتقيمون فيه {فارجعوا} إلى منازلكم عن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : عن القتال إلى منازلكم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 286
ولما بين تعالى هؤلاء الذين هتكوا الستر وبينوا ما هم فيه من سفول الأمر أتبعهم آخرين تستروا ببعض الستر متمسكين بأذيال النفاق خوفاً من أهوال الشقاق بقوله تعالى : {ويستأذن} أي : يجدد كل وقت طلب الإذن لأجل الرجوع إلى البيوت والكون مع النساء {فريق منهم} أي : طائفة شأنها الفرقة {النبي} في الرجوع ، وقد رأوا ما حواه من علو المقدار بما له من حسن الخلق والخلق وما له من جلالة الشمائل وكرم الخصائل ، وهم بنو حارثة وبنو سلمة {يقولون} أي : في كل قليل مؤكدين لعلمهم بكذبهم وتكذيب المؤمنين قولهم {إن بيوتنا} أتوا بجمع الكثرة إشارة إلى كثرة أصحابهم من المنافقين {عورة} أي : غير حصينة بها خلل كبير يمكن كل من أراد من الأحزاب أن يدخلها يدخلها منه ، وقيل قصيرة الجدران فإذا ذهبنا إليها حفظناها منهم وكفينا من يأتي إلينا من مفسديهم حماية للدين وذباً عن الأهلين ، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بضم الباء والباقون بالكسر ، ثم أكذبهم الله تعالى بقوله تعالى : {وما} أي : والحال أنها ما {هي بعورة} في ذلك الوقت الذي قالوا هذا فيه ولا يريدون بذهابهم حمايتها {إن} أي : ما {يريدون} باستئذانهم {إلا فراراً} من القتال.
ولما كانت عنايتهم مشتدة بملازمة دورهم ، فأظهروا اشتداد العناية بحمايتها زوراً بين تعالى ذلك بقوله تعالى :
{ولو دخلت} أي : بيوتهم أو المدينة ، وأنث الفعل نصاً على المراد وإشارة إلى أن ما ينسب إليهم جدير بالضعف ، وأتى بأداة الاستعلاء بقوله تعالى : {عليهم} إشارة إلى أنه دخول غلبة {من أقطارها} أي : جوانبها كلها بحيث لا يكون لهم مكان للهرب ، وحذف الفاعل للإيماء بأن دخول هؤلاء الأحزاب ودخول غيرهم من العساكر سيان في اقتضاء الحكم المرتب عليه {ثم سئلوا} من أي سائل كان {الفتنة} أي : الشرك ومقاتلة المسلمين وقرأ {لأتوها} نافع وابن كثير بقصر الهمزة لجاؤها أو فعلوها ، والباقون بالمد أي : لأعطوها إجابة لسؤال من سألهم {وما تلبثوا بها} أي : ما احتبسوا عن الفتنة {إلا يسيراً} أي : لأسرعوا إلى الإجابة للشرك طيبة بها نفوسهم ، فعلم بذلك أنهم لا يقصدون إلا الفرار لا حفظ البيوت من المضار ، وهذا قول أكثر المفسرين.
وقال الحسن : المراد بالفتنة الخروج من البيوت سمى بذلك لأن الإنسان لا يخرجه من بيته إلا الموت أو ما هو يقاربه ، فكأنه فتنة ، وعلى هذا يكون الضمير في بها راجعاً للبيوت أو المدينة
293
أي : ما لبثوا بالبيوت أو بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا يسيراً حتى هلكوا.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 286
ولقد كانوا} أي : هؤلاء الذين أسرعوا الإجابة إلى الفرار {عاهدوا الله} الذي لا أَجّلَّ منه {من قبل} أي : من قبل غزوة الخندق {لا يولون الإدبار} أي : لا ينهزمون ، وقال يزيد بن رومان : هم بنو حارثة هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة ، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله تعالى أن لا يعودوا لمثلها ، وقال قتادة : هم أناس كانوا قد غابوا عن وقعة بدر فرأوا ما أعطى الله تعالى أهل بدر من الكرامة والفضيلة قالوا : لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن ، فساق الله تعالى إليهم ذلك ، وقال مقاتل والكلبي : هم سبعون رجلاً بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وقالوا : اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم قالوا : وإذا فعلنا ذلك فما لنا يا رسول الله قال : لكم النصر في الدنيا ، والجنة في الآخرة قالوا : قد فعلنا ، فذلك عهدهم ، قال البغوي : وهذا القول ، ليس بمرضي لأن الذين بايعوا ليلة العقبة كانوا سبعين نفراً ليس فيهم شاك ولا من يقول مثل هذا القول ، وإنما الآية في قوم عاهدوا الله تعالى أن يقاتلوا ولا يفروا فنقضوا العهد. انتهى.
ولما كان الإنسان قد يتهاون بالعهد لإعراض المعاهد عنه قال تعالى : {وكان عهد الله} المحيط بصفات الكمال {مسؤولاً} أي : عن الوفاء به ، ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 286
294(3/198)
{قل} أي : لهم وأكد لظنهم نفع الفرار {لن ينفعكم الفرار} في تأخير آجالكم في وقت من الأوقات الذي ما كان استئذانكم إلا بسببه {إن فررتم من الموت أو القتل} أي : الذي كتب لكم لأن الأجل إن كان قد حضر لم يتأخر بالفرار ، وإلا لم يقصره الثبات كما كان عليّ رضي الله تعالى عنه يقول : دهم الأمر وتوقد الجمر واشتد من الحرب الحر أي : يومي من الموت أفر يوم لا يقدر ، أو يوم قدر ، وذلك أن أجل الله الذي جعله محيطاً بالإنسان لا يقدر أن يتعداه أصلاً {وإذا} أي : إن فررتم {لا تمتعون} في الدنيا بعد فراركم {إلا قليلاً} أي : مدة آجالكم وهي قليل فالعاقل لا يرغب في شيء قليل يفوت عليه شيئاً كثيراً.
ولما كان ربما يقولون بل ينفعنا لأنا طالما رأينا من هرب فسلم ومن ثبت فاصطلم ، أمره الله تعالى بالجواب عن هذا بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 294
قل} أي : لهم منكراً عليهم {من ذا الذي يعصمكم} أي : يجيركم ويمنعكم {من الله} المحيط بكل شيء قدرة وعلماً في حال الفرار وقبله وبعده {إن أراد بكم سوءاً} أي : هلاكاً أو هزيمة فيرد ذلك عنكم {أو} يصيبكم بسوء إن {أراد} أي : الله {بكم رحمة} أي : خيراً أسماه بها لأنه أثرها ، والمعنى : هل احترزتم في جميع أعماركم عن سوء أراده فنفعكم الاحتراز أو اجتهد غيره في منعكم رحمة منه ، فتم له أمره أو أوقع الله بكم شيئاً من ذلك فقدر أحد مع بذل الجهد على كشفه بدون إذنه ، ويمكن أن تكون الآية من الاحتباك ذكر السوء أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً. وذكر الرحمة ثانياً دليلاً على حذف ضدها أولاً. وهذا بيان لقوله تعالى : {لن ينفعكم الفرار} وقوله تعالى : {ولا يجدون لهم} أي : في وقت من الأوقات {من دون الله} أي : غيره {ولياً} أي : يواليهم فينفعهم بنوع نفع {ولا نصيراً} أي : ينصرهم من أمره فيرد ما أراده بهم من السوء عنهم تقرير لقوله تعالى : {من ذا الذي يعصمكم} من الله الآية.
ولما أخبرهم تعالى بما علم مما أوقعوه من أسرارهم وأمره صلى الله عليه وسلم بوعظهم ، حذرهم بدوام عمله بمن يخون منهم بقوله تعالى :
{قد يعلم الله} الذي له إحاطة الجلال والجمال {المعوقين منكم} أي : المثبطين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم المنافقون {والقائلين لإخوانهم} أي : ساكني المدينة {هلم} أي : ائتوا وأقبلوا {إلينا} موهمين أن ناحيتهم مما يقام فيها القتال ويواظب فيها على صالح الأعمال قال قتادة : هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يثبطون أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون لإخوانهم ما محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا أكلة رأس ، ولو كانوا لحماً لا التقمهم أبو سفيان وأصحابه ، دعوا الرجل فإنه هالك ، وقال مقاتل : نزلت في المنافقين وذلك أن اليهود أرسلت إلى المنافقين وقالوا ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه ، فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة لم يستبقوا منكم أحداً ، فأنا أشفق عليكم ، أنتم إخواننا وجيراننا فهلم إلينا ، فأقبل عبد الله بن أُبيّ وأصحابه على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه وقالوا : ما ترجون من محمد ، ما عنده خير ما هو إلا أن يقتلنا هنا انطلقوا بنا إلى إخواننا يعني اليهود فلم يزداد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيماناً واحتساباً.
تنبيه : هلم اسم صوت سمي به فعل متعد مثل احضر وقرب ، وأهل الحجاز يسوّون فيه بين الواحد والجماعة ، وبلغتهم جاء القرآن العزيز ، وأما بنو تميم فتقول : هلم يا رجل هلما يا رجلان هلموا يا رجال {ولا} أي : والحال أنهم لا {يأتون البأس} أي : الحرب أو مكانها {إلا قليلاً} أي : للرياء والسمعة بقدر ما يراهم المخلصون ، فإذا اشتغلوا بالمعاركة وكفى كل منهم ما إليه
295
تسللوا عنه لواذاً وعاذوا بمن لا ينفعهم من الخلق عياذاً.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 294
أشحة} أي : يفعلون ما تقدم ، والحال أن كلاً منهم شحيح {عليكم} أي : بحصول نفع منهم أو من غيرهم نفس أو مال.(3/199)
تنبيه : أشحة جمع شحيح وهو جمع لا يقاس ، إذ قياس فعيل الوصف الذي عينه ولامه من واد واحد أن يجمع على أفعلاء نحو : خليل وأخلاء ، وضنين وأضناء ، وقد سمع أشحاء وهو القياس والشح البخل ، وصفهم الله تعالى بالبخل ثم بالجبن. قوله تعالى {فإذا جاء الخوف} أي : بمجيء أسبابه من الحرب ومقدماتها {رأيتهم} أي : أيها المخاطب. وقوله تعالى : {ينظرون} في محل حال من مفعول رأيتهم لأن الرؤية بصرية ، وبيَّن بعدهم حساً ومعنى بحرف الغاية بقوله تعالى : {إليك} أي : حال كونهم {تدور} فهي إما حال ثانية ، وإما حال من ينظرون يميناً وشمالاً بإدارة الطرف {أعينهم} أي : زائغاً رعباً ثم شبهها في سرعة تقلبها لغير قصد صحيح بقوله تعالى : {كالذي} أي : كدوران عين الذي {يغشى عليه} مبتدأ غشيانه {من الموت} أي : من معالجة سكراته خوفاً ولواذاً بك ، وذلك لأن قرب الموت وغشية أسبابه تذهب عقله وتشخص بصره فلا يطرف {فإذا ذهب الخوف} وحيزت الغنائم {سلقوكم} أي : تناولوكم تناولاً صعباً بأنواع الأذى ناسين ما وقع منهم عن قرب من الجبن والخور ، وأصل السلق البسط بقهر اليد أو اللسان ، ومنه سلق امرأته أي : بسطها وجامعها قال القائل :
فقد هُيّء لنا المضجع فإن شئت سلقناك وإن شئت على أربع ، والسليقة : الطبيعة المباينة ، والسليق : المطمئن من الأرض {بألسنة حداد} ذربة قاطعة فصيحة بعد أن كانت عند الخوف في غاية اللجلجة لا تقدر على الحركة من قلة الريق ويبس الشفاه ، وهذا لطلب العرض الفاني من الغنيمة وغيرها. يقال للخطيب الذرب اللسان : الفصيح مسلق ، وقال ابن عباس سلقوكم أي : عضهوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة وقال قتادة : بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة ، ويقولون أعطونا فإنا شهدنا معكم القتال ولستم بأحق بالغنيمة منا ، ثم بين المراد بقوله تعالى : {أشحة} أي : شحاً مستعلياً {على الخير} أي : المال الذي عندهم وفي اعتقادهم أنه لا خير غيره لا يريدون أن يصل شيء منه إليكم ولا يفوتهم شيء منه فهم عند الغنيمة أشح قوم وعند البأس أجبن قوم.
ولما وصفهم تعالى بهذه الصفات الدنيئة أخبر تعالى أن أساسها الذي نشأت عنه عدم الوثوق بالله تعالى لعدم الإيمان فقال : {أولئك} أي : البعداء البغضاء {لم يؤمنوا} أي : لم يوجد منهم إيمان بقلوبهم وإن أقرت به ألسنتهم {فأحبط الله} أي : بجلاله وتفرده في كبريائه وكماله
296
{أعمالهم} التي كانوا يأتونها مع المسلمين أي : فأظهر بطلانها ، وإذا لم تثبت لهم الأعمال فتبطل ، وقال قتادة : أبطل الله تعالى جهادهم {وكان ذلك} أي : الإحباط {على الله} بما له من صفات العظمة {يسيراً} أي : هيناً لتعلق الإرادة به وعدم ما يمنعه. وقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 294
يحسبون الأحزاب لم يذهبوا} يجوز أن يكون مستأنفاً أي : هم من الخوف بحيث أنهم لا يصدقون أن الأحزاب قد ذهبوا عنهم ، ويجوز أن يكون حالاً من أحد الضمائر المتقدمة إذا صح المعنى بذلك ولو بعد العامل. قاله أبو البقاء.
والمعنى : أن هؤلاء المنافقين يحسبون الأحزاب يعني قريشاً وغطفان واليهود ولم يتفرقوا عن قتالهم من غاية الجبن عند ذهابهم كأنهم غائبون حيث لا يقاتلون كقوله تعالى {ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً} (الأحزاب : 20)
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بالكسر {وإن يأت الأحزاب} بعدما ذهبوا كرة أخرى {يودوا} أي : يتمنوا {لو أنهم بادون في الأعراب} أي : كائنون في البادية بين الأعراب الذين هم عندهم في محل نقص وممن تكره مخالطته ، ثم ذكر حال فاعل بادون بقوله تعالى : {يسألون} كل وقت {عن أنبائكم} أي : أخباركم العظيمة مع الكفار وما آل إليه أمركم جرياً على ما هم عليه من النفاق ليبقوا لهم عندكم وجهاً ، كأنهم مهتمون بكم يظهرون بذلك تحرقاً على غيبتهم عن هذه الحرب {ولو} أي : والحال أنهم لو {كانوا} هؤلاء المنافقون {فيكم} هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة ، وكان قتال {ما قاتلوا} معكم {إلا قليلاً} نفاقاً كما فعلوا قبل ذهاب الأحزاب من حضورهم معكم تارة واستئذانهم في الرجوع إلى منازلهم أخرى.
ولما أخبر تعالى عنهم بهذه الأحوال التي هي غاية في الدناءة أقبل عليهم إقبالاً يدلهم على تناهي الغضب بقوله تعالى : مؤكداً محققاً لأجل إنكارهم :
{لقد كان لكم} أيها الناس كافة الذين المنافقون في غمارهم {في رسول الله} الذي جلاله من جلاله وكماله من كماله {أسوة} أي : قدوة {حسنة} أي : صالحة وهو المؤتسى به أي : المقتدى به ، كما تقول في البيضة : عشرون منَّاً حديداً أي : هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد ، أو أن فيه خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى بها ، كالثبات في الحرب ومقاسات الشدائد إذ كسر رباعيته وجرح وجهه وقتل عمه ، وأوذي بضروب الأذى ، فواساكم مع ذلك بنفسه فافعلوا أنتم كذلك واستسنوا بسنته.(3/200)
تنبيه : الأسوة اسم وضع موضع المصدر وهو الائتساء ، فالأسوة من الائتساء كالقدوة من الاقتداء وائتسى فلان بفلان أي : اقتدى به ، وقرأ عاصم بضم الهمزة والباقون بكسرها وهما لغتان : كالعُدوة والعِدوة ، والقُدوة والقِدوة وقوله تعالى : {لمن كان} أي : كوناً كائنه جبلة له {يرجو الله} أي : في جبلته أنه يجدد الرجاء مشمراً للذي لا عظيم في الحقيقة سواه ، فيؤمل إسعاده ويخشى إبعاده. تخصيص بعد التعميم للمؤمنين أي : أن الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان يرجو الله. قال ابن عباس : يرجو ثواب الله ، وقال مقاتل : يخشى الله {واليوم الآخر} أي : يخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال {وذكر الله} أي : الذي له صفات الكمال وقيده بقوله تعالى : {كثيراً} تحقيقاً لما ذكر في معنى الرجاء الذي به الفلاح أو أن المراد به الدائم في حال السراء والضراء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 294
ولما بين تعالى حال المنافقين ذكر حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب بقوله تعالى :
{ولما رأى
297
المؤمنون} أي : الكاملون في الإيمان {الأحزاب} أي : الذين أدهشت رؤيتهم القلوب {قالوا} أي : مع ما حصل لهم من الزلزال وتعاظم الأهوال {هذا} أي : الذي نراه من الهول {ما وعدنا الله} أي : الذي له الأمر كله من تصديق دعوانا الإيمان بالبلاء والامتحان {ورسوله} المبلغ بنحو قوله تعالى : {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم} (البقرة : 214)
{أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} (آل عمران : 142)
{أحسب الناس أن يتركوا} (العنكبوت : 2)
وأمثال ذلك. ثم قالوا في مقابلة قول المنافقين : ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً {وصدق الله} أي : الذي له صفات الكمال {ورسوله} أي : الذي كماله من كماله أي : ظهر صدقهما في عالم الشهادة في كل ما وعدا به من السراء والضراء كما رأينا ، وهما صادقان فيما غاب عنا مما وعدا به من نصر وغيره ، وإظهار الاسمين للتعظيم والتيمن بذكرهما. قال بعض المفسرين : ولو أعيدا مضمرين لجمع بين الباري تعالى واسم رسوله صلى الله عليه وسلم فكان يقال : وصدقا ، وقد رد صلى الله عليه وسلم على من جمعهما بقوله : {من يطع الله ورسوله} فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى ، وأنكر عليه بقوله : بئس خطيب القوم أنت. قل : {ومن يعص الله ورسوله} قصداً إلى تعظيم الله تعالى. وقيل : إنما رد عليه لأنه وقف على يعصهما ، واستشكل بعضهم الأول بقوله : "حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" فقد جمع بينهما في ضمير واحد ؟
وأجيب : بأنه صلى الله عليه وسلم أعرف بقدر الله تعالى منا فليس لنا أن نقول كما يقول وقد يقال : إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك فالله جل وعلا أولى ، وحينئذ فالقائل بأنه إنما رد عليه لأنه وقف على يعصهما أولى.
ولما كان هذا قولاً يمكن أن يكون لسانياً فقط كقول المنافقين أكده لظن المنافقين ذلك بقوله تعالى : شاهداً لهم {وما زادهم} أي : ما رأوه من أمرهم أو الرعب {إلا إيماناً} بالله ورسوله {وتسليماً} بجميع جوارحهم في جميع القضاء والقدر ، ثم وصف الله تعالى بعض المؤمنين بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 294
أي : المذكورين سابقاً وغيرهم {رجال} أي : في غاية العظمة عندنا ثم وصفهم بقوله تعالى : {صدقوا ما عاهدوا الله} المحيط علماً وقدرة {عليه} أي : أقاموا بما عاهدوا الله عليه ووفوا به {فمنهم من قضى نحبه} أي : نذره بأن قاتل حتى استشهد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر. والنحب : النذر استعير للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل حيوان وقيل : النحب الموت أيضاً. قال قتادة : قضى نحبه أي : أجله. وقيل : قضى نحبه أي : بذل جهده في الوفاء بالعهد من قول العرب نحب فلان في سيره يومه وليلته أي : اجتهد ، وقيل قضى نحبه قتل يوم بدر أو يوم أُحد.
روي أن أنساً قال : "غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال : يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين ، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع ، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين ، ثم تقدم واستقبله سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو إلى أين فقال : واهاً لريح الجنة أجدها دون أحد ، فقاتل حتى قتل. قال أنس بن مالك : فوجدنا في جسده بضعاً وثمانين
298
ضربة بالسيف ، أو طعنة برمح أو رمية بسهم فوجدناه قد قتل ، وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. قال أنس : كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه".
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 298(3/201)
ومنهم} أي : الصادقين {من ينتظر} أي : السعادة كعثمان وطلحة {وما بدلوا} أي : العهد ولا غيروه {تبديلاً} أي : شيئاً من التبديل. روي أن ممن لم يقتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وفعل ما لم يفعله غيره لزم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يفارقه وذبَّ عنه ووقاه بيده حتى شلت إصبعه قال إسماعيل بن قيس : رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وعن معاوية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "طلحة ممن قضى نحبه" ، وعن طلحة لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قرأ : {رجال صدقوا وما عاهدوا الله عليه} الآية كلها فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله من هؤلاء فقال : "أيها السائل هذا منهم" ، وعنه أيضاً : أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل : سله عمن قضى نحبه من هو ؟
كانوا لا يجترؤن على مسألته يهابونه ويوقرونه ، فسأله الأعرابي فأعرض عنه ، ثم سأله فأعرض عنه ، ثم سأله فأعرض عنه ، ثم إني طلعت من باب المسجد فقال : أين السائل عمن قضى نحبه ؟
قال الأعرابي : أنا فقال : "هذا ممن قضى نحبه" ، وهذا يقوي القول بأن المراد بالنحب بذل الجهد في الوفاء بالعهد ، وعن خباب بن الأرت قال : هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله ، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئاً ، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة ، فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه منها ، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه منها فقال صلى الله عليه وسلم "ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من الأذخر" قال : ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها أينعت أي : أدركت ونضجت له ثمرتها ويهديها أي : يجنيها ، وهذا كناية عما فتح الله تعالى لهم من الدنيا وعن زيد بن ثابت قال : "لما نسخنا المصحف من المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين من المؤمنين {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} فألحقتها في سورتها في المصحف".
{ليجزي الله} أي : الذي يريد إظهار جميع صفاته يوم البعث للخاص والعام ظهوراً تاماً {الصادقين} أي : في الوفاء بالعهد وادعاء أنهم آمنوا به {بصدقهم} أي : فيعلي أمرهم وينعمهم
299
في الآخرة فالصدق سبب وإن كان فضلاً منه لأنه الموفق له.
جزء : 3 رقم الصفحة : 298
تنبيه : في لام ليجزي وجهان : أحدهما : أنها لام العلة ، والثاني : أنها لام الصيرورة وفيما تتعلق به أوجه : إما بصدقوا ، وإما بما زادهم ، وإما بما بدلوا ، وعلى هذا جعل المنافقين كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوا بتبديلهم كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم لأن كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب ، فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلهما {ويعذب المنافقين} أي : الذين أخفوا الكفر وأظهروا الإسلام في الدارين بكذبهم في دعواهم الإيمان المقتضي لبيع النفس والمال {إن شاء} بأن يميتهم على نفاقهم {أو يتوب عليهم} إن شاء بأن يهديهم إلى التوبة فيتوبوا فالكل بإرادته.
تنبيه : جواب إن شاء مقدر ، وكذا مفعول شاء أي : إن شاء تعذيبهم عذبهم ، وقرأ قالون والبزي وأبو عمر بإسقاط الهمزة الأولى مع المد والقصر ، وسهل ورش وقنبل الثانية وأبدلاها أيضاً حرف مد وحققها الباقون وفي الابتداء بالثانية الجميع بالتحقيق.
ولما كانت توبة المنافقين مستبعدة لما يرون من صلابتهم في الخداع وخبث سرائرهم قال معللاً ذلك كله على وجه التأكيد : {إن الله} أي : بما له من الجلال والجمال {كان} أزلاً وأبداً {غفوراً} لمن تاب {رحيماً} بهم ، ثم بين تعالى بعض ما جزاهم الله تعالى بصدقهم بقوله تعالى :
{ورد الله} أي : بما له من صفات الكمال {الذين كفروا} وهم من تحزب من العرب وغيرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلادهم عن المدينة ومضايقة المؤمنين حال كونهم {بغيظهم} أي : متغيظين لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا ، بل تفرقوا عن غير طائل حال كونهم {لم ينالوا خيراً} لا من الدين ولا من الدنيا بل ذلاً وندامة فهو حال ثانية ، أو حال من الحال الأولى فهي متداخلة {وكفى الله} أي : الذي له العزة والكبرياء {المؤمنين القتال} بما ألقى في قلوبهم من الداعية للانصراف بالريح والجنود من الملائكة وغيرهم ، منهم نعيم بن مسعود لما تقدم من الحيلة التي فعلها.(3/202)
قال سعيد بن المسيب : لما كان يوم الأحزاب حصر النبي صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة حتى خلص إلى كل امرئ منهم الكرب ، وحتى قال النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إنك إن تشا لا تعبد" ، فبينما هم على ذلك إذ جاء نعيم بن مسعود الأشجعي وكان يأمنه الفريقان جميعاً فخذل بين الناس فانطلق الأحزاب منهزمين من غير قتال فذلك قوله تعالى : {وكفى الله المؤمنين القتال} {وكان الله} أي : الذي له صفات الكمال أزلاً وأبداً {قوياً} على إحداث ما يريد {عزيزاً} غالباً على كل شيء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 298
ولما أتم الله حال الأحزاب أتبعه حال من عاونوهم بقوله تعالى :
{وأنزل الذين ظاهروهم} أي : عاونوا الأحزاب {من أهل الكتاب} وهم بنو قريظة ومن دخل معهم في حصنهم من بني النضير {من صياصيهم} أي : حصونهم متعلق بأنزل ، ومن لابتداء الغاية والصياصي جمع صيصية وهي الحصون والقلاع والمعاقل ، ويقال : لكل ما يمتنع به ويتحصن فيه صيصية ، ومنه قيل لقرن الثور والظبي ولشوكة الديك صيصية ، عن سعيد بن جبير قال : كان يوم الخندق بالمدينة فجاء أبو
300
سفيان بن حرب ومن تبعه من قريش ، ومن تبعه من كنانة وعيينة بن حصن ، ومن تبعه من غطفان وطليحة ، ومن تبعه من بني أسد وبنو الأعور ، ومن تبعهم من بين سليم وقريظة ، كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا ذلك وظاهروا المشركين فأنزل الله تعالى فيهم : {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم}.
وكانت غزوة بني قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة ، وعن موسى بن عقبة أنها في سنة أربع قال العلماء بالسير : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح في الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون عن الخندق إلى المدينة ووضعوا السلاح فلما كان الظهر أتى جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس والسرج فقال : ما هذا يا جبريل قال : من متابعة قريش فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن سرجه فقال : يا رسول الله إن الملائكة لم تضع السلاح إن الله تعالى يأمرك بالسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم ، فإن الله دقهم دق البيض على الصفا وإنهم لك طعمة فأذن في الناس أن من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب برايته إليهم وابتدرها الناس.
فسار عليّ حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق فقال : يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخباث قال : أظنك سمعت فيَّ منهم أذى قال : نعم يا رسول الله قال لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً ، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصنهم قال : يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمة قالوا : يا أبا القاسم ما كنت جهولاً ، ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه قبل أن يصل إلى بني قريظة قال : هل مر بكم أحد قالوا : مر بنا دحية بن خليفة على بغلة شهباء عليها قطيفة من ديباج قال صلى الله عليه وسلم ذاك "جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف في قلوبهم الرعب".
جزء : 3 رقم الصفحة : 298
ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة نزل على بئر من آبارها فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد صلاة العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة" فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة فما عابهم الله تعالى بذلك ، ولا عنفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان جي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده ، فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد : يا معشر يهود إنه قد نزل بكم من الأمر ما نزل ، وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً فخذوا أيها شئتم قالوا : وما هي قال : نبايع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين أنه نبي مرسل ، وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنوا على دياركم وأبنائكم وأموالكم ونسائكم.
قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره ، قال : فإذا أبيتم هذا فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رجالاً مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلاً يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وأصحابه ، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا أحداً ولا شيئاً
301(3/203)
نخشى عليه وإن نظهر فلعمري لتحدث النساء والأبناء قالوا : نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم ، فإن أبيتم هذه فإن الليلة ليلة السبت فعسى أن يكون محمد وأصحابه قد آمنوا ، فانزلوا لعلنا أن نصيب منهم غرة قالوا : نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا فتركهم.
قال علماء السير : وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزلون على حكمي ؟
فأبوا وكانوا قد طلبوا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمر وبن عوف وكانوا حلفاء الأوس يستشيرونه في أمرهم ، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، فلما رأوه قام إليه الرجال والنساء والصبيان يبكون في وجهه ، فرق لهم فقالوا : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد ؟
قال : نعم وأشار بيده إلى حلقه يعني أنه يقتلكم قال أبو لبابة : فوالله ما زالت قدماي حتى قد عرفت أني خنت الله ورسوله ، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده وقال : لا أبرح من مكاني حتى يتوب الله تعالى علي مما صنعت ، وعاهد الله تعالى لا يطأ بني قريظة أبداً ولا يراني الله تعالى في بلد خنت فيه الله ورسوله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 298
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وأبطأ عليه قال : أما لو جاءني لاستغفرت له ، فأما إذ فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزلون على حكم سعد بن معاذ فرضوا به فقال سعد : حكمت فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم ، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال : "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة" ، ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقاً وقدمهم فضرب أعناقهم من ثمانمائة إلى تسعمائة وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير {وقذف} أي : الله تعالى {في قلوبهم الرعب} حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي كما قال الله تعالى : {فريقاً تقتلون} وهم الرجال يقال : كانوا ستمائة {وتأسرون فريقاً} وهم النساء والذراري يقال : كانوا سبعمائة وخمسين ، ويقال : تسعمائة.
فإن قيل : ما فائدة تقديم المفعول في الأول حيث قال تعالى : {فريقاً تقتلون} وتأخيره في الثاني حيث قال : {وتأسرون فريقاً} أجيب : بأن الرازي قال : ما من شيء من القرآن إلا وله فائدة ، منها ما يظهر ومنها ما لا يظهر ، والذي يظهر من هذا والله أعلم ؛ أن القائل يبدأ بالأهم فالأهم والأقرب فالأقرب ، والرجال كانوا مشهورين ، وكان القتل وارداً عليهم ، وكان الأسراء هم النساء والذراري ولم يكونوا مشهورين ، والسبي والأسر أظهر من القتل لأنه يبقى فيظهر لكل أحد أنه أسير فقدم من المحلين ما اشتهر على الفعل القائم به ، ومن الفعلين ما هو أشهر قدمه على المحل الخفي انتهى. وقرأ ابن عامر والكسائي الرعب بضم العين والباقون بسكونها.
ولما ذكر الناطق بقسميه ذكر الصامت بقوله تعالى :
{وأورثكم أرضهم} من الحدائق والمزارع {وديارهم} أي : حصونهم لأنه يحامى عليها ما لا يحامى على غيرها {وأموالهم} من النقد والماشية والسلاح والأثاث وغيرها ، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم "للفارس ثلاثة أسهم للفرس سهمان ولفارسه سهم" ، كما للراجل ممن ليس له فرس سهم. وأخرج منها الخمس وكانت
302
الخيل ستة وثلاثين فرساً ، وكان هذا أول فيء وضع فيه السهمان ، وجرى على سننه في المغازي واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم من سباياهم ريحانة بنت عمرو بن قريظة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت : يا رسول الله تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك فتركها ، وكانت حين سباها كرهت الإسلام وأبت إلا اليهودية فعزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد في نفسه من أمرها ، فبينما هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال : إن هذا لثعلبة ابن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة ، فجاءه فقال : يا رسول الله قد أسلمت ريحانة فسره ذلك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 298
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقالت الأنصار في ذلك فقال : إنكم في منازلكم وقال عمر : إنا نخمس كما خمست يوم بدر ، قال : لا إنما جعلت هذه طعمة لي دون الناس قال : رضينا بما صنع الله ورسوله.(3/204)
وأنزل الله تعالى توبة أبي لبابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة ، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقالت : مم تضحك يا رسول الله أضحك الله تعالى سنك فقال : تيب على أبي لبابة فقالت : ألا أبشره بذلك يا رسول الله قال : بلى إن شئت ، فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب فقالت : يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله تعالى عليك ، فثار الناس إليه ليطلقوه فقال : لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده ، فلما مر عليه خارجاً إلى الصبح أطلقه ، ومات سعد بن معاذ بعد انقضاء غزوة بني قريظة.
قالت عائشة : فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، فو الذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإني لفي حجرتي ، قالت : وكانوا كما قال الله تعالى {رحماء بينهم} (الفتح : 29)
واختلف في تفسير قوله تعالى {وأرضاً} أي : وأورثكم أرضاً {لم تطؤها} فعن مقاتل أنها خيبر وعليه أكثر المفسرين ، وعن الحسن فارس والروم ، وعن قتادة كما تحدث أنها مكة ، وعن عكرمة كل أرض تفتح إلى القيامة ، ومن بدع التفسير أنه أراد نساءهم انتهى.
ولما كان ذلك أمراً باهراً سهله بقوله تعالى : {وكان الله} أي : أزلاً وأبداً بما له من صفات الكمال {على كل شيء} هذا وغيره {قديراً} أي : شامل القدرة ، روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "لا إله إلا الله وحده أعز جنده ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده فلا شيء بعده" ولما أرشد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إلى جانب ما يتعلق بجانب التعظيم لله تعالى بقوله تعالى : {يا أيها النبي اتق الله} ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة ، وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس بالشفقة ولهذا قدمهن في النفقة فقال :
{يا أيها النبي قل لأزواجك} أي : نسائك {إن كنتن} أي : كوناً راسخاً {تردن} أي : اختياراً على {الحياة} ووصفها بما يزهد فيها ذوي الهمم ، ويذكر من له عقل بالآخرة بقوله تعالى : {الدنيا} أي : ما فيها من السعة والرفاهية والنعمة {وزينتها} أي : المنافية لما أمرني به ربي من الإعراض عنه واحتقاره من أمرها لأنها أبغض خلقه إليه لأنها قاطعة عنه
303
{فتعالين} أصله أن الآمر يكون أعلى من المأمور فيدعوه أن يرفع نفسه إليه ، ثم كثر حتى صار معناه أقبل وهو هنا كناية عن الأخبار والإرادة بعلاقة أن المخبر يدنو إلى من يخبره {أمتعكن} أي : بما أحسن به إليكن من متعة الطلاق ، وهي واجبة لزوجة لم يجب لها نصف مهر فقط بأن وجب لها جميع المهر ، أو كانت مفوضة لم توطأ ولم يفرض لها شيء صحيح.
جزء : 3 رقم الصفحة : 298
أما في الأولى : فلأن المهر في مقابلة منفعة بضعها ، وقد استوفاها الزوج فتجب للإيحاش المتعة ، وأما في الثانية : فلأن المفوضة لم يحصل لها شيء ، فيجب لها متعة للإيحاش ، بخلاف من وجب لها النصف فلا متعة لها لأنه لم يستوف منفعة بضعها فيكفي نصف مهرها للإيحاش. هذا إذا كان الفراق لا بسببها ، وسن أن لا تنقص عن ثلاثين درهماً أو ما قيمته ذلك ، وأن لا تبلغ نصف المهر ، فإن تراضيا على شيء فذاك ، وإلا قدرها قاض باجتهاده بقدر حالهما من يساره وإعساره ونسبها وصفاتها قال تعالى {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} (البقرة : 236)
{وأسرحكن} أي : من حبالة عصمتي {سراحاً جميلاً} أي : طلاقاً من غير مضارة ولا نوع حطة ولا مقاهرة.
{وإن كنتن} أي : بما لكن من الجبلة {تردن الله} أي : الآمر بالإعراض عن الدنيا {ورسوله} أي : المؤتمر بما أمره به من الانسلاخ عنها ، المبلغ للعباد جميع ما أرسله به من أمر الدنيا والدين ، لا يدع منه شيئاً لما له عليكن وعلى سائر الناس من الحق بما يبلغهم عن الله تعالى {والدار الآخرة} أي : التي هي الحيوان بما لها من البقاء والعلو والارتقاء {فإن الله} بما له من جميع صفات الكمال {أعد} أي : في الدنيا والآخرة {للمحسنات منكن} أي : اللاتي يفعلن ذلك {أجراً عظيماً} تستحقر دونه الدنيا وزينتها ، ومن للبيان لأنهن كلهن محسنات قال المفسرون : سبب نزول هذه الآية : أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألنه من عرض الدنيا شيئاً ، وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض ، فهجرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآلى أن لا يقربهن شهراً ولم يخرج إلى أصحابه فقالوا : ما شأنه وكانوا يقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، فقال عمر : لأعلمن لكم شأنه قال : فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أطلقتهن قال : لا فقلت : يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن قال : نعم إن شئت.(3/205)
فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه" ونزل قوله تعالى : {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (النساء : 83)
فكنت أنا الذي استنبط ذلك الأمر ، وأنزل الله تعالى آية التخيير وكان تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع نسوة ، خمس من قريش عائشة بنت أبي بكر ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأم سلمة بنت أبي أمية ، وسودة بنت زمعة ، وأربع من غير القريشيات : زينب بنت جحش الأسدية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 298
فلما نزلت آية التخيير عرض عليهن رضي الله تعالى عنهن ذلك ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة رأس المحسنات إذ ذاك ، وكانت أحب أهله فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار
304
الآخرة ، فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعنها على ذلك قال قتادة : فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال تعالى : {لا يحل لك النساء من بعد} (الأحزاب : 52)
وعن جابر بن عبد الله قال : دخل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحد منهم ، فأذن لأبي بكر فدخل ، ثم أقبل عمر ثم استأذن فأذن له ، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً قال : فقال لأقولن شيئاً أضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال : "هن حولي كما ترى يسألنني النفقة" ، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول : لا تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده ، ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين يوماً ، ثم نزلت هذه الآية {يا أيها النبي قل لأزواجك} (الأحزاب : 28)
حتى بلغ {للمحسنات منكن أجراً عظيماً} (الأحزاب : 29)
قال : فبدأ بعائشة فقال : يا عائشة إني أعرض عليك أمراً لا أحب أن تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك قالت : وما هو يا رسول الله فتلا عليها الآية فقالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوي بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت قال : لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها أن الله لم يبعثني معنتاً ، ولكن بعثني معلماً ميسراً قوله "واجماً" أي : مهتماً والواجم : الذي أسكته الهم ، وعلته الكآبة وقيل : الوجوم الحزن ، وقوله : فوجأت عنقها أي : دققته ، وقوله : لم يبعثني معنتاً العنت : المشقة والصعوبة ، وروى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهراً ، قال الزهري : فأخبرني عروة عن عائشة قالت : فلما مضت تسع وعشرون أعدهن دخل عليّ فقلت : يا رسول الله إنه مضى تسع وعشرون أعدهن فقال : "إن الشهر تسع وعشرون".
تنبيه : اختلف العلماء في هذا الخيار هل كان ذلك تفويضاً للطلاق إليهن حتى يقع بنفس الاختيار أو لا ، ذهب الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم : إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق ، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا فارقهن لقوله تعالى : {فتعالين أمتعكن وأسرحكن} ويدل عليه أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة : لا تعجلي حتى تستشيري أبويك ، وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور ، وذهب آخرون : إلى أنه كان تفويض طلاق ، ولو اخترن أنفسهن كان طلاقاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 298
واختلف العلماء في حكم التخيير : فقال عمر وابن مسعود وابن عباس : إذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء ، ولو اختارت نفسها وقع طلقة واحدة ، وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وسفيان والشافعي وأصحاب الرأي ، إلا أن عند أصحاب الرأي : أنه يقع طلقة بائنة إذا اختارت نفسها.
305
وعند الآخرين : رجعية. وقال زيد بن ثابت : إذا اختارت الزوج تقع طلقة واحدة ، وإن اختارت نفسها فثلاث وهو قول الحسن ورواية عن مالك ، وروي عن علي : أنها إذا اختارت زوجها تقع طلقة واحدة رجعية ، وإن اختارت نفسها فطلقة بائنة ، وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء.
وعن مسروق قال : ما أبالي خيرت امرأتي واحدة أو مائة أو ألفاً بعد أن تختارني. قال الرازي : وهنا مسائل :
منها هل كان هذا التخيير واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ، والجواب : أن التخيير كان قولاً واجباً من غير شك لأنه إبلاغ لرسالة لأن الله تعالى لما قال له : قل لهن صار من الرسالة ، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا ، والظاهر أنه للوجوب.(3/206)
ومنها : أن واحدة منهن لو اختارت نفسها وقلنا : إنها لا تبين إلا بإبانة النبي صلى الله عليه وسلم فهل كان يجب على النبي صلى الله عليه وسلم الطلاق أم لا ، الظاهر نظر إلى منصب النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجب لأن الخلف في الوعد من النبي صلى الله عليه وسلم غير جائز ، بخلاف أحدنا فإنه لا يلزمه شرعاً الوفاء بما يعد.
ومنها : أن المختارة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره أم لا ، الظاهر أنها لا تحرم وإلا لم يكن التخيير ممكناً لها من التمتع بزينة الدنيا.
ومنها : أن من اختارت الله ورسوله هل كان يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم طلاقها أم لا ، الظاهر الحرمة نظراً إلى منصب الرسول صلى الله عليه وسلم على معنى أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يباشره أصلاً ، لا بمعنى أنه لو أتى به لعوقب أو عوتب انتهى.
ولما خيرهن واخترن الله ورسوله هددهن الله للتوقي عما يسوء النبي صلى الله عليه وسلم وأوعدهن بتضعيف العذاب بقوله :
{يا نساء النبي} أي : المختارات له لما بينه وبين الله تعالى مما يظهر شرفه {من يأت منكن بفاحشة} أي : سيئة من قول أو فعل كالنشوز وسوء الخلق واختيار الحياة الدنيا وزينتها على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك ، وقال ابن عباس : المراد هنا بالفاحشة : النشوز وسوء الخلق وقيل : هو كقوله تعالى : {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر : 60)
جزء : 3 رقم الصفحة : 298
وقرأ ابن كثير وشعبة {مبينة} بفتح الياء التحتية أي : ظاهر فحشها ، والباقون بكسرها أي : واضحة ظاهرة في نفسها {يضاعف لها العذاب} أي : بسبب ذلك {ضعفين} أي : ضعفي عذاب غيرهن أي : مثيله وإنما ضوعف عذابهن لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن وأقبح لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل والمرتبة ، ولذلك كان ذم العقلاء للعاصي العالم أشد منه للعاصي الجاهل لأن المعصية من العالم أقبح ، ولذلك جعل حد الحر ضعفي حد العبد ، وعوتب الأنبياء بما لم يعاتب به غيرهم ، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي بالياء التحتية وألف بعد الضاد وتخفيف العين مفتوحة ، العذاب بالرفع ، وابن كثير وابن عامر بالنون ، ولا ألف بعد الضاد وتشديد العين مكسورة ، العذاب بالنصب ، وأبو عمرو بالياء وتشديد العين مفتوحة العذاب بالرفع. وقوله تعالى : {وكان ذلك على الله يسيراً} فيه إيذان بأن كونهن نساء للنبي صلى الله عليه وسلم ليس بمغن عنهن شيئاً ، وكيف يغني عنهن وهو سبب مضاعفة العذاب ، فكان داعياً إلى تشديد الأمر عليهن غير صارف عنه.
ولما بين تعالى زيادة عقابهن أتبعه زيادة ثوابهن بقوله تعالى :
306
جزء : 3 رقم الصفحة : 298
{ومن يقنت} أي : يطع {منكن لله} الذي هو أهل لأن لا يلتفت إلى غيره {ورسوله} الذي لا ينطق عن الهوى فلا تخالفه فيما أمر به ولا تختار عيشاً غير عيشه {وتعمل} أي : مع ذلك بجوارحها {صالحاً} أي : في جميع ما أمر به سبحانه أو نهى عنه فلا تقتصر على عمل القلب {نؤتها أجرها مرتين} أي : مثلي ثواب غيرهن من النساء. قال مقاتل : مكان كل حسنة عشرين حسنة فمرة على الطاعة ، ومرة لطلبهن رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق وطيب المعاشرة والقناعة.
تنبيه : قوله تعالى : {نؤتها أجرها مرتين} في مقابلة قوله تعالى {يضاعف لها العذاب ضعفين} وفيه لطيفة وهي أنه عند إيتاء الأجر ذكر المؤتي وهو الله تعالى ، وعند العذاب لم يصرح بالمعذب بل قال : يضاعف ، وهذا إشارة إلى كمال الرحمة والكرم ، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية في يعمل ، ويؤتها حملاً على لفظ من وهو الأصل ، والباقون بالتاء الفوقية في يعمل على معنى من ، والنون في نؤتها على أن فيه ضمير اسم الله تعالى {وأعتدنا} أي : هيأنا بما لنا من العظمة {لها} أي : بسبب قناعتها مع النبي صلى الله عليه وسلم المريد للتخلي من الدنيا التي يبغضها الله تعالى مع ما في ذلك من توفير الحظ في الآخرة {رزقاً كريماً} أي : في الدنيا والآخرة زيادة على أجرها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 307
أما في الدنيا : فلأن ما يرزقهن منه يوفقن لصرفه على وجه يكون فيه أعظم الثواب ولا يخشى من أجله نوع عقاب. وأما في الآخرة : فلا يوصف ولا يحد ولا نكد فيه أصلاً ولا كدّ ، وهذا ما جرى عليه البقاعي وهو أولى مما جرى عليه كثير من المفسرين من الاقتصار على رزق الجنة ، وعلله الرازي بقوله : ووصف رزقاً بكونه كريماً مع أن الكريم لا يكون وصفاً إلا للرازق ، وذلك
307(3/207)
إشارة إلى أن الرزق في الدنيا مقدر على أيدي الناس ، فإن التاجر يسترزق من السوقة ، والعاملون والصناع من المستعملين ، والملوك من الرعية والرعية منهم ، فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه إنما هو مسخر للغير يكتسبه ويرسله إلى الأعيان ، وأما في الآخرة فلا يكون له مرسل وممسك في الظاهر فهو الذي يأتي بنفسه فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرازق ، وفي الآخرة يوصف بالكريم نفس الرزق. انتهى.
ولما ذكر تعالى أن عذابهن ضعف عذاب غيرهن وأجرهن مثل أجر غيرهن صرن كالحرائر بالنسبة إلى الإماء قال تعالى :
{يا نساء النبي لستن كأحد} قال البغوي : ولم يقل كواحدة لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث ، والمعنى : لستن كجماعة واحدة {من} جماعات {النساء} إذا تقصيت جماعة النساء واحدة واحدة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة. ومنه قوله تعالى : {والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم} (النساء : 152)
يريد بين جماعة واحدة منهم تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين وقوله تعالى : {لا نفرق بين أحد من رسله} (البقرة : 285)
وقوله تعالى : {فما منكم من أحد عنه حاجزين} (الحاقة : 47)
والحمل على الأفراد بأن يقال : ليست كل واحدة منكن كواحدة من آحاد النساء صحيح بل أولى ليلزم تفضيل الجماعة ، بخلاف الحمل على الجمع ، وعن ابن عباس معنى لستن كأحد من النساء : يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات ، أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم لدي.
ولما كان المعنى بل أنتن أعلى النساء ذكر شرط ذلك بقوله تعالى : {إن اتقيتن} الله تعالى أي : جعلتن بينكن وبين غضب الله تعالى وغضب رسوله صلى الله عليه وسلم وقاية ، ثم سبب عن هذا النهي قوله تعالى : {فلا تخضعن} أي : إذا تكلمتن بحضرة أجنبي {بالقول} أي : بأن يكون ليناً عذباً رخماً ، والخضوع التطامن والتواضع واللين ، ثم سبب عن الخضوع قوله تعالى : {فيطمع} أي : في الخيانة {الذي في قلبه مرض} أي : فساد وريبة من فسق ونفاق أو نحو ذلك ، وعن زيد بن علي قال : المرض مرضان : مرض زنا ، ومرض نفاق ، وعن ابن عباس : أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله تعالى : {فيطمع الذي في قلبه مرض} قال : الفجور والزنا قال : وهل تعرف العرب ذلك قال : نعم أما سمعت الأعشى وهو يقول :
*
جزء : 3 رقم الصفحة : 307
حافظ للفرج راض بالتقى ** ليس ممن قلبه فيه مرض*
والتعبير بالطمع للدلالة على أن أمنيته لا سبب لها في الحقيقة ؛ لأن اللين في كلام النساء خلق لهن لا تكلف فيه ، وأريد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم التكلف للإتيان بهذه بل المرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع.
ولما نهاهن عن الاسترسال مع سجية النساء في رخاوة الصوت أمرهن بضده بقوله تعالى : {وقلن قولاً معروفاً} أي : يعرف أنه بعيد عن محلِّ الطمع من ذكر الله وما تحتجن إليه من الكلام مما يوجب الدين والإسلام بتصريح وبيان من غير خضوع.
ولما أمرهن بالقول وقدمه لعمومه أتبعه الفعل بقوله تعالى :
{وقرن} أي : اسكن وامكثن
308
دائماً {في بيوتكن} فمن كسر القاف وهم غير نافع وعاصم جعل الماضي قرر بفتح العين ، ومن فتحه وهو نافع وعاصم فهو عنده قرر بكسرها وهما لغتان. قال البغوي : وقيل وهو الأصح : أنه أمر من الوقار كقوله : من الوعد عدن ، ومن الوصل صلن أي : كن أهل وقار وسكون من قوله : وقر فلان يقر وقوراً إذا سكن واطمأن انتهى. ومن فتح القاف فخم الراء ، ومن كسرها رقق الراء ، وعن محمد بن سيرين قال : نبئت أنه قيل لسودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم مالك لا تحجين ولا تعتمرين كما تفعل أخواتك فقالت : قد حجبت واعتمرت ، وأمرني الله أن أقر في بيتي فوالله لا أخرج من بيتي حتى أموت ، قال فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى خرجت بجنازتها.
واختلف في معنى التبرج في قوله تعالى : {ولا تبرجن} فقال مجاهد وقتادة : هو التكسر والتغنج ، وقال ابن جريج : هو التبختر وقيل : هو إبراز الزينة وإبراز المحاسن للرجال ، وقرأ البزي بتشديد التاء في الوصل والباقون بالتخفيف ، واختلف أيضاً في معنى قوله تعالى : {تبرج الجاهلية الأولى} فقال الشعبي : هي ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وقال أبو العالية : هي زمن داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام ، كانت المرأة تتخذ قميصاً من الدر غير مخيط الجانبين فيرى خلقها منه ، وقال الكبي : كان ذلك في زمن نمروذ الجبار ، كانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره ، وتعرض نفسها على الرجال.(3/208)
وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الجاهلية الأولى فيما بين نوح وإدريس عليهما السلام ، وكانت ألف سنة ، وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل ، والآخر يسكن الجبل ، وكان رجال الجبل صباحاً ، وفي النساء دمامة وكان نساء السهل صباحاً ، وفي الرجال دمامة ، وإن إبليس أتى رجالاً من أهل السهل وأجر نفسه منهم فكان يخدمهم ، واتخذ شيئاً مثل الذي يزمر به الرعاء ، فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله ، فبلغ ذلك من حوله فأتوه وهم يستمعون إليه ، واتخذوا عيداً يجتمعون إليه في السنة فيتبرج النساء للرجال ويتزين الرجال لهن ، وأن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهنّ فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فنحوا إليهم فنزلوا معهم وظهرت الفاحشة بينهم فذلك قوله تعالى {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى}.
جزء : 3 رقم الصفحة : 307
وقال قتادة : ما قبل الإسلام وقيل : الجاهلية الأولى ما ذكرنا ، والجاهلية الأخرى قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان وقيل : الجاهلية الأولى ما كانوا عليه قبل الإسلام ، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق في الإسلام ، ويعضده قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر كما في الصحيحين : "إن فيك جاهلية كفر وإسلام" وقول البيضاوي عن أبي الدرداء ، قال ابن حجر : لم أجده عن أبي الدرداء وقيل : قد تذكر الأولى وإن لم تكن لها أخرى كقوله تعالى {وإنه أهلك عاداً الأولى} (النجم : 50)
ولم تكن لها أخرى.
ولما أمرهن بلزوم البيوت للتخلية عن الشوائب أرشدهن إلى التحلية بالرغائب بقوله تعالى :
{وأقمن الصلاة} أي : فرضاً ونفلاً صلة لما بينكن وبين الخالق {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} (العنكبوت : 45)
{وآتين الزكاة} إحساناً إلى الخلائق وفي هذا بشارة بالفتوح
309
وتوسيع الدنيا عليهن ، فإن العيش وقت نزولها كان ضيقاً عن القوت فضلاً عن الزكاة.
ولما أمرهن بخصوص ما تقدم لأنهما أصل الطاعات البدنية والمالية ، ومن اعتنى بهما حق الاعتناء جرتاه إلى ما وراءهما تمم وجمع في قوله تعالى : {وأطعن الله} أي : الذي له صفات الكمال {ورسوله} أي : الذي لا ينطق عن الهوى فيما أمرا به ونهيا عنه {إنما يريد الله} أي : الذي هو ذو الجلال والإكرام بما أمركن به ونهاكن عنه من الإعراض عن الزينة وما يتبعها والإقبال عليه {ليذهب} أي : لأجل أن يذهب {عنكم الرجس} أي : الإثم الذي نهى الله تعالى عنه النساء قاله مقاتل ، وقال ابن عباس : يعني عمل الشيطان وما ليس فيه رضا الرحمن. وقال قتادة : يعني السوء وقال مجاهد : الرجس الشك وقوله تعالى : {أهل البيت} في ناصبه أوجه : أحدها : النداء أي : يا أهل البيت ، أو المدح أي : أمدح أهل البيت ، أو الاختصاص أي : أخص أهل البيت كما قال صلى الله عليه وسلم "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" والاختصاص في المخاطب أقل منه في المتكلم ، وسمع : منك الله نرجو الفضل والأكثر إنما هو في المتكلم كقولها :
*نحن بنات طارق نمشي على النمارق*
وقولهم :
*نحن بني ضبة أصحاب الجمل ** الموت أحلى عندنا من العسل*
وقولهم :
*نحن العرب أقرى الناس للضيف*
واختلف في أهل البيت والأولى فيهم ما قال البقاعي : إنهم كل من يكون من إلزام النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال والنساء والأزواج والإماء والأقارب ، وكلما كان الإنسان منهم أقرب وبالنبي صلى الله عليه وسلم أخص وألزم كان بالإرادة أحق وأجدر ويؤيده قول البيضاوي ، وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما رضي الله تعالى عنهم ؛ لما روي أنه عليه الصلاة والسلام خرج ذات غدوة وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجلس فجاءت فاطمة فأدخلها فيه ، ثم جاء علي فأدخله فيه ، ثم جاء الحسن والحسين فأدخلهما فيه ، ثم قال : {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} والاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون إجماعهم حجة ضعيف.
جزء : 3 رقم الصفحة : 307
وعن ابن عباس أنهم نساء النبي صلى الله عليه وسلم لأنهن في بيته وتلا قوله تعالى : {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله} (الأحزاب : 34)
وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت : "في بيتي أنزل {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} قالت : فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة وعلي
310
والحسن والحسين فقال : هؤلاء أهل بيتي فقلت : يا رسول الله ما أنا من أهل البيت فقال بلى إن شاء الله" وقال زيد بن أرقم : أهل بيته من حرم الصدقة بعده آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس ، قال الرازي : والأولى أن يقال لهم أولاده وأزواجه والحسن والحسين ، وعلي منهم لأنه كان من أهل بيته لمعاشرته بنت النبي صلى الله عليه وسلم ولملازمته له.(3/209)
ولما استعار للمعصية الرجس استعار للطاعة الطهر ترغيباً لأصحاب الطباع السليمة والعقول المستقيمة في الطاعة وتنفيراً لهم عن المعصية بقوله تعالى : {ويطهركم} أي : يفعل في طهركم الصيانة عن جميع القاذورات الحسية والمعنوية فعل المبالغ فيه ، وزاد ذلك عظماً بالمصدر بقوله تعالى : {تطهيراً} وعن ابن عباس قال : شهدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} الصلاة رحمكم الله كل يوم خمس مرات ، ثم بين تعالى ما أنعم الله به عليهن من أن بيوتهن مهابط الوحي بقوله تعالى :
{واذكرن} أي : في أنفسكن ذكراً دائماً ، واذكرنه لغيركن على جهة الوعظ والتعليم {ما يتلى} أي : يتابع ويوالى ذكره {في بيوتكن} أي : بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم الذي خيركن. وقوله تعالى : {من آيات الله} أي : القرآن بيان للموصول فيتعلق بأعني ، ويجوز أن يكون حالاً إما من الموصول ، وإما من عائده المقدر فيتعلق بمحذوف أيضاً ، واختلف في قوله تعالى : {والحكمة} فقال قتادة : يعني السنة ، وقال مقاتل : أحكام القرآن ومواعظه {إن الله} أي : الذي له جميع العظمة {كان} أي : ولم يزل {لطيفاً} أي : يوصل إلى المقاصد بلطائف الأضداد {خبيراً} أي : بجميع خلقه يعلم ما يسرون وما يعلنون لا تخفى عليه خافية ، فيعلم من يصلح لبيت النبي صلى الله عليه وسلم ومن لا ، وما يصلح الناس ديناً ودنيا ، وما لا يصلحهم. والطرق الموصلة لكل ما قضاه وقدره وإن كانت على غير ما يألفه الناس.
من انقطع إلى الله كفاه الله تعالى كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها ، ولقد صدق الله تعالى وعده في لطفه وحقق بره في خبره بأن فتح على نبيه صلى الله عليه وسلم خبير ، فأفاض بها من رزقه الواسع ، ولما توفى نبيه صلى الله عليه وسلم ليحميه من زهرة الحياة الدنيا فتح الفتوحات الكبار من بلاد فارس والروم ومصر وما بقي من اليمن ، فعم الفتح جميع الأقطار ، الشرق والغرب والجنوب والشمال ، ومكن أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من كنوز تلك البلاد وذخائر أولئك الملوك حتى صار الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يكيلون المال كيلاً ، وزاد الأمر حتى دوّن عمر رضي الله تعالى عنه الدواوين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 307
وفرض للناس عامة أرزاقهم حتى للرضعاء ، وكان أولاً لا يفرض للمولود حتى يفطم ، فكانوا يستعجلون بالفطام فنادى مناديه لا تعجلوا أولادكم بالفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام ، وفاوت بين الناس في العطاء بحسب القرب من النبي صلى الله عليه وسلم والبعد منه ، وبحسب السابقة في الإسلام والهجرة. ونزل الناس منازلهم بحيث أرضى جميع الناس ، حتى قدم عليه خالد بن عرفطة فسأله عما وراءه فقال : تركتهم يسألون الله تعالى أن يزيد في عمرك من أعمارهم ، قال عمر : إنما هو حقهم ، وأنا أسعى بأدائه
311
إليهم وإني لأعم بنصيحتي كل من طوقني الله أمره ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من مات غاشاً لرعيته لم يَرَ ريح الجنة" فكان فرضه لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألفاً لكل واحدة ، وهي نحو ألف دينار في كل سنة ، وأعطى عائشة خمسة وعشرين ألفاً لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها ، فأبت أن تأخذ إلا ما تأخذه صواحباتها.
وروي عن برزة بنت رافع قالت : لما خرج العطاء أرسل عمر إلى زينب بنت جحش بالذي لها ، فلما أدخل إليها قالت : غفر الله لعمر ، غيري من أخواتي أقوى على قسم هذا مني قالوا : هذا كله لك قالت : سبحان الله ثم قالت : صبوه واطرحوا عليه ثوباً ، ثم قالت لي : أدخلي يديك واقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان من ذوي رحمها وأيتام لها ، فقسمته حتى بقيت منه بقية تحت الثوب قالت برزة بنت رافع : نظر الله لك يا أم المؤمنين والله لقد كان لنا في هذا المال حق قالت : فلكم ما تحت الثوب قالت : فوجدنا تحته خمسمائة وثمانين درهماً ، ثم رفعت يديها إلى السماء وقالت : اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا فماتت ، قال البقاعي : ذكر ذلك البلاذري في كتاب "فتوح البلاد" انتهى. وعن مقاتل قال : قالت أم سلمة بنت أبي أمية ، ونسيبة بنت كعب الأنصارية للنبي صلى الله عليه وسلم "ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه نخشى أن لا يكون فيهن خير" فأنزل الله تعالى :
{إن المسلمين والمسلمات} أي : الداخلين في الإسلام المنقادين لحكم الله في القول والعمل.
ولما كان الإسلام مع كونه أكمل الأوصاف وأعلاها يمكن أن يكون بالظاهر فقط أتبعه المحقق له وهو إسلام الباطن بالتصديق التام بغاية الإذعان فقال عاطفاً له ولما بعده من الأوصاف التي يمكن اجتماعها بالواو للدلالة على تمكن الجامعين لهذه الأوصاف في كل وصف منها : {والمؤمنين والمؤمنات} أي : المصدقين بما يجب أن يصدق به.(3/210)
جزء : 3 رقم الصفحة : 307
ولما كان المؤمن المسلم قد لا يكون في أعماله مخلصاً قال : {والقانتين والقانتات} أي : المخلصين في إيمانهم وإسلامهم المداومين على الطاعة.
ولما كان القنوت قد يطلق على الإخلاص المقتضى للمداومة ، وقد يطلق على مطلق الطاعة قال : {والصادقين والصادقات} أي : في ذلك كله من قول وعمل.
ولما كان الصدق وهو إخلاص القول والعمل عن شوب يلحقه أو شيء يدنسه قد لا يكون دائماً قال مشيراً إلى أن ما لا يكون دائماً لا يكون صدقاً في الواقع : {والصابرين والصابرات} أي : على الطاعات وعن المعاصي.
ولما كان الصبر قد يكون سجية دل على صرفه إلى الله بقوله تعالى : {والخاشعين والخاشعات} أي : المتواضعين لله تعالى بقلوبهم وجوارحهم.
ولما كان الخشوع والخضوع والإخبات والسكون لا يصح مع توفير المال ، فإنه سكون إليه قال معلماً : إنه إذ ذاك لا يكون على حقيقته {والمتصدقين والمتصدقات} بما وجب في أموالهم وبما استحب سراً وعلانية تصديقاً لخشوعهم.
312
ولما كان بذل المال قد لا يكون مع الإيثار أتبعه ما يعين عليه بقوله تعالى : {والصائمين والصائمات} أي : فرضاً ونفلاً للإيثار بالقوت وغير ذلك.
ولما كان الصوم يكسر شهوة الفرج وقد يثيرها قال تعالى : {والحافظين فروجهم والحافظات} أي : عما لا يحل لهم. وحذف مفعول الحافظات لتقدم ما يدل عليه ، والتقدير : والحافظاتها ، وكذلك والذاكرات ، وحسن الحذف رؤوس الفواصل.
ولما كان حفظ الفرج وسائر الأعمال لا يكاد يوجد إلا بالذكر وهو الذي يكون عنده المراقبة الموصلة إلى المحاضرة المحققة للمشاهدة المحببة للفناء قال تعالى : {والذاكرين الله كثيراً والذاكرات} أي : بقلوبهم وألسنتهم في كل حالة.
ومن علامات الإكثار من الذكر اللهج به عند الاستيقاظ من النوم ، وقال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً ، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "سبق المفردون قالوا : وما المفردون قال : "الذاكرون الله تعالى كثيراً والذاكرات" قال عطاء بن أبي رباح : من فوض أمره إلى الله عز وجل فهو داخل في قوله تعالى : {إن المسلمين والمسلمات} ومن أقر بأن الله تعالى ربه ، ومحمداً صلى الله عليه وسلم رسوله ولم يخالف قلبه لسانه فهو داخل في قوله تعالى : {والمؤمنين والمؤمنات} ومن أطاع الله تعالى في الفرض ، والرسول صلى الله عليه وسلم في السنة فهو داخل في قوله تعالى : {والقانتين والقانتات} ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله تعالى : {والصادقين والصادقات} ومن صبر على الطاعات وعن المعصية وعلى الرزية فهو داخل في قوله تعالى : {والصابرين والصابرات}.
جزء : 3 رقم الصفحة : 307
ومن صلى ولم يعرف من عن يمينه وعن يساره فهو داخل في قوله تعالى : {والخاشعين والخاشعات} ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله تعالى : {والمتصدقين والمتصدقات} ومن صام في كل شهر أيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فهو داخل في قوله تعالى : {والصائمين والصائمات} ومن حفظ فرجه عن الحرام فهو داخل في قوله تعالى : {والحافظين فروجهم والحافظات} ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله تعالى : {والذاكرين الله كثيراً والذاكرات} {أعد الله} أي : الذي لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره مع أنه لا يعاظمه شيء {لهم مغفرة} أي : لما اقترفوه من الصغائر لأنها مكفرات بفعل الطاعات ، والآية عامة وفضل الله تعالى واسع.
ولما ذكر تعالى الفضل بالتجاوز أتبعه الفضل بالكرم والرحمة بقوله تعالى : {وأجراً عظيما} أي : على طاعتهم ، والآية وعد لهن ولأمثالهن بالإثابة على الطاعة والتدرع بهذه الخصال ، وروي أن سبب نزول هذه الآية : "أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن : يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به ؟
إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة فأنزل الله تعالى هذه الآية".
روي أن أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فدخلت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : هل نزل فينا شيء من القرآن قلن : لا فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : "يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار قال : ومم ذاك قالت : لأنهن لا يذكرن بخير كما تذكر الرجال" فأنزل
313
الله عز وجل هذه الآية. وقيل : لما نزل في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما نزل قال نساء المسلمين : فما نزل فينا شيء فنزلت.(3/211)
تنبيه : عطف الإناث على الذكور لاختلاف جنسهما ، والعطف فيه ضروري لاختلافهما ذاتاً ، وعطف الزوجين وهو مجموع المؤمنين والمؤمنات على الزوجين ، وهو مجموع المسلمين والمسلمات لتغاير وصفيهما. وليس العطف فيه بضروري بخلافه في الأول ؛ لأن اختلاف الجنس أشد من اختلاف الصفة ، وفائدة العطف عند تغاير الأوصاف الدلالة على أن أعداد المعد من المغفرة والأجر العظيم أي : تهيئته للمذكورين للجمع بين هذه الصفات ، فصار المعنى : أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات العشر أعد الله تعالى لهم مغفرة وأجراً عظيماً.
وقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 307
{وما كان} أي : وما صح {لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً} أي : إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الله تعالى لتعظيم أمره ، والإشعار بأنه قضاء الله تعالى. نزلت في زينب بنت جحش الأسدية وأخيها عبد الله بن جحش ، وأمها أمية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم "لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم زينب على مولاه زيد بن حارثة ، وكان اشترى زيداً في الجاهلية بعكاظ فأعتقه وتبناه ، فلما خطب النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه ، فلما علمت أنه يخطبها لزيد بن حارثة أبت وقالت : أنا ابنة عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي ، وكانت بيضاء جميلة فيها حدة ، وكذلك كره أخوها" ذلك رواه الدارقطني بسند ضعيف ، وقيل : في أم كلثوم بنت عقبة وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فزوجها من زيد {أن تكون لهم الخيرة من أمرهم} أي : أن يختاروا من أمرهم شيئاً ، بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعاً لاختيار الله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم
جزء : 3 رقم الصفحة : 314
تنبيه : الخيرة : مصدر من تخير كالطيرة من تطير على غير قياس ، وجمع الضمير في قوله تعالى : {لهم} وفي قوله تعالى : {من أمرهم} لعموم مؤمن ومؤمنة من حيث أنها في سياق النفي ، ويجوز أن يكون الضمير في من أمرهم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وجمع للتعظيم كما جرى عليه البيضاوي ، وقرأ أن يكون الكوفيون وهشام بالياء التحتية والباقون بالفوقية ، ولأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى ، ومن عصاه فقد عصى الله تعالى كما قال تعالى : {ومن يعص الله} أي : الذي لا أمر لأحد معه {ورسوله} أي : الذي معصيته معصية الله تعالى لكونه بينه وبين الخلق في بيان ما أرسل به إليهم. وقوله تعالى : {فقد ضل} قرأه قالون وابن كثير وعاصم بالإظهار ، والباقون بالإدغام وزاد ذلك بقوله تعالى : {ضلالاً مبيناً} أي : فقد أخطأ خطأ ظاهراً لا خفاء فيه ، فالواجب على كل أحد أن يكون معه صلى الله عليه وسلم في كل ما يختاره ، وإن كان فيه أعظم المشقات عليه تخلقاً. يقول الشاعر :
*وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ** متأخر عنه ولا متقدم*
*وأهنتني فأهنت نفسي عامداً ** ما من يهون عليك ممن يكرم*
فلما نزلت هذه الآية رضيت زينب بذلك وجعلت أمرها بيد النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك أخوها
314
فأنكحها صلى الله عليه وسلم زيداً ، فدخل بها وساق إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دنانير وستين درهماً ، وخماراً ودرعاً وإزاراً وملحفة ، وخمسين مداً من الطعام ، وثلاثين صاعاً من تمر. ومكثت عنده حيناً. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى زيداً ذات يوم لحاجة ، فأبصر زينب قائمة في درع وخمار وكانت بيضاء جميلة ذات خلق من أتم نساء قريش ، فوقعت في نفسه وأعجبه حسنها فقال : سبحان الله مقلب القلوب وانصرف ، فلما جاء زيد ذكرت ذلك له ففطن زيد ، فألقي في نفس زيد كراهتها في الوقت ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أريد أن أفارق صاحبتي قال : مالك أربك منها شيء قال : لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيراً ، ولكنها تتعاظم عليّ لشرفها ، وتؤذيني بلسانها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أمسك عليك زوجك يعني زينب بنت جحش واتق الله في أمرها فأنزل الله تعالى :
{وإذ تقول للذي أنعم الله} أي : الملك الذي له كل الكمال {عليه} وتولى نبيه عليه الصلاة والسلام إياه" ، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بالإظهار والباقون بالإدغام.(3/212)
ثم بين تعالى منزلته من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : {وأنعمت عليه} أي : بالعتق والتبني حيث استشارك في فراق زوجته التي أخبرك الله تعالى أنه يفارقها وتصير زوجتك {أمسك عليك زوجك} أي : زينب رضي الله عنها {واتق الله} الذي له جميع العظمة في جميع أمرك {وتخفي} أي : والحال أنك تخفي أي : تقول قولاً مخفياً {ما في نفسك} أي : ما أخبرك الله من أنها ستصير إحدى زوجاتك عند طلاق زيد {ما الله مبديه} أي : مظهره بحمل زيد على تطليقها ، وإن أمرته بإمساكها وتزويجك بها وأمرك بالدخول عليها ، وهذا دليل على أنه ما أخفى غير ما أعلمه الله تعالى من أنها ستصير زوجته عند طلاق زيد ؛ لأن الله تعالى ما أبدى غير ذلك ، ولو أخفى غيره لأبداه سبحانه ؛ لأنه لا يبدل قوله ، وقول ابن عباس كان في قلبه حبها بعيد ، وكذا قول قتادة : ودّ لو أنه لو طلقها زيد ، وكذا قول غيرهما : كان في قلبه لو فارقها زيد تزوجها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 314
ولما ذكر تعالى إخفاءه ذلك ذكر علته بقوله تعالى : عاطفاً على تخفي {وتخشى الناس} أي : من أن تخبر بما أخبر الله تعالى به فيصوبوا إليك مرجمات الظنون لاسيما اليهود والمنافقون ، وقال ابن عباس والحسن : تستحييهم ، وقيل : تخاف لأئمة الناس أن يقولوا : أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها {والله} أي : والحال أن الذي لا شيء أعظم منه {أحق أن تخشاه} أي : وحده ولا تجمع خشية الناس مع خشيته في أن تؤخر شيئاً أخبرك به حتى يأتيك فيه أمر. قال عمر وابن مسعود وعائشة : ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد عليه من هذه ، وروي عن مسروق قال : قالت عائشة : "لو كتم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية {وتخفي في نفسك ما الله مبديه}.
ويؤيد ما مر ما روى سفيان بن عيينة عن علي عن زيد بن جدعان قال : سألني علي بن الحسين زين العابدين ما يقول الحسن في قوله تعالى : {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} قال : قلت يقول لما جاء زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله إني أريد أن أطلقها فقال له : {أمسك عليه زوجك} فقال علي بن الحسين : ليس كذلك ؛ لأن الله
315
تعالى قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه ، وأن زيداً سيطلقها ، فلما جاء زيد وقال : إني أريد أن أطلقها قال له : {أمسك عليك زوجك} فعاتبه الله تعالى وقال : "لم قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك" وهذا هو اللائق والأليق بحال الأنبياء عليهم السلام ، وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال تعالى : {فلما قضى زيد منها وطرأ} أي : حاجة من زواجها والدخول بها ، وذلك بانقضاء عدتها منه ؛ لأن به يعرف أنه لا حاجة له فيها ، وأنه قد تقاصرت عنها همته وإلا راجعها {زوجناكها} أي : ولم نحوجك إلى ولي من الخلق يعقد لك عليها تشريفاً لك ولها بما لنا من العظمة التي خرقنا بها عوائد الخلق حتى أذعن لذلك كل من علم به ، وسرت به جميع النفوس.
ولم يقدر منافق ولا غيره على الخوض في ذلك ببنت شفة مما يوهنه ويؤثر فيه ، فلو كان الذي أضمره رسول الله صلى الله عليه وسلم محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه فلا يظهره ، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله تعالى من أنها ستكون زوجة له.
وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد : إن التي تحتك وفي نكاحك ستكون امرأتي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 314
قال البغوي : وهذا هو الأولى والأليق وإن كان الآخر وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء عليهم السلام ؛ لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المأثم ؛ لأن الود وميل النفس من طبع البشر ، وقوله : {أمسك عليك زوجك واتق الله} أمر بالمعروف وهو خشية الإثم فيه وقوله : {والله أحق أن تخشاه} لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه الصلاة والسلام قال : "أنا أخشاكم لله وأتقاكم له" ولكن المعنى : الله أحق أن تخشاه وحده ولا تخشى أحداً معه ، فأنت تخشاه وتخشى الناس أيضاً. ولكنه لما ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله أحق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء انتهى.
وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبني تحل بعد الدخول بها إذا طلقت وانقضت عدتها ، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال : "لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد : اذهب فاذكرها علي قال : فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال : فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها ، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي فقلت : يا زينب أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك قالت : ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن.(3/213)
وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن قال : ولقد رأيتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم حتى امتد النهار ، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته ، فجعل يتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقلن : يا رسول الله كيف وجدت أهلك ؟
قال : فما أدري ، أنا أخبرته أن القوم خرجوا أو أخبرني قال : فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب".
جزء : 3 رقم الصفحة : 314
وعن أنس رضي الله عنه قال : "ما أولم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من نسائه ما أولم على زينب ،
316
أولم بشاة" وفي رواية : "أكثر وأفضل ما أولم على زينب" قال ثابت : فما أولم قال : أطعمهم خبزاً ولحماً حتى تركوه قال أنس رضي الله عنه : "كانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول : زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات" وقال الشعبي : "كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إني لأدل عليك بثلاث : ما من نسائك امرأة تدل بهن : جدي وجدك واحد ، وأنكحنيك الله في السماء ، وإن السفير لجبريل عليه السلام " وأخرج ابن سعد والحاكم عن محمد بن يحيى بن حبان قال : "جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت زيد بن حارثة يطلبه ، وكان زيد يقال له : زيد بن محمد ، فربما فقده رسول الله صلى الله عليه وسلم الساعة فيقول : أين زيد ؟
فجاء منزله يطلبه فلم يجده ، وتقوم إليه زينب بنت جحش زوجته فضلاً ، فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقالت : ليس هو ههنا يا رسول الله فادخل ، فأبى أن يدخل ، فأعجبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فولى وهو يهمهم بشيء لا يكاد يفهم منه إلا ربما أعلن بسبحان الله العظيم سبحان مصرف القلوب ، فجاء زيد إلى منزله فأخبرته امرأته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منزله فقال زيد : ألا قلت له أن يدخل قالت : قد عرضت ذلك عليه فأبى قال : فسمعت شيئاً منه قالت : سمعته حين ولى تكلم بكلام لا أفهمه وسمعته يقول : سبحان الله العظيم سبحان مصرف القلوب ، فجاء زيد حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله بلغني أنك جئت منزلي فهلا دخلت يا رسول الله لعل زينب أعجبتك فأفارقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {أمسك عليك زوجك} فما استطاع زيد إليها سبيلاً بعد ذلك اليوم فيأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره فيقول : {أمسك عليك زوجك} ففارقها زيد واعتزلها وانقضت عدتها ، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس يتحدث مع عائشة إذ أخذته غشية ، فسري عنه وهو يبتسم ويقول : من يذهب إلى زينب يبشرها أن الله زوجنيها من السماء ، وقرأ {وإذ تقول للذي} الآية قالت عائشة : فأخذني ما قرب وما بعد لما يبلغنا من جمالها ، وأخرى هي أعظم الأمور وأشرفها زوجها الله من السماء وقلت : هي تفخر علينا بهذا".
ولما ذكر تعالى التزويج على ماله من العظمة ذكر علته بقوله تعالى : {لكي لا يكون على المؤمنين حرج} أي : ضيق وإثم {في أزواج أدعيائهم} أي : الذين تبنوهم وأجروهم في تحريم أزواجهم مجرى أزواج البنين على الحقيقة {إذا قضوا منهن وطرا} أي : حاجة بالدخول بهن ، ثم الطلاق وانقضاء العدة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 314
فائدة : لا مقطوعة في الرسم من {لكي}.
تنبيه : الأدعياء : جمع دعي وهو المتبنى أي : زوجناك زينب وهي امرأة زيد الذي تبنيته ليعلم أن زوجة المتبنى حلال للمتبني وإن كان قد دخل بها المتبنى ، بخلاف امرأة ابن الصلب لا تحل للأب {وكان أمر الله} من الحكم بتزويجها وإن كرهت وتركت إظهار ما أخبرك الله تعالى به
317
كراهية لسوء المقالة واستحياء من ذلك ، وكذا كل أمر يريده سبحانه {مفعولاً} أي : قضاء الله تعالى ماضياً وحكمه نافذاً في كل ما أراده لا معقب لحكمه.
{ما كان على النبي} أي : الذي منزلته من الله تعالى الاطلاع على ألا يطلع عليه غيره من الخلق {من حرج فيما فرض} أي : قدر {الله} بما له من صفات الكمال وأوجبه {له} لأنه لم يكن على المؤمنين مطلقاً حرج في ذلك فكيف برأس المؤمنين ؟
وقوله تعالى {سنة الله} منصوب بنزع الخافض أي : كسنة الله {في الذين خلوا من قبل} من الأنبياء عليهم السلام أنه لا حرج عليهم فيما أباح لهم ، قال الكلبي ومقاتل : أراد داود عليه السلام حين جمع بينه وبين المرأة التي هويها ، فكذلك جمع بين محمد وبين زينب. وقيل : أراد بالسنة النكاح فإنه من سنة الأنبياء عليهم السلام ، فكان من كان من الأنبياء عليهم السلام هذا سنتهم ، فقد كان لسليمان بن داود عليهما السلام ألف امرأة ، وكان لداود مائة امرأة {وكان أمر الله} أي : قضاء الملك الأعظم في ذلك وغيره {قدراً} وأكده بقوله تعالى : {مقدوراً} أي : لا خلف فيه ولابد من وقوعه في حينه الذي حكم بكونه فيه وقوله تعالى : (3/214)
{الذين} نعت للذين قبله {يبلغون} أي : إلى أممهم {رسالات الله} أي : الملك الأعظم ، سواء كانت في نكاح أم غيره {ويخشونه} أي : فيخبرون بكل ما أخبرهم به {ولا يخشون أحداً} قل أو جلَّ {إلا الله} فلا يخشون قالة الناس فيما أحل الله لهم {وكفى بالله} أي : المحيط بجميع صفات الكمال {حسيباً} أي : حافظاً لأعمال خلقه ومحاسبهم.
ولما أفاد هذا كله أن الدعي ليس ابناً وكانوا قد قالوا : لما تزوج زينب كما رواه الترمذي عن عائشة تزوج حليلة ابنه قال تعالى :
{ما كان} أي : بوجه من الوجوه {محمد} أي : على كثرة نسائه وأولاده {أبا أحد من رجالكم} لا مجازاً بالتبني ولا حقيقة بالولادة ، فثبت بذلك أنه يحرم عليه زوجة الابن ، ولم يقل تعالى من بنيكم ؛ لأنه لم يكن له في ذلك الوقت سنة خمس ، وما داناها ابن ذكر لعلمه تعالى أنه سيولد له ابنه إبراهيم عليه السلام مع ما كان له قبله من البنين الطاهر والطيب والقاسم ، وأنه لم يبلغ أحد منهم الحلم عليهم السلام. قال البيضاوي : ولو بلغوا لكانوا رجاله لا رجالهم. انتهى. وهذا إنما يأتي على أن المراد التبني. وقال البغوي : والصحيح أنه أراد بأحد من رجالكم : الذين لم يلدهم. انتهى. ومع هذا الأول أوجه كما جرى عليه البقاعي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 314
ثم لما نفى تعالى أبوته عنهم قال : {ولكن} كان في علم الله غيباً وشهادة {رسول الله} أي : الملك الأعظم الذي كل من سواه عبده {وخاتم النبيين} أي : آخرهم الذي ختمهم لأن رسالته عامة ومعها إعجاز القرآن فلا حاجة مع ذلك إلى استنباء ولا إرسال ، وذلك مفض لئلا يبلغ له ولد إذ لو بلغ له ولد ، لاق بمنصبه أن يكون نبياً إكراماً له ؛ لأنه أعلى النبيين رتبة وأعظمهم شرفاً ، وليس لأحد من الأنبياء كرامة إلا وله مثلها وأعظم منها ، ولو صار أحد من ولده رجلاً لكان نبياً بعد ظهور نبوته ، وقد قضى الله تعالى أن لا يكون بعده نبي إكراماً له.
روى أحمد وابن ماجة عن أنس وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ابنه إبراهيم عليه السلام : لو عاش لكان صديقاً نبياً وللبخاري نحوه عن البراء بن عازب. وللبخاري من حديث ابن أبي أوفى : "لو قضي أن يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي لعاش ابنه ولكن لا نبي بعده" وقال
318
ابن عباس رضي الله عنه : يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابناً يكون من بعده نبياً.
وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه : لما حكم أنه لا نبي بعده لم يعطه ولداً ذكراً يصير رجلاً. وقيل : من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم ، إذ هو كالوالد لولد ليس له غيره ، والحاصل أنه لا يأتي بعده نبي مطلقاً بشرع جديد ولا يتجدد بعده مطلقاً استنباء ، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتماً على أبلغ وجه وأعظمه ، وذلك أنها في سياق الإنكار بأن يكون بينه وبين أحد من رجالهم بنوة حقيقية أو مجازية ، ولو كانت بعده لأحد لم يكن ذلك إلا لولده ، ولأن فائدة إثبات النبي تتميم شيء لم يأت به من قبله. وقد حصل به صلى الله عليه وسلم التمام ، فلم يبق بعد ذلك مرام : "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وأما تجديد ما وهي مما أحدث بعض الفسقة فالعلماء كافون فيه لوجود ما خص به صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن المعجز الذي من سمعه فكأنما سمعه من الله عز وجل ؛ لوقوع التحقق والقطع بأنه لا يقدر غيره أن يقول شيئاً منه ، فمهما حصل ذهول عن ذلك قرره من يريد الله تعالى من العلماء فيعود الاستبصار ، كما روي في بعض الآثار : "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" وأما إتيان عيسى عليه السلام بعد تجديد الهدى لجميع ما وهي من أركان المكارم فلأجل فتنة الدجال ثم طامة يأجوج ومأجوج ونحو ذلك مما لا يستقل بأعبائه غير نبي ، وما أحسن قول حسان بن ثابت في مرثية لإبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم
*
جزء : 3 رقم الصفحة : 314
مضى ابنك محمود العواقب لم يشب ** بعيب ولم يذمم بقول ولا فعل*
*رأى أنه إن عاش ساواك في العلا ** فآثر أن تبقى وحيداً بلا مثل*
وقال الغزالي في آخر كتابه الاقتصاد : إن الأمة فهمت من هذا اللفظ ومن قرائن أحواله صلى الله عليه وسلم أنه أفهم عدم نبي بعده أبداً ، وعدم رسول بعده أبداً ، وأنه ليس فيه تأويل ولا تخصيص. وقال : إن من أوله بتخصيص النبيين بأولي العزم من الرسل ونحو هذا فكلامه من أنواع الهذيان لا يمنع الحكم بتكفيره ؛ لأنه مكذب لهذا النص الذي أجمعت الأمة على أنه غير مؤول ولا مخصوص انتهى.(3/215)
وقد بان بهذا أن إتيان عيسى عليه السلام غير قادح في هذا النص ، فإنه من أمته صلى الله عليه وسلم المقررين لشريعته ، وهو قد كان نبياً قبله لم يستجد له شيء لم يكن ، فلم يكن ذلك قادحاً في الختم. وهو مثبت لشرف نبينا صلى الله عليه وسلم إذ لولاه لما وجد ، وذلك أنه لم يكن لنبي من الأنبياء شرف إلا وله صلى الله عليه وسلم مثله أو أعلى منه ، وقد كانت الأنبياء تأتي مقررة لشريعة موسى عليه السلام مجددة لها ، فكان المقرر لشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم المتبع لملته من كان ناسخاً لشريعة موسى صلى الله عليه وسلم وقرأ عاصم بفتح التاء والباقون بكسرها ، فالفتح : اسم للآلة التي يختم بها كالطابع والقالب لما يطبع به ويقلب فيه ، والكسر على أنه اسم فاعل. وقال بعضهم : هو بمعنى المفتوح يعني بمعنى آخرهم لأنه ختم النبيين فهو خاتمهم {وكان
319
الله} أي : الذي له كل صفة كمال أزلاً وأبداً {بكل شيء} من ذلك وغيره {عليماً} فيعلم من يليق بالختم ومن يليق بالبدء.
قال الأستاذ ولي الدين الملوي في كتابه حصن النفوس : في سؤال القبر واختصاصه صلى الله عليه وسلم بالأحمدية والمحمدية علماً وصفه برهان على ختمه ، إذ الحمد مقرون بانقضاء الأمور مشروع عنده {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحكم بنيانه ، ترك منه موضع لبنة فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنائه إلا موضع تلك اللبنة لا يعيبون بسواها ، فكنت أنا موضع تلك اللبنة ختم بي البنيان وختم بي الرسل" وقال عليه الصلاة والسلام : "إن لي أسماء أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي يمحو الله تعالى بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الله تعالى الناس على قدمي ، وأنا العاقب" والعاقب الذي ليس بعده نبي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 314
ولما كان ما أثبته لنفسه سبحانه وتعالى من إحاطة العلم مستلزماً للإحاطة بأوصاف الكمال قال تعالى :
{يا أيها الذين آمنوا} أي : ادعوا ذلك بألسنتهم {اذكروا الله} الذي هو أعظم من كل شيء تصديقاً لدعواكم ذلك {ذكراً كثيراً} قال ابن عباس : لم يفرض الله تعالى على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً ، ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر ، فإنه لم يجعل له حداً ينتهي إليه ، ولم يعذر أهله في تركه إلا مغلوباً على عقله. وأمرهم به في الأحوال فقال تعالى : {فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم} (النساء : 103)
وقال تعالى : {اذكروا الله ذكراً كثيراً} أي : بالليل والنهار والبر والبحر والصحة والسقم في السر والعلانية ، وقال مجاهد : الذكر الكثير : أن لا ينساه أبداً ، فيعم ذلك سائر الأوقات وسائر ما هو أهله من التقديس والتهليل والتمجيد.
{وسبحوه بكرة وأصيلا} أي : أول النهار وآخره خصوصاً ، وتخصيصهما بالذكر للدلالة على فضلهما على سائر الأوقات ؛ لكونهما مشهودين. كإفراد التسبيح من جملة الإذكار لأنه العمدة فيها ، وقال البغوي : وسبحوه أي : صلوا له بكرة أي : صلاة الصبح ، وأصيلا يعني صلاة العصر. وقال الكلبي : وأصيلا يعني صلاة الظهر والعصر والعشاءين وقال مجاهد : معناه قولوا سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فعبر بالتسبيح عن إخوانه ، وقيل : المراد من قوله تعالى : {ذكراً كثيراً} هذه الكلمات يقولها الطاهر والجنب والمحدث.
وعن أنس لما نزل قوله تعالى : {إن الله وملائكته يصلون على النبي} (الأحزاب : 56)
وقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله ما أنزل الله تعالى عليك خيراً إلا أشركنا فيه أنزل الله تعالى :
{هو الذي يصلي عليكم} أي : يرحمكم {وملائكته} أي : يستغفرون لكم ، فالصلاة من الله تعالى رحمة ، ومن الملائكة استغفار للمؤمنين ، فذكر صلاته تحريضاً للمؤمنين على الذكر والتسبيح. قال السدي : قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام : أيصلي ربنا ؟
فكبر هذا الكلام على موسى ، فأوحى الله
320
تعالى إليه قل لهم : إني أصلي ، وإن صلاتي رحمتي وقد وسعت رحمتي كل شيء ، وقيل : الصلاة من الله : هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده. وقيل : الثناء عليه. واستغفار الملائكة ودعاؤهم للمؤمنين ترحم عليهم ، وهو سبب للرحمة من حيث أنهم مجابو الدعوة ، فقد اشتركت الصلاتان ، واللفظ المشترك يجوز استعماله في معنييه معاً ، وكذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ جائز. قال الرازي : وينسب هذا القول للشافعي رحمه الله تعالى وهو غير بعيد ، وذلك لأن الرحمة والاستغفار مشتركان في العناية بحال المرحوم والمستغفر له ، والمراد : هو القدر المشترك فتكون الدلالة تضمنية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 314(3/216)
ولما كان فعل الملائكة منسوباً إليه قال تعالى : {ليخرجكم} أي : ليديم إخراجه إياكم بذلك {من الظلمات} أي : الكفر والمعصية {إلى النور} إلى الإيمان والطاعة ، أو ليخرجكم من الجهل الموجب للضلال إلى العلم المثمر للهدى {وكان} أي : أزلاً وأبداً {بالمؤمنين} أي : الذين صار الإيمان وصفاً لهم {رحيماً} أي : بليغ الرحمة بتوفيقهم حيث اعتنى بصلاح أمرهم واستعمل في ذلك ملائكته المقربين فحملهم ذلك على الإخلاص في الطاعات فرفع لهم الدرجات في روضات الجنات.
جزء : 3 رقم الصفحة : 314
{تحيتهم} أي : المؤمنين {يوم يلقونه} أي : يرون الله تعالى {سلام} أي : يسلم الله تعالى عليهم ويسلمهم من جميع الآفات ، وروي عن البراء بن عازب قال : {تحيتهم يوم يلقونه سلام} يعني يلقون ملك الموت فلا يقبض روح مؤمن إلا يسلم عليه ، وعن ابن مسعود قال : إذا جاء ملك
321
الموت ليقبض روح المؤمن قال : ربك يقرئك السلام ، وقيل : تسلم عليهم الملائكة وتبشرهم حين يخرجون من قبورهم {وأعد} أي : والحال أنه أعد {لهم} أي : بعد السلامة الدائمة {أجراً كريماً} هو الجنة ، وتقدم ذكر الكريم في الرزق ، فإن قيل : الإعداد إنما يكون ممن لا يقدر عند الحاجة إلى الشيء عليه ، وأما الله تعالى فغير محتاج ولا عاجز ، فحيث يلقاه يؤتيه ما يرضى به وزيادة ، فما معنى الإعداد من قبل ؟
أجيب : بأن الإعداد للإكرام لا للحاجة. قال البيضاوي : ولعل اختلاف النظم لمحافظة الفواصل والمبالغة فيما هو أهم.
{يا أيها النبي} أي : الذي نخبره بما لا يطلع عليه غيره {إن أرسلناك} أي : بعظمتنا إلى سائر خلقنا {شاهداً} أي : عليهم بتصديقهم وتكذيبهم ونجاتهم وضلالتهم ، وشاهداً للرسل بالتبليغ ، وهو حال مقدرة أو مقارنة لقرب الزمان {ومبشراً} أي : لمن آمن بالجنة {ونذيراً} أي : لمن كذب بالنار.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 321
وداعياً إلى الله} أي : إلى توحيده وطاعته ، وقوله تعالى : {بإذنه} حال أي : متلبساً بتسهيله ، ولا يريد حقيقة الإذن ؛ لأنه مستفاد من أرسلناك {وسراجاً} أي : مثله في الاهتداء به يمد البصائر فيجلي ظلمات الجهل بالعلم للمبصر لمواقع الزلل كما يمد النور الحسي نور الإبصار {منيراً} أي : نيراً على من اتبعه فيصير في أعظم ضياء ، ومن تخلف عنه كان في أشد ظلام. وعبر به دون الشمس مع أن الشمس أشد إضاءة من السراج ؛ لأن نور الشمس لا يؤخذ منه شيء ، والسراج يؤخذ منه أنوار كثيرة ، إذا انطفأ الأول يبقى الذي أخذ منه ، وكذلك إن غاب النبي صلى الله عليه وسلم كان كل صحابي سراجاً يؤخذ منه نور الهداية كما قال صلى الله عليه وسلم "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".
قال ابن عادل : وفي هذا الخبر لطيفة : وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل أصحابه كالسرج وجعلهم كالنجوم ، لأن النجم لا يؤخذ منه نور بل له في نفسه نور إذا غرب لا يبقى نور يستفاد منه ، فكذلك الصحابي إذا مات فالتابعي يستنير بنور النبي صلى الله عليه وسلم فلا يؤخذ إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله ، فأنوار المجتهدين كلهم من النبي صلى الله عليه وسلم ولو جعلهم كالسرج والنبي صلى الله عليه وسلم كان سراجاً كان للمجتهد أن يستنير بمن أراد منهم ويأخذ النور ممن اختار وليس كذلك ، فإن مع نص النبي صلى الله عليه وسلم لا يعمل بقول الصحابي ، بل يؤخذ النور من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يؤخذ من الصحابي فلم يجعله سراجاً.
تنبيه : جوز الفراء أن يكون الأصل وتالياً سراجاً ، ويعني بالسراج : القرآن ، وعلى هذا فيكون من عطف الصفات وهي الذات واحدة ؛ لأن التالي هو المرسل. وقوله تعالى :
{وبشر المؤمنين} عطف على محذوف ، مثل فراقب أحوال أمتك. ولم يقل أنذر المعرضين إشارة للكرم. وقوله تعالى : {بأن لهم من الله فضلاً كبيراً} كقوله تعالى {أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً} (الأحزاب : 35)
والعظيم والكبير متقاربان.
ولما أمره سبحانه وتعالى بما يسر نهاه عما يضر بقوله تعالى :
{ولا تطع الكافرين والمنافقين} أي : لا تترك إبلاغ شيء مما أنزلت إليك من الإنذار وغيره كراهة لشيء من مقالهم وأفعالهم في أمر زينب وغيرها ، فإنك نذير لهم ، وزاد على ما في أول السورة محط الفائدة في قوله
322
مصرحاً بما اقتضاه ما قبله {ودع} أي : اترك على حالة حسنة لك وأمر جميل بك {أذاهم} فلا تحسب له حساباً أصلاً ، واصبر عليه فإن الله تعالى دافع عنك لأنك داع بإذنه {وتوكل على الله} أي : الملك الأعلى {وكفى بالله} أي : الذي له الإحاطة الكاملة {وكيلاً} أي : حافظاً. قال البغوي : وهذا منسوخ بآية القتال.
جزء : 3 رقم الصفحة : 321(3/217)
ولما بدأ الله تعالى بتأديب النبي صلى الله عليه وسلم بذكر ما يتعلق بجانب الله تعالى بقوله تعالى : {يا أيها النبي اتق الله} وثنى بما يتعلق بجانب من هو تحت يده من أزواجه الشريفات بقوله تعالى : بعده : {يا أيها النبي قل لأزواجك} وثلث بما يتعلق بذكر العامة بقوله تعالى : {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً} وكان تعالى كلما ذكر لنبيه مكرمة وعلمه أدباً ذكر للمؤمنين ما يناسبه ، فلذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بجانب الله تعالى فقال : {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً} ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله تعالى :
{يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات} أي : عقدتم على الموصوفات بهذا الوصف الشريف المقتضى لغاية الرغبة فيهن ، وأتم الوصلة بينكم وبينهن ثم كما ثلث في تأديب النبي صلى الله عليه وسلم بجانب الأمة ثلث في حق المؤمنين بما يتعلق بهم فقال بعد هذا : {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي} (الأحزاب : 53)
{يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} (الأحزاب : 56)
فإن قيل : إذا كان هذا إرشاداً بما يتعلق بجانب منه ومن خواص المرأة فلم خص المطلقات اللاتي طلقن قبل المسيس بقوله تعالى : {ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} أي : تجامعوهن ، أطلق المس على الجماع ؛ لأنه طريق له كما سمى الخمر إثماً ؛ لأنها سببه ؟
أجيب : بأن هذا إرشاد إلى أعلى درجات المكرمات ليعلم منها ما دونها.
وبيانه : أن المرأة إذا طلقت قبل المسيس لم يحصل بينهما تأكيد العهد ، ولهذا قال تعالى في حق الممسوسة : {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً} (النساء : 21)
فإذا أمر الله تعالى بالتمتع والإحسان مع من لا مودة بينه وبينها فما ظنك بما حصلت المودة بالنسبة إليها بالإفضاء ، أو حصل تأكدها بحصول الولد بينهما ، وهذا كقوله تعالى : {فلا تقل لهما أف} (الإسراء : 23)
ولو قال : لا تضر بهما ولا تشتمهما ظن أنه حرام لمعنى يختص بالضرب أو الشتم لهما ، فأما إذا قال : {لا تقل لهما أف} لعلم منه معان كثيرة فكذلك ههنا أمر بالإحسان مع من لا مودة معها ، فعلم منه الإحسان إلى الممسوسة ، ومن لم تطلق بعد ، ومن ولدت عنده منه ، وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء وألف بعد الميم ، والباقون بفتح التاء ولا ألف بعد الميم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 321
ولما كانت العدة حقاً للرجال وإن كانت لا تسقط بإسقاطهم لما فيها من حق الله تعالى قال تعالى : {فما لكم عليهن من عدة} أي : أياماً يتربصن فيها بأنفسهن {تعتدونها} أي : تحصونها وتستوفونها بالإقراء وغيرها ، فتعتدونها صفة لعدة ، وتعتدونها إما من العدد ، وإما من الاعتداد ، أو تحسبونها أو تستوفون عددها من قولك : عد الدراهم فاعتدها أي : استوفى عددها نحو : كلته فاكتال ووزنته فاتزن ، فإن قيل : ما الفائدة في الاتيان بثم وحكم من طلقت على الفور بعد العقد كذلك ؟
أجيب : بأن ذلك إزاحة لما قد يتوهم أن تراخي الطلاق ريثما تمكن الإصابة كما يؤثر في النسب فيؤثر في العدة ، وظاهره يقتضي عدم وجود العدة بمجرد الخلوة ، وتخصيص المؤمنات والحكم عام للتنبيه على أن شأن المؤمن أن لا ينكح إلا مؤمنة تخيراً لنطفة المؤمن ، وفي هذه الآية دليل على أن تعليق الطلاق قبل النكاح لا يصح ؛ لأن الله تعالى رتب الطلاق بكلمة ثم وهي
323
للتراخي حتى لو قال لأجنبية : إذا نكحتك فأنت طالق ، أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق فنكح لا يقع الطلاق. وهو قول علي وابن مسعود وجابر ومعاذ وعائشة رضي الله تعالى عنهم ، وبه قال أهل العلم : منهم الشافعي وأحمد رضي الله تعالى عنهما. وروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال : يقع الطلاق ، وهو قول إبراهيم النخعي وأصحاب الرأي : وقال ربيعة ومالك والأوزاعي : إن عيّن امرأة يقع وإن عمم فلا يقع.
وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : كذبوا على ابن مسعود رضي الله عنه ، إن كان قالها فزلة من عالم في الرجل يقول : إن تزوجت فلانة فهي طالق ، يقول الله تعالى : {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن. وروى عطاء عن جابر : لا طلاق قبل النكاح وقوله تعالى : {فمتعوهن} أي : أعطوهن ما يستمتعن به محله كما قال ابن عباس رضي الله عنه : إذا لم يكن سمى لها صداقاً وإلا فلها نصف الصداق ولا متعة لها ، وقال قتادة : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : {فنصف ما فرضتم} (البقرة : 237)
أي : فلا متعة لها مع وجوب نصف الفرض.(3/218)
واختلف في المتعة هل هي واجبة ، أو مندوبة ؟
وهي عندنا : واجبة بشروط وقد تقدم ، والكلام عليها عند قوله تعالى : {فتعالين أمتعكن} وعند بعض الأئمة أنها مندوبة ، وقال بعضهم : هي مندوبة عند استحقاقها نصف المهر ، واجبة عند عدمه ، وذهب بعضهم إلى أنها تستحق المتعة بكل حال لظاهر الآية {وسرحوهن سراحاً جميلاً} أي : خلوا سبيلهن بالمعروف من غير ضرار ، وليس لكم عليهن عدة ، وقيل : السراح الجميل أن لا يطالب بما دفعه إليها بأن يخلي لها جميع المهر وقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 321
يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن} أي : مهورهن ؛ لأن المهر أجر على البضع بيان لإيثار الأفضل له لا لتوقف الحل عليه ، وليفيد إحلال المملوكة بكونها مسببة بقوله تعالى : {وما ملكت يمينك مما أفاء الله} أي : الذي له الأمر كله {عليك} مثل صفية بنت حيي النضيرية ، وريحانة القرظية ، وجويرية بنت الحارث الخزاعية ، مما كن في أيدي الكفار ، وتقييد الأقارب بكونهن مهاجرات معه في قوله تعالى {وبنات عمك} أي : الشقيق وغيره {وبنات عماتك} أي : نساء قريش ، ولما بدأ بالعمومة لشرفها أتبعها قوله تعالى : {وبنات خالك} جارياً في الإفراد والجمع على ذلك النحو {وبنات خالاتك} من نساء بني زهرة ، وقال البقاعي : ويمكن في ذلك احتباك عجيب وهو بنات عمك ، وبنات أعمامك ، وبنات عماتك ، وبنات عمتك ، وبنات خالك ، وبنات أخوالك ، وبنات خالتك انتهى. وقوله تعالى : {اللاتي هاجرن معك} يحتمل تقييد الحل بذلك في حقه خاصة.
ويعضده ما روى الترمذي والحاكم عن أم هانئ بنت أبي طالب أنها قالت في خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم "فاعتذرت إليه فعذرني ثم أنزل الله تعالى {إنا أحللنا لك أزواجك} الآية فلم أكن لأحل له لأني لم أهاجر ، كنت من الطلقاء أي : الأسراء الذين أطلقوا من الأسر ، وخلى سبيلهم" قال
324
ابن عادل : ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل انتهى. ثم إن الله تعالى ذكر ما خص به نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : {وامرأة} أي : حرة {مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي} أي : الذي أعلينا قدره بما خصصناه به {أي : يستنكحها} أي : يوجد نكاحه لها بجعلها من منكوحاته فتصير له بمجرد ذلك بلا مهر ولا ولي ولا شهود ، وخرج بالمؤمنة الكتابية فلا تحل له ؛ لأنها تكره صحبته ، ولأنه أشرف من أن يضع ماءه في رحم كافرة ولقوله تعالى : {وأزواجه أمهاتهم} (الأحزاب : 6)
ولا يجوز أن تكون المشركة أم المؤمنين ، ولخبر : "سألت ربي أن لا أزوج إلا من كان معي في الجنة فأعطاني" رواه الحاكم وصحح إسناده ، وأما التسري بالكتابية فلا يحرم عليه ، قال الماوردي : لأنه صلى الله عليه وسلم تسرى بريحانة وكانت يهودية من بني قريظة" ، واستشكل بهذا تعليلهم السابق بأنه أشرف من أن يضع ماءه في رحم كافرة ، وأجيب : بأن القصد بالنكاح أصالة التوالد فاحتيط له ، وبأنه يلزم فيه أن تكون الزوجة المشركة أم المؤمنين بخلاف الملك فيها ، وخرج بالحرة الرقيقة وإن كانت مؤمنة لأن نكاحها معتبر بخوف العنت وهو معصوم ، وبفقدان مهر حرة ، ونكاحه غني عن المهر ابتداءً وانتهاءً ، وبرِقِّ الولد ومنصبه صلى الله عليه وسلم منزه عنه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 321
تنبيه : في نصب امرأة وجهان : أحدهما : أنه عطف على مفعول أحللنا أي : وأحللنا لك امرأة موصوفة بهذين الشرطين. قال أبو البقاء : وقد رد هذا قوم وقالوا : أحللنا ماض ، وإن وهبت وهو صفة المرأة مستقبل ، فأحللنا في موضع جوابه ، وجواب الشرط لا يكون ماضياً في المعنى ، قال : وهذا ليس بصحيح لأن معنى الإحلال ههنا : الإعلام بالحل إذا وقع الفعل على ذلك كما تقول : أبحت لك أن تكلم فلاناً إن سلم عليك.
والثاني : أنه نصب بمقدر تقديره ونحل لك امرأة ، وفي قول الله تعالى : {إن وهبت} إن أراد اعتراض الشرط على الشرط ، والثاني : هو قيد في الأول ولذلك تعربه حالاً ؛ لأن الحال قيد ، ولهذا اشترط الفقهاء أن يتقدم الثاني على الأول في الوجود ، فلو قال لزوجته : إن أكلت إن ركبت فأنت طالق فلا بُدَّ أن يتقدم الركوب على الأكل وهذا لتحقيق الحالية والتقييد كما ذكر ، إذ لو لم يتقدم لخلا جزء من الأكل غير مقيد بركوب ، فلهذا اشترط تقدم الثاني ، ولكن يشترط أن لا يكون ثم قرينة تمنع من تقدم الثاني على الأول كقوله لامرأة : إن تزوجتك إن طلقتك فعبدي حر لا يتصور هنا تقدم الطلاق على التزوج ، قال بعض المفسرين : (3/219)
وقد عرض لي إشكال على ما قاله الفقهاء بهذه الآية وذلك أن الشرط الثاني ههنا لا يمكن تقدمه في الوجود بالنسبة إلى الحكم بالنبي صلى الله عليه وسلم لا أنه لا يمكن عقلاً ، وذلك أن المفسرين فسروا قوله تعالى : {إن أراد} بمعنى قبل الهبة لأن بالقبول منه صلى الله عليه وسلم يتم نكاحه وهذا لا يتصور تقدمه على الهبة ؛ إذ القبول متأخر ، فإن العصمة كانت في تأخر إرادته عن هبتها ، ولما جاء أبو حيان إلى هنا جعل الشرط الثاني مقدماً على الأول على القاعدة العامة ، ولم يستشكل شيئاً مما ذكر. قال ذلك البعض. وقد عرضت هذا الإشكال على جماعة من أعيان زماننا فاعترفوا به ولم يظهر عنه جواب إلا ما قدمته من أنه ثم قرينة مانعة من ذلك كما مثلته آنفاً.
325
ولما كان ربما فهم أن غير النبي صلى الله عليه وسلم يشاركه في هذا المعنى قال الله منبهاً للخصوصية : {خالصة لك} وزاد المعنى بياناً بقوله تعالى : {من دون المؤمنين} أي : من الأنبياء وغيرهم.
تنبيهات : الأول في إعراب خالصة وفيه أوجه : أحدها : أنه منصوب على الحال من فاعل وهبت أي : حالة كونها خالصة لك دون غيرك. ثانيها : أنه نعت مصدرٍ مقدّر أي : هبة خالصة فنصبه بوهبت. ثالثها : أنه حال من امرأة ؛ لأنها وصفت فتخصصت ، وهو بمعنى الأول ، وإليه ذهب الزجاج ، وقيل غير ذلك. والمعنى : أنا أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها لك بغير صداق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 321
التنبيه الثاني : في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة وفيه خلاف : فقال سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء : لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج ، وبه قال مالك وربيعة والشافعي. ومعنى الآية : أن إباحة الوطء بالهبة وحصول التزويج بلفظها من خواصه صلى الله عليه وسلم وقال النخعي وأبو حنيفة وأهل الكوفة : ينعقد بلفظ الهبة والتمليك. وأن معنى الآية : أن تلك المرأة صارت خالصة لك زوجة من أمهات المؤمنين لا تحل لغيرك أبداً بالتزويج ، وأجيب : بأن هذا التخصيص بالواهبة لا فائدة فيه ، فإن أزواجه صلى الله عليه وسلم كلهن خالصات له ، وما مر فللتخصيص فائدة.
التنبيه الثالث : في التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم هل كانت عنده امرأة منهن ؟
فقال عبد الله بن عباس ومجاهد : لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها منه ، ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين وقوله تعالى {وهبت نفسها} على طريق الشرط والجزاء ، وقال غيرهما : بل كانت موهوبة وهو ظاهر الآية ، واختلفوا فيها : فقال الشعبي : هي زينب بنت خزيمة الهلالية يقال لها : أم لمساكين ، وقال قتادة : هي ميمونة بنت الحارث ، وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل : هي أم شريك بنت جابر من بني أسد ، وقال عروة بن الزبير : هي خولة بنت حكيم من بني سليم.
التنبيه الرابع : في ذكر شيء من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقد ذكرت منها أشياء كثيرة ينشرح الصدر بها في شرح التنبيه فلا أطيل بذكرها هنا ، ولكن أذكر منها طرفاً يسيراً تبركاً ببركة صاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام ، فإن ذكرها مستحب. قال النووي في روضته : ولا يبعد القول بوجوبها لئلا يرى الجاهل بعض الخصائص في الخبر الصحيح فيعمل به أخذاً بأصل التأسي ، فوجب بيانها لتعرف وهي أربعة أنواع :
أحدها الواجبات وهي أشياء كثيرة : منها الضحى ، والوتر ، والأضحية ، وفي الحديث ما يدل على أن الواجب أقل الضحى ، وقياسه أن الوتر كذلك. ومنها السواك لكل صلاة ، والمشاورة لذوي الأحلام في الأمر ، وتخيير نسائه بين مفارقته طلباً للدنيا واختياره طلباً للآخرة ، ولا يشترط الجواب له منهن فوراً ، فلو اختارته واحدة لم يحرم عليه طلاقها أو كرهته توقفت الفرقة على الطلاق ، وليس قولها : اخترت نفسي بطلاق كما مرت الإشارة إليه ، وله تزوجها بعد الفراق.
