بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب : تفسير السراج المنير ـ موافق للمطبوع
المؤلف : محمد بن أحمد الشربيني, شمس الدين: فقيه شافعي , مفسر. من أهل القاهرة. له تصانيف, منها " السراج المنير ـ ط" أربعة مجلدات, في تفسير القرآن, و" الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ـ ط" مجلدان, و" شرح شواهد القطر ـ ط" و" مغني المحتاج ـ ط" أربعة أجزاء, في شرح منهاج الطالبين للنووي, فقه, و" تقريرات على المطول ـ ط" في البلاغة, و" مناسك الحج ـ ط".
عدد الأجزاء / 4
دار النشر / دار الكتب العلمية ـ بيروت
تنبيه
أولا : الكتاب موافق للمطبوع
ثانيا : الترقيم داخل الصفحات
ثالثا : الترقيم لذيل الصفحات وليس لأولها
رابعا : ترقيم الشاملة للكتاب آلى(1/10)
سورة فاتحة الكتاب
وتسمّى أمّ القرآن لأنها مفتتحه ومبدؤه فكأنها أصله ومنشؤه ، ولذلك تسمى أساساً أو لأنها تشتمل على ما فيه من الثناء على الله تعالى ، والتعبّد بأمره ، ونهيه وبيان وعده ووعيده أو على جملة معانيه من الحكم النظرية والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم ، والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء ، وسورة الكنز لأنها نزلت من كنز تحت العرش ، والوافية والكافية لأنها وافية كافية في صحة الصلاة بخلاف غيرها عند القدرة عليها ، والشافية والشفاء لقوله عليه الصلاة والسلام : "هي شفاء لكل داء" والسبع المثاني لأنها سبع آيات باتفاق ، لكن من عدّ البسملة آية منها جعل السابعة {صراط الذين} إلى آخرها ، ومن لم يعدها آية منها جعل السابع {غير المغضوب عليهم} إلى آخرها ، وسميت مثاني لأنها تثنى في الصلاة أي تكرّر فيها بأن تقرأ في كل صلاة وفي كل ركعة وقول بعضهم تثنى في كل ركعة فيه تجوّز وهي مكية على قول الأكثر. وقال مجاهد : مدنية ، وقيل : نزلت مرّتين مرّة بمكة حين فرضت الصلاة ومرّة بالمدينة حين حوّلت القبلة ، ولذلك سميت مثاني. قال البغويّ : والأوّل أصح ، وقال البيضاويّ : وقد صح : أنها مكية بقوله تعالى : {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} (الحجر ، 87) وهو مكيّ بالنص ، انتهى. وأراد بالنص السنة فقد ثبت ذلك عن ابن عباس وقول الصحابي في القرآن خصوصاً في النزول له حكم المرفوع والقرآن العظيم والنور والراقية وسورة الحمد والشكر والدعاء وتعليم المسألة لاشتمالها على ذلك ، وسورة المناجاة ، وسورة التفويض وفاتحة القرآن وأمّ الكتاب وسورة الحمد الأولى وسورة الحمد القصوى وسورة السؤال والصلاة لخير : "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، يقول العبد : الحمد لله رب العالمين ، يقول الله : حمدني عبدي ، يقول العبد : الرحمن الرحيم ، يقول الله : أثنى عليّ عبدي ، يقول العبد : مالك يوم الدين ، يقول الله : مجدني عبدي ، يقول العبد : إياك نعبد وإياك نستعين ، يقول الله عز وجل : هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، يقول العبد : اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم ، ولا الضالين ، يقول الله : فهؤلاء لعبدي ، ولعبدي ما سأل" ، ولأنها جزؤها فهو من باب تسمية جزء الشيء باسم كله.
اسم الكتاب : تفسير السراج المنير الشربيني
11
وقوله تعالى : {بسم الله} أي : الملك الأعظم الذي لا نعبد إلا إياه ، {الرحمن} أي : الذي عمّ بنعمتي إيجاده وبيانه جميع خلقه أسفله وأعلاه أدناه وأقصاه {الرحيم} أي : الذي خص من بينهم أهل ودّه برضاه ، آية من الفاتحة وعليه قرّاء مكة والكوفة وفقهاؤهما وابن المبارك والشافعيّ وقيل : ليست منها وعليه قرّاء المدينة والبصرة والشأم وفقهاؤهما والأوزاعيّ ومالك. ويدلّ للأوّل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم "عدّ الفاتحة سبع آيات وعد بسم الله الرحمن الرحيم آية منها" ، رواه البخاري في "تاريخه" ، وروى الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : "إذا قرأتم الحمد لله فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم ، إنها أمّ القرآن وأمّ الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها" وروى ابن خزيمة بإسناد صحيح عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها : "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عدّ بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله رب العالمين إلى آخرها ست آيات" وآية من كل سورة إلا براءة لإجماع الصحابة على إثباتها في المصحف بخطه أوائل السور سوى براءة مع المبالغة في تجريد القرآن عن الأعشار وتراجم السور والتعوّذ حتى لم تكتب آمين فلو لم تكن قرآناً لما أجازوا ذلك لأنه يحمل على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآناً وأيضاً هي آية من القرآن في سورة النمل قطعاً ، ثم إنا نراها مكرّرة بخط القرآن فوجب أن تكون منه كما أنّا لما رأينا قوله : {فبأيّ آلاء ربكما تكذبان} (الرحمن ، الآيات : 13 ـ 16 ـ 18) وقوله : {ويل يومئذ للمكذبين} (المرسلات ، 27) (المطففين ، 10) مكرّراً في القرآن بخط واحد وبصورة واحدة ، قلنا : إن الكل من القرآن.
فإن قيل : لعلها ثبتت للفصل ، أجيب : بأنه يلزم عليه اعتقاد ما ليس بقرآن قرآناً ولثبتت في أوّل براءة ولم تثبت في أوّل الفاتحة.
فإن قيل : القرآن إنما يثبت بالتواتر ، أجيب : بأنّ محله فيما ثبت قرآناً قطعاً أمّا ما يثبت قرآناً حكماً فيكفي فيه الظنّ كما يكفي في كل ظنّي خلافاً للقاضي أبي بكر الباقلاني ، وأيضاً إثباتها في المصحف بخطه من غير نكير في معنى التواتر ، وأيضاً قد يثبت التواتر عند قوم دون آخرين.
فإن قلت : لو كانت قرآناً لكفر جاحدها ، أجيب : بأنها لو لم تكن قرآناً لكفر مثبتها وأيضاً التكفير لا يكون بالظنيات وقد أوضحت ذلك مع زيادة في شرحي "التنبيه" و "المنهاج" ، أما براءة فليست البسملة آية منها بإجماع.
جزء : 1 رقم الصفحة : 11(1/11)
فائدة : ما أثبت في المصحف الآن من أسماء السور والأعشار شيء ابتدعه الحجاج في زمنه.
والباء في بسم الله متعلقة بمحذوف تقديره بسم الله أقرأ لأنّ الذي يتلوه مقروء إذ كل فاعل يبدأ في فعله باسم الله يضمر ما يجعل التسمية مبدأ له كما أنّ المسافر إذا حل أو ارتحل فقال : بسم الله الرحمن الرحيم كان المعنى بسم الله أحل بسم الله أرتحل وذلك أولى من أن يضمر أبدأ لعدم ما يطابقه ، وما يدل عليه ومن أن يضمر ابتدائي لما ذكرنا.
فإن قيل : المصدر لا يعمل محذوفاً ، أجيب : بأنه يتوسع في الظرف والجار والمجرور ما لا يتوسع في غيرهما وتقديره مؤخراً كما قال الإمام الرازي أولى كما في {إياك نعبد وإياك نستعين}
12
لأنه أهمّ وأدلّ على الاختصاص وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود فإنّ اسمه تعالى مقدّم ذاتاً لأنه قديم واجب الوجود لذاته فقدم ذكراً.
فإن قيل : قال الله تعالى : {اقرأ بسم ربك} (العلق ، 1) فقدم الفعل ، أجيب : بأنه في مقام ابتداء القراءة وتعليمها لأنها أوّل سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهمّ باعتبار هذا العارض وإن كان ذكر الله تعالى أهمّ في نفسه ، وذكرت أجوبة غير ذلك في مقدمتي على البسملة والحمدلة ، والباء للاستعانة أو للمصاحبة والملابسة على جهة التبرّك ، والمعنى متبرّكاً بسم الله اقرأ ، والثاني أولى لما فيه من التحاشي عن جعل اسمه تعالى آلة ، والأحسن أن تكون لهما إعمالاً للفظ في معنييه الحقيقيين أو الحقيقيّ والمجازي عند من يجوّزه كإمامنا الشافعيّ ، والبسملة وما بعدها إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرّك باسمه ويحمد على نعمه ويسئل من فضله ويقدر في أوّل الفاتحة قولوا كما قال الجلال المحلى ، ليكون ما قبل إياك نعبد مناسباً له بكونه من مقول العباد.
فإن قيل : من حق حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد أن تبنى على الفتحة التي هي أخت السكون نحو واو العطف وفائه ، أجيب : بأنها إنما كسرت للزومها الحرفية والجرّ ولتشابه حركتها عملها وحذفت الألف من بسم خطاً كما حذفت لفظاً دون باسم ربك وإن كان وضع الخط على حكم الابتداء دون الدرج لكثرة الاستعمال ، وقالوا : طوّلت الباء تعويضاً من طرح الألف وألحق بها {بسم الله مجراها ومرساها} (هود ، 41) و{أنه من سليمان وأنه بسم الله الرحمن الرحيم} (النحل ، 30) وإن لم تكتب في القرآن إلا مرّة واحدة لشبهها لها صورة.
فإن قيل : لم حذف في بسم الله دون الله والرحمن الرحيم ؟
أجيب : خطان لا يقاس عليهما : خط المصحف وخط العروضيين ، ولا تحذف الألف إذا أضيف الاسم لغير الله ولا مع غير الباء. والاسم مشتق من السموّ وهو العلوّ لأنه رفعة للمسمى وشعار له فهو من الأسماء المحذوفة الإعجاز ، كيد ودم ، لكثرة الاستعمال وبنيت أوائلها على السكون وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن ولأن من دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرّك ويقفوا على الساكن ، وقيل من الوسم ، وهو العلامة فوزنه على الأوّل أفع محذوف اللام ، وعلى الثاني أعل محذوف الفاء ، وفيه عشر لغات نظمها بعضهم في بيت فقال :
*
جزء : 1 رقم الصفحة : 11
سم وسما واسم بتثليث أوّل ** لهنّ سماء عاشر تمت انجلي*
والاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى لأنه يتألف من أصوات مقطعة غير قارّة ويختلف باختلاف الأمم والأعصار ، ويتعدّد تارة ويتحد أخرى ، والمسمى لا يكون كذلك وإن أريد به ذات الشيء فهو المسمى لكنه لم يشتهر بهذا المعنى ، وقوله : {سبح اسم ربك الأعلى} (الأعلى ، 1) المراد به اللفظ لأنه كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب ، أو الاسم فيه مقحم كما في قول الشاعر :
*إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ** ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر*
13
وإن أريد به الصفة كما هو رأي أبي الحسن الأشعري انقسم انقسام الصفة عنده إلى ما هو نفس المسمى كالواحد والقديم وإلى ما هو غيره كالخالق والرازق وإلى ما ليس هو ولا غيره كالعلم والقدرة فإنهما زائدان على الذات وليسا غير الذات لأنّ المراد بالغير ما ينفك عن الذات وهما لا ينفكان.(1/12)
فإن قيل : لم بدأ ببسم الله دون بالله ، أجيب : بأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه وللفرق بين اليمين والتيمن. والله علم على الذات الواجب الوجود ، المستحق لجميع المحامد وأصله إله ، قال الرافعي : كإمام ، ثم أدخلوا عليه الألف واللام ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى اللام فصار اللاه بلامين متحرّكين ثم سكنت الأولى وأدغمت في الثانية للتسهيل ، انتهى. والإله في الأصل يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بحق كما أنّ النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا ، والحق أنه أصل بنفسه غير مأخوذ من شيء بل وضع علماً ابتداءً فكما أنّ ذاته لا يحيط بها شيء ولا ترجع إلى شيء فكذا اسمه تعالى ، وقيل : مأخوذ من أله إذا تحير ، إذ العقول تتحير في معرفته ، وقيل غير ذلك ، وهو عربيّ عند الأكثر وعند المحققين أنه اسم الله الأعظم وقد ذكره الله تعالى في ألفين وثلثمائة وستين موضعاً واختار النوويّ تبعاً لجماعة أنه الحيّ القيوم قال : ولذلك لم يذكر في القرآن إلا في ثلاثة مواضع في البقرة ، وآل عمران ، وطه.
والرحمن الرحيم صفتان مشبهتان بنيتا للمبالغة من رحم بتنزيله منزلة اللازم أو بجعله لازماً ونقله إلى فعل بالضمّ. والرحمة لغة رقة في القلب تقتضي التفضل والإحسان ، فالتفضل غايتها. وأسماء الله تعالى المأخوذة من نحو ذلك إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون إنفعالات فرحمة الله تعالى إرادة إيصال الفضل والإحسان أو نفس إيصال ذلك فهي من صفات الذات على الأوّل ومن صفات الفعل على الثاني ، والرحمن أبلغ من الرحيم لأنّ زيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى كما في قطع بالتخفيف وقطع بالتشديد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 11
فإن قيل : حذر أبلغ من حاذر ، أجيب : بأنّ ذلك أكثري لا كليّ ، وبأنّ الكلام فيما إذا كان المتلاقيان في الاشتقاق متحدي النوع في المعنى كغرث وغرثان لا كحذر وحاذر للاختلاف وقدم الله عليهما لأنه إسم ذات وهما إسما صفة ، والرحمن على الرحيم لأنه خاص إذ لا يقال لغير الله بخلاف الرحيم ، والخاص مقدّم على العامّ ، وإنما قدم والقياس يقتضى الترقي من الأدنى إلى الأعلى كقولهم : عالم نحرير لأنه صار كالعلم من حيث أنه لا يوصف به غيره ولذلك رجح جماعة أنه علم ولأنه لما دل على جلائل النعم وأصولها ذكر الرحيم كالتابع والتتمة والرديف ليتناول ما دق منها ولطف فليس من باب الترقي بل من باب التعميم والتكميل وللمحافظة على رؤوس الآي ، وهل الرحمن مصروف أو لا ؟
فيه قولان : مال السعد التفتازاني إلى جواز الأمرين لأنّ شرط منع صرف فعلان صفة وجود فعلى وشرط صرفه وجود فعلانة وكلاهما منتف هنا لكن أظهرهما أنه ممنوع الصرف إلحاقاً له بما هو الغالب من نظائره في الزيادة والوصف ، والثاني أنه مصروف إلحاقاً له بالأصل في مطلق الاسم وهو الصرف ، هذا مع أنّ المختار في منع صرف ما ذكر انتفاء فعلانة لا وجود فعلى ، والحاصل أنه تعارض في صرفه وعدم صرفه الأصل والغالب.
فإن قيل : هذا إذا لم تدخله ال ، أجيب : بأنّ المختار أنّ غير المصروف إذ دخلت عليه ال والعلتان فيه باق على منع صرفه وإن جرّ بالكسرة.
فوائد : الأولى : الوقف على الله قبيح للفصل بين التابع والمتبوع وعلى الرحمن كذلك وقيل :
14
كاف وعلى الرحيم تام.
الثانية : عدد حروف البسملة الرسمية تسعة عشر حرفاً وعدد ملائكة خزنة النار تسعة عشر قال ابن مسعود : من أراد أن ينجيه الله تعالى من الزبانية فليقلها ليجعل الله تعالى له بكل حرف جنة ، أي : وقاية من واحد.
الثالثة : قال النسفيّ في {تفسيره} قيل : الكتب المنزلة من السماء إلى الدنيا مائة وأربعة : صحف شيث ستون ، وصحف إبراهيم ثلاثون وصحف موسى قبل التوراة عشرة ، والتوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان ، وجميع كل الكتب مجموعة في الفاتحة ومعاني الفاتحة مجموعة في البسملة ومعانيها مجموعة في بائها ومعناها : بي كان ما كان وبي يكون ما يكون. زاد بعضهم ومعاني الباء في نقطتها وتخصيص التسمية بهذه الثلاثة التي هي الله والرحمن الرحيم ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في جميع الأمور هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها عاجلها وآجلها جليلها وحقيرها فيتوجه العارف بجملته حرصاً ومحبة إلى جناب القدس ويتمسك بحبل التوفيق ويشغل سره بذكره والاستمداد به عن غيره.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 11(1/13)
الحمد } الحمد اللفظي لغة الثناء باللسان على الجميل الاختياري على قصد التبجيل ، أي : التعظيم ، سواء أتعلق بالفضائل وهي النعم القاصرة أم بالفواضل وهي النعم المتعدّية فدخل في الثناء الحمد وغيره وخرج باللسان الثناء بغيره كالحمد النفسي وبالجميل الثناء باللسان على غير الجميل ، إن قلنا برأي ابن عبد السلام أن الثناء حقيقة في الخير والشرّ ، وإن قلنا برأي الجمهور وهو الظاهر أنه حقيقة في الخير فقط ففائدة ذلك تحقيق الماهية أو دفع توهم إرادة الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه وبالاختياري المدح ، فإنه يعمّ الاختياري وغيره ، تقول : مدحت اللؤلؤة على حسنها دون حمدتها ، وظاهر قول الزمخشريّ : الحمد والمدح أخوان أنهما مترادفان وبه صرّح في "الفائق" لكن الأوفق ما عليه الأكثر أنهما غير مترادفين بل متشابهان معنى أو اشتقاقاً كبيراً ، والاشتقاق ثلاثة أقسام : كبير ، وأكبر ، وأصغر ، وقد يعبر عنه بالصغير ، فالكبير أن يشترك اللفظان في الحروف الأصول من غير ترتيب كالحمد والمدح ، والأكبر أن يشتركا في أكثر الحروف الأصول كالفلق ، والفلج ، والفلذ ، مع اتحاد في المعنى أو تناسب ، والأصغر أن يشتركا في الحروف الأصول المترتبة كضرب والضرب وبعلى قصد التبجيل ما كان على قصد الاستهزاء والسخرية نحو قوله تعالى : {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان ، 49) وتناول الظاهر والباطن إذ لو تجرّد الثناء على الجميل عن مطابقة الإعتقاد أو خالفه أفعال الجوارح ، لم يكن حمداً بل تهكم أو تمليح ، وهذا لا يقتضي دخول الجنان والأركان في التعريف لأنّ المطابقة وعدم المخالفة اعتبرا فيه شرطاً لا شطراً وعرفاً فعل ينبىء عن تعظيم المنعم من حيث أنه منعم على الحامد أو غيره سواء كان ذكراً باللسان أم اعتقاداً ومحبة بالجنان أم عملاً وخدمة بالأركان كما قيل :
*أفادتكم النعماء مني ثلاثة ** يدي ولساني والضمير المحجبا*
فمورد اللغويّ : هو اللسان وحده ومتعلقه يعمّ النعمة وغيرها ، ومورد العرفي يعمّ اللسان وغيره ومتعلقه يكون النعمة وحدها ، فاللغويّ أعمّ باعتبار المتعلق وأخص باعتبار المورد ، والعرفي بالعكس ، والشكر لغة : هو الحمد عرفاً وعرفاً صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه من السمع وغيره إلى ما خلق لأجله ، والمدح لغة الثناء باللسان على الجميل مطلقاً على جهة التعظيم ،
15
وعرفاً ما يدلّ على اختصاص الممدوح بنوع من الفضائل ، فالشكر أعمّ من الحمد والمدح من وجه لأنه لا يختص باللسان وأخص منهما من وجه آخر لأنه يختص بالثناء على الإنعام ، وضدّ الحمد الذم ، وضدّ الشكر الكفران ، وضدّ المدح الهجو.
جزء : 1 رقم الصفحة : 11
وجملة الحمد لله خبرية لفظاً ؛ إنشائية معنى ، لحصول الحمد بالتكلم بها مع الإذعان لمدلولها ، ويجوز أن تكون موضوعة شرعاً للإنشاء وقيل : خبرية لفظاً ومعنى ، قال بعضهم : وهو التحقيق إذ ليس معنى كونها إنشائية لا أنها جملة إنشاء الحامد الثناء بها وذلك لا ينافي كونها خبرية معنى. ولام لله للملك أو الاستحقاق أو الاختصاص ، وقيل : للتعليل والأولى أنها للاختصاص بالمعنى الأعمّ الصادق بالملك وبالاستحقاق ، لا بالمعنى الأخص المقابل لهما وعلى كل فهي متعلقة بمحذوف هو الخبر حقيقة ، فالحمد مختص بالله كما أفادته الجملة الاسمية سواء أجعلت لام التعريف فيه للإستغراق كما عليه الجمهور وهو ظاهر ، أم للجنس كما عليه الزمخشري ، لأنّ لام لله للإختصاص كما مرّ فلا فرد منه لغيره أم للعهد كالتي في قوله تعالى : {إذ هما في الغار} (التوبة ، 40) كما نقله ابن عبد السلام وأجازه الواحديّ على معنى أن الحمد الذي حمد الله به نفسه وحمده به أنبياؤه وأولياؤه مختص به والعبرة بحمد من ذكر فلا فرد منه لغيره ، وأولى الثلاثة الجنس ، زاد بعضهم أو للكمال كما أفاده سيبويه في الداخلة على الصفات كالرحمن الرحيم ، قال البيضاويّ : إذ الحمد في الحقيقة كله له إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط أو بغير وسط كما قال : {وما بكم من نعمة فمن الله} (النحل ، 53) انتهى.
فإن قيل : بل هو موليه مطلقاً بغير وسط ، أجيب : بأن المراد بالوسط من تصل إليه النعمة أوّلاً ثم تنتقل منه إلى غيره لا أنه وسط في التأثير.(1/14)
فأن قيل : لم خص الحمد بالله ولم يقل الحمد للخالق أو نحو من بقية الصفات ؟
أجيب : بأن لا يتوهم اختصاص استحقاق الحمد بوصف دون وصف ، قال البيضاوي : وفيه إشعار بأنه تعالى حيّ قادر مريد عالم إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه ، {رب العالمين} أي : مالك جميع الخلق من الإنس والجنّ والملائكة والدوابّ وغيرهم ، إذ كل منها يطلق عليه عالم ، يقال : عالم الإنس وعالم الجنّ إلى غير ذلك ، وسمي المالك بالرب لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيداً كقوله تعالى : {ارجع إلى ربك} (يوسف ، 50) والعالمين اسم جمع عالم بفتح اللام وليس جمعاً له لأنّ العالم عامّ في العقلاء وغيرهم والعالمين مختص بالعقلاء والخاص لا يكون جمعاً لما هو أعم منه ، قاله ابن مالك وتبعه ابن هشام في "توضيحه" ، وذهب كثير إلى أنه جمع عالم على حقيقة الجمع ثم اختلفوا في تفسير العالم الذي جمع هذا الجمع فذهب أبو الحسن إلى أنه أصناف الخلق العقلاء وغيرهم وهو ظاهر كلام الجوهريّ ، وذهب أبو عبيدة إلى أنه أصناف العقلاء فقط وهو الإنس والجن والملائكة وقيل : عنى به الناس ههنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث أنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير ووجه اشتمال الصغير وهو الإنسان على نظائر ما في الكبير وهو ما سوى الله تعالى أنّ تفاصيله شبيهة بتفاصيل العالم الكبير ، إذ الكبير ينقسم إلى ظاهر محسوس كالعالم الملك وهو ما ظهر للحواس وتكون بقدرة الله تعالى بعضه من بعض وتضمنه التغيير وإلى باطن معقول كعالم الملكوت وهو ما أوجده سبحانه وتعالى بالأمر الأزلي بلا تدريج وبقي على حالة واحدة من غير
16
زيادة فيه ولا نقصان منه ، وإلى عالم الجبروت وهو ما بين العالمين مما يشبه أن يكون في الظاهر من عالم الملك فجبر بالقدرة الأزلية بما هو من عالم الملكوت ، والإنسان كذلك ينقسم إلى ظاهر محسوس كاللحم والعظم والدم ، وإلى باطن كالروح والعقل والإرادة والقدرة ، وإلى ما هو مشابه لعالم الجبروت كالإدراكات الموجودة بالحواس والقوى الموجودة بأجزاء البدن.
جزء : 1 رقم الصفحة : 11
فإن قيل : لم جمع جمع قلة مع أنّ المقام يستدعي الإتيان بجميع الكثرة أجيب : بأنّ فيه تنبيهاً على أنهم وإن كثروا قليلون في جنب عظمته وكبريائه تعالى.
{الرحمن الرحيم مالك يوم الدين} ذكر سبحانه وتعالى في هذه السورة من أسمائه خمسة : الله ، والرب ، والرحمن ، والرحيم ، والمالك ، والسبب فيه كأنه يقول : خلقتك أوّلاً فأنا الله ثم ربيتك بوجود النعمة ، فأنا رب ثم عصيت فسترت عليك ، فأنا رحمن ثم تبت عليك ، فأنا رحيم ، ثم لا بدّ من إيصال الجزاء إليك ، فأنا مالك يوم الدين.
فإن قيل : إنه تعالى ذكر الرحمن الرحيم في التسمية ثم ذكرهما مرّة ثانية دون الأسماء الثلاثة الباقية ، فما الحكمة في ذلك ؟
أجيب : بأنّ الحكمة في ذلك كأنه قال تعالى : اذكر أني إله ورب مرّة واحدة واذكر أني رحمن رحيم مرّتين ليعلم أنّ العناية بالرحمة أكثر منه بسائر الأمور ، ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال : لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين ونظيره ، قوله تعالى : {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب} (غافر ، 3) وقرأ عاصم والكسائيّ : مالك بألف بعد الميم ، ويعضده قوله تعالى : {لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذٍ } (الانفطار ، 19) وقرأ الباقون بغير ألف ، ويعضده قوله تعالى : {ملك الناس} (الناس ، 2) وبينهما عموم مطلق فكل ملك مالك ولا عكس لعموم ولاية الملك التزاماً لا مطابقة ولا يقدح فيها أن تقول مالك الدواب والأنعام والوحوش والطير دون ملكها لأنّ ذلك ليس من جهة عدم شمول حياطته لذلك ، بل من جهة أنه إنما يضاف عرفاً إلى ما فيه انقياد وامتثال وينفذ فيه التصرف بالأمر والنهي ، قاله السعد التفتازاني ، وقيل : هما بمعنى وهو القادر على اختراع الأعيان من العدم إلى الوجود ولا يقدر على ذلك إلا الله ويوم الدين يوم الجزاء ومنه قولهم كما تدين تدان وهو يوم القيامة وخص بالذكر لأنه لا ملك ظاهر فيه لأحد إلا لله تعالى {لمن الملك اليوم} (غافر ، 16) .
فإن قيل : إضافة اسم الفاعل غير حقيقية فلا تكون معطية معنى التعريف فكيف ساغ وقوعه صفة للمعرفة ؟
أجيب : بأنها إنما تكون غير حقيقية إذا أريد باسم الفاعل الحال أو الاستقبال فكان في تقدير الانفصال كقولك : مالك الساعة أو غداً فأما إذا قصد به معنى الاستمرار : أي هو موصوف بذلك دائماً فتكون الإضافة حقيقية كغافر الذنب فصح وقوعه صفة للمعرفة.
فإن قيل : التقييد بيوم الدين ينافي الاستمرار لكونه صريحاً في الاستقبال ، أجيب : بأنّ معناه الثبوت والاستمرار من غير اعتبار حدوث في أحد الأزمنة ومثل هذا المعنى لا يمتنع أن يعتبر بالنسبة إلى يوم الدين كأنه قيل : هو ثابت المالكية في يوم الدين أو المراد أنه جعل يوم الدين لتحقق وقوعه بمنزلة الواقع فتستمرّ مالكيته في جميع الأزمنة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 11(1/15)
تنبيه : إجراء هذه الأوصاف على الله تعالى من كونه رباً للعالمين موجداً لهم منعماً عليهم بالنعم ، كلها ظاهرها وباطنها عاجلها وآجلها مالكاً لأمورهم يوم الثواب والعقاب للدلالة على أنه تعالى الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه بل لا يستحقه على الحقيقة سواه ، فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته له.
17
جزء : 1 رقم الصفحة : 11
{إياك نعبد وإياك نستعين} (الفاتحة ، 5 7) إيا ضمير منصوب منفصل وما يلحقه من الياء والكاف والهاء حروف زيدت لبيان التكلم والخطاب والغيبة لا محل لها من الإعراب وفيه أقوال أخر ذكرتها في "شرح القطر".
فإن قيل : لم كرر ضمير إياك ؟
أجيب : بأنه كرر للتنصيص على أنه المستعان به لا غيره.
فإن قيل : لم قدّمت العبادة على الاستعانة ، أجيب : لتتوافق رؤوس الآي وليعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة وأيضاً لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك فرحاً واعترافاً منه بما يصدر عنه فعقبه بقوله : {وإياك نستعين} ليدل على أنّ العبادة أيضاً مما لا تتم ولا تتيسر له إلا بمعونة منه تعالى وتوفيق.
فإن قيل : لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب ؟
أجيب : بأنّ عادة العرب التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تحسيناً للكلام وتنشيطاً للسامع فيكون أكثر إسغاءً للكلام فتعدل من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس فيهما فهذه أقسام أربعة ذكرها البيضاوي والتحقيق كما قاله بعض المتأخرين : أنها ستة لأنّ الملتفت إليه إثنان وكل منهما إمّا غيبة أو خطاب أو تكلم ، من ذلك قوله تعالى : {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} (يونس ، 22) الأصل بكم فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة وقوله تعالى : {وا الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه} (الروم ، 48) الأصل فساقه فهو التفات من الغيبة إلى التكلم.
والاستعانة طلب معونة وهي : إمّا ضرورية أو غير ضرورية ، فالضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوّره وحصول آلة ومادّة يفعل بها فيها وعند استجماع ذلك يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل ، وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي أو يقرّب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف غالباً وقد يتوقف كأكثر الواجبات المالية.
فإن قيل : لم أطلقت الاستعانة ؟
أجيب : بأنها إنما أطلقت لأجل أنها تتناول المعونة في المهمات كلها أو في أداء العبادات واستحسن هذا الزمخشريّ قال : لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض.
تنبيه : الضمير المستكن في نعبد ونستعين للقارىء ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة أو له ولسائر الموحدين أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعل عبادته تقبل ببركة عبادتهم وحاجته يجاب إليها ببركة حاجتهم ولهذا شرعت الجماعة في الصلاة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 18
فإن قيل : لم قدم المفعول ؟
أجيب : بأنّ تقديمه للتعظيم والاهتمام به والدلالة على الحصر ، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه نعبدك ولا نعبد غيرك وتقديم ما هو مقدّم في الوجود والتنبيه على أنّ العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولاً وبالذات ومنه إلى العبادة لا من حيث أنها عبادة صدرت عنه بل من حيث أنها نسبة شريفة إليه ووصلة بينه وبين الحق فإنّ العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه حتى أنه لا يلاحظ نفسه ولا حالاً من أحوالها إلا من حيث أنها ملاحظة له ومنتسبة إليه ولذلك فضل ما حكي عن حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم حين قال : {لا تحزن إنّ الله معنا} (التوبة ، 40) على ما حكاه عن كليمه موسى صلى الله عليه وسلم حيث قال : {إن معي ربي سيهدين} (الشعراء ، 62) لأنّ الأوّل قدّم ذكر الله تعالى على المعية والثاني بالعكس.
18
{اهدنا الصراط المستقيم} بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال : كيف أعينكم فقالوا : اهدنا والهداية الدلالة بلطف ولذلك تستعمل في الخير.
فإن قيل : قال الله تعالى : {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} (الصافات ، 23) أجيب : بأنه وارد على التهكم.(1/16)
تنبيه : هدى أصله أن يتعدّى باللام أو بإلى كقوله تعالى : {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} (الإسراء ، 9) {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الأعراف ، 175) فعومل معاملة اختار في قوله تعالى : {واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا} (الأعراف ، 155) وقد يتعدى بنفسه كما هنا وهو حينئذٍ محتمل لإضمار الحرف ولعدم إضماره وهداية الله تعالى تتنوّع أنواعاً لا يحصيها عدد كما قال تعالى : {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (إبراهيم ، 34) (النحل ، 18) ولكنها تنحصر في أجناس مرتبة ، الأوّل : إفاضة القوى التي يتمكن بها المؤمن من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة والثاني : نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد ، وإليه أشار تعالى حيث قال : {وهديناه النجدين} (البلد ، 10) أي طريق الخير والشر وقال : {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} (فصلت ، 17) والثالث : الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإياها عنى بقوله تعالى : {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} (الأنبياء ، 73) وقوله : {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} (الإسراء ، 9) والرابع : أن يكشف لقلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي والإلهام والمنامات الصادقة وهذا القسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء وإياه عنى تعالى بقوله : {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} (الأنعام ، 90) وقوله : {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} (العنكبوت ، 69) .
جزء : 1 رقم الصفحة : 18
فإن قيل : ما معنى طلب الهداية وهم مهتدون ؟
أجيب : بأنهم طلبوا زيادة ما منحوه من الهدى والثبات عليه كقوله تعالى : {والذين اهتدوا زادهم هدى} (محمد ، 17) والصراط من قلب السين صاداً ليطابق الطاء في الإطباق وقد تشمّ الصاد صوت الزاي ليكون أقرب إلى المبدل منه ، قرأ حمزة الصراط المعرف في هذه السورة بالإشمام وهو أن ينطق القارىء بحرف متولد بين الصاد والزاي ، وأشمّ خلف صراط الثاني كالأوّل وكذا جميع ما في القرآن من معرف ومنكر ، وقرأ قنبل جميع ما في القرآن بالسين ، وقرأ الباقون بالصاد الخالصة في الجميع ، وهذه لغة قريش وهي الثابتة في الإمام وهو مصحف سيدنا عثمان رضي الله عنه تعالى والمستقيم المستوي ، والمراد به طريق الحق ، وقيل : ملة الاسلام ، وهذان القولان مرويان عن ابن عباس وهما متحدان صدقاً وإن اختلفا مفهوماً.
{صراط الذين أنعمت عليهم} بالهداية بدل من الأوّل بدل كل من كل والعامل فيه مقدّر على رأي الجمهور ، وقيل : العامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو ظاهر مذهب سيبويه ، واختاره ابن لك.
فإن قيل : ما فائدة ذكر صراط الذين أنعمت عليهم بدلاً تابعاً ؟
وهلا اقتصر عليه مع أنه المقصود بالنسبة ؟
أجيب : بأنّ فائدته التوكيد والتنصيص على أنّ طريق المسلمين هو المشهود عليه
19
بالاستقامة على آكد وجه وأبلغه لأنه جعل كالتفسير والبيان له فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه إنّ الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين وهذا هو الموافق لما خرّج ابن جرير عن ابن عباس ، إن المراد بالذين أنعمت عليهم الأنبياء والملائكة والصدّيقون والشهداء ومن أطاعه وعبده وقيل : الذين أنعمت عليهم الأنبياء خاصة صلوات الله وسلامه عليهم ، وقيل : أصحاب موسى وعيسى قبل التحريف والنسخ.
تنبيه : أطلق الإنعام ليشمل كل إنعام لأنّ من أنعم الله عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته واشتملت عليه ويبدل من الذين بصلته. {غير المغضوب عليهم} وهم اليهود ، لقوله تعالى : {فيهم من لعنه الله وغضب عليه} (المائدة ، 60) {ولا} أي : وغير {الضالين} وهم النصارى ، لقوله تعالى : {قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا} (المائدة ، 77) الآية ، ونكتة البدل إفادة أنّ المهتدين ليسوا يهوداً ولا نصارى وقيل : إنّ غير صفة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من غضب الله تعالى والضلال ، وقيل : المغضوب عليهم هم الكفار والضالون هم المنافقون ، وذلك لأنه تعالى بدأ في أوّل البقرة بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آيات ثم أتبعه بذكر الكفار وهو المراد من قوله تعالى : {إنّ الذين كفروا} (البقرة ، 6) ثم أتبعهم بذكر المنافقين وهو قوله تعالى : {ومن الناس من يقول آمنا با} (البقرة ، 8) إلخ.. وكذا ههنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله : {أنعمت عليهم} ثم أتبعهم بذكر الكفار وهو قوله {غير المغضوب عليهم} ثم أتبعهم بذكر المناففين بقوله : {ولا الضالين}.
جزء : 1 رقم الصفحة : 18
فإن قيل : كيف صح أن يقع غير صفة للمعرفة وهو لا يتعرّف وإن أضيف إلى المعارف ؟
أجيب : بأنه يصح بأحد تأويلين ؛ أحدهما : إجراء الموصول مجرى النكرة إذ لم يقصد به معهود كالمحلى باللام في قول القائل :
*ولقد أمرّ على اللئيم يسبني(1/17)
أي : لئيما يسبني إذ لا مرور على الكل ، والثاني : جعل غير معرفة بالإضافة لأنه أضيف إلى ما له ضدّ واحد وهو المنعم عليه فليس في غير إذن الإبهام الذي يأبى عليه أن يتعرّف.
تنبيه : إنما سمى كل من اليهود والنصارى بما ذكر مع أنه مغضوب عليه وضالّ لاختصاص كل منهما بما غلب عليه ، وقال صلى الله عليه وسلم "إن المغضوب عليهم اليهود وإنّ الضالين النصارى" رواه
20
ابن حبان وصححه ، وقيل : المغضوب عليهم العصاة والضالين الجاهلون بالله لأنّ المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته والخير للعمل ، به فكان المقابل. له من اختلّ إحدى قوّتيه العاقلة والعاملة والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمداً : {وغضب الله عليه} (النساء ، 97) والمخل بالعمل جاهل ضال لقوله تعالى : {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (يونس : 32) .
فإن قيل : ما معنى غضب الله لأنّ الغضب ثوران النفس عند إرادة الانتقام أو تغير يحصل عند ثوران دم القلب إرادة الانتقام وهو محال في حقه تعالى ؟
أجيب : بأنه إذا أسند إلى الله تعالى أريد به المنتهى والغاية فمعناه إرادة الانتقام من العصاة وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعل الملك إذا غضب على من تحت يده نعوذ بالله من غضبه ونسأله رضاه ورحمته.
فإن قيل : أيّ فرق بين عليهم الأولى والثانية ؟
أجيب : بأنّ محل مجرور الأولى النصب على المفعولية ومحل مجرور الثانية الرفع لأنه نائب مناب الفاعل.
فإن قيل : لم دخلت لا في {ولا الضالين} ؟
أجيب : بأنها بمعنى غير كما قرّرته تبعاً للجلال المحلى ، وأنها مزيدة كما قال الزمخشري لتأكيد ما في غير من معنى النفي ، كأنه قال : لا المغضوب عليهم ولا الضالين ، وللتصريح بتعلق النفي بكل من المعطوف والمعطوف عليه.
فائدة : أوّل السورة مشتمل على الحمد لله والثناء عليه والمدح له وآخرها مشتمل على الذمّ للمعرضين عن الإيمان به والإقرار بطاعته وذلك يدلّ على أنّ مطلع الخيرات وعنوان السعادات هو الإقبال على الله ومطلع الآفات ورأس المخالفات هو الإعراض عن الله تعالى والبعد عن طاعته والاجتناب عن خدمته.
جزء : 1 رقم الصفحة : 18
فإن قيل : ما فائدة {غير المغضوب} إلخ بعد ذكر {أنعمت عليهم} ؟
أجيب : بأنّ الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف كما قال عليه الصلاة والسلام : "لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا" فقوله : {صراط الذين أنعمت عليهم} يوجب الرجاء الكامل وقوله : {غير المغضوب عليهم} إلخ يوجب الخوف الكامل وحينئذٍ يتقوّى الإيمان بركنيه وطرفيه وينتهي إلى حدّ الكمال وقرأ حمزة عليهم : غير المغضوب عليهم بضمّ الهاء وفقاً ووصلاً ، وكذا جميع ما في القرآن ، وقرأ ابن كثير : عليهم بواو ، بعد الميم في الوصل فإذا وقف أسقط الواو وكذا يفعل في كل ميم جمع بعدها حرف متحرّك ، وأمّا قالون فهو مخير في ميم الجمع إن شاء وصلها بواو كابن كثير وإن شاء لا يصلها بواو ، وأمّا ورش فإنه يصل ميم الجمع بواو وإن كان بعدها همزة قطع فيصير عنده مدّ منفصل ، وفي {ولا الضالين} مدّان لازم وعارض فاللازم هو الذي على الألف بعد الضاد قبل اللام المشدّدة ، والعارض هو الذي على الياء قبل النون ، والسنة للقارىء أن يقول بعد فراغه من الفاتحة آمين مفصولاً عن الفاتحة بسكتة وهو اسم الفعل الذي هو استجب ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معناه فقال : "افعل" بني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين وجاز مدّ ألفه وقصرها قال مجنون ليلى
21
*يا رب لا تسلبني حبها أبداً ** ويرحم الله عبداً قال آمينا*
أي : بالمدّ ، وقال جبير لما سأل الأسدي المسمى بفطحل :
*تباعد عني فطحل إذ سألته ** آمين فزاد الله ما بيننا بعدا*
فذكر مقصوراً وكان من حقه التأخير لأنّ التأمين إنما يكون بعد الدعاء ولكن قدّمه للضرورة وليس آمين من القرآن اتفاقاً بدليل أنه لم يثبت في المصاحف كما مرّت الإشارة إليه ولكن يسنّ ختم السورة به لقوله صلى الله عليه وسلم "علمني جبريل عليه السلام آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة" كما رواه البيهقيّ وغيره ، وقال صلى الله عليه وسلم "إنه كالختم على الكتاب" كما رواه أبو داود في "سننه" وقال عليّ رضي الله تعالى عنه : آمين خاتم رب العالمين ختم به دعاء عبده ، رواه الطبرانيّ وغيره لكن بسند ضعيف ، يقوله الإمام ويجهر به في الجهرية لما روي عن وائل بن حجر : "أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا قرأ ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته". وعن الحسن لا يقوله الإمام لأنه الداعي ، وعن أبي حنيفة مثله والمشهور عنه وعن أصحابه أنه يخفيه ، والمأموم يؤمن مع إمامه لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين فإن الملائكة تقول : آمين وإن الإمام يقول : آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه". زاد الجرجانيّ في "أماليه" وما تأخر. وأحسن ما فسر به هذا الخبر ما رواه عبد الرزاق عن عكرمة قال : صفوف أهل الأرض تلي صفوف أهل السماء ، فإذا وافق تأمين من في الأرض تأمين من في السماء غفر للعبد ، قال ابن حجر ومثل هذا لا يقال بالرأي فالمصير إليه أولى وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ : "ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها ؟
قال : بلى يا رسول الله قال : فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته" رواه الترمذيّ وقال حسن صحيح ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : "بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ناداه منادٍ فقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أعطيته" وما رواه البيضاويّ عن حذيفة بن اليمان أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : "إنّ القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً فيقرأ صبيّ من صبيانهم في الكتاب الحمد لله رب العالمين فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة" حديث موضوع.
22
جزء : 1 رقم الصفحة : 18(1/18)
سورة البقرة
مدنية وهي مائتان وسبع وثمانون آية
جزء : 1 رقم الصفحة : 22
{بسم الله الرحمن الرحيم} قال الشعبي وجماعة : {ألم} وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه وهي سرّ القرآن فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله سبحانه وتعالى ، وفائدة ذكره طلب الإيمان بها والسبب في ذلك أنّ العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش والله تعالى استأثر بعلم لا تقدر عليه عقول الأنبياء ، والأنبياء استأثروا بعلم لا تقدر عليه عقول العلماء ، والعلماء استأثروا بعلم لا تقدر عليه عقول العامّة ، وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : في كل كتاب سرّ وسرّ الله في القرآن أوائل السور. وقال عليّ رضي الله عنه : إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي ، قال داود بن أبي هند : كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور فقال : يا داود إنّ لكل كتاب سرّاً وإنّ سرّ القرآن فواتح السور فدعها واسأل عما سوى ذلك ، وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : معنى {ألم} أنا الله أعلم ومعنى {الر} (يونس : 1) أنا الله أرى ومعنى {المر} (الرحمن ، 1) أنا الله أعلم وأرى ، قال الزجاج : وهذا حسن فإنّ العرب تذكر حرفاً من كلمة تريدها كقولهم : قلت لها قفي فقالت : قاف ، أي : وقفت. وقيل : هي أسماء السور وعليه إطباق أكثر المتكلمين واختاره الخليل وسيبويه ، سميت بها إشعاراً بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحياً من الله تعالى لم تتساقط قدرتهم
23
عند معارضتها ، ونقضه الإمام الرازي بأنها لو كانت اسماً لها لوجب اشتهارها بها وقد اشتهرت بغيرها كسورة البقرة وآل عمران وقيل : أسماء للقرآن قاله قتادة. والحكمة في الإتيان بهذه الأحرف الثلاثة أنّ الألف من أقصى الحلق وهو مبدأ المخارج ، واللام من طرف اللسان وهو وسطها ، والميم من الشفة وهي آخرها ، جمع الله تعالى بينها إيماء إلى أنّ العبد ينبغي أن يكون أوّل كلامه وأوسطه وآخره ذكر الله تعالى ولما تكاثر وقوع الألف واللام في تراكيب الكلام جاءتا في معظم الفواتح مكرّرتين وهي فواتح سورة البقرة وأوّل آل عمران والأعراف ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة.(1/19)
فإن قيل : هلا عددت هذه الأحرف بأجمعها في أوائل القرآن ومالها جاءت مفرّقة على السور ، أجيب : بأنّ إعادة التنبيه على أنّ المتحدّى به مؤلف منها لا غير وتجديده في غير موضع واحد أوصل إلى الغرض وأقرّ له في الإسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرّة ، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرّر في النفوس وتقريره.
جزء : 1 رقم الصفحة : 23
فإن قيل : هلا جاءت على وتيرة واحدة ولم اختلفت أعداد حروفها فوردت ص وق ون على حرف ، وطه وطس ويس وحم على حرفين ، والم والر وطسم على ثلاثة أحرف ، والمص والمر على أربعة أحرف ، وكهيعص وحمعسق على خمسة أحرف ؟
أجيب : بأنّ هذا على عادة افتنانهم في أساليب الكلام وتصرّفهم فيه على طرق شتى ومذاهب عدّة ، وكما أنّ أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك سلك بهذه الفواتح تلك المسالك.
فإن قيل : ما وجه اختصاص كل سورة بالفاتحة التي اختصت بها ؟
أجيب : بأنه لما كان الغرض هو التنبيه والمبادي كلها في تأدية هذا الغرض سواء لا مفاضلة كان تطلب وجه الاختصاص ساقطاً كما إذا سمى الرجل بعض أولاده زيداً والآخر عمراً لم يقل له : لم خصصت ولدك هذا بزيد وذاك بعمرو ؟
لأنّ الغرض هو التمييز وهو حاصل بذلك.
فإن قيل : هل لهذه الفواتح محل من الإعراب ؟
أجيب : بأنّ لها محلاً عند من جعلها أسماء لأنها عنده كسائر الأعلام محلها يحتمل ثلاثة أوجه : إمّا الرفع بأنها مبتدأ أو خبر لمبتدأ محذوف أي : هذه ألم ، أو النصب بفعل مقدّر كاذكر أو اقرأ أو اتل ألم ، أو الجرّ بتقدير حذف حرف القسم.
{ذلك الكتاب} الذي تقرؤه يا محمد على الناس {لا ريب فيه} لا شك في أنه من عند الله تعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 23
فإن قيل : لم صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد ؟
أجيب : بأن الإشارة وقعت فيه للتعظيم ولذلك قال الطيبي : أحسن ما قيل في توجيه ذلك قول صاحب "المفتاح" قال ذلك الكتاب ذهاباً إلى بعده درجة وقيل : وقعت الإشارة إلى {ألم} بعدما سبق التكلم به وتقضى ، والمنقضي في حكم المتباعد ، وهذا في كل كلام يحدّث الرجل بحديث ثم يقول : وذلك ما لا شك فيه ويحسب الحاسب ثم يقول : فذلك كذا وكذا وقال تعالى : {لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك} (البقرة ، 68) وقال نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم {لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي} (يوسف ، 37) ولأنه لما وصل من المرسل سبحانه وتعالى إلى المرسل إليه صلى الله عليه وسلم وقع في حدّ البعد كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئاً : احتفظ بذلك أي : تمسك به ، وقيل : معناه ذلك
24
الكتاب الموعود إنزاله بقوله تعالى : {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} (المزمل ، 5) أو في الكتب المتقدّمة لأن سورة البقرة مدنية كما مرّ وأكثرها احتجاج على اليهود وعلى بني إسرائيل وقد كانت بنو إسرائيل أخبرهم موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام إن الله يرسل محمداً وينزل عليه كتاباً فقال تعالى : {ذلك الكتاب} أي : الذي أخبر الأنبياء المتقدّمون بأن الله سينزله على النبيّ المبعوث من ولد إسماعيل وقيل : إنه تعالى لما أخبر عن القرآن بأنه في اللوح المحفوظ بقوله : وإنه في أمّ الكتاب لدينا وقد كان صلى الله عليه وسلم أخبر أمته بذلك فغير ممتنع أن يقول تعالى : {ذلك الكتاب} ليعلم أن هذا المنزل هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ. والكتاب مصدر سمي به المفعول للمبالغة أو فعال بني للمفعول كاللباس ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه مما يكتب ، وأصل الكتب الضمّ والجمع ، سمي الكتاب كتاباً لأنه جمع حرف إلى حرف والكتاب جاء في القرآن على وجوه ؛ أحدها : الفرض قال تعالى : {كتب عليكم القصاص} (البقرة ، 187) {كتب عليكم الصيام} (البقرة ، 183) {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} (النساء ، 103) وثانيها : الحجة والبرهان قال تعالى : {فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين} (الصافات ، 157) أي : برهانكم ، وثالثها : الأجل قال تعالى : {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} (الحجر ، 4) أي : أجل ، ورابعها : بمعنى مكاتبة السيد رقيقه ، قال تعالى : {والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم} (النور ، 33) .
جزء : 1 رقم الصفحة : 23(1/20)
فإن قيل : كيف نفى الريب على سبيل الاستغراق وكم من مرتاب فيه ؟
أجيب : بأنّ الله تعالى ما نفى أن أحداً لا يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له لأنه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه ألا ترى إلى قوله تعالى : {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} (البقرة ، 23) فإنه لم ينف عنهم الريب بل أرشدهم إلى الطريق المزيح للريب وهو أن يجتهدوا في معارضة سورة من سوره ويبذلوا فيها غاية جهدهم حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة وقيل : هو خبر بمعنى النهي أي : لا ترتابوا فيه كقوله تعالى : {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} (البقرة ، 197) أي : لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا. والريب في الأصل مصدر رابني الشيء إذا حصل فيه الريبة وهي قلق النفس واضطرابها سمي به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة ، وفي الحديث : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإنّ الشك ريبة والصدق طمأنينة" ، رواه الترمذي لكن بلفظ فإنّ الصدق طمأنينة والكذب ريبة وصححه ، ومعناه : اترك ما فيه شك إلى ما لا شك فيه فإذا ارتابت نفسك في شيء فاتركه أو اطمأنت إليه فافعله فإنّ نفس المؤمن تطمئن إلى الصدق وترتاب من الكذب وهذا مخصوص بذوي النفوس الشريفة القدسية الطاهرة.
تنبيه : جملة النفي خبر مبتدؤه ذلك و{هدى} خبر ثانٍ أي هادٍ {للمتقين} الصائرين إلى التقوى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي لاتقائهم بذلك النار. وتخصيص المتقين بالذكر تشريفاً لهم ولأنهم هم المنتفعون بالهدى كما قال تعالى : {إنما أنت منذر من يخشاها} (النازعات ، 45) وقال تعالى : {إنما تنذر من اتبع الذكر} (يس ، 11) وقد كان صلى الله عليه وسلم منذراً لكل الناس لأنّ هؤلاء هم الذين انتفعوا بإنذاره.
25
ولها ثلاث مراتب :
الأولى : التوقي من العذاب المخلد بالتبري عن الشرك وعليه قوله تعالى : {وألزمهم كلمة التقوى} (الفتح ، 26) .
والثانية : التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم ، وهذا التجنب هو المتعارف بالتقوى في الشرع وهو المعنى بقوله تعالى : {ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا} (المائدة ، 65) (الأعراف ، 96) وعلى هذا قول عمر بن عبد العزيز : التقوى ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير.
والثالثة : أن يتنزه عما يشغل سرّه عن الحق تعالى وهذه هي التقوى الحقيقية المطلوبة بقوله تعالى : {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} (آل عمران ، 102) وقال ابن عمر : التقوى أن لا ترى نفسك خيراً من أحد. قرأ ابن كثير : فيه هدى ، فيصل الهاء من فيه بياء في الوصل لأنها مكسورة وقبلها ساكن فإن كانت هاء الكناية مضمومة وقبلها ساكن وصلها بواو فإن كان قبلها متحرّك وبعدها متحرّك فجميع القرّاء يصلونها مكسورة بياء ويصلونها مضمومة بواو ، فمثال المكسورة به أن يوصل ، ومثال المضمومة قال له صاحبه وهو وما أشبه ذلك ، فإن كان قبلها متحرّك وبعدها ساكن فالجميع على عدم الصلة مثال ذلك به الله وله الملك وما أشبه ذلك ، ويدغم أبو عمرو الهاء في الهاء بخلاف عنه ، وكذا كل مثلين ما لم يكن الحرف المدغم تاء متكلم مثل : كنت تراباً أو تاء مخاطب مثل أفأنت تكره الناس أو منوّناً مثل : سميع عليم أو مشدّداً مثل : فتمّ ميقات ربه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 23
ثم وصف المتقين بما هو شأنهم بقوله : {الذين يؤمنون بالغيب} أي : يصدّقون بما غاب عنهم من البعث والجزاء والجنة والنار والصراط والميزان ، والإيمان لغة التصديق وشرعاً قيل : التصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم كالتوحيد والنبوّة والبعث والجزاء ومجموع ثلاثة أمور اعتقاد الحق والإقرار به والعمل بمقتضاه عند جمهور المحدّثين والمعتزلة والخوارج والأصح أنه التصديق وحده ، ويدل له أنه تعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال : {كتب في قلوبهم الإيمان} (المجادلة ، 22) وقال : {وقلبه مطمئن بالإيمان} (النحل ، 106) وقال : {ولم تؤمن قلوبهم} (المائدة ، 41) وعطف عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى وقرنه بالمعاصي فقال : {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} (الحجرات ، 9) {يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} (البقرة ، 178) فلو لم يكن الإيمان التصديق فقط بل هو وترك المعاصي لم يكونوا مؤمنين.(1/21)
فإن قيل : قال الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه وغيره : إنّ الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص ، أجيب : بأن ذلك محمول على الإيمان الكامل. وقرأ ورش والسوسي بإبدال الهمزة الساكنة في يؤمنون واواً وكذا يقرأ حمزة في الوقف {ويقيمون الصلاة} أي يديمونها ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها وأركانها وهاتها يقال : قام بالأمر وأقامه إذا أتى به يعطي حقوقه لأنّ الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن وحقوقها الباطنة كالخشوع والإقبال على الله تعالى لا المصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون ، ولذلك ذكر في سياق المدح {والمقيمين الصلاة} (النساء ، 162) وفي معرض الذمّ {فويل للمصلين} (الماعون ، 4) والمراد بها الصلوات الخمس ذكر بلفظ الوحدان كقوله تعالى : {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق} (البقرة ، 213) يعني : الكتب ، والصلاة في اللغة : الدعاء ، قال الله تعالى : {وصل عليهم}
26
(التوبة ، 103) أي : ادع لهم ، وفي الشرع إسم لأفعال وأقوال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم. وقرأ ورش بتغليظ اللام في الصلاة حيث جاء {ومما رزقناهم} أي : أعطيناهم {ينفقون} يخرجون المال في طاعة الله فرضاً كان أو نفلاً ، ومن فسره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه أو خصصه بها لاقترانها بالصلاة لأنهما يذكران معاً في القرآن ويحتمل أن يراد به الانفاق مما منحهم الله من النعم الظاهرة والباطنة ، ويؤيده ما رواه الطبرانيّ في "الأوسط" مرفوعاً : "مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه" وإلى هذا ذهب من قال : ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون. والرزق بالكسر في اللغة : الحظ ، قال الله تعالى : {وتجعلون رزقكم } ـ أي : حظكم ونصيبكم ـ من القرآن أنكم تكذبون (النحل ، 75) وأمّا بالفتح فهو مصدر بمعنى إعطاء الحظ كما أنه بالكسر يكون مصدراً أيضاً كما قيل به في قوله تعالى : {ومن رزقناه منا رزقاً حسناً} () وفي العرف اسم لكل ما ينتفع به حتى الولد والرقيق ، والمعتزلة لما استحالوا من الله أن يمكن من الحرام لأنه تعالى منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه ، قالوا : الرزق لا يتناول الحرام ألا ترى أنه تعالى أسند الرزق ههنا إلى نفسه إيذاناً بأنهم ينفقون الحلال الصرف الطيب وأن إنفاق الحرام لا يوجب المدح وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله تعالى : {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً} (يونس ، 59) وأجاب أهل السنة عما ذكر بأن الإسناد التعظيم والتحريض على الإنفاق والذم بتحريم ما لم يحرم واختصاص ما رزقهم بالحلال للقرينة وتمسكوا لشمول الرزق له بما رواه ابن ماجة وغيره من حديث صفوان بن أمية قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه عمرو بن قرّة فقال : يا رسول الله إن الله قد كتب عليّ الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفّي بكفي فأذن لي في الغناء من غير فاحشة فقال : لا آذن لك ولا كرامة ، كذبت أي عدوّ الله لقد رزقك الله حلالاً طيباً فاخترت ما حرّم الله عليك من رزقه مكان ما أحلّ الله لك من حلاله" وبأنه لو لم يكن رزقاً لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقاً وليس كذلك لقوله تعالى : {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} (هود ، 6) .
جزء : 1 رقم الصفحة : 23
تنبيه : تقديم رزقناهم على ينفقون للاهتمام به وللمحافظة على رؤوس الآي وإدخال من التبعيضية عليه للكف عن الإسراف المنهي عنه في حق من لم يصبر على الإضاقة وإلا فليس بإسراف فقد تصدّق أبو بكر رضي الله عنه بجميع ماله ولم ينكر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم
جزء : 1 رقم الصفحة : 23
{والذين يؤمنون بما أنزل إليك} أي القرآن بأسره والشريعة عن آخرها ، وإنما عبر عنه بلفظ المضيّ وإن كان بعضه مترقباً تغليباً للموجود على ما لم يوجد فيكون مجازاً باعتبار تسمية الكل باسم البعض أو تنزيلاً للمنتظر منزلة الواقع فيكون استعارة باعتبار تشبيه غير المتحقق بالمتحقق ، وفي كل من هذين الوجهين جمع بين الحقيقة والمجاز وهو جائز عند الإمام الشافعي رضي الله عنه {وما أنزل من قبلك} أي : التوراة والانجيل وغيرهما من سائر الكتب السابقة على القرآن والإيمان بالإنزالين جملة فرض عين وبالأوّل دون الثاني تفصيلاً من حيث إنا متعبدون بتفاصيله فرض ولكن على الكفاية لأنّ وجوبه على كل أحد يوجب الحرج ويشوش المعاش ، وهذه الآية في المؤمنين من
27
أهل الكتاب كعبد الله ابن سلام وأمثاله.(1/22)
فائدة : الكتب المنزلة مائة وأربعة كتب أنزل على السيد شيث ستون صحيفة وعلى السيد إبراهيم ثلاثون وعلى السيد موسى قبل التوراة عشر فهذه مائة والأربعة الأخرى التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم ، واختلف القرّاء في مدّ وقصر ما أنزل فقالون والدوري عن أبي عمر يمدّان ويقصران ، وابن كثير والسوسي يقصران بلا خلاف وباقي القرّاء وهم ورش وعاصم وحمزة والكسائي يمدُّون بلا خلاف ويتفاوتون في طول المدّ فأطولهم مدّاً ورش وحمزة ودونهما عاصم ودونه ابن عامر والكسائي وهكذا كل مدّ منفصل {وبالآخرة هم يوقنون} أي : يعلمون أنها كائنة لأنّ اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكاً فيه قاله الإمام الرازي ، ولذلك لا يوصف به العلم القديم ولا العلوم الضرورية فلا يقال تيقن الله كذا ولا تيقنت أنّ الكل أكبر من الجزء.
فائدة : سميت الدنيا دنيا لدنوّها من الآخرة وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد فناء الدنيا وهي تأنيث الآخر صفة الدار وبدليل قوله تعالى : {تلك الدار الآخرة} (القصص ، 83) قرأ ورش الآخرة بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها حيث جاء وكذا الأرض ، وقد أفلح ، ومن آمن ، وما أشبه ذلك.
{أولئك} الموصوفون بما ذكر {على هدى} أي : رشد {من ربهم} ونكر هدى للتعظيم فكأنه أريد به ضرب لا يبالغ كنهه ولا يقادر قدره وأكد تعظيمه بأنّ الله مانحه والموفق له.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
تنبيه : جميع القرّاء يمدّون أولئك بلا خلاف لأنه متصل لكن مرتبة ابن كثير وأبي عمرو دون مرتبة ابن عامر والكسائي في المتصل والمنفصل ، وأولاء كلمة معناها الكناية عن جماعة والكاف للخطاب كما في حرف ذلك {وأولئك هم المفلحون} أي : الفائزون بالجنة والناجون من النار كرّر فيه اسم الإشارة تنبيهاً على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضي كل واحد من الاختصاصين وأن كلاً منهما كافٍ في تمييزهم بها عن غيرهم فلا يحتاجون فيه إلى مجموعهما.
فإن قيل : لم وسط العاطف بين هاتين الجملتين دون قوله تعالى : {أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون} (الأعراف ، 179) ؟
أجيب : بأن الجملتين هنا مختلفتان باختلاف المسندين فيهما إذ على هدى من ربهم والمفلحون وإن تناسبتا تعلقاً مختلفتان مفهوماً ووجوداً ومقصوداً لأن الهدى في الدنيا والفلاح في العقبى وإثبات كل منهما مقصود في نفسه بخلاف كالأنعام والغافلون فإنهما وإن اختلفا مفهوماً قد اتحدا مقصوداً ووجوداً إذ لا معنى للتشبيه بالأنعام إلا المبالغة في الغفلة في الدنيا فناسب العطف في الأوّل دون الثاني.
تنبيه : تأمّل كيف نبه سبحانه وتعالى على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد من وجوه شتى بناء الكلام على اسم الإشارة للتعليل مع الإيجاز وتكريره وتعريف الخبر وتوسط الفصل لإظهار قدرهم والترغيب في اقتضاء أثرهم وأصل الفلاح القطع والشق ومنه سمي الزراع فلاحاً لأنه يشق الأرض فهم المقطوع لهم بالخير في الدنيا والآخرة.
ولما ذكر الله تعالى خاصة عباده وخاصة أوليائه بصفاتهم التي أهلتهم للهدى والفلاح عقبهم بذكر أضدادهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا تغني عنهم الآيات والنذر بقوله تعالى :
{إن الذين كفروا} الكفر لغة ستر النعمة وأصله الكفر بالفتح وهو
28
الستر ومنه قيل للزراع والليل كافر ولكمام الثمر كافور ، وفي الشرع إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به ، وينقسم إلى أربعة أقسام : كفر إنكار ، وكفر جحود ، وكفر عناد ، وكفر نفاق ، فكفر الإنكار هو أن لا يعرف الله أصلاً ولا يعترف به ، وكفر الجحود هو أن يعرف الله بقلبه ولا يقرّ بلسانه ككفر إبليس واليهود قال الله تعالى : {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} (البقرة ، 89) وكفر العناد هو أن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث يقول :
*ولقد علمت بأن دين محمد ** من خير أديان البرية دينا*
*لولا الملامة أو حذار مسبة ** لوجدتني سمحاً بذاك مبينا*
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
وأمّا كفر النفاق فهو أن يقرّ باللسان ولا يعتقد بالقلب وجيع هذه الأقسام من لقي الله تعالى بواحد منها لا يغفر له قال الله تعالى : {إن الله لا يغفر أن يشرك به} (النساء ، 48 ـ 116) .(1/23)
تنبيه : احتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي نحو : {إن الذين كفروا} (البقرة ، 6) {إنا نحن نزلنا الذكر} (الحجر ، 9) {إنا أرسلنا نوحاً} (نوح ، 1) على حدوث القرآن لاستدعاء ما جاء فيه بلفظ الماضي سابقية المخبر عنه والقديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بغيره فأجاب أهل السنة : بأن ما جاء فيه بلفظ الماضي مقتضى تعلق الحكم بالخبر عنه وحدوث مقتضى التعلق لا يستلزم حدوث المخبر عنه فلا يستلزم حدوث كلام الله كما في عمله تعالى فإنه قديم ومقتضى تعلقه بغيره حادث والحاصل أنه لا يلزم من حدوث مقتضى التعلق وهو الكلام اللفظيّ حدوث الكلام النفسيّ. {سواء عليهم} أي متساوٍ لديهم {أأنذرتهم أم لم تنذرهم} أي : خوّفتهم وحذرتهم أم لا والإنذار إعلام مع تخويف وتحذير فكل منذر معلم وليس كل معلم منذراً وإنما اقتصر عليه دون البشارة لأنه أوقع في القلب وأشدّ تأثيراً في النفس من حيث أن دفع الضرر أهمّ من جلب النفع فإذا لم ينفع فيهم الإنذار كانت البشارة بعدم النفع أولى {لا يؤمنون} بما جئت به وهذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة الشقاوة في سابق علم الله تعالى كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما فلا تطمع في إيمانهم ، واحتجّ بهذه الآية من جوّز تكليف ما لا يطاق فإنه سبحانه وتعالى أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان فلو آمنوا وقع الخلف في كلامه تعالى وهو محال والحق أن التكليف بالممتنع لذاته جائز عقلاً غير واقع بخلاف التكليف بالممتنع لغيره كالذي تعلق علم الله تعالى بعدم وقوعه فإنه جائز وواقع اتفاقاً.
تنبيه : هاهنا همزتان مفتوحتان من كلمة فقالون وأبو عمرو يسهلان الثانية ويدخلان بينهما ألفاً وكذا ورش وابن كثير إلا أنهما لم يدخلا ألفاً بينهما ولورش وجه آخر وهو أن يبدل الثانية حرف مدّ ، وهشام له وجهان : تسهيل الهمزة الثانية وتحقيقها مع إدخال ألف بينهما والباقون بالتحقيق والقصر وجميع القرّاء يحققون الأولى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 27
29
ثم ذكر سبب تركهم الإيمان بقوله تعالى : {ختم الله على قلوبهم} أي : طبع واستوثق فلا يدخلها إيمان ولا خير ، والختم : الكتم ، سمي به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه لأنه كتم له {وعلى سمعهم} أي : مواضعه فلا ينتفعون بما يسمعونه من الحق ، وقوله تعالى : {وعلى أبصارهم} أي : أعينهم {غشاوة} مبتدأ وخبر أي : على أعينهم غطاءً من عند الله تعالى فلا يبصرون الحق وعبر الله تعالى عن إحداث هذه الهيئة بالطبع في قوله تعالى : {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم} (النحل ، 108) وبالإغفال في قوله تعالى : {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} (الكهف ، 28) وبالإقساء في قوله تعالى : {وجعلنا قلوبهم قاسية} (المائدة ، 13) وهذه الهيئة من حيث أنّ الممكنات بأسرها مستندة إلى الله تعالى واقعة بقدرته أسندت إليه تعالى ومن حيث أنها مسببة عما اقترفوه بدليل قوله تعالى : {بل طبع الله عليها بكفرهم} (النساء ، 155) وقوله تعالى : {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم} (المنافقون ، 3) وردت الآية مظهرة عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم.
فإن قيل : لم وحد السمع دون القلوب والأبصار ؟
أجيب : بأنه على حذف مضاف مثل وعلى حواس سمعهم كمواضعه كما مرّ تقديره أو باعتبار الأصل فإنه مصدر في أصله والمصادر لا تثنى ولا تجمع والأبصار جمع بصر وهو إدراك العين وقد يطلق مجازاً على القوّة الباصرة وعلى العضو وكذا السمع ، قال البيضاويّ : ولعل المراد بهما في الآية العضو لأنه أشدّ مناسبة للختم والتغطية وبالقلب ما هو محل العلم وقد يطلق القلب ويراد به العقل والمعرفة ، كما قال الله تعالى : {إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} (ق ، 37) أي : عقل ، وأمال أبو عمرو ألف أبصارهم وكذا كل ألف بعدها راء مكسورة متطرّفة وإنما جاز إمالتها مع الصاد لأنّ الراء المكسورة تغلب المستعلية لما فيها من التكرير {ولهم عذاب عظيم} أي : قوي دائم في الآخرة وهذا وعيد وبيان لما يستحقونه ، والعذاب كلّ ما يعيي الانسان ويشق عليه ، وقال الخليل : العذاب ما يمنع الإنسان عن مراده ومنه الماء العذب لأنه يمنع العطش وإنما وصف العذاب بالعظيم دون الكبير لأن العظيم فوقه ، لأنّ العظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير ، وإذا كان الحقير مقابلاً للعظيم والصغير ، للكبير كان العظيم فوق الكبير لأنّ العظيم لا يكون حقيراً والكبير قد يكون حقيراً كما أنّ الصغير قد يكون عظيماً ، وتنكير الغشاوة والعذاب للتنويع لأنهما لما قرنا بالختم على القلوب كان المعنى نوعاً عظيماً منه أي : على أبصارهم غشاوة ليس وما يتعارفه الناس وهو التعامي عن الآيات ولهم من الآلام العظام نوع لا يعلم كنهه إلا الله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 29(1/24)
ونزل في المنافقين حكاية لحالهم قوله تعالى : {ومن الناس} أمال أبو عمرو الألف قبل السين المكسورة إمالة محضة ، وهكذا كل ألف مثلها والباقون بالفتح {من يقول آمنا با وباليوم الآخر} أجمع المفسرون على أنّ ذلك وصف المنافقين ، قالوا : صنف الله الأصناف الثلاثة من المؤمنين والكافرين والمنافقين فبدأ بذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم وثنى بأضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً وثلث بالصنف الثالث المذبذب بين القسمين وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلاً للتقسيم ، وهذا الصنف أخبث الكفرة
30
وأبغضهم إلى الله تعالى لأنهم مع مشاركتهم للكفار الأصليين في أنهم جاهلون بالقلب كاذبون باللسان من حيث أنهم ينسبون إلى الله تعالى ما هو بريء منه كالولد ، والزوجة ، والشريك زادوا عليهم بأمور منكرة منها أنهم قصدوا التلبيس ورضوا لأنفسهم بسمة الكذب ولبسوا الكفر على المسلمين فخلطوا به خداعاً واستهزاءً ولذلك طوّل الله في بيان خبثهم وجهلهم واستهزائهم وتهكم بأفعالهم وسجل على عمههم وطغيانهم وضرب لهم الأمثال وأنزل فيهم أنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار. واللام في الناس للجنس ومن موصوفة لا للعهد وكأنه قال تعالى : ومن الناس ناس يقولون ، وقيل : للعهد والمعهود ، هم الذين كفروا ، ومن موصولة مراد بها ابن أبيّ وأصحابه ونظراؤه فإنهم من حيث أنهم صمموا على النفاق دخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم واختصاصهم بزيادة زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس.