النوع الثاني : المحرمات : وهي أشياء كثيرة منها الزكاة والصدقة وتعلم الخط والشعر ومد العين إلى متاع الدنيا. وخائنة الأعين وهي : الإيماء بما يظهر خلافه دون الخديعة في الحرب ، وإمساك من كرهت نكاحه. ومنها نكاح كتابية لا للتسري بها كما مر ، ولا يحرم عليه أكل الثوم ونحوه ولا الأكل متكئاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 321
النوع الثالث : التخفيفات والمباحات : وهي كثيرة جداً منها : تزويج من شاء من النساء لمن شاء ولو لنفسه بغير إذن من المرأة ووليها متولياً للطرفين ، وزوجه الله تعالى ، وأبيح له الوصال
326
ونصفي المغنم. ويحكم ويشهد لولده ولو لنفسه ، وأبيح له نكاح تسع ، وقد تزوج صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ومات عن تسع ، قال الأئمة : وكثرة الزوجات في حقه صلى الله عليه وسلم للتوسعة في تبليغ الأحكام عنه الواقعة سراً مما لا يطلع عليه الرجال ، ونقل محاسنه الباطنة فإنه صلى الله عليه وسلم تكمل له الظاهر والباطن ، وحرم عليه الزيادة عليهن ، ثم نسخ وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.(3/220)
وينعقد نكاحه محرماً وبلفظ الهبة إيجاباً لا قبولاً ، بل يجب لفظ النكاح أو التزويج لظاهر قوله تعالى : {إن أراد النبي أن يستنكحها} ولا مهر للواهبة له وإن دخل بها ، وتجب إجابته على امرأة رغب فيها ، ويجب على زوجها طلاقها لينكحها.
النوع الرابع : الفضائل : وهي كثيرة لا تدخل تحت الحصر منها : تحريم منكوحاته على غيره سواء كن موطوآت أم لا ، مطلقات باختيارهن أم لا ، وتحريم سراريه وهن إماؤه الموطوآت بخلاف غير الموطوآت ، وتقدم أن نساءه أمهات المؤمنين لا المؤمنات بخلافه صلى الله عليه وسلم فإنه أبو الرجال والنساء ، وتقدم الكلام على قوله تعالى : {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} (الأحزاب : 40)
وإن ثوابهن وعقابهن مضاعف.
ومنها أنه يحرم سؤالهن إلا من وراء حجاب ، وأفضلهن خديجة ثم عائشة ، وأفضل نساء العالمين مريم بنت عمران إذ قيل بنبوتها ، ثم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خديجة ، ثم عائشة ، ثم آسية امرأة فرعون ، وأما خبر الطبراني : خير نساء العالمين مريم بنت عمران ، ثم خديجة بنت خويلد ، ثم فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ثم آسية امرأة فرعون فأجيب عنه : بأن خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومة لا باعتبار السيادة ، وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين.
ومنها : أنه أول النبيين خلقاً وأفضل الخلق على الإطلاق ، وخص بتقديم نبوته فكان نبياً وآدم منجدل في طينته ، وبتقديم أخذ الميثاق عليه ، وبأنه أول من قال : بلى وقت {ألست بربكم} وبخلق آدم وجميع المخلوقات من أجله ، وبكتابة اسمه الشريف على العرش والسماوات والجنات وسائر ما في الملكوت ، وبشق صدره الشريف ، وبجعل خاتم النبوة بظهره بإزاء قلبه ، وبحراسة السماء من استراق السمع والرمي بالشهب ، وبإحياء أبويه حتى آمنا به ، وبأنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ، وأول من يقرع باب الجنة ، وأول شافع وأول مشفع ، وأكرم بالشفاعات الخمس يوم القيامة :
جزء : 3 رقم الصفحة : 321
أولها : العظمى في الفصل بين أهل الموقف حين يفزعون إليه بعد الأنبياء.
الثانية : في إدخال خلق الجنة بغير حساب جعلنا الله وأحبابنا منهم.
الثالثة : في ناس استحقوا دخول النار فلا يدخلونها.
الرابعة : في ناس دخلوا النار فيخرجون منها.
الخامسة : في رفع درجات ناس في الجنة وكلها ثبتت بالأخبار ، وخص منها بالعظمى ودخول خلق من أمته الجنة بغير حساب وهي الثانية. قال النووي في روضته : ويجوز أن يكون خص بالثالثة والخامسة أيضاً ، ونصر بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت له الأرض مسجداً وترابها طهوراً ، وأحلت له الغنائم ، وأرسل إلى الكافة ورسالة غيره خاصة ، وأما عموم رسالة نوح عليه السلام بعد الطوفان فلانحصار الباقين فيمن كان معه في السفينة وهو أكثر الأنبياء أتباعاً ، وأمته خير الأمم وأفضلها أصحابه ، وأفضلهم الخلفاء الأربعة على ترتيبهم في الخلافة ، ثم باقي العشرة. وهي
327
معصومة لا تجتمع على ضلالة ، وصفوفهم كصفوف الملائكة ، ولها فضائل كثيرة على سائر الأمم. منها :
أنها أول من يدخل الجنة بعد الأنبياء عليهم السلام. ومنها : وضع الإصر ، وليلة القدر والجمعة ورمضان على أحد قولين ، ونظر الله تعالى إليهم ومغفرته لهم أول ليلة منه ، وطيب خلوف فم صائمه عنده تعالى ، واستغفار الملائكة عليهم السلام في ليله ونهاره ، وأمر الله تعالى الجنة أن تتزين لهم ، وردِّ صدقاتهم إلى فقرائهم ، والغرة والتحجيل من أثر الوضوء ، وسلسلة الإسناد والحفظ عن ظهر قلب ، وأخذ العلم عن الأحداث والمشايخ.
وكتابه صلى الله عليه وسلم معجز محفوظ من التغيير والتبديل ، وأقيم بعده حجة على الناس ، ومعجزات سائر الأنبياء انقرضت ، وشريعته مؤبدة ناسخة لغيرها من الشرائع ، وتطوعه قاعداً كقائم ، ويحرم رفع الصوت فوق صوته ، قال القرطبي : وكره بعضهم رفعه عند قبره صلى الله عليه وسلم ولا تبطل صلاة من خاطبه بالسلام ، وتجب إجابته في الصلاة ولو بالفعل ولا تبطل ، ويحرم نداؤه من وراء الحجرات ، ويحرم نداؤه باسمه كيا محمد صلى الله عليه وسلم لا بكنيته كيا أبا القاسم ، ويحرم التكني بكنيته مطلقاً. وقيل : مختص بزمنه. وقيل على من اسمه محمد ، وكان يتبرك ويستشفى ببوله ودمه وفضلاته النازلة من الدبر لا ترى بخلافها من القبل. والذي صوبه بعض المتأخرين طهارتها وهو الصواب ، وأولاد بناته ينسبون إليه. وأعطي جوامع الكلم.
وكان يؤخذ عن الدنيا عند تلقي الوحي ولا يسقط عنه التكليف ، ورؤيته في النوم حق ، ولا يعمل بها فيما يتعلق بالأحكام لعدم ضبط النائم ، والكذب عمداً عليه كبيرة ، ولا يجوز الجنون على الأنبياء ولا الاحتلام ولا تأكل الأرض لحومهم. وفي هذا القدر كفاية. ومن أراد الزيادة على ذلك فعليه بكتب الخصائص ، فإن العلماء قد صنفوا في ذلك تصانيف ، وأنا أسأل الله تعالى من فضله وكرمه أن يشفعه فينا ويدخلنا معه الجنة ، ويفعل ذلك بأهلينا ومشايخنا وإخواننا ومحبينا ولا يحرمنا زيارته ولا رؤيته قبل الممات.(3/221)
جزء : 3 رقم الصفحة : 321
ولما كان التخصيص لا يصح ولا يتصور إلا من محيط العلم بأن هذا الأمر ما كان لغير المخصوص تام القدرة لمنع غيره من ذلك قال تعالى : {قد} أي : أخبرناك بأن هذا أمر يخصك غيرهم لا ناقد {علمنا ما فرضنا} أي : قدرنا بعظمتنا {عليهم} أي : على المؤمنين {في أزواجهم} أي : من شرائط العقد ، وأنهم لا تحل لهم امرأة بلفظ الهبة منها ، ولا بدون مهر ولا بدون ولي وشهود ، وهذا عام لجميع المؤمنين المتقدمين والمتأخرين {و} في {ما ملكت أيمانهم} من الإماء بشراء وغيره بأن تكون الأمة ممن تحل لمالكها كالكتابية بخلاف المجوسية والوثنية ، وأن تستبرأ قبل الوطء ، وقيل : المراد أن أحداً غيرك لا يملك رقبة بهبتها لنفسها منه فيكون أحق من سيدها.
ولما فرغ من تعليل الدونية علل التخصيص لفاً ونشراً مشوشاً بقوله تعالى : {لكي لا يكون عليك حرج} أي : ضيق في شيء من أمر النساء حيث أحللنا لك أنواع المنكوحات وزدناك الواهبة ، فلكيلا متعلق بخالصة وما بينهما اعتراض ، ومن دون متعلق بخالصة كما تقول خلص من كذا {وكان الله} أي : المتصف بصفات الكمال أزلاً وأبداً {غفوراً رحيماً} أي : بليغ الستر على عباده.
328
ولما ذكر تعالى ما فرض في الأزواج والإماء الشامل للعدل في عشرتهن وكان صلى الله عليه وسلم أعدل الناس فيهما وأشدهم لله خشية ، وكان يعدل بينهن ويعتذر مع ذلك عن ميل القلب الذي هو خارج عن طوق البشر بقوله : "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك" خفف عنه سبحانه وتعالى بقوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 321
{ترجي} أي : تؤخر وتترك مصاحبتها {من تشاء منهن وتؤوي} أي : تضم {إليك من تشاء} وتضاجعها ، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بياء ساكنة بعد الجيم من الإرجاء أي : تؤخرها مع أفعال تكون بها راجية لعطفك ، والباقون بهمزة مضمومة وهو مطلق التأخير {ومن ابتغيت} أي : طلبت {ممن عزلت} أي : من القسمة {فلا جناج عليك} أي : في وطئها وضمها إليك.
تنبيه : اختلف المفسرون في معنى هذه الآية : فأشهر الأقوال أنها في القسم بينهن ، وذلك أن التسوية بينهن في القسم كانت واجبة عليه ، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن. وقال ابن زيد : نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم وطلب بعضهن زيادة في النفقة فهجرهن النبي صلى الله عليه وسلم شهراً حتى نزلت آية التخيير ، فأمره الله عز وجل أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا ، ويمسك من اختارت الله ورسوله على أنهن أمهات المؤمنين ، وأن لا ينكحن أبداً ، وعلى أن يؤوي إليه من يشاء ويرجي من يشاء فيرضين ، قسم لهن أو لم يقسم قسم ، لبعضهن دون بعض ، أو فضل بعضهن في النفقة والقسمة فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء ، وكان ذلك من خصائصه فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط ، وذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى أمته نسبة السيد المطاع. والرجل وإن لم يكن نبياً فالزوجة في ملك نكاحه ، والنكاح عليها رق ، فكيف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة إليه ، فإذا هن كالمملوكات له ولا يجب لقسم بين المملوكات.
جزء : 3 رقم الصفحة : 329
واختلفوا هل أخرج أحداً منهن عن القسم ؟
فقال بعضهم : لم يخرج أحداً منهن عن القسم بل : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما جعل الله له من ذلك يسوى بينهن في القسم ، إلا سودة فإنها رضيت بترك حقها من القسم ، وجعلت يومها لعائشة" وقيل : أخرج بعضهن.
روى جرير عن منصور عن أبي رزين قال : لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقهن فقلن يا رسول الله : اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا فنزلت هذه الآية فأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهن ، وآوى إليه بعضهن ، فكان ممن أوى : عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة ، وكان يقسم بينهن سواء ، وأرجأ منهن خمساً : أم حبيبة وميمونة وسودة وصفية وجويرية ، فكان لا يقسم لهن ما شاء ، وقال مجاهد : {ترجي من تشاء منهن} أي : تعزل من تشاء منهن بغير طلاق ، وترد إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد ، وقال ابن عباس : تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء.
وقال الحسن : تترك نكاح من شئت من نساء أمتك. قال : وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره خطبتها حتى يتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن
329(3/222)
أنفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء فلا تقبلها ، وروى هشام عن أبيه قال : "كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة : أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت ترجي من تشاء منهن قلت : يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك" {ذلك} أي : التفويض إلى مشيئتك {أدنى} أي : أقرب {أن} أي : إلى أن {تقر أعينهن} أي : بما حصل لهن من عشرتك الكريمة ، وهو كناية عن السرور والطمأنينة ببلوغ المراد ؛ لأن من كان كذلك كانت عينه قارة ، ومن كان مهموماً كانت عينه كثيرة التقلب ، هذا إذا كان من القرار بمعنى السكون.
ويجوز أن يكون من القر الذي هو ضد الحر ؛ لأن المسرور تكون عينه باردة ، والمهموم تكون عينه حارة ، فذلك يقال للصديق : أقر الله تعالى عينك. وللعدو : سخن الله عينك {ولا يحزن} أي : بالفراق وغيره مما يحزن من ذلك {ويرضين} لعلمهن أن ذلك من الله تعالى {بما أتيتهن} أي : من الأجور ونحوها من نفقة وقسم وإيثار وغيرها. ثم أكد ذلك بقوله تعالى : {كلهن} أي : ليس منهن واحدة لا هي كذلك ؛ لأن حكم كلهن فيه سواء ، إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلاً منك ، وإن رجحت بعضهن علمن أنه بحكم الله تعالى فتطمئن نفوسهن ، وزاد ذلك تأكيداً لما لذلك من الغرابة بقوله تعالى : {والله} أي : بما له من الإحاطة بصفات الكمال {يعلم ما في قلوبكم} أي : الخلائق كلهم ، فلا يدع أن يعلم ما في قلوب هؤلاء {وكان الله} أي : أزلاً وأبداً {عليماً} أي : بكل شيء من يطيعه ومن يعصيه {حليماً} لا يعاجل من عصاه بل يديم إحسانه إليه في الدنيا ، فيجب أن يتقي لعلمه وحلمه ، فعلمه موجب للخوف منه وحلمه مقتضٍ للاستحياء منه ، وأخذ الحليم شديدٌ ، فينبغي لعبده المحب له أن يحلم عمن يعلم تقصيره في حقه ، فإنه سبحانه يأجره على ذلك بأن يحلم عنه فيما علمه منه ، ويرفع قدره ويعلي ذكره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 329
وروى البخاري في التفسير عن معاذ عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية {ترجي من تشاء} الآية قلت لها : ما كنت تقولين ؟
قالت : كنت أقول له : إن كان ذاك إليَّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحداً".
ولما أمره الله تعالى بالتخيير وخيرهن واخترن الله ورسوله زاد الله تعالى سرورهن بقوله تعالى :
{لا يحل لك النساء من بعد} أي : بعد من معك من هؤلاء التسع اللاتي اخترنك شكراً من الله لهن ؛ لكونهن لما نزلت آية التخيير اخترن الله ورسوله فحرم عليه النساء سواهن ، ونهاه عن تطليقهن وعن الاستبدال بهن بقوله تعالى : {ولا أن تبدل بهن} أي : هؤلاء التسع ، وأعرق في النفي بقوله تعالى : {من} أي : شيئاً من {أزواج} أي : بأن تطلقهن أي : هؤلاء المعينات أو بعضهن وتأخذ بدلها من غيرهن {ولو أعجبك حسنهن} أي : النساء المغايرات لمن معك. قال ابن عباس : يعني أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب ، فلما استشهد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطبها فنُهي عن ذلك ، وقرأ أبو عمرو لا تحل لك بالتاء الفوقية والباقون بالياء التحتية ، وشدد البزي التاء من أن تبذل.
تنبيه : في الآية دليل على إباحة النظر إلى من يريد نكاحها لكن من غير العورة في الصلاة ،
330
فينظر الرجل من الحرة الوجه والكفين ، ومن الأمة ما عدا ما بين السرة والركبة ، واحتج لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة وقد خطب امرأة : "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما أن تدوم المودة والإلفة" رواه الحاكم وصححه. وقوله تعالى : {إلا ما ملكت يمينك} استثناء من النساء ؛ لأنه يتناول الأزواج والإماء أي : فتحل لك ، وقد ملك بعدهن مارية وولدت له إبراهيم ومات ، واختلفوا هل أبيح له النساء من بعد ؟
قالت عائشة : "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء" أي : فنسخ ذلك ، وأبيح له أن ينكح أكثر منهن بآية {إنا أحللنا لك أزواجك} ، فإن قيل : هذه الآية متقدمة وشرط الناسخ أن يكون متأخراً ؟
أجيب : بأنها مؤخرة في النزول مقدمة في التلاوة ، وهذا أصح الأقوال.
وقال أنس : مات على التحريم ، وقال عكرمة والضحاك : معنى الآية لا تحل لك النساء بعد التي أحللنا لك بالصفة التي تقدم ذكرها ، وقيل لأبي بن كعب : لو مات نساء النبي صلى الله عليه وسلم أكان يحل له أن يتزوج فقال : وما يمنعه من ذلك قيل : قوله تعالى : {لا تحل لك النساء من بعد} قال : إنما أحل الله تعالى له ضرباً من النساء فقال : {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك} (الأحزاب : 50)
جزء : 3 رقم الصفحة : 329(3/223)
ثم قال {لا تحل لك النساء من بعد} قال أبو صالح : أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا غريبة ويتزوج من نساء قومه من بنات العم والعمة ، والخال والخالة إن شاء ثلثمائة وقال مجاهد : معناه لا تحل لك اليهوديات ولا النصرانيات بعد المسلمات ولا أن تبدل بهن ، يقول : ولا أن تبدل بالمسلمات غيرهن من اليهود والنصارى. وقال ابن زيد في قوله تعالى : {ولا أن تبدل بهن من أزواج} كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم يقول الرجل للرجل : بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي فأنزل الله تعالى : {ولا أن تبدل بهن من أزواج} يعني : تبادل بأزواجك غيرك بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته إلا ما ملكت يمينك فلا بأس أن تبادل بجاريتك من شئت ، فأما الحرائر فلا.
روى عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال : دخل عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وسلم بغير إذن ومعه عائشة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "يا عيينة أين الاستئذان قال : يا رسول الله ما استأذنت على رجل من مضر مذ أدركت ، ثم قال : من هذه الحميرة إلى جنبك فقال : هذه عائشة أم المؤمنين ، فقال عيينة : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قد حرم ذلك ، فلما خرج قالت عائشة : من هذا يا رسول الله ؟
قال : هذا أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه".
ولما أمر تعالى في هذه الآيات بأشياء ونهى عن أشياء ، وحد حدوداً حذر من التهاون بشيء منها ولو بنوع تأويل بقوله تعالى : {وكان الله} أي : الذي لا شيء أعظم منه وهو المحيط بجميع صفات الكمال {على كل شيء رقيباً} أي : حافظاً عالماً بكل شيء قادراً عليه فتحفظوا أمركم ولا تتخطوا ما حد لكم وهذا من أشد الأشياء وعيداً.
ولما ذكر حالة النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته في قوله تعالى : {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً} (الأحزاب :
331
45)
ذكر حالهم معه من الاحترام له صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى :
{يا أيها الذين آمنوا} أي : ادعوا الإيمان صدقوا دعواكم فيه بأن {لا تدخلوا بيوت النبي} أي : الذي تأتيه الأنباء من علام الغيوب مما فيه رفعته في حال من الأحوال أصلاً {إلا} في حال {أن يؤذن لكم} أي : ممن له الإذن في بيوته صلى الله عليه وسلم منه ، أو ممن يأذن له في الدخول بالدعاء {إلى طعام} أي : أكله حال كونكم {غير ناظرين} أي : منتظرين {أناه} أي : نضجه وهو مصدر أنى يأني ، وقرأ هشام وحمزة والكسائي بالإمالة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح.
جزء : 3 رقم الصفحة : 329
ولما كان هذا الدخول بالإذن مطلقاً وكان يراد تقييده قال تعالى : {ولكن إذا دعيتم} أي : ممن له الدعوة {فادخلوا} أي : لأجل ما دعاكم له ثم تسبب عنه قوله تعالى : {فإذا طعمتم} أي : أكلتم طعاماً أو شربتم شراباً {فانتشروا} أي : اذهبوا حيث شئتم في الحال ولا تمكثوا بعد الأكل أو الشرب لا مستريحين لقرار الطعام {ولا مستأنسين لحديث} أي : طالبين الأنس لأجله.
فائدة : قال الحسن : حسبك بالثقلاء أن الله لم يتجوز في أمورهم ، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : حسبك بالثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم.
ثم علل ذلك بقوله تعالى : مصوباً الخطاب إلى جميعهم معظماً له بأداة البعد {إن ذلكم} أي : الأمر الشديد وهو المكث بعد الفراغ {كان يؤذي النبي} أي : الذي هيأناه لسماع ما ننبئه به مما يكون سبب شرفكم وعلوكم في الدارين ، فاحذروا أن تشغلوه عن شيء منه ، ثم تسبب عن ذلك المانع له من مواجهتهم له بما يزيد أذاه بقوله تعالى : {فيستحيي منكم} أي : بأن يأمركم بالانصراف {والله} أي : الذي له جميع الأمر {لا يستحيي من الحق} أي : لا يفعل فعل المستحيي فيؤدّيه ذلك إلى ترك الأمر به.(3/224)
تنبيه : قال أكثر المفسرين : نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب حين بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى ابن شهاب قال : أخبرني أنس بن مالك : "أنه كان ابن عشر سنين فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال : فكانت أمهاتي توطنني على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم فخدمته عشر سنين وتوفي وأنا ابن عشرين سنة ، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل ، وكان أول ما أنزل في بناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش أصبح النبي صلى الله عليه وسلم بها عروساً فدعا القوم وأصابوا من الطعام ثم خرجوا ، وبقي رهط منهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا فمشى النبي صلى الله عليه وسلم ومشيت حتى جاء عتبة حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها ، ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يخرجوا فرجع النبي صلى الله عليه وسلم ورجعت معه حتى إذا بلغ حجرة عائشة فظن أنهم قد خرجوا ، فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينه الستر ونزلت آية الحجاب ، وقال أبو عثمان : واسمه الجعد عن أنس قال : فدخل يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة وهو يقول {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} إلى قوله تعالى {والله لا يستحيي من الحق}.
جزء : 3 رقم الصفحة : 329
وروي عن ابن عباس : "أنها نزلت في ناس من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذى بهم
332
فنزلت الآية {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي} الآية.
وروى أبو يعلى الموصلي عن أنس قال : "بعثتني أم سليم برطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعته بين يديه فأصاب منه ثم أخذ بيدي فخرجنا ، وكان حديث عهد بعرس زينب بنت جحش قال : فمر بنساء من نسائه وعندهن رجال يتحدثون فهنينه وهناه الناس فقالوا : الحمد لله أقر بعينك يا رسول الله فمضى حتى أتى عائشة فإذا عندها رجال قال : فكره ذلك ، وكان إذا كره الشيء عرف في وجهه قال : فأتيت أم سليم فأخبرتها فقال أبو طلحة : لئن كان كما قال ابنك ليحدثن أمر قال : فلما كان من العشي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر ثم تلا هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا} الآية.
وروى البخاري وغيره عنه قال : "كان النبي صلى الله عليه وسلم عروساً بزينب فقالت لي أم سليم : لو أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم هدية فقلت لها : افعلي فعمدت إلى تمر وأقط وسمن فاتخذت حيسة في برمة وأرسلت بها معي إليه فقال لي : ضعها ثم أمرني فقال : ادع لي رجالاً سماهم ، وادع لي من لقيت ففعلت الذي أمرني فرجعت فإذا البيت غاص بأهله" وفي رواية الترمذي أن الراوي قال : قلت لأنس : كم كانوا قال : زهاء ثلثمائة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله تعالى ، ثم يدعو عشرة عشرة يأكلون منه ويقول لهم : اذكروا اسم الله تعالى وليأكل كل رجل مما يليه حتى تصدّعوا كلهم عنها ، قال الترمذي : فقال لي : يا أنس ارفع فرفعت فما أدري حين وضعت كانت أكثر أو حين رفعت فخرج معي من خرج وبقي قوم يتحدثون فنزلت.
ولما كان البيت يطلق على المرأة لملازمتها له عادة أعاد الضمير عليه مراداً به النساء استخداماً فقال تعالى : {وإذا سألتموهن} أي : الأزواج {متاعاً} أي : شيئاً من آلات البيت {فاسألوهن} أي : ذلك المتاع كائنين وكائنات {من وراء حجاب} أي : ستر يستركم عنهن ويسترهن عنكم ، وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين ولا همزة بعدها والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها {ذلكم} أي : الأمر العالي الرتبة {أطهر لقلوبكم وقلوبهن} أي : من وسواس الشيطان والريب لأن العين وزيرة القلب فإذا لم تر العين لم يشته القلب ، فأما إذا رأت العين فقد يشتهي القلب وقد لا يشتهي ، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر وعدم الفتنة حينئذ أظهر. روى ابن شهاب عن عروة عن عائشة : "أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح فكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم احجب نساءك فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر ألا قد عرفناك يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب ، فأنزل الله عز وجل الحجاب" ، وعن أنس قال : قال عمر : وافقت ربي في ثلاثة قلت : يا رسول الله لو اتخذت
333
من مقام إبراهيم مصلى ، فأنزل الله تعالى {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} (البقرة : 125)
جزء : 3 رقم الصفحة : 329(3/225)
وقلت : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله تعالى آية الحجاب ، قال : وبلغني ما آذين رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه قال : فدخلت عليهن فجعلت أستقررهن واحدة واحدة فقلت والله لتنتهن أو ليبدله الله تعالى أزواجاً خيراً منكن ، حتى أتيت على زينب فقالت : يا عمر أما كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت قال : فخرجت فأنزل الله تعالى {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن} (التحريم : 5)
الآية.
ولما بين تعالى للمؤمنين الأدب أكده بما يحملهم على ملاطفة نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : {وما كان} أي : وما صح وما استقام {لكم} في حال من الأحوال {أن تؤذوا رسول الله} فله إليكم من الإحسان ما يستوجب به منكم غاية الإكرام والإجلال فضلاً عن الكف عن الأذى فلا تؤذوه بالدخول إلى شيء من بيوته بغير إذنه أو المكث بعد فراغ الحاجة ولا بغير ذلك.
ولما كان قد قصر صلى الله عليه وسلم عليهن أحل له غيرهن وقصرهن الله عليه بقوله تعالى : {ولا أن تنكحوا} أي : فيما يستقبل من الزمان {أزواجه من بعده} أي : فراقه بموت أو طلاق سواء أدخل بها أم لا {أبداً} زيادة لشرفه وإظهاراً لمزيته ، ولأنهن أمهات المؤمنين ولأنهن أزواجه في الجنة ، ولأن المرأة في الجنة مع آخر أزواجها كما قاله ابن القشيري ، روي أن هذه الآية نزلت في رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : لئن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنكحن عائشة قال مقاتل بن سليمان : هو طلحة بن عبيد الله فأخبر الله تعالى أن ذلك محرم ، وقال : {إن ذلكم} أي : الإيذاء بالنكاح وغيره {كان عند الله} أي : القادر على كل شيء {عظيماً} أي : ذنباً عظيماً.
فإن قيل : روى معمر عن الزهري أن العالية بنت ظبيان التي طلقها النبي صلى الله عليه وسلم تزوجت رجلاً وولدت له. أجيب : بأن ذلك كان قبل تحريم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس وقيل : لا تحرم غير الموطوءة لما روي أن أشعث بن قيس تزوج المستعيذة في أيام عمر فهم برجمهما ، فأخبر بأنه صلى الله عليه وسلم فارقها قبل أن يمسها فترك من غير نكير ، فأما إماؤه صلى الله عليه وسلم فيحرم منهن الموطوءات على غيره إكراماً له بخلاف غير الموطوءات وقيل : لا تحرم الموطوءات أيضاً.
ونزل فيمن أضمر نكاح عائشة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
{إن تبدوا} أي : بألسنتكم وغيرها {شيئاً} أي : من ذلك أو غيره {أو تخفوه} في صدوركم {فإن الله} أي : الذي له جميع صفات الكمال {كان} أي : أزلاً وأبداً به هكذا كان الأصل ، ولكنه أتى بما يعمه وغيره فقال {بكل شيء} أي : من ذلك وغيره {عليماً} فهو يعلم ما أسررتم وما أعلنتم وإن بالغتم في كتمه فيجازي عليه من ثواب وعقاب ، وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويل ومبالغة في الوعيد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 329
ولما نزلت آية الحجاب قال : الآباء والأبناء والأقارب ونحن أيضاً نكلمهن من وراء حجاب فنزل قوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 329
334
{لا جناح} أي : لا إثم {عليهن في آبائهن} دخولاً وخلوة من غير حجاب سواء كان الأب من النسب أو من الرضاع {ولا أبنائهن} أي : من البطن أو الرضاعة {ولا إخوانهن} لأن عارهنّ عارهم فلا فرق أن يكونوا من النسب أو الرضاع {ولا أبناء إخوانهن} فإنهن بمنزلة آبائهم {ولا أبناء أخواتهن} فإنهن بمنزلة أمهاتهم وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية ياء خالصة في الوصل وحققها الباقون وفي الابتداء بالثانية الجميع بالتحقيق {ولا نسائهن} أي : المسلمات القربى منهن والبعدى بمنزلة واحدة ، وأما الكافرات فهن بمنزلة الأجانب من الرجال لكن رجح النووي أنه يجوز أن تنظر منها ما يبدو عند المهنة {ولا ما ملكت أيمانهن} من العبيد لأنهم لما لهنّ عليهم من السلطان يبعد منهم الريبة هيبة لهن مع مشقة الاحتجاب عنهم.
تنبيه : قدم تعالى الآباء ؛ لأن اطلاعهم على بناتهم أكثر وكيف وهم قد رأوا جميع بدن البنات في حال صغرهن ، ثم الأبناء ثم الإخوة وذلك ظاهر ، وإنما الكلام في بني الإخوة حيث قدّمهم الله تعالى على بني الأخوات ، لأن بني الأخوات آباؤهم ليسوا بمحارم خالات أبنائهم وبني الإخوة آباؤهم محارم ، ففي بني الأخوات مفسدة ما ، وهي أن الابن ربما يحكي خالته عند أبيه وهو ليس بمحرم ولا كذلك في بني الإخوة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 334(3/226)
فإن قيل : لم يذكر الله تعالى من المحارم الأعمام والأخوال فلم يقل : ولا أعمامهن ولا أخوالهن. أجيب عن ذلك بوجهين : أحدهما : أن ذلك معلوم من بني الإخوة وبني الأخوات ؛ لأن من علم أن بني الأخ للعمات محارم علم أن بنات الأخ للأعمام محارم ، وكذلك الحال في أمر الخالة. وثانيهما : أن الأعمام ربما يذكرون بنات الأخ عند أبنائهم وهم غير محارم ، وكذلك الحال في ابن الخال.
وذكر ملك اليمين بعد هذا كله لأن المفسدة في التكشف لهم ظاهرة وقوله تعالى {واتقين} عطف على محذوف أي : امتثلن ما أمرتن به واتقين {الله} أي : الذي لا شيء أعظم منه فلا تقربن شيئاً مما يكرهه وإنما أمرهن لأن الريبة من جهة النساء أكثر لأنه لا يكاد الرجل يتعرض إلا لمن ظن بها الإجابة لما يرى من مخايلها ومخايل أشكالها.
ولما كان الخوف لا يعظم إلا ممن كان حاضراً مطلعاً قال : {إن الله} أي : العظيم الشأن {كان} أي : أزلاً وأبداً {على كل شيء} من أفعالكن وغيرها {شهيداً} أي : لا يغيب عنه شيء وإن دق فهو مطلع عليكن حال الخلوة فلا تخفى عليه خافية.
ولما أمر تعالى بالاستئذان وعدم النظر إلى نسائه احتراماً له كمل بيان حرمته بقوله تعالى :
{إن الله وملائكته يصلون على النبي} أي : محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس : أراد أن الله تعالى يرحم النبي والملائكة يدعون له ، وعن ابن عباس أيضاً : يصلون يبركون والصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار وقال أبو العالية : صلاة الله تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة وصلاة الملائكة الدعاء.
335
تنبيه : بيان كمال حرمته في ذلك أن حالاته منحصرة في حالتين حالة خلوة فذكر ما يدل على احترامه في تلك الحالة بقوله تعالى : {لا تدخلوا بيوت النبي} وحالة تكون في ملأ ، والملأ إما الملأ الأعلى ، وإما الملأ الأدنى أما احترامه في الملأ الأعلى ، فإن الله وملائكته يصلون عليه ، وأما احترامه في الملأ الأدنى فقوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه} أي : ادعو له بالرحمة {وسلموا تسليماً} أي : حيوه بتحية الإسلام وأظهروا شرفه بكل ما تصل قدرتكم إليه من حسن متابعته وكثرة الثناء الحسن عليه والانقياد لأمره في كل ما يأمر به ، ومنه الصلاة والسلام عليه بألسنتكم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 334
روى عبد الرحمن بن أبي ليلى لقيني كعب بن عجرة فقال : ألا أهدي لك هدية سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : بلى فأهدها لي قال : قلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك قال : "قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" وروى أبو حميد الساعدي أنهم قالوا : يا رسول الله كيف نصلي عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قولوا : اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" وروى ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة" ، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً" وروى عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جاء ذات يوم والبشرى ترى في وجهه فقلنا : إنا لنرى البشرى في وجهك فقال : "جاءني جبريل فقال : يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول أما يرضيك أن لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً ، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشراً" وروى عامر بن ربيعة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "من صلى علي صلاة صلت عليه الملائكة ما صلى علي ، فليقلل العبد من ذلك أو ليكثر" ، وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحطت عنه عشر خطيئات ورفعت له عشر درجات" وروى عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام".
336(3/227)
تنبيه : دلت الآية على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأن الأمر للوجوب قالوا : وقد أجمع العلماء أنها لا تجب في غير الصلاة فتعين وجوبها فيها والمناسب لها من الصلاة التشهد آخرها فتجب في التشهد آخر الصلاة أي : بعده وهو مذهب الشافعي ، وإحدى الروايتين عن أحمد فالقائل بوجوبها في العمر مرة في غيرها محجوج بإجماع من قبله ، ولحديث كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا فقال : "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إلى آخره" وقيل : تجب كلما ذكر ، واختاره الطحاوي من الحنفية والحليمي من الشافعية لقول جابر : "إن النبي صلى الله عليه وسلم رقى المنبر فلما رقى الدرجة الأولى قال : آمين ، ثم رقى الثانية فقال : آمين ثم رقى الثالثة فقال : آمين فقالوا : يا رسول الله سمعناك تقول : آمين ثلاث مرات فقال : لما رقيت الدرجة الأولى جاءني جبريل فقال : شقي عبد أدرك رمضان فانسلخ منه ولم يغفر له فقلت : آمين ، ثم قال : شقي عبد أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة فقلت : آمين ، ثم قال : شقي عبد ذكرت عنده ولم يصل عليك فقلت : آمين" ، وفي رواية رقي المنبر فقال : آمين آمين آمين قيل : يا رسول الله ما كنت تصنع هذا فقال : قال لي جبريل : رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما لم يدخلاه الجنة فقلت : آمين ، ثم قال رغم أنف عبد دخل عليه رمضان لم يغفر له فقلت : آمين ، ثم قال : رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت : آمين" ، وكذلك قوله : {وسلموا} أمر فيجب السلام ولم يجب في غير الصلاة فيجب فيها وهو قولنا في التشهد سلام عليك أيها النبي إلخ ، وذكر في السلام المصدر للتأكيد ولم يذكره في الصلاة لأنها كانت مؤكدة بقوله تعالى : {إن الله وملائكته يصلون على النبي} وأقل الصلاة عليه اللهم صل على محمد ، وأكملها اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وآل إبراهيم إسماعيل وإسحاق وأولادهما.
جزء : 3 رقم الصفحة : 334
فائدة : كل الأنبياء من بعد إبراهيم عليه السلام من ولده إسحاق إلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فإنه من نسل إسماعيل ، ولم يكن من نسله نبي غيره وخص إبراهيم عليه السلام بالذكر لأن الرحمة والبركة لم يجتمعا لنبي غيره فقال الله تعالى : {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} (هود : 73)
فإن قيل : إذا صلى الله وملائكته عليه فأي حاجة به إلى صلاتنا ؟
أجيب : بأن الصلاة عليه ليست لحاجة إليها وإلا فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله تعالى عليه وإنما هو إظهاره وتعظيمه منا شفقة علينا ليثيبنا عليه ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً" ، وفي رواية أخرى : وملائكته سبعين ، وتجوز الصلاة على غيره تبعاً له وتكره استقلالاً لأنه في العرف صار شعاراً لذكر الرسل ولذلك كره أن يقال لمحمد عز وجل ، وإن كان عزيزاً جليلاً.
337
ولما أمر الله تعالى باحترام نبيه محمد صلى الله عليه وسلم نهى عن إيذاء نفسه وإيذاء رسوله بقوله تعالى :
{إن الذين يؤذون الله} أي : الذي لا أعظم منه ولا نعمة عندهم إلا من فضله {ورسوله} أي : الذي استحق عليهم بما يخبرهم به عن الله تعالى ما لا يقدرون على القيام بشكره {لعنهم الله} أي : أبعدهم وأبغضهم {في الدنيا} بالحمل على ما يوجب السخط {والآخرة} بإدخال دار الإهانة كما قال تعالى : {وأعد لهم عذاباً مهيناً} (الأحزاب : 57)
أي : ذا إهانة ، وهو النار ومعنى يؤذون الله يقولون فيه ما صورته أذى وإن كان تعالى لا يلحقه ضرر ، ذلك ، حيث وصفوه بما لا يليق بجلاله من اتخاذ الأنداد ونسبة الولد والزوجة إليه.(3/228)
قال ابن عباس : هم اليهود والنصارى والمشركون ، فأما اليهود فقالوا : عزير ابن الله ، وقالوا : يد الله مغلولة وقالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء ، وأما النصارى فقالوا : المسيح ابن الله وثالث ثلاثة ، وأما المشركون فقالوا : الملائكة بنات الله ، والأصنام شركاؤه ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل : "كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ، وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد" ، وعن أبي هريرة أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تعالى : "يؤذيني ابن آدم بسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" معنى الحديث : أنه كان من عادة العرب في الجاهلية أن يسبوا الدهر ويذموه عند النوازل لاعتقادهم أن الذي يصيبهم من أفعال الدهر فقال تعالى : أنا الدهر أي : الذي أحل بهم النوازل وأنا فاعل لذلك الذي تنسبونه للدهر في زعمكم وقيل : معنى يؤذون الله يلحدون في أسمائه وصفاته وقيل : هم أصحاب التصاوير ، وعن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فيخلقوا ذرة وليخلقوا حبة أو شعيرة" ، ويحتمل أن يكون ذلك على حذف مضاف أي : أولياء الله كقوله تعالى : {واسأل القرية} (يوسف ، 82) قال صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى : "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب" وقال : "من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة" ومعنى الأذى : هو مخالفة أمر الله وارتكاب معاصيه ذكره على ما يتعارفه الناس بينهم ، والله عز وجل منزه عن أن يلحقه أذى من أحد قال بعضهم : أتي بالجلالة تعظيماً والمراد : يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى : {إنما يبايعون الله} (الفتح : 10)
جزء : 3 رقم الصفحة : 334
وأما إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس : إنه شج في وجهه ، وكسرت رباعيته وقيل : ساحر شاعر مجنون.
ولما كان من أعظم أذاه أذى من تابعه ، وكان الأتباع لكونهم غير معصومين يتصور أن يؤذوا
338
على الحق قال تعالى مقيداً للكلام :
{والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات} أي : الراسخين في صفة الإيمان {بغير ما اكتسبوا} أي : بغير شيء واقعوه متعمدين له حتى أباح أذاهم {فقد احتملوا} أي : كلفوا أنفسهم أن حملوا {بهتاناً} أي : كذباً وفجوراً زائداً على الحد موجباً للجزاء في الدنيا والآخرة {وإثماً مبيناً} أي : ذنباً ظاهراً جداً موجباً للعقاب في الآخرة.
تنبيه : اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقال مقاتل : نزلت في علي بن أبي طالب كانوا يؤذونه ويسمعونه ، وقيل : نزلت في شأن عائشة وقال الضحاك والكلبي : نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طريق المدينة يبتغون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن فيغمزون المرأة ، فإن سكتت اتبعوها وإن زجرتهم انتهوا عنها ، ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الأمة لأن زي الكل كان واحداً ، يخرجن في درع وخمار الحرة والأمة ، فشكوا ذلك إلى أزواجهن فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات} الآية.
ثم نهى الحرائر أن يشتبهن بالإماء بقوله تعالى :
{يا أيها النبي} ذكره بالوصف الذي هو منبع المعرفة والحكمة {قل لأزواجك} بدأ بهن لما لهن به من الوصلة بالنكاح {وبناتك} ثنى بهن لما لهن من الوصلة ، ولهن من القسمين من الشرف وآخرهن عن الأزواج لأن أزواجه يكفونه أمرهن {ونساء المؤمنين يدنين} أي : يقربن {عليهن} أي : على وجوههن وجميع أبدانهن فلا يدعن شيئاً منها مكشوفاً {من جلابيبهن} ولا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا خرجن لحاجتهن بكشف الشعور ونحوها ظناً أن ذلك أخفى لهن وأستر ، والجلباب والقميص وثوب واسع دون الملحفة تلبسه المرأة ، والملحفة : ما ستر اللباس ، والخمار : وهو كل ما غطى الرأس وقال البغوي : الجلباب الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار ، وقال حمزة الكرماني ، قال الخليل : كل ما يستر به من دثار وشعار وكساء فهو جلباب والكل تصح إرادته هنا ، فإن كان المراد القميص فإدناؤه إسباغه حتى يغطي بدنها ورجليها ، وإن كان يغطي الرأس فإدناؤه ستر وجهها وعنقها ، وإن كان المراد ما يغطي الثياب فإدناؤه تطويله وتوسيعه بحيث يستر جميع بدنها وثيابها ، وإن كان المراد ما دون الملحفة فالمراد ستر الوجه واليدين وقال ابن عباس وعبيدة : أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عيناً واحدة ليعلم أنهن حرائر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 334(3/229)
ولما أمر تعالى بذلك علله بقوله تعالى : {ذلك} أي : الستر {أدنى} أي : أقرب من تركه في {أن يعرفن} أنهن حرائر بما يميزهن عن الإماء {فلا} أي : فتسبب عن معرفتهن أن لا {يؤذين} ممن يتعرضن للإماء فلا يشتغل قلبك عن تلقي ما يرد عليك من الأنباء الإلهية قال ابن عادل : ويمكن أن يقال : المراد يعرفن أنهن لا يزنين لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة أي : في الصلاة لا يطمع فيها أنها تكشف عورتها ، فبفرض أنهن مستورات لا يمكن طلب الزنا منهن انتهى.
ولما رقاهن تعالى لهذا الأمر خفف عاقبة ما كن فيه من التشبيه بالإماء فأخبرهن تعالى بوسع كرمه وجوده بقوله تعالى : {وكان الله} أي : الذي له الكمال المطلق أزلاً وأبداً {غفوراً} أي : لما سلف منهن من ترك الستر فهو محاء للذنوب عيناً وأثراً {رحيماً} بهن إذ سترهن وبمن يمتثل أوامره ويجتنب نواهيه قال البغوي : قال أنس : مرت بعمر جارية مقنعة فعلاها بالدرة وقال : يا لكاع أتتشبهين بالحرائر ألقي القناع ويظهر أن عمر إنما فعل ذلك خوفاً من أن تلتبس الإماء بالحرائر فلا
339
يعرف الحرائر فيعود الأمر كما كان.
ولما كان المأذون بما مضى وغيره أهل النفاق ومن داناهم حذرهم بقوله تعالى مؤكداً دفعاً لظنهم دوام الحلم عليهم :
{لئن لم ينته} عن الأذى {المنافقون} أي : الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام {والذي في قلوبهم مرض} أي : غل مقرب من النفاق حامل على المعاصي {والمرجفون في المدينة} المؤمنين أي : بالكذب وذلك أن ناساً منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذيعون في الناس أنهم قد قتلوا أو هزموا ويقولون : قد أتاكم العدو ونحو ذلك ، وأصل الرجفة : التحريك من الرجفة وهي الزلزلة سمى به الأخبار الكاذبة لكونها متزلزلة غير ثابتة {لنغرينك بهم} أي : لنسلطنك عليهم بالقتل والجلاء ، أو بما يضطرهم إلى طلب الجلاء وقوله تعالى : {ثم لا يجاورونك} أي : يساكنونك {فيها} أي : المدينة عطف على لنغرينك وثم للدلالة على أن الجلاء ومفارقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم ما يصيبهم {إلا قليلاً} أي : زماناً أو جواراً قليلاً ، ثم يخرجون منها وقيل : نسلطك عليهم حتى تقتلهم وتخلى منهم المدينة.
وقوله تعالى :
{ملعونين} أي : مبعودين عن الرحمة حال من فاعل يجاورونك قاله ابن عطية والزمخشري وأبو البقاء {أينما ثقفوا} أي : وجدوا {أخذوا وقتلوا} ثم أكده بالمصدر بغضاً فيهم وإرهاباً لهم بقوله تعالى : {تقتيلاً} أي : الحكم فيهم هذا على وجه الأمر به.
جزء : 3 رقم الصفحة : 334
وقوله تعالى :
{سنة الله} أي : المحيط بجميع العظمة مصدر مؤكد أي : سن الله ذلك {في الذين خلوا من قبل} أي : في الأمم الماضية وهو أن يقتل الذين نافقوا الأنبياء وسعوا في وهنهم بالإرجاف ونحوه أينما ثقفوا {ولن تجد لسنة الله} أي : طريقة الملك الأعظم {تبديلاً} أي : ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ ، فإن النسخ يكون في الأقوال أما الأفعال إذا وقعت والأخبار فلا تنسخ.
ولما بين تعالى حالهم في الدنيا أنهم ملعونون ومهانون ويقتلون أراد أن يبين حالهم في الآخرة فذكرهم بالقيامة وذكر ما يكون لهم فيها بقوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 334
{يسألك} يا أشرف الخلق {الناس} أي : المشركون استهزاء منهم وتعنتاً وامتحاناً {عن الساعة} أي متى تكون في أي : وقت {قل} أي : لهم في جوابهم {إنما علمها عند الله} الذي أحاط علمه بجميع الأشياء {وما يدريك} أي : أي شيء يعلمك أمر الساعة ومتى يكون قيامها أنت
340
لا تعرفه {لعل الساعة} أي : التي لا ساعة في الحقيقة غيرها لما لها من العجائب {تكون} أي : توجد وتحدث على وجه مهوّل عجيب {قريباً} أي : في زمن قريب قال البقاعي : ويجوز أن يكون التذكير لأجل الوقت لأن السؤال عنها إنما هو عن تعيين وقتها قال البخاري في الصحيح : إذا وصفت صفة المؤنث قلت قريبة ، وإذا جعلته ظرفاً أو بدلاً ولم ترد الصفة نزعت الهاء من المؤنث ، وكذلك لفظها في الاثنين والجمع للذكر والأنثى.
ثم استأنف الإخبار بحال السائلين عنها بقوله تعالى :
{إن الله} أي : الملك الأعلى {لعن} أي : أبعد إبعاداً عظيماً من رحمته {الكافرين} أي : الساترين لما من شأنه أن يظهر مما دلت عليه العقول السليمة من أمرها {وأعد} أي : أوجد وهيأ {لهم} من الآن {سعيراً} أي : ناراً شديدة الاضطرام والتوقد لتكذيبهم بها وبغيرها مما أوضح لهم أدلته.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 340
خالدين} أي : مقدّراً خلودهم {فيها} أي : السعير وأعاد عليها الضمير مؤنثاً لأنها مؤنثة أو لأنه في معنى جهنم وقوله تعالى : {أبداً} بيان لإرادة الحقيقة لئلا يتوهم بالخلود المكث الطويل {لا يجدون ولياً} أي : يتولى أمراً مما يصيبهم بشفاعة أو غيرها {ولا نصيراً} ينصرهم وقوله تعالى : (3/230)
{يوم} معمول لخالدين أي : مقدراً خلودهم فيها على تلك الحال يوم {تقلب} أي : تقلباً كثيراً {وجوههم في النار} أي : ظهراً لبطن كاللحم يشوى بالنار حالة كونهم {يقولون} وهم في محل الجزاء وقد فات المحل القابل للعمل متمنين بقولهم : {يا ليتنا أطعنا} أي : في الدنيا {الله} أي : الذي لا أمر لأحد معه لما لا يدركون تلافيه لأنهم لا يجدون ما يقدّر أنه يبرد غلتهم من ولي ولا نصير ولا غيرهما سوى هذا التمني.
ولما كان المقام للمبالغة في الإذعان والخضوع أعادوا العامل بقولهم {وأطعنا الرسول} أي : الذي بلغنا عنه حتى لا نبتلي بهذا العذاب.
تنبيه : تقدم الكلام على القراءة في {الرسولا} و{السبيلا} أول السورة عند {الظنونا}.
{وقالوا} : أي : الأتباع منهم لما لم ينفعهم شيء متبرئين بالدعاء على من أضلهم بما لا يبرئ عليلاً ولا يشفي غليلاً {ربنا} أي : أيها المحسن إلينا وأسقطوا أداة النداء على عادة أهل الخصوص بالحضور زيادة في التوثيق بإظهار أنه لا واسطة لهم إلا ذلهم وانكسارهم {إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا} يعنون قادتهم الذين لقنوهم الكفر ، وقرأ ابن عامر بألف بعد الدال وكسر التاء على جمع الجمع للدلالة على الكثرة والباقون بغير ألف بعد الدال وفتح التاء على أنه جمع تكسير غير مجموع بألف وتاء {فأضلونا} أي : فتسبب عن ذلك أنهم أضلونا بما كان لهم من نفوذ الكلمة {السبيلا} أي : طريق الهدى فأحالوا ذلك على غيرهم كما هي عادة المخطئ من الإحالة على غيره مما لا ينفعه.
ثم كأنه قيل : فما تريدون لهم فقالوا : مبالغين في الرقة للاستعطاف بإعادة الرب.
{ربنا} أي : المحسن إلينا {آتهم ضعفين من العذاب} أي : مثلي عذابنا لأنهم ضلوا وأضلوا {والعنهم لعناً كبيراً} أي : اطردهم عن محالّ الرحمة طرداً متناهياً ، وقرأ عاصم بالباء الموحدة أي : لعناً هو أشد اللعن وأعظمه والباقون بالثاء المثلثة أي : كثير العدد.
ولما بين تعالى أن من يؤذي الله ورسوله يلعن ويعذب ، أرشد المؤمنين إلى الامتناع من الإيذاء بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 340
يا أيها الذين آمنوا} أي : صدقوا بما يتلى عليهم {لا تكونوا} بإيذائكم
341
رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر زينب وغيره كوناً هو كالطبع لكم {كالذين آذوا موسى} من قومه بني إسرائيل آذوه بأنواع الأذى كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم حين قسم قسماً فتكلم فيه بعضهم فقال : "لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر". واختلفوا فيما أوذي به موسى ، فروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء استحياء منه ، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا : ما تستر هذا الستر إلا من عيب بجلده إما برص ، وإما أدرة ، وإما آفة ، وإن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا" كما قال تعالى : {فبرأه} أي : فتسبب عن أذاهم أن برأه {الله} الذي له صفات الجلال والكمال {مما قالوا} فخلا يوماً وحده ليغتسل فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل ، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها ففر الحجر بثوبه فجمح موسى عليه السلام وأخذ عصاه وطلب الحجر فجعل يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله ، وأبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه واستتر به ، وطفق بالحجر يضربه بعصاه فوالله إن بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً" ، والأدرة : عظم الخصية لنفخة فيها وقوله : فجمح أي : أسرع وقوله ندباً هو بفتح النون والدال وأصله : أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد فشبه به الضرب بالحجر ، وقال قوم : إيذاؤهم إياه لما مات هارون في التيه ادّعوا على موسى أنه قتله فأمر الله الملائكة عليهم السلام حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله فبرأه الله مما قالوا ، وقال أبو العالية : هو أن قارون استأجر مومسة أي : زانية لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمها الله تعالى وبرأ موسى من ذلك ، وكان ذلك سبب الخسف بقارون ومن معه وقال عبد الله بن مسعود : لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل ، وأعطى فلاناً كذا لناس من العرب ، وآثرهم في القسمة فقال رجل : هذه قسمة والله ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله فقلت : والله لأخبرن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فأتيته فأخبرته بما قال فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال : فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ثم قال : "يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر" والصرف بكسر الصاد : صبغ أحمر يصبغ به الأديم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 340(3/231)
ولما كان قصدهم بهذا الأذى إسقاط وجاهته قال تعالى : {وكان} أي : موسى عليه السلام كوناً راسخاً {عند الله} أي : الذي لا يذل من والاه {وجيهاً} أي : معظماً رفيع القدر ذا وجاهة يقال وجه الرجل يوجه فهو وجيه إذا كان ذا جاه وقدر قال ابن عباس كان عظيماً عند الله تعالى لا يسأله شيئاً إلا أعطاه وقال الحسن كان مجاب الدعوة وقيل كان محبباً مقبولاً.
ولما نهاهم عن الأذى أمرهم بالنفع ليصيروا ذوي وجاهة عنده مكرر للنداء استعطافاً وإظهاراً للاهتمام بقوله تعالى :
{يا أيها الذين آمنوا} أي : ادعوا ذلك {اتقوا الله} أي : صدقوا دعواكم بمخافة من له جميع العظمة فاجعلوا لكم وقاية من سخطه بأن تبذلوا له جميع ما أودعكم من الأمانة {وقولوا} في حق النبي صلى الله عليه وسلم في أمر زينب وغيرها ، وفي حق بناته ونسائه وفي حق المؤمنين
342
ونسائهم وغير ذلك {قولاً سديداً} قال ابن عباس : صواباً وقال قتادة : عدلاً وقال الحسن : صدقاً وقال عكرمة : هو قول لا إله إلا الله. وقيل : مستقيماً.
{يصلح لكم أعمالكم} قال ابن عباس : يتقبل حسناتكم وقال مقاتل : يزكي أعمالكم {ويغفر لكم ذنوبكم} أي : يمحها عيناً وأثراً فلا يعاقب عليها ولا يعاتب {ومن يطع الله} أي : الذي لا أعظم منه {ورسوله} أي : الذي عظمته من عظمته في الأوامر النواهي {فقد فاز} وأكد ذلك بقوله تعالى : {فوزاً عظيماً} أي : ظفر بجميع مراداته يعيش في الدنيا حميداً وفي الآخرة سعيداً.
ولما أرشد الله تعالى المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وأدب النبي صلى الله عليه وسلم بأحسن الآداب بين أن التكليف الذي وجهه الله تعالى إلى الإنسان أمر عظيم بقوله تعالى :
{إنا عرضنا الأمانة} واختلف في هذه الأمانة المعروضة فقال ابن عباس : أراد بالأمانة الطاعة من الفرائض التي فرضها الله تعالى على عباده عرضها {على السموات والأرض والجبال} على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم وقال ابن مسعود : الأمانة أداء الصلوات ، وإيتاء الزكوات ، وصوم رمضان ، وحج البيت ، وصدق الحديث ، وقضاء الدين والعدل في المكيال والميزان ، وأشد من هذا كله الودائع وقال مجاهد : الأمانة الفرائض وحدود الدين. وقال أبو العالية : ما أمروا به ونهوا عنه وقال زيد بن أسلم : هو الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من الشرائع ، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه ، وقال : هذه أمانتي استودعتكها ، فالفرج أمانة ، والعين أمانة ، واليد أمانة ، والرجل أمانة ، ولا إيمان لمن لا أمانة له.
جزء : 3 رقم الصفحة : 340
وقال بعضهم : هي أمانات الناس والوفاء بالعهود فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمناً ولا معاهداً في شيء قليل ولا كثير وهي رواية الضحاك عن ابن عباس وجماعة من التابعين وأكثر السلف أن الله تعالى عرض هذه الأمانة على السموات والأرض والجبال فقال لهن : أتحملن هذه الأمانة بما فيها قلن : وما فيها ؟
فقال : إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن {فأبين} على عظم أجرامها وقوة أركانها وسعة أرجائها {أن يحملنها} أي : قلن : لا يا رب نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً {وأشفقن منها} أي : وقلن ذلك خوفاً وخشية وتعظيماً لله تعالى أن لا يقوموا بها لا معصية ومخالفة ، وكان العرض عليهن تخييراً لا إلزاماً ولو ألزمن لم يمتنعن من حملها فالجمادات كلها خاضعة لله عز وجل مطيعة ساجدة له كما قال تعالى للسموات والأرض : {ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} (فصلت : 11)
وقال في الحجارة : {وإن منها لما يهبط من خشية الله} (البقرة : 74)
وقال تعالى : {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال} (الحج : 18)
الآية وقال بعض أهل العلم : ركّب الله فيهن العقل والفهم حين عرض عليهن الأمانة حتى عقلن الخطاب وأجبن بما أجبن وقال بعضهم : المراد بالعرض على السموات والأرض هو العرض على أهل السموات والأرض عرضها على من فيهما من الملائكة كقوله تعالى : {واسأل القرية} (يوسف : 82)
أي : أهلها وقيل : المراد المقابلة أي : قابلنا الأمانة مع السماوات والأرض والجبال فرجحت الأمانة قال البغوي : والأول أصح ، وهو قول أكثر العلماء.
تنبيه : قوله تعالى : {فأبين} أتى بضمير هذه كضمير الإناث لأن جمع تكسير غير العاقل يجوز فيه ذلك ، وإنما ذكر ذلك لئلا يتوهم أنه قد غلب المؤنث وهو السماوات على المذكر وهو الجبال.
343
فإن قيل : ما الفرق بين إبائهن وإباء إبليس في قوله تعالى : {أبى أن يكون مع الساجدين} (الحجر : 31)
أجيب : بأن الإباء هناك كان استكباراً ، لأن السجود كان فرضاً وههنا استصغاراً لأن الأمانة كانت عرضاً.(3/232)
وإنما امتنعن خوفاً كما قال تعالى : {وأشفقن منها} أي : خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب {وحملها الإنسان} أي : آدم قال الله تعالى لآدم : إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها قال : يا رب وما فيها قال : إن أحسنت جوزيت ، وإن أسأت عوقبت فتحملها آدم عليه السلام وقال : بين أذني وعاتقي فقال الله تعالى : أما إذا تحملت فسأعينك اجعل لبصرك حجاباً فإذا خشيت أن تنظر لما لا يحل فأرخ عليه حجابه ، وأجعل للسانك لحيين وغلقاً فإذا خشيت فأغلق ، وأجعل لفرجك ستراً فإذا خشيت فلا تكشفه على ما حرمت عليك قال مجاهد : فما كان بين أن تحملها وبين أن أخرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر. وحكى النقاش بإسناده عن ابن مسعود أنه قال : مثلت الأمانة بصخرة ملقاة ودعيت السموات والأرض والجبال إليها فلم يقربوا منها وقالوا : لا نطيق حملها وجاء آدم عليه السلام من غير أن يدعى وحرك الصخرة وقال : لو أمرت بحملها لحملتها فقلن : احمل فحملها إلى ركبتيه ثم وضعها وقال : والله لو أردت أن أزداد لازددت فقلن له : احمل فحملها إلى حقويه وقال والله لو أردت أن أزداد لازددت فقلن له احمل فحملها حتى وضعها على عاتقه فأراد أن يضعها فقال له الله تعالى : مكانك فإنها في عنقك وعنق ذريتك إلى يوم القيامة.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 340
إنه كان ظلوماً جهولاً} قال ابن عباس : ظلوماً لنفسه جهولاً بأمر الله تعالى وما احتمل من الأمانة وقال الكلبي : ظلوماً حين عصى ربه جهولاً لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة وقال مقاتل : ظلوماً لنفسه جهولاً بعاقبة ما تحمل ، وذكر الزجاج وغيره من أهل المعاني في قوله تعالى : {وحملها الإنسان} قولاً آخر فقالوا : إن الله تعالى ائتمن آدم وأولاده على شيء وائتمن السموات والأرض والجبال على شيء فالأمانة في حق بني آدم ما ذكرنا من الطاعة والقيام بالفرائض ، والأمانة في حق السموات والأرض والجبال هي الخضوع والطاعة لما خلقن له وقوله تعالى : {فأبين أن يحملنها} أي : أبين الأمانة يقال : فلان حمل الأمانة أي : أثم فيها بالخيانة قال تعالى : {وليحملن أثقالهم} (العنكبوت : 13)
{إنه كان ظلوماً جهولاً} حكي عن الحسن على هذا التأويل أنه قال : وحملها الإنسان يعني الكافر والمنافق حملا الأمانة أي : خانا فيها ، والأول قول السلف وهو الأولى وقيل : المراد بالأمانة العقل والتكليف ، وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن وبإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد وتحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوماً جهولاً لما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية ، وعلى هذا يحسن أن يكون علة للحمل عليه فإن من فوائد العقل أن يكون مهيمناً على القوتين حافظاً لهما عن التعدي ، ومجازوة الحد ومعظم مقصود التكليف تعديلهما وكسر سورتهما ، وعن أبي هريرة قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم فجاء أعرابي فقال : "متى الساعة فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث فقال بعض القوم : سمع ما قال فكره ما قال ، وقال : بعضهم بل لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قال : أين السائل عن الساعة
344
قال : ها أنا يا رسول الله قال : إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة" وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها" وقوله تعالى :
{ليعذب الله} أي : الملك الأعظم متعلق بعرضنا المترتب عليه حمل الإنسان {المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} أي : المضيعين الأمانة.
تنبيه : لم يعد اسمه تعالى فلم يقل : ويعذب الله المشركين وأعاده في قوله تعالى {ويتوب الله} أي : بما له من العظمة {على المؤمنين والمؤمنات} أي : المؤدين للأمانة ، ولو قال تعالى : ويتوب على المؤمنين والمؤمنات كان المعنى حاصلاً ، ولكنه أراد تفضيل المؤمن على المنافق فجعله كالكلام المستأنف.
جزء : 3 رقم الصفحة : 340
ولما ذكر تعالى في الإنسان وصفين الظلوم والجهول ذكر تعالى من أوصافه وصفين بقوله تعالى : {وكان الله} أي : على ما له من الكبرياء والعظمة {غفوراً} للمؤمنين حيث عفا عن فرطاتهم {رحيماً} بهم حيث أثابهم بالعفو على طاعتهم مكرماً لهم بأنواع الكرم. وما رواه البيضاوي من أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه أعطي الأمان من عذاب القبر" حديث موضوع رواه الثعلبي.
345
جزء : 3 رقم الصفحة : 340(3/233)
سورة سبأ
مكية إلا {ويرى الذين أوتو العلم} الآية وهي أربع أو خمس وخمسون آية ، وثمانمائة وثلاث وثمانون كلمة ، وأربعة آلاف وخمسمائة واثنا عشر حرفاً
{بسم الله} أي : الذي من شمول قدرته إقامة الحساب {الرحمن} أي : الذي من عموم رحمته ترتيب الثواب والعقاب {الرحيم} أي : الذي يمن على أهل كرامته بطاعته حتى لا عقاب يلحقهم ولا عتاب.
ولما ختم السورة التي قبل هذه بصفتي المغفرة والرحمة بدأ هذه بقوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 345
{الحمد لله} أي : ذي الجلال والجمال على هذه النعمة.
346
فائدة : السور المفتتحة بالحمد خمس : سورتان في النصف الأول وهما الأنعام والكهف ، وسورتان في النصف الأخير وهما هذه السورة وسورة الملائكة ، والخامسة هي فاتحة الكتاب تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الثاني الأخير ، والحكمة فيها أن نعم الله مع كثرتها وعدم قدرتنا على إحصائها منحصرة في قسمين : نعمة الإيجاد ، ونعمة الإبقاء ، فإن الله تعالى خلقنا أولاً برحمته ، وخلق لنا ما نقوم به وهذه النعمة توجد مرة أخرى بالإعادة فإنه يخلقنا مرة أخرى ويخلق لنا ما ندوم به فلنا حالتان : الإبداء ، والإعادة ، وفي كل حالة له تعالى نعمتان : نعمة الإيجاد ، ونعمة الإبقاء ، فقال في النصف الأول : {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور} (الأنعام : 1)
إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد ، ويدل عليه قوله تعالى : {هو الذي خلقكم من طين} (الأنعام : 2)
فأشار إلى الإيجاد الأول ، وقال في السورة الثانية : {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً} (الكهف : 1)
فأشار إلى الشكر على نعمة الإبقاء ، فإن الشرائع بها البقاء ولولا شرع تنقاد له الخلق لاتبع كل واحد هواه ووقعت المنازعات وأدت إلى التقاتل والنفاق وقال ههنا : {الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض} ملكاً وخلقاً إشارة إلى نعمة الإيجاد الثاني بدليل قوله تعالى {وله} أي : وحده {الحمد} أي : الإحاطة بالكمال {في الآخرة} أي : ظاهر الكل من يجمعه الحشر وله كل ما فيها لا يدعي أحد ذلك في شيء منه ظاهراً ولا باطناً وقال في سورة الملائكة : {الحمد لله فاطر السموات والأرض} (فاطر : 1)
جزء : 3 رقم الصفحة : 346
إشارة إلى نعمة الإبقاء بدليل قوله تعالى : {جاعل الملائكة رسلاً} (فاطر : 1)
أي : يوم القيامة يرسلهم الله تعالى مسلمين على المسلمين كما قال تعالى : {وتتلقاهم الملائكة} (الأنبياء : 103)
وقال تعالى عنهم : {سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين} (الزمر : 73)
وفاتحة الكتاب لما اشتملت على ذكر نعمتين أشار بقوله تعالى : {الحمد لله رب العالمين} (الفاتحة : 2) إلى النعمة العاجلة ، وأشار بقوله تعالى : {مالك يوم الدين} (الفاتحة : 4)
إلى النعمة الآجلة فرتب الافتتاح والاختتام عليهما.
فإن قيل : قد ذكرتم أن الحمد ههنا إشارة إلى النعم التي في الآخرة فلم ذكر الله تعالى السموات والأرض ؟
أجيب : بأن نعم الآخرة غير مرئية فذكر الله تعالى النعم المرئية وهي ما في السموات وما في الأرض.
ثم قال : {وله الحمد في الآخرة} ليقابل نعم الآخرة بنعم الدنيا ، ويعلم فضلها بدوامها وقيل : الحمد في الآخرة هو حمد أهل الجنة كما قال تعالى : {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} (فاطر : 34)
{والحمد لله الذي صدقنا وعده} (الزمر : 74)
وتقدم الكلام على الحمد لغة واصطلاحاً ، والشكر كذلك في أول الفاتحة فتح الله علينا بكل خير وفعل ذلك بأحبابنا.
ولما تقرر أن الحكمة لا تتم إلا بإيجاد الآخرة قال تعالى : {وهو الحكيم} أي : الذي بلغت حكمته النهاية التي لا مزيد عليها ، والحكمة هي العلم بالأمور على وجه الصواب متصلاً بالعمل على وفقه {الخبير} أي : البليغ الخبر وهو العلم بظواهر الأمور وبواطنها حالاً ومآلاً.
ثم بين كمال خبره بقوله تعالى :
{يعلم ما يلج} أي : يدخل {في الأرض} أي : هذا الجنس من المياه والأموال والأموات وغيرها {وما يخرج منها} من المياه والمعادن والنبات وغيرها {وما ينزل من السماء} أي : من هذا الجنس من قرآن وملائكة وماء وحرارة وبرودة وغير ذلك {وما يعرج فيها} من الكلام الطيب قال تعالى : {إليه يصعد الكلم الطيب} (فاطر : 10)
والملائكة
347
والأعمال الصالحة قال تعالى {والعمل الصالح يرفعه} (فاطر : 10)
تنبيه : قدم ما يلج في الأرض على ما ينزل من السماء لأن الحبة تبذر أولاً ثم تسقى ثانياً وقال تعالى {ما يعرج فيها} ولم يقل ما يعرج إليها إشارة إلى قبول الأعمال الصالحة لأن كلمة إلى للغاية فلو قال وما يعرج إليها لفهم الوقوف عند السموات فقال {وما يعرج فيها} ليفهم نفوذه فيها وصعوده وتمكنه فيها ، ولهذا قال في الكلم الطيب {إليه يصعد الكلم الطيب} لأن الله تعالى هو المنتهى ولا مرتبة فوق الوصول إليه {وهو} أي : والحال أنه وحده مع كثرة نعمه المقيمة للأبدان {الرحيم} أي : المنعم بإنزال الكتب وإرسال الرسل لإقامة الأديان وغير ذلك {الغفور} أي : المحاء للذنوب للمفرطين في شكر نعمته مع كثرتها أو في الآخرة مع ما له من سوابق هذه النعم الفائقة للحصر.(3/234)
جزء : 3 رقم الصفحة : 346
تنبيه : قدم تعالى صفة الرحمة على صفة الغفور ليعلم أن رحمته سبقت غضبه.
ثم بين تعالى أن هذه النعمة التي يستحق الله تعالى بها الحمد وهي نعمة الآخرة أنكرها قوم فقال :
{وقال الذين كفروا} أي : ستروا ما دلتهم عليه عقولهم من براهينها الظاهرة {لا تأتينا الساعة} أي : أنكروا مجيئها أو استظهارها استهزاء بالوعد به ، وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل} أي : لهم {بلى} رد لكلامهم وإيثار لما نفوه {وربي} أي : المحسن إلي بما عمني به معكم وبما خصني من تنبيئي وإرسالي إليكم إلى غير ذلك من أمور لا يحصيها إلا هو {لتأتينكم} أي : الساعة لتظهر فيها ظهوراً تاماً الحكمة بالعدل والفصل وغير ذلك من عجائب الحكم والفضل وقوله تعالى {عالم الغيب} قرأه نافع وابن عامر برفع الميم على هو عالم الغيب ، أو مبتدأ وخبره ما بعده ، وابن كثير وأبو عمرو وعاصم بجره نعتاً لربي وقرأ حمزة والكسائي بعد العين بلام ألف مشددة وخفض الميم {لا يعزب} أي : لا يغيب {عنه مثقال} أي : وزن {ذرة} أي : من ذات ولا معنى ، والذرة : النملة الحمراء الصغيرة جداً صارت مثلاً في أقل القليل فهي كناية عنه ، وقرأ الكسائي بكسر الزاي والباقون بضمها.
وقوله تعالى {في السموات ولا في الأرض} فيه لطيفة وهي أن الإنسان له جسم وروح فالأجسام أجزاؤها في الأرض والأرواح في السماء فقوله تعالى {في السموات} إشارة إلى علمه بالأرواح وما فيها من الملائكة وغيرهم. وقوله تعالى {ولا في الأرض} إشارة إلى علمه بالأجسام وما في الأرض من غيرها ، فإذا علم الأرواح والأجسام قدر على جمعهما فلا استبعاد في الإعادة. وقوله تعالى : {ولا أصغر} أي : ولا يكون شيء أصغر {من ذلك} أي : المثقال {ولا أكبر} أي : منه {إلا في كتاب مبين} أي : بين هو اللوح المحفوظ جملة مؤكدة لنفي العزوب.
فإن قيل : فأي حاجة إلى ذكر الأكبر فإن من علم الأصغر من الذرة لا بد وأن يعلم الأكبر ؟
أجيب : بأنه تعالى أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت الصغار لكونها محل النسيان ، وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته فقال : الإثبات في الكتاب ليس كذلك فإن الأكبر أيضاً مكتوب.
ثم بين علة ذلك كله بقوله :
{ليجزي الذين آمنوا وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} أي : وإنه ما خلق الأكوان إلا لأجل الإنسان فلا يدعه بغير جزاء ، ثم بين جزاءهم بقوله تعالى : {أولئك} أي : العالو الرتبة {لهم مغفرة} أي : لزلاتهم وهفواتهم لأن الإنسان المبني على
348
النقصان لا يقدر أن يقدر العظيم السلطان حق قدره {ورزق كريم} أي : جليل عزيز دائم لذيذ نافع شهي لا كدر فيه وهو رزق الجنة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 346
تنبيه : ذكر تعالى في الذين آمنوا وعملوا الصالحات أمرين : الإيمان ، والعمل الصالح ، وذكر لهم أمرين : المغفرة والرزق الكريم ، فالمغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور له لقوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء : 48) وقوله صلى الله عليه وسلم "يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله ومن في قلبه وزن ذرة من إيمان" ، والرزق الكريم على العمل الصالح وهذا مناسب ، فإن من عمل لسيد كريم عملاً فعند فراغه لا بد وأن ينعم عليه وقوله تعالى {كريم} بمعنى : ذي كرم أو مكرم أو لأنه يأتي من غير طلب بخلاف رزق الدنيا فإنه إن لم يطلب ويتسبب فيه لا يأتي غالباً.
فإن قيل : ما الحكمة في تمييزه الرزق بأنه كريم ولم يصف المغفرة ؟
أجيب : بأن المغفرة واحدة وهي للمؤمنين ، وأما الرزق فمنه شجرة الزقوم والحميم ، ومنه الفواكه والشراب الطهور فميز الرزق لحصول الانقسام فيه ولم يميز المغفرة لعدم الانقسام فيها.
ولما بين تعالى حال المؤمنين يوم القيامة بين حال الكافرين في ذلك اليوم بقوله سبحانه :
{والذين سعوا} أي : فعلوا فعل الساعي {في آياتنا} أي : القرآن بالإبطال وتزهيد الناس فيها وقوله تعالى : {معجزين} قرأه ابن كثير وأبو عمرو بغير ألف بعد العين وتشديد الجيم أي : مبطئين عن الإيمان من أراده ، والباقون بألف بعد العين وتخفيف الجيم وكذا في آخر السورة أي : مسابقين كي يفوتونا {أولئك} الحقيرون عن أن يبلغوا مراداً بمعاجزتهم {لهم عذاب} وأي عذاب {من رجز} أي : سيئ العذاب {أليم} أي : مؤلم وقرأ ابن كثيرة وحفص أليم بالرفع على أنه صفة لعذاب ، والباقون بالجر على أنه صفة لرجز قال الرازي : قال هناك لهم رزق كريم ولم يقل بمن التبعيضية فلم يقل لهم نصيب من رزق ولا رزق من جنس كريم ، وقال ههنا {لهم عذاب من رجز أليم} بلفظة صالحة للتبعيض وذلك إشارة إلى سعة الرحمة وقلة الغضب وقوله : (3/235)
{ويرى الذين أوتوا العلم} أي : الذي قذفه الله تعالى في قلوبهم سواء كانوا ممن أسلم من العرب أو أهل الكتاب وقيل : مؤمنو أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه وقيل : الصحابة ومن شايعهم فيه وجهان : أحدهما : أنه عطف على ليجزي أي : وليعلم الذين أوتوا العلم. والثاني : أنه مستأنف أخبر عنهم بذلك {الذي أنزل إليك من ربك} أي : المحسن إليك بإنزاله {هو الحق} أي : أنه من عند الله تعالى.
تنبيه : الذي أنزل هو المفعول الأول ، وهو ضمير فصل والحق : مفعول ثان لأن الرؤية علمية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 346
وقوله تعالى {ويهدي إلى صراط} أي : طريق {العزيز الحميد} في فاعله وجهان أظهرهما أنه ضمير الذي أنزل وهو القرآن. والثاني : ضمير اسم الله تعالى وهاتان الصفتان يفيدان الرهبة
349
والرغبة ، العزيز : يفيد التخويف والانتقام من المكذب والحميد يفيد الترغيب في الرحمة للمصدق.
{وقال الذين كفروا} أي : قال بعضهم على وجه التعجب لبعض {هل ندلكم على رجل} يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم {ينبئكم} أي : يخبركم إخباراً لا أعظم منه بما حواه من العجب الخارج عما نفعله أنكم {إذا مزقتم} أي : قطعتم وفرقتم بعد موتكم. وقوله تعالى {كل ممزق} يحتمل أن يكون اسم مفعول أي : كل تمزيق فلم يبق شيء من أجسادكم مع شيء بل صار الكل بحيث لا يميز بين ترابه وتراب الأرض ، ويحتمل أن يكون ظرف مكان بمعنى إذا مزقتم وذهبت بكم الرياح والسيول كل مذهب {إنكم لفي خلق جديد} أي : تنشؤون خلقاً جديداً بعد أن تكونوا رفاتاً وتراباً.
والهمزة في قوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 346
{أفترى} أي : تعمد {على الله} أي : الذي لا أعلم منه {كذباً} أي : بالإخبار بخلاف الواقع وهو عاقل صحيح القصد همزة استفهام فالقراء الجميع يحققونها ، واستغنى بها عن همزة الوصل فإنها تحذف لأجلها فلذلك تثبت هذه الهمزة ابتداء ووصلاً ، قال البغوي : هذه ألف استفهام دخلت على ألف الوصل فلذلك نصبت {أم به جنة} أي : جنون يحكى به ذلك ، واستدل الجاحظ بهذه الآية على أن الكلام ثلاثة أقسام : صدق وكذب ، ولا صدق ولا كذب ووجه الدلالة منه على القسم الثالث أن قولهم {أم به جنة} لا جائز أن يكون كذباً لأنه قسيم الكذب وقسيم الشيء غيره ، ولا جائز أن يكون صدقاً لأنهم لم يعتقدوه فثبت قسم ثالث. وأجيب عنه : بأن المعنى أم لم يفتر ولكن عبر هذا بقولهم {أم به جنة} لأن المجنون لا افتراء له.
تنبيه : قوله {أفترى} يحتمل أن يكون من تمام قول الكافرين أولاً أي : من كلام القائلين {هل ندلكم} ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب للقائل {هل ندلكم} كأن القائل لما قال له {هل ندلكم على رجل} قال له : هل افترى على الله كذباً إن كان يعتقد خلافه أم به جنة أي : جنون إن كان لا يعتقد خلافه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 350
ولما كان الجواب ليس به شيء من ذلك عطف عليه قوله تعالى {بل الذين لا يؤمنون} أي : لا يوجدون الإيمان لأنهم طبعوا على الكفر {بالآخرة} أي : المشتملة على البعث والعذاب {في العذاب} أي : في الآخرة {والضلال البعيد} أي : عن الصواب في الدنيا ، فرد الله تعالى عليهم ترديدهم وأثبت لهم سبحانه ما هو أفظع من القسمين فقوله تعالى {بل الذين لا يؤمنون بالآخرة }(يس : 81)
في العذاب في مقابلة قولهم {أفترى على الله كذباً} وقوله تعالى {والضلال البعيد} في مقابلة قولهم {أم به جنة} وكلاهما مناسب ، أما العذاب فلأن نسبة الكذب إلى الصادق مؤد إلى أنه شهادة عليه بأنه يستحق العذاب فجعل العذاب عليهم حيث نسبوا الكذب إلى البريء ، وأما الضلال فلأن نسبة الجنون إلى العاقل دونه في الإيذاء ، فإنه لا يشهد عليه بأنه يعذب وإنما ينسبه إلى عدم الهداية فبين تعالى أنهم هم الضالون ، ثم وصف ضلالهم بالبعد ووصف الضلال به للإسناد المجازي لأن من يسمى المهدي ضالاً يكون أضل ، والنبي صلى الله عليه وسلم هادي كل مهتد.
ولما ذكر تعالى الدليل على كونه عالم الغيب وكونه مجازياً على السيئات والحسنات ، ذكر دليلاً آخر فيه التهديد والتوحيد بقوله تعالى :
{أفلم يروا} أي : ينظروا {إلى ما بين أيديهم} أي : أمامهم {وما خلفهم} وذلك إشارة إلى جميع الجوانب من كلا الخافقين فقوله تعالى {من السماء والأرض} دليل التوحيد فإنهما يدلان على الوحدانية ، ويدلان على الحشر والإعادة لأنهما يدلان على كمال القدرة لقوله تعالى {أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم}( يس ،
350
81) وأما دليل التهديد فقوله تعالى {إن نشأ} أي : بما لنا من العظمة {نخسف بهم الأرض} أي : كما فعلنا بقارون وذويه لأنه ليس نفوذ بعض أفعالنا فيه بأولى من غيره {أو نسقط عليهم كسفاً} أي : قطعاً {من السماء} فنهلكهم بها ، وقرأ حفص بفتح السين والباقون بسكونها.(3/236)
تنبيه : في قوله تعالى {أفلم يروا} الرأيان المشهوران قدره الزمخشري أفعموا فلم يروا وغيره يدعي أن الهمزة مقدمة على حرف العطف ، وقوله {من السماء} بيان للموصول فيتعلق بمحذوف ، ويجوز أن يكون حالاً فيتعلق به أيضاً قيل : وثم حال محذوفة تقديره : أفلم يروا إلى كذا مقهوراً تحت قدرتنا أو محيطاً بهم فيعلموا أنهم حيث كانوا فإن أرضي وسمائي محيطة بهم لا يخرجون من أقطارها ، وأنا القادر عليهم وقرأ حمزة والكسائي {إن يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط} بالياء في الثلاثة كقوله تعالى {افترى على الله كذباً} والباقون بالنون ، وأدغم الكسائي الفاء في الباء وأظهرها الباقون {إن في ذلك} أي : فيما ترون من السماء والأرض {لآية} أي : علامة بينة تدل على قدرتنا على البعث {لكل عبد} أي : متحقق أنه مربوب ضعيف مسخر لما يراد منه {منيب} أي : فيه قابلية الرجوع إلى ربه بقلبه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 350
ولما ذكر تعالى من ينيب من عباده وكان من جملتهم داود عليه السلام كما قال ربه {فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب} (ص : 24)
ذكره بقوله تعالى :
{ولقد آتينا} أي : أعطينا إعطاء عظيماً دالاً على نهاية المكنة بما لنا من العظمة {داود منا فضلاً} أي : النبوة والكتاب ، أو الملك أو جميع ما أوتي من حسن الصوت وتليين الحديد وغير ذلك مما خص به ، وهذا الأخير أولى.
تنبيه : قوله تعالى {منا} فيه إشارة إلى بيان فضل داود عليه السلام لأن قوله تعالى {ولقد آتينا داود منا فضلاً} مستقل بالمفهوم وتام كما يقول القائل : آتى الملك زيداً خلعة فإذا قال القائل : أتاه منه خلعه يفيد أنه كان من خاص ما يكون له ، فكذلك إيتاء الله تعالى الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض ونظيره قوله تعالى {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان} (التوبة : 21) فإن رحمة الله تعالى واسعة تصل إلى كل أحد ، لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمة من عنده لخواصه وقوله تعالى {يا جبال} محكي بقول مضمر ثم إن شئت قدرته مصدراً ، ويكون بدلاً من فضل على جهة تفسيره به كأنه قيل آتيناه فضلاً قولنا يا جبال ، وإن شئت قدرته فعلاً وحينئذ لك وجهان : إن شئت جعلته بدلاً من آتينا معناه آتينا قلنا : يا جبال ، وإن شئت جعلته مستأنفاً {أوبي} أي : رجّعي {معه} بالتسبيح إذا سبح أمر من التأويب وهو الترجيع وقيل : التسبيح بلغة الحبشة وقال العيني : أصله من التأويب في السير ، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلاً كأنه يقول : أوبي النهار كله بالتسبيح معه وقال وهب : نوحي معه وقيل : سيري معه وقوله تعالى {والطير} منصوب بإجماع القراء السبعة واختلف في وجه نصبه على أوجه : أحدها : أنه عطف على محل جبال لأنه منصوب تقديراً لأن كل منادى في موضع نصب. الثاني : أنه عطف على فضلاً قاله الكسائي ، ولابد من حذف مضاف تقديره آتيناه فضلاً وتسبيح الطير. الثالث : أنه منصوب بإضمار فعل أي : وسخرنا له الطير قاله أبو عمرو.
تنبيه : لم يكن الموافق له في التأويب منحصراً في الطير والجبال ولكن ذكر الجبال لأن الصخور للجمود والطير للنفور وكلاهما تستبعد منه الموافقة ، فإذا وافقته هذه الأشياء فغيرها أولى ، ثم من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشد قسوة قال المفسرون : كان داود عليه
351
الصلاة والسلام إذ نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها ، وعكفت الطير عليه من فوقه فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك وقيل : كان داود إذا تخلل الجبال فسبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح ، وقيل : كان داود إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطاً له. وقال وهب بن منبه : كان يقول للجبال سبحي ، وللطير أجيبي ، ثم يأخذ في تلاوة الزبور بين تلك بصوته الحسن فلا يرى الناس منظراً أحسن من ذلك ، ولا يسمعون شيئاً أطيب منه ، وذلك كما : "كان الحصى يسبح في كف نبينا صلى الله عليه وسلم وكف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما" وكما : "كان الطعام يسبح في حضرته الشريفة وهو يؤكل" ، وكما : "كان الحجر يسلم عليه وأسكفة الباب وحوائط البيت تؤمن على دعائه" ، و"حنين الجذع مشهور" ، وكما : "كان الضب يشهد له" و"الجمل يشكو إليه ويسجد بين يديه" ونحو ذلك ، وكما : "جاء الطائر الذي يسمى الحمرة تشكو الذي أخذ بيضها ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم برده رحمة لها".
جزء : 3 رقم الصفحة : 350(3/237)
ولما ذكر تعالى طاعة أكثف الأرض وألطف الحيوان الذي أنشأه الله تعالى منها ، ذكر سبحانه وتعالى ما أنشأه من ذلك الأكثف ، وهو أصلب الأشياء بقوله تعالى : {وألنا له الحديد} أي : الذي ولدناه من الجبال جعلناه في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة ، وذلك في قدرة الله تعالى يسير ، وكان سبب ذلك ما روي في الأخبار أن داود عليه السلام لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكراً ، فإذا رأى رجلاً لا يعرفه تقدم إليه يسأله عن داود ويقول له ما تقول في داود ، وإليكم هذا أي رجل هو فيثنون عليه ويقولون خيراً ، فقيض الله تعالى له ملكاً في صورة آدمي فلما رآه داود تقدم إليه على عادته يسأله فقال الملك : نعم الرجل هو لولا خصلة فيه فراع داود ذلك وقال : ما هي يا عبد الله ؟
فقال : إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال قال : فتنبه لذلك وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يستغني به عن بيت المال يتقوت منه ويطعم عياله ، فألان الله له الحديد وعلمه صنعة الدروع ، وإنه أول من اتخذها يقال : إنه كان يبيع كل درع بأربعة آلاف درهم فيأكل ويطعم منها عياله ، ويتصدق منها على الفقراء والمساكين
352
ويقال : إنه كان يعمل كل يوم درعاً يبيعه بستة آلاف درهم ، فينفق منها ألفين على نفسه وعياله ، ويتصدق بأربعة آلاف درهم على فقراء بني إسرائيل ، وإنما اختار الله تعالى له ذلك لأنه وقاية للروح التي هي من أمره ويحفظ الآدمي المكرم عند الله تعالى من القتل ، فالزرّاد خير من القواس والسياف وغيرهما ، لأن القوس والسيف وغيرهما من السلاح ربما يستعمل في قتل النفس المحرمة بخلاف الدرع قال صلى الله عليه وسلم "كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده".
ثم ذكر سبحانه وتعالى علة الإلانة بصيغة الأمر إشارة إلى أن عمله كان لله تعالى بقوله عز من قائل :
{أن اعمل سابغات} أي : دروعاً طوالاً واسعات يجرها لابسها على الأرض ، وذكر الصفة يعلم منها الموصوف ، واختلف في معنى قوله سبحانه وتعالى {وقدر في السرد} أي : نسج الدروع يقال لصانعه : الزراد والسراد فقيل : قدر المسامير في حلق الدروع أي : لا تجعل المسامير غلاظاً فتكسر الحلق ولا دقاقاً فتتقلقل فيها ويقال : السرد المسمار في الحلقة يقال : درع مسرودة أي : مسمورة الحلق {وقدر في السرد} اجعله على القصد وقدر الحاجة وقيل : اجعل كل حلقة مساوية لأختها مع كونها ضيقة لئلاً ينفذ منها سهم ، ولتكن في ثخنها بحيث لا يقطعها سيف ، ولا تثقل على الدرع فتمنعه خفة التصرف وسرعة الانتقال في الكر والفر والطعن والضرب في البرد والحر ، والظاهر ـ كما قال البقاعي ـ أنه لم يكن في حلقها مسامير لعدم الحاجة بإلانة الحديد إليها ، وإلا لم يكن بينه وبين غيره فرق ولا كان للإلانة كبير فائدة ، وقد أخبر بعض من رأى ما نسب إليه بغير مسامير وقال الرازي : يحتمل أن يقال : السرد هو عمل الزرد وقوله تعالى {وقدر في السرد} أي : أنك غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب ، والكسب يكون بقدر الحاجة ، وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشتغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل به القوت فحسب ، ويدل عليه قوله تعالى {واعملوا صالحاً} أي : لستم مخلوقين إلا للعمل الصالح فاعملوا ذلك وأكثروا منه ، وأما الكسب فقدروا فيه ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله تعالى : {إني بما تعملون بصير} أي : مبصر فأجازيكم به يريد بهذا داود وآله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 350
تنبيه : كما ألان الله تعالى لداود عليه السلام الحديد ألان لنبينا صلى الله عليه وسلم في الخندق تلك الكدية وذلك بعد أن لم تكن المعاول تعمل فيها وبلغت غاية الجهد منهم ، فضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربة واحدة ، وفي رواية رش عليها ماء فعادت كثيباً أهيل لا ترد فأساً ، وتلك الصخرة التي أخبره سلمان عنها أنها كسرت فؤوسهم ومعاولهم وعجزوا عنها فضربها صلى الله عليه وسلم ثلاث ضربات كسر في كل ضربة ثلثاً منها ، وبرقت مع كل ضربة برقة كبر معها تكبيرة وأضاءت للصحابة رضي الله تعالى عنهم ما بين لابتي المدينة بحيث كانت في النهار ، كأنها مصباح في جوف بيت مظلم فسألوه عن ذلك ، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن إحدى الضربات أضاءت له صنعاء من أرض اليمن حتى رأى أبوابها من مكانه ذلك ، وأخبره جبريل عليه السلام أنها ستفتح على أمته ، وأضاءت له الأخرى قصور الحيرة البيض كأنها أنياب الكلاب ، وأخبر أنها مفتوحة لهم ، وأضاءت له الأخرى قصور الشام الحمر كأنها أنياب الكلاب ، وأخبر بفتحها عليهم فصدقه الله تعالى في جميع ما قال ، وأعظم من ذلك تصلب الخشب له عليه السلام حتى
353(3/238)
صار سيفاً قوىّ المتن جيد الحديدة ، وذلك أن سيف عبد الله بن جحش انقطع يوم أحد فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجوناً فصار في يده سيفاً قائمة منه فقاتل به ، فكان يسمى العرجون ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده حتى قتل ، وهو عنده وعن الواقدي : "أنه انكسر سيف سلمة بن أسلم يوم بدر ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيباً كان في يده من عراجين رطاب فقال : اضرب به فإذا هو سيف جيد ، فلم يزل عنده حتى قتل" وإلحام داود للحديد ليس بأعجب من : "إلحام النبي صلى الله عليه وسلم ليد معوذ بن عفراء لما قطعها أبو جهل يوم بدر فأتى بها يحملها في يده الأخرى فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وألصقها فلصقت وصحت مثل أختها" كما نقله البيهقي وغيره ومعجزاته صلى الله عليه وسلم لا تنحصر ، وإنما أذكر بعضها تبركاً بذكره صلى الله عليه وسلم وأسأل الله تعالى أن يحشرنا في زمرته ويفعل ذلك بأهلينا ومحبينا.
ولما أتم الله تعالى المراد من آيات داود عليه السلام ، أتبعها بعض آيات ابنه سليمان عليه الصلاة والسلام لمشاركته في الإنابة بقوله تعالى :
{ولسليمان} أي : عوضاً عن الخيل التي عقرها لله تعالى {الريح} قرأ شعبة الريح بالرفع على الابتداء ، والخبر في الجار قبله أو محذوف والباقون بالنصب بإضمار فعل أي : وسخرنا {غدوها} أي : سيرها من الغدوة بمعنى الصباح إلى الزوال {شهر} أي : تحمله وتذهب به وبجميع عسكره من الصباح إلى نصف النهار مسيرة شهر {ورواحها} أي : من الزوال إلى الغروب {شهر} أي : مسيرته فكانت تسير به في يوم واحد مسيرته شهرين قال الحسن : كان يغدو من دمشق فيقبل بإصطخر وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع ، وهذا كما سخر الله تعالى الريح لنبينا صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب ، فكانت تهد خيامهم وتضرب وجوههم بالتراب والحجارة ، وهي لا تجاوز عسكرهم إلى أن هزمهم الله تعالى بها ، وكما حملت شخصين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في غزوة تبوك فألقتهما بجبل طيىء ، وتحمل من أراد الله تعالى من أولياء أمته كما هو في غاية الشهرة ونهاية الكثرة ، وأما أمر الإسراء والمعراج فهو من الجلالة والعظم بحيث لا يعلمه إلا الله تعالى ، مع أن الله تعالى صرفه في آيات السماء بحبس المطر تارة وإرساله أخرى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 350
ولما ذكر تعالى الريح أتبعها ما هو من أسباب تكوينه بقوله تعالى : {وأسلنا} أي : أذبنا بما لنا من العظمة {له عين القطر} أي : النحاس حتى صار كأنه عين ماء فأجريت ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء ، وعمل الناس إلى اليوم مما أعطي سليمان {ومن الجن} أي : الذي سترناهم عن العيون من الشياطين وغيرهم عطف على الريح أي : وسخرنا له من الجن {من يعمل بين يديه} أي : قد أمكنه الله تعالى منهم غاية الإمكان في غيبته وحضوره {بإذن} أي : بأمر {ربه} أي : بتمكين المحسن إليه {ومن يزغ} أي : يمل {منهم عن أمرنا} أي : عن أمره الذي هو من أمرنا {نذقه من عذاب السعير} أي : النار أي : في الآخرة وقيل : في الدنيا بأن يضربه ملك بسوط منها ضربة يحرقه ، وهذا كما أمكن نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك العفريت فخنقه وهم بربطه حتى تلعب به صبيان المدينة ، ثم تركه تأدباً مع أخيه سليمان عليه السلام فيما سأل الله تعالى فيه ، وأما الأعمال التي يدور عليها إقامة الدين فأغناه الله تعالى فيها عن الجن بالملائكة الكرام عليهم السلام وسلط جمعاً من صحابته
354(3/239)
على جماعة من مردة الجان منهم أبو هريرة رضي الله تعالى عنه : "لما وكله النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان" ، ومنهم أبي بن كعب قبض على شخص منهم كان يسرق من تمره وقال : لقد علمت الجن ما فيهم من هو أشد مني ، ومنهم معاذ بن جبل لما جعله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقة المسلمين فأتاه شيطان يسرق وتصور له بصور منها صورة فيل ، فضبطه والتفت يداه عليه وقال له : يا عدو الله فشكا له الفقر وأخبره أنه من جن نصيبين ، وأنهم كانت لهم المدينة فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أخرجهم منها ، وسأله أن يخلي عنه على أن لا يعود ، ومنهم بريدة ، ومنهم أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه ، ومنهم زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه ، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه صارع الشيطان فصرعه عمر ، ومنهم عمار بن ياسر قاتل الشيطان فصرعه عمار وأدمى أنف الشيطان بحجر ذكر ذلك البيهقي في الدلائل ، وأما عين القطر فهي مما تضمنه قول النبي صلى الله عليه وسلم "أعطيت مفاتيح خزائن الأرض والملك في الدنيا والخلد فيها ثم الجنة فاخترت أن أكون نبياً عبداً أجوع يوماً وأشبع يوماً" الحديث ، فشمل ذلك اللؤلؤ الرطب إلى عين الذهب المصفى إلى ما دون ذلك ، وروى الترمذي ـ وقال : حسن ـ عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً قلت : لا يارب ولكن أجوع يوماً وأشبع يوماً ، فإذا جعت تضرعت إليك وشكرتك ، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك" وللطبراني بإسناد حسن عن ابن عباس : "أن إسرافيل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمفاتيح خزائن الأرض وقال : إن الله أمرني أن أعرض عليك أن تسير معك جبال تهامة زمرداً وياقوتاً وذهباً وفضة ، فإن شئت نبياً مالكاً وإن شئت نبياً عبداً فأومأ إليَّ جبريل عليه السلام أن تواضع فقال : نبياً عبداً" ورواه ابن حبان في صحيحه مختصراً من حديث أبي هريرة ، وله في الصحيح عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق على قطيفة من سندس" وفي البخاري في غزوة أحد عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أعطيت مفاتيح خزائن الأرض ، أو مفاتيح الأرض" هذا ما يتعلق بالأرض ، وقد زيد صلى الله عليه وسلم على ذلك بأن أيده ربه سبحانه بالتصرف في خزائن السماء تارة بشق القمر وتارة برجم النجوم ، وتارة باختراق السموات ، وتارة بحبس المطر ، وتارة بإرساله إلى غير ذلك مما قد أكرمه الله تعالى به مما لا يحيط به إلا الله عز وجل صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأزواجه وذريته وأصحابه ، وحشرنا ومحبينا معهم في دار كرامته.
جزء : 3 رقم الصفحة : 350
ولما أخبر تعالى أنه سخر لسليمان الجن ذكر حالهم في أعمالهم بقوله تعالى :
{يعملون له} أي : في أي : وقت شاء {ما يشاء} أي : عمله {من محاريب} أي : أبنية مرتفعة غير مساجد يصعد إليها بدرج ، سميت بذلك لأنها يذب عنها ويحارب عليها ومساجد ، والمحراب مقدم كل مسجد
355(3/240)
ومجلس وبيت ، وكان مما عملوه له بيت المقدس ابتدأه داود عليه السلام ورفعه قامة رجل فأوحى الله تعالى إليه أني لم أقض ذلك على يديك ، ولكن ابن لك اسمه سليمان عليه السلام اقضي تمامه على يديه فلما توفاه الله تعالى استخلف سليمان عليه السلام فأحب إتمام بناء بيت المقدس ، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحه له ، فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض من معادنه ، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفائح وجعلها اثني عشر ربضاً ، وأنزل على كل ربض سبطاً من الأسباط ، وكانوا اثني عشر سبطاً ، فلما فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فرقاً يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر ، وفرقاً يقتلعون الجواهر من الحجارة من أماكنها ، وفرقاً يأتونه بالمسك والعنبر وسائر الطيب من أماكنها فأتى من ذلك بشيء لا يحصيه إلا الله تعالى ، ثم أحضر الصناع وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحاً ، وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلئ ، فبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين المها الصافي وسقفه بألواح الجواهر الثمينة ، وفصص سقفه وحيطانه باللآلئ والياقوت وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفيروزج فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد ، وكان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر فلما فرغ منه جمع أحبار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه لله تعالى ، وأن كل شيء فيه خالص لله تعالى واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً لله تعالى ، روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً فأعطاه اثنتين ، وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة سأله حكماً يصادف حكمه فأعطاه إياه ، وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه ، وسأله أن لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك" قالوا : فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بختنصر فخرب المدينة وهدمها ونقض المسجد وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر إلى دار ملكه من أرض العراق ، وبنى الشياطين باليمن لسليمان حصوناً كثيرة عجيبة من الصخر {وتماثيل} جمع تمثال ، وهو كل شيء مثلته بشيء أي : كانوا يعملون له تماثيل أي : صوراً من نحاس وزجاج ورخام ونحو ذلك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 350
فإن قيل : كيف استجاز سليمان عليه السلام عمل التصاوير ؟
أجيب : بأن هذا مما يجوز أن تختلف فيه الشرائع لأنه ليس من مقبحات العقل كالظلم والكذب ، وعن أبي العالية لم يكن اتخاذ التصاوير إذ ذاك محرماً ، ويجوز أن تكون غير صور الحيوان كصور الأشجار ونحوها ، لأن التمثال كل ما صوره على مثل صورة غيره من حيوان وغير حيوان ، أو بصور محذوفة الرؤوس ، روي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ، ونسرين في أعلاه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما ، وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما وقيل : كانوا يتخذون صور الأنبياء والملائكة والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة قيل : إن هذا كان أول الأمر ، فلما تقادم الزمن قال لهم إبليس : إن آباءكم كانوا يعبدون هذه الصور فعبدوا الأصنام ولم تكن التصاوير ممنوعة في شريعتهم كما أن عيسى عليه السلام كان يتخذ صوراً من الطين فينفخ فيها فتكون طيراً.
356
{وجفان} أي : قصاع وصحاف يؤكل فيها ، واحدتها جفنة {كالجوابي} جمع جابية وهي الحوض الكبير يجبى إليه الماء أي : يجتمع يقال : كان يجلس على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها ، وقرأ ورش وأبو عمرو بإثبات الياء بعد الباء الموحدة في الوصل دون الوقف ، وابن كثير بإثباتها وقفاً ووصلاً ، والباقون بالحذف وقفاً ووصلاً.
ولما ذكر القصاع على وجه يتعجب منه ذكر ما يطبخ فيه طعام تلك الجفان بقوله تعالى : {وقدور راسيات} أي : ثابتات ثباتاً عظيماً لأنها لكبرها كالجبال لها قوائم لا يحركن عن أماكنها لعظمهن ، ولا يبدلن ولا يعطلن وكان يصعد عليها بالسلالم وكانت باليمن.
ولما ذكر المساكن وما يتبعها أتبعها الأمر بالعمل بقوله تعالى : {اعملوا} أي : وقلنا لهم اعملوا أي : تمتعوا واعملوا على مزيد قربهم بحذف أداة النداء وعلى شرفهم بالتعبير بالآل بقوله تعالى : {آل داود} وقوله تعالى {شكراً} يجوز فيه أوجه : أحدها : أنه مفعول به أي : اعملوا الطاعة سميت الصلاة ونحوها شكراً لسدها مسده. ثانيها : أنه مصدر من معنى اعملوا كأنه قال : اشكروا شكراً بعملكم ، أو اعملوا عمل شكر. ثالثهما : أنه مفعول من أجله أي : لأجل الشكر ، واقتصر على هذا البقاعي. رابعها : أنه مصدر واقع موقع الحال أي : شاكرين. خامسها : أنه منصوب بفعل مقدر من لفظه تقديره : واشكروا شكراً. سادسها : أنه صفة لمصدر اعملوا تقديره عملاً شكراً أي : ذا شكر.(3/241)
جزء : 3 رقم الصفحة : 350
تنبيه : كما قال تعالى عقب قوله سبحانه {أن اعمل سابغات} : {اعملوا صالحاً} قال عقب ما تعمله الجن له {اعملوا آل داود شكراً} إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستغرقة في هذه الأشياء ، وإنما الإكثار من العمل الصالح الذي يكون شكراً ، وقوله تعالى {وقليل} خبر مقدم وقوله تعالى {من عبادي} صفة له وقوله تعالى {الشكور} مبتدأ والمعنى : أن العامل بطاعتي المتوفر الدواعي بظاهره وباطنه من قلبه ولسانه ويديه على الشكر بأن يصرف جميع ما أنعم الله تعالى به عليه فيما يرضيه قليل ، ومع ذلك لا يوفي حقه لأن توفيقه للشكر نعمة تستدعي شكراً آخر لا إلى نهاية ، ولذلك قيل : الشكور من يرى عجزه عن الشكر ، وعبر بصيغة فعول إشارة إلى أن من يقع منه مطلق الشكر كثير ، وأقل ذلك حال الاضطرار وقيل : المراد من آل داود عليه السلام هو داود نفسه وقيل : داود وسليمان وأهل بيتهما عليهما السلام قال جعفر بن سليمان : سمعت ثابتاً يقول : كان داود عليه السلام نبي الله صلى الله عليه وسلم قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تك تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود عليه السلام قائم يصلي ، وقال صلى الله عليه وسلم في صلاة النافلة : "أفضل الصلاة صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه ، وينام سدسه" وقال في صوم التطوع : "أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً" وروي عن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقول : اللهم اجعلني من القليل فقال عمر : ما هذا الدعاء فقال : إني سمعت الله يقول {وقليل من عبادي الشكور} فأنا أدعوه أن يجعلني من ذلك القليل فقال عمر : كل الناس أعلم من عمر.
ولما كان الموت مكتوباً على كل أحد قال تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 350
فلما قضينا} وحقق صفة القدرة بأداة
357
الاستعلاء بقوله تعالى : {عليه} أي : سليمان عليه السلام {الموت} قال أهل العلم : كان سليمان يتحنث في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل من ذلك وأكثر ، فيدخل فيه ومعه طعامه وشرابه فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله تعالى فسألها ما اسمك فتقول : كذا وكذا فيقول : لأي شيء خلقت فتقول : لكذا وكذا فيؤمر بها فتقلع فإن كانت تنبت لغرس غرسها ، وإن كانت تنبت لدواء كتب ذلك حتى نبتت الخروبة فقال لها : ما أنت قالت : الخروبة قال : لأي شيء نبت قالت : لخراب مسجدك قال عليه السلام : ما كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال : اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا يسترقون السمع ويموهون على الناس أنهم يعلمون الغيب وقال لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني فقال : أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب فقام يصلي متكئاً على عصاه فقبض الله روحه وهو متكئ عليها ، وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى ، وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه فكانت الجن تعمل الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها في حياته ، وينظرون إلى سليمان عليه السلام فيرونه قائماً متكئاً على عصاه فيحسبونه حياً فلا ينكرون خروجه إلى الناس لطول صلاته ، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولاً كاملاً حتى أكلت الأرضة عصا سليمان فخر ميتاً فعلموا بموته حينئذ كما قال تعالى {ما دلهم على موته إلا دابة الأرض} أي : الأرضة لأنا جعلنا له من سعة العلم ووفور الهيبة ونفوذ الأمر ما تمكن به من إخفاء موته عنهم {تأكل منسأته} قال البخاري : يعني عصاه فالمنسأة العصا اسم آلة من نسأه أخره كالمكسحة والمكنسة من نسأت الغنم أي : زجرتها وسقتها ، ومنه نسأ الله في أجله أي : أخره وقرأ نافع وأبو عمرو بعد السين بألف وابن ذكوان بعد السين بهمزة ساكنة والباقون بهمزة مفتوحة بعد السين فإذا وقف حمزة سهل الهمزة وقيل لم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلا احترق فمر به شيطان فلم يسمع صوته ، ثم رجع فلم يسمع فنظر فإذا سليمان قد خر ميتاً ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة {فلما خر} أي : سقط على الأرض بعد أن قصمت الأرضة عصاه {تبينت الجن} أي : علمت علماً بيناً لا يقدرون معه على تدبيج وتلبيس وانفضح أمرهم وظهر ظهوراً تاماً {أن} أي : أنهم {لو كانوا} أي : الجن {يعلمون الغيب} أي : علمه {ما لبثوا} أي : أقاموا حولاً {في العذاب المهين} من ذلك العمل الذي كانوا مسخرين فيه ، ويجوز أن تكون أن تعليلية ويكون التقدير : تبين حال الجن فيما يظن بهم من أنهم يعلمون الغيب لأنهم إلخ ، وسبب علمهم مدة كونه ميتاً قبل ذلك أنهم وضعوا الأرضة على موضع من العصا فأكلت منها يوماً وليلة مقداراً ، وحسبوا على ذلك النحو فوجدوا المدة سنة قال ابن عباس : فشكر الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب.(3/242)
جزء : 3 رقم الصفحة : 350
تنبيه : قد تقدم أن كل شيء أثبت لمن قبل نبينا صلى الله عليه وسلم من الأنبياء عليهم السلام من الخوارق ثبت له مثله وأعظم منه إما له نفسه أو لأحد من أمته ، وهذا الذي ذكر لسليمان عليه السلام من حفظه بعد موته سنة لا يميل قد ثبت مثله لشخص من هذه الأمة من غير شيء يعتمد عليه ، قال القشيري في رسالته في باب أحوالهم عند الخروج من الدنيا ، وقال أبو عمران الإصطخري : رأيت أبا تراب في البادية قائماً ميتاً لا يمسكه شيء انتهى.
فائدة : روي أن سليمان عليه السلام كان عمره ثلاثاً وخمسين سنة ، ومدة ملكه أربعون سنة ، وملك
358
يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه ، وروي أن داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام فمات قبل أن يتم فوصى به إلى سليمان عليه السلام فأمر الشياطين بإتمامه.
ولما بقي من عمله سنة سأل الله تعالى أن يعمي عليهم موته حتى يفرغوا منه ، وليبطل دعواهم علم الغيب ، وروي أن إفريدون جاء ليصعد كرسيه فلما دنا منه ضرب الأسدان ساقه فكسراها فلم يجسر أحد بعد يدنو منه.
ولما بين تعالى حال الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان عليهما السلام ، بين حال الكافرين لأنعمه بحكاية أهل سبأ فقال تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 350
{لقد كان لسبأ} أي : القبيلة المشهور روى أبو سبرة النخعي عن أبي قرة بن مسيك القطيعي قال : قال رجل : يا رسول الله أخبرني عن سبأ أكان رجلاً أو امرأة أو أرضاً قال : "كان رجلاً من العرب وله عشرة من الولد تيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة ، فأما الذين تيامنوا فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وأنمار وحمير فقال رجل : وما أنمار قال : الذين منهم خثعم وبجيلة ، وأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة وغسان وسبأ يجمع هذه القبائل كلها" والجمهور على
359
أن جميع العرب ينقسمون إلى قسمين : قحطانية وعدنانية ، فالقحطانية : شعبان سبأ وحضرموت ، والعدنانية : شعبان : ربيعة ومضر ، وأما قضاعة فمختلف فيها فبعضهم نسبها إلى قحطان ، وبعضهم إلى عدنان ، قيل : إن قحطان أول من قيل له أنعم صباحاً وأبيت اللعن ، قال بعضهم : وجميع العرب منسوب إلى إسماعيل بن إبراهيم وليس بصحيح ، فإن إسماعيل عليه السلام نشأ بين جرهم بمكة وكانوا عرباً ، والصحيح أن العرب العاربة كانوا قبل إسماعيل عليه السلام منهم عاد وثمود وطسم وجديس وأهم وجرهم والعماليق يقال : إن أهماً كان ملكاً ويقال : إنه أول من سقف البيوت بالخشب المنشور ، وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر وبنوه قبيلة يقال لها وبار هلكوا بالرمل أساله الله عليهم فأهلكهم وطم مناهلهم وفي ذلك يقول بعض الشعراء :
*
جزء : 3 رقم الصفحة : 359
وكر دهر على وبار ** فهلكت عنوة وبار*
واسم سبأ : عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان وسمي سبأ قيل : لأنه أول من سبأ في العرب قاله السهيلي ، ويقال : إنه أول من تتوج ، وذكر بعضهم أنه كان مسلماً وله شعر يشير فيه بوجود النبي صلى الله عليه وسلم وقال في سليمان عليه السلام :
*سيملك بعدنا ملك عظيم ** نبي لا يرخص في الحرام*
*ويملك بعده منهم ملوك ** يدينوه القياد بكل دامي*
*ويملك بعدهم منا ملوك ** يصير الملك فينا بانقسام*
*ويملك بعد قحطان نبي ** تقي مخبت خير الأنام*
*يسمى أحمداً يا ليت أني ** أعمر بعد مبعثه بعام*
*فأعضده وأحبوه بنصري ** بكل مدجج وبكل رامي*
*متى يظهر فيكونوا ناصريه ** ومن يلقاه يبلغه سلامي*
وقرأ البزي وأبو عمرو بعد الموحدة بهمزة مفتوحة من غير تنوين لأنه صار اسم قبيلة ، وقنبل بهمزة ساكنة والباقون بهمزة مكسورة منونة ، وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً ولهما أيضاً الروم مع التسهيل وقرأ {في مساكنهم} أي : التي هي في غاية الكثرة حمزة وحفص بسكون السين وفتح الكاف ولا ألف بينهما إشارة إلى أنها لشدة اتصال المنافع والمرافق كالمسكن الواحد ، وقرأ الكسائي كذلك إلا أنه يكسر الكاف والباقون بفتح السين وألف بعدها وكسر الكاف إشارة إلى أنها في غاية الملائمة لهم واللين ، وكانت بأرض مأرب من بلاد اليمن قال حمزة الكرماني : قال ابن عباس : على ثلاثة فراسخ من صنعاء {آية} أي : علامة ظاهرة على قدرتنا ، ثم فسر الآية بقوله تعالى : {جنتان عن يمين وشمال} أي : عن يمين الوادي وشماله قد أحاطت الجنتان بذلك الوادي وقيل : عن يمين من أتاهما وبشماله.(3/243)
فإن قيل : كيف عظم الله تعالى جنتي أهل سبأ وجعلهما آية ورب قرية من قرى العراق يحتف بها من الجنات ما شئت ؟
أجيب : بأنه لم يرد بستانين اثنين فحسب ، وإنما أراد جماعتين من البساتين جماعة عن يمين بلدتهم ، وأخرى عن شمالها وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها ، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله كما قال تعالى {جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب} (الكهف : 32) فكانت
360
أخصب البلاد وأطيبها وأكثرها ثماراً حتى كانت المرأة تضع على رأسها مكتلاً فتطوف به بين الأشجار فيمتلئ المكتل من جميع أنواع الفواكه من غير أن تمس شيئاً بيدها مما يتساقط فيه من الثمر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 359
وقوله تعالى {كلوا من رزق ربكم} أي : المحسن إليكم الذي أخرج لكم منهما ما تشتهون {واشكروا له} أي : خصوه بالشكر بالعمل في كل ما يرضيه ليديم لكم النعمة حكاية لما قال لهم نبيهم ، أو لسان الحال أو دلالة بأنهم كانوا أحقاء بأن يقال لهم ذلك ، ثم استأنف تعظيم ذلك بقوله {بلدة طيبة} أي : حسنة التربة ليس بها سباخ ، حسنة الهواء سليمة من الهوام ليس فيها بعوضة ولا ذبابة ولا برغوث ولا عقرب ولا حية يمر الغريب بها وفي ثيابه القمل فيموت من طيب هوائها ، وأشار إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره بقوله تعالى : {ورب غفور} أي : لذنب من شكره وتقصيره فلا يعاقب عليه ولا يعاتب قال البقاعي : وأخبرني بعض أهل اليمن أنها اليوم مفازة قرب صنعاء قال : وفي بعضها عنب يعمل منه زبيب كبار جداً في مقدار دربلي بلاد الشام ، وهو في غاية الصفاء كأنه قطع المصطكي وليس له نوى أصلاً انتهى.
ولما تسبب عن هذا الإنعام بطرهم الموجب لإعراضهم عن الشكر دل على ذلك بقوله تعالى :
{فأعرضوا} أي : عن الشكر فكفروا قال وهب : أرسل الله تعالى إلى سبأ ثلاثة عشر نبياً فدعوهم إلى الله تعالى وذكروهم نعم الله تعالى عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم وقالوا : ما نعرف لله تعالى علينا من نعمة فقولوا لربكم : فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع.
جزء : 3 رقم الصفحة : 359
ولما تسبب عن إعراضهم مقتهم بينه بقوله تعالى : {فأرسلنا عليهم سيل العرم} جمع عرمة وهو ما يمسك الماء من بناء وغيره إلى وقت حاجته أي : سيل واديهم فأغرق جنتيهم وأموالهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما ووهب وغيرهما : كان ذلك السد بنته بلقيس وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم فأمرت بواديهم فسد بالعرم وهو المسناة بلغة حمير ، فسدت ما بين الجبلين وجعلت له أبواباً ثلاثة بعضها فوق بعض وبنت منه دونها بركة ضخمة ، وجعلت فيها اثني عشر مخرجاً على عدة أنهارهم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء ، وإذا استغنوا سدوها فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة فكانوا يسقون من الباب الأعلى ، ثم من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفد الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة ، فكانت تقسمه بينهم على ذلك فبقوا على ذلك بعدها مدة فلما طغوا وكفروا سلط الله تعالى عليهم جرذاً يسمى الخلد فنقب السد من أسفله فأغرق الماء جنتيهم وأموالهم ، وخرب أرضهم قال وهب : وكانوا فيما يزعمون ويجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة فلما جاء زمانه وما أراد الله تعالى بهم من التغريق أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد فنقبت وحفرت حتى أوهنته للسيل ، وهم لا يدرون ذلك فلما جاء السيل وجد خللاً فدخل فيه حتى اقتلع السد وفاض على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم الرمل فغرقوا ومزقوا كل مزق حتى صاروا مثلاً عند العرب يقولون : صار بنو فلان أيدي سبأ وتفرقوا أيادي سبأ أي : تفرقوا وتبددوا قيل : والأوس والخزرج منهم قال البقاعي : وكان ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ونبينا صلى الله عليه وسلم
361(3/244)
تنبيه : في العرم أقوال غير ما ذكر أحدها : أنه من باب إضافة الموصوف لصفته في الأصل إذ الأصل السيل العرم ، والعرم : الشديد ، وأصله من العرامة وهي الشراسة والصعوبة. الثاني : أنه من باب حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه تقديره : فأرسلنا عليهم سيل المطر العرم أي : الشديد الكثير. الثالث : أن العرم اسم للوادي الذي كان فيه الماء نفسه قال ابن الأعرابي : العرم السيل الذي لا يطاق وقيل : كان ماء أحمر أرسله الله تعالى عليهم من حيث شاء. الرابع : أنه اسم للجرذ وهو الفأر ، وقيل : هو الخلد وإنما أضيف إليه لأنه تسبب عنه كما مر {وبدلناهم بجنتيهم} أي : جعلنا لهم بدلهما {جنتين} هما في غاية ما يكون من مضادة جنتيهم ولذلك فسرهما بقوله تعالى إعلاماً بأن إطلاق الجنتين عليهما مشاكلة لفظية للتهكم بهم {ذواتي أكل خمط} أي : ثمر بشع ، والخمط الأراك وثمره يقال له : البرير هذا قول أكثر المفسرين وقال المبرد والزجاج : كل نبت قد أخذ طعماً من المرارة حتى لا يمكن أكله فهو خمط وقال ابن الأعرابي : الخمط ثمر شجر يقال له : فسوة الضبع على صورة الخشخاش لا ينتفع به ، وعن أبي عبيدة كل شجر ذي شوك ، وقرأ أبو عمرو أكل بغير تنوين ، والباقون بالتنوين وسكن الكاف نافع وابن كثير وضمها الباقون قال البغوي : فمن جعل الخمط اسماً للمأكول فالتنوين في أكل أحسن ، ومن جعله أصلاً وجعل الأكل ثمرة فالإضافة فيه ظاهرة والتنوين سائغ تقول العرب في بستان فلان : أعناب كرم وأعناب كرم فتصف الأعناب بالكرم لأنها منه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 359
وقوله تعالى {وأثل} أي : وذواتي أثل {وشيء من سدر قليل} معطوفان على أكل لا على خمط فإن الأثل هو الطرفاء ولا ثمر له وقيل : هو شجر يشبه الطرفاء أعظم منه وأجود عوداً وقيل : هو نوع من الطرفاء ولا يكون عليه ثمر إلا في بعض الأوقات يكون عليه شيء كالعفص أخضر في طعمه وطبعه ، والسدر : شجر معروف وهو شجر النبق وينتفع بورقه لغسل اليد ويغرس في البساتين ولم يكن هذا من ذاك بل كان سدراً برياً لا ينتفع به ولا يصلح ورقه لشيء ، ولهذا قال بعضهم : السدر سدران : سدر له ثمرة غضة لا تؤكل ولا ينتفع بورقه في الاغسال وهو الضال ، وسدر له ثمرة تؤكل وهي النبق ويغسل بورقه والمراد في الآية الأول ، وقال قتادة : كان شجرهم خير الشجر فغيره الله تعالى من شر الشجر بأعمالهم.
تنبيه : قد نبهت في شرح المنهاج على أن الباء في الإبدال والتبديل والتبدل والاستبدال هل تدخل على المتروك أو على المأخوذ عند قول المنهاج ولو أبدل ضاداً بظاء.
{ذلك} أي : الجزء العظيم بالتبديل {جزيناهم} بما لنا من العظمة {بما كفروا} أي : غطوا الدليل الواضح وهو ما جاء به الرسل ، إذ روي أنه بعث إليهم ثلاثة عشر نبياً فكذبوهم وقيل بكفرانهم النعمة {وهل يجازى} أي : مثل هذا الجزاء الذي هو على وجه العقاب {إلا الكفور} أي : إلا البليغ في الكفر ، وقال مجاهد : يجازى أي : يعاقب ويقال في العقوبة : يجازي ، وفي المثوبة : يجزي قال الفراء : المؤمن يجزى ولا يجازى أي : يجزي الثواب بعمله ولا يكافأ بسيئاته وقال بعضهم : المجازاة تقال في النقمة والجزاء في النعمة لكن قوله تعالى {ذلك جزيناهم} يدل على أن يجزي في النقمة أيضاً قال ابن عادل : ولعل من قال ذلك أخذه من أن المجازاة مفاعلة وهي في أكثر الأمر تكون ما بين اثنين يوجد من كل واحد جزاء في حق الآخر ، وفي النعمة لا تكون مجازاة لأن الله تعالى مبتدئ بالنعم ، وقيل : المؤمن تكفر سيئاته بحسناته ، والكافر يحبط
362
عمله فيجازى بجميع ما يفعله من السوء ، وليس لقائل أن يقول : لم قيل وهل يجازى إلا الكفور على اختصاص الكفر بالجزاء والجزاء عام للمؤمن والكافر ، لأنه لم يرد الجزاء العام إنما أراد الخاص ، وهو العقاب بل لا يجوز أن يراد العموم وليس بموضعه ، ألا ترى أنك لو قلت : جزيناهم بما كفروا وهل يجازى إلى الكافر والمؤمن لم يصح ولم يعد كلاماً فتبين أنما يتخيل من السؤال مضمحل ، وإن الصحيح الذي لا يجوز غيره ما جاء عليه كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالنون مضمومة وكسر الزاي الكفور بالنصب والباقون بالياء المضمومة ونصب الزاي الكفور بالرفع.
جزء : 3 رقم الصفحة : 359
ولما تم الخبر عن الجنان التي بها القوام نعمة ونقمة أتبعه مواضع السكان بقوله تعالى :
{وجعلنا} أي : بما لنا من العظمة {بينهم} أي : بين سبأ وهم بالمين {وبين القرى التي باركنا فيها} أي : بالتوسعة على أهلها بالماء والشجر ، وغيرهما وهي قرى الشام التي يسيرون إليها للتجارة {قرى ظاهرة} أي : متواصلة من اليمن إلى الشام {وقدرنا فيها السير} أي : بحيث يقيلون في واحدة ويبيتون في أخرى إلى انتهاء سفرهم ولا يحتاجون فيه إلى حمل زاد وماء من سبأ إلى الشام.(3/245)
وقيل : كانت قراهم أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام فلا يحملون شيئاً مما جرت به عوائد السفار فكان سيرهم في الغدو والرواح على قدر نصف يوم ، فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار ، وقال قتادة : كانت المرأة تخرج ومعها مغزلها وعلى رأسها مكتلها فتمتهن بغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من الثمار ، فكان ما بين اليمن والشام كذلك ، فهي حقيقة بأن يقال لأهلها والنازلين بها على سبيل الامتنان بلسان القال أو الحال {سيروا} ودل على تقاربها جداً قوله تعالى : {فيها} ودل على كثرتها وطول مسافتها وصلاحيتها للسير أيّ وقت أريد مقدماً لما هو أدل على الأمن وأعدل للسير في البلاد الحارة بقوله تعالى : {ليالي} وأشار إلى كثرة الظلال والرطوبة والاعتدال الذي يمكن معه السير في جميع النهار بقوله تعالى : {وأياماً} أي : في أيّ وقت شئتم وإلى عظيم أمانها في كل وقت بالنسبة إلى كل مسلم بقوله {آمنين} أي : لا تخافون في ليل أو نهار وإن طالت مدة سفركم فيها ، أو سيروا فيها ليالي أعماركم وأيامها لا تلقون فيها إلا الأمن فلا تخافون عدواً ولا جوعاً ولا عطشاً.
وقيل : تسيرون فيها إن شئتم ليالي ، وإن شئتم أياماً لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوفة فإن بعضها يسلك ليلاً لعدم علم العدو بسيرهم ، وبعضها يسلك نهاراً لئلا يقصدهم العدو إذا كان العدو غير مجاهر بالقصد والعداوة.
ولما انقضى الخبر عن هذه الأوصاف التي تستدعي غاية الشكر لما فيها من الألطاف دل على بطرهم للنعمة بها بأنهم جعلوها سبباً للضجر والملال بقوله تعالى :
{فقالوا} أي : على وجه الدعاء {ربنا باعد بين أسفارنا} أي : إلى الشام أي : اجعلها مفاوز ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل ، وتزوّد الأزواد والماء فبطروا النعمة وملوا العافية كبني إسرائيل لما طلبوا الثوم والبصل فأجابهم الله تعالى بتخريب القرى المتوسطة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بتشديد العين ولا ألف قبلها فعل طلب ، والباقون بألف قبل العين وتخفيف العين ، وقرئ بلفظ الخبر على أنه شكوى منهم لبعد سفرهم إفراطاً في الترفه وعدم الاعتداد بما أنعم الله عليهم فيه {وظلموا} حيث عدوا
363
النعمة نقمة والإحسان إساءة {أنفسهم} بالكفر {فجعلناهم} أي : بما لنا من العظمة {أحاديث} أي : عبرة لمن بعدهم يتحدث الناس بهم تعجباً وضرب مثل فيقولون : ذهبوا أيدي سبأ وتفرقوا أيادي سبأ قال كثير :
*
جزء : 3 رقم الصفحة : 359
أيادي سبا يا عزُّ ما كنت بعدكم ** فلم يحل للعينين بعدك منظر*
{ومزقناهم كل ممزق} أي : فرقناهم في كل جهة من البلاد كل التفريق قال الشعبي : لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد ، أما غسان فلحقوا بالشام ، ومرّ الأزد إلى عمان ، وخزاعة إلى تهامة ، ومرّ خزيمة إلى العراق ، والأوس والخزرج إلى يثرب ، وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر وهو جد الأوس والخزرج {إن في ذلك} أي : المذكور {لآيات} أي : عبراً ودلالات بينة جداً على قدرة الله تعالى على التصرف فيما بين أيديهم وما خلقهم من السماء والأرض بالإيجاد والإعدام للذوات والصفات والخسف والمسخ ، فإنه لا فرق بين خارق وخارق ، وعلى أن بطرهم لتلك النعمة حتى ملوها ودعوا بإزالتها ، دليلٌ على أن الإنسان ما دام حياً فهو في نعمة يجب عليه شكرها كائنة ما كانت وإن كان يراها بلية لأنه لما طبع عليه من القلق كثيراً ما يرى النعم نقماً ، واللذة ألماً ، ولذلك ختم الآية بالصبر بصيغة المبالغة بقوله تعالى : {لكل صبار} على طاعة الله وعن معصيته {شكور} لنعمه قال مقاتل : يعني المؤمن من هذه الأمة صبور على البلاء شكور على النعماء قال مطرف : هو المؤمن إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلى صبر ، وقرأ قوله تعالى : (3/246)
{ولقد صدّق عليهم إبليس} أي : الذي هو من البلس وهو ما لا خير عنده ، أو الإبلاس وهو اليأس من كل خير ليكون ذلك أبلغ في التبكيت والتوبيخ {ظنه} قرأه الكوفيون بتشديد الدال بعد الصاد أي : ظن فيهم ظناً حيث قال : {فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك} (ص : 82) ولا تجد أكثرهم شاكرين فصدق ظنه وحققه بفعله ذلك بهم واتباعهم إياه ، والباقون بالتخفيف أي : صدّق عليهم في ظنه بهم أي : على أهل سبأ كما قاله أكثر المفسرين حين رأى انهماكهم في الشهوات أو الناس كلهم كما قاله مجاهد أي : حين رأى أباهم آدم ضعيف العزم ، أو ما ركب فيهم من الشهوة والغضب أو سمع من الملائكة {أتجعل فيها من يفسد فيها} (البقرة : 30) فقال : لأضلنهم ولأغوينهم ، أو الكفار ومنهم سبأ كما قاله الجلال المحلي {فاتبعوه} أي : بغاية الجهد بميل الطبع وقوله {إلا فريقاً من المؤمنين} استثناء متصل على قول مجاهد ومنقطع على قول غيره ، وقال السدي عن ابن عباس رضي الله عنه : يعني المؤمنين كلهم لأن المؤمنين لم يتبعوه في أصل الدين وتقليلهم بالإضافة إلى الكفار ، أو إلا فريقاً من فرق المؤمنين لم يتبعوه في العصيان وهم المخلصون قال ابن قتيبة : إن إبليس لعنه الله تعالى لما سأل النظرة فأنظره الله تعالى وقال {لأغوينهم} (الحجر : 39)
جزء : 3 رقم الصفحة : 359
و{لأضلنهم} (النساء : 119)
لم يكن مستيقناً وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم ، وإنما قاله ظناً ، فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم.
ولما كان ذلك ربما أوهم أن لإبليس أمراً بنفسه نفاه بقوله تعالى :
{وما} أي : والحال أنه ما
364
{كان} أصلاً {له عليهم} أي : الذين اتبعوه ولا غيرهم ، وأغرق فيما هو الحق من النفي بقوله تعالى : {من سلطان} أي : تسلط قاهر بشيء من الأشياء بوجه من الوجوه ، لأنه مثلهم في كونه عبداً عاجزاً مقهوراً ذليلاً خائفاً مدحوراً قال القشيري : هو مسلط ولو أمكنه أن يضل غيره أمكنه أن يمسك على الهداية نفسه والمعنى : أن الأمر لله وحده {إلا} أي : لكن نحن سلطناه عليهم بسلطاننا ، وملكناه قيادهم بقهرنا ، وعبر عن التمييز الذي هو سبب العلم بالعلم فقال : {لنعلم} أي : بما لنا من العظمة {من يؤمن} أي : يوجد الإيمان لله {بالآخرة} أي : ليتعلق علمنا بذلك في عالم الشهادة في حال تمييزه تعلقاً تقوم به الحجة في مجاري عادات البشر كما كان متعلقاً به في عالم الغيب {ممن هو منها} أي : الآخرة {في شك} فهو لا يجدد لها إيماناً أصلاً لأن الشك ظرف له محيط به ، وإنما استعار إلا موضع لكن إشارة إلى أنه مكنه تمكيناً تاماً صار به كمن له سلطان حقيقي.
تنبيه : قال الرازي : إن علم الله تعالى من الأزل إلى الأبد محيط لكل معلوم ، وعلمه لا يتغير وهو في كونه عالماً لا يتغير ، ولكن يتغير تعلق علمه ، فإن العلم صفة كاشفة يظهر فيها كل ما في نفس الأمر فعلم الله تعالى في الأزل أن العالم سيوجد ، فإذا وجد علمه موجوداً بذلك العلم وإذا عدم علمه معدوماً ، كذلك المرآة المصقولة الصافية يظهر فيها صورة زيد إن قابلها ثم إذا قابلها عمر وتظهر فيها صورته ، والمرآة لم تتغير في ذاتها ولا تبدلت في صفاتها ، وإنما التغيير في الخارجيات ، وكذا هنا قوله {إلا لنعلم} أي : ليقع في العلم صدور الكفر من الكافر ، والإيمان من المؤمن ، وكان علم الله تعالى أنه سيكفر زيد ويؤمن عمرو وقال البغوي : المعنى إلا لنميز المؤمن من الكافر ، وأراد علم الوقوع والظهور وقد كان معلوماً عنده بالغيب وقوله تعالى {وربك} أي : المحسن إليك بإخزاء الشيطان بنبوتك واجتنابه عن أمتك {على كل شيء} من المكلفين وغيرهم {حفيظ} أي : حافظ أتم حفظ تحقيق ذلك إن الله تعالى قادر على منع إبليس عنهم عالم بما سيقع ، فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا العاجز.
جزء : 3 رقم الصفحة : 359
ولما بين تعالى حال الشاكرين وحال الكافرين وذكرهم بمن مضى ، عاد إلى خطابهم فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم(3/247)
{قل} أي : يا أعلم الخلق بإقامة الأدلة لهؤلاء الذين أشركوا من لا يشك في حقارته من له أدنى مسكة {ادعوا الذين زعمتم} أي : أنهم آلهة كما تدعون الله تعالى لا سيما في وقت الشدائد ، وحذف مفعولي زعم وهما ضميرهم وآلهة تنبيهاً على استهجان ذلك واستبشاعه وليس المذكور في الآية مفعول زعم ولا قائماً مقام المفعول لفساد المعنى ، وبين حقارتهم بقوله تعالى : {من دون الله} أي : الذي حاز جميع ، العظمة والمعنى : ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو دفع ضر لعلهم يستجيبون لكم إن صحت دعواكم ، ثم أجاب عنهم إشعاراً بتعين الجواب وأنه لا يقبل المكابرة فقال : {لا يملكون مثقال ذرة} من خير أو شر {في السموات ولا في الأرض} أي : في أمر ما ، وذكرهما للعموم العرفي ، أو لأن آلهتهم بعضها سماوية كالملائكة والكواكب ، وبعضها أرضية كالأصنام ، أو لأن الأسباب القريبة للخير والشر سماوية وأرضية ، والجملة استئناف لبيان حالهم.
ولما كان هذا ظاهراً في نفي الملك الخاص عن ثبوت المشاركة نفى المشاركة أيضاً بقوله تعالى : مؤكداً تكذيباً لهم فيما يدعونه {وما لهم} أي : الآلهة {فيهما} أي : في السموات والأرض ولا في غيرهما ، ولا في فيما فيهما ، وأغرق في النفي بقوله تعالى : {من شرك} أي :
365
شركة لا خلقاً ولا ملكاً {وماله} أي : الله {منهم} وأكد النفي بإثبات الجار فقال {من ظهير} أي : معين على شيء مما يريده من تدبير أمرهما وغيرهما فكيف يصح مع هذا لعجز أن يدعوا كما يدعي ، ويرجوا كما يرجي ويعبدوا كما يعبد.
ولما كان قد بقي من أقسام النفع الشفاعة وكان المقصود منها أثرها لا عينها نفاه بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 359
ولما بين تعالى حال الشاكرين وحال الكافرين وذكرهم بمن مضى ، عاد إلى خطابهم فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم
{قل} أي : يا أعلم الخلق بإقامة الأدلة لهؤلاء الذين أشركوا من لا يشك في حقارته من له أدنى مسكة {ادعوا الذين زعمتم} أي : أنهم آلهة كما تدعون الله تعالى لا سيما في وقت الشدائد ، وحذف مفعولي زعم وهما ضميرهم وآلهة تنبيهاً على استهجان ذلك واستبشاعه وليس المذكور في الآية مفعول زعم ولا قائماً مقام المفعول لفساد المعنى ، وبين حقارتهم بقوله تعالى : {من دون الله} أي : الذي حاز جميع ، العظمة والمعنى : ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو دفع ضر لعلهم يستجيبون لكم إن صحت دعواكم ، ثم أجاب عنهم إشعاراً بتعين الجواب وأنه لا يقبل المكابرة فقال : {لا يملكون مثقال ذرة} من خير أو شر {في السموات ولا في الأرض} أي : في أمر ما ، وذكرهما للعموم العرفي ، أو لأن آلهتهم بعضها سماوية كالملائكة والكواكب ، وبعضها أرضية كالأصنام ، أو لأن الأسباب القريبة للخير والشر سماوية وأرضية ، والجملة استئناف لبيان حالهم.
ولما كان هذا ظاهراً في نفي الملك الخاص عن ثبوت المشاركة نفى المشاركة أيضاً بقوله تعالى : مؤكداً تكذيباً لهم فيما يدعونه {وما لهم} أي : الآلهة {فيهما} أي : في السموات والأرض ولا في غيرهما ، ولا في فيما فيهما ، وأغرق في النفي بقوله تعالى : {من شرك} أي :
365
شركة لا خلقاً ولا ملكاً {وماله} أي : الله {منهم} وأكد النفي بإثبات الجار فقال {من ظهير} أي : معين على شيء مما يريده من تدبير أمرهما وغيرهما فكيف يصح مع هذا لعجز أن يدعوا كما يدعي ، ويرجوا كما يرجي ويعبدوا كما يعبد.
ولما كان قد بقي من أقسام النفع الشفاعة وكان المقصود منها أثرها لا عينها نفاه بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 359
{ولا تنفع الشفاعة عنده} أي : فلا تنفعهم شفاعة كما يزعمون إذ لا تنفع الشفاعة عند الله {إلا لمن أذن له} أي : وقع منه إذن له على لسان من شاء من جنوده بواسطة واحدة ، أو أكثر في أن يشفع في غيره وفي أن يشفع فيه غيره ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بضم الهمزة والباقون بفتحها وقوله تعالى : {حتى إذا فزع عن قلوبهم} غاية لمفهوم الكلام من أن ثم انتظاراً للإذن وتوقعاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين للشفاعة والشفعاء هل يؤذن لهم أو لا يؤذن ، وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملئ من الزمان وطول من التربص ، ومثل هذه الحال دل عليها قوله عز من قائل {رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً} (النبأ : 37 ـ 38)
جزء : 3 رقم الصفحة : 366(3/248)
كأنه قيل : يتوقعون ويتربصون ملياً فزعين ذاهلين حتى إذا فزع عن قلوبهم أي : كشف الفزع عن قلوبهم أي : كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن {قالوا} أي : قال بعضهم لبعض {ماذا قال ربكم} أي : في الشفاعة ذاكرين صفة الإحسان ليرجع إليهم رجاؤهم فتسكن بذلك قلوبهم {قالوا} قال : القول {الحق} أي : الثابت الذي لا يمكن أن يبدل ، بل يطابق الواقع فلا يكون شيء يخالفه وهو الإذن في الشفاعة لمن ارتضى منهم وهم المؤمنون {وهو العلي الكبير} أي : ذو العلو فلا رتبة إلا دون رتبته والكبرياء ، فليس لملك ولا نبي أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه ، روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا قضى الله الأمر في السماء صفقت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : {ماذا قال ربكم} قالوا الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه فيسمع الكلمة ويلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي من السماء" وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أراد الله أن يوحي بالأمر وتكلم بالوحي أخذت السماء رجفة ، أو قال : رعدة شديدة خوفاً من الله تعالى فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجداً ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام فيكلمه الله تعالى من وحيه بما أراد ، ثم يمر جبريل عليه السلام على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل : فيقول جبريل عليه السلام {قال الحق وهو العلي الكبير} فيقولون كلهم مثل ما يقول جبريل عليه السلام ، فينتهي جبريل عليه السلام بالوحي حيث أمره الله تعالى" وقال
366
مقاتل والكلبي والسدي : كانت الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام خمسمائة وخمسين سنة وقيل : ستمائة سنة لم تسمع الملائكة فيها وحياً ، فلما بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم كلم جبريل عليه السلام بالرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة لأن محمداً صلى الله عليه وسلم عند أهل السموات من أشراط الساعة ، فصعقوا مما سمعوا خوفاً من قيام الساعة ، فلما انحدر جبريل عليه السلام جعل يمر بكل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض {ماذا قال ربكم قالوا الحق} يعني الوحي {وهو العلي الكبير} وقال الحسن وابن زيد : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت إقامة للحجة عليهم قالت لهم الملائكة عليهم السلام : ماذا قال ربكم في الدعاء قالوا : الحق فأقروا به حيث لم ينفعهم الإقرار.
جزء : 3 رقم الصفحة : 366
ولما سلب تعالى عن شركائهم أن يملكوا شيئاً من الأكوان ، وأثبت جميع الملك له وحده ، وأمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقررهم بما يلزم منه ذلك بقوله تعالى :
{قل من يرزقكم من السموات} أي : بالمطر {والأرض} أي : بالنبات ، وأفرد الأرض لأنهم لا يعلمون غيرها ، ثم أمره تعالى أن يتولى الإجابة بقوله تعالى : {قل الله} أي : إن لم يقولوا رازقنا الله تعالى فقل أنت : إن رازقكم الله وذلك للإشعار بأنهم يقرون به بقلوبهم إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به ، لأن الذي تمكن من صدورهم من العناد وحب الشرك قد ألجم أفواههم عن النطق بالحق مع علمهم بصحته ؛ ولأنهم إن تفوهوا بأن الله تعالى رازقهم لزمهم أن يقال لهم : فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق ، ألا ترى إلى قوله تعالى {قل من يرزقكم من السماء والأرض} (يونس : 31)
{أم من يملك السمع والأبصار} (يونس : 31)
حتى قال : {فسيقولون الله} (يونس : 31)
ثم قال تعالى : {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (يونس : 32)
فكأنهم كانوا يقرون بألسنتهم مرة ، ومرة يتلعثمون عناداً وفراراً وحذراً من إلزام الحجة ونحوه قوله عز وجل {قل من رب السموات والأرض قل الله أفتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً} (الرعد : 16)(3/249)
وأمر بأن يقول لهم بعد لاإلزام والإلجام الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه {وإنا أو إياكم} أي : أحد الفريقين من الذين يوحدون الرازق من السموات والأرض بالعبادة ، ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة {لعلى هدى} أي : في متابعة ما ينبغي أن يعمل مستعلين عليه {أو في ضلال} عن الحق {مبين} أي : بين في نفسه داع لكل أحد إلى معرفة أنه ضلال ، وهذا ليس على طريق الشك لأنه صلى الله عليه وسلم لم يشك أنه على هدى ويقين ، وأن الكفار على ضلال مبين وإنما هذا الكلام جار على ما تخاطب به العرب من استعمال الإنصاف في محاوراتهم على سبيل الفرض والتقدير ، ويسميه أهل البيان الاستدراج ، وهو أن يذكر لمخاطبه أمراً يسلمه وإن كان بخلاف ما يذكر حتى يصغي إلى ما يلقيه إليه إذ لو بدأه بما يكره لم يصغ ونظيره قولهم : أخزى الله الكاذب مني ومنك ، ومثله قول حسان رضي الله تعالى عنه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا سفيان :
*أتهجوه ولست له بكفء ** فشر كما لخيركما الفداء*
367
*فإن أبي ووالدتي وعرضي ** لعرض محمد منكم وقاء*
جزء : 3 رقم الصفحة : 366
مع العلم لكل أحد أنه صلى الله عليه وسلم خير خلق الله كلهم.
تنبيه : ذكر تعالى في الهدى كلمة على ، وفي الضلال كلمة في ، لأن المهتدي كأنه مرتفع مطلع فذكر بكلمة التعالي فكأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء ، والضال منغمس في الظلمة غريق فيها فأتى بكلمة في فكأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يدري أين يتوجه قال البغوي : وقال بعضهم : أو بمعنى الواو والألف فيه صلة كأنه يقول : وإنا وإياكم لعلى هدى وفي ضلال مبين يعني : نحن على الهدى وأنتم في الضلال.
{قل} أي : لهم {لا تسألون} أي : من سائل ما {عما أجرمنا} أي : لا تؤاخذون به {ولا نسأل} أي : في وقت من الأوقات من سائل ما {عما تعملون} أي : من الكفر والتكذيب وهذا أدخل في الإنصاف وأبلغ في التواضع حيث أسندوا الإجرام إلى أنفسهم والعمل إلى المخاطبين ، وقيل : المراد بالإجرام الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن ، وبالعمل الكفر والمعاصي العظام.
{قل} أي : لهم {يجمع بيننا ربنا} أي : يوم القيامة {ثم يفتح} أي : يحكم {بيننا بالحق} أي : الأمر الثابت الذي لا يقدر أحد منا ولا منكم على التخلف عنه وهو العدل والفضل من غير ظلم ولا ميل ، فيدخل المحقين الجنة والمبطلين النار {وهو الفتاح} أي : الحاكم الفاصل في القضايا المغلقة البليغ الفتح لما انغلق فلا يقدر أحد على فتحه {العليم} أي : البليغ العلم بكل دقيق وجليل فلا تخفى عليه خافية.
{قل} أي : لهم {أروني} أي : أعلموني {الذين ألحقتم به} أي : بالله {شركاء} أي : في العبادة هل يخلقون وهل يرزقون وقوله تعالى : {كلا} أي : لا يخلقون ولا يرزقون ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسره بإبطال المقايسة كما قال إبراهيم عليه السلام {أف لكم ولما تعبدون من دون الله} (الأنبياء : 67)
بعدما حجهم وقد نبه على تفاحش غلطهم بقوله تعالى : {بل هو الله العزيز} أي : الغالب على أمره الذي لا مثل له وكل شيء يحتاج إليه {الحكيم} أي : المحكم لكل ما يفعله فلا يستطيع أحد نقض شيء منه فكيف يكون له شريك ، وأنتم ترون ما ترون له من هاتين الصفتين المنافيتين لذلك.
تنبيه : في هذا الضمير وهو "هو" قولان : أحدهما : أنه عائد إلى الله تعالى أي : ذلك الذي ألحقتم به شركاء هو الله والعزيز الحكيم صفتان. والثاني : أنه ضمير الأمر والشأن والله مبتدأ ، والعزيز الحكيم خبر إن والجملة خبر هو.
فإن قيل : ما معنى قوله {أروني} وكان يراهم ويعرفهم أجيب : بأنه أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله تعالى وأن يقاس على أعينهم فيه وبين أصنامهم ليطلعهم على إحالة القياس إليه والإشراك به.
جزء : 3 رقم الصفحة : 366
ولما بين تعالى مسألة التوحيد شرع في الرسالة بقوله سبحانه وتعالى :
{وما أرسلناك} أي : بعظمتنا {إلا كافة للناس} أي : إرسالاً عاماً شاملاً لكل ما شمله إيجادنا فكأنه حال من الناس قدم للاهتمام ، وقول البيضاوي : ولا يجوز جعلها حالاً من الناس أي : لأن تقديم حال المجرور عليه
368
كتقديم المجرور على الجار رده أبو حيان بقوله : هذا ما ذهب إليه الجمهور وذهب أبو علي وابن كيسان وابن برهان وابن ملكون إلى جوازه وهو الصحيح انتهى. وهذا هو الذي ينبغي اعتماده ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" ومن أمثلة أبي علي : زيد خير ما يكون خير منك والتقدير : زيد خير منك خير ما يكون وأنشد :
*إذا المرء أعيته المطالب ناشئاً ** فمطلبها كهلاً عليه شديد*
أي : فمطلبها عليه كهلاً وأنشد أيضاً :
*تسليت طراً عنكم بعد بينكم ** بذكراكم حتى كأنكم عندي*(3/250)
أي : عنكم طراً ، وقيل : أنه حال من كاف أرسلناك والمعنى : إلا جامعاً للناس في الإبلاغ والكافة بمعنى الجامع ، والهاء فيه للمبالغة كهي في علامة ورواية قاله الزجاج.
وقيل : إن كافة صفة لمصدر محذوف تقديره : إلا إرسالة كافة قال الزمخشري : إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم ؛ لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم قال أبو حيان : أما كافة بمعنى عامة فالمنقول عن النحويين أنها لا تكون إلا حالاً ولم يتصرف فيها بغير ذلك فجعلها صفة لمصدر محذوف خروج عما نقلوا ، ولا يحفظ أيضاً استعمالها صفة لموصوف محذوف قال البقاعي : وأما الجن فحالهم مشهور أي : أنه أرسل إليهم ، وأما الملائكة فالدلائل على الإرسال إليهم في غاية الظهور انتهى.
وهذا هو اللائق بعموم رسالته وإن خالف في ذلك الجلال المحلي في "شرحه على جمع الجوامع" ، وفي عموم رسالته صلى الله عليه وسلم فضيلة على جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلئن كان داود عليه السلام فضل بطاعة الجبال له والطير وإلانة الحديد وسليمان عليه السلام بما ذكر له ، فقد فضل محمد صلى الله عليه وسلم نبينا بإرساله إلى الناس كافة ، والحصا سبح في كفه ، والجبال أمرت بالسير معه ذهباً وفضة ، والحمرة شكت إليه أخذ فراخها أو بيضها ، والضب شهد له بالرسالة والجمل شكا إليه وسجد له ، والأشجار أطاعته والأحجار سلمت عليه وائتمرت بأمره وغير ذلك مما لا يدخل تحت الحصر ، وإنما ذكرت ذلك تبركاً بذكره صلى الله عليه وسلم وأنا أسأل الله تعالى أن يشفع في وفي والدي وجميع أحبابي وبقية المسلمين أجمعين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 366
ولما كانت البشارة هي الخبر الأول الصدق السار وكان في ذكرها رد لقولهم في الكذب والجنون قال تعالى {بشيراً} أي : مبشراً للمؤمنين بالجنة {ونذيراً} أي : منذراً للكافرين بالعذاب {ولكن أكثر الناس} أي : كفار مكة {لا يعلمون} فيحملهم جهلهم على مخالفتك.
369
ولما سلب عنهم العلم اتبعه دليله كقوله تعالى معبراً بصيغة المضارع الدال على ملازمة التكرير للإعلام بأنه على سبيل الاستهزاء لا الاسترشاد.
{ويقولون} من فرط جهلهم بعاقبة ما يوعدونه {متى هذا الوعد} أي : البشارة والنذارة في يوم الجمع وغيره فسموه وعداً زيادة في الاستهزاء.
ولما كان قول الجماعة أجدر بالقبول وأبعد عن الرد من قول الواحد أشار إلى زيادة جهلهم بقوله تعالى : {إن كنتم} أي : أيها النبي وأتباعه {صادقين} أي : متمكنين في الصدق.
{قل لكم} أي : أيها الجاحدون الأجلاف الذين لا يجوزون الممكنات أو لا يتدبرون ما أوضحها من الدلالات {ميعاد يوم} أي : لا يحتمل القول وصف عظمه لما يأتي فيه لكم من العقاب سواء كان يوم الموت كما قاله الضحاك أو البعث كما قاله أكثر المفسرين {لا تستأخرون} أي : لا يوجب تأخركم {عنه ساعة} لأن الآتي به عظيم القدرة محيط العلم ولذلك قال : {ولا تستقدمون} أي : لا يوجد تقدمكم لحظة فما دونها ولا تتمكنون من طلب ذلك.
فإن قيل : كيف انطبق هذا جواباً عن سؤالهم ؟
أجيب : بأنهم ما سألوا عن ذلك وهم منكرون له إلا تعنتاً لا استرشاداً فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقاً لمجيء السؤال على سبيل الإنكار والتعنت ، وأنهم مرصدون بيوم يفاجئهم فلا يستطيعون تأخراً عنه ولا تقدماً عليه.
{وقال الذين كفروا} مؤكدين قطعاً للأطماع عن دعائهم {لن نؤمن} أي : نصدق أبداً وصرحوا بالمنزل عليه صلى الله عليه وسلم بالإشارة فقالوا : {بهذا القرآن} أي : وإن جمع جميع الحكم والمقاصد المتضمنة لبقية الكتب {ولا بالذي بين يديه} أي : قبله من الكتب التوراة والإنجيل وغيرهما بل نحن قانعون بما وجدنا عليه آباءنا ، وذلك لما روي أن كفار مكة سألوا بعض أهل الكتاب فأخبروهم أن صفة هذا النبي عندهم في كتبهم فأغضبهم ذلك وقرنوا إلى القرآن جميع ما تقدمه من كتب الله في الكفر بها فكفروا بها جميعاً.
وقيل : الذي بين يديه يوم القيامة ، والمعنى أنهم جحدوا أن يكون القرآن من الله ، وأن يكون ما دل عليه من الإعادة للجزاء حقيقة.
ثم أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أو للمخاطب : {ولو} أي : والحال أنك لو {ترى} أي : يوجد منك رؤية لحالهم {إذا الظالمون} أي : الذين يضعون الأشياء في غير محالها فيصدقون آباءهم لإحسان يسير مكدر من غير دليل ، ولا يصدقون ربهم الذي لا نعمة عندهم ولا عند آبائهم إلا منه {موقوفون} أي : بعد البعث بأيدي جنوده أو غيرها بأيسر أمر منه {عند ربهم} أي : في موضع المحاسبة {يرجع بعضهم} أي : على وجه الخصام عداوة كان سببها مواددة في الدنيا بطاعة بعضهم لبعض في معاصي الله تعالى {إلى بعض القول} أي : بالملامة والمباكتة والمخاصمة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 366(3/251)
تنبيه : مفعول ترى وجواب لو محذوفان للفهم أي : لو ترى حال الظالمين وقت وقوفهم راجعاً بعضهم إلى بعض القول لرأيت حالاً فظيعة وأمراً منكراً ويرجع حال من ضمير موقوفون ، والقول مفعول يرجع ، لأنه يتعدى قال تعالى : {فإن رجعك الله} (التوبة : 83)
وقوله تعالى {يقول الذين استضعفوا} أي : وقع استضعافهم ممن هو فوقهم في الدنيا وهم الأتباع في تلك الحال على سبيل اللوم {للذين استكبروا} أي : أوجدوا الكبر وطلبوه بما وجدوا من أسبابه التي أدت إلى
370
استضعافهم للأولين وهم الرؤوس المتبوعون {لولا أنتم} أي : لولا ضلالكم وصدكم إيانا عن الإيمان {لكنا مؤمنين} أي : باتباع الرسول تفسير لقوله تعالى : {يرجع} فلا محل له قال ابن عادل : وأنتم بعد لولا مبتدأ على أصح المذاهب وهذا هو الأفصح أعني وقوع ضمائر الرفع بعد لولا أي : وغيره فصيح خلافاً للمبرد حيث جعل خلاف هذا لحناً ، وأنه لم يرد إلا في قول زياد : وكم موطن لولاي وإلا قيس جعل الياء ضمير نصب أو جر قام مقام ضمير الرفع وسيبويه جعله ضمير جر.
ولما لم يتضمن كلامهم سوى قضية واحدة ذكر الجواب عنها بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 366
{قال الذين استكبروا} على طريق الاستئناف {للذين استضعفوا} رداً عليهم وإنكاراً لقولهم إنهم هم الذين صدوهم {أنحن} خاصة {صددناكم} أي : منعناكم {عن الهدى بعد إذ جاءكم} أي : على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام لم نفعل ذلك ؛ لأن المانع ينبغي أن يكون أرجح من المقتضى حتى يعمل عمله ، والذي جاء به الرسل هو الهدى والذي صدر من المستكبرين لم يكن شيئاً يوجب الامتناع من قبول ما جاؤوا به فلم يصح تعلقكم بالمانع ، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الذال عند الجيم ، والباقون بالإدغام وأمال الألف بعد الجيم حمزة وابن ذكوان وفتحها الباقون ، وكذا الإظهار والإدغام في {إذ تأمروننا} (سبأ : 23)
وإذا وقف حمزة على {جاءكم} سهل الهمزة مع المد والقصر ، وله أيضاً إبدالها ألفاً مع المد والقصر {بل كنتم} أي : جبلة وخلقاً {مجرمين} أي : كافرين لاختياركم لأقوالنا وتسويلنا.
جزء : 3 رقم الصفحة : 371
فإن قيل : إذ وإذا من الظروف الملازمة للظرفية فلم وقعت إذ مضافاً إليها ؟
أجيب : بأنه قد اتسع في الزمان ما لم يتسع في غيره فأضيف إليها الزمان كما أضيف إلى الجمل في قولك : جئتك بعد إذ جاء زيد وحينئذٍ ويومئذٍ.
ولما أنكر المستكبرون بقولهم : {أنحن صددناكم} أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين واثبتوا بقولهم {بل كنتم مجرمين} أن ذلك بكسبهم واختيارهم كر عليهم المستضعفون كما قال تعالى :
{وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا} رداً لإنكارهم صدهم {بل} أي : الصاد لنا {مكر الليل والنهار} أي : الواقع فيهما من مكركم فأبطلوا إضرابهم بإضرابهم كأنهم قالوا : ما كان الإجرام من جهتنا بل من جهة مكركم بنا ليلاً ونهاراً {إذ تأمروننا أن
371
نكفر بالله} أي : الملك الأعظم بالاستمرار على ما كنا عليه قبل إتيان الرسل {ونجعل له أنداداً} أي : شركاء نعبدهم من دونه ، فإن قيل : لم قيل {قال الذين استكبروا} بغير عطف وقيل {وقال الذي استضعفوا} أجيب : بأن الذين استضعفوا مر أولاً كلامهم ، فجيء بالجواب محذوف العاطف على طريق الاستئناف ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين فعطف على كلامهم الأول.
تنبيه : يجوز رفع مكر من ثلاثة أوجه :
أحدها : الفاعلية تقديره بل صدنا مكركم في هذين الوقتين كما مر.
الثاني : أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي : مكر الليل صدنا.
الثالث : العكس أي : سبب كفرنا مكركم وإضافة المكر إلى الليل والنهار إما على الإسناد المجازي كقولهم ليل ماكر والعرب تضيف الفعل إلى الليل والنهار على توسع الكلام كقول الشاعر :
* ** ونمت وما ليل المطي بنائم*
فيكون مصدراً مضافاً لمرفوعه ، وأما على الاتساع في الظرف فجعل كالمفعول به فيكون مصدراً مضافاً لمفعوله قال ابن عادل : وهذا أحسن من قول من قال : إن الإضافة بمعنى في أي : مكر في الليل لأن ذلك لم يثبت في محل النزاع وقيل مكر الليل والنهار طول السلامة وطول الأمل فيهما كقوله تعالى {فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم} (الحديد : 16)
تنبيه : قوله تعالى أولاً يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول {الذين استضعفوا} بلفظ المستقبل ، وقوله تعالى في الآيتين الأخيرتين {وقال الذين استكبروا} {وقال الذين استضعفوا} بلفظ الماضي مع أن السؤال والمراجعة في القول لم يقع ، أشار به إلى أن ذلك لا بد من وقوعه فإن الأمر الواجب الوقوع كأنه وقع كقوله تعالى : {إنك ميت وإنهم ميتون} (الزمر : 30)
جزء : 3 رقم الصفحة : 371
وأما الاستقبال فعلى الأصل {وأسروا} أي : الفريقان {الندامة} من المستكبرين والمستضعفين وهم الظالمون في قوله تعالى {إذا الظالمون موقوفون} (سبأ : 31)(3/252)
يندم المستكبرون على ضلالهم وإضلالهم والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم المضلين {لما} أي : حين {رأوا العذاب} أي : حين رؤية العذاب أخفاها كل عن رفيقه مخافة التعبير.
وقيل : معنى الإسرار والإظهار وهو من الأضداد أي : أظهروا الندامة قال ابن عادل : ويحتمل أن يقال : إنهم لما تراجعوا في القول رجعوا إلى الله تعالى بقولهم {أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً} (السجدة : 12)
وأجيبوا : بأن لامرد لكم فأسروا ذلك القول وقوله تعالى {وجعلنا الأغلال} أي : الجوامع التي تغل اليد إلى العنق {في أعناق الذين كفروا} يعم الأتباع والمتبوعين جميعاً ، وكان الأصل في أعناقهم ولكن جاء بالظاهر تنويهاً بذمهم وللدلالة على ما استحقوا به
372
الأغلال وهذه إشارة إلى كيفية عذابهم {هل يجزون} أي : بهذه الأغلال {إلا ما} أي : إلا جزاء ما {كانوا يعملون} أي : على سبيل التجديد والاستمرار.
ولما كان في هذا تسلية أخروية للنبي صلى الله عليه وسلم أتبعه التسلية الدنيوية بقوله تعالى :
{وما أرسلنا} أي : بعظمتنا {في قرية} وأكد النفي بقوله تعالى : {من نذير إلا قال مترفوها} رؤساؤها الذين لا شغل لهم إلا التنعم بالفاني حتى أكسبهم البغي والطغيان ولذلك قالوا لرسلهم : {إنا بما أرسلتم به} أي : أيها المنذرون {كافرون} أي : وإذا قال المتنعمون ذلك تبعهم المستضعفون.
{وقالوا} أي : المترفون أيضاً متفاخرين {نحن أكثر أموالاً وأولاداً} أي : في هذه الدنيا ولو لم يرض منا ما نحن عليه ما رزقنا ذلك ، فاعتقدوا أنهم لو لم يكرموا على الله لما رزقهم ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم فعلى قياسهم ذلك قالوا : {وما نحن بمعذبين} أي : إن الله تعالى قد أحسن إلينا في الدنيا بالمال والولد فلا يعذبنا في الآخرة ، ثم إن الله سبحانه وتعالى بين خطاهم بقوله تعالى : لنبيه صلى الله عليه وسلم
{قل} أي : لهم {إن ربي} أي : المحسن إلي بالإنعام بالسعادة الباقية {يبسط الرزق} أي : يوسعه في كل وقت أراده بالأموال والأولاد وغيرها {لمن يشاء} امتحاناً {ويقدر} أي : يضيقه على من يشاء ابتلاء بدليل مقابلته بيبسط وهذا هو الطباق البديعي ، فالرزق في الدنيا لا تدل سعته على رضا الله تعالى ولا ضيقه على سخطه فربما وسع على العاصي وضيق على المطيع ، ، وربما عكس وربما وسع عليهما وضيق عليهما ، وكم من موسر شقي وكم من معسر تقي {ولكن أكثر الناس} أي : كفار مكة {لا يعلمون} أي : ليس لهم علم فيتدبروا به ما ذكرنا من الأمر فيعلمون أنه ليس كل موسع عليه في دنياه سعيداً في عقباه ولا كل مضيق عليه في دنياه شقياً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 371
ثم بين تعالى فساد استدلالهم بقوله سبحانه وتعالى :
{وما أموالكم} أي : أيها الخلق الذي أنتم من جملتهم وإن كثرت ، وكرر النافي تصريحاً بإبطال كل على حياله فقال {ولا أولادكم} كذلك {بالتي} أي : بالأموال والأولاد التي {تقر بكم عندنا} أي : على مالنا من العظمة {زلفى} أي : درجة علية وقربة مكينة.
تنبيه : قوله تعالى : {بالتي تقربكم} (سبأ : 37)
صفة للأموال والأولاد كما تقرر لأن جمع التكسير غير العاقل يعامل معاملة المؤنثة الواحدة وقال الفراء والزجاج أنه : حذف من الأول لدلالة الثاني عليه قالا : والتقدير : وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ولا أولادكم بالتي تقر بكم ولا حاجة إلى هذا ، ونقل عن الفراء ما تقدم من أن التي صفة للأموال والأولاد معاً وهو الصحيح ، وجعل الزمخشري "التي" صفة لموصوف محذوف قال : ويجوز أن تكون التي هي التقوى وهي المقربة عند الله تعالى زلفى وحدها أي : ليست أموالكم ولا أولادكم بتلك الموصوفة عند الله بالتقريب قال أبو حيان : ولا حاجة إلى هذا الموصوف انتهى. وزلفى : مصدر من معنى الأول إذ التقدير : تقربكم قربى وقال الأخفش : زلفى اسم مصدر كأنه قال : بالتي تقربكم عندنا تقريباً وأمالها حمزة والكسائي محضة وأبو عمرو بين بين وورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح وقوله تعالى : {إلا من آمن وعمل صالحاً} أي : تصديقاً لإيمانه على ذلك الأساس استثناء من مفعول تقربكم أي : الأموال والأولاد لا تقرب أحد إلا المؤمن الصالح الذي ينفق ماله في سبيل الله ويعلم ولده الخير ويربيه على الصلاح ، أو من أموالكم وأولادكم على حذف المضاف إلى إلا أموال وأولاد من آمن وعمل
373(3/253)
صالحاً {فأولئك} أي : العالو الرتبة {لهم جزاء الضعف} أي : أن يأخذوا جزاءهم مضاعفاً في نفسه من عشرة أمثاله إلى ما لا نهاية له {بما عملوا} فإن أعمالهم ثابتة محفوظة بأساس الإيمان ، ثم زاد وقال تعالى {وهم في الغرفات} أي : العلالي المبنية فوق البيوت في الجنات زيادة على ذلك {آمنون} أي : ثابت أمانهم دائماً لا خوف عليهم من شيء من الأشياء أصلاً ، وأما غيرهم وهم المرادون بما بعده فأموالهم وأولادهم وبال عليهم ، وقرأ حمزة بسكون الراء ولا ألف بعد الفاء على التوحيد على إرادة الجنس ولعدم اللبس لأنه معلوم أن لكل أحد غرفة تخصه ، وقد أجمع على التوحيد في قوله تعالى : {يجزون الغرفة} (الفرقان : 75)
ولأن لفظ الواحد أخف فوضع موضع الجمع مع أمن اللبس ، والباقون بضم الراء وألف بعد الفاء على الجمع جمع سلامة ، وقد أجمع على الجمع في قوله تعالى {لنبوأنهم من الجنة غرفاً} (العنكبوت : 58)
جزء : 3 رقم الصفحة : 371
ثم بين حال المسيء وهو من يبعده ماله وولده من الله تعالى بقوله سبحانه وتعالى :
{والذين يسعون} أي : يجددون السعي من غير توبة بأموالهم وأولادهم {في} إبطال {آياتنا} أي : حجتنا على ما لها من عظمة الانتساب إلينا {معجزين} أي : طالبين تعجيزها أي : تعجيز الآتين بها عن إنفاذ مرادهم بها بما يلقون من الشبه فيضلون غيرهم بما أوسعنا عليهم وأعززناهم به من الأموال والأولاد {أولئك} أي : هؤلاء البعداء البغضاء {في العذاب} أي : المزيل للعذوبة {محضرون} أي : يحضرهم فيه الموكلون بهم من جندنا على أهون وجه وأسهله.
{قل} أي : يا أشرف الخلق لجميع الخلق ومنهم هؤلاء {إن ربي} أي : المحسن إلي بهذا البيان وغيره {يبسط الرزق} أي : يوسعه {لمن يشاء} متى شاء {من عباده} امتحاناً {ويقدر} أي : يضيقه {له} بعد البسط ابتلاء قال البيضاوي : فهذا في شخص واحد باعتبار وقتين ، وما سبق في شخصين فلا تكرار.
ولما بين بهذا البسط أن فعله بالاختيار بعد أن بين بالأول كذبهم في أنه سبب السلامة من النار دل على أنه الفاعل لا غيره بقوله تعالى : {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} أي : فهو يعوضه لا معوض سواه إما عاجلاً بالمال ، أو بالقناعة التي هي كنز لا ينفد ، وإما آجلاً بالثواب الذي كل خلف دونه ، وعن سعيد بن جبير ما كان في غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه ، وعن الكلبي ما تصدقتم من صدقة أو أنفقتم في خير من نفقة فهو يخلفه على المنفق ، إما أن يعجل له في الدنيا ، وإما أن يدخر له في الآخرة ، وعن مجاهد من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد ، فإن الرزق مقسوم ، ولعل ما قسم له قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه فينفق جميع ما في يده ثم يبقى طول عمره في فقر ولا يتأول {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} (سبأ : 39)
جزء : 3 رقم الصفحة : 371
فإن هذا في الآخرة ومعنى الآية : وما كان من خلف فهو منه فدل ذلك على أنه مختص بالإخلاف لأنه ضمن الإخلاف لكل ما ينفق على أي وجه كان ، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "قال الله تبارك وتعالى أنفق ينفق عليك" ولمسلم : "يا ابن آدم أنفق أنفق عليك" وعن أبي هريرة أيضاً : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان يقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر :
374
اللهم أعط ممسكاً تلفاً" وعنه أيضاً : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما نقصت أحد صدقة من مال وما زاد الله رجلاً بعفو إلا عزاً ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل" وعن عبد الحميد بن الحسن الهلالي قال : أنبأنا محمد بن المكندر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل معروف صدقة" "وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة" "وما وقى الرجل به عرضه كتب له بها صدقة" قلت : ما معنى وقى به عرضه قال : ما أعطى الشاعر وذا اللسان المتقي ، وما أنفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفها ضامناً إلا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية الله عز وجل قوله : قلت ما معنى مقول عبد الحميد لمحمد بن المكندر {وهو خير الرازقين} فإن قيل : قوله تعالى خير الرازقين ينبئ عن كثرة الرازقين ولا رازق إلا الله تعالى أجيب : بأن الله تعالى هو خير الرازقين الذين يغذونهم هذا الغذاء ممن يقيمهم الله تعالى فيضيفون الرزق إليهم ، لأن كل من يرزق غيره من سلطان يرزق جنده ، أو سيد يرزق عبده ، أو رجل يرزق عياله فهو واسطة لا يقدر إلا على ما قدره الله ، وأما هو سبحانه فهو يوجد المعدوم ويرزق من يطيعه ومن يعصيه ولا يضيق رزقه بأحد ولا يشغله فيه أحد عن أحد وعن بعضهم الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي فيجد فكم من مشته لا يجد وواجد لا يشتهي ، وقرأ أبو عمر وقالون والكسائي فهو يخلفه بسكون الهاء والباقون بالضم.(3/254)
ولما بين تعالى أن حال النبي صلى الله عليه وسلم كحال من تقدمه من الأنبياء وحال قومه كحال من تقدم من الكفار وبين بطلان استدلالهم بكثرة أموالهم وأولادهم ، بين ما يكون عاقبة حالهم بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 371
375
{ويوم يحشرهم} أي : نجمعهم جمعاً بكره بعد البعث وعم التابع والمتبوع بقوله تعالى : {جميعاً} فلم نغادر منهم أحداً ، وقرأ حفص يحشرهم ثم يقول بالياء والباقون بالنون.
ولما كانت مواقف الحشر طويلة وزلازله مهولة قال تعالى : {ثم نقول للملائكة} أي : توبيخاً للكافرين وإقناطاً مما يرجون منهم من الشفاعة {أهؤلاء} أي : الضالون وأشار إلى أنه لا ينفع من العبادة إلا ما كان خالصاً بقوله تعالى : {إياكم} أي : خاصة {كانوا يعبدون} فهذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار وارد على المثل السائر :
إياك أعني واسمعي يا جارة ونحوه قوله عز وجل : {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} (المائدة : 116)
وقد علم سبحانه كون الملائكة وعيسى منزهين براء مما وجه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير والغرض أن يقول ويقولوا ، ويسأل ويجيبوا فيكون تقريعهم أشد وتعييرهم أبلغ وخجلهم أعظم ولذلك :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 375
قالوا} أي : الملائكة متبرئين منهم مفتتحين بالتنزيه تخضعاً بين يدي البراءة خوفاً {سبحانك} أي : تنزهك تنزيهاً يليق بجلالك عن أن يستحق أحد غيرك أن يعبد {أنت ولينا} أي : معبودنا الذي لا وصلة بيننا وبين أحد إلا بأمره {من دونهم} أي : ليس بيننا وبينهم ولاية بل عداوة ، وكذا كان من تقرب إلى شخص بمعصية الله تعالى فإنه يقسى الله تعالى قلبه عليه ويبغضه فيه فيجافيه ويعاديه.
ثم أضربوا عن ذلك ونفوا أنهم عبدوهم على الحقيقة بقولهم {بل كانوا يعبدون الجن} أي : إبليس وذريته الذين زينوا لهم عبادتنا من غير رضانا بذلك ، وكانوا يدخلون في أجواف الأصنام ويخاطبونهم ويستجيرون بهم في الأماكن المخوفة ، ومن هذا تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد القطيفة.
وقيل : صورت الشياطين لهم صور قوم من الجن وقالوا : هذه صور الجن فاعبدوها ثم استأنفوا قولهم {أكثرهم} أي : الإنس {بهم} أي : الجن {مؤمنون} أي : راسخون في الإشراك لا يقصدون بعبادتهم غيرهم.
وقيل : الضمير الأول للمشركين والأكثر : بمعنى الكل وقيل : منهم من يقصد بعبادته بتزيين الجن غيرهم وهم مع ذلك يصدقون ما يرد عليهم من إخبارات الجن على ألسنة الكهان وغيرهم مع ما يرون فيها من الكذب في كثير من الأوقات.
ولما بطلت تمسكاتهم وانقطعت تعلقاتهم تسبب عن ذلك تقريعهم الناشئ عن تنديمهم بقوله تعالى : بلسان العظمة :
{فاليوم} أي : يوم مخاطبتهم بهذا التبكيت وهو يوم الحشر {لا يملك} أي : شيئاً من الملك {بعضكم لبعض} أي : من المقربين والمبعدين {نفعاً ولا ضراً} بل تنقطع الأسباب التي كانت في دار التكليف من دار الجزاء التي المقصود فيها تمام إظهار العظمة لله وحده على أتم الوجوه.
376
فإن قيل : قوله تعالى نفعاً مفيد للحسرة فما فائدة ذكر الضر مع أنهم لو كانوا يملكون الضر لما نفع الكافرين ذلك أجيب : بأن العبادة لما كانت تقع لدفع ضرر المعبود كما يعبد الجبار ويخدم مخافة شره بين أنه ليس فيهم ذلك الوجه الذي تحسن لأجله عبادتهم وقوله تعالى : {ونقول} أي : في ذلك الحال من غير إمهال {للذين ظلموا} أي : بوضع العبادة في غير موضعها عند إدخالهم النار {ذوقوا عذاب النار التي كنتم} أي : جبلة وطبعاً {بها تكذبون} عطف على لا يملك فبين المقصود من تمهيده ، فإن قيل : قوله ههنا التي كنتم بها صفة للنار وفي السجدة وصف العذاب فجعل المكذب هنا النار ، وجعل المكذب في السجدة العذاب وهم كانوا يكذبون بالكل فما فائدته أجيب : بأنهم كانوا متلبسين بالعذاب مترددين فيه بدليل قوله تعالى : {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} (السجدة : 20)
جزء : 3 رقم الصفحة : 375
فوصف لهم ما لابسوه وهنا لم يلابسوه بعد لأنه عقب حشرهم وسؤالهم فهو أول ما رأوا النار فقيل لهم {هذه النار التي كنتم بها تكذبون}.
{وإذا تتلى عليهم} أي : في وقت من الأوقات من أي تال كان {آياتنا} أي : من القرآن حال كونها {بينات} أي : واضحات بلسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم {قالوا ما هذا} يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم {إلا رجل} أي : مع كونه واحداً هو مثل واحد من رجالكم وتزيدون أنتم عليه بالكثرة {يريد أن يصدكم} بهذا الذي يتلوه {عما كان يعبد آباؤكم} من الأصنام أي : لا قصد له إلا ذلك لتكونوا له أتباعاً فعارضوا البرهان بالتقليد {وقالوا ما هذا} أي : القرآن وقيل : القول بالوحدانية {إلا أفك} أي : كذب مصروف عن وجهه {مفتري} بإضافته إلى الله تعالى كقوله تعالى في حقهم {أئفكاً آلهة دون الله تريدون} (الصافات : 86)(3/255)
وكقولهم للرسول {أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا} (الأحقاف : 22)
{وقال الذين كفروا} أي : ستروا ما دلت عليه العقول من جهة القرآن {للحق} أي : الهدى الذي لا أثبت منه باعتبار كمال الحقيقة فيه {لما جاءهم} من غير نظر ولا تأمل {أن} أي : ما {هذا} أي : الثابت الذي لا شيء أثبت منه {إلا سحر} أي : خيال لا حقيقة له {مبين} أي : ظاهر قال ابن عادل : وهذا إنكار للتوحيد وكان مختصاً بالمشركين ، وأما إنكار القرآن والمعجزة فكان متفقاً عليه بين المشركين وأهل الكتاب فقال تعالى : {وقال الذين كفروا} على العموم انتهى. ولم يحملهم على ذلك إلا الحظوظ النفسانية والعلق الشهوانية قال الطفيل بن عمرو الدوسي ذو النور : "لقد أكثروا علي في أمره صلى الله عليه وسلم حتى حشوت في أذني ماء الكرفس خوفاً من أن يخلص إلي شيء من كلامهم فيفتنني ، ثم أراد الله تعالى لي الخير فقلت واثكل أمي إني والله للبيب عاقل شاعر ولي معرفة بغث الكلام من سمينه فما لي لا أسمع منه فإن كان حقاً تبعته ، وإن كان باطلاً كنت منه على بصيرة أو كما قال قال : فقصدت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : أعرض على ما جئت به فلما عرضه علي قلت : بأبي وأمي ما سمعت قولاً قط هو أحسن منه ولا أمراً أعدل منه فما توقفت في أن أسلمت ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم في أن يدعو له الله تعالى أن يعطيه آية يعينه بها على قومه ، فلما أشرف على حاضر قومه كان له نور في جبهته فخشي أن يظنوا أنها مثلة فدعا الله تعالى بتحويله فتحول في طرف سوطه فأعانه الله تعالى على قومه فأسلموا".
377
تنبيه : في تكرير الفعل وهو قال : والتصريح بذكر الكفرة وما في لامي الذين والحق من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه ، وما في لما من المفاجأة إلى البت بهذا القول إنكار عظيم للقول وتعجيب بليغ منه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 375
ولما بارزوا بهذا القول من غير أثارة من علم ولا خبر من سمع بين ذلك بقوله تعالى :
{وما} أي : قالوا ذلك والحال أنا ما {آتيناهم} أي : هؤلاء العرب {من كتب} أصلاً لأنهم لم ينزل عليهم قط قبل القرآن كتاب ، وأتى بصيغة الجمع مع تأكيد النفي قبل كتابك الجامع {يدرسونها} أي : يجددون دراستها كل حين فيها دليل على صحة الإشراك {وما أرسلنا} أي : إرسالاً لا شبهة فيه لمناسبته لما لنا من العظمة {إليهم} أي : خاصة بمعنى أن ذلك الرسول مأمور بهم بأعيانهم فهم مقصودون بالذات لا أنهم داخلون في عموم أو مقصودون من باب الأمر بالمعروف وفي جميع الزمان الذي {قبلك} أي : قبل رسالتك الجامعة لكل رسالة {من نذير} أي : ليكون عندهم قول منه يدعوهم إلى الإشراك أو ينذرهم على تركه وهذا في غاية التجهيل لهم والتسفيه لرأيهم ، ثم هددهم بقوله تعالى :
{وكذب الذين من قبلهم} أي : من قوم نوح ومن بعدهم بادروا إلى ما بادر إليه هؤلاء من التكذيب ، لأن التكذيب كان في طباعهم لما عندهم من الجلافة والكبر {وما بلغوا} أي : هؤلاء {معشار ما آتيناهم} أي : عشراً صغيراً مما آتينا أولئك من القوة في الأبدان والأموال والمكنة في كل شيء من العقول وطول الأعمار والخلو من الشواغل {فكذبوا} أي : بسبب ما طبعوا عليه من العناد {رسلي} إليهم {فكيف كان نكير} أي : إنكاري على المكذبين لرسلي بالعقوبة والإهلاك أي : هو واقع موقعه فليحذر هؤلاء من مثله ولا تكرير في كذب لأن الأول للتكثير أي : فعلوا التكذيب كثيراً فكان سبباً لتكذيب الرسل والثاني : للتكذيب أو الأول : مطلق والثاني : مقيد ولذلك عطف عليه.
{قل إنما أعظكم} أي : أرشدكم وأنصح لكم {بواحدة} أي : بخصلة واحدة هي {أن تقوموا} أي : توجهوا نفوسكم إلى تعرف الحق وعبر بالقيام إشارة إلى الاجتهاد {لله} أي : الذي لا أعظم منه على وجه الإخلاص واستحضار ما له من العظمة بما له لديكم من الإحسان لا لإرادة المغالبة حال كونكم {مثنى} أي : اثنين اثنين قال البقاعي : وقدمه إشارة إلى أن أغلب الناس ناقص العقل {وفرادى} أي : واحداً واحداً من وثق بنفسه في رصانة عقله وإصابة رأيه قام وحده ليكون أصفى لسره وأعون على خلوص فكره ، ومن خاف عليها ضم إليه آخر ليذكره إذا نسي ويقومه إذا زاغ ، ولم يذكر غيرهما من الأقسام لأن الازدحام يشوش الخواطر ويخلط القول.(3/256)
ولما كان ما طلب منهم هذا لأجله عظيماً جديراً بأن يهتم له هذا الاهتمام أشار إليه بأداة التراخي بقوله تعالى : {ثم تتفكروا} أي : في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به لتعلموا حقيته {ما بصاحبكم} أي : رسولكم الذي أرسل إليكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم {من جنة} أي : جنون يحمله على ذلك {إن} أي : ما {هو} أي : المحدث عنه بعينه {إلا نذير} أي : خالص إنذاره {لكم بين يدي} أي : قبل حلول {عذاب شديد} أي : في الآخرة إن عصيتموه ، روى البخاري عن ابن عباس أنه قال : "صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم فقال : يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقالوا : مالك فقال : أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم أما كنتم تصدقوني قالوا : بلى قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب : تباً لك ألهذا جمعتنا فأنزل الله تعالى
378
{تبت يدا أبي لهب وتب} (المسد : 1)
جزء : 3 رقم الصفحة : 375
ولما انتفى عنه بهذا ما تخيلوا به بقي إمكان أن يكون لغرض أمر دنيوي فنفاه بقوله تعالى :
{قل} أي : لهم يا أشرف الخلق {ما} أي : مهما {سألتكم من أجر} أي : على دعائي لكم من الإنذار والتبليغ {فهو لكم} أي : لا أريد منه شيئاً وهو كناية عن أني لا أسألكم على دعائي لكم إلى الله تعالى أجراً أصلاً بوجه من الوجوه فإذا ثبت أن الدعاء ليس لغرض دنيوي ، وأن الداعي أرجح الناس عقلاً ثبت أن الذي حمله على تعريض نفسه لتلك الأخطار العظيمة إنما هو أمر الله تعالى الذي له الأمر كله {إن} أي : ما {أجرى} أي : ثوابي {إلا على الله} أي : الذي لا أعظم منه فلا ينبغي لذي همة أن يطلب شيئاً إلا من عنده {وهو} أي : والحال أنه {على كل شيء شهيد} أي : حفيظ مهيمن بليغ العلم بأحوالي فيعلم صدقي وخلوص نيتي ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص أجرى في الوصل بفتح الياء ، والباقون بالسكون.
{قل} أي : لمن أنكر التوحيد والرسالة والحشر {إن ربي} أي : المحسن إليّ بأنواع الإحسان {يقذف بالحق} أي : يلقيه إلى أنبيائه أو يرمي به الباطل إلى أقطار الآفاق فيكون وعداً بإظهار الإسلام وإفشائه {علام الغيوب} أي : ما غاب عن خلقه في السموات والأرض.
تنبيه : في رفع علام أوجه : أظهرها : أنه خبر ثان لأن ، أو خبر مبتدأ مضمر ، أو بدل من الضمير في يقذف وقال الزمخشري : رفع محمول على محل أن واسمها أو على المستكن في يقذف يعني بقوله محمول على محل إن واسمها النعت إلا أن ذلك ليس مذهب البصريين لأنهم لم يعتبروا المحل إلا في العطف بالحرف بشروط عند بعضهم ، ويريد بالحمل على الضمير في يقذف أنه بدل منه لا أنه نعت له لأن ذلك انفرد به الكسائي ، وقرأ حمزة وشعبة بكسر الغين والباقون بالضم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 375
{قل} لهؤلاء {جاء الحق} أي : الإسلام وقيل : القرآن وقيل : كل ما ظهر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : المعجزات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : المراد من جاء الحق أي : ظهر الحق لأن كل ما جاء فقد ظهر وأكد تكذيباً لهم في ظنهم أنهم يغلبون بقوله تعالى : {وما} أي : والحال أنه ما {يبدئ الباطل} أي : الذي أنتم عليه من الكفر {وما يعيد} أي : ذهب فلم تبق منه بقية مأخوذ من هلاك الحي فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة فجعلوا قولهم لا يبدئ ولا يعيد مثلاً في الهلاك ومنه قول عبيد :
*أقفر من أهيله عبيد ** أصبح لا يبدي ولا يعيد*
والمعنى : جاء الحق وهلك الباطل كقوله تعالى {جاء الحق وزهق الباطل} (الإسراء : 81)
وعن ابن مسعود : "دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود ويقول {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} (الإسراء : 81)
{قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد}
379
(سبأ : 49)
وقيل : الباطل إبليس أي : ما ينشئ خلقاً ولا يعيده ، والمنشئ والباعث هو الله تعالى ، وعن الحسن لا يبدئ لأهله خيراً ولا يعيده أي : لا ينفعهم في الدنيا والآخرة وقال الزجاج : أي : شيء ينشئه إبليس ويعيده فجعله للاستفهام وقيل : للشيطان الباطل لأنه صاحب الباطل ، ولأنه هالك كما قيل له الشيطان من شاط إذا هلك وحينئذ يكون غير منصرف وإن جعلته من شطن كان منصرفاً.
ولما لم يبق بعد هذا إلا أن يقولوا عناداً أنت ضال ليس بك جنون ولا كذب ، ولكنك قد عرض لك ما أضلك عن الجمعة قال تعالى : (3/257)
{قل} أي : لهؤلاء المعاندين على سبيل الاستعطاف بما في قولك من الإنصاف وتعليم الأدب {إن ضللت} أي : عن الطريق على سبيل الفرض {فإنما أضل على نفسي} أي : إثم إضلالي عليها {وإن اهتديت فبما} أي : فاهتدائي إنما هو بما {يوحى إلي ربي} أي : المحسن إلي من القرآن والحكمة لا بغيره فلا يكون فيه ضلال لأنه لاحظ للنفس فيه أصلاً ، فإن قيل : أين التقابل بين قوله تعالى : {فإنما أضل على نفسي} وقوله تعالى : {فيما يوحي إلى ربي} وإنما كان يقال : فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فإنما اهتدى لها كقوله تعالى {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} (فصلت : 46)
جزء : 3 رقم الصفحة : 379
وقوله تعالى : {فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها} (الزمر : 41)
أو يقال فإنما أضل نفسي أجيب : بأنهما متقابلان من جهة المعنى لأن النفس كل ما عليها فهو بسببها لأنها الأمارة بالسوء وما لها مما ينفعها فبهداية ربه وتوفيقه وهذا حكم عام لكل مكلف ، وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلاله محله وسداد طريقه كان غيره أولى به ، وفتح الياء من ربي عند الوصل نافع وأبو عمرو الباقون بالسكون وهم على مراتبهم في المد ، ثم علل الضلال والهداية بقوله تعالى : {إنه} أي : ربي {سميع} أي : لكل ما يقال {قريب} أي : يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله وإن أخفاه.
ولما أبطل تعالى شبههم وختم من صفاته بما يقتضي البطش بمن خالفه عطف على {ولو ترى إذ الظالمون}.
{ولو ترى} أي : تبصر يا أشرف الخلق {إذ فزعوا} أي : عند الموت أو البعث أو يوم بدر ، وجواب لو محذوف نحو : لرأيت أمراً عظيماً {فلا} أي : فتسبب عن ذلك الفزع أنه لا {فوت} أي : لهم منا لأنهم في قبضتنا ، ثم حقر أمرهم بالبناء للمفعول بقوله تعالى : {وأخذوا} أي : عند الفزع من كل من نأمره بأخذهم سواء أكان قبل الموت أم بعده {من مكان قريب} أي : القبور أو من الموقف إلى النار ، أو من صحراء بدر إلى القليب وقال الكلبي : من تحت أقدامهم ، وقيل : أخذوا من ظهر الأرض إلى بطنها وحيثما كانوا فهم من الله تعالى قريب لا يفوتونه ، والعطف على فزعوا أو لا فوت.
{وقالوا} أي : عند الأخذ ومعاينة الثواب والعقاب {آمنا به} أي : القرآن الذي قالوا : إنه أفك مفترى أو محمد صلى الله عليه وسلم الذي قالوا : إنه ساحر {وأنى} أي : وكيف ومن أين {لهم التناوش} أي : تناول الإيمان تناولاً سهلاً {من مكان بعيد} أي : عن محله إذ هم في الآخرة ومحله في الدنيا ، ولا يمكن إلا برجوعهم إلى الدنيا التي هي دار العمل وهذا تمثيل لحالهم في طلبهم أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا بحال من أراد أن يتناول شيئاً من علوه كما يتناوله الآخر من قدر ذراع تناولاً سهلاً لا تعب فيه ، فإن قيل : كيف قال تعالى : {من مكان بعيد} وقد قال تعالى في كثير من المواضع أن الآخرة من الدنيا قريب ، وسمى الله تعالى الساعة قريبة فقال {اقتربت الساعة} (القمر : 1)
{اقترب للناس حسابهم} (الأنبياء : 1)
380
{لعل الساعة قريب} (الشورى : 17)
أجيب : بأن الماضي كالأمس الدابر وهو من أبعد ما يكون إذ لا وصول إليه ، والمستقبل وإن كان بينه وبين الحاضر سنون فإنه آت فيوم القيامة الدنيا بعيدة منه لمضيها ، ويوم القيامة في الدنيا قريب لإتيانه ، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر وحمزة والكسائي بعد الألف بهمزة مضمومة والباقون بعد الألف بواو مضمومة فمعناه على هذا : كيف لهم تناول ما بعد عنهم وهو الإيمان والتوبة وقد كان قريباً في الدنيا فضيعوه ، وأما من همز فقيل معناه هذا أيضاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 379
وقيل : التناؤش بالهمز من التنؤش الذي هو حركة في إبطاء يقال : جاء منئشاً أي : مبطئاً متأخراً والمعنى : من أين لهم الحركة فيما لا حيلة لهم فيه قال ابن عباس : يسألون الرد فيقال : وأنى لهم الرد إلى الدنيا من مكان بعيد أي : من الآخرة إلى الدنيا وأمال أنى محضة حمزة والكسائي ، وأبو عمرو بين بين وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح.
{وقد} أي : كيف لهم ذلك والحال أنهم قد {كفروا به} أي : بالذي طلب منهم أن يؤمنوا به محمد صلى الله عليه وسلم أو القرآن أو البعث {من قبل} أي : في دار العمل {و} الحال أنهم حال كفرهم {يقذفون} أي : يرمون {بالغيب} ويتكلمون بما يظهر لهم في الرسول صلى الله عليه وسلم من المطاعن وهو قولهم : ساحر وشاعر وكاهن ، وفي القرآن سحر شعر كهانة وقال قتادة : يعني يرجمون بالظن يقولون لا بعث ولا جنة ولا نار {من مكان بعيد} أي : ما غاب علمه عنهم غيبة بعيدة وهذا تمثيل لحالهم في ذلك بحال من يرمي شيئاً ولا يراه من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه.
{وحيل بينهم وبين ما يشتهون} أي : من نفع الإيمان يومئذ والنجاة من النار والفوز بالجنة ، أو من الرد إلى الدنيا كما حكى عنهم {أرجعنا نعمل صالحاً} ، وقرأ ابن عامر والكسائي بضم الحاء وهو المسمى بالإشمام والباقون بكسرها {كما فعل} أي : بأيسر وجه {بأشياعهم} أي : أشباهم من كفرة الأمم ومن كان مذهبه مذهبهم {من قبل} أي : قبل زمانهم فإن حالهم كان كحالهم ، ولم يختل أمرنا في أمة من الأمم بل كان كلما كذب أمة رسولها أخذناها فإذا أذقناهم بأسنا أذعنوا وخضعوا فلم يقبل منهم ذلك ولا نفعهم شيئاً لا بالكف عن إهلاكهم ولا لإدراكهم شيئاً من الخير بعد إهلاكهم {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} (ق : 37)
ثم علل عدم الوصول إلى قصدهم بقوله تعالى : مؤكداً لإنكارهم أن يكون عندهم شيء من شك في شيء من أمرهم {إنهم كانوا} أي : في دار القبول {في شك} أي : في جميع ما تخبرهم به رسلنا عنا من الجزاء والبعث وغير ذلك {مريب} أي : موقع في الريبة فهو بليغ في بابه كما يقال : عجب عجيب أو هو واقع في الريب كما يقال : شعر شاعر أي : ذو شعر فهو اسم فاعل من أراب أي : أتى بالريب أو دخل فيه أي : أوقعته في الريب ، ونسبة الإرابة إلى الشك مجاز قال الزمخشري : إلا أن بينهما فرقاً وهو أن المريب من المتعدي منقول ممن يصح أن يكون مريباً من الأعيان إلى المعني ، ومن اللازم منقول من صاحب الشك إلى الشك كما تقول شعر شاعر انتهى ، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قرأ سورة سبأ لم يبق نبي ولا رسول إلا كان له يوم القيامة رفيقاً ومصافحاً" حديث موضوع.
381
جزء : 3 رقم الصفحة : 379(3/258)
سورة فاطر
مكية هي ست وأربعون آية ، ومائة وسبعةوتسعون كلمة ، وثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفاً
وهي ختام السور المفتتحة باسم الحمد التي فصلت فيها النعم الأربع التي هي أمهات النعم المجموعة في الفاتحة وهي : الإيجاد الأول ، ثم الإبقاء الأول ، ثم الإيجاد الثاني المشار إليه بسورة سبأ ، ثم الإبقاء الثاني الذي هو أنهاها وأحكمها وهو الختام المشار إليه بهذه السورة المفتتحة بالابتداء الدال عليه بإنهاء القدرة وأحكمها المفصل أمره فيها في فريقي السعادة والشقاوة تفصيلاً شافياً على أنه استوفى في هذه السورة النعم الأربع كما يأتي بيانه في محله.
{بسم الله} الذي أحاطت دائرة قدرته بالممكنات {الرحمن} الذي عم الخلق بعموم الرحمة {الرحيم} الذي شرف أهل الكرامة بدوام المراقبة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 381
ولما أثبت سبحانه في التي قبلها الحشر الذي هو الإيجاد الثاني ، وكان الحمد يكون بالمنع والإعدام كما يكون بالإعطاء والإنعام قال تعالى ما هو نتيجة ذلك :
{الحمد} أي : الإحاطة بأوصاف الكمال إعداماً وإيجاداً {لله} أي : وحده.
382
ولما كان الإيجاد من العدم أدل دليل على ذلك قال تعالى دالاً على استحقاقه للمحامد {فاطر السموات والأرض} أي : خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق قاله ابن عباس ، أو شاقهما لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض ، وعن مجاهد عن ابن عباس ما كنت أدري ما فاطر السموات والأرض حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي : ابتدأتها.
تنبيه : إن جعلت إضافة فاطر محضة كان نعتاً ، وإن جعلتها غير محضة كان بدلاً وهو قليل من حيث إنه مشتق.
ولما كانت الملائكة عليهم السلام مثل الخافقين في أن كلا منهم مبدع من العدم على غير مثال سبق من غير مادة وكان لا طريق لعامة الناس إلى معرفتهم إلا الخبر أخبر عنهم بعدما أخبر عما طريقه المشاهدة بقوله تعالى : {جاعل الملائكة رسلاً} أي : وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده يبلغون رسالته بالوحي والإلهام والرؤية الصادقة ، أو بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار صنعه {أولي} أي : أصحاب {أجنحة} يهيئهم لما يراد منهم ، ثم وصفها بقوله تعالى : {مثنى} أي : جناحين لكل واحد من صنف منهم {وثلاث} أي : ثلاثة ثلاثة لصنف آخر منهم {ورباع} أي : أربعة أربعة لصنف آخر منهم ، فهم متفاوتون بتفاوت ما لهم من المراتب ينزلون بها ويعرجون ويسرعون بها نحو ما وكلهم الله تعالى عليه فيتصرفون فيه على ما أمرهم به ، وإنما لم تصرف هذه الصفات لتكرر العدل فيها ، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد من صيغ إلى صيغ آخر كما عدل عمر عن عامر ، وحذام عن حاذمة.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 382(3/259)
يزيد في الخلق ما يشاء} أي : يزيد في خلق الأجنحة وفي غيره ما تقتضيه مشيئته ، والأصل : الجناحان ؛ لأنهما بمنزلة اليدين ، ثم الثالث والرابع زيادة على الأصل وذلك أقوى للطيران وأعون عليه ، فإن قيل : قياس الشفع من الأجنحة أن يكون في كل شق نصفه فما صورة الثلاثة ؟
أجيب : بأن الثالث لعله يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدّهما بقوة. أو لعله لغير الطيران ، قال الزمخشري : فقد مرّ بي في بعض الكتب أن صنفاً من الملائكة لهم ستة أجنحة فجناحان يلفون بهما أجسادهم ، وجناحان يطيرون بهما في الأمر من أمور الله تعالى ، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله تعالى انتهى.
وروى ابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "رأيت جبريل عند سدرة المنتهى وله ستمائة جناح ينثر من رأسه الدر والياقوت" ، وروي أنه عليه السلام : "سأل جبريل أن يتراءى في صورته فقال : إنك لن تطيق ذلك فقال : إني أحب أن تفعل فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مقمرة فأتاه جبريل في صورته فغشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أفاق وجبريل عليه السلام مسنده ، وإحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه فقال : سبحان الله ما كنت أرى أن شيئاً من الخلق هكذا فقال جبريل : فكيف لو رأيت إسرافيل عليه السلام له اثنا عشر ألف جناح جناح منها بالمشرق ، وجناح بالمغرب وإن العرش على كاهله وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله تعالى حتى يعود مثل الوصع ، وهو العصفور الصغير".
383
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {يزيد في الخلق ما يشاء} وهو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن ، وقيل : هو الخط الحسن ، وعن قتادة : الملاحة في العينين ، والآية كما قال الزمخشري : مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة واعتدال صورة وتمام في الأعضاء وقوة في البطش ، ومتانة في العقل وجزالة في الرأي وجراءة في القلب وسماحة في النفس ، وذلاقة في اللسان ، ولباقة في التكلم وحسن تأنَ في مزاولة الأمور وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف.
ثم علَّل تعالى ذلك كله بقوله مؤكداً لأجل إنكارهم البعث {إن الله} أي : الجامع لجميع أوصاف الكمال {على كل شيء قدير} وتخصيص بعض الأشياء دون بعض إنما هو من جهة الإرادة ، قال أبو جعفر بن الزبير : لما أوضحت سورة سبأ أنه سبحانه مالك السموات والأرض ومستحق الحمد في الدنيا والآخرة أوضحت هذه السورة أن ذلك خلقه كما هو ملكه ، وأنه الأهل للحمد والمستحق إذ الكل خلقه وملكه ، وتجردت سورة سبأ لتعريف العباد بعظيم ملكه سبحانه وتجردت هذه للتعريف بالاختراع والخلق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 382
ولما وصف سبحانه نفسه المقدسة بالقدرة الكاملة دلَّ على ذلك بما يشاهده كل أحد في نفسه من السعة والضيق مع العجز عن دفع شيء من ذلك أو اقتناصه ، وقال مستأنفاً أو معللاً مستنتجاً :
{ما} أي : مهما فهي شرطية {يفتح الله} أي : الذي لا يكافئه شيء {للناس} لأن كل ما في الوجود لأجلهم {من رحمة} أي : من الأرزاق الحسية والمعنوية ، من اللطائف والمعارف التي لا تدخل تحت حصر قلّت أو كثرت فيرسلها {فلا ممسك لها} أي : الرحمة بعد فتحه كما يعلمه كل أحد من نفسه من أنه إذا حصل له خير لا يعدمه من يود أنه لم يحصل ، ولو قدر على إزالته لأزاله ولا يقدر على تأثير ما فيه {وما يمسك فلا مرسل له} يطلقه ، واختلاف الضميرين ، لأن الموصول الأول مفسر بالرحمة ، والثاني مطلق يتناولها والغضب وفي ذلك إشعار بأن رحمته سبقت غضبه.
ولما كان ربما ادعى أحد فجوراً حال إمساك الرحمة أو النعمة أنه هو الممسك قال تعالى {من بعده} أي : إمساكه وإرساله {وهو} أي : هو فاعل ذلك ، والحال أنه هو وحده {العزيز} أي : القادر على الإمساك والإرسال الغالب على كل شيء ، ولا غالب له {الحكيم} أي : الذي يفعل في كل من الإمساك والإرسال وغيرهما ما يقتضيه علمه به ويتقن ما أراده على قوانين الحكمة فلا يستطاع نقض شيء منه.
ولما بيَّن بما يشاهده كل أحد في نفسه أنه المنعم وحده أمر بذكر نعمته بالاعتراف أنها منه ، فإن الذكر يعود إلى الشكر وهو قيد الموجود وصيد المعدوم المفقود قال :
{يا أيها الناس} أي : الجميع ؛ لأن جميعهم مغمورون في نعمة الله تعالى ، وعن ابن عباس يريد يا أهل مكة {اذكروا} بالقلب واللسان {نعمت الله} أي : الذي لا منعم في الحقيقة سواه {عليكم} أي : في دفع ما دفع عنكم من المحن وصنع ما صنع لكم من المنن لتشكروه ولا تكفروه.
تنبيه : {نعمت} هنا مجرورة في الرسم وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء ، والباقون بالتاء ، وإذا وقف الكسائي أمال الهاء.
ولما أمر بذكر نعمته أكد التعريف بأنها منه وحده على وجه بين عزته وحكمته بقوله تعالى
384(3/260)
منبهاً لمن غفل موبخاً لمن جحد ورادَّاً على أهل القدر الذين يدعون أنهم يخلقون أفعالهم ومنبهاً على نعمة الإيجاد الأول {هل من خالق} أي : للنعم وغيرها {غير الله} أي : فليس لغيره في ذلك مدخل يستحق أن يشرك به ، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الراء نعتاً لخالق على اللفظ ومن خالق مبتدأ مزاد فيه من ، والباقون بالرفع وفيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه خبر المبتدأ ، والثاني : أنه صفة لخالق على الموضع والخبر إما محذوف وإما يرزقكم. والثالث : أنه مرفوع باسم الفاعل على جهة الفاعلية ؛ لأن اسم الفاعل قد اعتمد على أداة الاستفهام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 382
ولما كان جواب الاستفهام قطعاً لا بل هو الخالق وحده قال منبهاً على نعمة الإبقاء الأول بقوله تعالى : {يرزقكم} أي : وحده فنعمة الله تعالى مع كثرتها منحصرة في قسمين : نعمة الإيجاد ، ونعمة الإبقاء.
ولما كانت كثرة الرزق كما هو مشاهد مع وحدة المنبع أدل على العظمة قال {من السماء} أي : بالمطر وغيره {والأرض} أي : بالنبات وغيره.
ولما بين تعالى أنه الرازق وحده قال {لا إله إلا هو فأنىَّ تُؤفكون} أي : من أين تصرفون عن توحيده مع إقراركم بأنه الخالق الرازق وتشركون المنحوت بمن له الملكوت.
ولما بين تعالى الأصل الأول وهو التوحيد ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 382
{وإن يكذبوك} أي : يا أشرف الخلق في مجيئك بالتوحيد والبعث والحساب والعقاب وغير ذلك {فقد كذبت رسل من قبلك} في ذلك ، فإن قيل : فما وجه صحة جزاء الشرط ومن حق الجزاء أن يعقب الشرط وهذا سابق له ؟
أجيب : بأن معناه وإن يكذبوك فتأس بتكذيب الرسل من قبلك فوضع {فقد كذبت رسل من قبلك} موضع "فتأس" استغناء بالسبب عن المسبب أعني بالتكذيب عن التأسي ، فإن قيل : ما معنى التنكير في رسل ؟
أجيب : بأن معناه فقد كذبت رسل أي : رسل ذوو عدد كثير وأولو آيات ونذر وأهل أعمار طوال ، وأصحاب صبر وعزم وما أشبه ذلك ، وهذا أسلى له وأحث على المصابرة.
قال القشيري : وفي هذا إشارة للحكماء وأرباب القلوب مع العوام والأجانب من هذه الطريقة فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل ، وأهل الحقائق أبداً منهم في مقاساة الأذية ، والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من القراء المتعنتين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 385
ثم بين من حيث الإجمال أن المكذِّب في العذاب ، وأن المكذَّب له الثواب بقوله تعالى : {وإلى الله} أي : وحده ؛ لأن له الأمور كلها {ترجع الأمور} أي : في الآخرة فيجازيكم وإياهم على الصبر والتكذيب.
ثم بين تعالى الأصل الثالث وهو الحشر بقوله تعالى :
{يا أيها الناس} ولما كانوا ينكرون البعث أكد قوله تعالى {إن وعد الله} أي : الذي له صفات الكمال بكل ما وعد به من البعث وغيره {حق} أي : ثابت لا خلف فيه ، وقد وعد أنه يردكم إليه في يوم تنقطع فيه الأسباب ويعرض عن الأحساب و الأنساب {فلا تغرنكم} أي : بأنواع الخداع من اللهو والزينة {الحياة الدنيا} فإنه لا يليق بذي همة علية اتباع الدنيء والرضا بالدون الزائل عن العالي الدائم {ولا يغرنكم بالله} أي : الذي لا يخلف الميعاد وهو الكبير المتعال {الغرور} أي : الذي لا يصدق في شيء وهو الشيطان العدو.
385
ولذلك استأنف قوله تعالى مظهراً في موضع الإضمار :
{إن الشيطان} أي : المحترق بالغضب البعيد عن الخبر {لكم} أي : خاصة {عدو} فهو في غاية الفراغ لأذاكم بتصويب مكايده كلها إليكم ، وبما سبق له مع أبيكم آدم عليه السلام بما وصل أذاه إليكم ، وأيضاً من عادى أباك فقد عاداك فاجتهدوا في الهرب منه ولا توالوه كما قال تعالى {فاتخذوه} أي : بغاية جهدكم {عدواً} أي : في عقائدكم وأفعالكم ولا يوجدنَّ منكم إلا ما يدل على معاداته ومناصبته في سركم وجهركم. قال القشيري : ولا تقوى على عداوته إلا بدوام الاستعانة بالرب ، فإنه لا يغفل عن عداوتك فلا تغفل أنت عن مولاك لحظة.
ثم علل عداوته بقوله {إنما يدعو حزبه} أي : الذين يوسوس لهم فيعرضهم لاتباعه والإعراض عن الله تعالى {ليكونوا} باتباعه كوناً راسخاً {من أصحاب السعير} وهذا غرضه لا غرض له سواه ولكنه يجتهد في تعمية ذلك عنهم بأن يقرر في نفوسهم جانب الرجاء وينسيهم جانب الخوف ، ويريهم أن التوبة في أيديهم ويسّوف لهم بها بالفسحة في الأمل والإبعاد في الأجل للإفساد في العمل ، والرحمن إنما يدعو عباده ليكونوا من أهل النعيم كما قال تعالى {والله يدعو إلى دار السلام} (يونس : 25)
.
ثم بين تعالى ما حال حزب الشيطان بقوله تعالى : (3/261)
{الذين كفروا لهم عذاب شديد} أي : في الدنيا بفوات ما يأملونه مع تفرقة قلوبهم وانسداد بصائرهم وسفالة هممهم حتى أنهم رضوا أن يكون إلههم حجراً ، وفي الآخرة بالسعير التي دعاهم إلى صحبتها ، ثم بين حزبه تعالى بقوله سبحانه {والذين آمنوا وعملوا} أي : تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} من صلاة وزكاة وصوم وغير ذلك من المأمورات {لهم مغفرة} أي : ستر لذنوبهم في الدنيا ولولا ذلك لافتضحوا ، وفي الآخرة بحيث لا عتاب ولا عقاب ولولا ذلك لهلكوا {أجر كبير} هو الجنة والنظر إلى وجهه الكريم ، فالمغفرة في مقابلة الإيمان فلا يؤبد مؤمن في النار ، والأجر الكبير في مقابلة العمل الصالح ، ونزل كما قال ابن عباس في أبي جهل ومشركي العرب :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 385
أفمن زين له سوء عمله} أي : قبحه الذي من شأنه أن يسوء صاحبه حالاً أو مآلاً بأن غلب وهمه وهواه على عقله {فرآه} أي : السيء بسبب التزيين {حسناً} أي : عملاً صالحاً {فإن} أي : السبب في رؤية الأشياء على غير ما هي عليه أن {الله} أي : الذي له الأمر كله {يضل من يشاء} فلا يرى شيئاً على ما هو به فيقدم على الهلاك البيِّن وهو يراه عين النجاة {ويهدي من يشاء} فلا يشكل عليه أمر ولا يفعل إلا حسناً.
تنبيه : من موصول مبتدأ وما بعده صلته ، والخبر محذوف ، واختلف في تقديره فقدره الكسائي : تذهب نفسك عليهم حسرات لدلالة قوله تعالى تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم حيث حزن على إصرارهم بعد إتيانه بكل آية ظاهرة وحجة قاهرة {فلا تذهب نفسك عليهم} أي : المزيّن لهم {حسرات} أي : لأجل حسراتك المترادفة لأجل إعراضهم ، جمع حسرة وهي شدة الحزن على ما فات من الأمر ، وقدره الزجاج وأضله الله كمن هداه ، وقدره غيرهما كمن لم يزين له ، وهو أحسن لموافقته لفظاً ومعنى ، ونظيره {أفمن كان على بينة من ربه} (هود : 17)
أي : كمن هو أعمى {أفمن يعلم إنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى} (الرعد : 19)
وقال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في أصحاب الأهواء والبدع قال قتادة : منهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ، فأما أهل الكتاب فليسوا منهم ؛ لأنهم لا يستحلون الكبائر {إن الله} أي : المحيط بجميع صفات
386
الكمال {عليم} أي : بالغ العلم {بما يصنعون} فيجازيهم عليه.
ثم عاد تعالى إلى البيان بقوله سبحانه :
{والله} أي : الذي له صفات الكمال لا شيء غيره من طبيعة ولا غيرها {الذي أرسل الرياح} أي : أوجدها من العدم فهبوبها دليل على الفاعل المختار ، لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين وقد يتحرك إلى الشمال ، وفي حركاته المختلفة قد ينشئ السحاب وقد لا ينشئ فهذه الاختلافات دليل على مسخر مدبر مؤثر مقدر وقوله تعالى {فتثير سحاباً} عطف على أرسل ؛ لأن أرسل بمعنى المستقبل فلذلك عطف عليه وأتى بأرسل لتحقيق وقوعه وب"تثير" لتصور الحال واستحضار الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة كقوله تعالى {أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} (الحج : 63)
ولما أسند فعل الإرسال إليه تعالى وما يفعله يكون بقوله تعالى : {كن} فلا يبقى في العدم لا زماناً ولا جزءاً من الزمان فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة تكوينه فكأنه كان ، ولأنه فرغ عن كل شيء فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة إلى المواضع المعينة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 385
ولما أسند فعل الإثارة إلى الريح وهي تؤلف في زمان فقال {تثير} أي : على هيئتها ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالتوحيد ، والباقون بالجمع وقوله تعالى {فسقناه} فيه التفاف عن الغيبة {إلى بلد ميت} أي : لا نبات بها ، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بتشديد الياء ، والباقون بالتخفيف {فأحيينا به} أي : بالمطر النازل منه ، وذِكْر السحاب كذكر المطر حيث أقيم مقامه أو بالسحاب فإنه سبب السبب أو الصائر مطراً {الأرض} بالنبات والكلأ {بعد موتها} أي : يَبَسِها.
تنبيه : العدول في : "سقنا" و"أحيينا" من الغيبة في قوله تعالى {والله الذي أرسل الرياح} إلى ما هو أدخل في الاختصاص وهو التكلم فيهما لما فيهما من مزيد الصنع ، والكاف في قوله تعالى {كذلك} في محل رفع أي : مثل إحياء الموات {النشور} للأموات وجه الشبه من وجوه : أولها : أن الأرض الميتة قبلت الحياة كذلك الأعضاء تقبل الحياة. ثانيها : كما أن الريح يجمع السحاب المقطع كذلك تجمع الأعضاء المتفرقة. ثالثها : كما أنا نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت كذلك نسوق الروح إلى الجسد الميت.
فإن قيل : ما الحكمة في اختيار هذه الآية من بين الآيات مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه واحد ؟
أجيب : بأنه تعالى لما ذكر كونه فاطر السموات والأرض وذكر من الأمور السماوية الأرواح وإرسالها بقوله تعالى : {جاعل الملائكة رسلاً} (فاطر : 1)(3/262)
ذكر من الأمور الأرضية الرياح ، وروي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم "كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه ؟
فقال : هل مررت بواد أهلك محلاً ثم مررت به يهتز ؟
فقال : نعم فقال : فكذلك يحيي الله الموتى وتلك آيته في خلقه" وقيل : يحيي الله الخلق بماء يرسله من تحت العرش كمني الرجال تنبت منه أجساد الخلق.
ولما كان الكافرون يتعززون بالأصنام كما قال تعالى {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً} (مريم : 81)
والذين آمنوا بألسنتهم غير مواطئة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين كما قال تعالى {الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً} (النساء : 139)
387
بين تعالى أن لا عزة إلا لله بقوله سبحانه :
{من كان} أي : في وقت من الأوقات {يريد العزة} أي : الشرف والمنعة {فلله العزة جميعاً} أي : في الدنيا والآخرة ، والمعنى : فليطلبها عند الله ، فوضع قوله تعالى {فلله العزة جميعاً} موضعه استغناء به عنه لدلالته عليه ، لأن الشيء لا يطلب إلا من عند صاحبه ومالكه ، ونظيره قوله : من أراد النصيحة فهي عند الأبرار ، يريد فليطلبها عندهم إلا أنك أقمت ما يدل عليه مقامه ، وقال قتادة : من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله تعالى ومعناه : الدعاء إلى الطاعة من له العزة أي : فليطلب العزة من عند الله بطاعته ، كما يقال من كان يريد المال فالمال لفلان أي : فليطلبه من عنده.
جزء : 3 رقم الصفحة : 385
ثم عرف أن ما تطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح بقوله تعالى : {إليه} أي : لا إلى غيره {يصعد الكلم الطيب} قال المفسرون : هو قول لا إله إلا الله ، وقيل : هو قول الرجل سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وعن ابن مسعود قال : إذا حدثتكم حديثاً أنبأتكم بمصداقه من كتاب الله عز وجل : "ما من عبد مسلم يقول : خمس كلمات سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وتبارك الله إلا أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ، ثم صعد بهن فلا يمر على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يحيي بها وجه رب العالمين" ومصداقه من كتاب الله عز وجل قوله تعالى {إليه يصعد الكلم الطيب} وقيل : الكلم الطيب ذكر الله ، وعن قتادة إليه يصعد الكلم الطيب أي : يقبل الله الكلم الطيب ، وقيل : الكلم الطيب يتناول الذكر والدعاء وقراءة القرآن ، وعن الحاكم موقوفاً وعن الثعلبي مرفوعاً أنه صلى الله عليه وسلم قال : "هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن عمل صالح لم تقبل".
{والعمل الصالح يرفعه} أي : يقبله فصعود الكلم الطيب والعمل الصالح مجاز عن قبوله تعالى إياهما ، أو صعود الكتبة بصحفهما ، أو المستكن في يرفعه لله تعالى ، وتخصيص العمل بهذا الشرف لما فيه من الكلفة وقال سفيان بن عيينة : العمل الصالح هو الخالص يعني الإخلاص سبب قبول الخيرات من الأقوال والأفعال لقوله تعالى {فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} (الكهف : 110)
فجعل نقيض الصالح الشرك والرياء.
تنبيه : صعود الكلم الطيب والعمل الصالح مجاز عن قبوله تعالى إياهما ، أو صعود الكتبة بصحفهما والمستكن في {يرفعه} لله تعالى ، وتخصيص العمل بهذا الشرف لما فيه من الكلفة أو للكلم ، فإن العمل لا يقبل إلا بالتوحيد أو للعمل فإنه يحقق الإيمان ويقويه ، قال الرازي في "اللوامع" : "العلم لا يتم إلا بالعمل كما قيل : العلم يهتف بالعمل فإن أجاب وإلا ارتحل" انتهى. وقد قيل :
*لا ترض من رجل حلاوة قوله ** حتى يصدق ما يقول فعاله*
*فإذا وزنت مقاله بفعاله ** فتوازنا فإخاء ذاك جماله*
وقال الحسن : الكلم الطيب ذكر الله تعالى ، والعمل الصالح أداء فرائضه فمن ذكر الله تعالى
388
ولم يؤد فرائضه ردّ كلامه على عمله ، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال ، فمن قال حسناً وعمل غير صالح ردّ الله تعالى عليه قوله ، ومن قال حسناً وعمل صالحاً رفعه الله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 385(3/263)
ولما بيّن ما يحصل العزة من عليّ الهمة بين ما يكسب المذلة ويوجب النقمة من رديء الهمة بقوله تعالى : {والذين يمكرون} أي : يعملون على وجه المكر أي : الستر ، المكرات : {السيئات} أي : مكرات قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة وتداورهم الرأي في إحدى ثلاث : حبسه وقتله وإجلاؤه كما قال تعالى {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك} الآية (الأنفال : 30) ، وقال الكلبي : معناه يعملون السيئات وقال مقاتل : يعني الشرك ، وقال مجاهد : هم أصحاب الرياء {لهم عذاب شديد} أي : لا توبة دونه بما يمكرون {ومَكْر أولئك} أي : البعداء من الفلاح {هو} أي : وحده دون مكر من يريد بمكره الخير فإن الله ينفذه ويعلي أمره {يبور} أي : يفسد ولا ينفذ إذ الأمور مقدرة فلا تتغتير بسبب مكرهم كما دل عليه بقوله تعالى :
{والله خلقكم من تراب} أي : بتكوين أبيكم آدم منه فمزجه مزجاً لا يمكن لغيره تمييزه ، ثم أحاله عن ذلك الجوهر أصلاً ورأساً ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {ثم} أي : بعد ذلك في الزمان والرتبة خلقكم {من نطفة} أي : جعلها أصلاً ثانياً من ذلك الأصل الترابي أشد امتزاجاً منه {ثم} بعد أن أنهى التدبير زماناً ورتبة إلى النطفة التي لا مناسبة بينها وبين التراب دلالة على كمال القدرة والفعل بالاختيار {جعلكم أزواجاً} أي : بين ذكور وإناث دلالة هي أظهر مما قبلها على الاختيار ، وعن قتادة : زوج بعضكم بعضاً.
تنبيه : يصح أن يقال كما قال ابن عادل : خلقكم خطاب مع الناس وهم أولاد آدم عليه السلام وكلهم من تراب ومن نطفة ؛ لأن كلهم من نطفة ، والنطفة من غذاء ، والغذاء ينتهي بالآخرة إلى الماء والتراب فهم من تراب صار نطفة.
ولما بين تعالى بقوله سبحانه : {خلقكم من تراب} كمال قدرته بين بقوله سبحانه {وما تحمل من أنثى ولا تضع} أي : حملاً {إلا} أي : مصحوباً {بعلمه} أي : في وقته ونوعه وشكله وغير ذلك من شأنه مختصاً بذلك كله حتى عن أمّه التي هي أقرب إليه فلا يكون إلا بقدرته فما شاء أتمه وما شاء أخرجه كمال علمه.
ثم بين نفوذ إرادته بقوله تعالى : {وما يعمر من معمر} أي : وما يمد في عمره من مصغره إلى كبر ، وإنما سماه معمراً بما هو صائر إليه فمعناه : وما يعمر من أحد ، وفي عود ضمير قوله تعالى {ولا ينقص من عمره} قولان : أحدهما : أنه يعود على معمر آخر ؛ لأن المراد بقوله تعالى : {من معمر} الجنس فهو يعود عليه لفظاً لا معنى ؛ لأنه بعد أن فرض كونه معمراً استحال أن ينقص من عمره نفسه كما يقال : لفلان عندي درهم ونصفه أي : نصف درهم آخر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 385
والثاني : أنه يعود على المعمر نفسه لفظاً ومعنى ، والمعنى : أنه إذا ذهب من عمره حول أحصى وكتب ثم حول آخر كذلك فهذا هو النقص ، وإليه ذهب ابن عباس وابن جبير وأبو مالك ومنه قول الشاعر :
*حياتك أنفاس تعد فكلما ** مضى نفس منك انتقصت به جزأ*
389
وقال الزمخشري : هذا من الكلام المتسامح فيه ثقة في تأويله بأفهام السامعين واتكالاً على تسديدهم معناه بعقولهم ، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد ، وعليه كلام الناس المستفيض يقولون : لا يثيب الله عبداً ولا يعاقبه إلا بحق قال : وفيه تأويل آخر وهو : أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب ، وصورته : أن يكتب في اللوح : إن حج فلان أو غزا فعمره أربعون سنة ، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمر ، وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعون فقد نقص عن عمره الذي هو الغاية وهو الستون ، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : "إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار".