فإن قيل : خصت من بالموصوفة على تقدير الجنس ، وبالموصولة على تقدير العهد ، أجيب : بأنّ الجنس لإبهامه يناسب الموصوفة لتنكيرها ، والعهد لتعيينه يناسب الموصولة لتعريفها واختصاص الإيمان بالله وباليوم الآخر بالذكر تخصيص لما هو المقصود الأعظم من الإيمان وادّعاء بأنهم اختاروا الإيمان من المبدأ والمعاد وإئذان بأنهم منافقون فيما يظنون أنهم مخلصون فيه فكيف بما يقصدون به النفاق وهو عدم التصديق بالقلب لأنّ القوم كانوا يهوداً وكانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر إيماناً كلا إيمان لاعتقادهم التشبيه واتخاذ الولد وأنّ الجنة لا يدخلها غيرهم ، وأنّ النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة وغير ذلك ، ويرون المسلمين أنهم آمنوا مثل إيمانهم ، وفي تكرير الباء ادّعاء الإيمان بكل واحد على الأصالة والاستحكام ، والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا ينتهي أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار لأنه آخر الأوقات المحدودة بطرفين {وما هم بمؤمنين} لإبطانهم الكفر ، وهذا إنكار لما ادّعوا إثباته ، ووحد الضمير في يقول نظراً إلى لفظة من لأنها صالحة للتثنية والجمع والواحد وجمع فيما بعدها نظراً إلى معناها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
فإن قيل : كيف طابق قوله وما هم بمؤمنين قولهم : آمنا بالله فإنّ الأوّل في ذكر شأن الفعل لا الفاعل والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل فكان المطابق له وما آمنوا ، أجيب : بأنه إنما عدل إلى ذلك لردّ كلامهم بأبلغ وجه وآكده لأنّ إخراج ذواتهم عن عداد المؤمنين أبلغ من نفي الإيمان عنهم في ماضي الزمان ولذلك أكد النفي بالباء ونظيره قوله تعالى : {يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها} (المائدة ، 37) هو أبلغ من قولك : وما يخرجون منها ، وأطلق الإيمان على معنى أنهم ليسوا من الإيمان في شيء ، ويحتمل أن يقيد بما قيدوا به وهو قوله تعالى : {با وباليوم الآخر} لأنّ وما هم بمؤمنين جوابه ، والآية تدل على أنّ من ادّعى الإيمان وخالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمناً لأنّ من تفوّه بالشهادتين فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه لم يكن مؤمناً.
{يخدعون الله والذين آمنوا} إذ أظهروا خلاف ما أبطنوه من الكفر ليدفعوا عنهم أحكامه الدنيوية ويحقنوا دماءهم ويحفظوا أموالهم ، وأصل الخدع في اللغة الاخفاء ومنه المخدع للبيت الذي يخفى فيه المتاع ، فالمخادع أظهر خلاف ما يضمر والمخادعة تكون بين اثنين وخداعهم مع الله ليس على ظاهره لأنه تعالى لا يخفى عليه خافية ولأنهم لم يقصدوا خديعته بل المراد إمّا مخادعة رسوله أو أوليائه على حذف المضاف لأنهم لم يعتقدوا أنّ الله بعث الرسول إليهم فلم يكن قصدهم في نفاقهم مخادعة الله تعالى فعلم أنّ خداعهم مع الله ليس المراد ظاهره كما في قوله تعالى : {واسأل القرية} (يوسف ، 82) أي : أهلها أو على أنّ معاملة الرسول معاملة الله تعالى من
31(1/25)
حيث أنه خليفته كما قال تعالى : {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء ، 80) {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} (الفتح ، 10) وأمّا أنّ صورة صنيعهم مع الله تعالى من إظهار الإيمان واستبطان الكفر وصنيع الله معهم من إجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أخبث الكفار وأهل الدرك الأسفل من النار استدراجاً لهم وامتثال الرسول والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم وإجراء حكم الإسلام مجاراة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المتخادعين ، ويحتمل أن يراد بيخادعون يخدعون لأنه بيان ليقول أو استئناف بذكر ما هو الغرض منه إلا أنه أخرج في زنة فاعل للمبالغة فإن الزنة لما كانت للمغالبة والفعل متى غولب فيه كان أبلغ منه إذا جاء بلا مغابلة معارض استصحبت الزنة ما ذكر من المبالغة وقال الجلال المحلى : والمخادعة هنا من واحد كعاقبت اللص وذكر الله فيها تحسين. {وما يخدعون إلا إنفسهم} لأنّ وبال خداعهم راجع عليهم فيفتضحون في الدنيا باطلاع نبيه على ما أبطنوه ويعاقبون في الآخرة والنفس ذات الشيء وحقيقته. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بضمّ الياء وفتح الخاء وألف بعدها وكسر الدال ، وقرأ الباقون وهم عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وما يخدعون بفتح الياء وسكون الخاء ولا ألف بعدها وفتح الدال ولا خلاف بين القرّاء في الكلمة الأولى وهي يخادعون الله فالجميع قرؤوا بضمّ الياء وفتح الخاء وألف بعدها وكسر الدال وأمّا الرسم في الموضعين فبغير ألف {وما يشعرون} أي : لا يحسون بمعنى لا يعلمون أنّ خداعهم لأنفسهم لتمادي غفلتهم جعل لحوق وبال الخداع ورجوع ضرره إليهم في الظهور كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على مؤف الحواس وهو المصاب بآفة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
{في قلوبهم مرض} (سورة : الآيتان 10 ، 13) أي : شك ونفاق لأن ذلك يمرض قلوبهم أي : يضعفها ، والمرض حقيقة هو فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص به ويوجب الخلل في أفعاله ومجاز في الأعراض النفسانية التي تخل بكمال أفعالها كالجهل وسوء العقيدة والحسد والبغض وحب المعاصي لأنها مانعة من نيل الفضائل أو مؤدّية إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية ، والآية تحتمل الحقيقة والمجاز وعلى المجاز اقتصر أكثر المفسرين لأنه أبلغ من الحقيقة {فزادهم الله مرضاً} بما أنزل من القرآن لأنه كلما أنزل آية كفروا بها فازدادوا شكاً ونفاقاً وإسناد الزيادة إلى الله تعالى من حيث أنه خلقها وأوجدها وإلى السورة في قوله تعالى : {فزادتهم رجساً} (التوبة ، 125) لكونها سبباً ، وقرأ حمزة وابن ذكوان بإمالة الألف التي بعد الزاي محضة ، والباقون بالفتح {ولهم عذاب أليم} أي : مؤلم بفتح اللام وصف به العذاب للمبالغة إذ الألم إنما هو للمعذب حقيقة لا للعذاب فنسبة الألم إلى العذاب مجاز ويجوز كسر لام مؤلم كسميع بمعنى مسمع وعليه فنسبة الأليم إلى العذاب حقيقة {بما كانوا يكذبون} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضمّ الياء وفتح الكاف وتشديد الذال أي : بتكذيبهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقرأ الباقون بفتح الياء وسكون الكاف وتخفيف الذال أي : بكذبهم في قولهم : آمنا لأنّ الإيمان التصديق بالقلب والكذب هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به ، قال البيضاويّ تبعاً للزمخشري : وهو حرام كله لأنه علل به استحقاق العذاب حيث رتب على الكذب وما روي أنّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام كذب ثلاث كذبات أي : لما روى البخاريّ ومسلم في حديث الشفاعة "فيقول إبراهيم : إني كذبت ثلاث كذبات" وذكر
32
قوله في الكوكب : هذا ربي ، وقوله : بل فعله كبيرهم هذا ، وقوله : إني سقيم ، فالمراد التعريض أي : وهو اللفظ المشار به إلى جانب والغرض جانب آخر ، وقيل : هو خلاف التصريح وهو تضمين الكلام دلالة ليس لها ذكر وسمي تعريضاً لما فيه من التعريض عن المطلوب ، ولكن لما شابه الكذب في صورته سمي به ، انتهى. وهذا ليس على إطلاقه فإن من الكذب ما هو مباح وما هو مندوب وما هو واجب وما هو حرام لأن الكلام وسيلة إلى المقصود فكل مقصود محمود إن أمكن التوصل إليه بالصدق ، فالكذب فيه حرام ، وإن لم يمكن إلا بالكذب فهو مباح إن كان المقصود مباحاً ، ومندوب إن كان المقصود مندوباً ، وواجب إن كان المقصود واجباً ، وفي حديث الطبرانيّ في "الكبير" "كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاثاً ، الرجل يكذب في الحرب فإن الحرب خدعة ، والرجل يكذب على المرأة فيرضيها ، والرجل يكذب بين الرجلين فيصلح بينهما" ، وفي حديث في "الأوسط" "الكذب كله إثم إلا ما نفع به مسلم أو دفع به عن دينه".
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 32(1/26)
وإذا قيل لهم} أي : لهؤلاء فهو عطف تفسير على يكذبون فمحله نصب لكونه معطوفاً على خبر كان ، فيكون جزءاً من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم ، أو على يقول ، فلا محلّ له من الإعراب لكونه معطوفاً على صلة من فلا يكون جزءاً من السبب ، والقائل هو الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو بعض المؤمنين ، {لا تفسدوا في الأرض} بالكفر والتعويق عن الإيمان ، والفساد خروج الشيء عن الاعتدال ، والصلاح ضدّه ، والفساد يعمّ كل ضارّ ، والصلاح يعمّ كل نافع ، وكان من إفسادهم في الأرض إثارة الحروب والفتن بمخادعة المسلمين ، ومعاونة الكفار المتمحض كفرهم على المسلمين فإن ما ذكر يؤدّي إلى فساد ما في الأرض من الناس والدواب والحرث ، ومنه إظهار المعاصي والإهانة بالدين فإنّ الإخلال بالشرائع والإعراض عنها وما يوجب القتل والاختلاط ويخل بنظام العالم لا أن ذلك إفساد لأن الإفساد جعل الشيء فاسداً وصنيعهم لم يكن كذلك ، فقوله تعالى : {لا تفسدوا في الأرض} مجاز باعتبار المآل أي : لا تفعلوا ما يؤدّي إلى الفساد وليس معنى الإفساد هنا الإتيان بالفساد ليصح حمل الكلام على الحقيقة ، نبه على ذلك السعد التفتازاني {قالوا إنما نحن مصلحون} جواب لإذا ورد للناصح على سبيل المبالغة والمعنى أنه لا يصح مخاطبتنا بذلك فإن شأننا ليس إلا الإصلاح وإن حالتنا متمحضة عن شوائب الفساد لأن إنما تفيد قصر ما دخله على ما بعده مثل إنما زيد منطلق وإنما ينطلق زيد ، وإنما قالوا ذلك لأنهم تصوّروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض كما قال تعالى : {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً} (فاطر ، 8) .
قال الله تعالى يردّ عليهم أبلغ ردّ : {ألا إنهم هم المفسدون} أي : بما ذكر {ولكن لا يشعرون} أي : لا يفطنون بمعنى لا يعلمون أنهم هم المفسدون بذلك أي : لأنهم يظنون أن الذي هم عليه من إبطان الكفر صلاح ، وقيل : لا يعلمون ما أعدّ الله لهم من العذاب ووجه الأبلغية في ذلك تصديره بألا المنبهة على تحقيق ما بعدها فإن همزة الاستفهام التي للإنكار إذا دخلت على
33
النفي أفادت تحقيقاً وبأنّ المقرّرة للنسبة وتعريف الخبر وتوسط ضمير الفصل والاستدراك بلا يشعرون.
{وإذا قيل لهم آمنوا} هذا من تمام النصح والإرشاد فإنّ كمال الإيمان بمجموع أمرين : الإعراض عما لا ينبغي وهو المقصود بقوله : لا تفسدوا والإتيان بما ينبغي وهو المطلوب بقوله : {آمنوا}. {كما آمن الناس} أي : كإيمان الناس الكاملين في الإنسانية الموافق باطنهم فيه لظاهرهم العاملين بقضية العقل ، فاللام في الناس للجنس فإنّ اسم الجنس كما يستعمل لمسماه مطلقاً يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة منه ، أو للعهد ، والمراد به الرسول ومن معه ، أو عبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب. وقرأ هشام والكسائي : قيل ، بإشمام القاف وهو أن تضم القاف قبل الباء ، ولورش في الهمزة من آمنوا وآمن المدّ والتوسط والقصر {قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء} أي : الجهال ، فاللام في السفهاء للعهد وهم من تقدّم ، أو لجنس السفهاء بأسرهم وإنما سفهوهم لاعتقاد فساد رأيهم ، أو لتحقير شأنهم فإنّ أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موال كصهيب وبلال أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأشياعه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 32
قال الله تعالى رداً عليهم أبلغ رد : {ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} أنهم سفهاء بما فعلوه من إبطان غير ما أظهروه ، ووجه الأبلغية في تجهيلهم أنّ الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع أعظم ضلالة وأتم جهالة من المتوقف المعترف بجهله فإنه ربما يعذر وتنفعه الآيات والنذر.
فإن قيل : كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقولهم : أنؤمن كما آمن السفهاء ؟
أجيب : بأنّ هذا القول كانوا يقولونه فيما بينهم لا عند المؤمنين فأخبر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بذلك والسفه خفة وسخافة رأي يقتضيهما نقصان العقل والعلم يقابله.
فإن قيل : لم عبر في هذه الآية بلا يعلمون وفي التي قبلها بلا يشعرون ؟
أجيب : بأنّ التعبير بلا يعلمون أكثر مطابقة لذكر السفه لأن السفه جهل فطابقه العلم ولأنّ أمر الإيمان أخروي يحتاج إلى دقة نظر ، فعبر في الآية التي اشتملت عليه بلا يعلمون ، وأمر البغي والفساد دنيوي فهو كالمحسوس لا يحتاج إلى دقة نظر ، فعبر في الآية التي اشتملت عليه بلا يشعرون ، ويشعر مضارع شعر ، يقال : شعرت كذا ، أي : حسست به أو أدركته ، أي : فطنت له ، وقد استعمل بالمعنى الأوّل في قوله : {وما يشعرون} وفي الثاني بقوله : {لا يشعرون} كما يعلم مما به قررته في الآيتين ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي : السفهاء ألا ، بتحقيق الهمزتين ، وكذا كل همزتين وقعتا في كلمتين اتفقتا أو اختلفتا ، والباقون وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو وبإبدال الثانية واواً خالصة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 32
34(1/27)
{وإذا لقوا الذين آمنوا} اللقاء المصادقة وهي الإجتماع من غير مواعدة يقال : لقيته ولاقيته إذا صادفته واستقبلته ، وأصل لقوا لقيوا حذف الضمة للاستثقال ثم الياء لالتقائها ساكنة مع الواو {قالوا آمنا} أي : كإيمانكم {وإذا خلوا} منهم ورجعوا {إلى شياطينهم} أي : الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم وهم المظهرون كفرهم وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر ، أو كبار المنافقين والقائلون صغارهم {قالوا إنا معكم} أي : في الدين والاعتقاد خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية ومماثلي الشياطين بالجملة الاسمية المؤكدة بأنّ لأنهم قصدوا بالأولى دعوى إحداث الإيمان ، وقصدوا بالثانية تحقيق ثباتهم على ما كانوا عليه ، ولأنه لم يكن لهم باعث من عقيدة وصدق ورغبة فيما خاطبوا به المؤمنين ولا توقع رواج ادّعاء الكمال في الإيمان على المؤمنين من المهاجرين والأنصار بخلاف ما قالوه مع الكفار {إنما نحن مستهزئون} بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أي : نسخر بهم بإظهارنا الإسلام لأنّ المستهزىء بالشيء المستخف به مصرّ على خلافه فهذا تأكيد لما قبله أو بدل منه لأنّ من حقر الإسلام فقد عظم الكفر ، أو استئناف فكأنّ الشياطين قالوا لهم لما قالوا : إنا معكم ، إن صح ذلك : فما بالكم توافقون المؤمنين وتدّعون الإيمان فأجابوا بذلك.
تنبيه : بين سبحانه وتعالى بهذه الآية معاملة المنافقين مع المؤمنين والكفار ، روى الواحديّ وغيره ولكن بسند ضعيف "أن ابن أبيّ وأصحابه استقبلهم نفر من الصحابة فقال لقومه : انظروا كيف أردّ هؤلاء السفهاء عنكم فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه وقال : مرحباً بالصدّيق سيد بني تيم وشيخ الاسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه فقال : مرحباً بسيد بني عديّ الفاروق القويّ في دينه الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذ بيد عليّ رضي الله تعالى عنه فقال : مرحباً بابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه" أي : ـ زوج بنته عند العامّة وعند العرب كل من كان من قبل المرأة ـ وكل منهما صحيح هنا ، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وما صدّر به قوله تعالى : {ومن الناس من يقول آمنا} فمسوق لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم فليس بتكرير.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 34
الله يستهزىء بهم} أي : يجازيهم على استهزائهم ، سمي جزاء الاستهزاء باسمه كما سمي جزاء السيئة بسيئة ، إما لمقابلة اللفظ باللفظ أو لكونه مماثلاً له في القدر ومثل هذا يسمى مشاكلة أو ينزل بهم الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء والغرض منه أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزىء بهم أو يعاملهم معاملة المستهزىء ، أما في الدنيا فبإجراء أحكام الإسلام عليهم واستدراجهم بالإمهال والزيادة في النعمة مع التمادي في الطغيان ، وأمّا في الآخرة فبأن يفتح لهم وهم في النار باباً إلى الجنة فيسرعون نحوه فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب وذلك قوله تعالى : {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} (المصطففين ، 34) وإنما استؤنف به ولم يعطف ليدل على أنه تعالى تولى مجازاتهم ولم يحوج المؤمنين أن يعارضوهم وأنّ استهزاءهم لا يبالي به لحقارتهم {ويمدّهم في طغيانهم} أي : في ضلالاتهم {يعمهون} يتردّدون متحيرين ، والطغيان بالضم والكسر تجاوز الحدّ في العصيان والغلوّ في الكفر ، وأصله تجاوز الشيء عن مكانه ، قال تعالى : {إنا لما طغى الماء حملناكم} (الحاقة ، 11) قال البيضاوي : والعمه في البصيرة كالعمى في البصر وهو التحير في الأمر يقال : رجل عامه وعمه وأرض عمهاء لا منار لها اه. وظاهر كلامه اختصاص
35
العمه بالبصيرة والعمى بالبصر وهو ما ذكره ابن عطية فبينهما تباين ، وقال الإمام وغيره : العمه في البصيرة والعمى عام فيها وفي البصر ، فبينهما عموم مطلق وأمال الدوري عن الكسائي ألف طغيانهم إمالة محضة وفتحها الباقون.(1/28)
{أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} أي : اختاروها عليه واستبدلوها به. وأصل الشراء بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان فإن كان أحد العوضين ناضاً تعين من حيث أنه لا يطلب لعينه أن يكون ثمناً وبذله اشتراء وإلا فالثمن ما دخلت عليه الباء فباذله مشتر وآخذه بائع ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشيء طمعاً في غيره ، والمعنى أنهم أخلوا بالهدى الذي جعله الله لهم بالفطرة التي فطر الناس عليها محصلين الضلالة التي ذهبوا إليها واختاروا الضلالة واستحبوها على الهدى ، وأمال ألف الهدى حمزة والكسائي محضة ، وورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح {فما ربحت تجارتهم} أي : ما ربحوا فيها. والتجارة : التصرف بالبيع والشراء ، والربح الفضل على رأس المال ، وإسناده إلى التجارة وهو لأربابها على سبيل الاتساع لتلبسها بالفاعل أو لمشابهتها إياه من حيث أنها سبب للربح والخسران واتفق القرّاء على إدغام التاء في التاء وكذا كل مثلين الأوّل منهما ساكن {وما كانوا مهتدين} لطرق التجارة فإنّ المقصود منها سلامة رأس المال والربح وهؤلاء قد أضاعوا الأمرين لأنّ رأس مالهم كان الفطرة السليمة والعقل الصرف فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعداهم واختل عقلهم ولم يبق لهم رأس مال يتوصلون به إلى إدراك الحق ونيل الكمال فبقوا خاسرين آيسين عن الربح فاقدين للأصل.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 34
مثلهم} أي : شبههم وصفتهم في نفاقهم {كمثل الذي} بمعنى الذين بدليل سياق الآية ونظيره {والذي جاء بالصدق وصدّق به أولئك هم المتقون} (الزمر ، 33) ، وقوله تعالى : {وخضتم كالذي خاضوا} (التوبة ، 69) أو قصد به جنس المستوقد أو الفوج الذي {استوقد} أي : أوقد {ناراً} في ظلمة لما جاء بحقيقة حالهم عقبها بضرب المثل وهو بيان تصوير تلك الحقيقة وإبرازها في معرض المشاهد المحسوس زيادة في التوضيح والتقرير فإنه أوقع في القلب وأقمع للخصم ، قال البيضاوي : والاستيقاد طلب الوقود والسعي في تحصيله وهو سطوع النار وارتفاع لهبها. اه. والأكثر على أنّ استوقد هنا بمعنى أوقد كما قدرته لا بمعنى طلب الوقود {فلما أضاءت} أي : أنارت النار ، وأضاء لازم ومتعدّ ، يقال : أضاء الشيء بنفسه وأضاءه غيره {ما حوله} أي : المستوقد فأبصر واستدفأ وأمن ما يخافه {ذهب الله بنورهم} أي : أطفأه وهذا جواب لما وإسناد الإذهاب إلى الله تعالى ، إما لأن الكل بفعله أو لأن الإطفاء حصل بسبب خفيّ أو أمر سماوي كريح أو مطر أو للمبالغة ولذلك عدي الفعل بالباء دون الهمزة لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك ، يقال : ذهب السلطان بماله إذا أخذه وأمسكه وما أخذه الله تعالى وأمسكه فلا مرسل له ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى اللفظ إلى النور فإنه لو قيل : ذهب الله بضوئهم احتمل ذهابه بما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نوراً ، والغرض إزالة النور عنهم رأساً ألا ترى كيف قرّر ذلك وأكده بقوله تعالى : {وتركهم في ظلمات لا يبصرون} ما حولهم متحيرين عن الطريق خائفين فذكر الظلمة التي هي عدم النور وانطماسه بالكلية ، وكيف جمع الظلمة ، وكيف نكرها ، وكيف أتبعها بما يدل على أنها ظلمة خالصة وهو قوله : {لا يبصرون} وظلماتهم : ظلمة الكفر ؛ وظلمة النفاق ؛ وظلمة يوم القيامة يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبإيمانهم ، أو ظلمة الضلال ؛ وظلمة سخط الله ؛ وظلمة
36
العقاب السرمدي ، أو ظلمة شديدة كأنها ظلمات متراكمة ، والآية وهي قوله : {مثلهم} إلخ مثل ضربه الله لإيمان المنافقين من حيث أنه يعود عليهم بحقن الدماء وسلامة الأموال والأولاد ومشاركة المسلمين في المغانم والأحكام بالنار الموقدة للاستضاءة ولذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها ، هذا هو الوارد ، أخرجه ابن جرير عن ابن عباس ، وقيل : مثل ضربه الله لمن آتاه ضرباً من الهدى وأضاعه ولم يتوصل به إلى نعيم الأبد فبقي متحيراً متحسراً تقريراً وتوبيخاً لما تضمنه قوله تعالى : {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} إلخ.. ويدخل تحت عموم ما تضمنته الآية هؤلاء المنافقون فإنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق باستبطان الكفر وإظهاره حين خلوا إلى شياطينهم ومن آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة أو ارتدّ عن دينه بعدما آمن. وقرأ ورش بترقيق راء يبصرون.
جزء : 1 رقم الصفحة : 34(1/29)
هم {صم} عن الحق فلا يسمعونه سماع قبول ، وأصل الصمم صلابة من اجتماع الأجزاء ومنه قيل : حجر أصم وقناة صماء وصمام القارورة سمي به فقدان حاسة السمع لأنّ سببه أن يكون باطن الصماخ مجتمعاً لا تجويف فيه يشتمل على هواء يسمع الصوت بتموّجه {بكم} خرس عن الخير فلا يقولونه ، والخرس في الأصل عدم القدرة على النطق {عمي} عن طريق الهدى فلا يرونه ، والعمى في الأصل عدم البصر عما من شأن أن يبصر ، وقد يقال لعدم البصيرة {فهم لا يرجعون} أي : لا يعودون إلى الهدى الذي باعوه وضيعوه أو عن الضلالة التي اشتروها.
{أو} مثلهم {كصيب} فهو معطوف على الذي استوقد أي : كمثل أصحاب صيب لقوله : {يجعلون أصابعهم في آذانهم} وأوفى الأصل للتساوي للشك ، ثم اتسع فيها فأطلق للتساوي من غير شك مثل جالس الحسن أو ابن سيرين ، وقوله تعالى : {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} (الإنسان ، 24) فإنه يفيد التساوي في حسن المجالسة في المثال الأول ووجوب العصيان في الثاني ومن ذلك قوله : {أو كصيب من السماء} ومعناه بقرينة السياق أنّ قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين وأنهما سواء في صحة التشبيه بهما وأنت مخير في التمثيل بهما أو بأيتهما شئت وإن كان الثاني أبلغ كما قاله الزمخشري ، قال : لأنه أدل على فرط الحيرة وشدّة الأمر وفظاعته ، والصيب أصله صيوب من صاب يصوب وهو النزول ، يقال للمطر وللسحاب ، والآية تحتملهما ، أي ينزل {من السماء} ذلك فإن قدّرت الصيب بالمطر فالمراد بالسماء السحاب وإنّ قدرته بالسحاب فالمراد السماء بعينها والسماء كل ما علاك وأظلك وهي من أسماء الأجناس فيكون واحداً وجمعاً {فيه} أي : الصيب ، وقيل : السماء {ظلمات} جمع ظلمة فإن أريد بالصيب المطر فظلماته ظلمة تكاثفه بتتابع القطر وظلمة غمامه مع ظلمة الليل وإن أريد به السحاب فظلماته سواده وتكاثفه مع ظلمة الليل {ورعد} وهو صوت يسمع من السحاب قال البيضاوي : والمشهور أنّ سببه اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا ساقها الريح من الارتعاد {وبرق} وهو ما يلمع من السحاب من برق الشيء بريقاً ، هذا ما جرى عليه الجوهري وغيره ، وهو المناسب هنا وإن أطلق الرعد على الملك أيضاً فهو مشترك بين الصوت المذكور والملك الثابت في الأحاديث ، ففي بعضها : أنه ملك موكل بالسحاب بيده مخراق من نار يزجر به السحاب بسوقه إلى حيث شاء الله وصوته ما يسمع ، وفي بعضها : أنه ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه ، وفي بعضها : أنه ملك يسوق السحاب بالتسبيح كما يسوق الحادي الإبل بحدائه ، وفي بعضها : أنه ملك مسمى به وهو الذي تسمعون صوته {يجعلون} أي : أصحاب الصيب
37
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 37
أصابعهم} أي : أناملها وإنما أطلق الأصابع موضع الأنامل للمبالغة لما في ذلك من الإشعار بدخول أصابعهم فوق المعتاد فراراً من شدّة الصوت {في آذانهم} وقوله : {من الصواعق} متعلق بيجعلون أي : من أجلها يجعلون وهو جمع صاعقة وهي الصيحة التي يموت من يسمعها أو يغشى عليه ويقال لكل عذاب مهلك : صاعقة وقيل : الصاعقة قطعة عذاب ينزلها الله تعالى على من يشاء. روي عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله تعالى عنهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الرعد والصواعق قال : اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك. وأمال الدوريّ عن الكسائي الألف التي بعد الذال في آذانهم إمالة محضة ، والباقون بالفتح. وقوله تعالى : {حذر الموت} نصب على العلة كقول الشاعر :
*وأغفر (أي : أستر) عوراء الكريم ادخاره ** وأعرض عن شتم اللئم تكرما*(1/30)
قال البيضاوي : والموت زوال الحياة ، زاد في "الطوالع" : عما من شأنه الحياة وفيه تساهل إذ يلزم منه أن يكون الجنين قبل حلول الحياة فيه ميتاً ، والأظهر كما في "شرح المواقف" أن يقال : عدم الحياة عما اتصف بها بالفعل فبينهما تقابل العدم والملكة على التفسيرين ، وقيل : عرض يضادّها فبينهما تقابل التضاد لقوله تعالى : {خلق الموت والحياة} (الملك ، 2) فجعل الموت مخلوقاً والعدم لا يخلق وردّ بأنّ الخلق بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد والإعدام مقدّرة ولو سلم بأنه بمعنى الإيجاد فالمعنى خلق أسباب الموت والحياة وبذلك علم أنّ القول الأوّل هو المعتمد وكلام أئمة اللغة طافح به وحاصله أنّ الموت مفارقة الروح الجسد وما ورد في الأحاديث من أنه جسم ؛ حيث قيل في بعضها : إنه كبش ، وفي بعضها : إنه على صورة كبش لا يمر على أحد إلا مات فمؤوّل بأنه لم يقصد بالموت فيها حقيقته بل قصد أنه يصوّر بصورة كبش كما في خبر الشيخين وغيرهما "أنه يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار" إلخ... {وا محيط بالكافرين} علماً وقدرة فلا يفوتونه كما لا يفوت المحاط ، به المحيط لا يخلصهم الخداع والحيل ، وقيل : مهلكم دليله قوله تعالى : {إلا أن يحاط بكم} (يوسف ، 66) أي : تهلكوا ، والجملة اعتراضية لا محل لها ، قال أبو حيان : لأنها دخلت بين هاتين الجملتين ، وهما يجعلون أصابعهم ويكاد البرق وهما من قصة واحدة ، ويميل ورش الألف بعد الكاف بين بين وكذا الكافرين حيث جاء ، وقرأ أبو عمرو والدوري عن الكسائي بالإمالة المحضة فيهما حيث جاء ، والباقون بالفتح.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 37
يكاد البرق} يقرب لأن كاد من أفعال المقاربة وضعت لمقاربة الخبر من الوجود لحصول سببه لكنه لم يوجد إما لفقد شرط أو لعروض مانع وخبرها مشروط فيه أن يكون فعلاً مضارعاً تنبيهاً على أنه المقصود بالقرب {يخطف أبصارهم} يختلسها ، والخطف : الأخذ بسرعة {كلما أضاء
38
لهم مشوا فيه} أي : ضوئه {وإذا أظلم عليهم قاموا} أي : وقفوا متحيّرين فالله تعالى شبههم في كفرهم ونفاقهم بقوم كانوا في مفازة في ليلة مظلمة أصابهم مطر فيه ظلمات من صفاتها أنّ الساري لا يمكنه المشي فيها ، ورعد من صفته أن يضم السامعون أصابعهم في آذانهم من هوله ، وبرق من صفته أن يقرب من أن يخطف أبصارهم ويعميها من شدّة توقده ، فهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن وصنيع الكافرين والمنافقين معه ، فالمطر : القرآن ، لأنه حياة القلوب كما أنّ المطر حياة الأبدان ، والظلمات : ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك ، والرعد : ما خوّفوا به من الوعيد وذكر النار ، والبرق : ما فيه من الهدى والبيان والوعد وذكر الجنة ، والكافرون والمنافقون يسدّون آذانهم عند قراءة القرآن مخافة ميل القلب إليه ولإزعاج ما في القرآن من الحجج قلوبهم ، وإنما قال الله تعالى مع الإضاءة : كلما ومع الإظلام : إذا ، لأنهم حرّاس على المشي كلما صادفوا منه فرصة مما يحبون انتهزوها ولا كذلك التوقف فيما يكرهون. ومعنى قاموا : وقفوا ، كما مرّ ، ومنه قامت السوق إذا ركدت ، أي : سكنت ، ويقال : قامت السوق بمعنى : نفقت ، فهو من الأضداد. {ولو شاء الله لذهب بسمعهم} بمعنى : أسماعهم {وأبصارهم} الظاهرة كما ذهب بالباطنة ، أي : ولو شاء أن يذهب بسمعهم بشدّة صوت الرعد وأبصارهم بلمعان البرق لذهب بهما فحذف المفعول وهو أن يذهب لدلالة الجواب وهو لذهب عليه ، ولقد تكاثر حذف المفعول في شاء وأراد إذا وقعا في حيز الشك كما هنا لدلالة الجواب على ذلك المحذوف حتى لا يكاد يذكر إلا في الشيء المستغرب ، كقول القائل :
*فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته ** عليك ولكن ساحة الصبر أوسع*
وأتى فيه بالمفعول لأنّ بكاء الدم مستغرب ونصب دماً لتضمنه معنى الصب ولو من حروف الشرط ، قال البيضاوي : وظاهرها الدلالة على انتفاء الأوّل لانتفاء الثاني ضرورة انتفاء الملزوم عند انتفاء لازمه. اه. وهذا مذهب ابن الحاجب ، وأمّا مذهب الجمهور وهو الأصح فإنها في الأصل لانتفاء الثاني لانتفاء الأوّل ، فمعنى لو جئتني أكرمتك أن انتفاء الاكرام لانتفاء المجيء ، وقيل : إنها لمجرّد الربط كان ومن ثم قال التفتازاني أنّ لو هنا لمجرّد الشرط بمنزلة أن لا بمعناها الأصلي وفائدة هذه الجملة الشرطية إبداء المانع لذهاب سمعهم وأبصارهم مع قيام ما يقتضيه وهو أنه تعالى أمهل المنافقين فيما هم فيه ليتمادوا في الغيّ والفساد ليكون عذابهم أشدّ وللتنبيه على أنّ تأثير الأسباب في مسبباتها مشروط بمشيئة الله تعالى وأنّ وجودها مرتبط بأسبابها واقع بقدرته تعالى ، وقوله تعالى : {إن الله على كل شيء} أي : يشاؤه ، {قدير} كالتصريح بما ذكر والتقرير له والشيء يختص بالموجود فلا يطلق على المعدوم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 37(1/31)
فإن قيل : لو اختص الشيء بالموجود لما تعلقت به القدرة لأنها الصفة المؤثرة على وفق الإرادة وتأثيرها الإيجاد وإيجاد الموجود محال فالذي تعلقت به القدرة معدوم وهو شيء فالمعدوم شيء ، أجيب : بأن المحال إيجاد الموجود بوجود سابق وهو غير لازم ، واللازم إيجاد موجود هو أثر ذلك الإيجاد وليس بمحال ، والقدرة هو التمكن من إيجاد الشيء ، وقيل : صفة مقتضى التمكن ، وقيل : قدرة الإنسان هيئة بها يتمكن من الفعل وقدرة الله تعالى عبارة عن نفي العجز عنه ، والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ، والقدير الفعال لما يشاء ولذلك قلما يوصف به غير الباري
39
تعالى ، واشتقاق القدير من القدرة لأنّ القادر يوقع الفعل على مقدرار قوّته أو على مقدار ما تقتضيه مشيئته ، وفي ذلك دليل على أنّ الحادث حال حدوثه والممكن حال بقائه مقدوران ، وأنّ مقدور العبد مقدور الله تعالى خلافاً لأبي علي وأبي هاشم لأنه شيء وكل شيء مقدور ، واحتج بعض الفرق بأن هذه الآية تدل على أن الله تعالى ليس بشيء ، قال : لأنها تدل على أنّ كل شيء مقدور لله تعالى والله سبحانه وتعالى ليس بمقدور له فوجب أن لا يكون شيئاً ، واحتج أيضاً على ذلك بقوله تعالى : {ليس كمثله شيء} (الشورى ، 11) قال : لو كان هو تعالى شيئاً فهو تعالى مثل مثل نفسه فكان يكذب قوله تعالى : {ليس كمثله شيء} فوجب أن لا يكون شيئاً حتى لا يناقض هذه الآية.
واعلم أنّ هذا الخلاف في الاسم لأنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم ، واحتج أصحابنا بوجهين : الأوّل قوله تعالى : {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله} (الأنعام ، 19) والثاني قوله تعالى : {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص ، 88) والمستثنى داخل في المستثنى منه فوجب أن يكون شيئاً ، وأجيب عن قوله : إنّ هذه الآية تدل على أن الله تعالى قادر على نفسه بأنّ تخصيص العام جائز في الجملة وأيضاً تخصيص العام جائز بدليل العقل.
فإن قيل : إذا كان اللفظ موضوعاً للكل ثم إنه تبين أنه غير صادق في الكل كان هذا كذباً وذلك يوجب الطعن في القرآن ، أجيب : بأنّ لفظ الكل كما أنه مستعمل في المجموع فقد يستعمل مجازاً في الأكثر فإذا كان ذلك مجازاً مشهوراً في اللغة لم يكن استعمال اللفظ فيه كذباً. ورقق ورش الراء من قدير وصلاً ووقفاً ، وباقي القراء بالترقيق وقفاً لا وصلاً.
ولما عدّ سبحانه وتعالى فرق المكلفين وذكر خواصهم ومصارف أمورهم أقبل تعالى عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات بقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 37
{يأيها الناس اعبدوا ربكم} تحريكاً للسامع وتنشيطاً له واهتماماً بأمرالعبادة وتفخيماً لشأنها وجبراً لمشقة العبادة بلذة المخاطبة ويا حرف وضع لنداء البعيد وقد ينادى به القريب تنزيلاً له منزلة البعيد ، إمّا لعظمته كقول الداعي : يا رب ويا الله وهو أقرب إليه من حبل الوريد ، أو لغفلته وقلة فهمه ، أو للاعتناء بالمدعوّ له وزيادة الحث عليه ، ولفظ الناس يعم الموجودين وقت النزول لفظاً ومن سيوجد تنزيلاً للمعدوم منزلة الموجود ، لما تواتر من دينه عليه الصلاة والسلام أنّ مقتضى خطابه وأحكامه شامل للقبيلين ثابت إلى قيام الساعة إلا ما خصه الدليل وإن قال الإمام الرازي : الأقرب أنه لا يتناوله لأن {يا أيها الناس} صرف خطاب مشافهة وخطاب المشافهة مع المعدوم لا يجوز وتناوله له لدليل منفصل وهو ما تواتر من دينه عليه الصلاة والسلام أنّ أحكامه ثابتة في حق من سيوجد إلى قيام الساعة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 40
فإن قيل : روي عن عقبة والحسن وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن كل شيء نزل فيه {يا أيها الناس} فمكي و{يا أيها الذين آمنوا} فمدني ، فكيف تكون هذه السورة مكية وقد نزلت
40(1/32)
بالمدينة ؟
أجيب : بأنّ المراد بقولهم : السورة مكية أو مدنية أنّ غالبها ذلك والأولى أن يقال إنّ ذلك أكثري لا كلي وأن سورة البقرة والنساء والحجرات مدنيات باتفاق وقد قال تعالى في كل منها : {يا أيها الناس} وسورة الحج مكية سوى ما استثنى وفيها من غيره {يا أيها الذين آمنوا اركعوا} ولا يختص ذلك الخطاب بالكفار ولا بأمرهم بالعبادة فإنّ المأمور به هو المشترك بين بدء العبادة والزيادة فيها والمواظبة عليها ، فالمطلوب من الكفار هو الشروع فيها بعد الإيمان بما يجب تقديمه من المعرفة والإقرار بالصانع فإنّ من لوازم وجوب الشيء وجوب ما لا يتم إلا به ، وكما أن الحدث لا يمنع وجوب الصلاة فالكفر لا يمنع وجوب العبادة ، بل يجب رفع الكفر والاشتغال بالعبادة ومن المؤمنين ازديادهم وثباتهم عليها وإنما قال الله تعالى : {ربكم} تنبيهاً على أنّ الموجب للعبادة هي الربوبية ، وقوله تعالى : {الذي خلقكم} أي : أنشأكم ولم تكونوا شيئاً صفة جرت عليه للتعظيم والتعليل ، ويحتمل التقييد إن خص الخطاب بالمشركين ، وأريد بالرب أعم من الرب الحقيقي والآلهة التي يسمونها أرباباً والخلق : إيجاد الشيء على تقدير واستواء ، وأصله التقدير ، يقال : خلق النعل ، إذا قدّرها وسوّاها بالقياس. وقرأ أبو عمرو خلقكم بإدغام القاف في الكاف بخلف عنه {و} خلق {الذين من قبلكم} وهذا متناول لكل ما يتقدّم الانسان بالذات أو الزمان كتقدّم الجزء على الكل والواحد على الاثنين ، وهو منصوب عطف على الضمير المنصوب في خلقكم كما علم من التقدير والجملة أخرجت مخرج المقرر عندهم ، إمّا لاعترافهم به كما قال تعالى : {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله} (الزخرف ، 87) {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله} (الزمر ، 38) أو لتمكنهم من العلم به بأدنى نظر ، وقوله تعالى : {لعلكم تتقون} إما حال من الضمير في اعبدوا كأنه قال : اعبدوا ، ربكم راجين أن تدخلوا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح المستوجبين لجوار الله تعالى نبه به على أنّ التقوى منتهى درجات السالكين وهو التبرّي من كل شيء سوى الله إلى الله وأنّ العابد ينبغي أن لا يغترّ بعبادته ويكون ذا خوف ورجاء ، كما قال تعالى : {يدعون ربهم خوفاً وطمعاً يرجون رحمته ويخافون عذابه} (الإسراء ، 57) ، وإمّا من مفعول خلقكم والمعطوف عليه على معنى أنه خلقكم ومن قبلكم في صورة من ترجى منه التقوى لترجح أمره باجتماع أسبابه وكثرة الدواعي إليه وغلب تعالى المخاطبين بقوله : {لعلكم} على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم جميعاً ولعل في الأصل للترجي وفي كلامه تعالى للتحقيق ، والآية تدل على أنّ الطريق إلى معرفة الله تعالى والعلم بوحدانيته والعلم باستحقاقه للعبادة النظر في صنعه والاستدلال بأفعاله ، وأنّ العبد لا يستحق بعبادته عليه تعالى ثواباً فإنها لما وجبت عليه شكراً لما عدّده عليه من النعم السابقة فهو كأجير أخذ الأجر قبل العمل وقوله تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 40
الذي جعل} أي : خلق {لكم الأرض فراشاً} أي : بساطاً تفرش صفة ثانية ، أو منصوب بتقدير أمدح ، أو مرفوع خبر مبتدأ محذوف ، ومعنى جعلها فراشاً أن جعل بعض جوابنها بارزاً عن الماء مع ما في طبع الماء من الإحاطة بها وصيرها متوسطة بين الصلابة واللطافة حتى صارت مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط وذلك لا يستدعي كونها مسطحة لأنّ كرية شكلها مع عظم حجمها واتساع جرمها لا تأبى الفراش عليها فليس في ذلك إلا أنّ الناس يفترشونها كما يفعلون بالمفاريش ، وسواء كانت على شكل السطح أو على شكل الكرة {و} جعل لكم {السماء بناء} أي : قبة مضروبة عليكم. والسماء اسم جنس يقع على الواحد وعلى المتعدد كالدينار
41(1/33)
والدرهم وقيل : جمع سماءة. والبناء مصدر سمي به المبني بيتاً كان أو قبة أو خباء ومنه : بنى على امرأته لأنهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا عليها خباء جديداً ، وقوله تعالى : {وأنزل من السماء ماء} معطوف على {جعل} والمراد بها ، إمّا السحاب فإنّ ما علاك سماء ، وإمّا الفلك فإنّ المطر يبتدىء إمّا من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض كما دلت عليه الظواهر من الآيات كقوله تعالى : {وأنزلنا من السماء ماء} (لقمان ، 10) وقوله تعالى : {أنزل من السماء ماءً فسلّكه ينابيع في الأرض} (الزمر ، 21) ، وعن خالد بن معدان قال : المطر ماء يخرج من تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا فيجتمع في موضع فتجيء السحاب السود فتدخله فتشربه فيسوقها الله حيث شاء ، وإما من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جوّ الهواء فتنعقد سحاباً ماطراً. {فأخرج به من} أنواع {الثمرات رزقاً لكم} تأكلونه وتعلفون منه دوابكم وخروجها بقدرة الله تعالى ومشيئته ، ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سبباً في إخراجها ومادّة لها كالنطفة للحيوان بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها على المادة الممتزجة منهما ، أو أبدع في الماء قوّة فاعلة وفي الأرض قوّة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواع الثمار ، وهو تعالى قادر على أن يوجد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس الأسباب والموادّ ، ولكن له في إنشائها مرتقياً من حال إلى حال صنائع وحكم يجدد فيها لأولي الأبصار عبراً وسكوناً إلى عظيم قدرته ليس ذلك في إيجادها دفعة.
تنبيه : من الأولى للابتداء ومن الثانية للتبعيض بدليل قوله تعالى : {فأخرجنا به ثمرات} (فاطر ، 27) لأنّ ثمرات جمع قلة منكر واكتناف المنكرين لها أعني ماء ورزقاً كأنه تعالى قال : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم ، وهذا التبعيض هو الموافق للواقع إذ لم ينزل من السماء الماء كله ولا أخرج بالمطر كل الثمرات ولا جعل بالمطر كل المرزوق ، ويصح أن تكون من الثانية للتبيين ورزقاً مفعول وهو المبين بمعنى المرزوق كقول القائل : أنفقت من الدراهم ألفاً ، فإن من الدراهم بيان لقوله عقبه ألفاً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 40
فإن قيل : المحلّ محلّ جمع الكثرة فكيف أتى بجمع القلة ؟
أجيب : بأنّ الجموع يتناوب بعضها موقع بعض كقوله تعالى : {كم تركوا من جنات} (الدخان ، 25) وأوقع جمع القلة موقع جمع الكثرة بدليل ذكركم وكقوله تعالى : {ثلاثة قروء} (البقرة ، 238) فأوقع جمع الكثرة موضع جمع القلة لأن مميز الثلاثة لا يكون إلا جمع قلة أو لأنّ الثمرات لما كانت محلاة باللام خرجت عن حدّ القلة {فلا تجعلوا أنداداً} أي : شركاء في العبادة.
فإن قيل : لم سمي ما يعبده المشركون من دون الله أنداداً مع أنهم ما زعموا أنها تساويه في ذاته وصفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله ؟
أجيب : بأنهم لما تركوا عبادته إلى عبادتها وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات قادرة على أنها تدفع عنهم بأس الله وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير فتهكم الله تعالى بهم وشنع عليهم بأن جعلوا أنداداً لمن يمتنع أن يكون له ندّ ولذلك قال موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق دين قومه :
*أرباً واحداً أم ألف رب ** أدين إذا تقسمت الأمور*
أدين أي : أطيع ، من دان أي : انقاد ، إذا تقسمت أي : تفرّقت :
42
*تركت اللات والعزى جميعاً ** كذلك يفعل الرجل البصير*
*ألم تعلم بأن الله أفنى ** رجالاً كان شأنهم الفجور*
*وأبقى آخرين ببرّ قوم ** فيربو منهم الطفل الصغير*
وقوله تعالى : {وأنتم تعلمون} حال من ضمير {فلا تجعلوا} ومفعول تعلمون متروك ، أي : وحالكم أنكم من أهل العلم والنظر وإصابة الرأي فلو تأمّلتم أدنى تأمّل اضطرّ عقلكم إلى إثبات موجد للممكنات منفرد بوجود الذات متعال عن مشابهة المخلوقات أو مقدّر وهو أنّ الأنداد لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله ، كقوله تعالى : هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء وعلى كون {وأنتم تعلمون} حالاً فالمقصود منه التوبيخ سواء أجعل مفعول تعلمون متروكاً أو مقدراً وإن كان التوبيخ في الأوّل آكد كما صرّح به "الكشاف" لا تقييد الحكم وقصره وهو النهي عن جعلهم لله أنداداً بحال علمهم فإن العالم والجاهل المتمكن من العلم سواء في التكليف.(1/34)
تنبيه : قال البيضاوي : واعلم أنّ مضمون الآيتين أي {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} و{الذي جعل لكم} إلى آخرهما هو الأمر بعبادة الله والنهي عن الاشراك به تعالى والإشارة إلى ما هو العلة والمقتضى ، وبيانه أنه تعالى رتب الأمر بالعبادة على صفة الربوبية إشعاراً بأنها العلة لوجوبها ثم بين ربوبيته بأنه تعالى خالقهم وخالق أصولهم وما يحتاجون إليه في معايشهم من المقلة والمظلة أي : الأرض والسماء والمطاعم والملابس فإن الثمرة أعمّ من المطعوم أي : فتعم الثمرات الملابس كالمطاعم والرزق أعمّ من المأكول والمشروب ثم لما كانت هذه أموراً لا يقدر عليها غيره شاهدة على وحدانيته رتب عليها النهي عن الإشراك به. ولعله سبحانه وتعالى أراد من الآية الأخيرة مع ما دلّ عليه الظاهر وسيق فيه الكلام الإشارة إلى تفصيل خلق الانسان وما أفاض عليه من المعاني والصفات على طريقة التمثيل فمثل البدن بالأرض ، والنفس بالسماء ، والعقل بالماء ، وما أفاض عليه من الفضائل العملية والنظرية المحصلة بوساطة استعمال العقل للحواس وازدواج أي : اقتران القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من ازدواج أي : اقتران القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بقدرة الفاعل المختار فإنّ لكل آية ظهراً وبطناً ولكل حدّ مطلعاً. اه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 40
هذا روي عن الحسن مرفوعاً مرسلاً ، وظهر الآية ما ظهر من معانيها لأهل العلم الظاهر ، وبطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله عليها الخواص ، وقيل : ظاهرها تلاوتها ، وباطنها فهمها ، والحدّ أحكام الحلال والحرام ، والمطلع الإشراف على معرفتها.
ولما قرّر سبحانه وتعالى وحدانيته وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ذكر عقبه ما هو الحجة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن المعجز بفصاحته التي غلبت فصاحة كل بليغ مع كثرتهم وإفراطهم في المضادّة وتهالكهم على المغالبة بقوله تعالى :
{وإن كنتم في ريب} أي : شك {مما نزلنا على عبدنا} محمد من القرآن أنه من عند الله {فأتوا بسورة} وإنما قال تعالى : {مما نزلنا} لأنّ نزوله نجماً فنجماً بحسب الوقائع على ما يرى عليه أهل الشعر والخطابة مما يريبهم كما حكى الله تعالى عنهم بقوله تعالى : {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} (الفرقان ، 22) فكان الواجب تحدّيهم على هذا الوجه إزالة للشبهة وإلزاماً للحجة ، فإن أهل الشعر والخطابة يأتون بأشعارهم وخطبهم على قدر الحاجة شيئاً فشيئاً
43(1/35)
ولما كان القرآن منزلاً كذلك طعنوا فيه بأنه مثل كلامهم فقيل لهم : إن ارتبتم في نزوله منجماً فأتوا بنجم منه لأنهم إذا عجزوا عن نجم منه فعجزهم عن كله أولى. وأضاف العبد إلى نفسه تنويهاً بذكره وتنبيهاً على أنه مختص به منقاد لحكمه. والسورة من القرآن الطائفة منه المترجمة التي لها أوّل وآخر أقلها ثلاث آيات. والحكمة في تقطيع القرآن سوراً إفراد الأنواع وتلاحق الأشكال وتجاوب النظم وتنشيط القارىء وتسهيل الحفظ والترغيب فيه ، فإنّ القارىء إذا ختم سورة فرّج ذلك عنه بعض كربه ، كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلاً أو طوى بريداً ، أو الحافظ إذا حفظ سورة اعتقد أنه أخذ من القرآن حظاً تامّاً وفاز بطائفة محدودة مستقلة بنفسها فعظم ذلك عنده وابتهج به إلى غيرها من الفوائد ، وقوله تعالى : {من مثله} صفة سورة أي : بسورة كائنة من مثله ، والضمير لما نزلنا ومن للتبعيض ، أو للتبيين ، وزائدة عند الأخفش ، أي : بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة وحسن النظم ، وقيل : الضمير لعبدنا ، ومن للإبتداء أي : بسورة كائنة ممن هو على حاله من كونه بشراً أميّاً لم يقرأ الكتب ولم يتعلم العلوم ، والوجه الأول أولى لأنه المطابق لقوله تعالى في سورة يونس : {فأتوا بسورة مثله} (يونس ، 38) ولسائر آيات التحدي ، ولأنّ الكلام في المنزل لا في المنزل عليه فحقه أن لا ينفك عنه ليتسق الترتيب والنظم إذ المعنى وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فأتوا بقرآن من مثله ولأنّ مخاطبة الجم الغفير بأن يأتوا بمثل ما أتى به واحد من أبناء جنسهم أبلغ في التحدي من أن يقال لهم : ليأت بنحو ما أتى به عبدنا آخر مثله ولأنه معجز في نفسه لا بالنسبة إليه لقوله تعالى : {قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} (الإسراء ، 88) ولأن عود الضمير إلى عبدنا يوهم إمكان صدوره ممن لم يكن على صفته ولا يلائمه قوله تعالى : {وادعوا شهداءكم من دون الله} فإنه تعالى أمر أن يستعينوا بكل من ينصرهم ويعينهم سواء كان مثله أم لا والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة ، ومنه قيل للمقتول في سبيل الله : شهيد ، لأنه حضر ما كان يرجوه أو الملائكة حضروه ، ومعنى دون : أدنى مكان من الشيء ، ومنه تدوين الكتب لأنه أدنى البعض ، من البعض ودونك هذا أي : خذه من أدنى مكان منك ، ثم استعير للرتب فقيل : عمرو دون زيد ، أي : في الشرف ، ومنه الشيء الدون ، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى آخر وتخطي أمر إلى آخر وإن خلى عن الرتبة قال تعالى : {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} (آل عمران ، 28) أي : لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين ، ومن متعلقة بادعوا فهي لابتداء الغاية ، والمعنى : وادعوا للمعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إنسكم وجنكم وادعوا آلهتكم التي تعبدونها غير الله وتزعمون أنها تشهد لكم يوم القيامة ، أي : استعينوا بهم في الإتيان بما ذكر {إن كنتم صادقين} في أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقوله من تلقاء نفسه ، وأن آلهتكم تشهد لكم بذلك ، وجواب هذا الشرط محذوف تقديره فافعلوا أي : ما ذكر من الإتيان بسورة دل عليه قوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 40
{فإن لم تفعلوا} ذلك والصدق الإخبار المطابق وقيل : مع اعتقاد المخبر أنه كذلك عن
44
دلالة أو إمارة لأنه تعالى كذب المنافقين في قولهم : {إنك لرسول الله} (المنافقون ، 1) لما لم يعتقدوا مطابقته ، ورد هذا القول بصرف التكذيب إلى قولهم : نشهد لأنّ الشهادة إخبار عما عمله وهم ما كانوا عالمين به ، وقوله تعالى : {ولن تفعلوا} جملة معترضة أي : لا يقع منكم ذلك أبداً لإعجاز القرآن {فاتقوا النار التي وقودها} أي : ما تتقد به {الناس والحجارة} التي نحتوها واتخذوها أرباباً من دون الله طمعاً في شفاعتها والانتفاع بها ويدل لذلك قوله تعالى : {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} (الأنبياء ، 98) عذبوا بما هو منشأ جرمهم كما عذب الكانزون بما كنزوه أو حجارة الكبريت ، كما رواه الطبراني عن ابن مسعود ، والحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعليه أكثر المفسرين ، وإن قال البيضاوي : إنه تخصيص بغير دليل لأنّ مثل هذا التفسير الوارد عن الصحابي فيما يتعلق بأمر الآخرة له حكم المرفوع وأيضاً حجارة الكبريت أشدّ حرّاً وأكثر التهاباً وتزيد على غيرها من الأحجار سرعة الإيقاد ونتن الريح وكثرة الدخان وشدّة الالتصاق بالأبدان وقيل : جميع الحجارة.(1/36)
تنبيه : تفعلوا مجزوم بلم لا بإن لأن لم واجبة الإعمال مختصة بالمضارع متصلة بالمعمول ، ولأنها لما صيرته ماضياً صارت كالجزء منه ، وحرف الشرط كالداخل على المجموع وكأنه قال : فإن تركتم الفعل ولذلك ساغ اجتماعهما وحاصله أن إن تقتضي الاستقبال ولم تقتضي المضيّ فرجحت لم لما ذكر فيكون المعنى على المضيّ دون الاستقبال وقيل : إنّ إن بمعنى إذ ولا إشكال حينئذٍ ، وقيل : كل منهما على حقيقته ، والمعنى إن تبيّن في المستقبل عدم فعلكم في الماضي ولن تفعلوا في المستقبل فاتقوا النار ، ولن كلا في نفي المستقبل غير أنه أبلغ وهو حرف بسيط ثنائي الوضع ، وقيل : أصله لا إن حذفت الهمزة منها لكثرتها في الكلام ثم ألف لا لالتقاء الساكنين. ولما كانت الآية مدنية نزلت بعدما نزل بمكة قوله تعالى في سورة التحريم : {ناراً وقودها الناس والحجارة} (التحريم ، 6) وسمعوه صح تعريف النار ووقوع الجملة صلة فإن الصلة يجب أن تكون معلومة وهي معلومة هنا من سورة التحريم حيث وقعت صفة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 44
فإن قيل : الصفة أيضاً يجب أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف كالصلة وإلا لكانت خبراً ولهذا قالوا : إن الصفات قبل العلم بها أخبار كما أنّ الأخبار بعد العلم بها أوصاف فيأتي في الصفة في آية التحريم ما ذكر في الصلة أجيب : بأنّ الصلة والصفة يجب كونهما معلومين للمخاطب لا لكل سامع وما في التحريم خطاب للمؤمنين وقد علموا ذلك لسماعهم من النبيّ صلى الله عليه وسلم ولما سمع الكفار ذلك الخطاب أدركوا منه ناراً موصوفة بتلك الجملة فجعلت فيما خوطبوا به {أعدّت} أي : هيئت {للكافرين} وجعلت عدّة لعذابهم ، وفي ذلك دليل على أنّ النار مخلوقة معدّة لهم الآن ، والجملة استئناف أو حال من النار بإضمار قد ، والعامل في الحال اتقوا وهي حال لازمة فلا يشكل بأنّ النار أعدّت للكافرين اتقوها أم لا.
تنبيه : قال البيضاوي : في الآيتين أي : آية {إن كنتم في ريب} وآية {فإن لم تفعلوا} (البقرة ، 24) ما يدل على النبوّة من وجوه : الأوّل : ما فيهما أي : في مجموعهما من التحدي والتحريض على الجدّ وبذل الوسع في المعارضة بالتقريع والتهديد وتعليق الوعيد على عدم الإيتان بما يعارض أقصر سورة من سور القرآن العزيز ثم أنهم مع كثرتهم واشتهارهم بالفصاحة وتهالكهم على المضادّة لم
45
يتصدّوا لمعارضته والتجؤوا إلى جلاء الوطن وبذل المهج لأنّ قوله من التحدي راجع للآية الأولى والباقي راجع إلى الثانية ، والثاني : تضمنهما أي : مجموعهما الإخبار عن الغيب على ما هو به فإنهم لو عارضوه بشيء لامتنع خفاؤه عادة سيما والطاعنون فيه أكثر من الذابين عنه في كل عصر لأنّ ذلك راجع للآية الثانية ، والثالث : أنه عليه الصلاة والسلام لو شك في أمره ـ أي : نفسه ـ لما دعاهم إلى المعارضة بهذه المبالغة مخافة أن يعارض فتذهب حجته ، وهذا راجع إلى الآية الأولى. ثم عطف سبحانه وتعالى حال من آمن بالقرآن ووصف ثوابه على حال من كفر به وكيفية عقابه على عادة ما جرت به العادة الإلهية من أن يشفع الترغيب بالترهيب تنشيطاً لاكتساب ما ينجي وتثبيطاً عن اقتراف ما يردي بقوله تعالى : {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي : الطاعات {أن لهم جنات} أي : حدائق ذات شجر ومساكن ، وإنما أمر الله سبحانه وتعالى الرسول صلى الله عليه وسلم أو عالم كل عصر ، أو كل أحد يقدر على البشارة أن يبشر الذين آمنوا ولم يخاطبهم بالبشارة كما خاطب الكفرة تفخيماً لشأنهم وإيذاناً بأنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنؤوا بما أعد لهم ، والبشارة : الخبر الصدق السار أوّلاً فإنه يظهر أثر السرور في البشرة لأن النفس إذا سرت انتشر الدم انتشار الماء في الشجرة ولذلك قال الفقهاء : البشارة هو الخبر الأوّل حتى لو قال الرجل لعبيده : من يبشرني بقدوم ولدي فهو حرّ فأخبروه فرادى عتق أوّلهم ولو قال : من أخبرني عتقوا جميعاً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 44
فإن قيل : ما الجواب عن قوله تعالى : {فبشرهم بعذاب أليم} ؟
أجيب : بأنّ ذلك ورد على سبيل التهكم كقوله تعالى : {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان ، 49) وعطف سبحانه وتعالى العمل على الإيمان مرتباً للحكم عليهما إشعاراً بأنّ السبب في استحقاق هذه البشارة مجموع الأمرين والجمع بين الوصفين ، فإنّ الإيمان الذي هو عبارة عن التيقن والتصديق أس ، والعمل الصالح كالبناء عليه ، ولا نفع تام بأس لا بناء عليه ، ولذلك قلما ذكرا مفردين وفي عطف العمل على الإيمان دليل على أنّ الصالحات خارجة عن مسمى الإيمان إذ الأصل أنّ الشيء لا يعطف على نفسه ولا على ما هو داخل فيه ، وجمع سبحانه وتعالى الجنة لأنّ الجنان على ما ذكره ابن عباس سبع : جنة الفردوس ، وجنة عدن ، وجنة النعيم ، ودار الخلد ، وجنة المأوى ، ودار السلام ، وعلييون ، وفي كل واحدة من هذه السبع مراتب ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال.(1/37)
واللام في الصالحات للجنس لا للاستغراق إذ لا يكاد المؤمن أن يعمل جميع الصالحات ، واللام في لهم تدل على استحقاقهم إياها لأجل ما ترتب عليه من الإيمان والعمل الصالح لا لذاته فإنه لا يكافىء النعم السابقة فضلاً عن أن يقتضي ثواباً وجزاءً فيما يستقبل بل بجعل الشارع ومقتضى وعده ولا على الإطلاق بل بشرط أن يستمرّ عليه حتى يموت وهو يؤمن لقوله تعالى : {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} (البقرة ، 217) ولعله سبحانه وتعالى لم يقيدها هنا استغناء بهذه الآية وأشباهها {تجري من تحتها} أي : من تحت أشجارها ومساكنها {الأنهار} كما تراها جارية تحت الأشجار الثابتة على شواطئها ، وعن مسروق : أنهار الجنة تجري في غير أخدود ، قال الجوهري : الأخدود شق مستطيل في الأرض واللام في الأنهار للجنس كما في قولك لفلان بستان فيه الماء الجاري ، قال البيضاوي : أو للعهد والمعهود هي الأنهار المذكورة في قوله تعالى : {أنهار من ماء غير آسن} (محمد ، 15) الآية. اه.
قال التفتازاني : إنما يصح هذا لو ثبت سبق قوله تعالى : {أنهار من ماء غير آسن} في الذكر.
46
اه. والنهر بالفتح والسكون : المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كالنيل والفرات ، والمراد بالأنهار ماؤها على حذف مضاف أو تسمية للماء باسم مجراه مجازاً وإسناد الجري إليها مجاز كما في قوله تعالى : {وأخرجت الأرض أثقالها} (الزلزلة ، 2) {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً} أي : أطعموا من تلك الجنات ثمرة ، ومن صلة {قالوا هذا الذي رزقناكم} أي : أطعمنا {من قبل} أي : من قبل هذا في الدنيا جعل الله تعالى ثمر الجنة من جنس ثمر الدنيا لتميل النفس إليه أوّل ما يرى فإنّ الطبائع مائلة إلى المألوف مستنفرة من غيره أي : هذا من نوعه لتشابه ما يؤتون به في الصورة كما قال تعالى : {وأتوا به متشابهاً} أي : في اللون والصورة مختلفاً في الطعم وذلك أبلغ في باب الاعجاز ، والداعي لهم إلى ذلك فرط استغرابهم وافتخارهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه البليغ في الصورة ، وقيل : في الجنة لأن طعامها متشابه الصورة كما حكي عن الحسن أنّ أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل كل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك فتقول الملائكة : كل فاللون واحد والطعم مختلف أو كما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : "والذي نفس محمد بيده إنّ الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدّل الله مكانها مثلها" وعن مسروق : نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها وثمرها أمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى والعنقود اثنا عشر ذراعاً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 44
فإن قيل : على الأوّل التشابه هو التماثل في الصفة وهو مفقود بين ثمرات الدنيا والآخرة كما قال ابن عباس : ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء. أجيب : بأن التشابه ، بينهما حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم دون المقدار والطعم وهو كاف في إطلاق التشابه ، وللآية كما قال البيضاوي محمل آخر وهو أنّ مستلذات أهل الجنة في مقابلة ما رزقوا في الدنيا من المعارف والطاعات متفاوتة في اللذة بحسب تفاوتها فيحتمل أن يكون المراد من هذا الذي رزقنا أنه ثوابه ومن تشابههما تماثلهما في الشرف والرتبة وعلوّ الطبقة ، فيكون هذا في الوعد نظير قوله تعالى : {ذوقوا ما كنتم تعملون} (العنكبوت ، 55) في الوعيد {ولهم فيها} أي : الجنات {أزواج} من الحور العين والآدميات {مطهرة} مما يستقذر من النساء ويذم من أحوالهنّ كالحيض والدرن أي : الوسخ ودنس الطبع وسوء الخلق فإنّ التطهير يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال ومعنى تطهيرهنّ مما ذكر كما قال التفتازاني : إنها منزهة عن ذلك مبرأة عنه بحيث لا يعرض لهنّ لا التطهر الشرعي بمعنى إزالة النجس الحسي أو الحكمي ، كما في الغسل عن الحيض والزوج يقال : للذكر والأنثى ، قال تعالى : وأصلحنا له زوجه ، وهو في الأصل لما له قرين من جنسه كزوج الخف.
فإن قيل : فائدة المطعوم هو التقوى ودفع ضرر الجوع وفائدة المنكوح التوالد وحفظ النوع وهذه الفوائد مستغنى عنها في الجنة. أجيب : بأن مطاعم الجنة ومناكحها وسائر أحوالها إنما تشارك نظائرها الدنيوية في بعض الصفات والاعتبارات وتسمى بأسمائها على سبيل الاستعارة والتمثيل ولا تشاركها في تمام حقيقتها حتى تستلزم جميع ما يلزمها وتفيد عين فائدتها {وهم فيها خالدون} أي : دائمون أحياء ، لا يموتون ولا يخرجون ، والأصل في الخلود الثبات المديد دام أو لم يدم إذ لو كان وضعه للدوام لكان التقييد بالتأبيد في قوله تعالى : {خالدين فيها أبداً}[الأحزاب :
47
65] تأكيداً لا تأسيساً والأصل خلافه لكن المراد به الدوام في الآية عند الجمهور لما يشهد له من الآيات والسنن.(1/38)
فإن قيل : الأبدان مركبة من أجزاء متضادّة الكيفية معرضة للاستحالات المؤدّية إلى الانفكاك والانحلال فكيف يعقل خلودها في الجنات ؟
أجيب : بأنه تعالى يعيدها بحيث لا تعتريها الاستحالة بأن يجعل أجزاءها مثلاً متقاومة في الكيفية متساوية في القوّة لا يقوى شيء منها على إحالة الآخر متعانقة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض كما يشاهد في بعض المعادن ، ولما كان معظم اللذات الحسية مقصوراً على المساكن والمطاعم والمناكح على ما دلّ عليه الاستقراء وكان مآل ذلك كله الثبات والدوام وأنّ كل نعمة جليلة إذا قارنها خوف الزوال كانت منغصة غير صافية من شوائب الألم بشر المؤمنين بالمساكن والمطاعم والمناكح فبشر بالأوّل بقوله تعالى : {جنات تجري من تحتها الأنهار} وبالثاني بقوله تعالى : {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً} الآية وبالثالث بقوله تعالى : {ولهم فيها أزواج مطهرة} ومثل ما أعدّ لهم في الآخرة بأحسن ما يستلذ منها ، وأزال عنهم خوف الفوات بوعد الخلود ليدل على كمالهم في التنعم والسرور. ولما ضرب الله سبحانه وتعالى المثل بالذباب والعنكبوت في قوله تعالى : {وإن يسلبهم الذباب} (الحج ، 73) وقوله تعالى : {كمثل العنكبوت} (العنكبوت ، 41) قالت اليهود : ضرب المثل بذلك مما يستحيا منه لخسته فليس من عند الله تعالى فنزل ردّاً عليهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 44
{إن الله لا يستحيي} أي : لا يترك {أن يضرب مثلاً مّا بعوضة} وهي صغيرة البق ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها وأن بصلتها مخفوض المحل عند الخليل بإضمار من منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذف من عند سيبويه ، ويجوز كما في "الكشاف" نصبه بإفضاء الفعل إليه بنفسه فإن استحيا يتعدّى بنفسه أيضاً ، يقال : استحييت منه واستحييته ، وما إمّا إبهامية تزيد النكرة قبلها إبهاماً وإمّا مزيدة لتأكيد معنى مضمون الجملة قبلها كالتي في قوله تعالى : {فبما رحمة من الله} (آل عمران ، 159) ولا يراد بالمزيد اللغو الضائع فإن القرآن كله هدى وبيان بل المراد بالمزيد ما لم يوضع لمعنى يراد منه وإنما وضعت لأن تذكر مع غيرها فتفيده وثاقة وقوّة وهو زيادة في الهدى غير قادح في القرآن ، وبعوضة عطف بيان أو بدل من مثلاً أو مفعول ثان ليضرب بمعنى يجعل ، والحياء انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم وهو الوسط بين الوقاحة التي هي الجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها وبين الخجل الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقاً فإذا وصف به الباري
48(1/39)
سبحانه وتعالى كما جاء في الحديث "إنّ الله يستحي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه" "إنّ الله حييّ كريم يستحي إذا رفع العبد يديه أن يردّهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً" فالمراد به الترك كما قدّرته اللازم للانقباض كما أنّ المراد من رحمته وغضبه إصابة المعروف والمكروه اللازمين لمعنييهما ، وتحتمل الآية خاصة أن يكون مجيء الحياء فيها للمشاكلة وهو أن يذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته ولو تقديراً كما هنا وهو قول الكفرة : أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت. ولما كان التمثيل ويصار إليه لكشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه فإنّ المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم لأنّ من طبعه ميل الحس وحب المحاكاة شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء وإشارات الحكماء فيمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم بالعظيم وإن كان الممثل أعظم من كل عظيم كما مثل سبحانه وتعالى في الإنجيل غلّ الصدر بالنخالة والقلوب القاسية بالحصاة ومخالطة السفهاء بإثارة الزنابير ونصه على ما حكاه الفخر الرازي في الأوّل : لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم. وفي الثاني : قلوبكم كالحصاة التي لا تطبخها النار ولا يلينها الماء ولا ينسفها الريح. وفي الثالث : لا تثيروا الزنابير فتلدغكم فكذلك لا تخالطوا السفهاء فيشتموكم ، وجاء في كلام العرب أسمع من قراد لأنّ العرب تزعم أنه يسمع صوت أخفاف الإبل من مسيرة يوم فيتحرّك لها ، وقيل : من مسيرة سبع ليال وأعز من مخ البعوض يضرب لمن يكلف الأمور الشاقة {فما فوقها} أي : ما زاد على البعوضة في الجثة كالذباب والعنكبوت ، والمعنى أنه لا يستحيي من ضرب المثل بالبعوضة فضلاً عما هو أكبر منه ، أو المعنى الذي جعلت فيه مثلاً وهو الصغر والحقارة كجناحها فإنه عليه الصلاة والسلام ضرب جناحها مثلاً للدنيا بقوله في خبر الترمذي : "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء" ونظيره في احتمال الفوقية للجثة وللمعنى ما روى البخاري وغيره : أنّ رجلاً بمنى خر على طنب فسطاط فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة" فإنه يحتمل ما يجاوز الشوكة في الألم كالسقوط على الطنب وما زاد عليها في القلة كقرصة النملة ، والطنب حبل الخباء ، والفسطاط بيت من شعر. {فأمّا الذين آمنوا فيعلمون أنه} أي : ضرب المثل بذلك {الحق} أي : الواقع موقعه {من ربهم} لأن الحق هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره. وهم يعم الأعيان الثابتة والأفعال الصائبة والأقوال الصادقة من قولهم : حق إذا ثبت ومنه ثوب محقق ، أي : محكم النسج ، وأمّا حرف تفصيل يفصل ما أجمل ويؤكد ما به صدر ويتضمن معنى الشرط ولذلك يجاب بالفاء ، قال سيبويه : أمّا زيد فذاهب معناه مهما يكن من شيء فزيد
49
جزء : 1 رقم الصفحة : 48
ذاهب أي : هو ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة ، وكان الأصل دخول الفاء على الجملة لا الخبر لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الفاء على الخبر وعوضوا المبتدأ عن جملة الشرط لفظاً {وأمّا الذين كفروا فيقولون ماذا} يحتمل وجهين : أن تكون ما استفهامية وذا بمعنى الذي وما بعده صلته والمجموع خبر ما ، وأن تكون ما مع ذا اسماً واحداً بمعنى أيّ شيء {أراد الله بهذا} فهو منصوب المحل على المفعولية لأراد فما وذا كما في "الكشاف" في حكم ما وحده لو قلت ما أراد الله وكان من حقه ، وأمّا الذين كفروا فلا يعلمون ليطابق قرينه وهو الذين آمنوا ويقابل قسيمه وهو يعلمون أنه الحق ، لكن لما كان قولهم هذا دليلاً واضحاً على كمال جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية عن عدم علمهم ليكون كالبرهان عليه والإرادة صفة ذاتية قديمة زائدة على العلم ترجح أحد مقدوريه على الآخر وتخصصه بوجه دون وجه بخلاف القدرة فإنها لا تخصص الفعل ببعض الوجوه بل هي موجدة للفعل مطلقاً وقوله تعالى : {مثلاً} نصب على الحال من اسم الإشارة والعامل فيه اسم الإشارة أو التمييز والمعنى أي فائدة في ذلك فقال تعالى : {يضلّ به كثيراً} بأن يكذبوا به {ويهدي به كثيراً} بأن يصدقوا به وكثرة كل واحد من القبيلين بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس أي : لا بالنظر إلى مقابليهم فإنّ المهتدين قليلون بالإضافة إلى أهل الضلال كما قال تعالى : {وقليل من عبادي الشكور} (سبأ ، 13) ويحتمل أن تكون كثرة الضالين من حيث العدد وكثرة المهتدين باعتبار الفضل والشرف كما قال المتنبي في مدح علي بن يسار :
*سأطلب حقي بالقنا ومشايخ ** كأنهم من طول ما التثموا مرد*
*ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا ** قليل إذا عدّوا كثيراً إذا شدوا*(1/40)
وقال : إن الكرام كثير (أي : كرماً) في البلاد وإن قلوا (أي : عدداً) ، كما غيرهم (قل بضم القاف وكسرها أي : قليل كرماً) وإن كثروا.
أي : عدداً {وما يضلّ به إلا الفاسقين} أي : الخارجين عن حدّ الإيمان بالكفر كقوله تعالى : {إنّ المنافقين هم الفاسقون} (التوبة ، 67) وتخصيص الإضلال بهم مرتباً على صفة الفسق يدل على أنه الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال بالمثل وسبب ضلالتهم به أن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم بالباطل صرفت وجوه أفكارهم عن حكمة المثل إلى حقارة الممثل به حتى رسخت به جهالتهم وازدادت به ضلالتهم فأنكروا المثل واستهزؤوا به ، وأمّا الفاسق في الشرع فهو الخارج عن أمر الله بارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة ولم تغلب طاعاته على معاصيه ولا يخرجه ذلك عن الإيمان إلا إذا اعتقد حل المعصية سواء أكانت كبيرة أم صغيرة قال تعالى : {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} (الحجرات ، 9) والمعتزلة جعلوا الفاسق قسماً ثالثاً نازلاً بين منزلتي المؤمن والكافر لمشاركة كل واحد منهما في بعض الأحكام.
جزء : 1 رقم الصفحة : 48
ثم بين سبحانه وتعالى صفة الفاسقين بقوله : {الذين ينقضون عهد الله} وهو إمّا المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عباده الدالة على توحيده ووجوب وجوده وصدق رسله وعليه يدلّ قوله تعالى : {وأشهدهم على أنفسهم} (الأعراف ، 172) وإمّا المأخوذ بالرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدّق بالمعجزات صدّقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره
50
ولم يخالفوا حكمه وعليه يدل قوله تعالى : {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب} (آل عمران ، 187) الآية وقيل : عهود الله ثلاثة : عهد أخذه بواسطة العقل على جميع ذرّية آدم بأن يقروا بربوبيته ، وعهد أخذه بواسطة الملك على النبيين بأن يقيموا الدين ولا يتفرّقوا فيه ، وعهد أخذه بواسطة الرسل على العلماء بأن يبينوا الحق ولا يكتموه ، وقوله تعالى : {من بعد ميثاقه} أي : توكيده ، يحتمل عود الضمير للعهد فهو من إضافة المصدر إلى المفعول أو لله فهو من إضافة المصدر إلى الفاعل ، قال البيضاويّ : ويحتمل أن يكون بمعنى المصدر واعترض : بأنّ النحويين لم يذكروا مفعالاً في صيغ المصادر ، وأصله أن يكون وصفاً كمطعام ومسقام. وأجيب : بحمل ذلك على أنه اسم واقع موقع المصدر كما يشير إليه قوله بمعنى المصدر : {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} وهو الرحم لأنهم قطعوا رحم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمعاداة معه ، ويحتمل كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى كقطع الرحم والإعراض عن موالاة المؤمنين والتفرقة بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والكتب في التصديق وترك الجماعات وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شرّ فإنه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد المقصودة بالذات من كل وصل وفصل والأمر هو القول الطالب للفعل ، وقيل : مع العلوّ ، وقيل : مع الاستعلاء ، وأن يوصل بدل من الهاء ، وقرأ ورش بتغليظ اللام وصلاً وإذا وقف رقق وغلظ وأدغم خلف النون في الياء بغير غنة {ويفسدون في الأرض} بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والاستهزاء بالحق وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه {أولئك هم الخاسرون} بفوات التوبة والمصير إلى العقوبة بإهمال العقل عن النظر واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبدية واستبدال الإنكار والطعن في الآيات بالإيمان بها والنظر في حقائقها والاقتباس من أنوارها ، واشتروا النقض بالوفاء ؛ والفساد بالصلاة ؛ والعقاب بالثواب. ثم وبخ سبحانه وتعالى الكفار بقوله :
{كيف تكفرون با} أي : أخبروني على أي حال تكفرون {وكنتم أمواتاً} أي : نطفاً في أصلاب آبائكم لا إحساس لكم {فأحياكم} في الأرحام ثم في الدنيا بخلق الأرواح ونفخها فيكم وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه غير متراخ عنه بخلاف البواقي ، وقرأ الكسائي بالإمالة ، وورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح. {ثم يميتكم} عند انقضاء آجالكم {ثم يحييكم} للبعث يوم ينفخ في الصور أو للسؤال في القبور.
جزء : 1 رقم الصفحة : 48
قال التفتازاني : ولم لا يجوز أن يراد مطلق الإحياء بعد الإماتة على ما يعم الإحياء في القبور والنشور ، ولا بعد فيه لشدّة ارتباط الإحياءين واتصالهما في الانقطاع عن أمر الدنيا {ثم إليه ترجعون} تردّون بعد الحشر فيجازيكم بأعمالكم أو تنشرون إليه من قبوركم للحساب فما أعجب كفركم مع عملكم بحالكم هذه.
فإن قيل : إن علموا أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم يميتهم لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه يرجعون أجيب : بأن تمكنهم من العلم بما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر سيما في الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما وهو أنه تعالى لما قدر على إحيائهم أولاً قدر على أن يحييهم ثانياً فإنّ بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته.(1/41)
فإن قيل : كيف تعدّ الإماتة من النعم المقتضية للشكر ؟
أجيب : بأنها لما كانت وصلة للحياة الدائمة التي هي الحقيقية كما قال تعالى : {وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان} (العنكبوت ، 64) يعني :
51
الحياة ، كانت من النعم العظيمة مع أنّ المعدود عليهم نعمة هو المعنى المتنزع من القصة بأسرها كما أن الواقع حالاً هو العلم بها لا كل واحدة من الجمل فإنّ بعضها ماض وبعضها مستقبل وكلاهما لا يصح حالاً ويصح أن يكون الخطاب مع الكفار والمؤمنين فإنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد والنبوّة ووعدهم على الإيمان وأوعدهم على الكفر أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامّة والخاصة واستبعد صدور الكفر منهم واستبعده عنهم مع تلك النعم الجليلة فإنّ عظم النعم يوجب عظم معصية المنعم وأن يكون مع المؤمنين خاصة لتقرير المنة عليهم وتبعيد الكفر عنهم على معنى كيف يتصوّر الكفر منكم وكنتم أمواتاً أي : جهالاً فأحياكم بما أفادكم من العلم والإيمان ثم يميتكم الموت المعروف ثم يحييكم الحياة الحقيقية ثم إليه ترجعون فينبئكم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، والحياة حقيقة في القوّة الحاسة أو ما يقتضيها وبها سمي الحيوان حيواناً مجاز في القوّة النامية لأنها من طلائعها ومقدّماتها وفيما يخص الإنسان من الفضائل كالعلم والعقل والإيمان من حيث أنه كمالها وغايتها والموت بإزائها ، يقال على ما يقابلها في كل مرتبة مثال ما يقابل الحقيقة قوله تعالى : {قل الله يحييكم ثم يميتكم} (الجاثية ، 26) ومثال ما يقابل المجاز الأوّل قوله تعالى : {اعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها} (الحديد ، 17) ومثال ما يقابل المجاز الثاني قوله تعالى : {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} (الأنعام ، 122) وإذا وصف بها الباري تعالى أريد بها صحة اتصافه بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوّة فينا أو معنى قائم بذاته تعالى ، ثم أومأ إلى مشيئته وقدرته فقال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 48
{هو الذي خلق لكم ما في الأرض} أي : لأجلكم وانتفاعكم في دنياكم باستنفاعكم بها في مصالح أبدانكم بوسط كالأدوية المركبة ، أو غير وسط كالثمرة والأدوية المفردة ، وفي دينكم بالاستدلال على موجدكم ففي ذلك نعمة على عباده سبحانه وتعالى وما نعم كل ما في الأرض لا الأرض إلا إن أريد بالأرض جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو وقوله تعالى : {جميعاً} حال من الموصول الثاني وهو ما وهي حال مؤكدة لما لاتحادهما في العموم وهذا أقرب من جعله حالاً من ضمير لكم لأنّ سياق الآيات إنما هو في تعداد النعم لا في تعداد المنعم عليهم ، ولأنّ المنة بتعداد النعم أظهر من المنة بتعداد المنعم عليهم لأنّ مقدار النعم يصل إلى كل أحد {ثم استوى إلى السماء} أي : قصد إلى خلقها بإرادته ، وأصل الاستواء طلب السواء وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الأجزاء ولا يمكن حمله على الله تعالى لأنه من خوّاص الأجسام وقيل : استوى استولى كما قيل :
*قد استوى بشر على العراق ** من غير سيف ودم مهراق*
والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية أو جهات العلو ليطابق قوله تعالى : {فسوّاهنّ سبع سموات} فجمع الضمير العائد إلى السماء لإرادة الجنس ، وقيل : لأنّ السماء جمع سماءة أي : جعلهنّ مستويات لا شقوق فيهنّ ولا تفاوت ، قال البيضاويّ : وثم لعله لتفاوت ما بين الخلقين أي :
52
في القدر والعظم وفضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى : {ثم كان من الذين آمنوا} (البلد ، 17) لا للتراخي في الوقت فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى : {والأرض بعد ذلك دحاها} (النازعات ، 30) فإنه يدل على تأخر دحو الأرض المتقدّم على خلق ما فيها عن خلق السماء وتسويتها. اه ، وأجيب : بأنه لا يدل على ذلك لأن تقدّم خلق جرم الأرض على خلق جرم السماء لا ينافي تأخر دحوها عنه وهو بسطها ، وردّه التفتازانيّ بأنه ليس على ما ينبغي لأن ثم تدل على تأخر خلق السماء عن خلق ما في الأرض من عجائب الصنع حتى أسباب اللذات والآلام وأنواع الحيوانات حتى الهوام لا عن مجرّد خلق جرم الأرض قال : وسنذكر في حم السجدة ما يدل على تأخر خلق السماء عن خلق الأرض ودحوها جميعاً حتى قيل : إنه خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ثم خلق السماء وما فيها في يومين وكثر ذلك في الروايات فلا يفيد حمل ثم على تراخي الرتبة ، اه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 52
والأوجه كما قاله بعض المفسرين الموافق لظاهر ما هنا وما سيأتي في فصلت تأويله مع الإيضاح أن يقال : إنّ خلق جرم الأرض مقدّم على خلق جرم السماء ، وخلق وصفها ـ أعني : دحوها ـ مقدّم على خلق وصف السماء أعني تسويتها سبعاً ، فمرجع الإشارة في قوله تعالى بعد ذلك جرم السماء لا وصفها وبذلك علم أن جعل ثم للتراخي في الوقت لا يخالف ما ذكر خلافاً لما زعمه البيضاويّ.(1/42)
فإن قيل : أليس أنّ أصحاب الأرصاد أثبتوا بالبراهين تسعة أفلاك وهي كرة القمر ، فكرة عطارد ، فكرة الزهرة ، فكرة الشمس ، فكرة المريخ ، فكرة المشتري ، فكرة زحل ، فالفلك الذي فيه الكواكب الثابتة ، فالفلك الأعظم وهو متحرّك كل يوم وليلة على التقرب دورة واحدة ؟
أجيب : بأنّ ما ذكروه ليس مستنداً إلى دليل شرعي فلا ينبغي اعتباره. قال البيضاويّ : وإن صح فليس في الآية نفي الزائد مع أنه إن ضمّ إليها العرش والكرسي لم يبق خلاف وقوله تعالى : {وهو بكل شيء عليم} أي : مجملاً ومفصلاً فيه تعليل كأنه قال : ولكونه عالماً بكيفية الأشياء كلها خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع واستدلال بأنّ من كان فعله على هذا النسق العجيب والترتيب الأنيق كان عليماً فإنّ إتقان الأفعال وإحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع لا يتصوّر إلا من عالم حكيم رحيم أفلا تعتبرون أنّ القادر على خلق ذلك ابتداءً وهو أعظم منكم قادر على إعادتكم. وقرأ حمزة والكسائي ثم استوى وفسوّاهنّ بالإمالة ، وورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح ، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائيّ وهو بسكون الهاء ، والباقون بضمها ، {و} اذكر يا محمد {إذ قال ربك للملائكة} وقيل : إذ زائدة أي : وقال ربك : وكل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله وهو إلا إما يقدّر اذكر وهو الأولى أو تكون إذ مزيدة وإذ وإذا ظرفا توقيت إلا أنّ إذ للماضي وإذا للمستقبل وقد يوضع أحدهما موضع الآخر ، قال المبرد : إذا جاء إذ مع المستقبل كان معناه ماضياً كقوله تعالى : {وإذ يمكر} (الأنفال ، 30) يعني : وإذ مكروا ، وإذا جاء إذا مع الماضي كان معناه مستقبلاً كقوله تعالى : {إذا جاء نصر الله} (الفتح ، 1) أي : سيجيء ، وقرأ أبو عمرو بإدغام اللام في الراء بخلاف عنه ، والباقون بالإظهار ، والملائكة جمع ملك أصله ملاك والتاء لتأنيث الجمع وهو مقلوب مألك من الألوكة وهي الرسالة لأنهم وسايط بين الله تعالى وبين الناس فهم رسل الله أو كالرسل إليهم لتوسط الأنبياء بينهم وبين الناس واختلف العقلاء في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسها فذهب أكثر المسلمين إلى
53
جزء : 1 رقم الصفحة : 52(1/43)
أنها أجسام لطيفة شفافة ويعبرون عنها بنورانية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة والجنّ قادرة على ذلك واستدلوا على ذلك بأنّ الرسل كانوا يرونهم أجساماً لطيفة متشكلة بأشكال مختلفة وزعم الحكماء ـ يعني الفلاسفة ـ أنهم جواهر مجرّدة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة ، وقالت طائفة من النصارى : هي النفوس الفاضلة أي : المتصفة بفضائل العلم والعمل ، بخلاف الشرّيرة فإنها عندهم : الشياطين البشرية الناطفة. قوله : البشرية وما بعده صفة للنفوس المفارقة للأبدان يعني : ما دامت في الأبدان تسمى النفوس ، فإذا فارقتها كانت الملائكة ، والمقول له الملائكة كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص ، وقيل : ملائكة الأرض وذلك أنّ الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجنّ فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجنّ في الأرض فمكثوا فيها دهراً طويلاً ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فأفسدوا فيها فبعث الله تعالى إليهم جنداً من الملائكة يقال له : الجنّ وهم خزان الجنان اشتق لهم اسم من الجنة رأسهم إبليس فكان رئيسهم ومن أشدّهم وأكثرهم علماً فهبطوا إلى الأرض وطردوا الجنّ إلى شعوب الجبال وبطون الأودية وجزائر البحور وسكنوا الأرض وخفف الله تعالى عنهم العبادة وأعطى الله تعالى إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة وكان يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله العجب وقال : ما أعطاني الله تعالى هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال الله تعالى له ولجنده : {إني جاعل في الأرض خليفة} وجاعل من جعل الذي له مفعولان وهما في الأرض خليفة أعمل فيهما لأنه بمعنى الاستقبال ومعتمد على مسند إليه ويجوز أن يكون بمعنى خالق فيتعدّى لمفعول واحد وهو خليفة والخليفة من يخلف غيره وينوب عنه ، أي : جاعله بدلاً منكم ورافعكم إليّ فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة ، والهاء فيه للمبالغة والمراد به لآدم صلى الله عليه وسلم لأنه كان خليفة الله في أرضه وكذا كل نبيّ استخلفه الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فبضه وتلقي أمره بغير وسط ولذلك لم يستنبىء ملكاً كما قال تعالى : {ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً} (الأنعام ، 9) أي : في صورة رجل ألا ترى أنّ الأنبياء لما فاقت قوّتهم واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسه نار أرسل إليهم الملائكة ومن كان من الأنبياء أعلى رتبة كلمه بلا واسطة كما كلم موسى صلاة الله وسلامه عليه في الميقات ومحمداً صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ، وقيل : إنه خليفة من سكن الأرض قبله ، وقيل : المراد آدم وذرّيته لأنهم يخلفون من قبلهم أو يخلف بعضهم بعضاً وإفراد اللفظ إمّا للاستغناء بذكره عن ذكر بنيه أو على تأويل من يخلف ، وفائدة قوله هذا للملائكة تعليم المشاورة وتعظيم شأن المجعول بأن بشر تعالى بوجود سكان ملكوته ولقبه بالخليفة قبل خلقه وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم وجوابه وبيان أنّ الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره فإن ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شر كثير إلى غير ذلك {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} بالمعاصي {ويسفك الدماء} أي : يريقها بالقتل كما فعل بنو الجان تعجبوا من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد وقصدهم استكشاف ما خفي عليهم من الحكمة التي بهرت تلك المفاسد وألغتها وليس باعتراض على الله تعالى ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله تعالى : {بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} (الأنبياء ، 26) وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى أو تلق من اللوح أو استنباط عما ركز في عقولهم أنّ
54
جزء : 1 رقم الصفحة : 52
العصمة من خواصهم أو قياس لأحد الثقلين على الآخر وإلا فهم ما كانوا يعلمون الغيب {ونحن نسبح} متلبسين {بحمدك} أي : نقول سبحان الله وبحمده وهذه صلاة ما عدا الآدميين وعليها يرزقون قال تعالى : {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} (الإسراء ، 44) أي : يقول : سبحان الله وبحمده.(1/44)
روي عن أبي ذرّ : "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أيّ الكلام أفضل ؟
قال : ما اصطفى الله ملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده" وقيل : ونحن نصلي بأمرك ، قال ابن عباس : كل ما في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة {ونقدّس لك} ننزهك عما لا يليق بك ، فاللام صلة والجملة حال مقرّرة لجهة الإشكال كقولك : أتحسن إلى أعدائك وأنا الصديق المحتاج ، والمعنى : أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك ، والمقصود منه الاستفسار عما رجحهم مع ما هو متوقع منهم على الملائكة المعصومين في الاستخلاف لا العجب والتفاخر ، وقيل : نقدّس لك نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك ، كأنهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك عند قوم بالتسبيح وسفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة بتطهر النفس عن الآثام {قال} تعالى : {إني أعلم ما لا تعلمون} من المصلحة في استخلاف آدم وأنّ ذريته فيهم المطيع والعاصي فيظهر العدل بينهم ، وقيل : إني أعلم أنّ فيكم من يعصيني وهو إبليس وجنوده ، وقيل : إني أعلم أنهم مذنبون وأنا أغفر لهم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الباء ، والباقون بالسكون وهم على مراتبهم في المدّ.
{وعلم آدم الأسماء} أي أسماء المسميات {كلها} حتى القصعة والمغرفة ، وقيل : علمه اسم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وقيل : صيغة كل شيء. قال أهل التأويل : إنّ الله عز وجل علم آدم جميع اللغات ثم كل واحد من أولاده بلغة فتفرّقوا في البلدان واختص كل فرقة منهم بلغة وذلك إمّا بخلق علم ضروري بها فيه أو ألقى في قلبه علمها أو بإرسال ملك أو بخطاب الله له أو بخلق الأصوات في الأجسام المسميات ، والتعليم فعل يترتب عليه العلم غالباً ، ولذلك يقال : علمته فلم يتعلم. وآدم اسم أعجمي كسائر الأنبياء إلا صالحاً وشعيباً ولوطاً ومحمداً بل قيل : إنّ آدم أيضاً عربي وعلى هذا فاشتقاقه من الأدمة بضم الهمزة وسكون الدال بمعنى السمرة ، أو الأدمة بفتح الهمزة والدال بمعنى الأسوة أي : القدوة أو من أديم الأرض أي : ظاهر وجهها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 52
روى الحاكم وصححه أنه صلى الله عليه وسلم قال : "إنّ الله قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها" ـ وهو بفتح الحاء المهملة ما غلظ من الأرض وصلب أي : وعجنت بالمياه المختلفة ـ فخلق منها آدم ونفخ فيه الروح فصار حيواناً حساساً بعد أن كان جماداً فلذلك يأتي بنوه مختلفين في الألوان والأخلاق والهيئات ، وأمّا على الأوّل فلا اشتقاق له لأنّ ذلك إنما يأتي في الأسماء العربية والأعجمي لا اشتقاق له ، وكنيته أبو محمد وأبو البشر والمعنى أنه تعالى خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباعدة مستعدّاً لإدراك أنواع المدركات والمعقولات والمحسوسات والمخيلات والموهومات وألهمه معرفة ذوات الأشياء وخواصها وأسمائها وأصول العلوم وقوانين الصناعات وكيفية آلاتها. وقرأ ورش في الهمزة من آدم بالمدّ والتوسط والقصر حيث جاء ، وقوله تعالى : {ثم عرضهم على الملائكة} الضمير فيه للمسميات المدلول عليها ضمناً في قوله تعالى : {وعلم آدم الأسماء} إذ التقدير أسماء المسميات كما مرّ تقريره فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه
55
وعوض عنه اللام في الأسماء كقوله تعالى : {واشتعل الرأس شيباً} (مريم ، 4) لأنّ العرض للسؤال عن أسماء المعروضات فلا يكون المعروض نفس الأسماء إذ العرض لا يصح فيها لأنها من المسموعات والعرض يختص بالمحسوسات بالعين تقول : عرضت الجند عرض العين إذا مررتهم عليك ونظرت ما حالهم.
فإن قيل : لم قال عرضهم ولم يقل عرضها ؟
أجيب : بأنّ الأسماء إذا جمعت جمع من يعقل ومن لا يعقل يكنى عنها بلفظ من يعقل كما يكنى عن الذكور والإناث بلفظ الذكور ، وقال مقاتل : خلق الله كل شيء الحيوان والجماد ثم عرض تلك الشخوص على الملائكة ، والكناية راجعة إلى الشخوص فلذلك قال : {عرضهم على الملائكة} {فقال} لهم سبحانه وتعالى تبكيتاً لهم وتنبيهاً على عجزهم عن أمر الخلافة {أنبئوني} أي : أخبروني {بأسماء هؤلاء} المسميات {إن كنتم صادقين} أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أفضل وأعلم منه وذلك أنّ الملائكة قالوا لما قال : {إني جاعل في الأرض خليفة} : ليخلق ربنا ما يشاء فلن يخلق خلقاً أكرم عليه منا وإن كان فنحن أعلم منه لأنا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره فأظهر الله تعالى فضله عليهم بالعلم ، وجواب الشرط دل عليه ما قبله.(1/45)
{قالوا} أي : الملائكة إقراراً بالعجز وإشعاراً بأنّ سؤالهم كان استفساراً ولم يكن اعتراضاً وأنه قد بان لهم ما خفي عليهم من فضل الإنسان والحكمة في خلقه وإظهاراً لشكر نعمته بما عرفهم وكشف لهم ما التبس عليهم {سبحانك} تنزيهاً عن الاعتراض عليك {لا علم لنا إلا ما علمتنا} إياه وفي هذا مراعاة للأدب بتفويض العلم كله إليه سبحانه وتعالى وتصدير الكلام بسبحان إعتذار عن الاستفسار والجهل بحقيقة الحال فإنه تعالى منزه عن أن يفعل ما يخرج عن الحكمة ، ولذلك جعل مفتاح التوبة فقال موسى عليه الصلاة والسلام : {سبحانك تبت إليك} (الأعراف ، 143) وقال يونس عليه الصلاة والسلام : {سبحانك إني كنت من الظالمين} (الأنبياء ، 87) .
جزء : 1 رقم الصفحة : 52
تنبيه : اجتمع في قوله تعالى : {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} أربع مدّات ، الأولى : أنبئوني ، والثانية بأسماء ، والثالثة والرابعة هؤلاء إن ، فالأول مدّ بدل ، والثاني مدّ متصل ، والثالث مدّ منفصل ، والرابع مخير لا متصل قطعاً ولا منفصل قطعاً عند من يقول بإسقاط إحدى الهمزتين ، فأمّا الأوّل فلورش فيه المدّ والتوسط والقصر ، وأمّا الثاني فبالمدّ للجميع لأنه متصل ، وأمّا الثالث ففيه المدّ والقصر كما تقدّم لأنه منفصل ، وأمّا الرابع وهو أولاء إن ففيه همزتان مكسورتان من كلمتين فقالون والبزي يسهلان الأولى مع المدّ والقصر ، وورش وقنبل يسهلان الثانية ويجعلانها حرف مدّ ، وأبو عمرو يسقط الأولى والثانية فمن قال بإسقاط الأولى مدّ وقصر ، ومن قال بإسقاط الثانية فبالمدّ فقط ، وباقي القرّاء يحققون الهمزتين وهم على مراتبهم في المدّ {إنك أنت العليم} الذي لا يخفى عليه خافية {الحكيم} المحكم لمبدعاته الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة ، وأنت ضمير فصل ، وقيل : تأكيد للكاف كما في قولك : مررت بك أنت وإن لم يجز مررت بأنت إذ التابع يسوغ فيه ما لا يسوغ في المتبوع ، وقيل : مبتدأ خبره ما بعده والجملة خبر إن.
جزء : 1 رقم الصفحة : 52
56
{قال} تعالى : {يا آدم أنبئهم} أي : أخبر الملائكة {بأسمائهم} أي : المسميات فسمى آدم كل شيء باسمه وذكر الحكمة التي لأجلها خلق {فلما أنبأهم بأسمائهم قال} الله تعالى لهم موبخاً {ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض} أي : ما غاب فيها {وأعلم ما تبدون} أي تظهرون من قولكم : {أتجعل فيها} إلخ : {وما كنتم تكتمون} أي : تسرون من قولكم : لن يخلق أكرم عليه منا ولا أعلم ، وقيل : ما أظهروا من الطاعة وأسره إبليس من المعصية ، والهمزة في {ألم أقل} للإنكار بمعنى النفي دخلت على حرف الجحد فأفادت الإثبات والتقرير.
تنبيه : هذه الآيات وهي آية {وعلم آدم} وآية {سبحانك} وآية {قال يا آدم} تدل على شرف الإنسان ومزية العلم وفضله على العبادة وإلا لأظهر فضل آدم بها ، وأن العلم بما يستخلف فيه شرط في الخلافة بل العمدة فيها ، وأن التعليم يصح إسناده إلى الله تعالى وإن لم يصح إطلاق المعلم عليه لاختصاصه بمن يحترف به وأنّ اللغات توقيفية ، فإن الأسماء تدل على الألفاظ بخصوص أو عموم وتعليمها ظاهر في إلقائها على المتعلم مبيناً له معانيها وذلك يستدعي سابقة وضع ، والأصل ينفي أن يكون ذلك الوضع ممن كان قبل آدم من الملائكة والجنّ فيكون من الله وأنّ مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم لتغاير المتعاطفين وإلا لتكرر قوله : {إنك أنت العليم الحكيم} ، وأنّ علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة وأنّ آدم أفضل من هؤلاء الملائكة لأنه أعلم منهم والأعلم أفضل لقوله تعالى : {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (الزمر ، 9) وأن الأنبياء أفضل من الملائكة وإن كانوا رسلاً كما ذهب إليه أهل السنة وأنه تعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها لأنه أخبر عن علمه تعالى بأسماء المسميات جميعها ولم تكن موجودة قبل الإخبار.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 56(1/46)
و} اذكر {إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} لما أنبأهم بالأسماء وعلمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له واعترافاً بفضله وأداء لحقه واعتذاراً عما قالوا فيه أو أمرهم به قبل أن يسوي خلقه لقوله تعالى : {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} (الحجر ، 29) (ص ، 72) امتحاناً لهم وإظهاراً لفضله ، وقضية الأوّل تأخير الأمر به عن تسوية خلقه بدليل تأخيره عن أنبائهم وتعليمهم المستلزمين لتسوية خلقه ، وعلى الثاني اقتصر بعض المفسرين وهو الظاهر ، وأجيب عن دليل الأوّل بأنّ الواو في قوله : وإذ قلنا لا تقتضي الترتيب والسجود في الأصل تذلل مع تطامن وفي الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة ، والمأمور به إمّا المعنى الشرعي فالمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى وجعل آدم قبلة سجودهم تفخيماً لشأنه أو سبباً لوجوبه كما جعلت الكعبة قبلة للصلاة والصلاة لله فمعنى اسجدوا له أي : إليه وكأنه تعالى لما خلقه بحيث يكون أنموذجاً أي : مثالاً للمبدعات كلها بل الموجودات بأسرها ومجمعاً لما في العالم الروحاني والجثماني وذريعة للملائكة إلى استيفاء ما قدّر لهم من الكمالات ووصلة إلى ظهور ما تباينوا فيه من
57
المراتب والدرجات أمرهم بالسجود تذللاً لما رأوا فيه من عظيم قدرته وباهر آياته وشكراً لما أنعم عليهم بواسطته ، وأما المعنى اللغويّ وهو التواضع لآدم تحية وتعظيماً له كسجود إخوة يوسف له في قوله تعالى : {وخروا له سجداً} (يوسف ، 100) ولم يكن فيه وضع الجبهة بالأرض إنما كان الانحناء فلما جاء الإسلام بطل ذلك بالسلام والكلام في أنّ المأمورين بالسجود الملائكة كلهم أو طائفة منهم مثل ما مرّ {فسجدوا} أي : الملائكة {إلا إبليس أبى واستكبر} أي : امتنع عما أمر به استكباراً من أن يتخذه وصلة في عبادة ربه أو يعظمه أو يتلقاه بالتحية أو يخدمه ويسعى فيما فيه خيره وصلاحه ، وقال : أنا خير منه ، والإباء امتناع واختيار ، والتكبر أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره ، والاستكبار طلب ذلك بالتشبع وهو التزين بأكبر مما عنده يتكبر بذلك ويتزين بالباطل {وكان من الكافرين} أي : في علم الله أو صار منهم باستقباحه أمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم اعتقاداً بأنه أفضل منه ، والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوسل به كما أشعر به قوله تعالى : {أنا خير منه} جواباً لقوله تعالى : {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين} (ص ، 75) لا بترك الواجب وهو السجود وحده ، والآية تدل على أنّ آدم أفضل من الملائكة المأمورين بالسجود له وأنّ إبليس كان من الملائكة وإلا لم يتناوله أمرهم ولم يصح استثناؤه منهم ولا يرد على ذلك قوله تعالى : {إلا إبليس كان من الجنّ} (الكهف ، 50) لجواز أن يقال : كان من الجنّ فعلاً ومن الملائكة نوعاً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 56
فإن قيل : له ذرية والملائكة لا ذرية لهم. أجيب : بأنّ ابن عباس روى أنّ من الملائكة نوعاً يتوالدون يقال لهم : الجن ومنهم إبليس ، وقيل : إن الله تعالى لما أخرجه من الملائكة جعل له ذرية وأنّ من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم العصمة كما أنّ من الإنس معصومين وهم الأنبياء والغالب في الإنس عدم العصمة ولمن زعم أنه لم يكن من الملائكة أن يقول إنه كان جنياً نشأ بين أظهر الملائكة وكان مغموراً بالألوف منهم فغلبوا عليه لقوله تعالى : {إلا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربه} (الكهف ، 50) وهو أصل الجنّ كما أنّ آدم أصل الإنس ولأنه خلق من النار والملائكة خلقوا من النور ، قال البغوي : والأوّل أصح لأنّ خطاب السجود كان مع الملائكة وقوله تعالى : {كان من الجنّ} أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة ، وقال سعيد بن جبير : من الذين يعملون في الجنة ، وقال قوم : من الملائكة الذين كانوا يصوغون حلى الجنة وقيل : إنّ الجنّ أيضاً كانوا مأمورين مع الملائكة لكنه استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم فإذا علم أن الأكابر وهم الملائكة مأمورون بالتذلل لأحد والتوسل به علم أيضاً أن الأصاغر وهم الجنّ مأمورون به أيضاً والضمير في فسجدوا راجع للقبيلين فكأنه قال : فسجد المأمورون بالسجود إلا إبليس.
تنبيه : من فوائد الآية استقباح الاستكبار وأنه يفضي بصاحبه إلى الكفر والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض فيما لا ينبغي في سر نفسه وأن الأمر للوجوب وأن الذي علم الله من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة إذ العبرة بالخواتيم وإن كان بحكم الوقت الحاضر مؤمناً.
{وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} أي : اتخذ الجنة مسكناً لتستقر فيها لأنها استقرار ولبث ولفظة أنت تأكيد أكد به المستكن ليصح العطف عليه وإنما لم يخاطبهما أوّلاً بأن يقول اسكنا تنبيهاً على أنه المقصود بالحكم وهو الأمر بالسكنى التي هي الأصل بالنسبة إلى ما عطف عليها من الأكل وغيره والمعطوف عليه تبع له حتى في الوجود إذ لم يكن له من يؤنسه في الجنة فخلقت حوّاء
58(1/47)
ـ بالمدّ ـ من ضلعه الأقصر من جانبه الأيسر وهو نائم فلما استيقظ من نومه رآها جالسة عند رأسه كأحسن ما خلق الله فقال : من أنت ؟
قالت : زوجتك خلقني الله لك أسكن إليك وتسكن إليّ. وسميت حوّاء لأنها خلقت من حيّ خلقها الله من غير أن يحس بها آدم ولا وجد لخلقها ألماً ولو وجد له ألماً لما عطف رجل على امرأة قط ، وإنما صح العطف على المستكن مع أنّ المعطوف لا يباشر فعل الأمر لأنه وقع تابعاً ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ، والجنة دار الثواب لأنّ اللام للعهد ولا معهود غيرها ، ومن زعم أنها لم تخلق بعد قال : إنّ الجنة بستان كان بأرض فلسطين أو بين فارس وكرمان خلقه الله تعالى امتحاناً لآدم وحمل الإهباط على الانتقال منه إلى أرض الهند كما في قوله تعالى : {اهبطوا مصراً} {فكلا منها} أكلاً {رغداً} أي : واسعاً لذيذاً لا حجر فيه فرغداً صفة مصدر محذوف وقيل : مصدر في موضع الحال {حيث} أي : أي مكان من الجنة {شئتما} وسع الأمر عليهما إزالة للعلة والعذر في التناول من الشجرة المنهي عنها من بين أشجارها التي لا تنحصر. وقرأ أبو عمرو بإدغام الثاء في الشين بخلاف عنه وأبدل السوسي الهمزة وقفاً ووصلاً وحمزة في الوقف فقط {ولا تقربا هذه الشجرة} بالأكل منها وهي شجرة الحنطة أو الكافور أو شجرة العنب و التين شجرة من أكل منها أحدث والأولى كما قال البيضاوي : أن لا تعين من غير دليل قاطع أو ظاهر كما لم تعين في الآية لعدم توقف ما هو المقصود على التعيين {فتكونا} أي : فتصيرا {من الظالمين} أي : العاصين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 56
تنبيه : في هذه الآية مبالغتان : الأولى : تعليق النهي بالقرب الذي هو من مقدمات التناول مبالغة في تحريمه ووجوب الاجتناب عنه وتنبيهاً على أن القرب من الشيء يورث داعية وميلاً يأخذ بمجامع القلب ويلهيه عما هو مقتضى العقل والشرع كما روى أبو داود : حبك الشيء يعمى ويصم أي : يخفى عليك معانيه ويصم أذنيك عن سماع مساويه فينبغي أن لا يحول ما حول ما حرّم عليهما مخافة أن يقعا فيه.
الثانية : جعل قربانهما إلى الشجرة سبباً لأن يكونا من الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي {فأزلهما الشيطان} أي : إبليس سمي به لبعده عن الخير والرحمة وقرأ حمزة بألف بعد الزاي وتخفيف اللام أي : نحاهما والباقون بغير ألف بعد الزاي وتشديد اللام أي : أذهبهما {عنها} أي : الجنة وإزلاله قوله : هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى وقوله : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ومقاسمته إياهما بقوله : إني لكما لمن الناصحين واختلف في أنه تمثّل لهما فقال لهما ذلك أو ألقاه إليهما على طريق الوسوسة وكيف توصل إلى إزلالهما بعد ما قيل له : اخرج منها فإنك رجيم فقيل : إنه منع من الدخول بعد خروجه.
الأول : على جهة التكرمة كما كان يدخل مع الملائكة ولم يمنع أن يدخل لوسوسة ابتلاء لآدم وحواء فلما دخل وقف بين يدي آدم وحواء وهما لا يعلمان أنه إبليس فبكى وناح نياحة أحزنتهما وهو أول من ناح فقالا له : ما يبكيك ؟
فقال : أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة ، وكان آدم لما رأى ما في الجنة من النعيم قال : لو أن خلدا فاغتنم الشيطان ذلك منه فإتاه الشيطان من قبل الخلد فوقع قوله في أنفسهما واغتما ومضى إبليس ثم أتاهما بعد ذلك وقال : يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد ؟
فأبى أن يقبل منه فقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين فاغترّا وما ظنَّا أن أحداً
59(1/48)
يحلف بالله كاذباً فبادرت حواء إلى أكل الشجرة ثم ناولت حواء آدم حتى أكلها وكان سعيد بن المسيب يحلف بالله ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن حواء سقته الخمر حتى سكر فأدّته إليه فأكل وقيل : قام عند الباب فناداهما وقيل : تمثل بصورة دابة فدخل ولم تعرفه الخزنة وقيل : دخل في فم الحية حتى دخلت به وكانت صديقاً لإبليس وكانت من أحسن الدواب ، لها أربع قوائم كقوائم البعير وكانت من خزان الجنة فسألها إبليس أن تدخله الجنة في فمها فأدخلته ومرّت به على الخزنة وهم لا يعلمون فأدخلته الجنة وقيل : أرسل بعض أتباعه فأزلهما والعلم في ذلك كما قال البيضاوي عند الله {فأخرجهما مما كانا فيه} من الكراخة والنعيم. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : قال الله تعالى لآدم : أليس فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة ؟
قال : بلى يا رب وعزتك ولكن ما ظننت أن أحداً يحلف بك كاذباً قال : فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كداً ، فأهبطا من الجنة وكانا يأكلان فيها رغداً فعلم من صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وزرع ثم سقى حتى إذا بلغ حصد ثم درسه ثم ذرّاه ثم طحنه ثم عجنه ثم خبزه ثم أكله فلم يبلغه حتى بلغ منه ، ما شاء الله. قال إبراهيم بن أدهم أورثتنا تلك الأكلة حزناً طويلاً ، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ آدم لما أكل من الشجرة التي نهي عنها قال الله عز وجل : يا آدم ما حملك على ما صنعت ؟
قال : يا رب زينته لي حوّاء ، قال : فإني أعقبتها أن لا تحمل إلا كرهاً ولا تضع إلا كرهاً ودميتها في الشهر مرتين ، فرنت حوّاء عند ذلك ، فقيل : عليك الرنة وعلى بناتك فلما أكلا منها سقطت عنهما ثيابهما وبدت سوآتهما وأُخرجا من الجنة فذلك قوله تعالى : {وقلنا اهبطوا} خطاب لآدم وحوّاء لقوله تعالى : {قال اهبطا منها جميعاً} (طه ، 123) وجمع الضمير لأنهما أصل الإنس فكأنهما الإنس كلهم أو هما وإبليس أخرج منها ثانياً بعدما كان يدخلها للوسوسة أو دخلها مسارقة أو من السماء لا من الباب على الخلاف المتقدّم ، وقيل : هما وإبليس والحية فهبط آدم بسرنديب بأرض الهند على جبل يقال له : نود وحوّاء بجدّة وإبليس بالإبلة وقيل : ببيسان بالبصرة على أميال والحية بأصبهان ، وقوله تعالى : {بعضكم لبعض عدوّ} حال استغنى فيها عن الواو بالضمير والمعنى متعادين ، فإن كان الخطاب لآدم وحوّاء فقط فالمراد ببعضكم : بعض الذرّية أي : بعض ذرّيتكم لبعض عدوّ من ظلم بعضهم بعضاً ، وإن كان الخطاب لهما ولإبليس والحية فالمراد العداوة بين المؤمنين من ذرّية آدم والحية وبين إبليس ، قال الله عز وجل : {إنّ الشيطان لكما عدوّ مبين} (الأعراف ، 22) ، وروى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يأمر بقتل الحيات وقال : من تركهنّ خشية أو مخافة تأثر فليس منا ، وزاد موسى بن مسلم عن عكرمة في الحديث ما سالمناهنّ منذ حاربناهنّ ، وروي أنه نهى عن ذوات البيوت.
جزء : 1 رقم الصفحة : 56
وروي عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أنّ بالمدينة جناً قد أسلموا فإن رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان" {ولكم في الأرض مستقرّ} أي : موضع قرار {ومتاع} ما تتمتعون به من نباتها {إلى حين} أي : وقت إنقضاء آجالكم {فتلقى آدم من ربه كلمات} أي : استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها وهي {ربنا ظلمنا أنفسنا} (الأعراف ، 23) الآية ، وقيل : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك لا إله إلا أنت
60
ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : "قال آدم : يا رب ألم تخلقني بيدك ؟
قال : بلى ، قال : يا رب ألم تنفخ فيّ الروح من روحك ؟
قال : بلى ، قال : ألم تسكني جنتك ؟
قال : بلى ، قال : يا رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة ؟
قال : نعم" ، رواه الحاكم وصححه. وقول آدم أراجعي بتخفيف الياء اسم فاعل أضيف إلى المفعول وأنت فاعل لاعتماده على الاستفهام ، أو مبتدأ خبره ما قبله ، وقرأ ابن كثير بنصب الميم من آدم ورفع التاء من كلمات على أنها تلقته ، والباقون برفع الميم وكسر التاء والكسر هذا علامة النصب لأنه جمع مؤنث سالم فينصب بالكسرة {فتاب عليه} أي : قبل توبته وإنما رتب تاب عليه بالفاء على تلقي الكلمات لتضمن تلقي الكلمات معنى التوبة وهو الاعتراف بالذنب والندم عليه والعزم على أن لا يعود إليه وردّ المظالم إن كانت واكتفى بذكر آدم لأنّ حوّاء كانت تبعاً له في الحكم ، ولذلك طوي ذكر النساء في أكثر القرآن والسنن {إنه هو التوّاب} الرجاع على عباده بالمغفرة ، أو الذي يكثر إعانتهم على التوبة ، وإذا وصف بها البارىء أريد بها الرجوع من العقوبة إلى المغفرة {الرحيم} البالغ في الرحمة ، وفي الجمع بين التوبة والرحمة وعد للتائب بالإحسان مع العفو.
جزء : 1 رقم الصفحة : 56(1/49)
{قلنا اهبطوا منها} أي : من الجنة {جميعاً} كرّر للتأكيد أو لاختلاف المقصود فإنّ الأوّل دل على هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون ، والثاني أشعر بأنهم أهبطوا للتكليف فمن اهتدى لهذا نجا ومن ضله هلك ، وقيل : الهبوط الأوّل من الجنة إلى السماء الدنيا ، والهبوط الثاني من السماء الدنيا إلى الأرض {فإمّا} فيه إدغام إنّ الشرطية في ما المزيدة {يأتينكم} يا ذرّية آدم {مني هدى} أي : رشد وبيان شريعة ، وقيل : كتاب ورسول {فمن تبع هداي} بأن آمن بي وعمل بطاعتي وكرّر لفظ الهدى ولم يضمر إمّا لإظهار شأنه وفخامته خصوصاً مع إضافته إليه ، أو لأنه أراد بالثاني أعمّ من الأوّل وهو ما أتى به الرسل واقتضاه العقل أي : فمن تبع ما أتاه راعياً فيه ما يشهد به العقل {فلا خوف عليهم} فضلاً من أن يحل بهم مكروه {ولا هم يحزنون} بفوات محبوب عنهم وهو النظر إلى وجهه تعالى فيحزنوا عليه بل يتنعمون بالنظر إلى وجهه تعالى فإنه المقصود الأعظم فالخوف على الواقع نفى عنهم العقاب فأثبت لهم الثواب على آكد وجه وأبلغه ، وقيل : لا خوف عليهم في الدنيا ولا هم يحزنون في الآخرة. وأمال الدوري عن الكسائي ألف هداي محضة ، وورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح ، وإنما جيء بحرف الشك وإتيان الهدى واقع كائن لأنه محتمل في نفسه غير واجب عقلاً.
{والذين كفروا} أي : جحدوا {وكذبوا بآياتنا} أي : كتبنا {أولئك أصحاب النار} يوم القيامة {هم فيها خالدون} ماكثون فيها أبداً لا يخرجون منها ولا يموتون فيها ، والآية في الأصل العلامة الظاهرة وتقال للمصنوعات من حيث أنها تدل على الصانع وعلمه وقدرته ولكل طائفة من كلمات القرآن المتميزة عن غيرها بفصل.
تنبيه : في هذه الآيات دلالة على أنّ الجنة مخلوقة وأنها في جهة عالية ، وأنّ التوبة مقبولة ، وأنّ متبع الهدى مأمون العاقبة ، وأن عذاب النار دائم ، وأن الكافر فيه مخلد ، وأن غيره لا يخلد فيه بمفهوم قوله تعالى : {هم فيها خالدون} (المجادلة ، 17) واستدلّ بعض الخوارج كالحشوية وهم قوم
61
جوّزوا الخطاب بما لا يفهم بها على عدم عصمة الأنبياء بوجوه : الأوّل : أنّ آدم عليه السلام كان نبياً وارتكب المنهي والمرتكب له عاص ، والثاني : أنه جعله بارتكابه من الظالمين ، والظالم ملعون لقوله تعالى : {ألا لعنة الله على الظالمين} (هود ، 18) ، والثالث : أنه أسند إليه العصيان وألغي وقال : {وعصى آدم ربه فغوى} (طه ، 121) ، والرابع : أنه تعالى لقنه التوبة وهي الرجوع عن الذنب والندم عليه ، والخامس : اعترافه بأنه خاسر لولا مغفرة الله له بقوله : {وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين} (الأعراف ، 23) والخاسر من يكون ذا كبيرة ، والسادس : أنه لو لم يذنب ما جرى عليه ما جرى. وأجيب عن ذلك بوجوه :
جزء : 1 رقم الصفحة : 61
الأوّل : أنه لم يكن نبياً حينئذٍ والمدّعي مطالب بالدليل ولا دليل.
الثاني : أن النهي للتنزيه ، وإنما سمي ظالماً وخاسراً لأنه ظلم نفسه وخسر حظه بترك الأولى وإنما أجرى الله تعالى ما جرى معاتبة على ترك الأولى ووفاء بما قاله تعالى للملائكة قبل خلق آدم : {إني جاعل في الأرض خليفة} (البقرة ، 30) ولا يكون خليفة في الأرض إلا بالإهباط إليها ، وأمر بالتوبة تلافياً لما فاته.
الثالث : أنه فعله ناسياً لقوله تعالى : {فنسي ولم نجد له عزماً} (طه ، 115) ولكن عوقب بترك التحفظ عن أسباب النسيان إذ رفع الإثم بالنسيان من خصائص هذه الأمّة كما ثبت في الأخبار الصحيحة كخبر الشيخين : "رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان".
وروى الترمذيّ وصححه : "أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل" رواه الحاكم بلفظ "أشدّ الناس بلاءً الأنبياء ثم العلماء ثم الصالحون.
الرابع : أنه عليه الصلاة والسلام أقدم عليه بسبب اجتهاد أخطأ فيه فإنه ظنّ أن النهي للتنزيه أو الإشارة إلى عين تلك الشجرة فتناول من غيرها من نوعها ، وكان المراد بالإشارة الإشارة إلى النوع لا إلى شجرة معينة كما روى أبو داود وغيره "أنه عليه الصلاة والسلام أخذ حريراً وذهباً بيده وقال : هذان حرام على ذكور أمّتي حلّ لإناثها".
فإن قيل : المجتهد إن أخطأ لا يؤاخذ. أجيب : بأنه إنما عوتب على ذلك تعظيماً لشأن الخطيئة ليجتنبها أولاده. وقرأ ورش بإمالة ألف النار بين بين ، وقرأ أبو عمرو والدوري عن الكسائي بالامالة المحضة ، والباقون بالفتح.(1/50)
{يا بني إسرائيل} أي : أولاد يعقوب وإسرائيل لقبه ، ومعنى إسرا بالعبرانية عبد وإيل الله فمعناه : عبد الله ، وقيل : صفوة الله صلى الله عليه وسلم {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} أي : بالتكثر فيها والقيام بشكرها ، والذكر يكون بالقلب ويكون باللسان ، وتقييد النعمة بهم لأن الإنسان غيور حسود بالطبع فإذا نظر إلى ما أنعم الله على غيره حمله الغيرة والحسد على الكفران والسخط وإن نظر إلى ما أنعم به عليه حمله حب النعمة على الرضا والشكر لله ، وقيل : أراد بها ما أنعم على آبائهم من فلق البحر وإنجائهم من فرعون بإغراقه وتظليل الغمام عليهم في التيه وإنزال المنّ والسلوى وغير
62
ذلك من النعم التي لا تحصى قال الله تعالى : {وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها} (إبراهيم ، 34) (النحل ، 18) {وأوفوا بعهدي} أي : بامتثال أمري ومنه ما عهدت إليكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {أوف بعهدكم} أي : الذي عهدته إليكم من الثواب عليه بدخول الجنة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 61
تنبيه : للوفاء بالعهد درجات كثيرة : فأوّل مراتبه منا هو الإتيان بكلمتي الشهادتين ، ومن الله تعالى حقن الدماء والمال ، وآخرها منا الاستغراق في بحر التوحيد بحيث يغفل عن نفسه فضلاً عن غيره ، ومن الله تعالى الفوز بالغنى الدائم ، وأمّا ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن {أوفوا بعهدي} في اتباع محمد {أوف بعهدكم} في رفع الآصار أي : الأثقال والأغلال ، وعن غير ابن عباس : أوفوا بأداء الفرائض وترك الكبائر أوف بالمغفرة والثواب ، أو أوفوا بالاستقامة على الطريق المستقيم أوف بالكرامة والنعيمم المقيم فبالنظر إلى الوسايط {وإياي فارهبون} فيما تأتون وتذرون وخصوصاً في نقض العهد ، والرهبة خوف مع تحرز.
تنبيه : الآية متضمنة للوعد والوعيد دالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد وأنّ المؤمن ينبغي أن لا يخاف أحداً إلا الله.
{وآمنوا بما أنزلت} من القرآن ، وقوله تعالى : {مصدّقاً} حال مؤكدة مما أنزلت أو من ضميره المحذوف {لما معكم} من التوراة بموافقته له ولغيره من الكتب الإلهية في القصص ونعت النبيّ صلى الله عليه وسلم والمواعيد والدعاء إلى التوحيد والأمر بالعبادة والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش وفيما يخالفها من جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأعصار في المصالح من حيث أن كل واحد منها حق بالاضافة إلى زمانها مراعى فيها صلاح من خوطب بها حتى لو نزل المتقدّم في أيام المتأخر لنزل على وفقه ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما رواه الإمام أحمد وغيره : "لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي" وفي ذلك تنبيه على أن اتباع تلك الكتب الإلهية لا ينافي الإيمان بالقرآن بل يوجبه ولذلك عرّض بقوله : {ولا تكونوا أوّل كافر به} أي : بالقرآن بل يجب أن تكونوا أوّل مؤمن به لأنكم أهل نظر في معجزاته والعلم بشأنه.
فإن قيل : كيف نهوا عن التقدّم في الكفر وقد سبقهم مشركو العرب أجيب : بأن المراد به التعريض بما يجب عليهم لمقتضى حالهم لا الدلالة على ما نطق الظاهر ، كقولك لمن أساء : أمّا أنا فلست بجاهل ، أو ولا تكونوا أوّل كافر من أهل الكتاب لأن خلفكم تبع لكم فإثمهم عليكم أو ممن كفر بما معه فإن من كفر بالقرآن فقد كفر بما يصدقه أو مثل من كفر من مشركي مكة.
تنبيه : أوّل كافر به وقع خبراً عن ضمير الجمع بتقدير أوّل فريق أو فوج أو بتأويل لا يكن كل واحد منكم أوّل كافر به كقولك : كسانا حلة أي : كل واحد منا {ولا تشتروا} تستبدلوا {بآياتي} التي في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم {ثمناً قليلاً} أي : عوضاً يسيراً من الدنيا أي : لا تكتموها خوف فوات ما تأخذونه من سفلتكم وذلك أنّ رؤساء اليهود وعلماءهم كانت لهم مآكل يصيبونها من سفلتهم وجهالهم يأخذون منهم كل سنة شيئاً معلوماً من زروعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا أنهم إن بينوا صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم وتابعوه أن يفوتهم تلك المآكل فغيروا نعته وكتموا اسمه فاختاروا الدنيا على الآخرة فنهوا عن ذلك فإنّ حظوظ الدنيا وإن جلت قليلة مسترذلة بالاضافة إلى ما يفوت من
63
حظوظ الآخرة {وإياي فاتقون} خافون في ذلك دون غيري.
جزء : 1 رقم الصفحة : 61
{ولا تلبسوا} أي : تخلطوا {الحق} الذي أنزلت عليكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم {بالباطل} الذي تخترعونه وتكتبونه بأيديكم من تغيير صفته {و} لا {تكتموا الحق} أي : تكتموا نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم {وأنتم تعلمون} أنكم لابسون الحق بالباطل كاتمون فإنه أقبح إذ الجاهل يعذر.(1/51)
{وأقيموا الصلاة} أي : الصلوات الخمس بمواقيتها وحدودها {وآتوا الزكاة} أي : أدوا زكاة أموالكم المفروضة. أمرهم بفروع الإسلام بعدما أمرهم بأصوله وفيه دليل على أنّ الكفار مخاطبون بها والزكاة مأخوذة من زكا الزرع إذا نما وكثر أو من الزكاة بمعنى الطهارة وكلا المعنيين موجود في الزكاة فإنّ إخراجها يستجلب بركة في المال ويثمر للنفس فضيلة الكرم ويطهر المال من الخبث والنفس من البخل {واركعوا مع الراكعين} أي : صلوا مع المصلين محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جماعتهم فإنّ صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ أي : الفرد بسبع وعشرين لما فيها من تظاهر أي : تعاون النفوس ، وعبر عن الصلاة بالركوع احترازاً عن صلاة اليهود لأنّ صلاتهم لم يكن فيها ركوع أي : صلوا مع الذين في صلاتهم ركوع ، وقيل : الركوع الخضوع والانقياد لما يلزمهم الشارع ، قال الشاعر :
لا تذلّ الضعيف (وروي لا تهين الفقير) علك (أي : لعلك) أن تركع يوماً والدهر قد رفعه.
فتركع من الركوع بمعنى الانحناء والميل وأراد به الانحطاط من الرتبة.
ونزل في علماء اليهود وكانوا يقولون لأقربائهم المسلمين سراً : اثبتوا على دين محمد صلى الله عليه وسلم فإنه حق ولا يتبعونه.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 64
أتأمرون الناس بالبرّ} أي : بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم في ذلك تقريع مع توبيخ وتعجيب ، والبرّ شرعاً التوسع في الخير من البرّ بالفتح وهو الفضاء الواسع يتناول كل خير ولذلك قيل : البر ثلاثة : برّ في عبادة الله ، وبر في معاملة الأقارب ، وبر في معاملة الأجانب {وتنسون أنفسكم} أي : تتركونها من البرّ كالمنسيات ، وقيل : كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدّقون {وأنتم تتلون الكتاب} أي : التوراة وفيها الوعيد على العناد وترك البرّ ومخالفة القول العمل {أفلا تعقلون} سوء فعلكم فيصدّكم عنه ، أو فلا عقل لكم يمنعكم عما تعملون من عدم موافقة عاقبته لكم والآية ناعية على من
64
يعظ غيره ولا يتعظ بنفسه بسوء صنيعه وخبث نفسه وإن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل فإنّ الجامع بين العلم والعقل يأبى عن كونه واعظاً غير متعظ نفسه ، والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل لها ليقوّم نفسه ثم يقوم غيره لا منع الفاسق عن الوعظ فإنّ الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر ، ولكن روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟
قال : هؤلاء الخطباء من أمّتك يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب" وعن أسامة رضي الله تعالى عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه أي : فتنقطع أمعاؤه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون : أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟
قال : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه" وقال شعبة عن الأعمش : فيطحن فيها كطحن الحمار برحاه {واستعينوا} أي : اطلبوا المعونة على أموركم {بالصبر} أي : الحبس للنفس على ما تكره {والصلاة} أفردها بالذكر تعظيماً لشأنها فإنها جامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية من الطهارة وستر العورة وصرف المال فيهما والتوجه إلى الكعبة والعكوف للعبادة وإظهار الخشوع بالجوارح وإخلاص النية بالقلب ومجاهدة الشيطان ومناجاة الرحمن وقراءة القرآن والتكلم بالشهادتين وكف النفس عن الأطيبين وهما الأكل والجماع.
جزء : 1 رقم الصفحة : 64(1/52)
روى الإمام أحمد وغيره "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة" أي : لجأ إليها ، وحز به ـ بالحاء المهملة وزاي وباء موحدة : أهمه ونزل به ، وقيل : الخطاب لليهود فهو متصل بما قبله كأنهم لما أمروا بما شق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة والإعراض عن المال أمروا بالصبر وهو الصوم ومنه سمي شهر رمضان شهر الصبر لأنه يكسر الشهوة ويزهد في الدنيا ، والصلاة لأنها تورث الخشوع وتنفي الكبر وترغب في الآخرة ، وقيل : الواو بمعنى على أي : واستعينوا بالصبر على الصلاة كما قال تعالى : {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} (طه ، 132) ويحتمل أن يراد بالصلاة : الدعاء {وإنها} أي : الصلاة ردّ الكناية إليها لأنّ الصبر داخل فيها لاستجماعها ضروباً من الصبر كما قال تعالى : {وا ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة ، 62) ولم يقل يرضوهما لأن رضا الرسول داخل في رضا الله عز وجل أو لأنها أعم ، كما في قوله تعالى : {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} (التوبة ، 34) ردّ الكناية إلى الفضة لأنها أعم وقيل : ردّ الكناية إلى كل منهما وأن كل خصلة منهما كما قال تعالى : {كلتا الجنتين آتت أكلها} (الكهف ، 33) أي : كل واحدة منهما ، وقيل : معناه : واستعينوا بالصبر وإنه لكبير والصلاة وإنها لكبيرة فحذف أحدهما اختصاراً ، وقال الحسين بن الفضل : ردّ الكناية إلى
65
الاستعانة {لكبيرة} أي : ثقيلة شاقة كقوله تعالى : {كبر على المشركين ما تدعوهم إليه} (الشورى ، 13) {إلا على الخاشعين} أي : الساكنين إلى الطاعة ، والخشوع : السكون ، قال تعالى : {وخشعت الأصوات للرحمن} (طه ، 108) والخضوع : اللين والانقياد ، ولذا يقال : الخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب.
{الذين يظنون} أي : يستيقنون وأطلق الظنّ على العلم لتضمنه معنى التوقع {أنهم ملاقو ربهم} بالبعث {وأنهم إليه راجعون} في الآخرة فيجازيهم بأعمالهم ، وإنما لم تثقل عليهم ثقلها على غيرهم لأنّ نفوسهم مرتاضة بأمثالها متوقعة في مقابلتها ما يستحقر لأجل مشاقها وتستلذ بسببه متاعبها ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام : "وجعلت قرّة عيني في الصلاة".
جزء : 1 رقم الصفحة : 64
روى الإمام أحمد وغيره "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة" أي : لجأ إليها ، وحز به ـ بالحاء المهملة وزاي وباء موحدة : أهمه ونزل به ، وقيل : الخطاب لليهود فهو متصل بما قبله كأنهم لما أمروا بما شق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة والإعراض عن المال أمروا بالصبر وهو الصوم ومنه سمي شهر رمضان شهر الصبر لأنه يكسر الشهوة ويزهد في الدنيا ، والصلاة لأنها تورث الخشوع وتنفي الكبر وترغب في الآخرة ، وقيل : الواو بمعنى على أي : واستعينوا بالصبر على الصلاة كما قال تعالى : {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} (طه ، 132) ويحتمل أن يراد بالصلاة : الدعاء {وإنها} أي : الصلاة ردّ الكناية إليها لأنّ الصبر داخل فيها لاستجماعها ضروباً من الصبر كما قال تعالى : {وا ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة ، 62) ولم يقل يرضوهما لأن رضا الرسول داخل في رضا الله عز وجل أو لأنها أعم ، كما في قوله تعالى : {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} (التوبة ، 34) ردّ الكناية إلى الفضة لأنها أعم وقيل : ردّ الكناية إلى كل منهما وأن كل خصلة منهما كما قال تعالى : {كلتا الجنتين آتت أكلها} (الكهف ، 33) أي : كل واحدة منهما ، وقيل : معناه : واستعينوا بالصبر وإنه لكبير والصلاة وإنها لكبيرة فحذف أحدهما اختصاراً ، وقال الحسين بن الفضل : ردّ الكناية إلى
65
الاستعانة {لكبيرة} أي : ثقيلة شاقة كقوله تعالى : {كبر على المشركين ما تدعوهم إليه} (الشورى ، 13) {إلا على الخاشعين} أي : الساكنين إلى الطاعة ، والخشوع : السكون ، قال تعالى : {وخشعت الأصوات للرحمن} (طه ، 108) والخضوع : اللين والانقياد ، ولذا يقال : الخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب.
{الذين يظنون} أي : يستيقنون وأطلق الظنّ على العلم لتضمنه معنى التوقع {أنهم ملاقو ربهم} بالبعث {وأنهم إليه راجعون} في الآخرة فيجازيهم بأعمالهم ، وإنما لم تثقل عليهم ثقلها على غيرهم لأنّ نفوسهم مرتاضة بأمثالها متوقعة في مقابلتها ما يستحقر لأجل مشاقها وتستلذ بسببه متاعبها ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام : "وجعلت قرّة عيني في الصلاة".
جزء : 1 رقم الصفحة : 64(1/53)
{يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} بالشكر عليها بطاعتي ، كرره للتوكيد وتذكير التفضل الذي هو أجل النعم خصوصاً ، وربطه بالوعيد الشديد تخويفاً لمن غفل عنها وأخلّ بحقوقها وعطف على نعمتي {وأني فضلتكم} أي : آباءكم الذين كانوا في عصر موسى صلى الله عليه وسلم وبعده قبل أن يغيروا {على العالمين} أي : عالمي زمانهم بما منحهم الله من العلم والإيمان والعمل وجعلهم أنبياء وملوكاً مقسطين وذلك التفضيل وإن كان في حق الآباء ولكن يحصل به الشرف في الأبناء. واستدل بذلك على أن الأصلح لا يجب على الله لأنّ تفضيلهم لو وجب عليه لم يجز جعله منة عليهم لأنّ من أتى بما وجب عليه لا منة له به على أحد.
{واتقوا} خافوا {يوماً} أي : ما فيه من الحساب والعقاب وهو يوم القيامة {لا تجزى} أي : لا تقضى {نفس عن نفس} فيه {شيئاً} أي : حقاً لزمها.
تنبيه : قول البيضاوي وإيراده أي : شيئاً منكراً مع تنكير النفسين للتعميم والإقناط الكلي تبع فيه صاحب "الكشاف" وهو جار على مذهب المعتزلة من أنهم ينكرون الشفاعة للعصاة وسيأتي الجواب عن مذهبهم {ولا تقبل} بالتاء على التأنيث كما قرأ به ابن كثير وأبو عمرو بالياء على التذكير كما قرأ به الباقون {منها شفاعة} أي : من النفس الثانية لقوله تعالى : {ولا يؤخذ منها عدل} أي : فداء {ولا هم ينصرون} أي : يمنعون من عذاب الله إذ الضمير في الجملتين للنفوس العاصية ويصح رجوعه للنفس الأولى لأنها المحدّث عنها في قوله تعالى : {لا تجزى نفس عن نفس} والثانية مذكورة على سبيل الفضلة لا العمدة وتذكير ضمير ولا هم ينصرون مع أنّ الضمير راجع للنفوس ، وكان المناسب هنّ بالتأنيث لأنه بمعنى العباد أو الأناس كما تقول ثلاثة أنفس بالتاء مع تأنيث النفس لتأويل النفوس بالأشخاص أو الرجال والنصرة أخص من المعونة لاختصاصه بدفع الضرر وقد تمسكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر وأجاب أهل السنة عن ذلك بأجوبة منها : أن الآية مخصوصة بالكفار للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة ويؤيد هذا أنّ الخطاب معهم وعلى هذا يتمشى قول البيضاوي المارّ ويكون المراد حينئذٍ أنه ليس لها شفاعة فتقبل كما قال تعالى حاكياً عنهم {فما لنا من شافعين}.
جزء : 1 رقم الصفحة : 66
ومنها : أنّ الآية نزلت ردّاً لما كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم تشفع لهم.
66
ومنها : أنها لا تشفع إلا بإذن الله.