وعن كعب أنه قال حين طعن عمر رضي الله تعالى عنه : لو أن عمر دعا الله لأخر في أجله فقيل لكعب : أليس قد قال الله تعالى {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (الأعراف : 34)
فقال : هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد وينقص ، وقرأ هذه الآية وقد استفاض على الألسنة : أطال الله تعالى بقاءك ، وفسح في مدتك وما أشبهه.
وعن سعيد بن جبير : يكتب في الصحيفة عمره كذا وكذا سنة ، ثم يكتب في أسفل ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى يأتي على آخره ، وعن قتادة المعمر من بلغ ستين سنة ، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة ، والكتاب في قوله تعالى {إلا في كتاب} أي : مكتوب فيه عمر فلان كذا وكذا ، وعمر فلان كذا إن عمل كذا وعمره كذا إن لم يعمل كذا هو اللوح المحفوظ قاله ابن عباس ، قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بكتاب الله علم الله تعالى أو صحيفة الإنسان.
ولما كان ذلك أمراً لا يحيط به العد ولا يحصره الحد فكان في عداد ما ينكره الجهلة قال تعالى مؤكداً لسهولته {إن ذلك} أي : الأمر العظيم من كتب الآجال كلها وتقديرها {على الله} أي : الذي له جميع العزة {يسير} أي : هين. وقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 385
390(3/264)
{وما يستوي البحران هذا عذب} أي : طيب حلو لذيذ ملائم طبعه {فرات} أي : بالغ العذوبة {سائغ شرابه} أي : شربه مرئ سهل انحداره لما له من اللذة والملايمة للطبع {وهذا ملح أجاج} أي : جمع إلى الملوحة المرارة فلا يسوغ شرابه بل لو شرب لآلم الحلق وأجج في البطن ما هو كالنار ضرب مثلاً للمؤمن والكافر ، وقوله تعالى : {ومن كل} أي : الملح والعذب {تأكلون} أي : من السمك المنّوع إلى أنواع تفوت الحصر {لحماً طرياً} أي : شهي المطعم {وتستخرجون} أي : من الملح دون العذب {حلية تلبسونها} أي : نساؤكم من الجواهر الدر والمرجان وغيرهما ، ذكر استطراداً في صفة البحرين وما فيهما من النعم وتمام التمثيل ، والمعنى : كما أنهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان من حيث إنهما لا يتساويان فيما هو مقصود بالذات من الماء فإنه خالط أحدهما ما أفسده ، وغيره عن كمال فطرته فلا يتساوى المؤمن والكافر وإن اتفق اشتراكهما في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة لاختلافهما فيما هو الخاصة العظمة وهي بقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 390
وقيل : تخرج الحلية منهما كما هو ظاهر قوله تعالى {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} (الرحمن : 22)
قال البغوي : لأنه قد يكون في البحر الأجاج عيون عذبة تمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ من ذلك انتهى.
فائدة : عاب المبرد وغيره قول الشافعي رضي الله تعالى عنه : كل ماء من بحر عذب أو مالح فالتطهر به جائز وقالوا : إنه لحن وإنما يقال : ملح كما قال تعالى {وهذا ملح أجاج} وهم مخطئون في ذلك كما قيل :
*وكم من عائب قولاً صحيحاً ** وآفته من الفهم السقيم*
*ولكن تأخذ الآذان منه ** على قدر القريحة والفهوم*
قال النووي : وأجاب أصحابنا بأجوبة : أصحها أن فيه أربع لغات : ملح ومالح ومليح وملاح بضم الميم وتخفيف اللام قال عمر بن أبي ربيعة :
391
*ولو تفلت في البحر والبحر مالح ** لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا*
وقال آخر :
*وللرزق أسباب تروح وتغتدي ** وإني منها غير غاد ورائح*
*قنعت بثوب العدم من حلة الغنى ** ومن بارد عذب زلال بمالح*
وقال محمد بن حازم :
*تلونت ألواناً علي كثيرة ** وخالط عذباً من إخائك مالح*
وقال خالد بن يزيد بن معاوية في رملة بنت الزبير :
*ولو وردت ماء وكانت قبيله ** مليحاً شربنا ماءه بارداً عذباً*
وقال الخطابي : يقال : ماء ملاح كما يقال : أجاج وزعاق وزلال قال : وإنما نزل الشافعي من اللغة العالية إلى التي هي أدنى للإيضاح وحسماً للإشكال والالتباس ؛ لئلا يتوهم متوهم أنه أراد بالملح المذاب فيظن أن الطهارة به جائزة.
وثاني الأجوبة : أن الشافعي إمام في اللغة فقوله فيها حجة.
وثالثها : أن هذه اللفظة ليست من كلام الشافعي ولم يذكرها بل من كلام المزني وهذا ليس بشيء ، وكيف ينسب الخطأ إلى المزني وعنه مندوحة ، وقولهم : لم يذكرها الشافعي غير صحيح وقد أنكره البيهقي وقال : بل سمى الشافعي البحر مالحاً في كتابين "أمالي الحج" و"المناسك الكبير".
فائدة أخرى : وهي أن ابن عمر قال في البحر : التيمم أحب إلينا منه وقال : بحركم هذا نار وتحت النار بحر حتى عد سبعة أبحر وسبعة أنوار ، ولكن روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من لم يطهره البحر فلا طهره الله" ويؤول كلام ابن عمر بأنه سيصير يوم القيامة ناراً أو بأنه مهلكة يهلك كما تهلك النار ، ولما كان الأكل والاستخراج من المنافع العامة عمَّ الخطاب.
ولما كان استقرار شيء في البحر دون غرق أمراً غريباً لكنه صار لشدة ألفه لا يقوم بأنه من أكبر الآيات دلالة على القادر المختار إلا أهل البصائر خص بالخطاب فقال {وترى الفلك} أي : السفن سمى فلكاً لدورانه وسفينة لقشره الماء ، وقدم الظرف في قوله تعالى {فيه} لأنه أشد دلالة على ذلك {مواخر} أي : جواري مستدبرة الريح شاقة للماء بجريها هذه مقبلة وهذه مدبرة وجهها إلى ظهر هذه بريح واحدة يقال : مخرت السفينة الماء ويقال للسحاب : بنات مخر ؛ لأنها تمخر الهواء ، والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر ؛ لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره ثم علق بالمخر معللاً قوله تعالى {لتبتغوا} أي : تطلبوا طلباً شديداً {من فضله} أي : الله بالتوصل بذلك إلى البلاد الشاسعة للمتاجر وغيرها ، ولو جعلها ساكنة لم يترتب عليها ذلك ولم يجر به ذكر في الآية ولكن فيما قبلها ، ولو لم يجر لم يشكل لدلالة المعنى عليه {ولعلكم
392
تشكرون} أي : وليكون حالكم بهذه الدالة على عظيم قدرة الله تعالى ولطفه حال من يرجى شكره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 390
تنبيه : حرف الرجاء مستعار لمعنى الإرادة ألا ترى كيف سلك به مسلك لام التعليل ؟
كأنما قيل : لتبتغوا ولتشكروا.
ولما ذكر تعالى اختلاف الذوات الدالة على بديع صنعه أتبعه اختلاف الأزمنة الدالة على بديع قدرته بقوله تعالى :
{يولج} أي : يدخل الله {الليل في النهار} فيصير الظلام ضياء.(3/265)
ولما كان هذا الفعل في غاية الإعجاب وكان لكثرة تكراره قد صار مألوفاً فغفل عما فيه من الدلالة على تمام القدرة نبه عليه بإعادة الفعل بقوله تعالى : {ويولج النهار في الليل} فيصير ما كان ضياء ظلاماً ، وتارة يكون التوالج بقصر هذا وطول هذا فدل كل ذلك على أنه تعالى فاعل بالاختيار.
ولما ذكر الليل والنهار ذكر ما ينشأ عنهما بقوله تعالى : {وسخر الشمس والقمر} ثم استأنف قوله تعالى {كل} أي : منهما {يجري} أي : في فلكه {لأجل} أي : لأجْلِ أجَلٍ {مسمى} مضروب له لا يقدر أن يتعداه ، فإذا جاء ذلك الأجل غرب هكذا كل يوم إلى أن يأتي الأجل الأعظم فيختل هذا النظام بإذن الملك العلام ، وتقوم الناس ليوم الزحام وتكون الأمور العظام.
ولما ذكر سبحانه أنه الفاعل المختار القادر على ما يريد بما يشاهده كل أحد في نفسه وفي غيره وختم بما تكرر مشاهدته في كل يوم مرتين أنتج ذلك قطعاً قوله تعالى معظماً بأداة البعد وميم الجمع {ذلكم} أي : العالي المقدار الذي فعل هذه الأفعال كلها {الله} الذي له صفة كل كمال ، ثم نبههم على أنه لا مدبر لهم سواه بخبر آخر بقوله تعالى : {ربكم} أي : الموجد لكم من العدم المربّي بجميع النعم لا رب لكم سواه ، ثم استأنف قوله تعالى : {له} أي : وحده {الملك} أي : كله وهو مالك كل شيء {والذين تدعون} أي : تعبدون {من دونه} أي : غيره وهم الأصنام وغيرها وكل شيء دونه {ما يملكون} في حال من الأحوال وأعرق في النفي بقوله تعالى : {من قطمير} وهو كما روي عن ابن عباس : لفافة النواة وهي القشرة الرقيقة الملتفة عليها ، كناية عن أدنى الأشياء فكيف بما فوقه ؟
فليس لهم شيء من الملك ، والآية من الاحتباك ذكر الملك أولاً دليلاً على حذفه ثانياً والملك ثانياً دليلاً على حذفه أولاً.
وقيل : القطمير هو القمع وقيل : ما بين القمع والنواة ، ففي النواة على الأول أربعة أشياء يضرب بها المثل : في القلة الفتيل : وهو ما في شق النواة ، والقطمير : وهو اللفافة والنقير : وهو ما في ظهر النواة والرقروق : وهو ما بين القمع والنواة ثم بين ذلك بقوله تعالى :
{إن تدعوهم} أي : المعبودات من دونه دعاء عبادة أو استعانة {لا يسمعوا دعاءكم} أي : لأنهم جماد {ولو سمعوا} أي : على سبيل الفرض والتقدير {ما استجابوا لكم} أي : لعدم قدرتهم على الانتفاع.
جزء : 3 رقم الصفحة : 390
ولما بين عدم النفع فيهم في الدنيا بين عدم النفع منهم في الآخرة ووجود الضرر منهم في الآخرة بقوله سبحانه {ويوم القيامة} أي : حين ينطقهم الله تعالى {يكفرون بشرككم} أي : بإشراككم فينكرونه ويتبرؤن منه بقولهم {ما كنتم إيّانا تعبدون} (يونس : 28)
كما حكى الله تعالى ذلك عنهم في آية أخرى {ولا ينبئك} أي : يخبرك أي : السامع بالأمر مخبر هو {مثل خبير} أي : عالم به أي : أن الخبير بالأمر وحده هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به ؛ لأنه لا يمكن
393
الطعن في شيء مما أخبر به بخلاف غيره والمعنى : أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق ؛ لأني خبير بما أخبرت به.
ولما اختص تعالى بالملك ونفى عن شركائهم النفع أنتج ذلك قوله تعالى :
{يا أيها الناس} أي : كافة {أنتم} أي : خاصة {الفقراء} وقوله سبحانه {إلى الله} إعلام بأنه لا افتقار إلا إليه ولا اتكال إلا عليه ، وهذا يوجب عبادته لكونه مفتقر إليه وعدم عبادة غيره لعدم الافتقار إلى غيره.
فإن قيل : لم عرف الفقراء ؟
أجيب : بأنه قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء ، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم ؛ لأن الفقر يتبع الضعف وكلما كان الفقير أضعف كان أحقر ، وقد شهد الله تعالى على الإنسان بالضعف في قوله تعالى {وخلق الإنسان ضعيفاً} (النساء : 28)
وقال تعالى {الله الذي خلقكم من ضعف} (الروم : 54)
ولو نكر لكان المعنى : أنتم بعض الفقراء.
قال القشيري : والفقر على ضربين : فقر خلقة ، وفقر صفة فالأول عام ، فكل حادث مفتقر إلى خالقه في أول حال وجوده ليبدئه وينشئه ، وفي ثانيه ليديمه ويبقيه ، وأما فقر الصفة : فهو التجرد وفقر العوام التجرد عن المال ، وفقر الخواص التجرد عن الإعلال فحقيقة الفقر المحمود تجرد السر عن المعلومات.(3/266)
ولما ذكر العبد بوصفه الحقيقي أتبعه ذكر الخالق باسمه الأعظم فقال : {والله هو الغني} أي : المستغني على الإطلاق فلا يحتاج إلى أحد ولا إلى عبادة أحد من خلقه ، وإنما أمرهم بالعبادة لإشفاقه تعالى عليهم ففي هذا رد على المشركين حيث قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله لعله محتاج إلى عبادتنا حتى أمرنا بها أمراً بالغاً وهددنا على تركها مبالغاً ، فإن قيل : قد قابل الفقر بالغنى فما فائدة قوله تعالى {الحميد} أي : المحمود في صنعه بخلقه ؟
أجيب : بأنه لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم وليس كل غني نافعاً بغناه إلا إذا كان الغني منعماً جواداً ، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم واستحق عليهم الحمد ذكر الحميد ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه الجواد المنعم عليهم المستحق بإنعامه أن يحمدوه وقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 390
إن يشأ يذهبكم} أي : جميعاً بيان لغنائه وفيه بلاغة كاملة ؛ لأن قوله تعالى {إن يشأ يذهبكم} أي : ليس إذهابكم موقوفاً إلا على مشيئته بخلاف الشيء المحتاج إليه فإن المحتاج إلى الشيء لا يقال فيه : إن شاء فلان هدم داره ، وإنما يقال : لولا حاجة السكنى إلى الدار لبعتها ، ثم إنه تعالى زاد على بيان الاستغناء بقوله تعالى : {ويأت بخلق جديد} أي : إن كان يتوهم متوهم أن بهذا الملك كماله وعظمته فلو أذهبه لزال ملكه وعظمته فهو قادر أن يخلق خلقاً جديداً أحسن من هذا وأجمل ، وعن ابن عباس : يخلق بعدكم من يعبده لا يشرك به شيئاً.
{وما ذلك} أي : الأمر العظيم من الإذهاب والإتيان {على الله} أي : المحيط بجميع صفات الكمال خاصة {بعزيز} أي : بممتنع ولا شاق وهو محمود عند الإعدام كما هو محمود عند الإيجاد ، فإن قيل : استعمل تعالى العزيز تارة في القائم بنفسه فقال تعالى في حق نفسه {وكان الله قوياً عزيزاً} (الأحزاب : 25)
وقال في هذه السورة {عزيز غفور} (فاطر : 28)
واستعمله تارة في القائم بغيره فقال تعالى {وما ذلك على الله بعزيز} وقال تعالى {عزيز عليه ما عنتم} (التوبة : 128)
فهل هما بمعنى واحد أو بمعنيين ؟
أجيب : بأن العزيز في اللغة هو الغالب والفعل إذا كان لا
394
يطيقه شخص يقال : هو مغلوب بالنسبة إلى ذلك الفعل فقوله تعالى {وما ذلك على الله بعزيز} أي : ذلك الفعل لا يغلبه بل هو هيّن على الله تعالى وقوله سبحانه {عزيز عليه ما عنتم} أي : يحزنه ويؤذيه كالشغل الغالب.
وقوله تعالى : {ولا تزر وازرة وزر أخرى} فيه حذف الموصوف للعلم به أي : ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، فإن قيل : كيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم} ؟
(العنكبوت : 13)
أجيب : بأن تلك الآية في الضالين المضلين فإنهم يحملون أثقال إضلالهم وكل ذلك أوزارهم وليس فيها شيء من أوزار غيرهم. {وإن تدع} أي : نفس {مثقلة} أي : بالوزر {إلى حملها} أي : من الوزر أحداً ليحمل بعضه {لا يحمل} أي : من حامل ما {منه شيء} أي : لا طواعية ولا كرهاً بل لكل امرئ شأن يغنيه {ولو كان} ذلك الداعي أو المدعو للحمل {ذا قربى} لمن دعاه.
فإن قيل : ما الفرق بين معنى قوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} ومعنى قوله تعالى {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء} ؟
أجيب : بأن الأول : في الدلالة على عدل الله تعالى في حكمه وأنه لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها ، والثاني : في أن لا غياث يومئذ بمن استغاث حتى أن نفساً قد أثقلتها الأوزار لَوْدَعت إلى أن تخفف بعض وزرها لم تجب ولم تغث ، وإن كان الداعي أو المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ قال ابن عباس : يلقى الأب أو الأم ابنه فيقول : يا بني احمل عني بعض ذنوبي فيقول لا أستطيع حسبي ما علي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 390
تنبيه : أضمر الداعي أو المدعو بدلالة إن تدع عليه.
ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعهم ذلك فلم ينفعهم نزل {إنما تنذر} أي : إنذاراً يفيد الرجوع عن الغي {الذين يخشون ربهم} أي : المحسن إليهم فيوقعون هذا الفعل في الحال ويواطئون عليه في الاستقبال ، ولما كان أولى الناس عقلاً وأعلاهم همة من كان غيبه مثل حضوره قال تعالى {بالغيب} وهو حال من الفاعل أي : يخشونه غائبين بين عنه أو من المفعول أي : غائباً عنهم.
ولما كانت الصلاة جامعة للخضوع الظاهر والباطن فكانت أشرف العبادات وكانت إقامتها بمعنى حفظ جميع حدودها في كل حال أدل الطاعات على الإخلاص قال تعالى معبراً بالماضي ؛ لأن مواقيت الصلاة مضبوطة {وأقاموا} أي : دليلاً على خشيتهم {الصلاة} في أوقاتها الخمسة وما يتبع ذلك من السنن {ومن تزكى} أي : تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي {فإنما يتزكى لنفسه} إذ نفعه لها {وإلى الله} أي : الذي لا إله غيره {المصير} أي : المرجع كما كان منه المبدأ فيجازي كلاً على فعله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 390(3/267)
ثم لما بين تعالى الهدى والضلالة وهدى الله تعالى المؤمن ولم يهد الكافر ضرب لهما مثلاً بقوله تعالى :
{وما يستوي الأعمى} أي : عن الهدى {والبصير} بالهدى أي : المؤمن والكافر وقيل : الجاهل والعالم ، وقيل : هما مثلاً للصنم ولله تعالى.
{ولا الظلمات} أي : الكفر {ولا النور} أي : الإيمان ، أو ولا الباطل ولا الحق.
{ولا الظل} أي : الجنة {ولا الحرور} أي : النار ، أو ولا الثواب ولا العقاب.
تنبيه : قال ابن عباس : الحرور الريح الحارة بالليل ، والسموم بالنهار وقيل : الحرور تكون بالنهار مع الشمس ، وقيل : السموم تكون بالنهار والحرور بالليل والنهار.
395
وقوله تعالى {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} تمثيل آخر للمؤمن والكافر أبلغ من الأول ولذلك كرر الفعل وقيل : للعلماء وللجهال.
تنبيه : زيادة لافي الثلاثة لتأكيد نفي الاستواء ، وجاء ترتيب هذه المنفيات على أحسن الوجوه ، فإنه تعالى لما ضرب الأعمى والبصير مثلين للمؤمن والكافر عقب بما كل منهما فيه ، والكافر في ظلمة والمؤمن في نور ؛ لأن البصير وإن كان حديد البصر لابد له من ضوء يبصر فيه ، وقدم الأعمى ؛ لأن البصير فاصله فحسن تأخيره ، ولما تقدم الأعمى في الذكر ناسب تقديم ما فيه فلذلك قدمت الظلمة على النور ، ولأن النور فاصلة ، ثم ذكر ما لكل منهما فللمؤمن الظل وللكافر الحرور وأخر الحرور لأجل الفاصلة كما مر ، وقولنا : لأجل الفاصلة أولى من قول بعضهم لأجل السجع ؛ لأن القرآن ينبو عن ذلك ، وقد منع الجمهور أن يقال في القرآن سجع.
جزء : 3 رقم الصفحة : 395
وإنما كرر الفعل في قوله تعالى {وما يستوي الأحياء} مبالغة في ذلك ؛ لأن المنافاة بين الحياة والموت أتمّ من المنافاة المتقدمة ، وقدم الأحياء لشرف الحياة ولم يعد لا تأكيداً في قوله تعالى {الأعمى والبصير} وكرّرها في غيره ؛ لأن منافاة ما بعده أتم ، فإن الشخص الواحد قد يكون بصيراً ثم يصير أعمى فلا منافاة إلا من حيث الوصف بخلاف الظل والحرور ، والظلمات والنور ، فإنها منافية أبداً لا يجتمع اثنان منها في محل ، فالمنافاة بين الظل والحرور وبين الظلمة والنور دائمة.
فإن قيل : الحياة والموت بمنزلة العمى والبصر فإن الجسم قد يكون متصفاً بالحياة ثم يتصف بالموت ، أجيب : بأن المنافاة بينهما أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير ؛ لأن الأعمى والبصير يشتركان في إدراكات كثيرة ولا كذلك الحي والميت ، فالمنافاة بينهما أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير ؛ لأنه قابل الجنس بالجنس ، وقد يوجد في أفراد العميان من يساوي بعض أفراد البصراء كأعمى ذكي له بصيرة يساوي بصيراً بليداً فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به لا بين الأفراد.
وجمع الظلمات ؛ لأنها عبارة عن الكفر والضلال وطرقهما كثيرة متشعبة ووحد النور ؛ لأنه عبارة عن التوحيد وهو واحد ، فالتفاوت بين كل فرد من أفراد الظلمة وبين هذا الفرد الواحد والمعنى : الظلمات كلها لا يوجد فيها ما يساوي هذا الواحد.
ثم نبه سبحانه بقوله تعالى : {إن الله} أي : القادر على المفاوتة بين هذه الأشياء وعلى كل شيء بما له من الإحاطة من صفات الكمال {يسمع من يشاء} على أن الخشية والقسوة إنما هما بيده تعالى ، وإن الإنذار إنما هو لمن قضى بانتفاعه فيتعظ ويجيب {وما أنت} أي : بنفسك من غير إقدار الله تعالى لك {بمسمع} أي : بوجه من الوجوه {من في القبور} أي : الحسية أو المعنوية إسماعاً ينفعهم بل الله يسمعهم إن شاء {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} (فاطر : 8)
{إن} أي : ما {أنت إلا نذير} أي : تنبه القلوب الميتة بقوارع الإنذار ولست بوكيل تقهرهم على الإيمان.
ثم بين تعالى أنه ليس نذيراً من تلقاء نفسه إنما هو بإذن الله تعالى وإرساله بقوله تعالى :
{إنا} أي : بما لنا من العظمة {أرسلناك} أي : إلى هذه الأمة {بالحق} أي : الأمر الكامل في الثبات الذي يطابقه الواقع ، فإن من نظر إلى كثرة ما أوتيه من الدلائل علم مطابقة الواقع لما يأمر به.
396
تنبيه : يجوز في قوله تعالى : {بالحق} أوجه : أحدها : أنه حال من الفاعل أي : أرسلناك محقين ، أو من المفعول أي : محقاً ، أو نعت لمصدر محذوف أي : إرسالاً متلبساً بالحق ويجوز أن يكون صلة لقوله تعالى {بشيراً} أي : لمن أطاع {ونذيراً} أي : لمن عصى {وإن} أي : وما {من أمة إلا خلا} أي : سلف {فيها نذير} أي : نبي ينذرها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 395
تنبيه : الأمة : الجماعة الكثيرة قال تعالى {وجد عليه أمة من الناس يسقون} (القصص : 23)(3/268)
ويقال لكل أهل عصر أمة ، والمراد ههنا أهل العصر ، فإن قيل : كم من أمة في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يخل فيها نذير ، أجيب : بأن آثار النذارة إذا كانت باقية لم تخل من نذير إلى أن تندرس وحين اندرست آثار نذارة عيسى عليه السلام بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم فإن قيل : كيف اكتفى بذكر النذير عن البشير في آخر الآية بعد ذكرهما ؟
أجيب : بأنه لما كانت النذارة مشفوعة من البشارة لا محالة دلّ ذكرها على ذكرها ، لا سيما وقد اشتملت الآية على ذكرهما ، أو لأن الإنذار هو المقصود والأهم من البعثة.
{وإن يكذبوك} أي : أهل مكة {فقد كذب الذين من قبلهم} أي : ما أتتهم به رسلهم عن الله تعالى {جاءتهم} أي : الأمم الخالية {رسلهم بالبينات} أي : الآيات الواضحات والدلالة على صحة الرسالة من المعجزات وغيرها {وبالزبر} أي : الأمور المكتوبة كصحف إبراهيم عليه السلام {وبالكتاب} أي : جنس الكتاب كالتوراة والإنجيل {المنير} أي : الواضح في نفسه الموضح لطريق الخير والشر ، كما أنك أتيت قومك بمثل ذلك وإن كانت طريقتك أوضح وأظهر ، وكتابك أنور وأبهر وأظهر وأشهر ، وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حيث علم أن غيره كان مثله في تكذيبه وكان محتملاً لأذى القوم.
تنبيه : لما كانت هذه الأشياء في جنسهم أسند المجيء بها إليهم إسناداً مطلقاً وإن كان بعضها في جميعهم وهي البينات وبعضها في بعضهم وهي الزبر والكتاب.
ولما سلاه الله تعالى هدد من خالفه وعصاه بما فعل في تلك الأمم الماضية بقوله تعالى :
{ثم أخذت} أي : بأنواع الأخذ {الذين كفروا} أي : ستروا تلك الآيات المنيرة بعد طول صبر الرسل عليهم الصلاة والسلام عليهم ودعائهم لهم {فكيف كان نكير} أي : إنكاري عليهم بالعقوبة والإهلاك أي : هو واقع موقعه.
تنبيه : أثبت ورش الياء بعد الراء في الوصل دون الوقف ، والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً.
ولما ذكر تعالى الدلائل ولم ينتفعوا قطع الكلام معهم والتفت إلى غيرهم بقوله تعالى :
{ألم تر} أي : تعلم أي : أيها المخاطب {أن الله} أي : الذي له جميع صفات الكمال {أنزل من السماء ماء} كما أن السيد إذا نصح بعض عبيده ولم ينزجر يقول لغيره : اسمع ولا تكن مثل هذا ويكرر ما ذكره للأول ، ويكون فيه إشعار بأن الأول فيه نقيصة لا يصلح للخطاب فيتنبه له ويدفع عن نفسه تلك النقيصة ، وأيضاً فلا يخرج إلى كلام أجنبي عن الأول بل يأتي بما يقاربه ؛ لئلا يسمع الأول كلام الآخر فيترك التفكر فيما كان وقوله تعالى {فأخرجنا} أي : بما لنا من القدرة والعظمة {به} أي : بالماء {ثمرات} أي : متعددة الأنواع ، فيه التفات من الغيبة إلى التكلم وإنما كان ذلك ؛ لأن المنة بالإخراج أبلغ من إنزال الماء وقوله تعالى : {مختلفاً} نعت لثمرات وقوله تعالى : {ألوانها} فاعل به ، ولولا ذلك لأنث مختلفاً ، ولكنه لما أسند إلى جمع تكسير غير عاقل
397
جاز تذكيره ، ولو أنث فقيل : مختلفة كما تقول : اختلفت ألوانها لجاز أي : مختلفة الأجناس من الرمان والتفاح والعنب وغيرها مما لا يحصر أو الهيئات من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها ، فالذي قدر على المفاوتة بينها وهي من ماء واحد لا يستبعد عليه أن يجعل الدلائل بالكتاب وغيره نوراً لشخص وعمى لآخر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 395
ولما ذكر تعالى تنوع ما من الماء وقدمه ؛ لأنه الأصل في التكوين أتبعه التكوين من التراب الذي هو أيضاً شيء واحد بقوله تعالى ذاكراً ما هو أصلب الأرض وأبعدها عن قابلية التكوين : {ومن الجبال جدد} قال الجلال المحلّي رحمه الله تعالى : جمع جدة : طريق في الجبل وغيره وقال الزمخشري : الجدد الخطوط والطرائق ، وقال أبو الفضل : الجدة ما تخالف من الطرائق لون ما يليها ، ومنه جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره ، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه {بيض وحمر} وصفر وقوله تعالى {مختلف} صفة لجدد وقوله تعالى {ألوانها} فاعل به كما مر في نظيره ، ويحتمل معنيين : أحدهما : أن البياض والحمرة يتفاوتان بالشدة والضعف فرب أبيض أشد من أبيض وأحمر أشد من أحمر فنفس البياض مختلف وكذا الحمرة ، فلذلك جمع ألوانها فيكون من باب المشكك. والثاني : أن الجدد كلها على لونين بياض وحمرة والبياض والحمرة وإن كانا لونين إلا أنهما جمعا باعتبار محلهما.(3/269)
وقوله تعالى {وغرابيب سود} فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه معطوف على حمر عطف ذي لون على ذي لون. ثانيها : أنه معطوف على بيض. ثالثها : واقتصر عليه الجلال المحلي أنه معطوف على جدد أي : صخور شديدة السواد قال الجلال المحلي : يقال كثيراً : أسود غربيب ، وقليلاً غربيب أسود ، وقال البغوي : أي : سود غرابيب على التقديم والتأخير يقال : أسود غربيب أي : شديد السواد تشبيهاً بلون الغراب أي : طرائق سود ، وعن عكرمة : هن الجبال الطوال السود ، وقال الزمخشري : الغربيب تأكيد للأسود ، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد كقولك : أصفر فاقع ، ووجهه أن يضمر المؤكد قبله فيكون الذي بعده مفسراً لما أضمر كقوله النابغة الجعدي :
*والمؤمن العائذات الطير تمسحها ** ركبان مكة بين الغيل والسغد*
هما موضعان والمؤمن : اسم الله وهو مجرور بالقسم والعائذات : منصوب بالمؤمن والمراد بها : الحمام لما عاذت بمكة والتجأت إليها حرم التعرض لها ، والطير منصوب بالبدل أو بعطف البيان ، ووجه الاستدلال بذلك : أن الطير دال على المحذوف وهو مفعول لمؤمن والعائذات الطير ، قال أبو حيان : وهذا لا يصح إلا على مذهب من يجوز حذف المؤكد ، ومن النحويين من منعه وهو اختيار ابن مالك ، ورد عليه بأن هذا ليس هو التأكيد المختلف في حذف مؤكده ؛ لأن هذا من باب الصفة والموصوف ومعنى تسميه الزمخشري له توكيداً من حيث إنه لا يفيد معنى زائداً وإنما يفيد المبالغة والتوكيد في ذلك اللون ، والنحويون قد سموا الوصف إذا لم يفد غير الأول توكيداً فقالوا : وقد يجيء لمجرد التوكيد نحو قوله تعالى {نفخة واحدة} (الحاقة : 13)
جزء : 3 رقم الصفحة : 395
و{إلهين اثنين} (النحل : 51)
والتوكيد المختلف في حذف مؤكده ، إنما هو في باب التوكيد الصناعي ،
398
ومذهب سيبويه جوازه ، وقال ابن عادل : والأولى فيه أن يسمى توكيداً لفظياً إذ الأصل سود غرابيب سود.
ولما ذكر تعالى ما الأغلب فيه الماء مما استحال إلى أمر آخر بعيد من الماء وأتبعه التراب الصرف ختم بما الأغلب فيه التراب مما استحال إلى ما هو في غاية البعد من التراب فقال :
{ومن الناس والدواب} ولما كانت الدابة في الأصل اسماً لما دبَّ على الأرض ثم غلب إطلاقه على ما يركب قال : {والأنعام} ليعم الكل صريحاً {مختلف ألوانه} أي : ألوان ذلك البعض الذي أفهمته من {كذلك} أي : مثل الثمار والأراضي منه ما هو ذو لون ومنه ما هو ذو لونين أو أكثر.
ولما قال تعالى {ألم تر} بمعنى ألم تعلم أن الله أنزل من السماء ماء وعدد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعه وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس ، وما يستدل به عليه وعلى صفاته من أنه فاعل بالاختيار فهو يفعل ما يشاء قال تعالى : {إنما يخشى الله} أي : الذي له جميع صفات الكمال {من عباده العلماء} قال ابن عباس رضي الله عنه : يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني ، فالخشية بقدرة معرفة المخشي ، والعالم يعلم الله فيخافه ويرجوه ، وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد لقوله تعالى : {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات : 13)
بين تعالى أن الكرامة بقدر التقوى ، والتقوى بقدر العلم لا بقدر العمل ، فمن ازداد منه علماً ازداد منه خشية وخوفاً ، ومن كان علمه به أقل كانت خشيته أقل ، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : "إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية" وقال صلى الله عليه وسلم "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً".
وقال مسروق : كفى بالمرء علماً أن يخشى ، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله ، وقال رجل للشعبي : أفتني أيها العالم فقال له : العالم من خشي الله تعالى ، قال السهروردي في الباب الثالث من معارفه : فينتفي العلم عمن لا يخشى الله تعالى كما إذا قال إنما يدخل الدار بغدادي فينتفي دخول غير البغدادي الدار ، وقيل : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى أثرت فيه ، فإن قيل : هل يختلف المعنى إذا قدم المفعول في هذا الكلام أو أخر ؟
أجيب : بأنه يختلف فإنك إذا قدمت اسم الله وأخرت العلماء كان المعنى إن الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم ، فإذا عملت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم لا يخشون إلا الله كقوله تعالى {ولا يخشون أحداً إلا الله} (الأحزاب : 39)
جزء : 3 رقم الصفحة : 395
وهما معنيان مختلفان.
تنبيه : رسم العلماء بالواو وقوله تعالى {إن الله} أي : المحيط بالجلال والإكرام {عزيز} أي : غالب على جميع أمره {غفور} أي : لذنوب من أراد من عباده تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب للمصرّ على طغيانه غفور للتائب عن عصيانه ، والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى.
ولما بين سبحانه العلماء بالله وخشيتهم وكرامتهم بسب خشيتهم ذكر العالمين بكتاب الله العاملين بما فيه بقوله تعالى :
{إن الذين يتلون كتاب الله} أي : يداومون على تلاوته وهي شأنهم
399(3/270)
وديدنهم ، وعن مطرف : هي آية القراء ، وعن الكلبي : يأخذون بما فيه ، وقيل : يعلمون ما فيه ويعملون به ، وعن السدي : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عطاء : هم المؤمنون {وأقاموا الصلاة} أي : أداموها {وأنفقوا مما رزقناهم} من زكاة وغيرها {سراً وعلانية} قيل : السر في المسنون والعلانية في المفروض.
تنبيه : أشار تعالى بقوله سبحانه وتعالى {يتلون كتاب الله} إلى الذكر وبقوله تعالى : {وأقاموا الصلاة} إلى العمل البدني وبقوله تعالى : {وأنفقوا مما رزقناهم} إلى العمل المالي ، وفي هاتين الآيتين الشريفتين حكمة بالغة وهي أن قوله تعالى {إنما يخشى الله} إشارة إلى عمل القلب وقوله تعالى {الذين يتلون} إشارة إلى عمل اللسان وقوله {وأقاموا الصلاة} إشارة إلى عمل الجوارح ثم إن هذه الأشياء الثلاثة متعلقة بجانب تعظيم الله تعالى وقوله تعالى {وأنفقوا مما رزقناهم} بمعنى الشفقة على خلقه وقوله تعالى {سراً وعلانية} حث على الإنفاق كيفما تهيأ ، فإن تهيأ سراً فذاك وإلا فعلانية ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء فإن ترك الخير مخافة ذلك هو عين الرياء.
ولما أحل تعالى هؤلاء بالمحل الأعلى بين حالهم بقوله تعالى : {يرجون} أي : في الدنيا والآخرة {تجارة} أي : بما عملوا {لن تبور} أي : تكسد وتهلك بل هي باقية ؛ لأنها رفعت إلى من لا تضيع إليه الودائع وهي رائجة رابحة لكونه تعالى تام القدرة شامل العلم له الغنى المطلق.
{ليوفيهم أجورهم} أي : جزاء أعمالهم بالثواب {ويزيدهم من فضله} قال ابن عباس رضي الله عنه : يعني سوى الثواب ما لم تر عين ولم تسمع أذن ، ويحتمل أن يزيدهم النظر إليه تعالى كما جاء في تفسير الزيادة وهذا هو النعمة العظمى {إنه غفور شكور} قال ابن عباس رضي الله عنه : يغفر الذنب العظيم من ذنوبهم ويشكر اليسير من أعمالهم ، وقيل : غفور عند إعطاء الأجر شكور عند إعطاء الزيادة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 395
تنبيه : في خبر إن من قوله {إن الذين يتلون كتاب الله} وجهان : أحدهما : أنه الجملة من قوله تعالى : يرجون تجارة أي : إن التالين يرجون ، ولن تبور صفة تجارة ، وليوفيهم متعلق ب يرجون أو تبور ، أو بمحذوف أي : فعلوا ذلك ليوفيهم ، وعلى الوجهين الأولين يجوز أن تكون لام العاقبة. والثاني : أن الخبر إنه غفور شكور جوز هذا الزمخشري على حذف العائد أي : غفور لهم وعلى هذا فيرجون حال من أنفقوا أي : أنفقوا ذلك راجين.
ولما بين تعالى الأصل الأول وهو وجود الله تعالى الواحد بالدلائل في قوله تعالى {الله الذي يرسل الرياح} وقوله تعالى {والله خلقكم} وقوله تعالى {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء} ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 395
400
{والذي أوحينا} أي : بما لنا من العظمة {إليك من الكتاب} أي : الجامع خيري الدارين.
تنبيه : "من الكتاب" يجوز أن تكون من للبيان كما يقال : أرسل إلى فلان من الثياب جملة ، وأن تكون للجنس ، وأن تكون لابتداء الغاية كما يقال : جاءني كتاب من الأمير ، وعلى كل فالكتاب يمكن أن يراد به اللوح المحفوظ يعني : الذي أوحينا من اللوح المحفوظ {هو الحق} أي : الكامل في الثبات ومطابقة الواقع ، ويمكن أن يراد به القرآن وهو ما اقتصر عليه الجلال المحلي يعني : الإرشاد والتبيين اللذين أوحينا إليك من القرآن ، ويمكن أن تكون من للتبعيض وهو فصل أو مبتدأ وقوله تعالى {مصدقاً لما بين يديه} أي : لما تقدمه من الكتب حال مؤكدة ؛ لأن الحق لا ينفك عن هذا التصديق وهذا تقرير لكونه وحياً ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يكن قارئاً كاتباً وأتى ببيان ما في كتاب الله لا يكون ذلك إلا بوحي من الله تعالى ، فإن قيل : لم يجعل ما تقدم مصدقاً للقرآن ؟
أجيب : بأن القرآن كونه معجزة يكفي تصديقه بأنه وحي وأما ما تقدم فلا بد فيه من معجزة تصدقه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 400
تنبيه : قوله تعالى {هو الحق} آكد من قول القائل الذي أوحينا إليك حق من وجهين : أحدهما : أن التعريف للخبر يدل على أن الأمر في غاية الظهور ؛ لأن الخبر في الأكثر يكون نكرة. الثاني : أن الإخبار في الغالب يكون إعلاماً بثبوت أمر لا يعرفه السامع كقولنا : زيد قام فإن السامع ينبغي أن يكون عارفاً ولا يعلم قيامه فيخبر به ، فإذا كان الخبر معلوماً فتكون الأخبار للنسبة فتعرف باللام كقولنا : إن زيداً العالم في هذه المدينة إذا كان علمه مشهوراً.
{إن الله} أي : الذي له جميع صفات الكمال {بعباده لخبير} أي : عالم أدق العلم وأتقنه ببواطن أحوالهم {بصير} أي : بظواهر أمورهم وبواطنها أي : فهو يسكن الخشية والعلم في القلوب على قدر ما أوتوا من الكتاب في علمه ، فأنت أحقهم بالكمال ؛ لأنك أخشاهم وأتقاهم فلذلك آتيناك هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب ، وتقديم الخبير للدلالة على أن العمدة في ذلك الأمور الروحانية وقوله تعالى : (3/271)
{ثم أورثنا الكتاب} في معناه وجهان : أحدهما : إنا أوحينا إليك القرآن ثم أورثناه من بعدك أي : حكمنا بتوريثه أو قال تعالى {أورثنا} وهو يريد نورثه فعبر عنه بالماضي لتحققه وقال مجاهد : أورثنا أعطينا ؛ لأن الميراث إعطاء واقتصر على هذا الجلال المحلي ، وقيل : أورثنا أخرنا ومنه الميراث ؛ لأنه تأخر عن الميت ومعناه : أخرنا القرآن من الأمم السالفة وأعطيناكموه وأهلناكم له.
تنبيه : أكثر المفسرين على أن المراد بالكتاب القرآن ، وقيل : إن المراد جنس الكتاب {الذين اصطفينا} أي : اخترنا {من عبادنا} قال ابن عباس رضي الله عنه : يريد بالعباد أمة محمد صلى الله عليه وسلم أي : من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة ، ونقل ابن الجوزي عن ابن عباس رضي الله عنه أن الله تعالى أورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم كل كتاب أنزله أي : لأن الله تعالى اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس ، وخصهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسله تعالى ، وحمل الكتاب الذي هو أفضل كتب الله تعالى ، ثم قسمهم بقوله تعالى : {فمنهم ظالم
401
لنفسه} أي : في التقصير بالعمل به {ومنهم مقتصد} أي : يعمل به في أغلب الأوقات {ومنهم سابق بالخيرات} وهو من يضم إلى العمل به التعليم والإرشاد إلى العمل.
روى أسامة بن زيد في هذه الآية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلهم من هذه الأمة". وروى أبو عثمان النهدي قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ على المنبر {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} الآية فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له" وروى أبو الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية {ثم أورثنا الكتاب} الآية (فاطر : 34)
جزء : 3 رقم الصفحة : 400
قال : أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب ، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً ، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم ثم يدخل الجنة ، ثم قرأ قوله تعالى {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} الآية.
وقال عقبة بن صهبان : سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله عز وجل {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} الآية فقالت : يا بني كلهم في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق بهم ، وأما الظالم فمثلي ومثلكم فجعلت نفسها معنا ، وقال مجاهد والحسن : فمنهم ظالم لنفسه هم أصحاب المشأمة ، ومنهم مقتصد هم أصحاب الميمنة ، ومنهم سابق بالخيرات السابقون المقربون من الناس كلهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : السابق المؤمن المخلص ، والمقتصد المرائي والظالم الكافر نعمة الله تعالى غير الجاحد لها ؛ لأنه تعالى حكم للثلاثة بدخول الجنة.
وقيل : الظالم هو الراجح السيئات ، والمقتصد هو الذي تساوت سيئاته وحسناته ، والسابق هو الذي رجحت حسناته ، وقيل : الظالم هو الذي ظاهره خير من باطنه ، والمقتصد من تساوى ظاهره وباطنه ، والسابق من باطنه خير من ظاهره ، وقيل : الظالم هو الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه ، والمقتصد : هو الموحد الذي يمنع جوارحه من المخالفة بالتكليف ، والسابق هو الموحد الذي ينسيه التوحيد غير التوحيد.
وقيل : الظالم صاحب الكبيرة ، والمقتصد صاحب الصغيرة ، والسابق المعصوم ، وقيل : الظالم التالي للقرآن غير العالم به والعامل به ، والمقتصد التالي العالم غير العامل ، والسابق التالي العالم العامل ، وقيل : الظالم الجاهل ، والمقتصد المتعلم ، والسابق العالم.
وقال جعفر الصادق : بدأ بالظالم إخباراً بأنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه وإن الظلم لا يؤثر في الاصطفاء ، ثم ثنّى بالمقتصد ؛ لأنه بين الخوف والرجاء ، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره وكلهم في الجنة ، وقال أبو بكر الوراق : رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس ؛ لأن أحوال العبد ثلاثة : معصية وغفلة ، ثم توبة ، ثم قربة ، فإذا عصى دخل في حياز الظالمين ، فإذا تاب دخل في
402
جملة المقتصدين ، فإذا صحت التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في عداد السابقين ، وقيل غير ذلك والله أعلم.
ولما كان هذا ليس في قوة العبد في مجاري العادات ولا يوجد بالكسب والاجتهاد أشار إلى عظمته بقوله تعالى : {بإذن الله} أي : بتمكين من له القدرة التامة والعظمة العامة والفعل بالاختيار وجميع صفات الجمال والجلال والكمال وتسهيله وتيسيره ، لئلا يأمن أحد مكره تعالى ، قال الرازي في "اللوامع" : ثم من السابقين من يبلغ محل القرب فيستغرق في وحدانيته تعالى {ذلك} أي : إيراثهم الكتاب أو السبق أو الاصطفاء {هو الفضل الكبير}.
جزء : 3 رقم الصفحة : 400
ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أحوالهم بين جزاءهم ومالهم بقوله تعالى مستأنفاً جواباً لمن سأل عن ذلك : (3/272)
{جنات عدن} أي : إقامة بلا رحيل ؛ لأنه لا سبب للترحيل عنها وقوله تعالى {يدخلونها} أي : الثلاثة أصناف ، خبر جنات عدن ومن دخلها لم يخرج منها ؛ لأنه لا شيء يخرجه ولا هو يريد الخروج منها ، وقرأ أبو عمرو بضم الياء وفتح الخاء ، والباقون بفتح الياء وضم الخاء.
ولما كان الداخل إلى مكان أول ما ينظر إلى ما فيه من النفائس قال تعالى {يحلون فيها} أي : يلبسون على سبيل التزين والتحلي {من أساور} أي : بعض أساور {من ذهب} فمن الأولى للتبعيض ، والثانية للتبيين وقوله تعالى {ولؤلؤ} عطف على ذهب أي : من ذهب مرصع باللؤلؤ ، أو من ذهب في صفاء اللؤلؤ ، وقرأ عاصم ونافع بالنصب عطفاً على محل من أساور ، والباقون بالجر.
تنبيه : أساور جمع أسورة وهي جمع سوار ، وذكر الأساور من بين سائر الحلي في مواضع كثيرة كقوله تعالى {وحلوا أساور من فضة} (الإنسان : 21)
يدل على كون المتحلي غير مبتذل في الأشغال ؛ لأن كثرة الأعمال باليد فإذا حليت بالأساور على الفراغ من الأعمال ، ولما كانت هذه الزينة لا تليق إلا على اللباس الفاخر قال تعالى {ولباسهم فيها حرير}.
{وقالوا} أي : ويقولون عند دخولهم ، وعبر عنه بالماضي تحقيقاً له {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : حزن النار ، وقال قتادة : حزن الموت وقال مقاتل : لأنهم كانوا لا يدرون ما يصنع بهم ، وقال عكرمة : حزن السيئات والذنوب وخوف رد الطاعات ، وقال القاسم : حزن زوال النعم وخوف العاقبة ، وقيل : حزن أهوال القيامة ، وقال الكلبي : ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة ، وقال سعيد بن جبير : الحزن في الدنيا ، وقيل : همّ المعيشة ، وقال الزجاج : أذهب الله تعالى عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش أو معاد أي : وهذا أولى الكل قال عليه الصلاة والسلام : "ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في منشرهم ، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون : "الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن".
ثم قالوا {إن ربنا} أي : المحسن إلينا مع إساءتنا {لغفور} أي : محّاء للذنوب عيناً وأثراً للصنفين الأولين ولغيرهما من المذنبين {شكور} للصنف الثالث ولغيره من المطيعين.
403
تنبيه : ذكر الله تعالى عن هذه الثلاثة ثلاثة أمور كلها تفيد الكرامة ، الأول : قولهم {الحمد لله} فإن الحامد يثاب. الثاني : قولهم {ربنا} فإن الله تعالى إذا نودي بهذا اللفظ استجاب للمنادي ما لم يكن يطلب ما لا يجوز. الثالث : قولهم {غفور شكور} والغفور إشارة إلى ما غفر لهم في الآخرة بحمدهم في الدنيا ، والشكور إشارة إلى ما يعطيهم الله ويزيدهم بسبب حمدهم في الآخرة. وقولهم :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 400
الذي أحلنا دار المقامة} أي : الإقامة إشارة إلى أن الدنيا منزلة ينزلها المكلف ويرتحل منها إلى منزلة القبور ، ومن القبور إلى منزلة العرصة التي فيها الجمع ومنها التفريق إلى دار البقاء ، إما إلى الجنة ، وإما إلى النار أجارنا الله تعالى ومحبينا منها. وقولهم {من فضله} أي : بلا عمل منا فإن حسناتنا إنما كانت مناً منه تعالى إذ لا واجب عليه ، متعلق بأحلنا ، ومن إما للعلة ، وإما لابتداء الغاية.
وقولهم {لا يمسنا فيها} أي : في وقت من الأوقات {نصب ولا يمسنا فيها لغوب} حال من مفعول أحلنا الأول أو الثاني ، لأن الجملة مشتملة على ضمير كل منهما ، وإن كان الحال من الأول أظهر ، والنصب التعب والمشقة ، واللغوب الفتور الناشئ عنه ، وعلى هذا فيقال : إذا انتفى السبب انتفى المسبب ، فإذا قيل : لم آكل فيعلم التغاء الشبع فلا حاجة إلى قوله ثانياً فلم أشبع بخلاف العكس ، ألا ترى أنه يجوز لم أشبع ولم آكل والآية الكريمة على ما تقرر من نفي السبب ثم نفي المسبب فما فائدته ؟
أجيب : بأن النصب هو تعب البدن واللغوب هو تعب النفس ، وقيل : اللغوب الوجع وحينئذ فالسؤال زائل ، وأجاب الرازي بجواب قال ابن عادل : ليس بذاك فتركته.
ولما بين تعالى ما هم فيه من النعمة في دار السرور التي قال فيها القائل :
*علياء لا تنزل الأحزان ساحتها ** لو مسها حجر مسته سراء*
بين ما لأعدائهم من النقمة زيادة في سرورهم بما قاسوا في الدنيا من تكبرهم عليهم وفخارهم بقوله تعالى :
{والذين كفروا} أي : ستروا ما دلت عليه عقولهم من شموس الآيات وأنوار الدلالات {لهم نار جهنم} أي : بما تجهموا أولياء الله الدعاة إليه {لا يقضي} أي : يحكم {عليهم} أي : بموت ثان {فيموتوا} أي : فيتسبب عن القضاء موتهم فيستريحوا كقوله تعالى {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك} (الزخرف : 77)
أي : بالموت
404
فنستريح بل العذاب دائم.
تنبيه : نصب فيموتوا بإضمار أن.
ولما كانت الشدائد في الدنيا تنفرج وإن طال أمدها قال تعالى : {ولا يخفف عنهم} وأعرق في النفي بقوله تعالى : {من عذابها} أي : جهنم.(3/273)
تنبيه : في الآية الأولى أن العذاب في الدنيا إن دام قتل وإن لم يقتل يعتاده البدن ويصير مزاجاً فاسداً لا يحس به المعذب فقال : عذاب نار الآخرة ليس كعذاب الدنيا إما أن يفنى وإما أن يألفه البدن بل هو في كل زمان شديد والمعذب فيه دائم.
الثانية : وصف العذاب بأنه لا يفتر ولا ينقطع ولا بأقوى الأسباب وهو الموت حتى يتمنوه ولا يجابون كما قال تعالى {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك} (الزخرف : 77)
جزء : 3 رقم الصفحة : 400
أي : بالموت.
الثالثة ، ذكر في المعذبين الأشقياء أنه لا ينقضي عذابهم ولم يقل تعالى : نزيدهم عذاباً وفي المثابين قال تعالى {ويزيدهم من فضله} (النور : 38)
وقوله تعالى {كذلك} إما مرفوع المحل أي : الأمر كذلك وإما منصوبه أي : مثل ذلك الجزاء العظيم {نجزي كل كفور} أي : كافر بالله تعالى وبرسوله ، وقرأ أبو عمرو بياء مضمومة وفتح الزاي ورفع كل ، والباقون بنون مفتوحة وكسر الزاي ونصب كل.
{وهم} أي : فعل ذلك بهم والحال أنهم {يصطرخون فيها} أي : يوجدون الصراخ فيها بغاية ما يقدرون عليه من الجهد في الصياح من البكاء والتوجع يقولون {ربنا} أي : أيها المحسن إلينا {أخرجنا} أي : من النار {نعمل صالحاً} ثم فسروه وبينوه بقولهم {غير الذي كنا نعمل} في الدنيا ، فإن قيل : هلا اكتفى بقولهم {نعمل صالحاً} كما اكتفى به في قولهم {فأرجعنا نعمل صالحاً} (السجدة : 12)
وما فائدة زيادة {غير الذي كنا نعمل} على أنه يوهم أنهم يعملون صالحاً آخر غير الصالح الذي عملوه ؟
أجيب : بأن فائدته زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به وأما الوهم فزائل بظهور حالهم في الكفر وظهور المعاصي ، ولأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة كما قال تعالى {وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} (الكهف : 104)
فقالوا : أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نحسبه صالحاً فنعمله ، فيقال لهم توبيخاً وتقريعاً : {أو لم نعمركم} أي : نطل أعماركم مع إعطائنا لكم العقول ولم نعاجلكم بالأخذ.
{ما} أي : زماناً {يتذكر فيه من تذكر} قال عطاء وقتادة والكلبي : ثماني عشرة سنة وقال الحسن : أربعون سنة وقال ابن عباس : ستون سنة ، وروي ذلك عن علي ، وروى البزار أنه صلى الله عليه وسلم قال : "العمر الذي أعذر الله تعالى فيه إلى ابن آدم ستون سنة" وروى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من عمرّه الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر" وروى الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين" وأقلهم من يجوز ذلك.
وقوله تعالى : {وجاءكم النذير} عطف على {أو لم نعمركم} لأنه في معنى قد عمرناكم كقوله {ألم نربك} (الشعراء : 18)
ثم قال {ولبثت} وقال تعالى {ألم نشرح لك صدرك} (الشرح : 1)
ثم قال تعالى {ووضعنا عنك وزرك} (الشرح : 2)
إذ هما في معنى ربيناك وشرحنا ، واختلف في النذير فقال الأكثرون : هو محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : القرآن ، وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع : هو الشيب ، والمعنى : أو لم نعمركم حتى شبتم ويقال : الشيب نذير الموت ، وفي الأثر ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها : استعدي فقد قرب الموت.
جزء : 3 رقم الصفحة : 400
ولما تسبب عن ذلك أن عذابهم لا ينفك قال تعالى : {فذوقوا} أي : ما أعددناه لكم من العذاب دائماً أبداً {فما للظالمين} أي : الذين وضعوا أعمالهم وأقوالهم في غير موضعها {من
405
نصير} أي : في وقت الحاجة حتى يرفع العذاب عنهم قال البقاعي وهذا عام في كل ظالم.
ولما كان تعالى عالماً بكل ما نفى وما أثبت قال تعالى :
{إن الله} أي : الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً {عالم غيب السموات والأرض} لا تخفى عليه خافية فلا يخفى عليه تعالى أحوالهم وقوله تعالى {إنه عليم بذات الصدور} تعليل له ؛ لأنه إذا علم مضمرات الصدور قبل أن يعلمها أربابها حتى تكون غيباً محضاً كان أعلم بغيره ، ويعلم أنكم لو مدّت أعماركم لم ترجعوا عن الكفر أبداً ولو رددتم لعدتم لما نهيتم عنه وإنه لا مطمع في صلاحكم.
ولما كان من أنشأ شيئاً كان أعلم به قال تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 400
ولما تسبب عن ذلك أن عذابهم لا ينفك قال تعالى : {فذوقوا} أي : ما أعددناه لكم من العذاب دائماً أبداً {فما للظالمين} أي : الذين وضعوا أعمالهم وأقوالهم في غير موضعها {من
405
نصير} أي : في وقت الحاجة حتى يرفع العذاب عنهم قال البقاعي وهذا عام في كل ظالم.
ولما كان تعالى عالماً بكل ما نفى وما أثبت قال تعالى : (3/274)
{إن الله} أي : الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً {عالم غيب السموات والأرض} لا تخفى عليه خافية فلا يخفى عليه تعالى أحوالهم وقوله تعالى {إنه عليم بذات الصدور} تعليل له ؛ لأنه إذا علم مضمرات الصدور قبل أن يعلمها أربابها حتى تكون غيباً محضاً كان أعلم بغيره ، ويعلم أنكم لو مدّت أعماركم لم ترجعوا عن الكفر أبداً ولو رددتم لعدتم لما نهيتم عنه وإنه لا مطمع في صلاحكم.
ولما كان من أنشأ شيئاً كان أعلم به قال تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 400
{هو} أي : وحده لا شركاؤكم ولا غيرهم {الذي جعلكم} أيها الناس {خلائف في الأرض} أي : يخلف بعضكم بعضاً ، وقيل : جعلكم أمة واحدة خلفت من قبلها ورأت فيمن قبلها ما ينبغي أن يعتبر به ، وقال القشيري : أهل كل عصر خليفة عمن تقدّمهم فمن قوم هم لسلفهم جمال ومن قوم هم أرذال وأسافل.
تنبيه : خلائف جمع خليفة وهو الذي يقوم بعد الإنسان بما كان قائماً به والخلفاء : جمع خليفة قاله الأصبهاني {فمن كفر فعليه كفره} أي : وبال كفره {ولا} أي : والحال أنه لا {يزيد الكافرين} أي : المغطين للحق {كفرهم} أي : الذي هم ملتبسون به ظانون أنه يسعدهم وهم راسخون فيه غير منتقلين عنه {عند ربهم} أي : المحسن إليهم {إلا مقتاً} أي : غضباً ؛ لأن الكافر السابق كان ممقوتاً {ولا يزيد الكافرين} أي : العريقين في صفة التغطية للحق {كفرهم إلا خساراً} أي : للآخرة ؛ لأن العمر كرأس مال من اشترى به رضا الله تعالى ربح ، ومن اشترى به سخط الله تعالى خسر.)
جزء : 3 رقم الصفحة : 406
ولما بين أنه سبحانه هو الذي استخلفهم أكد بيان ذلك عندهم بأمره صلى الله عليه وسلم بما يضطرهم إلى الاعتراف بقوله تعالى :
{قل} أي : لهم {أرأيتم} أي : أخبروني {شركاءكم} أضافهم إليهم ؛ لأنهم وإن كانوا جعلوهم شركاءه لم ينالوا شيئاً من شركته ؛ لأنهم ما نقصوه شيئاً من ملكه وإنما شاركوا العابدين في أموالهم بالسوائب وغيرها وفي أعمالهم فهم شركاؤهم بالحقيقة لا شركاؤه ، ثم بين المراد من عدّهم لهم شركاء بقوله تعالى : {الذين تدعون} أي : تعبدون {من دون الله}
406
أي : غيره وهم الأصنام الذين زعمتم أنهم شركاء الله تعالى {أروني} أي : أخبروني {ماذا} أي : الذي أو أي شيء {خلقوا من الأرض} أي : لتصح لكم دعوى الشركة فيهم وإلا فادعاؤكم ذلك فيهم كذب محض وإنكم تدعون أنكم أبعد الناس منه في الأمور الهينة فكيف بمثل هذا {أم لهم شرك} أي : شركة مع الله تعالى وإن قلت {في السموات} أي : أروني ماذا خلقوا لكم من السموات فالآية من الاحتباك حذف أولاً الاستفهام عن الشركة في الأرض لدلالة مثله في السماء ثانياً عليه ، وحذف الأمر بالإراءة ثانياً له لدلالة مثله أولاً عليه.
{أم آتيناهم كتاباً} ينطق على أنا اتخذنا شركاء {فهم} الأحسن في هذا الضمير أن يعود على الشركاء لتناسق الضمائر ، وقيل : يعود على المشركين قاله مقاتل فيكون التفاتاً من خطاب إلى غيبة {على بينة} أي : حجة {منه} بأن لهم معي شركة ، ولما كان التقدير لا شيء لهم من ذلك قال تعالى منبهاً على ذميم أحوالهم وسفه آرائهم وخسة هممهم ونقصان عقولهم {بل إن} أي : ما {يعد الظالمون} أي : الواضعون الأشياء في غير موضعها {بعضهم بعضاً} أي : الاتباع للمتبوعين بأن شركاءهم تقربهم إلى الله تعالى زلفى ، وأنها تشفع وتضر وتنفع {إلا غروراً} أي : باطلاً.
ولما بين تعالى حقارة الأصنام بين عظمته سبحانه بقوله تعالى :
{إن الله} أي : الذي له جميع صفات الكمال {يمسك السموات} أي : على كبرها وعلوها {والأرض} أي : على سعتها وبعدها عن التماسك على ما تشاهدون ، وقوله تعالى {أن تزولا} أي : برجة عظيمة وزلزلة كبيرة يجوز أن يكون مفعولاً من أجله أي : كراهة أن تزولا ، وقيل : لئلا تزولا ، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً على إسقاط الخافض أي : يمنعهما من أن تزولا ، ويجوز أن يكون بدل اشتمال أي : يمنع زوالهما ؛ لأن ثباتهما على ما هما عليه على غير القياس لولا شامخ قدرته وباهر عزته وعظمته ، فإن ادعيتم عناداً أن شركاءكم لا يقدرون على الخلق لعلة من العلل فادعوهم لإزالة ما خلق الله تعالى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 406(3/275)
ولما كان في هذا دليل على أنهما حادثتان زائلتان أتبعه ما هو أبين منه بقوله تعالى : معبراً بأداة الإمكان {ولئن} لام قسم {زالتا} أي : بزلزلة خراب أو غير ذلك {إن} أي : ما {أمسكهما من أحد من بعده} جواب القسم الموطأ له بلام القسم وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب القسم ، ولذلك كان فعل الشرط ماضياً ، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري : والجملة سدت مسد الجوابين فيه تجوز ، فالمراد بسدهما مسدهما أنها تدل عليهما لا أنها قائمة مقامهما إذ يلزم أن تكون معمولة وغير معمولة ؛ لأنها باعتبار جواب القسم لا محل لها من الإعراب ، وباعتبار جواب الشرط لها محل ، ومن في {من أحد} مزيدة لتأكيد الاستغراق وفي {من بعده} لابتداء الغاية ، والمعنى : أحد سواه أو من بعد الزوال {إنه كان} أي : أزلاً وأبداً {حليماً} إذ أمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدّا هدّاً كما قال تعالى {تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً} (مريم : 90)
لأنه لا يستعجل إلا من يخاف الفوت فينتهز الفرصة {غفوراً} أي : محاء لذنوب من رجع إليه وأقبل بالاعتراف عليه فلا يعاقبه ولا يعاتبه.
ولما بلغ كفار مكة أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم :
{وأقسموا} أي : كفار مكة {بالله} أي : الذي لا يقسم بغيره {جهد أيمانهم} أي : غاية اجتهادهم فيها {لئن جاءهم نذير} أي : رسول {ليكونن أهدى من إحدى الأمم} أي : اليهود والنصارى وغيرهم أي : آية واحدة منها لما رأوا من تكذيب بعضها بعضاً {إذ قالت اليهود ليست
407
النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} (البقرة : 113)
{فلما جاءهم نذير} أي : على ما شرطوا وزيادة وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يشهدون أنه خيرهم نفساً وأشرفهم نسباً وأكرمهم خلقاً {ما زادهم} أي : مجيئه شيئاً مما هم عليه من الأحوال {إلا نفوراً} أي : تباعداً عن الهدى ؛ لأنه كان سبباً في زيادتهم في الكفر كالإبل التي كانت نفرت من ربها فضلت عن الطريق فدعاها فازدادت بسبب دعائه نفرة فصارت بحيث يتعذر أو يتعسر ردها ، فتبين أنه لا عهد لهم مع ادعائهم أنهم أوفى الناس ولا صدق عندهم مع جزمهم بأنهم أصدق الخلق ، ثم علل نفورهم بقوله تعالى :
{استكباراً} أي : طلباً لإيجاد الكبر لأنفسهم {في الأرض} أي : التي من شأنها السفول والتواضع والخمول فلم يكن نفورهم لأمر محمود ولا مباح ، ويجوز أن يكون استكباراً بدلاً من نفوراً وأن يكون حالاً أي : حال كونهم مستكبرين قاله الأخفش.
جزء : 3 رقم الصفحة : 406
وقوله تعالى {ومكر السيء} فيه وجهان : أظهرهما : أنه عطف على استكباراً ، والثاني : أنه عطف على نفوراً وهذا من إضافة الموصوف إلى صفته في الأصل إذ الأصل والمكر السيء ، والبصريون يؤولونه على حذف موصوف أي : العمل السيء أي : الذي من شأنه أن يسوء صاحبه وغيره وهو إرادتهم لإهانة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وإطفاء نور الله عز وجل ، وقال الكلبي : هو اجتماعهم على الشرك وقتل النبي صلى الله عليه وسلم
وقرأ حمزة في الوصل بهمزة ساكنة أي : بنية الوقف إشارة إلى تدقيقهم المكر واتقانه وإخفائه جهدهم ، والباقون بهمزة مكسورة ، وإذا وقف حمزة أبدل الهمزة ياء وأدغم الياء الأولى في الياء الثانية ، ووقف الباقون بهمزة ساكنة {ولا} أي : والحال أنه لا {يحيق} أي : يحيط إحاطة لازمة خسارة {المكر السيء} أي : الذي هو عريق في السوء {إلا بأهله} أي : وإن أذى غير أهله لكنه لا يحيط بذلك الغير ، فإن قيل : كثيراً ما نرى الماكر يمكر ويفيده المكر ويغلب الخصم بالمكر والآية تدل على عدم ذلك ، أجيب : بأجوبة : أحدها : أن المكر في الآية هو المكر الذي مكروه مع النبي صلى الله عليه وسلم من العزم على القتل والإخراج ولم يحق إلا بهم حيث قتلوا يوم بدر وغيره.
ثانيها : أنه عام وهو الأصح ، ويدل له قول الزهري : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً فإن الله تعالى يقول : وقرأ هذه الآية ، ولا تبغوا ولا تعينوا باغياً يقول الله تعالى {إنما بغيكم على أنفسكم} (يونس : 23)
ولا تنكثوا ولا تعينوا ناكثاً قال الله تعالى {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه} (الفتح : 10)
ثالثها : أن الأعمال بعواقبها ومن مكر بغيره ونفذ فيه المكر عاجلاً في الظاهر فهو في الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك كمثل راحة الكافر ومشقة المسلم في الدنيا ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى {فهل ينظرون} أي : ينتظرون {إلا سنت الأولين} أي : سنة الله تعالى فيهم من تعذيبهم بتكذيبهم رسلهم ، والمعنى : فهل ينتظرون إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بمن مضى من الكفار.
ولما كان هذا النظر يحتاج إلى صفاء في اللب وذكاء في النفس عدل عن ضميرهم إلى خطاب أعلى الخلق بقوله تعالى :
{فلن تجد} أي : في وقت من الأوقات {لسنت الله} أي : طريقة الملك الأعظم التي شرعها وحكم بها وهي إهلاك العاصين وإنجاء الطائعين {تبديلاً} أي :
408(3/276)
من أحد يأتي بسنة غيرها تكون بدلاً لها ؛ لأنه تعالى لا مكافئ له {ولن تجد لسنت الله} أي : الذي لا أمر لأحد معه {تحويلا} أي : من حالة إلى أخف منها ؛ لأنه لا مرد لقضائه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 406
فائدة : ترسم سنت لسنت الثلاثة بالتاء المجرورة كما رأيت ، ووقف أبو عمرو وابن كثير والكسائي بالهاء ، والباقون بالتاء ، وإذا وقف الكسائي أمال الهاء على أصله.
ولما ذكر الله تعالى الأولين وسنتهم في إهلاكهم نبههم بتذكير حال الأولين بقوله تعالى :
{أولم يسيروا} أي : فيما مضى من الزمان {في الأرض} أي : التي ضربوا في المتاجر بالسير إليها في الشام واليمن والعراق {فينظروا} أي : فيتسبب عن ذلك السير أنه يتجدد لهم نظر واعتبار يوماً من الأيام ، فإن العاقل من إذا رأى شيئاً تفكر فيه حتى يعرف ما ينطق به لسان حاله إن خفي عليه ما جرى من مقاله ، وأشار بسوقه في أسلوب الاستفهام إلى أنه لعظمه خرج عن أمثاله فاستحق السؤال عن حاله {كيف كان عاقبة} أي : آخر أمر {الذين من قبلهم} أي : على أي حالة كان آخر أمرهم ليعلموا أنهم ما أخذوا إلا بتكذيب الرسل عليهم السلام فيخافوا أن يفعلوا مثل أفعالهم فيكون حالهم كحالهم فإنهم كانوا يمرون على ديارهم ويرون آثارهم ، وأملهم كان فوق أملهم وعملهم كان دون عملهم ، وكانوا أطول منهم أعماراً وأشد اقتداراً ومع هذا لم يكذبوا مثل محمد صلى الله عليه وسلم
وأنتم يا أهل مكة كفرتم بمحمد ومن قبله عليهم السلام {وكانوا} أي : أهلكناهم لتكذيبهم رسلنا ، والحال أنهم كانوا {أشد منهم} أي : من هؤلاء {قوة وما كان الله} أي : الذي له جميع العظمة وأكد الاستغراق في النفي بقوله تعالى : {ليعجزه} أي : مريداً لأن يعجزه ، ولما انتفت إرادة العجز فيه انتفى العجز بطريق الأولى ، وأبلغ في التأكيد بقوله تعالى : {من شيء} أي : قل أو جل وعم بما يصل إليه إدراكنا بقوله تعالى : {في السموات} أي : جهة العلو ، وأكد بقوله عز وجل {ولا في الأرض} أي : جهة السفل {أنه كان} أي : أزلاً وأبداً {عليماً} أي : بالأشياء كلها حقيرها وجليلها {قديراً} أي : كامل القدرة أي : فلا يريد شيئاً إلا كان ولما كانوا يستعجلون بالتوعد استهزاء ، كقولهم : {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} (الأنفال : 32)
على أن التقدير ولو عاملكم الله تعالى معاملة المؤاخذ لعجل إهلاككم عطف عليه قوله تعالى إظهاراً للحكم مع العلم
{ولو يؤاخذ الله} أي : بما له من صفات العلو {الناس} أي : المكلفين {بما كسبوا} أي : من المعاصي {ما ترك على ظهرها} أي : الأرض {من دابة} أي : نسمة تدب عليها كما كان في زمن نوح عليه السلام أهلك الله تعالى ما على ظهر الأرض إلا من كان في السفينة مع نوح.
جزء : 3 رقم الصفحة : 406
فإن قيل : إذا كان الله تعالى يؤاخذ الناس بما كسبوا فما بال الدواب ؟
أجيب : بأن المطر إنعام من الله في حق العباد ، وإذا لم يستحقوا الإنعام قطعت الأمطار عنهم فيظهر الجفاف على وجه الأرض فيموت جميع الحيوانات ، وبأن خلقة الحيوانات نعمة والمعاصي تزيل النعم وتحل النقم والدواب أقرب النعم ؛ لأن المفرد أولاً ثم المركب ، والمركب إما أن يكون معدناً وإما أن يكون نامياً ، والنامي إما أن يكون حيواناً أو نباتاً ، والحيوان إما إنسان أو غير إنسان فالدواب أعلى درجات المخلوقات في عالم العناصر للإنسان.
فإن قيل : كيف يقال لما علته الخلق من الأرض وجه الأرض وظهر الأرض مع أن الظهر مقابله الوجه فهو كالمتضاد ؟
أجيب : بأن الأرض كالدابة الحاملة للأثقال والحمل يكون على
409
الظهر ، وأما وجه الأرض فلأن الظاهر من باب والبطن والباطن من باب فوجه الأرض ظهر ؛ لأنه هو الظاهر وغيره منها باطن وبطن.
{ولكن} لم يعاملهم معاملة المؤاخذ المناقش بل يحلم عنهم فهو {يؤخرهم} أي : في الحياة الدنيا ثم في البرزخ {إلى أجل مسمى} أي : سماه في الأزل لانقضاء أعمارهم ثم يبعثهم من قبورهم وهو تعالى لا يبدل القول لديه لما له من صفات الكمال {فإذا جاء أجلهم} أي : الفناء الإعدامي قبض كل واحد منهم عند أجله ، أو الإيجاد الإبقائي بعث كلاً منهم فجازاه بعمله {فإن الله} أي : الذي له الصفات العليا {كان} ولم يزل {بعباده} الذين أوجدهم ولا شريك له في إيجاد واحد منهم بجميع ذواتهم وأحوالهم {بصيراً} أي : بالغ البصر والعلم بمن يستحق العذاب ومن يستحق الثواب ، قال ابن عباس : يريد أهل طاعته وأهل معصيته ، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثمانية أبواب الجنة أن ادخل من أي الأبواب شئت" حديث موضوع.
410
جزء : 3 رقم الصفحة : 406(3/277)
سورة يس
مكية وهي ثلاث وثمانون آية ، وسبعمائة وتسعةوعشرون كلمة ، وثلاثة آلاف حرف
وتسمى أيضاً : القلب والدافعة والقاضية والمعممة تعم صاحبها بخير الدارين ، وتدفع عنه كل سوء وتقضي له كل حاجة ، والبيضاوي ذكر هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال شيخنا القاضي زكريا : لم أره ولكن المثبت مقدم على النافي.
{بسم الله} أي : الذي جل ملكه على أن يحاط بمقدراه {الرحمن} الذي جعل إنذار يوم الجمع رحمة عامة {الرحيم} الذي أنار قلوب أوليائه بالاجتهاد ليوم لقائه وقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 410
{يس} كألم في المعنى والإعراب وقال ابن عباس : يس قسم ، وروي عن شعبة أن معناه يا إنسان بلغة طيء على أن أصله يا أنيسين فاقتصر على شطره لكثرة النداء به كما قيل : م الله في أيمن الله ، وقال أكثر المفسرين : يعني محمداً صلى الله عليه وسلم قاله الحسن وسعيد بن جبير وجماعة وقال أبو
411
العالية : يا رجل وقال أبو بكر الوراق : يا سيد البشر.
قال ابن عادل في ذكر هذه الحروف أوائل السور : أمور تدل على أنها غير خالية من الحكمة ، لكن علم الإنسان لا يصل إليها والذي يدل على أنها فيها حكمة هو أن الله عز وجل ذكر من الحروف نصفها وهي أربعة عشر حرفاً نصف ثمانية وعشرين حرفاً هي جميع الحروف التي في لسان العرب على قولنا : الهمزة ألف متحركة ، ثم إن الله تعالى قسم الحروف ثلاثة أقسام تسعة أحرف من الألف إلى الذال ، والتسعة الأخيرة من الفاء إلى الياء وعشرة في الوسط من الراء إلى الغين ، وذكر من القسم الأول حرفين الألف والحاء ، وترك سبعة وترك من القسم الأخير حرفين هما الألف واللام ، وذكر سبعة ولم يترك من القسم الأول من حروف الحلق والصدر إلا واحداً لم يذكره وهو الخاء ، ولم يذكر من القسم الأخير من حروف الشفة إلا واحداً لم يتركه وهو الميم والعشر الأوسط ذكر منه حرفاً وترك حرفاً فترك الزاي وذكر الراء ، وذكر السين وترك الشين وذكر الصاد وترك الضاد وذكر الطاء وترك الظاء وذكر العين وترك الغين ، وليس لها أمر يقع اتفاقاً بل هو ترتيب مقصود فهو لحكمة لكنها غير معلومة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 411
وهب أن واحداً يدعى فيه شيئاً فماذا يقول في كون بعض السور مفتتحة بحرف كسورة ن و ق و ص ، وبعضها بحرفين كسورة حم ويس وطس وطه ، وبعضها بثلاثة أحرف كألم وطسم والر ، وبعضها بأربعة أحرف كسورة المر والمص ، وبعضها بخمسة أحرف كسورة حم عسق وكهعيص.
وهب أن قائلاً يقول : إن هذه إشارة بأن الكلام إما حرف وإما فعل وإما اسم ، والحرف كثيراً ما جاء على حرف كواو العطف وفاء التعقيب وهمزة الاستفهام وكاف التشبيه وباء الإلصاق وغيرها ، وجاء على حرفين كمن للتبعيض وأو للتخيير وأم للاستفهام المتوسط وإن للشرط وغيرها ، والفعل والاسم والحرف جاءت ثلاثة أحرف كإلى وعلى في الحرف وإلى وعلى في الاسم وألا يألوا بالواو ، وعلا يعلو في الفعل والاسم ، والفعل جاء على أربعة أحرف ، والاسم خاصة جاء على ثلاثة أحرف وأربعة وخمسة كعجل ومسجد وجردحل.
فما جاء في القرآن إشارة إلى أن تركيب العربية من هذه الحروف على هذه الوجوه فماذا يقول هذا القائل في تخصيص بعض السور بالحرف الواحد والبعض بأكثر فلا يعلم ما السر إلا الله تعالى ، ومن أعلمه الله تعالى به.
وإذا علم هذا فالعبادة منها قلبية ومنها لسانية ومنها جارحية ، وكل واحد منها قسمان : قسم عقل معناه وحقيقته ، وقسم لم يعلم ، أما القلبية مع أنها أبعد عن الشك والجهل فمنها ما لم يعلم دليله عقلاً ، وإنما وجب الإيمان به والاعتقاد سمعاً كالصراط الذي هو أدق من الشعر وأحد من السيف ويمر عليه المؤمن كالبرق الخاطف ، والميزان الذي توزن به الأعمال التي لا ثقل لها في نظر الناظر ، وكيفية الجنة والنار ، فإن هذه الأشياء وجودها لم يعلم بدليل عقلي ، وإنما المعلوم بالعقل إمكانها ووقوعها معلوم مقطوع به بالسمع ، ومنها ما علم كالتوحيد والنبوة وقدرة الله تعالى وصدق الرسل ، وكذلك في العبادات الجارحية ما علم معناه وما لم يعلم كمقادير النصب وعدد الركعات.
والحكمة في ذلك أن العبد إذا أتى بما أمر به من غير أن يعلم ما فيه من الفائدة فلا يكون الإتيان إلا لمحض الفائدة بخلاف ما لم تعلم الفائدة ، فربما تأتي الفائدة وإن لم يؤمر كما لو قال
412
السيد لعبده : انقل هذه الحجارة من ههنا ولم يعلمه بما في النقل فنقلها ، ولو قال : انقلها فإن تحتها كنزاً هو لك فإنه ينقلها وإن لم يؤمر.
وإذا علم هذا فكذلك في العبادات اللسانية الذكرية يجب أن يكون ما لم يفهم معناه إذا تكلم به العبد علم أنه لا يعقل غير الانقياد لأمر المعبود الإلهي فإذا قال : حم طس يس علم أنه لا يذكر ذلك لمعنى يفهمه بل يتلفظ به امتثالاً لما أمر به ، انتهى كلام ابن عادل بحروفه وهو كلام دقيق ، وقرأ يس بإمالة الياء شعبة وحمزة والكسائي ، والباقون بالفتح ، وأظهر النون من يس عند واو.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 411(3/278)
والقرآن} قالون وابن كثير وأبو عمرو وحفص وحمزة ، وأدغم الباقون ، وهي واو القسم أو العطف إن جعل يس مقسماً به ، ثم وصف القرآن بقوله تعالى : {الحكيم} أي : المحكم بعظيم النظم وبديع المعاني ، وقوله تعالى :
{إنك لمن المرسلين} أي : الذين حكمت عقولهم على دواعي نفوسهم فصاروا بما وهبهم الله من القوة النورانية وبما تخلقوا به من أوامره ونواهيه كالملائكة الذين تقدم ذكرهم في السورة الماضية إنهم رسله جواب القسم وهو رد على الكفار حيث قالوا : لست مرسلاً ، فإن قيل : المطلب يثبت بالدليل لا بالقسم فما الحكمة بالإقسام ؟
أجيب : بأوجه : أولها : أن العرب كانوا يتقون الأيمان الفاجرة ، وكانوا يقولون إن الأيمان الفاجرة توجب خراب العالم ، وصحح النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : "اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع" ثم إنهم كانوا يقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم يصيبه من آلهتهم وهي الكواكب عذاب ، والنبي صلى الله عليه وسلم يحلف بأمر الله وإنزال كلامه عليه بأشياء مختلفة ، وما كان يصيبه عذاب بل كان كل يوم أرفع شأناً وأمنع مكاناً فكان ذلك يوجب اعتقاد أنه ليس بكاذب.
ثانيها : أن المناظرين إذا وقع بينهما كلام وغلب أحدهما الآخر بتمشية دليله وأسكته يقول المغلوب : إنك قررت هذا بقوة جدالك وأنت خبير في نفسك بضعف مقالتك ، وتعلم أن الأمر ليس كما تقول وإن أقمت عليه الدليل صورة وعجزت أنا على القدح فيه ، وهذا كثير الوقوع بين المتناظرين فعند هذا لا يجوز أن يأتي هو بدليل آخر ؛ لأن الساكت المنقطع يقول في الدليل الآخر ما قاله في الأول فلا يجد أمراً إلا اليمين ، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم أقام البراهين وقالت الكفرة {ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد أباؤكم} (سبأ : 43)
{وقالوا ما هذا إلا أفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين} (سبأ : 43)
فالتمسك بالأيمان لعدم فائدة الدليل.
ثالثها : أن هذا ليس بمجرد الحلف بل دليل خرج في صورة اليمين ؛ لأن القرآن معجزة ، ودليل كونه مرسلاً هو المعجزة والقرآن كذلك ، فإن قيل : لِمَ لم يذكر في صورة الدليل وما الحكمة في ذكر الدليل في صورة اليمين ؟
أجيب : بأن الدليل إذا ذكر في صورة اليمين ، واليمين لا يقع ولاسيما من العظيم الأعلى أمر عظيم والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصغاء إليه فلصورة اليمين يقبل عليه السامع لكونه دليلاً شافياً يسر به الفؤاد فيقع في السمع وفي القلب وقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 411
على صراط} أي : طريق واسع واضح {مستقيم} أي : هو التوحيد والاستقامة في الأمر ، يجوز أن يكون متعلقاً بالمرسلين تقول : أرسلت عليه كذا قال تعالى {وأرسل
413
عليهم طيراً أبابيل} (الفيل : 3)
وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الضمير المستكن في {لمن المرسلين} لوقوعه خبراً ، وأن يكون حالاً من المرسلين ، وأن يكون خبراً ثانياً لإنك.
وقرأ قنبل "سراط" بالسين عوضاً عن الصاد ، وخلف بالإشمام وهو بين الصاد والزاي ، والباقون بالصاد الخالصة.
ولما كان كأنه قيل : ما هذا الذي أرسل به ؟
كان كأنه قيل جواباً : هو القرآن الذي وقع الإقسام به وهو :
{تنزيل} أو حال كونه تنزيل {العزيز} أي : المتصف بجميع صفات الجلال {الرحيم} أي : الحاوي لجميع صفات الإكرام الذي ينعم على من يشاء من عباده بعد الإنعام بإيجادهم فهو الواحد المنفرد في ملكه ، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي تنزيل بالنصب على الحال كما مر ، أو بإضمار أعني ، والباقون بالرفع على أنه خبر مبتدأ مضمر كما مر.
ولما ذكر تعالى المرسل وهو الله تعالى ، والمرسل وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمرسل به وهو القرآن ذكر المرسل لهم بقوله تعالى :
{لتنذر قوماً} أي : ذوي بأس وقوة وذكاء وفطنة {ما أنذر} أي : لم تنذر أصلاً {آباؤهم} أي : لم ينذروا في زمن الفترة {فهم} أي : بسبب زمان الفترة {غافلون} أي : عن الإيمان والرشد وقوله تعالى :
{لقد حق القول على أكثرهم} فيه وجوه : أشهرها : أن المراد بالقول هو قوله تعالى : {لقد حق القول مني لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} ثانيها : أن معناه لقد سبق في علمه تعالى أن هذا يؤمن وهذا لا يؤمن فحق القول أي : وجب وثبت بحيث لا يبدل بغيره كما قال تعالى {ما يبدل القول لدى} (ق : 29)
ثالثها : المراد لقد حق القول الذي قاله الله تعالى على لسان الرسل من التوحيد وغيره {فهم} أي : بسبب ذلك {لا يؤمنون} أي : بما يلقى إليهم من الإنذار بل يزيدهم عمى استكباراً في الأرض ومكر السيء.
ونزل في أبي جهل وصاحبه : (3/279)
{إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً} أي : بأن تضم إليها الأيدي ؛ لأن الغل يجمع اليد إلى العنق ، وذلك أن أبا جهل كان قد حلف لئن رأى محمداً صلى الله عليه وسلم يصلي ليرضخن رأسه ، فأتاه وهو يصلى ومعه حجر ليدمغه به فلما رفعه أثبتت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده إلى عنقه ، فلما رجع إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر فقال رجل من بني مخزوم : أنا أقتله بهذا الحجر فأتاه وهو يصلي ليرميه بالحجر فأعمى الله تعالى بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه ، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقالوا له : ما صنعت ؟
فقال : ما رأيته ولقد سمعت كلاماً وحال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه ولو دنوت منه لأكلني ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 411
ووجه المناسبة لما تقدم أنه لما قال تعالى {لقد حق القول على أكثرهم} وتقدم أن المراد به البرهان وقال بعد ذلك : بل عاينوا وأبصروا ما يقرب من الضرورة حيث التزقت يده بعنقه ، ومنع من إرسال الحجر وهو مضطر إلى الإيمان ولم يؤمن علم أنه لا يؤمن أصلاً ، وقال أهل المعاني : هذا
414
على طريق المثل ولم يكن هناك غل ، أراد منعناهم عن الإيمان بموانع ، فجعل الأغلال مثلاً لذلك فهو تقرير لتصميمهم على الكفر والطبع على قلوبهم بحيث لا تغني عنهم الآيات والنذر بتمثيلهم بالذين غلت أيديهم.
وقال الفراء : معناه حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله كقوله تعالى {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} (الإسراء : 29)
معناه : ولا تمسكها عن النفقة ، ومناسبة هذا لما تقدم أن قوله تعالى {فهم لا يؤمنون} يدخل فيه أنهم لا يصلون لقوله تعالى {وما كان الله ليضيع إيمانكم} (البقرة : 143)
أي : صلاتكم عند بعض المفسرين والزكاة مناسبة للصلاة فكأنه قال : لا يصلون ولا يزكون ، واختلف في عود الضمير في قوله تعالى {فهي إلى الأذقان} على وجهين : أشهرهما : أنه عائد على الأغلال ؛ لأنها هي المحدث عنها ، ومعنى هذا الترتيب بالفاء أن الغل لغلظه وعرضه يصل إلى الذقن ؛ لأنه يلبس العنق جميعه ، قال الزمخشري : والمعنى أنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ثقالاً بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يتمكن المغلول معها من أن يطأطئ رأسه.
ثانيهما : أن الضمير يعود إلى الأيدي ، وإليه ذهب الطبري وعليه جرى الجلال المحلي ؛ لأن الغل لا يكون إلا في العنق واليدين ، ودل على الأيدي وإن لم تذكر الملازمة المفهومة من هذه الآلة أعني الغل. وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء ، والباقون بكسرها والأذقان جمع ذقن وهو مجمع اللحيين {فهم مقمحون} أي : رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم في أنهم لا يلتفتون لفتة إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطؤن رؤوسهم له ، والإقماح رفع الرأس إلى فوق كالإقناع وهو من قمح البعير رأسه إذا رفعها بعد الشرب إما لبرودة الماء ، وإما لكراهة طعمه.
ولما كان الرافع رأسه غير ممنوع من النظر أمامه قال تعالى :
{وجعلنا} أي : بعظمتنا {من بين أيديهم} أي : الوجه الذي يمكنهم عمله {سداً} فلا يسلكون طريق الاهتداء.
ولما كان الإنسان إذا انسدت عليه جهة مال إلى أخرى قال تعالى {ومن خلفهم} أي : الوجه الذي هو خفي عنهم {سداً} فلا يرجعون إلى الهداية فصارت كل جهة يلتفتون إليها منسدة فصاروا لذلك لا يمكنهم النظر إلى الحق ، ولا الخلوص إليه ، فلذلك قال تعالى {فأغشيناهم} أي : جعلنا على أبصارهم بما لنا من العظمة غشاوة {فهم} أي : بسبب ذلك {لا يبصرون} أي : لا يتجدد لهم هذا الوصف من إبصار الحق وما ينفعهم بصر ظاهر ولا بصيرة باطنة ، وأيضاً الإنسان مبدؤه من الله تعالى ومصيره إليه فعمى الكافرين بأن لا يبصروا ما بين أيديهم من المصير إلى الله تعالى ، وما خلفهم من الدخول في الوجود بخلق الله تعالى كمن أحاط بهم سد فغطى أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ووراءهم في أنهم محبوسون في مطمورة الجهالة ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل ، وأيضاً فإن السالك إذا لم يكن له بد من سلوك طريق فإن انسد الطريق الذي قدامه يفوته المقصد ولكنه يرجع ، فإذا انسد الطريق من خلفه ومن قدامه والموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامته هلك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 411
فإن قيل : ذكر السد من بين الأيدي ومن الخلف ولم يذكره من اليمين والشمال فما الحكمة في ذلك ؟
أجيب : بأنهم إذا قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء فصار ما إليه توجههم ما بين أيديهم ، فيجعل الله تعالى السد هناك فيمنعه من السلوك فكيفما توجه الكافر يجعل الله تعالى بين يديه سداً ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص سداً
415
بفتح السين في الموضعين وهو لغة فيه ، والباقون بالضم.
ولما منعوا بذلك حس البصر أخبر عن حس السمع بقوله تعالى : (3/280)
{وسواء عليهم} أي : مستو ومعتدل غاية الاعتدال {أأنذرتهم} أي : بما أخبرناك به من الزواجر المانعة للكفر {أم لم تنذرهم لا يؤمنون} ؛ لأنهم ممن علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون ، وقد سبق أيضاً في البقرة تفسيره والكلام على الهمزتين ، ثم بين الله تعالى الأقل الناجي ؛ لأنه المقصود بالذات بقوله تعالى :
{إنما تنذر} أي : إنذاراً ينفع المنذر فتتأثر عنه النجاة {من اتبع الذكر} أي : القرآن بالتأمل فيه والعمل به {وخشي الرحمن} أي : خاف عقابه {بالغيب} أي : قبل موته ومعاينة أهواله أو في سريرته ولا يغتر برحمته فإنه تعالى كما هو رحمن رحيم منتقم جبار {فبشره} أي : بسبب خشيته بالغيب {بمغفرة} أي : لذنوبه وإن عظمت وتكررت.
ولما حصل العلم بمحو الذنوب عينها وأثرها قال تعالى {وأجر كريم} أي : هو الجنة فإنها دار لا كدر فيها بوجه ، والمقصود منها هو النظر لوجهه الكريم ، اللهم متعنا ومحبينا بالنظر إلى وجهك الكريم.
ولما ذكر تعالى خشية الرحمن بالغيب ذكر ما يؤكده وهو إحياء الموتى بقوله تعالى :
{إنا نحن} أي : بما لنا من العظمة التي لا تضاهى {نحيي الموتى} أي : كلهم حسّاً بالبعث ، ومعنى بالإنقاذ إذا أردنا من ظلمة الجهل {ونكتب} أي : جملة عند نفخ الروح وشيئاً فشيئاً بعده فلا يتعدى التفصيل شيئاً في ذلك الإجمال {ما قدموا} أي : وأخروا من جميع أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم من صالح وغيره فاكتفى بأحدهما لدلالة الآخر عليه كقوله تعالى {سرابيل تقيكم الحر} (النحل : 81)
أي : والبرد.
وقيل المعنى : ما أسلفوا من الأعمال صالحة كانت أو فاسدة كقوله تعالى {بما قدمت أيديهم} (الجمعة : 7)
أي : بما قدموا في الوجود وأوجدوه ، وقيل : نكتب نياتهم فإنها قبل الأعمال وقوله تعالى {وآثارهم} فيه وجوه : أحدها : وهو مبني على التفسير الأخير ، وهو كتب النيات المراد بالآثار : الأعمال.
جزء : 3 رقم الصفحة : 411
ثانيها : ما سنوا من سنة حسنة وسيئة ، فالحسنة كالكتب المصنفة والقناطر المبنية ، والسيئة كالظلامات المستمرة التي وضعتها الظلمة والكتب المضلة قال صلى الله عليه وسلم "من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها من بعده كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها من بعده كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً".
ثالثها : خطاهم إلى المساجد لما روى أبو سعيد الخدري قال : شكت بنو سلمة بعد منازلهم عن المسجد فأنزل الله تعالى {ونكتب ما قدموا وآثارهم} فقال صلى الله عليه وسلم "إن الله يكتب خطواتكم ومشيكم ويثيبكم عليها" وقال صلى الله عليه وسلم "أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم مشياً والذي ينتظر
416
الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثم ينام" ، فإن قيل : الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حيث قال تعالى {نحيي الموتى ونكتب} ولم يقل نكتب ما قدموا ونحييهم ؟
أجيب : بأن الكتابة معظمة لأمر الإحياء ؛ لأن الإحياء إن لم يكن للحساب لا يعظم ، والكتابة في نفسها إن لم يكن هناك إحياء ولا إعادة لا يبقى لها أثر أصلاً ، والإحياء هو المعتبر والكتابة مؤكدة معظمة لأمره فلهذا قدم الإحياء ؛ لأنه تعالى قال : {إنا نحن} وذلك يفيد العظمة والجبروت ، والإحياء العظيم يختص بالله تعالى والكتابة دونه تقرير التعريف الأمر العظيم وذلك مما يعظم ذلك الأمر العظيم.
ولما كان ذلك الأمر ربما أوهم الاقتصاد على ما ذكر من أحوال الآدميين دفع ذلك بقوله تعالى : {وكل شيء} من أمور الدنيا والآخرة {أحصيناه} أي : قبل إيجاده بعلمنا القديم إحصاء وحفظاً وكتبناه {في إمام} وهو اللوح المحفوظ {مبين} أي : لا يخفى فيه شيء من جميع الأحوال والأقوال فهو تعميم بعد تخصيص ؛ لأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم وليست الكتابة مقتصرة عليه بل كل شيء محصي في إمام مبين ، وهذا يفيد أن شيئاً من الأقوال والأفعال لا يعزب عن علم الله تعالى ولا يفوته كقوله تعالى {وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر} (القمر : 52 ـ 53)
يعني ليس ما في الزبر منحصراً فيما فعلوه بل كل شيء مكتوب لا يبدل ، فإن القلم جف بما هو كائن فلما قال تعالى {نكتب ما قدموا} بين أن قبل ذلك كتابة أخرى ، فإن الله تعالى كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا ، ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه ، قيل : إن ذلك مؤكد لمعنى قوله تعالى {ونكتب} ؛ لأن من يكتب شيئاً في أوراق ويرميها قد لا يجدها فكأنه لم يكتب فقال تعالى : نكتب ونحفظ ذلك في إمام مبين وهو كقوله تعالى {علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} (طه : 52)
وقوله سبحانه وتعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 411(3/281)
{واضرب} بمعنى واجعل {لهم} وقوله تعالى {مثلاً} مفعول أول ، وقوله تعالى : {أصحاب} مفعول ثان والأصل : واضرب لهم مثلاً مثل أصحاب {القرية} فترك المثل وأقيم الأصحاب مقامه في الإعراب كقوله تعالى {واسأل القرية} (يوسف : 82)
قال الزمخشري : وقيل لا حاجة إلى الإضمار بل المعنى : اجعل أصحاب القرية لهم مثلاً ، أو مثل أصحاب القرية بهم قال المفسرون : المراد بالقرية أنطاكية وقوله تعالى {إذ جاءها} إلخ بدل اشتمال من أصحاب القرية أي : إذ جاء أهلها {المرسلون} أي : رسل عيسى عليه السلام وإضافة إلى نفسه في قوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
إذ أرسلنا إليهم اثنين} لأنه فعل رسوله عليه السلام {وإذ أرسلنا} إلخ بدل من إذ الأولى ، وفي هذا لطيفة وهي أن في القصة أن الرسل كانوا مبعوثين من جهة عيسى عليه السلام أرسلهم إلى أنطاكية فقال تعالى : إرسال عيسى عليه السلام هو إرسالنا ورسول رسول الله بإذن الله رسول الله فلا تفهم يا محمد أن أولئك كانوا رسل الرسول وإنما هو رسل الله تعالى ، فتكذيبهم كتكذيبك فتتم التسلية بقوله تعالى : {إذ أرسلنا} ويؤيد هذا مسألة فقهية وهي أن كل وكيل للوكيل بإذن الموكل عند الإطلاق وكيل الموكل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه ، وينعزل إذا عزله الموكل الأول.
417
تنبيه : في بعث الاثنين حكمة بالغة وهي أنهما كانا مبعوثين من جهة عيسى عليه السلام بإذن الله تعالى ، فكان عليهما إنهاء الأمر إليه والإتيان بما أمر الله تعالى ، والله سبحانه عالم بكل شيء لا يحتاج إلى شاهد يشهد عنده ، وأما عيسى عليه السلام فبشر فأمر الله تعالى بإرسال اثنين ليكون قولهما على قومهما عند عيسى عليه السلام حجة ثابتة ، وقرأ أبو عمرو بكسر الهاء والميم في الوصل ، وحمزة والكسائي بضمهما ، والباقون بكسر الهاء وضم الميم وأما الوقف فحمزة بضم الهاء ، والباقون بكسرها ، والجميع في الوقف بسكون الميم. {فكذبوهما} أي : مع ما لهما من الآيات ؛ لأن من المعلوم أنا ما أرسلنا رسولاً إلا كان معه من الآيات ما مثله آمن عليه البشر سواء أكان عنا من غير واسطة ، أو كان بواسطة رسولنا كما كان للطفيل بن عمرو الدوسي ذي النورين لما ذهب إلى قومه وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون له آية فكانت نوراً في جبهته ، ثم سأل أن تكون في غير وجهه فكانت في سوطه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 417(3/282)
ولما كان المتظافر على الشيء أقوى لشأنه وأعون على ما يراد منه تسبب عن ذلك قوله تعالى {فعززنا} أي : قوينا {بثالث} يقال : عزز المطر الأرض أي : قواها ولبدها ويقال لتلك الأرض العزاز وكذا كل أرض صلبة ، وتعزز لحم الناقة أي : صلب وقوي والمفعول محذوف أي : فقويناهما بثالث ، أو فغلبناهما بثالث ؛ لأن المقصود من البعثة نصرة الحق لا نصرتهما ، والكل كانوا مقوين للدين بالبرهان قال وهب : اسم المرسلين يحيى ويونس ، واسم الثالث شمعون ، وقال كعب : الرسولان صادق ومصدوق والثالث : سلوم ، وقرأ شعبة بتخفيف الزاي الأولى ، والباقون بتشديدها والزاي الثانية ساكنة بلا خلاف. {فقالوا إنا إليكم مرسلون} وذلك أنهم كانوا عبدة أصنام فأرسل إليهم عيسى عليه السلام اثنين فلما قربا من المدينة رأيا حبيباً النجار يرعى غنماً فسلما عليه فقال : من أنتما ؟
فقالا : رسولا عيسى عليه السلام يدعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن فقال : أمعكما آية ؟
قالا : نعم نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى فقال : إن لي ابناً مريضاً منذ سنين قالا : فانطلق بنا ننظر حاله فأتى بهما إلى منزله فمسحاه فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحاً ففشا الخبر في المدينة وآمن حبيب النجار ، وشفى الله تعالى على أيديهما كثيراً من المرضى وكان لهم ملك اسمه أنطيحس وكان من ملوك الروم فانتهى الخبر إليه فدعاهما فقال لهما : من أنتما ؟
فقالا : رسولا عيسى عليه السلام قال : وفيما جئتما ؟
قالا : ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر قال : أولنا إله دون آلهتنا ؟
قالا : نعم من أوجدك وآلهتك فقال : قوما حتى أنظر في أمركما وأمر بحبسهما وجلد كل واحد منهما مائة جلدة ، فلما كذبا وضربا بعث عيسى عليه السلام رأس الحواريين شمعون الصفار على أثرها لينصرهما ، فدخل البلد متنكراً وجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به وأوصلوا خبره إلى الملك فدعاه فرضي عشرته وأنس به وأكرمه ، ثم قال له ذات يوم : أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعوا إلى غير دينك فهل كلمتهما وسمعت قولهما ؟
فقال الملك : حال الغضب بيني وبين ذلك قال : فإن رأى الملك دعاهما حتى نطلع على ما عندهما فدعاهما الملك فقال لهما شمعون : من أرسلكما إلى هاهنا ؟
قالا : الله تعالى الذي خلق كل شيء وليس له شريك فقال لهما شمعون : فصفاه وأوجزا قالا : يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد قال لهما شمعون : وما آيتكما ؟
قالا : ما يتمنى الملك فدعا بغلام مطموس العينين موضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر فأخذا
418
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
بندقتين من الطين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجب الملك فقال شمعون للملك : أرأيت إن سألت إلهك يصنع مثل هذا حتى يكون لك الشرف ولآلهتك ؟
فقال الملك : ليس لي عنك سر إن إلهنا الذي نعبده لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع ، وكان شمعون إذا دخل الملك على الصنم يدخل بدخوله ويصلي كثيراً ويتضرع حتى ظنوا أنه على ملتهم ، ثم قال الملك لهما : إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما قالا : إلهنا قادر على كل شيء فقال الملك : إن هنا ميتاً مات منذ سبعة أيام ابن لدهقان وأنا أخرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه ، وكان غائباً فجاؤوا بالميت وقد تغير وأروح فجعلا يدعوان ربهما علانية وجعل شمعون يدعو ربه سراً ، فقام الميت وقال : إني دخلت سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا بالله تعالى ، ثم قال : فتحت أبواب السماء فرأيت شاباً حسناً يشفع لهؤلاء الثلاثة قال الملك : ومن الثلاثة ؟
قال : شمعون وهذان وأشار إلى صاحبيه فتعجب الملك لما علم ، فلما علم شمعون أن قوله أثر في الملك أخبره بالحال ودعاه فآمن الملك وآمن قوم وكفر آخرون ، فمن لم يؤمن صاح عليهم جبريل فهلكوا.
وقيل : أن ابنة الملك كانت قد توفيت ودفنت فقال شمعون للملك : اطلب من هذين الرجلين أن يحييا ابنتك فطلب الملك منهما ذلك فقاما وصليا ودعوا الله تعالى وشمعون معهما في السر فأحيا الله تعالى المرأة ، ثم انشق القبر عنها فخرجت وقالت : أسلموا فإنهما صادقان قالت : ولا أظنكم تسلمون ثم طلبت من الرسولين أن يرداها إلى مكانها فذرا تراباً على رأسها فعادت إلى قبرها كما كانت ، وقال ابن إسحاق عن كعب ووهب : بل كفر واجتمع هو وقومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيباً وهو على باب المدينة بالأقصى ، فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين.
{قالوا} أي : أهل القرية للرسل {ما أنتم} أي : وإن زاد عددكم {إلا بشر مثلنا} لا مزية لكم علينا فما وجه الخصوصية لكم في كونكم رسلاً دوننا ، فجعلوا كونهم بشراً مثلهم دليلاً على عدم الإرسال ، وهذا عام في المشركين قالوا في حق محمد صلى الله عليه وسلم {أأنزل عليه الذكر من بيننا} (ص : 8)
وقد استوينا في البشرية فلا يمكن الرجحان ، فرد الله عليهم بقوله سبحانه {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} (الجن : 23)(3/283)
وبقوله تعالى : {الله يجتبي إليه من يشاء} (الشورى : 13)
إلى غير ذلك.
تنبيه : رفع بشر لانتقاض النفي المقتضي إعمال ما بإلا ثم قالوا {وما أنزل الرحمن} أي : العام الرحمة ، فعموم رحمته مع استوائنا في عبوديته يقتضي أن يسوي بيننا في الرحمة فلا يخصكم بشيء دوننا ، وأغرقوا في النفي بقولهم {من شيء} أي : وحي ورسالة {إن} أي : ما {أنتم إلا تكذبون} أي : في دعوى رسالة حالاً ومآلاً.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
قالوا} أي : الرسل {ربنا} أي : الذي أحسن إلينا {يعلم} أي : ولهذا يظهر على أيدينا الآيات {إنا إليكم لمرسلون} استشهدوا بعلم الله تعالى وهو يجري مجرى القسم ، وزادوا اللام المؤكدة ؛ لأنه جواب عن إنكارهم.
{وما علينا} أي : وجوباً من قبل من أرسلنا {إلا البلاغ المبين} أي : المؤيد بالأدلة القطعية من الحجج القولية والفعلية بالمعجزات ، وهي إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الميت وغيرهما فما كان جوابهم بعد هذا إلا أن :
{قالوا إنا تطيرنا} أي : تشاءمنا {بكم} وذلك أن المطر
419
حبس عنهم فقالوا : أصابنا هذا بشؤمكم ولاستغرابهم ما ادعوه واستقباحهم له ونفرتهم عنه قالوا : {لئن لم تنتهوا} أي : عن مقالتكم هذه {لنرجمنكم} أي : لنقتلنكم قال قتادة : بالحجارة ، وقيل : لنشتمنكم وقيل : لنقتلنكم شر قتلة {وليمسنكم منا} أي : لا من غيرنا {عذاب أليم} كأنهم قالوا : لا نكتفي برجمكم بحجر وحجرين بل نديم ذلك عليكم إلى الموت وهو العذاب الأليم ، أو يكون المراد وليمسنكم بسبب الرجم منا عذاب أليم أي : مؤلم ، وإن قلنا : الرجم : الشتم فكأنهم قالوا : ولا يكفينا الشتم بل شتم يؤدي إلى الضرب والإيلام الحسي ، وإذا فسرنا أليم بمعنى مؤلم ففعيل بمعنى مفعل قليل ، ويحتمل أن يقال : هو من باب قوله تعالى {عيشة راضية} (الحاقة : 21)
أي : ذات رضا أي : عذاب ذو ألم فيكون فعيلاً بمعنى فاعل وهو كثير ، ثم أجابهم المرسلون بأن :
{قالوا طائركم} أي : شؤمكم الذي أحل بكم البلاء {معكم} وهو أعمالكم القبيحة التي منها تكذيبكم وكفركم فأصابكم الشؤم من قبلكم ، وقال ابن عباس والضحاك : حظكم من الخير والشر ، والهمزة في قوله تعالى {أئن ذكرتم} أي : وعظتم وخوفتم همزة استفهام وجواب الشرط محذوف أي : تطيرتم وكفرتم فهو محل الاستفهام والمراد به التوبيخ ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الثانية ، وأدخل قالون وأبو عمرو بينهما ألفاً ، وورش وابن كثير بغير إدخال ، والباقون بتحقيقهما مع عدم الإدخال.
ولما كان ذلك لا يصح أن يكون سبباً للتطير بوجه أضربوا عنه بقولهم {بل} أي : ليس الأمر كما زعمتم في أن التذكير بسبب التطير بل {أنتم قوم} أي : غركم ما آتاكم الله من القوة على القيام فيما تريدون {مسرفون} أي : عادتكم الخروج عن الحدود والطغيان فعوقبتم لذلك.
ولما كان السياق لأن الأمر بيد الله تعالى ، فلا هادي لمن يضل ولا مضل لمن هدى فهو يهدي البعيد في البقعة والنسب إذا أراد ، ويضل القريب فيهما إذا أراد وكان بعد الدار ملزوماً في الغالب لبعد النسب قدّم مكان المجيء على فاعلة بياناً لأن الدعاء نفع الأقصى ولم ينفع الأدنى فقال تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
وجاء من أقصى} أي : أبعد بخلاف ما مر في القصص ولأجل هذا الغرض عدل عن التعبير بالقرية وقال {المدينة} لأنها أدل على الكبر المستلزم بعد الأطراف وجمع الأخلاط ولما بين الفاعل بقوله تعالى : {رجل} بين اهتمامه بالنهي عن المكر ومسابقته إلى إزالته كما هو الواجب بقوله تعالى : {يسعى} أي : يسرع في مشيه فوق المشي ودون العدو حرصاً على نصيحة قومه.
تنبيه : في تنكير الرجل مع أنه كان معلوماً معروفاً عند الله تعالى فيه فائدتان ، الأولى : أن يكون تعظيماً لشأنه أي : رجل كامل في الرجولية ، الثانية : أن يكون مفيداً ليظهر من جانب المرسلين أمر رجل من الرجال لا معرفة لهم به فلا يقال : إنهم تواطؤوا ، والرجل هو حبيب النجار كان ينحت الأصنام ، وقال السدي : كان قصاراً ، وقال وهب : كان يعمل الحرير وكان سقيماً قد أسرع فيه الجذام وكان منزله عند أقصى باب في المدينة ، وكان مؤمناً وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل وجوده حين صار من العلماء بكتاب الله تعالى ورأى فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم وبعثته وقوله : {يسعى} تبصير للمسلمين وهداية لهم ليبذلوا جهدهم في النصح.
ولما تشوفت النفس إلى الداعي إلى إتيانه بينه بقوله تعالى :
{قال} واستعطفهم بقوله تعالى : {يا قوم} وأمرهم بمجاهدة النفوس بقوله {اتبعوا المرسلين} أي : في عبادة الله تعالى وحده ،
420
فجمع بين إظهار دينه وإظهار النصيحة فقوله {اتبعوا} النصيحة وقوله {المرسلين} إظهار إيمانه ، وقدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان ؛ لأنه كان ساعياً في النصيحة ، وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل وقوله {يسعى} دل على إردته النصح.
فإن قيل : ما الفرق بين مؤمن آل فرعون حيث قال : {اتبعون أهدكم} (غافر : 38)(3/284)
وهذا قال : {اتبعوا المرسلين} ؟
أجيب : بأن هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم ولم يعلموا سيرته فقال : اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السبيل ، وأما مؤمن آل فرعون فكان فيهم ونصحهم مراراً فقال : اتبعوني في الإيمان بموسى وهرون عليهما السلام ، واعلموا أنه لو لم يكن خيراً لما اخترته لنفسي وأنتم تعلمون أني اخترته ولم يكن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يعلمون اتباعه لهم.