{و} اذكروا {إذ نجيناكم} أي : آباءكم الخطاب به وبما بعده للموجودين في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم بما أنعم على آبائهم تذكيراً لهم بنعمة الله ليؤمنوا {من آل فرعون} أي : أتباعه وأهل دينه ، والمشهور أن أصل آل : أهل ، لأن تصغيره أهيل ، وقال الكسائيّ وغيره : أصله أول من آل يؤل أي : رجع ، قلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها وتصغيره أويل.(1/54)
فإن قيل : يردّ الأوّل اختلاف أهل وآل معنى إذ الأهل القرابة والآل من يؤل إليك بقرابة أو رأي أو مذهب ولأن الألف يثبت إبدالها من الهاء. أجيب : بأن القائل بالأول جرى على القول بأن اللفظتين بمعنى ، أو أراد بالأهل أحد معاني آل وأبدل الواو من الهاء لتقاربهما مخرجاً ، وخص بالاضافة إلى أولي القدر والشرف كالأنبياء والملوك ، وإنما قيل آل فرعون لتصوره بصورة الأشراف أو لشرفه في قومه عندهم ، وفرعون هو الوليد ابن مصعب بن ريان وكان من القبط من العمالقة وعمر أكثر من أربعمائة سنة {يسومونكم} يولونكم ويذيقونكم {سوء العذاب} أي : أشدّه ، والجملة حال من الضمير في نجيناكم ، أو من آل فرعون ، أو منهما جميعاً لأنّ فيها ضمير كل واحد منهم {يذبحون أبناءكم} المولودين {ويستحيون نساءكم} أي : يتركونهنّ أحياء ، هذا بيان ليسومونكم ولذلك لم يعطف وذلك أنّ فرعون لعنه الله رأى في منامه كأنّ ناراً أقبلت من بيت المقدس وأحاطت بمصر وأحرقت كل قبطي بها ولم تتعرّض لبني إسرائيل فهاله ذلك ، وسأل الكهنة عن رؤياه فقالوا : يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك ، فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل وجمع القوابل فقال لهن : لا يسقطنّ على أيديكنّ غلام من بني إسرائيل إلا قتل ولا جارية إلا تركت ووكل بالقوابل فكنّ يفعلن ذلك حتى قيل : إنه قتل في طلب موسى اثني عشر ألف صبيّ ، وقال وهب : بلغني أنه ذبح في طلب موسى تسعين ألفاً ، قالوا : وأسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل فدخل رؤوس القبط على فرعون وقالوا : إن الموت قد وقع في بني إسرائيل فتذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك أن يقع العمل علينا فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها {وفي ذلكم بلاء} إن أشير به إلى صنيعهم فهو محنة أو إلى الإنجاء فهو نعمة فإنّ البلاء يكون بمعنى الشدّة وبمعنى النعمة ويجوز أن يشار بذلكم إلى الأمرين فالله تعالى قد يختبر على النعمة بالشكر وعلى الشدّة بالصبر قال تعالى : {ونبلوكم} (الأنبياء ، 35) أي : نختبركم بالشرّ والخير فتنة {من ربكم} أي : بتسليطهم عليكم ، أو ببعثة موسى وتوفيقه لتخليصكم ، أو بهما ، وقوله تعالى : {عظيم} صفة بلاء. وفي الآية تنبيه على أنّ ما يصيب العبد من خير أو شرّ إختبار من الله تعالى فعليه أن يشكر عند مسارّه ويصبر على مضاره ليكون من خير المختبرين.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 66
و} اذكروا {إذ فرقنا} فلقنا {بكم} أي : بسببكم {البحر} حتى دخلتموه هاربين من عدوّكم وذلك أنّ فرعون لما دنا هلاكه أمر الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام أن يسري ببني إسرائيل من مصر ليلاً فأمر موسى قومه أن يسرجوا في بيوتهم السرج إلى الصبح وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل لا يعدّون ابن العشرين لصغره ولا ابن الستين لكبره وكانوا يوم دخلوا مصر مع يعقوب عليه الصلاة والسلام اثنين وسبعين إنساناً ما بين رجل وامرأة فساروا وموسى على ساقتهم وهارون على مقدمتهم ثم علم بهم فرعون فجمع قومه وأمرهم أن لا يخرجوا في طلب بني إسرائيل حتى يصيح الديك ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : فوالله ما صاح ديك في تلك الليلة ثم خرج فرعون في طلبهم وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف وكان فيهم
67(1/55)
سبعون ألفاً من دهم الخيل سوى سائر الشيات ، قال محمد بن كعب : وكان في عسكر فرعون مائة ألف حصان أدهم سوى سائر الشيات وكان فرعون في الدهم ، وقيل : كان فرعون في سبعة آلاف ألف وكان بين يديه مائة ألف ناشب ومائة ألف أصحاب حراب ومائة ألف أصحاب الأعمدة فسارت بنو إسرائيل حتى وصلوا إلى البحر والماء في غاية الزيادة ونظروا فإذا هم بفرعون حين أشرقت الشمس فبقوا متحيرين وقالوا : يا موسى كيف نصنع وأين ما وعدتنا هذا فرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا والبحر أمامنا إن دخلناه غرقنا ، قال الله تعالى : {فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إنّ معي ربي سيهدين} (الشعراء ، 61) فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فلم يطعه فأوحى الله تعالى إليه أن كنه فضربه وقال : انفلق يا أبا خالد بإذن الله ، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ، فظهر فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبط طريق وارتفع الماء بين كل طريقين كالجبل وأرسل الريح والشمس على قعر البحر حتى صار يبساً ، فخاضت بنو إسرائيل البحر كل سبط في طريق وعن جانبيهم الماء كالجبل الضخم ولا يرى بعضهم بعضاً فخافوا وقال كل سبط : قد قتل إخواننا فأوحى الله تعالى إلى جبال الماء أن تشبكي فصارت شبكاً كالطاقات يرى بعضهم بعضاً ويسمع بعضهم كلام بعض حتى عبروا البحر سالمين فذلك قوله تعالى : {فأنجيناكم} أي : من آل فرعون {وأغرقنا آل فرعون} وذلك أنّ فرعون لما وصل البحر فرآه منفلقاً قال لقومه : انظروا إلى البحر انفلق من هيبتي حتى أدرك عبيدي الذين أبقوا ادخلوا البحر فهاب قومه أن يدخلوه ، وقيل : قالوا له : إن كنت رباً فادخل البحر كما دخل ـ يعني : موسى ـ وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى فجاء جبريل على فرس أنثى فتقدّمهم وخاض البحر فلما شمّ أدهم فرعون ريحها اقتحم البحر ، في أثرها وهم لا يرونه ولا يملك فرعون من أمره شيئاً وهو لا يرى فرس جبريل واقتحمت الخيول خلفه في البحر وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يستحثهم ويسوقهم حتى لا يشذ رجل منهم ويقول لهم : الحقوا بأصحابكم حتى خاضوا كلهم البحر وخرج جبريل من البحر وهمّ أوّلهم بالخروج فأمر الله البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم وفرّقهم أجمعين وكان بين طرفي البحر أربعة فراسخ وهو بحر قلزم طرف من بحر فارس. قال قتادة : بحر من وراء مصر يقال له : أسان وذلك بمرأى من بني إسرائيل فذلك قوله تعالى : {وأنتم تنظرون} إلى مصارعهم ، أو إطباق البحر عليهم ، أو انفلاق البحر عن طرق يابسة مذللة ، أو جثثهم التي قذفها البحر إلى الساحل ، أو ينظر بعضكم بعضاً ، واعلم أنّ هذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني إسرائيل ، ومن الآيات الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق موسى الكليم ، ثم إنهم اتخذوا العجل وقالوا : {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} (البقرة ، 55) فهم بمعزل من الفطنة والذكاء وسلامة النفس وحسن الاتباع عن أمّة محمد صلى الله عليه وسلم مع أن ما تواتر من معجزاته أمور نظرية مثل القرآن والتحدّي به والفضائل المجتمعة فيه الشاهدة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم دقيقة يدركها الأذكياء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 66
و} اذكروا {إذ فرقنا} فلقنا {بكم} أي : بسببكم {البحر} حتى دخلتموه هاربين من عدوّكم وذلك أنّ فرعون لما دنا هلاكه أمر الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام أن يسري ببني إسرائيل من مصر ليلاً فأمر موسى قومه أن يسرجوا في بيوتهم السرج إلى الصبح وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل لا يعدّون ابن العشرين لصغره ولا ابن الستين لكبره وكانوا يوم دخلوا مصر مع يعقوب عليه الصلاة والسلام اثنين وسبعين إنساناً ما بين رجل وامرأة فساروا وموسى على ساقتهم وهارون على مقدمتهم ثم علم بهم فرعون فجمع قومه وأمرهم أن لا يخرجوا في طلب بني إسرائيل حتى يصيح الديك ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : فوالله ما صاح ديك في تلك الليلة ثم خرج فرعون في طلبهم وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف وكان فيهم
67(1/56)
سبعون ألفاً من دهم الخيل سوى سائر الشيات ، قال محمد بن كعب : وكان في عسكر فرعون مائة ألف حصان أدهم سوى سائر الشيات وكان فرعون في الدهم ، وقيل : كان فرعون في سبعة آلاف ألف وكان بين يديه مائة ألف ناشب ومائة ألف أصحاب حراب ومائة ألف أصحاب الأعمدة فسارت بنو إسرائيل حتى وصلوا إلى البحر والماء في غاية الزيادة ونظروا فإذا هم بفرعون حين أشرقت الشمس فبقوا متحيرين وقالوا : يا موسى كيف نصنع وأين ما وعدتنا هذا فرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا والبحر أمامنا إن دخلناه غرقنا ، قال الله تعالى : {فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إنّ معي ربي سيهدين} (الشعراء ، 61) فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فلم يطعه فأوحى الله تعالى إليه أن كنه فضربه وقال : انفلق يا أبا خالد بإذن الله ، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ، فظهر فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبط طريق وارتفع الماء بين كل طريقين كالجبل وأرسل الريح والشمس على قعر البحر حتى صار يبساً ، فخاضت بنو إسرائيل البحر كل سبط في طريق وعن جانبيهم الماء كالجبل الضخم ولا يرى بعضهم بعضاً فخافوا وقال كل سبط : قد قتل إخواننا فأوحى الله تعالى إلى جبال الماء أن تشبكي فصارت شبكاً كالطاقات يرى بعضهم بعضاً ويسمع بعضهم كلام بعض حتى عبروا البحر سالمين فذلك قوله تعالى : {فأنجيناكم} أي : من آل فرعون {وأغرقنا آل فرعون} وذلك أنّ فرعون لما وصل البحر فرآه منفلقاً قال لقومه : انظروا إلى البحر انفلق من هيبتي حتى أدرك عبيدي الذين أبقوا ادخلوا البحر فهاب قومه أن يدخلوه ، وقيل : قالوا له : إن كنت رباً فادخل البحر كما دخل ـ يعني : موسى ـ وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى فجاء جبريل على فرس أنثى فتقدّمهم وخاض البحر فلما شمّ أدهم فرعون ريحها اقتحم البحر ، في أثرها وهم لا يرونه ولا يملك فرعون من أمره شيئاً وهو لا يرى فرس جبريل واقتحمت الخيول خلفه في البحر وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يستحثهم ويسوقهم حتى لا يشذ رجل منهم ويقول لهم : الحقوا بأصحابكم حتى خاضوا كلهم البحر وخرج جبريل من البحر وهمّ أوّلهم بالخروج فأمر الله البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم وفرّقهم أجمعين وكان بين طرفي البحر أربعة فراسخ وهو بحر قلزم طرف من بحر فارس. قال قتادة : بحر من وراء مصر يقال له : أسان وذلك بمرأى من بني إسرائيل فذلك قوله تعالى : {وأنتم تنظرون} إلى مصارعهم ، أو إطباق البحر عليهم ، أو انفلاق البحر عن طرق يابسة مذللة ، أو جثثهم التي قذفها البحر إلى الساحل ، أو ينظر بعضكم بعضاً ، واعلم أنّ هذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني إسرائيل ، ومن الآيات الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق موسى الكليم ، ثم إنهم اتخذوا العجل وقالوا : {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} (البقرة ، 55) فهم بمعزل من الفطنة والذكاء وسلامة النفس وحسن الاتباع عن أمّة محمد صلى الله عليه وسلم مع أن ما تواتر من معجزاته أمور نظرية مثل القرآن والتحدّي به والفضائل المجتمعة فيه الشاهدة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم دقيقة يدركها الأذكياء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 66
68
{وإذ وعدنا موسى} بغير ألف بين الواو والعين ، كما قرأ به أبو عمرو ، والباقون بألف بين الواو والعين لأنه تعالى وعد موسى الوحي ووعد موسى ربه المجيء للميقات إلى الطور ، وقيل : هذا من المفاعلة التي تكون من الواحد كعاقبت اللص وطارقت النعل. وأمال حمزة ألف موسى محضة ، وأبو عمرو بين بين ، وورش بالفتح وبين اللفظين {أربعين ليلة} أن يعطيه عند انقضائها التوراة ليتعلموا بها وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجة وعبر عنها بالليالي لأنها غرر الشهور ، وقيل : لأنّ الظلمة أقدم من الضوء وخلق الله تعالى الليل قبل النهار قال الله تعالى : {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} (يس ، 37) وقول البيضاوي : إنّ ذلك الوعد لما عادوا إلى مصر بعد هلاك فرعون تبع في ذلك "الكشاف" ولم يعرف ذلك لغيرهما وإنما كانوا بالشام لأن إتيان موسى للمقيات كان بطور سينا وهو بالشام لا بمصر وقد قال البهاء بن عقيل في "تفسيره" : لم يصرّح أحد من المفسرين والمؤرّخين بأنهم دخلوا مصر بعد خروجهم منها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 68(1/57)
فإن قيل : قوله تعالى : {فأخرجناهم من جنات} إلى قوله تعالى : {وأورثناها بني إسرائيل} يقتضي أنهم عادوا إليها. أجيب : بأن المعنى أن الله تعالى أورثهم وملكهم إياها ولم يردّهم إليها وجعل مساكنهم الشام. {ثم اتخذتم} قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم اتخذتم بإظهار الذال قبل التاء ، والباقون بإدغام الذال في التاء. {العجل} الذي صاغه لكم السامريّ إلهاً ومعبوداً {من بعده} أي : بعد ذهابه إلى ميقاتنا ، وذلك أن بني إسرائيل لما أمنوا من عدوّهم ولم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتمون إليها فوعد الله تعالى موسى أن ينزل عليهم التوراة فقال موسى لقومه : إني ذاهب لميقات ربي آتيكم بكتاب فيه بيان ما تأتون وما تذرون واستخلف أخاه هارون فلما أتاه الوعد جاءه جبريل على فرس يقال له : فرس الحياة ، لا يصيب شيئاً إلا حيي ليذهب بموسى إلى ميقات ربه ، فلما رآه السامريّ وكان رجلاً صائغاً من قبيلة يقال لها : سامرة ، ورأى موضع قدم الفرس يخضر من ذلك وكان منافقاً يظهر الإسلام وكان من قوم يعبدون البقر ألقى في روعه أنه إذا ألقى في شيء غيره وكانت بنو إسرائيل قد استعاروا حلياً كثيراً من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر لعمل عرس لهم فأهلك الله تعالى فرعون وقومه فبقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل قال السديّ : فأمرهم هارون أن يلقوها في حفرة حتى يرجع موسى ففعلوا فلما اجتمعت الحلي صاغها السامريّ عجلاً من ذهب في ثلاثة أيام مرصعاً بالجواهر كأحسن ما يكون ثم ألقى فيه القبضة التي أخذها من تراب حافر فرس جبريل فصار يخور ويمشي فقال السامريّ : هذا إلهكم وإله موسى فنسي ، أي : فتركه ههنا ، وخرج يطلبه وكانت بنو إسرائيل قد أخلفوا الوعد فعدّوا اليوم مع الليلة يومين فلما مضى عشرون يوماً ولم يرجع موسى وقعوا في الفتنة ، وقيل : كان موسى وعدهم ثلاثين ليلة ثم زيدت العشرة قال تعالى : {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} (الأعراف ، 142) وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في محله فكانت فتنتهم في تلك العشرة ، فلما مضت الثلاثون ولم يرجع موسى ورأوا العجل وسمعوا قول
69
السامريّ عكف منهم ثمانية آلاف رجل على العجل يعبدونه ، وقيل : كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألف رجل ، قال البغويّ : وهو الأصح ، وقال الحسن : كلهم عبدوه إلا هارون ، ولذلك قال تعالى : {وأنتم ظالمون} أي : باتخاذه لوضعكم العبادة في غير محلها.
{ثم عفونا} محونا {عنكم} ذنوبكم حين تبتم ، والعفو محو الجريمة من عفى إذا درس {من بعد ذلك} أي : الاتخاذ {لعلكم تشكرون} أي : لكي تشكروا نعمتنا عليكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 68
تنبيه : إنما قدرت لعل بكي أخذاً مما قيل : إن لعل في القرآن بمعنى كي غير قوله تعالى في الشعراء : {لعلكم تخلدون} (الشعراء ، 129) فإنها بمعنى كأنّ أي : كأنكم تخلدون.
{و} اذكروا {إذ آتينا موسى الكتاب} أي : التوراة ، وقوله تعالى : {والفرقان} عطف تفسير أي : الفارق بين الحق والباطل والحلال والحرام ، وقيل : أراد بالفرقان معجزات موسى كانفلاق البحر الفارقة بين المحق والمبطل في الدعوى وبين الكفر والإيمان {لعلكم تهتدون} أي : لكي تهتدوا بتدبر الكتاب والتفكر في الآيات من الضلال.
{و} اذكروا {إذ قال موسى لقومه} الذين عبدوا العجل {يا قوم إنكم ظلمتم} قرأ ورش بتغليظ اللام والباقون بالترقيق {أنفسكم باتخاذكم العجل} إلهاً قالوا : فأيّ شيء نصنع ؟
قال : {فتوبوا} أي : ارجعوا عن عبادة العجل {إلى بارئكم} أي : خالقكم ، وقرأ أبو عمرو بإسكان الهمزة ، وروي عن الدوري باختلاس الحركة ، وروي عن السوسي إبدالها ياء ساكنة ، وأمال الدوري عن الكسائي الألف بعد الباء الموحدة ، وإذا وقف حمزة على بارئكم سهل الهمزة بين بين ، قالوا : كيف نتوب ؟
قال : {فاقتلوا أنفسكم} أي : ليقتل منكم البريء من عبادة العجل من عبده ، وقيل : المراد بالقتل قطع الشهوة كما قيل : من لم يعذب نفسه لم ينعمها ومن لم يقتلها لم يحيها ، وردّ هذا جماعة بإجماع المفسرين على أنّ المراد هنا القتل الحقيقيّ {ذلكم} أي : القتل {خير لكم عند بارئكم} من حيث أنه طهرة عن الشرك ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية فلما أمرهم موسى بالقتل قالوا : نصبر لأمر الله فجلسوا بالأفنية محتبين وقيل لهم : من حلّ حبوته أو مدّ طرفه إلى قاتله أو اتقاه بيد أو رجل فهو ملعون مردودة توبته وأسلت القوم عليهم الخناجر فكان الرجل يرى ابنه وأباه وأخاه وقريبه فلم يمكنه المضيّ لأمر الله فقالوا : يا موسى كيف نفعل ؟
فأرسل الله عليهم ضبابة تشبه سحابة تغشى الأرض كالدخان وسحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضاً فكانوا يقتتلون إلى المساء فلما كثر القتل دعا موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام وبكيا وتضرّعا وقالا : يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية فكشف الله تعالى السحابة عنهم وأمرهم أن يكفوا عن القتل فكشفت عن ألوف من القتلى.(1/58)
روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال : عدد القتلى سبعون ألفاً فاشتدّ ذلك على موسى فأوحى الله تعالى إليه أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول الجنة ؟
فكان من قتل منهم شهيداً ومن بقي مكفراً عنه ذنوبه فذلك قوله تعالى : {فتاب عليكم} أي فعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم أي : فتجاوز عنكم وقبل توبتكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 68
تنبيه : ذكر البارىء في قوله تعالى : {فتوبوا إلى بارئكم} وترتيب الأمر بالقتل عليه إشعار بأنهم بلغوا غاية الجهالة والغباوة حتى تركوا عبادة خالقهم الحكيم إلى عبادة البقر التي هي مثلهم في الغباوة وأنّ من لم يعرف حق منعمه حقيق بأن يستردّ منه ما أنعم به عليه ولذلك أمروا بفك
70
تركيب ذواتهم بالقتل {إنه هو التوّاب} أي الذي يكثر قبول التوبة من المذنبين {الرحيم} أي : البالغ في الإنعام على خلقه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 68
{وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} وذلك أنّ الله تعالى أمر موسى عليه الصلاة والسلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل فاختار موسى سبعين رجلاً من خيار قومه وقال لهم : صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم ففعلوا ذلك فخرج موسى إلى طور سينا لميقات ربه فقالوا لموسى : اطلب لنا نسمع كلام ربنا فقال لهم : أفعل ، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام فغشي الجبل كله فدخل في الغمام وقال للقوم : ادنوا فدنوا حتى دخلوا في الغمام وخرّوا سجداً وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونهم الحجاب وسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه وأسمعهم الله تعالى : إني أنا الله لا إله إلا أنا أخرجتكم من أرض بيد شديدة فاعبدوني ولا تعبدوا غيري فلما فرغ موسى وانكشف الغمام أقبل عليهم فقالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة عياناً وذلك أنّ العرب تجعل العلم بالقلب رؤية فقالوا جهرة : ليعلم أنّ المراد منه العيان ، روي عن السوسي إمالة الألف بعد الراء في نرى وترقيق اللام من اسم الله ، وروي عنه تفخيم اللام مع الإمالة وله وجه ثالث كالجماعة وهو عدم الإمالة مع تفخيم اللام.
فإن قيل : كيف تمال الألف وهي تسقط عند التقاء الساكنين ؟
أجيب : بأنه لولا إمالتها ما أميلت الراء لأنّ القارىء إذا أراد أن يميل الألف لا يتمكن من الإمالة إلا بإمالة ما قبله {فأخذتكم الصاعقة} أي : الصيحة فمتم ، وقيل : جاءت نار من السماء فأحرقتهم وذلك لفرط العناد والتعنت وطلب المستحيل فإنهم ظنوا أنه تعالى يشبه الأجسام فطلبوا رؤيته رؤية الأجسام في الجهات والأحياز المقابلة للرائي وهي محال بل المراد أن يرى رؤية منزهة عن الكيفية وذلك للمؤمنين في الآخرة ولأفراد من الأنبياء في بعض الأحوال في الدنيا {وأنتم تنظرون} أي : ينظر بعضكم إلى بعض حين أخذكم الموت ، وقيل : تعلمون ويكون النظر بمعنى العلم فلما هلكوا جعل موسى يبكي ويتضرّع ويقول : ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله تعالى رجلاً بعد رجل بعدما ماتوا ليلة ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون كما قال تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 71
ثم بعثناكم} أي : أحييناكم والبعث إثارة الشيء عن محله يقال : بعثت البعير فانبعث وبعثت النائم فانبعث {من بعد موتكم} بسبب الصاعقة. قال قتادة : أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم ولو ماتوا بآجالهم لم يبعثوا ، وقيد البعث بعد الموت لأنه قد يكون عن إغماء أو نوم كقوله تعالى : {فضربنا على آذانهم في الكهف} (الكهف ، 11) إلى أن قال : {ثم بعثناهم} أي : من النوم {لعلكم تشكرون} نعمة لبعث أو ما كفرتموه من النعم المتتابعة.
{وظللنا عليكم الغمام} في التيه يقيكم حرّ الشمس ، والغمام من الغم وأصله التغطية والستر سمي السحاب غماماً لأنه يغطي وجه الشمس وذلك أنه لم يكن لهم في التيه كنّ يسترهم فشكوا إلى موسى صلى الله عليه وسلم عليه فأرسل الله غماماً أبيض رقيقاً أطيب من غمام المطر وجعل لهم عموداً من نور يضيء لهم بالليل إذا لم يكن قمر يسيرون في ضوئه وكانت ثيابهم لا تتسخ ولا تبلي وغلظ ورش اللام المفتوحة بعد الظاء {وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى} في التيه ، والأكثرون على أنّ المنّ هو الترنجبين ، قال مجاهد : هو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار طعمه كالشهد وكان يقع كل ليلة
71(1/59)
على أشجارهم مثل الثلج لكل إنسان منهم صاع فقالوا : يا موسى قتلنا هذا المنّ بحلاوته فادع لنا ربك أن يطعمنا اللحم ، فأنزل الله عليهم السلوى جمع سلواة وهو الطير السماني بتخفيف الميم والقصر جمع سماناة وهو الطير المعروف ، وقيل : هو طائر يشبهه بعث الله سحابة فمطرت السماني في عرض ميل وطول رمح في السماء بعضه على بعض فكان الله تعالى ينزل عليهم المنّ والسلوى كل صباح من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فكان كل واحد منهم يأخذ ما يكفيه يوماً وليلة وإذا كان يوم الجمعة يأخذ كل واحد منهم ما يكفيه ليومين لأنه لم يكن ينزل يوم السبت. وقرأ السلوى حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وأبو عمرو بين بين ، وورش بالفتح وبين اللفظين.
فإن قيل : لم قدّم في الآية المنّ على السلوى مع أنها غذاء والمنّ حلواء والعادة تقديم الغذاء على الحلواء ؟
أجيب : بأنّ نزول المنّ من السماء أمر مخالف للعادة فقدم لاستعظامه بخلاف الطيور المأكولة وأيضاً هو مقدّم في النزول عليهم {كلوا} على إرادة القول أي : قلنا لهم كلوا {من طيبات} حلالات {ما رزقناكم} ولا تدخروا لغد فكفروا النعمة وادّخروا فقطع الله ذلك عنهم ودوّد وفسد ما ادّخروه وقوله تعالى : {وما ظلمونا} أي : بذلك فيه اختصار وأصله فظلموا بأن كفروا بهذه النعم وما ظلمونا {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} لأنّ وباله عليهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 71
روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم ولولا حوّاء لم تخن أنثى زوجها الدهر".
{وإذ قلنا} لهم بعد خروجهم من التيه {ادخلوا هذه القرية} أي : بيت المقدس كما قاله مجاهد ، أو أريحاء بفتح الهمزة وكسر الراء وبالحاء المهملة كما قاله ابن عباس وهي قرية الجبارين كان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم : العمالقة ورأسهم عوج بن عتق ، قال ابن الأثير وهي قرية بالغور قريبة من بيت المقدس ، وقيل : البلقاء ، وقيل : الرملة والأردن وفلسطين ، وقيل : الشام سميت القرية قرية لأنها تجمع أهلها ومنه المقرّة للحوض لأنها تجمع الماء {فكلوا منها حيث شئتم رغداً} أي : واسعاً لا حجر فيه {وادخلوا الباب} أي : باب من أبواب القرية وكان لها سبعة أبواب {سجداً} أي : متطامنين منحنين أو ساجدين السجود الشرعيّ لله شكراً على إخراجكم من التيه {وقولوا} مسألتنا {حطة} أي : أن تحط عنا خطايانا ، قال قتادة : أمروا بالاستغفار ، وقال ابن عباس : بلا إله إلا الله لأنها تحط الذنوب ، وقيل : معناه أمرنا حطة أي : شأننا أن نحط في هذه القرية ونقيم فيها حتى ندخل الباب سجداً مع التواضع {نغفر لكم خطاياكم} بسجودكم ودعائكم. وقرأ نافع بباء مضمومة على التذكير مع فتح الفاء ، وقرأ ابن عامر تغفر بتاء مضمومة على التأنيث مع فتح الفاء أيضاً ، وقرأ الباقون بالنون مفتوحة مع كسر الفاء ، وقرأ الكسائي خطاياكم بالإمالة ، وورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح {وسنزيد المحسنين} بالطاعة ثواباً جعل الله تعالى امتثال قوله : {قولوا حطة} توبة للمسيء وسبب زيادة الثواب للمحسنين.
فإن قيل : كيف عطف وسنزيد مع أنه مرفوع على نغفر مع أنه مجزوم جواباً للأمر ؟
أجيب : بأنه أخرجه عن صورة الجواب إلى الوعد إيهاماً بأنّ المحسن بصدد ذلك وإن لم يفعله فكيف إذا فعله وإنه يفعل لا محالة ، وسبب إخراج ما ذكر عن صورة الجواب إلى الوعد أنّ الزيادة إذا كانت من وعد الله كانت أعظم مما إذا كانت مسببة عن فعلهم.
72
جزء : 1 رقم الصفحة : 71
{فبدّل الذين ظلموا} منهم {قولاً غير الذي قيل لهم} فقالوا : حبة من شعرة ودخلوا يزحفون على أستاههم مخالفة في الفعل كما بدلوا القول.
روى معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قيل لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا : حبة في شعرة" وفي رواية : في شعيرة. وقوله تعالى : {فأنزلنا على الذين ظلموا} فيه وضع الظاهر موضع المضمر مبالغة في تقبيح أمرهم وإشعاراً بأنّ إنزال الرجز عليهم لظلمهم بوضع غير المأمور به موضعه أو على أنفسهم بأنهم تركوا ما يوجب نجاتها إلى ما يوجب هلاكها {رجزاً} أي : عذاباً مقدراً {من السماء} وقيل : أرسل الله عليهم طاعوناً فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفاً ، وقيل : أربعة وعشرون ألفاً {بما كانوا يفسقون} أي : بسبب فسقهم ، أي : خروجهم عن الطاعة.
{وإذ استسقى موسى} طلب السقيا {لقومه} وذلك أنهم عطشوا في التيه فسألوا موسى أن يستسقي لهم ففعل فأوحى الله إليه كما قال : {فقلنا اضرب بعصاك الحجر} وكانت من آس الجنة بالمدّ أي : شجرها وهو المرسين.(1/60)
وروي عن ابن عباس أنها كانت من عوسج طولها عشرة أذرع على طول موسى وكان لها شعبتان تتقدان في الظلمة نوراً واسمها عليق ، وقال مقاتل : اسمها بنفة حملها آدم من الجنة فتوارثها الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب فأعطاها موسى. واللام في الحجر للعهد على ما روي أنه كان حجراً طورياً مكعباً حمله معه كان له أربعة أوجه ينبع من كل وجه ثلاثة أعين تسيل كل عين في جدول إلى سبط وكانوا ستمائة ألف وسعة العسكر اثنا عشر ميلاً أو حجراً أهبطه آدم من الجنة ودفع إلى شعيب فأعطاه لموسى مع العصا أو الحجر الذي فرّ بثوبه لما وضعه عليه ليغتسل ومرّ به على ملأ من بني إسرائيل وهو حجر خفيف مربع كرأس الرجل رخام أو كذان وبرأه الله تعالى به عما رموه به من الأدرة وهي بضمّ الهمزة كبر الأنثيين فلما وقف أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فقال : إنّ الله تعالى يقول : ارفع هذا الحجر فلي فيه قدرة ولك فيه معجزة أو للجنس.
جزء : 1 رقم الصفحة : 73
قال البيضاويّ : وهذا أظهر في الحجة ويدل له قول وهب : لم يكن حجراً معيناً بل كان موسى يضرب أي حجر كان فينفجر عيوناً لكل سبط عين ثم تسيل كل عين في جدول إلى السبط
73
الذي أمر أن يسقيهم وكان بنو إسرائيل اثني عشر سبطاً ولكن لما قالوا : كيف بنا لو أفضينا إلى أرض لا حجارة فيها حمل حجراً في مخلاته وكان يضربه بعصاه إذا نزل فينفجر ويضربه بها إذا ارتحل فييبس فقالوا : إن فقد موسى عصاه متنا عطشاً فأوحى الله تعالى إليه لا تقرع الحجارة وكلمها تطعك لعلهم يعتبرون وقوله تعالى : {فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً} متعلق بمحذوف أي : فضربه فانفجرت أي : سالت ، قال أبو عمرو بن العلاء : انبجست : عرقت وانفجرت : سالت ، وقال عطاء : كان يضربه موسى اثنتي عشرة ضربة فيظهر على كل موضع ضربة مثل ثدي المرأة فيعرق ثم تنفجر الأنهار ثم تسيل {قد علم كل أناس} أي : سبط منهم {مشربهم} أي : عينهم التي يشربون منها لا يدخل سبط على غيره في شربه وقلنا لهم : {كلوا واشربوا من رزق الله} أي : كلوا من المنّ والسلوى واشربوا من الماء فهذا كله من رزق الله الذي يأتيكم بلا مشقة {ولا تعثوا} أي : لا تعتدوا {في الأرض مفسدين} أي : حال إفسادكم وإنما قيده لأنه وإن غلب في الفساد قد يكون منه ما ليس بفساد كمقابلة الظالم المعتدي بفعله ومنه ما يتضمّن صلاحاً راجحاً على الفساد كقتل الخضر الغلام وخرقه السفينة.
تنبيه : من أنكر أمثال هذه المعجزات فلغاية جهله بالله تعالى وقلة تدبره في عجائب صنعه فإنه لما أمكن أن يكون من الأحجار ما يحلق الشعر كالنورة ويجذب الحديد كالمغناطيس وينفر الخل كالكهربان فإنه إذا وضع في إناء لا يحصل الخل في ذلك الإناء لم يمتنع أن يخلق الله حجراً يسخره لجذب الماء من تحت الأرض أو لجذب الهواء من الجوانب الأربعة ويصيره ماء بقوّة التدبير ونحو ذلك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 73
{و} اذكروا {إذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد} وذلك أنهم سئموا من أكل المنّ والسلوى ، وإنما عبّر عنهما بطعام واحد لعدم تبدّلهما كقول العرب : طعام مائدة الأمير واحد يريدون أنه لا يتغير ألوانه أو لأنّ العرب تعبر عن الاثنين بلفظ الواحد كما تعبر عن الواحد بلفظ الاثنين كقوله تعالى : {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} (الرحمن ، 22) وإنما يخرج من الملح دون العذب أو لأنهم كانوا يعجنون المنّ بالسلوى فيصيرا واحداً أو لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر فكانا كطعام واحد أو ضرب واحد لأنهما معاً طعام أهل التلذذ وهم كانوا أهل فلاحة أي : أهل زراعات فاشتاقوا إلى أصلهم الرديء وعادتهم الخبيثة ولذا قالوا : {فادع لنا ربك} أي : فسل لأجلنا ربك {يخرج لنا} يظهر لنا ويوجد ، وجزمه بأنه جواب فادع فإنّ دعوة موسى تسبب الاجابة وقوله تعالى : {مما تنبت الأرض} من الإسناد المجازي وإقامة القابل وهي الأرض لأنها قابلة للنبات مقام الفاعل ومن في قولهم : {مما تنبت} للتبعيض ومن في قولهم : {من بقلها} للبيان والبقل ما تنبته الأرض من الخضر وهو ما ليس له ساق ، والمراد به أطايبه التي تؤكل كالكرفس والنعناع والكرّاث {وقثائها وفومها} وهو الخبز كما قاله ابن عباس ومنه فوّموا لنا أي : اخبزوا ، أو الحنطة كما قاله عطاء ، أو الثوم كما قاله الكلبي {وعدسها وبصلها قال} أي : الله أو موسى {أتستبدلون الذي هو أدنى} أي : أخس وأردأ ، وأصل الدنوّ القرب في المكان فاستعير للخسة كما استعير البعد في الشرف والرفعة فقيل : بعيد الهمة بعيد المحل {بالذي هو خير} أي : أشرف وهو المنّ والسلوى فإنه خير في اللذة والنفع وعدم الحاجة إلى السعي أي : أتأخذون هذا بدل هذا والهمزة للإنكار فأبوا أن يرجعوا فدعا موسى ربه فقال تعالى : {اهبطوا} أي : انزلوا ، فإن هبط يستعمل متعدّياً بنفسه كما هنا فيكون بمعنى النزول ويستعمل
74
جزء : 1 رقم الصفحة : 74(1/61)
متعدّياً بمن فيكون بمعنى الخروج من مكان إلى آخر مساو له أو أعلى منه {مصراً} من الأمصار ، والمصر البلد العظيم لا العلم بفتح اللام ، وقيل : أراد به العلم وهي مصر موسى وفرعون ، قال البيضاويّ : ويؤيده ـ أي : القول ـ بأن المراد بمصر العلم أنه غير منوّن في مصحف ابن مسعود أي : وهي قراءة شاذة وإنما صرفه على هذا مع أنّ فيه العلمية والتأنيث لسكون وسطه كما في هند ودعد لمعادلة أحد سببي منع الصرف بخفة الاسم لسكون وسطه أو على تأويل مصر بالمكان فذكره فيبقى فيه سبب واحد فانصرف {فإنّ لكم} فيه {ما سألتم} من نبات الأرض {وضربت عليهم} أي : أحيطت إحاطة القبة بمن ضربت عليه أو ألصقت بهم من ضرب الطين على الحائط {الذلة} أي : الذل والهوان ، وقيل : الجزية ، {والمسكنة} أي : الفقر وسمي الفقير مسكيناً لأنّ الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة وفعل بهم ذلك مجازاة لهم على كفران النعمة ولذلك تجد اليهود في غالب الأمر أذلاء مساكين إمّا على الحقيقة أو على التكلف مخافة أن تضاعف جزيتهم ، وقيل : الذلة فقر القلب فلا ترى في أهل الملل أذل وأحرص على المال من اليهود. وقرأ حمزة والكسائي : عليهم بضمّ الهاء والميم وصلاً ، وفي الوقف حمزة على أصله ، والكسائي بكسرها ، وأبو عمرو بكسر الهاء والميم وقفاً ووصلاً ، وباقي القرّاء بكسر الهاء وضم الميم وصلاً وفي الوقف بكسر الهاء وسكون الميم {وباؤوا} رجعوا {بغضب من الله} ولا يقال باء إلا بشر ، وأصل البوء المساواة ، وقال أبو عبيدة : احتملوه وأقروا به ومنه الدعاء : "أبوء بنعمتك وأبوء بذنبي" أي : أقرّ ، وقوله تعالى : {ذلك} إشارة إلى ما مرّ من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب {بأنهم} أي : بسبب أنهم {كانوا يكفرون بآبات الله} بصفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم في التوراة ويكفرون بالانجيل والقرآن وبالمعجزات التي من جملتها ما عدّ عليهم من فلق البحر وإظلال الغمام وإنزال المنّ والسلوى وانفجار العيون من الحجر {ويقتلون النبيين بغير الحق} أي : ظلماً فإنهم قتلوا شعياء وزكريا ويحيى وغيرهم. روي أن اليهود قتلوا سبعين نبياً في أوّل النهار وقامت سوق بقلهم آخر النهار.
فإن قيل : لم قال : {بغير الحق} وقتل النبيين لا يكون إلا بغير الحق ؟
أجيب : بأنه ذكره وصفاً للقتل والقتل يوصف تارة بالحق وتارة بغير الحق وهو مثل قوله تعالى : {قل رب احكم بالحق} (الأنبياء ، 112) ذكر الحق وصفاً للحكم لا أنّ حكمه ينقسم إلى الجور والحق ، أو أنه بغير الحق عندهم إذ لم يروا منهم ما يعتقد به جواز قتلهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 74
فإن قيل : إنّ الله تعالى قد أخبر بقتل الأنبياء ونصر الرسل فكيف الجمع ؟
أجيب : بأن المحل مختلف إذ الرسول غير النبيّ وبأنّ المراد بالنصر الغلبة بإظهار الحجة لا العصمة من القتل وإنما حملهم على ذلك اتباع الهوى وحب الدنيا كما أشار إليه تعالى بقوله : {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} أي : جرهم العصيان والتمادي والاعتداء فيه إلى الكفر بالآيات وقتل النبيين ، فإنّ صغار الذنوب أسباب تؤدّي إلى ارتكاب كبارها كما أنّ صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحرّي كبارها ، وكرر الإشارة للدّلالة على أنّ ما لحقهم كما هو بسبب الكفر والقتل فهو بسبب ارتكابهم المعاصي واعتدائهم حدود الله ، وقيل : الإشارة إلى الكفر والقتل والباء بمعنى مع وعلى هذا إنما جوّزت الإشارة بالمفرد إلى شيئين فصاعداً على تأويل ما ذكر والذي حسن ذلك أن تثنية المضمرات والمبهمات وجمعها وتأنيثها ليست على الحقيقة ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع ، وقرأ النبيئين نافع بالهمزة ، والباقون بالياء ، وورش على أصله في الهمز بالمدّ والتوسط والقصر.
75
{إنّ الذين آمنوا} بالأنبياء من قبل {والذين هادوا} أي : اليهود سموا به لقولهم : إنا هدنا إليك أي : ملنا إليك ، وقيل : لأنهم هادوا أي : تابوا من عبادة العجل وكأنهم سموا باسم أكبر أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام ، وقال أبو عمرو بن العلاء : لأنهم يتهوّدون أي : يتحرّكون عند قراءة التوراة ويقولون : إنّ السموات والأرض تحرّكت حين آتى الله موسى التوراة {والنصارى} جمع نصراني كندامى ، والياء في نصراني للمبالغة سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح ، {قال الحواريون نحن أنصار الله} (آل عمران ، 52) (الصف ، 14) .(1/62)
فإن قيل : هذا ليس جارياً على قواعد الاشتقاق فإنه يقال للواحد : ناصر وفاعل لا يجمع على فعالى. أجيب : بأنّ ذلك كاف في الاشتقاق وإن لم يجمع المفرد على فعالى أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها نصران أو ناصرة ، فسموا باسمها على الأول أو من اسمها على الثاني {والصابئين} هم طائفة من النصارى ، وقيل : من اليهود ، وقيل : قوم بين النصارى والمجوس ، وقيل : أصل دينهم دين نوح عليه الصلاة والسلام ، وقيل : هم عبدة الملائكة أو الكواكب ، وقرأ نافع وحده بالياء إمّا لأنه خفف الهمزة ، أو لأنه من صبا إذا مال لأنهم مالوا عن سائر الأديان إلى دينهم ، أو من الحق إلى الباطل ، والباقون بالهمزة بعد الباء الموحدة {من آمن با واليوم الآخر وعمل صالحاً} أي : من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ مصدّقاً بقلبه وبالمبدأ والمعاد عاملاً بمقتضى شرعه ، وقيل : من آمن من هؤلاء الكفرة إيماناً خالصاً ودخل الاسلام دخولاً صادقاً {فلهم أجرهم} أي : ثواب أعمالهم {عند ربهم} بأن يدخلهم الجنة {ولا خوف عليهم} في الدنيا {ولا هم يحزنون} في الآخرة أو حين يخاف الكفار من العقاب ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 74
تنبيه : روعي في ضمير آمن وعمل لفظ من وفيما بعده معناها ومن مبتدأ خبره فلهم أجرهم والجملة خبر إن ، أو بدل من اسم إن وخبرها فلهم أجرهم والفاء لتضمن المسند إليه معنى الشرط وقد منع سيبويه دخولها في خبر إن من حيث أنها لا تدخل الشرطية ورد بقوله تعالى : {إنّ الذين فتنوا الؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم} (البروج ، 1) .
جزء : 1 رقم الصفحة : 74
{و} اذكروا {إذ أخذنا ميثاقكم} أي : عهدكم باتباع موسى والعمل بما في التوراة {و} قد {رفعنا فوقكم الطور} أي : الجبل حتى أعطيتم الميثاق.
روي أنّ موسى عليه الصلاة والسلام لما جاءهم بالتوراة ورأوا ما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم لأنها كانت شريعة ثقيلة وأبوا قبولها فأمر الله تعالى جبريل بقلع الطور فظلله فوقهم
76
وكان على قدر عسكرهم وكان فرسخاً في فرسخ فرفعه فوق رؤوسهم مقدار قامة رجل كالظلة وقال لهم : إن لم تقبلوا التوراة أرسلت هذا الجبل عليكم ، وقال عطاء عن ابن عباس : رفع الله فوق رؤوسهم الطور وبعث ناراً من قبل وجوههم وأتاهم البحر الملح من خلفهم ، وقيل لهم : فإن قبلتم وإلا رضختكم بهذا الجبل أو أغرقتكم في هذا البحر أو أحرقتكم بهذه النار ، فلما رأوا أن لا مهرب لهم من ذلك قبلوا وسجدوا وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود فصارت سنة في اليهود لا يسجدون إلا على أنصاف وجوههم ويقولون : بهذا السجود رفع العذاب عنا {خذوا} هو على إرادة القول أي : وقلنا خذوا {ما آتيناكم} من الكتاب {بقوّة} بجدّ وعزيمة {واذكروا ما فيه} بالعمل فيه أو تفكروا فيه فإنه تذكر بالقلب كما أنّ الدرس ذكره باللسان أو ادرسوه ولا تنسوه {لعلكم تتقون} لكي تتقوا النار أو المعاصي.
{ثم توليتم} أعرضتم عن الوفاء بالميثاق {من بعد ذلك} أي : بعد أخذه {فلولا فضل الله عليكم ورحمته} أي : بتوفيقكم للتوبة أو بالإمهال وتأخير العذاب عنكم أو بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم يدعوكم إلى الحق ويهديكم إليه {لكنتم من الخاسرين} أي : من المغبونين بالانهماك في المعاصي أو بالعقوبة وذهاب الدنيا والآخرة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 76
تنبيه : لو في الأصل لامتناع الشيء لامتناع غيره فإذا دخل على لا أفاد إثباتاً أو هو امتناع الشيء لثبوت غيره والاسم الواقع بعده عند سيببويه مبتدأ خبره واجب الحذف لدلالة الكلام عليه وسد الجواب مسدّه وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف.(1/63)
{ولقد علمتم} اللام موطئة للقسم أي : عرفتم {الذين اعتدوا} تجاوزوا الحدّ {منكم في السبت} بصيد السمك وذلك أنهم كانوا زمن داود عليه الصلاة والسلام بأرض يقال لها إيلة حرم الله تعالى عليهم صيد السمك يوم السبت فكان إذا دخل السبت لم يبق حوت في البحر إلا حضر هناك وأخرج خرطومه حتى لا يرى الماء من كثرتها فإذا مضى تفرّقت ولزمت قعر البحر فذلك قوله تعالى : {إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون} (الأعراف ، 163) ثم إنّ الشيطان وسوس إليهم وقال : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فعمد رجال فحفروا الحياض حول البحر وشرعوا منه إليها الأنهار فإذا كان عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض فلا تقدر على الخروج لبعد عمقها وقلة مائها فإذا كان يوم الأحد أخذوها فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم ففعلوا ذلك زماناً ولم تنزل عليهم عقوبة فتجرؤوا على الذنب وقالوا : ما نرى السبت إلا قد أحل لنا فأكلوا وملحوا وباعوا فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية وكانوا نحواً من سبعين ألفاً ثلاثة أصناف : صنف أمسك ونهى ، وصنف أمسك ولم ينه ، وصنف انتهك الحرمة ، وكان الناهون اثني عشر ألفاً فلما أبى المجرمون قبول نصحهم قالوا : والله لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بجدار {فقلنا لهم} لإصرارهم على المعصية {كونوا قردة خاسئين} أي : مبعدين فخرج الناهون ذات يوم من بابهم ولم يخرج من المجرمين أحد ولم يفتحوا بابهم فلما أبطؤوا تسوروا على الحائط فإذا هم جميعاً قردة لها أذناب يتعاوون ، قال قتادة : صار الشبان قردة والشيوخ خنازير فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يمكث ممسوخ فوق ثلاثة أيام ولم يتوالدوا ، وقال مجاهد : ما مسخت صورتهم ولكن قلوبهم فمثلوا بالقردة كما مثلوا بالحمار كما في قوله تعالى : {كمثل الحمار يحمل أسفاراً} (الجمعة ، 5) رواه عنه ابن جرير وردّه وقال : إنه مخالف لظاهر القرآن والأحاديث والآثار
77
وإجماع المفسرين وقوله تعالى : {كونوا} ليس بأمر إذ لا قدرة لهم عليه وإنما المراد به سرعة التكوين وإنهم صاروا كذلك كما أراد بهم.
{فجعلناها} أي : تلك العقوبة {نكالاً} أي : عبرة تنكل المعتبر بها أي : تمنعه من ارتكاب مثل ما عملوا ومنه النكول عن اليمين وهو الامتناع {لما بين يديها وما خلفها} أي : للأمم التي في زمانها وبعدها أو لما بحضرتها من القرى وما تباعد عنها أو لأهل تلك القرية وما حواليها أو لأجل ما تقدّم عليها من ذنوبهم وما تأخر منها {وموعظة للمتقين} الله من قومهم أو لكل متق سمعها وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بها بخلاف غيرهم.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 76
و} اذكر {إذ قال موسى لقومه إنّ الله يأمركم} قرأ أبو عمرو بسكون الراء.(1/64)
وروي عن الدوري اختلاس الحركة ، والباقون بالحركة الكاملة ، والحركة ضمة {أن تذبحوا بقرة} أوّل هذه القصة قوله تعالى : {وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها} (البقرة ، 72) وإنما فكت عنه وقدّمت عليه لاستقلاله بنوع آخر من مساويهم وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال وترك المسارعة إلى الامتثال وقصته أنه كان فيهم رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له سواه فلما طال عليه موته قتله ليرثه وحمله إلى قرية أخرى فألقاه ببابها ثم أصبح يطلب ديته وجاء بناس إلى موسى يدعي عليهم القتل فسألهم فجحدوا فاشتبه أمر القتيل على موسى ، قال الكلبي : وذلك قبل نزول القسامة في التوراة فسألوا موسى ليدعو الله ليبيّن لهم بدعائه فدعا فأمرهم الله تعالى بذبح بقرة ويضربوا القتيل ببعضها ليحيا فيخبر بقاتله فقال موسى : إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة {قالوا أتتخذنا هزواً} أي : أتستهزىء بنا نحن نسأل عن أمر القتيل وتأمرنا بذبح بقرة ، وإنما قالوا ذلك استبعاداً لما قاله واستخفافاً به ، قرأ حمزة بسكون الزاي في الوصل وإذا وقف قال : هزواً بنصب الزاي من غير همز ، وروي عنه الإدغام ، وهو أن يشدّد الزاي ، وقرأ حفص هزواً بضم الزاي بعدها واو مفتوحة وقفاً ووصلاً والباقون بضم الزاي بعدها همزة مفتوحة {قال أعوذ} أي : أمتنع {با} من {أن أكون من الجاهلين} لأنّ الهزء في مثل ذلك جهل وسفه ، نفى عن نفسه ما رمي به على طريقة البرهان وأخرج ذلك في صورة الاستعاذة استفظاعاً له فلما علم القوم أنّ ذبح البقرة عزم من الله استوصفوه ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم وكان تحته حكمة وذلك أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وله عجلة أتى بها إلى غيضة وقال : اللهمّ إني استودعتك هذه العجلة لابني حتى يكبر ، ومات الرجل فسارت العجلة في الغيضة عواناً وكانت تهرب من كل من رآها فلما كبر الابن كان باراً بوالدته فكان يقسم الليل أثلاثاً يصلي ثلثاً وينام ثلثاً ويجلس عند رأس أمّه ثلثاً فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره فيأتي به السوق فيبيعه بما شاء الله ثم يتصدّق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثه فقالت له أمّه يوماً : إنّ أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا فانطلق وادع الله إله إبراهيم وإسمعيل وإسحق أن يردها عليك وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل لك أنّ شعاع الشمس يخرج من جلدها ، وكانت تلك البقرة تسمى الذهبية لحسنها وصفرتها فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها وقال : أعزم عليك بإله إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب فأقبلت تسعى إليه حتى قامت بين يديه فقبض على عنقها يقودها فتكلمت البقرة بإذن الله وقالت : أيها الفتى البار بوالدته اركبني فإنّ ذلك أهون عليك ، فقال الفتى : إنّ أمي لم تأمرني بذلك ولكن قالت : خذ بعنقها ، فقالت البقرة : بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر عليّ أبداً فانطلق فإنك لو أمرت
78
جزء : 1 رقم الصفحة : 76
الجبل أن يتقطع من أصله وينطلق معك لفعل لبرك بأمّك ، فسار الفتى بها إلى أمّه فقالت له : إنك فقير لا مال لك ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع هذه البقرة ، فقال : بكم أبيعها ؟
قالت : بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير فانطلق بها إلى السوق فبعث الله ملكاً ليري خلقه قدرته وليختبر الفتى كيف بره بوالدته وكان الله به خبيراً ، فقال الملك له : بكم تبيع هذه البقرة ؟
فقال : بثلاثة دنانير وأشترط عليك رضا والدتي ، فقال الملك : لك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك ، فقال الفتى : لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلا برضا أمي ، فردّها إلى أمّه وأخبرها بالثمن ، فقالت : ارجع فبعها بستة دنانير على رضا مني فانطلق بها إلى السوق وأتى الملك فقال : استأمرت أمّك ؟
فقال الفتى : إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها ، فقال الملك : إني أعطيك اثني عشر ديناراً على أن لا تستأمرها فأبى الفتى ورجع إلى أمّه وأخبرها بذلك ، فقالت : إنّ الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليختبرك فإذا أتاك فقل له : أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا ؟
ففعل فقال الملك له : اذهب إلى أمّك وقل لها : امسكي هذه البقرة فإنّ موسى بن عمران يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل فلا تبيعوها إلا بملء مسكها ـ أي : جلدها ـ ذهباً دنانير فأمسكوها وقدّر الله تعالى على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفونها حتى وصف لهم تلك البقرة مكافأة له على بره بوالدته فضلاً منه تعالى ورحمة فذلك قوله عز وجل :
جزء : 1 رقم الصفحة : 76(1/65)
{قالوا ادع لنا ربك يبيّن لها ما هي} أي : ما سنها وكان من حقه أن يقولوا أيّ بقرة هي أو كيف هي لأن لفظ ما يسأل به عن الجنس غالباً لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حال لم يوجد بها شيء من جنسه أجروه مجرى ما لم يعرفوا حقيقته ولم يروا مثله {قال} موسى {إنه} أي ربي {يقول إنها بقرة لا فارض} أي : مسنة ، وسميت فارضاً لأنها فرضت سنها أي : قطعته وبلغت آخره {ولا بكر} أي : صغيرة {عوان} أي : نصف أي : وسط قال الشاعر :
*نواعم بين أبكار وعون
جمع عوان {بين ذلك} أي : بين ما ذكر من الفارض والبكر.
فإن قيل : بين يقتضي شيئين فصاعداً فمن أين جاز دخوله على ذلك ؟
أجيب : بأنه في معنى شيئين حيث وقع مشاراً به إلى ما ذكر كما تقرّر وعود هذه الكنايات وإجراء تلك الصفات على بقرة يدل على أنّ المراد بها معينة ويلزمه تأخير البيان عن وقت الخطاب بالأمر ومن أنكر ذلك زعم أنّ المراد بها بقرة من جانب البقر غير مخصوصة ثم انقلبت مخصوصة بسؤالهم ويلزمه النسخ قبل الفعل فإن التخصيص إبطال التخيير الثابت بالنص والحق جواز تأخير البيان عن الوقت المذكور والنسخ قبل الفعل ويؤيد الرأي الثاني ظاهر اللفظ والمروي عنه عليه الصلاة والسلام : لو ذبحوا أيّ بقرة أرادوا لأجزأتهم ولكن شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم وتقريعهم بالتمادي وزجرهم عن المراجعة بقوله : {فافعلوا ما تؤمرون} به من ذبحها.
{قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال} موسى {إنه} أي : ربي {يقول إنها بقرة صفراء
79
فاقع لونها} أي : شديد الصفرة ولذلك تؤكد به الصفرة فيقال : أصفر فاقع كما يقال : أسود حالك ، وعن الحسن : سوداء شديدة السواد وبه فسر قوله تعالى : {جمالات صفر} (المرسلات ، 33) قال البيضاويّ : ولعله عبر بالصفرة عن السواد لأنه من مقدّماته ، قال البغويّ : والأوّل أصح لأنه لا يقال أسود فاقع إنما يقال : أصفر فاقع ، وأسود حالك وأخضر ناصح {تسرّ الناظرين} إليها أي : يعجبهم حسنها وصفاء لونها ، والسرور أصله لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 79
قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي} أي : أسالمة أم عاملة ؟
وعلى هذا فليس تكراراً للسؤال الأوّل {إنّ البقر} أي : جنسه المنعوت كما ذكر {تشابه} أي : التبس واشتبه أمره {علينا} لكثرته فلم يهتدوا إلى المقصود.
تنبيه : لم يقل تشابهت علينا لأنّ المراد الجنس كما مرّ أو لتذكير لفظ البقر كقوله تعالى : {أعجاز نخل منقعر} (القمر ، 20) {وإنا إن شاء الله لمهتدون} إلى وصفها وفي الحديث : "لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد". واحتجّ به أصحابنا على أنّ الحوادث بإرادة الله تعالى وأنّ الأمر قد ينفك عن الإرادة وإلا لم يكن للشرط بعد الأمر معنى. والمعتزلة والكرامية على حدوث الإرادة لأنها وقعت شرطاً والشرط أمر يحدث في المستقبل ، وأجيب : بأنّ تعليق الاهتداء بالمشيئة التي هي الإرادة باعتبار تعلق المشيئة بالاهتداء وهذا التعلق هو الحادث ولا يلزم من ذلك قيام الحوادث به تعالى لأن التعلق أمر اعتباري.
{قال} موسى {إنه} أي : ربي {يقول إنها بقرة لا ذلول} أي : غير مذللة بالعمل {تثير الأرض} أي : تقلبها للزراعة ، والجملة صفة ذلول داخلة في النفي {ولا تسقي الحرث} أي : الأرض المهيأة للزراعة ، ولا الثانية مزيدة لتأكيد الأولى والفعلان صفتا ذلول كأنه قال : لا ذلول مثيرة وساقية {مسلمة} من العيوب وإثارة العمل {لا شية} أي : لا لون {فيها} سوى لون جميع جلدها ، قال مجاهد : لا بياض فيها ولا سواد {قالوا الآن جئت} أي نطقت {بالحق} أي : بالبيان التامّ الشافي الذي لا إشكال فيه فطلبوها فوجدوها عند الفتى البارّ بأمّه فاشتروها بملء مسكها أي : جلدها ذهباً كما قال له الملك ، وقوله تعالى : {فذبحوها} فيه اختصار ، والتقدير فحصلوا البقرة المنعوتة فذبحوها {وما كادوا} أي : ما قاربوا {يفعلون} لتطويلهم وكثرة مراجعتهم ، أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل ، أو لغلاء ثمنها ولا ينافي قوله : {وما كادوا يفعلون} قوله : {فذبحوها} لاختلاف وقتيهما إذ المعنى ما قاربوا أن يفعلوا حتى انتهت سؤالاتهم وانقطعت تعللاتهم ففعلوا كالمضطرّ الملجأ إلى الفعل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 79
80
{وإذ قتلتم نفساً} خطاب للجمع لوجود القتل فيهم {فادّارأتم} فيه إدغام التاء في الأصل في الدال أي تخاصمتم وتدافعتم {فيها} أي : في شأنها ، إذ المتخاصمان يدفع بعضهم بعضاً ، أو تدافعتم بأن طرح كل قتلها عن نفسه إلى صاحبه {وا مخرج} أي : مظهر {ما كنتم تكتمون} فإن القاتل كان يكتم القتل ، وقوله تعالى : (1/66)
{فقلنا اضربوه} أي : القتيل ، عطف على ادّارأتم وما بينهما اعتراض ، والضمير للنفس وتذكير الضمير على تأويل الشخص أو القتيل {ببعضها} أي : ببعض البقرة واختلفوا في ذلك البعض فقال ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين : ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف وهو ما لان من العظام ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير : بعجب الذنب لأنه أوّل ما يخلق وآخر ما يبلى ويركب عليه الخلق ، وقال الضحاك : بلسانها ، قال الحسين بن الفضل : لأنه آلة الكلام ، وقال عكرمة والكلبي : بفخذها الأيمن ، وقيل : بعضو منها لا بعينه ففعلوا ذلك فقام القتيل حياً بإذن الله تعالى وأوداجه تشخب دماً وقال : قتلني فلان ثم سقط ومات مكانه فحرم قاتله الميراث وقتل وفي الخبر "ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة" وفيه إضمار تقديره : فضرب فحيي ، قال تعالى : {كذلك} الإحياء {يحيي الله الموتى} والخطاب مع من حضر حياة القتيل أو نزول الآية {ويريكم آياته} دلائل قدرته {لعلكم تعقلون} لكي يكمل عقلكم وتعلموا أنّ من قدر على إحياء نفس قدر على إحياء الأنفس كلها فتؤمنون.
قال البيضاويّ : ولعله تعالى إنما لم يحيه ابتداء وشرط فيه ما شرط لما فيه من التقرّب وأداء الواجب ونفع اليتيم والتنبيه على بركة التوكل أي : توكل أبي اليتيم والشفقة على الأولاد وأن من حق الطالب أن يقدم قربة والمتقرّب أن يتحرّى الأحسن ويغالي بثمنه كما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه ضحى بنجيبة ـ أي : من الابل ـ بثلثمائة دينار ، وأن المؤثر في الحقيقة هو الله تعالى إلى إذ لا يتصوّر حياة ميت من غيره تعالى والأسباب أمارات لا أثر لها وأن من أراد أن يعرف أعدى عدوّه الساعي في إماتته الموت الحقيقي فطريقه أن يذبح بقرة نفسه التي هي القوّة الشهوية حين زال عنها أثر الصبا أي : عدم التكليف ، وهو نظير لا بكر ولم يلحقها ضعف الكبر أي : وهو نظير لا فارض ، وكانت معجبة رائقة المنظر أي : وهو نظير تسرّ الناظرين غير مذللة في طلب الدنيا أي : وهو نظير لا ذلول تثير الأرض مسلمة من دنسها ، {لا شية} أي : لا علامة بها من قبائحها بحيث يصل أثره أي : الذبح إلى نفسه فتحيا حياة طيبة ، ويعرب عما به ينكشف الحال ويرتفع ما بين العقل والوهم من التدارؤ والنزاع أي : لأن العقل يأمر بالخير والوهم يأمر بالشهوات.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 80
ثم قست قلوبكم} أيها اليهود أي : ضلت عن قبول الحق لأن القساوة عبارة عن الغلظ مع الصلابة كما في الحجر وقساوة القلب مثل في بعده عن الاعتبار ، وثم لاستبعاد القسوة عن الأحياء لا للتراخي في الزمان بل للاستبعاد مجاز القرينة ما قبلها بمعنى أنه يبعد من العاقل قسوة القلب بعد ظهور تلك الآية العظيمة {من بعد ذلك} المذكور من إحياء القتيل وما قبله من الآيات فإن ذلك مما يوجب لين القلب {فهي كالحجارة} في قسوتها ، قرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء ، والباقون بكسرها {أو أشدّ قسوة} من الحجارة ، وقيل : أو بمعنى الواو كقوله تعالى : مائة
81
ألف أو يزيدون وإنما لم يشبهها بالحديد مع أنه أصلب من الحجارة لأنّ الحديد قابل للين فإنه يلين بالنار وقد لان لداود عليه الصلاة والسلام والحجارة ، لا تلين قط ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال : {وإنّ من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار} أي : من بعض الحجارة وقيل : أراد به الحجر الذي كان يضرب عليه موسى للأسباط {فإنّ منها لما يشقق} فيه إدغام التاء في الأصل في الشين {فيخرج منه الماء} أي : عيوناً دون الأنهار {وإنّ منها لما يهبط} أن ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله {من خشية الله}وقلوبكم لا تتأثر ولا تلين ولا تخشع يا معشر اليهود.
فإن قيل : الحجر جماد لا يفهم فكيف يخشى ؟
أجيب : بأنّ الله يفهمه ويلهمه فيخشى بإلهامه ، قال البغويّ : ومذهب أهل السنة أنّ لله تعالى علماً في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء لا يقف عليه غيره فلها صلاة وتسبيح كما قال جلّ ذكره : {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} (الإسراء ، 440) وقال تعالى : {والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه} (النور ، 41) (الحج ، 18) وقال تعالى : {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر} (الحج ، 18) الآية فيجب على المرء الإيمان به ويكل علمه إلى الله سبحانه وتعالى.
روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان على ثبير والكفار يطلعونه فقال الجبل : انزل عني فإني أخاف أن تؤخذ عليّ فيعاقبني الله بذلك ، فقال له جبل حرا : إليّ إليّ يا رسول الله.
وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن".
وروي عن عليّ أنه قال : "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فرحنا في نواحيها خارجاً من مكة بين الجبال والشجر فلم يمرّ بشجر ولا جبل إلا قال : السلام عليك يا رسول الله".
جزء : 1 رقم الصفحة : 80(1/67)
وروي عن جابر أنه قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد فلما صنع له المنبر فاستوى عليه اضطربت تلك السارية وحنت كحنين الناقة حتى سمعها أهل المسجد حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقها فسكتت ، وقال مجاهد : لا ينزل حجر من أعلى إلى أسفل إلا من خشية الله ويشهد لذلك قوله تعالى : {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية الله} (الحشر ، 21) {وما الله بغافل} أي : بساه {عما تعملون} وعيد وتهديد ، وقيل : بتارك عقوبة ما تعملون بل يجازيكم به ، وقرأ ابن كثير بالياء على الغيبة ، والباقون بالتاء على الخطاب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 80
{أفتطمعون} أي : أفترجون أيها المؤمنون {أن يؤمنوا} أي : اليهود {لكم} أي : لأجل دعوتكم أو يصدّقوكم بما تخبرونهم به {وقد كان فريق} أي : طائفة {منهم} أي : أحبارهم {يسمعون كلام الله} أي : التوراة {ثم يحرّفونه} يغيرونه كنعت محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم ، وقيل :
82
هؤلاء من السبعين المختارين الذين سمعوا كلام الله حين كلم موسى عليه الصلاة والسلام بالطور ثم قالوا : سمعنا الله يقول في آخره إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا ، وإن شئتم فلا تفعلوا {من بعد ما عقلوه} أي : فهموه بعقولهم ولم يبق لهم فيه ريبة {وهم يعلمون} أنهم مفترون والهمزة للإنكار أي : لا تطمعوا في إيمانهم فلهم سابقة في الكفر.
{وإذا لقوا} أي : منافقو اليهود {الذين آمنوا قالوا آمنا} بأنكم على الحق وإنّ رسولكم هو المبشر به في التوراة {وإذا خلا} أي : رجع {بعضهم إلى بعض قالوا} أي : رؤساؤهم الذين لم ينافقوا ككعب بن الأشرف وكعب بن أسد ووهب بن يهودا لمن نافق {أتحدّثونهم} أي : المؤمنين {بما فتح الله عليكم} بما بين لكم في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم {ليحاجوكم} أي : ليخاصموكم {به عند ربكم} أي : بما أنزل ربكم في كتابه ويقيموا عليكم الحجة في ترك اتباعه مع علمكم بصدقه جعلوا محاجتهم بكتاب الله محاجة عند الله كما يقال : عند الله كذا ، ويراد به أنه في كتابه وحكمه ، وقيل : بين يدي رسول ربكم ، وقيل : عند ربكم في الآخرة ، وقوله تعالى : {أفلا تعقلون} إمّا من تمام كلام اللائمين وهم خلص اليهود وتقديره أفلا تعقلون أنهم يحاجونكم فيحجونكم ، وإمّا من خطاب الله للمؤمنين متصل بقوله تعالى : {أفتطمعون} والمعنى : أفلا تعقلون حالهم وأنه لا مطمع لكم في إيمانهم.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 82
أولا يعلمون} أي : اللائمون أو المنافقون أو كلاهما {إنّ الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون} من إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان وإخفاء ما فتح الله عليهم وإظهار غيره وغير ذلك فيرعووا عن ذلك.
{ومنهم} أي : اليهود {أمّيون} أي : عوام جهلة {لا يعلمون الكتاب} أي : لا يعرفون التوراة أو الكتابة فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما ، فيها ، وقوله تعالى : {إلا أمانيّ} استثناء منقطع ، أي : لكن أكاذيب تلقوها من رؤسائهم فاعتمدوها {وإن هم} أي : ما هم {إلا} قوم {يظنون} ظناً لا علم لهم وقد يطلق الظنّ بإزاء العلم على كل رأي واعتقاد من غير قاطع وإن جزم به صاحبه كاعتقاد المقلد وكالزائغ عن الحق بسبب شبهة قامت عنده.
جزء : 1 رقم الصفحة : 82
83
{فويل} أي : واد في جهنم كما رواه الترمذيّ ، قال سعيد بن المسيب : لو سيرت فيه جبال الدنيا لانماعت من شدّة حرّه ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هو شدّة العذاب {للذين يكتبون الكتاب} أي : المحرف من التأويلات الزائغة ، وقوله تعالى : {بأيديهم} تأكيد كقولك : كتبته بيميني {ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً} من الدنيا وهم اليهود غيروا صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم في التوراة : وآية الرجم وغيرها وكتبوها على خلاف ما أنزل الله فكانت صفته صلى الله عليه وسلم في التوراة : أكحل العينين ، ربعة ، جعد الشعر ، حسن الوجه ، فكتبوها طويلاً : أزرق العينين ، سبط الشعر ، وغيروا آية الرجم بالجلد والتحميم أي : تسويد الوجه {فويل لهم مما كتبت أيديهم} من المحرف {وويل لهم مما يكسبون} من الرشا.
{وقالوا} أي : اليهود لما وعدهم النبيّ صلى الله عليه وسلم النار {لن تمسنا} أي : تصيبنا {النار إلا أياماً معدودة} محصورة قليلة. روي أنّ بعضهم قالوا : نعذب بعدد أيام عبادتنا العجل أربعين يوماً وبعضهم قالوا : مدّة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوماً واحداً ثم ينقطع العذاب بعد سبعة أيام.(1/68)
فإن قيل : لم وصف الأيام مع أنها جمع بالمفرد ؟
أجيب : بأنها في معنى الجماعة فتكون مفرداً تقديراً ولأنّ جمع القلة ـ كما قاله الرضي ـ في حكم المفرد فيوصف بالمفرد كما هنا يوصف المفرد به كما في قوله تعالى : {نطفة أمشاج} (الإنسان ، 20) وقيل : الأمشاج مفرد وعلى هذا فلا إشكال ثم كذبهم الله تعالى بقوله : {قل} لهم يا محمد {أتخذتم} حذف منه همزة الوصل استغناء بهمزة الاستفهام. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم بإظهار الذال عند التاء ، والباقون بالإدغام {عند الله عهداً} أي : ميثاقاً منه بذلك ، وقوله تعالى : {فلن يخلف الله عهده} جواب شرط مقدر أي : إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده وفيه دليل على أن الخلف في خبر الله تعالى محال {أم تقولون على الله ما لا تعلمون} أم إما منقطعة بمعنى بل أتقولون على التقرير والتقريع ، وإمّا معادلة بهمزة الاستفهام بمعنى أيّ الأمرين كائن على سبيل التقرير للعلم بوقوع أحدهما ، وقوله تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 83
بلى} إثبات لما نفوه من مساس النار لهم فإن بلى وبل حرفا استدراك ومعناهما نفي الخبر الماضي وإثبات الخبر المستقبل أي : بل تمسكم وتخلدون فيها {من كسب سيئة} أي : قبيحة {وأحاطت به خطيئته} وقرأ نافع وحده خطيئاته بالجمع أي : استولت عليه وشملت جميع أحواله حتى صار كالمحتاط بها لا يخلو عنها شيء من جوانبه وهذا إنما يصح في شأن الكافر لأنّ غيره وإن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه لم تحط الخطيئة به ولذلك فسرها السلف بالكفر ، وقيل : السيئة الكبيرة ، والإحاطة أن يصرّ عليها لأنّ من أذنب ذنباً ولم يقلع عنه استجرّه إلى معاودة مثله والانهماك فيه وارتكاب ما هو أكبر منه حتى تستولي عليه الذنوب وتأخذ بمجامع قلبه فيصير بطبعه مائلاً إلى المعاصي مستحسناً إياها معتقداً أن لا لذة سواها مبغضاً لمن يمنعه عنها مكذباً لمن ينصحه فيها كما قال تعالى : {ثم كان عاقبة الذين أساءوا السواى أن كذبوا بآيات الله} (الروم ، 10) الآية ، والفرق بين السيئة والخطيئة أنّ السيئة قد تقال فيما يقصد بالذات والخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض لأنها من الخطأ ، والكسب استجلاب النفع
84
وتعليقه بالسيئة على التهكم كقوله تعالى : {فبشره بعذا أليم} (لقمان ، 7) (يس ، 11) (الجاثية ، 8) {فأولئك أصحاب النار} أي : ملازموها في الآخرة كما أنهم ملازمو أسبابها في الدنيا {هم فيها خالدون} أي : دائمون روعي فيه معنى من والآية كما ترى لا حجة فيها على خلود صاحب الكبيرة لأنها في الكافر كما مرّ.
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} جرت عادته سبحانه وتعالى على أن يشفع وعده بوعيده لترجي رحمته ويخشى عذابه.
تنبيه : عطف العمل على الإيمان يدل على خروجه عن مسماه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 83
{و} اذكر {إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} في التوراة وقلنا لهم : {لا تعبدون إلا الله} هذا إخبار في معنى النهي كقوله تعالى : {ولا يضارّ كاتب ولا شهيد} (البقرة ، 282) وهو أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أنّ المنهي سارع إلى الانتهاء فهو مخبر عنه ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائيّ بالياء على الغيبة ، والباقون بالتاء على الخطاب. {وبالوالدين إحساناً} أي : برّاً بهما وعطفاً عليهما ونزولاً عند أمرهما فيما لا يخالف أمر الله تعالى. قال البيضاويّ : وهذا متعلق بمضمر تقديره : وتحسنون أو أحسنوا ، انتهى. ويلزمه أنّ إحساناً في الآية منصوب على المصدر المؤكد لعامله المحذوف مع أن حذف عامل المؤكد ممنوع أو نادر وقوله تعالى : {وذي القربى} أي : القرابة {واليتامى والمساكين} عطف على الوالدين ، ويتامى جمع يتيم وهو الطفل الذي لا أب له كنديم وندامى وهو قليل ، ومسكين مفعيل من السكون كأنّ الفقر أسكنه {وقولوا للناس حسناً} من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في شأن محمد صلى الله عليه وسلم والرفق بهم ، وقيل : هو اللين في القول والمعاشرة بحسن الخلق. وقرأ حمزة والكسائي بفتح الحاء والسين ، والباقون بضم الحاء وسكون السين مصدر وصف به مبالغة {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ، قال البيضاوي : يريد ـ أي : الله ـ بهما ما فرض عليهم في ملتهم {ثم توليتم} في هذا التفات عن الغيبة ، قال البيضاوي : ولعل الخطاب مع الموجودين منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قبلهم على التغليب أي : أعرضتم عن الميثاق ورفضتموه {إلا قليلاً منكم} أي : وهو من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ ومن أسلم منهم {وأنتم} قوم {معرضون} أي : عادتكم الإعراض عن المواثيق والتولية كإعراض آبائكم.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 85(1/69)
و} اذكروا {إذ أخذنا ميثاقكم} وقلنا {لا تسفكون دماءكم} أي : تريقونها بقتل بعضكم بعضاً {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} أي : لا يخرج بعضكم بعضاً من داره وإنما جعل غير الرجل نفسه لاتصاله به نسباً أو ديناً ، وقيل : لا تفعلوا ما يرديكم ويصرفكم عن الحياة الأبدية فإنه القتل في الحقيقة ولا تقترفوا ما تمنعون به عن الجنة التي هي داركم فإنه الجلاء الحقيقيّ {ثم أقررتم} بهذا العهد أنه حق وقبلتم {وأنتم تشهدون} على أنفسكم ، هذا توكيد كقولك أقر فلان شاهداً على نفسه ، وقيل : أنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم فيكون إسناد الإقرار إليهم مجازاً.
{ثم أنتم} يا {هؤلاء تقتلون أنفسكم} فيه استبعاد لما ارتكبوه بعد الميثاق والإقرار والشهادة عليه أي : ثم بعد ذلك يقتل بعضكم بعضاً {وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون} قرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الطاء ، والباقون بتشديدها ، أي : تتعاونون {عليهم بالإثم}
85
أي : المعصية {والعدوان} أي : الظلم {وإن يأتوكم أسارى} قرأ حمزة بفتح الهمزة وسكون السين ولا ألف بعد السين ، والباقون بضمّ الهمزة وفتح السين وألف بعدها {تفادوهم} قرأ عاصم والكسائيّ بضمّ التاء وفتح الفاء وألف بعدها ، والباقون بفتح التاء وسكون الفاء ولا ألف بعدها ، أي : تنقذوهم من الأسر بالمال أو غيره ، وقوله تعالى : {وهو} أي : الشأن {محرّم عليكم إخراجهم} متعلق بقوله تعالى : {وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم} وما بينهما اعتراض ، ومعنى الآية قال السدي : إنّ الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم وترك المظاهرة عليهم مع أعدائهم وأيما عبد أو أمة وجدتموه في بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه ، وكانت قريظة حالفوا الأوس وحالفت النضير الخزرج فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه ويخرب ديارهم ويخرجهم فإذا أسروا فدوهم وكانوا إذا سئلوا : لم تقاتلونهم ؟
وتفدونهم قالوا : أمرنا بالفداء ، فيقال : فلم تقاتلونهم ؟
فيقولون : حياء أن يستذل حلفاؤنا فعيرهم الله تعالى بقوله : {أفتؤمنون ببعض الكتاب} وهو الفداء {وتكفرون ببعض} وهو ترك القتل والإخراج والمظاهرة {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي} أي : هوان وعذاب {في الحياة الدنيا} فكان خزي قريظة القتل والسبي ، وخزي بني النضير الجلاء والنفي عن منازلهم إلى أذرعات وأريحاء من الشام {ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب} أي : عذاب جهنم وإنما ردّ من فعل منهم ذلك إلى أشدّ العذاب لأنّ عصيانه أشدّ {وما الله بغافل عما تعملون} قرأ نافع وابن كثير وشعبة بالياء على الغيبة ، والباقون بالتاء على الخطاب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 85
{أولئك الذين اشتروا} أي : استبدلوا {الحياة الدنيا بالآخرة} بأن آثروها عليها {فلا يخفف عنهم العذاب} في الدنيا بنقصان الجزية والتعذيب في الآخرة {ولا هم ينصرون} أي : بدفعها عنهم {ولقد آتينا} أي : أعطينا {موسى الكتاب} أي : التوراة جملة واحدة {وقفينا من بعده بالرسل} أي : أتبعناهم رسولاً في إثر رسول كقوله تعالى : {ثم أرسلنا رسلنا تترى} (المؤمنون ، 44) يقال : قفاه إذا أتبعه إياه {وآتينا عيسى بن مريم البينات} أي : المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بالمغيبات أو الإنجيل. وعيسى بالعبرانية أيشوع ، ومريم بمعنى الخادم {وأيدناه} أي : قويناه {بروح القدس} قرأ ابن كثير بإسكان الدال حيث جاء ، والباقون بضمها ، وهذا من إضافة الموصوف إلى الصفة أي : الروح المقدسة وهو جبريل وصف به لطهارته وتأييده به أن أمر أن يسير معه حيث سار حتى يصعد به إلى السماء ،
86
وقيل : روح عيسى عليه الصلاة والسلام ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان أو لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث أي : الحيض ، وقيل : اسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى.
ولما سمعت اليهود ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام قالوا : يا محمد لا مثل عيسى كما تزعم عملت ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت ، فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقاً فقال الله تعالى : {أفكلما جاءكم} يا معشر اليهود {رسول بما لا تهوى} أي : تحب {أنفسكم} من الحق ، وقوله تعالى : {استكبرتم} أي : تكبرتم عن اتباعه ، جواب كلما وهو محل الاستفهام والمراد به التوبيخ {ففريقاً} أي : طائفة {كذبتم} كموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، والفاء لسببية الاستكبار للتكذيب أو التفصيل {وفريقاً تقتلون} كزكريا ويحيى عليهما السلام.
فإن قيل : هلا قال : وفريقاً قتلتم ؟
أجيب : بأنه إنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضاراً لها في النفوس فإنّ الأمر فظيع ومراعاة للفواصل. قال الزمخشري : أو أن يراد وفريقاً تقتلونهم بعد أي : الآن ، لأنكم درتم حول قتل محمد لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة ، وقال صلى الله عليه وسلم عند موته : "ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري".
{(1/70)
جزء : 1 رقم الصفحة : 86
وقالوا} للنبيّ صلى الله عليه وسلم استهزاءً : {قلوبنا غلف} جمع أغلف أي : مغشاة بأغطية لا يتوصل إليها ما جئت به ولا تفقهه ، مستعار من الأغلف الذي لم يختن كقولهم : {قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه} (فصلت ، 5) ، وقيل : أصل غلف بالسكون غلف بالضم فخفف ، والمعنى أنها أوعية العلم لا تسمع علماً إلا وعته ولا تعي ما تقول أي : فما تقوله ليس بعلم أو نحن مستغنون بما فيها عن غيره ، ثم ردّ الله تعالى عليهم أن تكون قلوبهم كذلك بقوله تعالى : {بل} للإضراب {لعنهم الله بكفرهم} أي : بسبب كفرهم ، والمعنى أنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق ولكنّ الله خذلهم بكفرهم فأبطل استعدادهم كما قال تعالى : {فأصمهم وأعمى أبصارهم} أو هم كفرة ملعونون فمن أين لهم دعوى العلم والاستغناء عنك {فقليلاً ما يؤمنون} ما مزيدة لتأكيد القلة أي : إيمانهم إيمان قليل جدّاً وهو إيمانهم ببعض الكتاب وقيل : أراد بالقلة العدم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 86
{ولما جاءهم كتاب من عند الله} هو القرآن {مصدّق لما معهم} من كتابهم وهو التوراة لا يخالفه {وكانوا} أي : اليهود {من قبل} أي : من قبل مجيئه {يستفتحون} أي : يستنصرون {على الذين كفروا} أي : مشركي العرب إذا قابلوهم يقولون : اللهمّ انصرنا عليهم بالنبيّ المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته ونعته في التوراة ويقولون لأعدائهم من المشركين : قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم {فلما جاءهم} أي : اليهود {ما عرفوا} من الحق وهو بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم {كفروا به} حسداً أو خوفاً على الرياسة وجواب لما الأولى دل عليه جواب لما الثانية {فلعنة الله} أي : عذابه وطرده {على الكافرين} أي : عليهم ، وإنما أتى بالمظهر للدلالة على أنهم لعنوا لكفرهم فتكون اللام للعهد ويجوز أن تكون للعموم ويدخلون فيه دخولاً أولياً أو قصدياً لأنهم المقصودون بالذات وتناول الكلام لغيرهم على سبيل التبع فهو كما إذا ظلمك إنسان
87
فقلت : ألا لعنة الله على الظالمين كان ذلك الظالم أوّلياً أو مقصوداً في الدعاء والباقون تبعاً.
{بئس ما اشتروا} أي : باعوا {به أنفسهم} أي : حظها من الثواب ، وما نكرة بمعنى شيئاً مميزة لفاعل بئس المستكن أي : بئس الشيء شيئاً اشتروا به أنفسهم والمخصوص بالذم {أن يكفروا} أي : كفرهم {بما أنزل الله} من القرآن {بغياً} أي : حسداً وطلباً لما ليس لهم وهو علة يكفروا ـ كما قال البيضاوي ـ دون اشتروا ، وإن قاله الزمخشري لفصل المخصوص بين {بغياً} الذي هو العلة وبين المعلول وهو {اشتروا}. وحسدوه على {أن ينزل الله من فضله} أي : الوحي {على من يشاء} للرسالة {من عباده} وهو محمد صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون نون ينزل وتخفيف الزاي ، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي {فباءوا} أي : رجعوا {بغضب على غضب} أي : مع غضب ، واختلف في معنى ذلك فقال ابن عباس ومجاهد : الغضب الأوّل : بتضييعهم التوراة وتبديلهم ، والثاني : بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وقال السديّ : الأوّل : كفرهم بعبادة العجل ، والثاني : الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وقال قتادة : الأوّل : بكفرهم بعيسى والإنجيل ، والثاني : بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. {وللكافرين عذاب مهين} أي : ذو إهانة بخلاف عذاب العاصي فإنه طهرة لذنوبه.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 87
وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله} من القرآن وغيره فيعم سائر الكتب المنزلة {قالوا نؤمن بما أنزل علينا} أي : التوراة يكفينا ذلك {ويكفرون} الواو للحال {بما وراءه} أي : بما سواه من الكتب كقوله تعالى : {فمن ابتغى وراء ذلك} (المؤمنون ، 7) أي : سواه وقال أبو عبيدة : بما بعده أي : من القرآن. وقوله تعالى : {وهو} أي : ما وراءه {الحق} حال ، وقوله : {مصدّقاً لما معهم} أي : من التوراة حال ثانية مؤكدة تتضمن ردّ مقالهم فإنهم كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها ثم اعترض الله تعالى عليهم بقتل الأنبياء مع ادعاء الإيمان بالتوراة بقوله تعالى : {قل} لهم يا محمد {فلم تقتلون} أي : قتلتم {أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} بالتوراة ، والتوراة لا تسوغه بل نهيتم فيها عن قتلهم ، والخطاب للموجودين في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم بما فعل آباؤهم لرضاهم به وعزمهم عليه ، قرأ نافع وحده : أنبياء الله ، بالهمز في كل القرآن ، والباقون بالبدل ، وليس لورش إلا المدّ فقط لأنه متصل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 87
{ولقد جاءكم موسى بالبينات} أي : الآيات التسع في قوله تعالى : {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات كالعصا} (الإسراء ، 101) واليد وفلق البحر {ثم اتخذتم العجل} أي : إلهاً {من بعده} أي :
88(1/71)
من بعد ذهابه إلى الميقات ، وقوله تعالى : {وأنتم ظالمون} أي : باتخاذه ، حال أي : اتخذتم العجل ظالمين بعبادته ، أو بالإخلال بآيات الله ، أو اعتراض أي : وأنتم عادتكم الظلم.
{وإذ أخذنا ميثاقكم} على العمل بما في التوراة {و} قد {رفعنا فوقكم الطور} أي : الجبل حين امتنعتم من قبولها ليسقط عليكم ، وقلنا : {خذوا ما آتيناكم بقوّة} أي : بجد واجتهاد {واسمعوا} ما تؤمرون به سماع قبول {قالوا سمعنا} قولك {وعصينا} أمرك وقيل : سمعنا بالآذان وعصينا بالقلوب ، قال أهل المعاني : إنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم ولكن لما سمعوا بالآذان وتلقوه بالعصيان نسب ذلك إلى القول اتساعاً {وأشربوا في قلوبهم العجل} أي : خالط حبه قلوبهم كما يتداخل الشراب أعماق البدن ، وفي قلوبهم بيان لمكان الإشراب كقوله تعالى : {إنما يأكلون في بطونهم ناراً} (النساء ، 10) .
فائدة : قال البغويّ في "القصص" : إنّ موسى عليه الصلاة والسلام أمر أن يبرد العجل بالمبرد ثم يذر في النهر وأمر بالشرب منه فمن بقي في قلبه شيء من حب العجل ظهرت سحالة الذهب على شاربه. {بكفرهم} أي : بسبب كفرهم وذلك أنهم كانوا مجسمة أو حلولية ولم يروا جسماً أعجب منه فتمكن من قلوبهم ما سوّل لهم السامري {قل} لهم يا محمد {بئسما} أي : شيئاً {يأمركم به إيمانكم} بالتوراة عبادة العجل ، وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم ، كما قال قوم شعيب : {أصلواتك تأمرك} (هود ، 87) وكذلك إضافة الإيمان إليهم في قوله تعالى : {إن كنتم مؤمنين} بعبادة العجل.
{قل} لهم {إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة} أي : خاصة {من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} في قولكم وذلك أنّ اليهود ادعوا دعاوى باطلة مثل قولهم : {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} (البقرة ، 80) {ولن يدخل الجنة إلا من كان هوداً} (البقرة ، 111) وقولهم : {نحن أبناء الله وأحباؤه} (المائدة ، 18) فكذبهم الله عز وجل وألزمهم الحجة فقال : قل لهم يا محمد ذلك لأنّ من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم والتخلص من الدار ذات الشوائب. كما روي عن المبشرين بالجنة رضي الله تعالى عنهم فقد كان علي رضي الله تعالى عنه يطوف بين الصفين في غلالة فقال له ابنه الحسن : ما هكذا نرى المحاربين ، فقال له : يا بني لا يبالي أبوك على الموت سقط أم عليه سقط الموت. وعن حذيفة أنه كان يتمنى الموت فلما احتضر قال : حبيب ـ أي : الموت ـ جاء على فاقة ، أي : وقت حاجتي إليه. وقيل : بل أراد بالحبيب لقاء الله لا أفلح من ندم يعني على التمني أراد به أنه كان يتمنى الموت وما ندم على التمني حين جاء الموت. وقال عمار بصفين : الآن ألاقي الأحبة محمداً وحزبه. وكان كل واحد من العشرة يحب الموت ويحن إليه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 88
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : "لو تمنوا الموت لغص كل إنسان منهم بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهوديّ إلا مات".
تنبيه : خالصة نصبها على الحال من الدار ، أو من الضمير في خبر كان العائد إلى الدار ، وتعلق بتمنوا الشرطان على أنّ الأوّل قيد في الثاني.
89
جزء : 1 رقم الصفحة : 88
{ولن يتمنوه أبداً بما قدّمت أيديهم} من موجبات النار من الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به وتحريف كتاب الله وسائر أنواع الكفر والعصيان ، ولما كانت اليد العاملة مختصة بالإنسان آلة لقدرته بها عامة صنائعه ومنها أكثر منافعه عبر بها عن النفس تارة كما هنا وعن القدرة أخرى كما في قوله تعالى : {يد الله فوق أيديهم} (الفتح ، 10) وهذه الجملة إخبار بالغيب وكان أخبر به كقوله تعالى : {ولن تفعلوا} (البقرة ، 24) .
فإن قلت : من أعلمك أنهم لم يتمنوا ؟
أجيب : بأنهم لو تمنوا لنقل ذلك كما نقل سائر الحوادث ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولي المطاعن في الإسلام أكثر من الذر وليس أحد منهم نقل ذلك.
فإن قيل : التمني من أعمال القلوب وهو سرّ لا يطلع عليه أحد فمن أين علمت أنهم لم يتمنوا ؟
أجيب : بأنّ التمني ليس من أعمال القلوب إنما هو قول الانسان بلسانه : ليت لي كذا ، فإذا قاله قالوا : تمنى. وليت كلمة تمنّ ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب ولو كان التمني بالقلوب وتمنوا لقالوا : قد تمنينا الموت في قلوبنا ولم ينقل أنهم قالوا ذلك.(1/72)
فإن قيل : لم يقولوه لأنهم علموا أنهم لا يصدقون أجيب : بأنه كم حكي عنهم من أشياء قاولوا بها المسلمين من الافتراء على الله وتحريف كتابه وغير ذلك مما علموا أنهم غير مصدقين فيه ولا محمل له إلا الكذب الصرف ولم يبالوا فكيف يمنعون من أن يقولوا إنّ التمني من أفعال القلوب وقد فعلناه مع احتمال أن يكونوا صادقين في قولهم وأخبارهم عن ضمائرهم وكان الرجل يخبر عن نفسه بالإيمان فيصدق مع احتمال أن يكون كذباً لأنه أمر خفي لا سبيل إلى الاطلاع عليه {وا عليم بالظالمين} أي : الكافرين فيجازيهم في ذلك فيه تهديد لهم وتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم ونفيه عمن هو لهم.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 90
ولتجدنهم} اللام لام القسم والنون تأكيد القسم تقديره : والله لتجدنهم يا محمد أي : اليهود {أحرص الناس على حياة} هو من وجد بمعنى علم المتعدي إلى مفعولين ومفعولاه هم أحرص.
فإن قيل : لم قال على حياة بالتنكير ؟
أجيب : بأنه أريد حياة مخصوصة هي فرد من أفرادها وهي الحياة المتطاولة {و} أحرص {من الذين أشركوا} أي : المنكرين البعث عليها لعلمهم بأنّ مصيرهم النار دون المشركين لإنكارهم له.
فإن قيل : ألم يدخل الذين أشركوا تحت الناس ؟
أجيب : ببلى ، ولكنهم أفردوا بالذكر ؛ لأنّ حرصهم شديد وفيه توبيخ عظيم ؛ لأنّ الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة وما يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقرّ بالجزاء كان حقيقاً بأعظم التوبيخ {يودّ} يتمنى {أحدهم لو يعمر ألف سنة} لو مصدرية بمعنى أن وهي بصلتها في تأويل مصدر مفعول ، يودّ يقول الله تعالى : اليهود أحرص الناس على الحياة من المجوس الذين يقولون ذلك ؛ لأنّ تحية المجوس فيما بينهم عش ألف سنة {وما هو} أي : أحدهم {بمزحزحه} أي : مبعده {من العذاب} أي : النار وقوله تعالى : {أن يعمر} فاعل مزحزحه أي : تعميره {وا بصير بما يعملون} فيجازيهم به.
"وسأل عبد الله بن صوريا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن ينزل عليه ؟
فقال : جبريل فقال : ذاك عدوّنا
90
عادانا مراراً وأشدّها أنه لما نزل على نبينا أخبرنا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر وأخبرنا بالحين الذي يجيء فيه فلما كان وقته بعثنا رجلاً من بني إسرائيل في طلبه ليقتله فانطلق حتى لقيه ببابل غلاماً مسكيناً فأخذه ليقتله فدفع عنه جبريل وقال : إن كان ربكم أمره بهلاككم فلا يسلطكم عليه وإلا فيم تقتلونه وكبر بختنصر وقوي فنزل.
{قل} لهم {من كان عدواً لجبريل}.
روي أنه كان لعمر رضي الله تعالى عنه أرض بأعلى المدينة وكان ممرّه على مدارس اليهود وكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم فقالوا : يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك فقال : والله ما أحبكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم ، ثم سألهم عن جبريل فقالوا : ذاك عدوّ لنا يطلع محمداً على أسرارنا وإنه صاحب كل خسف وعذاب ، وميكائيل صاحب الخصب والسلام أي : السلامة ، فقال عمر : وما منزلتهما من الله ؟
قالوا : جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وبينهما عداوة فقال : لئن كان كما تقولون فليسا بعدوّين أي : لقرب منزلتهما عند الله ولأنتم أكفر من الحمير أي : لأنّ الكفر نتيجة الجهل والبلادة والحمار مَثل فيهما ، ومن كان عدوّ أحدهما فهو عدّو الله تعالى ثم رجع فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وقال عليه الصلاة والسلام : "لقد وافقك ربك يا عمر" قال عمر : لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 90(1/73)
وقال مقاتل : قالت اليهود إنّ جبريل عدوّنا ؛ لأنه أمر أن يجعل النبوّة فينا فجعلها في غيرنا ومعنى جبريل عبد الله ، فجبر هو الله وإيل هو العبد ، وقرأ حمزة والكسائيّ بفتح الجيم والراء وهمزة بعد الراء مكسورة ممدودة أي : بعدها ياء لفظية وقرأ شعبة كذلك إلا أنه حذف الياء بعد الهمزة وكسر الراء والباقون بكسر الجيم والراء من غير همز بعد الراء إلا أن ابن كثير فتح الجيم ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة {فإنه} أي : جبريل {نزله} أي : القرآن ونحو هذا الإضمار أعني إضمار ما لا يسبق ذكره فيه. فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدلّ على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته {على قلبك} يا محمد وقوله تعالى : {بإذن الله} أي : بأمره حال من فاعل نزل {مصدقاً} أي : موافقاً {لما بين يديه} لما قبله من الكتب {وهدى} من الضلالة {وبشرى} بالجنة {للمؤمنين} هذه أحوال من مفعول نزل وجواب الشرط فإنه نزله والمعنى من عادى منهم جبريل فقد خلع ربقة الإنصاف أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياك لنزوله عليك بالوحي ؛ لأنه نزل كتاباً مصدّقاً للكتب المتقدّمة فحذف الجواب وأقيم علته مقامه ، أو من عاداه فالسبب في عداوته أنه نزل عليك ، وقيل : الجواب محذوف مثل فليمت غيظاً أو فهو عدوّ لي وأنا عدوّ له كما قال تعالى :
{من كان عدوّاً وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإنّ الله عدوّ للكافرين} والمراد بمعاداة الله مخالفته عناداً أو معاداة المقرّبين من عباده وصدر الكلام بذكره تعالى تفخيماً لشأنهم كقوله تعالى : {وا ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة ، 62) .
فإن قيل : لم أفرد الملكين بالذكر مع دخولهما في الملائكة ؟
أجيب : بأنّ ذلك لفضلهما ، فكأنهما من جنس آخر وهو مما ذكر أن التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات وبأن المحاجة كانت فيهما والواو فيها بمعنى أو يعني من كان عدوّاً لأحد هؤلاء ؛ لأنّ الكافر بالواحد كافر بالكل ، وقدم جبريل لشرفه ، وقدم الملائكة على الرسل كما قدم الله على الجميع ؛ لأنّ عداوة
91
الرسل بسبب نزول الكتب ونزولها بتنزيل الملائكة وتنزيلهم لها بأمر الله فذكر الله ومن بعده على هذا الترتيب ، قرأ أبو عمرو وحفص ميكال بغير همز ولا ياء بين الألف واللام وقرأ نافع بهمزة بعد الألف ولا ياء بعد الهمزة والباقون بهمزة بعد الألف وياء وهم على مراتبهم في المدّ. ونزل في ابن صوريا لما "قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آية أي زائدة فنتبعك".
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 90
ولقد أنزلنا إليك} يا محمد {آيات بينات} واضحات مفصلات بالحلال والحرام والحدود والأحكام {وما يكفر بها إلا الفاسقون} أي : المتمرّدون من الكفرة والفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي دل على أعظميته كأنه متجاوز عن حدّه.
{أو كلما عاهدوا عهداً} الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف تقديره أكفروا بالآيات وكلما عاهدوا الله عهداً على الإيمان بالنبيّ أو إن خرج النبيّ أن لا يعاونوا عليه المشركين وقوله تعالى {نبذه} أي : طرحه {فريق منهم} أي : اليهود بنقضه جواب كلما وهو محل الاستفهام الانكاري وإنما قال فريق ؛ لأنّ بعضهم لم ينقض وقوله تعالى : {بل} للانتقال {أكثرهم لا يؤمنون} ردّ لِما يتوهم أنّ الفريق هم الأقلون.
وقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 90
{ولما جاءهم رسول من عند الله} هو محمد صلى الله عليه وسلم {مصدّق لما معهم} من التوراة {نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله} أي : التوراة ؛ لأنّ كفرهم بالرسول المصدق لها كفر بها فيما يصدّقه ونبذ لما فيها من وجوب الإيمان بالرسل المؤيدين بالآيات وقيل : كتاب الله هو القرآن نبذوه بعدما ألزمهم تلقيه بالقبول وقوله تعالى : {وراء ظهورهم} أي : لم يعملوا بما فيها من الآيات بالرسل وغيره مًثل لإعراضهم عنه بالكلية بالاعراض عما يرمي به وراء الظهر لعدم الالتفات إليه {كأنهم لا يعلمون} ما فيها من أنه نبيّ حق أو فيه شك يعني أنّ علمهم بذلك رصين ولكنهم كابروا وعاندوا. وعن سفيان أدرجوه في الديباج والحرير وحلوه بالذهب ولم يحلوا حلاله ولم يحرّموا حرامه.
وقوله تعالى : {واتبعوا} عطف على نبذ {ما تتلو} أي : ما تلت {الشياطين} والعرب تضع المستقبل موضع الماضي والماضي موضع المستقبل ، وقيل : ما كانت تتلو أي تقرأ {على} عهد {ملك سليمان} من السحر وكانت دفنته تحت كرسيه لما نزع ملكه فلم يشعر بذلك سليمان فلما مات استخرجوه وقالوا للناس : إنما ملَككم سليمان بهذا فتعلموه ، فأمّا علماء بني إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا : معاذ الله أن يكون هذا من علم سليمان عليه الصلاة والسلام ، وأمّا سفلاؤهم
92
فقالوا : هذا علم سليمان وأقبلوا على تعلمه ورفضوا كتب أنبيائهم وبقيت الملامة لسليمان فلم تزل هذه حالهم حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عليه براءة سليمان هذا قول الكلبيّ.(1/74)
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
وقال السديّ : كانت الشياطين تسترق السمع فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت وغيره فيأتون الكهنة ويخلطون بما يسمعون في كلّ كلمة سبعين كذبة ويخبرونهم بها فاكتتب الناس ذلك وفشا في بني إسرائيل أنّ الجنّ تعلم الغيب ، فبعث سليمان في الناس وجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ودفنها تحت كرسيه وقال : لا أسمع أنّ أحداً يقول : إنّ الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ودفنه الكتب وخلف من بعدهم خلف تمثل شيطان على صورة إنسان فأتى نفراً من بني إسرائيل فقال : هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً ؟
قالوا : نعم قال : فاحفروا تحت الكرسي وذهب معهم فأراهم المكان وأقام ناحية فقالوا : أُدن فقال : لا ولكني ههنا فإن لم تجدوه فاقتلوني وذلك أنه لم يكن أحد من الشياطين يدنو من الكرسي إلا احترق فحفروا وأخرجوا تلك الكتب قال الشيطان : إنّ سليمان كان يضبط الجنّ والانس والشياطين والطير بهذا ثم طار الشيطان وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً وأخذ بنو إسرائيل تلك الكتب فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود ، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم برأ الله سليمان من ذلك وأنزل تكذيباً لمن زعم ذلك واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان {وما كفر سليمان} إذ لم يعمل السحر وعبر عنه بالكفر ليدلّ على أنه كفر إذا استحله أو احتيج فيه إلى تقدّم اعتقاد مكفر هذا مذهب الشافعيّ وعند أحمد يكفر مطلقاً {ولكنّ الشياطين} هم الذين {كفروا} باستعمال السحر وتدوينه ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بكسر النون من ولكن مخففة ورفع نون الشياطين والباقون بنصب النون من ولكن مشدّدة ونصب نون الشياطين {يعلمون الناس السحر} يقصدون به إغواءهم وإضلالهم والجملة حال من ضمير كفروا.
تنبيه : السحر لغة صرف الشيء عن وجهه يقال : ما سحرك عن كذا أي : ما صرفك عنه واصطلاحاً مزاولة النفوس الخبيئة لأقوال وأفعال يترتب عليها أمور خارقة للعادة.
واختلف فيه هل هو تخييل أو حقيقة ؟
قال بالأوّل المعتزلة واستدلوا بقوله تعالى : {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} (طه ، 66) وقال بالثاني أهل السنة ويدلّ لذلك الكتاب والسنة الصحيحة ، والساحر قد يأتي بفعل أو قول يتغير به حال المسحور فيمرض أو يموت منه ويفرّق به بين المرء وزوجه ويحرم تعليمه أو تعلمه ، قال إمام الحرمين : ولا يظهر السحر إلا على يد فاسق ولا تظهر الكرامة على يد فاسق ويحرم أيضاً تعليم أو تعلم الكهانة والتنجيم والضرب بالرمل والحصى والشعير والشعبذة ويحرم إعطاء العوض أو أخذه عنها بالنص الصريح في حلوان الكاهن والباقي بمعناه ، والكاهن من يخبر بواسطة النجم عن المغيبات في المستقبل بخلاف العرّاف فإنه الذي يخبر عن المغيبات الواقعة كعين السارق ومكان المسروق والضالة قال في "الروضة" : ولا يغتر بجهالة من يتعاطى الرمل وإن نسب إلى علم.
93
وأمّا الحديث الصحيح "كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك" فمعناه من علمتم موافقته له فلا بأس ونحن لا نعلم الموافقة فلا يجوز لنا ذلك. وقول البيضاويّ : وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات كالأدوية أو يريه صاحب خفة اليد فغير مذموم وتسميته سحراً على التجوّز لما فيه من الدقة ؛ لأنه أي : السحر في الأصل أي : اللغة لما خفي سببه مردود بل هو مذموم أي : حرام كما صرّح به النوويّ في "الروضة" وغيرها ، وقوله تعالى : {وما أنزل على الملكين} عطف على السحر أي : ويعلمونهم ما أنزل على الملكين وقيل : عطف على ما تتلو أي : واتبعوا ما أنزل أي : ما ألهماه وتعلماه من السحر فالانزال بمعنى الإلهام والتعليم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
قال البيضاويّ : وهما ملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله للناس وتمييزاً بينه وبين المعجزة. قال : وما روي أي : في كتب السير أنهما مثلا بشرين وركب فيهما الشهوة فتعرّضا لامرأة يقال لها زهرة فحملتهما على المعاصي والشرك ثم صعدت إلى السماء بما تعلمت منهما فمحكيّ عن اليهود ولعله من رموز الأوائل وحله أي : الرمز أو ما روي لا يخفى على ذوي البصائر اه.
قال شيخنا شيخ الإسلام زكريا : بأن يقال عُبر عن العقل والنفس المطمئنة بالملكين وعن النفس الأمّارة بالسوء بالزهرة وعن مفارقتها بالموت بالصعود إلى السماء وقيل : هما رجلان سميا ملكين باعتبار صلاحهما وقيل : ما أنزل نفي معطوف على ما كفر تكذيباً لليهود في هذه القصة ، وقد طوّل البغوي في هذه القصة. واعتمد ما ردّه البيضاويّ ، وقال شيخنا المذكور عن شيخه ابن حجر إنّ لها طرقاً تفيد العلم بصحتها فقد رواها مرفوعة الإمام أحمد وابن حبان والبيهقيّ وغيرهم وموقوفة على عليّ وابن مسعود وابن عباس وغيرهم بأسانيد صحيحة والبيضاويّ لما استبعد ما روي ولم يطلع عليه ، قال ولعله إلخ..(1/75)
وقوله تعالى : {ببابل} ظرف أو حال من الملكين أو الضمير في أنزل وهي بلد في سواد العراق وقوله تعالى : {هاروت وماروت} بدل أو عطف بيان للملكين ومنع صرفهما للعلمية والعجمة ومن جعل ما فيما أنزل نافية أبدل هاروت وماروت من الشياطين بدل البعض وما بينهما اعتراض {وما يعلمان} أي : الملكان {من أحد} أي : أحداً ومن صلة {حتى} ينصحاه و{يقولا} له {إنما نحن فتنة} أي : ابتلاء من الله تعالى للناس لنمتحنهم بتعليمه وأصل الفتنة الاختبار والامتحان من قولهم : فتنت الذهب والفضة إذا أذبتهما بالنار لتميز الجيد من الرديء ، وإنما وحد الفتنة لأنها مصدر والمصادر لا تثنى ولا تجمع {فلا تكفر} بتعليمه أي : فلا تتعلمه معتقداً حله فتكفر على ما تقدّم ، فإن أبى إلا التعليم علماه قيل : إنهما يقولان إنما نحن فتنة فلا تكفر سبع مرّات ، قال عطاء والسديّ فإن أبى إلا التعليم ؟
قالا له : ائت هذا الرماد فبل عليه فيخرج منه نور ساطع في السماء فتلك المعرفة وينزل شيء أسود شبه الدخان حتى يدخل مسامعه وذلك غضب الله تعالى وعلى القول بأنهما رجلان فلا يعلمانه حتى يقولا له : إنا مفتونان فلا تكن مثلنا {فيتعلمون منهما} الضمير لما دل عليه من أحد أي : فيتعلم الناس من الملكين {ما} أي : سحراً {يفرّقون به بين المرء وزوجه} بأن يبغض كلاً منهما في الآخر بسبب حيلة أو تمويه كالنفث في العقد ونحو ذلك مما يحدث الله تعالى عنده الفراق ابتلاءً منه لا أنّ السحر له أثر في نفسه بدليل
94
قوله تعالى : {وما هم} أي : السحرة {بضارّين به} أي : السحر {من أحد} أي : أحداً ومن صلة {إلا بأذن الله} أي : إرادته ؛ لأنّ الأسباب غير مؤثرة بالذات بل بإرادته تعالى : {ويتعلّمون ما يضرّهم} في الآخرة {ولا ينفعهم} وهو السحر ؛ لأنهم يقصدون به العمل أو لأنّ العلم يجرّ إلى العمل غالباً {ولقد} اللام لام القسم {علموا} أي : اليهود {لمن} اللام لام الابتداء علقت علموا عن العمل ومن موصولة {اشتراه} أي : استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله تعالى {ما له في الآخرة من خلاق} أي : نصيب في الجنة {ولبئس ما} أي : شيئاً {شروا} أي : باعوا {به أنفسهم} أي : الشارين أي : حظها من الآخرة أن يتعلموه حيث أوجب لهم النار {لو كانوا يعلمون} حقيقة ما يصيرون إليه من العذاب ما تعلموه.
وقيل : معناه لو كانوا يعملون بعلمهم فإنّ من لم يعمل بما علم كان كمن لم يعلم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
{ولو أنهم} أي : اليهود {آمنوا} بالنبيّ والقرآن {واتقوا} عقاب الله بترك معاصيه كنبذ كتاب الله تعالى واتباع السحر وجواب لو محذوف أي : لأثيبوا دلّ عليه {لمثوبة} أي : ثواب وهو مبتدأ واللام فيه للقسم وقوله تعالى : {من عند الله خير} خبره أي : خير مما اشتروا به أنفسهم {لو كانوا يعلمون} أنّ ثواب الله تعالى خير لما آثروه عليه فجهلهم الله تعالى لترك التدبر والعمل بالعلم.
{يأيها الذين آمنوا لا تقولوا} للنبيّ صلى الله عليه وسلم {راعنا} أمر من المراعاة و"كانوا يقولون ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فلما سمع اليهود هذه اللفظة من المسلمين وكانت كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية وهو راعنا قالوا فيما بينهم : كنا نسب محمداً سراً فأعلنوا به الآن فكانوا يأتون ويقولون : يا محمد راعنا وهم يعنون به تلك المسبة ويضحكون فيما بينهم فسمعها سعد بن معاذ ففطن لها وكان يعرف لغتهم فقال لليهود : يا أعداء الله عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده لئن سمعتها من أحد منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربنّ عنقه فقالوا : أولستم تقولونها فأنزل الله تعالى النهي عن ذلك لكي لا يجد اليهود بذلك سبيلاً إلى شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمروا بما هو في معناها وهو قوله تعالى : {وقولوا انظرنا}" أي : انظر إلينا وقيل : اسمع منا قاله مجاهد وقيل : لا تعجل علينا قاله ابن زيد {واسمعوا} ما تؤمرون به سماع قبول لا كسماع اليهود حيث قالوا : سمعنا وعصينا أو واسمعوا ما أمرتم به بجدّ حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه من قولكم : راعنا {وللكافرين} أي : الذين تهاونوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسبوه {عذاب أليم} أي : مؤلم وهو النار.
ونزل في تكذيب جمع من اليهود يظهرون مودّة المؤمنين ويزعمون أنهم يودّون لهم الخير.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 95(1/76)
ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب} وقوله تعالى : {ولا المشركين} أي : من العرب عطف على أهل الكتاب ومن للبيان ؛ لأنّ الذين كفروا جنس تحته نوعان : أهل الكتاب والمشركون كقوله تعالى : {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} (البينة ، 1) والمودّة محبة الشيء مع تمنيه ولذلك تستعمل في كل منهما {أن ينزل عليكم من خير من ربكم} فسر الخير بالوحي والمعنى أنهم يحسدونكم به وما يحبون أن ينزل عليكم من شيء منه وفسر بالعلم والنصرة والمراد به ما يعمّ ذلك كما قاله البيضاويّ : ومن الأولى مزيدة للاستغراق ومن الثانية لابتداء الغاية {وا يختص برحمته} أي : بنبوّته كما قاله عليّ رضي الله تعالى عنه ومجاهد ، أو بالإسلام كما قاله ابن عباس ومقاتل {من يشاء} ولا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة ولا يجب عليه شيء وليس لأحد عليه حق {وا ذو الفضل} وهو ابتداء إحسانه بلا علة وقوله تعالى : {العظيم} فيه إشعار بأن
95
إتيان النبوّة والاسلام من الفضل العظيم ويدل للأوّل قوله تعالى : {إنّ فضله كان عليك كبيراً} (الإسراء ، 87) . ولما طعن الكفار في النسخ وقالوا : إنّ محمداً يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ما يقوله إلا من تلقاء نفسه يقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً كما أخبر الله تعالى بقوله : {وإذا بدّلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر} (النحل ، 101) .
جزء : 1 رقم الصفحة : 95
{ما ننسخ من آية} فبين وجه الحكمة في النسخ بهذه الآية والنسخ في اللغة شيئان ، أحدهما : بمعنى التحويل والنقل ومنه نسخ الكتاب وهو أن يحوّل من كتاب إلى كتاب فعلى هذا الوجه كل القرآن منسوخ ؛ لأنه نسخ من اللوح المحفوظ ، والثاني : بمعنى الرفع يقال : نسخت الشمس الظل أي : ذهبت به وأبطلته فعلى هذا يكون بعض القرآن ناسخاً وبعضه منسوخاً وهو المراد من الآية وهذا على وجوه :
أحدها : أن تثبت التلاوة وينسخ الحكم كآية الوصية للأقارب وآية عدّة الوفاة بالحول ، والثاني : أن ترفع التلاوة ويبقى الحكم كآية الرحم والثالث : أن يرفع الحكم والتلاوة كما روي : أنّ قوماً من الصحابة قاموا ليلة ليقرؤوا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فغدوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال صلى الله عليه وسلم "تلك سورة رفعت بتلاوتها وأحكامها" وقيل : كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة فرفع أكثرها تلاوة وحكماً ثم من نسخ الحكم ما يرفع ويقام غيره مقامه كما أنّ القِبلة نسخت من بيت المقدس إلى الكعبة ، والوصية للأقارب نسخت بالميراث ، وعدّة الوفاة نسخت من الحول إلى أربعة أشهر وعشر ومصابرة الواحد للعشرة بمصابرته للاثنين. قال البغويّ : والنسخ إنما يعترض على الأوامر والنواهي دون الإخبار اه.
والنسخ اصطلاحاً رفع تعلق حكم شرعيّ بدليل شرعيّ ويفارق التخصيص بأنّ التخصيص لا
96
يرد إلا على متعدّد وبأنه غير مشروط بالنص بخلاف النسخ فيهما وبأنه يفيد عدم إرادة المخرج في الأصل والنسخ يفيد إرادة المنسوخ في الأصل لكن غير مستمرّ.
جزء : 1 رقم الصفحة : 96
وقرأ ابن عامر : ننسخ بضمّ النون الأولى وكسر السين من أنسخ أي : نأمرك أو جبريل بنسخها والباقون بفتح النون والسين وما شرطية جازمة لننسخ منتصبة به على المفعولية {أو فنسأها} أي : نؤخرها فلا نزل حكمها ولا نرفع تلاوتها أو نؤخرها في اللوح المحفوظ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح النون الأولى وفتح السين وهمزة ساكنة بعد السين ولم يبدل هذه الهمزة أحد من السبعة وقرأ الباقون بضم النون وكسر السين ولا همزة بعد السين أي : ننسها أي : نمحها من قلبك ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه نتركها لا ننسخها قال الله تعالى : {نسوا الله فنسيهم} (التوبة ، 67) أي : تركوه فتركهم وجواب الشرط {نأت بخير منها} أي : بما هو أنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجركم وإن كان كلام الله كله خيراً {أو مثلها} في التكليف والثواب والمنفعة وتكون الحكمة في تبديلها بمثلها الاختبار {ألم تعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير} فيقدر على النسخ والإتيان بمثل المنسوخ وبما هو خير والآية دلت على جواز النسخ وتأخير الإنزال ؛ إذ الأصل اختصاص أن وما يتضمنها بالأمور المحتملة وذلك ؛ لأنّ الأحكام شرعت والآيات نزلت لمصالح العباد وتكميل نفوسهم فضلاً من الله ورحمة وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص كأسباب المعاش ، فإن النافع في عصر قد يضرّ في غيره.(1/77)
واحتج بها من منع النسخ بلا بدل أو ببدل أثقل ، ومن منع نسخ الكتاب بالسنة فإنّ الناسخ هو المأتي به بدلاً والسنة ليست كذلك ، قال البيضاويّ : والكل ضعيف إذ قد يكون عدم الحكم والأثقل أصلح والنسخ قد يعرف بغيره والسنة ما أتى به الله واستدل بهذه الآية المعتزلة على حدوث القرآن فإنّ التغير والتفاوت من لوازم الحدوث وأجاب أهل السنة بأنهما من عوارض الأمور المتعلق بها المعنى القائم بالذات القديم لا من عوارض هذا المعنى.
وقوله تعالى : {ألم تعلم} هنا وفيما مرّ خطاب لمنكري النسخ فالهمزة للإنكار وقيل : خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد أمّته فالهمزة للتقرير {أنّ الله له ملك السموات والأرض} يفعل فيهما ما يشاء ويحكم ما يريد فهو يملك أموركم ويدبرها ويجريها على حسب ما يصلحكم وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ ومنسوخ وهذا كالدليل على قوله : {إنّ الله على كلّ شيء قدير} أو على جواز النسخ ، ولذلك ترك العاطف {وما لكم من دون الله} أي : غيره {من وليّ} أي : وليّ يحفظكم ومن صلة {ولا نصير} يمنع عنكم عذابه. وفرق بين الوليّ والنصير بأنّ الوليّ قد يضعف عن النصرة والنصير قد يكون أجنبياً عن المنصور فبينهما عموم وخصوص من وجه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 96
ونزل لما سأل أهل مكة النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يوسعها لهم وأن يجعل الصفا ذهباً.
{أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى} أي : سأله قومه {من قبل} أي : من قولهم له {أرنا الله جهرة} (النساء ، 153) وقيل قالوا له لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً أو ائتنا بكتاب نقرؤه تنزله من السماء علينا وفجر لنا أنهاراً حتى نتبعك ، وقال عبد الله بن أمية : لن نؤمن لك حتى تأتي بكتاب فيه من الله ربّ العالمين إلى ابن أمية ، أعلم أني أرسلت محمداً إلى الناس. وأم إمّا معادلة للهمزة في ألم تعلم أي ألم تعلموا أنه مالك الأمور قادر على الأشياء كلها يأمر وينهى كما أراد وتقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى عليه الصلاة والسلام ، وإمّا منقطعة والمراد أن يوصيهم بالثقة وترك الاقتراح عليه {ومن يتبدّل الكفر
97
بالإيمان} أي : يأخذه بدله بترك النظر في الآيات البينات واقتراح غيرها {فقد ضلّ سواء السبيل} أي : أخطأ الطريق الحق والسواء في الأصل الوسط. وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار قد عند الضاد حيث جاء ، وأدغمها الباقون ونزل في نفر من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد : لو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلاً منكم فقال لهم عمار : كيف نقض العهد فيكم ؟
قالوا : شديد قال : فإني قد عاهدت الله أن لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ما عشت ، فقالت اليهود : أمّا هذا فقد صبا ، وقال حذيفة : وأمّا أنا فقد رضيت بالله رباً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً وبالاسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بذلك فقال : أصبتما الخير وأفلحتما".
{ودّ} أي : تمنى {كثير من أهل الكتاب} من اليهود {لو يردونكم} أي : يردّوكم يا معشر المؤمنين فلو مصدرية بمعنى إن ، فإنّ لو تنوب عن أن في المعنى دون اللفظ {من بعد إيمانكم كفاراً} مرتدّين وقوله : {حسداً} مفعول له كائناً {من عند} أي : من تلقاء {أنفسهم} أي : لم يأمرهم الله بذلك وإنما حملتهم عليه أنفسهم الخبيثة {من بعدما تبين لهم} في التوراة {الحق} في شأن النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم {فاعفوا} عنهم أي : اتركوهم {واصفحوا} أي : أعرضوا عنهم فلا تجازوهم وكان هذا قبل آية القتال ، ولهذا قال تعالى : {حتى يأتي الله بأمره} فيهم من القتال وقد أذن في قتالهم وضرب الجزية عليهم.
وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنّ هذا منسوخ بقوله تعالى : {قاتلوا الذين لا يؤمنون با ولا باليوم الآخر} الآية (التوبة ، 29) ، وأبى النسخ جماعة من المفسرين والفقهاء واحتجوا بأنّ الله تعالى لم يأمر بالعفو والصفح مطلقاً وإنما أمر به إلى غاية وما بعد الغاية يخالف ما قبلها وما هذا سبيله لا يكون من باب النسخ بل يكون الأوّل قد انقضت مدّته والآخر يحتاج إلى حكم آخر {إنّ الله على كل شيء قدير} فهو يقدر على الانتقام من الكفار :
جزء : 1 رقم الصفحة : 96
وقوله تعالى : {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} عطف على قوله : فاعفوا كأنه تعالى أمرهم بالصبر والمخالفة واللجوء إليه بالعبادة والبرّ {وما تقدّموا لأنفسكم من خير} أي : طاعة كصلاة وصدقة {تجدوه} أي : ثوابه {عند الله} فيجازيكم به {إنّ الله بما تعملون بصير} لا يضيع عنده عمل عامل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 96(1/78)
{وقالوا} أي : كثير من أهل الكتاب من اليهود والنصارى {لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً} جمع هائد كعائد وعود {أو نصارى} قال ذلك يهود المدينة ونصارى نجران لما تناظروا بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم أي قالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا اليهود ولا دين إلا دين اليهودية ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا النصارى ولا دين إلا دين النصرانية ، فجمع الله بين القولين ثقة بأنّ السامع يرد إلى كلّ فريق قوله وأمنا من الالباس لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كلّ واحد منهما لصاحبه ونحوه {تلك} أي : القولة {أمانيهم} أي : شهواتهم الباطلة التي تمنوها على الله تعالى بغير حق {قل} لهم يا محمد {هاتوا برهانكم} أي : حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة {إن كنتم صادقين} في دعواكم إذ كل قول لا دليل عليه فهو غير صحيح وهذا متصل بقولهم : لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وتلك أمانيهم اعتراض وقوله تعالى :
98
{بلى} إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة {من أسلم وجهه } أي : انقاد لأمره وخص الوجه ؛ لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة فغيره أولى {وهو محسن} في عمله وقيل : مخلص وقيل : مؤمن {فله أجره} أي : ثواب عمله ثابتاً {عند ربه} لا يضيع ولا ينقص والجملة جواب من إن كانت شرطية وخبرها إن كانت موصولة والفاء فيها لتضمنها معنى الشرط فيكون الردّ بقوله : بلى وحده ويحسن الوقف عليه ويصح أن يكون قوله : من أسلم فاعل فعل مقدّر مثل بلى يدخلها من أسلم فلا يحسن الوقف عليه ويصح أن يكون قوله فله أجره عند ربه كلاماً معطوفاً على يدخلها من أسلم {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} في الآخرة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 98
ولما قدم نصارى نجران على النبيّ صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم ، فقالت لهم اليهود : ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى والإنجيل وقالت النصارى لليهود : ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بموسى والتوراة أنزل الله تعالى.
{وقالت اليهود ليست النصارى على شيء} أي : يعتدّ به وكفروا بعيسى والإنجيل {وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} أي : يعتدّ به وكفروا بموسى والتوراة {وهم} أي : الفريقان {يتلون الكتاب} أي : المنزّل عليهم ، وفي كتاب اليهود تصديق عيسى ، وفي كتاب النصارى تصديق موسى ، والجملة حال وأل في الكتاب للجنس أي : قالوا ذلك وهم من أهل العلم والكتاب {كذلك} أي : كما قال هؤلاء {قال الذين لا يعلمون} كعبدة الأصنام ، والمعطلة وهم الذين لا يثبتون الصانع وقوله تعالى : {مثل قولهم} بيان لمعنى ذلك أي : قال كلّ ذي دين ليسوا على شيء وبخهم الله تعالى على المكابرة والتشبه بالجهال.
فإن قيل : لم وبخهم وقد صدقوا فإن كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء أجيب : بأنهم لم يقصدوا ذلك وإنما قصد به كلّ فريق إبطال دين الآخر من أصله والكفر بنبيه وكتابه كما مرّ ، مع أن ما لم ينسخ حق واجب القبول والعمل به.
تنبيه : إذا وقف حمزة وهشام على شيء فلهما أربعة وجوه : السكون ، والروم ، والادغام ، والروم معه وسكن حمزة قبل الهمزة بخلاف عن خلاد في الوصل وأدغم أبو عمرو الكاف في القاف بخلاف عنه {فا يحكم بينهم} أي : بين الفرق الثلاثة وهم : اليهود والنصارى والذين لا يعلمون {يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} من أمر الدين فيقسم لكل فريق منهم من العقاب الذي استحقه ، وعن الحسن حكم الله بينهم أن يكذبهم ويدخلهم النار. وقرأ أبو عمرو يحكم بسكون الميم عند الباء والاخفاء بخلاف عنه.
{ومن أظلم} أي : لا أحد أظلم {ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} بالصلاة والتسبيح {وسعى في خرابها} بالهدم أو التعطيل هذا عام لكل من خرب مسجداً أو سعى في تعطيله وإن نزل في أهل الروم الذين خربوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير فكان خراباً إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أو في المشركين لما صدّوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عام الحديبية عن البيت.
فإن قيل : قد قال مساجد الله وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو بيت المقدس أو المسجد الحرام أجيب : بأنه لا يمنع أن يجيء الحكم عاماً وإن كان السبب خاصاً كما تقول لمن آذى صالحاً ومن أظلم ممن آذى الصالحين وكما قال الله تعالى : {ويل لكل همزة لمزة} (الهمزة ،
99(1/79)
1) والمنزول فيه الأخنس بن شريق {أولئك} أي : المانعون {ما كان لهم أن يدخلوها} أي : مساجد الله {إلا خائفين} أي : على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها أو يخربوها أو يمنع النبيّ صلى الله عليه وسلم عنها وقال قتادة : لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا انهمك ضرباً وأبلغ إليه في العقوبة. وروي أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكراً مسارقة وقيل : "نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا لا يحجنّ بعد هذا العام مشرك ولا يطوفنّ بالبيت عريان" وقيل : إن هذا خبر بمعنى الأمر أي أخيفوهم بالجهاد فلا يدخلها أحد آمناً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 98
واختلف في جواز دخول الكافر المسجد ، فجوّزه أبو حنيفة ومنعه مالك ، وفرق الشافعيّ بين المسجد الحرام وغيره فمنع من الأوّل ، وجوّز في الثاني بشرط إذن المسلم والحاجة ، وغلّظ ورش اللام من أظلم بعد الظاء {لهم في الدنيا خزي} أي : هوان بالقتل والسبي والجزية {ولهم في الآخرة عذاب عظيم} بكفرهم وظلمهم وهو النار.
ونزل لما عيرت اليهود المؤمنين في نسخ القبلة وقالوا : ليست لهم قبلة معلومة فتارة يستقبلون هذا وتارة هذا كما قاله عكرمة أو في صلاة النافلة على الراحلة في السفر حيثما توجهت به راحلته كما قاله ابن عمر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 98
{ولله المشرق والمغرب} أي : ناحيتا الأرض أي : له الأرض كلها لا يختص به مكان دون مكان فإن منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام والأقصى فقد جعلت لكم الأرض كلها مسجداً {فأينما تولوا} وجوهكم أيّ جهة وهو الصدر في الصلاة {فثم} أي : هناك {وجه الله} أي : قبلته كما قاله مجاهد ، وقال الكلبيّ : فثم الله يعلم ويرى والوجه صلة كقوله تعالى : {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص ، 88) أي : إلا هو {إن الله واسع} أي : غنيّ يعطي من السعة يسع فضله كلّ شيء {عليم} بتدبير خلقه.
ونزل لما قالت اليهود : عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقال مشركو
100
العرب : الملائكة بنات الله.
{وقالوا اتخذ الله ولداً} فقال الله تعالى ردّاً عليهم : {سبحانه} تنزيهاً له عن ذلك فإنه يقتضي التشبيه والحاجة وسرعة الفناء وقرأ ابن عامر قالوا : بغير واو قبل القاف والباقون بالواو وقبل القاف {بل له ما في السموات والأرض} ملكاً وخلقاً ومن جملة ذلك العزير والمسيح والملائكة والملكية تنافي الولدية وعبر بما تغليباً لما لا يعقل لكثرته {كلّ له قانتون} أي : منقادون كلّ بما يراد منه لا يمتنعون عن مشيئته وتكوينه وفي ذلك تغليب للعاقل لشرفه والآية مشعرة على فساد ما قالوه من ثلاثة أوجه الأول : قوله : سبحانه والثاني : قوله : بل له ما في السموات والأرض والثالث : كل له قانتون واحتج بها الفقهاء على أنّ من ملك ولده عتق عليه ؛ لأنه تعالى نفى الولد بإثبات الملك وذلك يقتضي تنافيهما.
{بديع السموات والأرض} أي : موجدهما لا على مثال سبق وهذا وجه رابع يشعر بفساد ما قالوه أيضاً ؛ لأنّ الوالد عنصر الولد المنفصل بانفصال مادّته عنه والله سبحانه وتعالى مبدع الأشياء كلها فاعل على الإطلاق منزه عن الصفات فلا يكون والداً {وإذا قضى أمراً} أي : أراد إيجاد شيء وأصل القضاء إتمام الشيء قولاً كان كقوله تعالى : {وقضى ربك} (الإسراء ، 23) أو فعلاً كقوله تعالى : {فقضاهنّ سبع سموات} (فصلت ، 12) وأطلق على تعليق الارادة الإلهية وجود الشيء من حيث أنه يوجبه {فإنما يقول له كن فيكون} وهذا مجاز من الكلام وتمثيل وإنما المعنى أنّ ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف كما أنّ المأمور المطيع الذي يؤمر فيتمثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه الإباء ، وفيه تقرير لمعنى الإبداع دائماً وهذا وجه خامس يشعر بفساد ما قالوه أيضاً ؛ لأن اتخاذ الولد مما يكون بأطوار ومهلة وفعله تعالى مستغن عن ذلك ، وقرأ ابن عامر بنصب النون : من يكون جواباً للأمر والباقون بالرفع على معنى فهو يكون.
جزء : 1 رقم الصفحة : 100
فإن قيل : المعدوم لا يخاطب أجيب : بأنه لما قدّر وجوده وهو كائن لا محالة كان كالموجود فُصحّ خطابه.(1/80)
{وقال الذين لا يعلمون} للنبيّ صلى الله عليه وسلم وهم اليهود كما قاله ابن عباس أو النصارى كما قاله مجاهد أو مشركو العرب كما قاله قتادة ونفى عنهم العلم ؛ لأنهم لم يعملوا به {لولا} أي : هلا {يكلمنا الله} كما يكلم الملائكة أو يوحى إلينا بأنك رسوله {أو تأتينا آية} أي : علامة مما اقترحناه على صدقك {كذلك} أي : كما قال هؤلاء : {قال الذين من قبلهم} من كفار الأمم الماضية لأنبيائهم {مثل قولهم} من التعنت وطلب الآيات فقالوا : أرنا الله جهرة وهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء {تشابهت قلوبهم} أي : قلوب هؤلاء ومن قبلهم في الكفر والعناد ، وفي هذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم {قد بينا الآيات لقوم يوقنون} الحقائق ولا يعتريهم شبهة ولا عناد. وفيه إشارة إلى أنهم قالوا ذلك لا لخفاء في الآيات أو لطلب مزيد يقين وإنما قالوه عتوّاً وعناداً.
{إنا أرسلناك} يا محمد {بالحق} أي : القرآن كما قاله ابن عباس كما قال تعالى : {بل كذبوا بالحق لما جاءهم} (ق ، 5) أو الاسلام وشرائعه كما قاله ابن كيسان قال تعالى : {وقل جاء الحق} (الإسراء ، 81) {بشيراً} أي : مبشراً من أجاب إلى ذلك بالجنة {ونذيراً} أي : منذراً من لم يجب إليه بالنار أي : إنما أرسلناك ؛ لأن تبشر وتنذر لا لتجبر الناس على الإيمان وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان يغتم ويضيق صدره لإصرارهم وتصميمهم على الكفر {ولا تسئل عن أصحاب الجحيم} أي : النار وهم الكفار ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بيّنت وبلغت جهدك في
101
دعوتهم كقوله تعالى : {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} (الرعد ، 40) وقرأ نافع : تسأل بفتح التاء وسكون اللام على النهي.
قال عطاء عن ابن عباس : وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم : "ليت شعري ما فعل أبواي" فنزلت هذه الآية فنهى عن السؤال عن أحوال الكفرة والاهتمام بأعداء الله تعالى لكن الخبر ضعيف والمختار أنها نزلت في كفار أهل الكتاب ، وقرأ الباقون بضم التاء واللام على النفي أي : ولست بمسؤول عنهم كما قال تعالى : {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} (الرعد ، 40) .
جزء : 1 رقم الصفحة : 100
{ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} أي : دينهم أي : لن ترضى عنك اليهود إلا باليهودية ولا النصارى إلا بالنصرانية. وفي هذا مبالغة في إقناطه صلى الله عليه وسلم عن اسلامهم وذلك أنهم كانوا يسألونه الهدنة ويطمعونه أنه إن أمهلهم اتبعوه فأنزل الله تعالى هذه الآية. فإنهم إذا لم يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم فكيف يتبعون ملته ؟
قال البيضاوي : ولعلهم قالوا مثل ذلك فحكى الله تعالى ذلك عنهم ولذلك قال : {قل} تعليماً للجواب {إنّ هدى الله} الذي هو الإسلام {هو الهدى} أي : هو الذي يصح أن يسمى هدى وهو الهدى كله ليس وراءه هدى وما يدعون إلى اتباعه ما هو بهدي إنما هو أهواء ألا ترى إلى قوله تعالى : {ولئن} اللام لام القسم {اتبعت أهواءهم} أي : آراءهم الزائغة التي يدعونك إليها الخطاب معه صلى الله عليه وسلم والمراد منه أمّته كقوله تعالى : {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} (الزمر ، 65) {بعد الذي جاءك من العلم} أي : من الدين المعلوم صحته بالبراهين الصحيحة {ما لك من الله من وليّ} يحفظك {ولا نصير} يمنعك منه.
ونزل في جماعة من أهل الكتاب قدموا من الحبشة وأسلموا.
{الذين آتيناهم الكتاب} وهو مبتدأ {يتلونه حق تلاوته} أي : يعرفونه كما أنزل لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم والجملة حال مقدّرة وحق نصب على المصدر والخبر {أولئك يؤمنون به} أي : بكتابهم دون المحرفين {ومن يكفر به} أي : بالكتاب المؤتى بأن يحرفه {فأولئك هم الخاسرون} لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم. ولما صدر قصة بني إسرائيل بالأمر بذكر النعم والقيام بحقوقها والحذر عن إضاعتها والخوف من الساعة وأحوالها في قوله تعالى : {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي} (البقرة ، 40) إلخ.. كرر ذلك بقوله تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 102
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين} أي : عالمي زمانهم.
{واتقوا} أي : خافوا {يوماً لا تجزى} أي : لا تغني {نفس عن نفس} فيه {شيئاً ولا يقبل منها عدل} أي : فداء {ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون} أي : يمنعون من عذاب الله وختم بالمكرّر الكلام معهم مبالغة في النصح.
تنبيه : اتفق القراء على قراءة يقبل هنا بالياء على التذكير.
{و} اذكر {إذ ابتلى} أي : اختبر {إبراهيم ربّه بكلمات} أي : بأوامر ونواه وابتلاء الله العباد ليس ليعلم أحوالهم بالابتلاء لأنه عالم بهم ولكن ليعلم العباد أحوالهم حتى يعرف بعضهم بعضاً. واختلفوا في الكلمات التي ابتلى الله تعالى بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فقال عكرمة عن ابن عباس : هي ثلاثون من شرائع الإسلام : عشر في براءة {التائبون العابدون} (التوبة ، 112)(1/81)
102
إلخ.. وعشر في الأحزاب ، {إن المسلمين والمسلمات} (الأحزاب ، 35) إلخ.. وعشر في المؤمنين إلى قوله : {والذين هم على صلواتهم يحافظون} (المؤمنون ، 9) وفي سأل سائل إلى قوله تعالى : {والذين هم بشهاداتهم قائمون} (المعارج ، 33) .
وقال طاووس عن ابن عباس : ابتلاه الله تعالى بعشرة أشياء هي : الفطرة خمس في الرأس أي الشامل للوجه قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس ، وخمس في الجسد تقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء ، وفي الخبر : "أن إبراهيم أوّل من قص الشارب وأوّل من اختتن وأوّل من قلم الأظافر وأوّل من رأى الشيب ، فلما رآه قال : يا رب ما هذا ؟
قال : الوقار قال : "يا رب زدني وقاراً" وقال قتادة : هي مناسك الحج أي فرائضه وسننه كالطواف والسعي والرمي والإحرام والتعريف وغيرهنّ ، وقال الحسن : ابتلاءه بالكواكب والقمر والشمس فأحسن فيها النظر وعلم أنّ ربه دائم لا يزول وبالنار فصبر عليها. وبالختان وبذبح ولده وبالهجرة فصبر عليها وقال مجاهد : هي الآيات التي بعدها في قوله تعالى : {إني جاعلك للناس إماماً} إلى آخر القصة.
وقرأ ابن عامر إبراهام بفتح الهاء وألف بعدها جميع ما في هذه السورة وهي خمسة عشر حرفاً ، وفي النساء ثلاثة أحرف وهي الأخيرة ، وفي الأنعام الحرف الأخير ، وفي التوبة الحرفان الأخيران ، وفي إبراهيم حرف ، وفي النحل حرفان ، وفي مريم ثلاثة أحرف ، وفي العنكبوت حرف ، وفي الشورى حرف ، وفي الذاريات حرف ، وفي النجم حرف وفي الحديد ، حرف ، وفي الممتحنة الحرف الأوّل ، فذلك ثلاثة وثلاثون حرفاً ، وقرأ ابن ذكوان في البقرة خاصة بالوجهين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 102
وإبراهيم اسم أعجمي ولذلك كان غير منصرف وهو ابن آزر كما في سورة الأنعام وكان مولده بالسوس من أرض الأهواز وقيل : بابل وقيل : حران ولكن نقله أبوه إلى بابل أرض نمروذ بن كنعان ، والضمير في ربه لإبراهيم وحسن لتقدمه لفظاً وإن تأخر رتبة ، لأنّ الشرط تقدمه لفظاً أو رتبة {فأتمهنّ} أي : أداهنّ تامات وقام بها حق القيام لقوله : {وإبراهيم الذي وفى} (النجم ، 37) {قال إني جاعلك للناس إماماً} يقتدى بك في الخير وجاعل من جعل الذي له مفعولان ، والإمام اسم من يؤتم به وإمامة إبراهيم عامة مؤبدة ؛ إذ لم يبعث من بعده نبي إلا كان من ذريته مأموراً باتباعه {قال} إبراهيم صلى الله عليه وسلم {ومن ذريتي} أي : أولادي أجعل أئمة يقتدى بهم في الخير {قال} الله تعالى : {لا ينال} أي : لا يصيب {عهدي} بالإمامة {الظالمين} منهم ففي ذلك إجابة إلى مطلوبه.
وتنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة وإنهم لا ينالون الإمامة ؛ لأنها إمامة من الله تعالى وعهد ، والظالم لا يصلح لها وإنما ينالها البررة والأتقياء منهم وفيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل النبوّة وأنّ الفاسق لا يصلح للإمامة وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته ولا تجب طاعته ولا يقبل خبره ولا يقدّم للصلاة ، وقرأ حفص وحمزة عهدي بسكون الياء وفتحها الباقون ، ومن سكن الياء أسقطها في الوصل لفظاً لالتقاء الساكنين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 102
104
{و} اذكر {إذ جعلنا البيت} أي : الكعبة غلب عليها كالنجم على الثريا وأدغم أبو عمرو وهشام ذال إذ في الجيم وأظهرها الباقون {مثابة} أي : مرجعاً {للناس} من الحجاج والعمار وغيرهم يثوبون إليه من كل جانب {وأمناً} أي : مأمناً لهم من الظلم وإيذاء المشركين والإغارة الواقعة في غيره قال تعالى : {أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم} (العنكبوت ، 67) كان الجاني يأوي إليه فلا يتعرّض له حتى يخرج وهذا على طريق الحكم لا على وجه الخبر فقط ، فلا ينافي ذلك الوقوع ، قال القاضي أبو يعلى وصف البيت بالأمن والمراد جميع الحرم كما قال تعالى : {هدياً بالغ الكعبة} (المائدة ، 95) والمراد الحرم كله ؛ لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد الحرام {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وهذا أمر استحباب ومقامه الحجر وهو بفتح الحاء والجيم الذي فيه أثر قدميه كان يقوم عليه عند بناء البيت أو عند دعاء الناس إلى الحج وهو موضعه اليوم.(1/82)
روي أنه عليه الصلاة والسلام أخذ بيد عمر فقال : "هذا مقام إبراهيم فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى ؟
فقال : لم أومر بذلك فلم تغب الشمس حتى نزلت" وعن ابن عباس أنه قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : وافقت الله تعالى في ثلاث ، ووافقني ربي في ثلاث فقلت : يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله تعالى هذه الآية وقلت : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر لو أمرت أمّهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله تعالى آية الحجاب وقال : وبلغني معاتبة النبيّ صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهنّ وقلت لهنّ : إن انتهيتن أو ليبدلنّ الله تعالى لرسوله خيراً منكنّ فأنزل الله تعالى {عسى ربه إن طلقكنّ أن يبدله أزواجاً خيراً منكنّ} (التحريم ، 5) .
جزء : 1 رقم الصفحة : 104
وفي الخبر الركن والمقام يا قوتتان من يواقيت الجنة ولولا ما مسهما من أيدي المشركين لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب" وقيل : المراد باتخذوا إلخ.. الأمر بركعتي الطواف لما روى جابر "أنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ
104
واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" ، وللشافعيّ في وجوبهما قولان أرجحهما عدم الوجوب وقيل : مقام إبراهيم الحرم كله وقيل : مواقف الحج واتخاذها مصلى أن يدعى فيها ويتقرّب إلى الله تعالى.
تنبيه : من في {من مقام إبراهيم} للتبعيض.
وقيل : بمعنى في وقيل زائدة وقرأ نافع وابن عامر واتخذوا بفتح الخاء بلفظ الماضي عطفاً على جعلنا أي : واتخذ الناس من مقام إبراهيم مصلى والباقون بكسرها بلفظ الأمر {وعهدنا} أي : أمرنا {إلى إبراهيم وإسمعيل} قيل : سمي به ؛ لأنّ إبراهيم كان يدعو الله أن يرزقه ولداً ويقول : اسمع يا إيل ، وإيل هو الله فلما رزق الولد سماه به {أن} أي : بأن {طهرا بيتي} من الأوثان والأنجاس وما لا يليق به أو أخلصاه {للطائفين} حوله {والعاكفين} المقيمين عنده أو المعتكفين فيه {والركع السجود} جمع راكع وساجد وهم المصلون وقرأ نافع وهشام وحفص بيتي بفتح الياء والباقون بالسكون.
{و} اذكر {إذ قال إبراهيم رب اجعل} هذا أي مكة أو الحرام {بلداً آمناً} أي : ذا آمن كقوله تعالى : {في عيشة راضية} (القارعة ، 7) أو آمناً أهله كقول القائل ليل نائم {وارزق أهله من الثمرات} إنما دعا بذلك ؛ لأنه كان بواد غير ذي زرع. وفي القصص أنّ الطائف كانت من مدائن الشام بأردن فلما دعا إبراهيم هذا الدعاء أمر الله تعالى جبريل عليه الصلاة والسلام حتى قطعها من أصلها وأدارها حول البيت سبعاً ثم وضعها موضعها الآن فمنها أكثر ثمرات مكة.
وقوله تعالى : {من آمن منهم با واليوم الآخر} بدل من أهله قاس إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه الرزق على الإمامة حيث قيده بالمؤمن كما قيدت به {قال} تعالى : {و} أرزق {من كفر} لأنّ الرزق رحمة دنيوية تعم المؤمن والكافر بخلاف الإمامة والتقدم في الدين {فأمتعه} في الدنيا بالرزق.
وقرأ ابن عامر بسكون الميم وتخفيف التاء والباقون بفتح الميم وتشديد التاء ، وأمّا الهمزة بعد الألف فالجميع اتفقوا على ضمها {قليلاً} أي : مدّة حياته والكفر وإن لم يكن يسبب التمتع لكنه يسبب تقليله بأن يجعله مقصوراً بحظوظ الدنيا غير متوصل به إلى نيل الثواب ولذلك عطف عليه {ثم أضطرّه} أي : ألجئه في الآخرة {إلى عذاب النار} فلا يجد عنها محيصاً {وبئس المصير} أي : المرجع والمخصوص بالذمّ محذوف وهو العذاب قال مجاهد : وجد عند المقام أنا الله ذو بكة أي : صاحبها صنعتها يوم خلقت الشمس والقمر وحرمتها يوم خلقت السموات والأرض وحففتها بسبعة أملاك حنفاء يأتيها رزقها مباركة لأهلها في اللحم والماء.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 104
و} اذكر {إذ يرفع إبراهيم القواعد} أي : الأسس والجدر {من البيت} حكاية حال ماضية كأنه قال إذ كان يرفع.
فإن قلت : وأي فرق بين العبارتين ؟
أجيب : بأنّ في إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام ما ليس في إضافتها لما في الإيضاح بعد الإبهام من تفخيم شأن المبين ، وقوله تعالى : {وإسمعيل} عطف على إبراهيم يقولان يا {ربنا تقبل منا} بناءنا {إنك أنت السميع} للقول فتسمع دعاءنا {العليم}
105
بالفعل فتعلم بنياتنا.
روت الرواة أنّ الله تعالى خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام فكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحتها فلما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض استوحش فشكا إلى الله تعالى فأنزل الله تعالى البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد أخضر باب شرقي وباب غربي فوضعه على موضع البيت وقال : يا آدم إني أهبطت لك بيتاً تطوف به كما يطاف حول عرشي وتصلي عنده كما يصلى حول عرشي وأنزل الحجر الأسود وكان أبيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشياً وقيض الله تعالى له ملكاً يدله على البيت فحج البيت وأقام المناسك.(1/83)
قال ابن عباس : حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه فكان على ذلك إلى أيام الطوفان فرفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه وبعث جبريل حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق فكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم ثم إنّ الله تعالى أمر إبراهيم بعدما ولد له إسمعيل وإسحق ببناء بيت يذكر فيه اسمه تعالى فسأل الله عز وجل أن يبين له موضعه ، قال ابن عباس فبعث الله له سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وافت به مكة ووقفت على موضع البيت فنودي منها إبراهيم أن ابن على ظلها ولا تزد ولا تنقص وقيل : أرسل الله تعالى جبريل ليدله على موضع البيت فذلك قوله تعالى : {وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت} (الحج ، 26) .
فبنى إبراهيم وإسمعيل البيت فكان إبراهيم يبنيه وإسمعيل يناوله الحجارة ولما كان له مدخل في البناء عطف عليه وقيل : كانا يبنيان في طرفين أو على التناوب. قال ابن عباس : بني البيت من خمسة أجبل : طور سيناء ، وطور زيتا ، ولبنان وهو جبل بالشأم ، والجوديّ وهو جبل بالجزيرة ، وبنيا قواعده من جبل حراء وهو جبل بمكة ، فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسمعيل : ائتني بحجر حسن يكون للناس علماً فأتاه بحجر فقال : ائتني بأحسن من هذا فمضى إسمعيل يطلبه فصاح أبو قبيس : يا إبراهيم إنّ لك عندي وديعة فخذها فأخذ الحجر الأسود فوضعه مكانه. وقيل : أوّل من بنى الكعبة آدم ثم اندرس من الطوفان ثم أظهره الله تعالى لإبراهيم حتى بناه وقيل : بنته الملائكة قبل آدم وقد بني إلى يومنا هذا سبع مرّات : المرّة الأولى هل كان الباني الملائكة أو آدم ؟
ثم إبراهيم ثم العمالقة ثم جرهم ثم قريش وقد حضر النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا البناء وكان ينقل معهم الحجارة ثم ابن الزبير في خلافته ثم الحجاج الثقفي وهو الموجود اليوم.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 104
ربنا واجعلنا مسلمين} أي : منقادين مخلصين خاضعين {لك} والمراد طلب الزيادة في الإخلاص والإذعان {و} اجعل {من ذريتنا} أي : أولادنا {أمّة} أي : جماعة {مسلمة} خاضعة منقادة {لك} ومن للتبعيض أي : واجعل بعض ذرّيتنا وإنما خصا الذرّية بالدعاء ؛ لأنهم أحق بالشفقة ؛ ولأنّ أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم الأتباع.
ألا ترى أنّ المتقدّمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على السداد كيف يتسببون لسداد من وراءهم وخصا بعضهم لتقدّم قوله تعالى : {لا ينال عهدي الظالمين} (البقرة ، 124) فعلما أنّ في ذرّيتهما ظلمة وأنّ الحكمة الإلهية لا تقتضي اتفاق الناس كلهم على الإخلاص والإقبال الكلي على الله تعالى فإنه مما يشوش المعاش ، ولذلك قيل : لولا الحمقى الذين صرفوا أنفسهم إلى الدنيا ، لخربت الدنيا ويصح أن تكون من للتبيين كقوله تعالى : {وعد الله الذين آمنوا منكم} (النور ، 55) قدم على المبين وفصل به بين العاطف وهو واو ومن والمعطوف وهو أمة كما في
106
قوله تعالى : {خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهنّ} (الطلاق ، 12) وقيل : أراد بالأمّة أمّة محمد صلى الله عليه وسلم
{وأرنا} علّمنا {مناسكنا} شرائع ديننا وإعلام حجنا ، والنسك في الأصل غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن المعتاد كالصيد والتمتع باللباس وغيره ، والناسك العابد فأجاب الله تعالى دعاءهما وبعث لهما جبريل عليه السلام فأراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغ عرفات قال : عرفت يا إبراهيم قال : نعم فسمي الوقت عرفة والموضع عرفات ، وقرأ ابن كثير والسوسي أرنا بسكون الراء وقرأ الدوري عن أبي عمرو باختلاس حركة والراء والباقون بالحركة الكاملة {وتب علينا} سأله التوبة مع عصمتهما هضماً لأنفسهما وإرشاداً لذرّيتهما أو لما سلف منهما سهواً قبل النبوّة {إنك أنت التوّاب} لمن تاب {الرحيم} به.