ولما قال لهم : اتبعوا المرسلين كأنهم منعوا كونهم مرسلين فنزل درجة وقال :
{اتبعوا من لا يسألكم أجراً} أي : أجرة ؛ لأن الخلق في الدنيا سالكون طريق الاستقامة ، والطريق إذا كان فيه دليل وجب اتباعه وعدم الاستماع من الدليل لا يحسن إلا عند أحد أمرين : إما لطلب الدليل الأجرة ، وإما : لعدم الاعتماد على اهتدائه ومعرفة الطريق لكن هؤلاء لا يطلبون أجرة {وهم مهتدون} عالمون بالطريق المستقيم الموصلة إلى الحق فهب أنهم ليسوا بمرسلين أليسوا بمهتدين ؟
فاتبعوهم وقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
ومالي لا أعبد الذي فطرني} أصله : وما لكم لا تعبدون ولكنه صرف الكلام عنه ليكون الكلام أسرع قبولاً حيث أراد لهم ما أراد لنفسه والمراد : تقريعهم على تركهم عبادة خالقهم إلى عبادة غيره ولذلك قال {وإليه ترجعون} دون وإليه أرجع مبالغة في التهديد وفي العدول عن مخاصمة القوم إلى حال نفسه مبالغة في الحكمة ، وهي أنه لو قال : ما لكم لا تعبدون الذي فطركم لم يكن في البيان مثل قوله : ما لي ؛ لأنه لما قال : مالي فأحد لا يخفى عليه حال نفسه ، علم كل واحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد ؛ لأنه أعلم بحال نفسه وقوله {الذي فطرني} أشار به إلى وجود المقتضى فإن قوله : {مالي} إشارة إلى عدم المانع وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضى فقوله {الذي فطرني} دليل المقتضي فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه ومنعم بالإيمان ، والمنعم يجب على المنعم عليه شكر نعمته ، وقدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضي مع أن المستحسن تقديم المقتضي ، لأن المقتضي لظهوره كان مستغنياً عن البيان فلا أقل من تقديم ما هو أولى بالبيان للحاجة إليه ، واختار من الآيات فطرة نفسه ؛ لأن خالق عمرو يجب على زيد عبادته ؛ لأن من خلق عمراً لا يكون إلا كامل القدرة واجب الوجود فهو مستحق للعبادة بالنسبة إلى كل مكلف ، لكن العبادة على زيد بخلق زيد أظهر إيجاباً.
تنبيه : أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم ؛ لأن الفطرة أثر النعمة فكانت عليه أظهر ، وفي الرجوع معنى الزجر فكان بهم أليق ، روي أنه لما قال {اتبعوا المرسلين} أخذوه ورفعوه إلى الملك فقال له : أفأنت تتبعهم ؟
فقال {ومالي لا أعبد الذي فطرني} أي : أي : شيء يمنعني أن أعبد خالقي وإليه ترجعون ، تردون عند البعث فيجزيكم بأعمالكم ومعنى فطرني : خلقني اختراعاً ابتداء ، وقيل : خلقني على الفطرة كما قال تعالى {فطرة الله التي فطر الناس عليها} (الروم : 30)
421
ثم عاد إلى السياق الأول فقال :
{أأتخذ} وهو استفهام بمعنى الإنكار أي : لا أتخذ وبين علو رتبته تعالى بقوله {من دونه} أي : سواه مع دنو المنزلة وبين عجز ما عبدوه بتعدده فقال {آلهة} وفي ذلك لطيفة وهي : أنه لما بين أنه يعبد الذي فطره بين أن من دونه لا تجوز عبادته ؛ لأن الكل محتاج مفتقر حادث وقوله {أأتخذ} إشارة إلى أن غيره ليس بإله ؛ لأن المتخذ لا يكون إلهاً ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بتسهيل الثانية بخلاف عن هشام ، وأدخل فيهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام وورش وابن كثير بغير إدخال ألف ، والباقون بتحقيقهما مع عدم الإدخال وإذا وقف حمزة فله تسهيل الثانية والتحقيق ؛ لأنه متوسط بزائد وله أيضاً إبدالها ألفاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
ثم بين عجز تلك الآلهة بقوله {إن يردن الرحمن} أي : العام النعمة على كل المخلوقين العابد والمعبود {بضر} أي : سوء ومكروه {لا تغن عني شفاعتهم شيئاً} أي : لو فرض أنهم شفعوا ولكن شفاعتهم لا توجد {ولا ينقذون} أي : بالنصر والمظاهرة من ذلك المكروه أو من العذاب لو عذبني الله تعالى إن فعلت ذلك.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى هنا : {إن يردن الرحمن} بصيغة المضارع وقال في الزمر : {إن أرادني الله} (الزمر : 38)
بصيغة الماضي وذكر المريد هنا باسم الرحمن وذكر المريد هناك باسم الله ؟
أجيب : بأن الماضي والمستقبل مع الشرط يصير الماضي مستقبلاً ؛ لأن المذكور هنا من قبل بصيغة الاستقبال في قوله {أأتخذ} وقوله {مالي لا أعبد} والمذكور هناك من قبل بصيغة الماضي في قوله {أفرأيتم} (الزمر : 38)
تنبيه : إن يردن شرط جوابه لا تغن عني إلخ والجملة الشرطية في محل النصب صفة لآلهة.
فائدة : أثبت ورش الياء بعد النون في الوصل دون الوقف ، والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً.(3/285)
{إني إذاً} أي : إن عبدت غير الله تعالى {لفي ضلال مبين} أي : خطأ ظاهر ، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء ، وسكنها الباقون وهم على مذاهبهم في المد.
ولما أقام الأدلة ولم يبق لأحد تخلف عنه عله صرح بما لوح إليه من إيمانه بقوله :
{إني آمنت} أي : أوقعت التصديق الذي لا تصديق في الحقيقة غيره ، وفتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو ، وسكنها الباقون ، واختلف في المخاطب بقوله {بربكم} على أوجه أحدها : أنه خاطب المرسلين قال المفسرون : أقبل القوم عليه يريدون قتله فأقبل هو على المرسلين قال {إني آمنت بربكم فاسمعون} أي : اسمعوا قولي واشهدوا لي ، وثانيها : هم الكفار لما نصحهم وما نفعهم قال {آمنت بربكم فاسمعون} وثالثها : بربكم أيها السامعون فاسمعون على العموم كقول الواعظ : يا مسكين ما أكثر أملك يريد : كل سامع يسمعه فلما قال ذلك وثب القوم عليه وثبة رجل واحد فقتلوه وقال ابن مسعود : وطئوه بأرجلهم ، وقال السدي : كانوا يرمونه بالحجارة وهو يقول : اللهم اهد قومي حتى قطعوه وقتلوه وقال الحسن : خرقوا خرقاً في حلقه فعلقوه في سور المدينة وقبره بأنطاكية مشهور رضي الله تعالى عنه.
تنبيه : في قوله {فاسمعون} فوائد : منها : أنه كلام متفكر حيث قال : اسمعوا فإن المتكلم إذا كان يعلم أن لكلامه جماعة سامعين يتفكر ، ومنها : أن ينبه القوم ويقول : إني أخبرتكم بما فعلت حتى لا تقولوا لم أخفيت عنا أمرك ولو أظهرته لآمنا معك ، فإن قيل : إنه قال من قبل {ومالي لا أعبد الذي فطرني} وقال ههنا : {آمنت بربكم} ولم يقل : آمنت بربي ؟
أجيب : بأنا إن قلنا :
422
الخطاب مع الرسل فالأمر ظاهر ؛ لأنه لما قال {آمنت بربكم} ظهر عند الرسل أنه قبل قولهم وآمن بالرب الذي دعوه إليه وقال {بربكم} وإن قلنا الخطاب مع الكفار ففيه بيان التوحيد ؛ لأنه لما قال {أعبد الذي فطرني} ثم قال {آمنت بربكم} فهم أنه يقول : ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وهو بعينه ربكم بخلاف ما لو قال : آمنت بربي فيقول الكافر : وأنا أيضاً آمنت بربي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
فائدة : أخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أن مثل صاحب يس هذا في هذه الأمة عروة بن مسعود الثقفي حيث نادى قومه بالإسلام ونادى على علية بالأذان فرموه بالسهام فقتلوه".
ثم إنه سبحانه وتعالى بين حال هذا الذي قال {آمنت بربكم} بعد ذلك بقوله تعالى : إيجازاً في البيات لأهل الإيمان :
{قيل} أي : قيل له بعد قتلهم إياه ، فبناه للمفعول ؛ لأن المقصود المقول لا قائله والمقول له معلوم {ادخل الجنة} لأنه شهيد والشهداء يسرحون في الجنة حيث شاؤوا من حين الموت ، وقيل : لما هموا بقتله رفعه الله تعالى إلى الجنة ، وقرأ هشام والكسائي بضم القاف وهو المسمى بالإشمام ، والباقون بالكسر.
ولما أفضى به إلى الجنة {قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي} أي : بغفران ربي لي المحسن إلي في الآخرة بعد إحسانه في الدنيا بالإيمان في مدة يسيرة بعد طول عمري في الكفر {وجعلني من المكرمين} أي : الذين أعطاهم الدرجات العلا فنصح لقومه حياً وميتاً بتمني عملهم بالكرامة له ليعملوا مثل عمله فينالوا ما ناله.
تنبيه : في القصة حث على المبادرة إلى مفارقة الأشرار واتباع الأخيار والحلم عن أهل الجهل وكظم الغيظ والتلطف في خلاص الظالم من ظلمه وأنه لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله وإن كان محسناً ، وهذا كما وقع للأنصار رضي الله تعالى عنهم في المبادرة إلى الإيمان مع بعد الدار والنسب ، وفي قول من استشهد منهم في بئر معونة كما رواه البخاري في المغازي عن أنس : "بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا" وفي غزوة أُحد.
كما في السيرة وغيرها : لما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله تعالى بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله تبارك وتعالى : فأنا أبلغهم عنكم فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً} (آل عمران : 169) ، وفي التمثيل بهذه القصة إشارة إلى أن في قريش من حتم بموته على الكفر ولم ينقص ما قضى له من الأجل ، فالله سبحانه يؤيد هذا الدين بغيرهم لتظهر قدرته وحكمته :
جزء : 3 رقم الصفحة : 417
423
{وما أنزلنا} بما لنا من العظمة {على قومه} أي : حبيب {من بعده} أي : من بعد إهلاكه أو رفعه {من جند من السماء} لإهلاكهم كما أرسلنا يوم بدر والخندق بل كفينا أمرهم بصيحة ملك ، وفيه استحقار بإهلاكهم وإيماء بتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا لكان تحريك ريشة من جناح ملك كافياً في استئصالهم ، فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى {من بعده} وهو تعالى لم ينزل عليهم من قبله ؟
أجيب : بأن استحقاق العذاب كان بعده حيث أصروا واستكبروا فبين حال الإهلاك بقوله تعالى : {وما كنا منزلين} أي : ما كان ذلك من سنتنا وما صح في حكمتنا أن يكون عذاب الاستئصال بجند كثير.(3/286)
{إن} أي : ما {كانت} أي : الواقعة التي عذبوا بها {إلا صيحة} صاحها بهم جبريل عليه السلام فماتوا عن آخرهم وأكد أمرها وحقق وحدتها بقوله تعالى : {واحدة} أي : لحقارة أمرهم عندنا ثم زاد في تحقيرهم ببيان الإسراع في الإهلاك بقوله تعالى : {فإذا هم خامدون} أي : ثابت لهم الخمود ما كأنهم كانت بهم حركة يوماً من الدهر شبهوا بالنار رمزاً إلى أن الحي كالنار الساطعة والميت كرمادها كما قال لبيد :
*
جزء : 3 رقم الصفحة : 423
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ** يصير رماداً بعد إذ هو ساطع*
وقال المعري :
*وكالنار الحياة فمن رماد ** أواخرها وأولها دخان*
قال المفسرون : أخذ جبريل عليه السلام بعضادتي باب المدينة ثم صاح بهم صيحة واحدة فماتوا {يا حسرة على العباد} أي : هؤلاء ونحوهم ممن كذبوا الرسل فأهلكوا وهي شدة التألم ونداؤها
424
مجاز أي : هذا أوانك فاحضري ، ثم بين تعالى سبب الحسرة والندامة بقوله تعالى : {ما يأتيهم من رسول} أي رسول كان في أي وقت كان {إلا كانوا به} أي : بذلك الرسول {يستهزؤن} والمستهزئ بالناصحين المخلصين أحق أن يتحسر ويتحسر عليه ، وقيل : يقول الله تعالى يوم القيامة {يا حسرة على العباد} حين لم يؤمنوا بالرسل.
ولما بين تعالى حال الأولين قال للحاضرين :
{ألم يروا} أي : أهل مكة القائلين للنبي صلى الله عليه وسلم لست مرسلاً ، والاستفهام للتقرير أي : اعلموا وقوله تعالى {كم} خبرية بمعنى كثيراً وهو مفعول لأهلكنا تقديره : كثيراً من القرون أهلكنا وهي معمولة لما بعدها معلقة ليروا عن العمل ذهاباً بالخبرية مذهب الاستفهامية والمعنى : أما {أهلكنا قبلهم} كثيراً {من القرون} أي : الأمم ، قال البغوي : والقرن أهل كل عصر سموا بذلك لاقترانهم في الوجود {أنهم} أي : المهلكين {إليهم} أي : إلى أهل مكة {لا يرجعون} أي : لا يعودون إلى الدنيا أفلا يعتبرون ، وقيل : لا يرجعون أي : الباقون لا يرجعون إلى المهلكين بسبب ولا ولادة أي : أهلكناهم وقطعنا نسلهم ولا شك أن الإهلاك الذي يكون مع قطع النسل أتم وأعم ، قال ابن عادل : والأول أشهر نقلاً. والثاني : أظهر عقلاً. وقوله تعالى :
{وإن} نافية أو مخففة وقوله تعالى {كل} أي : كل الخلائق مبتدأ وقرأ {لما} ابن عامر وعاصم وحمزة بتشديد الميم بمعنى إلا ، والباقون بالتخفيف واللام فارقة وما مزيدة وقوله تعالى {جميع} أي : مجموعون خبر أول {لدنيا} أي : عندنا في الموقف بعد بعثهم وقوله تعالى {محضرون} أي : للحساب خبر ثان وما أحسن قول القائل :
*ولو أنا إذا متنا تركنا ** لكان الموت راحة كل حيّ*
*ولكنا إذا متنا بعثنا ** ونسأل بعدها عن كل شيء*
ولما قال {وإن كل لما جميع} كان ذلك إشارة إلى الحشر فذكر ما يدل على إمكانه قطعاً لإنكارهم واستبعادهم فقال تعالى :
{وآية} أي : علامة عظيمة {لهم} أي : على قدرتنا على البعث وإيجادنا له {الأرض} أي : هذا الجنس الذي هم منه ثم وصفها بما حقق وجه الشبه بقوله تعالى : {الميتة} التي لا روح لها ؛ لأنه لا نبات بها أعم من أن يكون بها نبات وفنى أو لم يكن بها شيء أصلاً ، ثم استأنف بيان كونها آية بقوله تعالى : {أحييناها} أي : باختراع النبات فيها أو بإعادته بسبب المطر كما كان بعد اضمحلاله ، فإن قيل : الأرض آية مطلقاً فلم خصها بهم حيث قال تعالى : {وآية لهم} ؟
أجيب : بأن الآية تعدد وتسرد لمن لم يعرف الشيء بأبلغ الوجوه ، وأما من عرف الشيء بطريق الرؤية فلا يذكر له دليل فالنبي صلى الله عليه وسلم وعباد الله المخلصين عرفوا الله تعالى قبل الأرض والسماء فليست الأرض معرفة لهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 423
تنبيه : آية خبر مقدم ولهم صفتها أو متعلقة بآية ؛ لأنها علامة والأرض مبتدأ ، وأعرب أبو البقاء آية مبتدأ ولهم الخبر والأرض الميتة مبتدأ وصفة وأحييناها خبره فالجملة مفسرة لآية وبهذا بدأ ثم قال : وقيل فذكر الوجه الأول.
ولما كان إخراج الأقوات نعمة أخرى قال {وأخرجنا منها حباً} أي : جنس الحب كالحنطة
425
والشعير والأرز ، ثم بين عموم نفعه بقوله {فمنه} أي : بسبب هذا الإخراج {يأكلون} أي : من ذلك الحب فهو حب حقيقة تعلمون ذلك علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين لا تقدرون تدعون أن ذلك خيال سحري بوجه من الوجوه ، وفي هذه الآية وأمثالها حث عظيم على تدبر القرآن واستخراج ما فيه من المعاني الدالة على جلال الله تعالى وكماله ، وقد أنشد هنا الأستاذ القشيري في تفسيره وعيب على من أهمل ذلك :
*يا من تصدر في دست الإمامة في ** مسائل الفقه إملاء وتدريساً*
*غفلت عن حجج التوحيد تحكمها ** شيدت فرعاً وما مهدت تأسيساً*
ولما ذكر الزرع وهو مالا ساق له أتبعه بذكر ما له ساق بقوله : (3/287)
{وجعلنا} أي : بما لنا من العظمة {فيها} أي : الأرض {جنات} أي : بساتين {من نخيل وأعناب} ذكر هذين النوعين لكثرة نفعهما وقدم النخل ؛ لأنه نفع كله خشبه وسعفه وليفه وخوصه وعراجينه وثمره طلعاً وبسراً ورطباً وتمراً وفيه زينة دائماً لكونه لا يسقط ورقه.
ولما كانت الجنان لا تصلح إلا بالماء قال تعالى {وفجرنا} أي : فتحنا سيحاً عظيماً {فيها} أي : الأرض {من العيون} شيئاً فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه أو العيون ، ومن مزيدة عند الأخفش ، قال البقاعي : والتعريف هنا يدل على أن الأرض مركبة على الماء فكل موضع منها صالح لأن يتفجر منه الماء ولكن الله تعالى يمنعه من بعض المواضع بخلاف الأشجار ليس فيها شيء غالب على الأرض ، ففي ذلك تذكير بالنعمة في حبس الماء عن بعض الأرض ليكون موضعاً للسكن ولو شاء لفجر الأرض كلها عيوناً كما فعل بقوم نوح فأغرق أهل الأرض كلهم ، وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص برفع العين ، والباقون بالكسر.
ولما كانت حياة كل شيء إنما هي بالماء أشار إلى ذلك بقوله تعالى :
{ليأكلوا من ثمره} أي : ثمر ما ذكر وهو الجنات ، وقيل : الضمير يعود على الأعناب ؛ لأنها أقرب مذكور وكان من حق الضمير أن يثنى لتقديم شيئين وهما الأعناب والنخيل إلا أنه اكتفى بذكر أحدهما ، وقيل : الضمير لله على طريق الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، وقرأ حمزة والكسائي برفع الثاء والميم وهي لغة فيه أو جمع ثمار ، والباقون بفتحهما.
جزء : 3 رقم الصفحة : 423
وقوله تعالى : {وما عملته أيديهم} عطف على الثمر والمراد : ما يتخذ منه كالعصير والدبس مما موصولة ومن الذي عملته أيديهم ويؤيد هذا قراءة حمزة والكسائي وشعبة بحذف الهاء من عملته ، وما نافية على قراءة الباقين بإثباتها أي : وجدوها معمولة ولم تعملها أيديهم ولا صنع لهم فيها ، وقيل : أراد العيون والأنهار التي لم تعملها يد مخلوق مثل دجلة والفرات والنيل.
ثم لما عدد النعم أشار إلى الشكر بقوله تعالى : {أفلا يشكرون} أي : اشكروا فهو أمر بصيغة الاستفهام أي : ادأبوا دائماً في إيقاع الشكر والدوام على تجديده في كل حين بسبب هذه النعم.
ولما أمرهم الله تعالى بالشكر وشكر الله تعالى بالعبادة وهم تركوها وعبدوا غيره وأشركوا قال تعالى :
{سبحان الذي خلق الأزواج} أي : الأصناف والأنواع {كلها} أي : وغيره لم يخلق
426
شيئاً ثم بين ذلك بقوله تعالى : {مما تنبت الأرض} دخل فيه كل نجم وشجر ومعدن وغيره من كل ما يتولد منها {ومن أنفسهم} من الذكور والإناث وقوله تعالى {ومما لا يعلمون} يدخل فيه ما في أقطار السموات وتخوم الأرضين من المخلوقات العجيبة الغريبة.
ولما استدل تعالى بأحوال الأرض وهو المكان الكلي استدل بالليل والنهار وهو الزمان الكلي بقوله تعالى :
{وآية لهم الليل} أي : على إعادة الشيء بعد فنائه {نسلخ} أي : نفصل {منه النهار} فإن دلالة الزمان والمكان متناسبة ؛ لأن المكان لا يستغني عنه الجواهر ، والزمان لا يستغني عنه الأعراض ؛ لأن كل عرض فهو في زمان.
تنبيه : نسلخ استعارة تبعية مصرحة ، شبه انكشاف ظلمة الليل بكشط الجلد من الشاة والجامع ما يعقل من ترتب أحدهما على الآخر {فإذا هم} أي : بعد إزالة ما للنهار الذي سلخناه من الليل {مظلمون} أي : داخلون في الظلام بظهور الليل الذي كان الضياء ساتراً له كما يستر الجلد الشاة ، قال الماوردي : وذلك أن ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء فإذا خرج منه أظلم نقله ابن الجوزي عنه ، وقد أرشد السياق حتماً إلى أن التقدير : والنهار نسلخ منه الليل الذي كان ساتره وغالباً عليه فإذا هم مبصرون.
ولما ذكر الوقتين ذكر آيتيهما مبتدئاً بآية النهار بقوله تعالى :
{والشمس} أي : التي سلخ النهار من الليل بغيبوبتها {تجري لمستقر لها} أي : لحد معين ينتهي إليه دورها لا تتجاوزه فشبه بمستقر المسافر إذا قطع سيره ، وقيل : مستقرها بانتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وقيام الساعة ، وقيل : إنها تسير حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع فذلك مستقرها لا تتجاوزه ، وقيل : مستقرها نهاية ارتفاعها في السماء في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "مستقرها تحت العرش" وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر حين غربت الشمس : "تدري أين تذهب ؟
قلت : الله ورسوله أعلم قال : فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها : ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى {والشمس تجري لمستقر لها}".
جزء : 3 رقم الصفحة : 423(3/288)
ولما كان هذا الجري على نظام لا يختل على ممر السنين وتعاقب الأحقاب عظمه بقوله تعالى : {ذلك} أي : الأمر الباهر للعقول وزاد في عظمه بصيغة التفعيل بقوله تعالى : {تقدير العزيز} أي : الذي لا يقدر أحد في شيء من أمره على نوع مغالبة وهو غالب على كل شيء {العليم} أي : المحيط علماً بكل شيء الذي يدبر الأمر فيطرد على نظام عجيب ونهج بديع لا يعتريه وهن ولا يلحقه يوماً نوع خلل ، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى المستقر أي : ذلك المستقر تقدير العزيز العليم.
ولما ذكر آية النهار أتبعها آية الليل بقوله تعالى :
{والقمر قدرناه} أي : من حيث سيره {منازل} ثمانية وعشرين منزلاً في ثمانية وعشرين ليلة من كل شهر ويستتر ليلتين إن كان الشهر
427
ثلاثين يوماً وليلة إن كان الشهر تسعة وعشرين يوماً ، وقد ذكرنا أسامي المنازل في سورة يونس عليه السلام ، فإذا صار القمر في آخر منازله دق فذلك قوله تعالى {حتى عاد} أي : بعد أن كان بدراً عظيماً {كالعرجون} من النخل وهو عود العذق ما بين شماريخه إلى منتهاه وهو منبته من النخلة رقيقاً منحنياً ثم وصفه بقوله تعالى : {القديم} فإنه إذا عتق يبس وتقوس واصفر فيشبه القمر في رقته وصفرته في رأي العين في آخر المنازل ، قال القشيري : إن القمر يبعد عن الشمس ولا يزال يتباعد حتى يعود بدراً ثم يدنو ، فكلما ازداد من الشمس دنواً ازداد في نفسه نقصاناً إلى أن يتلاشى ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والقمر برفع الراء ، والباقون بالنصب والرفع على الابتداء والنصب بإضمار فعل على الاشتغال ، والوجهان مستويان لتقدم جملة ذات وجهين وهي قوله تعالى : {والشمس تجري} فإن راعيت صدرها رفعت لتعطف جملة اسمية على مثلها وإن راعيت عجزها نصبت لتعطف فعلية على مثلها.
ولما قرر أن لكل منهما منازل لا يعدوها فلا يغلب ما هو آيته آية الآخر بل إذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان ذاك وإذا جاء ذاك ذهب هذا قال تعالى :
{لا الشمس} التي هي آية النهار {ينبغي} أي : يسهل {لها} أي : ما دام هذا الكون موجوداً على هذا الترتيب {أن تدرك القمر} أي : تجتمع معه في الليل فما النهار سابق الليل {ولا الليل سابق النهار} أي : فلا يأتي أحدهما قبل انقضاء الآخر ، فالآية من الاحتباك ؛ لأنه نفى أولاً إدراك الشمس لقوتها القمر ففيه دليل على ما حذف من الثاني من نفي إدراك الشمس للقمر أي : فيغلبها وإن كان يوجد في النهار لكن من غير سلطنة فيه ، بخلاف الشمس فإنها لا تكون في الليل أصلاً ونفى ثانياً سبق الليل النهار وفيه دليل على حذف سبق النهار الليل أولاً كما قدرته. {وكل} أي : من الشمس والقمر {في فلك} محيط به وهو الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة ؛ لأن أهل اللغة على أن فلكة المغزل سميت فلكة لاستدارتها ، وفلكة الخيمة هي : الخشبة المسطحة المستديرة التي توضع على رأس العمود لئلا يمزق العمود الخيمة وهي صفحة مستديرة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 423
فإن قيل : فعلى هذا تكون السماء مستديرة وقد اتفق أكثر المفسرين على أن السماء مبسوطة لها أطراف على جبال وهي كالسقف المستوي ويدل عليه قوله تعالى {والسقف المرفوع} ، (الطور : 5)
أجاب الرازي : بأنه ليس في النصوص ما يدل دلالة قاطعة على كون السماء مبسوطة غير مستديرة بل الدليل الحسي على كونها مستديرة فوجب المصير إليه والسقف المقبب لا يخرج عن كونه سقفاً وكذلك على جبال.
ومن الأدلة الحسية أن السماء لو كانت مستوية لكان ارتفاع أول النهار ووسطه وآخره مستوياً ، وليس كذلك وذكر غير ذلك من الأدلة وفي هذا كفاية ، ولما ذكر لها فعل العقلاء من كونها على نظام محرر لا يختل وسير مقدر لا يعوج ولا ينحل جمعها جمعهم بقوله تعالى : {يسبحون} وقال المنجمون : قوله تعالى {يسبحون} يدل على أنها أحياء ؛ لأن ذلك لا يطلق إلا على العاقل قال الرازي : إن أرادوا القدر الذي يكون منه التسبيح فنقول به ؛ لأن كل شيء يسبح بحمده وإن أرادوا شيئاً آخر فلم يثبت ذلك والاستعمال لا يدل كما في قوله تعالى في حق الأصنام {ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون} (الصافات : 91 ـ 92)
ولما ذكر سبحانه وتعالى ما حد له حدوداً في السباحة في وجه الفلك ذكر ما هيأ به من الفلك
428
للسباحة على وجه الماء بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 423
{وآية لهم} أي : على قدرتنا التامة {أنا} أي : على ما لنا من العظمة {حملنا ذريتهم} أي : آباءهم الأصول ، قال البغوي : واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد والألف واللام في قوله تعالى {في الفلك} للتعريف أي : فلك نوح عليه الصلاة والسلام وهو مذكور في قوله تعالى {واصنع الفلك بأعيننا} (هود : 37)(3/289)
وهو معلوم عند العرب ثم وصف الفلك بقوله تعالى : {المشحون} أي : الموقر المملوء حيواناً وناساً وهو يتقلب في تلك المياه التي لم ير أحد قط مثلها ولا يرى أيضاً ومع ذلك فسلمها الله تعالى ، وأيضاً الآدمي يرسب في الماء ويغرق فحمله في الفلك وقع بقدرته تعالى لكن من الطبيعيين من يقول : الخفيف لا يرسب ؛ لأنه يطلب جهة فوق فقال {الفلك المشحون} أثقل من الثقال التي ترسب ومع هذا حمل الله الإنسان فيه مع ثقله.
وقال أكثر المفسرين : إن الذرية لا تطلق إلا على الولد وعلى هذا فالمراد : إما أن يكون الفلك المعين الذي كان لنوح عليه الصلاة والسلام وإما أن يكون المراد الجنس كقوله تعالى {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون} (الزخرف : 12)
جزء : 3 رقم الصفحة : 429
وقوله تعالى {وترى الفلك فيه مواخر} (فاطر : 12)
وقوله تعالى {فإذا ركبوا في الفلك} (العنكبوت : 65)
إلى غير ذلك من استعمال لام التعريف في الفلك لبيان الجنس ، فإن كان المراد : سفينة نوح عليه السلام ففيه وجوه.
الأول : أن المراد حملنا أولادهم إلى يوم القيامة في ذلك الفلك ولولا ذلك ما بقي للأب نسل ولا عقب وعلى هذا فقوله تعالى {حملنا ذريتهم} إشارة إلى كمال النعمة أي : لم تكن النعمة مقتصرة عليكم بل متعدية إلى أعقابكم إلى يوم القيامة وهذا قول الزمخشري قال ابن عادل : ويحتمل أن يقال : إنه تعالى إنما خص الذرية بالذكر ؛ لأن الموجودين كانوا كفاراً لا فائدة في وجودهم فقال تعالى {حملنا ذريتهم} أي : لم يكن الحمل حملاً لهم وإنما كان حملاً لما في أصلابهم من المؤمنين كمن حمل صندوقاً لا قيمة له وفيه جواهر قيل : إنه لم يحمل الصندوق وإنما حمل ما فيه.
ثانيها : أن المراد بالذرية الجنس أي : حملنا أجناسهم ؛ لأن ذلك الحيوان من جنسه ونوعه والذرية تطلق على الجنس ولذلك تطلق على النساء لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الذراري أي : النساء لأن المرأة ، وإن كانت صنفاً غير صنف الرجل لكنها من جنسه ونوعه يقال : ذرارينا أي : أمثالنا.
ثالثها : أن الضمير في قوله تعالى {وآية لهم الليل} للعباد وكذا {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم} وإذا علم هذا فكأنه تعالى قال : وآية للعبادة أنا حملنا ذرية العباد ولا يلزم أن يكون المراد بالضمير في الموضعين أشخاصاً معينين كقوله تعالى {ولا تقتلوا أنفسكم} (النساء : 29)
{ويذيق بعضكم بأس بعض} و (الأنعام : 65)
لذلك إذا تقاتل قوم ومات الكل في القتال فقال هؤلاء القوم : هم قتلوا أنفسهم فهم في الموضعين يكون عائداً إلى القوم ولا يكون المراد أشخاصاً معينين بل المراد أن بعضهم قتل بعضهم فكذلك قوله تعالى {وآية لهم} أي : آية لكل بعض منهم أنا حملنا ذرية كل بعض منهم أو ذرية بعض منهم وإن قلنا المراد : جنس الفلك قال ابن عادل : وهو الأظهر ؛ لأن
429
سفينة نوح عليه السلام لم تكن بحضرتهم ولم يعلموا من حمل فيها فأما جنس الفلك فإنه ظاهر لكل أحد.
وقوله تعالى في سفينة نوح عليه السلام {وجعلناها آية للعالمين} (العنكبوت : 15)
أي : بوجود جنسها ومثلها ويؤيده قوله تعالى {ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} (لقمان : 31) ، فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى {وآية لهم الأرض الميتة} {وآية لهم الليل} ولم يقل : وآية لهم الفلك ؟
أجيب : بأن حملهم في الفلك هو العجب أما نفس الفلك فليس بعجيب ؛ لأنه كبيت مبني من خشب وأما نفس الأرض فعجيب ونفس الليل فعجيب لا قدرة لأحد عليهما إلا الله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 429
فإن قيل : قال تعالى {وحملناكم في البر والبحر} (الإسراء : 70)
ولم يقل : ذريتكم مع أن المقصود في الموضعين بيان النعمة لا دفع النقمة. أجيب : بأنه تعالى لما قال {في البر والبحر} عم الخلق جميعاً ؛ لأن ما من أحد إلا وحمل في البر والبحر ، وأما الحمل في البحر فلم يعم فقال : إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره من الأولاد والأقارب والإخوان والأصدقاء ، وقرأ نافع وابن عامر بألف بعد الياء التحتية وكسر الفوقانية على الجمع ، والباقون بغير ألف وفتح الفوقانية على الإفراد واختلف في تفسير قوله تعالى :
{وخلقنا لهم من مثله} أي : من مثل الفلك {ما يركبون} فقال ابن عباس : يعني الإبل فالإبل في البر كالسفن في البحر وقيل : أراد به السفن التي عملت بعد سفينة نوح عليه السلام على هيأتها ، وقال قتادة والضحاك وغيرهما : أراد به السفن الصغار التي تجري في الأنهار كالفلك الكبار في البحار.
{وإن نشأ} أي : لأجل ما لنا من القوة الشاملة والدرة التامة {نغرقهم} أي : مع أن هذا الماء الذي يركبونه ليس كالماء الذي حملنا آباءهم {فلا صريخ لهم} أي : مغيث لهم لينجيهم مما نريد بهم من الغرق أو فلا إغاثة كقولهم : أتاهم الصريخ {ولا هم} أي : بأنفسهم من غير صريخ {ينقذون} أي : يكون لهم إنقاذ أي : خلاص لأنفسهم أو غيرها.(3/290)
{إلا رحمة} أي : فنحن ننقذهم إن شئنا رحمة {منا} أي : لهم لا وجوباً علينا ولا لمنفعة تعود منهم إلينا {ومتاعاً} أي : وتمتيعنا إياهم بلذاتهم {إلى حين} أي : إلى انقضاء آجالهم.
{وإذا قيل لهم} أي : من أي : قائل كان {اتقوا ما بين أيديكم} أي : من عذاب الدنيا كغيركم {وما خلفكم} من عذاب الآخرة {لعلكم ترحمون} تعاملون معاملة المرحوم بالإكرام ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما ما بين أيديكم يعني : الآخرة فاعملوا لها وما خلفكم يعني : الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها ، وقال قتادة ومقاتل : ما بين أيديكم وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأمم وما خلفكم عذاب الآخرة.
تنبيهان : أحدهما : {إلا رحمة} منصوب على المفعول له وهذا مستثنى مفرغ وقيل : مستثنى منقطع وقيل : على المصدر بفعل مقدر وقيل : على إسقاط الخافض أي : إلا برحمة والفاء في قوله تعالى {فلا صريخ لهم} رابطة لهذه الجملة بما قبلها ، فالضمير في لهم عائد على المغرقين.
ثانيهما : جواب إذا محذوف تقديره أعرضوا يدل عليه قوله تعالى بعده {إلا كانوا عنها معرضين} وعلى هذا فلفظ كانوا زائد.
{وما تأتيهم من آية من آيات ربهم} أي : المحسن إليهم {إلا كانوا} أي : مع كونها من عند
430
من غمرهم إحسانه وعمهم فضله وامتنانه {عنها معرضين} أي : دائماً إعراضهم.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 429
وإذا قيل لهم} أي : من أي : قائل كان {أنفقوا} أي : على من لا شيء له شكراً لله على ما أعطاكم قال صلى الله عليه وسلم "هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم" "إنما يرحم الله تعالى من عباده الرحماء".
وبين تعالى أنهم يبخلون بما لا صنع لهم فيه بقوله تعالى : {مما رزقكم الله} أي : مما أعطاكم الله الذي له جميع صفات الكمال {قال الذين كفروا} أي : ستروا وغطوا ما دلهم عليه أنوار عقولهم من الخيرات {للذين آمنوا} أي : استهزاء بهم {أنطعم من لو يشاء الله} أي : الذي له جميع العظمة كما زعمتم في كل وقت يريده {أطعمه} وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة : أنفقوا على المساكين مما زعمتم من أموالكم أنه لله سبحانه وتعالى ، وهو ما جعلوه لله من حروثهم وأموالهم قالوا {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} لكنا ننظره لا يشاء ذلك ، فإنه لم يطعمهم مما ترى من فقرهم فنحن أيضاً لا نشاء ذلك موافقة لمراد الله تعالى فيه فتركوا لتأدب مع الأمر وأظهروا التأدب مع بعض إرادة الله المنهي عن الجري معها والاستسلام لها ، وهذا مما يتمسك به البخلاء يقولون : لا نعطي من حرمه الله تعالى وهذا الذي يزعمونه باطل ؛ لأن الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ابتلاء فمنع الدنيا عن الفقير لا بخلاً وأمر الغني بالإنفاق لا حاجة إلى ماله ولكن ليبلوا الغني بالفقير فيما فرض له في مال الغني ، فلا اعتراض لأحد في مشيئة الله وحكمه في خلقه وما كفاهم حتى قالوا لمن أرشدهم إلى الخير {إن} أي : ما {أنتم إلا في ضلال} أي : محيط بكم {مبين} أي : في غاية الظهور وما دروا أن الضلال إنما هو لهم.
فإن قيل : قولهم {من لو يشاء الله أطعمه} كلام حق فلماذا ذكر في معرض الذم ؟
أجيب : بأن مرادهم كان الإنكار لقدرة الله تعالى أو لعدم جواز الأمر بالإنفاق مع قدرة الله تعالى وكلاهما فاسد فبين ذلك تعالى بقوله سبحانه {مما رزقكم الله} فإنه يدل على قدرته ويصحح أمره بالإعطاء ؛ لأن من كان له مع الغير مال وله في خزانته مال مخير إن أراد أعطى مما في خزانته وإن أراد أمر من عنده المال بالإعطاء ولا يجوز أن يقول من في يده مال في خزانتك أكثر مما في يدي أعطه منه.
فإن قيل : ما الحكمة في تغيير اللفظ في جوابهم حيث لم يقولوا : أننفق على من لو يشاء الله رزقه ؛ لأنهم أمروا بالإنفاق فكان جوابهم أن يقولوا : أننفق فلم قالوا : أنطعم ؟
أجيب : بأن هذا بيان غاية مخالفتهم ؛ لأنهم إنما أمروا بالإنفاق والإنفاق يدخل فيه الإطعام وغيره فلم يأتوا بالإنفاق ولا بأقل منه وهو الإطعام وهذا كقول القائل لغيره : أعط زيداً ديناراً فيقول : لا أعطيه درهماً مع أن المطابق هو أن يقول : لا أعطيه ديناراً ولكن المبالغة في هذا الوجه أتم فكذلك هنا.
جزء : 3 رقم الصفحة : 429
تنبيه : إنما وصفوا المؤمنين بأنهم في ضلال مبين لظنّهم أن كلام المؤمنين متناقض ومن تناقض كلامه يكون في غاية الضلال ، قال الرازي : ووجه ذلك أنهم قالوا {أنطعم من لو يشاء الله
431(3/291)
أطعمه} وهذا إشارة إلى أن الله تعالى إن شاء أن يطعمهم فهو يطعمهم فكان الأمر بإطعامهم أمراً بتحصيل الحاصل ، وإن لم يشأ إطعامهم لا يقدر أحد على إطعامهم لامتناع وقوع ما لم يشأ الله فلا قدرة لنا على الإطعام ، فكيف تأمروننا به ؟
ووجه آخر : وهو أنهم قالوا : إن أراد الله تجويعهم فلو أطعمناهم يكون ذلك سعياً في إبطال فعل الله تعالى وأنه لا يجوز وأنتم تقولون أطعموهم فهو ضلال ، واعلم أنه لم يكن في الضلال إلا هم حيث نظروا إلى المراد ولم ينظروا إلى الطلب والأمر ، وذلك لأن العبد إذا أمره السيد بأمر لا ينبغي الإطلاع على المقصود الذي لأجله أمر به ، مثاله : إذا أراد الملك الركوب للهجوم على عدوه بحيث لا يطلع عليه أحد وقال للعبد : أحضر المركوب فلو تطلع واستكشف المقصود الذي لأجله الركوب لتسبب إلى أن يريد أن يطلع عدوه على الحذر منه وكشف سره فالأدب في الطاعة : هو امتثال الأمر لا تتبع المراد ، فالله سبحانه إذا قال {أنفقوا مما رزقكم الله} لا يجوز أن يقال لم لم يطعمهم الله مما في خزائنه ؟
وقد تقدم ماله بهذا تعلق.
{ويقولون} أي : عادة مستمرة مضمومة إلى ما تقدم {متى هذا} وزادوا في الاستهزاء بتسميته وعداً فقالوا {الوعد} أي : البعث الذي تهددوننا به تارة تلويحاً وتارة تصريحاً عجلوه لنا {إن كنتم صادقين} فيه قال الله تعالى :
{ما ينظرون} أي : ينتظرون {إلا صيحة} وبين حقارة شأنهم وتمام قدرته بقوله عز وجل {واحدة} وهي نفخة إسرافيل عليه السلام الأولى المميتة {تأخذهم} وقوله تعالى {وهم يخصمون} قرأه حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من خصم يخصم والمعنى : يخصم بعضهم بعضاً فالمفعول محذوف ، وأبو عمرو وقالون بإخفاء فتحة الخاء وتشديد الصاد ، ونافع وابن كثير وهشام كذلك إلا أنهم باختلاس فتحة الخاء ، والباقون بكسر الخاء وتشديد الصاد ، والأصل في القراءات الثلاث يختصمون فأدغمت التاء في الصاد فنافع وابن كثير وهشام نقلوا فتحها إلى الساكن قبلها نقلاً كاملاً ، وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتها تنبيهاً على أن الخاء أصلها السكون ، والباقون حذفوا حركتها فالتقى ساكنان لذلك فكسروا أولهما فهذه أربع قراءات.
ولما كانت هذه هي النفخة المميتة تسبب عنها قوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 429
فلا يستطيعون توصية} أي : يوجدون الوصية في شيء من الأشياء {ولا إلى أهلهم} أي : فضلاً عن غيرهم {يرجعون} أي : فيروا حالهم بل يموت كل واحد في مكانه حيث تفجؤه الصيحة وربما أفهم التعبير بإلى أنهم يريدون الرجوع فيخطون خطوة أو نحوها ، وفي الحديث : "لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يطعمها". ولما دل ذلك على الموت قطعاً عقبه بالبعث بقوله تعالى :
{ونفخ في الصور} أي : القرن النفخة الثانية للبعث وبين النفختين أربعون سنة. ولما كان هذا النفخ سبباً لقيامهم عنده من غير تخلف عبر تعالى بما يدل على التعقب والتسبب والفجأة بقوله تعالى : {فإذا هم} أي : حين النفخ {من الأجداث} أي : القبور واحدها جدث المهيأة هي ومن فيها لسماع ذلك النفخ ، فإن قيل : كيف يكون ذلك الوقت أجداث وقد زلزلت الصيحة الجبال ؟
أجيب : بأن الله تعالى يجمع أجزاء كل ميت في الذي قبر فيه فيخرج من ذلك الموضع وهو جدثه {إلى ربهم} أي :
432
إلى الموقف الذي أعده لهم من أحسن إليهم بالتربية {ينسلون} أي : يسرعون المشي مع تقارب الخطا بقوة ونشاط فيا لها من قدرة شاملة وحكمة كاملة حيث كان صوت واحد يحيي تارة ويميت أخرى.
فإن قيل : المسيئ إذا توجه إلى من أحسن إليه يقدم رجلاً ويؤخر أخرى والنسلان سرعة المشي فكيف يوجد منهم ؟
أجيب : بأنهم ينسلون من غير اختيارهم ، فإن قيل : قال في آية أخرى {فإذا هم قيام ينظرون} (الزمر : 68)
وقال ههنا {فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} والقيام غير النسلان وقوله تعالى في الموضعين {إذا هم} يقتضي أن يكونا معاً ؟
أجيب : بأن القيام لا ينافي المشي السريع ؛ لأن الماشي قائم ولا ينافي النظر وبأن ذلك لسرعة الأمور كان الكل في زمان واحد كقول القائل :
* ** مكر مفر مقبل مدبر معاً*
واعلم أن النفختين يورثان تزلزلاً وانقلاباً للأجرام فعند اجتماع الأجرام يفرقها وهو المراد بالنفخة الأولى وعند تفرق الأجرام يجمعها وهو المراد النفخة الثانية.
ولما تشوقت النفوس إلى ما يقولون إذا عاينوا ما كانوا ينكرون استأنف قوله تعالى :
{قالوا} أي : الذين هم من أهل الويل {يا} للتنبيه {ويلنا} أي : هلاكنا وهو مصدر لا فعل له من لفظه {من بعثنا من مرقدنا} قال أبي بن كعب وابن عباس وقتادة : إنما يقولون هذا ؛ لأن الله تعالى يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بعد النفخة الأخيرة وعاينوا القيامة دعوا بالويل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 429(3/292)
وقال أهل المعاني : إن الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها دعوا بالويل وصار عذاب القبر في جنبها كالنوم فعدوا مكانهم الذي كانوا فيه مع ما كانوا فيه من عذاب البرزخ مرقداً هيناً بالنسبة إلى ما انكشف لهم من العذاب الأكبر فقالوا : من بعثنا من مرقدنا ، فإن قيل : ما وجه تعلق من بعثنا من مرقدنا بقولهم يا ويلنا ؟
أجيب : بأنهم لما بعثوا تذكروا ما كانوا يسمعون من الرسل عليهم الصلاة والسلام فقالوا : يا ويلنا أبعثنا الله البعث الموعود به أم كنا نياماً فنبهنا ؟
كما إذا كان الإنسان موعوداً بأن يأتيه عدو لا يطيقه ، ثم يرى رجلاً هائلاً يقبل عليه فيرتجف في نفسه ويقول : أهذا ذاك أم لا ؟
ويدل على هذا قولهم {من مرقدنا} حيث جعلوا القبور موضع الرقاد إشارة إلى أنهم شكوا في أنهم كانوا نياماً فتنبهوا أو كانوا موتى فبعثوا ، وكان الغالب على ظنهم هو البعث فجمعوا بين الأمرين وقالوا من مرقدنا إشارة إلى متوهمهم احتمال الانتباه.
وقولهم {هذا} إشارة إلى البعث {ما} أي : الذي {وعد} أي : به {الرحمن} أي : العام الرحمة الذي رحمته مقتضية ولا بد للبعث لينصف المظلوم من ظالمه ويجازي كلاً بعمله من غير حيف وقد رحمنا بإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام إلينا بذلك وطالما أنذرونا حلوله وحذرونا
433
صعوبته وطوله {وصدق} أي : في أمره {المرسلون} أي : الذين أتونا بوعد الله تعالى ووعيده.
تنبيه : في إعراب هذا وجهان : أظهرهما : أنه مبتدأ وما بعده خبره ويكون الوقف تاماً على قوله تعالى {من مرقدنا} وهذه الجملة حينئذ فيها وجهان : أحدهما : أنها مستأنفة إما من قول الله تعالى أو من قول الملائكة أو من قول المؤمنين ، الثاني : أنها من كلام الكفار فتكون في محل نصب بالقول الثاني من الوجهين الأولين هذا صفة لمرقدنا وما وعد منقطع عما قبله ، ثم في (ما) وجهان أحدهما : أنها في محل رفع بالابتداء والخبر مقدر أي : الذي وعده الرحمن وصدق المرسلون فيه حق عليكم وإليه ذهب الزجَّاج والزمخشري ، والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر أي : في هذا الذي وعد الرحمن.
{إن} أي : ما {كانت} أي : النفخة التي وقع الإحياء بها {إلا صيحة واحدة} أي : كما كانت صيحة الإماتة واحدة {فإذا هم} أي : فجأة من غير توقف أصلاً {جميع} أي : على حالة الاجتماع لم يتأخر منهم أحد {لدينا} أي : عندنا {محضرون} ثم بين تعالى ما يكون في ذلك اليوم بقوله تعالى :
{فاليوم لا تظلم نفس} أي : أي نفس كانت مكروهة أو محبوبة {شيئاً} أي : لا يقع لها ظلم ما من أحد ما في شيء ما {ولا تجزون} أي : على عمل من الأعمال شيئاً من الجزاء من أحد {إلا ما كنتم تعملون} ديدناً لكم بما ركز في جبلاتكم ثم بين تعالى حال المحسن بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 429
{إن أصحاب الجنة} أي : الذين لا حظ للنار فيهم {اليوم} أي : يوم البعث وهذا يدل على أنه يعجل دخولهم ودخول بعضهم إليها ووقوف الباقين للشفاعات ونحوها من الكرامات عند دخول أهل النار النار ، وعبر بما يدل على أنهم بكلياتهم مقبلون عليه ومطرقون له مع توجههم إليه بقوله {في شغل} أي : عظيم جداً لا تبلغ وصفه العقول كما كانوا في الدنيا في أشغل الشغل بالمجاهدات في الطاعات.
وقرأ ابن عامر والكوفيون بضم العين ، والباقون بالإسكان ثم بين ذلك الشغل بقوله {فاكهون} أي : متلذذون في النعمة ، واختلف في هذا الشغل فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : في افتضاض الإبكار ، وقال وكيع بن الجراح رضي الله عنهما : في السماع ، وقال الكلبي : في شغل عن أهل النار وما هم فيه لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم ، وقال ابن كيسان : في زيارة
434
بعضهم بعضاً ، وقيل : في ضيافة الله تعالى فاكهون ، وقيل : في شغل عن هول اليوم يأخذون ما آتاهم الله تعالى من الثواب فما عندهم خبر من عذاب ولا حساب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 434
وقوله تعالى {فاكهون} متمم لبيان سلامتهم فإنه لو قال : في شغل جاز أن يقال : هم في شغل أعظم من التفكر في اليوم وأهواله فإن من تصيبه فتنة عظيمة ثم يعرض عليه أمر من أموره أو يخبر بخسران وقع في ماله يقول : أنا مشغول عن هذا بأهم منه فقال : فاكهون أي : شغلوا عنه باللذة والسرور لا بالويل والثبور ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : فاكهون : فرحون.
ولما كانت النفس لا يتم سرورها إلا بالقرين الملائم قال تعالى :
{هم} أي : بظواهرهم وبواطنهم {وأزواجهم} أي : أشكالهم الذين لهم في غاية الملاءمة كما كانوا يتركونهم في المضاجع على ألذ ما يكون ويصفون أقدامهم في خدمتنا وهم يبكون من خشيتنا ، وفي هذا إشارة إلى عدم الوحشة {في ظلال} أي : يجدون فيها برد الأكباد وغاية المراد فلا تصيبهم الشمس كما كانوا يشوون أكبادهم في دار العمل بحر الصيام والصبر في مرضاتنا على الآلام ويعرون أيديهم وقلوبهم من الأموال ببذل الصدقات في سبيلنا على ممر الليالي وكر الأيام.(3/293)
تنبيه : ظلال جمع ظل كشعاب أو ظله كقباب ويؤيده قراءة حمزة والكسائي بضم الظاء ولا ألف بين اللامين وهم مبتدأ وخبره في ظلال كما قاله أبو البقاء.
ولما كان التمتع لا يكمل إلا مع العلو الممكن من زيادة العلم الموجب لارتياح النفس وبهجة العين بانفساح البصر عند مد النظر قال تعالى {على الأرائك} أي : السرر المزينة العالية التي هي داخل الحجال قال ثعلب لا تكون أريكة حتى تكون عليها حجلة وقال ابن جرير الأرائك الحجال فيها السرر وروى أبو عبيدة في (الفضائل) عن الحسن قال : كنا لا ندري ما الأرائك حتى لقينا رجل من أهل اليمن ، فأخبرنا أن الأريكة عندهم الحجلة فيها السرير وهذا جزاء لما كانوا يلزمون المساجد ويغضون أبصارهم ويضعون نفوسهم لأجلنا {متكئون} كما كانوا يدأبون في الأعمال قائمين بين أيدينا في أغلب الأحوال ، والاتكاء الميل على شق مع الاعتماد على ما يريح الاعتماد عليه أو الجلوس مع التمكن على هيئة المتربع وفي هذا إشارة إلى الفراغ وقوله تعالى :
{لهم} أي : خاصة بهم {فيها فاكهة} أي : لا تنقطع أبداً ولا مانع لهم من تناولها ولا يتوقف ذلك على غير الإرادة إشارة إلى أن لا جوع هناك ؛ لأن التفكه لا يكون لدفع الجوع {ولهم ما يدعون} أي : يتمنون.
تنبيه : في ما هذه ثلاثة أوجه : موصولة اسمية نكرة موصوفه ، والعائد على هذين محذوف مصدرية ، ويدعون مضارع ادعى افتعل من دعا يدعو أشرب معنى التمني ، وقال الزجاج : هو من الدعاء أي : ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم من دعوت غلامي فيكون الافتعال بمعنى : الفعل كالاحتمال بمعنى : الحمل والارتحال بمعنى : الرحل ، وقيل : افتعل بمعنى : تفاعل أي : ما يتداعونه كقولهم : ارتموا وتراموا بمعنى واحد ، ثم فسر الذي يدعونه أي : يطلبونه بغاية الاشتياق إليه واستأنف الإخبار عنه بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 434
سلام} أي : عظيم جداً عليكم يا أهل الجنة والسلام يجمع جميع النعم ثم بين هذا السلام بما أظهر من عظمه بقوله {قولاً من رب} أي : دائم الإحسان {رحيم} أي : عظيم الإكرام بما ترضاه الإلهية كما كانوا في الدنيا يفعلون كل ما فيه الرضا فيرحمهم في حال السلام وسماع الكلام بلذّة
435
الرؤية مع التقوية على الدهش والضعف لعظيم الأمر وبالتأهيل لهذا المقام الأكرم مع قصورهم عنه.
روى جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم" ، وقيل : تسلم عليهم الملائكة من ربهم لقوله تعالى {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم} (الرعد : 23 ـ 24)
أي : يقولون : سلام عليكم يا أهل الجنة من ربكم الرحيم وقيل : يعطيهم السلامة الأبدية.
ولما ذكر ما للمؤمنين من النعيم ذكر ما للكافرين من الجحيم بقوله تعالى :
{وامتازوا} أي : ويقال للمجرمين امتازوا أي : انفردوا {اليوم أيها المجرمون} عن المؤمنين عند اختلاطهم بهم قال الضحاك : لكل كافر في النار بيت يدخل ذلك البيت فيردم بابه بالنار فيكون فيه أبد الآبدين لا يرى ولا يرى ، وقيل : إن قوله تعالى {وامتازوا} أمر تكوين فحين يقول {امتازوا اليوم} فيميزون بسيماهم ويظهر على جباههم وفي وجوههم سواد كما قال تعالى {يعرف المجرمون بسيماهم} (الرحمن : 41)
ولما أمروا بالامتياز وشخصت منهم الأبصار وكلحت الوجوه وتنكست الرؤوس قال تعالى موبخاً لهم :
{ألم أعهد إليكم} أي : أوصيكم إيصاء عظيماً بما نصبت من الأدلة ومنحت من العقول وبعثت من الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنزلت من الكتب في بيان الطريق الموصل إلى النجاة.
ولما كان المقصود بهذا الخطاب تقريعهم وتبكيتهم وكانت هذه السورة قلباً وكان القلب أشرف الأعضاء وكان الإنسان أشرف الموجودات خصه بالخطاب بقوله تعالى : {يا بني آدم} أي : على لسان رسلي عليهم الصلاة والسلام ، واختلف في معنى : هذا العهد على وجوه أقواها : ألم أوص إليكم كما مر ، وقيل : آمركم ، وقيل : غير ذلك ، واختلفوا في هذا العهد أيضاً على أوجه :
أظهرها : أنه مع كل قوم على لسان رسلهم كما مر ، وقيل : هو العهد الذي كان مع آدم في قوله تعالى {ولقد عهدنا إلى آدم} (طه : 115)
جزء : 3 رقم الصفحة : 434
وقيل : هو الذي كان مع ذريته عليه السلام حين أخرجهم وقال {ألست بربكم قالوا بلى} (الأعراف : 172)
{أن لا تعبدوا الشيطان} أي : البعيد المحترق بطاعتكم فيما يوسوس به إليكم والطاعة قد تطلق على العبادة.(3/294)
ثم علل النهي عن عبادته بقوله تعالى : {إنه لكم} والتأكيد ؛ لأن أفعالهم أفعال من يعتقد صداقته {عدو مبين} أي : ظاهر العداوة جداً من جهة عداوته لأبيكم التي أخرجتكم من الجنة التي لا منزل أشرف منها ومن جهة أمركم بما ينغص الدنيا من التخالف والخصام ، ومن جهة تزيينه للفاني الذي لا يرغب فيه عاقل لو لم يكن فيه عيب غير فنائه فكيف إذا كان أكثره أكداراً وأدناساً ؟
فكيف إذا كان شاغلاً عن الباقي ؟
فكيف إذا كان عائقاً عن المولى ؟
فكيف إذا كان مغضباً له حاجباً
436
عنه ؟
فإن قيل : إذا كان الشيطان عدواً للإنسان فما بال الإنسان يقبل على ما يرضيه من الزنا ، والشرب ، ونحو ذلك ، ويكره ما يسخطه من المجاهدة ، والعبادة ونحو ذلك ؟
أجيب : بأنه يستعين عليه بأعوان من عند الإنسان وترك استعانة الإنسان بالله تعالى ، فيستعين بشهوته التي خلقها الله تعالى فيه لمصالح بقائه وبقاء نوعه ويجعلها سبباً لفساد حاله ، ويدعوه بها إلى مسالك المهالك ، وكذا يستعين بغضبه الذي خلقه الله تعالى فيه لدفع المفاسد ويجعله سبباً لوباله وفساد أحواله ، وميل الإنسان إلى المعاصي كميل المريض إلى المضار ، وذلك حيث ينحرف المزاج عن الاعتدال فترى المحموم يريد الماء البارد وهو يزيد في مرضه ومن معدته فاسدة لا تهضم القليل من الغداء يميل إلى الأكل الكثير ولا يشبع بشيء وهو يزيد فساد معدته وصحيح المزاج لا يشتهي إلا ما ينفعه.
ولما منع من عبادة الشيطان أمر بعبادة الرحمن بقوله عاطفاً على أن لا :
{وأن اعبدوني} أي : وحدوني وأطيعوني {هذا} أي : الأمر بعبادتي {صراط} أي : طريق {مستقيم} أي : بليغ الاستقامة وعبادة الشيطان طريق ضيق معوج غاية الضيق والعوج ، وقرأ قنبل بالسين وخلف بالإشمام أي : بين الصاد والزاي والباقون بالصاد.
ثم ذكر ما ينبه لعداوة الشيطان بقوله تعالى :
{ولقد أضل منكم} أي : عن الطريق الواضح السوي بما سلطه به من الوسوسة {جبلاً} أي : أممااًكباراً عظاماً ما كانوا كالجبال في قوة العزائم وصعوبة الانقياد ، ومع ذلك كان يلعب بهم كما تلعب الصبيان بالكرة ، فسبحان من أقدره على ذلك وإلا فهو أضعف كيداً وأحقر أمراً ، وقرأ نافع وعاصم بكسر الجيم و الباء الموحدة وتشديد اللام مع التنوين ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر بضم الجيم وسكون الموحدة ، والباقون بضم الجيم والموحدة وكلها لغات ومعناها : الخلق والجماعة أي : خلقاً {كثيراً} ثم زاد في التوبيخ والإنكار بقوله تعالى : {أفلم تكونوا تعقلون} أي : عداوته وإضلاله ، وما حل بهم من العذاب فتؤمنوا ويقال لهم في الآخرة :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 434
هذه جهنم} أي : التي تستقبلكم بالعبوسة ، والتجهم كما كنتم تفعلون بعبادي الصالحين {التي كنتم توعدون} أي : إن لم ترجعوا عن غيّكم.
{اصلوها} أي : قاسوا حرها وتوقدها وهول أمر ذلك اليوم فإن ذكره على حد ما مضى بقوله تعالى : {اليوم} ليكونوا في شغل شاغل كما كان أصحاب الجنة وشتان ما بين الشغلين {بما} أي : بسبب ما {كنتم تكفرون} أي : تسترون ما هو ظاهر جداً بعقولكم من آياتي في دار الدنيا.
تنبيه : في هذا الكلام ما يوجب شدة ندامتهم وحزنهم من ثلاثة أوجه أحدها : قوله تعالى {اصلوها} أمر تنكيل وإهانة كقوله تعالى {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان : 49)
ثانيها : قوله تعالى {اليوم} يعني : العذاب حاضر ولذاتهم قد مضت وبقي اليوم العذاب. ثالثها : قوله تعالى {بما كنتم تفكرون} فإن الكفر والكفران ينبئ عن نعمة كانت فكفر بها وحياء الكفور من المنعم من أشد الآلام كما قيل :
*أليس بكاف لذي همة ** حياء المسيئ من المحسن*
ولما كان كأنه قيل هل يحكم في ذلك اليوم بعلمه ، أو يجري الأمر على قاعدة الدنيا في
437
العمل بالبينة ؟
نبه على أظهر من قواعد الدنيا بقوله تعالى مهولاً :
{اليوم} على النسق الماضي في مظهر العظمة ؛ لأنه أليق بالتهويل {نختم} أي : بما لنا من عظيم القدرة {على أفواههم} أي : الكفار لاجترائهم على الكذب كقوله سبحانه {والله ربنا ما كنا مشركين} (الأنعام : 23)
{وتكلمنا أيديهم} أي : بما عملوا إقراراً هو أعظم شهادة {وتشهد أرجلهم} أي : عليهم بكلام بين هو مع كونه شهادة إقرار {بما كانوا} أي : في الدنيا بجبلاتهم {يكسبون} فكل عضو ينطق بما صدر عنه ، فالآية من الاحتباك أثبت الكلام للأيدي أولاً : لأنها كانت مباشرة دليلاً على حذفه من حيز الأرجل ثانياً : وأثبت الشهادة للأرجل ثانياً ؛ لأنها كانت حاضرة دليلاً على حذفها من حيز الأيدي أولاً.
وتقريبه : أن قول المباشر إقرار وقول الحاضر شهادة ، وفي كيفية هذا الختم وجهان أقواهما أن الله تعالى يسكت ألسنتهم ، وينطلق جوارحهم فتشهد عليهم ، وإن ذلك في قدرة الله تعالى يسير ، أما الإسكات فلا خفاء فيه ، وأما الإنطاق فإن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة فجاز تحريك غيره بمثلها والله سبحانه قادر على كل الممكنات.(3/295)
والوجه الآخر : أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم ، وانتهاك أستارهم فيقفون ناكسي الرؤوس لا يجدون عذراً فيعتذرون ، ولا مجال توبة فيستغفرون وتكلم الأيدي هو ظهور الأمر بحيث لا يسمع منه الإنكار كقول القائل : الحيطان تبكي على صاحب الدار إشارة إلى ظهور الحزن.
جزء : 3 رقم الصفحة : 434
والصحيح الأول لما روى أبو هريرة : "أن ناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟
فقال : هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب قالوا : لا يا رسول الله قال : فهل تضارون في رؤية الشمس عند الظهيرة ليست في سحاب قالوا : لا يا رسول الله قال : والذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم كما لا تضارون في رؤيتهما قال : فيلقى العبد فيقول : ألم أكرمك ألم أسودك ألم أزوجك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأتركك تتزايد وتترافع قال : بلى يا رب قال : فظننت أنك ملاقي فيقول : لا يا رب فيقول اليوم أنساك كما نسيتني إلى أن قال : ثم يلقى الثالث فيقول : ما أنت فيقول : أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك وصمت وصليت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع ثم قال : فيقال له : أفلا نبعث عليك شاهدنا قال : فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه فيختم على فيه ، فيقال لفخذه : انطقي قال : فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل ، قال : وذلك المنافق وذلك ليعذر من نفسه وذلك الذي سخط الله عليه".
ولما روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال : "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال : هل تدرون مم أضحك قال : قلنا : الله ورسوله أعلم قال : من مخاطبة العبد ربه قال : يقول العبد : يا رب ألم تجرني من الظلم فيقول : بلى فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني فيقول تعالى {كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً} (الإسراء : 14)
وبالكرام الكاتبين شهوداً فيختم على فيه ويقول لأركانه : انطقي ، فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول : بُعداً لَكُنَّ أو سحقاً فعنكن كنت أناضل" وقال صلى الله عليه وسلم "أول ما يسأل من أحدكم فخذه وكفه".
438
تنبيه : ههنا سؤالات : الأول : ما الحكمة في إسناده الختم إلى نفسه وقال {نختم} وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدي والأرجل ، الثاني : ما الحكمة في جعل الكلام للأيدي والشهادة للأرجل ، الثالث : أن يوم القيامة من تقبل شهادته من المقربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو على العدو غير مقبولة وإن كان عدلاً ، وغير الصديقين من الكفار والفساق لا تقبل شهادتهم ، والأيدي والأرجل صدرت الذنوب عنها فهي فسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتهم ؟
أجيب : عن الأول : بأنه لو قال : نختم على أفواههم وننطِق أيديهم لاحتمل أن يكون ذلك جبراً وقهراً والإقرار بالإجبار غير مقبول فقال {وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم} أي : بالاختيار بعدما يقدرها الله تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 434
وأجيب عن الثاني : بأن الأفعال تسند إلى الأيدي قال تعالى {وما عملته أيديهم} أي : ما عملوه وقال تعالى {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (البقرة : 195)
أي : ولا تلقوا أنفسكم فإذن الأيدي كالعاملة والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره فجعل الأرجل والجلود من الشهود لبعد إضافة الأفعال إليهن.
وأجيب عن الثالث : بأن الأيدي والأرجل ليسوا من أهل التكلف ولا ينسب إليها عدالة ولا فسق إنما المنسوب من ذلك إلى العبد المكلف لا إلى أعضائه ، ولا يقال : ورد أن العين تزني وأن الفرج يزني وأن اليد كذلك ؛ لأن معناه أن المكلف يزني بها لا أنها هي تزني ، وأيضاً فإنا نقول : في رد شهادتها قبول شهادتها ؛ لأنها إن كذبت في مثل ذلك اليوم مع ظهور الأمور لابد أن يكون مذنباً في الدنيا وإن صدقت في ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في الدنيا ، وهذا كمن قال لفاسق : إن كذبت في نهار هذا اليوم فعبدي حر فقال الفاسق : كذبت في نهار هذا اليوم عتق العبد ؛ لأنه إن صدق في قوله : كذبت في نهار هذا اليوم فقد وجد الشرط ووقع الجزاء ، وإن كذب في قوله كذبت فقد كذب في نهار ذلك اليوم فقد وجد الشرط أيضاً بخلاف ما لو قال في اليوم الثاني : كذبت في نهار ذلك اليوم الذي علقت عتق عبدك على كذبي فيه ، ثم بين سبحانه وتعالى أنه قادر على إذهاب الأبصار كما هو قادر على إذهاب البصائر بقوله تعالى :
{ولو نشاء} وعبر بالمضارع ليتوقع في كل حين فيكون أبلغ في التهديد {لطمسنا على أعينهم} أي : الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق وهو معنى الطمس كقوله تعالى {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} (البقرة : 20)(3/296)
يقول : إنا أعمينا قلوبهم ولو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة وقوله تعالى {فاستبقوا الصراط} أي : ابتدروا الطريق ذاهبين كعادتهم عطف على لطمسنا {فأنى} أي : فكيف {يبصرون} الطريق حينئذ وقد أعمينا أعينهم أي : لو نشاء لأضللناهم عن الهدى وتركناهم عمياً يترددون فلا يبصرون الطريق وهذا قول الحسن والسدي ، وقال ابن عباس ومقاتل : معناه لو نشاء لطمسنا أعين ضلالتهم فأعميناهم عن غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم فأنى يبصرون ولم أفعل ذلك بهم.
ولما كان هذا كله مع القدرة على الحركة قال تعالى :
{ولو نشاء} أي : مسخهم {لمسخناهم} أي : حولناهم عن تلك الحالة فجعلناهم حجارة أو جعلناهم قردة وخنازير.
ولما كان المقصود من المفاجأة بهذه المصائب بيان أنه سبحانه لا كلفة عليه في شيء من ذلك قال تعالى {على مكانتهم} أي : المكان الذي كان قبل المسخ كل شخص منهم شاغلاً له
439
بجلوس أو قيام أو غيره في ذلك الموضع خاصة قبل أن يتحرك منه ، وقرأ شعبة بألف بعد النون على الجمع ، والباقون بغير ألف على الإفراد {فما استطاعوا} أي : بأنفسهم بنوع معالجة {مضيا} أي : إلى جهة من الجهات ثم عطف على جملة الشرط قوله تعالى {ولا يرجعون} أي : يتجدد لهم بوجه من الوجوه رجوع إلى حالتهم التي كانت قبل المسخ دلالة على أن هذه الأمور حق لا كما يقولون من أنها خيال وسحر قيل : لا يقدرون على ذهاب ولا رجوع.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 434
ومن نعمره} أي : نطل عمره إطالة كثيرة {ننكسه} قرأه عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح النون الثانية وتشديد الكاف مكسورة من نكسه مبالغة ، والباقون بفتح النون الأولى وسكون الثانية وتخفيف الكاف مضمومة من نكسه وهي محتملة للمبالغة وعدمها ومعنى ننكسه : {في الخلق} أي : خلقه نرده إلى أرذل العمر يشبه الصبي في الخلق ، وقيل : ننكسه في الخلق أي : ضعف جوارحه بعد قوتها ونقصانها بعد زيادتها ؛ لأن الله تعالى أجرى العادة في النوع الآدمي أن من استوفى سن الصبا والشباب اثنتين وأربعين سنة حسمت غرائزه فلا تزيد فيه غريزة ووقفت قواه كلها فلم يزد فيها شيء هذا في البدن ، وأما في المعارف فتارة وتارة وهذا أيضاً في غير الأنبياء عليهم السلام ، أما هم فلا ينقص شيء من قواهم بل تزداد كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي غير مكترث وأن الصحابة رضي الله عنهم يجهدون أنفسهم فيكون جهدهم أن لا يدركوا مشيته الهوينا و"أنه صلى الله عليه وسلم صارع ركانة" الذي كان يضرب بقوته المثل ، وكان واثقاً من نفسه أنه يصرع من صارعه فلم يملكه النبي صلى الله عليه وسلم نفسه وعاد إلى ذلك ثلاث مرات كل ذلك لا يتمسك في يده حتى خرج يقول : إن هذا لعجب يا محمد تصرعني" ، وحتى : "أنه دار على نسائه وهن تسع كل واحدة منهن تسع مرات في طلق واحد" إلى غير ذلك مما يحكى من قواه التي فاق بها الناس.
ولم يحك عن نبي من الأنبياء عليهم السلام ممن عاش منهم ألفاً وممن عاش دون ذلك أنه نقص شيء من قواه بل قد ورد في الصحيح من حديث أبي هريرة : "أن ملك الموت عليه السلام أرسل إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه فلما جاءه صَكّهُ ففقأ عينه فقال لربه : أرسلتني لعبد لا يريد الموت قال : ارجع إليه فقل له : يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة قال : أي : رب ثم ماذا ؟
قال : الموت قال : فالآن" وكان موسى وقت قبضه ابن مائة وعشرين سنة {أفلا يعقلون} أي : أن القادر على ذلك عندهم قادر على البعث فيؤمنون ، وقرأ نافع وابن ذكوان بالتاء على الخطاب ، والباقون بالياء على الغيبة.
ولما منح الله تعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم غرائز من الفضائل مما عجز عنها الأولون والآخرون ، وأتى بقرآن أعجز الأنس والجن ، وعلوم وبركات فاقت القوى ليس بشعر خلافاً لما رموه به بغياً وكذباً وعدواناً قال تعالى :
{وما علمناه} أي : نحن {الشعر} فيما علمناه وهو أن يتكلف التقيد بوزن معلوم ، ورويِّ مقصود وقافية يلتزمها ويدير المعاني عليها ويحتلب الألفاظ تكلفاً إليها كما كان زهير وغيره في قصائدهم {وما أنا من المتكلفين} (ص : 86)
جزء : 3 رقم الصفحة : 434
لأن ذلك ، وإن كنتم أنتم تعدونه فخراً
440
لا يليق بجنابنا ؛ لأنه لا يفرح به إلا من يريد ترويج كلامه وتحليته بصوغه على وزن معروف مقصود وقافية ملتزمة على أن فيه نقيصة أخرى وهي أعظم ما يوجب النفرة عنه وهي أنه لا بد أن يوهي التزامه بعض المعاني ، ولما لم نعلمه هذه الدناءة طبعناه على جميع فنون البلاغة ومكناه من سائر وجوه الفصاحة ، ثم أسكنا فيه ينابيع الحكمة ودربناه على إلقاء المعاني الجليلة بما ألهمنا إياه ، ثم ألقاه إليه جبريل عليه السلام مما أمرناه به من جوامع الكلم والحكم فلا تكلف عنده أصلاً : "ما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم".(3/297)
ولما كان الشعر مع ما يبنى عليه من التكلف الذي هو بعيد جداً عن سجايا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكيف شرفهم بما يكسب مدحاً وهجواً فيكون أكثره كذباً إلى غير ذلك.
قال تعالى {وما ينبغي له} أي : وما يصح له الشعر ولا يسهل له على ما أختبرتم من طبعه نحواً من أربعين سنة ؛ لأن منصبه أجل وهمته أعلى من أن يكون مداحاً أو عياباً أو أن يتقيد بما قد يجر نقيصة في المعنى وجبلته منافية لذلك غاية المنافاة بحيث لو أراد نظم شعر لم يتأت له ، كما جعلناه أمياً لا يكتب ولا يحسب لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض ، وما كان يتزن له بيت شعر حتى إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسراً روى الحسن : "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت :
*كفى بالشيب والإسلام للمرء ناهياً*
فقال أبو بكر رضي الله عنه : إنما قال الشاعر :
*كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً
فقال عمر رضي الله عنه : أشهد أنك رسول الله يقول الله عز وجل {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} وعن ابن شريح قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر قالت : "كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة قالت : وربما قال :
*ويأتيك بالأخبار من لم تزود*
وفي رواية قالت : كان الشعر أبغض الحديث إليه قالت : ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا ببيت أخي بين قيس طرفة العبدي :
441
*ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ** ويأتيك بالأخبار من لم تزود*
فجعل يقول : ويأتيك من لم تزود بالأخبار فقال أبو بكر : ليس هكذا يا رسول الله فقال : "إني لست بشاعر ولا ينبغي لي" وقيل : معناه ما كان متأتياً له ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم كما رواه مسلم والبخاري : "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" وقوله كما رواه الشيخان أيضاً :
*"
جزء : 3 رقم الصفحة : 434
هل أنت إلا إصبع دميت ** وفي سبيل الله ما لقيت"*
فاتفاقي من غير تكلف وقصد منه إلى ذلك وقد يقع مثله كثيراً في تضاعيف المنثورات على أن الخليل ما عد المشطور من الرجز شعراً ، هذا وقد روى أنه حرك الباءين في قوله : أنا النبي لا كذب وكسر التاء الأولى بلا إشباع وسكن الثانية من قوله هل أنت إلا إصبع إلخ.
وقيل : الضمير للقرآن أي : وما يصح أن يكون القرآن شعراً ، فإن قيل : لم خص الشعر بنفي التعليم مع أن الكفار كانوا ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم أشياء من جملتها السحر والكهانة ولم يقل : وما علمناه السحر وما علمناه الكهانة ؟
أجيب : بأن الكهانة إنما كانوا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إليها عندما كان يخبر عن الغيوب وتكون كما يقول وأما السحر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يفعل ما لا يقدر عليه الغير كشق القمر وتكليم الجذع والحجر وغير ذلك ، وأما الشعر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يتلو القرآن عليهم لكنه صلى الله عليه وسلم ما كان يتحدى إلا بالقرآن كما قال تعالى {إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} (البقرة : 23)
إلى غير ذلك ولم يقل : إن كنتم في شك من رسالتي فأخبروا بالغيوب أو أشبعوا الخلق الكثير بالشيء اليسير. فلما كان تحديه صلى الله عليه وسلم بالكلام وكانوا ينسبونه إلى الشعر عند الكلام خص الشعر بنفي التعليم.
وما نفى أن يكون ما أتى به من جنس الشعر قال تعالى :
{إن} أي : ما {هو} أي : هذا الذي آتاكم به {إلا ذكر} أي : شرف وموعظة {وقرآن} أي : جامع للحكم كلها دنيا وأخرى يتلى في المحاريب ويكرر في المتعبدات وينال بتلاوته والعمل به فوز الدارين والنظر إلى وجه الله العظيم {مبين} أي : ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإعجاز {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين} (ص : 86)
كلهم ذكيهم وغبيهم بخلاف الشعر فإنه مع نزوله عن بلاغته جداً إنما ذكر للأذكياء جداً وقوله تعالى :
{لينذر} ضميره للنبي صلى الله عليه وسلم ويدل له قراءة نافع وابن عامر بالتاء الفوقية على الخطاب وقيل : للقرآن ويدل له قراءة الباقين بالياء التحتية على الغيبة ، واختلف
442
في قوله تعالى {من كان حياً} على قولين : أحدهما : أن المراد به المؤمن ؛ لأنه حي القلب والكافر كالميت في أنه لا يتدبر ولا يتفكر قال تعالى {أو من كان ميتاً فأحييناه} (الأنعام : 122)
جزء : 3 رقم الصفحة : 434
والثاني : المراد به العاقل فهماً فيعقل ما يخاطب به فإن الغافل كالميت {ويحق} أي : يجب ويثبت {القول} أي : العذاب {على الكافرين} أي : الغريقين في الكفر فإنهم أموات في الحقيقة وإن رأيتهم أحياء ، ويمكن أن تكون هذه الآية من الاحتباك حذف الإيمان أولاً لما دل عليه من ضده ثانياً ، وحذف الموت ثانياً لما دل عليه من ضده أولاً ، وأفرد الضمير في الأول على اللفظ إشارة إلى قلة السعداء ، وجمع في الثاني على المعنى إعلاماً بكثرة الأشقياء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 434(3/298)
{أو لم يروا} أي : يعلموا علماً هو كالرؤية ، والاستفهام للتقرير والواو الداخلة عليها للعطف {أنا خلقنا لهم} أي : في جملة الناس {مما عملت أيدينا} أي : مما تولينا إحداثه ولم يقدر على إحداثه غيرنا ، وذكر الأيدي وإسناد العمل إليها استعارة تفيد المبالغة في الاختصاص والتفرد في الإحداث ، كما يقول القائل : عملت هذا بيدي إذا تفرد به ولم يشاركه فيه أحد {أنعاماً} على علم منا بقواها ومقاديرها ومنافعها وطبائعها وغير ذلك من أمورها ، وإنما خص الأنعام بالذكر وإن كانت الأشياء كلها من خلقه وإيجاده ، لأن الأنعام أكثر أموال العرب والنفع بها أعم {فهم لها مالكون} أي : خلقناها لأجلهم فملكناهم إياها يتصرفون فيها تصرف الملاك أو فهم لها ضابطون قاهرون ومنه قول بعضهم :
*أصبحت لا أملك السلاح ولا ** أملك رأس البعير إن نفرا*
*والذئب أخشاه إن مررت به ** وحدي وأخشى الرياح والمطرا*
والشاهد في قوله : ولا أملك رأس البعير أي : لا أضبطه والمعنى : لم نخلق الأنعام وحشية نافرة من بني آدم لا يقدرون على ضبطها بل خلقناها مذللة كما قال تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 443
وذللناها لهم} أي : يسرنا قيادها ولو شئنا جعلناها وحشية كما جعلنا أصغر منها وأضعف ، فمن قدر على تذليل الأشياء
443
الصعبة جداً لغيره قادر على تطويع الأشياء لنفسه ثم سبب عن ذلك قوله تعالى {فمنها ركوبهم} أي : ما يركبون وهي الإبل ؛ لأنها أعظم مركوباتهم لعموم منافعها في ذلك وكثرتها {ومنها يأكلون} أي : ما يأكلون لحمه.
ولما أشار إلى عظمة نفع الركوب والأكل بتقديم الجار وكانت منافعها لغير ذلك كثيرة قال تعالى :
{ولهم فيها منافع} أي : من أصوافها وأوبارها وأشعارها وجلودها ونسلها وغير ذلك {ومشارب} أي : من ألبانها جمع مشرب بالفتح ، وخص الشرب من عموم المنافع بعموم نفعه وجمعه لاختلاف طعوم ألبان الأنواع الثلاثة ، ولما كانت هذه الأشياء من العظمة بمكان لو فقدها الإنسان لتكدرت معيشته تسبب عنها استئناف الإنكار عليهم في تخلفهم عن طاعته بقوله تعالى : {أفلا يشكرون} أي : المنعم عليهم بها فيؤمنون. ولما ذكرهم تعالى نعمه وحذرهم نقمه عجب منهم في سفول نظرهم وقبح أثرهم بقوله تعالى موبخاً لهم :
{واتخذوا من دون} أي : غير {الله} الذي له جميع صفات الكمال والعظمة {آلهة} أي : أصناماً يعبدونها بعدما رأوا منه تعالى تلك القدرة الباهرة والنعم المتظاهرة وعلموا أنه المنفرد بها {لعلهم ينصرون} أي : رجاء أن ينصروهم فيما أحزنهم من الأمور والأمر بالعكس كما قال تعالى :
{لا يستطيعون} أي : الآلهة المتخذة {نصرهم} أي : العابدين {وهم} أي : العابدون {لهم} أي : للآلهة {جند محضرون} أي : الكفار جند الأصنام فيغضبون لها ويحضرونها في الدنيا وهي لا تسوق لهم خيراً ولا تستطيع لهم نصراً ، وقيل : هذا في الآخرة يؤتى بكل معبود من دون الله تعالى ومعه أتباعه الذين عبدوه كأنهم جنده يحضرون في النار وهذا كقوله تعالى : {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} (الأنبياء : 98)
وقوله تعالى : {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم} (الصافات : 22 ـ 23)
ولما بين تعالى ما تبين من قدرته الظاهرة الباهرة ووهن أمرهم في الدنيا والآخرة ذكر ما يسلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى :
{فلا يحزنك قولهم} أي : في تكذيبك كقولهم : {لست مرسلاً} (الرعد : 43)
{إنا نعلم ما} أي كل ما {يسرون} أي : في ضمائرهم من التكذيب وغيره {وما يعلنون} أي : يظهرونه بألسنتهم من الأذى وغيره من عبادة الأصنام فنجازيهم عليه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 443
ولما ذكر تعالى دليلاً على عظم قدرته ووجوب عبادته بقوله تعالى : {أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً} ذكر دليلاً من الأنفس أبين من الأول بقوله تعالى :
{أولم ير} أي : يعلم {الإنسان} علماً هو في ظهوره كالمحسوس بالبصر {أنا خلقناه} أي : بما لنا من العظمة {من نطفة} أي : شيء حقير يسير من ماء لا انتفاع به بعد إبداعنا إياه من تراب وأنه من لحم وعظام {فإذا هو} أي : فتسبب عن خلقنا له من ذلك المفاجأة لحالة هي أبعد شيء من حالة النطفة وهي أنه {خصيم} أي : بليغ الخصومة {مبين} أي : في غاية البيان عما يريده حتى إنه ليجادل من أعطاه العقل والقدرة في قدرته وأنشد الأستاذ القشيري في ذلك :
444
*أعلمه الرماية كل يوم ** فلما اشتد ساعده رماني*
*وكم علمته علم القوافي ** فلما قال قافية هجاني*
وفي هذا تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر وفيه تقبيح بليغ لإنكاره ، حيث تعجب منه وجعله إفراطاً في الخصومة بيناً ومنافاته لجحود القدرة على ما هو أهون مما علمه في بدء خلقه ومقابلة النعمة التي لا مزيد عليها وهي خلقه من أخس شيء وأمهنه شريفاً مكرماً بالعقوق والتكذيب.(3/299)
{وضرب} أي : هذا الإنسان {لنا} أي : على ما يعلم من عظمتنا {مثلاً} أي : أمراً عجيباً وهو نفي القدرة على إحياء الموتى ، روي : "أن أبي بن خلف الجمحي وهو الذي قتله النبي صلى الله عليه وسلم بأحد مبارزة ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بال يفتته بيده فقال : أترى الله يحيي هذا بعدما رم ؟
فقال صلى الله عليه وسلم نعم ويبعثك ويدخلك النار" فنزلت. وقيل : هو العاصي بن وائل قاله الجلال المحلي وأكثر المفسرين على الأول{ونسي} أي : هذا الذي تصدى على مهانة أصله لمخاصمة الجبار {خلقه} أي : بدء أمره من المني وهو أغرب من مثله ، والنسيان هنا يحتمل أن يكون بمعنى الذهول وأن يكون بمعنى الترك ، ثم استأنف الإخبار عن هذا المثل بأن {قال} أي : على طريق الإنكار {من يحيي العظام وهي رميم} أي : صارت تراباً تمرّ مع الرياح ورميم قال البيضاوي : بمعنى فاعل من رم الشيء صار اسماً بالغلبة ولذلك لم يؤنث ، أو اسم مفعول من رممته ، وفيه دليل على أن العظم ذو حياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء ا. ه. قال البغوي : ولم يقل : رميمة ؛ لأنه معدول عن فاعله فكل ما كان معدولاً عن وجهه ووزنه كان مصروفاً عن إعرابه كقوله تعالى {وما كانت أمك بغيا} (مريم : 28)
جزء : 3 رقم الصفحة : 443
أسقط الهاء ؛ لأنها مصروفة عن باغية.
تنبيه : هذه الآية وما بعدها إشارة إلى بيان الحشر ؛ لأن المنكرين للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلاً ولا شبهة بل اكتفى بمجرد الاستبعاد وهم الأكثرون {أءذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد} (السجدة : 10)
{أءذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون} (المؤمنون : 82)
{من يحيي العظام وهي رميم} قالوا : ذلك على طريق الاستبعاد فأبطل الله تعلى استبعادهم بقوله تعالى : {ونسي خلقه} أي : نسي أنا خلقناه من تراب ومن نطفة متشابهة الأجزاء ثم جعلنا لهم من النواصي إلى الأقدام أعضاء مختلفة الصورة ، وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل اللذان بهما استحقوا الإكرام ، فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة مذرة لم تكن محلاً للحياة أصلاً ، ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه واختاروا العظم بالذكر ؛ لأنه أبعد عن الحياة لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوى جانب الاستبعاد من البلاء والتفتت.
والله تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في العبد من القدرة والعلم فقال : {وضرب لنا مثلاً} أي : جعل قدرتنا كقدرتهم ونسي خلقه العجيب وبدأه الغريب ، ومنهم من ذكر شبهة وإن كان في آخرها يعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين : الأول : أنه بعد العدم لم يبق شيئاً فكيف الحكم على العدم بالوجود ؟
فأجاب تعالى عن هذه
445
الشبهة بأن قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
{قل} أي : لهؤلاء البعداء البغضاء {يحييها} أي : بعد أن أنشأها أول مرة {الذي أنشأها} أي : من العدم ثم أحياها {أول مرة} فكما خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكوراً كذلك يعيده إن لم يبق شيئاً مذكوراً.
الوجه الثاني : أن من تفرقت أجزاؤه في مشارق العالم ومغاربه وصار بعضها في أبدان السباع وبعضها في حواصل الطيور وبعضها في جدران الربوع كيف تجتمع.
وأبعد من هذا لو أكل إنسان إنساناً وصار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل فإن أعيدت أجزاء الآكل فلا يبقى للمأكول أجزاء تنخلق منها أعضاؤه وإما أن تعاد إلى بدن المأكول فلا يبقى للآكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية وفي المأكول كذلك ، فإذا أكل إنسان إنساناً صار الأصلي من أجزاء المأكول فضلياً من أجزاء الآكل والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان قبل الأكل فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله {وهو بكل خلق} أي : مخلوق {عليم} أي : يجمع الأصل من الفضل فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيه روحه وكذلك يجمع أجزاءه المتفرقة في البقاع المتبددة بحكمته وقدرته.
جزء : 3 رقم الصفحة : 443
ثم إنه تعالى عاد إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم وإبطال إنكارهم بقوله تعالى : (3/300)
{الذي جعل لكم} أي : في جملة الناس {من الشجر الأخضر} أي : الذي تشاهدون فيه الماء {ناراً} قال ابن عباس : هما شجرتان يقال لإحداهما : المرخ والأخرى : العفار ، الأول : بفتح الميم والخاء المعجمة شجر سريع الوري أي : القدح ، والثاني : بفتح المهملة وفاء وراء بعد ألف الزند فمن أراد منهما النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما أخضران يقطران الماء فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهو أنثى فيخرج منهما النار بإذن الله تعالى وتقول العرب : في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار ، وقال الحكماء : في كل شجر نار إلا العناب {فإذا أنتم} أي : فتسبب عن ذلك مفاجأتكم لأنه {منه} أي : من الشجر الموصوف بالخضرة {توقدون} أي : توجدون الإيقاد ويتجدد لكم ذلك مرة بعد أخرى وهذا أدل على القدرة على البعث فإنه جمع فيه بين الماء والنار والخشب فلا الماء يطفئ النار ولا النار تحرق الخشب.
ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال تعالى :
{أوليس الذي خلق} أي : أوجد من العدم {السموات والأرض} أي : على كبرهما وعظم ما فيهما من المنافع والمصانع والعجائب والبدائع ، وأثبت الجار تحقيقاً للأمر وتأكيداً للتقرير فقال تعالى {بقادر على أن يخلق مثلهم} أي : مثل هؤلاء الأناسي في الصغر أي : يعيدهم بأعيانهم ، وقيل : الضمير يعود على السموات والأرض لتضمنهم من يعقل والأول أظهر ؛ لأنهم المخاطبون وقوله تعالى {بلى} جواب ليس وإن دخل عليها الاستفهام المصير لها إيجاباً أي : هو قادر على ذلك أجاب نفسه تعالى {وهو} مع ذلك أي : مع كونه عالماً بالخلق {الخلاق} أي : الكثير الخلق {العليم} أي : البالغ في العلم الذي هو منشأ القدرة فلا يخفى عليه كلي ولا جزئي في ماض ولا حال ولا مستقبل شاهد أو غائب.
ولما تقرر ذلك أنتج قوله تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم القدرة على البعث :
{إنما أمره} أي : شأنه ووصفه {إذا أراد شيئاً} أي : خلق شيء من جوهر أو عرض أي شيء كان {أن يقول له كن} أي : أن يريده {فيكون} أي : يحدث وهو تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة قطعاً لمادة الشبهة وهو
446
قياس قدرة الله تعالى على قدرة الخلق ، وقرأ ابن عامر والكسائي بنصب النون عطفاً على يقول ، والباقون بالرفع أي : فهو يكون.
ولما كان ذلك تسبب عنه المبادرة إلى تنزيهه تعالى عما ضربوه له من الأمثال فلذلك قال :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 443
فسبحان} أي : تنزه عن كل شائبة نقص تنزهاً لا يبلغ أفهامكم كنهه وعدل عن الضمير إلى وصف يدل على غاية العظمة فقال {الذي بيده} أي : قدرته وتصرفه خاصة لا بيد غيره {ملكوت كل شيء} أي : ملكه التام وملكه ظاهراً وباطناً.
ولما كان التقدير فمنه تبدؤون عطف عليه قوله تعالى {وإليه} أي : لا إلى غيره {ترجعون} أي : معنى في جميع أموركم وحسّاً بالبعث لينصف بينكم فيدخل بعضاً النار وبعضاً الجنة ، وعن ابن عباس : كنت لا أعلم ما روي في فضل يس كيف خصت به فإذا به لهذه الآية.
وما رواه البيضاوي عنه صلى الله عليه وسلم "إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس" ، و"أيما مسلم قرئ عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفاً يصلون عليه ويستغفرون له ويشهدون قبض روحه وغسله ويتبعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه" ، و "أيما مسلم قرأ يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان بشربة من الجنة فيشربها وهو على فراشه فيقبض روحه وهو ريان ويمكث في قبره وهو ريان ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان" حديث موضوع.
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قرأ سورة يس في ليلة أصبح مغفوراً له" وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف عنهم يومئذ وكان له بعدد من فيها حسنات". وعن يحيى بن أبي كثير قال : بلغنا أن من قرأ يس حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي ومن قرأها حين يمسي لم يزل في فرح حتى يصبح.
447
جزء : 3 رقم الصفحة : 443(3/301)
سورة الصافات
مكية وهي مائة واثنان وثمانون آية ، وثمان مئة وستون كلمة ، وثلاثة آلاف وثمان مئة وستة وعشرون حرفاً
{بسم الله} الذي له الكمال المطلق {الرحمن} الذي من رحمته العدل في الدارين {الرحيم} الذي لا يدنو من جنابه نقص واختلف في تفسير قوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 447
{والصافات صفا} أي : وهو ترتيب الجمع على خط ، فقال ابن عباس والحسن وقتادة : هم الملائكة في السماء يصفون كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة ، وعن جابر بن سمرة قال :
448
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا تصفون كصفوف الملائكة عند ربهم" قلنا : وكيف تصف الملائكة عند ربهم ؟
قال : "يتمون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف". وقيل : هي الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة حتى يأمرها الله تعالى بما يريد ، وقيل : هي الطير تصف أجنحتها في الهواء لقوله تعالى : {والطير صافات} (النور : 41)
. واختلف أيضاً في قوله تعالى :
{فالزاجرات زجراً} فأكثر المفسرين على أنها الملائكة تزجر السحاب وتسوقه ، وقال قتادة : هي زواجر القرآن تنهي وتزجر عن القبيح ، واختلف أيضاً في قوله تعالى :
{فالتاليات ذكراً} فالأكثر أيضاً ، أنهم الملائكة عليهم السلام يتلون ذكر الله تعالى ، وقيل : هم جماعة قراء القرآن.
جزء : 3 رقم الصفحة : 448
فإن قيل : قال أبو مسلم الأصفهاني : لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة ؛ لأنها مشعرة بالتأنيث والملائكة عليهم السلام مبرؤون من هذه الصفة. أجيب بوجهين :
الأول : أن الصافات جمع الجمع فإنه يقال : جماعة صافة ثم تجمع على صافات.
والثاني : أنهم مبرؤون من التأنيث المعنوي وأما التأنيث اللفظي فلا ، وكيف وهم يسمون بالملائكة مع أن علامة التأنيث حاصلة.
تنبيه : اختلف الناس ههنا في المقسم به على قولين :
أحدهما : أن المقسم به خالق هذه الأشياء لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله تعالى ، ولأن الحلف في مثل هذا الموضع تعظيم للمحلوف به ، ومثل هذا التعظيم لا يليق إلا بالله تعالى ، ففي ذلك إضمار تقديره ورب الصافات ورب الزاجرات ورب التاليات ، ومما يؤيد هذا أنه تعالى صرح به في قوله تعالى : {والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها} (الشمس : 5 ـ 7)
والثاني : وعليه الأكثر أن المقسم به هذه الأشياء لظاهر اللفظ فالعدول عنه خلاف الدليل ، وأما النهي عن الحلف بغير الله تعالى فهو نهي للمخلوق عن ذلك ، وأما قوله تعالى : {وما بناها} فإنه علق لفظ القسم بالسماء ثم عطف عليه القسم بالباني للسماء ولو كان المراد بالقسم بالسماء القسم بمن بنى السماء لزم التكرار في موضع واحد ، وهو لا يجوز ، وأيضاً لا يبعد أن تكون الحكمة في قسم الله تعالى بهذه الأشياء ، التنبيه على شرف ذواتها.
وقال البيضاوي : أقسم بالملائكة الصافين في مقام العبودية على مراتب باعتبارها تفيض عليهم أنوار الهيبة منتظرين لأمر الله الزاجرين ، للأجرام العلوية والسفلية بالتدبير المأمور فيها ، أو الناس عن المعاصي بإلهام الخبر ، أو الشياطين عن التعرض لهم التالين لآيات الله وجلايا قدسه على أنبيائه وأوليائه أو بطواف الأجرام المترتبة كالصفوف المرصوصة والأرواح المدبرة لها والجواهر القدسية المستغرقة في بحار القدس يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، أو بنفوس العلماء الصادقين في العبارات الزاجرين عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح التالين آيات الله وشرائعه ، أو بنفوس الغزاة الصادقين في الجهاد الزاجرين للخيل والعدو التالين ذكر الله لا يشغلهم عنه مباراة العدو ، وقال الزمخشري : الفاء في ، فالزاجرات والتاليات إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود كقوله :
449
*يا لهف زيابة للحرث ** الصابح فالغانم فالآيب*
أي : الذي صبح فغنم فآب ، وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك : خذ الأفضل فالأكمل واعمل الأحسن فالأجمل ، وإما على ترتب موصوفاتها كقوله : "رحم الله المحلقين فالمقصرين" ، والبيضاوي ذكر هذا حديثاً قال شيخنا القاضي زكريا : لم أره بهذا اللفظ ا.ه ، لكنه لفضل المتقدم على المتأخر وهذا للعكس ، وقرأ أبو عمرو وحمزة بالإدغام فيما ذكر ، والباقون بالإظهار ؛ وجواب القسم.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 448
إن إلهكم} أي : الذي اتخذتم من دونه آلهة {لواحد} إذ لو لم يكن واحداً لاختل هذا الاصطفاف والزجر والتلاوة وما يترتب عليها فكان غير حكيم ، فإن قيل : ذكر الحلف في هذا الموضع غير لائق وبيانه من وجهين :
الأول : أن المقصود من هذا القسم إما إثبات هذا المطلوب عند المؤمن أو الكافر ، فالأول باطل ؛ لأن المؤمن مقرّ به من غير حلف.
والثاني : باطل أيضاً ؛ لأن الكافر لا يقرّ به سواء حصل الحلف أو لم يحصل فهذا الحلف عديم الفائدة على كل تقدير ، الثاني : أنه يقال أقسم في أول هذه السورة على أن الإله واحد وأقسم في أول سورة الذاريات على أن القيامة حق ، فقال : {والذاريات ذرواً} (الذاريات : 1)
إلى قوله {إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع} (الذاريات : 5)
وإثبات هذه المطالب العالية الشريفة على المخالفين من الدهرية وأمثالهم بالحلف لا يليق بالعقلاء ؟
أجيب : عن ذلك بأوجه :
أولها : أنه تعالى قرر التوحيد وصحة البعث والقيامة في غالب السور بالدلائل اليقينية ، فلما تقدم ذكر تلك الدلائل لم يبعد تقريرها بذكر القسم تأكيداً لما تقدم لاسيما والقرآن أنزل بلغة العرب وإثبات المطالب بالحلف واليمين طريقة مألوفة عند العرب.(3/302)
ثانيها : أن المقصود من هذا الكلام الرد على عبدة الأصنام في قولهم بأنها آلهة فكأنه قيل : إن هذا المذهب قد بلغ في السقوط والركاكة إلى حيث يكفي في إبطاله مثل هذه الحجة.
ثالثها : أنه تعالى لما أقسم بهذه الأشيائ على صحة قوله تعالى : {إن إلهكم لواحد} (الصافات : 4)
عقبه بما هو الدليل اليقيني في كون الإله واحد ، وهو قوله تعالى :
{رب} أي : موجد ومالك ومدبر {السموات} أي : الأجرام العالية {والأرض} أي : الأجرام السافلة {وما بينهما} أي : من الفضاء المشحون بما يعجز عن عده القوي ، وذلك ؛ لأنه تعالى بين في قوله تعالى : {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الأنبياء : 22)
أن انتظام أحوال السموات والأرض يدل على أن الإله واحد فههنا لما قال {إن إلهكم لواحد} أردفه بقوله {رب السموات والأرض وما بينهما} كأنه قيل : بينا أن النظر في انتظام هذا العالم يدل على أن الإله واحد فتأملوا ليحصل لكم العلم بالتوحيد.
450
تنبيه : علم من قوله تعالى {وما بينهما} أنه تعالى خالق لأعمال العباد ؛ لأن أعمالهم موجودة فيما بين السماء والأرض وهذه الآية دلت على أن كل ما حصل بين السماء والأرض ، فالله ربه ومالكه وهذا يدل على أن فعل العبد حصل بخلق الله تعالى ، فإن قيل : الأعراض لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السماء والأرض ؛ لأن هذا الوصف إنما يكون حاصلاً في حيز وجهة والأعراض ليست كذلك ؟
أجيب : بأنها لما كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السماء والأرض فهي أيضاً حاصلة بين السموات والأرض {ورب المشارق} أي : والمغارب وجمعها باعتبار جميع السنة فإن الله تعالى خلق للشمس ثلاث مئة وستين كوة في المشرق وثلاثمئة وستين كوة في المغرب على عدد أيام السنة ، تطلع الشمس كل يوم من كوة منها وتغرب في كوة منها لا ترجع إلى الكوة التي تطلع منها إلى ذلك اليوم من العام المقبل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 448
وقيل : كل موضع أشرقت عليه الشمس فهو مشرق وكل موضع غربت عليه فهو مغرب كأنه أراد جميع ما أشرقت عليه الشمس.
وقيل : المراد بالمشارق مشارق الكواكب ومغاربها ؛ لأن لكل كوكب مشرقاً ومغرباً ، فإن قيل : إن الله تعالى قال في موضع {رب المشرق والمغرب} (الشعراء : 28)
وقال في موضع آخر {رب المشرقين ورب المغربين} (الرحمن : 17)
فما الجمع بين هذه المواضع ؟
أجيب : بأن المراد بقوله {رب المشرق والمغرب} الجهة فالمشرق جهة والمغرب جهة وبقوله تعالى : {رب المشرقين ورب المغربين} مشرقا الشتاء والصيف ومغربا الشتاء والصيف وأما موضع الجمع فقد مر. فإن قيل : لم اكتفى بذكر المشارق ؟
أجيب : بوجهين.
الأول : أنه اكتفى به كقوله تعالى {تقيكم الحر} (النحل : 81)
والثاني : أن الشروق أقوى حالاً من الغروب وأكثر نفعاً منه فذكر المشرق تنبيهاً على كثرة إحسان الله تعالى على عباده ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام بقوله {إن الله يأتي بالشمس من المشرق} (البقرة : 258)
:
{إنا زينا} أي : بعظمتنا التي لا تدانى {السماء} ولما كانوا لا يرون إلا ما يليهم من السموات وكانت زينة النجوم ظاهرة فيها قال تعالى {الدنيا} أي : التي هي أدنى السموات إليكم {بزينة الكواكب} أي : بضوئها كما قاله ابن عباس أو بها ، وقرأ عاصم وحمزة بزينة بالتنوين ، والباقون بغير تنوين والإضافة للبيان كقراءة تنوين بزينة المبينة بالكواكب ونصب الياء الموحدة من الكواكب شعبة ، وكسرها الباقون.
فإن قيل : قد ثبت في علم الهيئة أن هذه الكواكب الثوابت مركوزة في الكرة الثامنة وأن السيارات مركوزة في الكرات الستة المحيطة بسماء الدنيا فكيف يصح قوله تعالى {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب} ؟
أجيب : بأن الناس الساكنين على سطح كرة الأرض إن نظروا إلى السماء الدنيا فإنهم يشاهدونها مزينة بهذه الكواكب فصح قوله تعالى {إنا زينا السماء بزينة الكواكب} وقوله تعالى :
{وحفظاً} منصوب بفعل مقدر أي : حفظناها بالشهب أو معطوف على زينة باعتبار المعنى ، كأنه قال : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء الدنيا وحفظاً {من كل شيطان} أي : بعيد عن الخير محترق {مارد} أي : عات خارج عن الطاعة.
ولما تشوف السامع إلى معرفة هذا الحفظ وثمرته وبيان كيفيته استأنف قوله تعالى :
{لا
451
يسمعون} أي : الشياطين المفهومون من كل شيطان {إلى الملأ الأعلى} أي : الملائكة أو أشرافهم في السماء ، وعدى السماع بإلى لتضمنه معنى الإصغاء مبالغة لنفيه وتهويلاً لما يمنعهم عنه ، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص بفتح السين وتشديدها وتشديد الميم من التسمع وهو طلب السماع ، وقرأ الباقون بسكون السين وتخفيف الميم {ويقذفون} أي : الشياطين يرمون بالشهب {من كل جانب} أي : من آفاق السماء وقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 448(3/303)
دحوراً} مصدر دحره أي : طرده وأبعده وهو مفعول له ، وقيل : هو جمع داحر نحو قاعد وقعود فيكون حالاً بنفسه من غير تأويل ، وقيل : غير ذلك {ولهم} أي : في الآخرة {عذاب} غير هذا {واصب} أي : دائم ، وقال مقاتل : أي : دائم في الدنيا إلى النفخة الأولى وقوله تعالى :
{إلا من خطف} فيه وجهان : أحدهما : أنه مرفوع المحل بدلاً من ضمير لا يسمعون وهو أحسن ؛ لأنه غير موجب. والثاني : أنه منصوب على أصل الاستثناء ، والمعنى : أن الشياطين لا يسمعون الملائكة إلا من خطف ، وقوله تعالى : {الخطفة} مصدر معرف بأل الجنسية أو المعرفة ومعنى اختطف اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقة {فاتبعه} أي : لحقه {شهاب} أي : كوكب {ثاقب} أي : مضيء قوي لا يخطئه يقتله أو يحرقه أو يثقبه أو يخبله.
تنبيه : ههنا سؤالات :
أولها : أن هذه الشهب التي يرمى بها هل هي من الكواكب التي زين الله السماء بها أم لا ؟
والأول : باطل ؛ لأنها تبطل وتضمحل فلو كانت تلك الشهب تلك الكواكب الحقيقية لوجب أن يظهر نقصان كثير في أعداد كواكب السماء ولم يوجد ذلك فإن أعداد كواكب السماء باقية لم تتغير البتة ، وأيضاً فجعلها رجوماً للشياطين مما يوجب وقوع النقصان في زينة السماء الدنيا فكان الجمع بين هذين المقصودين كالمتناقض ، وإن كانت هذه الشهب جنساً آخر غير الكواكب المركوزة في الفلك فهو أيضاً مشكل ؛ لأنه تعالى قال في سورة الملك {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشيطانين} (الملك : 5)
فالضمير في قوله {وجعلناها} عائد على المصابيح فوجب أن تكون تلك المصابيح هي المرجوم بها بأعيانها.
ثانيها : كيف يجوز أن تذهب الشياطين حيث يعلمون أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم البتة ؟
وهل يمكن أن يصدر هذا الفعل من عاقل ؟
فكيف من الشياطين الذين لهم مزية في معرفة الحيل الدقيقة ؟
.
ثالثها : دلت التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلاً قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك ترى الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه ، وإذا ثبت أن ذلك كان موجوداً قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم امتنع حمله على مجيء النبي صلى الله عليه وسلم
رابعها : الشيطان مخلوق من النار كما حكى عن قول إبليس لعنه الله تعالى {خلقتني من نار} (الأعراف : 12)
وقال تعالى {والجان خلقناه من قبل من نار السموم} (الحجر : 27)
ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السموات وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار ؟
.
جزء : 3 رقم الصفحة : 448
أجيب عن الأول : بأن هذه الشهب غير تلك الكواكب الثابتة وأما قوله تعالى {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين} (الملك : 5)
فنقول : كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الدهر آمنة من التغير والفساد ومنها ما لا
452
يكون كذلك وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوماً للشياطين إلى حيث يعلمون وبها يزول الإشكال.
وعن الثاني : بأن هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة فلعلها لا تشتهر بسبب ندرتها بين الشياطين وأجاب أبو علي الجبائي : بأن حصول هذه الحالة ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى موضع الملائكة ومواضعها مختلفة ، فربما صاروا إلى موضع تصيبهم الشهب ، وربما صاروا إلى غيره ولا صادفوا الملائكة ولا تصيبهم الشهب ، فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعض الأوقات جاز أن يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنها لا تصيبهم الشهب فيها ، كما يجوز فيمن سلك البحر أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة ، وفي جواب أبي علي نظر : إذ ليس في السماء موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد.
وعن الثالث : بأن الأقرب أن هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي صلى الله عليه وسلم لكن بقلة ، ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقعت بكثرة فصارت بسبب الكثرة معجزة.
وعن الرابع : بأن الشياطين ليسوا من نار خالصة وعلى التنزل بأنهم من النيران الخالصة إلا أنها نيران ضعيفة ونيران الشهب أقوى حالاً منهم فلا جرم صار الأقوى مبطلاً للأضعف ، ألا ترى أن السراج الضعيف إذا وضع في النار القوية فإنه ينطفئ ؟
فكذلك ههنا.
ولما كان المقصود الأعظم من القرآن إثبات الأصول الأربعة وهي الإلهيات والمعاد والنبوات وإثبات القضاء والقدر افتتح الله سبحانه هذه السورة بإثبات ما يدل على الصانع وعلى علمه وقدرته وحكمته ووحدانيته ، وهو خالق السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق والمغارب ، ثم فرع عليها إثبات الحشر والنشر والقيامة وهو أن من قدر على ما هو أشق وأصعب وجب أن يقدر على ما هو دونه ، وهو قوله تعالى : (3/304)
{فاستفتهم} أي : سل كفار مكة أن يفتوك بأن يبينوا لك ما تسألهم عنه من إنكارهم البعث وأصله من الفتوة وهي الكرم {أهم أشد} أي : أقوى وأشق وأصعب {خلقاً} أي : من جهة إحكام الصنعة وقوتها وعظمها {أم من خلقنا} أي : من الملائكة والسموات والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 448
تنبيه : في الإتيان بمن تغليب للعقلاء وهو استفهام بمعنى التقرير أي : هذه الأشياء أشد خلقاً كقوله تعالى {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} (غافر : 57)
وقوله تعالى {أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها} (النازعات : 27)
وقيل : معنى أم من خلقنا أي : من الأمم الماضية ؛ لأن لفظ من يذكر لمن يعقل ؛ والمعنى : أن هؤلاء الأمم ليسوا بأحكم خلقاً من غيرهم من الأمم الخالية وقد أهلكناهم بذنوبهم فمن الذي يؤمن هؤلاء من العذاب {إنا خلقناهم} أي : أصلهم آدم بعظمتنا {من طين} أي : تراب رخو مهين {لازب} أي : شديد اختلاط بعضه ببعض فالتصق وخمر بحيث يعلق باليد وقال مجاهد والضحاك : منتن فهو مخلوق من غير أب ولا أم وقرأ حمزة والكسائي :
{بل عجبت} بضم التاء والباقون بفتحها ، أما بالضم فبإسناد التعجب إلى الله تعالى وليس هو كالتعجب من الآدميين كما قال تعالى {فيسخرون منهم سخر الله منهم} (التوبة : 79)
وقال تعالى {نسوا الله فنسيهم} (التوبة : 67)
فالعجب من الآدميين إنكاره وتعظيمه ، والعجب من الله تعالى قد يكون بمعنى الإنكار والذم وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا كما في
453
الحديث : "عجب ربكم من شاب ليست له صبوة" وفي حديث آخر : "عجب ربكم من الكم وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم" قوله الكم الألّ أشد القنوط.
وقيل : هو رفع الصوت بالبكا ، وسئل الجنيد عن هذه الآية فقال : إن الله تعالى لا يعجب من شيء ولكن وافق رسوله صلى الله عليه وسلم فلما عجب رسوله قال تعالى {وإن تعجب فعجب قولهم} (الرعد : 5)
أي : هو كما تقوله ، وأما الفتح فعلى أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي : عجبت من تكذيبهم إياك.
{ويسخرون} أي : وهم يسخرون من تعجبك قال قتادة : عجب نبي الله صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن حين أنزل ومن ضلال بني آدم ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يظن أن كل من سمع القرآن يؤمن به فلما سمع المشركون القرآن سخروا منه ولم يؤمنوا به عجب من ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى {بل عجبت ويسخرون}.
{وإذا ذكروا} أي : وعظوا بالقرآن {لا يذكرون} أي : لا يتعظون.
{وإذا رأوا آية} قال ابن عباس وقتادة : يعني انشقاق القمر {يستسخرون} أي : يستهزئون بها وقيل : يستدعي بعضهم من بعض السخرية.
{وقالوا إن} أي : ما {هذا إلا سحر مبين} أي : ظاهر في نفسه ومظهر لسخريته ثم خصّوا البعث بالإنكار إعلاماً بأنه أعظم مقصود بالنسبة إلى السحر فقالوا مظهرين له في مظهر الإنكار :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 448
أءذا متنا} وعطفوا عليه ما هو موجب عندهم لشدة الإنكار فقالوا {وكنا} أي : كوناً في غاية التمكن {تراباً} وقدموه ؛ لأنه أدل على مرادهم ؛ لأنه أبعد عن الحياة {وعظاماً} كأنهم جعلوا كل واحد من الموت أو الكون إلى الترابية المحضة والعظامية المحضة والمختلطة بهما مانعاً من البعث ، وهذا بعد اعترافهم بأن ابتداء خلقهم كان من التراب ، ثم كرروا الاستفهام الإنكاري على قراءة من قرأ به كما سيأتي بيانه زيادة في الإنكار فقالوا {أئنا لمبعوثون}.
وقولهم {أو آباؤنا الأولون} عطف على محل إن واسمها أو على الضمير في مبعوثون فإنه مفصول عنه بهمزة الاستفهام لزيادة الاستبعاد لبعد زمانهم ، وهذا بيان للسبب الذي حملهم على الاستهزاء بجميع المعجزات وهو اعتقادهم أن من مات وتفرقت أجزاؤه في العالم فما فيه من الأرض اختلط بالأرض وما فيه من المائية والهوائية اختلط ببخارات العالم ، فهذا الإنسان كيف يعقل عوده بعينه حياً ؟
ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذه الشبهة قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
{قل} أي : لهؤلاء البعداء البغضاء {نعم} أي : تبعثون على كل تقدير قدرتموه {وأنتم داخرون} أي : مكرهون عليه صاغرون ذليلون وإنما اكتفى تعالى بهذا القدر من الجواب ؛ لأنه ذكر في الآية المتقدمة البرهان القطعي على أنه أمر ممكن وإذا ثبت الجواز القطعي فلا سبيل إلى القطع بالوقوع إلا بإخبار المخبر الصادق ، فلما قامت المعجزة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم كان واجب الصدق فكان مجرد قوله {نعم} دليلاً قاطعاً على الوقوع ، وقرأ {متنا} بضم الميم ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة ، وكسرها الباقون.
وأما {أءذا} و{أئنا} فقرأ نافع والكسائي بالاستفهام في الأول والخبر في الثاني وابن عامر
454(3/305)
بالخبر في الأول والاستفهام في الثاني ، والباقون بالاستفهام فيهما وسهل الهمزة الثانية في الاستفهام نافع وابن كثير وأبو عمرو وحقق الباقون ، وأدخل في الاستفهام الفاء بين الهمزتين قالون وأبو عمرو وهشام ، والباقون بغير إدخال ، وقرأ قالون وابن عامر أو آباؤنا بسكون الواو على أنها أو العاطفة المقتضية للشك ، والباقون بفتحها على أنها همزة الاستفهام دخلت على واو العطف ، وقرأ الكسائي {نعم} بكسر العين وهو لغة فيه ، وقوله تعالى :
{فإنما هي زجرة واحدة} جواب شرط مقدر أي : إذا كان كذلك فإنما البعثة زجرة أي : صيحة واحدة هي النفخة الثانية من زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها ، وأمرها في الإعادة كأمرها بكن في الابتداء ولذلك رتب عليها {فإذا هم ينظرون} أي : أحياء في الحال من غير مهلة ينظر بعضهم بعضاً ، وقيل : ينظرون ما يحدث لهم أو ينظرون إلى البعث الذي كذبوا به ، ولا فرق بين من صار كله تراباً ومن لم يتغير أصلاً ومن هو بين ذلك ، قال البقاعي : ولعله خص بالذكر ؛ لأنه لا يكون إلا مع كمال الحياة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "إذا قبض الروح تبعه البصر" وأما السمع فقد يكون لغير الحي ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال في الكفار من قتلى بدر : "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" قال : وشاهدت أنا في بلاد العرب المجاورة لنابلس شجرة لها شوك يقال لها : الغبيرا متى قيل عندها : هات لي المنجل لأقطع هذه الشجرة أخذ ورقها في الحال في الذبول فإنه سبحانه أعلم ما سبب ذلك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 448
تنبيه : لا أثر للصيحة في الموت ولا في الحياة بل خالق الموت والحياة هو الله تعالى كما قال تعالى {الذي خلق الموت والحياة} (الملك : 2)
روي أن الله تعالى يأمر الملك إسرافيل فينادي : أيها العظام النخرة والجلود البالية والأجزاء المتفرقة اجتمعوا بإذن الله تعالى.
{وقالوا} أي : كل من جمعه البعث من الكفرة بعد القيام من القبور معلنين بما انكشف لهم من أنه لا ملازم لهم غير الويل {يا ويلنا} أي : هلاكنا وهو مصدر لا فعل له من لفظه وقال الزجّاج : الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة وتقول لهم الملائكة : {هذا يوم الدين} أي : الحساب والجزاء.
{هذا يوم الفصل} أي : بين الخلائق {الذي كنتم به تكذبون} وقيل : هو أيضاً من كلام بعضهم لبعض وقوله تعالى :
{احشروا} أي : اجمعوا بكره وصغار {الذين ظلموا} أي : ظلموا أنفسهم بالشرك أمر من الله تعالى للملائكة عليهم السلام ، وقيل : أمر من بعضهم لبعض أي : احشروا الظلمة من مقامهم إلى الموقف ، وقيل : منه إلى جهنم {وأزواجهم} أي : وأشباههم عابدوا الصنم مع عبدة الصنم وعابدو الكواكب مع عبدتها كقوله تعالى {وكنتم أزواجاً ثلاثة} (الواقعة : 7)
أي : أشكالاً وأشباهاً ، وقال الحسن : وأزواجهم المشركات ، وقال الضحاك ومقاتل : قرناؤهم من الشياطين وعلى هذا اقتصر الجلال المحلي أي : يقرن كل كافر مع شيطانه في سلسلة {وما كانوا يعبدون من دون الله} أي : غيره في الدنيا من الأوثان والطواغيت زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم ،
455
ومثل الأوثان الذين رضوا بعبادتهم لهم ولم ينكروا عليهم ذلك ويأمروهم بعبادة الله تعالى الذي تفرد بنعوت العظمة وصفات الكمال ، وقال مقاتل : يعني إبليس وجنوده واحتج بقوله تعالى : {أن لا تعبدوا الشيطان} (يس : 60)
{فاهدوهم إلى صراط الجحيم} قال ابن عباس : دلوهم إلى طريق النار ، وقال ابن كيسان : قدموهم ، قال البغوي : والعرب تسمي السائق هادياً ، قال الواحدي : هذا وهم ؛ لأنه يقال : هدى إذا تقدم ومنه الهادية والهوادي وهاديات الوحوش ولا يقال : هدى بمعنى قدم.
{وقفوهم} أي : احبسوهم قال البغوي : قال المفسرون : لما سيقوا إلى النار حبسوا عند الصراط فقيل لهم : قفوهم {إنهم مسؤولون} قال ابن عباس : عن جميع أقوالهم وأفعالهم ، وروي عنه عن لا إله إلا الله ، وقيل : تسألهم خزنة جهنم عليهم السلام {ألم يأتكم نذير} (الملك : 8)
أي : رسل منكم جاؤكم بالبينات {قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} (الزمر : 71) ، وروي عن أبي برزة الأسلمي قال : "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه وعلمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه". وفي رواية و"عن شبابه فيم أبلاه" ، وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفاً يوم القيامة لازماً به وإن دعا رجل رجلاً ثم قرأ {وقفوهم إنهم مسؤولون} ويقال لهم توبيخاً :
جزء : 3 رقم الصفحة : 448
{ما لكم} أي : أي شيء حاصل لكم شغلكم وألهاكم حال كونكم {لا تناصرون} قال ابن عباس : لا ينصر بعضكم بعضاً كما كنتم في الدنيا ، وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر : نحن جميع منتصر ، فقيل لهم يوم القيامة ما لكم لا تناصرون ، وقيل : يقال للكفار ما لشركائكم لا يمنعونكم من العذاب ويقال عنهم : (3/306)
{بل هم اليوم مستسلمون} قال ابن عباس : خاضعون وقال الحسن : منقادون يقال : استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع ، والمعنى : هم اليوم أذلاء منقادون لا حيلة لهم في دفع تلك المضار.
ولما أخبر سبحانه وتعالى عنهم بأنهم سئلوا فلم يجيبوا ربما كان يظن أنهم أخرسوا فنبه على أنهم يتكلمون بما يزيد تكذيبهم فقال عاطفاً على قوله تعالى : {وقالوا يا ويلنا} (الصافات : 20)
{وأقبل بعضهم} أي : الذين ظلموا {على بعض} أي : بعد إيقافهم لتوبيخهم وعبر عن خصامهم تهكماً بقوله تعالى : {يتساءلون} أي : يتلاومون ويتخاصمون.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 456
قالوا} أي : الأتباع منهم للمتبوعين {إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} قال الضحاك : أي : من قبل الدين فتضلوننا عنه ، وقال مجاهد : عن الصراط الحق واليمين عبارة الدين الحق كما أخبر الله تعالى عن إبليس لعنه الله تعالى {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} (الأعراف : 17)
فمن أتاه الشيطان من قبل اليمين أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق واليمين ههنا استعارة عن الخيرات والسعادات ، لأن الجانب الأيمن أفضل من الجانب الأيسر ، قال ابن عادل : لا تباشر الأعمال الشريفة إلا باليمين ويتفاءلون بالجانب الأيسر و"كان صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في شأنه
456
كله" ، وكاتب الحسنات من الملائكة على اليمين ، ووعد الله تعالى المؤمن أن يعطيه الكتاب باليمين ، وقيل : إن الرؤساء كانوا يحلفون للمستضعفين أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم ، وقيل : عن اليمين عن القوة والقدرة كقوله تعالى : {لأخذنا منه باليمين} (الحاقة : 45)
{قالوا} أي : المتبوعون لهم {بل لم تكونوا مؤمنين} أي : وإنما يصدق الإضلال منا أن لو كنتم مؤمنين فرجعتم عن الإيمان إلينا وإنما الكفر من قبلكم.
{وما كان لنا عليكم من سلطان} أي : قوة وقدرة حتى نقهركم ونجبركم على متابعتنا {بل كنتم قوماً طاغين} أي : ضالين مثلنا.
{فحق} أي : وجب {علينا} جميعاً {قول ربنا} أي : كلمة العذاب وهو قوله تعالى {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} (هود : 119)
{إنا} أي : جميعاً {لذائقون} أي : العذاب بذلك القول ونشأ عنه قولهم :
{فأغويناكم} أي : فأضللناكم عن الهدى ودعوناكم إلى ما كنا عليه {إنا كنا غاوين} أي : ضالين فأحببتم أن تكونوا مثلنا ، وفيه إيماء بأن غوايتهم في الحقيقة ليست من قبلهم إذ لو كان كل غواية بإغواء غاوٍ فمن أغوى الأول قال الله تعالى :
{فإنهم} أي : المتبوعين والأتباع {يومئذ} أي : يوم القيامة {في العذاب مشتركون} أي : كما كانوا مشتركين في الغواية.
{إنا} أي : بما لنا من العظمة والقدرة {كذلك} أي : كما نفعل بهؤلاء {نفعل بالمجرمين} غير هؤلاء أي : نعذبهم التابع منهم والمتبوع ثم وصفهم الله تعالى بقوله :
{إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} أي : يتكبرون عن كلمة التوحيد أو عمن يدعوهم إليها.
{ويقولون أئنا} في الهمزتين ما مر {لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون} يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم ثم إن الله تعالى كذبهم في ذلك الكلام بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 456
بل جاء بالحق} أي : الدين الحق {وصدق المرسلين} أي : صدقهم في مجيئهم بالتوحيد فأتى بما أتى به المرسلون من قبله ثم التفت من الغيبة إلى الحضور فقال تعالى :
{إنكم لذائقو العذاب الأليم} ثم كأنه قيل : كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي الغني عن الضر والنفع أن يعذب عباده ؟
فأجاب بقوله تعالى :
{وما تجزون إلا ما كنتم تعملون} أي : جزاء عملكم وقوله تعالى :
{إلا عباد الله المخلصين} أي : المؤمنين استثناء منقطع ، وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام بعد الخاء أي : إن الله تعالى أخلصهم واصطفاهم بفضله ، والباقون بالكسر أي : إنهم أخلصوا الطاعة لله تعالى وقوله :
{أولئك لهم} أي : في الجنة {رزق معلوم} أي : بكرة وعشياً بيان لحالهم وإن لم يكن ثم بكرة ولا عشية فيكون المراد منه معلوم الوقت وهو مقدار غدوة أو عشية ، وقيل : معلوم الصفة أي : مخصوص بصفات من طيب طعم ولذة وحسن منظر ، وقيل معناه : أنهم يتقينون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ومتى ينقطع ، وقيل : معلوم القدر الذي يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله تعالى وقوله :
{فواكه} يجوز أن يكون بدلاً من رزق ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي : ذلك الرزق
457
فواكه وفي الفواكه جمع فاكهة قولان :
أحدهما : أنها عبارة عما يؤكل للتلذذ لا للحاجة وأرزاق أهل الجنة كلها فواكه ؛ لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات فإن أجسامهم محكمة مخلوقة للأبد فكل ما يأكلونه فعلى سبيل التلذذ.
والثاني : أن المقصود بذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى أي : لما كانت الفاكهة حاضرة أبداً كان المأكول للغذاء أولى بالحضور.
{وهم مكرمون} أي : في نيله يصل إليهم من غير تعب وسؤال لا كما عليه رزق الدنيا.
ولما ذكر مأكلهم ذكر مسكنهم بقوله تعالى : (3/307)
{في جنات النعيم} أي : في جنات ليس فيها إلا النعيم وهو متعلق بمكرمون أو خبر ثان لأولئك أو حال من المستكن في مكرمون وقوله تعالى :
{على سرر متقابلين} أي : لا يرى بعضهم قفا بعض حال ، ويجوز أن يتعلق على سرر بمتقابلين ، ولما ذكر سبحانه وتعالى المأكل والمسكن ذكر بعد ذلك صفة المشرب بقوله تعالى :
{يطاف عليهم} أي : على كل منهم {بكأس} أي : بإناء فيه خمر فهو اسم للإناء بشرابه فلا يكون كأساً حتى يكون فيه شراب وإلا فهو إناء ، وقيل : المراد بالكأس : الخمر كقول الشاعر :
*وكأس شربت على لذة ** وأخرى تداويت منها بها
أي : رب كأس شربت لطلب اللذة وكأس شربت للتداوي من خمارها ، والكأس مؤنثة كما قاله الجوهري ، وقوله تعالى {من معين} أي : من شراب معين أو من نهر معين مأخوذ من عين الماء أي : يخرج من العيون كما يخرج الماء وسمي عيناً لظهوره يقال : عان الماء إذا ظهر جارياً وقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 456
بيضاء} أي : أشد بياضاً من اللبن قاله الحسن صفة لكأس ، وقال أبو حيان : صفة لكأس أو للخمر ، واعترض بأن الخمر لم يذكر ، وأجيب عنه : بأن الكأس إنما سميت كأساً إذا كان فيها الخمر وقوله تعالى {لذة} صفة أيضاً وصفه بالمصدر مبالغة كأنها نفس اللذة وعينها كما يقال : فلان جود وكرم إذا كان المراد المبالغة ، وقال الزجاج : أو على حذف المضاف أي : ذات لذة وقوله تعالى {للشاربين} أي : بخلاف خمر الدنيا فإنها كريهة عند الشرب صفة للذة ، وقال الليث : اللذة واللذيذة يجريان مجرى واحد في النعت يقال : شراب لذ ولذيذ وقوله تعالى :
{لا فيها غول} صفة أيضاً ، واختلف في الغول فقال الشعبي أي : لا تغتال عقولهم فتذهب بها وقال الكلبي : معناه الإثم أي : لا إثم فيها ، وقال قتادة : وجع البطن ، وقال الحسن : صداع ، وقال أهل المعاني الغول : فساد يلحق في خفاء يقال : اغتاله اغتيالاً إذا أفسد عليه أمره في خفية ، وخمر الدنيا يحصل منها أنواع الفساد منها السكر وذهاب العقل ووجع البطن والصداع والقيء والبول ولا يوجد شيء من ذلك في خمر الجنة {ولا هم عنها ينزفون} أي : يسكرون ، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الزاي من أنزف الشارب إذا نزف عقله من السكر ، والباقون بفتحها من نزف الشارب نزيفاً إذا ذهب عقله أفرده بالذكر وعطفه على ما يعمه ؛ لأنه من عظم فساده
458
كأنه جنس برأسه.
ولما ذكر تعالى صفة مشروبهم ذكر عقبه صفة منكوحهم بقوله تعالى :
{وعندهم قاصرات الطرف} أي : حابسات الأعين غاضات الجفون قصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم لحسنهم عندهن وقوله تعالى {عين} جمع عيناء وهي الواسعة العين والذكر أعين قال الزجاج : كبار الأعين حسانها يقال : رجل أعين وامرأة عيناء ورجال ونساء عين.
{كأنهن} أي : في اللون {بيض} للنعام {مكنون} أي : مستور بريشه لا يصل إليه غبار ولونه وهو البياض في صفرة يقال : هذا أحسن ألوان النساء تكون المرأة مشربة بصفرة قال ذو الرمة في ذلك :
*بيضاء في ترح صفراء في غنج ** كأنها فضة قد مسها ذهب*
قال المبرد : والعرب تشبه المرأة الناعمة في بياضها وحسن لونها ببيضة النعامة ، وقال بعضهم : إنما شبهت المرأة بها في أجزائها فإن البيضة من أي جهة أتيتها كانت في رأي العين مشبهة للأخرى وهو في غاية المدح وقد لحظ هذا بعض الشعراء فقال :
*تناسبت الأعضاء فيها فلا ترى ** بهن اختلافاً بل أتين على قدر*
ويجمع البيض على بيوض قال الشاعر :
*
جزء : 3 رقم الصفحة : 456
بتيهاء قفر والمطي كأنها ** قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها*
{فأقبل بعضهم} أي : بعض أهل الجنة {على بعض يتساءلون} معطوف على يطاف عليهم أي : يشربون فيتحادثون على الشراب قال القائل :
*وما بقيت من اللذات إلا ** محادثة الكرام على المدام*
وأتى بقوله تعالى : {فأقبل} ماضياً لتحقق وقوعه كقوله تعالى {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} (الأعراف : 44)
وقوله تعالى {يتساءلون} حال من فاعل أقبل وتساؤلهم عن المعارف والفضائل وما جرى لهم وعليهم في الدنيا.
ولما ذكر تعالى أن أهل الجنة يتساءلون عند اجتماعهم على الشراب ويتحدثون كان من جملة كلماتهم أنهم يتذكرون ما كان حصل لهم في الدنيا مما يوجب الوقوع في عذاب الله تعالى ثم إنهم تخلصوا منه وهو ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله :
{قال قائل منهم} أي : من أهل الجنة في الجنة في مكالمتهم {إني كان لي قرين} أي : في الدنيا ينكر البعث.
459
جزء : 3 رقم الصفحة : 456
{يقول أءِنك لمن المصدقين} أي : كان يوبخني على التصديق بالبعث ويقول تعجباً.
{أءذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أءنا لمدينون} أي : مجزيون ومحاسبون من الدين بمعنى الجزاء وهذا استفهام إنكار.(3/308)
تنبيه : اختلف في ذلك القرين فقال مجاهد : كان شيطاناً ، وقيل : كان من الإنس ، وقال مقاتل : كانا أخوين ، وقيل : كانا شريكين حصل لهما ثمانية آلاف دينار فتقاسماها واشترى أحدهما داراً بألف دينار فأراها صاحبه ، وقال : كيف ترى حسنها ؟
فقال : ما أحسنها ثم خرج فتصدق بألف دينار وقال : اللهم إن صاحبي قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني أسألك داراً من دور الجنة ، ثم إن صاحبه تزوج امرأة حسناء بألف دينار ، فتصدق صاحبه بألف دينار لأجل أن يزوجه الله تعالى من الحور العين ، ثم إن صاحبه اشترى بساتين بألفي دينار ، فتصدق هذا بألفي دينار ثم إن الله تعالى أعطاه ما طلبه في الجنة ، وقيل : كان أحدهما كافراً اسمه ينطواوس والآخر مؤمن اسمه يهودا وهما اللذان قص الله تعالى خبرهما في سورة الكهف في قوله تعالى {واضرب لهم مثلاً رجلين} (الكهف : 32)
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 460
قال} أي : ذلك القائل لإخوته {هل أنتم مطلعون} أي : معي إلى النار لننظر حاله فيقولون : لا.
{فاطلع} ذلك القائل من بعض كوى الجنة قال ابن عباس رضي الله عنهما : أن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار {فرآه} أي : رأى قرينه {في سواء الجحيم} أي : وسط النار وإنما يسمى وسط الشيء سواء لاستواء الجوانب منه.
460
{قال} له توبيخاً مقسماً بقوله {تالله إن كدت} أي : قاربت وإن مخففة من الثقيلة {لتردين} أي : لتهلكني بإغوائك إياي بإنكار البعث والقيامة.
{ولولا نعمة ربي} أي : إنعامه علي بالإيمان والهداية والعصمة {لكنت من المحضرين} معك في النار.
تنبيه : أثبت الياء بعد النون في {لتردين} ورش ، والباقون بالتخفيف.
ولما تم الكلام مع قرينه الذي هو في النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة وقال :
{أفما نحن بميتين} وهذا عطف على محذوف أي : أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين أي : ممن شأنه الموت ، وقال بعضهم : إن أهل الجنة لا يعلمون في أول دخولهم الجنة أنهم لا يموتون فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح يقول أهل الجنة للملائكة : أفما نحن بميتين ؟
فتقول الملائكة : لا فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون ، وعلى هذا فالكلام حصل قبل ذبح الموت ، وقيل : إن الذي تكاملت سعادته إذا عظم تعجبه بها يقول ذلك على جهة التحديث بالنعمة التي أنعم الله تعالى بها عليه ، وقيل : يقوله المؤمن لقرينه توبيخاً له بما كان ينكره ، وقوله :
{إلا موتتنا الأولى} منصوب على المصدر والعامل فيه الوصف قبله ويكون استثناء مفرغاً ، وقيل : هو استثناء منقطع أي : لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا وهي متناوله لما في القبر بعد الإحياء للسؤال وهذا قريب في المعنى من قوله تعالى {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} (الدخان : 56)
{وما نحن بمعذبين} هو استفهام تلذذ وتحدث بنعمة الله تعالى من تأبيد الحياة وعدم التعذيب.
{إن هذا} أي : الذي ذكر لأهل الجنة {لهو الفوز العظيم} هو قول أهل الجنة عند فراغهم من هذه المحادثات وقوله تعالى :
{لمثل هذا فليعمل العاملون} قيل : إنه من بقية كلامهم ، وقيل : إنه ابتداء كلام من الله تعالى أي : لنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام السريعة الإنصرام.
ولما ذكر تعالى ثواب أهل الجنة ووصفها وذكر مآكل أهل الجنة ومشاربهم وقال {لمثل هذا فليعمل العاملون} أتبعه بقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 460
أذلك} أي : المذكور لأهل الجنة {خير نزلاً} وهو ما يعد للنازل من ضيف أو غيره {أم شجرة الزقوم} أي : المعدة لأهل النار نزلاً ، وانتصاب نزلاً على التمييز أو الحال وفي ذكره دلالة على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يقدم للنازل ولهم ما وراء ذلك مما تقصر عنه الأفهام ، وكذا الزقوم لأهل النار وهي : اسم شجرة صغيرة الورق زفرة مرة تكون بتهامة ثم سميت به : الشجرة الموصوفة ، وإذا عرف هذا فالحاصل من الرزق المعلوم لأهل الجنة اللذة والسرور وحاصل شجرة الزقوم الألم والغم ، ومعلوم أنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الخيرية إلا أنه جاء هذا الكلام على سبيل السخرية بهم أو لأجل أن المؤمنين لما اختاروا ما أوصلهم إلى الرزق الكريم والكافرون اختاروا ما أوصلهم إلى العذاب الأليم قيل لهم ذلك توبيخاً لهم على اختيارهم.
{إنا} أي : بما لنا من العظمة والقدرة البالغة {جعلناها فتنة} أي : محنة وعذاباً {للظالمين} أي : الكافرين قال الكلبي : في الآخرة وابتلاء في الدنيا لما سمعوا بأنها في النار قالوا : كيف ذلك والنار تحرق الشجر ولم يعلموا أن من قدر على خلق يعيش في النار ويتلذذ بها فهو أقدر على خلقه الشجر في النار وحفظه من الإحراق.
ولما نزلت هذه الآية قال ابن الزبعرى : أكثر الله في بيوتكم الزقوم فإن أهل اليمن يسمون
461(3/309)
التمر والزبد الزقوم ، ثم أدخلهم أبو جهل بيته وقال لجاريته : زقمينا فأتته بزبد وتمر وقال : تزقموا فهذا ما يوعدكم به محمد ، وهذا عناد منه وكذب فإنه من العرب العرباء وهم إنما يطلقونه على شجرة مسمومة يخرج لها لبن متى مس جسم أحد تورم فمات ، والتزقم البلع الشديد للأشياء الكريهة وأما الزبد بالرطب فيسمى : ألوقة قاله ابن الكلبي وأنشد :
*وإني لمن سالمتهم لألوقة ** وإني لمن عاديتهم سم أسود*
ثم إن الله تعالى وصف هذه الشجرة بصفتين : الأولى : قوله تعالى :
{إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم} قال الحسن : أصلها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.
الصفة الثانية قوله تعالى :
{طلعها} أي : ثمرها قال الزمخشري : الطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية أو معنوية قال ابن قتيبة : سمي طلعاً لطلوعه كل سنة فكذلك قيل : طلع النخل لأول ما يخرج من ثمره ثم وصف ذلك الطلع بقوله تعالى : {كأنه رؤوس الشياطين} وفيه وجهان : أحدهما : أنه حقيقة وأن رؤوس الشياطين شجرة معينة بناحية اليمن وتسمى : الأستن قال النابغة :
*
جزء : 3 رقم الصفحة : 460
تحيد عن أستن سود أسافله ** مثل الإماء الغوادي تحمل الحزما*
وهو شجر منكر الصورة مر ، تسميه العرب بذلك تشبيهاً برؤوس الشياطين في القبح ثم صار أصلاً يشبه به ، وقيل : الشياطين صنف من الحيات لهن أعراف قال الراجز :
*عنجرد تحلف حين أحلف ** كمثل شيطان الحماط أعرف*
وقيل : شجرة يقال لها : الصوم ومنه قول ساعدة بن حربة :
*موكل بسروف الصوم يرقبها ** من المعارف محفوظ الحشا ورم*
فعلى هذا خوطب العرب بما تعرفه وهذه الشجرة موجودة فالكلام حقيقة.
والثاني : أنه من باب النخيل والتمثيل ، وذلك أن كل ما يستنكر ويستقبح في الطباع والصورة يشبه بما يتخيله الوهم وإن لم يكن يراه ، والشياطين وإن كانوا موجودين غير مرئيين للعرب إلا أنه خاطبهم بما ألفوه من الاستعارات التخيلية وذلك كقول امرئ القيس :
462
*أيقتلني والمشرفي مضاجعي ** ومسنونة زرق كأنياب أغوال*
ولم ير أنيابها بل ليست موجودة البتة قال الرازي : وهذا هو الصحيح وذلك أن الناس لما اعتقدوا في الملائكة عليهم السلام كمال الفضل في الصورة والسيرة فكما حسن تشبيه يوسف عليه السلام بالملك عند إرادة الكمال والفضيلة في قول النسوة {إن هذا إلا ملك كريم} (يوسف : 31)
فكذلك حسن التشبيه برؤوس الشياطين في القبح وتشويه الخلقة ، ويؤكد هذا أن العقلاء إذا رأوا شيئاً شديد الاضطراب منكر الصورة قبيح الخلقة قالوا : إنه شيطان وإذا رأوا شيئاً حسناً قالوا : إنه ملك من الملائكة ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هم الشياطين بأعيانهم.
{فإنهم} أي : الكفار {لآكلون منها} أي : من الشجرة أو من طلعها {فمالئون منها البطون} والملء حشو الوعاء بما لا يحتمل الزيادة عليه ، فإن قيل : كيف يأكلونها مع نهاية خشونتها ونتنها ومرارة طعمها ؟
أجيب : بأن المضطر ربما استروح من الضرر بما يقاربه في الضرر فإذا جوعهم الله تعالى الجوع الشديد فزعوا إلى إزالة ذلك الجوع بتناول هذا الشيء ، أو يقال : إن الزبانية يكرهونهم على الأكل من تلك الشجرة لعذابهم.
ولما ذكر الله تعالى طعامهم بتلك الشناعة والكراهية وصف شرابهم بما هو أشنع منه بقوله تعالى :
{ثم إن لهم عليها} أي : بعد ما شبعوا منها وغلبهم العطش {لشوباً من حميم} أي : ماء حار يشربونه فيختلط بالمأكول منها فيصير شوباً ، وعطف بثم لأحد معنيين : إما لأنه يؤخر ما يظنونه يرويهم من عطشهم زيادة في عذابهم فلذلك أتى بثم المقتضية للتراخي ، وإما لأن العادة تقتضي تراخي الشرب عن الأكل فعمل على ذلك المنوال ، وأما ملء البطن فيعقب الأكل فلذلك عطف على ما قبله بالفاء قال الزجاج : الشراب اسم عام في كل ما خلط بغيره والشوب الخلط والمزج ومنه شاب اللبن يشوبه أي : خلطه ومزجه.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 460
ثم إن مرجعهم} أي : مصيرهم {لإلى الجحيم} قال مقاتل : أي : بعد أكل الزقوم وشرب الحميم وهذا يدل على أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم وذلك بأن يكون الحميم في موضع خارج عن الجحيم فهم يردون الحميم لأجل الشرب كما ترد الإبل الماء ويدل عليه قوله تعالى {يطوفون بينها وبين حميم آن} (الرحمن : 44)
وقوله تعالى :
{إنهم ألفوا} أي : وجدوا {آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون} تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد قال الفراء : الإهراع الإسراع يقال : هرع وأهرع إذا استحث والمعنى : أنهم يتبعون آباءهم في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم ، وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك من غير توقف على نظر وبحث ، ثم إنه تعالى ذكر لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يسليه في كفرهم وتكذيبهم يقوله سبحانه :
{ولقد ضل قبلهم} أي : قبل قومك {أكثر الأولين} أي : من الأمم الماضية.(3/310)
{ولقد أرسلنا فيهم منذرين} أي : أنبياء أنذروهم من العواقب فبين تعالى أن إرساله الرسل قد تقدم والتكذيب لهم قد سلف فوجب أن يكون له صلى الله عليه وسلم أسوة بهم حتى يصبر كما صبروا ويستمر
463
على الدعاء إلى الله تعالى وإن تمردوا فليس عليه إلا البلاغ ، وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال ، والباقون بالإدغام ثم قال تعالى :
{فانظر كيف كان عاقبة المنذرين} أي : الكافرين كان عاقبتهم العذاب وهذا خطاب وإن كان ظاهره مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن المقصود منه خطاب الكفار ؛ لأنهم سمعوا بالأخبار ما جرى على قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من أنواع العذاب فإن لم يعلموا ذلك فلا أقل من ظن وخوفه يحتمل أن يكون زاجراً لهم عن كفرهم وقوله تعالى :
{إلا عباد الله المخلصين} استثناء من المنذرين استثناء منقطع ؛ لأنه وعيد وهم لا يدخلون في هذا الوعيد ، وقيل : استثناء من قوله تعالى {ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين} والمراد بالمخلصين : الموحدون نجوا من العذاب وتقدمت القراءة في المخلصين ، ثم شرع تعالى في تفصيل القصص بعد إجمالها بقوله تعالى :
{ولقد نادانا نوح} أي : نادى ربه أن ينجيه مع من نجي من الغرق بقوله : رب إني مغلوب فانتصر فأجاب الله تعالى دعاءه وقوله تعالى {فلنعم المجيبون} جواب قسم مقدر أي : فوالله ومثله : لعمري لنعم السيدان وجدتما ، والمخصوص بالمدح محذوف أي : نحن أجبنا دعاءه وأهلكنا قومه.
{ونجيناه وأهله من الكرب العظيم} أي : من الغرق وأذى قومه وهذه الإجابة كانت من النعم العظيمة وذلك من وجوه أولها : أنه تعالى عبر عن ذاته بصيغة الجمع فقال : {ولقد نادانا نوح} فالقادر العظيم لا يليق به إلا الإحسان العظيم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 460
وثانيها : أنه تعالى أعاد صيغة الجمع فقال تعالى {فلنعم المجيبون} وفي ذلك أيضاً ما يدل على تعظيم تلك النعمة لا سيما وقد وصف الله تعالى تلك الإجابة بأنها نعمت الإجابة.
وثالثها : أن الفاء في قوله تعالى {فلنعم المجيبون} تدل على أن حصول تلك الإجابة مرتب على ذلك النداء وهذا يدل على أن النداء بالإخلاص سبب لحصول الإجابة وقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 460
{وجعلنا ذريته هم الباقين} يفيد الحصر ، وذلك يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته قد فنوا فالناس كلهم من نسله عليه السلام قال ابن عباس رضي الله عنه : ذريته بنوه الثلاثة سام وحام ويافث ، فسام أبو العرب وفارس وحام أبو السودان ويافث أبو الترك والخزرج ويأجوج ومأجوج وما هنالك قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما خرج نوح من السفينة مات كل من كان معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءهم.
{وتركنا عليه في الآخرين} أي : أبقينا له ثناء حسناً وذكراً جميلاً فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة ، وقيل : أن نصلي عليه إلى يوم القيامة وقوله تعالى :
{سلام على نوح} مبتدأ وخبر وفيه أوجه أحدها : أنه مفسر لتركنا ، والثاني : أنه مفسر لمفعوله أي : تركنا عليه ثناء وهو هذا الكلام ، وقيل : ثم قول مقدر أي : فقلنا سلام وقيل : ضمن تركنا معنى قلنا ، وقيل : سلط تركنا على ما بعده {في العالمين} متعلق بالجار والمجرور ومعناه الدعاء بثبوت هذه التحية في الملائكة والثقلين جميعاً وقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 464
إنا كذلك نجزي المحسنين} تعليل لما فعل بنوح عليه السلام من التكرمة بأنه مجازاة له أي : إنما خصصناه بهذه التشريفات الرفيعة من جعل الدنيا مملوءة من ذريته ومن ترقية ذكره
464
الحسن في ألسنة العالمين لأجل كونه محسناً وقوله تعالى :
{إنه من عبادنا المؤمنين} تعليل لإحسانه بالإيمان إظهاراً لجلالة قدره وأصالة أمره.
{ثم أغرقنا الآخرين} كفار قومه.
القصة الثانية : قصة إبراهيم عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
{وإن من شيعته} أي : ممن شايعه في الإيمان وأصول الشريعة {لإبراهيم} ولا يبعد اتفاق شرعهما في الفروع أو غالباً ، وقال الكلبي : الضمير يعود على محمد صلى الله عليه وسلم أي : وإن من شيعة محمد صلى الله عليه وسلم لإبراهيم عليه الصلاة السلام والشيعة قد تطلق على المتقدم كقول القائل :
*ومالي إلا آل أحمد شيعة ** وما لي إلا مذهب الحق مذهب"*
فجعل آل أحمد وهم متقدمون عليه وهو تابع لهم شيعة له قاله الفراء ، والمعروف أن الشيعة تكون في المتأخر قالوا : كان بين نوح وإبراهيم نبيان هود وصالح ، وروى الزمخشري : أنه كان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة وفي العامل في قوله تعالى : (3/311)
{إذ جاء ربه} وجهان أحدهما : اذكر مقدراً وهو المعروف ، والثاني : قال الزمخشري : ما في معنى الشيعة من معنى المشايعة يعني : وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه ورد هذا أبو حيان قال : لأن فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وهو لإبراهيم ؛ لأنه أجنبي من شيعته ومن إذ ، واختلف في قوله عز وجل {بقلب سليم} فقال مقاتل والكلبي : المعنى أنه سليم من الشرك ؛ لأنه أنكر على قومه الشرك ، وقال الأصوليون : معناه أنه عاش ومات على طهارة القلب من كل معصية وقوله تعالى :
{إذا قال لأبيه وقومه} بدل من إذ الأولى أو ظرف لسليم أو لجاء وقوله تعالى لهم : {ماذا} أي : ما الذي {تعبدون} استفهام توبيخ تهجين لتلك الطريقة تقبيحها وفي قوله :
{أئفكا آلهة دون الله تريدون} أوجه من الإعراب أحدها : أنه مفعول من أجله أي : أتريدون آلهة دون الله إفكاً فآلهة مفعول به ودون ظرف لتريدون وقدمت معمولات الفعل اهتماماً بها وحسنه كون العامل رأس فاصلة ، وقدم المفعول من أجله على المفعول به اهتماماً به ؛ لأنه مكافح لهم بأنهم على إفك وباطل وبهذا الوجه بدأ الزمخشري ، الثاني : أن يكون مفعولاً به بتريدون ويكون آلهة بدلاً منه جعلها نفس الإفك مبالغة فأبدلها منه وفسره بها واقتصر على هذا ابن عطية ، الثالث : أنه حال من فاعل تريدون أي : أتريدون آلهة آفكين أو ذوي إفك ، وإليه نحا الزمخشري ، واعترضه أبو حيان بأن جعل المصدر حالاً لا يطرد إلا مع نحو أما علماً فعالم ، والإفك أسوأ الكذب.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 464
فما ظنكم} أي : أتظنون {برب العالمين} أنه جوز جعل هذه الجمادات مشاركة له في العبودية أو تظنون برب العالمين أنه من جنس هذه الأجسام حتى جعلتموها مساوية له في العبودية فنبههم بذلك على أنه ليس كمثله شيء ، أو فما ظنكم برب العالمين إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره أنه يترككم بلا عذاب لا ، وكانوا نجامين فخرجوا إلى عيد لهم وتركوا طعامهم عند أصنامهم زعموا
465
التبرك عليه فإذا رجعوا أكلوه وقالوا للسيد إبراهيم عليه الصلاة والسلام : اخرج.
{فنظر نظرة في النجوم} إيهاماً لهم أنه يعتمد عليها فيتبعوه.
{فقال إني سقيم} أي : عليل وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة وأراد أن يتخلف عنهم ليبقى خالياً في بيت الأصنام فيقدر على كسرها. فإن قيل : النظر في علم النجوم غير جائز فكيف قدم إبراهيم عليه السلام عليه وأيضاً لم يكن سقيماً فكيف أخبرهم بخلاف حاله ؟
أجيب عن ذلك : بأنا لا نسلم أن النظر في علم النجوم والاستدلال بها حرام ؛ لأن من اعتقد أن الله تعالى خص كل واحد من هذه الكواكب بطبع وخاصة لأجلها يظهر منه أثر مخصوص فهذا العلم على هذا الوجه ليس بباطل وأما الكذب فغير لازم ؛ لأن قوله {إني سقيم} على سبيل التعريض بمعنى أن الإنسان لا ينفك في أكثر أحواله عن حصول حالة مكروهة إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سقم ، وعلى تقدير تسليم ذلك أجيب بأوجه :
أحدها : أن نظره في النجوم أو في أوقات الليل والنهار وكانت تأتيه الحمى في بعض ساعات الليل والنهار ، فنظر ليعرف هل هي تلك الساعة فقال {إني سقيم} فجعله عذراً في تخلفه عن العيد الذي لهم فكان صادقاً فيما قال ؛ لأن السقم كان يأتيه في ذلك الوقت.
ثانيها أنهم كانوا أصحاب النجوم أي : يعلمونها ويقضون بها على أمورهم ، فلذلك نظر إبراهيم في النجوم أي : في علم النجوم كما تقول : نظر فلان في الفقه أي : في علم الفقه فأراد إبراهيم أن يوهمهم أنه نظر في عملهم وعرف منه ما يعرفونه حتى إذا قال لهم {إني سقيم} سكنوا إلى قوله ، وأما قوله {إني سقيم} فمعناه سأسقم كقوله تعالى {إنك ميت} (الزمر : 30)
أي : ستموت.
ثالثها : أن نظره في النجوم هو قوله تعالى {فلما جن عليه الليل رأى كوكباً} إلخ الآيات (الأنعام : 76)
فكان نظره ليتعرف هذه الكواكب هل هي قديمة أو حادثة وقوله {إني سقيم} أي : سقيم القلب غير عارف بربي وكان ذلك قبل بلوغه.
رابعها : قال ابن زيد : كان له نجم مخصوص وكلما طلع على صفة مخصوصة مرض إبراهيم فلهذا الاستقراء لما رآه في تلك الحالة المخصوصة قال {إني سقيم} أي : هذا السقم واقع لا محالة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 464
خامسها : أن قوله {إني سقيم} أي : مريض القلب بسبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر والشرك كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم {فلعلك باخع نفسك} (الكهف : 6)(3/312)
سادسها : قال الرازي : قال بعضهم : ذلك القول من إبراهيم عليه السلام كذبة وأوردوا فيه حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات" قلت : ولبعضهم هذا الحديث لا ينبغي أن ينقل ؛ إذ فيه نسبة الكذب إلى إبراهيم عليه السلام فقال ذلك الرجل : فكيف نحكم بكذب الراوي العدل ؟
فقلت له : لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبة الكذب إلى الخليل كان من المعلوم بالضرورة أن نسبة الكذب إلى الراوي أولى ، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله {فنظر نظرة في النجوم} أي : نجوم كلامهم ومتفرقات أقوالهم فإن الأشياء التي تحدث قطعة قطعة
466
يقال : إنها منجمة أي : مفرقة ومنه نجوم المكاتب والمعنى : أنه لما سمع كلماتهم المتفرقة نظر فيها حتى يستخرج منها حيلة يقدر بها على إقامة عذر لنفسه في التخلف عنهم فلم يجد عذراً أحسن من قوله : {إني سقيم} والمراد : أنه لا بد من أن يصير سقيماً كما تقول لمن رأيته يتجهز للسفر إنك مسافر.
ولما قال : {إني سقيم} تولوا عنه كما قال تعالى :
{فتولوا عنه} أي : إلى عيدهم {مدبرين} أي : هاربين مخافة العدوى وتركوه وعذروه في عدم الخروج إلى عيدهم.
{فراغ} أي : مال في خفية وأصله من روغان الثعلب وهو تردده وعدم ثبوته بمكان ولا يقال : راغ حتى يكون صاحبه مخفياً لذهابه ومجيئه {إلى آلهتهم} وعندها الطعام {فقال} استهزاء بها {ألا تأكلون} أي : الطعام الذي كان بين أيديهم فلم ينطقوا فقال استهزاء بها أيضاً :
{ما لكم لا تنطقون} فلم تجب.
{فراغ عليهم} أي : مال عليهم مستخفياً وقوله تعالى {ضرباً} مصدر واقع موقع الحال أي : فراغ عليهم ضارباً أو مصدر لفعل ، وذلك الفعل حال تقديره فراغ يضرب ضرباً وقوله تعالى : {باليمن} متعلق بضرباً إن لم نجعله مؤكداً وإلا فبعامله ، واليمين يجوز أن يراد بها إحدى اليدين وهو الظاهر ، وأن يراد بها القوة واقتصر عليه الجلال المحلي فالباء على هذا للحال أي : متلبساً بالقوة وأن يراد بها الحلف وفاء بقوله {وتالله لأكيدن أصنامكم} (الأنبياء : 57)
والباء على هذا للسبب وعدى راغ الثاني بعلى لما كان مع الضرب المستولي من فوقهم إلى أسفلهم بخلاف الأول فإنه مع توبيخ لهم ، وأتى بضمير العقلاء في قوله تعالى : {عليهم ضرباً} على ظن عبدتها أنها كالعقلاء ثم إنه عليه السلام كسرها فبلغ قومه من ورائه ذلك.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 464
فأقبلوا إليه} أي : إلى إبراهيم بعدما رجعوا فرأوا أصنامهم مكسرة {يزفون} أي : يسرعون المشي ، وقرأ حمزة بضم الياء على البناء للمفعول من أزفه أي : يحملون على الزفيف ، والباقون بفتحها من زف يزف فقالوا : نحن نعبدها وأنت تكسرها.
{قال} لهم توبيخاً {أتعبدون ما تنحتون} أي : من الحجارة وغيرها أصناماً.
{والله خلقكم وما تعملون} أي : نحتكم ومنحوتكم فاعبدوه وحده.
تنبيه : دلت هذه الآية على مذهب الأشعرية وهو أن فعل العبد مخلوق لله عز وجل وهو الحق وذلك ؛ لأن النحويين اتفقوا على أن لفظ ما مع ما بعده في تقدير المصدر فقوله تعالى {وما تعملون} معناه وعملكم وعلى هذا فيصير معنى الآية : والله خلقكم وخلق عملكم.
ولما أورد عليهم الحجة القوية ولم يقدروا على الجواب عدلوا إلى طريقة الإيذاء لئلا يظهر للعامة عجزهم بأن :
{قالوا ابنوا له بنياناً} قال ابن عباس رضي الله عنهما : بنوا حائطاً من الحجر طوله في السماء ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرون ذراعاً وملؤوه ناراً فطرحوه فيها وذلك هو قوله تعالى {فألقوه في الجحيم} وهي النار العظيمة قال الزجاج : كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم.
{فأرادوا به كيداً} أي : شراً بإلقائه في النار لتهلكه {فجعلناهم الأسفلين} أي : المقهورين الأذلين بإبطال كيدهم وجعلنا ذلك برهاناً نيراً على علو شأنه حيث جعلنا النار عليه برداً وسلاماً وخرج منها سالماً.
{وقال إني ذاهب إلى ربي} أي : إلى حيث أمرني ربي ونظيره قوله تعالى {وقال إني مهاجر
467
إلى ربي} (العنكبوت : 26)
أي : مهاجر إليه من دار الكفر {سيهدين} أي : إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي وهو الشام ، وإنما بتّ القول لسبق وعده ولفرط توكله أو للبناء على عادته تعالى معه ولم يكن كذلك حال موسى عليه السلام حيث قال {عسى ربي أن يهديني سواء السبيل} (القصص : 22)
فلذلك ذكر بصيغة التوقع.
ولما وصل إلى الأرض المقدسة قال :
{رب هب لي من الصالحين} أي : هب لي ولداً صالحاً يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة ؛ لأن لفظ هب غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هرون نبياً} (مريم : 53)
قال الله تعالى :
{فبشرناه بغلام حليم} أي : ذي حلم كثير في كبره غلام في صغره ، ففيه بشارة بأنه ابن وأنه يعيش وينتهي إلى سن يوصف بالحلم وأي حلم أعظم من أنه عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق فقال : {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} (الصافات : 102)
جزء : 3 رقم الصفحة : 464(3/313)
وقيل : ما وصف الله تعالى نبياً بالحلم لعزة وجوده غير إبراهيم وابنه اسماعيل عليهما الصلاة والسلام وحالتهما المذكورة تشهد عليه.
{فلما بلغ معه السعي} أي : أن يسعى معه قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة : بلغ معه السعي إي المشي معه إلى الجبل وقال مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما : ما شب حتى بلغ سعيه بسعي إبراهيم والمعنى : بلغ أن يتصرف معه وأن يعينه في عمله ، وقال الكلبي : يعني العمل لله تعالى وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة ، وقيل : سبع سنين.
تنبيه : معه متعلق بمحذوف على سبيل البيان كأن قائلاً قال : مع من بلغ السعي ؟
فقيل : مع أبيه ولا يجوز تعلقه ببلغ ؛ لأنه يقتضي بلوغهما معاً حد السعي ولا يجوز تعلقه بالسعي ؛ لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه.
وقوله تعالى {قال يا بني إني أرى} أي : رأيت {في المنام أني أذبحك} يحتمل أنه رأى ذلك وأنه رأى ما هو تعبيره ، وقيل : إنه رأى في ليلة التروية في منامه كأن قائلاً يقول له : إن الله تعالى يأمرك بذبح ابنك ، فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح إلى الرواح أمن الله أم من الشيطان ؟
فمن ثم سمى يوم التروية فلما أمسى رأى أيضاً مثل ذلك فعرف أنه من الله تعالى فسمي يوم عرفة ثم رأي مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر ، وهذا قول أكثر المفسرين ، وهو يدل على أنه رأى في المنام ما يوجب أن يذبح ابنه في اليقظة وعلى هذا فتقدير اللفظ : أرى في المنام ما يوجب أني أذبحك.
تنبيه : اختلف في الذبيح فقيل : هو اسحق عليه السلام وبه قال : عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وغيرهم ، وقيل : إسماعيل وبه قال ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم وغيرهم وهو الأظهر كما قاله البيضاوي ؛ لأنه الذي وهب له أثر الهجرة ولأن البشارة بإسحق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام ولقوله صلى الله عليه وسلم "أنا ابن الذبيحين". وقال له أعرابي : يا ابن الذبيحين فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم فسئل عن ذلك فقال : إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر إن سهل الله
468
أمرها ليذبحن أحد ولده فخرج السهم على عبد الله ، فمنعه أخواله وقالوا له : افد ابنك بمائة من الإبل ولذلك سنت الإبل مائة والذبيح الثاني إسماعيل ، ونقل الأصمعي أنه قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال : يا أصمعي أين عقلك ومتى كان إسحاق بمكة ؟
وإنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة.
وقد وصف الله تعالى إسماعيل عليه السلام بالصبر دون إسحاق عليه السلام في قوله تعالى {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين} (الأنبياء : 85)
جزء : 3 رقم الصفحة : 464
وهو صبره على الذبح ووصفه أيضاً بصدق الوعد فقال : {إنه كان صادق الوعد} (مريم : 54)
لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فقال {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} (الصافات : 102)
وقال تعالى : {فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب} (هود : 71)
فكيف تقع البشارة بإسحاق وأنه سيولد له يعقوب ثم يؤمر بذبح إسحاق وهو صغير قبل أن يولد له ؟
هذا يناقض البشارة المتقدمة.
وقال الإمام أحمد بن حنبل : الصحيح أن الذبيح إسماعيل عليه السلام وعليه جمهور العلماء من الخلف والسلف قال ابن عباس : وزعمت اليهود أنه اسحق عليه السلام وكذبت اليهود وما روي أنه صلى الله عليه وسلم "سئل أي النسب أشرف ؟
فقال : يوسف صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله" فالصحيح أنه قال : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم والزوائد من الراوي ، وما روي أن يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك لم يثبت وقال محمد بن إسحاق : كان إبراهيم عليه السلام إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام حتى بلغ إسماعيل معه السعي أمر في المنام أن يذبحه قال مقاتل : رأى ذلك إبراهيم عليه السلام ثلاث ليال متتابعات فلما تيقن ذلك قال لابنه {فانظر ماذا ترى} من الرأي : فشاوره ليأنس بالذبح وينقاد للأمر به قال ابن اسحق وغيره ولما أمر إبراهيم بذلك قال لابنه : يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق إلى هذا الشعب نحتطب فلما خلا إبراهيم بابنه في الشعب شعب ثبير أخبره بما أمر. {قال يا أبت افعل ما تؤمر} أي : ما أمرت به {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} أي : على ذلك ، وقرأ {يا بني} حفص بفتح الياء ، والباقون بالكسر ، وقرأ {إني أرى} نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء ، والباقون بالسكون ، وقرأ {ماذا ترى} حمزة والكسائي بضم التاء وكسر الراء ، والباقون بفتحهما والحكمة في مشاورته في هذا الأمر ليظهر له صبره في طاعة الله تعالى فيكون فيه قرة عين لإبراهيم حيث يراه قد بلغ في الحكمة إلى هذا الحد العظيم والصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالية ويحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة والثناء الحسن في الدنيا.(3/314)
وقرأ يا أبت ابن عامر في الوصل بفتح التاء ، وكسرها الباقون والتاء عوض عن ياء الإضافة ، ووقف عليها بالهاء ابن كثير وابن عامر ، ووقف الباقون بالتاء والرسم بالتاء وفتح ياء ستجدني في الوصل نافع ، وسكنها الباقون.
جزء : 3 رقم الصفحة : 464
469
{فلما أسلما} أي : انقادا وخضعا لأمر الله ، وقال قتادة : أسلم إبراهيم ابنه وأسلم الابن نفسه {وتله للجبين} أي : صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض وهو أحد جانبي الجبهة ، والجبهة بين الجبينين وشذ جمعه على أجبن ، وقياسه في القلة أجبنة كأرغفة وفي الكثرة جبن وجبنان كرغيف ورغف ورغفان ، وقيل : إنه لما أراد ذبحه قال : يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب فينقص أجري ، واكفف عني ثيابي حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء وتراه أمي فتحزن حزناً طويلاً ، واشحذ شفرتك وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون علي فإن الموت شديد ، وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني ، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسلى لها عني فقال له إبراهيم : نعم العون أنت يا بني على أمر الله تعالى ففعل إبراهيم ما أمر به ابنه ، ثم أقبل عليه يقبله وقد ربطه وهو يبكي والابن يبكي ثم إنه وضع السكين على حلقه فلم تجل شيئاً ثم أنه شحذها مرتين أو ثلاثاً بالحجر كل ذلك لا يستطيع أن يقطع شيئاً ، قال السدي : ضرب الله تعالى صفيحة من نحاس على حلقه قال : فقال الإبن عند ذلك يا أبت كبني على وجهي لجبيني فإنك إذا نظرت في وجهي رحمتني وأدركتك رحمة تحول بينك وبين أمر الله وأنا لا أنظر الشفرة فأجزع ، ففعل ذلك إبراهيم ووضع السكين على قفاه فانقلبت السكين.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 469
وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا} أي : بالعزم والإتيان بالمقدمات ما أمكنك.
تنبيه : في جواب لما ثلاثة أوجه أظهرها : أنه محذوف ، أي : نادته الملائكة عليهم السلام أو ظهر صبرهما أو أجزلنا لهما أجرهما ، وقدره بعضهم بعد الرؤيا كان ما كان مما ينطق به الحال والوصف مما لا يدرك كنهه.
470
ونقل ابن عطية أن التقدير : فلما أسلما سلما وتله للجبين ويعزى هذا لسيبويه وشيخه الخليل.
الثاني : أنه وتله للجبين والواو زائدة ، وهو قول الكوفيين والأخفش ، الثالث : أنه وناديناه والواو زائدة أيضاً واقتصر على هذا الجلال المحلي ، وروى أبو هريرة عن كعب الأحبار : أن إبراهيم عليه السلام لما رأى ذبح ولده قال الشيطان : لئن لم أفتن آل إبراهيم عند هذا لم أفتن أحداً منهم أبداً فتمثل الشيطان في صورة رجل وأتى أم الغلام وقال : هل تدرين أين يذهب إبراهيم بابنك ؟
قالت : ذهب به يحتطبان من هذا الشعب قال : والله ما ذهب به إلا ليذبحه ، قالت : كلا هو أرحم به وأشد حباً له من ذلك ، قال : إنه يزعم أن الله أمره بذلك ، قالت : فإن كان ربه أمره بذلك فقد أحسن إن يطيع ربه ، فخرج من عندها الشيطان ، ثم أدرك الابن وهو يمشي على إثر أبيه فقال له : يا غلام هل تدري أين يذهب بك أبوك ؟
قال : نحتطب لأهلنا من هذا الشعب قال : والله ما يريد إلا أن يذبحك ، قال : ولم ؟
قال : زعم أن ربه أمره ، قال : فليفعل ما أمره به ربه فسمع وطاعة ، فلما امتنع منه الغلام أقبل على إبراهيم فقال له : أين تريد أيها الشيخ ؟
قال : أريد هذا الشعب لحاجة لي فيه ، قال : والله إني لأرى الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك بذبح ولدك هذا ، فعرفه إبراهيم فقال : إليك عني يا عدو الله فوالله لأمضين لأمر ربي فرجع إبليس بغيظه لم يصب من إبراهيم وآله شيئاً كما أراد الله عز وجل.
وروى أبو الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنه : أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أمر بذبح ابنه عرض له الشيطان بهذا المشعر فسابقه فسبقه إبراهيم ثم ذهب إلى جمرة العقبة ، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم مضى إبراهيم لأمر الله تعالى فنودي من الجبل أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.
فإن قيل : لم قال تعالى : {قد صدقت الرؤيا} وكان قد رأى الذبح ولم يذبح ؟
أجيب : بأنه جعله مصدقاً لأنه قد أتى بما أمكنه والمطلوب استسلامهما لأمر الله تعالى وقد فعل ، ا وقيل : كان قد رأى في النوم معالجة الذبح ولم ير إراقة الدم وقد فعل في اليقظة ما رآه في النوم ، ولذلك قال : {قد صدقت الرؤيا} قال المحققون : السبب في هذا التكليف كمال طاعة إبراهيم لتكاليف الله تعالى فلما كلفه الله تعالى بهذه التكاليف الشاقة الشديدة وظهر منه كمال الطاعة والانقياد لا جرم قال الله تعالى : {قد صدقت الرؤيا} وقوله تعالى : {إنا كذلك نجزي المحسنين} ابتداء إخبار من الله تعالى ، والمعنى : إنا كما عفونا عن ذبح ولدك كذلك نجزي من أحسن في طاعتنا ، قال مقاتل : جزاء الله تعالى بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ابنه.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 469(3/315)
إن هذا} أي : الذبح المأمور به {لهو البلاء المبين} أي : الاختبار الظاهر الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم ، والمحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها وقال مقاتل : البلاء ههنا النعمة وهو أن فدى ابنه بالكبش كما قال تعالى :
{وفديناه} أي : المأمور بذبحه وهو إسماعيل وهو الأظهر ، وقيل : إسحق {بذبح عظيم} أي : عظيم الجثة سمين أو عظيم القدر ؛ لأن الله تعالى فدى به نبياً ابن نبي وأي نبي من نسله سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام ، وهو كبش أتى به جبريل عليه السلام من الجنة وهو الذي قربه هابيل ، فقال لإبراهيم : هذا فدا ولدك فاذبحه دونه ، فكبر إبراهيم وكبر ولده ، وكبر جبريل وكبر الكبش وأخذ إبراهيم الكبش ، وأتى به المنحر من منى فذبحه ، قال
471
البغوي : قال أكثر المفسرين : كان ذلك الذبح كبشاً رعى في الجنة أربعين خريفاً ، وقيل : كان وعلاً أهبط عليه من ثبير ، وروي أنه هرب منه عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فصارت سنة.
تنبيه : الذبح مصدر ويطلق على ما يذبح وهو المراد في هذه الآية.
{وتركنا عليه في الآخرين} ثناء حسناً ، وقوله تعالى : {سلام} أي : منا {على إبراهيم} سبق بيانه في قصة نوح عليهما السلام.
{كذلك} أي : كما جزيناك {نجزي المحسنين} لأنفسهم ، وقوله تعالى :
{إنه من عبادنا المؤمنين} تعليل لإحسانه بالإيمان إظهاراً لجلالة قدره وأصالة أمره وقوله تعالى :
{وبشرناه بإسحق} فيه دليل على أن الذبيح غيره ، وقد مرت الإشارة إلى ذلك ، وقوله تعالى {نبياً} حال مقدرة أي : يوجد مقدراً نبوته ، وقوله تعالى : {من الصالحين} يجوز أن يكون صفة لنبياً وأن يكون حالاً من الضمير في نبياً فتكون حالاً متداخلة ، ويجوز أن تكون حالاً ثانية ومن فسر الذبيح بإسحق عليه السلام جعل المقصود من البشارة نبوته ، وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه وإيماء بأنه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل.
{وباركنا عليه} أي : على إبراهيم عليه السلام بتكثير ذريته {وعلى إسحق} بأن أخرجنا من صلبه أنبياء بني إسرائيل وغيرهم كأيوب وشعيب عليهم السلام فجميع الأنبياء بعده من صلبه إلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فإنه من ذرية إسماعيل عليه السلام وفيه إشارة إلى أنه مفرد علم فهو صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. {ومن ذريتهما محسن} أي : مؤمن طائع {وظالم} أي : كافر وفاسق {لنفسه مبين} أي : ظاهر ظلمه ، وفي ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال وأن الظلم في أعقابهما لا يعود عليهما بنقيصة وعيب ولا غير ذلك والله أعلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 469
القصة الثالثة : قصة موسى وهارون عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى :
{ولقد مننا على موسى وهرون} أي : أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية.
{ونجيناهما وقومهما} أي : بني إسرائيل {من الكرب} أي : الغم {العظيم} أي : الذي كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم ، وقيل : من الغرق ، والضمير في قوله تعالى :
{ونصرناهم} يعود على موسى وهارون وقومهما ، وقيل : على الإثنين بلفظ الجمع تعظيماً كقوله تعالى {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} (الطلاق : 1)
وقول الشاعر :
فإن شئت حرمت النساء سواكم.
{فكانوا هم الغالبين} أي : على فرعون وقومه في كل الأحوال ، أما في أول الأمر فبظهور الحجة ، وأما في آخر الأمر فبالدولة والرفعة.
تنبيه : يجوز في هم أن يكون تأكيداً ، وأن يكون بدلاً ، وأن يكون فصلاً وهو الأظهر.
{وآتيناهما الكتاب المستبين} أي : المستنير البليغ البيان المشتمل على جميع العلوم
472
المحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا وهو التوراة كما قال تعالى : {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور} (المائدة : 44)
{وهديناهما الصراط المستقيم} أي : دللناهما على الطريق الموصل إلى الحق والصواب عقلاً وسمعاً.
{وتركنا} أي : أبقينا {عليهما} ثناء حسناً {في الآخرين} {سلام} أي : منا {على موسى وهارون} {إنا كذلك} أي : كما جزيناهما {نجزي المحسنين} وقوله تعالى :
{إنهما من عبادنا المؤمنين} تعليل لإحسانهما بالإيمان وإظهار لجلالة قدره وأصالة أمره.
القصة الرابعة قصة الياس عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
{وإن الياس لمن المرسلين} روي عن ابن مسعود أنه قال : الياس هو إدريس ، وهو قول عكرمة وقال أكثر المفسرين : إنه نبي من أنبياء بني إسرائيل ، قال ابن عباس : وهو ابن عم اليسع عليهما السلام ، وقال محمد بن إسحاق : هو إلياس بن بشير بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران عليهما السلام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 469(3/316)
تنبيه : أذكر فيه شيئاً من قصته عليه السلام قال علماء السير والأخبار : لما قبض الله تعالى حزقيل النبي عليه السلام عظمت الأحداث في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد والشرك ونصبوا الأصنام وعبدوها من دون الله عز وجل ، فبعث الله تعالى إليهم إلياس نبياً وكانت الأنبياء من بني إسرائيل يبعثون بعد موسى عليه السلام بتجديد ما نسوا من أحكام التوراة ، وبنو إسرائيل كانوا متفرقين في أرض الشام وكان سبب ذلك أن يوشع بن نون عليه السلام لما فتح الشام قسمها على بني إسرائيل وأحل سبطاً منها ببعلبك ونواحيها وهم السبط الذين كان منهم الياس ، فبعثه الله تعالى إليهم نبياً وعليهم يومئذ ملك اسمه لاجب وكان أضل قومه وجبرهم على عبادة الأصنام ، وكان لهم صنم طوله عشرون ذراعاً وله أربعة وجوه وكان يسمى : ببعل وكانوا قد فتنوا به وعظموه وجعلوا له أربعمائة سادن أي : خادم ، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها عنه ويبلغونها الناس وهم أهل بعلبك ، وكان الياس يدعوهم إلى عبادة الله وهم لا يسمعون له ولا يؤمنون به إلا ما كان من أمر الملك فإنه آمن به وصدقه ، فكان إلياس يقوم بأمره ويسدده ويرشده وكان للملك امرأة تسمى : بإزميل جبارة وكان يستخلفها على ملكه إذا غاب عنهم في غزاة أو غيرها ، وكانت تبرز للناس فتقضي بينهم وكانت قتالة للأنبياء ، ويقال : إنها هي التي قتلت يحيى بن زكريا عليهما السلام ، وكان له كاتب رجل مؤمن حليم يكتم إيمانه وكان قد خلص من يدها ثلثمائة نبي كانت تريد قتلهم إذا بعث كل واحد منهم سوى الذين قتلتهم وكانت في نفسها غير محصنة ، وكانت قد تزوجت سبعة من ملوك بني إسرائيل وقتلتهم كلهم بالاغتيال وكانت معمرة يقال : إنها ولدت سبعين ولداً ، وكان لاجب هذا جار رجل صالح يقال له : مزدكي ، وكان له جنينة يعيش منها وكانت الجنينة إلى جانب قصر الملك وامرأته ، وكانا يشرفان عليها يتنزهان فيها ويأكلان ويشربان ويقيلان فيها ، وكان الملك يحسن جوار صاحبها مزدكي ويحسن إليه ، وامرأته إزميل تحسده لأجل تلك الجنينة وتحتال أن تغصبها منه لما تسمع الناس يكثرون ذكرها ويتعجبون من حسنها وتحتال أن تقتله ، والملك ينهاها عن ذلك فلا تجد عليه سبيلاً ، ثم أنه اتفق خروج الملك إلى مكان بعيد وطالت غيبته فاغتنمت امرأته إزميل ذلك فجمعت جمعاً من الناس وأمرتهم أنهم يشهدون على مزدكي أنه سب زوجها لاجب فأجابوها إليه وكان في حكمهم في ذلك الزمان القتل على من سب الملك إذا قامت عليه البينة ، فأحضرت مزدكي وقالت له : بلغني أنك شتمت الملك فأنكر فأحضرت الشهود فشهدوا عليه
473
جزء : 3 رقم الصفحة : 469(3/317)
بالزور فأمرت بقتله وأخذت جنينته ، فلما قدم الملك من سفره أخبرته الخبر فقال لها : ما أصبت ولا أبداً نفلح بعده فقد جاورنا منذ زمان فأحسنا جواره وكففنا عنه الأذى لوجوب حقه علينا فختمت أمره بأسوء الجوار قالت : إنما غضبت لك وحكمت بحكمك فقال لها : أوما كان يسعه حلمك فتحفظين جواره ؟
قالت : قد كان ما كان فبعث الله إلياس إلى لاجب الملك ، وأمره الله أن يخبرهم أن الله تعالى قد غضب عليهم لوليه حين قتلوه ظلماً وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنيعهما ويردا الجنينة على ورثة مزدكي أن يهلكهما ، يعني : لاجب وامرأته في جوف الجنينة ، ثم يضعهما جثتين ملقيين فيها حتى تتفرق عظامهما من لحومهما ولا يتمتعان بها إلا قليلاً ، فجاء إلياس فأخبر الملك بما أوحى الله في أمره وأمر امرأته والجنينة ، فلما سمع الملك ذلك اشتد غضبه عليه ، وقال : يا إلياس والله ما أرى ما تدعونا إليه إلا باطلاً ، وهم بتعذيبه وقتله ، فلما أحس إلياس بالشر رفضه وخرج عنه هارباً ، ورجع الملك إلى عبادة بعل وارتقى إلياس إلى أصعب جبل وأشمخه فدخل مغارة فيه ، ويقال : أنه بقي سبع سنين شريداً خائفاً يأوي الشعوب والكهوف ، يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم في طلبه قد وضعوا العيون عليه والله تعالى يستره منهم ، فلما طال الأمر على إلياس وطال عصيان قومه وضاق بذلك ذرعاً أوحى الله تعالى إليه بعد سبع سنين : يا إلياس ما هذا الخوف الذي أنت فيه ألست أميني على وحيي وحجتي في أرضي وصفوتي من خلقي ؟
فسلني أعطك فإني ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم ، قال : تميتني فتلحقني بآبائي فإني قد مللت بني إسرائيل وملوني ، فأوحى الله تعالى إليه : يا الياس ما هذا اليوم الذي أعرى منك الأرض وأهلها ؟
وإنما قوامهما وصلاحهما بك وأشباهك وإن كنتم قليلاً ولكن سلني فأعطك ، قال إلياس : إن لم تمتني فاعطني ثأري من بني إسرائيل ، قال الله تعالى : وأي : شيء تريد أن أعطيك ؟
قال : تمكنني من خزائن السماء سبع سنين فلا تنشئ سحابة عليهم إلا بدعوتي ولا تمطر عليهم سبع سنين قطرة إلا بشفاعتي فإنهم لا يذكرهم إلا ذلك ، قال الله تعالى : يا إلياس أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين ، قال : ست سنين ، قال : أنا أرحم بخلقي من ذلك ، قال : فخمس سنين ، قال : أنا أرحم بخلقي من ذلك ، ولكن أعطيك ثأرك ثلاث سنين أجعل خزائن المطر بيدك ، قال : فبأي شيء أعيش ؟
قال : أسخر لك جنساً من الطير ينقل إليك طعامك وشرابك من الريف ومن الأرض التي لم تقحط ، قال إلياس : قد رضيت ، فأمسك الله تعالى عنهم المطر حتى هلكت الماشية والهوام والشجر وجهد الناس جهداً عظيماً ، وإلياس على حالته مستخف من قومه يوضع له الرزق حيثما كان وقد عرف ذلك قومه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 469
قال ابن عباس : أصاب بني إسرائيل ثلاث سنين القحط فمر إلياس بعجوز فقال لها : هل عندكم طعام ؟
قالت : نعم شيء من دقيق وزيت قليل فدعا بهما ودعا فيه بالبركة حتى ملأ خوابيها دقيقاً وخوابيها زيتاً ، فلما رأوا ذلك عندها ، قالوا لها : من أين لك هذا ؟
قالت : مر بي رجل من حاله كذا وكذا ثم وصفته بصفته فعرفوه وقالوا : ذلك إلياس ، فطلبوه فوجدوه فهرب منهم ثم أنه أوى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له : اليسع بن أخطوب به مرض فآوته وأخفت أمره فدعا له فعوفي من الضر الذي كان به ، واتبع إلياس وآمن به وصدقه ولزمه وكان يذهب حيثما ذهب ، وكان إلياس قد كبر سنه واليسع غلام شاب ثم إن الله تعالى أوحى إلى إلياس أنك قد أهلكت كثيراً من الخلق ممن لم يعص من البهائم والطير والهوام بحبس المطر ، فقال إلياس : يا
474(3/318)
رب دعني أنا الذي أكون أدعو لهم وآتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء لعلهم أن يرجعوا عما هم عليه من عبادة غيرك ، فقيل له : نعم ، فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال : إنكم قد هلكتم جوعاً وجهداً وقد هلكت البهائم والهوام والشجر بخطاياكم وإنكم على باطل ، فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون ، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم ودعوتم الله سبحانه وتعالى ، ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء قالوا : أنصفت فخرجوا بأوثانهم فدعوها فلم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء ثم قالوا لإلياس : إنا قد هلكنا فادع الله لنا فدعا لهم إلياس ومعه اليسع بالفرج ، فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر وهم ينظرون فأقبلت نحوهم وطبقت الآفاق ثم أرسل الله تعالى عليهم المطر فأغاثهم وحييت بلادهم ، فلما كشف الله تعالى عنهم المطر لم ينزعوا عن كفرهم وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه ، فلما رأى ذلك إلياس دعا ربه أن يريحه منهم ، فقيل له : انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه إلى موضع كذا فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه ، فخرج إلياس ومعه اليسع حتى إذا كانا بالموضع الذي أمر به أقبل فرس من نار ، وقيل : لونه كلون النار حتى وقف بين يديه فوثب عليه إلياس وانطلق به الفرس وناداه اليسع : يا إلياس ما تأمرني ؟
فقذف إليه بكسائه من الجو الأعلى فكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل ، وكان ذلك آخر عهده به ورفع الله تعالى إلياس من بين أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش ، فكان إنسياً ملكياً أرضياً سماوياً ، وسلط الله تعالى على لاجب الملك وقومه عدواً لهم فقصدهم من حيث لم يشعروا به حتى أرهقهم فقتل لاجب وامرأته إزميل في بستان مزدكي فلم تزل جيفتاهما ملقاتين في تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمت عظامهما ، ونبأ الله تعالى اليسع وبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل فأوحى الله تعالى إليه وأيده ، فآمنت به بنو إسرائيل وكانوا يعظمونه ، وحكم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع.
جزء : 3 رقم الصفحة : 469
روى السري بن يحيى عن عبد العزيز بن أبي رواد قال : الياس والخضر يصومان رمضان ببيت المقدس ويوافيان موسم الحج في كل عام ، وقيل : إن الياس موكل بالفيافي والخضر موكل بالبحار فذلك قوله تعالى {وإن إلياس لمن المرسلين}.
{إذ} أي : اذكر يا أفضل الخلق إذ {قال لقومه ألا تتقون} أي : ألا تخافون الله.
ولما خوفهم على سبيل الإجمال ذكر ما هو السبب لذلك التخويف بقوله تعالى :
{أتدعون بعلاً} اسم لصنم لهم من ذهب وبه سميت البلد أيضاً مضافاً إلى بك أي : أتعبدونه أو تطلبون الخير منه ، وقيل : البعل الرب بلغة اليمن سمع ابن عباس رجلاً منهم ينشد ضالة فقال آخر : أنا بعلها فقال : الله أكبر وتلا الآية ، ويقال : من بعل هذه الدار أي : من ربها ، وسمي الزوج بعلاً لهذا المعنى قال الله تعالى {وبعولتهن أحق بردهن} (البقرة : 228)
وقالت امرأة إبراهيم {وهذا بعلي شيخاً} والمعنى : أتدعون بعض البعول {وتذرون} أي : وتتركون {أحسن الخالقين} فلا تعبدونه ، وقرأ ابن ذكوان بهمزة الوصل من إلياس في الوصل فإن ابتدأ بها ابتدأ بفتحها ، والباقون بهمزة مكسورة وصلاً وابتداء وقوله تعالى :
{الله ربكم ورب آبائكم الأولين} قرأه حفص وحمزة والكسائي بنصب الهاء من الاسم الكريم ونصب الباء الموحدة من ربكم ورب وذلك إما على المدح أو البدل أو البيان إن قلنا إن إضافة أفعل إضافة محضة ، والباقون بالرفع في الثلاثة وذلك إما على خبر مبتدأ مضمر أي :
475
هو الله وعلى أن الجلالة مبتدأ وما بعده الخبر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 469
أي : في العذاب وإنما أطلقه اكتفاء بالقرينة أو لأن الإحضار المطلق مخصوص بالشر عرفاً وقوله تعالى :
{إلا عباد الله المخلصين} أي : المؤمنين مستثنى من فاعل فكذبوه ، وفيه دلالة على أن في قومه من لم يكذبه ، فلذلك استثنوا ولا يجوز أن يكونوا مستثنين من ضمير لمحضرون لفساد المعنى ؛ لأنه يلزم أن يكونوا مندرجين فيمن كذب لكنهم لم يحضروا لكونهم عباد الله المخلصين وهو بين الفساد لا يقال : هو مستثنى منه استثناء منقطعاً ؛ لأنه يصير المعنى : لكن عباد الله المخلصين من غير هؤلاء لم يحضروا ، ولا حاجة إلى هذا إذ به يفسد نظم الكلام وتقدم الكلام على قراءة المخلصين في أول السورة.
{وتركنا عليه في الآخرين} ثناء حسناً.
{سلام} أي : منا ، وقوله تعالى : {على إل ياسين} قرأه نافع وابن عامر بفتح الهمزة ممدودة وكسر اللام وقطعها عن الياء كما رسمت أي : أهله والمراد به إلياس ، والباقون بكسر الهمزة وسكون اللام وهي مقطوعة عن الياء قيل : هو إلياس المتقدم ، وقيل : هو ومن آمن معه فجمعوا معه تغليباً كقولهم للمهلب وقومه : المهلبون ، وقيل : هو محمد صلى الله عليه وسلم أو القرآن أو غيره من كتب الله تعالى ، قال البيضاوي : والكل لا يناسب نظم سائر القصص ولا قوله تعالى :
{(3/319)
جزء : 3 رقم الصفحة : 476
إنا كذلك نجزي المحسنين} أي : كما جزيناه.
{إنه من عبادنا المؤمنين} إذ الظاهر أن الضمير لإلياس.
القصة الخامسة قصة لوط عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
{وإن لوطاً لمن المرسلين} {إذ} أي : واذكر إذ {نجيناه وأهله أجمعين} {إلا عجوزاً في الغابرين} أي : الباقين في العذاب.
{ثم دمرنا} أي : أهلكنا {الآخرين} أي : كفار قومه.
{وإنكم} يا أهل مكة {لتمرون عليهم مصبحين} أي : على منازلهم في متاجركم إلى الشام فإن سدوم في طريقه ، وقوله تعالى : {وبالليل} عطف على الحال قبلها أي : ملتبسين بالليل والمعنى : أن أولئك القوم كانوا يسافرون إلى الشام ، والمسافر في أكثر الأمر إنما يمشي في أول الليل وفي أول النهار فلهذا السبب عبر الله تعالى عن هذين الوقتين ثم قال تعالى : {أفلا تعقلون} أي : أليس فيكم عقل يا أهل مكة فتنظروا ما حل بهم فتعتبروا ؟
القصة السادسة : وهي آخر القصص ، قصة يونس عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
{وإن يونس لمن المرسلين} وقوله تعالى :
{إذ أبق} ظرف للمرسلين أي : هو من المرسلين حتى في هذه الحالة وأبق أي : هرب وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه حسن إطلاقه عليه. {إلى الفلك المشحون} أي : السفينة المملوءة ، قال ابن عباس رضي الله عنهما ووهب : كان يونس وعد قومه العذاب فتأخر عنهم فخرج كالمنشوز منهم فقصد البحر فركب السفينة ، فقال الملاحون : ههنا عبد آبق من سيده فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس ، فقال يونس : أنا الآبق فزج نفسه في البحر.
وروي في القصة : أنه لما وصل إلى البحر كانت معه امرأته وابنان له فجاء مركب وأراد أن يركب معهم فقدم امرأته ليركب بعدها فحال الموج بينه وبين المركب ومر المركب ، ثم جاءت موجة أخرى فأخذت ابنه الأكبر ، وجاء ذئب فأخذ ابنه الأصغر فبقي فريداً ، فجاءت مركب أخرى فركبها وقعد ناحية من القوم ، فلما جرت السفينة في البحر ركدت فقال الملاحون : إن فيكم عاصياً
476
وإلا لم يحصل وقوف السفينة كما نراه من غير ريح ولا سبب ظاهر فأقرعوا فمن خرجت القرعة على سهمه نغرقه فإن تغريق واحد خير من غرق الكل فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس فذلك قوله تعالى :
{فساهم} أي : قارع أهل السفينة {فكان من المدحضين} أي : المغلوبين بالقرعة فألقوه في البحر.
{فالتقمه} ابتلعه {الحوت وهو مليم} أي : آت بما يلام عليه من ذهابه إلى البحر وركوبه السفينة بلا إذن من ربه وقيل : مليم نفسه.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 476
فلولا أنه كان من المسبحين} أي : الذاكرين قبل ذلك وكان عليه السلام كثير الذكر ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : من المصلين ، وقال وهب : من العابدين ، وقال الحسن : ما كان له صلاة في بطن الحوت ولكنه قدم عملاً صالحاً ، قال الضحاك : شكر الله تعالى له طاعته القديمة ، اذكر الله في الرخاء يذكرك في الشدة ، فإن يونس كان عبداً صالحاً ذاكراً لله تعالى فلما وقع في الشدة في بطن الحوت شكر الله تعالى له ذلك ، وقال سعيد بن جبير : يعني قوله : {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} (الأنبياء : 87)
{للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} أي : صار بطن الحوت له قبراً إلى يوم القيامة وهو حي أو ميت وفي ذلك حث على إكثار الذكر وتعظيم لشأنه ومن أقبل عليه في السراء أخذ بيده في الضراء.
{فنبذناه} أي : ألقيناه من بطن الحوت فأضاف النبذ إلى نفسه سبحانه مع أن النبذ إنما حصل بفعل الحوت فهو يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى {بالعراء} أي : بوجه الأرض ، وقال السدي : بالساحل والعراء الأرض الخالية من الشجر والنبات ، روي أن الحوت سار مع السفينة رافعاً رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح الله تعالى حتى انتهى إلى الأرض فلفظه.
تنبيه : اختلفوا في مدة لبثه في بطن الحوت فقال الحسن : لم يلبث إلا قليلاً ثم أخرج من بطن الحوت ، وقال بعضهم : التقمه بكرة ولفظه عشية ، وقال مقاتل بن حبان : ثلاثة أيام ، وقال عطاء : سبعة أيام ، وقال الضحاك : عشرين يوماً ، وقيل : شهراً ، وقيل : أربعين يوماً ، قال الرازي : ولا أدري بأي دليل عينوا هذه المقادير ؟
وروى أبو بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : سبح يونس في بطن الحوت فسمع الملائكة تسبيحه فقالوا : ربنا إنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة فقال تعالى : ذاك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر ، قالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه كل يوم وليلة عمل صالح ، قال : نعم فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه بالساحل.
وروي أن يونس عليه السلام لما ابتلعه الحوت ابتلع الحوت حوت آخر أكبر منه فلما استقر في جوف الحوت حسب أنه قد مات فحرك جوارحه فتحركت فإذا هو حي فخر لله تعالى ساجداً وقال : يا رب اتخذت لي مسجداً لم يعبدك أحد في مثله {وهو سقيم} أي : عليل كالفرخ الممعوط.(3/320)
{وأنبتنا عليه} أي : له وقيل : عنده {شجرة من يقطين} قال المبرد والزجاج : اليقطين كل ما لم يكن له ساق من عود كالقثاء والقرع والبطيخ والحنظل وهو قول الحسن ومقاتل ، قال البغوي : المراد هنا القرع على قول جميع المفسرين ، وروى الفراء أنه قيل عند ابن عباس : هو ورق القرع فقال : ومن جعل القرع من بين الشجر يقطيناً كل ورقة انشقت وشربت فهو يقطين.
477
فإن قيل : الشجر ما له ساق واليقطين مما لا ساق له كما قال تعالى : {والنجم والشجر يسجدان} (الرحمن : 6)
.
جزء : 3 رقم الصفحة : 476
أجيب : بأن الله تعالى جعل لها ساقاً على خلاف العادة في القرع معجزة له عليه السلام ولو كان منبسطاً على الأرض لم يمكن أن يستظل به قال مقاتل بن حبان : كان يونس عليه السلام يستظل بالشجرة وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها بكرة وعشياً حتى اشتد لحمه ونبت شعره.
وروي أن يونس عليه السلام كان يسكن مع قومه فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف ، وكان قد أوحى الله تعالى إلى بني إسرائيل إذا أسركم عدوكم أو أصابتكم مصيبة فادعوني أستجب لكم ، فلما نسوا ذلك وأسروا أوحى الله تعالى بعد حين إلى نبي من أنبيائهم أن اذهب إلى ملك هؤلاء الأقوام وقل له : يبعث إلى بني إسرائيل نبياً ، فاختار من بني إسرائيل يونس عليه السلام لقوته وأمانته فقال يونس : الله أمرك بهذا ؟
قال : لا ولكن أمرت أن أبعث قوياً أميناً وأنت كذلك ، فقال يونس : في بني إسرائيل من هو أقوى مني فلم لم تبعثه ؟
فألح الملك عليه فغضب يونس منه وخرج حتى أتى بحر الروم فوجد سفينة مشحونة فحملوه فيها فلما أشرف على لجة البحر أشرفوا على الغرق فقال الملاحون : إن فيكم عاصياً وإلا لم يحصل في السفينة ما نراه فقال التجار : قد جربنا مثل هذا فإذا رأيناه نقترع فمن خرجت عليه نغرقه في البحر فلأن يغرق واحد خير من غرق الكل ، فخرج من بينهم يونس فقال : يا هؤلاء أنا العاصي وتلفف في كسائه ورمى بنفسه فالتقمه الحوت ، وأوحى الله تعالى إلى الحوت لا تكسر منه عظماً ولا تقطع منه وصلاً ، ثم إن الحوت خرج إلى نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى البطائح ثم إلى دجلة وصعد به ورماه في أرض نصيبين بالعراء وهو كالفرخ المنتوف لا شعر ولا لحم ، فأنبت الله تعالى عليه شجرة من يقطين فكان يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى اشتد ، ثم إن الأرضة أكلتها ، فحزن يونس لذلك حزناً شديداً ، فقال : يا رب كنت أستظل تحت هذه الشجرة من الشمس والريح وأمص من ثمرها وقد سقطت فقال : يا يونس تحزن على شجرة أنبتت في ساعة ولا تحزن على مائة ألف إو يزيدون تركتهم فانطلق إليهم ، فانطلق إليهم وذلك قوله تعالى :
{وأرسلناه} أي : بعد ذلك كقبله إلى قومه بنينوى من أرض الموصل {إلى مائة ألف أو يزيدون} قال ابن عباس : إن أو بمعنى الواو ، وقال مقاتل والكلبي : بمعنى بل ، وقال الزجاج : على الأصل بالنسبة للمخاطبين ، واختلفوا في مبلغ الزيادة فقال ابن عباس ومقاتل : كانوا عشرين ألفاً ، ورواه أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الحسن : بضعاً وثلاثين ألفاً ، وقال سعيد بن جبير : تسعين ألفاً.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 476
فآمنوا} أي : الذين أرسل إليهم عند معاينة العذاب الموعودين به {فمتعناهم} أي : أبقيناهم بما لهم {إلى حين} أي : إلى انقضاء آجالهم.
تنبيه : قال البيضاوي : ولعله إنما لم يختم قصته وقصة لوط عليهما السلام بما ختم به سائر القصص تفرقة بينهما وبين أرباب الشعائر الكثيرة وأولي العزم من الرسل واكتفاء بالسلام الشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة وقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
{فاستفتهم} أي : استخبر كفار مكة توبيخاً لهم {ألربك البنات ولهم البنون} قال الزمخشري : معطوف على مثله في أول السورة ، قال أبو حيان : وإذا كانوا قد
478
عدوا الفصل بجملة نحو : كل لحماً واضرب زيداً وخبزاً من أقبح التراكيب فكيف بجمل كثيرة وقصص متباينة ؟
فأجيب عنه : بأن الفصل وإن كثر بين الجمل المتعاطفة مغتفر وأما المثال الذي ذكره فمن قبيل المفردات.(3/321)
ألا ترى كيف عطف خبزاً على لحماً ؟
وأيضاً الفاصل ليس بأجنبي ، كما أشار إليه البيضاوي بقوله : أمر رسوله أولاً باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث وساق الكلام في تقريره جاراً لما يلائمه من القصص موصولاً بعضها ببعض ، ثم أمره صلى الله عليه وسلم باستفتائهم عن وجه القسمة ، حيث جعلوا لله البنات ولأنفسهم البنين في قولهم : الملائكة بنات الله وهؤلاء زادوا على الشرك ضلالات أخر من التجسيم وتجويز البنات على الله تعالى ، فإن الولادة مخصوصة بالأجسام المتكونة الفاسدة وتفضيل أنفسهم الخسيسة عليه سبحانه حيث جعلوا أوضع الجنسين له وأرنعهما لهم واستهانتهم بالملائكة حيث أنثوهم ولذلك كرر الله تعالى إنكاره ذلك وإبطاله في كتابه العزيز مراراً وجعله مما تكاد السموات ينفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً ، والإنكار ههنا مقصور على الأخيرين لاختصاص هذه الطائفة بهما.
ونقل الواحدي عن المفسرين أنهم قالوا : إن قريشاً وأجناس العرب جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح قالوا : الملائكة بنات الله ، وهذا الكلام يشتمل على أمرين أحدهما : إثبات البنات لله تعالى وذلك باطل ؛ لأن العرب كانوا يستنكفون من البنات والشيء الذي يستنكف منه المخلوق كيف يمكن إثباته للخالق ؟
والثاني : إثبات أن الملائكة إناث وهذا أيضاً باطل ؛ لأن طريق العلم إما الحس وإما الخبر وإما النظر ، أما الحس فمفقود ؛ لأنهم لم يشاهدوا كيف خلق الله تعالى الملائكة ، وهو المراد من قوله تعالى :
{أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون} وإنما خص علم المشاهدة ؛ لأن أمثال ذلك لا يعلم إلا به ، فإن الأنوثة ليست من لوازم ذاتهم لتمكن معرفته بالعقل الصرف مع ما فيه من الاستهزاء والإشعار بأنهم لفرط جهلهم يثبتونه كأنهم قد شاهدوا خلقهم. وأما الخبر فمفقود أيضاً ؛ لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم كونه صدقاً قطعاً وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون لم يدل على صدقهم دليل ، وهذا هو المراد من قوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 476
ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون} أي : فيما زعموا وقوله تعالى :
{أصطفى البنات على البنين} استفهام إنكار واستبعاد ، والاصطفاء أخذ صفوة الشيء.
فائدة : همزة أصطفى همزة قطع مفتوحة مقطوعة وصلاً وابتداء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 476
479
هذا الحكم الفاسد {أفلا تذكرون} أي : أنه تعالى منزه عن ذلك ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتخفيف الذال ، والباقون بالتشديد.
وأما النظر فمفقود من وجهين ؛ الأول : أن دليل العقل يقتضي فساد هذا المذهب ؛ لأنه تعالى أكمل الموجودات ، والأكمل له اصطفاء الأبناء على البنات يعني : أن إسناد الأفضل إلى الأفضل أقرب إلى العقل من إسناد الأخس إلى الأفضل ، فإن كان حكم العقل معتبراً في هذا الباب كان قولهم باطلاً ، الثاني : أن نترك الاستدلال على فساد مذهبهم بل نطالبهم بإثبات الدليل الدال على صحة مذهبهم وإذا لم يجدوا دليلاً ظهر بطلان مذهبهم وهذا هو المراد بقوله تعالى :
{أم لكم سلطان مبين} أي : حجة واضحة أن لله ولداً.
{فأتوا بكتابكم} أي : التوراة فأروني ذلك فيه {إن كنتم صادقين} أي : في قولكم هذا.
{وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً} قال مجاهد وقتادة : أراد بالجنة الملائكة عليهم السلام سموا جناً لاجتنانهم عن الأبصار ، وقال ابن عباس : حي من الملائكة يقال لهم : الجن منهم إبليس لعنه الله ، وقيل : هم خزان الجنة ، قال الرازي : وهذا القول عندي مشكل ؛ لأنه تعالى أبطل قولهم : الملائكة بنات الله ، ثم عطف عليه قوله تعالى : {وجعلوا} إلخ والعطف يقتضي المغايرة ، فوجب أن يكون المراد من الآية غير ما تقدم ، وقال مجاهد : قال كفار قريش : الملائكة بنات الله ، فقال لهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه منكراً عليهم : فمن أمهاتهم ؟
قالوا : سروات الجن ، وهذا أيضاً بعيد ؛ لأن المصاهرة لا تسمى نسباً ، قال الرازي : وقد روينا في تفسير قوله تعالى : {وجعلوا لله شركاء الجن} (الأنعام : 100)
جزء : 3 رقم الصفحة : 479
أن قوماً من الزنادقة يقولون : إن الله تعالى وإبليس أخوان فالله تعالى هو الحر الكريم وإبليس هو الأخ الشرير ، فالمراد من ذلك هو هذا المذهب وهو مذهب المجوس ، قال : وهذا القول عندي هو أقرب الأقاويل في الرد عليه بهذه الآية {ولقد علمت الجنة أنهم} أي : أهل هذا القول {لمحضرون} أي : إلى النار ومعذبون ، وقيل : المراد ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرون العذاب ، فعلى الأول الضمير عائد إلى القائل ، وعلى الثاني عائد إلى نفس الجنة.
ثم إنه تعالى نزه نفسه عما قالوه من الكذب فقال تعالى :
{سبحان الله عما يصفون} بأن لله تعالى ولداً ونسباً وقوله تعالى : (3/322)
{إلا عباد الله المخلصين} أي : المؤمنين استثناء منقطع أي : لكن عباد الله المخلصين ينزهون الله تعالى عما يصف هؤلاء. الثالث : أنه ضمير محضرون أي : لكن عباد الله تعالى ناجون وعلى هذا فتكون جملة التسبيح معترضة وظاهر كلام أبي البقاء أنه يجوز أن يكون استثناء متصلاً ؛ لأنه قال : مستثنى من جعلوا أو محضرون ، ويجوز أن يكون منفصلاً ، فظاهر هذه العبارة أن الوجهين الأولين هو فيهما متصل لا منفصل وليس ببعيد كأنه قيل : وجعل الناس ، ثم استثنى منهم هؤلاء وكل من لم يجعل بين الله وبين الجنة نسباً فهو عند الله مخلص من الشرك ، وقوله تعالى :
{فإنكم} أي : يا أهل مكة {وما تعبدون} أي : من الأصنام عود إلى خطابهم ؛ لأنه لما ذكر الدلائل الدالة على فساد مذاهب الكفار أتبعه بما ينبه به على أن هؤلاء الكفار لا يقدرون على إضلال أحد إلا إذا كان قد سبق حكم الله تعالى في حقه بالعذاب والوقوع في النار ، كما قال تعالى :
{ما أنتم عليه} أي : على معبودكم ، وعليه متعلق بقوله : {بفاتنين}
480
أي : بمضلين أحداً من الناس.
{إلا من هو صال الجحيم} أي : إلا من سبق له في علم الله تعالى الشقاوة.
تنبيه : احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه لا تأثير لإيحاء الشيطان ووسوسته وإنما المؤثر هو الله حيث قضاه وقدره ، ثم إن جبريل عليه السلام أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة ليسوا بمعبودين كما زعمت الكفار بقوله :
{وما منا} أي : معشر الملائكة ملك {إلا له مقام معلوم} في السموات يعبد الله تعالى فيه لا يتجاوزه ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي ويسبح ، وروى أبو ذر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أطت السماء وحق لها أن تئط والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً" قيل : الأطيط أصوات الأقتاب وقيل : أصوات الإبل وحسها ، ومعنى الحديث : ما في السماء من الملائكة قد أثقلها حتى أطت ، وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة عليهم السلام وإن لم يكن ثم أطيط ، وقال السدي : إلا له مقام معلوم في القرب والمشاهدة.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 479
وإنا لنحن الصافون} أي : أقدامنا في الصلاة ، وقال الكلبي : صفوف الملائكة في السماء كصفوف الناس في الأرض.
{وإنا لنحن المسبحون} أي : المنزهون الله تعالى عما لا يليق به ، وقيل : هذا حكاية كلام النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، والمعنى : وما منا إلا له مقام معلوم في الجنة أو بين يدي الله تعالى في القيامة وإنا لنحن الصافون في الصلاة والمنزهون له تعالى عن السوء ، ثم إنه تعالى أعاد الكلام إلى الإخبار عن المشركين فقال :
{وإن كانوا} أي : كفار مكة ، وإن مخففة من الثقيلة {ليقولون لو أن عندنا ذكراً} أي : كتاباً {من الأولين} أي : من كتب الأمم الماضين.
{لكنا عباد الله المخلصين} أي : لأخلصنا العبادة له وما كذبنا ثم جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار والمهيمن عليها وهو القرآن العظيم.
{فكفروا به فسوف يعلمون} عاقبة هذا الكفر وهذا تهديد عظيم ، ولما هددهم بذلك أردفه بما يقوي قلب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى :
{ولقد سبقت كلمتنا} أي : بالنصر {لعبادنا المرسلين} وهي قوله تعالى {لأغلبن أنا ورسلي} (المجادلة : 21)
أو هي قوله تعالى :
{إنهم لهم المنصورون}.
{وإن جندنا} أي : المؤمنين {لهم الغالبون} أي : الكفار ، والنصرة والغلبة قد تكون بالحجة وقد تكون بالدولة والاستيلاء ، وقد تكون بالدوام والثبات ، فالمؤمن وإن صار مغلوباً في بعض الأوقات بسبب ضعف أحوال الدنيا فهو الغالب في الآخرة ، فالحكم في ذلك للأغلب في الدنيا فلا ينافي ذلك قتل بعض الأنبياء عليهم السلام وهزم كثير من المؤمنين ، وإنما سمى ذلك كلمة وهي كلمات لانتظامها في معنى واحد.
{فتول عنهم} أي : أعرض عن كفار مكة ، واختلف في قوله تعالى : {حتى حين} فقال ابن عباس : يعني الموت ، وقال مجاهد : يوم بدر ، وقال السدي : حتى يأمرك الله تعالى بالقتال ،
481
وقيل : إلى أن يأتيهم عذاب الله ، وقيل : إلى فتح مكة ، وقال مقاتل بن حبان : نسختها آية القتال.
{وأبصرهم} أي : إذا نزل بهم العذاب من القتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة ، {فسوف يبصرون} أي : ما قضيناه لك من التأييد والنصرة والثواب في الآخرة وسوف للوعيد لا للتبعيد.
ولما قيل لهم ذلك قالوا استهزاء : متى نزول العذاب ؟
فقال تعالى تهديداً لهم :
{أفبعذابنا يستعجلون} أي : إن ذلك الاستعجال جهل ؛ لأن لكل شيء من أفعال الله تعالى وقتاً معيناً لا يتقدم ولا يتأخر.
{فإذا نزل} أي : العذاب {بساحتهم} قال مقاتل : بحضرتهم ، وقيل : بفنائهم ، قال الفراء : العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم فشبه العذاب بجيش هجم فأناخ بفنائهم بغتة {فساء} أي : فبئس صباحاً {صباح المنذرين} أي : الكافرين الذين أنذروا بالعذاب ، وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى خيبر أتاها ليلاً وكان إذا جاء قوماً بليل لم يغر حتى يصبح ، فلما أصبح خرجت يهود بمساحيها ومكاتلها ، فلما رأوه قالوا : محمد والله محمد والخميس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين قالها ثلاث مرات" وقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 479
وتول عنهم حتى حين} {وأبصر فسوف يبصرون} فيه وجهان أحدهما : أن في هذه الكلمة فيما تقدم أحوال الدنيا وفي هذه الكلمة أحوال يوم القيامة على هذا فالتكرار زائل ، والثاني : أنها مكررة للمبالغة في التهديد والتهويل.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله أولاً : {وأبصرهم} وههنا قال : {وأبصر} بغير ضمير ؟
أجيب : بأنه حذف مفعول أبصر الثاني إما اختصاراً لدلالة الأول عليه وإما اقتصاراً تفنناً في البلاغة ، ثم إنه تعالى ختم السورة بتنزيه نفسه عن كل ما لا يليق بصفات الإلهية فقال تعالى :
{سبحان ربك رب العزة} أي : الغلبة والقوة وفي قوله تعالى : {رب} إشارة إلى كمال الحكمة والرحمة ، وفي قوله تعالى {العزة} إشارة إلى كمال القدرة وأنه القادر على جميع الحوادث ؛ لأن الألف واللام في قوله تعالى : {العزة} تفيد الاستغراق وإذا كان الكل ملكاً له سبحانه لم يبق لغيره شيء فثبت أن قوله سبحانه وتعالى : {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} أي : أن له ولداً كلمة محتوية على أقصى الدرجات وأكمل النهايات وقوله تعالى :
{وسلام على المرسلين} أي : المبلغين من الله تعالى التوحيد والشرائع تعميم للرسل بعد تخصيص بعضهم.
{والحمد لله رب العالمين} أي : على هلاك الأعداء ونصرة الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام وعلى ما أفاض عليهم ومن اتبعهم من النعمة وحسن العاقبة ، ولذلك أخره عن التسليم والغرض من ذلك تعليم المؤمنين أن يقولوا ذلك ولا يغفلوا عنه لما روى البغوي عن علي رضي الله
482
عنه أنه قال : من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه من مجلسه : سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين إلخ. وأما ما رواه البيضاوي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن من قرأ والصافات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل جني وشيطان وتباعدت عنه مردة الشياطين وبرئ من الشرك وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمناً بالمرسلين" فموضوع.
483
جزء : 3 رقم الصفحة : 479(3/323)
سورة ص
مكية وهي ست أو ثمان وثمانون آية ، وسبعمائةواثنتان وثمانون كلمة ، وثلاثة آلاف وتسعة وتسعون حرفاً
{بسم الله} المنزه عن كل شائبة نقص {الرحمن} الذي عم جوده سائر مخلوقاته {الرحيم} بمن خلقه ، واختلف في تفسير قوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 483
{ص} فقيل : قسم وقيل : هو اسم للسورة كما ذكرنا في سائر حروف التهجي في أوائل السور وقال محمد بن كعب القرظي : مفتاح اسمه الصمد وصادق الوعد ، وقال الضحاك : معناه صدق الله ، وروي عن ابن عباس : صدق محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : معناه أن القرآن مركب من هذه الحروف
484
وأنتم قادرون عليها ولستم قادرين على معارضته. {والقرآن} أي : الجامع مع البيان لكل خير {ذي الذكر} أي : الموعظة والتذكير وقال ابن عباس : ذي البيان ، وقال الضحاك : ذي الشرف ودليله قوله تعالى : {وإنه لذكر لك ولقومك} (الزخرف : 44) ، فإن قيل : هذا قسم فأين المقسم عليه ؟
أجيب : بأنه محذوف تقديره : ما الأمر كما قال كفار مكة من تعدد الآلهة وقوله تعالى :
{بل الذين كفروا} أي : من أهل مكة إضراب انتقال من قصة إلى أخرى {في عزة} أي : حمية وتكبر عن الإيمان {وشقاق} أي : خلاف وعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم والتنكير في عزة وشقاق للدلالة على شدتهما ، وقيل : جواب القسم قد تقدم وهو قوله تعالى : {ص} أقسم الله تعالى بالقرآن أن محمد الصادق وقال الفراء : {ص} معناها وجب وحق فهو جواب قوله : {والقرآن} كما تقول : نزل والله ، وقال الأخفش : قوله تعالى : {إن كل إلا كذب الرسل} وقال السدي : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ، قال البغوي : وهذا ضعيف لأنه تخلل بين القسم وبين هذا الجواب أقاصيص وأخبار كثيرة وقال مجاهد : في عزة متعازين.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 484
كم} أي : كثيراً {أهلكنا من قبلهم} وأكد كثرتهم بقوله تعالى : {من قرن} أي : من أمة من الأمم الماضية كانوا في شقاق مثل شقاقهم.(3/324)
تنبيه : كم مفعول أهلكنا ، ومن قرن تمييز ، ومن قبلهم لابتداء الغاية {فنادوا} أي : استغاثوا عند نزول العذاب وحلول النقمة وقيل : نادوا بالإيمان والتوبة {ولات} أي : وليس الحين {حين مناص} أي : منجى وفرار ، قال ابن عباس : كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب ، قال بعضهم لبعض : مناص أي : اهربوا وخذوا حذركم ، فلما نزل بهم العذاب ببدر قالوا : مناص ، فأنزل الله تعالى ذلك ، والمناص مصدر ناص ينوص إذا تقدم ، ولات بمعنى : ليس بلغة أهل اليمن ، وقال النحويون : هي لا زيدت فيها التاء كقولهم : رب وربت ، وثم وثمت ، وأصلها هاء وصلت بلا فقالوا : لات كما قالوا : ثمت ولا تعمل إلا في الأزمان خاصة نحو لات حين ولات أوان كقول الشاعر :
*طلبوا صلحنا ولات أوان ** فأجبنا أن ليس حين بقاء*
والأكثر حينئذ حذف مرفوعها فتقديره ولات الحين حين مناص ، وقد يحذف المنصوب ويبقى المرفوع كقول القائل :
*من صد عن نيرانها ** فأنا ابن قيس لا براح*
أي : لا براح لي ، ولما حكى تعالى عن الكفار كونهم في عزة وشقاق أتبعه بشرح كلماتهم الفاسدة بقوله تعالى :
{وعجبوا} أي : الكفار الذين ذكرهم الله تعالى في قوله سبحانه : {بل الذين كفروا في عزة وشقاق} {أن} أي : لأجل أن {جاءهم منذر} هو النبي صلى الله عليه وسلم وفي قوله تعالى : {منهم} وجهان أحدهما : أنهم قالوا أن محمداً مساو لنا في الخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنية
485
والنسب والشكل والصورة فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي. والثاني : أن الغرض من هذه الكلمة التنبيه على كمال جهلهم لأنهم جاءهم رجل يدعوهم إلى التوحيد والترغيب في الآخرة ثم إن هذا الرجل من أقاربهم يعلمون أنه كان بعيداً عن الكذب والتهمة وكل ذلك مما يوجب الاعتراف بتصديقه ثم إنهم لحماقتهم يتعجبون من قوله : {وقال الكافرون} وضع الظاهر فيه موضع المضمر إشارة إلى أنهم يسترون الحق مع معرفتهم إياه فهم جاحدون لا جاهلون ومعاندون لا غافلون وإيذاناً بشدة غضبه عليهم وذماً لهم على قولهم : {هذا} أي : النذير {ساحر} أي : فيما يظهره معجزة {كذاب} أي : فيما يقول على الله تبارك وتعالى :
{أجعل} أي : صير بسبب ما يزعم أنه يوحى إليه {الآلهة} أي : التي نعبدها {إلهاً واحداً} كيف يسع الخلق كلهم إله واحد {إن هذا} أي : القول بالوحدانية {لشيء عجاب} أي : بليغ في العجب فإنه خلاف ما أطبق عليه آباؤنا ونشاهده من أن الواحد لا يفي عمله وقدرته بالأشياء الكثيرة ، وقال البغوي : العجب والعجاب واحد كقولهم : رجل كريم وكرام ، وكبير وكبار ، وطويل وطوال ، وعريض وعراض ، وسبب قولهم ذلك أنه روى أنه لما أسلم عمر رضي الله عنه شق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش : ـ وهم الصناديد والأشراف وكانوا خمسة وعشرين رجلاً أكبرهم سناً الوليد بن المغيرة ـ اذهبوا إلى أبي طالب ، فأتوا إليه وقالوا له : أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنا جئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك ، فأرسل أبو طالب إليه فحضر فقال له : يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا تسألونني ؟
فقالوا : ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا ، قال : أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أتعطوني أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم ؟
فقال أبو جهل : لله أبوك نعطيكها وعشر أمثالها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قولوا لا إله إلا الله فنفروا من ذلك وقاموا" فقالوا ذلك.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 484
وانطلق الملأ منهم} أي : أشراف قريش من مجلس اجتماعهم عند أبي طالب وسماعهم من النبي صلى الله عليه وسلم قولوا لا إله إلا الله {أن امشوا} أي : يقول بعضهم لبعض امشوا أي : اذهبوا {واصبروا} أي : اثبتوا {على آلهتكم} أي : على عبادتها ، قال الزمخشري : ويجوز أنهم قالوا : امشوا أي : أكثروا واجتمعوا ، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها ، ومنه الماشية للتفاؤل.
فائدة : الجميع يكسرون النون في الوصل من أن امشوا والهمزة في الابتداء من امشوا.
ولما أسلم عمر وحصل للمسلمين قوة بمكانه قال المشركون {إن هذا} أي : الذي نراه من زيادة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم {لشيء يراد} أي : بنا فلا مرد له أو أن الصبر على عبادة الآلهة لشيء يراد وهو أهل للإرادة فهو أهل أن لا ننفك عنه ، وقيل : هذا المذكور من التوحيد لشيء يراد منا وقيل : إن دينكم لشيء يطلب ليؤخذ منكم.
{ما سمعنا بهذا} أي : الذي يقوله محمد من التوحيد {في الملة الآخرة} قال ابن عباس : يعنون في النصرانية لأنها آخر الملل وهم لا يوحدون بل يقولون : ثالث ثلاثة ، وقال مجاهد : يعنون ملة قريش دينهم الذي هم عليه {إن} أي : ما {هذا} أي : الذي يقوله {إلا اختلاق} افتعال وكذب.
486(3/325)
{أأنزل عليه} أي : محمد صلى الله عليه وسلم {الذكر} أي : القرآن {من بيننا} وليس بأكبرنا ولا أشرفنا وهذا استفهام على سبيل الإنكار لاختصاصه عليه الصلاة والسلام بالوحي وهو مثلهم ، وفي ذلك دليل على أن مبدأ تكذيبهم لم يكن إلا الحسد وقصور النظر على الحطام الدنيوي ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية كالواو ، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو بخلاف عن ورش وابن كثير بغير إدخال ، وعن هشام فيها ثلاثة أوجه : تحقيق الهمزتين ، وإدخال ألف بينهما ، وتحقيقهما من غير إدخال ألف بينهما ، قال الله تبارك وتعالى : {بل هم في شك} أي : تردد محيط بهم مبتدأ لهم {من ذكري} أي : وحيي وما أنزلت لميلهم إلى التقليد وإعراضهم عن الدليل الذي لو نظروا فيه لزال هذا الشك عنهم {بل} أي : ليسوا في شك منه في نفس الأمر وإن كان قولهم قول من هو في شك {لما يذوقوا عذاب} أي : الذي أعددته للمكذبين ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول ولصدقوا النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ولا ينفعهم التصديق حينئذ.
{أم} أي : بل {عندهم خزائن} أي : مفاتيح {رحمة} أي : نعمة {ربك} وهي النبوة يعطونها من شاؤوا ، ونظيره قوله تعالى {أهم يقسمون رحمة ربك} (الزخرف : 32)
جزء : 3 رقم الصفحة : 484
أي : نبوة ربك {العزيز} أي : الغالب الذي لا يغلبه أحد {الوهاب} الذي له أن يهب كل ما يشاء من النبوة أو غيرها لمن يشاء من خلقه.