جزء : 1 رقم الصفحة : 104
{ربنا وابعث فيهم} أي : الأمة المسلمة من ذرّية إبراهيم وإسمعيل {رسولاً منهم} أي : من أنفسهم.
روي أنه قيل له : قد استجيب لك وهو في آخر الزمان ، فبعث الله فيهم محمداً صلى الله عليه وسلم إذ لم يبعث من ذرّيتهما غير محمد صلى الله عليه وسلم إذ لم يأت نبيّ من ولد إسمعيل إلا النبيّ صلى الله عليه وسلم والكل من ولد إسحق ، فهو المجاب به دعوتهما كما قال عليه الصلاة والسلام : "إني عند الله مكتوب خاتم النبيين ، وإنّ آدم لمنجدل في طينته ، وسأخبركم بأوّل أمري أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أميّ التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور أضاءت له قصور الشام" وأراد بدعوة إبراهيم هذا.(1/84)
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة : نوح وهود وشعيب وصالح ولوط وإبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين {يتلو} أي : يقرأ {عليهم آياتك} القرآن ويبلغهم ما يوحى إليه من دلائل التوحيد والنبوّة {ويعلمهم الكتاب} أي : القرآن {والحكمة} أي : ما تكمل به نفوسهم من المعارف والأحكام ، وقال ابن قتيبة : هي العلم والعمل ولا يكون الرجل حكيماً حتى يجمعهما.
وقال أبو بكر بن دريد : كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة ، وقيل : هي فهم القرآن ، وقيل : الفقه في الدين ، وقيل : السنة {ويزكيهم} أي : يطهرهم من الشرك وقيل : يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذ اشهدوا هم للأنبياء بالتبليغ والتعديل {إنك أنت العزيز} الذي لا يقهر ولا يغلب على ما يريد ، وقيل : هو الذي لا يوجد مثله وقيل : هو المنيع الذي لا تناله الأيدي ولا يصل إليه شيء {الحكيم} في صنعه.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 107
ومن} أي : لا {يرغب} أحد {عن ملة إبراهيم} فيتركها لظهورها ووضوحها {إلا من سفه نفسه} أي : جهل أنها مخلوقة لله تعالى يجب عليه عبادته ، وذلك أنّ عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجر إلى الإسلام فقال لهما : قد علمتما أنّ الله عز وجل قال في التوراة : إني باعث من ولد إسمعيل نبياً اسمه أحمد ، فمن آمن به فقد اهتدى ومن لم يؤمن به فهو ملعون ، فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية قاله البيضاوي وغيره.
قال الأسيوطي : لم أقف على ذلك في شيء من كتب الحديث ولا التفاسير المسندة والمثبت مقدّم على غيره وقد جاء : من عرف نفسه فقد عرف ربه. وفي الأخبار أنّ الله أوحى إلى داود عليه
107
الصلاة والسلام : اعرف نفسك واعرفني فقال : يا رب كيف أعرف نفسي وأعرفك ؟
فأوحى الله تعالى إليه : اعرف نفسك بالضعف والعجز والفناء واعرفني بالقوّة والبقاء ، وهذا معنى من عرف نفسه فقد عرف ربه {ولقد اصطفيناه} أي : اخترناه {في الدنيا} بالرسالة والخلة {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} الذين لهم الدرجات العلا وفي هذا حجة وبيان لخطأ من رغب عن ملته ؛ لأنّ من جمع الكرامة عند الله في الدارين وكان مشهوداً له بالاستقامة والصلاح يوم القيامة كان حقيقاً بالاتباع لا يرغب عنه إلا سفيه أو متسفه أذل نفسه بالجهل والإعراض عن النظر.
تنبيه : قال الحسين بن الفضل : في الآية تقديم وتأخير تقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين.
وقوله تعالى : {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} إمّا ظرف لاصطفيناه أي : اخترناه في ذلك الوقت ، وإمّا منصوب بإضمار أذكر كأنه قال : اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفى الصالح المستحق للإمامة والتقدّم وأنه نال ما نال بالمبادرة إلى الإذعان وإخلاص السر حين دعاه ربه فكأنه قال له كما قال عطاء : أسلم نفسك إلى الله عز وجل وفوّض أمرك إليه قال : أسلمت أي : فوّضت ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : وقد حقق ذلك حيث لم يستعن بأحد من الملائكة حين ألقي في النار.
{ووصى بها} أي : بالملة المتقدّم ذكرها أو بأسلمت على تأويل الكلمة أو الجملة وقيل : بكلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله ، وقرأ نافع وابن عامر وأوصى بسكون الواو الثانية وهمزة مفتوحة بين الواوين ، والباقون بواوين مفتوحتين ولا همزة بينهما وهذا أبلغ قال الزجاج : لأنّ أوصى يصدق بالمرة الواحدة ، ووصى لا يكون إلا لمرّات كثيرة ، وأمال ورش بينَ بينْ ، وحمزة والكسائي محضة ، والباقون بالفتح.
جزء : 1 رقم الصفحة : 107
وقوله تعالى : {إبراهيم بنيه} قال مقاتل : وهم أربعة : إسمعيل وإسحق ومدين ومدان ، وقد ذكر غير مقاتل أنهم ثمانية وقيل : أربعة عشر {و} وصى بها أيضاً {يعقوب} بنيه وهم اثنا عشر : روبيل وشمعون ولاوا ويهوذا ويشنيوخور وزبويلون وودّان ويفتوني وكودا وأوشير وبنيامين ويوسف وسمي بذلك ؛ لأنه والعيص كانا توءمين فتقدّم عيص في الخروج من بطن أمّه وخرج يعقوب عقبه ، وقوله تعالى : {يا بنيّ} على إضمار القول عند البصريين متعلق بوصّى عند الكوفيين {إنّ الله اصطفى لكم الدين} أي : دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان لقوله تعالى : {فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون} نهى عن ترك الإسلام وأمر بالثبات عليه إلى مصادقة الموت ، وعن الفضيل بن عياض أنه قال : إلا وأنتم مسلمون أي : محسنون بربكم الظن لما روى جابر رضي الله عنه أنه قال : "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول : "لا يموتنّ أحد إلا وهو يحسن الظن بربه".
ولما قالت اليهود للنبيّ صلى الله عليه وسلم ألست تعلم أنّ يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية نزل.
{أم كنتم شهداء} جمع شهيد بمعنى الحاضر أي : ما كنتم حاضرين وقول الأسيوطي : لم أقف على ذلك فيه ما مرّ {إذ حضر يعقوب الموت} أي : حين احتضر وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو
108(1/85)
بتخفيف الهمزة الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والباقون بتحقيقهما وقوله تعالى : {إذ} بدل من إذ قبله {قال لبنيه ما تعبدون من بعدي} أي : بعد موتي أي : أيّ شيء تعبدونه أراد به تقريرهم على التوحيد والإسلام وأخذ ميثاقهم على الثبات فليس الاستفهام على حقيقته قال عطاء : إنّ الله تعالى لم يقبض نبياً حتى يخيره بين الموت والحياة فلما خير يعقوب قال : أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم ففعل الله ذلك به فجمع ولده وولد ولده وقال لهم : قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي ؟
{قالوا نعبد إلهك وإله آبائك} وقوله تعالى : {إبراهيم وإسمعيل وإسحق} عطف بيان لآبائك وجعل إسمعيل وهو عمه من جملة آبائه تغليباً للأب إسحق والجدّ إبراهيم أو لأن العم أب والخالة أمّ لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوّة لا تفاوت بينهما ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : "عم الرجل صنو أبيه" أي : لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنو النخلة وقال في العباس : هذا بقية آبائي وقال : ردوا عليّ أبي فإني أخشى أن تفعل بي قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود وقوله تعالى : {إلهاً واحداً} بدل من إله آبائك كقوله تعالى : {بالناصية ناصية كاذبة} (العلق ، 19) وقوله تعالى : {ونحن له مسلمون} حال من فاعل نعبد أو من مفعوله أو منهما وأم منقطعة ومعنى الهمزة فيه للإنكار أي : لم يحضروه وقت موته فكيف ينسبون إليه ما لا يليق به أو متصلة بمحذوف تقديره أكنتم غائبين أم كنتم شهداء. وقيل : الخطاب للمؤمنين بمعنى ما شهدتم ذلك وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 107
وقوله تعالى : {تلك} مبتدأ والإشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون ، وأنت لتأنيث خبره وهو {أمّة قد خلت} أي : سلفت وقوله تعالى : {لها ما كسبت} أي : من العمل جزاؤه استئناف {ولكم} الخطاب لليهود {ما كسبتم} والمعنى أنّ أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدّماً كان أو متأخراً فكما أنّ أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما كسبتم وذلك أنهم افتخروا بأوائلهم ، ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا بني هاشم لا يأتيني
109
الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم" {ولا تسئلون عما كانوا يعملون} كما لا يسئلون عن عملكم والجملة تأكيد لما قبلها.
{وقالوا} أي : أهل الكتاب {كونوا هوداً أو نصارى} أي : قالت اليهود : كونوا هوداً وقالت النصارى : كونوا نصارى فأو للتفصيل. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : نزلت في رؤوس يهود المدينة وفي نصارى نجران وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين كل فرقة تزعم أنها أحق بدين ، فقالت اليهود : نبينا موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان ، وكفرت بعيسى والإنجيل وبمحمد والقرآن. وقالت النصارى : نبينا عيسى أفضل الأنبياء وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان ، وكفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وقال كل من الفريقين للمؤمنين : كونوا على ديننا فلا دين إلا ذاك ، وقوله تعالى : {تهتدوا} جواب الأمر وهو كونوا. قال الله تعالى : {قل} لهم يا محمد {بل} نتبع {ملة إبراهيم} وقال الكسائي : وهو نصب على الإغراء كأنه يقول : اتبعوا ملة إبراهيم ، وقيل معناه بل تكون على ملة إبراهيم فحذف على فصار منصوباً وقوله تعالى : {حنيفاً} حال من المضاف إليه كقولك : رأيت وجه هند قائمة لكن هذا جزء حقيقة وملة كالجزء والحنيف المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق وقوله تعالى : {وما كان من المشركين} تعريض لأهل الكتاب وغيرهم ؛ لأنّ كلاً منهم يدّعي اتباع إبراهيم وهو على الشرك.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 109
قولوا آمنا با} خطاب للمؤمنين وقول "الكشاف" : ويجوز أن يكون خطاباً للكافرين أي : قولوا لتكونوا على الحق وإلا فأنتم على الباطل وكذلك قوله تعالى : {قل بل ملة إبراهيم} يجوز أن يكون على تأويل اتبعوا ملة إبراهيم أو كونوا أهل ملته يرده قوله تعالى : {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} (البقرة ، 137) {وما أنزل إلينا} أي : من القرآن وإنما قدّم ذكره ؛ لأنه أوّل الكتب بالنسبة إلينا أو لأنه سبب للإيمان بغيره {وما أنزل إلى إبراهيم} من الصحف العشرة {وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط} جمع سبط وهو الحاقد وكان الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد حفدة يعقوب أو أبناؤه وذراريهم فإنهم حفدة إبراهيم وإسحق.
فإن قيل : الصحف إنما أنزلت على إبراهيم أجيب : بأنهم لما كانوا متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها كانت أيضاً منزلة إليهم كما أنّ القرآن منزل إلينا {وما أوتي موسى} من التوراة {و} ما أوتي {عيسى} من الإنجيل.(1/86)
فإن قيل : لم أفرد التوراة والإنجيل بحكم أبلغ وهو الإيتاء ؛ لأنه أبلغ من الإنزال لكونه مقصوداً منه ولم يقل والأسباط وموسى وعيسى أجيب : بأنّ أمرهما بالإضافة إلى موسى وعيسى مغاير لما سبق والنزاع وقع فيهما فلهذا أفردا بالذكر {وما أوتي} أي : أعطى {النبيون} أي : المذكورون {من ربهم} من الكتب والآيات ، وقرأ نافع بالهمزة ، والباقون بالياء ، ولورش في الهمز المدّ والتوسط والقصر {لا نفرق بين أحد منهم} كاليهود والنصارى فنؤمن ببعض ونكفر ببعض بل نؤمن بجميعهم.
110
فإن قيل : كيف صح إضافة بين إلى أحد وهو مفرد ؟
أجيب : بأنه في معنى الجماعة وعلله السعد التفتازاني بأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث قال : ويشترط أن يكون استعماله مع كلمة كل أو في كلام غير موجب {ونحن له} أي : لله {مسلمون} أي : مذعنون أي : مخلصون.
روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا" الآية.
وقوله تعالى : {فإن آمنوا} أي : اليهود والنصارى {بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا} من باب التعجيز والتبكيت كقوله تعالى : {فأتوا بسورة من مثله} (البقرة ، 23) لأنّ دين الحق واحد لا مثل له وهو دين الإسلام قال تعالى : {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} (آل عمران ، 85) وأمّا أن مثل صلة أي : آمنوا بما آمنتم به كقوله تعالى : {ليس كمثله شيء} (الشورى ، 11) أي : ليس كهو شيء وكما في قوله تعالى : {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله} (الأحقاف ، 10) أي : عليه وقيل : الباء صلة كما في قوله تعالى : {وهزي إليك بجذع النخلة} (مريم ، 25) وقيل : معناه فإن آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم فقد اهتدوا.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 109
وإن تولوا} أي : أعرضوا عن الإيمان به {فإنما هم في شقاق} أي : في خلاف ومنازعه معكم يقال شاق مشاقة إذا خالف كان كل واحد من المتخالفين يحرص على كل ما يشق على صاحبه {فسيكفيكم الله} يا محمد شقاقهم في ذلك تسلية وتسكين للمؤمنين ووعد لهم بالحفظ والنصر على من عاداهم وقد كفاه إياهم بقتل بني قريظة ونفي بني النضير وضرب الجزية على اليهود والنصارى وقوله تعالى : {وهو السميع العليم} إما من تمام الوعد بمعنى أنه يسمع أقوالكم ويعلم إخلاصكم وهو مجازيكم لا محالة ، وإمّا وعيد للمعرضين بمعنى أنه يسمع ما يبدون ويعلم ما يخفون وهو معاقبهم عليه ولا مانع من حمل الكلام على الوعد والوعيد معاً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 109
أي : دينه الذي فطر الناس عليه بظهور أثره على صاحبه كالصبغ للثوب أو للمشاكلة ، فإنّ النصارى كانوا إذا ولد لهم ولد وأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم أصفر يقال له المعمودية ويقولون هو تطهير لهم مكان الختان ، فإذا فعلوا به ذلك قالوا : الآن صار نصرانياً حقاً ، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم : قولوا آمنا بالله وصبغَنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتكم ، وطهرنا به تطهيراً لا مثل تطهيركم ، أو يقول المسلمون : صبغَنا الله بالإيمان صبغة ولا نصبغ صبغتكم وهو مصدر مؤكد لآمنا ونصبه بفعل مقدر أي : صبغنا الله تعالى وقيل : نصب على البدل من ملة إبراهيم وقيل : نصب على الإغراء {ومن} أي : لا أحد {أحسن من الله صبغة} أي : لا صبغة أحسن من صبغته أي : لا دين أحسن من دينه وصبغة تمييز وقوله تعالى : {ونحن له عابدون} عطف على آمنا بالله قال الزمخشري : وهذا العطف يردّ قول من زعم أنّ صبغة الله بدل من ملة إبراهيم أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الله لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه :
111
والقول : ما قالت حذام اه.
نعم إن قدر قولوا في {ونحن له عابدون} معطوفاً على الزموا بتقدير الإغراء أو اتبعوا ملة إبراهيم بتقدير البدل لم يلزم ما قاله. ولما قالت اليهود للمسلمين : نحن أهل الكتاب الأول ، وقبلتنا أقدم ولم تكن الأنبياء من العرب ؛ لأنهم عبدة الأوثان ولو كان محمد نبياً لكان منا ؛ لأنا أهل الكتاب.(1/87)
نزل {قل} لهم {أتحاجوننا} أي : تجادلوننا أو تخاصموننا {في الله} أي : في شأنه أن اصطفى النبيّ صلى الله عليه وسلم من العرب دونكم ويقولون : لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا وترون أنكم أحق بالنبوّة منا {وهو ربنا وربكم} نشترك جميعاً في أننا عباده ، وهو يصيب برحمته وكرامته من يشأ من عباده هم فوضى في ذلك لا يختص به عجمي دون عربي إذا كان أهلاً للكرامة {ولنا أعمالنا} نجازي بها {ولكم أعمالكم} تجازون بها أي : كما أنّ لكم أعمالاً يعتبرها الله في إعطاء الكرامة ومنعها فنحن كذلك ، فالعمل هو أساس الأمر وبه العبرة {ونحن له مخلصون} في الدين والعمل دونكم فنحن أولى بالاصطفاء فلا تستبعدوا أن يؤهل أهل إخلاصه لكرامته بالنبوّة والهمزة للإنكار ، والجمل الثلاث أحوال ، وقرأ أبو عمرو بإدغام النون في اللام بخلاف عنه وله فيه الروم والإشمام.
جزء : 1 رقم الصفحة : 111
وقوله تعالى : {أم يقولون} قرأه ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي بالتاء ، والباقون بالياء على الغيبة ، فعلى القراءة الثانية أم منقطعة والهمزة للإنكار ، وعلى القراءة الأولى يحتمل أن تكون معادلة للهمزة في أتحاجوننا بمعنى أيّ الأمرين تأتون المحاجّة وادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء في قولكم : {إنّ إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل} لهم يا محمد {أأنتم أعلم أم الله} الله أعلم ، وقد نفى الله تعالى الأمرين عن إبراهيم بقوله تعالى : {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلمًا} (آل عمران ، 67) واحتج تعالى على ذلك بقوله تعالى : {وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده} (آل عمران ، 65) والمذكورون معه تبع له ، فهم أتباعه في الدين وفاقاً.
{ومن} أي : لا أحد {أظلم ممن كتم} أي : أخفى عن الناس {شهادة عنده} كائنة {من الله} أي : شهادة الله تعالى لإبراهيم بالحنيفية والبراءة عن اليهودية والنصرانية وهم أهل الكتاب ؛ لأنهم كتموا هذه الشهادة وكتموا شهادة الله تعالى لمحمد بالنبوّة في كتبهم وغيرها ، ومن للابتداء كما في قوله تعالى : {براءة من الله ورسوله} (التوبة ، 1) أي : شهادة كائنة من الله ، فمن الله صفة لشهادة وقوله تعالى : {وما الله بغافل عما تعملون} تهديد لهم.
وقوله تعالى : {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون} تكرير للمبالغة في التحذير والزجر عما استحكم في الطبائع من الإفتخار بالآباء والإتكال عليهم وقيل : الخطاب فيما سبق لهم ، وفي هذه الآية لنا تحذيراً عن الاقتداء بهم وقيل : المراد بالأمة في الأوّل الأنبياء ، وفي الثاني أسلاف اليهود والنصارى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 111
112
{سيقول السفهاء} أي : الجهال الذين خفت أحلامهم {من الناس} وهم اليهود ؛ لكراهتهم التوجه إلى الكعبة وأنهم لا يرون النسخ {ما ولاهم} أي : أيّ شيء صرف النبيّ والمؤمنين {عن قبلتهم التي كانوا عليها} وهي بيت المقدس وقيل : هم المنافقون لحرصهم على الطعن والاستهزاء ، وقيل : المشركون قالوا قد تردّد على محمد أمره واشتاق إلى مولده وقد توجه نحو بلدكم وهو راجع إلى دينكم والإتيان بالسين الدالة على الاستقبال من الإخبار بالغيب.
فإن قيل : ما فائدة الإخبار بذلك قبل وقوعه أجيب : بأن فائدة توطين النفس وإعداد الجواب ، فإنّ مفاجأة المكروه أشدّ والعلم به قبل وقوعه أبعد عن الاضطراب إذا وقع وقبل الرمي يراش السهم ، والقبلة في الأصل الحالة التي عليها الإنسان مأخوذة من الاستقبال ، وصارت عرفاً للمكان المتوجه نحوه للصلاة قال الله تعالى {قل} لهم يا محمد {المشرق والمغرب} أي : الجهات كلها ملكاً والخلق عبيده لا يختص به مكان دون مكان بخاصة ذاتية تمنع إقامة غيره مقامه وإنما العبرة بامتثال أمره لا بخصوص المكان فيأمر بالتوجه إلى أيّ جهة شاء لا اعتراض عليه {يهدي من يشاء} هدايته {إلى صراط} أي : طريق {مستقيم} وهو ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من توجيههم تارة إلى بيت المقدس وأخرى إلى الكعبة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 112
وقوله تعالى : {وكذلك} الكاف فيه للتشبيه أي : كما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناكم {جعلناكم} يا أمة محمد {أمة وسطاً} أي : خياراً عدولاً قال تعالى : {قال أوسطهم} (القلم ، 28) أي : خيرهم وأعدلهم ، وخير الأشياء أوسطها لا إفراطها ولا تفريطها ؛ لأنّ الإفراط المجاوزة لما لا ينبغي والتفريط التقصير عما ينبغي كالجود بين الإسراف والبخل والشجاعة بين التهور وهو الوقوع في الشيء بقلة مبالاة وبين الجبن ؛ لأنّ الأفراد يتسارع إليها الخلل والأوساط محمية محفوظة.(1/88)
روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنه قال : "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد العصر فما ترك شيئاً إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رؤوس النخل وأطراف الحيطان فقال : أما إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي أخيرها وأكرمها على الله عز وجل" وقوله تعالى :
113
{لتكونوا شهداء على الناس} أي : يوم القيامة أن رسلهم بلغتهم {ويكون الرسول عليكم شهيداً} أي : يزكيكم ويشهد بعدالتكم علة للجعل أي : لتعلموا بالتأمل فيما نصب لكم من الحجج وأنزل عليكم من الكتاب أنه تعالى ما بخل على أحد ولا ظلم بل أوضح السبل وأرسل الرسل ، فبلغوا ونصحوا ولكن الذين كفروا حملهم الشقاء على اتباع الشهوات والإعراض عن الآيات ، فتشهدون بذلك على معاصريكم وعلى الذين قبلكم وبعدكم.
روي أن الله تعالى يجمع الأوّلين والآخرين في صعيد واحد ، ثم يقول لكفار الأمم : ألم يأتكم نذير ، فينكرون ويقولون ما جاءنا من بشير ولا نذير ، فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم ، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون فتقول الأمم من أين علموا أنهم قد بلغوا ، وإنما أتوا بعدنا فتسأل هذه الأمة ، فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق ، على لسان نبيه الصادق ، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته ، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله تعالى : {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} (النساء ، 41) .
فإن قيل : هلا قيل لكم شهيداً إذ شهادته لهم لا عليهم أجيب : بأنّ الشهيد لما كان كالرقيب والمهيمن على المشهود له جيء بكلمة الاستعلاء ومنه قوله تعالى : {وا على كل شيء شهيد} (المجادلة ، 6) .
فإن قيل : لم أخرت صلة الشهادة أوّلاً وقدّمت آخراً أجيب : بأنّ الغرض في الأوّل إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم {وما جعلنا} أي : صيرنا لك {القبلة} الآن وقوله تعالى : {التي كنت عليها} ليس بصفة للقبلة إنما هو ثاني مفعولي جعل أي : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها أولاً وهي الكعبة وكان صلى الله عليه وسلم يصلي إليها ، فلما هاجر أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس تألفاً لليهود فصلى إليها ستة أو سبعة عشر شهراً ثم حوّل إلى الكعبة {إلا لنعلم من يتبع الرسول} فيصدّقه {ممن ينقلب على عقبيه} أي : يرجع إلى الكفر شكاً في الدين وظناً أنّ النبيّ في حيرة من أمره ، وفي الحديث : "أنّ القبلة لما حوّلت ارتدّ قوم من المسلمين إلى اليهودية وقالوا : رجع محمد إلى دين آبائه".
جزء : 1 رقم الصفحة : 112
فإن قيل : كيف : قال الله تعالى لنعلم وهو عالم بالأشياء كلها أجيب : بأنه أراد به علم ظهور وهو العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب ، فإنه لا يتعلق بما هو عالم به في الغيب إنما يتعلق بما يوجد ، ومعناه أي : لنعلم العلم الذي يستحق العامل عليه الثواب والعقاب ونظيره قوله تعالى : {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} (آل عمران ، 142) وقيل : ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ، وإنما أسند علمهم إلى ذاته تعالى ؛ لأنهم خواصه وأهل الزلفى عنده وقيل : معناه لتمييز التابع من الناكص كما قال الله تعالى : {ليميز الله الخبيث من الطيب} (الأنفال ، 37) فوضع العلم موضع التمييز التابع ؛ لأنّ بالعلم يقع التمييز ، فالعلم سبب والتمييز مسبب ، فأطلق السبب وهو العلم على المسبب وهو التمييز.
تنبيه : العلم في الآية إمّا بمعنى المعرفة ، فيتعدى إلى مفعول واحد وهو من يتبع ، وإمّا معلق لما في من معنى الاستفهام ، وإمّا أن يكون مفعوله الثاني ممن ينقلب أي : ليعلم من يتبع الرسول مميزاً ممن ينقلب.
114(1/89)
فإن قيل : على الأوّل كيف يكون العلم بمعنى المعرفة والله تعالى لا يوصف بها ؛ لأنها تقتضي سبق جهل والله منزه عن ذلك أجيب : بأنّ ذلك لشيوعها فيما تقتضي أن يكون مسبوقاً بالعدم وليس العلم الذي بمعنى المعرفة ، كذلك إذ المراد به الإدراك الذي لا يتعدى إلى مفعولين ، بل قال الوليّ العراقي : قد وقع إطلاق المعرفة على الله تعالى في كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة أو كلام أهل اللغة وقوله تعالى : {وإن} هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي : وإنها {كانت} أي : التولية {لكبيرة} شاقة على الناس {إلا على الذين هدى الله} منهم وهم الثابتون على الإيمان {وما كان الله ليضيع أيمانكم} أي : ثباتكم على الإيمان ، وإنكم لم تزلزلوا ولم ترتابوا بل شكر سعيكم وأعدّ لكم الثواب العظيم أو صلاتكم إلى بيت المقدس بل يثيبكم عليه ؛ لأنّ سبب نزولها "أنّ حييّ بن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين : أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس ، إن كانت هدى فقد تحوّلتم عنها ، وإن كانت ضلالة فقد دنتم الله بها ، ومن مات منكم عليها فقد مات على الضلالة ، فقال المسلمون : إنّ الهدى ما أمر الله تعالى به ، والضلالة ما نهى الله تعالى عنه قالوا : فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا ، وكان قد مات قبل أن تحوّل القبلة من المسلمين أسعد بن زرارة من بني النجار ، والبراء بن معرور من بني سلمة وكانا من النقباء ورجال آخرون فانطلق عشائرهم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله لقد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ، فأنزل الله تعالى هذه {إن الله بالناس لرؤف رحيم} فلا يضيع أجورهم ولا يدع صلاتهم".
جزء : 1 رقم الصفحة : 112
فإن قيل : لم قدم الرؤوف على الرحيم مع أنه أبلغ ؟
أجيب : بأنه قدم محافظة على الفواصل ، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي لرؤوف بقصر الهمزة ، والباقون بمدّها ولورش في الهمزة المدّ والتوسط والقصر على أصله.
{قد} للتحقيق {نرى تقلب} أي : تردّد {وجهك في السماء} أي : في جهتها متطلعاً إلى الوحي ومتشوّقاً إلى الأمر باستقبال الكعبة ، وهذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة فهي متقدّمة في المعنى ، فإنها رأس القصة ، وأمر القبلة أوّل ما نسخ من أمور الشرع وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون بمكة إلى الكعبة ، فلما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى أن يصلي إلى نحو صخرة بيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه إذا صلى إلى قبلتهم مع ما يجدونه من نعته في التوراة ، وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة ، لأنها كانت قبلة إبراهيم أبيه صلى الله عليه وسلم
وقال مجاهد : كان يحب ذلك من أجل أنّ اليهود كانوا يقولون : يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا ، فقال لجبريل عليه السلام : وددت لو حوّلني الله تعالى إلى الكعبة ، فإنها قبلة أبي إبراهيم ، فقال جبريل : إنما أنا عبد ملك وأنت كريم على ربك ، فسل أنت ربك فإنك عند الله بمكان ، فعرج جبريل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن ينزل جبريل بما يحب من أمر القبلة ، وذلك يدل على كمال أدبه حيث انتظر ولم يسأل ، فنزل قوله تعالى : {فلنولينك} أي : فلنحوّلنك {قبلة} أي : إلى قبلة {ترضاها} أي : تحبها وتهواها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله تعالى وحكمته {فول} أي : اصرف {وجهك شطر} أي : نحو {المسجد الحرام} أي : الكعبة أي : استقبل عينها بصدرك في الصلاة وإن كنت بعيداً عنها. وقول البيضاوي : والبعيد يكفيه
115
مراعاة الجهة ، فإنّ في استقبال عينها حرجاً عليه وجه ضعيف ، والحرام المحرم فيه القتال وممنوع من الظلمة أن يتعرّضوه.
وقوله تعالى : {وحيث ما كنتم} من بحر أو برّ ، شرق أو غرب خطاب للأمة {فولوا وجوهكم} في الصلاة {شطره} وكان تحويل القبلة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين. وقول البيضاوي : وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر ، فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب وتبادل الرجال والنساء صفوفهم ، فسمي المسجد مسجد القبلتين فيه تحريف ، فإن ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم كان إماماً في قصة بني سلمة وأنه تحول في الصلاة وليس كذلك ، فقد روى البخاريّ عن ابن عمر أنه قال : "بينما الناس يصلون في صلاة الصبح إذ أتاهم آت أي : من بني سلمة فقال : إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشأم فاستداروا إلى الكعبة".
جزء : 1 رقم الصفحة : 112(1/90)
ولما تحوّلت القبلة قالت اليهود : وما هو إلا شيء يبتدعه محمد من تلقاء نفسه ، فتارة يصلي إلى بيت المقدس ، وتارة إلى الكعبة ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره ، فأنزل الله تعالى {وإنّ الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه} أي : التولي إلى الكعبة {الحق} أي : الثابت {من ربهم} لما في كتبهم من نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم من أنه يحوّل إليها وقوله تعالى : {وما الله بغافل عما تعملون} قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب للمؤمنين أي : وما أنا بغافل عن جزائكم وثوابكم ، والباقون بالياء على الغيب أي : عما يعمل اليهود أي : فأجازيهم في الدنيا والآخرة ، ففي الآية وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين ، ولما قالت اليهود والنصارى ائتنا بآية على أنّ الكعبة قبلة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 112
{ولئن} اللام موطئة للقسم {أتيت الذين أوتوا الكتاب} أي : اليهود والنصارى {بكل آيةٍ} أي : برهان وحجة على أن التوجه إلى الكعبة هو الحق وقوله تعالى : {ما تبعوا قبلتك} جواب للقسم المضمر والمعنى أن تركهم اتباعك ليس على شبهة تزيلها بإيراد الحجة إنما هو على مكابرة وعناد مع علمهم لما في كتبهم من نعتك أنك على الحق.
تنبيه : كان مقتضى الظاهر ما يتبعون لكن أتى بالماضي لتحقق وقوعه كقوله تعالى : {أتى أمر الله} وقوله تعالى : {وما أنت بتابع قبلتهم} قطع لأطماعهم ، فإنهم قالوا : لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره تغريراً منهم له وطمعاً في رجوعه {وما بعضهم بتابع قبلة بعضٍ} أي : أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة ، فإن اليهود تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس لا يرجى توافقهم كما لا ترجى موافقتهم لك لتصلب كل حزب فيما هو فيه.
فإن قيل : كيف قال تعالى : {وما أنت بتابع قبلتهم} ولهم قبلتان لليهود قبلة وللنصارى قبلة ؟
أجيب : بأن كلتا القبلتين باطلة مخالفة لقبلة الحق فكانتا لحكم الاتحاد في البطلان قبلة واحدة وقوله تعالى : {ولئن اتبعت أهواءهم} خطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة أو على سبيل الفرض
116
والتقدير {من بعدما جاءك} بين لك {من العلم} بالوحي في القبلة {إنك إذاً} إن اتبعتهم {لمن الظالمين} أي : من المرتكبين الظلم الفاحش ، وفي هذا لطف للسامعين وزيادة تحذير واستفظاع لحال من ترك الدليل بعد إنارته وتتبع الهوى وتهييج للثبات على الحق ، وقد أكد سبحانه وتعالى التهديد في ذلك وبالغ فيه.)
جزء : 1 رقم الصفحة : 116
قال البيضاوي من سبعة أوجه : الأوّل : الاتيان باللام الموطئة للقسم ، الثاني : القسم المضمر ، الثالث : حرف التحقيق أي : التأكيد وهي أن الرابع تركيبه من جملة إسمية ، الخامس : الاتيان باللام في الخبر أي : وهو من الظالمين ، السادس : جعله من الظالمين أي : تعريف الظالمين الدال على المعروفين ولم يقل إنك ظالم ، فإن في الإندراج معهم إيهاماً بحصول أنواع الظلم ؛ لأنّ أل في الظالمين للاستغراق ، السابع : التقييد بمجيء العلم تعظيماً للحق المعلوم وتحريضاً على اقتضائه وتحذيراً عن متابعة الهوى واستفظاعاً لظهور الذنب عن الأنبياء.
{الذين أتيناهم الكتاب} أي : علماؤهم {يعرفونه} أي : محمداً صلى الله عليه وسلم لسبق ذكره بلفظ الرسول مرّتين ، وقول البيضاويّ تتبعاً للزمخشري وإن لم يسبق ذكره ممنوع ، وقيل : القرآن وقيل : التحويل ، ويدل للأوّل قوله تعالى : {كما يعرفون أبناءهم} أي : من بين الصبيان ، قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لعبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه : كيف هذه المعرفة ؟
قال عبد الله : يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ومعرفتي بمحمد صلى الله عليه وسلم أشدّ من معرفتي بابني فقال عمر : وكيف ذلك ؟
قال : لست أشك في محمد أنه نبي وأمّا ولدي فلعل والدته خانت فقال عمر : وفقك الله تعالى يا ابن سلام فقد صدقت.
فإن قيل : لم خص الأبناء من الأولاد ؟
أجيب : بأنّ الذكور أشهر وأعرف وهم لصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق {وإنّ فريقاً منهم} أي : أهل الكتاب {ليكتمون الحق} أي : صفته صلى الله عليه وسلم وأمر الكعبة {وهم يعلمون} ولا يظهرونه عناداً.
وقوله تعالى : {الحق من ربك} كلام مستأنف ، والحق إما مبتدأ خبره من ربك والمعنى أنه الحق أي : ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه لا ما لم يثبت كالذي عليه أهل الكتاب ، وإما خبر مبتدأ محذوف أي : هذا الحق ومن ربك حال أو خبر ، بعد خبر والمعنى أنّ ما جاءك من العلم أو ما يكتمونه هو الحق لا ما يزعمون {فلا تكونن من الممترين} أي : من الشاكين في أنه من ربك أو في كتمانهم الحق عالمين به أي : فلا تكونن من هذا النوع وهو أبلغ من لا تمتر وليس فيه نهي للرسول صلى الله عليه وسلم عن الشك فيه ؛ لأنه غير متوقع منه بل إما لتحقيق الأمر ، وإنه بحيث لا يشك فيه ناظر ، وإمّا أنّ المراد به أمته.(1/91)
{ولكل} أي : أمة من الأمم {وجهة} أي : قبلة أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة {هو موليها} وجهه في صلاته ، وقرأ ابن عامر وحده مولاها بفتح اللام وألف بعدها أي : هو مولى تلك الجهة قد وليها ، والباقون بكسر اللام وياء بعدها وعلى هذا فأحد المفعولين محذوف أي : هو موليها وجهه كما مرّ تقديره أو الله تعالى موليها إياه {فاستبقوا الخيرات} أي : بادروا إلى الطاعات وقبولها من أمر القبلة وغيره مما تناولوا به سعادة الدارين {أين ما تكونوا} أنتم وأهل الكتاب {يأت بكم الله جميعاً} يوم القيامة ، فيجازيكم بأعمالكم {إنّ الله على كل شيء قدير} فيقدر على الإحياء والجمع.
117
تنبيه : رقق ورش الراء المفتوحة بعد الياء الساكنة. واتفق المصاحف على قطع أين من ما هنا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 116
{ومن حيث خرجت} أي : من أيّ مكان خرجت للسفر {فولّ وجهك شطر المسجد الحرام} إذا صليت {وإنه} أي : هذا الأمر {للحق من ربك} وقوله تعالى : {وما الله بغافل عما تعملون} قرأه أبو عمرو بالياء على الغيبة ، والباقون بالتاء على الخطاب.
{ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره}.
تنبيه : ما مقطوعة من حيث في موضعي هذه السورة ، وكرر سبحانه وتعالى التولي لشطر المسجد الحرام ثلاث مرات لتأكيد أمر القبلة وتشديده ؛ لأنّ النسخ من مظان الفتنة والشبهة وتسويل الشيطان ، فكرر عليهم ليثبتوا ويقوموا ويجدّوا ؛ ولأنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر ؛ لأنه تعالى علق بكل آية فائدة ، ففي الأولى أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر محمد أو أمر القبلة حق لمشاهدتهم له في التوراة والإنجيل ، وفي الثانية أنه تعالى شهد أنه حق وشهادة الله تعالى مغايرة لعلم أهل الكتاب ، وفي الثالثة بيان العلة وهي قطع حجة اليهود أو لأن الأحوال ثلاثة أوّلها : أن يكون الانسان في المسجد الحرام وثانيها : أن يخرج عنه ويكون في البلد وثالثها : أن يخرج عن البلد ، فالآية محمولة على الأوّل والثانية على الثاني والثالثة على الثالث وقوله تعالى : {لئلا يكون الناس} أي : اليهود والمشركين {عليكم حجة} أي : مجادلة في التولي علة لقوله : قولوا والمعنى أن التولية عن الصخرة إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة ، وأن محمداً يجحد ديننا ويتبعنا في قبلتنا ويدفع احتجاج المشركين بأنه يدّعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته ، وقرأ ورش بإبدال الهمزة من لئلا ياء مفتوحة وقفاً ووصلاً وحمزة يبدلها وقفالاً وصلاً ، والباقون بهمزة مفتوحة وصلاً ووقفاً وقوله تعالى : {إلا الذين ظلموا منهم} بدل واستثناء متصل أي : لئلا يكون لأحد من الناس حجة إلا المعاندين منهم ، فإنهم يقولون ما تحول إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه وحبه لبلده أو بدا له فرجع إلى دين آبائه ويوشك أن يرجع إلى دينهم {فلا تخشوهم} أي : فلا
118
تخافوا مطاعنتهم في قبلتكم ، فإنهم لا يضرونكم {واخشوني} بامتثال أمري فلا تخالفوا ما أمرتكم به.
جزء : 1 رقم الصفحة : 118
تنبيه : الياء هنا ثابتة في الرسم وهي في القراءة ثابتة وقفاً ووصلاً.
فإن قيل : أي حجة تكون لغير الذين ظلموا لو لم تحوّل حتى احترز من تلك الحجة ولم يبال بحجة المعاندين ؟
أجيب : بأنهم كانوا يقولون : ما له لا يحوّل إلى قبلة أبيه إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة.
فإن قيل : كيف أطلق الحجة على قول المعاندين ؟
أجيب : بأنّ المراد بالحجة ما يتمسك به حقاً كان أو باطلاً كما قال تعالى : {حجتهم داحضة} (الشورى ، 16) وقوله تعالى : {ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون} أي : إلى الحق علة لمحذوف أي : وأمرتكم بذلك لإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أو عطف على علة مقدرة كأنه قيل : واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم ، قال "الكشاف" : وقيل : هو معطوف على لئلا يكون ، وجرى عليه البيضاوي والسيوطي. قال البيضاويّ : تبعاً "للكشاف" وفي الحديث "تمام النعمة دخول الجنة" أي : ورؤية الله تعالى وعن علي رضي الله تعالى عنه تمام النعمة الموت على الاسلام ، قال شيخنا القاضي زكريا : روى الحديث الترمذيّ وذكره مع الأثر بعده ربما يرجح العطف على المقدر.
وقوله تعالى : {كما أرسلنا} إما متعلق بما قبله وهو أتم أي : ولأتم نعمتي عليكم في أمر القبلة أو في أمر الآخرة إتماماً كإتمامها بإرسالنا {فيكم رسولاً منكم} وهو محمد صلى الله عليه وسلم وإما متعلق بما بعده وهو فاذكروني أذكركم أي : كما ذكرتكم بالإرسال فاذكروني {يتلو عليكم آياتنا} أي : القرآن {ويزكيكم} أي : يطهركم من الشرك {ويعلمكم الكتاب} أي : القرآن {والحكمة} أي : ما فيه الأحكام.
تنبيه : قدم هنا يزكيكم على يعلمكم باعتبار القصة وأخر في دعوة إبراهيم يزكيكم على يعلمكم باعتبار الفعل {ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} أي : بالتفكر والنظر إذ لا طريق لمعرفته سوى الوحي.(1/92)
{فاذكروني} بالطاعة كالصلاة والتسبيح {أذكركم} قال ابن عباس : بمعونتي ، وقال سعيد بن جبير : بمغفرتي وقيل : اذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدّة والبلاء كما قال تعالى : {فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} (الصافات ، 144) . وفي الحديث عن الله تعالى : "أنا عند ظنّ عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه ، وإن تقرب إليّ شبراً تقرّبت إليه ذراعاً ، وإن تقرّب إليّ ذراعاً تقرّبت منه باعاً ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة". وفي رواية أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنّ الله تعالى يقول : يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منه ، وإن دنوت مني شبراً دنوت منك ذراعاً ، وإن دنوت مني ذراعاً دنوت منك باعاً ،
119
وإن مشيت إليّ هرولت إليك ، وإن سألتني أعطيتك ، وإن لم تسألني غضبت عليك". وفي رواية أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يقول الله عزّ وجلّ : أنا مع عبدي ما ذكرني وتحرّكت بي شفتاه". وفي رواية : جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أيّ الأعمال أفضل ؟
قال : "أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله". وقرأ ابن كثير بفتح الياء والباقون بالسكون وهم على مراتبهم في المدّ {واشكروا لي} نعمتي بالطاعة {ولا تكفرون} بجحد النعم وعصيان الأمر ، فإن من أطاع الله فقد شكره ، ومن عصاه فقد كفره.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 118
يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر} على الطاعة والبلاء وعلى المعاصي وحظوظ النفس {والصلوة} خصها بالذكر ؛ لأنها أم العبادات لاشتمالها على فعل القلب وغيره ومناجاة رب العالمين {إن الله مع الصابرين} بالنصر وإجابة الدعوة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 118
هم {أموات بل} هم {أحياء ولكن لا تشعرون} أي : لا تعلمون كيف حالهم في حياتهم.
قال البيضاويّ : وهو تنبيه على أنّ حياتهم ليست بالجسد ولا من جنس ما يحس به من الحيوانات ، وإنما هي أمر لا يدرك بالعقل بل بالوحي اه.
وهذا ما عليه أكثر المفسرين ، قال ابن عاد : ويحتمل أنّ حياتهم بالجسد وإن لم تشاهد وأيد بأن حياة الروح ثابتة لجميع الأموات بالاتفاق ، فلو لم تكن حياة الشهيد بالجسد لاستوى هو وغيره ولم تكن له مزية اه.
وقد يرد بأنّ الشهداء فضلوا على غيرهم بأنهم يرزقون من مطاعم الجنة ومآكلها وغيرهم من المؤمنين منعمون بما دون ذلك. وفي الحديث : "أرواحهم في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش" وعن الحسن : أن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم ، فيصل إليهم الروح أي : الاستراحة أي : التلذذ والتنعم والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدّواً وعشياً ، فيصل إليهم الوجع والغم. وعلى هذا فتخصيص الشهداء لاختصاصهم بالقرب من الله ومزيد السرور والكرامة والأرواح جواهر قائمة بأنفسها تبقى بعد الموت دراكة كما عليه جمهور الصحابة والتابعين ونطقت به الآيات والسنن.
{ولنبلونكم} أي : ولنختبرنكم يا أمّة محمد صلى الله عليه وسلم واللام لجواب القسم تقديره والله لنبلونكم والابتلاء إظهار المطيع من العاصي لا ليعلم شيئاً لم يكن عالماً به {بشيء} أي : بقليل {من الخوف} أي : خوف العدوّ {والجوع} أي : القحط وإنما قلله بالنسبة لما وقاهم عنه فيخفف عنهم ويريهم أنّ رحمته لا تفارقهم أو بالنسبة إلى ما يصيب به معانديهم في الآخرة وإنما أخبرهم قبل وقوعه ليوطنوا عليه نفوسهم {ونقص من الأموال} بالخسران والهلاك {والأنفس} بالقتل والموت وقيل : بالمرض والشيب {والثمرات} بالجوائح.
120
وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه : الخوف خوف الله ، والجوع صوم رمضان ، ومن الثمرات موت الأولاد. وعن أبي سنان قال : دفنت ولدي سناناً وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر ، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأخرجني ، فقال : ألا أبشرك ؟
.
جزء : 1 رقم الصفحة : 120
حدّثني الضحاك بن عروب عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته : أقبضتم ولد عبدي ؟
فيقولون : نعم فيقول أقبضتم ثمرة قلبه ؟
فيقولون : نعم فيقول الله تعالى : ماذا قال عبدي ؟
فيقولون : حمدك واسترجع ، فيقول الله تعالى : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد". وقوله تعالى : {وبشر الصابرين} أي : على ما يصيبهم من المكروه عطف كما قال التفتازاني على ولنبلونكم عطف المضمون على المضمون أي : الابتلاء حاصل لكم وكذا البشارة لكن لمن صبر ، ثم بينهم بقوله : (1/93)
{الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا } عبيداً وملكاً {وإنا إليه راجعون} في الآخرة والمصيبة تعمّ ما يصيب الانسان من مكروه لقوله صلى الله عليه وسلم "كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة" وعن أمّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ورضي عنها أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما من مصيبة تصيب عبداً فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون اللهمّ اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا آجره الله تعالى في مصيبته وأخلف عليه خيراً منها" قالت : فلما توفي أبو سلمة استرجعت الله لي فقلت : اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها قالت : فأخلف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية : "من استرجع عند المصيبة جبر الله تعالى مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه" ، وقال سعيد بن جبير : ما أعِطى أحد ما أعطيت هذه الأمة يعني الاسترجاع ولو أعطيها أحد لأعطى يعقوب في قصة فقدِ يوسف ألا تسمع إلى قوله : {يا أسفاً على يوسف} (يوسف ، 84) وليس الصبر بالإسترجاع باللسان بل باللسان مع القلب بأن يتصوّر ما خلق لأجله ، فإنه راجع إلى ربه ويتذكر نعم الله عليه ، فيرى ما أبقى عليه أضعاف ما استردّه منه ، فيهوّن على نفسه ويستسلم لربه ، والمبشر به محذوف دلّ عليه.
{أولئك عليهم صلوات} أي : مغفرة {من ربهم ورحمة} أي : لطف وإحسان والصلاة في الأصل من الآدمي أي : ومن الجنّ تضرّع ودعاء ، ومن الملائكة إستغفار ، ومن الله تعالى رحمة مقرونة بتعظيم وجمع الصلاة للتنبيه على كثرتها كالتثنية في لبيك بمعنى لا انقطاع لمغفرته {وأولئك هم المهتدون} إلى الصواب حيث استرجعوا وسلّموا لقضاء الله تعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 120
قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : نِعم العدلان ونعمت العلاوة ، والعدلان الصلاة والرحمة ، والعلاوة : الهداية ، وقد ورد أخبار في ثواب أهل البلاء وأجر الصابرين منها أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من يرد الله به خيراً يصب منه" ومنها أنه صلى الله عليه وسلم
121
قال : "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا همّ ولا غم ولا حزن ولا أذى ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه" ومنها : أن امرأة جاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وبها لمم ، فقالت : يا رسول الله ادع الله تعالى أن يشفيني فقال : "إن شئت دعوت الله أن يشفيك ، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك قالت : بل أصبر ولا حساب عليّ". ومنها : "أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن أشدّ الناس بلاءً قال : "الأنبياء والأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلباً ابتلى على قدر ذلك ، وإن كان في دينه رقة هوّن عليه ، فما زال كذلك حتى يمشي على الأرض ما له ذنب" ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم قال : "إن أعظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإنّ الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط". ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم قال : "لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة". ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم قال : "مثل المؤمن كمثل الزرع لا يزال الريح يثنيه ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد". ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم قال : "عجب للمؤمن إن أصابه خير حمد الله وشكر ، وإن أصابته مصيبة حمد الله وصبر ، فالمؤمن يؤجر في كل أمره".
{إن الصفا والمروة} هما على جبلين بمكة في طرفي المسعى ، قال القرطبيّ : وذكر الصفا ؛ لأن آدم وقف عليه ، وأنث المروة ؛ لأنّ حوّاء وقفت عليها {من شعائر الله} أي : أعلام دينه جمع شعيرة وهي العلامة أي : من أعلام مناسكه ومتعبداته {فمن حج البيت أو اعتمر} أي : تلبس بالحج أو العمرة ، والحج لغة : القصد. والاعتمار : الزيارة ، فغلبا شرعاً على قصد البيت وزيارته على الوجهين المعروفين {فلا جناح} أي : لا إثم {عليه أن يطوّف} فيه إدغام التاء في الأصل في الطاء {بهما} أي : بأن يسعى بينهما سبعاً.
فإن قيل : كيف أنهما من شعائر الله ، ثم قيل لا جناح عليه أن يطوف بهما ؟
أجيب : بأنه كان على الصفا آساف ، وعلى المروة نائلة وهما صنمان ، يروى أنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين ، فلما طالت المدّة عبدا من دون الله ، فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسخوهما ، فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية ، فأذن الله تعالى فيه وأخبر أنه من شعائر الله ، والإجماع على أنّ السعي بين الصفا والمروة مشروع في الحج والعمرة ، وإنما الخلاف في وجوبه ، فعن أحمد أنه سنة وبه قال أنس وابن عباس لقوله تعالى : {فلا جناح عليه} فإنه يفهم منه التخيير.
جزء : 1 رقم الصفحة : 120
قال البيضاويّ وهو ضعيف ؛ لأنّ نفي الجناح يدل على الجواز الداخل في معنى الوجوب فلا
122(1/94)
يدفعه. وعن أبي حنيفة أنه واجب يجبر بدم. وعن مالك والشافعيّ أنه ركن لقوله صلى الله عليه وسلم "اسعوا فإنّ الله تعالى كتب عليكم السعي" رواه البيهقيّ وغيره. وقال صلى الله عليه وسلم "ابدؤوا بما بدأ الله به" يعني : الصفا رواه مسلم {ومن تطوّع خيراً} أي : فعل طاعة فرضاً كان أو نفلاً أو زاد على ما فرض الله عليه من حج أو عمرة أو طواف ، ونصب خيراً على أنه صفة مصدر محذوف أي : تطوّعاً أو بحذف الجار وإيصال الفعل إليه أي : بخير.
وقرأ حمزة والكسائيّ يطوّع بالياء على التذكير وتشديد الطاء والواو وسكون العين وأصله يتطوّع فأدغم مثل يطوف ، والباقون بالتاء على الحضور وتخفيف الطاء وفتح العين {فإنّ الله شاكر} لعمله بالإثابة عليه {عليم} بنيته.
تنبيه : الشكر من الله أن يعطى العبد فوق ما يستحقه فإنه يشكر اليسير ويعطي الكثير.
ونزل في علماء اليهود :
{إن الذين يكتمون} الناس كأحبار اليهود {ما أنزلنا من البينات} كآية الرحم ونعت محمد صلى الله عليه وسلم {والهدى} أي : ما يهدي إلى وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم والإيمان به {من بعدما بيناه} أوضحناه {للناس في الكتاب} أي : التوراة أي : لم ندع فيه موضع إشكال ولا اشتباه على أحد منهم ، فعمدوا إلى ذلك المبين الواضح ، فكتموه ولبسوا على الناس {أولئك يلعنهم الله} وأصل اللعن الطرد والبعد {ويلعنهم اللاعنون} أي : يسألون الله أن يلعنهم ويقولون : اللهمّ الَعنهم.
تنبيهان : أحدهما : اختلف في هؤلاء اللاعنين ، فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هم جميع الخلائق إلا الجنّ والإنس ، وقال عطاء : هم الجنّ والإنس ، وقال الحسن : هم جميع عباد الله ، وقال مجاهد : البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا أمسك المطر وتقول : هذا من شؤم ذنوب بني آدم.
ثانيهما : هذه الآية توجب إظهار علوم الدين منصوصة ومستنبطة وتدل على امتناع أخذ الأجرة على ذلك. وقد روى الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : إنكم تقولون أَكثر أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأيم الله لولا آية في كتاب الله ما حدّثت أحداً بشيء أبداً وتلا : {إنّ الذين يكتمون} الآية".
جزء : 1 رقم الصفحة : 120
123
{إلا الذين تابوا} أي : رجعوا عن الكتمان وسائر ما يجب أن يتاب منه {وأصلحوا} ما أفسدوا من أحوالهم وتداركوا ما فرط منهم {وبينوا} ما بيّنه الله تعالى في كتابهم فكتموه {فأولئك أتوب عليهم} أتجاوز عنهم وأقبل توبتهم {وأنا التوّاب} أي : الرجّاع لقلوب عبادي المنصرفة عني إليّ {الرحيم} بهم بعد إقبالهم عليّ.
{إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفار} أي : من لم يتب من الكاتمين حتى مات {أولئك عليهم لعنة الله و} لعنة {الملائكة و} لعنة {الناس أجمعين} لعنهم الله أحياء ، ثم لعنهم أمواتاً ، وقال أبو العالية : هذا يوم القيامة يوقف الكافر فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة ثم تلعنه الناس.
فإن قيل : قد قال الله تعالى : {والناس أجمعين} وفي الناس المسلم والكافر وأهل دينه لا يلعنونه ؟
أجيب بأجوبة :
منها : أنّ المراد منهم من يعتد بلعنه وهم المؤمنون ، قاله ابن مسعود : وعلى هذا فيكون من العام الذي أريد به الخاص.
ومنها : أنهم يلعنونه في القيامة قال تعالى : {يلعن بعضكم بعضاً} (العنكبوت ، 25) وقال : {كلما دخلت أمّة لعنت أختها} (الأعراف ، 38) .
ومنها : أنّ اللعنة من الأكثر يطلق عليها لعنة جميع الناس تغليباً لحكم الأكثر على الأقلّ.
ومنها : أنهم يلعنون الظالمين والكافرين ، ومن لعن الظالمين أوالكافرين وهم منهم ، فقد لعن نفسه ، ومعنى لعنة الله لهم تبرّؤه منهم وطردهم وتبعيدهم عن الرحمة والثواب أو دعاؤه عليهم بذلك.
{خالدين فيها} أي : اللعنة أو النار المدلول بها عليها {لا يخفف عنهم العذاب} طرفة عين {ولا هم ينظرون} من الانظار أي : لا يمهلون ولا يؤجلون أو لا ينظرون ليتعذروا كقوله تعالى : {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} (المرسلات ، 36) أو لا ينظر إليهم نظر رحمة.
ولما قال كفار قريش : يا محمد صف لنا ربك وانسبه لنا.
نزل {وإلهكم إله واحد} وسورة الإخلاص ، والواحد هو الذي لا نظير له ولا شريك وقوله تعالى : {لا إله إلا هو} تقرير للوحدانية ودفع ؛ لأن يتوهم أنّ في الوجود إلهاً ولكن لا يستحق منهم العبادة وقوله تعالى : {الرحمن الرحيم} كالدليل على الوحدانية ، فإنه لما كان مولى النعم كلها أصولها بقوله : الرحمن ، فإنه مولى جلائل النعم وفروعها بقوله : الرحيم ، فإنه مولى لطائف النعم ودقائقها وما سواه تعالى. إما نعمة أو منعم عليه ، فلم يستحق العبادة أحد غيره وهما خبران آخران لقوله : إلهكم أو لمبتدأ محذوف. وعن أسماء بنت يزيد أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إنّ في هاتين الآيتين اسم الله الأعظم وإلهكم إله واحد" إلخ.. {وا لا إله إلا هو الحيّ القيوم}.
124
ولما سمع المشركون هذه الآية وكان لهم حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً تعجبوا وقالوا : إن كنت صادقاً فائت بآية نعرف بها صدقك.(1/95)
جزء : 1 رقم الصفحة : 123
{إن في خلق السموات والأرض} إلى آخر الآية.
فإن قيل : لم جمع السموات وأفرد الأرض ؟
أجاب البيضاويّ : بأنّ السموات طبقات متفاصلة بالذات مختلفة بالحقيقة بخلاف الأرضين اه. وهذا إنما يأتي على قول بعض الحكماء أنّ المراد بالأرضين الأقاليم ، والأولى ما أجاب به البغوي من أنّ كلاً منها جنس آخر ، والأرضون كلها من جنس واحد وهو التراب أي : فهي طبقات كالسموات ، والآية في السموات سمكها وارتفاعها من غير عمد ولا علاقة ، وما يرى فيها من الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك والآية في الأرض مدّها أو بسطها وسعتها وما يرى فيها من الأشجار والأنهار والجبال والبحار والجواهر والنبات وغير ذلك.
{واختلاف الليل والنهار} أي : تعاقبهما في المجيء والذهاب يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر خلفه أي : بعده قال تعالى : {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} (الفرقان ، 63) قال عطاء : أراد اختلافهما في النور والظلمة ، والزيادة والنقصان ، والليل : جمع ليل ، والليالي : جمع الجمع ، والنهار : جمع نهر. وقدّم الليل على النهار في الذكر ؛ لأنه أقدم قال تعالى : {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} (يس ، 37) {والفلك} أي : السفن {التي تجري في البحر بما ينفع الناس} من التجارة والحمل ، والآية فيها تسخيرها وجريانها على وجه الماء وهي موقورة لا ترسب تحت الماء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 125
تنبيه : أنث الفلك ؛ لأنه بمعنى السفينة ؛ لأنّ واحد السفن وجمعه سواء إذ لو كانت بمعنى المركب لذكرها مع أنها في اللغة تذكر وتؤنث ، قال تعالى : {إذ أبق إلى الفلك المشحون} (الصافات ، 140) وضمة الجمع غير ضمة الواحدة تقديراً ؛ إذ هي في الجمع كالضمة في حمر ، وفي الواحد كالضمة في قفل ، قال البيضاوي : والقصد به أي : الفلك إلى الاستدلال بالبحر وأحواله وتخصيص الفلك بالذكر ؛ لأنه سبب الخوض فيه أي : البحر والإطلاع على عجائبه ، ولذلك قدّمت على ذكر المطر والسحاب ؛ لأنّ منشأهما البحر في غالب الأمر اه. فجعل الآية في البحر لا في السفن ، والأولى جعل الآية فيها وقوله ؛ لأنّ منشأهما البحر هو قول الحكماء والإشارة على خلافه وهو الذي دلت عليه الأخبار. قال شيخنا القاضي زكريا : وحاصله : أنّ السحاب من شجرة مثمرة في الجنة ، والمطر من بحر تحت العرش {وما أنزل الله من السماء من ماء} أي : مطر.
تنبيه : من الأولى للابتداء ، والثانية للبيان ، قال البغويّ : قيل : أراد بالسماء السحاب يخلق الله الماء في السحاب ، ثم من السحاب ينزل. وقيل : أراد بالسماء المعروفة يخلق الله الماء في السماء ، ثم ينزل من السماء إلى السحاب ؛ ثم من السحاب ينزل إلى الأرض اه. وفيه ما مرّ {فأحيا به الأرض} بالنبات {بعد موتها} أي : يبسها وجدوبتها {وبث} أي : فرّق ونشر بالماء {فيها} في الأرض {من كلّ دابة}.
فإن قيل : هل بث عطف على أنزل أو أحيا ؟
أجيب : بأنه عطف على أنزل داخل تحت حكم الصلة ؛ لأن قوله : فأحيا به الأرض عطف على أنزل ، فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد ،
125
فكأنه قيل : وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة ، ويجوز عطفه على أحيا على معنى ، فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة ؛ لأن الدواب ينمون بالخصب ويعيشون بالحيا أي : المطر {وتصريف الرياح} إلى قبول ودبور ، وجنوب وشمال ، فالقبول : الصبا وهي التي تهب من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار ، والدبور : تقابلها ، والشمال : التي تهب من جانب القطب ، والجنوب : تقابلها. قال ابن عباس : أعظم جنود الله الريح والماء ، وسميت الريح ريحاً ؛ لأنها تريح النفوس. قال شريح القاضي : ما هبت ريح إلا لشفاء سقيم أو لسقم صحيح.
فائدة : البشارة في ثلاث : من الرياح في الصبا ، والشمال والجنوب. أمّا الدبور فهي الريح العقيم لا بشارة فيها ، وقيل الرياح ثمانية : أربعة للرحمة وهي : المبشرات والناشرات والذاريات والمرسلات ، وأربعة : للعذاب وهي العقيم والصرصر في البر ، والعاصف والقاصف في البحر. وقرأ حمزة والكسائيّ : الريح بالتوحيد ، والباقون بالجمع.
جزء : 1 رقم الصفحة : 125(1/96)
فائدة أخرى : كل ريح في القرآن ليس فيها ألف ولام اتفق القرّاء على توحيدها ، وما فيها ألف ولام كما هنا ، اختلفوا في جمعها وتوحيدها إلا الحرف الأوّل في سورة الروم الرياح مبشرات اتفقوا على جمعها ، والريح تذكر وتؤنث {والسحاب} أي : الغيم {المسخر} أي : المذلل بأمر الله يسير حيث شاء الله {بين السماء والأرض} بلا علاقة لا ينزل ولا يرتفع مع أنّ الطبع يقتضي أحدهما حتى يأتي أمر الله. وقيل : تسخير السحاب تقليبه في الجوّ بمشيئة الله واشتقاقه من السحب ؛ لأنّ بعضه يجر بعضاً {لآيات} أي : دلالات واضحات على وحدانية الله تعالى {لقوم يعقلون} أي : ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون ؛ لأنها دلائل على عظيم القدرة وباهر الحكمة. وقول البيضاويّ : وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم "ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها". أي : لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها. قال الوليّ العراقيّ : لم أقف عليه. وقال السيوطي : لم يرد في هذه الآية ولا بهذا اللفظ ، ثم قال عن عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : "أنزل عليّ الليلة {إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب}" ثم قال : "ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها". قيل : للأوزاعيّ ما غاية التفكر فيهنّ ؟
قال : يقرأهنّ وهو يعقلهنّ انتهى ولا ينافي هذا أنه ورد أيضاً في هذه ومن حفظ حجة على من لم يحفظ قال البيضاويّ : وفي الآية تنبيه على شرف علم الكلام وأهله وحث على البحث والنظر فيه انتهى.
ولا ينافي هذا قول الشافعي رضي الله تعالى عنه ؛ لأن يلقى العبد ربه بكل ذنب ما عدا الشرك خير له من أن يلقاه بعلم الكلام ؛ لأنه محمول على التوغل فيه ، فيصير فلسفياً.
{ومن الناس} وهم المشركون {من يتخذ من دون الله} أي : غيره {أنداداً} أي : أصناماً يعبدونها {يحبونهم} بالتعظيم والخضوع {كحبّ الله} أي : كحبهم له كما قال الزجاج : يحبون الأصنام كما يحبون الله ؛ لأنهم أشركوها مع الله ، فسووا بين الله وبين أصنامهم في المحبة أو يحبون آلهتهم كحب المؤمنين الله {والذين آمنوا أشدّ حباً } أي : أثبت وأدوم على حبه ؛ لأنهم لا
126
يختارون على الله ما سواه ، والمشركون محبتهم لأغراض فاسدة موهومة تزول بأدنى سبب ، ولذلك كانوا إذا اتخذوا صنماً أحسن منه طرحوا الأوّل واختاروا الثاني ، وربما يأكلونه كما أكلت باهلة إلهها من حيس عند المجاعة ، ويُعرضون عن معبودهم في وقت البلاء ، ويقبلون على الله كما أخبر الله تعالى عنهم فقال : {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} (العنكبوت ، 65) والمؤمن لا يعرض عن الله تعالى في السرّاء والضرّاء ، والشدّة والرخاء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 125
وقيل : إنما قال الله تعالى : {والذين آمنوا أشدّ حباً } لأنّ الله أحبهم أولاً ثم أحبوه ، ومن شهد له المعبود بالمحبة كانت محبته أتمّ قال الله تعالى : {يحبهم ويحبونه} (المائدة ، 54) فمحبة العبد لله طاعته والإعتناء بتحصيل مراضيه ، ومحبة الله للعبد إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة وصونه عن المعاصي {ولو يرى الذين ظلموا} أي : باتخاذ الأنداد {إذ يرون} أي : يبصرون {العذاب} يوم القيامة وإذ بمعنى إذا أو أجري المستقبل وهو يرى مجرى الماضي لأنّ إذ موضوعة للماضي ؛ والمعنى هنا على الاستقبال لتحققه كقوله تعالى : {ونادى أصحاب الجنة} (الأعراف ، 44) {أنّ} أي : بأنّ {القوّة} أي : القدرة والغلبة {} وقوله تعالى : {جميعاً} حال {وأنّ الله شديد العذاب} وجواب لو محذوف ، والتقدير لو يعلمون أنّ القدرة لله جميعاً ؛ إذ عاينوا العذاب لندموا أشدّ الندم ، والفاعل ضمير السامع أو الذين ظلموا ، ويرى بمعنى يعلم ، وأنّ وما بعدها سدّت مسدّ المفعولين.
وقرأ نافع وحده بالتاء على الخطاب أي : ولو ترى يا محمد ذلك لرأيت أمراً عظيماً ، وأمال السوسي الألف المنقلبة بعد الراء في الوصل بخلاف عنه ، وغلظ ورش اللام بعد الظاء ، وقرأ ابن عامر يرون بضم الياء ، والباقون بفتحها.
{إذ} بدل من إذ قبله {تبرأ الذين اتبعوا} وهم الرؤساء {من الذين اتبعوا} وهم الأتباع أي : ينكر الرؤساء إضلال الأتباع يوم القيامة حين يجمع الله القادة والأتباع {و} قد {رأوا العذاب} أي : رائين له فالواو للحال ، وقد مضمرة كما قدرتها وقيل : عطف على تبرأ ، وقوله تعالى : {وتقطعت} عطف على تبرأ ، وقوله تعالى : {بهم} بمعنى عنهم {الأسباب} أي : الوصل التي كانت بينهم في الدنيا من القرابات والصدقات وصارت مخالفتهم عداوة.(1/97)
{وقال الذين اتبعوا} أي : الأتباع {لو أنّ لنا كرّة} أي : رجعة إلى الدنيا {فنتبرأ منهم} أي : الرؤساء {كما تبرّأوا منا} اليوم ، ولو للتمني ولذلك أجيب بالفاء {كذلك} أي : مثل ذلك الإراء الفظيع {يريهم الله أعمالهم} أي : السيئة وقوله تعالى : {حسرات} أن تنقلب ندمات {عليهم} ثالث مفاعيل يرى إن كان من رؤية القلب والافحال ، وقوله تعالى : {وما هم بخارجين من النار} أصله وما يخرجون ؛ لأنّ المناسب أن تعطف جملة فعلية على جملة فعلية ، لكن عدل به إلى هذه العبارة للمبالغة في الخلود والإقناط عن الخلاص والرجوع إلى الدنيا.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 125
127
{يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً} فقال البيضاويّ : نزلت في قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس أي : لا على وجه التورّع كما تفعله الصوفية ، وما قاله قول مرجوح كما قاله شيخنا القاضي زكريا والمشهور أنها نزلت فيهم آية المائدة وهي {يأيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحلّ الله لكم} (المائدة ، 87) وأمّا هذه الآية ، فإنها نزلت في الكفار الذين حرموا البحائر والسوائب والوصائل ونحوها ومن ثم عبر هنا بيأيها الناس وثم بيأيها الذين آمنوا.
تنبيه : حلالاً مفعول كلوا أو حال وقوله تعالى : {طيباً} إمّا صفة مؤكدة وإما طاهراً من كلّ شبهة وهو ما يستطيبه الشرع. قال "الكشاف" : ومن للتبعيض ؛ لأن كلّ ما في الأرض ليس بمأكول هذا إن جعلنا حلالاً حالاً ، فإن جعلنا مفعولاً فمن للابتداء كما قاله السعد التفتازاني ؛ لأن من التبعيضية في موضع المفعول أي : كلوا بعض ما في الأرض {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} أي : طرقه كما قاله الزجاج أو المحقرات من الذنوب كما قاله أبو عبيدة فتدخلوا في حرام أو شبهة أو تحريم حلال أو تحليل حرام. وقرأ ابن عامر وقتيل وحفص والكسائي بضمّ الطاء والباقون بالسكون {إنه لكم عدوّ مبين} أي : بيّن العداوة أو مظهر العداوة عند ذوي البصيرة ، وإن كان يظهر الموالاة لمن يغويه ، وقد أظهر عداوته بامتناعه من السجود لآدم ، ثم بيّن سبحانه وتعالى عداوته بأنه لا يأمر بخير قط بقوله :
{إنما يأمركم بالسوء} أي : القبيح شرعاً {والفحشاء} أي : ما تجاوز الحدّ في القبح من العظائم. وعن ابن عباس أنّ السوء من الذنوب ما لا حدّ فيه ، والفحشاء من المعاصي ما يجب به حدّ. وقال السُديّ : الفحشاء هي الزنا وقيل : البخل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 127
قال البيضاوي : واستعير الأمر لتزيينه ونعته لهم تسفيهاً لرأيهم وتحقيراً لشأنهم انتهى.
قال شيخنا القاضي زكريا : ولا حاجة إلى صرف الأمر عن ظاهره ؛ لأنّ حقيقته طلب الفعل ولا ريب أنّ الشيطان يطلب السوء والفحشاء ممن يريد إغواءه {و} يأمركم أيضاً {أن تقولوا على الله ما لا تعلمون} كتحليل المحرّمات وتحريم الطيبات واتخاذ الأنداد. وقوله تعالى :
{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله} من التوحيد وتحليل الطيبات متصل بما قبله وهو نازل في مشركي العرب وكفار قريش والضمير في لهم عائد على الناس المذكورين في قوله تعالى : {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً} عدل عن الخطاب عنهم للنداء على ضلالتهم كأنه التفت إلى العقلاء وقال لهم : انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يجيبون وقيل : مستأنف والهاء والميم في لهم كناية عن غير مذكور.
روي عن ابن عباس أنه قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام فقال رافع بن خارجة ومالك بن عوف : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فأنزل الله تعالى هذه الآية {قالوا} لا نتبعه {بل نتبع
128
ما ألفينا} أي : وجدنا وأدركنا أو علمنا ، وألفى تتعدّى إلى مفعولين وهما قوله {عليه آباءنا} من عبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب ، فإنهم كانوا خيراً وأعلم منا قال الله تعالى : {أولو كان} أي : أيتبعونهم ولو كان {آباؤهم لا يعقلون شيئاً} أي : من أمر الدين لا شيئاً مطلقاً ، فإنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا ، فلفظه عام ومعناه الخصوص {ولا يهتدون} أي : الحق والهمزة للإنكار والواو للحال أو العطف وجواب لو محذوف أي : لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم.