ولما كانت خزائن الله تعالى غير متناهية كما قال تعالى : {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} (الجن : 21)
ومن جملته السموات والأرض وما بينهما وهم عاجزون عن هذا القسم قال الله تعالى :
{أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما} أي : ليس لهم ذلك فلأن يكونوا عاجزين عن كل خزائن الله تعالى أولى ، وقوله تعالى : {فليرتقوا في الأسباب} جواب شرط محذوف أي : إن كان لهم ذلك فليصعدوا في المعارج التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم فينزلوا الوحي إلى من يريدونه وهذا غاية التهكم بهم والتعجيز أو التوبيخ ، قال مجاهد : أراد بالأسباب أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء وكل ما يوصلك إلى شيء من باب أو طريق فهو سبب واستدل حكماء الإسلام بقوله تعالى : {فليرتقوا في الأسباب} على أن الأجرام الفلكية وما أودع الله تعالى فيها من القوى والخواص أسباب لحوادث العالم السفلي لأن الله تعالى سمى الفلكيات : أسباباً وهذا يدل على ذلك وقوله تعالى :
{جُندٌ ما هنالك مهزوم من الأحزاب} خبر مبتدأ مضمر أي : هم قريش جند من الكفار المتحزبين على الرسل عليهم السلام ، مهزوم : مكسور عما قريب ، فمن أين لهم تدبير الإلهية والتصرف في الأمور الربانية ، فلا تكترث بما تقوله قريش ، قال قتادة : أخبر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وهو بمكة أنه سيهزم جند المشركين ، فقال تعالى : {سيهزم الجمع ويولون الدبر} (القمر : 45)
فجاء تأويلها يوم بدر وهنالك إشارة إلى بدر ومصارعهم ، وقيل : يوم الخندق ، قال الرازي : والأصح عندي حمله على يوم فتح مكة لأن المعنى أنهم جند سيصيرون مهزومين في الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات وذلك الموضع هو مكة فوجب أن يكون المراد أنهم سيصيرون مهزومين في مكة وما ذاك إلا في يوم الفتح.
تنبيه : في ما وجهان ، أحدهما : أنها مزيدة ، والثاني : أنها لجند على سبيل التعظيم للمهزومين وللتحقير ، فإن ما الصفة تستعمل لهذين المعنيين ، وقد تقدم الكلام عليها في أوائل
487
البقرة ، وهنالك صفة لجند وكذلك مهزوم ومن الأحزاب ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم معزياً له عليه السلام :
{كذبت} أي : مثل تكذيبهم {قبلهم قوم نوحٍ} أنث قوم باعتبار المعنى واستمروا على عزتهم وشقاقهم إلى أن رأوا الماء قد أخذهم ولم يسمحوا بالإذعان ولا بالتضرع إلى نوح عليه السلام {وعادٌ} سماهم بالاسم المنبه على ما كان لهم من المكنة بالملك واستمروا في شقاقهم إلى أن خرجت عليهم الريح العقيم ورأوها تحمل الإبل فيما بين السماء والأرض وهم لا يذعنون لما دعاهم إليه هود عليه السلام {وفرعونُ ذو الأوتاد} كانت له أوتاد يعذب الناس عليها وكان إذا غضب على أحد مده مستلقياً بين أربعة أوتاد يشد كل يد وكل رجل منه إلى سارية وتركه كذلك في الهواء بين السماء والأرض حتى يموت ، وقال مجاهد : كان يمد الرجل مستلقياً بين أربعة أوتاد على الأرض يشد رجليه ويديه ورأسه على الأرض بالأوتاد ، قال السدي : كان يشد الرجل بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيات ، وقال ابن عباس : ذو البناء المحكم ، وقيل : ذو الملك الشديد الثابت ، وقال العتبي : تقول العرب : هم في عز ثابت الأوتاد يريدون أنه دائم شديد قال الأسود بن يعقوب :
*
جزء : 3 رقم الصفحة : 484
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ** في ظل ملك ثابت الأوتاد(3/326)
وقال الضحاك : ذو القوة والبطش ، وقال عطية : ذو الجموع والجنود الكثيرة لأنهم كانوا يقوون أمره ويشدون ملكه كما يقوي الوتد الشيء ، والأوتاد جمع وتد وفيه لغات وتد بفتح الواو وكسر التاء وهو الفصحى ، ووتد بفتحتين ، وودّ بإدغام التاء في الدال.
{وثمود} واستمروا فيما هم فيه إلى أن رأوا علامات العذاب من صفرة الوجوه ثم حمرتها ثم سوادها ولم يكن في ذلك زاجر يردهم عن عزتهم وشقاقهم {وقوم لوط} أي : الذين لهم قوة القيام بما يحاولونه واستمروا في عزتهم وفي شقاقهم حتى ضربوا بالعشاء وطمس الأعين ولم يقدروا على الوصول إلى ما أرادوا من الدخول إلى بيت لوط عليه السلام ولم يردهم ذلك عن عزتهم وشقاقهم {وأصحاب الأيكة} أي : الغيضة ، وهم قوم شعيب عليه الصلاة والسلام {أولئك الأحزاب} أي : المتحزبون على الرسل عليهم السلام الذين خص الجند المهزوم منهم ، وقيل : المعنى أولئك الأحزاب مبالغة في وصفهم بالقوة كما يقال : فلان هو الرجل أي : أولئك الأحزاب مع كمال قوتهم لما كان عاقبتهم هي الهلاك والبوار فكيف حال هؤلاء الضعفاء المساكين إذا نزل عليهم العذاب ، وفي الآية زجر وتخويف للسامعين.
{إن} أي : ما {كل} أي : من الأحزاب {إلا كذب الرسل} أي : لأنهم إذا كذبوا واحداً منهم فقد كذبوا جميعهم لأن دعوتهم واحدة وهي دعوة التوحيد {فحق عقاب} أي : فوجب عليهم ونزل بهم عذابي.
ثم بين تعالى أن هؤلاء المكذبين وإن تأخر هلاكهم فكأنه واقع بهم فقال تعالى :
{وما ينظر} وحقرهم بقوله تعالى : {هؤلاء} أي : وما ينتظر كفار مكة {إلا صيحة واحدة} وهي نفخة الصور الأولى ، كقوله تعالى : {ما ينظرون إلا صيحةً واحدةً تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية} (يس : 50)
الآية والمعنى : أنهم وإن لم يذوقوا عذابي في الدنيا فهو معدٌّ لهم يوم القيامة ، فجعلهم
488
منتظرين لها على معنى قربها منهم كالرجل الذي ينتظر الشيء فهو ماد الطرف إليه يقطع كل ساعة بحضوره ، قيل : المراد بالصيحة عذاب يفجؤهم ويجيئهم دفعة واحدة كما يقال : صاح الزمان بهم إذا هلكوا قال الشاعر :
*صاح الزمان بآل برمك صيحة ** خروا لشدتها على الأذقان*
ونظيره قوله تعالى : {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم} (يونس : 102)
الآية. وقرأ حمزة والكسائي : {ما لها} أي : الصيحة {من فواق} بضم الفاء ، والباقون بفتحها ، وهما لغتان بمعنى واحد وهو الزمان الذي بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع والمعنى : ما لها من توقف قدر فواق ناقة ، وفي الحديث : "العبادة قدر فواق ناقة" وهذا في المعنى كقوله تعالى : {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (الأعراف : 34)
جزء : 3 رقم الصفحة : 484
وقال ابن عباس : ما لها من رجوع من أفاق المريض إذا رجع إلى صحته وإفاقة الناقة ساعة يرجع اللبن إلى ضرعها يقال : أفاقت الناقة تفيق إفاقة ، رجعت واجتمعت الفيقة في ضرعها ، والفيقة اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين ، وهو أن يحلب الناقة ثم يترك ساعة حتى يجتمع اللبن فما بين الحلبتين فواق أي : العذاب لا يمهلهم بذلك القدر.
{وقالوا} أي : كفار مكة استهزاءً لما نزل قوله تعالى في الحاقة : {فأما من أوتي كتابه بيمينه} (الحاقة : 19)
{وأما من أوتي كتابه بشماله} (الحاقة : 25)
{ربنا} أي : يا أيها المحسن إلينا {عجل لنا قطنا} أي : كتاب أعمالنا في الدنيا {قبل يوم الحساب} وقال سعيد بن جبير : يعنون حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول ، وقال مجاهد والسدي : يعنون عقوبتنا ونصيبنا من العذاب ، قال عطاء : قاله النضر ابن الحارث وهو قوله : {إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} (الأنفال : 32)
وقال مجاهد : قطنا حسابنا ، يقال لكتاب الحساب : قط ، وقال أبو عبيدة والكسائي : القط الكتاب بالجوائز ويجمع على قطوط وقططة ، كقرد وقرود وقردة ، وفي القلة على أقطة وأقطاط ، كقدح وأقدحة وأقداح ، إلا أن أفعلة في فعل شاذ.
ولما أن القوم تعجبوا من أمور ثلاثة أولها : من أمر النبوات وإثباتها كما قال تعالى : {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب} (ص : 4)
وثانيها : تعجبهم من الإلهيات فقالوا {أجعل الآلهة إلهاً واحداً} وثالثها : تعجبهم من المعاد والحشر والنشر فقالوا : {ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} قالوا ذلك استهزاء أمر الله تعالى نبيه عليه السلام بالصبر فقال سبحانه :
جزء : 3 رقم الصفحة : 484
وقال ابن عباس : ما لها من رجوع من أفاق المريض إذا رجع إلى صحته وإفاقة الناقة ساعة يرجع اللبن إلى ضرعها يقال : أفاقت الناقة تفيق إفاقة ، رجعت واجتمعت الفيقة في ضرعها ، والفيقة اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين ، وهو أن يحلب الناقة ثم يترك ساعة حتى يجتمع اللبن فما بين الحلبتين فواق أي : العذاب لا يمهلهم بذلك القدر.
{وقالوا} أي : كفار مكة استهزاءً لما نزل قوله تعالى في الحاقة : {فأما من أوتي كتابه بيمينه} (الحاقة : 19)(3/327)
{وأما من أوتي كتابه بشماله} (الحاقة : 25)
{ربنا} أي : يا أيها المحسن إلينا {عجل لنا قطنا} أي : كتاب أعمالنا في الدنيا {قبل يوم الحساب} وقال سعيد بن جبير : يعنون حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول ، وقال مجاهد والسدي : يعنون عقوبتنا ونصيبنا من العذاب ، قال عطاء : قاله النضر ابن الحارث وهو قوله : {إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} (الأنفال : 32)
وقال مجاهد : قطنا حسابنا ، يقال لكتاب الحساب : قط ، وقال أبو عبيدة والكسائي : القط الكتاب بالجوائز ويجمع على قطوط وقططة ، كقرد وقرود وقردة ، وفي القلة على أقطة وأقطاط ، كقدح وأقدحة وأقداح ، إلا أن أفعلة في فعل شاذ.
ولما أن القوم تعجبوا من أمور ثلاثة أولها : من أمر النبوات وإثباتها كما قال تعالى : {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب} (ص : 4)
وثانيها : تعجبهم من الإلهيات فقالوا {أجعل الآلهة إلهاً واحداً} وثالثها : تعجبهم من المعاد والحشر والنشر فقالوا : {ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} قالوا ذلك استهزاء أمر الله تعالى نبيه عليه السلام بالصبر فقال سبحانه :
جزء : 3 رقم الصفحة : 484
وأشار بحرف الاستعلاء إلى عظيم الصبر فقال {على ما يقولون} أي : على ما يقول الكافرون من ذلك ، ثم إنه تعالى لما أمر نبيه بالصبر ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام تسلية له فكأنه تعالى قال : فاصبر على ما يقولون واعتبر بحال سائر الأنبياء ليعلمه أن كل واحد منهم كان مشغولاً بهم خاص ، وحزن خاص ، فيعلم حينئذ أن الدنيا لا تنفك عن الهموم والأحزان وأن استحقاق الدرجات العالية عند الله تعالى لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا.
وبدأ من ذلك بقصة داود عليه السلام فقال تعالى : {واذكر عبدنا} أي : الذي أخلصناه لنا وأخلص
489
نفسه للنظر إلى عظمتنا والقيام في خدمتنا وأبدل منه أو بينه بقوله تعالى : {داود ذا الأيد} قال ابن عباس : أي : القوة في العبادة ، روي عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود وأحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه" وقيل : ذا القوة في الملك ووصفه تعالى بكونه عبداً له وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم وذلك يدل على غاية التشريف ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يشرف محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج قال تعالى : {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} (الإسراء : 1)
جزء : 3 رقم الصفحة : 489
وأيضاً وصف الأنبياء عليهم السلام بالعبودية مشعر بأنهم قد حصلوا معنى العبودية بسبب الاجتهاد في الطاعة {إنه أواب} أي : رجاع إلى مرضاة الله تعالى ، والأواب فعال من آب يؤب إذا رجع قال الله تعالى : {إن إلينا إيابهم} (الغاشية : 25)
وهذا بناء مغالبة كما يقال : قتال وضراب وهو أبلغ من قاتل وضراب وقال ابن عباس : مطيع ، وقال سعيد بن جبير : مسبح بلغة الحبشة ، ويؤيد هذا قوله تعالى :
{إنا} أي : على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء {سخرنا الجبال} أي : التي هي أقسى من قلوب قومك وأنها أعظم الأراضي صلابة وقوةً وعلواً ورفعةً بأن جعلناها منقادة ذلولاً كالجمل الأنف ، ثم قيد ذلك بقوله تعالى : {معه} أي : مصاحبة له {يسبحن} أي : بتسبيحه وفي كيفية تسبيحها وجوه أحدها : أن الله تعالى يخلق في جسم الجبل حياة وعقلاً وقدرة ونطقاً وحينئذ يصير الجبل مسبحاً لله تعالى ، ثانيها : قال القفال : إن داود عليه السلام أوتي من شدة الصوت وحسنه ما كان له في الجبال دوي حسن وما يصغي الطير إليه لحسنه فيكون دوي الجبال وتصويت الطير معه وإصغاؤها إليه تسبيحاً. روى محمد بن إسحاق أن الله تعالى لم يعط أحداً من خلقه مثل صوت داود عليه السلام حتى أنه كان إذا قرأ الزبور دنت منه الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها ، ثالثها : أن الله تعالى سخر الجبال حتى أنها كانت تسير إلى حيث يريده داود عليه السلام فجعل ذلك السير تسبيحاً لأنه يدل على كمال قدرته تعالى واتقان حكمته {بالعشي والإشراق} قال الكلبي : غدوةً وعشياً ، والإشراق هو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوءها ، قال الزجاج : يقال : شرقت الشمس ، إذا طلعت ، وأشرقت إذا أضاءت ، وقيل : هما بمعنى واحد والأول أكثر استعمالاً ، تقول العرب : شرقت الشمس ولما تشرق ، وفسره ابن عباس بصلاة الضحى قال ابن عباس : كنت أمر بهذه الآية ولم أدر ما هي حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى الضحى وقال : يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق" ، وروى طاوس عن ابن عباس قال : هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن قالوا : لا فقرأ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق. وقوله تعالى : (3/328)
{والطير محشورةً} أي : مجموعة إليه تسبح معه ، عطف مفعول على مفعول ، وهما الجبال والطير ، أو حال على حال ، وهما يسبحن ، ومحشورة كقولك : ضربت زيداً مكتوفاً
490
وعمراً مطلقاً وأتى بالحال اسماً لأنه لم يقصد أن الفعل وقع شيئاً فشيئاً لأن حشرها دفعة واحدة أدل على القدرة والحاشر هو الله تعالى ؟
فإن قيل : كيف يصدر تسبيح الله تعالى من الطير مع أنه لا عقل لها ؟
أجيب : بأنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى لها عقولاً ولا حتى تعرف الله تعالى فتسبحه حينئذ ويكون ذلك معجزة لداود عليه السلام {كلٌ} أي : من الجبال والطير {له} أي : لداود أي : لأجل تسبيحه {أواب} أي : رجاع إلى طاعته بالتسبيح وقيل : كل مسبح فوضع أواب موضع مسبح وقيل : الضمير في له للباري تبارك وتعالى والمراد كل من داود والجبال والطير مسبح ورجاع لله تعالى.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 489
وشددنا} أي : قوينا بما لنا من العظمة {ملكه} بالحرس والجنود ، قال ابن عباس : كان أشد ملوك الأرض سلطاناً كان يحرس محرابه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل ، وعن ابن عباس : أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود فقال : إن هذا قد غصبني بقراً فسأله داود فجحد فقال للآخر : البينة فلم تكن له بينة ، فقال لهما داود : قوما حتى أنظر في أمركما فأوحى الله تعالى إلى داود في منامه أن يقتل الذي استعدى عليه ، فقال : هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت ، فأوحى الله تعالى إليه مرة ثانية فلم يفعل فأوحى الله تعالى إليه مرة ثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة فأرسل داود إليه فقال له : إن الله تعالى أوحى إلي أن أقتلك فقال : تقتلني بغير بينة فقال : نعم والله لأنفذن أمر الله تعالى فيك ، فلما عرف الرجل أنه قاتله قال : لا تعجل حتى أخبرك أني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت ابن هذا فقتلته فبذلك أخذت ، فأمر به داود فقتل ، فاشتدت هيبة داود عند ذلك في قلوب بني إسرائيل واشتد به ملكه فذلك قوله تعالى : {وشددنا ملكه} {وآتيناه} أي : بعظمتنا {الحكمة} أي : النبوة والإصابة في الأمور.
واختلف في تفسيره قوله تعالى : {وفصل الخطاب} فقال ابن عباس : بيان الكلام أي : معرفة الفرق بين ما يلتبس في كلام المخاطبين له من غير كبير رؤية في ذلك ، وقال ابن مسعود والحسن : علم الحكمة والبصر بالقضاء ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : هو أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر لأن كلام الخصوم ينقطع وينفصل به ، وقال أبي بن كعب : فصل الخطاب الشهود والإيمان ، وقال مجاهد وعطاء ويروى عن الشعبي : إن فصل الخطاب هو قول الإنسان بعد حمد الله والثناء عليه ، أما بعد إذا أراد الشروع في كلام آخر وأول من قاله داود عليه السلام ، وقيل غيره كما ذكرته في شرح المنهاج عند قول المنهاج أما بعد ، وقيل : هو الخطاب الفصل الذي ليس باختصار مخل ولا إشباع ممل كما جاء وصف كلام النبي صلى الله عليه وسلم فصل لا نزر ولا هذر ، وقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
{وهل} استفهام معناه التعجب والتشويق إلى استماع ما بعده {أتاك} يا أفضل الخلق {نبأ} أي : خبر {الخصم} وهو في الأصل مصدر ولذلك يصلح للمفرد والمذكر والمراد به هنا الجمع بدليل قوله تعالى {إذ} أي : حين {تسوروا} أي : تصعدوا وعلوا {المحراب} أي : البيت الذي كان يدخل فيه داود ويشتغل فيه بالعبادة والطاعة ، قال الزمخشري : فإن قلت : بما انتصب إذ ؟
قلت : لا يخلو إما أن ينتصب بأتاك أو بنبأ أو بمحذوف فلا يسوغ انتصابه بأتاك لأن إتيان النبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقع إلا في عهده لا في عهد داود ولا بنبأ ؛ لأن النبأ واقع في عهد داود فلا يصح إتيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أردت بالنبأ القصة في نفسها لم تكن ناصباً ، فبقي أن يكون منصوباً بمحذوف تقديره وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم إذ تسوروا ، انتهى. فاختار أن يكون معمولاً لمحذوف ، ويجوز أن ينتصب بالخصم لما فيه من معنى الفعل.
491
وقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 489(3/329)
إذ} أي : حين {دخلوا على داود} بدل من إذ الأولى أو ظرف لتسوروا ، وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الذال عند التاء في الأول وعند الدال في الثاني ووافقهم ابن ذكوان في الأول والباقون بالإدغام فيهما {ففزع منهم} أي : لأنهم نزلوا عليه من فوق في يوم الاحتجاب والحرس على الباب لا يتركون من يدخل عليه ، فإنه عليه السلام كان جزأ زمانه يوماً للعبادة ويوماً للقضاء ويوماً للوعظ ويوماً للاشتغال بحاجته فتسور عليه ملكان على صورة الإنسان في يوم الخلوة {قالوا لا تخف} وقولهم : {خصمان} خبر مبتدأ وضمر أي : نحن خصمان أي : فريقان ، ليطابق ما قبله من ضمير الجمع وقيل : اثنان ، والضمير بمعناهما وقد مر أن الخصم يطلق على الواحد والأكثر ، وقولهم : {بغى بعضنا على بعض} جملة يجوز أن تكون مفسرة لحالهم وأن تكون خبراً ثانياً ، فإن قيل : كيف قالوا بغى بعضنا على بعض وهم ملائكة على المشهور ؟
أجيب : بأن ذلك على سبيل الفرض أي : أرأيت خصمين بغى أحدهما على الآخر وهذا من معاريض الكلام لا من تحقيق البغي من أحدهما {فاحكم بيننا بالحق} أي : الأمر الثابت الذي يطابق الواقع {ولا تشطط} أي : ولا تجر في الحكومة {واهدنا} أي : أرشدنا {إلى سواء الصراط} أي : وسط الطريق الصواب فقال لهما : تكلما فقال أحدهما :
{إن هذا أخي} أي : على ديني وطريقتي أو في النصح لا من جهة النسب {له تسع وتسعون نعجة} أي : امرأة {ولي نعجة واحدة} امرأة واحدة ، والنعجة هي الأنثى من الضأن ولكن كثر في كلامهم الكناية عن المرأة ، قال ابن عون :
*أنا أبوهن ثلاثة هنه ** رابعة في البيت صغرا هنه*
*ونعجتي خمساً توافيهنه*
قال الحسن بن الفضل : هذا تعريض للتنبيه والتفهيم لأنه لم يكن ثم نعاج ولا بغي فهو كقولهم : ضرب زيد عمراً واشترى بكر داراً ولا ضرب هناك ولا شراء ، وقرأ حفص بفتح الياء والباقون بالسكون {فقال أكفلنيها} قال ابن عباس : أعطنيها وقال مجاهد : انزل لي عنها وحقيقته ضمها إلي واجعلني كافلها وهو الذي يعولها وينفق عليها والمعنى : طلقها لأتزوجها {وعزني} أي : غلبني {في الخطاب} أي : الجدال لأنه أفصح مني في الكلام ، وقيل : قهرني لقوة ملكه ، قال الضحاك : يقول : إن تكلم كان أفصح مني وإن حارب كان أبطش مني ، وحقيقة المعنى : أن الغلبة كانت له لضعفي في يده وإن كان الحق معي وهذا كله تمثيل لأمر داود مع أوريا زوج المرأة التي تزوجها داود وسيأتي الكلام على قصته إن شاء الله تعالى عن قريب.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 489
قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} وهذا جواب قسم محذوف أريد به المبالغة في إنكار فعل خليطه وتهجين طمعه والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة والانضمام أي : ليضمها مضافة إلى نعاجه ، فإن قيل : كيف قال : {لقد ظلمك} ولم يكن سمع قول صاحبه ؟
أجيب : بأن معناه : إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك أو أنه قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما يقول ولم يذكر الله تعالى ذلك لدلالة الكلام عليه ، وقيل : التقدير أن الخصم الذي هذا شأنه قد ظلمك ، وقرأ قالون وابن كثير وهشام وعاصم بإظهار الدال عند الظاء والباقون بالإدغام ، وقوله : {وإن كثيراً من الخلطاء} أي : مطلقاً منكم ومن غيركم والخلطاء جمع
492
خليط وهم الشركاء الذين خلطوا أموالهم ، وقال الليث : خليط الرجل مخالطه {ليبغي} أي : ليعتدي {بعضهم} غالباً {على بعض} فيريدون غير الحق. فإن قيل : لم خص الخلطاء ببغي بعضهم على بعض مع أن غير الخلطاء يفعلون ذلك ؟
أجيب : بأن المخالطة توجب كثرة المنازعة والمخاصمة لأنهما إذا اختلطا اطلع كل منهما على أحوال صاحبه فكل ما يملكه من الأشياء النفيسة إذا اطلع عليه عظمت رغبته فيه فيفضي ذلك إلى زيادة المنازعة والمخاصمة ، فلذلك خص داود عليه السلام الخلطاء بالبغي والعدوان ثم استثنى فقال : {إلا الذين آمنوا وعملوا} أي : تحقيقاً لإيمانهم {الصالحات} أي : الطاعات فإنهم لا يقع منهم شيء لأن مخالطة هؤلاء تكون لأجل الدين وهذا استثناء متصل من قوله : {بعضهم وقليل ما هم} أي : هم قليل فقليل خبر مقدم وما مزيدة للتعظيم وهو مبتدأ ، وقال الزمخشري : ما للإبهام وفيه تعجب من قلتهم قال : فإن أردت أن تحقق فائدتها وموقعها فأخرجها من قول امرئ القيس :
*وحديث ما على قصره(3/330)
وانظر هل بقي لها معنى {وظن داود} أي : لذهابهم قبل فصل الأمر وقد همه من ذلك أمر من عظمه لا عهد له بمثله {أنما فتناه} أي : امتحناه ، قال المفسرون : إن الظن هنا بمعنى العلم لأن داود لما قضى الأمر بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك ثم صعدا إلى السماء حيال وجهه فعلم أن الله تعالى ابتلاه بذلك فثبت أن داود علم ذلك ، وقال ابن عباس : إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه تحولا في صورتهما وعرجا وهما يقولان : قضى الرجل على نفسه {فاستغفر ربه} أي : طلب الغفران من مولاه الذي أحسن إليه {وخرّ} أي : سقط من قيامه توبة لربه عن ذلك {راكعاً} أي : ساجداً على تسمية السجود ركوعاً لأنه مبدؤه أو خر للسجود راكعاً أو مصلياً كأنه أحرم بركعتي الاستغفار {وأناب} أي : رجع إلى الله تعالى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 489
قال الرازي : وللناس في هذه القصة ثلاثة أحوال ؛ أحدها : أن هذه القصة دلت على صدور الكبيرة منه ، وثانيها : على الصغيرة ، وثالثها : لا تدل على كبيرة ولا صغيرة ، فأما القول الأول فقالوا : إن داود عليه السلام أحب امرأة أوريا فاحتال في قتل زوجها ثم تزوج بها ثم أرسل الله تعالى ملكين في صورة المتخاصمين في واقعة تشبه واقعته وعرضا تلك الواقعة عليه ، فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنباً ثم تنبه لذلك واشتغل بالتوبة ، قالوا : وسبب ذلك أن داود عليه السلام تمنى يوماً من الأيام منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب وسأل ربه : أن يمتحنه كما امتحنهم ويعطيه من الفضل ما أعطاهم فأوحى الله تعالى إليه أنك تبتلى في يوم كذا فاحترس ، فلما كان ذلك اليوم جاءه الشيطان فتمثل له في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن فأعجبه حسنها فمد يده ليأخذها ويريها بني إسرائيل لينظروا إلى قدرة الله تعالى فطارت غير بعيدة فتبعها فطارت من كوة ، فنظر داود أين تقع فأبصر داود امرأة في بستان تغتسل فعجب داود من حسنها وحانت منها التفاتة فأبصرت ظله فنقضت شعرها فغطى بدنها فزاده إعجاباً ، فسأل عنها فقيل له : امرأة أوريا وزوجها في غزاة فأحب
493
داود أن يقتله ويتزوج بها ، فأرسل داود إلى ابن أخته أن قدم أوريا قبل التابوت وكان من قدم على التابوت لا يحل أن يرجع وراءه حتى يفتح الله تعالى على يديه أو يقتل ، فقدمه ففتح على يديه فكتب إلى داود فأمر أن يقدمه بعد ذلك ففعل ثلاث مرات فقتل في الثالثة فلما انقضت عدتها تزوج بها فهي أم سليمان عليهما السلام.
قال الرازي : والذي أدين الله تعالى به وأذهب إليه أن ذلك باطل لوجوه.
الأول : أن هذه الحكاية لا تناسب داود لأنها لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجوراً لانتفى منها والذي نقل هذه القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه وربما لعن من نسبه إليها فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصية إلى داود عليه السلام .
ثانيها : أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته ، أما الأول : فأمر منكر قال صلى الله عليه وسلم "من سعى في ذم مسلم ولو بشطر كلمة جاء مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله" ، وأما الثاني : فمنكر أيضاً قال صلى الله عليه وسلم "المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه" فإن أوريا لم يسلم من داود عليه السلام لا في روحه ولا في منكوحه.
ثالثها : إن الله تعالى وصف داود عليه السلام بصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفاً بهذا الفعل المنكر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 489
الصفة الأولى : أنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بداود عليه السلام في المصابرة على المكاره فلو قلنا : إن داود لم يصبر على مخالفة النفس بل سعى في إراقة دم عبد مسلم لغرض شهوته فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمداً أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بداود في الصبر على طاعة الله تعالى.
الصفة الثانية : أنه وصفه بكونه عبداً له وقد بينا أن المقصود من هذا الوصف بيان كون ذلك الموصوف كاملاً في وصف العبودية في القيام بأداء الطاعات والاحتراز عن المحظورات ، فلو قلنا : إن داود اشتغل بتلك الأعمال الباطلة فحينئذ ما كان داود كاملاً إلا في طاعة الهوى والشهوة.
الصفة الثالثة : وهي قوله تعالى {ذا الأيد} أي : ذا القوة ولا شك أن المراد منه القوة في الدين لأن القوة الكاملة في أداء الواجبات والاجتناب عن المحظورات وأي قوة لمن لم يملك نفسه عن القتل والرغبة في زوجة المسلم.
الصفة الرابعة : كونه أواباً كثير الرجوع إلى الله فكيف يليق هذا الوصف بمن قلبه مشغول بالفسق والفجور.
الصفة الخامسة : قوله تعالى : {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن} أَفَتَرى أنه سخرت له الجبال ليتخذ سبيل القتل والفجور ؟
.
الصفة السادسة : قوله تعالى : {والطير محشورة} قيل : إنه كان محرماً عليه صيد شيء من
494
الطير فكيف يعقل أن يكون الطير آمناً منه ولا يجوز أمن الرجل المسلم على روحه ومنكوحه.(3/331)
الصفة السابعة : قوله تعالى : {وشددنا ملكه} ومحال أن يكون المراد أنه تعالى شد ملكه بأسباب الدنيا بل المراد إنا ملكناه بقوى الدين وأسباب سعادة الآخرة ، والمراد تشديد ملكه في الدين والدنيا ومن لم يملك نفسه عن القتل والفجور كيف يليق به ذلك.
الصفة الثامنة : قوله تعالى : {وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} والحكمة اسم جامع لكل ما ينبغي علماً وعملاً فكيف يجوز أن يقال : إنا آتيناه الحكمة وفصل الخطاب مع إصراره على ما يستنكف من مزاحمة أخص أصحابه في الروح والمنكوح ، فهذه الصفات التي وصف بها قبل شرح القصة وأما الصفات المذكورة بعد ذكر القصة.
فأولها : قوله تعالى : {وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} وقوله تعالى :
{يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض} فكيف أن الله تعالى يجعله خليفة ويقع منه ذلك ، وقد روي عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال : من حدثكم بحديث داود على ما ترويه القصاص فاجلدوه مائة جلدة وستين وهو حد الفرية أي : الكذب على الأنبياء ، ومما يقوي هذا أنهم قالوا : إن المغيرة بن شعبة زنا وشهد ثلاثة من الصحابة بذلك وأما الرابع فلم يقل إني رأيت ذلك بعيني ، فإن عمر رضي الله عنه كذب أولئك الثلاثة وجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة لأجل أنهم قذفوا ، فإذا كان هذا الحال في واحد من آحاد الصحابة كذلك ، فكيف الحال مع داود عليه السلام مع أنه من أكابر الأنبياء عليهم السلام ، فثبت بما ذكرنا أن القصة الذي ذكرها هؤلاء باطلة لا يجوز ذكرها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 489
قال الرازي : حضرت في مجلس وفيه بعض الأكابر فكان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد والقصة الخبيثة بسبب اقتضى ذلك فقلت له : لا شك أن داود عليه السلام كان من أكابر الأنبياء والرسل ، وقال الله تعالى : {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} (الأنعام : 124)
ومن مدحه الله تعالى بمثل هذا المدح العظيم لم يجز لنا أن نبالغ في الطعن فيه وأيضاً بتقدير أنه ما كان نبياً فلا شك أنه كان مسلماً وقال صلى الله عليه وسلم "لا تذكروا موتاكم إلا بخير" وذكرت له أشياء أخر قال : سكت ولم يذكر شيئاً.
فإن قيل : قد ذكر هذه القصة كثير من المحدثين والمفسرين. أجيب : بأنه لما وقع التعارض بين الدلائل القاطعة وبين خبر واحد من أخبار الآحاد كان الرجوع إلى الدلائل القطعية واجباً والمحققون يردون هذا القول ويحكمون عليه بالكذب ، وأما القول الثاني : فقالوا : تحمل هذه القصة على حصول الصغيرة لا على حصول الكبيرة وذلك من وجوه : الأول : أن هذه المرأة خطبها أوريا فأجابوه ثم خطبها داود عليه السلام فآثره أهلها فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه. الثاني : قالوا : إنه وقع بصره عليها فمال قلبه إليها وليس له في هذا ذنب البتة أما وقوع بصره عليها بغير قصد فليس بذنب وأما حصول الميل عقب النظر فليس أيضاً ذنباً لأن الميل ليس في وسعه فليس مكلفاً به بل لما اتفق أنه قتل زوجها تزوج بها. الثالث : أنه كان أهل زمان داود عليه السلام
495
يسأل بعضهم بعضاً أن يطلق زوجته حتى يتزوجها وكانت عادة مألوفة معهودة في هذا المعنى فاتفق أن عين داود عليه السلام وقعت على تلك المرأة فأحبها فسأله النزول عنها فاستحيا أن يرده ففعل وهي أم سليمان ، فقيل له ذلك ، وإن كان جائزاً في ظاهر الشريعة إلا أنه لا يليق بك فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فهذه وجوه ثلاثة لو حملت هذه القصة على واحد منها لم يلزم في حق داود عليه السلام إلا ترك الأفضل والأولى.
وأما القول الثالث : فقال تحمل هذه القصة على وجه لا يلزم منه إيجاب كبيرة ولا صغيرة لداود عليه السلام بل يوجب أعظم أنواع المدح والثناء له وهو أنه قد روي أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبي الله داود عليه السلام وكان له يوم يخلو فيه بنفسه ويشتغل فيه بطاعة ربه فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوروا المحراب فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواماً تمنعهم منه فخافوا ووضعوا كذباً ، وقالوا : {خصمان بغى بعضنا على بعض} إلى آخر القصة فعلم غرضهم وقصد أن ينتقم منهم وظن أن ذلك ابتلاء من الله تعالى فاستغفر ربه مما هم به وأناب ، فإن قيل : ههنا أربعة ألفاظ يمكن أن يحتج بها في إلحاق الذنب بداود عليه السلام أحدها : قوله تعالى : {وظن داود أنما فتناه} وثانيها : قوله تعالى : {فاستغفر ربه} وثالثها : قوله تعالى : {وأناب} ورابعها : قوله تعالى : {فغفرنا له ذلك}. أجيب : بأن هذه الألفاظ لا يدل شيء منها على ما ذكر لاحتمال أن تكون الزلة إنما حصلت من باب ترك الأفضل والأولى كما مر ، وحمل هذه الألفاظ على هذا الوجه لا يلزم منه إسناد شيء من الذنوب إليه بل ذلك يوجب إسناد أعظم الطاعات إليه ، وقيل : إن ذنبه المبادرة إلى تصديق المدعي وتظليم الآخر قبل مسألته وهناك أشياء كثيرة ذكرها البغوي وغيره وفيما ذكرناه كفاية.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 489(3/332)
فغفرنا له ذلك} أي : ما استغفر منه {وإن له عندنا لزلفى} أي : زيادة خير في الدارين بعد المغفرة {وحسن مآب} أي : مرجع في الجنة.
ولما تم الكلام في شرح القصة أردفها ببيان أن الله تعالى فوض إلى داود خلافة الأرض بقوله تعالى :
{يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض} أي : تدبر أمر العباد بأمرنا وهذا من أقوى الدلائل على فساد القول الأول كما مر لأن من البعيد جداً أن يوصف الرسول بكونه ساعياً في سفك دماء المسلمين رغبة في انتزاع أزواجهم من أيديهم ثم يذكر عقبه أن الله تعالى فوض خلافة الأرض إليه ، ثم في تفسير كونه خليفة وجهان :
أحدهما : جعلناك تخلف من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى الله تعالى وفي سياسة الناس لأن خليفة الرجل من يخلفه وذلك إنما يعقل في حق من تصح عليه الغيبة وذلك على الله تعالى محال.
ثانيهما : إنا جعلناك ممكناً في الناس نافذ الحكم فيهم فبهذا التأويل يسمى خليفة ومنه يقال : خليفة الله تعالى في أرضه.
وحاصله : أن خليفة الرجل يكون نافذ الحكم في رعيته وحقيقة الخلافة ممتنعة في حق الله تعالى فلما امتنعت الحقيقة جعلت اللفظة للزوم نفاذ الحكم في تلك الحقيقة {فاحكم بين الناس} أي : الذين يتحاكمون إليك من أي قوم كانوا {بالحق} أي : بالعدل لأن الأحكام إذا كانت مطابقة للشريعة الحقة الإلهية انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات وإذا كانت الأحكام على
496
وفق الأهوية وتحصيل مقاصد الأنفس أفضى ذلك إلى تخريب العالم ووقوع الهرج فيه والمرج في الخلق وذلك يفضي إلى هلاك ذلك الحاكم ولهذا قال تعالى : {ولا تتبع الهوى} أي : لا تمل مع ما تشتهي إذا خالف أمر الله تعالى ثم سبب عنه قوله تعالى : {فيضلك} أي : ذلك الاتباع أو الهوى {عن سبيل الله} لأن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله والضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب {إن الذين يضلون عن سبيل الله} أي : عن الإيمان بالله تعالى {لهم عذابٌ شديدٌ بما نسوا} أي : بسبب نسيانهم {يوم الحساب} أي : المرتب عليه تركهم الإيمان ولو أيقنوا بيوم الحساب لآمنوا في الدنيا ، وقال الزجاج : بتركهم العمل لذلك اليوم ، وقال عكرمة والسدي : في الآية تقديم وتأخير تقديره لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا أي : تركوا القضاء بالعدل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 489
{وما خلقنا السماء} التي ترونها {والأرض وما بينهما} أي : مما تحسون به من الرياح وغيرها خلقاً {باطلاً} أي : عبثاً قال الله تعالى : {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} (المؤمنون : 115)
تنبيه : احتج أهل السنة بأن هذه الآية تدل على أنه تعالى خلق كل ما بين السماء والأرض وأعمال العباد مما بين السماء والأرض فوجب أن يكون تعالى خالقاً لها ، ودلت على صحة القول بالحشر والنشر لأنه تعالى لما خلق الخلق في هذا العالم فإما أن يكون خلقهم للإضرار والانتفاع أو لا لشيء ، والأول باطل لأن ذلك لا يليق بالرحيم الكريم ، والثالث أيضاً باطل ، لأن هذه الحالة حاصلة خالصة حين كانوا معدومين فلم يبق إلا أن يقال : خلقهم للانتفاع وذلك الانتفاع إما أن يكون في حياة الدنيا أو في حياة الآخرة. والأول باطل لأن منافع الدنيا قليلة ومضارها كثيرة وتحمل الضرر الكثير لوجدان المنفعة القليلة لا يليق بالحكمة ، ولما بطل هذا القول ثبت القول بوجود حياة بعد هذه الحياة الدنيا وذلك هو القول بالحشر والنشر والقيامة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 497
تنبيه : يجوز في باطلاً أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أو حالاً من ضميره أي : خلقاً باطلاً وأن يكون حالاً من فاعل خلقنا أي : مبطلين أو ذوي باطل وأن يكون مفعولاً من أجله أي : للباطل وهو العبث {ذلك} أي : خلق ما ذكر لا لشيء {ظن الذين كفروا} أي : أهل مكة هم الذين ظنوا أنهما خلقا لغير شيء وأنه لا بعث ولا حساب {فويل} أي : هلاك عظيم بسبب هذا الظن أو واد في جهنم {للذين كفروا} أي : مطلقاً بهذا الظن وغيره من أي شرك كان {من النار} لأن من أنكر
497
الحشر والنشر كان شاكاً في حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض.
ونزل لما قال كفار مكة للمؤمنين إنا نعطى في الآخرة مثل ما تعطون.
{أم نجعل} أي : على عظمتنا {الذين آمنوا} أي : امتثالاً لأوامرنا {وعملوا الصالحات} تحقيقاً لإيمانهم {كالمفسدين} أي : المطبوعين على الفساد والراسخين فيه {في الأرض} أي : في السفر وغيره لم نجعلهم مثلهم وأم منقطعة والاستفهام فيها لإنكار التسوية بين الحزبين التي هي من لوازم خلقها باطلاً ليدل على نفيه وكذا التي في قوله تعالى : {أم نجعل المتقين كالفجار} كرر الإنكار الأول باعتبار وصفين آخرين يمنعان التسوية ، أولاً بين المؤمنين والكافرين ثم بين المتقين من المؤمنين والمجرمين منهم وقوله تعالى : (3/333)
{كتاب} خبر مبتدأ مضمر أي : هذا كتاب ثم وصفه بقوله تعالى : {أنزلناه} أي : بما لنا من العظمة {إليك} يا أشرف الخلق {مبارك} أي : كثير خيره ونفعه ، وقوله تعالى : {ليدبروا} أصله ليتدبروا أدغمت التاء في الدال {آياته} أي : ليتفكروا في أسراره العجيبة ومعانيه اللطيفة فيأتمروا بأوامره ومناهيه فيؤمنوا {وليتذكر} أي : وليتعظ به {أولو الألباب} أي : أصحاب العقول.
القصة الثانية : قصة سليمان عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
{ووهبنا} أي : بما لنا من العظمة {لداود سليمان} ابنه فجاء عديم النظير في ذلك الزمان ديناً ودنيا وعلماً وحكمة وعظمة ورحمة ، والمخصوص بالمدح في قوله تعالى : {نعم العبد} محذوف أي : سليمان ، وقيل : داود {إنه أواب} أي : رجاع إلى التسبيح والذكر في جميع الأوقات.
{إذ} أي : اذكر إذ {عرض عليه} أي : سليمان ، وقوله تعالى : {بالعشي} وهو ما بعد الزوال إلى الغروب ، وقوله تعالى : {الصافنات} أي : الخيل العربية الخالصة جمع صافنة وفيه خلاف بين أهل اللغة فقال الزجاج : هو الذي يقف على إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه وقد يفعل ذلك بإحدى رجليه قال وهي علامة الفراهة فيه وأنشد :
*
جزء : 3 رقم الصفحة : 497
ألف الصفون فلا يزال كأنه ** مما يقوم على الثلاث كسيرا*
وقيل : هو الذي يجمع يديه ويسويهما ، وقيل : هو القائم مطلقاً أي : سواء كان من الخيل أم من غيرها قاله القتيبي واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم "من سره أن تقوم الناس له صفوناً فليتبوأ مقعده من النار" أي : يديمون له القيام وجاء الحديث قمنا صفوناً أي : صافين أقدامنا ، وقيل : هو قيام الخيل مطلقاً ، أي : سواء وقف على طرف سنبكه أم لا ، قال الفراء : على هذا رأيت أشعار العرب ، واختلف أيضاً في قوله تعالى : {الجياد} فهي إما من الجودة ويقال : جاد الفرس يجود جودة وجودة بالفتح والضم فهو جواد للذكر والأنثى ، وهو الذي يجود في جريه بأعظم ما يقدر عليه ، والجمع جياد وأجواد وأجاويد ، وقيل : جمع لجود بالفتح كثياب وثوب ، وإما من الجيد وهو العنق ، والمعنى : طويلة الأجياد وهو دال على فراهتها.
498
قال الكلبي : غزا سليمان أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس ، وقال مقاتل : ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس ، وقال عوف عن الحسن : بلغني أنها كانت خيلاً خرجت من البحر لها أجنحة ، وعن عكرمة : أنها كانت عشرين ألف فرس لها أجنحة فصلى سليمان الصلاة الأولى التي هي الظهر وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه منها تسعمائة فرس فتنبه لصلاة العصر فإذا الشمس قد غربت وفاتته الصلاة ولم يعلم بذلك هيبة له فاغتم لذلك.
{فقال إني أحببت} أي : أردت {حب الخير} أي : الخيل {عن ذكر ربي} أي : صلاة العصر {حتى توارت} أي : الشمس {بالحجاب} أي : استترت بما يحجبها عن الأبصار.
{ردوها علي} أي : الخيل المعروضة ، وقيل : الضمير يرجع للشمس ، قال الرازي : وهذا بعيد لوجوه.
الأول : أن الصافنات مذكورة بالصريح والشمس غير مذكورة وعود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى المقدر.
وثانيها : أنه لو اشتغل بالخيل حتى غربت الشمس وفاتته صلاة العصر كان ذلك ذنباً عظيماً ومن كان هذا حاله فطريقه التضرع والبكاء والمبالغة في إظهار التوبة ، فأما أن يقول على سبيل العظمة لرب العالمين مثل هذه الكلمة العارية عن كل جهات الأدب عقب ذلك الجرم العظيم الذي لا يصدر عن أبعد الناس عن الخير فكيف يجوز إسناده للرسول عليه السلام المطهر المكرم.
ثالثها : أن الشمس لو رجعت بعد الغروب لصار ذلك مشاهداً لكل أهل الدنيا ولو كان كذلك لتوفرت الدواعي على نقله وحيث لم ينقل علمنا فساده ، انتهى. قال أكثر المفسرين : فلما ردوا الخيل إليه أقبل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف أخذاً من قوله تعالى {فطفق مسحاً} أي : فأخذ يمسح السيف مسحاً {بالسوق والأعناق} أي : سوقها وأعناقها يقطعها من قولهم : مسح علاوته إذا ضرب عنقه ، قالوا : فعل ذلك تقرباً إلى الله تعالى وطلباً لمرضاته حيث اشتغل عن طاعته وكان ذلك مباحاً له وإن كان حراماً علينا كما أبيح لنا ذبح بهيمة الأنعام وبقي منها مائة فرس فما بقي في أيدي الناس اليوم من الخيل من نسل تلك المائة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 497
قال الحسن : فلما عقر الخيل أبدله الله تعالى خيراً منها وأسرع وهي الريح تجري بأمره كيف شاء ، قال الرازي : وهذا عندي بعيد لوجوه.
الأول : أنه لو كان مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى فامسحوا برؤوسكم أي : اقطعوها وهذا لا يقوله عاقل بل لو قيل : مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العنق أما إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم منه البتة من المسح العقر والذبح.(3/334)
الثاني : أن القائلين بهذا القول أجمعوا على أن لسليمان عليه السلام أنواعاً من الأفعال المذمومة فأولها : ترك الصلاة وثانيها : أنه استولى عليه الإشتغال بحب الدنيا حتى نسي الصلاة وقال صلى الله عليه وسلم "حب الدنيا رأس كل خطيئة" وثالثها : أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة
499
والإنابة البتة. ورابعها : أنه خاطب رب العالمين بقوله : ردوها علي وهذه كلمة لا يقولها الرجل الحصيف إلا مع الخادم الخسيس. وخامسها : أنه اتبع هذه المعاصي بعقر الخيل في سوقها وأعناقها ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان إلا لأكله ، وهذه أنواع من الكبائر ينسبونها إلى سليمان عليه السلام مع أن لفظ القرآن لم يدل على شيء منها ، وخلاصتها : أن هذه القصص إنما ذكرها الله تعالى عقب قوله : {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} وأن الكفار لما بالغوا في السفاهة إلى هذا الحد قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ثم ذكر عقبه قصة سليمان عليه السلام فقال تعالى : {ووهبنا لداود سليمان} الآية والتقدير : أنه تعالى قال لمحمد صلى الله عليه وسلم يا محمد اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا سليمان ، وهذا الكلام إنما يليق إذا قلنا : إن سليمان عليه السلام أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة وصبر على طاعة الله تعالى وأعرض عن الشهوات واللذات ، فلو كان المقصود من قصة سليمان عليه السلام في هذا الموضع أنه أقدم على الكبائر العظيمة والذنوب لم يكن ذكر هذه القصة لائقاً.
قال : والصواب : أن تقول إن رباط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم كما هو في دين محمد صلى الله عليه وسلم ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وذكر أني لا أجريها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما أجريها لأمر الله تعالى وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله : {عن ذكر ربي} ثم إنه عليه السلام أمر بإجرائها وسيرها حتى توارت بالحجاب أي : غابت عن بصره ثم إنه أمر الرابضين أن يردوها فردوا تلك الخيل إليه ، فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها والغرض من ذلك أمور :
جزء : 3 رقم الصفحة : 497
الأول : تشريفاً لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو.
الثاني : أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتضع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه.
الثالث : أنه كان أعلم بأحوال الخيل ومراميها وعيوبها فكان يمسها ويمسح لها سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض ، فهذا التفسير هو الذي ينطبق عليه لفظ القرآن ولا يلزم منه نسبة شيء من المنكرات إلى سليمان عليه السلام والعجب منهم كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردها وليس لهم في إثباتها شبهة فضلاً عن حجة.
قال : فإن قيل فالجمهور فسروا الآية بتلك الوجوه فالجواب أن نقول : لفظ الآية لا تدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها لما ذكرنا وأيضاً فإن الدلائل الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولم يدل على صحة هذه الحكايات دليل قطعي ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية فكيف الحكايات من أقوام لا يلتفت إلى أقوالهم والذي ذهبنا إليه قول الزهري وابن كيسان ا. ه ، وقد يجاب من جهة الجمهور أن ما نسبه إليهم ممنوع.
وبيان ذلك أن قوله : إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم منه البتة من المسح العقر والذبح يقال : القرينة كافية في ذلك وقوله أنهم جمعوا أنواعاً مذمومة أولها : ترك الصلاة إنما يكون ذلك مذموماً إذا تركها متعمداً ولم يكن ذلك بل نسيها وقد نام صلى الله عليه وسلم في الوادي حتى طلعت الشمس وقضى الصبح والنسيان والنوم لا مؤاخذة فيهما ، وقوله : ثانيها : أنه استولى عليه الاشتغال بحب الدنيا إنما اشتغل بذلك لأمر الجهاد وهو مطلوب في حقه ، وقوله : ثالثها : أنه لم يشتغل بالتوبة يقال : إنه لم يأت
500
بذنب ، وقوله : رابعها : أنه خاطب رب العالمين بقوله : ردوها علي ممنوع والمخاطب إنما هو جماعته ، وقوله : خامسها إلى أن قال : وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عقر الحيوان قد مر عنهم أن ذلك كان مباحاً له فليس فيما قالوه نسبة سليمان عليه الصلاة والسلام إلى معصية فلو قال : الأولى أن يقال : كذا كان أولى ، وقرأ قنبل بهمزة ساكنة بعد السين وقيل عنه أيضاً بضم الهمزة وواو بعدها ، واختلف في سبب الفتنة التي وقعت لسليمان عليه السلام في قوله تعالى : (3/335)
{ولقد فتنا سليمان وألقينا} أي : بما لنا من العظمة {على كرسيه جسداً ثم أناب} فقال محمد بن إسحاق : عن وهب بن منبه قال : سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر وكان الله تعالى قد أعطى سليمان في ملكه سلطاناً لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر إنما يركب إليه الريح ، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس ، فأخذها وقتل ملكها وسبا ما فيها وأصاب فيما أصاب بنتاً لذلك الملك يقال لها جرادة لم ير مثلها حسناً وجمالاً فاصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة فقه ، وأحبها حباً لم يحبه شيئاً من نسائه وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها فشق ذلك على سليمان عليه السلام .
جزء : 3 رقم الصفحة : 497
فقال لها : ويحك ما هذا الحزن ؟
قالت له : إن أبي أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصاب فيحزنني ذلك فقال لها سليمان عليه السلام : قد أبدلك الله ملكاً هو أعظم من ملكه وسلطاناً هو أعظم من سلطانه وهداك إلى الإسلام وهو خير من ذلك كله ، قالت : إن ذلك كذلك ولكن إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا صورته في داري أراها بكرة وعشياً لرجوت أن يذهب ذلك حزني ، فأمر سليمان عليه السلام الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها فعمدت إليه حين صنعوه وألبسته ثياباً مثل ثيابه التي كان يلبسها ، ثم كانت إذا خرج سليمان عليه السلام تذهب إليه مع ولائدها فتسجد له ويسجدن معها له تبعاً لها كما كانت تصنع في ملكه ، وسليمان عليه السلام لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحاً ، فبلغ ذلك آصف بن برخيا وكان صديقاً لسليمان عليه السلام وكان لا يرد عن أبواب سليمان عليه السلام أي ساعة أراد دخول شيء من بيوت سليمان عليه السلام حاضراً كان سليمان عليه السلام أو غائباً.
فقال : يا نبي الله كبر سني ورق عظمي ونفد عمري وقد حان مني الذهاب وقد أحببت أن أقوم مقاماً قبل الموت أذكر فيه من مضى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأثني عليهم بعملي فيهم وأعلم الناس ببعض ما كانوا يجهلون من كثير أمرهم ، فقال : افعل فجمع سليمان عليه السلام الناس فقام فيهم خطيباً فذكر من مضى من أنبياء الله تبارك وتعالى وأثنى على كل نبي بما فضله الله به حتى انتهى إلى سليمان عليه السلام فقال : ما كان أحكمك في صغرك ثم انصرف ، فوجد سليمان عليه السلام في نفسه من ذلك حتى امتلأ غضباً ، فلما دخل داره دعاه فقال : يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله تعالى فأثنيت عليهم خيراً في كل زمانهم وكل حال أمرهم فلما ذكرتني جعلت تثني علي خيراً في صغري وسكت عما سوى ذلك من أمري فما الذي أحدثت في آخر عمري فقال آصف : إن غير الله تعالى يعبد في دارك ، فقال سليمان عليه السلام : إنا لله وإنا إليه راجعون لقد عرفت أنك ما قلت الذي قلت إلا عن شيء بلغك ، ثم رجع سليمان عليه السلام إلى داره فكسر الصورة وعاقب تلك المرأة وولائدها ، وخرج وحده إلى فلاة ففرش الرماد وجلس عليه تائباً إلى الله تعالى.
وكانت له أم ولد يقال لها : الأمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها وكان ملكه فيه فوضعه عندها يوماً ، فأتاها الشيطان صاحب البحر واسمه صخر على صورة
501
سليمان عليه السلام وقال لها : يا أمينة خاتمي فناولته الخاتم وتختم به وجلس على كرسي سليمان عليه السلام فعكف عليه الطير والجن والإنس وتغيرت صفة سليمان عليه السلام ، فأتى الأمينة يطلب الخاتم فأنكرته فعرف أن الخطيئة قد أدركته فكان يدور على البيوت يتكفف وإذا قال : أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه وأخذ ينقل السمك للسماكين فيعطونه كل يوم سمكتين فإذا أمسى باع إحداها بأرغفة وشوى الأخرى فأكلها فمكث كذلك أربعين صباحاً مدة ما كان عبد الوثن في داره فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 497
وسأل آصف نساء سليمان عليه السلام فقلن : ما يدع امرأة في دمها ولا يغتسل من جنابة فقال آصف : إنا لله وإنا إليه راجعون إن هذا لهو البلاء المبين ، ثم خرج على بني إسرائيل فقال : ما في الخاصة أعظم مما في العامة فلما مضى أربعون صباحاً طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة فأخذها بعض الصيادين وقد عمل له سليمان عليه السلام بسمكتين صدر يومه ذلك حتى إذا كان العشي أعطاه سمكتيه فأعطى السمكة التي أخذت الخاتم ، وخرج سليمان عليه السلام بسمكتيه فباع السمكة التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها فاستقبله الخاتم في جوفها فأخذه فجعله في يده ووقع ساجداً ، وعكفت عليه الطير والجن والأنس ورجع إلى ملكه وأخذ ذلك الشيطان وحبسه في صخرة وألقاه في البحر هذا ملخص حديث وهب ، وقال الحسن : ما كان الله ليسلط الشيطان على نسائه.(3/336)
وقال السدي : كان سبب فتنة سليمان عليه السلام أنه كانت له مائة امرأة وكانت امرأة منهن يقال لها جرادة : وهي آثر نسائه وآمنهن عنده وكان يأتمنها على خاتمه إذا أتى حاجته فقالت له يوماً : إن أخي بينه وبين فلان خصومة فأحب أن تقضي له فقال : نعم ولم يفعل فابتلى بقوله : نعم ، وذكر نحو ما تقدم وفي بعض الروايات أن سليمان عليه السلام لما افتتن سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه فأعاده سليمان عليه السلام إلى يده فسقط فأيقن سليمان عليه السلام بالفتنة ، فأتاه آصف فقال لسليمان عليه السلام : إنك مفتون بذنبك والخاتم لا يتماسك في يدك ففر إلى الله تعالى تائباً فإني أقوم مقامك وأسير بسيرك إلى أن يتوب الله تعالى عليك ، ففر سليمان عليه السلام إلى الله تعالى وأعطى آصف الخاتم فوضعه في يده فثبت فأقام آصف في ملك سليمان عليه السلام يسير بسيره أربعة عشر يوماً إلى أن رد الله تعالى على سليمان عليه السلام ملكه وتاب عليه ورجع إلى ملكه وجلس على سريره وأعاد الخاتم في يده ، فهو الجسد الذي ألقي على كرسيه.
وروي عن سعيد بن المسيب قال : احتجب سليمان عليه السلام عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله تعالى إليه احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي فابتلاه الله عز وجل وذكر نحو ما تقدم من حديث الخاتم وأخذ الشيطان إياه.
قال الرازي : واستبعد أهل التحقيق هذا الكلام من وجوه ؛ الأول : أن الشيطان لو قدر على أن يشتبه في الصورة والخلقة بالأنبياء فحينئذٍ لا يبقى اعتماد على شيء من ذلك فلعل هؤلاء الذين رآهم الناس على صورة محمد وعيسى وموسى عليهم السلام ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء والإضلال وذلك يبطل الدين بالكلية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 497
الثاني : أن الشيطان لو قدر أن يعامل نبي الله تعالى سليمان عليه السلام بمثل هذه المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء والزهاد وحينئذ يجب أن يقتلهم ويمزق تصانيفهم ويخرب
502
ديارهم ، ولما بطل ذلك في حق آحاد العلماء فلأن يبطل في حق أكابر الأنبياء أولى.
الثالث : كيف يليق بحكمة الله تعالى وإحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج سليمان عليه السلام ولا شك أنه قبيح أي : على غير رأي الحسن كما مر.
الرابع : لو قلنا إن سليمان عليه السلام أذن لتلك المرأة في عبادتها تلك الصورة فهذا كفر منه ، وإن لم يأذن فيه البتة فالذنب على تلك المرأة فكيف يؤاخذ الله تعالى سليمان عليه السلام بفعل لم يصدر منه أي : وقد يقال : إنما أوخذ بذلك لكونه كان سبباً في عملها.
قال : فأما أهل التحقيق فقد ذكروا وجوهاً ؛ الأول : أن فتنة سليمان عليه السلام أنه ولد له ابن فقالت : الشياطين إن عاش صار مسلطاً علينا مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله ، فعلم سليمان عليه السلام ذلك فكان يربيه في السحاب فبينما هو يشتغل بمهماته إذ ألقي ذلك الولد ميتاً على كرسيه فتنبه على خطيئته في أنه لم يثق ولم يتوكل على الله تعالى فاستغفر ربه وتاب.
الثاني : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "قال سليمان لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل امرأة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله تعالى ، فطاف عليهن فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل والذي نفسي بيده لو قال : إن شاء الله تعالى لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعين" فذلك قوله تعالى : {ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً} (ص : 34)
الثالث : أنه أصابه مرض فصار يجلس على كرسيه وهو مريض فذلك قوله تعالى {وألقينا على كرسيه جسداً} وذلك لشدة المرض والعرب تقول في الضعيف : أنه لحم على وضم وجسم بلا روح {ثم أناب} أي : رجع إلى حال الصحة أي : وهذا أظهر ما قيل كما قاله البيضاوي.
الرابع : لا يبعد أيضاً أن يقال : إنه ابتلاه الله تعالى بتسليط وقوع خوف أو وقوع بلاء توقعه من بعض الجهات حتى صار بقوة ذلك الخوف كالجسد الضعيف الخفي على ذلك الكرسي ثم إن الله تعالى أزال عنه ذلك الخوف وأعاده إلى ما كان عليه من القوة وطيب القلب ، فاللفظ محتمل لهذه الوجوه ولا حاجة إلى حمله على تلك الوجوه الركيكة ، فإن قيل : لولا تقدم الذنب.(3/337)
لما {قال رب اغفر لي}. أجيب : بأن الإنسان لا ينفك عن ترك الأفضل وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، ولأنه أبدأ في مقام هضم النفس وإظهار الندم والخضوع كما قال صلى الله عليه وسلم "إني لاستغفر الله تعالى في اليوم والليلة سبعين مرة" مع أنه صلى الله عليه وسلم غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلا يبعد أن يكون المراد من هذه الكلمة هذا المعنى واختلف في قول سليمان عليه السلام {وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} أي : سواي نحو فمن يهديه من بعد الله أي : سوى الله فقال عطاء بن أبي رباح : يريد هب لي ملكاً لا تسلبنيه في باقي عمري {إنك أنت الوهاب} وقال مقاتل : إن الشيطان لما استولى على ملكه طلب أن يعطيه الله ملكاً لا يقدر الشيطان على أن يقوم فيه مقامه البتة وقال : من أنكر أن الشيطان لم يستول على ذلك أن ذلك محتمل لوجوه ؛
503
الأول : أن الملك هو القدرة فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري البتة ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نبوتي ورسالتي ويدل على صحة هذا القول قوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 497
فسخرنا} أي : بما لنا من العظمة {له الريح تجري بأمره رُخاءً} أي : حالة كونها لينة غاية اللين منقادة يدرك بها ما لا تدرك الخيل غدوها شهر ورواحها شهر {حيث أصاب} أي : أراد فكون الريح جارية بأمره قدرة عجيبة وملك عجيب دال على صحة نبوته لا يقدر أحد على معارضته ، وقد جعل الله تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ذلك وهو أن العدو يرعب منه إلى مسيرة شهر من جوانبه الأربعة فهي أربعة أشهر.
الثاني : أنه عليه السلام لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى التغيرات فسأل ربه ملكاً لا يمكن أن ينتقل مني إلى غيري.
الثالث : أن الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق من الاحتراز عنها حال عدم القدرة فكأنه قال : يا إلهي أعطني مملكة فائقة على ممالك البشر بالكلية حتى احترز عنها مع القدرة عليها ليصير ثوابي أكمل وأفضل.
الرابع : سأل ذلك ليكون علامة على قبول توبته حيث أجاب الله تعالى دعاءه ورد عليه ملكه وزاده فيه ، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن عفريتاً من الجن أتاني الليلة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه فذكرت دعوة أخي سليمان {وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} فرددته خاسئاً" فعلم من هذه الأوجه أنه ليس في كلام سليمان عليه السلام ما يشبه الحسد وهو طلب ما لا ينبغي لأحد غيره ، وأجاب الزمخشري بأجوبة غير ذلك منها : أن سليمان عليه السلام كان ناشئاً في بيت الملك والنبوة ووارثاً لهما فأراد أن يطلب من ربه معجزة فطلب على حسب ألفه ملكاً زائداً على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز ليكون ذلك دليلاً على نبوته قاهراً للمبعوث إليهم ثم قال : وعن الحجاج أنه قيل له : إنك حسود ، فقال : أحسد مني من قال : {وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} قال : وهذا من جراءته على الله تعالى وشيطنته ومن شيطنته ما حكي عنه طاعتنا أوجب من طاعة الله لأنه شرط في طاعته فقال : {فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن : 36)
وأطلق في طاعتنا فقال {وأولي الأمر منكم} (النساء : 59) ، فإن قيل : قوله تعالى : {رخاء} ينافيه قوله تعالى في آية أخرى : {ولسليمان الريح عاصفة} أجيب عن ذلك بوجهين : الأول : أن المراد أن تلك الريح كانت في قوة الرياح العاصفة إلا أنها لما أمرت بأمره كانت لذيذة طيبة وكانت رخاء. الثاني : أن تلك الريح كانت لينة مرة وعاصفة أخرى فلا منافاة بين الآيتين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 497
تنبيه : قوله تعالى : {حيث} ظرف لتجري أو لسخرنا.
فائدة : روي أن رجلين خرجا يقصدان رؤبة يسألانه عن معنى : أصاب فقال لهما : أين تصيبان ؟
فعرفا ، وقالا : هذا بغيتنا. وقوله تعالى :
{والشياطين} عطف على الريح ، وقوله تعالى : {كل بناءٍ} بدل من الشياطين
504
كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية ، روي أن سليمان عليه السلام أمر الجان فبنت له اصطخر وكان فيها قرار مملكة الترك قديماً وبنت له الجان أيضاً تدمر وبيت المقدس وباب جيرون وباب البريد اللذين بدمشق على أحد الأقوال ، وبنوا له ثلاثة قصور باليمن غمدان وسلحين ويبنون ومدينة صنعاء ، وقوله تعالى : {وغواصٍ} عطف على بناء أي : يغوصون له في البحر يستخرجون اللؤلؤ وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر ، وقوله تعالى : (3/338)
{وآخرين مقرنين} أي : مشدودين {في الأصفاد} أي : القيود بجمع أيديهم إلى أعناقهم عطف على كل فهو داخل في حكم البدل ، فكأنه فصل الشياطين إلى عملة استعملهم في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص ومردة قرن بعضهم مع بعض في السلاسل ليكفوا عن الشر ، فإن قيل : أجسامهم إما أن تكون كثيفة أو لطيفة فإن كانت كثيفة وجب أن يراها صحيح الحاسة وإن كانت لطيفة فلا تقوى على العمل ولا يمكن تقرينها ؟
أجيب : بأن أجسامهم شفافة صلبة فلا ترى وتقوى على العمل ويمكن تقرينها ، أو أن المراد : تمثيل كفهم عن الشرور بالإقتران في الصفد وهو القيد ويسمى به العطاء لأنه يربط المنعم عليه وفرقوا بين فعل الصفد بمعنى القيد وفعله بمعنى العطاء فقالوا : صفده قيده وأصفده أعطاه عكس وعد وأوعد في الخير والشر في ذلك نكتة وهي : أن القيد ضيق فناسبه تقليل حروف فعله والعطاء واسع فناسبه تكثير حروف فعله ، والوعد خير وهو خفيف فناسبه تقليل حروفه ، والإيعاد شر وهو ثقيل فناسبه تكثير حروفه.
{هذا} أي : وقلنا هذا الأمر الكبير {عطاؤنا} أي : على ما لنا من العظمة {فامنن أو أمسك} قال ابن عباس رضي الله عنهما : أعط من شئت وامنع من شئت ، قال المفسرون : أي : لا حرج عليك فيما أعطيت وفيما أمسكت ، وقال الحسن : ما أنعم الله تعالى على أحد نعمة إلا عليه تبعة إلا سليمان عليه السلام فإنه إن أعطى أجر وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة ، وقال مقاتل : هذا في أمر الشياطين يعني خل من شئت منهم وأمسك من شئت في وثاقك لا تبعة عليك فيما تتعاطاه وقوله تعالى {بغير حساب} فيه ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أنه متعلق بعطاؤنا أي : أعطيناك بغير حساب ولا تقدير وهو دال على كثرة الإعطاء ، ثانيها : أنه حال من عطاؤنا أي : في حال كونه غير محاسب عليه لأنه جم كثير يعسر على الحاسب ضبطه ، ثالثها : أنه متعلق بامنن أو أمسك ويجوز أن يكون حالاً من فاعلهما أي : غير محاسب عليه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 497
ولما ذكر تعالى ما أنعم عليه به في الدنيا أتبعه بما أنعم عليه به في الآخرة بقوله سبحانه وتعالى :
{وإن له عندنا} أي : في الآخرة مع ما له من الملك العظيم في الدنيا {لزلفى} أي : قربى عظيمة {وحسن مآب} وهو الجنة.
القصة الثالثة قصة أيوب عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
{واذكر عبدنا} أي : الذي هو أهل للإضافة إلى جنابنا ويبدل منه {أيوب} وهو ابن الروم بن عيص بن اسحق وامرأته ليا بنت يعقوب عليهما السلام وقوله تعالى : {إذ نادى ربه} بدل من عبدنا بدل اشتمال وأيوب عطف بيان له وقوله : {إني} أي : بأني {مسني الشيطان} أي : المحترق باللعنة البعيد من الرحمة {بِنُصبٍ} أي : بمشقة وضر {وعذاب} أي : ألم جيء به على حكاية كلامه الذي نادى بسببه ولو لم يحكه لقيل : إنه مسه لأنه غائب ، وقال قتادة رضي الله عنه : النصب في الجسد والعذاب في المال ، واختلف العلماء في هذه الآلام والأسقام الحاصلة في جسده على قولين ؛ أحدهما : أنها حصلت
505
بفعل الشيطان ، والثاني : أنها حصلت بفعل الله تعالى ، والعذاب المضاف في هذه الآية إلى الشيطان وهو عذاب الوسوسة وإلقاء الخواطر الفاسدة ، أما تقرير القول الأول فهو ما روي أن إبليس لعنه الله سأل ربه فقال : هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني ، فقال الله تعالى : نعم عبدي أيوب فجعل يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عياناً ولا يلتفت إليه ، فقال : رب إنه قد امتنع علي فسلطني على ماله فكان الشيطان يجيئه ويقول له : يا أيوب هلك من مالك كذا وكذا ، فيقول أيوب له : الله أعطى والله أخذ ثم يحمد الله سبحانه وتعالى ، فقال : يا رب إن أيوب لا يبالي بماله فسلطني على جسده فأذن فيه فنفخ في جلد أيوب فحدث أسقام عليه وآلام شديدة فمكث في ذلك البلاء سنين حتى استقذره أهل بلده فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد فجاء الشيطان إلى امرأته ، وقال : إن زوجك إن استغاث بي خلصته من هذا البلاء فذكرت المرأة ذلك لزوجها فحلف بالله لئن عافاه الله تعالى ليجلدنها مائة جلدة وعند هذه الواقعة قال {أني مسني الشيطان بنصب وعذاب} فأجاب الله تعالى دعاءه وأوحى إليه أن {اركض برجلك} إلى آخر الآية.
وأما تقرير القول الثاني : فإن الشيطان لا قدرة له البتة على إيقاع الناس في الأمراض والأسقام ويدل عليه وجوه.
الأول : أنا لو جوزنا حصول الموت والحياة والصحة والمرض من الشيطان فلعل الواحد منا إنما وجد الحياة بفعل الشيطان ولعل ما عندنا من الخيرات والسعادات قد حصل بفعله وحينئذ لا سبيل إلى معرفة من يعطي الحياة والموت والصحة والسقم أهو الله تعالى أم الشيطان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 497
ثانيها : أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يسعى في قتل الأنبياء والأولياء ولم لا يخرب دورهم ولم لا يقتل أولادهم.
ثالثها : أن الله تعالى حكى عن الشيطان أنه قال : {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} (إبراهيم : 22)(3/339)
فصرح بأنه لا قدرة له على البشر إلا بإلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة ، فدل ذلك على فساد القول بأن الشيطان هو الذي ألقاه في تلك الأمراض.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن الفاعل لهذه الأحوال هو الله تعالى لكن على وفق التماس الشيطان ؟
.
أجيب : بأنه إذا كان لابد من الاعتراف بأن خالق تلك الآلام والأسقام هو الله تعالى فأي فائدة في جعل الشيطان واسطة في ذلك بل الحق أن المراد بقوله : {أني مسني الشيطان بنصب وعذاب} أنه بسبب إلقاء الوساوس الفاسدة كاد يلقيه في أنواع العذاب ، والقائلون بهذا القول اختلفوا في أن تلك الوساوس كيف كانت وذكروا أوجهاً ؛ أولها : أن علته كانت شديدة الألم ثم طالت تلك العلة واستقذره الناس ونفروا عن مجاورته ولم يبق له مال البتة وامرأته كانت تخدم الناس وتحصل له قدر القوت ثم بلغت نفرة الناس عنه إلى أن منعوا امرأته من الدخول عليهم ومن خدمتهم ، والشيطان كان يذكره النعمة التي كانت عليه والآفات التي حصلت له وكان يحتال في دفع تلك الوساوس ، فلما قويت تلك الوساوس في قلبه خاف وتضرع إلى الله تعالى وقال : مسني الشيطان بنصب وعذاب لأنه كلما كثرت تلك الخواطر كان تألم قلبه منها أشد.
ثانيها : أنه لما طالت مدة المرض جاءه الشيطان ليقنطه مرة ويزلزله ليجزع مرة فخاف من خاطر القنوط في قلبه فتضرع إلى الله تعالى وقال : {إني مسني الشيطان}.
506
ثالثها : قيل : إن امرأته كانت تخدم الناس وتأخذ منهم قدر القوت وتجيء به إلى أيوب عليه السلام فاتفق لها أنهم لما استخدموها طلبت بعض النساء منها قطع إحدى ذؤابتيها على أن تعطيها قدر القوت ففعلت ، ثم في اليوم الثاني فعلت مثل ذلك فلم يبق لها ذؤابة وكان أيوب عليه السلام إذا أراد أن يتحرك على فراشه تعلق بتلك الذؤابة فلما لم يجد الذؤابة وقعت الخواطر الرديئة في قلبه فعند ذلك قال : {مسني الشيطان بنصب وعذاب}.
رابعها : روي أنه عليه السلام قال في بعض الأيام : يا رب لقد علمت أني ما اجتمع علي أمران إلا آثرت طاعتك ولما أعطيتني المال كنت للأرامل قيماً ولابن السبيل معيناً ولليتامى أباً ، فنودي يا أيوب ممن كان ذلك التوفيق فأخذ أيوب عليه السلام التراب فوضعه على رأسه وقال : منك يا رب ثم خاف من الخواطر الأولى فقال : {مسني الشيطان بنصب وعذاب} وذكروا أقوالاً أخر في سبب بلائه ، منها : أن رجلاً استغاثه على ظالم فلم يغثه ، وقيل : كانت مواشيه ترعى في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يعظه ، وقيل : أعجب بكثرة ماله وأعلم أن داود وسليمان عليهما السلام كانا ممن أفاض الله عليهما أصناف الآلاء والنعماء وأيوب عليه السلام كان ممن خصه الله بأنواع البلاء والمقصود من جميع هذه القصص الاعتبار كأن الله تعالى قال : يا محمد اصبر على سفاهة قومك فإنه ما كان في الدنيا أكثر من الأنبياء نعمة ومالاً وجاهاً من داود وسليمان عليهما السلام ، وما كان فيهم أكثر بلاء ومحنة من أيوب عليه السلام ، فتأمل أحوال هؤلاء لتعرف أن أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد وأن العاقل لا بد له من الصبر على المكاره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 497
ولما اشتكى أيوب عليه السلام الشيطان وسأل ربه أن يزيل عنه تلك البلية أجاب الله تعالى له بأن قال له :
{اركض} أي : اضرب {برجلك} أي : الأرض فضرب فنبعت عين ماء ، فقيل له : {هذا مغتسل باردٌ} أي : ماء تغتسل منه فيبرأ ظاهرك {وشراب} أي : وتشرب منه فيبرأ باطنك وظاهر اللفظ يدل على أنه نبعت له عين واحدة من الماء فاغتسل منه وشرب منه ، وأكثر المفسرين قالوا : نبعت له عينان فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى فذهب الداء من ظاهره ومن باطنه بإذن الله تعالى وقيل : ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها ثم باليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها ، وقيل : ضرب الأرض فنبعت له عين ماء فذهب كل داء كان بظاهره ثم مشى أربعين خطوة فركض برجله الأرض مرة أخرى فنبعت عين ماء عذب فشرب منه فذهب كل داء كان في باطنه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 497
507
{ووهبنا} أي : بما لنا من العظمة {له أهله} أي : بأن جعلناهم عليه بعد تفرقهم أو أحييناهم بعد موتهم ، وقيل : وهبنا له مثل أهله والأول هو ظاهر الآية فلا يجوز العدول عنه من غير ضرورة {ومثلهم معهم} حتى كان له ضعف ما كان ، وقوله تعالى : {رحمة} أي : نعمة {منا} مفعول لأجله أي : وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه {وذكرى} أي : وتذكيراً بحاله {لأولي الألباب} أي : أصحاب العقول ليعلموا أن من صبر ظفر وأن رحمة الله تعالى واسعة وهو عند القلوب المنكسرة فما بينه وبين الإجابة الأحسن الإنابة فمن دام إقباله عليه أغناه عن غيره كما قيل :
*لكل شيء إذا فارقته عوض ** وما عن الله إن فارقت من عوض*
وهذا تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم كما مر وقوله تعالى : (3/340)
{وخذ بيدك ضغثاً} معطوف على اركض والضغث الحزمة الصغيرة من الحشيش والقضبان فيها مائة عود كشمراخ النخلة وقيل : الحزمة الكبيرة من القضبان ، وقوله سبحانه وتعالى : {فاضرب به ولا تحنث} يدل على تقدم يمين منه عليه الصلاة والسلام واختلفوا في سبب حلفه عليها ويبعد ما قيل أنها رغبته في طاعة الشيطان ويبعد أيضاً ما روي أنها قطعت ذؤابتيها لأن المضطر يباح له ذلك ، بل الأقرب ما روي أن زوجته ليا بنت يعقوب وقيل : رحمة بنت افراثيم بن يوسف عليه السلام ذهبت لحاجة فأبطأت عليه فحلف في مرضه ليضربنها مائة إذا برئ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 507
ولما كانت حسنة الخدمة جعل الله تعالى يمينه بأهون شيء عليه وعليها وهذه الرخصة باقية في الحدود لما روي أنه صلى الله عليه وسلم "أتي برجل ضعيف قد زنا بأمة فقال صلى الله عليه وسلم خذوا مائة شمراخ واضربوه بها ضربة واحدة" {إنا وجدناه صابراً} أي : فيما أصابه في النفس والأهل والمال.
فإن قيل : كيف وجده صابراً وقد شكا إليه ؟
أجيب بأوجه : أحدها : أن شكواه إلى الله تعالى كتمني العافية فلا يسمى جزعاً ولهذا قال يعقوب عليه السلام : {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} (يوسف : 86)
وكذلك شكوى العليل وذلك أن أصبر الناس على البلاء لا يخلو من تمني العافية وطلبها ، فإذا صح أن يسمى صابراً مع تمني العافية أفلا يعد صابراً مع اللجوء إلى الله تعالى والدعاء بكشف ما به مع التعالج ومشاورة الأطباء. ثانيها : أن الآلام حين كانت على الجسد لم يذكر شيئاً فلما تعاظمت الوساوس على القلب تضرع إلى الله تعالى. ثالثها : أن الشيطان عدو والشكاية من العدو إلى الحبيب لا تقدح في الصبر ، ويروى أنه قال في مناجاته : إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ولم يتبع قلبي بصري ولم آكل إلا ومعي يتيم ولم أبت شبعاناً ولا كاسياً ومعي جائع أو عريان فكشف الله تعالى عنه ثم استأنف قوله تعالى : {نعم العبد} أي : أيوب عليه السلام ثم علل بقوله تعالى : مؤكداً لئلا يظن أن بلاءه قادح في ذلك {إنه أواب} أي : رجاع إلى الله تعالى روي : أنه لما نزل قوله تعالى : {نعم العبد} في حق سليمان عليه السلام تارة وفي حق أيوب عليه السلام أخرى عظم في قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن قوله تعالى : {نعم العبد} تشريف عظيم فإن احتجنا إلى تحمل بلاء مثل
508
أيوب عليه السلام لم نقدر عليه فكيف السبيل إلى تحصيله فأنزل الله تعالى قوله سبحانه وتعالى : {نعم المولى ونعم النصير} (الأنفال : 40)
والمراد : أنك أيها الإنسان إن لم تكن نعم العبد فأنا نعم المولى وإن كان منك غير الفضل فأنا مني الفضل ، وإن كان منك التقصير فمني الرحمة والتيسير.
القصة الرابعة : قصة إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى :
{واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق} بن إبراهيم {ويعقوب} بن إسحاق {أولي الأيدي} أي : أصحاب القوى في العبادة ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أولي القوة في طاعة الله تعالى {والأبصار} أي : المعرفة بالله أي : البصائر في الدين وأولي الأعمال الجليلة والعقائد الشرعية ، فعبر بالأيدي عن الأعمال لأن أكثرها بمباشرتها وبالإبصار عن المعارف لأنها أقوى عبادتها ، وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله تعالى ولا من المستبصرين في دين الله ، وفيه توبيخ أيضاً على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منهما فهم في حكم الزمنى الذين لا يقدرون على أعمال جوارحهم والناقصي العقول الذين لا استبصار لهم ، وقال قتادة ومجاهد : أعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين ، وقرأ ابن كثير بفتح العين وسكون الباء الموحدة ولا ألف بعدها على التوحيد على أنه إبراهيم وحده لمزيد شرفه وإبراهيم عطف بيان وإسحاق ويعقوب عطف على عبدنا والباقون بكسر العين وفتح الموحدة وألف بعدها على الجمع.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 507(3/341)
إنا أخلصناهم بخالصةٍ} أي : اصطفيناهم وجعلناهم لنا خالصين بخصلة خالصة لا شوب فيها وهي {ذكرى الدار} الآخرة أي : ذكرها والعمل لها لأن مطمح نظرهم الفوز بلقائه وذلك في الآخرة وإطلاق الدار للإشعار بأنها الدار الحقيقة والدنيا معبر ، وقرأ نافع وهشام خالصة بغير تنوين بالإضافة للبيان أو أن خالصة مصدر بمعنى الخلوص فأضيف إلى فاعله والباقون بالتنوين ، فمن أضاف فمعناه أخلصناهم بذكرى الدار الآخرة وأن يعملوا لها ، والذكرى بمعنى : الذكر ، قال مالك بن دينار : نزعنا من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصناهم بحب الآخرة وذكرها ، وقال قتادة : كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله عز وجل ، وقال السدي : أخلصوا الخوف للآخرة وقال ابن زيد : أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة ، ومن قرأ بالتنوين فمعناه : بخلة خالصة هي ذكرى الدار فيكون ذكرى الدار بدلاً من الخالصة أو جعلناهم مخلصين بما أخبرنا من ذكر الآخرة ، والمراد بذكرى الدار : الذكر الجميل الرفيع لهم في الآخرة ، وقيل : إنه أبقى لهم الذكر الجميل في الدنيا وقيل : هو دعاؤه {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء : 84)
{وإنهم عندنا لمن المصطفين} أي : اصطفاء لا يقدح فيه قادح فصاروا في غاية الرسوخ في هذا الوصف {الأخيار} أي : المختارين من أبناء جنسهم والأخيار جمع خير بالتشديد أو خير بالتخفيف كأموات في جمع ميت أو ميت ، واحتج العلماء بهذه الآية على إثبات عصمة الأنبياء عليهم السلام لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم أخياراً على الإطلاق وهذا يفهم حصول الخيرية في جميع الأفعال والصفات بدليل صحة الاستثناء منه.
القصة الخامسة : قصة إسماعيل واليسع وذي الكفل عليهم السلام المذكورة في قوله تعالى :
{واذكر} يا أشرف الخلق {إسماعيل} أي : أباك وما صبر عليه من البلاء بالغربة والإنفراد والوحدة والإشراف على الموت في الله غير مرة وما صار إليه بعد ذلك البلاء من الفرج والرياسة والذكر في هذه البلدة {واليسع} وهو ابن إخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثم استنبئ
509
واللام كما في قوله :
* ** رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً
وقرأ حمزة والكسائي بتشديد اللام وسكون الياء بعدها والباقون بسكون اللام وفتح الياء بعدها {وذا الكفل} وهو ابن عم اليسع أو بشر بن أيوب واختلف في نبوته وكفلته فقيل : فر إليه مائة نبي من بني إسرائيل من القتل فآواهم وكفلهم وقيل : كفل بعمل رجل صالح كان يصلي كل يوم مائة صلاة {وكل} أي : وكلهم {من الأخيار} فهم قوم خيرون من الأنبياء تحملوا الشدائد في دين الله تعالى وصبروا فاذكرهم يا أفضل الخلق بفضلهم وصبرهم لتسلك طريقهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 507
ولما أجرى تعالى ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتمه قال مؤكداً لشأنهم وشرف ما ذكر من أعمالهم :
{هذا} أي : ما تلوناه عليك من ذكرهم وذكر غيرهم {ذكر} أي : شرف في الدنيا وموعظة من ذكر القرآن ذي الذكر ثم عطف على قوله تعالى : {إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد} (ص : 26)
ما لأضدادهم فقال تعالى رداً على من ينكر ذلك من كفار العرب وغيرهم {وإن للمتقين لحسن مآب} أي : مرجع.
ولما شوق سبحانه إلى هذا الجزاء أبدل منه أو بينه بقوله تعالى :
{جنات عدنٍ} أي : إقامة في سرور وطيب عيش ، ثم إنه تعالى وصف أهل الجنة بأشياء أولها قوله تعالى : {مفتحة لهم الأبواب} أي : أن الملائكة يفتحون لهم أبواب الجنة ويحيونهم بالسلام كما قال تعالى : {حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها} (الزمر : 73)
الآية وقيل : المعنى أنهم كلما أرادوا انفتاح الأبواب انفتحت لهم وكلما أرادوا انغلاقها انغلقت لهم ، وقيل : المراد من هذا الفتح وصف تلك المساكن بالسعة وقرة العيون فيها ، ثانيها : قوله تعالى :
{متكئين فيها} وقد ذكر في آيات أخر كيفية ذلك الاتكاء فقال تعالى في آية : {على الأرائك متكئون} (يس : 56)
وقال في آية أخرى : {متكئين على رفرف خضر} (الرحمن : 76)
ثالثها : قوله تعالى {يدعون فيها} أي : الجنات {بفاكهة كثيرة وشراب} أي : كثير فيدعون فيها بألوان الفاكهة وألوان الشراب.
ولما بين المسكن والمأكول والمشروب ذكر أمر المنكوح تتميماً للنعمة بقوله سبحانه تعالى :
{وعندهم قاصرات الطرف} أي : حابسات الطرف أي : العين على أزواجهن {أتراب} أي : أسنانهن واحدة وهي بنات ثلاث وثلاثين سنة واحدها ترب ، وعن مجاهد : متواخيات لا يتباغضن
510
ولا يتغايرن وقيل : أتراب للأزواج ، قال القفال : والسبب في اعتبار هذه الصفة لما تشابهن في الصفة والسن والجبلة كان الميل إليهن على السوية وذلك يقتضي عدم الغيرة وقرأ قوله تعالى :
{هذا ما يوعدون} ابن كثير وأبو عمرو بالياء التحتية على الغيبة والباقون بالفوقية على الخطاب ، وجه الغيبة تقدم ذكر المتقين ، ووجه الخطاب الالتفات إليهم والإقبال عليهم أي : قل للمتقين هذا ما توعدون {ليوم الحساب} أي : في يوم الحساب أو لأجله فإن الحساب علة الوصول إلى الجزاء.(3/342)
{إن هذا} أي : المشار إليه إشارة الحاضر الذي لا يغيب {لرزقنا ما له من نفاد} أي : انقطاع وهذا إخبار عن دوام هذا الثواب.
تنبيه : من نفاد فاعل ومن مزيدة والجملة في محل نصب على الحال من رزقنا أي : غير نافد ويجوز أن يكون خبراً ثانياً لأن أي : دائم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 507
ولما وصف تعالى ثواب المؤمنين وصف بعده عقاب الظالمين ليكون الوعيد مذكوراً عقب الوعد والترغيب عقب الترهيب بقوله تعالى :
{هذا وإن للطاغين لشر مآب} أي : مرجع هذا في مقابلة قوله تعالى : {وإن للمتقين لحسن مآب} (ص : 49)
والمراد بالطاغين الكفار ، وقال الجبائي : على مذهبه الفاسد هم أصحاب الكبائر سواء كانوا كفاراً أم لا واحتج الأول بأن هذا ذم مطلق فلا يحمل إلا على الكامل في الطغيان وهو الكافر ، واحتج هو بقوله تعالى : {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} (العلق : 6 ـ 7)
فدل على أن الوصف بالطغيان قد يحصل لصاحب الكبيرة لأن من تجاوز حد تكاليف الله تعالى وتعداها فقد طغى ورد هذا بأن المراد بالإنسان هنا هو الكافر أيضاً.
تنبيه : هذا يحتمل أن يكون مبتدأ والخبر مقدر أي : كما ذكر ، كما قدره الزمخشري ، وقدره أبو علي بقوله : هذا للمؤمنين ، وقال الجلال المحلي : هذا المذكورة للمؤمنين ويحتمل أن يكون خبر متبدأ مضمر أي : الأمر هذا وقوله تعالى :
{جهنم} أي : الشديدة الإضطرام الملاقية لمن يدخلها بغاية العبوسة والتجهم فيه إعراب جنات المتقدم ، وقوله تعالى : {يصلونها} أي : يدخلونها فيباشرون شدائدها حال من جهنم {فبئس المهاد} أي : المهد والفراش مستعار من فرش النائم ، وهذا معنى قوله تعالى {لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش} (الأعراف : 41)
شبه الله تعالى ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفرش للنائم ، والمخصوص بالذم محذوف أي : هي وفي قوله تعالى :
{هذا} أي : العذاب المفهوم مما بعده أوجه من الإعراب أحدها : أنه خبر مبتدأ مضمر أي : الأمر هذا ، ثم استأنف أمر إقفال {فليذوقوه} ثانيها : أنه مبتدأ أو خبره {حميمٌ وغساقٌ} واسم الإشارة يكتفي بواحده في المثنى كقوله تعالى : {عوان بين ذلك} (البقرة : 68)
أو يكون المعنى : هذا جامع بين الوصفين ويكون قوله تعالى : {فليذوقوه} جملة اعتراضية. ثالثها : أنه مبتدأ والخبر محذوف أي : هذا كما ذكر وهذا للطاغين وقيل غير ذلك ، وقيل : هذا على التقديم والتأخير والتقدير : هذا حميم وغساق فليذوقوه وقيل التقدير : جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه ثم يبتدئ فيقول : حميم وغساق أي : منه حميم وغساق ، والحميم : الحار الذي انتهى حره ، والغساق : ما يسيل من صديد أهل النار ، وقال كعب : هو عين في جهنم يسيل إليها كل ذوب حية وعقرب ، وقال أبو عمرو : هو القيح الذي يسيل من أهل النار
511
فيجتمع فيسقونه ، وقال قتادة : هو ما يغسق أي : يسيل من القيح والصديد من جلود أهل النار ولحومهم وفروج الزناة ، وقيل : هو المنتن بلغة الترك ، حكى الزجاج لو قطرت منه قطرة بالمغرب لأنتنت أهل المشرق ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتشديد السين والباقون بالتخفيف وقرأ أبو عمرو :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 507
وأخر} بضم الهمزة على جمع أخرى مثل الكبرى والكبر أي : أصناف أخر من العذاب {من شكله} أي : مثل المذكور من الحميم والغساق ، والباقون بفتح الهمزة ممدودة على التوحيد على أنه لما ذكروا ، اختار أبو عبيدة الجمع لأنه تعالى نعته بالجمع فقال سبحانه وتعالى : {أزواج} أي : أصناف أي : عذابهم من أنواع مختلفة ، ويقال لهم عند دخولهم النار بأتباعهم :
{هذا فوج} أي : جمع كثيف {مقتحم} أي : داخل ومفعوله محذوف أي : مقتحم النار {معكم} بشدة ، فيقول المتبوعون : {لا مرحباً بهم} أي : لاسعة عليهم أو لا سمعوا مرحباً وقولهم : {إنهم صالو النار} أي : داخلون النار بأعمالهم مثلنا تعليل لاستجابة الدعاء عليهم ونظير هذه الآية قوله تعالى : {كلما دخلت أمة لعنت أختها} (الأعراف : 38)
وقال الكلبي : إنهم يضربون بالمقامع حتى يوقعوا أنفسهم في النار خوفاً من تلك المقامع.
{قالوا} أي : الأتباع {بل أنتم لا مرحباً بكم} أي : إن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الرؤساء أنتم أحق به منا وعللوا ذلك بقولهم {أنتم قدمتموه} أي : الكفر {لنا} أي : بدأتم به قبلنا وشرعتموه وسننتموه لنا ، وقيل : أنتم قدمتم هذا العذاب لنا بدعائكم إيانا إلى الكفر {فبئس القرار} أي : النار لنا ولكم.
{قالوا} أي : الأتباع أيضاً {ربنا من قدم لنا هذا} أي : شرعه وسنه لنا {فزده عذاباً ضعفاً} أي : مثل عذابه على كفره {في النار} قال ابن مسعود : يعني حيات وأفاعي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 507
{وقالوا} أي : الطاغون وهم في النار {ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار} يعنون فقراء المؤمنين كعمار وخباب وصهيب وبلال وسلمان الذين كانوا يسترذلونهم ويسخرون بهم وقولهم : (3/343)
{أتخذناهم سخرياً} صفة أخرى ل {رجالاً} أي : كنا نسخر بهم في الدنيا ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بضم السين والباقون بكسرها {أم زاغت} أي : مالت {عنهم الأبصار}
512
أي : فلم نرهم حين دخلوها وقال ابن كيسان : أي : أم كانوا خيراً منا ونحن لا نعلم فكانت أبصارنا تزيغ عنهم في الدنيا فلا نعدهم شيئاً.
{إن ذلك} أي : الذي حكيناه عنهم {لحق} أي : واجب وقوعه فلا بد أن يتكلموا به ثم بين ذلك الذي حكاه عنهم بقوله تعالى : {تخاصم أهل النار} أي : في النار وإنما سماه تخاصماً لأن قول القادة للأتباع : لا مرحباً بهم ، وقول الأتباع للقادة : بل أنتم لا مرحباً بكم من باب الخصومة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 512
تنبيه : يصح في تخاصم أوجه من الإعراب أحدها : أنه بدل من لحق ، الثاني : أنه عطف بيان ، الثالث : أنه خبر ثان لأن ، الرابع : أنه خبر مبتدأ مضمر أي : هو تخاصم.
ولما شرح سبحانه نعيم أهل الثواب وعقاب أهل العذاب عاد إلى تقرير التوحيد والنبوة والبعث المذكورات أول السورة بقوله تعالى :
{قل} يا أفضل الخلق للمشركين {إنما أنا منذرٌ} أي : مخوف بالنار لمن عصى {و} لا بد من الإقرار بأنه {ما من إله إلا الله} أي : الجامع لجميع الأسماء الحسنى {الواحد القهار} فكونه واحداً يدل على عدم الشريك وكونه قهاراً مشعر بالتخويف والترهيب.
ولما ذكر ذلك أردفه بما يدل على الرجاء والترغيب بقوله تعالى : شأنه :
{رب السموات} أي : مبدعها وحافظها على علوها وسعتها وإحكامها بما لها من الزينة والمنافع {والأرض} أي : على سعتها وضخامتها وكثافتها وما فيها من العجائب {وما بينهما} أي : الخافقين من الفضاء والهواء وغيرهما من العناصر والنبات والحيوانات العقلاء وغيرها ربي كل شيء من ذلك إيجاداً وإبقاء على ما يريد وإن كره ذلك المربوب فدل ذلك على قهره وتفرده {العزيز} أي : الغالب على أمره {الغفار} فكونه رباً يشعر بالتربية والكرم والإحسان والجود وكونه غفاراً يشعر بأن العبد لو أقدم على المعاصي والذنوب ثم تاب إليه فإنه يغفرها برحمته ، وهذا الموصوف بهذه الصفات هو الذي تجب عبادته لأنه هو الذي يخشى عقابه ويرجى ثوابه وقوله تعالى :
{قل} أي : لهم {هو نبأ عظيم} يعود على القرآن وما فيه من القصص والأخبار ، وقيل : تخاصم أهل النار ، وقيل : على ما تقدم من إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه نذير مبين وبأن الله تعالى إله واحد متصف بتلك الصفات الحسنى وقوله تعالى :
{أنتم عنه معرضون} صفة لنبأ أي : لتمادي غفلتكم فإن العاقل لا يعرض عن مثله كيف وقد قامت عليه الحجج الواضحة إما على التوحيد فما مر وإما على النبوة ، فقوله تعالى :
{ما كان لي من علم بالملأ الأعلى} أي : الملائكة فقوله : {بالملأ} متعلق بقوله {من علم} وضمن معنى الإحاطة فلذلك تعدى بالباء {إذ يختصمون} أي : في شأن آدم عليه السلام حين قال الله عز وجل : {إني جاعل في الأرض خليفة} (البقرة : 30)
الآية ، فإن قيل : الملائكة لا يجوز أن يقال إنهم اختصموا بسبب قولهم : {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} (البقرة : 30)
فالمخاصمة مع الله تعالى كفر ؟
أجيب : بأنه لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة والمشابهة علة المجاز فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة ، ولما أمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم أن يذكر هذا الكلام على سبيل الزجر أمره أن يقول :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 512
إن} أي : ما {يوحي إلي إلا أنما} أي : أني {أنا نذير مبين} أي : بين الإنذار فأبين لكم ما تأتونه وما تجتنبونه ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "رأيت ربي في أحسن صورة ، قال ابن عباس رضي الله
513
عنه : أحسبه قال في المنام فقال : يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ، قلت : أنت أعلم أي رب مرتين ، قال : فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي أو قال : في نحري فعلمت ما في السموات وما في الأرض ، وفي رواية ثم تلا هذه الآية {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين} (الأنعام : 75)
ثم قال : يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت : نعم في الدرجات والكفارات ، قال : وما هن قلت : المشي على الأقدام إلى الجماعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء في المكاره ، قال : من يفعل ذلك يعيش بخير ويموت بخير وخرج من خطيئته كيوم ولدته أمه وقال : يا محمد إذا صليت فقل : اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون" قال : ومن الدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام ، وفي رواية : "فقلت : لبيك وسعديك في المرتين وفيهما فعلمت ما بين المشرق والمغرب" أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب ، وللعلماء في هذا الحديث وأمثاله من أحاديث الصفات مذهبان.(3/344)
أحدهما : مذهب السلف وهو إقراره كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل والإيمان به من غير تأويل له والسكوت عنه مع الاعتقاد بأن ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
والمذهب الثاني : مذهب الخلف : وهو تأويل الحديث فقوله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في أحسن صورة يحتمل وجهين :
أحدهما : وأنا في أحسن صورة كأنه زاده جمالاً وكمالاً وحسناً عند رؤيته لربه وإنما التغيير وقع بعده لشدة الوحي وثقله.
الثاني : أن الصورة بمعنى الصفة ويرجع ذلك إلى الله تعالى والمعنى : أنه رآه في أحسن صفاته من الإنعام عليه والإقبال إليه والله تعالى تلقاه بالإكرام والإعظام فأخبر صلى الله عليه وسلم عن عظمته وكبريائه وبهائه وبعده عن شبهه بالخلق وتنزيهه عن صفات النقص وأنه ليس كمثله وهو السميع البصير وقوله صلى الله عليه وسلم فوضع يده بين كتفي إلخ فالمراد باليد : النعمة والمنة والرحمة وذلك شائع في لغة العرب فيكون معناه على هذا الإخبار بإكرام الله تعالى إياه وإنعامه عليه بأن شرح صدره ونور قلبه وعرفه ما لم يعرفه حتى وجد برد النعمة والرحمة والمعرفة في قلبه ، وذلك لما نور قلبه وشرح صدره فعلم ما في السموات وما في الأرض بإعلام الله تعالى إياه فإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون إذ لا يجوز على الله تبارك وتعالى ولا على صفات ذاته سبحانه مماسة أو مباشرة أو نقص وهذا أليق بتنزيهه وحمل الحديث عليه ، وإذا حملنا الحديث على المنام وإن ذلك كان في المنام فقد زال الإشكال لأن رؤية الباري سبحانه في المنام على الصفات الحسنة دليل على البشارة والخير والرحمة للرائي ، وسبب اختصام الملأ الأعلى وهم الملائكة في الكفارات وهي الخصال المذكورة في الحديث في أيها أفضل ، وسميت هذه الخصال كفارات ؛ لأنها تكفر الذنوب عن فاعلها فهي من باب تسمية الشيء باسم لازمه وسمي ذلك مخاصمة لما مر في السؤال والجواب المتقدمين.
514
وقوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 512
إذ} يجوز أن يكون بدلاً من إذا الأولى كما قاله الزمخشري ، وأن يكون منصوباً باذكر كما قاله أبو البقاء أي : واذكر إذ {قال ربك للملائكة إني خالق} أي : جاعل {بشراً من طين} هو آدم عليه السلام ، فإن قيل : كيف صح أن يقول لهم إني خالق بشراً وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قبل ؟
أجيب : بأنه قد يكون قال لهم : إني خالق خلقاً من صفته كيت وكيت ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم.
{فإذا سويته} أي : أتممت خلقه {ونفخت} أي : أجريت {فيه من روحي} فصار حياً حساساً متنفساً وإضافة الروح إليه تعالى إضافة تشريف لآدم عليه السلام والروح جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه يسري في بدن الإنسان سريان الضوء في الفضاء وكسريان النار في الفحم والماء في العود الأخضر {فقعوا} أي : خروا {له ساجدين}.
{فسجد الملائكة} وقوله تعالى : {كلهم أجمعون} فيه تأكيدان ، وقال الزمخشري : كل للإحاطة وأجمعون للاجتماع فأفادا معاً أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا أنهم سجدوا جميعاً في وقت واحد غير متفرقين في أوقات ، انتهى. فإن قيل : كيف ساغ السجود لغير الله ؟
أجيب : بأن الممنوع هو السجود لغير الله تعالى على وجه العبادة فأما على وجه التكرمة والتبجيل فلا يأباه العقل إلا أن يكون فيه مفسدة فينهى الله تعالى عنه والأولى في الجواب أنه سجود تحية بالانحناء كما قاله الجلال المحلي.
{إلا إبليس استكبر} أي : تكبر وتعظم عن السجود ، فإن قيل : كيف استثنى من الملائكة عليهم السلام إبليس وهو من الجن ؟
أجيب : بأنه قد أمر بالسجود معهم فغلبوا عليه في قوله تعالى {فسجد الملائكة} ثم استثنى كما يستثنى الواحد منهم استثناء متصلاً وقال الجلال المحلي : هو أبو الجن وكان من الملائكة وعلى هذا فلا سؤال {وكان} أي : وصار {من الكافرين} باستكباره عن أمر الله تعالى أو كان من الكافرين في الأزمنة الماضية في علم الله تعالى.
تنبيه : المقصود من ذكر هذه القصة المنع من الحسد والكبر لأن إبليس إنما وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكبر ، والكفار إنما نازعوا محمداً صلى الله عليه وسلم بسبب الحسد والكبر فذكر الله تعالى هذه القصة ههنا ليصير سماعها زاجراً عن هاتين الخصلتين المذمومتين.
{قال} الله تعالى {يا إبليس} سماه بهذا الاسم لكونه من الإبلاس وهو انقطاع الرجاء إشارة إلى تحتم العقوبة له {ما منعك أن تسجد} وبين ما يوجب طاعته ولو أمر بتعظيم ما لا يعقل بقوله تعالى معبراً بأداة ما لا يعقل عمن كان عند السجود له عاقلاً كامل العقل : {لما خلقت بيدي} أي : توليت خلقه من غير توسط سبب كأب وأم والتثنية في اليد لما في خلقه من مزيد القدرة ، وقوله تعالى : {أستكبرت} استفهام توبيخ أي : تعظمت بنفسك الآن عن السجود له {أم كنت من العالين} أي : من القوم الذين يتكبرون فتكبرت عن السجود له لكونك منهم فأجاب إبليس بقوله :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 512(3/345)
قال أنا خيرٌ منه} أي : لو كنت مساوياً له في الشرف لكان يقبح أن أسجد له فكيف وأنا خير منه ثم بين كونه خيراً منه بقوله : {خلقتني من نار وخلقته من طين} والنار أشرف من الطين بدليل أن الأجرام الفلكية أفضل من الأجرام العنصرية ، والنار أقرب العناصر من الفلك والأرض أبعد عنه ، فوجب كون النار أفضل من الأرض ، وأيضاً فالنار خليفة الشمس والقمر في إضاءة العالم عند غيبتهما والشمس والقمر أشرف من الأرض فخليفتهما في الإضاءة أفضل من
515
الأرض ، وأيضاً فالكيفية الفاعلة الأصلية إما الحرارة وإما البرودة والحرارة أفضل من البرودة لأن الحرارة تناسب الحياة والبرودة تناسب الموت ، وأيضاً فالنار لطيفة والأرض كثيفة واللطافة أفضل من الكثافة ، وأيضاً فالنار مشرقة والأرض مظلمة والنور خير من الظلمة ، وأيضاً فالنار خفيفة تشبه الروح والأرض كثيفة تشبه الجسد والروح أفضل من الجسد فالنار أفضل من الأرض.
والدليل على أن الأرض أفضل من النار إنها أمينة مصلحة فإذا أودعتها حبة ردتها إليك شجرة مثمرة ، والنار خائنة مفسدة لكل ما سلمته إليها ، وأيضاً فالنار بمنزلة الخادم لما في الأرض إن احتيج إليها استدعيت استدعاء الخادم وإن استغني عنها طردت ، وأيضاً فالأرض مستولية على النار لأنها تطفئ النار ، وأيضاً فإن استدلال إبليس يكون أصله خيراً من أصله استدلال فاسد لأن أصل الرماد النار وأصل البساتين المزهرة والأشجار المثمرة هو الطين ومعلوم بالضرورة أن الأشجار المثمرة خير من الرماد ، وأيضاً هب أن اعتبار هذه الجهة توجب الفضيلة إلا أن هذا يمكن أن يعارض بجهة أخرى توجب الرجحان مثل إنسان نسيب عار عن كل الفضائل فإن نسبه يوجب رجحانه إلا أن الذي لا يكون نسيباً قد يكون كثير العلم والزهد فيكون أفضل من النسيب بدرجات لا حد لها فكذبت مقدمة إبليس ، فإن قيل : هب أن إبليس أخطأ في القياس لكن كيف لزمه الكفر في تلك المخالفة وتقرير السؤال من وجوه ؛ الأول : أن قوله تعالى : {اسجدوا} أمر وهو يحتمل الوجوب والندب فكيف يلزم العصيان فضلاً عن الكفر ، الثاني : هب أنه للوجوب وقلتم إن إبليس ليس من الملائكة فأمر الملائكة بالسجود لآدم لا يدخل فيه إبليس ، الثالث : هب أنه تناوله إلا أن تخصيص العام بالقياس جائز فجاز أن يخصص نفسه من عموم ذلك الأمر بالقياس. الرابع : هب أنه لم يسجد مع علمه بأنه كان مأموراً به إلا أن هذا القدر يوجب العصيان ولا يوجب الكفر ؟
أجيب : بأن صيغة الأمر وإن لم يدل على الوجوب يجوز أن ينضم إليها من القرائن ما يدل عليه وههنا حصلت تلك القرائن وهي قوله تعالى : {أستكبرت أم كنت من العالين} (ص : 75)
جزء : 3 رقم الصفحة : 512
فعلم بذلك أن الأمر للوجوب وأنه مخاطب بالسجود فلما أتى بقياسه الفاسد دل ذلك على أنه إنما ذكر القياس ليتوصل به إلى القدح في أمر الله تعالى وتكليفه وذلك يوجب الكفر.
ولما ذكر إبليس لعنه الله تعالى هذا القياس الفاسد.
{قال} الله تعالى له : {فاخرج} أي : بسبب تكبرك ونسبتك الحكيم الذي لا اعتراض عليه إلى الجور {منها} أي : من الجنة ، وقيل : من الخلقة التي أنت فيها لأنه كان يفتخر بخلقته فغير الله تعالى خلقته فاسود بعدما كان أبيض وقبح بعدما كان حسناً وأظلم بعدما كان نورانياً ، وقيل : من السموات {فإنك رجيم} أي : مطرود لأن من طرد رمي بالحجارة فلما كان الرجم من لوازم الطرد جعل الرجم كناية عن الطرد ، فإن قيل : الطرد هو : اللعن فيكون قوله تعالى :
{وإن عليك لعنتي} مكرراً أجيب : بحمل الطرد على ما تقدم وتحمل اللعنة على الطرد من رحمة الله تعالى وأيضاً قوله تعالى : {وإن عليك لعنتي} {إلى يوم الدين} أي : الجزاء أفاد أمراً وهو طرده إلى يوم القيامة فلا يكون تكراراً وقيل : المراد بالرجم كون الشياطين مرجومين بالشهب ، فإن قيل : كلمة إلى لانتهاء الغاية فكأن لعنة الله إبليس غايتها يوم الدين ثم تنقطع ، أجيب : بأنها كيف تنقطع وقد قال تعالى : {فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين} (الأعراف : 44)
فأفاد أن عليه اللعنة في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة اقترن عليه مع اللعنة من العذاب ما تنسى عنده اللعنة فكأنها انقطعت.
516
تنبيه : قال تعالى هنا {لعنتي} وفي آية أخرى {اللعنة} وهما وإن كانا في اللفظ عاماً وخاصاً إلا أنهما من حيث المعنى عامان بطريق اللازم لأن من كانت عليه لعنة الله تعالى كانت عليه لعنة كل أحد لا محالة ، وقال تعالى : {أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} (البقرة : 161)
ولما صار إبليس ملعوناً مطروداً :
{قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون} أي : الناس طلب الإنظار إلى يوم البعث لأجل أن يتخلص من الموت لأنه إذا أنظر ليوم البعث لم يمت قبل يوم البعث وعند مجيء البعث لا يموت فحينئذ يتخلص من الموت فلذلك :
{قال} تعالى : {فإنك من المنظرين}.(3/346)
{إلى يوم الوقت المعلوم} أي : وقت النفخة الأولى فيموت فيها فلم يجبه إلى دعائه كما قال تعالى : {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} (الرعد : 14)
ومعنى المعلوم : أنه معلوم عند الله تعالى معين لا يتقدم ولا يتأخر فلما أنظره الله تعالى إلى ذلك الوقت.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 512
قال فبعزتك} أقسم بعزة الله تعالى وهي قهره وسلطانه {لأغوينهم أجمعين} ثم استثنى من ذلك ما ذكره الله بقوله :
{إلا عبادك منهم المخلصين} أي : الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته وعصمهم من إضلاله أو أخلصوا قلوبهم على اختلاف القراءتين فإن نافعاً والكوفيين قرؤوا بفتح اللام بعد الخاء والباقون بالكسر.
تنبيه : قيل إن غرض إبليس من هذا الاستثناء أنه لا يقع في كلامه الكذب لأنه لو لم يذكر هذا الاستثناء وادعى أنه يغوي الكل لظهر كذبه حين يعجز عن إغواء عباد الله تعالى المخلصين وعند هذا يقال : إن الكذب شيء يستنكف منه إبليس فليس يليق بالمسلم وهذا يدل على أن إبليس لا يغوي عباد الله تعالى المخلصين ، وقد قال تعالى في صفة يوسف عليه السلام {إنه من عبادنا المخلصين} (يوسف : 24)
فتحصل من مجموع الآيتين أن إبليس ما أغوى يوسف عليه السلام وما نسب إليه من القبائح كذب وافتراء.
ولما قال إبليس ذلك :
جزء : 3 رقم الصفحة : 512
{قال} تعالى : {فالحقُ} أي : فبسبب إغوائك وغوايتهم أقول الحق {والحقَ أقول} أي : لا أقول إلا الحق فإن كل شيء قلته ثبت فلم يقدر أحد على نقضه ولا نقصه ، وقرأ عاصم وحمزة برفع الأول ونصب الثاني ، والباقون بنصبهما فنصب الثاني بالفعل بعده ونصب الأول بالفعل المذكور ، أو على الإغراء أي : الزموا الحق ، أو على المصدر أي : أحق الحق ، أو على نزع حرف القسم ورفعه على أنه مبتدأ محذوف الخبر أي : فالحق مني أو فالحق قسمي وجواب القسم.
{لأملأن جهنم منك} أي : بنفسك وذريتك {وممن تبعك منهم} أي : من الناس ، وقوله تعالى : {أجمعين} فيه وجهان أظهرهما أنه توكيد للضمير في منك ولمن عطف عليه في قوله تعالى : {وممن تبعك} والمعنى : لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين لا أترك منهم أحداً ، وجوز الزمخشري أن يكون تأكيداً للضمير في منهم خاصة فقدر لأملأن جهنم من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس ، ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
{قل} أي : لقومك {ما أسألكم عليه} أي : على تبليغ الرسالة أو القرآن {من أجر} أي : جعل {وما أنا من المتكلفين} أي : المتصفين بما لست من أهله على ما عرفتم من حالي فانتحل النبوة وأتقوّل القرآن وكل من قال شيئاً من تلقاء نفسه فهو متكلف له ، وعن مسروق قال : دخلنا على عبد الله بن مسعود فقال : يا أيها الناس من علم شيئاً
517
فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم ، فإن من العلم أن يقول من لا يعلم : الله أعلم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} وقيل المعنى : إن هذا الذي أدعوكم إليه ليس يحتاج في معرفة صحته إلى التكلفات الكثيرة بل هو دين يشهد صريح العقل بصحته.
{إن} أي : ما {هو} أي : القرآن {إلا ذكر} أي : عظة وشرف {للعالمين} أي : للخلق أجمعين.
{ولتعلمن} جواب قسم مقدر ومعناه لتعرفن يا كفار مكة {نبأه} أي : خبر صدقه وهو ما فيه من الوعد والوعيد أو صدقه بإتيان ذلك {بعد حين} قال ابن عباس وقتادة : بعد الموت ، وقال عكرمة : يوم القيامة ، وقال الحسن : ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين ، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قرأ سورة ص كان له بوزن كل جبل سخره الله تعالى لداود عشر حسنات وعصمه أن يصر على ذنب صغير أو كبير" حديث موضوع.
518
جزء : 3 رقم الصفحة : 517(3/347)
سورة الزمر
مكية إلا قوله تعالى : {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم}الآية فمدنية وهي خمس وسبعون آية وألف ومائة واثنتان وتسعون كلمة وأربعة آلاف وسبعمائة وثمانية أحرف
{بسم الله} الذي له صفات الكمال {الرحمن} الذي أنعم على عباده بأنواع النعم {الرحيم} بأنواع المغفرة على المؤمنين من عباده.
جزء : 3 رقم الصفحة : 518
{تنزيل الكتاب} أي : القرآن مبتدأ ، وقوله تعالى : {من الله} أي : المتصف بجميع صفات الكمال خبره أي : تنزيل الكتاب كائن من الله تعالى ، وقيل : تنزيل الكتاب خبر مبتدأ مضمر تقديره هذا تنزيل الكتاب من الله {العزيز} أي : الغالب في ملكه {الحكيم} أي : في صنعه ففي ذلك دلالة على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات غني عن جميع الحاجات ، فإن قيل : إن الله تعالى وصف القرآن بكونه تنزيلاً ومنزلاً وهذا الوصف لا يليق إلا بالمحدث المخلوق. أجيب : بأن ذلك
519
محمول على الصيغ والحروف.
{إنا} أي : بما لنا من العظمة {أنزلنا عليك} يا أشرف الخلق خاصة بواسطة جبريل الملك {الكتاب} أي : القرآن الجامع لكل خير وقوله تعالى : {بالحق} يجوز أن يتعلق بالإنزال أي : بسبب الحق وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الفاعل أو المفعول وهو الكتاب أي : ملتبسين بالحق أو ملتبساً بالحق والصدق والصواب ، والمعنى : أن كل ما فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف فهو حق يجب العمل به ، وفي قوله تعالى : {إنا أنزلنا إليك الكتاب} تكرير تعظيم بسبب إبرازه في جملة أخرى مضافاً إنزاله إلى المعظم نفسه ، فإن قيل : لفظ تنزيل يشعر بأنه تعالى أنزله نجماً نجماً على وفق المصالح على سبيل التدريج ولفظ الإنزال يشعر بأنه تعالى أنزله دفعة واحدة. أجيب : بأن طريق الجمع أن يقال : إنا حكمنا حكماً كلياً بأنا نوصل إليك هذا الكتاب وهذا هو الإنزال ثم أوصلناه إليك نجماً نجماً على وفق المصالح.
جزء : 3 رقم الصفحة : 519
ولما بين تعالى أن هذا الكتاب مشتمل على الحق والصدق أردفه ببيان بعض ما فيه من الحق والصدق ، وهو أن يشتغل الإنسان بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص فقال سبحانه وتعالى : {فاعبد الله} أي : الحائز لجميع صفات الكمال حال كونك {مخلصاً له الدين} أي : ممحضاً له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السر.
{ألا لله} أي : الملك الأعلى وحده {الدين الخالص} أي : لا يستحقه غيره فإنه المنفرد بصفات الألوهية والاطلاع على الأسرار والضمائر ، قال قتادة : الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله ، وقال مجاهد : الآية متناولة لكل ما كلف الله به من الأوامر والنواهي لأن قوله تعالى : {فاعبد الله} عام وروي أن امرأة الفرزدق لما قربت وفاتها أوصت أن يصلي الحسن البصري عليها ، فلما دفنت قال الحسن البصري : يا أبا فراس ما الذي أعددت لهذا الأمر ؟
قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، فقال الحسن هذا العمود فأين الطنب ؟
قال ابن عادل فبين بهذا اللفظ الوجيز أن عمود الخيمة لا ينتفع به إلا مع الطنب حتى يمكن الانتفاع بالخيمة أي : الانتفاع الكامل وإلا فهي ينتفع بها ولكن رأس العبادات الإخلاص في التوحيد واتباع الأوامر واجتناب النواهي.
{والذين اتخذوا من دونه} أي : من دون الله {أولياء} وهم كفار مكة اتخذوا الأصنام وقالوا {ما نعبدهم} أي : لشيء من الأشياء {إلا ليقربونا إلى الله} أي : الذي له معاقد العز ومجامع العظمة {زلفى} وذلك أنهم كانوا إذا قيل لهم من ربكم ومن خلقكم ومن خلق السموات والأرض قالوا : الله فيقال : فما عبادتكم لهم قالوا : ليقربونا إلى الله زلفى أي : قربى ، وهو اسم أقيم مقام المصدر كأنهم قالوا : إلا ليقربونا إلى الله تعالى تقريباً حسناً سهلاً وتشفع لنا عند الله تعالى :
{إن الله} أي : الذي له جميع صفات الكمال {يحكم بينهم} أي : وبين المسلمين {فيما هم فيه يختلفون} أي : من أمر الدين فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار {إن الله} أي : الملك القادر {لا يهدي} أي : لا يرشد {من هو كاذب} أي : في قوله إن الآلهة تشفع لهم مع علمهم بأنها جمادات خسيسة وفي نسبة الولد إلى الله تعالى {كفار} أي : بعبادته غير الله تعالى.
{لو أراد الله} أي : الذي له الإحاطة بصفات الكمال {أن يتخذ ولداً} أي : كما قالوا اتخذ الرحمن ولداً {لاصطفى} أي : اختار {مما يخلق ما يشاء} أي : اتخذ ولداً غير من قالوا الملائكة
520
بنات الله وعزير ابن الله والمسيح ابن الله ، كما قال تعالى {لو أردنا أن نتخذ لهواً} أي : كما زعموا {لاتخذناه من لدنا} (الأنبياء : 17)
جزء : 3 رقم الصفحة : 519
إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوقه ومن البين أن المخلوق لا يماثل الخالق فيقوم مقام الولد له.
ثم نزه نفسه سبحانه فقال تعالى شأنه {سبحانه} أي : تنزيهاً له عن ذلك وعما لا يليق بطهارته ثم أقام الدليل على هذا التنزيه المقتضي فقال تعالى : {هو} أي : الفاعل لهذا الفعال القائل لهذه الأقوال {الله} أي : الجامع لجميع صفات الكمال ثم ذكر من الأوصاف ما هو كالعلة لذلك فقال : {الواحد} أي : في ملكه الذي لا شريك له ولا ولد ولا والد له {القهار} أي : الغالب الكامل القدرة فكل شيء تحت قدرته.
ولما ثبتت هذه الصفات التي نفت أن يكون له شريك أو ولد وأثبتت له الكمال المطلق استدل على ذلك بقوله تعالى : (3/348)
{خلق السموات والأرض} أي : أبدعهما من العدم وقوله تعالى : {بالحق} متعلق بخلق لأن الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات الإلهية إما أن تكون فلكية أو أرضية ، أما الفلكية فأقسام ؛ أحدها : خلق السموات والأرض ، وثانيها : اختلاف الليل والنهار كما قال تعالى {يكور} أي : يدخل {الليل على النهار ويكور النهار على الليل} قال الحسن : ينقص من الليل فيزيد في النهار وينقص من النهار فيزيد في الليل فما نقص من الليل دخل في النهار ، وما نقص من النهار دخل في الليل. قال البغوي : ومنتهى النقص تسع ساعات ، ومنتهى الزيادة : خمس عشرة ساعة. وقال قتادة : يغشى هذا هذا كما قال تعالى {يغشي الليل النهار} (الأعراف : 54)
وقال الرازي : إن النور والظلمة عسكران عظيمان وفي كل يوم يغلب هذا ذاك وذاك هذا وذلك يدل على أن كل واحد مغلوب مقهور ولابد من غالب قاهر لهما يكونان تحت تدبيره وقهره وهو الله تعالى انتهى. وورد في الحديث : "نعوذ بالله من الحور بعد الكور" أي : من النقصان بعد الزيادة وقيل : من الإدبار بعد الإقبال.
{وسخر} أي : ذلل وأكره وقهر وكلف لما يريد من غير نفع للمسخر {الشمس والقمر} فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل وأكثر مصالح هذا العالم مربوطة بهما {كلٌ} أي : منهما {يجري لأجل مسمى} أي : إلى يوم القيامة لا يزالان يجريان إلى هذا اليوم فإذا كان يوم القيامة ذهبا ، والمراد من هذا التسخير : أن هذه الأفلاك تدور كدوران المنجنون أي : الدولاب الذي يسقى عليه على حد واحد {ألا هو العزيز} أي : الغالب على أمره المنتقم من أعدائه {الغفار} أي : الذي له صفة الستر على الذنوب متكررة يمحو ذنوب من يشاء عيناً وأثراً بمغفرته.
ثم إنه تعالى لما ذكر الدلائل الفلكية أتبعها بذكر الدلائل السفلية فقال تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 519
{خلقكم} أيها الناس المدعون إلهية غيره {من نفس واحدة} وهي آدم عليه السلام {ثم جعل منها} أي : من تلك النفس {زوجها} حواء وإنما بدأ منها بذكر الإنسان لأنه أقرب وأكبر دلالة وأعجب ، وفيه ثلاث دلالات : خلق آدم أولاً من غير أب وأم ، ثم خلق حواء من قصيراه ، ثم تشعب الخلق الفائت للحصر منهما
521
فهما آيتان إلا أن إحداهما جعلها الله تعالى عادة مستمرة والأخرى لم تجر بها العادة ولم يخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل.
تنبيه : في ثم هذه أوجه ؛ أحدها : أنها على بابها من الترتيب بمهلة وذلك يروى أن الله تعالى أخرج ذرية آدم ثم ظهره كالذر ثم خلق حواء بعد ذلك بزمان. ثانيها : أنها على بابها أيضاً لكن لمدرك آخر وهو أن يعطف بها ما بعدها على ما فهم من الصفة في قوله تعالى {واحدة} إذ التقدير من نفس وحدت أي : انفردت ثم جعل منها زوجها. ثالثها : أنها للترتيب في الإخبار لا في الزمان الوجودي كأنه قيل : كان من أمرها قبل ذلك أن جعل منها زوجها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
رابعها : أنها للترتيب في الأحوال والرتب. وقال الرازي : إن ثم كما تجيء لبيان كون إحدى الواقعتين متأخرة عن الثانية فكذلك تجيء لبيان تأخر إحدى الكلامين عن الآخر كقول القائل : بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب وأعطيتك اليوم شيئاً ثم الذي أعطيتك أمس أكثر.
وقوله تعالى : {وأنزل لكم من الأنعام} عطف على خلقكم والإنزال يحتمل الحقيقة ، يروى أن الله تعالى خلقها في الجنة ثم أنزلها ، ويحتمل المجاز وله وجهان ؛ أحدهما : أنها لما لم تعش إلا بالنبات والنبات إنما يعيش بالماء والماء ينزل من السحاب أطلق الإنزال عليها وهو في الحقيقة يطلق على سبب السبب كقول القائل :
*إذا نزل السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا*
والثاني : أن قضاياه وأحكامه منزلة من السماء من حيث كتبها في اللوح المحفوظ وهو أيضاً سبب في إيجادها. وقال البغوي : معنى الإنزال ههنا الإحداث والإنشاء كقوله تعالى : {أنزلنا عليكم لباساً} (الأعراف : 26)
وقيل : إنه إنزال الماء الذي هو سبب ثبات القطن والكتان وغيرهما الذي يجعلون منه اللباس. وقيل : معنى قوله {أنزل لكم من الأنعام} جعلها نزلاً لكم ورزقاً ومعنى قوله {ثمانية أزواج} أي : ثمانية أصناف وهي الإبل والبقر والضأن والمعز من كل زوجان ذكر وأنثى كما بين في سورة الأنعام وقوله تعالى : {يخلقكم في بطون أمهاتكم} بيان لكيفية خلق ما ذكر من الأناسي والأنعام إظهاراً لما فيها من عجائب القدرة غير أنه تعالى غلب أولي العقل أو خصهم بالخطاب لأنهم المقصودون ، وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بكسر الهمزة ، والباقون : بالضم وفي الابتداء الجميع بالضم وكسر حمزة الميم وفتحها الباقون ومعنى قوله تعالى : {خلقاً من بعد خلق} ما ذكره الله تعالى بقوله : {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين} (المؤمنون : 12 ـ 13)(3/349)
الآيات ، وأما قوله تعالى : {في ظلمات ثلاث} فقال ابن عباس : ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة ، وقيل : الصلب والرحم والبطن {ذلكم} أي : العالي المراتب بشهادتكم أيها الخلق كلكم بعضكم بلسان قاله وبعضكم بناطق حاله الذي جميع ما ذكر من أول السورة إلى هنا من أفعاله.
ولما أشار إلى عظمته بأداة البعد أخبر عن اسم الإشارة بقوله تعالى : {الله} أي : الذي خلق
522
هذه الأشياء {ربكم} أي : الملك والمربي لكم بالخلق والرزق فهو المستحق لعبادتكم وقوله تعالى : {له الملك} يفيد الحصر أي : له الملك لا لغيره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
ولما ثبت أنه لا ملك إلا له وجب القول بأنه {لا إله إلا هو} أي : لا يشاركه في الخلق غيره. ولما بين بهذه الدلائل كمال قدرته ورحمته زيف طريقة المشركين بقوله تعالى : {فأنى} أي : فكيف ومن أي : وجه {تصرفون} عن طريق الحق بعد هذا البيان.
{إن تكفروا فإن الله} أي : الذي له الكمال كله {غني عنكم} لأنه تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه منفعة أو ليدفع عن نفسه مضرة لأنه تعالى غني على الإطلاق ، فيمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة ؛ لأنه تعالى واجب الوجود لذاته ، وواجب الوجود لذاته في جميع أفعاله يكون غنياً على الإطلاق ، وأيضاً فالقادر على خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسي والعناصر الأربعة يمتنع أن ينتفع بصلاة زيد وصيام عمرو وأن يستضر بعدم صلاة هذا وعدم صيام ذاك {ولا يرضى لعباده} أي : لأحد منهم {الكفر} أي : بالإقبال على ما سواه وأنتم لا ترضون ذلك لعبيدكم مع أن ملككم لهم في غاية الضعف ، ومعنى عدم الرضا به : لا يفعل فعل الراضي بأن يأذن فيه ويقر عليه ويثيب فاعله ويمدحه بل يفعل فعل الساخط بأن ينهى عنه ويذم عليه ويعاقب مرتكبه وإن كان بإرادته إذ لا يخرج شيء عنها ، وهذا قول قتادة والسلف أجروه على عمومه ، وقال ابن عباس : ولا يرضى لعباده المؤمنين الكفر وهم الذين قال الله تعالى فيهم {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} (الإسراء : 65)
فيكون عاماً في اللفظ خاصاً في المعنى كقوله تعالى : {عيناً يشرب بها عباد الله} (الإنسان : 6)
يريد بعض العباد.
{وإن تشكروا} الله تعالى أي : فتؤمنوا بربكم وتطيعوه {يرضه لكم} أي : فيثيبكم عليه لأنه سبب فلاحكم. وقرأ السوسي في الوصل بسكون الهاء ، وللدوري وهشام وجهان السكون والضم وصلة الهاء بواو للدوري ، وابن كثير وابن ذكوان والكسائي والباقون بالسكون وهو لغة فيه.
{ولا تزر} أي : نفس {وازرة وزر} نفس {أخرى} أي : لا تحمله بل وزر كل نفس عليها لا يتعداها يحفظ عليها مدة كونها في دار العمل. واحتج بهذا من أنكر وجوب الدية على العاقلة ورد بأن السنة خصصت ذلك ، وأما الإثم الذي يكتب على الإنسان بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليس وزر غيره ، وإنما هو وزر نفسه فوزر الفاعل على الفعل ووزر الساكت على الترك لما لزمه من الأمر والنهي. وقوله تعالى : {ثم إلى ربكم مرجعكم} يدل على إثبات البعث والقيامة {فينبئكم بما كنتم تعلمون} فيه تهديد للعاصي وبشارة للمطيع وقوله تعالى : {إنه عليم} أي : بالغ العلم {بذات الصدور} أي : بما في القلوب كالعلة لما سبق أي : إنه تعالى ينبئكم بأعمالكم لأنه عالم بجميع المعلومات فيعلم ما في قلوبكم من الدواعي والصوارف ، قال صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
ولما بين تعالى فساد القول بالشرك وبين تعالى أنه الذي يجب أن يعبد بين أن طريقة الكفار متناقضة بقوله تعالى :
{وإذا مس الإنسان} أي : هذا النوع الآنس بنفسه {ضر دعا ربه} لأنهم إذا
523
مسهم الضر طلبوا رفعه من الله تعالى وإذا زال ذلك الضر عنهم رجعوا إلى عبادة الأصنام فكان الواجب عليهم أن يتعرفوا بالله تعالى في جميع الأحوال لأنه القادر على إيصال الخير ودفع الشر فظهر تناقض طريقهم والمراد بالإنسان : الكافر ، وقيل : المؤمن والكافر ، وقيل المراد : أقوام معينون كعتبة بن ربيعة وغيره ، والمراد بالضر : جميع المكاره في جسمه أو ماله أو أهله أو ولده لعموم اللفظ وقوله تعالى {منيباً} حال من فاعل دعا وقوله تعالى {إليه} متعلق بمنيباً أي : راجعاً إليه في إزالة ذلك الضر لأن الإنابة الرجوع {ثم إذا خوله} أي : أعطاه {نعمة} مبتدأة {منه} أي : من غير مقابل ولا يستعمل في الجزاء بل في ابتداء العطية قال زهير :
* ** هنالك إن يستخولوا المال يخولوا*
ويروى أن يستخيلوا المال يخيلو وقال أبو النجم :
*أعطى فلم يبخل ولم يبخل ** كوم الذرى من خول المخوّل*
وحقيقة خول من إحدى معنيين : إما من قولهم : هو خائل مال إذا كان متعهداً له حسن القيام عليه ، وإما من خال يخول إذا اختال وافتخر ومنه قول العرب : إن الغني طويل الذيل مياس. {نسي} أي : ترك {ما} أي : الأمر الذي {كان يدعو} أي : يتضرع {إليه من قبل} أي : قبل النعمة.(3/350)
تنبيه : يجوز في ما هذه أوجه ؛ أحدها : أن تكون موصولة بمعنى الذي مراعى بها الضر الذي كان يدعو إلى كشفه أي : ترك دعاءه كأنه لم يتضرع إلى ربه ، ثانيها : أنها بمعنى الذي مراداً بها البارئ تعالى أي : نسي الله الذي كان يتضرع إليه وهذا عند من يجيز وقوع ما على أولي العلم. وقال الرازي : ما بمعنى من كقوله تعالى : {وما خلق الذكر والأنثى} (الليل : 3)
وقوله : {ولا أنتم عابدون ما أعبد} (الكافرون : 3)
وقوله {فانكحوا ما طاب لكم} (النساء : 3)
ثالثها : أن تكون مصدرية أي : نسي كونه داعياً {وجعل} أي : ذلك الإنسان زيادة على الكفران بالنسيان للإحسان {لله} أي : الذي لا مكافئ له بشهادة الفطرة والسمع والعقل {أنداداً} أي : شركاء {ليضل عن سبيله} أي : دين الإسلام وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء بعد اللام أي : ليفعل الضلال بنفسه والباقون بضمها أي : لم يقنع بضلاله في نفسه حتى يحمل غيره عليه فمفعوله محذوف ، واللام يجوز أن تكون للعلة وأن تكون لام العاقبة كقوله تعالى : {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} (القصص : 8)
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
واختلف في سبب نزول قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {قل} أي : لهذا الذي قد حكم بكفره {تمتع} أي : في هذه الدنيا {بكفرك قليلاً} أي : بقية أجلك فقال مقاتل : نزل في أبي حذيفة بن
524
المغيرة المخزومي ، وقيل : في عتبة بن ربيعة وقيل : عام في كل كافر ، وهذا أمر تهديد وفيه إقناط للكافر من التمتع في الآخرة ولذلك علله بقوله تعالى : {إنك من أصحاب النار} أي : الذين لم يخلقوا إلا لها على سبيل الاستئناف للمبالغة قال تعالى {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس} (الأعراف : 179)
الآية.
ولما شرح الله تعالى صفات المشركين وتمسكهم بغير الله تعالى أردفه بشرح المخلصين فقال تعالى :
{أمن هو قانتٌ} أي : قائم بوظائف الطاعات {آناء الليل} أي : جميع ساعاته ومن إطلاق القنوت على القيام قوله صلى الله عليه وسلم "أفضل الصلاة صلاة القنوت" وهو القيام فيها ومنه القنوت لأنه يدعو قائماً ، وعن ابن عمر أنه قال : لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام وتلا {أمن هو قانت} وعن ابن عباس : القنوت الطاعة لقوله تعالى : {كل له قانتون} (البقرة : 116)
أي : مطيعون ، وقرأ نافع وابن كثير وحمزة بتخفيف الميم والباقون بتشديدها وفي القراءة الأولى وجهان ؛ أحدهما : أن الهمزة همزة الاستفهام دخلت على من بمعنى الذي والاستفهام للتقرير ومقابله محذوف تقديره أمن هو قانت كمن جعل لله أنداداً أو أمن هو قانت كغيره ، وأما القراءة الثانية : فأم داخلة على من الموصولة أيضاً فأدغمت الميم في الميم وفي أم حينئذ قولان ؛ أحدهما : أنها متصلة ومعاد لها محذوف تقديره الكافر خير أم الذي هو قانت ، والثاني : أنها منقطعة فتقدر ببل والهمزة أي : بل أمن هو قانت كغيره أو كالكافر المقول له تمتع بكفرك وقوله تعالى {ساجداً} أي : وراكعاً {وقائماً} أي : وقاعداً في صلاته حالان من ضمير قانت.
تنبيه : في هذه الآية دلالة على أن قيام الليل أفضل من قيام النهار ، واختلف في سبب نزولها فقال ابن عباس : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وقال الضحاك : في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وقال أبو عمرو : في عثمان رضي الله تعالى عنه ، وقال الكلبي : في ابن مسعود وعمار وسلمان رضي الله تعالى عنهم.
وقوله تعالى : {يحذر الآخرة} أي : عذاب الآخرة يجوز أن يكون حالاً من الضمير في ساجداً وقائماً أو من الضمير في قانت وأن يكون مستأنفاً جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل : ما شأنه يقنت آناء الليل ويتعب نفسه ويكدها قيل : يحذر الآخرة {ويرجو رحمة} أي : جنة {ربه} الذي لم يزل يتقلب في إنعامه وفي الكلام حذف والتقدير كمن لا يفعل شيئاً من ذلك ، وإنما حسن هذا الحذف لدلالة ذكر الكافر قبل هذه الآية وذكر بعدها.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
قل هل يستوي} أي : في الرتبة {الذين يعلمون} أي : وهم الذين صفتهم أنهم يقنتون آناء الليل ساجدين وقائمين {والذين لا يعلمون} أي : وهم صفتهم عند البلاء والخوف يوحدون وعند الراحة والفراغ يشركون ، وإنما وصف الله تعالى الكفار بأنهم لا يعلمون لأن الله تعالى وإن أعطاهم آلة العلم إلا أنهم أعرضوا عن تحصيل العلم ، فلهذا جعلهم الله تعالى كأنهم ليسوا من أولي الألباب من حيث إنهم لم ينتفعوا بعقولهم وقلوبهم ، وفي هذا تنبيه على فضيلة العلم ، قيل : لبعض العلماء : إنكم تقولون : العلم أفضل من المال ثم نرى العلماء ، عند أبواب الملوك ولا نرى
525
الملوك عند أبواب العلماء فأجاب بأن هذا أيضاً يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه ، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فلا جرم تركوه.(3/351)
وقال في الكشاف : وأراد بالذين يعلمون العاملين من علماء الديانة كأنه جعل من لا يعمل غير عالم ، قال : وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون ويفتنون ثم يفتنون بالدنيا فهم عند الله تعالى جهلة حيث جعل الله تعالى القانتين هم العلماء ، قال : ويجوز أن يراد على سبيل التشبيه أي : كما لا يستوي العالمون والجاهلون كذلك لا يستوي القانتون والعاصون ا.ه ، وعن الحسن : أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال : هذا تمنَ ، وإنما الرجاء قوله تعالى وتلا هذه الآية. {إنما يتذكر} أي : يتعظ {أولو الألباب} أي : أصحاب العقول الصافية والقلوب النيرة وهم الموصوفون في آخر سورة آل عمران بقوله تعالى : {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم} (آل عمران : 191)
إلى آخرها.
ولما نفى الله تعالى المساواة بين من يعلم وبين من لا يعلم أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يخاطب المؤمنين فقال سبحانه :
{قل} أي : لهم {يا عبادي الذين آمنوا} أي : أوجدوا هذه الحقيقة {اتقوا ربكم} أي : بطاعته واجتناب معاصيه ثم بين تعالى لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد بقوله تعالى : {للذين أحسنوا في هذه الدنيا} أي : بالطاعة {حسنة} أي : في الآخرة وهي الجنة والتنكير في حسنة للتعظيم أي : حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها ، فقوله تعالى : {في هذه الدنيا} متعلق : بأحسنوا وقيل : متعلق {بحسنة} وعلى هذا قال السدي : معناه في هذه الدنيا حسنة يعني الصحة والعافية. قال الرازي : الأولى أن يحمل على الثلاثة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة ليس لها نهاية الأمن والصحة والكفاية" ا.ه ورد بأنه يتعين حمله على حسنة الآخرة لأن ذلك حاصل للكفار أكثر من حصوله للمؤمنين كما قال صلى الله عليه وسلم "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر".
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
واختلف في معنى قوله تعالى : {وأرض الله} أي : الذي له الملك كله والعظمة الشاملة {واسعة} فقال ابن عباس : يعني ارتحلوا من مكة وفيه حث على الهجرة من البلد الذي تظهر فيه المعاصي ونظيره قوله تعالى : {قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} (النساء : 57)
وقيل : نزلت في مهاجري الحبشة. وقال سعيد بن جبير : من أمر بالمعاصي فليهرب ، وقال أبو مسلم : لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة كما قال تعالى : {جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} (آل عمران : 133)
{إنما يوفى} أي : التوفية العظيمة {الصابرون أجرهم} أي : على الطاعات وما يبتلون به ، وقيل : نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء وصبروا وهاجروا ومعنى {بغير حساب} أي : بغير نهاية بكيل أو وزن لأن كل شيء داخل تحت الحساب فهو متناهٍ ، فما لا نهاية له كان خارجاً عن الحساب. وعن ابن عباس : لا يهتدي إليه حساب الحُسَّاب ولا يعرف. وقال علي كرم الله وجهه ورضي الله تعالى عنه : كل مطيع يكال له كيلاً أو يوزن له وزناً إلا الصابرين فإنه يحثى
526
لهم حثياً. وروى الشعبي لكن بسند ضعيف عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن الموازين تنصب يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج فيوفون أجورهم ولا ينصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجر صباً حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل".
ولما كان للعبادة ركنان : عمل القلب وعمل الجوارح ، وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح فقدمه سبحانه بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 521
{قل} أي : يا أشرف المرسلين {إني أمرت} قرأ نافع بفتح الياء والباقون بسكونها {أن أعبد الله مخلصاً له الدين} أي : مخلصاً له التوحيد لا أشرك به شيئاً ثم ذكر عقبه الأدون وهو عمل الجوارح وهو الإسلام المذكور في قوله :
{وأمرت لأن} أي : لأجل أن أو بأن {أكون أول المسلمين} أي : من هذه الأمة وبهذا زال التكرار.
وقال الزمخشري : فإن قلت كيف عطف أمرت على أمرت وهما واحد ؟
قلت : ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما ، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء آخر ، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين.
527
ولما دعا المشركون النبي صلى الله عليه وسلم إلى دين آبائه أمره الله تعالى بقوله سبحانه :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 527
قل إني أخاف إن عصيت ربي} أي : المحسن إلي المربي لي بكل جميل وعبدت غيره {عذاب يوم عظيم} والمقصود من هذا الأمر المبالغة في زجر الغير عن المعاصي ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو أني بفتح الياء والباقون بسكونها.
{قل الله} أي : المحيط بصفات الكمال وحده {أعبد مخلصاً له} وحده {ديني} من الشرك.
قال الرازي : فإن قيل : ما معنى التكرير في قوله تعالى {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين} وقوله تعالى : (3/352)
{قل الله أعبد مخلصاً له ديني} قلنا : ليس هذا بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله تعالى بالإيمان بالعبادة ، والثاني : إخبار بأنه أمر أن لا يعبد أحداً غير الله تعالى ، وذلك أن قوله {أمرت أن أعبد الله} لا يفيد الحصر وقوله تعالى : {قل الله أعبد} يفيد الحصر أي : الله أعبد ولا أعبد أحداً سواه.
ويدل عليه أنه لما قال {قل الله أعبد} قال بعده :
{فاعبدوا} أي : أنتم أيها الداعون في وقت الضراء المعرضون في وقت الرخاء {ما شئتم من دونه} أي : غيره في هذا تهديد وزجر لهم وإيذان بأنهم لا يعبدون الله تعالى ، ثم بين تعالى كمال الزجر بقوله سبحانه {قل إن الخاسرين} أي : الكاملين في الخسران {الذين خسروا أنفسهم} أي : أوقعوها في هلاك لا يعقل هلاك أعظم منه {و} خسروا {أهليهم يوم القيامة} أيضاً لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا ذهاباً لا رجوع بعده البتة. وقوله تعالى {ألا ذلك} أي : الأمر العظيم البعيد الرتبة في الخسارة {هو الخسران المبين} أي : البين يدل على غاية المبالغة من وجوه ؛ أحدها : أنه وصفهم بالخسران ثم أعاد ذلك بقوله تعالى : {ألا ذلك هو الخسران المبين} وهذا التكرير لأجل التأكيد ، وثانيها : ذكر حرف ألا وهو للتنبيه ، وذكر التنبيه يدل على التعظيم ، كأنه قال : بلغ في العظم إلى حيث لا تصل عقولكم إليه فتنبهوا له ، وثالثها : قوله تعالى {هو الخسران} ولفظة هو تفيد الحصر كأنه قيل : كل خسران يصير في مقابلته كل خسران ، ورابعها : وصفه تعالى بكونه خسراناً مبيناً يدل على التهويل.
ولما شرح الله تعالى خسرانهم وصف ذلك الخسران بقوله تعالى :
{لهم من فوقهم ظلل} أي : طباق {من النار ومن تحتهم ظلل} أي : فرش ومهاد نظيره قوله تعالى : {لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش} (الأعراف : 41) ، فإن قيل : الظلة ما علا الإنسان فكيف سمى ما تحته ظلة ؟
أجيب بأوجه : أحدها : أنه من باب إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر كقوله تعالى : {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى : 40) ، ثانيها : أن الذي تحته يكون ظلة لغيره لأن النار دركات كما أن الجنة درجات ، ثالثها : أن الظلة التحتانية لما كانت مشابهة للظلة الفوقانية في الحرارة والإحراق والإيذاء أطلق اسم إحداهما على الأخرى لأجل المماثلة والمشابهة وقيل المراد : إحاطة النار بهم من جميع الجهات.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 527
ذلك} أي : العذاب المعد للكفار {يخوف الله به عباده} أي : المؤمنين ليتجنبوا ما يوقعهم فيه ، وقيل : يخوف به الكفار والضلال ويدل للأول قوله تعالى : {يا عباد فاتقون} أي : ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي وهذه عظة من الله تعالى ونصيحة بالغة ، ووجه الدلالة أن إضافة
528
العبيد إلى الله تعالى في القرآن مختص بأهل الإيمان.
{والذين اجتنبوا الطاغوت} أي : البالغ غاية الطغيان والطاغوت فعلوت من الطغيان كالملكوت والرحموت إلا أن فيه قلباً بتقديم اللام على العين إذ أصله طغيوت قدمت الياء على الغين ثم قلبت الفاء لتحركها وانفتاح ما قبلها ، أطلقت على الشيطان أو الشياطين لكونها مصدراً وفيها مبالغات وهي التسمية بالمصدر كأنّ عين الشيطان طغيان وإن البناء بناء مبالغة ، فإن الرحموت الرحمة الواسعة ، والملكوت الملك المبسوط ، والقلب وهو للاختصاص قال في الكشاف : إذ لا تطلق على غير الشيطان والمراد بها هنا : الجمع انتهى.
لكن ابن الخازن فسر الطاغوت بالأوثان وتبعه الجلال المحلي.
فإن قيل : يتعين هذا التفسير لأنهم إنما عبدوا الصنم لا الشيطان. أجيب : بأن الداعي إلى عبادة الصنم هو الشيطان فلما كان هو الداعي كانت عبادة الصنم عبادة له.
فإن قيل : ما وجه تسمية الصنم بالطاغوت على التفسير الثاني مع أنه لا يطلق إلا على الشيطان كما مر ؟
أجيب : بأنه أطلق عليه على سبيل المجاز لأن الطغيان لما حصل بسبب عبادته والتقرب إليه وصفه بذلك إطلاقاً لاسم السبب على المسبب بحسب الظاهر. وقوله تعالى : {أن يعبدوها} بدل اشتمال من الطاغوت لأن الطاغوت مؤنث كأنه قيل : اجتنبوا عبادة الطاغوت. فإن قيل : على التفسير الأول إنما عبدوا الصنم لا الشيطان ؟
أجيب : بأنه الداعي إلى عبادة الصنم.
فائدة : نقل في التواريخ أن الأصل في عبادة الأصنام أن القوم مشبهة واعتقدوا في الإله أنه نور عظيم وأن الملائكة أنوار مختلفة في الصغر والكبر فوضعوا تماثيل صور على وفق تلك الخيالات فكانوا يعبدون تلك التماثيل على اعتقادهم أنهم يعبدون الله والملائكة.(3/353)
{وأنابوا} أي : رجعوا {إلى الله} أي : إلى عبادة الله بكليتهم وتركوا ما كانوا عليه من عبادة غيره ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء أحدها قوله تعالى : {لهم البشرى} أي : في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا : فالثناء عليهم بصالح أعمالهم وعند نزول الموت وعند الوضع في القبر ، وأما في الآخرة : فعند الخروج من القبور وعند الوقوف للحساب وعند جواز الصراط وعند دخول الجنة ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل لهم البشارة بنوع من الخير والراحة والروح والريحان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 527
تنبيه : يحتمل أن يكون المبشر لهم هم الملائكة عليهم السلام لأنهم يبشرونهم عند الموت لقوله تعالى : {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم} (النحل : 32)
وعند دخول الجنة لقوله تعالى : {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} (الرعد : 23 ـ 24)
ويحتمل أن يكون هو الله تعالى لقوله تعالى : {تحيتهم يوم يلقونه سلام} (الأحزاب : 44)
ولا مانع أن يكون من الله تعالى ومن الملائكة عليهم السلام فإن فضل الله سبحانه واسع وقوله تعالى : {فبشر عباد} قرأه السوسي بياء بعد الدال مفتوحة في الوصل ساكنة في الوقف والباقون بغير ياء.
{الذين يستمعون} أي : بجميع قلوبهم {القول فيتبعون} أي : بكل عزائمهم بعد انتقاده {أحسنه} أي : بما دلتهم عليه عقولهم من غير عدول إلى أدنى.
تنبيه : في هذا وضع الظاهر موضع مضمر {الذين اجتنبوا} للدلالة على مبدإ إحسانهم وأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل ، فإذا اعترضهم أمران واجب
529
وندب اختاروا الواجب أو مباح وندب اختاروا الندب حرصاً على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثواباً ، ويدخل تحت ذلك أبواب التكاليف وهي قسمان : عبادات ومعاملات ، فأما العبادات فكقولنا : الصلاة التي يذكر في تحريمها الله أكبر مع اقتران النية ويقرأ فيها بالفاتحة ويؤتى فيها بالطمأنينة في مواضعها الخمسة ويتشهد فيها ويخرج منها بالسلام ، لا شك أنها أحسن من الصلاة التي لا يراعى فيها شيء من هذه الأحوال. قال الرازي : فوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة دون غيرها ا.ه وكذا القول في جميع أبواب العبادات. قال في الكشاف : ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها على السبر وأبينها دليلاً أو أمارة ولا تكن في مذهبك كما قال القائل :
*ولا تكن مثل غير قيد فانقادا*
يريد : المقلد ا.ه ، وأما المعاملات فكإنظار المعسر وإبرائه فالإبراء أولى وإن كان الأول واجباً ، والثاني : مندوباً وكذا القول في جميع المعاملات. وقيل : يسمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن وقيل : يسمعون أوامر الله تعالى فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو قال تعالى : {وأن تعفوا أقرب للتقوى} (البقرة : 237)
وعن ابن عباس : هو الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساوىء فيحدث بأحسن ما يسمعه ويكف عما سواه. وروي عن ابن عباس آمن أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم فجاءه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فنزل فيهم {فبشر عبادي} الآية.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 527
أولئك} أي : العالو الهمة والرتبة {الذين هداهم الله} بما له من صفات الكمال لدينه {وأولئك أولو الألباب} أي : أصحاب العقول السليمة عن منازعة الوهم والعادة ، وقال أبو زيد : نزل {والذين اجتنبوا الطاغوت} (الزمر : 17)
الآيتين في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون لا إله إلا الله زيد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي والأحسن لا إله إلا الله.
وفي هذه الآية لطيفة وهي : أن حصول الهداية في العقل والروح حادث فلا بد من فاعل وقابل ، فأما الفاعل : فهو الله تعالى وهو المراد من قوله تعالى : {أولئك الذين هداهم الله} وأما القابل فإليه الإشارة بقوله تعالى : {وأولئك هم أولو الألباب} فإن الإنسان ما لم يكن عاقلاً كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف الحقيقية في قلبه.
واختلف في معنى قوله تعالى :
{أفمن حق} وأسقط تاء التأنيث الدالة على اللين تأكيداً للنهي عن الأسف عليهم {عليه كلمة العذاب} فقال ابن عباس معنى الآية من سبق في علم الله أنه في النار ، وقيل : كلمة العذاب قوله تعالى : {لأملأن جهنم} (الأعراف : 18)
الآية وقيل : قوله تعالى : "هؤلاء للنار ولا أبالي" وقوله تعالى {أفأنت تنقذ} أي : تخرج {من في النار} جواب الشرط وأقيم فيه الظاهر مقام الضمير إذ كان الأصل أفأنت تنقذه ، وإنما وقع موقعه شهادة عليه بذلك ، والهمزة للإنكار والمعنى : لا تقدر على هدايته فتنقذه من النار وقال ابن عباس : يريد أبا لهب وولده ويجوز أن تكون من موصولة في محل رفع بالابتداء وخبره محذوف. واختلف في تقديره فقدره أبو
530(3/354)
البقاء كمن نجا وقدره الزمخشري فأنت تخلصه أي : حذف لدلالة أفأنت تنقذ عليه وقدره غيرهما تتأسف عليه وقدره آخر يتخلص منه أي : من العذاب.
وقوله تعالى :
{لكن الذين اتقوا ربهم} استدراك بين شبهي نقيضين أو ضدين وهما المؤمنون والكافرون أي : جعلوا بينهم وبين المحسن إليهم وقاية في كل حركة وسكون فلم يجعلوا شيئاً من ذلك إلا بنظر يدلهم على رضاه وقوله تعالى : {لهم غرف} أي : علالي من الجنة يسكنونها {من فوقها غرف} شديدة العلو مقابل لما ذكر في وصف الكفار لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل والمعنى لهم منازل في الجنة رفيعة ومن فوقها منازل أرفع منها.
فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : {مبنية} ؟
أجيب : بأن المنزل إذا بني على منزل آخر كان الفوقاني أضعف بناء من التحتاني فقوله تعالى : {مبنية} فائدته أنه وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساوٍ للمنزل الأسفل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 527
ولما كانت المنازل لا تطيب إلا بالماء وكان الجاري أحسن أشرف قال تعالى {تجري من تحتها} أي : من تلك الغرف الفوقانية والتحتانية {الأنهار} أي : المختلفة كما قال تعالى : {فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} (محمد : 15)
وقوله تعالى : {وعد الله} مصدر مؤكد لمضمون الجملة فهو منصوب بفعله المقدر لأن قوله تعالى : {غرف} في معنى وعدهم الله ذلك {لا يخلف الله الميعاد} لأن الخلف نقص وهو على الله سبحانه محال ، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم ، قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال : بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" وقوله : الغابر أي : الباقي في الأفق في ناحية المشرق والمغرب.
ولما وصف الله تعالى الآخرة بوصف يوجب الرغبة العظيمة فيها وصف الدنيا بصفات توجب اشتداد النفرة عنها بقوله تعالى :
{ألم تر} أي : تعلم {أن الله} أي : الذي له كمال القدرة {أنزل من السماء} أي : التي لا يستمسك الماء فيها إلا بقدرة باهرة تقهر الماء على ذلك ، والمراد بالسماء : الجرم أو السحاب {ماء} وهو المطر ، قال الشعبي : كل ماء في الأرض فمن السماء نزل ثم إنه تعالى ينزله إلى بعض المواضع ثم يقسمه {فسلكه} أي : أدخل ذلك الماء خلال التراب حال كونه {ينابيع في الأرض} أي : عيوناً ومجاري ومسالك كالعروق في الأجسام {ثم يخرج} الله تعالى {به} أي : بالماء {زرعاً مختلفاً ألوانه} من خضرة وحمرة وصفرة وبياض وغير ذلك ومختلفاً أصنافه من بر وشعير وسمسم وغيرها {ثم يهيج} أي : ييبس {فتراه} بعد الخضرة مثلاً {مصفراً} من يبسه لأنه إذا تم جفافه حان له أن يفصل عن منابته {ثم يجعله حطاماً} أي : فتاتاً {إن في ذلك} أي : التدبير على هذا الوجه {لذكرى} أي : تذكيراً وتنبيهاً {لأولي الألباب} أي : أصحاب العقول الصافية جداً فيتذكرون هذه الأحوال في النبات فيعلمون بدلالته على وحدانية الله تعالى شأنه وقدرته وأحوال الحيوان والإنسان ، وإنه وإن طال عمره فلابد من الانتهاء إلى أن يصير
531
مصفر اللون منحطم الأعضاء والأجزاء ثم تكون عاقبته الموت ، فإذا كانت مشاهدة هذه الأحوال في النبات مذكرة حصول مثل هذه الأحوال في نفسه في حياته فحينئذ تعظم نفرته عن الدنيا ولذاتها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 527
ولما بين تعالى الدلائل على وجوب الإقبال على طاعة الله تعالى ووجوب الإعراض عن الدنيا ولذاتها ذكر أن الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح الصدور ونور القلوب فقال سبحانه :
جزء : 3 رقم الصفحة : 527
{أفمن شرح الله} أي : الذي له القدرة الكاملة {صدره للإسلام} أي : وسعه لقبول الحق فاهتدى {فهو} أي : بسبب ذلك {على نور من ربه} أي : المحسن إليه كمن أقسى الله تعالى قلبه دل على هذا {فويل} كلمة عذاب {للقاسية قلوبهم من ذكر الله} قال مالك بن دينار : ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب ، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة ، وأما نور الله تعالى فهو لطفه. روي : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقيل : يا رسول الله فما علامة انشراح الصدر للإسلام قال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت".
فإن قيل : إن ذكر الله تعالى سبب لحصول النور والهداية وزيادة الاطمئنان قال تعالى {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد : 28)(3/355)
فكيف جعله في هذه الآية سبباً لحصول القسوة في القلب ؟
أجيب : بأن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر ، بعيدة عن مناسبة الروحانيات شديدة الميل إلى الطباع البهيمية والأخلاق الذميمة فإن سماعها لذكر الله تعالى يزيدها قسوة وكدرة ، مثاله أن الفاعل الواحد تختلف أمثاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس يسود وجه القصار ويبيض ثوبه ، وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقد الملح ، وقد نرى إنساناً واحداً يذكر كلاماً واحداً في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره وما ذاك إلا بحسب اختلاف جواهر النفوس ، ولما نزل قوله تعالى : {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} (المؤمنون : 12)
جزء : 3 رقم الصفحة : 532
الآية وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حاضر وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى : {ثم أنشأناه خلقاً آخر} (المؤمنون : 14)
قال كل واحد منهما {تبارك الله أحسن الخالقين} (المؤمنون : 14)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اكتب فكذا نزلت" فازداد عمر رضي الله عنه إيماناً على إيمانه وارتد ذلك الإنسان. وإذا عرف ذلك لم يبعد أن يكون ذكر الله تعالى يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية ويوجب القنوط والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة ، وقيل : من بمعنى عن أي : قست قلوبهم عن قبول ذكر الله وجرى على ذلك الجلال المحلي {أولئك} أي : هؤلاء البعداء {في ضلال مبين} أي : بين قيل : نزلت هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه وفي أبي بن خلف ، وقيل : في علي وحمزة وأبي لهب وولده وقيل : في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل.
{الله} الفعال لما يريد الذي له مجامع العظمة والإحاطة بصفات الكمال {نزل} أي : بالتدريج للتدريب وللجواب عن كل شبهة {أحسن الحديث} أي : القرآن روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا : حدثنا فنزلت وكونه أحسن الحديث لوجهين ؛ أحدهما : من جهة اللفظ ،
532
والآخر : من جهة المعنى ، أما الأول : فلأن القرآن أفصح الكلام وأبلغه وأجزله وليس هو من جنس الشعر ولا من جنس الخطب ولا من جنس الرسائل بل هو نوع يخالف الكل في أسلوبه مع أن كل طبع سليم يستلذه ويستطيبه ، وأما من جهة المعنى : فهو منزه عن التناقض والاختلاف قال جل ثناؤه : {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (النساء : 82)
ومشتمل على أخبار الماضين وقصص الأولين وعلى أخبار الغيوب الكثيرة في الماضي والمستقبل وعلى الوعد والوعيد والجنة والنار ، وفي إيقاع لفظ الجلالة مبتدأ وبناء نزل عليه تفخيم لأحسن الحديث واستشهاد على حسنه وتأكيده لاستناده إلى الله تعالى وأنه من عنده وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عنه وتنبيه على أنه وحي معجز مباين لسائر الأحاديث.
وقوله تعالى : {كتاباً} أي : جامعاً لكل خير بدل من أحسن الحديث ، وقيل : حال منه بناءً على أن أحسن الحديث معرفة لإضافته إلى معرفة ، وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة فيه خلاف فقيل : إضافته محضة وقيل : غير محضة والصحيح الأول وقوله تعالى : {متشابهاً} نعت لكتاباً وهو المسوغ لمجيء الجامد حالاً أو أنه في قوة مكتوب وتشابهه بتشابه أبعاضه في الإعجاز والبلاغة والموعظة الحسنة لا تفاوت فيه أصلاً في لفظ ولا معنى مع كونه نزل مفرقاً في نيف وعشرين سنة ، وأما كلام الناس فلا بد فيه من التفاوت وإن طال الزمان في التهذيب سواء اتحد زمانه أم لا.
جزء : 3 رقم الصفحة : 532
وقوله تعالى : {مثاني} جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده مواعظه أو جمع مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير والإعادة ، وقيل : لأنه يثنى في التلاوة فلا يمل كما جاء في وصفه لا يخلق على كثرة الترداد.
فإن قيل : كيف وصف كتاباً وهو مفرد بالجمع ؟
أجيب : بأن الكتاب جملة ذات تفاصيل وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير ألا ترى أنك تقول : القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات فكذلك تقول : أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات ونظيره قولك الإنسان عظام وعروق وأعصاب إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة وأصله كتاباً متشابهاً فصولاً مثاني ، ويجوز أن يكون مثاني منتصباً على التمييز من متشابهاً كما تقول : رأيت رجلاً حسناً شمائل.(3/356)
فإن قيل : ما فائدة التثنية والتكرير ؟
أجيب : بأن النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة ، فما لم يكرر عليها عوداً على بدء لم يرسخ فيها ولم يعمل عمله ومن ثم كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظهم به وينصح ثلاث مرات وسبعاً ليركزه في قلوبهم ويغرسه في صدورهم {تقشعر} أي : تضطرب وتشمئز {منه} عند ذكر وعيده {جلود} أي : ظواهر أجسام {الذين يخشون} أي : يخافون {ربهم} والمعنى تأخذهم قشعريرة وهو تغير يحدث في جلد الإنسان عند ذكر آيات العذاب {ثم تلين} أي : تطمئن {جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} أي : عند ذكر وعده ، والمعنى إذا ذكرت آيات الرحمة لانت وسكنت قلوبهم كما قال تعالى : {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد : 28)
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تعالى تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها" وفي رواية : "حرمه
533
الله على النار" قال قتادة : هذا نعت أولياء الله تعالى نعتهم الله تعالى بأن تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم بذكر الله ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم وإنما ذلك في أهل البدع وهو من الشيطان.
وعن عبد الله بن عروة بن الزبير قال : قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما : كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن ؟
قالت : كانوا كما نعتهم الله تعالى تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم ، قال : قلت لها : إن ناساً اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشياً عليه ، قالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وروي أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مر برجل من أهل العراق ساقط فقال : ما بال هذا ؟
فقالوا : إنه إذا قرئ عليه القرآن أو سمع ذكر الله تعالى سقط فقال : إنا لنخشى الله تعالى وما نسقط. وقال ابن عمر : إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ، ما كان هذا صنيع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن ، فقال : بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطاً رجليه ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن رمى بنفسه فهو صادق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 532
فإن قيل : لم ذكرت الجلود وحدها أولاً في جانب الخوف ثم قرنت بها القلوب ثانياً في الرجاء ؟
أجيب : بأن الخشية التي محلها القلوب إذا ذكرت فقد ذكرت القلوب فكأنه قيل : تقشعر جلودهم من آيات الوعيد وتخشى قلوبهم في أول وهلة وإذا ذكر الله تعالى ومبنى أمره على الرأفة والرحمة استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة ليناً في جلودهم.
فإن قيل : ما وجه تعدية تلين بإلى ؟
أجيب : بأنه ضمن معنى فعل متعد بإلى كأنه قيل : سكنت أو اطمأنت إلى ذكر الله تعالى.
فإن قيل : كيف قال الله تعالى : {إلى ذكر الله} ولم يقل إلى رحمة الله ؟
أجيب : بأن من أحب الله تعالى لأجل رحمته فهو ما أحب الله تعالى وإنما أحب شيئاً غيره وأما من أحب الله تعالى لا لشيء سواه فهو المحب الحق وهي الدرجة العالية كما قال تعالى : {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} {ذلك} أي : القرآن الذي هو أحسن الحديث {هدى الله} الذي له صفات الكمال {يهدي به من يشاء} أي : وهو الذي شرح الله تعالى صدره أولاً لقبول الهداية {ومن يضلل الله} أي : يجعل قلبه قاسياً مظلماً {فما له من هاد} أي : يهديه. وقرأ ابن كثير في الوقف بإثبات الياء بعد الدال ، والباقون بغير الياء واتفقوا في الوصل على عدم الياء.
ولما حكم تعالى على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وهو الضلال التام حكم عليهم في الآخرة بحكم آخر وهو العذاب الشديد فقال :
{أفمن يتقي بوجهه سوء} أي : شدة {العذاب} أي : يجعله وقاية يقي بها نفسه لأنه تكون يداه مغلولتين إلى عنقه {يوم القيامة} فلا يقدر أن يتقي إلا بوجهه ، وقال مجاهد : يجر على وجهه في النار. وقال عطاء : يرمى به في النار منكوساً فأول شيء يلقى في النار وجهه. وقيل : يلقى في النار مغلولة يداه إلى عنقه وفي عنقه صخرة عظيمة من كبريت مثل الجبل العظيم فتشتعل النار في تلك الصخرة وهي في عنقه ، فحرها ووهجها لا يطيق دفعها عنه للأغلال التي في يديه وعنقه. وقيل المراد بالوجه الجملة ، وقيل : نزلت في أبي جهل ومعنى الآية : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن أمن من العذاب بدخول الجنة فحذف الخبر كما حذف في نظائره ، {وقيل} أي : تقول الخزنة {للظالمين} أي : الكافرين ، وكان الأصل لهم
534
فوضع الظاهر موضعه تسجيلاً عليهم بالظلم {ذوقوا ما} أي : وبال الذي {كنتم تكسبون} أي : تعملون في الدنيا من المعاصي.
ولما بين تعالى كيفية عقاب القاسية قلوبهم في الآخرة وبين كيفية وقوعهم في العذاب قال تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 532(3/357)
كذب الذين} وأشار إلى قرب زمان المعذبين من زمانهم بإدخال الجار فقال تعالى : {من قبلهم} أي : من قبل كفار مكة أي : مثل سبأ وقوم تبع كذبوا رسلهم في إتيان العذاب {فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} أي : من جهة لا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها.
{فأذاقهم الله} أي : الذي له القدرة الكاملة {الخزي} أي : الذل والهوان من المسخ والقتل وغيرهما {في الحياة الدنيا} أي : العاجلة الدنيئة {ولعذاب الآخرة} أي : المعد لهم {أكبر} أي : من ذلك الذي وقع بهم في الدنيا {لو كانوا} أي : المكذبون {يعلمون} أي : عذابها ما كذبوا ولكن لا علم لهم أصلاً إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.
ولما ذكر تعالى هذه الفوائد الكثيرة في هذه المطالب بين أن هذه البينات بلغت حد الكمال والتمام فقال تعالى :
{ولقد ضربنا} أي : جعلنا {للناس} أي : عامة لأن رسالته صلى الله عليه وسلم عامة {في هذا القرآن} أي : الجامع لكل علم وكل خير {من كل مثل} أي : يحتاج إليه الناظر في أمر دينه {لعلهم يتذكرون} أي : يتعظون به وقرأ نافع وقالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال عند الضاد والباقون بالإدغام. وقوله تعالى :
{قرآناً عربياً} فيه ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أن يكون منصوباً على المدح لأنه لما كان نكرة امتنع إتباعه للقرآن ، ثانيها : أن ينتصب بيتذكرون أي : يتذكرون قرآناً ، ثالثها : أن ينتصب على الحال من القرآن على أنها حال مؤكدة وتسمى حالاً موطئة لأن الحال في الحقيقة عربياً وقرآناً توطئة له نحو جاء زيد رجلاً صالحاً {غير ذي عوج} أي : مستقيماً بريئاً من التناقض والاختلاف نعت لقرآناً أو حال أخرى.
فإن قيل : هلا قيل : مستقيماً أو غير معوج ؟
أجيب : بأن في ذلك فائدتين إحداهما : نفي أن يكون فيه عوج قط كما قال تعالى : {ولم يجعل له عوجاً} (الكهف : 1)
ثانيتهما : أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان ، وقيل : المراد بالعوج الشك واللبس قال القائل :
*وقد أتاك يقين غير ذي عوج ** من الإله وقول غير مكذوب*
{لعلهم يتقون} أي : الكفر.
تنبيه : وصف تعالى القرآن بثلاث صفات ؛ أولها : كونه قرآناً والمراد كونه متلواً في المحاريب إلى قرب قيام الساعة ، ثانيها : كونه عربياً أي : أنه أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته كما قال تعالى : {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} (الإسراء : 88)
ثالثها : كونه غير ذي عوج ، قال مجاهد : غير ذي لبس وقال ابن عباس رضي الله عنهما : غير مختلف ، وقال السدي : غير مخلوق ، ويروى ذلك عن مالك بن أنس ، وحكى شقيق وابن عيينة عن سبعين من التابعين : أن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق.
جزء : 3 رقم الصفحة : 532
ولما شرح الله تعالى وعيد الكفار مثل لما يدل على فساد مذهبهم وقبيح طريقتهم بقوله
535
تعالى :
{ضرب الله} أي : الذي له الملك كله {مثلاً} أي : للمشركين والموحدين وقوله تعالى : {رجلاً} بدل من مثلاً وقوله تعالى : {فيه شركاء} يجوز أن تكون الجملة من مبتدأ وخبر في محل نصب صفة ل {رجلاً} ويجوز أن يكون الوصف الجار وحده وشركاء فاعل به قال ابن عادل : وهو أولى لقربه من المفرد وقوله تعالى : {متشاكسون} صفة لشركاء والتشاكس التخالف وأصله سوء الخلق وعسره وهو سبب التخالف أي : متنازعون مختلفون سيئة أخلاقهم يقال : رجل شكس وشرس إذا كان سيء الخلق مخالفاً للناس لا يرضى بالإنصاف {ورجلاً سلماً} أي : خالصاً من نزاع {لرجل} أي : خالصاً له لا شريك له فيه. ولا منازع ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بألف بعد السين وكسر اللام بعدها ، والباقون بغير ألف وفتح اللام وهو الذي لا ينازع فيه من قولهم : هو لك سلم أي : مسلم لا منازع لك فيه.
وقوله تعالى : {هل يستويان} استفهام إنكار أي : لا يستويان وقوله تعالى : {مثلاً} تمييز والمعنى اضرب لقومك مثلاً وقل لهم : ما تقولون في رجل مملوك لشركاء بينهم اختلاف وتنازع وكل واحد يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه حوائجهم وهو متحير في أمره ، وكلما أرضى أحدهم غضب الباقون وإذا احتاج إليهم فكل واحد يرده إلى الآخر فبقي متحيراً لا يعرف أيهم أولى أن يطلب رضاه وأيهم يعينه في حاجاته فهو بهذا السبب في عذاب أليم. وآخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص وذلك المخدوم يعينه على مهماته فأي هذين العبدين أحسن حالاً ، لا شك أن هذا أقرب إلى الصلاح من حال الأول ، فإن الأول : مثل المشرك والثاني : مثل الموحد ، وهذا المثال في غاية الحسن في تقبيح المشرك وتحسين الموحد.(3/358)
فإن قيل : هذا المثال لا ينطبق على عبادة الأصنام لأنها جمادات فليس بينها منازعة ولا تشاكس ؟
أجيب : بأن عبدة الأصنام يختلفون ، منهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الكواكب السبعة فهم في الحقيقة إنما يعبدون الكواكب السبعة وهم يثبتون بينها منازعة ومشاكسة ألا ترى أنهم يقولون : زحل هو النحس الأعظم والمشتري هو : السعد الأعظم ، ومنهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الأرواح الفلكية والقائلون بهذا القول زعموا أن كل نوع من أنواع حوادث هذا العالم يتعلق بروح من الأرواح السماوية ، وحينئذ يحصل بين تلك الأرواح منازعة ومشاكسة فيكون المثال مطابقاً ، ومنهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل لأشخاص من العلماء والزهاد مضوا فهم يعبدون هذه التماثيل ليصير أولئك الأشخاص من العلماء والزهاد شفعاء لهم عند الله تعالى ، والقائلون بهذا القول تزعم كل طائفة منهم أن المحق هو ذلك الرجل الذي هم على دينه وأن من سواه مبطل ، وعلى هذا التقدير أيضاً ينطبق المثال.
جزء : 3 رقم الصفحة : 532
ولما بطل القول بإثبات الشركاء والأنداد وثبت أنه لا إله إلا هو الواحد الأحد الحق قال الله تعالى : {الحمد} أي : الإحاطة بأوصاف الكمال {لله} أي : كل الحمد لله الذي لا مكافئ له فلا يشاركه فيه على الحقيقة سواه لأنه المنعم بالذات والمالك على الإطلاق {بل أكثرهم} أي : أهل مكة {لا يعلمون} أي : ما يصيرون إليه من العذاب فيشركون به غيره من فرط جهلهم وقول البغوي والمراد بالأكثر الكل ليس بظاهر.
ولما كان كفار مكة يتربصون موت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره الله تعالى بأن الموت يجمعهم
536
جميعاً بقوله تعالى :
{إنك ميت} أي : ستموت وخصه الله تعالى بالخطاب لأن الخطاب إذا كان للرأس كان أصدع لأتباعه فكل موضع كان للأتباع ، وخص فيه صلى الله عليه وسلم بالخطاب دونهم فهم المخاطبون في الحقيقة على وجه أبلغ {وإنهم ميتون} أي : سيموتون فلا معنى للتربص وشماتة الفاني بالفاني.
فائدة : قال الفراء : الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت ، والميت : بالتخفيف من فارقته الروح ولذلك لم يخفف هنا. وقوله تعالى :
{ثم إنكم} فيه تغليب المخاطب على الغائب {يوم القيامة عند ربكم} أي : المربي لكم بالخلق والرزق {تختصمون} فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت وكذبوا واجتهدت في الإرشاد والتبليغ فلجوا في التكذيب والعناد ويعتذرون بالأباطيل يقول الأتباع أطعنا سادتنا وكبراءنا وتقول السادات أغوتنا آباؤنا الأقدمون والشياطين ، ويجوز أن يكون المراد به الاختصام العام وجرى عليه الجلال المحلي وهو أولى وإن رجح الأولَ الكشافُ ، لما روي عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال : "لما نزلت هذه الآية قال : يا رسول الله أتكون علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا قال : نعم فقال : إن الأمر إذاً لشديد" وقال ابن عمر : عشنا برهة من الدهر وكنا نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين ، قلنا : كيف نختصم وديننا واحد وكتابنا واحد حتى رأينا بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفنا أنها فينا نزلت. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في هذه الآية قال : كنا نقول : ربنا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد فما هذه الخصومة ؟
فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا : هو هذا. وعن إبراهيم النخعي قال : لما نزلت قالت الصحابة كيف نختصم ونحن إخوان فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا : هذه خصومتنا. وعن أبي العالية : نزلت في أهل القبلة.
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال فليستحله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له أخذ من سيئاته فجعلت عليه". وعن أبي هريرة أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتدرون من المفلس ؟
قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، قال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وقد كان شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا ، فيقضي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار".
ثم إنه تعالى بين نوعاً آخر من قبائح أفعالهم بقوله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 532
537(3/359)
{فمن} أي : لا أحد {أظلم} أي : منهم هكذا كان الأصل ، ولكن قال تعالى : {ممن كذب} تعميماً {على الله} أي : الذي الكبرياء رداؤه والعظمة إزاره بنسبة الولد والشريك إليه {وكذب} أي : أوقع التكذيب لكل من أخبره {بالصدق} أي : بالأمر الذي هو الصدق بعينه وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {إذ جاءه} أي : فاجأه بالتكذيب لما سمع من غير وقفة ولا إعمال روية بتمييز بين حق وباطل كما يفعل أهل النصفة فيما يستمعون ، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الذال عند الجيم والباقون بالإدغام ، ثم أردف ذلك بالوعيد فقال : {أليس في جهنم} أي : النار التي تلقى داخلها بالتجهم والعبوسة كما كان يلقى الحق وأهله {مثوى} أي : مأوى {للكافرين} أي : لهؤلاء الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق ، واللام في للكافرين إشارة إليهم والاستفهام بمعنى التقرير.
ولما ذكر من افترى وكذب ذكر مقابله وهو الذي جاء بالصدق وصدق به بقوله تعالى :
{والذي جاء بالصدق} قال قتادة ومقاتل : هو النبي صلى الله عليه وسلم {وصدق به} هم المؤمنون فالذي بمعنى الذين ولذلك روعي معناه فجمع في قوله تعالى : {أولئك} أي : العالو الرتبة {هم المتقون} أي : الشرك كما روعي معنى من في قوله تعالى : {للكافرين} فإن الكافرين ظاهر واقع موقع الضمير ، إذ الأصل مثوى لهم وكما في قوله تعالى : {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} (البقرة : 17)
جزء : 3 رقم الصفحة : 537
ثم قال {ذهب الله بنورهم} (البقرة : 17)
قال الزمخشري : ويجوز أن يريد الفوج أو الفريق الذي جاء بالصدق وصدق به وهم الرسول الذي جاء بالصدق وصحابته رضي الله تعالى عنهم الذين صدقوا به ا.ه قال أبو حيان : وفيه توزيع للصلة والفوج هو الموصول فهو كقولك : جاء الفريق الذي شرف وشرف ، والأظهر عدم التوزيع بل المعطوف على الصلة صلة لمن له الصلة الأولى ، وقيل : بل الأصل والذين جاء بالصدق فحذفت النون تخفيفاً كقوله تعالى : {كالذي خاضوا} (التوبة : 69)
قال ابن عادل : وهذا وهم إذ لو قصد ذلك لجاء بعده ضمير الجمع فكان يقال : والذي جاؤوا كقوله
538
تعالى : {كالذي خاضوا} ويدل عليه أن نون التثنية إذا حذفت عاد الضمير مثنى كقوله :
*أبني كليب إن عميّ اللذا ** قتلا الملوك وفككا الأغلالا*
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : والذي جاء بالصدق يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلا إله إلا الله وصدق به الرسول أيضاً بلغه إلى الخلق. وقال السدي : والذي جاء بالصدق جبريل عليه السلام جاء بالقرآن وصدق به محمد صلى الله عليه وسلم تلقاه بالقبول ، وقال أبو العالية والكلبي : والذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق به أبو بكر رضي الله عنه ، وقال عطاء : والذي جاء بالصدق الأنبياء وصدق به الأتباع ، وقال الحسن : هم المؤمنون صدقوا به في الدنيا وجاؤوا به في الآخرة وقوله تعالى :
{لهم ما يشاؤون} أي : من أنواع الكرامات {عند ربهم} أي : في الجنة يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه {ذلك} أي : هذا الجزاء {جزاء المحسنين} لأنفسهم بإيمانهم. وقوله تعالى :
{ليكفر الله عنهم} يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه ومعنى تكفيرها أن يسترها عليهم بالمغفرة.
تنبيه : في تعلق هذه اللام وجهان أحدهما : أنها متعلقة بمحذوف أي : يسر لهم ذلك ليكفر ، ثانيهما : أنها متعلقة بنفس المحسنين كأنه قيل : الذين أحسنوا ليكفر أي : لأجل التكفير وقوله تعالى : {أسوأ الذي} أي : العمل الذي {عملوا} فيه مبالغة فإنه إذا كفر غيره أولى بذلك أو للإيذان بأن الشيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرة هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية أو أنه بمعنى السيء كما جرى عليه الجلال المحلي كقولهم : الناقص والأشج أعدلا بني مروان أي : عادلاهم إذ ليس المراد به التفضيل ، والناقص هو محمد الخليفة سمي به ؛ لأنه نقص أعطية القوم والأشج هو عمر بن عبد العزيز سمي به لشجة أصابت رأسه.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 537
ويجزيهم أجرهم} أي : ويعطيهم ثوابهم {بأحسن الذي} أي : العمل الذي {كانوا يعملون} أي : فيعد لهم محاسن أعمالهم بأحسنها في زيادة الأجر لحسن إخلاصهم فيها وهذا أولى من قول الجلال المحلي إنه بمعنى الحسن. وقوله تعالى :
{أليس الله} أي : الجامع لصفات الكمال كلها المنعوت بنعوت العظمة والجلال {بكاف عبده} أي : الخالص له استفهام إنكار للنفي مبالغة في الإثبات ، وقرأ حمزة والكسائي بكسر العين وفتح الباء الموحدة وألف بعدها على الجمع ، وقرأ الباقون بفتح العين وسكون الباء على الإفراد ، فقراءة الإفراد محمولة على النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة الجمع على جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإن قومهم قصدوهم بالسوء كما قال الله تعالى {وهمت كل أمة برسولهم
539
ليأخذوه} (غافر : 5)(3/360)
وكفاهم الله تعالى شر من عاداهم ويحتمل أن يراد بقراءة الإفراد : الجنس فتساوي قراءة الجمع وقيل : المراد أن الله تعالى كفى نوحاً عليه السلام الغرق وإبراهيم عليه السلام الحرق ويونس عليه السلام بطن الحوت فهو سبحانه وتعالى كافيك يا محمد كما كفى هؤلاء الرسل قبلك.
{ويخوفونك} أي : عباد الأصنام {بالذين من دونه} وذلك أن قريشاً خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم معاداة الأوثان ، وقالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وروي : "أنه صلى الله عليه وسلم بعث خالداً إلى العزى ليكسرها فقال له سادتها أي : خادمها : لا تدركها أحذركها يا خالد إن لها شدة لا يقوم لها شيء ، فعمد خالد إليها فهشم أنفها فنزلت هذه الآية".
ولما شرح الله الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ختم الكلام بخاتمة هي : الفصل فقال تعالى شأنه {ومن يضلل الله} أي : الذي له الأمر كله {فما له من هاد} أي : يهديه إلى الرشاد.
{ومن يهد الله فما له من مضل} أي : فهذه الدلائل والبينات لا تنفع إلا إذا خص الله العبد بالهداية والتوفيق إذ لا راد لفعله كما قال تعالى : {أليس الله} أي : الذي بيده كل شيء {بعزيز} أي : غالب على أمره {ذي انتقام} أي : من أعدائه بلى هو كذلك ، وفي هذا تهديد للكفار.
ولما بين تعالى وعيد المشركين ووعد الموحدين عاد إلى إقامة الدليل على تزييف طريق عبدة الأوثان وهذا الترتيب مبني على أصلين الأول : أن هؤلاء المشركين مقرون بوجود الإله القادر العالم الحكيم الرحيم وهو المراد من قوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 537
ولئن سألتهم} أي : من شئت منهم فرادى أو مجموعين واللام لام القسم {من خلق السموات} أي : على ما لها من الاتساع والعظمة والارتفاع {والأرض} أي : على ما لها من العجائب وفيها من الانتفاع {ليقولن الله} أي : وحده لوضوح البرهان على تفرده بالخالقية قال بعض العلماء : العلم بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم علم متفق عليه بين جمهور الخلائق لا نزاع بينهم فيه ، وفطرة العقل شاهدة بصحة هذا العلم فإن من تأمل في عجائب بدن الإنسان وما فيه من أنواع الحكم الغريبة والمصالح العجيبة علم أنه لا بد من الاعتراف بالإله القادر الحكيم الرحيم ، والأصل الثاني : أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وهو المراد من قوله تعالى {قل أفرأيتم} أي : بعد ما تحققتم أن خالق العالم هو الله تعالى : {ما تدعون} أي : تعبدون {من دون الله} أي : الذي هو ذو الجلال والإكرام {إن أرادني الله} أي : الذي لا راد لأمره {بضر} أي : بشدة بلاء {هل هن كاشفات ضره} أي : لا نقدر على ذلك {أو أرادني برحمة} أي : بعافية وبركة {هل هن ممسكات رحمته} أي : لا تقدر على ذلك فثبت أنه لا بد من الإقرار بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم ، قال مقاتل : فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسكتوا ، وقرأ أبو عمرو بتنوين التاء من كاشفات وممسكات ونصب الراء من ضره ورفع الهاء ونصب التاء من رحمته والباقون بغير تنوين فيهما وكسر الراء والهاء من ضره والتاء والهاء من رحمته ، وإذا كانت هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر كانت عبادة الله تعالى كافية والاعتماد عليه كافياً وهو المراد من قوله تعالى : {قل حسبي الله} أي : ثقتي به واعتمادي {عليه يتوكل المتوكلون} أي : يثق الواثقون ، فإن قيل : لِمَ قال تعالى : {كاشفات} {وممسكات} على التأنيث بعد قوله تعالى : {ويخوفونك بالذين من دونه} (الزمر : 36)
؟
أجيب : بأنه أنثها تحقيراً لما يدعون من دونه ولأنهم كانوا يسمونها بأسماء الإناث وهي اللات والعزى ومناة قال الله تعالى : {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} (النجم : 19 ـ 20)
540
وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
{قل يا قوم} أي : الذين أرجوهم عند الملمات وفيهم كفاية في القيام بما يحاولون {اعملوا على مكانتكم} أي : على حالتكم فيه تهديد أي : أنكم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية القوة والشدة فاجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم ، وقرأ شعبة بألف بعد النون جمعاً والباقون بغير ألف إفراداً {إني عامل} أي : في تقرير ديني {فسوف تعلمون} أي : بوعد لا خلف فيه.
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 537
من يأتيه} منا ومنكم بسبب أعماله {عذاب يخزيه} فإن خزي أعدائه دليل عليه وقد أخذهم الله تعالى يوم بدر {ويحل} أي : ينزل {عليه عذاب مقيم} أي : دائم وهو عذاب النار.
تنبيه : المكانة بمعنى المكان فاستعيرت من العين للمعنى كما استعير لفظ هنا وحيث للزمان وهما للمكان ، فإن قيل : حق الكلام إني عامل على مكانتي فلم حذف ؟
أجيب : بأنه حذف للاختصار ولما فيه من زيادة الوعيد والإيذان بأن حاله لا تقف وتزداد كل يوم قوة وشدة لأن الله تعالى ناصره ومعينه ومظهره على الدين كله ، ألا ترى إلى قوله تعالى : {فسوف تعلمون} توعدهم بكونه منصوراً عليهم غالباً عليهم في الدنيا والآخرة.(3/361)
ولما بين تعالى في هذه الآيات فساد مذاهبهم أي : المشركين تارة بالدلائل وتارة بضرب الأمثال وتارة بذكر الوعد والوعيد ، وكان صلى الله عليه وسلم يعظم عليه إصرارهم على الكفر كما قال {فلعلك باخع نفسك على آثارهم} (الكهف : 41 ـ 47)
وقال تعالى : {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} (فاطر : 8)
أردفه بكلام يزيل ذلك الحزن العظيم عن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 537
{إنا أنزلنا} أي : بما لنا من العظمة والقدرة التامة {عليك} يا أشرف الخلق {الكتاب} أي : الكامل الشرف {للناس} أي : لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم فهو للناس عامة لأن رسالتك عامة وجعلنا إنزاله مقروناً {بالحق} أي : بالصدق وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله {فمن اهتدى} أي : طاوع الهادي {فلنفسه} أي : فنفعه يعود إلى نفسه {ومن ضل} أي : وقع في الضلال بمخالفته {فإنما يضل عليها} أي : فضرر ضلاله يعود إليه.
ولما دل السياق على أن التقدير فما أنت عليهم بجبار لتقهرهم على الهدى عطف عليه قوله تعالى : {وما أنت عليهم بوكيل} أي : لست مأموراً بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر بل القبول وعدمه مفوض إليهم ، وذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن الهداية والضلال من العبد لا يحصلان إلا من الله تعالى لأن الهداية تشبه الحياة واليقظة والضلال يشبه الموت والنوم ، فكما أن الحياة واليقظة لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى كذلك الضلال لا يحصل إلا من الله تعالى ومن عرف هذه الدقيقة فقد عرف سر الله تعالى في القدر ومن عرف سر الله تعالى في القدر هانت عليه المصائب.
ولما بين سبحانه أن الهداية والضلال بتقديره قال تعالى :
{الله} أي : الذي له مجامع الكمال وليس لشائبة النقص إليه سبيل {يتوفى الأنفس} أي : الأرواح {حين موتها} أي : موت أجسادها وتوفيها إماتتها وهي أن تسلب ما هي به حية حساسة دراكة من صحة أجزائها وسلامتها لأنها عند سلب الصحة كأن ذاتها قد سلبت وقوله تعالى : {والتي لم تمت في منامها} عطف على الأنفس أي : يتوفى الأنفس حين موتها ويتوفى أيضاً الأنفس التي لم تمت في منامها ففي منامها ظرف ليتوفى أي : يتوفاها حين تنام تشبيهاً للنائمين بالموتى ومنه قوله تعالى : {وهو الذي يتوفاكم
541
بالليل} (الأنعام : 60)
جزء : 3 رقم الصفحة : 541
حتى لا تميزوا ولا تتصرفوا كما أن الموتى كذلك فالتي تتوفى عند النوم هي الأنفس التي يكون بها العقل والتمييز ولكل إنسان نفسان :
إحداهما : نفس الحياة وهي التي تفارقه عند الموت ويزول بزوالها النفس والأخرى هي النفس التي تفارقه إذا نام وهو بعد النوم يتنفس {فيمسك التي قضى عليها الموت} فلا يردها إلى جسدها ، وقرأ حمزة والكسائي بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء بعد الضاد ورفع التاء من الموت ، والباقون بفتح القاف والضاد وسكون الياء بعد الضاد ونصب الموت {ويرسل الأخرى} أي : يردها إلى جسدها وهي التي لم يقض عليها الموت {إلى أجل مسمى} أي : إلى الوقت الذي ضربه لموتها ، وقيل : يتوفى الأنفس أي : يستوفيها ويقبضها وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها وهي أنفس التمييز ، قالوا : والتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة ولأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس والنائم يتنفس ، ورووا عن ابن عباس رضي الله عنه في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس ، فالنفس : التي بها العقل والتمييز ، والروح : التي بها النفس والتحريك فإذا نام العبد قبض الله تعالى نفسه ولم يقبض روحه. قال الزمخشري : والصحيح ما ذكر أولاً لأن الله تعالى علق التوفي والموت والمنام جميعاً بالأنفس وما عنوا بنفس الحياة والحركة ونفس العقل والتمييز غير متصف بالموت والنوم وإنما الجملة هي التي تموت وهي التي تنام انتهى.
ويروى عن علي رضي الله تعالى عنه قال : يخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه في الجسد فبذلك يرى الرؤيا فإذا نبه من النوم عاد الروح إلى جسده بأسرع من لحظة ، ويقال : إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله فإذا أرادت العود إلى أجسادها أمسك الله تعالى أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها إلى أجل مدة حياتها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخل إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم يقول : اللهم باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه فإن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين".
{إن في ذلك} أي : التوفي والإمساك والإرسال {لآيات} أي : دلالات على كمال قدرته وحكمته ورحمته. وقال مقاتل : لعلامات {لقوم يتفكرون} أي : فيعلمون أن القادر على ذلك قادر على البعث ، فإن قيل : قوله تعالى {الله يتوفى الأنفس} (الزمر : 42)(3/362)
جزء : 3 رقم الصفحة : 541
يدل على أن المتوفي هو الله تعالى ويؤيده قوله تعالى : {الذي خلق الموت والحياة} (الملك : 2)
وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام : {ربي الذي يحيي ويميت} (البقرة : 258)
وقال تعالى في آية أخرى {إذا جاء أحدهم الموت توفته رسلنا} (الأنعام : 61)
فكيف الجمع ؟
أجيب : بأن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى إلا أنه تعالى فوض كل نوع إلى ملك من الملائكة ففوض قبض الأرواح إلى ملك الموت وهو الرئيس وتحته أتباع وخدم فأضيف التوفي في آية إلى الله تعالى وهي الإضافة الحقيقية ، وفي آية إلى ملك الموت لأنه الرئيس في هذا العمل وفي آية إلى : أتباعه.
542
ثم إن الكفار أوردوا على هذا الكلام سؤالاً فقالوا : نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها تضر وتنفع وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله تعالى من المقربين فنحن نعبدها لتشفع لنا أولئك المقربون عند الله تعالى فأجاب الله سبحانه عنه بقوله تعالى :
{أم اتخذوا} أي : كلفوا أنفسهم بعد وضوح الدلائل عندهم {من دون الله} أي : الذي لا مكافئ له ولا مداني {شفعاء} أي : تشفع لهم عند الله تعالى.
تنبيه : أم منقطعة فتقدر ببل والهمزة {قل} يا أشرف الخلق لهؤلاء البعداء {أولو} أي : أيشفعون ولو {كانوا لا يملكون شيئاً} أي : من الشفاعة وغيرها {ولا يعقلون} أي : أنكم تعبدونهم ولا غير ذلك وجواب لو محذوف تقديره ولو كانوا بهذه الصفة تتخذونهم.
{قل} أي : لهم {لله} أي : الذي له كمال القدرة والعظمة {الشفاعة جميعاً} أي : هو مختص بها فلا يشفع أحد إلا بإذنه ثم قرر ذلك فقال {له ملك السموات والأرض} أي : فإنه مالك الملك كله لا يملك أحد أن يتكلم دون إذنه ورضاه {ثم إليه ترجعون} أي : يوم القيامة فيكون الملك له أيضاً حينئذ ثم ذكر تعالى نوعاً آخر من أعمال المشركين القبيحة بقوله تعالى :
{وإذا ذكر الله} أي : الذي لا إله غيره {وحده} أي : دون آلهتهم {اشمأزت} قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد : يعني انقبضت ، وقال قتادة : استكبرت وأصل الاشمئزاز والنفور والاستكبار أي : نفرت واستكبرت {قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي : لا يؤمنون بالبعث {وإذا ذكر الذين من دونه} أي : الأصنام {إذا هم يستبشرون} أي : يفرحون لفرط افتتانهم ونسيانهم حق الله تعالى ولقد بالغ في الأمرين حق الغاية فيهما ، فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه والاشمئزاز أن يمتلئ غيظاً وهماً حتى ينقبض أديم وجهه. قال مجاهد ومقاتل : وذلك حين : "قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة والنجم وألقى الشيطان في أمنيته تلك الغرانيق العلا ففرح به المشركون وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الحج".
جزء : 3 رقم الصفحة : 541
تنبيه : قال الزمخشري : فإن قلت ما العامل في إذا ذكر ، قلت : العامل في إذا المفاجأة تقديره وقت ذكر الذين من دونه فاجؤوا وقت الاستبشار. قال أبو حيان : أما قول الزمخشري فلا أعلمه من قول من ينتمي إلى النحو هو أن الظرفين معمولان لفاجؤوا ثم قال : إذا الأولى تنتصب على الظرفية والثانية على المفعول به.
ولما حكى الله تعالى عن هؤلاء الكفار هذا الأمر العجيب الذي تشهد فطرة العقل بفساده أردفه بذكر الدعاء العظيم فقال تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 541
543
{قل اللهم} أي : يا الله {فاطر السموات والأرض} أي : مبدعهما من العدم أي : ألتجئ إلى الله تعالى بالدعاء لما تحيرت في أمرهم وعجزت في عنادهم وشدة شكيمتهم فإنه القادر على الأشياء والعالم بالأحوال كلها {عالم الغيب والشهادة} وصف تعالى نفسه بكمال القدرة وكمال العلم {أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون} أي : من أمر الدين وعن الربيع بن خيثم وكان قليل الكلام لما أخبر بقتل الحسين وسخط على قاتله وقالوا : الآن يتكلم فما زاد على أن قال : آه أوقد فعلوا وقرأ الآية ، وروي أنه قال على أثرها : أو قتل من كان يجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره ويضع فاه على فيه. وعن أبي سلمة قال : "سألت عائشة رضي الله عنها بم كان يفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته بالليل قالت : كان يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".
ولما حكى الله تعالى عنهم هذا المذهب الباطل ذكر في وعيدهم أشياء.
أولها : قوله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 543(3/363)
ولو أن للذين ظلموا} أنفسهم بالكفر {ما في الأرض جميعاً} أي : من الأموال {ومثله معه لا افتدوا} أي : اجتهدوا في طلب أن يفدوا أنفسهم {به من سوء العذاب يوم القيامة} وهذا وعيد شديد وإقناط كلي لهم من الخلاص روى الشيخان عن أنس : "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذاباً لو أن لك ما في الأرض من شيء لكنت تفتدي به فيقول : نعم فيقول الله : قد أردت منك وفي رواية سألتك أهون من هذا وأنت في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي شيئاً" قوله أردت أي : فعلت معك فعل الآمر المريد وهو معنى قوله في رواية قد سألتك.
ثانيها : قوله تعالى : {وبدا لهم من الله} أي : الملك الأعظم {ما لم يكونوا يحتسبون} أي : ظهر لهم أنواع من العذاب لم تكن في حسابهم وفي هذا زيادة مبالغة هو نظير قوله تعالى في الوعد {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} (السجدة : 17)
وقوله صلى الله عليه وسلم "في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر". وقال مقاتل : ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا في
544
الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة. وقال السدي : ظنوا أن أعمالهم حسنات فبدلت لهم سيئات لأنهم كانوا يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأصنام ويظنونها حسنات فبدت لهم سيئات.
ثالثها قوله تعالى :
{وبدا لهم} أي : ظهر ظهوراً تاماً {سيئات ما كسبوا} أي : مساوئ أعمالهم من الشرك وظلم أولياء الله تعالى {وحاق} أي : نزل {بهم ما كانوا به يستهزؤون} أي : يطلبون ويوجدون الهزء في العذاب ثم حكى الله تعالى عنهم طريقة أخرى من طرائقهم الفاسدة بقوله تعالى :
{فإذا مس الإنسان} أي : الجنس {ضر} أي : فقر أو مرض أو غير ذلك {دعانا} أي : في دفع ذلك ، فإن قيل : ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء وعطف مثلها في أول السورة بالواو ؟
أجيب : بأن السبب في ذلك أن هذه وقعت مسببة عن قوله تعالى : {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت} على معنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله ويستبشرون بذكر آلهتهم فإذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأز من ذكره دون من استبشر بذكره فقوله تعالى : {فإذا مس الإنسان} معطوف على قوله تعالى : {وإذا ذكر الله وحده} وما بينهما اعتراض مؤكد لإنكار ذلك عليهم هذا محصل كلام الزمخشري ، واعترضه أبو حيان بأن أبا علي يمنع الاعتراض بجملتين فكيف بهذه الجمل الكثيرة ثم قال : والذي يظهر في الربط أنه لما قال {ولو أن للذين ظلموا} (الزمر : 47)
جزء : 3 رقم الصفحة : 543
الآية وكان ذلك إشعاراً بما ينال الظالمين من شدة العذاب وأنه يظهر لهم يوم القيامة العذاب أتبع ذلك بما يدل على ظلمه وبغيه إذ كان إذا مسه ضر دعا الله تعالى فإذا أحسن إليه لم ينسب ذلك إليه كما قال تعالى : {ثم إذا خولناه} أي : أعطيناه {نعمة منا} أي : تفضلاً فإن التحويل يختص به {قال إنما أوتيته} أي : المنعم به {على علم} أي : على علم من الله تعالى إني له أهل. وقيل : إن كان ذلك سعادة في المال أو عافية في النفس يقول : إنما حصل ذلك بجده واجتهاده وإن كان صحة قال : إنما حصل ذلك بسبب العلاج الفلاني وإن حصل مال يقول : حصل بكسبي وهذا تناقض أيضاً لأنه لما كان عاجزاً محتاجاً أضاف الكل إلى الله تعالى ، وفي حال السلامة والصحة قطعه عن الله تعالى وأسنده إلى كسب نفسه وهذا تناقض قبيح {بل هي فتنة} أي : بلية يبتلي بها العبد.
فإن قيل : كيف ذكر النعمة أولاً في قوله : {إنما أوتيته} ثم أنثها ثانياً ؟
أجيب : بأنه ذكر أولاً لأن النعمة بمعنى المنعم به كما مر وقيل : تقديره شيئاً من النعمة وأتت ثانياً اعتباراً بلفظها أو لأن الخبر لما كان مؤنثاً أعني فتنة ساغ تأنيث المبتدأ لأجله لأنه في معناه كقولهم ما جاءت حاجتك وقيل : هي أي : الحالة أو القولة كما جرى عليه الجلال المحلي أو العطية أو النعمة كما قاله البقاعي {ولكن أكثرهم} أي : أكثر هؤلاء القائلين هذا الكلام {لا يعلمون} أن التخويل استدراج وامتحان.
{قد قالها} أي : القولة المذكورة وهي قوله : {إنما أوتيته على علم} لأنها كلمة أو جملة من القول {الذين من قبلهم} أي : من الأمم الماضية. قال الزمخشري : هم قارون وقومه حيث قال إنما أوتيته على علم عندي ، وقومه راضون به فكأنهم قالوها. قال : ويجوز أن يكون في الأمم
545
الماضية آخرون قائلون مثلها {فما أغنى عنهم} أي : أولئك الماضين {ما كانوا يكسبون} أي : من متاع الدنيا ويجمعون منه.
{فأصابهم سيئات ما كسبوا} أي : جزاؤها من العذاب ثم أوعد كفار مكة فقال تعالى {والذين ظلموا} أي : بالعتو {من هؤلاء} أي : من مشركي قومك ومن للبيان أو للتبعيض {سيصيبهم سيئات ما كسبوا} أي : كما أصاب أولئك {وما هم بمعجزين} أي : فائتين عذابنا فقتل صناديدهم يوم بدر وحبس عنهم الرزق فقحطوا سبع سنين فقيل لهم : (3/364)
{أولم يعلموا أن الله} أي : الذي له الجلال والكمال {يبسط الرزق} أي : يوسعه {لمن يشاء} وإن كان لا حيلة له ولا قوة امتحاناً {ويقدر} أي : يضيق الرزق لمن يشاء وإن كان قوياً شديد الحيلة ابتلاء فلا قابض ولا باسط إلا الله تعالى ، ويدل على ذلك أنّا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق وضيقه فلابد لذلك من حكمة وسبب ، وذلك السبب ليس هو عقل الإنسان وجهله فإنا نرى العاقل القادر في أشد الضيق ، ونرى الجاهل الضعيف في أعظم السعة ، وليس ذلك أيضاً لأجل الطبائع والأفلاك لأن الساعة التي ولد فيها ذلك الملك السلطان القاهر قد ولد فيها عالم أيضاً من الناس وعالم من الحيوان غير الإنسان وتولد أيضاً في تلك الساعة عالم من النبات.
جزء : 3 رقم الصفحة : 543
فلما شاهدنا حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة ، علمنا أن الفاعل لذلك هو الله تعالى فصح بهذا البرهان العقلي القاطع صحة قوله تعالى : {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} قال الشاعر :
*فلا السعد يقضي به المشتري ** ولا النحس يقضي علينا زحل*
*ولكنه حكم رب السماء ** وقاضي القضاة تعالى وجل*
{إن في ذلك} أي : البيان الظاهر {لآيات} أي : دلالات {لقوم يؤمنون} أي : بأن الحوادث كلها من الله تعالى بوسط أو غيره.
ولما ذكر تعالى الوعيد أردفه بشرح كمال رحمته فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
جزء : 3 رقم الصفحة : 543
{قل} يا محمد ربكم المحسن إليكم يقول {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} أي : أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن {لا تقنطوا} أي : لا تيأسوا {من رحمة الله} أي : إكرام المحيط بكل صفات الكمال فيمنعكم ذلك القنوط من التوبة التي هي باب الرحمة ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي يا عبادي بسكون الياء وتسقط في الوصل ، وفتحها الباقون ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي تقنطوا بكسر النون بعد القاف والباقون بفتحها {إن الله} أي : المتفضل على عباده المؤمنين {يغفر الذنوب} لمن تاب من الشرك {جميعاً} لمن يشاء كما قال تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء : 48)
وأما الكافر إذا أسلم فإن الله تعالى لا يؤاخذه بما وقع من كفره قال تعالى : {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (الأنفال : 38)
تنبيه : في هذه الآية أنواع من المعاني والبيان حسنة منها إقباله عليهم ونداؤهم ومنها إضافتهم إليه إضافة تشريف ومنها الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله تعالى : {من رحمة الله} ومنها
546
إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ومنها إعادة الظاهر بلفظه في قوله تعالى : {إن الله} ومنها إبراز الجملة في قوله تعالى {إنه هو} أي : وحده {الغفور} أي : البليغ الغفر يمحو الذنوب عمن يشاء عيناً وأثراً فلا يعاقب ولا يعاتب {الرحيم} أي : المكرم بعد المغفرة مؤكدة بأن وبالفصل وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الآية السابقة روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : "أن ناساً من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن الذي تدعو له لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة" فنزلت هذه الآية. وروى عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس : "أنها نزلت في وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما حين بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام ، فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلقى أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة وأنا قد فعلت ذلك كله ، فأنزل الله سبحانه وتعالى {إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً} (مريم : 60)
جزء : 3 رقم الصفحة : 546
فقال وحشي : هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فقال وحشي : أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى : {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} الآية قال : نعم هذا. فجاء فأسلم ، فقال المسلمون : هذا له خاصة قال : بل للمسلمين عامة".
وروي عن ابن عمر قال : نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا ، وكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً قد أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات فكتبها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بيده ، ثم بعثها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا.(3/365)
وروي عن ابن مسعود أنه دخل المسجد وإذا قاص يقص وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال : يا مذكر لم تقنط الناس ثم قرأ {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} وعن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي" وروى الطبراني : "أنه صلى الله عليه وسلم قال : ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بها أي : بهذه الآية فقال رجل : يا رسول الله ومن أشرك ؟
فسكت ساعة ثم قال : إلاً من أشرك ثلاث مرات".
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ثم خرج يسأل ، فإذا راهب فسأله فقال : هل لي توبة فقال : لا فقتله وجعل يسأل فقال رجل :
547
ائت قرية كذا فأدركه الموت فنأى بصدره نحوها فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي وإلى هذه أن تباعدي وقال : قيسوا ما بينهما فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له". وفي رواية فقال له : إني قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة فقال : لا فقتله فكمل مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على عالم فقال : "إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة فقال : نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا إلى أن قال : فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة". وعن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أو نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم} (محمد : 33)
جزء : 3 رقم الصفحة : 546
فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا فقيل لنا : الكبائر والفواحش فكنا إذا رأينا من أصاب منها شيئاً خفنا عليه ، ومن لم يصب منها شيئاً رجونا له فأنزل الله تعالى : {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله} وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر.
ولما كان التقدير وأقلعوا عن ذنوبكم فإنها قاطعة عن الخير مبعدة عن الكمال عطف عليه استعظاماً قوله تعالى :
{وأنيبوا} أي : ارجعوا بكلياتكم وكلوا حوائجكم وأسندوا أموركم واجعلوا طريقكم {إلى ربكم} أي : الذي لم تروا إحساناً إلا وهو منه {وأسلموا} أي : وأخلصوا {له} أعمالكم {من قبل أن يأتيكم} أي : وأنتم صاغرون {العذاب} أي : القاطع لكل عذوبة ، المجرّع لكل مرارة وصعوبة {ثم لا تنصرون} أي : لا يتجدد لكم نوع نصر أبداً إن لم تتوبوا.
{واتبعوا} أي : عالجوا أنفسكم وكلفوها أن تتبع {أحسن ما أنزل إليكم} أي : على سبيل العدل كالإحسان الذي هو أعلى من العفو الذي هو فوق الانتقام باتباع هذا القرآن الذي هو أحسن ما نزل من كتب الله تعالى ، واتباع أحاسن ما فيه فتصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحسن إلى من ظلمك ، هذا في حق الخلائق ومثله في عبادة الخالق بأن تكون كأنك تراه الذي هو أعلى من استحضار أنه يراك الذي هو أعلى من أدائها مع الغفلة عن ذلك.
ولما كان هذا شديداً على النفس رغب فيه بقوله تعالى بمظهر صفة الإحسان موضع الإضمار : {من ربكم} أي : الذي لم يزل يحسن إليكم وأنتم تبارزونه بالعظائم. وقال الحسن رضي الله عنه : معنى الآية الزموا طاعته واجتنبوا معصيته فإن في القرآن ذكر القبيح لتجتنبه ، وذكر الأدون لئلا ترغب فيه ، وذكر الأحسن لتؤثره. وقيل : الأحسن الناسخ دون المنسوخ لقوله تعالى : {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} (البقرة : 106)
وقيل : العزائم دون الرخص وقوله تعالى : {من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون} أي : ليس عندكم شعور بإتيانه بوجه من الوجوه فيه تهديد وتخويف.
ولما خوفهم الله تعالى بهذا العذاب بين أنهم بتقدير نزوله عليهم ماذا يقولون ، فحكى الله تعالى عنهم ثلاثة أنواع من الكلام الأول : ما ذكره بقوله تعالى :
{أن} أي : كراهة أن {تقول نفسٌ} أي : عند وقوع العذاب
548
وإفرادها وتنكيرها كاف في الوعيد لأن كل أحد يجوز أن يكون هو المراد {يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله} قال الحسن : قصرت في طاعة الله ، وقال مجاهد : في أمر الله ، وقال سعيد بن جبير : في حق الله وقيل : ضيعت في ذات الله ، وقيل : معناه قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله تعالى والعرب تسمي الجانب جنباً ، قال في "الكشاف" : هذا من باب الكناية لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه فقد أثبته فيه ألا ترى إلى قول الشاعر :
*
جزء : 3 رقم الصفحة : 546
إن السماحة والمروءة والندى ** في قبة ضربت على ابن الحشرج*(3/366)
أي : فإنه لم يصرح بثبوت هذه الصفات المذكورة لابن الحشرج بل كنى عن ذلك في قبة مضروبة عليه فأفاد اثباتها له ، والقبة تكون فوق الخيمة تتخذها الرؤساء ، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة والدوري عن أبي عمرو بين بين وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح {وإن} أي : والحال إني {كنت} أي : كان ذلك في طبعي {لمن الساخرين} أي : المستهزئين المتكبرين المنزلين أنفسهم في غير منزلتها وذلك أنه ما كفاني المعصية حتى كنت أسخر من أهل الطاعة أي : تقول هذا لعله يقبل منها ويعفى عنها على عادة المعترفين في وقت الشدائد لعلهم يعاودون إلى أجمل العوائد. الثاني من الكلمات التي حكاها الله تعالى عنهم بعد نزول العذاب عليهم : ما ذكره الله تعالى بقوله سبحانه :
جزء : 3 رقم الصفحة : 546
{أو تقول} أي : تلك النفس المفرطة {لو أن الله} أي : الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل {هداني} أي : لبيان الطريق {لكنت من المتقين} أي : الذين لا يقدمون على فعل إلا ما يدلهم عليه دليل. الثالث من الكلمات ما ذكره الله تعالى بقوله سبحانه :
{أو تقول} أي : تلك النفس المفرطة {حين ترى العذاب} أي : الذي واجهها عياناً {لو أن} أي : يا ليت {لي كرة} أي : رجعة إلى دار العمل {فأكون} أي : يتسبب عن رجوعي إليها أن أكون {من المحسنين} أي : العاملين بالإحسان الذي دعا إليه القرآن.
تنبيه : في نصب فأكون وجهان أحدهما : عطفه على كرة فإنها مصدر فعطف مصدر مؤول
549
على مصدر مصرح به كقولها :
*للبس عباءة وتقر عيني ** أحب إلي من لبس الشفوف*
والثاني : أنه منصوب على جواب التمني المفهوم من قوله تعالى : {لو أن لي كرة} والفرق بين الوجهين أن الأول : يكون فيه الكون متمنى ويجوز أن تضمر أن وأن تظهر ، والثاني : يكون فيه الكون مترتباً على حصول المتمنى لا متمنى ويجب أن تضمر أن. ثم أجاب الله تعالى هذا القائل بقوله سبحانه :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 549
بلى قد جاءتك أياتي} أي : القرآن وهي سبب الهداية {فكذبت بها} أي : قلت ليست من عند الله {واستكبرت} أي : تكبرت عن الإيمان بها {وكنت من الكافرين}.
فإن قيل : هلا قرن الجواب بما هو جواب له وهو قوله : {لو أن الله هداني} (الزمر : 57)
ولم يفصل بينهما ؟
أجيب : بأنه لا يخلو إما أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن وإما أن تؤخر القرينة الوسطى ، فلم يحسن الأول لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن ، وأما الثاني فيه من نقض الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة ثم التعلل بفقد الهداية ، ثم تمنى الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب ، فإن قيل : كيف صح أن تقع بلى جواباً لغير منفي ؟
أجيب : بأن قوله {لو أن الله هداني} بمعنى ما هديت.
{ويوم القيامة} أي : الذي لا يصح في الحكمة تركه {ترى} أي : أيها المحسن {الذين كذبوا على الله} أي : الحائز لجميع صفات الكمال بنسبة الشريك والولد إليه ، وقال الحسن : هم الذين يقولون إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل ، قال البقاعي : وكأنه عنى من المعتزلة الذين اعتزلوا مجلسه وابتدعوا قولهم إنهم يخلقون أفعالهم قال : ويدخل فيه من تكلم في الدين بجهل وكل من كذب وهو يعلم أنه كاذب في أي شيء كان ، فإنه من حيث إن فعله فعل من يظن أن الله تعالى لا يعلم كذبه أي : ولا يقدر على جزائه كأنه كذب على الله وقوله تعالى : {وجوههم مسودة} جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من الموصول لأن الرؤية بصرية وقيل : في محل نصب مفعولاً ثانياً لأن الرؤية قلبية ، ورد بأن تعلق الرؤية البصرية بالأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلبية بهما ، وذكر أن هذا السواد مخالف لسائر أنواع السواد {أليس في جهنم مثوى} أي : مأوى {للمتكبرين} أي : الذين تكبروا على اتباع أمر الله تعالى وهو تقرير لأنهم يرونه كذلك.
ولما ذكر الله تعالى الذين أشقاهم أتبعهم حال الذين أسعدهم بقوله تعالى :
{وينجي الله} أي : يفعل بما له من صفات الكمال في نجاتهم فعل المبالغ في ذلك {الذين اتقوا} أي : بالغوا في وقاية أنفسهم من غضبه فكما وقاهم في الدنيا من المخالفات حماهم هنا من العقوبات {بمفازتهم} أي : بسبب فلاحهم لأن العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة ، ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه مفازة لأنه سببها ، وقرأ حمزة والكسائي وشعبة بألف بعد الزاي جمعاً
550
على أن لكل متق مفازة ، والباقون بغير ألف بعد الزاي إفراداً وقوله تعالى {لا يمسهم السوء} جملة مفسرة لمفازتهم كأنه قيل : وما مفازتهم ؟
فقال : لا يمسهم السوء فلا محل لها ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من الذين اتقوا ، ومعنى الكلام لا يمسهم مكروه {ولا هم يحزنون} أي : ولا يطرق بواطنهم حزن على فائت لأنه لا يفوت لهم شيء أصلاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 549(3/367)
ولما كان المخوف منه والمحزون عليه جامعين لكل ما في الكون فكان لا يقدر على دفعهما إلا القادر المبدع القيوم قال تعالى مستأنفاً أو معللاً ، مظهراً الاسم الأعظم تعظيماً للمقام :
{الله} أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً والذي نجاهم {خالق كل شيء} أي : من خير وشر وإيمان وكفر فلا يكون شيء أصلاً إلا بخلقه.
ولما دل هذا على القدرة الشاملة وكان لا بد معها من العلم الكامل قال تعالى : {وهو على كل شيء} أي : مع القهر والغلبة {وكيل} أي : حفيظ لجميع ما يريده قيوم لا عجز يلم بساحته ولا غفلة وقوله تعالى :
{له مقاليد السموات والأرض} جملة مستأنفة والمقاليد جمع مقلاد مثل مفتاح ومفاتيح أو مقليد مثل منديل ومناديل أي : هو مالك أمرها وحافظها وهي من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها ، ومنه قولهم فلان ألقيت إليه مقاليد الملك وهي المفاتيح والكلمة أصلها فارسية ، فإن قيل : ما للكتاب المبين والفارسية ؟
أجيب : بأن التعريب قد أحالها عربية كما أخرج استعمال المهمل عن كونه مهملاً ، قال الزمخشري : "سأل عثمان النبي صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى : {له مقاليد السموات والأرض} فقال : يا عثمان ما سألني أحد عنها قبلك تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير". وروى هذا الطبراني بسند ضعيف بل رواه ابن الجوزي في الموضوعات ، ثم قال الزمخشري وتأويله على هذا : أن الله تعالى في هذه الكلمات يوحد بها ويمجد وهي مفاتيح خير السموات والأرض من تكلم بها من المتقين أصابه ، وقال قتادة ومقاتل : مفاتيح السموات والأرض بالرزق والرحمة وقال الكلبي : خزائن المطر والنبات.
ولما وصف الله تعالى بالصفة الإلهية والجلالة وهو كونه خالقاً للأشياء وكونه مالكاً لمقاليد السموات والأرض بأسرها قال بعده : {والذين كفروا} أي : لبسوا ما اتضح من الدلالات وجحدوا {بآيات الله} أي : دلائل قدرته الظاهرة الباهرة {أولئك} أي : البعداء البغضاء {هم الخاسرون} لأنهم خسروا أنفسهم وكل شيء متصل بها على وجه النفع ، وقال الزمخشري : {والذين كفروا} متصل بقوله : {وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم} (الزمر : 61)
واعترض بينهما بأنه خالق الأشياء كلها وأن له مقاليد السموات والأرض ، واعترضه الرازي : بأن وينجي جملة فعلية والذين كفروا جملة اسمية وعطف الجملة الاسمية على الفعلية لا يجوز واعترض الآخر بأنه لا مانع من ذلك.
551
ولما دعا كفار قريش النبي صلى الله عليه وسلم إلى دين آبائهم قال الله تعالى :
{
جزء : 3 رقم الصفحة : 549
قل} أي : لهم {أفغير الله} أي : الملك الأعظم {تأمروني أعبد أيها الجاهلون} أي : العريقون في الجهل لأن الدليل القاطع قد قام بأن الله تعالى هو المستحق للعبادة فمن عبد غيره فهو جاهل ، وقرأ نافع بتخفيف النون وفتح الياء وابن كثير بتشديد النون وسكون الياء ، وابن عامر بنونين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وسكون الياء والباقون بتشديد النون وسكون الياء.
{ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك} أي : الذي عملته قبل الشرك ، فإن قيل : الموحى إليهم جماعة فكيف قال لئن أشركت على التوحيد ؟
أجيب : بأن تقدير الآية أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك وإلى الذين من قبلك مثله أي : أوحي إليك وإلى كل واحد منهم لئن أشركت كما تقول : كسانا حلة أي : كل واحد منا ، فإن قيل : كيف صح هذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم ؟
أجيب : بأن قوله تعالى : {لئن أشركت ليحبطن عملك} قضية شرطية ، والقضية الشرطية لا يلزم من صدقها صدق جزئها ، ألا ترى أن قولك لو كانت الخمسة زوجاً لكانت منقسمة بمتساويين ، قضية صادقة مع أن كل واحد من جزأيها غير صادق قال تعالى : {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الأنبياء : 22)
ولم يلزم من هذا صدق أن فيهما آلهة وأنهما قد فسدتا أو أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره كما قاله أكثر المفسرين أو أن ذلك على سبيل الفرض المحال ذكر ليكون ردعاً للأتباع.
ولما كان السياق للتهديد وكانت العبارة شاملة لما تقدم على الشرك من الأعمال وما تأخر عنه لم يقيده بالاتصال بالموت اكتفاء بتقييده في آية البقرة وهي {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر} (البقرة : 217)
قال تعالى : {ولتكونن} أي : لأجل حبوطه {من الخاسرين} فإن من ذهب جميع عمله لا شك في خسارته أما من أسلم بعد ردته فإنما يحبط ثواب عمله لا عمله كما نص عليه الشافعي.
تنبيه : اللام الأولى موطئة للقسم والأخريان للجواب.
ولما كان التقدير لا تشرك بنا عطف عليه قوله تعالى :
{بل الله} أي : المتصف بصفات الكمال وحده {فاعبد} أي : مخلصاً له العبادة {وكن من الشاكرين} أي : العريقين في هذا الوصف لأنه جعلك خير الخلائق أجمعين.(3/368)