{ومثل} أي : صفة {الذين كفروا} ومن يدعوهم إلى الهدى {كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء} أي : صوتاً ولا يفهم معناه والنعيق التصويت يقال : نعق المؤذن ونعق الراعي بالضأن قال الأخطل :
*فانعق بضأنك يا جرير فإنما ** منتك نفسك في الخلاء ضلالا*(1/98)
وأمّا تعق الغراب فبالغين المعجمة والمعنى أنهم في سماع الموعظة وعدم تدبرها كالبهائم تسمع صوت راعيها ولا تفهم. وقيل : معنى الآية مثل الذين كفروا في دعاء الأصنام التي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بالغنم ولا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه في عناء من الدعاء والنداء ، كذلك الكافر ليس له من دعاء الآلهة إلا العناء والدعاء كما قال تعالى : {وإن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم} (فاطر ، 14) ثم وصف سبحانه وتعالى الكفار بصفات ذم فقال : {صمّ} أي : هم صم عن سماع الحق ، تقول العرب لمن يسمع ولا يعقل ما يقال له إنه أصم {بكم} عن الخير لا يقولونه {عمي} عن الهدى لا يبصرونه {فهم لا يعقلون} الموعظة لإضلال نظرهم {يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات} أي : حلالات {ما رزقناكم}.
جزء : 1 رقم الصفحة : 127
روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يا أيها الناس إنّ الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : {يأيها الرسل كلوا من الطيبات} (المؤمنون ، 51) وقال : {يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}" ثم ذكر الرجل يطيل السفر يمدّ يديه إلى السماء يا رب يا رب أشعث أغبر مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنّى يستجاب لذلك ؟
". ولما وسع الله تعالى الأمر على الناس كافة ، وأباح لهم ما في الأرض سوى ما حرّم عليهم ، أمر المؤمنين منهم أن يتحرّوا طيبات ما رزقوا ويقوموا بحقوقها فقال : {واشكروا } على ما رزقكم وأحل لكم {إن كنتم إياه تعبدون} أي : إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرّون أنه مولى النعم ، فإن عبادته لا تتم إلا بالشكر فالمعلق بفعل العبادة هو الأمر بالشكر لإتمامه وهو يعدم عند عدمه. روى البيهقيّ وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله تعالى : إني والجنّ والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري". ثم بيّن سبحانه وتعالى المحرّمات بقوله :
{إنما حرّم عليكم الميتة} أي : أكلها إذ الكلام فيه
129
وكذا ما بعدها وهي التي ماتت من غير ذكاة شرعية وألحق بها بالسنة ما أبين من حيّ وخص منها السمك والجراد والحرمة المضافة إلى العين تفيد عرفاً حرمة التصرّف فيها مطلقاً إلا ما خصه الدليل كالتصرّف في المدبوغ {والدم} أي : المسفوح كما قال تعالى في سورة الأنعام : {أو دماً مسفوحاً}. روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال" وهو في حكم المرفوع بل رفعه ابن ماجه وغيره لكن بسند ضعيف {ولحم الخنزير} أي : جميع أجزائه وعبر عن ذلك باللحم ؛ لأنه معظم المقصود منه وغيره تبع له {وما أهلّ به لغير الله} أي : ذبح على اسم غيره ، والإهلال : رفع الصوت وكانوا يرفعونه عند الذبح لآلهتهم {فمن اضطرّ} أي : ألجأته الضرورة إلى أكل شيء مما ذكر فأكله.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 129
غير باغ} أي : خارج على المسلمين وقيل : مجاوز للمقدار الذي أحلّ له {ولا عاد} أي : متعدٍ على المسلمين بقطع الطريق وقيل : لا يقصر فيما أبيح له فيدعه ، وقال سهل بن عبد الله : غير باغ مفارق للجماعة ، ولا عاد مبتدع مخالف للسنة فلم يرخص للمبتدع في تناول المحرّم عند الضرورة. وقال مسروق : من اضطرّ إلى الميتة والدم ولحم الخنزير ، فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار. واختلف العلماء في قدر ما يحل للمضطرّ أكله من الميتة على قولين : أحدهما أن يأكل مقدار ما يمسك رمقه وهو قول ابن أبي حنيفة ، والراجح عند الشافعيّ والقول الآخر يجوز أن يأكل حتى يشبع وبه قال مالك : {فلا إثم} أي : لا حرج {عليه} في أكل ما ذكر وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر نون ، فمن اضطرّ في الوصل والباقون يضمها.
فائدة : قال البغويّ {غير} نصب على الحال وقيل على الاستثناء وإذا رأيت غير تصلح في موضعها لا فهي حال ، وإذا صلح في موضعها إلا فهي استثناء {إنّ الله غفور} لمن أكل في حال الاضطرار {رحيم} حيث رخص للعباد في ذلك.
فإن قيل : إنما تفيد قصر الحكم على ما ذكر وكم من محرّم لم يذكر أجيب : بأنّ المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحله الكفار لا مطلقاً وقصر ما ذكر على حال الاختيار كأنه قيل : إنما حرّم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطرّوا إليها.
تنبيه : ألحق بالباغي والعادي كل عاص بسفره كالآبق والمكاس فلا يحلّ لهم أكل شيء من ذلك ما لم يتوبوا وعليه الشافعيّ.
ونزل في علماء اليهود ورؤسائهم الذين كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والمآكل وكانوا يرجون أن يكون النبيّ المنعوت منهم ، فلما بعث صلى الله عليه وسلم من غيرهم خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم فعمدوا إلى صفة محمد صلى الله عليه وسلم فغيروها ثم أخرجوها إليهم ، فإذا نظرت السفلة إلى النعت المغير وجدوه مخالفاً لصفة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يتبعونه.(1/99)
{إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب} المشتمل على نعت محمد صلى الله عليه وسلم {ويشترون به} أي : بالمكتوم {ثمناً} أي : عوضاً {قليلاً} أي : يسيراً أي : المآكل التي يصيبونها من سفلتهم {أولئك ما يأكلون في بطونهم} أي : ملء بطونهم يقال : أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه {إلا النار} أي : ما يؤدّيهم إلى النار وهو الرشوة وثمن الدين ، ولما كان يفضي بهم إلى النار ؛
130
لأنها عقوبة عليهم فكأنهم أكلوا النار ، وقيل : معناه أنه يصير ناراً في بطونهم {ولا يكلمهم الله يوم القيامة} أي : لا يكلمهم بالرحمة ربما يبشرهم إنما يكلمهم بالتوبيخ أو يكون عليهم غضبان كما يقال : فلان لا يكلم فلاناً إذا كان عليه غضبان لما ثبت بالنصوص أنه تعالى يسألهم والسؤال كلام ، فحمل نفي الكلام على الغضب فهو كناية ويجوز بقاء الكلام على ظاهره وتحتمل نصوص السؤال على أنه يقع بألسنة الملائكة {ولا يزكيهم} أي : ولا يطهرهم من دنس الذنوب {ولهم عذاب أليم} أي : مؤلم وهو النار.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 129
أولئك الذين اشتروا} أي : استبدلوا {الضلالة بالهدى} فأخذوها بدله في الدنيا {و} استبدلوا {العذاب بالمغفرة} أي : المعدّة لهم في الآخرة لو لم يكتموا الحق للمطامع والأغراض الدنيوية {فما أصبرهم على النار} أي : ما أشدّ صبرهم وهو تعجب للمؤمن من ارتكاب موجباتها من غير مبالاة وإلا فأيّ صبر لهم كما قال الحسن : والله ما لهم عليها من صبر ولكن ما أجرأهم على العمل الذي يقرّبهم إلى النار. وقال الكسائي : فما أصبرهم على عمل أهل النار أي : ما أدومهم عليه.
روي عن الكسائي أنه قال : قال لي قاضي اليمن بمكة : اختصم إليّ رجلان من العرب فحلف أحدهما على حق صاحبه فقال : ما أصبرك على عذاب الله تعالى.
{ذلك} أي : الذي ذكر من أكلهم النار وما بعده {بأنّ} أي : بسبب أنّ {الله نزل الكتاب} وقوله تعالى : {بالحق} متعلق بنزل فرفضوه بالتكذيب أو الكتمان وقوله تعالى : {وإنّ الذين اختلفوا في الكتاب} اللام فيه إما للجنس واختلافهم إيمانهم ببعض كتب الله تعالى وكفرهم ببعضها ، وإما للعهد وحينئذٍ الإشارة إما للتوراة واختلافهم حيث آمنوا ببعضها وكفروا ببعضها بكتمه ، وإما إلى القرآن واختلافهم فيه قولهم : سحر وتقوّل وكلام علمه بشر وأساطير الأوّلين {لفي شقاق} أي : خلاف {بعيد} عن الحق واختلف في المخاطب بقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 129
{ليس البرّ} أي : وهو كلّ فعل مرضي {أن تولّوا وجوهكم} أي : في الصلاة {قبل المشرق
131
والمغرب} على قولين : أحدهما أنهم المسلمون ، والثاني أهل الكتابين ، فعلى الأوّل معناه ليس البرّ كله في الصلاة ولكن البرّ ما في هذه الآية ، قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء. وعلى الثاني ليس البرّ صلاة اليهود إلى المغرب وصلاة النصارى إلى المشرق ، فإنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حوّلت وادّعى كل طائفة أنّ البرّ هو التوجه إلى قبلته ، فردّ الله تعالى عليهم وقال : ليس البر ما أنتم عليه فإنه منسوخ ، ولكن البر ما في هذه الآية قاله قتادة والربيع ومقاتل ، وقال قوم هو عام لهم وللمسلمين أي : ليس البرّ مقصوراً بأمر القبلة. وقرأ حفص وحمزة بنصب البر على أنه خبر مقدّم ، والباقون برفعه وقوله تعالى : {ولكنّ البر من آمن} على تأويل حذف المضاف أي : بر من آمن أو بتأويل البرّ بمعنى ذي البر أي : ولكن البرّ الذي ينبغي أن يهتمّ به بر من آمن أو لكن ذا البرّ من آمن {با واليوم الآخر والملائكة والكتاب} أي : الكتب إن أريد به الجنس وإلا فالقرآن {والنبيين} والتأويل الأوّل أولى ؛ لأن السابق في الآية إنما هو نفي كون البر ، تولية الوجه والذي يستدرك إنما هو من جنس ما ينفى. وقرأ نافع وابن عامر بكسر نون ولكن مخففة ورفع راء البر والباقون بنصب النون مشدّدة ونصب الراء والنبيين تقدّم أنّ نافعاً يقرؤه بالهمزة والباقون على البدل وورش على أصله من المدّ والتوسط والقصر.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 131(1/100)
وآتى المال على} أي : مع {حبه} له كما قال عليه الصلاة والسلام لما سئل أيّ الصدقة أفضل ؟
: "أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ـ أي الحياة ـ وتخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم". قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان وقيل : الضمير لله أي : على حب الله {ذوي القربى} أي : القرابة قال صلى الله عليه وسلم "الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة" {واليتامى} جمع يتيم وتقدّم تعريفه {والمساكين} جمع مسكين وهو من له مال أو كسب يقع موقعاً من كفايته ولا يكفيه بخلاف الفقير ، فإنه من لا مال له ولا كسب يقع موقعاً من كفايته وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى في سورة براءة {وابن السبيل} أي : المسافر يقال للمسافر : ابن السبيل لملازمته الطريق وقيل : هو الضيف ينزل بالرجل ، قال صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" {والسائلين} أي : الطالبين الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال ، قال صلى الله عليه وسلم "للسائل حق وإن جاء على ظهر فرسه" رواه الإمام أحمد. وفي رواية : "ردّوا السائل ولو بظلف محرق" {وفي الرقاب} أي : فكها معاونة المكاتبين وقيل : فرض الأسراء وقيل : ابتياع الرقاب لعتقها {وأقام الصلوة} المفروضة {وآتى الزكوة} المفروضة.
فإن قيل : قد ذكر إتيان المال في هذه الوجوه ثم ثنى بإتيان الزكاة ، فقد دل ذلك على أنّ في المال حقاً سوى
132
الزكاة أجيب : بأنّ المتقدّم في التطوّع ، وإن قال الشعبي : إنّ في المال حقاً سوى الزكاة وتلا هذه الآية ، ففي الحديث : "نسخت الزكاة كل صدقة". رواه الدارقطني والبيهقيّ أي : نسخت الزكاة وجوب كل صدقة. وروي ليس في المال حق سوى الزكاة {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} فيما بينهم وبين الله عز وجل وفيما بينهم وبين الناس إذا وعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا أو نذروا وفوا ، وإذا قالوا صدقوا وإذا ائتمنوا أدّوا.
تنبيه : الموفون عطف على من آمن وقيل : رفع على المبتدأ والخبر أي : وهم الموفون وقوله تعالى : {والصابرين في البأساء} أي : شدة الفقر {والضرّاء} أي : المرض {وحين البأس} أي : وقت شدّة القتال في سبيل الله تعالى نصب على المدح ولم يعطف لفضل الصبر على الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال.
وروي عن عليّ رضي الله تعالى عنه أنه قال : كنا إذا حمي البأس ـ أي : اشتدّ الحرب ـ ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكون أحد أقرب إلى العدوّ منه {أولئك} الموصوفون بما ذكر {الذين صدقوا} في الدين واتباع الحق وطلب البر {وأولئك هم المتقون} الله التاركون للكفر وسائر الرذائل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 131
قال البيضاويّ رحمه الله تعالى : والآية كما ترى جامعة للكمالات الإنسانية بأسرها دالة عليها صريحاً أو ضمناً ، فإنها بكثرتها وتشعبها منحصرة في ثلاثة أشياء : صحة الاعتقاد وحسن المعاشرة وتهذيب النفس ، وقد أشير إلى الأوّل بقوله تعالى : {من آمن} إلى {والنبيين} وإلى الثاني بقوله تعالى : {وآتى المال} إلى {وفي الرقاب} وإلى الثالث بقوله : {وأقام الصلاة} إلى آخرها ولذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظراً إلى إيمانه واعتقاده وبالتقوى اعتباراً بمعاشرته للخلق ومعاملته مع الحق وإليه أشار بقوله عليه الصلاة والسلام : "من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان".
ونزل في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل فكان بينهما قتلى وجراحات يأخذ بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام وكان لأحد الحيين طول على الآخر في الكثرة والشرف وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور ، فأقسموا لنقتلنّ بالعبد الحرّ منهم وبالمرأة منا الرجل منهم وبالرجل منا الرجلين منهم وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك ، فرفعوا أمرهم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم
{يأيها الذين آمنوا كتب} أي : فرض {عليكم القصاص} وهو المساواة والمماثلة {في القتلى} وصفاً وفعلاً {بالحرّ} يقتل {الحرّ} ولا يقتل بالعبد {و} يقتل {العبد بالعبد و} يقتل {الأنثى بالأنثى} وبينت السنة أنّ الذكر يقتل بالأنثى وأنّ المماثلة تعتبر في الدين فلا يقتل مسلم ولو عبداً بكافر وللأئمة في ذلك خلاف وأدلة مذكورة في الفقه وكلهم على هدى من ربهم {فمن عفي له} أي : من القاتلين {من} أي : دم {أخيه} المقتول {شيء} بأن ترك القصاص منه وتنكير شيء يفيد سقوط القصاص بالعفو عن بعضه ولو من بعض الورثة وفي ذكر أخيه تعطف على العفو
133
وإيذان بأنّ القتل لا يقطع أخوة الإيمان ومن مبتدأ شرطية أو موصولة والخبر {فاتباع} أي : فعلى العافي اتباع للقاتل {بالمعروف} بأن يطالبه بالدية لا عنف وترتيب الاتباع على العفو يفيد أنّ الواجب أحدهما وهو أحد قولي الشافعيّ ، والثاني وهو الأصح عنده الواجب القصاص عيناً ، والدية بدل عنه فلو عفا ولم يسمها فلا شيء.(1/101)
فإن قيل : إن عفا يتعدّى بعن لا باللام فما وجه قوله فمن عفي له أجيب : بأن عفا يتعدّى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال : عفوت عن فلان وعن ذنبه قال تعالى : عفا الله عنك وقال : عفا الله عنها ، فإذا تعدّى إلى الذنب والجاني معاً قيل : عفوت لفلان عما جنى كما تقول : غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه وعلى هذا ما في الآية كأنه قيل : فمن عفي له عن جنايته فاستغنى عن ذكر الجناية {وأداء} أي : وعلى القاتل أداء الدية {إليه} أي : العافي وهو الوارث {بإحسان} أي : بلا مطل ولا بخس {ذلك} الحكم المذكور في العفو والدية {تخفيف من ربكم ورحمة} لما فيه من التسهيل والنفع ؛ لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة وحرم العفو وأخذ الدية ، وعلى أهل الإنجيل العفو وحرم القصاص والدية ، وخيرت هذه الأمّة بين الثلاث : القصاص والدية والعفو توسعة عليهم وتيسيراً {فمن اعتدى} أي : ظلم القاتل بأن قتله {بعد ذلك} أي : العفو على الدية أو مجاناً {فله عذاب أليم} أي : مؤلم في الآخرة بالنار أو في الدنيا بالقتل أو أخذ الدية إن عفى عنها وقوله تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 131
ولكم في القصاص حياة} كلام في غاية الفصاحة والبلاغة حيث جعل الشيء محل ضدّه وعرف القصاص ونكر الحياة ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم نوعاً من الحياة عظيماً وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة. قال الزمخشريّ : وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل ، وكان يقتل بالمقتول غير قاتله ، فتثور الفتنة ويقع بينهم التشاجر ، فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أو نوع من الحياة وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لأنّ القاصد للقتل ؛ إذا علم أنه إن قتل يقتل يمتنع فيكون فيه بقاؤه وبقاء من يهتم بقتله وفي المثل : القتل أنفى للقتل وقيل في المثل : القتل قلل القتل وقيل : المراد بالحياة ، الحياة الأخروية ، فإنّ القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ به في الآخرة هذا بالنسبة للآدميّ وأمّا بالنسبة لله تعالى ، فإن تاب فكذلك وإلا فهو تحت المشيئة ، ثم نادى ذوي العقول الكاملة بقوله : {يا أولي الألباب} للتأمّل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس ، ثم بين سبحانه وتعالى مشروعية ذلك بقوله : {لعلكم تتقون} القتل مخافة القود أو تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به والإذعان له وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة.
{كتب} أي : فرض {عليكم إذا حضر أحدكم الموت} أي : حضرت أسبابه وظهرت أماراته {إن ترك خيراً} أي : مالاً نظيره قوله تعالى : {وما تنفقوا من خير} (البقرة ، 272) وقيل : مالاً كثيراً لما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ رجلاً أراد الوصية فسألته : كم مالك ؟
فقال : ثلاثة آلاف فقالت : كم عيالك ؟
قال : أربعة قالت : إنما قال الله تعالى إن ترك خيراً وإن هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك.
وعن عليّ رضي الله تعالى عنه أنّ مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة درهم فمنعه وقال : قال الله تعالى : {إن ترك خيراً} والخير هو المال الكثير وقوله تعالى : {الوصية} مرفوع بكتب وذكر فعلها للفاصل ولأنها بمعنى أن يوصي ولذلك ذكر الراجع في قوله : فمن بدّله بعدما سمعه والعامل
134
في إذا مدلول كتب لا الوصية لتقدّمه عليها وجواب أنّ أي : فليوص {للوالدين والأقربين بالمعروف} بالعدل فلا يفضل الغني ولا يتجاوز الثلث لما روي عن سعيد بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : "جاءني النبيّ صلى الله عليه وسلم يعودني فقلت : يا رسول الله أوصي بمالي كله قال : لا قلت : فالشطر قال : لا قلت : فالثلث قال : الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس بأيديهم" أي : يسألون الناس الصدقة بأكفهم ، وقوله تعالى : {حقاً} مصدر قال البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ وغيره مؤكد لمضمون الجملة قبله أي : حق ذلك حقاً وردّه أبو حيان بأنّ قوله تعالى على المتقين متعلق بحقاً أو صفة له وكل منهما يخرجه عن التأكيد ، أما الأوّل فلأن المصدر المؤكد لا يعمل إنما يعمل المصدر الذي ينحل إلى حرف مصدري ، والفعل أو المصدر الذي هو بدل من اللفظ بالفعل ، وأمّا الثاني فلأنّ حقاً مصدر مخصص بالصفة فلا يكون مؤكداً وقيل : حقاً نعت لمصدر كتب أو أوصى أي : كتباً أو إيصاء حقاً وقيل : حال من مصدر أحدهما معرّفاً وقيل : نصب على المفعولية أي : جعل الوصية حقاً {على المتقين} الله وهذا منسوخ بآية المواريث وبقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث" بناءً على الأصح من أن الكتاب ينسخ بالسنة وإن لم تتواتر وبذلك ظهر ما في قول بعضهم : إنّ الكتاب لا ينسخ بالسنة وإن الحديث من الآحاد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 131(1/102)
أي : غيره من الأوصياء والشهود {بعدما سمعه} أي : وصل إليه علمه وتحقق عنده {فإنما إثمه} أي : الإيصاء المبدل {على الذين يبدّلونه} والميت بريء منه ، وفي هذا إقامة الظاهر مقام المضمر {إنّ الله سميع} لما وصى به الموصي {عليم} بفعل الوصي فيجازيه عليه وفي هذا وعيد للمبدّل بغير حق.
{فمن خاف من موص} أي : توقع وعلم كقوله تعالى : {فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله} (البقرة ، 229) أي علمتم وقرأ حمزة بإمالة الألف بعد الخاء من خاف حيث جاء ، وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بفتح الواو من موص وتشديد الصاد ، والباقون بسكون الواو وتخفيف الصاد {جنفاً} أي ميلاً عن الحق بالخطأ في الوصية {أو إثماً} بأن تعمد الحيف في الوصية {فأصلح بينهم} بين الوصي والموصى لهم بإجرائهم على نهج الشرع {فلا إثم عليه} في هذا التبديل ؛ لأنه تبديل ؛ باطل إلى الحق بخلاف الأوّل {إن الله غفور رحيم} فيه وعد للمصلح وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم وكون الفعل من جنس ما يؤثم.
{يأيها الذين آمنوا كتب} أي : فرض {عليكم الصيام} هو لغة : الإمساك عما تنازع فيه النفس ومنه قوله تعالى : {فقولي إني نذرت للرحمن صوماً} (مريم ، 26) أي : صمتاً ؛ لأنه إمساك عن الكلام. وفي الشرع : الإمساك عن المفطرات مع النية فإنها معظم ما تشتهيه النفس {كما كتب على الذين من قبلكم} من الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم. قال عليّ رضي الله تعالى
135
عنه : أوّلهم آدم يعني أنّ الصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى الله أمّة من افتراضها عليهم لم يفرضها عليكم وحدكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 135
وفي قوله تعالى : {كتب عليكم} إلخ.. توكيد للحكم وترغيب على الفعل وتطييب على النفس وفي موضع التشبيه في كاف كما كتب قولان : أحدهما أنّ التشبيه في حكم الصوم وصفته لا في عدده. قال سعيد بن جبير : كتب عليهم إذا نام أحدهم قبل أن يطعم أنه لم يحل له أن يطعم إلى الليلة القابلة والنساء عليهم حرام ليلة الصيام وهو عليهم ثابت وقد أرخص لكم هذا ، فعلى هذا تكون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : {أحلّ لكم ليلة الصيام الرفث} (البقرة ، 187) الآية فإنها فرقت بين صوم أهل الكتاب وبين صوم المسلمين ، والثاني : إنه كصومهم في عدد الأيام لما روي أنّ رمضان كتب على أهل الإنجيل فأصابهم موتان ـ أي : وهو بضم الميم ـ موت يقع على الماشية فزادوا عشراً قبله وعشراً بعده ، فجعلوه خمسين وقيل : كان يقع في الحرّ الشديد وكان يشق عليهم في أسفارهم ويضرّهم في معايشهم فاجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السنة بين الشتاء والصيف فجعلوه في الربيع وقالوا : نزيد عشرين يوماً تكفر ما صنعنا. قال السديّ عن مشايخه ، وقيل : زادوا فيه عشرة أيام أولاً كفارة لما صنعوا ، فصار أربعين يوماً ثم أن ملكهم اشتكى فمه فجعل لله عليه إن هو شفي من وجعه أن يزيد في صومهم أسبوعاً ، فبرأ فزاد فيه أسبوعاً ثم مات ذلك الملك ووليهم ملك آخر فقال : أتموه خمسين يوماً وعلى هذا تكون الآية محكمة لا منسوخة.
{لعلكم تتقون} بصومكم للمعاصي ، فإن الصوم يكسر الشهوة التي هي مبدؤها كما قال عليه الصلاة والسلام : "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة ـ أي : مؤن النكاح ـ فليتزوّج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء أي : قاطع لشهوته أو لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين ؛ لأن الصوم شعارهم وقوله تعالى :
{أياماً} نصب بصوموا مقدّراً بينهما لدلالة الصيام عليه بالصيام لوقوع الفصل بينهما {معدودات} أي : قلائل كقوله تعالى : {دراهم معدودة} (يوسف ، 20) وأصله أنّ المال القليل يقدر بالعدد ويحكر فيه والكثير يهال هيلاً ويحثى حثياً أو مؤقتات بعدد معلوم وهي رمضان كما سيأتي وقلله تسهيلاً على المكلفين وقيل : هي عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر كتب على رسول الله صلى الله عليه وسلم صيامها حين هاجر ثم نسخت بشهر رمضان {فمن كان منكم مريضاً} مرضاً يضرّه الصوم ويعسر معه {أو على سفر} أي : مسافراً سفر قصر {فعدّة من أيام أخر} أي : فعليه صوم عدّة أيام المرض والسفر من أيام أخر إن أفطر ، فحذف الشرط وهو إن أفطر والمضاف وهو صوم والمضاف إليه وهو أيام المرض والسفر للعلم بها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 135
واختلفوا في المرض الذي يبيح الفطر ، والأصح فيه ما قدّرناه وذهب أهل الظاهر إلى أنّ ما ينطلق عليه اسم المرض يبيح الفطر وهو قول ابن سيرين : فقد دخل عليه في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع أصبعه وفي السفر الذي يباح فيه الفطر والأصح فيه أيضاً ما قدّرناه وهو مرحلتان.
136(1/103)
وقال الأوزاعي : أقله مرحلة ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : ثلاثة أيام {وعلى الذين يطيقونه} أي : إن أفطروا {فدية} هي {طعام مسكين} أي : قدر ما يأكله في يوم وهو مدّ على الأصح من غالب قوت بلده وقال بعضهم : نصف صاع من القمح أو صاع من غيره وقال بعضهم : ما كان المفطر يتقوّته يومه الذي أفطره وقال ابن عباس : يعطي كل مسكين عشاءه وسحوره.
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية وحكمها ، فذهب أكثرهم إلى أنها منسوخة وهو قول ابن عمر وسلمة بن الأكوع وغيرهما وذلك أنهم كانوا في صدر الإسلام مخيرين بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويفدوا وإنما خيرهم الله تعالى ؛ لأنهم كانوا لم يتعوّدوا الصيام ثم نسخ التخيير ونزلت العزيمة بقوله تعالى : {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} قال ابن عباس : إلا الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفاً على الولد ، فإنها باقية بلا نسخ في حقهما ، وذهب جماعة منهم إلى أن لفظة لا مقدّرة في الآية أي : وعلى الذين لا يطيقونه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فدية وهو قول سعيد بن جبير وجعل الآية محكمة ، وقرأ نافع وابن ذكوان بغير تنوين في فدية وخفض الميم من طعام والباقون بتنوين فدية ورفع الميم من طعام ، وقرأ نافع وابن عامر مساكين بفتح الميم والسين وألف بعد السين وفتح النون ، والباقون بكسر الميم وسكون السين ولا ألف بعدها وكسر النون منونة {فمن تطوّع خيراً} بالزيادة على القدر المذكور في الفدية {فهو} أي : التطوع {خير له} فيثيبكم الله عليه {وأن تصوموا} أي : أيها المطيقون مبتدأ خبره {خير لكم} أي : من الإفطار والفدية {إن كنتم تعلمون} أي : ما في الصوم من الفضيلة وبراءة الذمّة وجواب : إن كنتم محذوف دلّ عليه خير لكم أي : فالصوم خير لكم وقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 135
{شهر رمضان} مبتدأ خبره ما بعده أو بدل من الصيام في قوله : {كتب عليكم الصيام} بدل اشتمال أو بدل كل من كل إن قدر مضاف أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلكم شهر رمضان أو الشهر من الشهور ورمضان مصدر رمض إذا أحرق فأضيف إليه الشهر وجعل علماً ومنع من الصرف للعلمية والألف والنون.
فإن قيل : إذا كانت التسمية واقعة مع المضاف والمضاف إليه جميعاً فما وجه ما جاء في
137
الأحاديث من نحو قوله صلى الله عليه وسلم "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه" وقوله صلى الله عليه وسلم "بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له" أجيب : بأنّ ذلك على حذف المضاف لا من اللبس قال التفتازاني : وجاز الحذف من الاعلام وإن كان من قبيل حذف بعض الكلمة ؛ لأنهم أجروا مثل هذا العلم مجرى المضاف والمضاف إليه حيث أعربوا الجزأين وإنما سماه العرب بذلك إمّا لارتماضهم فيه من حر الجوع والعطش ، وإمّا لارتماض الذنوب فيه. وقيل : لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام رمضان الحر قال أئمة اللغة : كان أسماء الشهور في اللغة القديمة : مؤتمر ناجر خوان وبصان حنين ورنه الأصم وعل ناتق عادل هواع يراك فغيرت إلى محرّم صفر ربيع الأوّل ربيع الثاني جمادى الأول جمادى الثانية رجب شعبان رمضان شوّال ذي القعدة ذي الحجة على الترتيب وسمي المحرم لتحريم القتال فيه وصفر لخلو مكة عن أهلها إلى الحروب ، والربيعان لارتباع الناس فيهما أي : إقامتهم وجماديان لجمود الماء فيهما ورجب لترجيب العرب إياه أي : تعظيمهم له وشعبان لتشعب القبائل فيه ، ورمضان لرمض الفصال فيه ، وشوّال لشول أذناب اللواقح فيه ، وذو القعدة للقعود فيه عن الحرب ، وذو الحجة لحجهم فيه {الذي أنزل فيه القرآن} جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر ثم تنزل منجماً إلى الأرض وقيل : ابتدىء فيه إنزاله وكان ذلك ليلة القدر وقيل : أنزل في شأنه القرآن وهو قوله تعالى : {كتب عليكم الصيام} وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم "نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين" رواه الإمام أحمد وغيره.
جزء : 1 رقم الصفحة : 137
تنبيه : قال ابن عادل : يروى أنّ جبريل عليه السلام نزل على آدم اثنتي عشرة مرّة ، وعلى إدريس أربع مرّات ، وعلى إبراهيم اثنين وأربعين مرّة ، وعلى نوح خمسين مرّة ، وعلى موسى أربعمائة مرّة ، وعلى عيسى عشر مرّات ، وعلى محمد صلى الله عليه وسلم أربعة وعشرين ألف مرّة ، وقرأ ابن كثير القرآن بنقل حركة الهمزة إلى الراء وتصير الراء مفتوحة وألف بعدها في المعرف والمنكر حيث جاء وكذا يقرأ حمزة في الوقف وقوله تعالى : {هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} حالان من القرآن أي : أنزل وهو هداية للناس لإعجازه من الضلالة إلى الحق وهو آيات واضحات مما يهدي إلى الحق ويفرق بينه وبين الباطل مما فيه من الحكم والأحكام.(1/104)
فإن قيل : فما معنى قوله : وبينات من الهدى بعد قوله هدى للناس ؟
أجيب : بأنه تعالى ذكر أولاً أنه هدى ثم ذكر أنه بينات من جملة ما هدى به الله وفرق به الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال {فمن شهد} أي : حضر {منكم الشهر فليصمه} وقوله تعالى : {ومن كان مريضاً أو على سفر} أي : فأفطر {فعدّة من أيام أخر} تقدّم مثله وكرر لئلا يتوهم نسخه بتعميم من شهد {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} أي : يريد أن ييسر
138
عليكم ولا يعسر ولذلك أباح لكم الفطر في المرض والسفر. واختلفوا هل الفطر في السفر أفضل أو الصوم ؟
والأصح أنه إن شق عليه الصوم فالفطر أفضل وإلا فالصوم. وروي عن ابن عباس وأبي هريرة وعروة بن الزبير وعلي بن الحسين أنهم قالوا : لا يجوز الصوم في السفر ، ومن صام فعليه القضاء واحتجوا بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم "ليس من البرّ الصيام في السفر" وأجاب الأوّل عن الحديث بأنه محمول على من يشق عليه الصوم فقول جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه فقال : ما هذا ؟
قالوا : هذا صائم فقال صلى الله عليه وسلم "ليس من البرّ الصيام في السفر" والدليل على جواز الصوم في السفر قول أبي سعيد رضي الله تعالى عنه : "كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم". وقوله تعالى : {ولتكملوا العدّة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} أي : الله على نعمه ، علل لفعل محذوف دلّ عليه ما سبق أي : وشرع جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر ، وأمر المرخص له بالقضاء ، وبمراعاة عدّة ما أفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر ، فقوله تعالى : {ولتكملوا العدّة} علّة الأمر بمراعاة العدّة ، وقوله تعالى : {ولتكبروا} علّة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر ، وقوله تعالى : {ولعلكم تشكرون} علّة الترخيص من تعظيم الله تعالى بالحمد والثناء عليه ، ولذلك عدّ نوعاً من اللف والنشر لطيف المسلك. ومعنى التكبير تعظيم الله تعالى بالحمد والثناء عليه ، ولذلك عدّي بحرف الاستعلاء لكونه مضمناً معنى الحمد كأنه قيل : ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم ، وقيل : تكبير عيد الفطر وقيل : التكبير عند الإهلال ، وقرأ شعبة ولتكملوا بفتح الكاف وتشديد الميم والباقون بسكون الكاف وتخفيف الميم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 137
تنبيه : ورد في فضل شهر رمضان وثواب الصائمين أخبار منها ما رواه أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال : "إذا دخل رمضان صفدت الشياطين ومردة الجنّ وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب ، وفتحت أبواب الجنة ، فلم يغلق منها باب ، ونادى مناد : يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة" ومنها ما رواه أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه".
ومنها ما رواه سلمان قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان فقال : "أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم ، شهر فيه ليلة القدر خير من ألف شهر ، جعل الله صيامه فريضة ، وقيام ليله تطوّعاً ، من تقرّب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدّى فريضة فيما سواه ومن أدّى فيه فريضة كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه وهو شهر الصبر ، والصبر ثوابه الجنة ، وشهر المواساة ، وشهر يزداد فيه الرزق ؛ من فطر فيه صائماً كان له مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار ، وكان له مثل أجره
139
من غير أن ينقص من أجره شيء ، قالوا : يا رسول الله ليس كلنا نجد ما يفطر الصائم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائماً على مذْقَة لبن أو تمرة أو شربة من ماء ، ومن سقى صائماً سقاه الله عز وجل من حوضِي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة ، وهو شهر أوّله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار ، فاستكثروا فيه من أربع خصال : خصلتين ترضون بهما ربكم وخصلتين لا غنى لكم عنهما فأمّا الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم : فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه ، وأمّا اللتان لا غنى لكم عنهما : فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار".
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى : "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم ؛ فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ، للصائم فرحتان : فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، الصوم جنة".(1/105)
وعن سهل بن سعد أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "في الجنة ثمانية أبواب ، منها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون" وعن ابن عمر أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الصيام والقرآن يشفعان للعبد ، يقول الصائم : رب إني منعت الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ، ويقول القرآن رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان".
جزء : 1 رقم الصفحة : 137
وسأل جماعة النبيّ صلى الله عليه وسلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزل
{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} أي : فقل لهم إني قريب وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم ، ونحوه قوله تعالى : {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} (ق ، 16) وقوله تعالى : {أجيب دعوة الداع إذا دعان} أي : بإنالته ما سأل تقرير للقرب ، ووعد للداعي بالإجابة ، وقرأ ورش وأبو عمرو بإثبات الياء فيهما وصلاً لا وقفاً ، واختلف عن قالون فيهما والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً.
فإن قيل : ما وجه قوله تعالى : {أجيب دعوة الداع} وقوله : {ادعوني أستجب لكم} () وقد يدعى كثيراً فلا يجيب ؟
أجيب : بأنهم اختلفوا في معنى الآيتين فقيل : معنى الدعاء هنا الطاعة ، ومعنى الإجابة الثواب ، وقيل : معنى الآيتين خاص وأن لفظهما عام ، تقديره : أجيب دعوة الداع إن شئت كما قال تعالى : {فيكشف ما تدعون إليه إن شاء} (الأنعام ، 41) أو أجيب دعوة الداع إن وافق القضاء ، أو أجيبه إن كانت الإجابة خيراً له ، أو أجيبه إن لم يسأل محالاً.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يستجيب الله لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل" قالوا : وما الاستعجال يا رسول الله ؟
قال : يقول قد دعوتك يا رب فلا أراك تستجيب لي فيتحسر عند ذلك فيدع ، أي : يترك الدعاء" وقيل : هو عام ، ومعنى
140
قوله أجيب أي : أسمع ويقال : ليس في الآية أكثر من إجابة الدعوة ، فأما إعطاء الأمنية فليس بمذكور فيها ، وقد يجيب السيد عبده ، أو الوالد ولده ثم لا يعطيه سؤله ، فالإجابة لا محالة عند حصول الدعوة ، وقيل : معنى الآية : أنه لا يخيب دعاءه ، فإن قدر له ما سأل أعطاه ، وإن لم يقدر له ادخر الثواب له في الآخرة ، أو كف عنه به سوءاً لقوله صلى الله عليه وسلم "ما على الأرض رجل مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها ، أو كف عنه من السوء بمثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم". وقيل : إنّ الله يجيب دعوة المؤمن في الوقت ويؤخر إعطاء مراده ليدعوه فيسمع صوته ، ويعجل إعطاء من لا يحبه لأنه يبغض صوته. وقيل : إنّ للدعاء آداباً وشرائط ، وهي أسباب الإجابة ، فمن استكملها كان من أهل الإجابة ، ومن أخلّ بها فهو من أهل الاعتداء في الدعاء فلا يستحق الجواب. {فليستجيبوا لي} إذا دعوتهم للإيمان والطاعة ، كما أجيبهم إذا دعوني بمهماتهم ، وقوله تعالى : {وليؤمنوا بي} أمر بالثبات والمداومة على الإيمان {لعلهم} أي : لكي {يرشدون} والرشد إصابة الحق.
جزء : 1 رقم الصفحة : 137
أي : الليلة التي تصبحون منها صائمين {الرفث إلى نسائكم} الرفث : كناية عن الجماع ؛ لأنه لا يكاد يخلو عن رفث وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه ، كلفظ الوطء والجماع ، فإنه يجب أن يكنى عنه بلازم من لوازمه كالرفث وعُدّي بإلى لتَضَمُّنه معنى الإفضاء ، وكني عن الجماع هنا بلفظ الرفث الدال على معنى القبح بخلاف قوله : {وقد أفضى بعضكم إلى بعض} () استهجاناً لما وجد منهم قبل الإباحة ، ولذلك سماه فيما يأتي خيانة قال : ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنّ الله تعالى حيّ كريم يكني كل ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدخول ، فالرفث إنما عني به الجماع ، وقال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجال من النساء ، قال أهل التفسير : كان في ابتداء الأمر إذا أفطر الرجل حلّ له الطعام والشراب والنساء إلى أوان العشاء الآخرة ، أو يرقد قبلها فإذا صلى العشاء أو رقد قبلها حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى الليلة القابلة ، ثم إنّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه واقع أهله بعدما صلى العشاء ، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة ، إني رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء فوجدت رائحة طيبة فسوّلت لي نفسي ، فجامعت أهلي فهل تجد لي من رخصة ؟
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم "ما كنت جديراً بذلك يا عمر" فقام رجال فاعترفوا بمثله فنزل في عمر وأصحابه هذه الآية ، وفي تجويز المباشرة في جميع الليل دليل على جواز تأخير الغسل إلى الفجر وصحة صوم الصبح جنباً.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 141(1/106)
هن لباس} أي : سكن {لكم وأنتم لباس} أي : سكن {لهنّ} كما قال تعالى : {وجعل منها زوجها ليسكنإليها} (الأعراف ، 189) وكما قيل : لا يسكن شيء إلى شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر ، وقيل : سمي كل واحد من الزوجين لباساً ؛ لتجرّدهما عند النوم وتعانقهما واجتماعهما في ثوب واحد حتى يصير كل واحد من الزوجين لصاحبه كالثوب الذي يلبسه. قال الجعدي :
141
*إذا ما الضجيع ثنى عطفها ** تثنت فكانت عليه لباسا*
والضجيع : المضاجع ، وما زائدة ، وثنى عطفها : أمال شقها ، وتثنت مالت ، والشاهد في قوله : فكانت عليه لباساً وقيل : إنّ كلاً منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور ، كما جاء في الخبر : "من تزوّج فقد أحرز ثلثي دينه.
{علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} أي : تظلمونها بتعريضها للعقاب ، وتنقيص حظها من الثواب بالمجامعة بعد العشاء كما وقع ذلك لعمر وغيره ، وقال البراء : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم ، فأنزل الله هذه الآية.
{فتاب عليكم} أي : قبل توبتكم {وعفا عنكم} أي : محا ذنوبكم ، ولم يمل أحد ألف عفا لأنه واوي {فالآن} أي إذا نسخ عنكم التحريم {باشروهن} أي : جامعوهنّ حلالاً ، وسمى المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة كل واحد منهما بصاحبه {وابتغوا} أي : واطلبوا {ما كتب الله لكم} أي : ما قسم لكم ، وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة أي : لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل ، أو قصد العفة ، وقال مجاهد : ابتغوا الولد فإن لم تلد هذه فهذه ، وقال مقاتل : وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم بإباحة الأكل والشرب والجماع. في اللوح المحفوظ ، وقيل : وابتغوا المحل الذي كتب الله لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم وقيل : هو نهي عن العزل لأنه في الحرائر.
فقوله تعالى : {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} أي : الصادق ، نزل في رجل من الأنصار ، قال عكرمة : اسمه أبو قيس ، وذلك أنه ظل نهاره يعمل في أرض وهو صائم فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر ، فقال لامرأته : قدّمي الطعام وأرادت المرأة أن تطعمه شيئاً ، سخناً فأخذت تعمل له في شيء وكان في ابتداء الإسلام من صلى العشاء أو نام قبلها حرم عليه الطعام والشراب ، فلما فرغت من طعامه إذ هو قد نام وكان قد أعيا وكلّ ، فأيقظته فكره أن يعصي الله ورسوله ، وأبى أن يأكل ، فأصبح صائماً مجهوداً فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه ، فلما أفاق أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال : "يا أبا قيس مالك أمسيت طليحاً ، فذكر له حاله فاغتم لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية".
جزء : 1 رقم الصفحة : 141
وقد شبّه سبحانه وتعالى أوّل ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق ، وما يمتدّ معه من غبش الليل بخيطين أبيض وأسود ، واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله : من الفجر عن بيان الخيط الأسود ؛ لدلالته عليه ويصح أن تكون من للتبعيض ، فإنما يبدو بعض الفجر ، وعلى كل منهما فهي مع مدخولها في محل الحال ، والمعنى على التبعيض حال كون الخيط الأبيض بعضاً من الفجر وعلى البيان حال كونه هو الفجر.
فإن قيل : كيف التبس على عدي بن حاتم مع هذا البيان حتى قال : عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أقوم من الليل فلا يتبين لي الأسود من الأبيض ، فلما أصبحت غدوت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك وقال : "إن كان وسادك إذاً لعريضاً" وروي : "إنك
142
لعريض القفا إنما ذاك بياض النهار من الليل" أجيب : بأنه غفل عن البيان ولذلك عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قفاه ؛ لأنه مما يستدل به على بلادة الرجل وقلة فطنته ، وقال سهل بن سعد الساعدي نزلت ولم ينزل من الفجر ، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له ، فأنزل الله تعالى بعد ذلك من الفجر.
فإن قيل : كيف جاز فعل ذلك في رمضان مع تأخير البيان وهو يشبه العبث ، حيث لا يفهم منه المراد ؟
أجيب : بأنّ ذلك كان قبل دخول رمضان ، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز ، واكتفى أوّلاً باشتهارهما في ذلك ، ثم صرح بالبيان لمَّا التبس على بعضهم. {ثم أتموا الصيام} من الفجر {إلى الليل} أي : إلى دخوله بغروب الشمس ، كما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" أي : دخل وقت إفطاره.
جزء : 1 رقم الصفحة : 141(1/107)
تنبيه : إنما قدّرت في الآية الكريمة من الفجر ليدل على عدم جواز النية في النهار في صوم رمضان كما هو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ؛ ولأنّ إلى يكون المغيا بها ينقضي شيئاً فشيئاً ، والإتمام فعل الجزء الأخير فقط ، وهو ينقضي كذلك ، وفي الآية دليل على نفي الوصال ؛ لأنه تعالى جعل الليل غاية الصوم وغاية الشيء منتهاه ، وما بعدها يخالف ما قبلها. {ولا تباشروهنّ} أي : نساءكم {وأنتم عاكفون} أي : مقيمون {في المساجد} بنية الاعتكاف ، والمراد بالمباشرة الوطء ، والآية نزلت في نفر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، كانوا يعتكفون في المسجد ، فإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها فجامعها ، ثم اغتسل ثم يرجع إلى المسجد ، فنهوا عن ذلك ليلاً ونهاراً حتى يفرغوا من اعتكافهم ، وفيه دليل على أنّ الاعتكاف لا يختص بمسجد دون مسجد ، وأن يكون في المسجد لا في غيره ؛ إذ ذكر المساجد لا جائز أن يكون لجعلها شرطاً في منع مباشرة المعتكف لمنعه منها ، وإن كان خارج المسجد ويمنع غيره أيضاً منها فيها ، فتعين كونها شرطاً لصحة الاعتكاف ، وأنّ الوطء محرّم في الاعتكاف ويفسده ؛ لأنّ النهي في العادات يوجب الفساد ، أما ما دون الجماع من المباشرات فإن كان بشهوة فحرام ، ولا يبطل اعتكافه إن لم ينزل ، فإن أنزل وكان بلا حائل فكالجماع وإلا فلا ، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف أدنى إليّ رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" {تلك} الأحكام المذكورة وهي قوله تعالى : {الآن باشروهنّ} إلى قوله تعالى {في المساجد} {حدود الله} حدها لعذابه ليقفوا عندها {فلا تقربوها} نهى تعالى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل ؛ لئلا يداني الباطل فضلاً أن يتخطى عنه ، وهذا أبلغ من قوله تعالى في آية أخرى {فلا تعتدوها} (البقرة ، 229) ، لكن في ذلك مأمورات وهي لا ينهى عن قربانها ، فالمراد منها أضدادها بناء على أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه أو مستلزم له ؛ ليصح النهي عن قربانها ،
143
ويجوز أن يراد بحدود الله محارمه ونواهيه. وعلى هذا فالنهي عن القربان ظاهر كما قال عليه الصلاة والسلام : "إنّ لكل ملك حمى ، وإن حمى الله في أرضه محارمه ، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه" رواه الشيخان {كذلك} أي : كما بيّن لكم ما ذكر {يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون} أي : لكي يتقوا مخالفة الأوامر والنواهي فينجوا من العذاب.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 141
ولا تأكلوا أموالكم بينكم} أي : لا يأكل بعضهم مال بعض {بالباطل} أي : الحرام شرعاً كالغصب والسرقة وقوله تعالى : {وتدلوا} مجزوم داخل في حكم النهي ، أو منصوب بإضمار ، أن والإدلاء الإلقاء أي : ولا تلقوا {بها} أي : بحكومتها وبالأموال رشوة {إلى الحكام لتأكلوا} بالتحاكم {فريقاً} أي : طائفة {من أموال الناس بالإثم} أي : بما يوجب إثماً كشهادة الزور واليمين الكاذبة أو متلبس بالإثم ، فالباء إمّا للسببية فتكون متعلقة بتأكلوا ، أو للمصاحبة فتتعلق بمحذوف ، وتكون مع مدخولها حالاً من فاعل تأكلوا {وأنتم تعلمون} أنكم مبطلون فإن ارتكاب المعصية مع العلم أقبح.
روي "أن عبدان الحضرمي ادّعى على امرىء القيس الكندي قطعة أرض ولم يكن له بينة فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحلف امرؤ القيس فهمّ بالحلف فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً} (آل عمران ، 77) فارتدع عن اليمين ، وسلّم الأرض لعبدان" فنزلت ، وهو دليل على أنّ حكم القاضي لا ينفذ في باطن الأمر وفيه خلاف ظاهر ، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لخصمين اختصما إليه : "إنما أنا بشر وأنتم تختصمون لديّ ، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته ـ أي : أقوم وأقدر ـ عليها من بعض فأقضي له على ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من أخيه فإنما أقطع له قطعة من نار" قبكيا وقال كل واحد منهما : حقي لصاحبي ، فقال : "اذهبا وتواخيا ثم استهما ثم ليحل كل واحد منكما صاحبه" و"سأل معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بال الهلال يبدو دقيقاً كالخيط ثم يزيد حتى يمتلىء نوراً ويستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود دقيقاً كما بدا ولا يكون على حالة واحدة كالشمس ؟
فنزل :
{يسئلونك} يا محمد {عن الأهلة} جمع هلال مثل رداء وأردية ، والهلال اسم له : أوّل الليلة الأولى والثانية والثالثة ، وبعدها يسمى قمراً ، وهنا سماه بأوّل حالاته لأنّ الناس يرفعون أصواتهم بالذكر عند رؤيته من قولهم : استهل الصبيّ إذا صرخ حين يولد {قل} لهم {هي مواقيت} جمع ميقات أي : معالم {للناس} يعلمون بها أوقات زرعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصيامهم وإفطارهم وعدد نسائهم وأيام حيضهنّ ومدّة حملهنّ وغير ذلك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 141(1/108)
وقوله تعالى : {والحج} عطف على الناس أي : يعلمون بها وقته أداء وقضاء ، هذه هي الحكمة الظاهرة في ذلك ، ولهذا خالف بين الأهلة وبين الشمس فلو استمرّت الأهلة على حالة لم
144
يعرف حال ما ذكر ، ولما كان الناس في الجاهلية وفي أوّل الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة لم يدخل حائطاً ولا بيتاً ولا داراً من بابه فإن كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته ويدخل منه ويخرج ، أو يتخذ سلماً فيه فيصعد منه ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ، ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى يحل من إحرامه ويرون ذلك براً ، إلا أن يكون من الحمس وهم : قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وبنو عامر بن صعصعة ، وبنو نضر بن معاوية ، سموا حمساً لشدّتهم في دينهم ، والحماسة : الشدّة والصلاة ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بيتاً لبعض الأنصار فدخل رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن تابوت على أثره من الباب وهو محرم فأنكروا عليه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "لم دخلت من الباب وأنت محرم ؟
" قال : رأيتك دخلت فدخلت على أثرك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإني أحمس" فقال الرجل : فإن كنت أحمس فإني أحمس رضيت بهداك وبسمتك ودينك فأنزل الله تعالى {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البر} أي : ذا البر {من اتقى} الله ، بترك مخالفته ، ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنهم سألوا عن الحكمة في اختلال حال القمر وعن حكم دخولهم بيوتهم من غير أبوابها أو أنه تعالى لما ذكر أنها مواقيت الحج ، وهذا أيضاً من أفعالهم في الحج ذكره للاستطراد ، وأنهم لما سألوا عما لا يعنيهم ولا يتعلق بعلم النبوّة وتركوا السؤال عما يعنيهم وهو معرفة الحلال والحرام ، ويختص بعلم النبوّة ، عقب بذكره جواب ما سألوه تنبيهاً على أنّ اللائق بهم أن يسألوا عن أمثال ذلك ، ويهتموا بالعلم بها ، أو على أنّ المراد به التنبيه على تعكيسهم السؤال وتمثيلهم بحال من ترك باب البيت ، ودخل من ورائه ، والمعنى وليس البرّ أن تعكسوا في مسائلكم ولكن من اتقى ذلك ولم يجسر على مثله.
{وائتوا البيوت من أبوابها} في الإحرام كغيره ؛ إذ ليس في العدول برأ ، وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها والمراد توطين النفوس وربط القلوب على أنّ جميع أفعال الله تعالى حكم وصواب من غير اختلاج شبهة ، ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه كما في السؤال من الاتهام بمقارنة الشك لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 141
واتقوا الله} في تغيير الأحكام {لعلكم تفلحون} لكي تفوزوا بالهدى والبرّ ، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص البيُوت بضمّ الباء حيث جاء معرفاً كان أو منكراً ، وكسرها الباقون ، ولا خلاف في وليس البرّ هنا ، أنّ الراء مرفوعة للجميع ، وقرأ نافع وابن عامر : ولكن بكسر النون مخففة ورفع الراء ، والباقون بفتح النون مشدّدة ونصب الراء ، ولما صدّ المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت عام الحديبية ، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه للعمرة ، وكانوا ألفاً وأربعمائة فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون من البيت الحرام ، وصالحوه على أن يرجع من قابل ، فيخلوا له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ، فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء وخاف المسلمون أن لا يوفوا لهم ويقاتلوهم في الحرم ، والإحرام والشهر الحرام ، وكره المسلمون ذلك نزل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 141
145
{وقاتلوا} أي : جاهدوا {في سبيل الله} لإعلاء كلمته وإعزاز دينه {الذين يقاتلونكم} من الكفار {ولا تعتدوا} عليهم بالابتداء بالقتال {إنّ الله لا يحب المعتدين} أي : لا يريد بهم الخير ؛ لأنه غاية المحبة إذ المحبة حقيقتها محال في حقه تعالى ؛ لأنها ميل النفس ، وسبب ذلك أنهم كانوا منعوا من قتال الكفار وأمروا بالصبر على أذاهم بقوله تعالى : {لتبلون في أموالكم} (آل عمران ، 186) الآية ، ثم أمروا به إذا ابتدؤوا به بهذه الآية ، ثم أبيح لهم ابتداؤه في غير الأشهر الحرم بقوله تعالى : {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} (التوبة ، 5) الآية ، ثم أمروا به مطلقاً من غير تقييد بشرط ولا زمان بقوله تعالى : {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} أي : وجدتموهم في حل أو حرم ، وقرأ أبو عمرو بإدغام الثاء في الثاء بخلاف عنه ، حيث جاء {وأخرجوهم من حيث أخرجوكم} أي : من مكة وقد فعل ذلك بمن لم يسلم عام الفتح {والفتنة} أي : الشرك منهم {أشدّ} أي : أعظم {من القتل} لهم في الحرم أو الإحرام الذي استعظمتموه ، أو المحنة التي يفتتن بها الإنسان : كالإخراج من الوطن أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها. قيل لبعض الحكماء : ما أشدّ من الموت ؟
قال : الذي يتمنى فيه الموت. وقال القائل :
*لقتلٌ بحد السيف أهون موقعاً ** على النفس من قتل بحدّ فراق(1/109)
وقيل : الفتنة عذاب الآخرة كما قال تعالى : {ذوقوا فتنتكم} (الذاريات ، 14) .
{ولا تقاتلوهم} أي : لا تبدؤوهم {عند المسجد الحرام} أي : في الحرم {حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم} فيه {فاقتلوهم} فيه فإنهم هم الذين هتكوا حرمته ، وقرأ حمزة والكسائي : ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم بفتح التاء الفوقية من تقتلوهم والياء من يقتلوكم وسكون القاف ولا ألف بعد القاف وضم التاء فيهما ، والباقون بفتح التاء والياء وفتح القاف وبعد القاف ألف وكسر التاء ، وأمّا فإن قاتلوكم فحذف حمزة والكسائي الألف وأثبتها الباقون ، والمعنى على قراءة حمزة والكسائي : حتى يقتلوا بعضكم ، جعل وقوع القتل في بعضهم كوقوعه فيهم كقول بعض العرب : قتلنا بني أسد أي : بعضهم ، وقال بعضهم : وإن تقتلونا نقتلكم.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 145
كذلك} أي : القتل والإخراج {جزاء الكافرين} أي : يفعل بهم مثل ما فعلوا {فإن انتهوا} عن الكفر وأسلموا {فإنّ الله غفور} يغفر لهم ما قد سلف {رحيم} بهم فلا يؤاخذ بذلك.
{وقاتلوهم حتى لا تكون} أي : توجد {فتنة} أي : شرك {ويكون الدين} أي : العبادة {} وحده لا يعبدون سواه {فإن انتهوا} عن الشرك فلا تعتدوا عليهم. دل على هذا {فلا
146
عدوان} أي : اعتداء بقتل أو غيره {إلا على الظالمين} أي : فلا تعتدوا على المنتهين ؛ إذ لا يحسن أن يظلم إلا من ظلم والفاء الأولى للتعظيم والثانية للجزاء وسمي جزاء ، الظالمين عدواناً للمشاكلة كقوله تعالى : {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه}.
{الشهر الحرام} أي : المحرم مقابل {بالشهر الحرام} وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج معتمراً في ذي القعدة سنة ست ، وصدّه المشركون عن البيت بالحديبية ، ورجع في العام القابل في ذي القعدة وقضى عمرته سنة سبع واستعظم المسلمون قتالهم في الشهر الحرام نزلت هذه الآية ، أي : هذا الشهر بذلك وهتكه بهتكه فلا تبالوا به.
وقوله تعالى : {والحرمات قصاص} احتجاج عليه أي : كل حرمة وهو ما يجب أن يحافظ عليها يجري فيها القصاص ، وإنما جمعها لأنه أراد حرمة الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام ، أي : فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله ، وادخلوا عليه عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم ، أي : كما قال تعالى : {فمن اعتدى عليكم} بالقتال في الحرم أو الإحرام أو الشهر الحرام {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} سمي الجزاء باسم الاعتداء على ازدواج الكلام كقوله تعالى : {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى ، 40) .
{واتقوا الله} في الانتصار لأنفسكم منهم ، ولا تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم {واعلموا أنّ الله مع المتقين} بالعون والنصر فيحرسهم ويصلح شأنهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 145
{وأنفقوا في سبيل الله} أي : طاعته سواء الجهاد وغيره {ولا تلقوا بأيديكم} أي : بأنفسكم ، عبر بالأيدي عن الأنفس كقوله تعالى : {بما كسبت أيديكم} (الشورى ، 30) أي : بما كسبتم والباء زائدة {إلى التهلكة} أي : الهلاك بالإمساك عن النفقة في الجهاد أو الإسراف فيها ، حتى يفقر نفسه ويضيع عياله ، أو عن ترك الزور الذي هو تقوية للعدوّ.
روي أنّ رجلاً من المهاجرين حمل على صف العدوّ فصاح به الناس : ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب الأنصاري : نحن أعلم بهذه الآية ، وإنما نزلت فينا ، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصرناه ، وشهدنا معه المشاهد ، وآثرناه على أهلنا وأولادنا وأموالنا ، فلما فشا الإسلام وكثر أهله ووضعت الحرب أوزارها رجعنا إلى أهلينا وأولادنا وأموالنا نصلحها ونقيم فيها ، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد ، فما زال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى كان آخر غزوة غزاها بقسطنطينية في زمن معاوية ، فتوفي هناك ودفن في أصل سورها وهم يستسقون به.
وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق" وقال محمد بن سيرين وعبيدة السلماني : الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله ، تعالى قال أبو قلابة : هو الرجل يصيب الذنب فيقول : قد هلكت ليست لي توبة فييأس من رحمة الله وينهمك في المعاصي ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك كما قال تعالى : {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} (يوسف ، 87) {وأحسنوا} أي : بالنفقة وغيرها {إنّ الله يحب المحسنين} أي : يثيبهم.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
وأتموا الحج والعمرة } أي : أدوهما بحقوقهما. وفي الآية حينئذٍ دليل على وجوبهما ،
147(1/110)
إذ الأصل في الأمر الوجوب وما روي عن جابر أنه قال : "يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج فقال : لا" معارض بما روي أن رجلاً قال لعمر رضي الله تعالى عنه : إني وجدت أي : علمت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعاً ، فقال : هديت لسنة نبيك ، ولا يقال إنه فسر وجدانهما مكتوبين بقوله : أهللت بهما ؛ لأنه رتب الإهلال بهما على الوجدان ، وذلك يدل على أنه سبب الإهلال دون العكس وقيل : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، روي ذلك عن عليّ وابن عباس رضي الله تعالى عنهم وقيل : إن تفرد لكل واحد منهما سفراً ، وقيل : أن تكون النفقة حلالاً وقيل : أن تخلصهما للعبادة ولا تشوبهما بشيء من التجارة والأغراض الدنيوية.
{فإن أحصرتم} أي : منعتم عن إتمامهما يقال : حصره وأحصره العدوّ إذا منعه قال تعالى {الذين أحصروا في سبيل الله} (البقرة ، 273) وقال القائل :
*وما هجر ليلى أن تكون تباعدت ** عليك ولا إن أحصرتك شغول*
لكن الأشهر : أن يقال في العدوّ وحصره وفي المرض أحصره ، والمراد هنا حصر العدوّ لقوله تعالى : {فإذا أمنتم} ولنزول الآية في الحديبية ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا حصر إلا حصر العدوّ ، أما ما روي عنه عليه الصلاة والسلام من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل" فمحمول على من شرطه ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : لضباعة بنت الزبير : "حجي واشترطي وقولي : اللهم محلي حيث حبستني" ومحِلي بكسر الحاء : محل الحبس والحصر ويجوز أن يكون مصدر اسمياً.
{فما استيسر من الهدي} أي : فإن أردتم التحلل فعليكم ما استيسر أو فالواجب ، أو فأهدوا ما استيسر من الهدي ، وهو بدنة أو بقرة أو سبع من أحدهما أو شاة يذبحها ، حيث أحصر في حل أو حرم عند الأكثر ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل وقيل : لا بدّ أن يبعث بها إلى الحرم لقوله تعالى : {ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله} (البقرة ، 196) أي : لا تحلقوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ محله أي : مكانه الذي يجب أن يذبح فيه ، وحمل الأوّلون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل ذبحه فيه حلاً كان أو حرماً ، لكن يندب إرساله إلى الحرم خروجاً من خلاف أبي حنيفة واقتصاره تعالى على الهدي دليل عدم القضاء كما قاله الشافعيّ ، وذهب أبو حنيفة إلى وجوب القضاء ، ولا بدّ من نيّة التحلل عند الذبح أو الحلق أو التقصير بعده مع نية التحلل ، وبذلك يحصل التحلل والمحل بالكسر يطلق للمكان والزمان.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
فمن كان منكم مريضاً} أي : مرضاً يحوجه إلى الحلق {أو به أذى من رأسه} كقمل وصداع فحلق في الإحرام {ففدية} أي : فعليه فدية إن حلق ولو بعض شعر رأسه ، ثلاث شعرات
148
فأكثر ولاء {من صيام} وهو ثلاثة أيام {أو صدقة} وهي ثلاثة آصع من غالب قوت البلد على ستة مساكين ، لكل واحد نصف صاع {أو نسك} وهو بدنة أو بقرة أو سبع واحد منهما أو شاة ، وعن كعب بن عجرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : "لعلك آذاك هوامّ رأسك قال : نعم يا رسول الله قال : احلق وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة" وكان كعب يقول : أنزلت فيّ هذه الآية ، وللتخيير وألحق بالمعذور من حلق لغير عذر ؛ لأنه أولى بالكفارة ، وكذا من استمتع بغير الحلق كالطيب والدهن واللبس لعذر أو غيره.
{فإذا أمنتم} من العدوّ بأن ذهب أو كنتم في حال سعة وأمن {فمن تمتع بالعمرة} أي : بسبب فراغه منها بمحظورات الإحرام {إلى الحج} أي : الإحرام به ، بأن يكون أحرم بها في أشهره {فما استيسر} أي : فعليه ما تيسر {من الهدي} وهو ما تقدّم بذبحه بعد الإحرام بالحج ويجوز تقديمه على الإحرام به بعد الفراغ من العمرة {فمن لم يجد} أي : الهدي لفقده أو فقد ثمنه {فصيام} أي : فعليه صيام {ثلاثة أيام في الحج} أي : في حال إحرامه به ، ولا يجوز له أن يقدّمه على الإحرام ؛ لأنه عبادة بدنية فلا يجوز تقديمه على وقته ولا تأخيره عنه ، والأفضل أن يحرم قبل السادس لكراهة صوم عرفة ، ولا يجب عليه أن يحرم قبل زمن يسع الصوم بل يستحب له لكن إذا أحرم وجب عليه الصوم ، ولا يجوز أن يصوم يوم النحر ولا أيام التشريق على أصح قولي الشافعيّ وهو ما عليه الأكثر.(1/111)
{وسبعة} من الأيام {إذا رجعتم} إلى وطنكم مكة أو غيرها ، وقيل : إذا فرغتم من أعمال الحج وفيه النفقات عن الغيبة ، وفائدة قوله تعالى : {تلك عشرة} أن لا يتوهم أنّ الواو بمعنى أو كقولك جالس الحسن وابن سيرين ، ألا ترى أنه لو جالسهما جميعاً أو واحداً منهما كان ممتثلاً ، وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً ؛ ليحاط به من جهتين ، فيتأكد العلم ، فإن أكثر العرب لم يحسنوا الحساب. وفي أمثال العرب : علمان خير من علم ، وأنّ المراد بالسبعة العدد دون الكثرة فإنه يطلق لهما ، وقوله تعالى : {كاملة} صفة مؤكدة تفيد المبالغة في محافظة العدد بأن لا يتهاون بها ، ولا ينقص من عددها كما تقول للرجل ـ إذا كان لك اهتمام بأمر تأمره به وكان منك بمنزلة ـ الله الله لا تقصر. أو مبينة كمال العشرة فإنه أوّل عدد كامل إذ به تنتهي الآحاد وتتم مراتبها وقيل : كاملة في وقوعها بدلاً من الهدي ، بحيث لا يقصر ثواب الصوم عن ثواب الهدي.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
ذلك} أي : الحكم المذكور من وجوب الهدي أو الصيام على من تمتع {لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} وهم من مساكنهم دون مرحلتين من الحرم لقربهم منه والقريب من الشيء يقال : إنه حاضره قال تعالى : {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر} (الأعراف ، 163) أي : قريبة منه ، وفي ذكر الأهل إشعار باشتراط الاستيطان فلو أقام قبل أشهر الحج ولم يستوطن وتمتع فعليه ذلك ، وهو أصح قولي الشافعيّ والثاني لا ، والأهل كناية عن النفس وألحق بالمتمتع فيما ذكر بالسنة القارن : وهو من يحرم بالعمرة والحج معاً أو يدخل الحج عليها قبل الطواف.
{واتقوا} بالمحافظة على أوامره ونواهيه وخصوصاً في الحج {واعلموا أنّ الله شديد العقاب} لمن خالفه ليكون عملكم بشديد عقابه لطفاً لكم في التقوى.
149
{الحج أشهر} أي : وقته كقولك البرد شهران {معلومات} وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر عندنا ، والعشر كله عند أبي حنيفة وذو الحجة كله عند مالك ، وعلى الأوّلين إنما سمي شهرين وبعض شهر أشهراً إقامة للبعض مقام الكلّ ، وإطلاقاً للجمع على ما فوق الواحد كما في قوله تعالى : {فقد صغت قلوبكما} (التحريم ، 4) لحفصة وعائشة.
{فمن فرض} على نفسه {فيهنّ الحج} بالإحرام به عندنا أو بالتلبية أو بسوق الهدي عند أبي حنيفة ، وفيه دليل على أنّ من أحرم بالحج في غير أشهر الحج لا ينعقد إحرامه بالحج ، وهو قول ابن عباس وجماعة من الصحابة ، وإليه ذهب الأوزاعي والشافعيّ ، وقال : ينعقد إحرامه عمرة ؛ لأنّ الله تعالى خص هذه الأشهر بفرض الحج فيها ، فلو انعقد في غيرها لم يكن لهذا التخصيص فائدة ، كما أنه تعالى علق الصلاة بالمواقيت ، ثم من أحرم بفرض الصلاة قبل دخول وقته لم ينعقد إحرامه عن الفرض ، وإنما انعقد عمرة لأنّ الإحرام شديد التعلق ، وذهب جماعة إلى أنه ينعقد إحرامه بالحج وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة ، أما العمرة فجميع السنة وقت لها إلا أن يكون عليه بقية من أعمال الحج كالرمي.
{فلا رفث} أي : جماع فيه كما قال ابن عباس وجماعة من الصحابة ، وقيل : الرفث غشيان النساء والقبلة والغمز وأن يعرض لها بالفحش من الكلام ، وقيل : هو الفحش والقول القبيح.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 147(1/112)
ولا فسوق} أي : ولا خروج عن حدود الشرع بالسيئات وارتكاب المحظورات وقيل : هو السباب والتنابز بالألقاب {ولا جدال} أي : خصام مع الخدم والرفقة وغيرهما {في الحج} أي : في أيامه ، فنفى الثلاث على قصد النهي للمبالغة وللدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون وما كان منها مستقبحاً في نفسه ، ففي الحج أقبح كلبس الحرير في الصلاة ، والتطريب بقراءة القرآن ، وهو مدّ الصوت وتحسينه بحيث يخرج الحروف عن هيأتها ، فإنه يقبح في كل كلام لكنه في قراءة القرآن أقبح ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع الثاء من رفث والقاف من فسوق ، والتنوين فيهما على معنى لا يكون رفث ولا فسوق والباقون بنصبهما ولا خلاف في {ولا جدال} فالجميع بالنصب ولا تنوين على معنى الإخبار ، كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج ، وذلك أنّ قريشاً كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة وكانوا يقدّمون الحج سنة ويؤخرونه سنة وهو النسيء ، فرد إلى وقت واحد ورد الوقوف إلى عرفة ، فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج ، واستدل على أنّ المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى الله عليه وسلم "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه" فإنه لم يذكر الجدال {وما تفعلوا من خير} كصدقة {يعلمه الله} فيه حث على الخير حيث عقب به النهي عن الشر وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن ، ومكان الفسوق : البر والتقوى ، ومكان الجدال : الوفاق والأخلاق الجميلة {وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى} أي : وتزوّدوا امعادكم التقوى فإنها خير زاد ، روى البخاري وغيره أنّ أهل اليمن كانوا يخرجون إلى الحج بغير زاد ويقولون : نحن متوكلون ، ونحن نحج بيت الله تعالى أفلا يطعمنا فيكونون كلاً على الناس فيسألونهم ، وربما يفضي الحال بهم إلى النهب والغصب ، فقال الله
150
جل ذكره : {وتزوّدوا} أي : ما تتبلغون به وتكفون به وجوهكم ، قال أهل التفسير : الكعك والزيت والسويق والتمر ونحوها ، {فإن خير الزاد التقوى} أي : ما يتقي به سؤال الناس وغيره.
{واتقون يا أولي الألباب} أي : يا ذوي العقول فإن قضية اللب خشية الله تعالى وتقواه وحثهم على التقوى ، ثم أمرهم بأن يكون المقصود بها هو الله تعالى فيتبرأ من كل شيء سواه ، وهو مقتضى العقل العريّ عن شوائب الهوى فلذلك خص أولي الألباب بهذا الخطاب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
{ليس عليكم جناح} في {أن تبتغوا} أي : تطلبوا {فضلاً} أي : رزقاً {من ربكم} بالتجارة ، في الحج نزلت ردعاً لناس من العرب كانوا يتأثمون أن يتجروا أيام الحج ، وإذا دخل العشر كفّوا عن البيع والشراء ، فلم تقم لهم سوق ، ويسمون من يخرج بالتجارة : الداج ويقولون : هؤلاء الداج وليسوا بالحاج.
وروى البخاري : أنه كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية ، يتجرون فيها في أيام الموسم ، وكانت معايشهم منها ، فلما جاء الإسلام تأثموا فرفع عنهم الجناح في ذلك وأبيح لهم.
وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قيل له : هل كنتم تكرهون التجارة في الحج ؟
فقال : وهل كانت معايشنا إلا من التجارة في الحج. وعكاظ سوق لقيس ومجنة وهي بفتح الميم أشهر من كسرها وبفتح الجيم وتشديد النون سوق لكنانة بمرّ الظهران وذو المجاز وهو بفتح الميم وبالزاي سوق لهذيل.
{فإذا أفضتم} دفعتم {من عرفات} وأصله أفضتم أنفسكم ، فحذف المفعول كما حذفوه من دفعوا من موضع كذا ، أي : دفعوا أنفسهم ، واختلفوا في المعنى الذي لأجله سمي الموقف عرفات واليوم عرفة ، فقال عطاء : كان جبريل عليه السلام يري إبراهيم عليه الصلاة والسلام المناسك ويقول : عرفت فيقول : عرفت فسمي المكان لذلك عرفات واليوم عرفة. وقال الضحاك : كان آدم عليه الصلاة والسلام لما أهبط وقع في الهند وحوّاء بجدة فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة فتعارفا فسمي المكان واليوم بما ذكر. وقال السدي : لما أذن إبراهيم في الناس بالحج وأجابوا بالتلبية وأتاه من أتاه أمره الله تعالى أن يخرج إلى عرفات ونعتها له ، فلما بلغ الجمرة الأولى استقبله الشيطان يرده فرماه بسبع حصيات يكبّر مع كل حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية فرماه وكبّر ، فطار ووقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبّر ، فلما رأى الشيطان أنه لا يطيعه ذهب
151
فانطلق إبراهيم حتى أتى ذا المجاز ، فلما نظر إليه لم يعرفه فجاز فسمي ذا المجاز ثم انطلق حتى وقف بعرفات فعرفها بالنعت فسمي المكان واليوم بما ذكر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 151(1/113)
فإن قيل : هلا منعت الصرف وفيها السببان : العلمية والتأنيث أجيب : بأن التأنيث لا يخلو : إما أن يكون بالتاء التي في لفظها وأما بتاء مقدرة كما في سعاد فالتي في لفظها ليست للتأنيث ، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع التأنيث ولا يصح تقدير التاء فيها لأنّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما ، لا تقدر تاء التأنيث في بنت لأن التاء التي فيها هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث فأبت تقديرها ، وفي الآية دليل على وجوب الوقوف بعرفة لأنّ إذا تدل على أنّ المذكور بعدها محقق لا بدّ منه ، فكأنه قيل بعد إفاضتكم من عرفات التي لا بدّ منها اذكروا الله ، والإفاضة من عرفات لا تكون إلا بعد الوقوف بها ، فوجب أن يكون الوقوف بها واجباً ، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج".
{فاذكروا الله} بالتلبية والتهليل والتكبير والثناء والدعوات وقيل : بصلاة المغرب والعشاء {عند المشعر الحرام} وهو جبل في آخر المزدلفة يقال له قزح ، وفي الحديث "أنه صلى الله عليه وسلم وقف به يذكر الله تعالى ويدعو حتى أسفر جدّاً" رواه مسلم. وقال جابر "دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى بالمزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً ، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام استقبل القبلة فدعا وكبر وهلل ووحد ولم يزل واقفاً حتى أصبح جداً".
وقوله تعالى : {عند المشعر الحرام} معناه مما يلي المشعر الحرام قريباً منه وذلك للفضل كالقرب من جبل الرحمة وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر ، ويسمى مشعراً من الشعار وهي : العلامة ؛ لأنه من معالم الحج ، ووصف بالحرام لحرمته وتسمى المزدلفة جمعاً ؛ لأنه يجمع فيها بين صلاتي المغرب والعشاء ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه نظر إلى الناس ليلة جمع فقال : لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون ، وقيل : سميت جمعاً لأنّ آدم اجتمع فيها مع حوّاء عليهما الصلاة والسلام وازدلف إليها أي : دنا منها وقيل : وصفت بفعل أهلها لأنهم يزدلفون إلى الله تعالى أي : يتقرّبون بالوقوف فيها.
{واذكروه كما هداكم} لمعالم دينه ومناسك حجه والكاف للتعليل. {وإن كنتم من قبله} أي : الهدى {لمن الضالين} أي : الجاهلين بالإيمان والطاعة ، وإن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة وقيل : إن هي النافية واللام بمعنى إلا كقوله تعالى : {وإن نظنك لمن الكاذبين} (الشعراء ، 186) أي : ما نظنك إلا من الكاذبين.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 151
ثم أفيضوا} يا قريش {من حيث أفاض الناس} وذلك أنهم وحلفاءهم ومن دان بدينهم وهم الحمس كانوا يقفون بالمزدلفة وسائر الناس بعرفة ويرون ذلك ترفعاً عليهم ، ويقولون : نحن
152
أهل الله وقطان حرمه ، ولا نخرج منه ، فأمروا أن يساووهم ، وثم للترتيب في الذكر ، وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره : فمن فرض فيهن الجمع فلارفت ولا فسوق ولا جدال في الحج ، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ، وقيل : لتفاوت ما بين الإفاضتين أي : لتراخي الثانية عن الأولى رتبة إذ الأولى هي الصواب والثانية خطأ كما في قولك : أحسن إلى الناس ، ثم لا تحسن إلى غير كريم ، فإنك تأتي بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم وإلى غيره وبعد ما بينهما وقيل : ثم بمعنى الواو كما في قوله تعالى : {ثم كان من الذين آمنوا} (البلد ، 17) {واستغفروا الله} من ذنوبكم في تغيير المناسك وغيره {إنّ الله غفور رحيم} يغفر ذنوب المستغفر وينعم عليه.
{فإذا قضيتم} أي : أديتم {مناسككم} أي : عبادات حجكم كأن رميتم جمرة العقبة وطفتم واستقررتم بمنى ، وأدغم أبو عمرو الكاف في الكاف بخلاف عنه ، ولم يدغم مثلين من كلمة في القرآن إلا هنا وفي سورة المدثر وهو قوله تعالى : {ما سلككم في سقر} (المدثر ، 42) .
{فاذكروا الله} بالتكبير والتحميد والثناء عليه {كذكركم آباءكم} وذلك أنّ العرب كانت إذا فرغت من الحج وقفت بين المسجد بمنى وبين الجبل فيعدون فضائل آبائهم ويذكرون محاسن أيامهم ، فأمرهم الله تعالى بذكره وقال : فاذكروني فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم ، وأحسنت إليكم وإليهم ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباء ، وذلك أنّ الصبيّ أولّ ما يتكلم يلهج بذكر أبيه ولا يذكر غيره ، فقال الله تعالى : {فاذكروا الله} لا غير كذكر الصبيّ أباه.(1/114)
{أو أشد ذكراً} من ذكركم إياهم ونصب أشدّ على الحال المنصوب باذكروا إذ لو تأخر عنه لكان صفة له {فمن الناس من يقول ربنا آتنا} نصيبنا {في الدنيا} وهم المشركون كانوا لا يسألون الله تعالى في الحج إلا الدنيا ، يقولون : اللهمّ أعطنا غنماً وإبلاً وبقراً وعبيداً وكان الرجل يقوم فيقول : اللهمّ إنّ أبي كان عظيم الفئة كبير الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته {وما له في الآخرة من خلاق} أي : نصيب لأنّ همَّه مقصور على الدنيا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 151
{ومنهم} أي : الناس {من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} بعدم دخولها ، وهم المؤمنون ، واختلفوا في معنى الحسنتين فقال عليّ رضي الله تعالى عنه : الحسنة في الدنيا : المرأة الصالحة ، والحسنة في الآخرة : الجنة ، يدل له قوله صلى الله عليه وسلم "الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة".
وروي عنه أيضاً أنه قال : "الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة وفي الآخرة الحوراء وعذاب النار المرأة السوء". وقال الحسن : الحسنة في الدنيا العلم والعبادة ، والحسنة في الآخرة الجنة. وقال السدي : الحسنة في الدنيا الرزق الحلال ، والحسنة في الآخرة المغفرة والثواب ، وأدغم أبو عمرو اللام في الراء بخلاف عنه.
{أولئك} الداعون بالحسنتين {لهم نصيب} أي : ثواب {مما كسبوا} أي : من جنس ما
153
كسبوا من الأعمال الحسنة ، أو من أجل ما كسبوا كقوله تعالى : {مما خطاياهم أغرقوا} (نوح ، 25) ، ويجوز أن يكون أولئك للفريقين جميعاً ، وأن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا {وا سريع الحساب} أي : إذا حاسب فحسابه سريع لا يحتاج إلى عقد يد ولا وعي صدر ولا روية فكر ، قال الحسن : أسرع من لمح البصر ، وفي الحديث : "يحاسب الخلق كلهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا".
{واذكروا الله}أي : كبروه أدبار الصلوات وعند ذبح القرابين ورمي الجمار وغيرها ، {في أيام معدودات} أي : أيام التشريق الثلاثة وسميت معدودات لقلتهن كقوله تعالى : {دراهم معدودة} (يوسف ، 20) ، والأيام المعلومات عشر ذي الحجة آخرهن يوم النحر ، والتكبير في الأيام المعدودات عقب كل صلاة ولو فائتة ونافلة مشروع في حق الحاج وغيره ، لكن غير الحاج يكبر من صبح يوم عرفة إلى عقب عصر آخر أيام التشريق للاتباع ، رواه الحاكم وصحح إسناده. وأما الحاج فيكبر من ظهر يوم النحر لأنها أوّل صلاته بمنى ، ولا يسن التكبير عقب صلاة عيد الفطر لعدم وروده.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 153
فمن تعجل} أي : استعجل بالنفر من منى {في يومين} أي : في ثاني أيام التشريق بعد رمي جماره بعد الزوال عند الشافعيّ وأصحابه قال في "الكشاف" وعند أبي حنيفة وأصحابه ينفر قبل طلوع الفجر {فلا إثم عليه} بالتعجيل {ومن تأخر} حتى بات ليلة الثالث ورمى جماره بعد زواله عندنا ، أو قال في "الكشاف" : يجوز تقديم الرمي على الزوال عند أبي حنيفة {فلا إثم عليه} بذلك أي : هم مخيرون في ذلك.
فإن قيل : أليس التأخير أفضل ؟
أجيب : بأنّ التخيير يقع بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار ، وإن كان الصوم أفضل عند عدم المشقة ، وقيل : إن أهل الجاهلية كانوا فريقين : منهم من جعل المتعجل آثماً ومنهم من جعل المتأخر آثماً ، فورد القرآن بنفي الإثم عنهما جميعاً ، وذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر {لمن اتقى} الله تعالى في حجه ، لأنه الحاجّ على الحقيقة عند الله تعالى ، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه".
{واتقوا الله} في مجامع أموركم ليعبأ بكم {واعلموا أنكم إليه تحشرون} في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم.
{ومن الناس من يعجبك قوله} أي : يعظم في نفسك ومنه الشيء العجيب الذي يعظم في النفس ، وهو الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة واسمه أبيّ وسمي الأخنس ، لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان منافقاً حلو المنظر ، حلو الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم يحلف أنه مؤمن به ومحب له ، ويقول : يعلم الله أني صادق ، وكان رسول صلى الله عليه وسلم يدني مجلسه.
وقوله تعالى : {في الحياة الدنيا} متعلق بالقول ، أي : يعجبك ما يقول في أمور الدنيا
154
وأسباب المعاش أو في معنى الدنيا ، لأن ادعاءه المحبة بالباطل يطلب به حظاً من حظوظ الدنيا ولا يريد به الآخرة ، كما يراد بالإيمان الحقيقي والمحبة الصادقة للرسول صلى الله عليه وسلم فكلامه إذاً في الدنيا لا في الآخرة أو يعجبك قوله في الحياة الدنيا حلاوة وفصاحة ، ولا يعجبك في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الدهشة واللكنة ، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام فلا يتكلم حتى يعجبك كلامه.(1/115)
{ويشهد الله على ما في قلبه} أنه موافق لكلامه {وهو ألدّ الخصام} أي : شديد الخصومة لك ولأتباعك لعداوته لك وقال الحسن : ألدّ الخصام أي : كاذب بالقول ، وقال قتادة : شديد القسوة في المعصية جدل بالباطل ، يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة. وفي الحديث : "أن أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم".
جزء : 1 رقم الصفحة : 153
{وإذا تولى} أي : انصرف عنك بعد إلانة القول وحلاوة المنطق {سعى} أي : مشى {في الأرض ليفسد فيها} قال ابن جرير بقطع الرحم وسفك دماء المسلمين {ويهلك الحرث والنسل} وذلك أنّ الأخنس كان بينه وبين ثقيف خصومة ، فبيتهم ليلاً فأحرق زرعهم وأهلك مواشيهم ، وقيل : وإذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل ، وقيل : يظهر الظلم حتى يمنع الله تعالى بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل ، وحكى الزجاج عن قوم : أنّ الحرث النساء والنسل الأولاد قال : وهذا ليس بمنكر لأنّ المرأة تسمى حرثاً أي : ويدل له قوله تعالى : {فائتوا حرثكم أنى شئتم} (البقرة ، 223) {وا لا يحب الفساد} أي : لا يرضى به ؛ لأنّ المحبة وهي ميل القلب محالة في حقه تعالى : فهي مستعملة في حقه تعالى في معنى الرضا.
{وإذا قيل له اتق الله} في فعلك {أخذته العزة} أي : حملته الأنفة والحمية على العمل
155
{بالإثم} الذي يؤمر باتقائه {فحسبه} أي : كافيه {جهنم} جزاء وعذاباً ، وهي علم لدار العقاب وهو في الأصل مرادف للنار ، وسميت بذلك لبعد قعرها ، وأصلها من الجهم وهو الكراهة والغلظ فالنون زائدة ، وقيل : معرّب نقل من العجمية إلى العربية وتصرف فيه ، وأصله كهنام أبدلت الكاف جيماً وأسقطت الألف وقوله تعالى : {ولبئس المهاد} جواب قسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف للعلم به تقديره : جهنم ، والمهاد الفراش.
{ومن الناس من يشري} أي : يبيع {نفسه} أي : يبذلها في الجهاد أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل {ابتغاء مرضاة الله} أي : طلباً لرضاه ، وقال أكثر المفسرين : نزلت في صهيب بن سنان الرومي أخذه المشركون في رهط من المؤمنين فعذبوهم ، فقال لهم : إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني ؟
ففعلوا وكان شرط عليهم راحلة ونفقة فأقام بمكة ما شاء الله ، ثم خرج إلى المدينة ، فتلقاه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في رجال فقال له أبو بكر : "ربح بيعك أبا يحيى" فقال : وما ذاك ؟
فقال : أنزل الله فيك قرآناً وقرأ عليه هذه الآية ، فعلى هذا يكون يشري بمعنى يشتري لا بمعنى يبيع ويبذل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 155
وقيل : نزلت في الزبير والمقداد بن الأسود وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة : إنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك يعلموننا دينك ، وكان ذلك مكراً منهم فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو هريرة : عشرة ومن جملتهم خبيب فقتلوهم وأسروا خبيباً قال آسره : والله ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب ، والله وجدته يوماً يأكل قطفاً من عنب في يده وإنه لموثوق بالحديد وما بمكة من ثمرة إن كان إلا رزقاً رزقه الله خبيباً ، ثم أرادوا قتله فخرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل وأرادوا أن يصلبوه فقال : دعوني أصلي ركعتين فتركوه حتى صلاهما ثم قال : لولا أخشى أن تحسبوا أنّ ما بي من جزع لزدت اللهمّ أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً ثم أنشأ يقول :
*ولست أبالي حين أُقْتَل مسلماً ** على أيّ شق كان في الله مصرعي*
*وذلك في ذات الإله وإن يشأ ** يبارك على أوصال شلو ممزع*
ثم صلبوه حياً فقال : اللهمّ إنك تعلم أنه ليس أحد حولي يبلغ سلامي رسولك فأبلغه سلامي ، ثم قام عقبة بن الحارث فقتله فلما بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الخبر قال : "أيكم ينزل خبيباً عن خشبته وله الجنة ؟
". فقال الزبير : أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد ، فخرجا يسيران بالليل ويكمنان بالنهار حتى وصلا إليه ليلاً ، وإذا حول الخشبة أربعون من المشركين نيام فأنزله الزبير وحمله على فرسه وسارا فانتبه الكفار فلم يجدوه فأخبروا قريشاً فركب منهم سبعون فلما لحقوهما قذف الزبير خبيباً فابتلعته الأرض فسمي بليع الأرض ، ثم رفع الزبير العمامة عن رأسه وقال : أنا الزبير بن العوام وأمي صفية بنت عبد المطلب ، وصاحبي المقداد بن الأسود ، فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم انصرفتم ، فانصرفوا إلى مكة وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عنده ، فقال : يا محمد إن الملائكة لتتباهى بهذين من أصحابك فنزلت فيهما هذه الآية {وا رؤوف بالعباد} حيث أرشدهم لما فيه رضاه.
156
ونزل في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه : {يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم} أي : الإسلام وقوله تعالى : {كافة} حال من السلم لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب ، كما قال القائل :
*أبا خراشة أما أنت ذا نفر ** فإن قومي لم تأكلهم الضبع*(1/116)
*في السلم تأخذ منا ما رضيت به ** والحرب تكفيك من أنفاسها جزع*
أي ادخلوا في جميع شرائعه ، وذلك أنهم يعظمون السبت ، ويكرهون لحوم الإبل وألبانها بعدما أسلموا ، فأمروا أن يدخلوا في جميع شرائعه.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 155
ولا تتبعوا خطوات} أي : طرق (الشيطان) ، أي تزيينه من تحريم السبت ولحوم الإبل وألبانها. وقرأ نافع وابن كثير والكسائي : السَّلْم بفتح السين ، والباقون بكسرها ، وتقدم الكلام في خطوات لابن عامر ، وقنبل وحفص والكسائي بضم الطاء {إنه لكم عدوّ مبين} ظاهر العداوة.
{فإن زللتم} أي : مِلْتم عن الدخول في جميعه {من بعد ما جاءتكم البينات} أي : الحجج الظاهرة أنه حق {فاعلموا أن الله عزيز} لا يعجزه شيء عن انتقامه منكم {حكيم} في صنعه.
تنبيه : قول البيضاوي : حكيم لا ينتقم إلا بحق تبع فيه الزمخشري ، وهو مذهب المعتزلة فإنهم يقولون : لا ينتقم إلا بقدر ما يستحقه العاصي ، ومذهب أهل السنة أنه ينتقم ويعاقب من شاء بما شاء وإن كان مطيعاً ؛ إذ هو متصرّف في ملكه يفعل ما يشاء بمن شاء وإن لم يقع منه الانتقام إلا ممن أساء. وروي أنّ قارئاً قرأ غفور رحيم بدل عزيز حكيم فسمعه أعرابي لم يقرأ القرآن فأنكره وقال : إن كان هذا كلام الله فلا يذكر الغفران عند الزلل ؛ لأنه إغراء عليه.
قوله تعالى : {هل ينظرون} استفهام في معنى النفي أي : ما ينظرون {إلا أن يأتيهم الله} أي : أمره أو بأسه كقوله تعالى : {أو يأتي أمر ربك} (النحل ، 33) أي : عذابه وقوله تعالى : {جاءهم بأسنا} (الأنعام ، 43) أو {يأتيهم الله ببأسه} ( ، ) فحذف المأتيّ به للدلالة عليه بقوله تعالى : {إن الله عزيز حكيم}.
{في ظلل} جمع ظلة وهي ما أظلك {من الغمام} أي : من السحاب الأبيض سمي غماماً لأنه يغم أي : يستر ، وإنما يأتيهم العذاب فيه لأنه مظنة الرحمة وهي نزول المطر فإذا جاء منه العذاب كان أفظع ؛ لأنّ الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب ، فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير.
{و} تأتيهم {الملائكة} فإنهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على الحقيقة ببأسه. قال البغويّ : والأولى في هذه الآية وفيما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها ويكل علمها إلى الله تعالى ، ويعتقد أن الله تعالى منزه عن سمات الحوادث وعلى ذلك مضت أئمة السلف وعلماء السنة انتهى.
وأما أئمة الخلف فإنهم يؤوّلون هذه الآية بنحو ما أوّلنا به وأمثالها ، بحسب المقام وهو أحكم ، ومذهب السلف أسلم ، وكان مكحول ومالك والليث وأحمد يقولون في هذا وأمثاله :
157
أمرّوها كما جاءت بلا كيف.
{وقضي الأمر} أي : أمر هلاكهم وفرغ منهم ووضع الماضي موضع المستقبل لدنوّه وتيقن وقوعه {وإلى الله ترجع الأمور} في الآخرة فيجازيهم ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح التاء وكسر الجيم ، والباقون بضمّ التاء وفتح الجيم وقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 155
{سل} أمر للرسول أو لكل أحد {بني إسرائيل} توبيخاً {كم آتيناهم} كم استفهامية معلقة سل عن المفعول الثاني وهي ثاني مفعولي آتيناهم ومميزها {من آية} أي : معجزة {بينة} أي : ظاهرة في الدلالة على صدق من جاء بها كقلب العصا حية ، وإبراء الأكمه والأبرص وفلق البحر وإنزل المنّ والسلوى فبدّلوها كفراً.
{ومن يبدّل نعمة الله} أي : ما أنعم به عليه من الآيات لأنها سبب الهداية التي هي أجل النعم كفراً {من بعدما جاءته} أي : وصلته وتمكن من معرفتها {فإنّ الله شديد العقاب} فيعاقبه أشدّ عقوبة لأنه ارتكب أشدّ جريمة وهي التبديل.
{زين للذين كفروا الحياة الدنيا} أي : حسنت في أعينهم وأشربت محبتها في قلوبهم ، حتى تهالكوا عليها ، وأعرضوا عن غيرها ، والمزين في الحقيقة هو الله تعالى ، إذ ما من شيء إلا وهو فاعله ، وكل من الشيطان والقوّة الحيوانية ، وما خلق الله فيها من الأمور البهيمية والأشياء الشهية مزين بالعرض ، واختلف في سبب نزول هذه الآية فقيل : نزلت في مشركي العرب أبي جهل وأصحابه وكانوا يتنعمون بما بسط لهم في الدنيا من المال ويكذبون بالمعاد {ويسخرون من الذين آمنوا} أي : يستهزئون بالفقراء من المؤمنين قال ابن عباس : أراد بالذين آمنوا عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وصهيباً وبلالاً وخباباً وأمثالهم ، وقال قتادة : نزلت في المنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه كانوا يتنعمون في الدنيا ، ويسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين ويقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم ، وقال عطاء : نزلت في رؤساء اليهود من بني قريظة والنضير وقينقاع سخروا من فقراء المهاجرين فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنضير بغير قتال.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 158(1/117)
والذين اتقوا} أي : الشرك وهم هؤلاء الفقراء {فوقهم يوم القيامة} لأنهم في أعلى عليين وهم في أسفل السافلين ، أو حالهم غالبة لحالهم ؛ لأنهم في كرامة وهم في هوان أو هم غالبون عليهم متطاولون يضحكون منهم ، كما يتطاول هؤلاء عليهم في الدنيا ، ويرون الفضل لهم عليهم ، فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون.
روي عن أسامة بن زيد أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وقفت على باب الجنة فرأيت أكثر أهلها المساكين ، ووقفت على باب النار فرأيت أكثر أهلها النساء ، وإذا أهل الجدّ محبوسون إلا من كان منهم من أهل النار فقد أمر به إلى النار".
وروي عن سهل سعد الساعدي أنه قال : مرّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس : "ما رأيك في هذا ؟
" قال رجل من أشراف الناس : هذا والله حري إن خطب أن ينكح ، وإن شفع أن يشفع قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مرّ رجل آخر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما رأيك في هذا ؟
" فقال : يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حري ـ أي حقيق ـ إن خطب أن لا
158
ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال أن لا يسمع لقوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا".
{وا يرزق من يشاء} في الدارين {بغير حساب} أي : رزقاً واسعاً بغير تقدير في الدنيا للكافر استدراجاً ، كما وسع على قارون ، وللمؤمن ابتلاء كما وسع على عبد الرحمن بن عوف ، وفي الآخرة للمؤمن خاصة تفضلاً.
{كان الناس أمّة واحدة} أي : متفقين على الحق.
روي عن أبي العالية عن كعب قال : كان الناس حين عرضوا على آدم وأخرجوا من ظهره ، وأقرّوا بالعبودية أمّة واحدة مسلمين ، ولم يكونوا أمّة واحدة قط غير ذلك اليوم ، ثم اختلفوا بعد آدم ، وقال الكلبي : هم أهل سفينة نوح ، كانوا مؤمنين ثم اختلفوا بعد وفاة نوح ، وقال قتادة وعكرمة : كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح ، وكان بينهما عشرة قرون كلهم على شريعة واحدة من الحق والهدى ، ثم اختلفوا في زمن نوح ، وقال مجاهد : أراد آدم وحده كان أمّة واحدة سمي الواحد بلفظ الجمع ؛ لأنه أصل النسل وأبو البشر ، ثم خلق الله حوّاء ونشر منهما الناس فكانوا مسلمين إلى أن قتل قابيل وهابيل فاختلفوا.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان الناس على عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمّة واحدة كافرين كلهم ، فبعث الله ، إبراهيم وغيره من النبيين عليهم السلام كما قال تعالى : {فبعث الله النبيين} أي : اختلفوا فبعث الله وإنما حذف لدلالة فيما اختلفوا فيه عليه ، وجملة الأنبياء ، كما رواه الإمام أحمد مرفوعاً في حديث ورد عن كعب "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر" والمذكور منهم في القرآن باسمه العلم الموضوع له ثمانية وعشرون نبياً ، وهم : آدم ، وإدريس ، ونوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، وإسمعيل ، وإسحق ، ويعقوب ، ويوسف ، ولوط ، وموسى ، وهرون ، وشعيب ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وداود ، وسليمان ، وإلياس ، واليسع ، وذو الكفل ، وأيوب ، ويونس ، ومحمد ، عليهم أجمعين ، وذو القرنين وعزير ولقمان على القول بنبوّة الثلاثة.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 158
مبشرين} من آمن وأطاع بالجنة {ومنذرين} من كفر وعصى بالنار {وأنزل معهم الكتاب} المراد به الجنس فهو بمعنى الكتب لكنه تعالى لم ينزل مع كل واحد كتاباً يخصه ، فإنّ أكثرهم لم يكن له كتاب يخصه ، وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم وقوله تعالى : {بالحق} حال من الكتاب أي : متلبساً بالحق شاهداً به {ليحكم بين الناس} أي : الله ، أو الكتاب ، أو النبيّ المبعوث ، ورجح الثاني التفتازاني ، وقال : لا بدّ في عوده إلى الله من تكلف في المعنى أي : ليظهر حكمه ، وإلى النبيّ من تكلف في اللفظ حيث لم يقل : ليحكموا ، ورجح أبو حيان الأوّل ، وهو الظاهر قال : والمعنى أنه أنزل الكتاب ليفصل به بين الناس ونسبة الحكم إلى الكتاب مجاز كما أن إسناد النطق إليه في قوله تعالى : {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} (الجاثية ، 29) كذلك {فيما اختلفوا فيه} من الدين {وما اختلف فيه} أي : الدين {إلا الذين أوتوه} أي : الكتاب المنزل لإزالة الخلاف أي : عكسوا الأمر فجعلوا ما أنزل مزيلاً للاختلاف سبباً لاستحكام الخلاف ، فآمن بعض وكفر بعض.
159(1/118)
{من بعدما جاءتهم البينات} أي : الحجج الظاهرة على التوحيد ، ومن متعلقة باختلف وهي وما بعدها مقدّم على الاستثناء في المعنى {بغياً} من الكافرين {بينهم} حسداً وظلماً لحرصهم على الدنيا {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه} وقوله تعالى : {من الحق} بيان لما اختلفوا فيه أي : فهدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف {بإذنه} أي : بإرادته قال ابن دريد في هذه الآية : اختلفوا في القبلة ، فمنهم من يصلي إلى المشرق ، ومنهم من يصلي إلى المغرب ، ومنهم من يصلي إلى المقدس ، فهدانا الله للكعبة ، واختلفوا في الصيام فهدانا الله لشهر رمضان ، واختلفوا في الأيام فأخذت اليهود السبت ، والنصارى الأحد ، فهدانا الله للجمعة ، واختلفوا في إبراهيم فقالت اليهود : كان يهودياً وقالت النصارى : كان نصرانياً فهدانا الله للحق من ذلك ، واختلفوا في عيسى فجعله النصارى إلهاً فهدانا الله للحق فيه.
{وا يهدي من يشاء} هدايته {إلى صراط مستقيم} هو طريق الحق لا يضل سالكه.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 158
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل} أي : شبه {الذين خلوا من قبلكم} من المؤمنين من المحن فتصبروا كما صبروا ، واختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقال قتادة : نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد وشدّة الخوف والبرد وضيق العيش وأنواع الأذى ، كما قال تعالى : {وبلغت القلوب الحناجر} (الأحزاب ، 10) وقال عطاء : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة اشتدّ عليهم الأمر ؛ لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين ، وآثروا رضا الله ورسوله ، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسرّ قوم النفاق ، فأنزل الله تعالى هذه الآية تطميناً لقلوبهم. وقيل : نزلت في حرب أحد ، واختُلف في معنى أم فقال الفرّاء : الميم صلة أي : أحسبتم ، وقال الزجاج : هي بمعنى بل أي : بل حسبتم ، ولما بمعنى لم أي : ولم يأتكم. وقوله تعالى : {مستهم البأساء} أي : شدّة الفقر {والضرّاء} أي : المرض والجزع ، جملة مستأنفة مبينة لما قبلها {وزلزلوا} أي : أزعجوا إزعاجاً شديداً بما أصابهم من الشدائد {حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه} لتناهي الشدّة واستطالة المدّة ، بحيث تقطعت حبال الصبر {متى} يأتي {نصر الله} الذي وعدناه استطالة لتأخره ، فأجيبوا من قبل الله {ألا إنّ نصر الله قريب} إتيانه وفي هذا إشارة إلى أنّ الوصول إلى الله تعالى والفوز بالكرامة عنده برفض الهوى واللذات ومكابدة الشدائد والرياضات ، كما قال عليه الصلاة والسلام كما رواه الشيخان وغيرهما : "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات".
وفي رواية لهم : حجبت أي : جعلت المكاره حجاباً دون الجنة فمن خرقه دخلها. والشهوات حجاب دون النار فمن اقتحمه دخلها وقرأ نافع يقول : بالرفع على أنها حكاية حال ماضية ، وفائدته تصوّر تلك الحال العجيبة واستحضار صورتها في مشاهدة السامع ليتعجب منها وقرأ الباقون بالنصب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 158
160
{يسئلونك} يا محمد {ماذا} أي : الذي {ينفقون}ه ، والسائل كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : عمرو بن الجموح الأنصاري ، وكان شيخاً فانياً ذا مال عظيم ، فقال : يا رسول الله ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها ؟
فنزل : {قل} لهم {ما أنفقتم من خير} أي : مال قليلاً كان أو كثيراً ، {فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل} أي : هم أولى به سأل عن المنفق فأجيب : ببيان المصرف ؛ لأنه أهمّ فإنّ اعتداد النفقة باعتباره ، ولأنه كان في سؤال عمرو وإن لم يكن مذكوراً في الآية ، واقتصر في بيان المنفق على ما تضمنه قوله ما أنفقتم من خير {وما تفعلوا من خير} إنفاق وغيره {فإن الله به عليم} فيجازيكم به.
تنبيه : ليس في الآية ما ينافي فرض الزكاة لينسخ به كما قيل ؛ لأنّ الزكاة لا تعطى للوالدين ولا للأقربين من الأولاد وأولاد الأولاد ، فالآية محمولة على الإنفاق على من ذكر تطوّعاً أو على الإنفاق على الفقراء من الوالدين والأولاد وأولاد الأولاد ، وذلك ليس بمنسوخ.
{كتب} أي : فرض {عليكم القتال} للكفار {وهو كره} أي : مكروه {لكم} طبعاً للمشقة {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم} وهو جميع ما كلفتم به فإنه الموجب لسعادتكم ، فلعل لكم في القتال ـ وإن كرهتموه ـ خيراً ؛ لأنّ فيه إمّا الظفر والغنيمة وإمّا الشهادة والأجر {وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرّ لكم} وهو جميع ما نهيتم عنه ، فإنّ النفس تحبه وتهواه ، وهو يهوي بها إلى الردى ، ففي ترك القتال ـ وإن أحببتموه ـ شرّ ؛ لأنّ فيه الذل والفقر وحرمان الأجر ، وإنما ذكر عسى ؛ لأن النفس إذا ارتاضت ينعكس الأمر عليها {وا يعلم} ما هو خير لكم {وأنتم لا تعلمون} ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 160(1/119)
يسئلونك} يا محمد {عن الشهر الحرام} المحرّم ، روي أنه عليه الصلاة والسلام بعث عبد الله بن جحش ابن عمته على سرية في جمادى الآخرة ، قبل قتال بدر بشهرين ، على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمه المدينة ؛ ليترصد عيراً لقريش فيهم عمرو بن عبد الله الحضرمي ، وثلاثة معه فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير وفيها تجارة من تجارة الطائف ، وكان ذلك غرّة رجب ، وهم يظنونه جمادى الآخرة فقالت قريش : قد استحلّ محمد الشهر الحرام الذي يأمن فيه الخائف ، ويتفرّق فيه الناس إلى معايشهم ، فسفك فيه الدماء ، وأخذ الأسارى ، وعيّر بذلك أهل مكة من كان بها من المسلمين ، وقالوا : يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام ، وقاتلتم فيه ، وشق ذلك على أصحاب السرية وقالوا : ما نبرح حتى تنزل توبتنا وردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسارى.
161
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما "لما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة وهي أوّل غنيمة في الإسلام" والسائلون هم المشركون ، كتبوا إليه تشنيعاً وتعييراً ، وقيل : أصحاب السرية قالوا : يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي ، ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأكثر الأقاويل على أنها منسوخة بقوله تعالى : {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} (التوبة ، 5) .
وقوله تعالى : {قتال فيه} بدل اشتمال من الشهر {قل} لهم {قتال فيه كبير} أي : عظيم وزر ، أو قد تمّ الكلام ههنا ، ثم ابتدأ فقال : {وصدّ} فهو مبتدأ أي : منع الناس {عن سبيل الله} أي : دينه {وكفر به} أي : الله {و} صدّ عن {المسجد الحرام} أي : مكة {وإخراج أهله منه} وهم النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ، وخبر المبتدأ وما عطف عليه {أكبر} أي : أعظم وزراً {عند الله} مما فعلته السرية من قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام خطأ ، وبناء على الظنّ.
ومما تقرّر علم أنّ {والمسجد الحرام} معطوف على سبيل الله وقول البيضاوي : ولا يحسن عطفه على سبيل الله لأنّ عطف قوله تعالى : {وكفر به} على {وصدّ} مانع منه مجاب عنه بأنّ الكفر بالله والصدّ عن سبيله متحدان معنى فكأنه لا فصل بالأجنبيّ بين سبيل الله وما عطف عليه ، ويصح أيضاً أن يكون معطوفاً على الهاء من به ، إذ يجوز العطف بدون إعادة الجار كما جرى عليه ابن مالك ، وإن كان مذهب البصريين خلافه ، وجرى عليه البيضاوي.
{والفتنة} أي : الشرك منكم {أكبر من القتل} لكم فيه ، فلما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن أنيس إلى مؤمني مكة إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من مكة ، ومنعهم المسلمين عن البيت.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 160
ولا يزالون} أي : الكفار {يقاتلونكم} أيها المؤمنون {حتى يردّوكم عن دينكم} إلى الكفر ، في ذلك إخبار عن دوام عداوة الكفار لهم ، وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردّوهم عن دينهم ، وحتى للتعليل لا للغاية كما قيل ؛ لأنه أفيد من حيث أنّ فيه ذكر الحامل على المقاتلة بخلاف الغاية أي : يقاتلونكم كي يردّوكم وقوله تعالى : {إن استطاعوا} فيه استبعاد لاستطاعتهم ، كقول الرجل لعدوّه : إن ظفرت بي فلا تبق عليّ ، وهو واثق بأنه لا يظفر به. {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت} أي : بطلت {أعمالهم} أي : الصالحة {في الدنيا والآخرة} فلا اعتداد بها ولا ثواب عليها ، والتقييد بالموت يفيد أنه لو رجع إلى الإسلام لم يبطل عمله كما هو مذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه ، خلافاً لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ، حيث قال : إنّ الردّة تحبط الأعمال مطلقاً لقوله تعالى : {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} (المائدة ، 5) وأجيب : بأنه محمول على المقيد عملاً بالدليل ، فلا يجب عليه أن يعيد الحج الذي أتى به قبل الردّة كذا غيره ، لكن يبطل ثوابه كما نص عليه الشافعيّ رضي الله تعالى عنه وإن خالف فيه بعض المتأخرين {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} كسائر الكفرة.
ولما ظنّ السرية أنهم إن سلموا من الإثم فلا يحصل لهم أجر أنزل الله تعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 160
أي : فارقوا عشائرهم ومنازلهم وأموالهم {وجاهدوا} المشركين {في سبيل الله} لإعلاء دينه ، وكرّر سبحانه وتعالى الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد ، وكأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء {أولئك يرجون رحمة الله} أي : ثوابه أثبت لهم الرجاء إشعاراً
162
بأنّ العمل غير موجب ، ولا قاطع في الدلالة ، سيما والعبرة بالخواتيم {وا غفور} للمؤمنين لما فعلوه خطأ وقلة احتياط {رحيم} بهم بأن يجزل لهم الأجر والثواب.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 162(1/120)
يسئلونك عن الخمر والميسر}. روي أنه لما نزل بمكة قوله تعالى : {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً} (النحل ، 67) كان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال يومئذٍ ، ثم إنّ عمر ومعاذاً في نفر من الصحابة قالوا : "أفتنا في الخمر يا رسول الله فإنها مذهبة للعقل" فنزلت هذه الآية ، فشربها قوم وتركها آخرون ، ثم إنّ عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً ، فدعا ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا ، فحضرت صلاة المغرب فقدّموا بعضهم ليصلي بهم فقرأ : قل يأيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، هكذا إلى آخر السورة بحذف لا فأنزل الله تعالى : {يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} (النساء ، 403) فحرم السكر في أوقات الصلاة فتركها قوم وقالوا : لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة ، وتركها قوم في أوقات الصلاة وشربوها في غير وقتها ، حتى كان الرجل يشرب بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال عنه السكر ، ويشرب بعد صلاة الصبح فيصحو إذا جاء وقت الظهر ، ثم إنّ عتبان بن مالك صنع طعاماً ودعا رجالاً من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه ، وقد كان شوى لهم رأس بعير ، فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى اشتدّت فيهم ، ثم افتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الأشعار ، فأنشد سعد قصيدة فيها هجاء للأنصار ، وفخر لقومه فأخذ رجل من الأنصار لحى البعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة ، فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا له الأنصاري فقال عمر : اللهمّ بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل : {إنما الخمر والميسر} إلى قوله : {فهل أنتم منتهون} (المائدة ، 91) فقال عمر رضي الله تعالى عنه : انتهينا يا رب ، قال القفال الحكمة في وقوع : التحريم على هذا الترتيب أنّ القوم كانوا ألفوا شرب الخمر ، وكان انتفاعهم به كثيراً ، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم ، فاستعمل في التحريم هذا التدريج والرفق ، وسمي عصير العنب والتمر إذا اشتدّ وغلا خمراً ؛ لأنه يخمر العقل ، كما سمي سكراً ؛ لأنه يسكره أي : يحجزه وهو حرام مطلقاً. وكذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء ، وقال أبو حنيفة : نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتدّ حل شربه ما دون السكر. وسمي القمار ميسراً ؛ لأنه أخذ مال الغير بيسر والمعنى يسئلونك عن تعاطيهما ؛ لقوله تعالى : {قل} لهم {فيهما} أي : في تعاطيهما {إثم كبير} أي : عظيم لما يحصل بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش ، وقرأ حمزة والكسائي بالثاء المثلثة والباقون بالباء الموحدة.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 162
ومنافع للناس} باللذات والفرح ، ومصادقة الفتيان ، وتشجيع الجبان ، وتوفر المروءة ، وتقوية الطبيعة في الخمر ، وإصابة المال بلا كدّ في الميسر {وإثمهما} أي : ما ينشأ عنهما من المفاسد {أكبر} أي : أعظم {من نفعهما} المتوقع منهما ولذا قيل : إن هذا هو المحرّم للخمر ، فإن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل ، والظاهر أن المحرم لها آية المائدة كما مرّ.
{ويسئلونك} يا محمد {ماذا ينفقون} وذلك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حثهم على الصدقة فقالوا : ماذا ننفق ؟
فقال الله تعالى {قل} لهم {العفو}" ، قرأ أبو عمرو برفع الواو بتقدير هو والباقون
163
بنصبها بتقدير أنفقوا ، واختلفا في معنى العفو وهو نقيض الجهد فقيل : أن ينفق مالاً يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع ، كما قال الشاعر :
*خذي العفو مني تستديمي مودّتي ** ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
وسَوْرة الغضب : شدّته وحِدَّته ، وقال قتادة وعطاء والسدّيّ : هو ما فضل عن الحاجة ، وكانت الصحابة رضي الله تعالى عنهم يكتسبون المال ، ويمسكون قدر النفقة ، ويتصدّقون بالفضل بحكم هذه الآية ، وقال مجاهد معناه التصدّق عن ظهر غنى.
روي : "أن رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ببيضة من ذهب أصابها في بعض الغنائم فقال : خذها مني صدقة ، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم حتى كرّر مراراً ، فقال : هاتها مغضباً فأخذها ، فحذفه بها حذفاً لو أصابه لشجه ثم قال : "يأتي أحدكم بماله كله يتصدّق به ويجلس يتكفف الناس ، إنما الصدقة عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول" قال ابن الأثير : والظهر قد يزاد في مثل هذا إشباعاً للكلام وتمكيناً ، كأن صدقته مستندة إلى ظهر قويّ من المال. وقال عمرو بن دينار : الوسط من غير إسراف ولا إقتار كما قال تعالى : {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} (الفرقان ، 67) {كذلك} كما بين لكم ما ذكر {يبين الله لكم الآيات} قال الزجاج : إنما قال كذلك على الواحد وهو يخاطب جماعة ؛ لأنّ الجماعة معناها القبيل كأنه قيل : كذلك أيها القبيل وقيل : هو خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم لأنّ خطابه يشتمل على خطاب الأمّة كقوله تعالى : {يأيها النبيّ إذا طلقتم النساء} (الفرقان ، 67) {لعلكم تتفكرون}.(1/121)
{في} زوال {الدنيا} وفنائها فتزهدوا فيها {و} في إقبال {الآخرة} وبقائها فترغبوا فيها {ويسئلونك} يا محمد {عن اليتامى} وقد مرّ أنهم جمع يتيم ، وأن اليتيم طفل لا أب له ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما نزل قوله تعالى : {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} (الأنعام ، 152) وقوله : {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً} (النساء ، 10) الآية تحرّج المسلمون من أموال اليتامى تحرّجاً شديداً ، فإن واكلوهم يأثموا ، وإن عزلوا مالهم من مالهم وصنعوا لهم طعاماً وحدهم فحرج ، فاشتدّ ذلك عليهم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى {قل إصلاح لهم} أي : اليتامى في أموالهم بتنميتها ومداخلتكم معهم {خير} من مجانبتكم.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 162
وإن تخالطوهم} أي : تخلطوا نفقتهم بنفقتكم {فإخوانكم} أي : فهم إخوانكم في الدين ومن شأن الأخ أن يخالط أخاه أي : فلكم ذلك. وقيل : المراد بالمخالطة المصاهرة ، {وا يعلم المفسد} لأموالهم بمخالطته {من المصلح} بها فيجازي كلاً منهما ، ففي ذلك وعيد ووعد لمن خالطهم لإفساد وإصلاح.
{ولو شاء الله لأعنتكم} أي : لضيق عليكم بتحريم المخالطة وما أباح لكم مخالطتهم ، وأصل العنت الشدّة والمشقة ، ومعناه : كلفكم في كل شيء ما يشق عليكم {إنّ الله عزيز} غالب على أمره ، يقدر على الإعنات وغيره {حكيم} يحكم بما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 162
164
{ولا تنكحوا} أي : لا تتزوّجوا أيها المسلمون {المشركات} أي : الكافرات {حتى يؤمنّ}.
روي "أنه عليه الصلاة والسلام بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي إلى مكة ، ليخرج منها ناساً من المسلمين سرّاً ، فلما قدمها سمعت به امرأة مشركة يقال لها : عناق ، وكانت خليلته في الجاهلية ، فأتته وقالت : يا مرثد ألا تخلو فقال لها : ويحك يا عناق ، إنّ الإسلام قد حال بيننا وبينك ، فقالت : هل لك أن تتزوّج بي ؟
فقال : نعم ولكن أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رجع إليه قال : يا رسول الله أيحلّ لي أن أتزوّج بها ؟
فأنزلت هذه الآية" ، هذا ما أورده الواحدي وغيره ، ولكن الذي رواه أبو داود وغيره أنه سبب في نزول آية النور : {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} (النور ، 3) الآية ، والآية وإن كانت شاملة للكتابيات ، لكنها مخصوصة بغيرهنّ بقوله : {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} (المائدة ، 45) وقد تزوّج عثمان بنصرانية فأسلمت وتزوّج حذيفة بيهودية ، وطلحة بن عبيد الله بنصرانية.
فإن قيل : كيف أطلقتم اسم الشرك على من لم ينكر إلا بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم قال أبو الحسن بن فارس : لأنه يقول : القرآن كلام غير الله ، ومن يقول القرآن كلام غير الله فقد أشرك مع الله غير الله انتهى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 164
وقال تعالى : {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله} إلى قوله : {سبحانه عما يشركون} (التوبة ، 31) .
{ولأمة مؤمنة خير من} أي : من حرّة {مشركة ولو أعجبتكم} لجمالها ومالها ، نزلت في خنساء وليدة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان ، قال حذيفة : يا خنساء قد ذكرت في الملأ الأعلى على سوادك ودمامتك ، فأعتقها وتزوّج بها. وقال السديّ : نزلت في عبد الله بن رواحة ، كان له أمة فأعتقها ، وتزوّج بها فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا : أتنكح أمة وعرضوا عليه حرة مشركة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
{ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} أي : ولا تزوّجوا منهم المؤمنات حتى يؤمنوا ، وهذا
165
على عمومه بإجماع {ولعبد مؤمن خير من} أي : حرّ {مشرك ولو أعجبكم} لماله وجماله وقيل : المراد بالأمة والعبد المرأة والرجل ، حرّين كانا أو رقيقين ؛ لأنّ الناس عبيد الله وإماؤه {أولئك} أي : أهل الشرك {يدعون إلى النار} أي : إلى الكفر المؤدّي إلى النار ، فلا تليق مصاهرتهم وموالاتهم {وا يدعو} أي : أولياءه المؤمنون ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، تفخيماً لشأنهم ، أو يدعو على لسان رسله ، وهذا كما قال أبو حيان : أبلغ في التباعد من المشركين إجراءً للفظ على ظاهره ، والأوّل ذكر لطلب المعادلة بين المشركين والمؤمنين {إلى الجنة والمغفرة} أي : العمل الصالح الموصل إليها ، فهم الأحقاء بالمواصلة {بإذنه} أي : بأمر الله ورضاه على التفسير الأول ، أو بقضائه وإرادته على التفسير الثاني فتجب إجابته بتزويج أوليائه {ويبين} أي : الله {آياته للناس لعلهم يتذكرون} أي : لكي يتذكروا فيتعظوا.
{ويسئلونك} يا محمد {عن المحيض} أي : الحيض أو مكانه ماذا يفعل بالنساء فيه.(1/122)
روي أن أهل الجاهلية كانوا لم يساكنوا الحيض ولم يؤاكلوهنّ كفعل اليهود ، فإنّ اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ، ولم يؤاكلوها ، ولم يشاربوها ، ولم يجامعوها في البيت ، واستمرّ ذلك إلى أن سأل أبو الدحداح في نفر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال الله تعالى : {قل} لهم {هو} أي : الحيض أو مكانه {أذى} قذر أو محله قذر.
فإن قيل : لماذا ذكر الله تعالى يسئلونك بغير واو ثلاثاً ثم بها ثلاثاً ؟
أجيب : بأنّ السؤالات الأول كانت في أوقات متفرّقة ، والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد ، فلذلك ذكرها بحرف الجمع ، وهو واو العطف ، وهي الجمع في الحكم لا الزمان ، واعترض هذا الجواب بأنه كان يجب على هذا أن تدخل الواو على اثنين من الثلاثة الأخيرة ؛ لأنّ العطف يكون في الثانية والثالثة منها ، وأجيب : بأنهم لما سألوا عما كانوا ينفقون ، فأجيبوا بمصرف النفقة أعادوا سؤالهم بالواو ما ينفقون ، فأجيبوا : بالعفو ، ولما كان السؤال الثاني عن مخالطة اليتامى في النفقة ، وهو مناسب لما قبله عطف بالواو ، ولما كان الثالث سؤالاً عن اعتزال الحيض كما تعتزل اليتامى فناسب ما قبله في الاعتزال عطف بالواو ، ولا كذلك الثلاثة الأول ؛ إذ لا تعلق بينها.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 164
فاعتزلوا النساء} أي : اتركوا وطأهنّ {في المحيض} أي : وقته أو مكانه ؛ لأنّ ذلك هو الاقتصاد بين إفراط اليهود ، وتفريط النصارى فإنهم كانوا يجامعونهنّ ولا يبالون بالحيض ، وما استدلّ به البيضاوي من قوله صلى الله عليه وسلم "إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن ، ولم نأمركم بإخراجهنّ من البيوت كفعل الأعاجم" قال شيخنا القاضي زكريا : لم أره بهذا اللفظ في بعض التفاسير لغيره.
وقوله تعالى : {ولا تقربوهنّ} أي : بالجماع {حتى يطهرن} تأكيد للحكم وبيان لغايته ، وهو أن يغتسلن بعد الانقطاع ، ويدل عليه صريحاً قراءة شعبة وحمزة والكسائي بتشديد الطاء والهاء أي : يتطهرن بمعنى يغتسلن والباقون بسكون الطاء وضمّ الهاء مخففة والتزاماً.
قوله تعالى : {فإذا تطهرن فأتوهنّ} أي : للجماع فإنه يقتضي تأخر جواز الإتيان عن الغسل ، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : إن طهرت لأكثر الحيض وهو عنده عشرة أيام جاز قربانها قبل الغسل.
166
{من حيث أمركم الله} بتجنبه في الحيض وهو القبل ولا تتعدّوه إلى غيره. أمّا الملامسة فيما عدا ما بين السرّة والركبة والمضاجعة معها قبل الغسل ، ولو قبل إنقطاع الحيض فجائز ، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : "كان يأمرني صلى الله عليه وسلم فأتزر فيباشرني وأنا حائض وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله وأنا حائض".
وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت : "حضت وأنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الخميلة فانسلت فخرجت منها فأخذت ثياب حيضتي ، فلبستها فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفست ؟
قلت : نعم ، فدعاني فأدخلني معه في الخميلة" {إن الله يحب} أي : يثيب ويكرم {التوّابين} من الذنوب {ويحب المتطهرين} أي : المتنزهين عن الفواحش والأقذار ، كمجامعة الحائض والإتيان في غير القبل.
{نساؤكم حرث لكم} أي : مزرع ومنبت للولد كالأرض للنبات {فأتوا حرثكم} أي : محله وهو القبل {أنى} أي : كيف {شئتم} من قيام وقعود واضطجاع وإقبال وإدبار.
وروى الشيخان أنّ اليهود كانوا يقولون : من جامع امرأته من دبرها أي : خلفها في قبلها جاء ولدها أحول ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.
{وقدّموا لأنفسكم} من الأعمال الصالحة ، كالتسمية عند الجماع وطلب الولد أي : ما يدخر لكم من الثواب {واتقوا الله} في أمره ونهيه {واعلموا أنكم ملاقوه} بالبعث ، فتزوّدوا ما لا تُفْتَضَحون به فإنه يجازيكم بأعمالكم {وبشر المؤمنين} بالكرامة والنعيم الدائم ، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينصحهم ويبشر من صدقه وامتثل أمره منهم. وقوله تعالى : {ولا تجعلوا الله عرضة لإيمانكم} نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه ، لما حلف أن لا ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفك لافترائه على عائشة رضي الله تعالى عنها ، أو في عبد الله بن رواحة حين حلف أن لا يكلم ختنه أي : زوج أخته بشير بن النعمان ، ولا يصلح بينه وبين أخت.
جزء : 1 رقم الصفحة : 164
فالعرضة كل ما يعرض فيمنع عن الشيء أي : لا تجعلوا الحلف سبباً مانعاً لكم من البرّ والتقوى يدعى أحدكم إلى صلة رحم أو برّ فيقول : حلفت بالله أن لا أفعله ، فيعتل بيمينه في ترك البرّ كما قال تعالى : {أن تبرّوا} أي : مخالفة أن لا تبرّوا ، فهو في موضع نصب مفعول من أجله. وعند الكوفيين لئلا تبرّوا كقوله تعالى : {يبين الله لكم أن تضلوا} (النساء ، 176) أي : لئلا تضلوا ، وقال أبو إسحق في موضع رفع بالابتداء ، والخبر محذوف أي : أن تبرّوا وتتقوا خير لكم وقيل : التقدير في أن تبرّوا ، فلما حذف حرف الجرّ نصب ، وقيل : هو في موضع جرّ بالحرف المحذوف.(1/123)
{وتتقوا وتصلحوا بين الناس} فتكره اليمين على ذلك ، ويسنّ فيه الحنث ويُكَفّر ، لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من حلف بيمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير"
167
بخلافها على فعل البرّ ونحوه فهي طاعة {وا سميع} لأقوالكم {عليم} بأحوالكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 164
{في أيمانكم} واللغو : كل مطروح من الكلام لا يعتدّ به.
واختلف أهل العلم في اللغو في اليمين المذكور في الآية ، فقال قوم : هو ما سبق إلى اللسان على عجلة ، لصلة كلام من غير عقد ولا قصد ، كقول القائل : لا والله ، وبلى والله ، وكلا والله ، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : لغو اليمين كقول الإنسان : لا والله ، وبلى والله ، ورفعه بعضهم ، وبهذا قال الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وقال قوم : هو أن يحلف على شيء يرى أنه صادق ثم يتبين أنه خلاف ذلك وبه قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وقال زيد بن أسلم : هو دعاء الرجل على نفسه كقول الإنسان : أعمى الله بصري إذا لم أفعل كذا ، وكذا فهذا لغو لا يؤاخذ الله به ، قال تعالى : {ويدعو الإنسان بالشرّ دعاءه بالخير} (الإسراء ، 11) وقال تعالى : {ولو يعجل الله للناس الشرّ استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم} (يونس ، 11) .
{ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} أي : قصدته من الإيمان إذا حنثتم {وا غفور} حيث لم يؤاخذكم باللغو {حليم} حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجدّ تربصاً للتوبة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 168
تنبيه : اليمين لا ينعقد إلا بالله العظيم ، أو باسم من أسمائه ، أو صفة من صفاته ، فاليمين بالله كأن يقول : والذي أعبده والذي نفسي بيده وبأسمائه ، كأن يقول : والله والرحمن وبصفاته ، كأن يقول : وعزة الله ، وعظمة الله وجلال الله فإذا حلف بشيء من ذلك على أمر مستقبل ، ثم حنث وجبت عليه الكفارة ، وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى في سورة المائدة ، وإذا حلف على أمر ماض أنه كان ولم يكن ، وهو عالم به حالة ما حلف فهي اليمين الغموس ، وهي من الكبائر ويجب بها الكفارة ، كما قاله الشافعيّ رضي الله تعالى عنه. وقال بعض العلماء : لا كفارة فيها كأكثر الكبائر. وأما الحلف بغير ما ذكر كالحلف بالكعبة وبيت الله ونبيّ الله أو بأبيه ونحوه فلا يكون يميناً ولا تجب به الكفارة إذا حنث وهو يمين مكروه.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر وهو يسير في ركب ، وهو يحلف باسمه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت".
{للذين يؤلون من نسائهم} أي : يحلفون أن لا يجامعوهنّ ، والإيلاء : الحلف ، وتعديته بعلى ، ولكن لما ضمن هذا القسم معنى البعد عدي بمن ، قال قتادة : كان الإيلاء طلاقاً لأهل الجاهلية ، وقال سعيد بن المسيب : كان ذلك من ضرار أهل الجاهلية كان الرجل لا يحب المرأة ولا يريد أن يتزوّجها غيره فيحلف أن لا يقربها أبداً ، فيتركها أبداً لا أيماً ، ولا ذات بعل ، وكانوا عليه في ابتداء الإسلام ، فضرب الله لهم أجلاً في الإسلام كما قال تعالى : {تربص} أي : انتظار {أربعة أشهر} أي : للمولى حق التثبت في هذه المدّة فلا يطالب بفيئة ولا طلاق ، ولذا قال الشافعيّ رضي الله تعالى عنه : لا إيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر ، ويؤيده {فإن فاؤا} أي : رجعوا في المدّة أو بعدها عن اليمين إلى الوطء ؛ لأنّ الفيئة وعزم الطلاق مشروعان عقب الإيلاء وحصول التربص ، فلا بدّ أن يكون مدخول الفاء واقعاً بعدهما {فإنّ الله غفور} لهم ما أتوه من ضرر المرأة بالحلف {رحيم} بهم.
168
{وإن عزموا الطلاق} أي : صَمّموا عليه بأن لم يفيئوا فليوقعوه ، {فإنّ الله سميع} لقولهم {عليم} بعزمهم أي : ليس لهم بعد تربص ما ذكر إلا الفيئة أو الطلاق ، ففيه دليل على أنها لا تطلق بعد مضيّ المدّة ما لم يطلقها زوجها ؛ لأنه شرط فيه العزم وقال : فإنّ الله سميع فدل على أنه يقتضي مسموعاً.
والقول : هو الذي يسمع وقال بعض العلماء : إذا مضت أربعة أشهر يقع عليه طلقة بائنة ، وهو قول ابن عباس وأصحاب الرأي ، وقال سعيد بن المسيب والزهري : يقع عليه طلقة واحدة رجعية ، ولو حلف أن لا يطأها أقل من أربعة أشهر لا يكون مولياً ، بل حالفاً ، إذا وطئها قبل مضي تلك المدّة وجبت عليه كفارة يمين إن كان الحلف بالله ، ولا يختص الإيلاء بالحلف بالله تعالى ، فلو قال لزوجته : إن وطئتك فعبدي حر ، أو ضرّتك طالق ، أو لله عليّ عتق رقبة أو صوم أو صلاة ، فهو مولٍ ، لأنّ المولى من يلزمه أمر يمتنع بسببه من الوطء.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 168(1/124)
والمطلقات يتربصن} ينتظرن {بأنفسهن} عن النكاح {ثلاثة قروء} تمضي من حين الطلاق جمع قرء بفتح القاف وضمها ، وهو يطلق للحيض لقوله عليه الصلاة والسلام كما رواه أبو داود وغيره : "دعي الصلاة أيام أقرائك" ، وللطهر الفاصل بين حيضتين وهو المراد في الآية ؛ لأنه الدال على براءة الرحم لا الحيض ، كما قال به بعض العلماء ، لقوله تعالى : {فطلقوهنّ لعدّتهنّ} أي : وقت عدّتهنّ والطلاق المشروع لا يكون في الحيض ، وأمّا ما رواه أبو داود والترمذيّ وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم "طلاق الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان" فلا يقاوم ما رواه البخاريّ في قصة ابن عمر "مره فليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك ، وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدّة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء" أي : بقوله تعالى : {فطلقوهنّ لعدّتهن}.
فإن قيل : ما معنى ذكر الأنفس فهلا قيل : يتربصن ثلاثة قروء ؟
أجيب : بأنّ في ذكر الأنفس تهييجاً لهنّ على التربص ، وزيادة بعث ؛ لأنّ فيه ما يستنكفن منه ، فيحملهنّ على أن يتربصن ، وذلك أنّ نفس النساء طوامح أي : نواظر إلى الرجال ، فأمرن أن يقمعن أنفسهنّ ويغلبنها على الطموح ، ويجبرنها على التربص ، وكان القياس في جمع قرء أن يذكر بصيغة القلة ، التي هي الإقراء ، ولكنهم يتوسعون في ذلك ، فيستعملون كل واحد من البناءين مكان الآخر ، ألا ترى إلى قوله : بأنفسهنّ وما هي إلا نفوس كثيرة.
قال البيضاويّ : ولعلّ الحكم لما عمّ المطلقات ذوات الإقراء تضمن معنى الكثرة ، فحسن بناء الكثرة ووجوب ذلك في المدخول بهنّ ، أمّا غيرهنّ فلا عدّة لهنّ لقوله تعالى : {وإن طلقتموهنّ من قبل أن تمسوهنّ فما لكم عليهنّ من عدّة تعتدّونها} (الأحزاب ، 49) وفي غير الآيسة والصغيرة فعدّتهنّ
169
ثلاثة أشهر ، والحوامل فعدّتهنّ أن يضعن حملهنّ كما في سورة الطلاق : والإماء فعدّتهنّ قرآن بالسنة.
{ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ} من الولد إن كانت حاملاً ومن الحيض إن كانت حائضاً {إن كنّ يؤمن با واليوم الآخر} قال البيضاويّ : ليس المراد تقييد نفي الحل بإيمانهنّ ، بل التنبيه على أنه ينافي الإيمان أي : كماله ، وأن المؤمن لا يجترىء عليه ولا ينبغي له أن يفعل {وبعولتهنّ} أي : أزواج المطلقات ، والبعولة جمع بعل والتاء لاحقة لتأنيث الجمع كالعمومة والخؤولة ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر من قولك : بعل حسن البعولة نعت به مبالغة كما في رجل عدل أو أقيم مقام المضاف المحذوف أي : وأهل بعولتهنّ {أحق بردّهنّ} أي : بمراجعتهنّ {في ذلك} أي : في زمن التربص.
جزء : 1 رقم الصفحة : 168
فإن قيل : كيف جعلوا أحق بالرجعة فكان للنساء حقاً فيها ؟
أجيب : بأن أفعل ههنا بمعنى الفاعل فإنّ غير البعل لا حق له في الردّ فكأنه قيل : وبعولتهنّ حقيقون بردّهنّ. وقيل : إنه على بابه للتفضيل أي : أحق منهنّ بأنفسهنّ لو أبين الرد ، أو من آبائهنّ ، وسمي الزوج بعلاً لقيامه بأمر زوجته وأصل البعل السيد والمالك.
{إن أرادوا} أي : البعولة {إصلاحاً} بالرجعة ، لإضرار المرأة وليس المراد من هذا اشتراط قصد الإصلاح للرجعة {ولهنّ} على الأزواج {مثل الذي} لهم {عليهنّ} من الحقوق {بالمعروف} شرعاً من حسن العشرة وترك الضرر ونحو ذلك.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في معنى ذلك : إني أحب أن أتزين لامرأتي ، كما تحب أن تتزيّن لي لهذه الآية ، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهن خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم".
فإن قيل : ما المراد بالمماثلة ؟
أجيب : بأنّ المراد أنّ لهنّ حقوقاً على الرجال مثل حقوقهم عليهنّ في الوجوب ، واستحقاق المطالبة عليها لا في الجنس إذ ليس الواجب على كلّ منهما من جنس ما وجب على الآخر ، فلو غسلت ثيابه أو خبزت له لم يلزمه أن يفعل مثل ذلك ، ولكن يقابلها بما يليق بالرجال {وللرجال.
عليهنّ درجة} أي : فضيلة في الحق ؛ لأنّ المرأة تنال من الرجل من اللذة مثل ما ينال الرجل ، وله الفضيلة بقيامه عليها وانفاقه في مصالحها ؛ ولأن حقوقهم في أنفسهنّ بالوطء والتمتع ، وحقوقهنّ المهر والكفاف وترك الضرار ، وقيل بصلاحيته للإمامة والقضاء والشهادة ، وقيل : بالجهاد ، وقيل : بالميراث وقيل : بالدية ، وقيل : بالعقل {وا عزيز} في ملكه قادر على الانتقام ممن خالف الأحكام {حكيم} فيما دبره لخلقه يشرعها لحكم ومصالح.
{الطلاق} أي : التطليق كالسلام بمعنى التسليم أي : الذي يراجع به {مرّتان} أي : اثنتان.
روي عن عروة بن الزبير قال : كان الناس في الابتداء يطلقون من غير حصر ولا عدد ، كان الرجل يطلق امرأته ، فإذا قاربت انقضاء عدّتها راجعها ، ثم طلقها كذلك ثم راجعها بصد مضارتها ، فنزلت هذه الآية.
وروى أبو داود وغيره أنه صلى الله عليه وسلم سئل : أين الثالثة ؟
فقال صلى الله عليه وسلم "أو تسريح بإحسان"
170(1/125)
{فإمساك} أي : فعليكم إمساكهنّ إذا راجعتموهنّ بعد الطلقة الثانية {بمعروف} وهو كل ما يعرف في الشرع من أداء حقوق النكاح وحسن الصحبة {أو تسريح بإحسان} بالطلقة الثالثة ، أو بأن لا يراجعها حتى تبين منه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 168
تنبيه : اختلف العلماء فيما إذا كان أحد الزوجين رقيقاً ، فذهب الأكثر ومنهم الشافعيّ رضي الله تعالى عنه إلى أنه يعتبر عدد الطلاق بالزوج ، فالحرّ يملك على زوجته الأمة ثلاث طلقات ، والعبد لا يملك على زوجته الحرّة إلا طلقتين وذهب الأقلّ ومنهم أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه ، إلى أن الاعتبار بالمرأة في عدد الطلاق كالعدّة ، فيملك العبد على زوجته الحرّة ثلاث طلقات ولا يملك الحرّ على زوجته الأمة إلا طلقتين.
{ولا يحلّ لكم} أيها الأزواج {أن تأخذوا مما آتيتموهنّ} من المهور {شيئاً} إذا طلقتموهنّ. روي أنها نزلت في جميلة أخت عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، كانت تبغض زوجها ثابت بن قيس فشكته إلى أبيها فقال : ارجعي إلى زوجك ، فإني أكره للمرأة أن لا تزال رافعة يديها تشكو زوجها ، فلما رأت أباها لم يشكها رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل خلفه فجاءه ، فقال له : "مالك ولأهلك ؟
" قال : والذي بعثك بالحق نبياً ما على وجه الأرض أحبّ إليّ منها غيرك فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما تقولين ؟
" فقالت : هو مني أكرم الناس حباً لزوجته ولكن ، لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي ، ورأسه شيء والله لا أعيبه في دين ولا خلق ، ولكن أكره الكفر في الإسلام ، ما أطيقه بغضاً أي : أكره إن أقمت عنده أن أقع فيما يقتضي الكفر بغضاً فيه ، ويحتمل أن تريد كفران العشرة ـ إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدّة ، فإذا هو أشدّهم سواداً وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً ، فقال ثابت : قد أعطيتها حديقة فقل لها فلتردّها عليّ وأخلي سبيلها ، فقال لها : "تردّين عليه حديقته وتملكين أمرك ؟
" قالت : نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا ثابت خذ منها ما أعطيتها وخلّ سبيلها" ففعل.
وفي رواية : "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة".
{إلا أن يخافا} أي : الزوجان {أن لا يقيما حدود الله} أي : لا يأتيا بما حدّه لهما من الحقوق ، وقرأ حمزة يخافا بضمّ الياء بالبناء للمفعول ، فإن مع صلتها بدل اشتمال من الضمير في يخافا والباقون بفتحها بالبناء للفاعل {فإن خفتم} أيها الأئمة والحكام {أن لا يقيما حدود الله} أي : ما حدّه من الأحكام {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} نفسها من المال ليطلقها أي : لا حرج على الزوج في أخذه ، ولا على الزوجة في بذله ، وهذا هو الأصل ، وإلا فيجاز على عوض وإن لم يخافا.
تنبيه : علم مما تقرّر : أنّ الخطاب في الأوّل للزوجين ، وثانيها للأئمة والحكام ، ونحو ذلك غير عزيز في القرآن وغيره. ويجوز أن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام ولا ينافي ذلك قوله تعالى : {أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً} لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم
171
فكأنهم الآخذون والمؤتون.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 168
تلك} أي : الأحكام المذكورة {حدود الله} وهي ما منع الشرع من المجاوزة عنه {فلا تعتدوها} أي : فلا تتعدّوها بالمخالفة وقوله تعالى : {ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون} تعقيب للنهي بالوعيد مبالغة في التهديد.
تنبيه : ظاهر الآية يدلّ على أنّ الخلع لا يجوز من غير كراهة وشقاق ، ولا بجميع ما ساق الزوج إليها فضلاً عن الزائد ، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما رواه البيهقيّ : "أيّما امرأة سألت زوجها طلاقاً من غير بأس ـ أي : ضرر فحرام عليها رائحة الجنة". وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لجميلة : "أتردّين عليه حديقته ؟
فقالت : أردّها وأزيد عليها ، فقال عليه الصلاة والسلام : أمّا الزائد فلا" فالجمهور استكرهوا الخلع ، ولكن نفذوه فإنّ المنع عن العقد لا يدل على فساده وإنه يصح بلفظ المفاداة فإنه سماه افتداء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 168
{فإن طلقها} أي : الزوج الثنتين {فلا تحل له من بعد} أي : بعد الطلقة الثالثة {حتى تنكح} أي : تتزوّج {زوجاً غيره} أي : المطلق والنكاح يتناول العقد والوطء ، وتعلق بظاهر الآية من اقتصر على العقد كابن المسيب ، والجمهور على أنه لا بدّ من الإصابة ، لما روى الشيخان "أن امرأة رفاعة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ رفاعة طلقني وإنّ عبد الرحمن بن الزَّبِير ـ أي : بفتح الزاي وكسر الباء ـ تزوّجني ، وإنما معه مثل هدبة الثوب فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أتريدين أن ترجعي
172(1/126)
إلى رفاعة ؟
لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" ، فالآية مطلقة قيدتها السنة ، ويحتمل أن يفسر النكاح بالإصابة ، ويكون العقد مستفاداً من لفظ الزوج ، والعسيلة مجاز عن قليل الجماع ، إذ يكفي قليل انتشار ، شبهت تلك اللذة بالعسل وصغرت ولحقتها الهاء ؛ لأن الغالب على العسل التأنيث قاله الجوهري.
وروي أنها لبثت ما شاء الله ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : إنّ زوجي قد مسني فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم "كذبت في قولك الأوّل فلن أصدقك في الآخر" فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكر فقالت : يا خليفة رسول الله أرجع إلى زوجي الأوّل فإنّ زوجي الآخر مسني وطلقني فقال لها أبو بكر : قد شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتيته ، وقال لك ما قال ، فلا ترجعي إليه ، فلما قبض أبو بكر أتت عمر ، وقالت له مثل ذلك فقال لها عمر : لئن رجعت إليه لأرجمنك".
جزء : 1 رقم الصفحة : 172
والحكمة في التحلل الردع عن المسارعة إلى الطلاق ، والعود إلى المطلقة ثلاثاً والرغبة فيها ، والنكاح بشرط التحليل فاسد عند الأكثر ، وجوّزه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه مع الكراهة ، وقد "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له" رواه الترمذيّ والنسائيّ وصححه. وعن عمر رضي الله تعالى عنه : لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما.
تنبيه : شملت الآية الكريمة : ما إذا طلق الزوج زوجته الأمة ثلاثاً ثم ملكها ، فإنه لا يحلّ له أن يطأها بملك اليمين ، حتى تنكح زوجاً غيره {فإن طلقها} الزوج الثاني بعدما أصابها {فلا جناح عليهما} أي : المرأة والزوج الأوّل {أن يتراجعا} إلى النكاح بعقد جديد بعد انقضاء العدّة {إن ظنا} أي : إن كان في ظنهما {أن يقيما حدود الله} أي : ما حدّه الله وشرعه من حقوق الزوجية ، هذا هو الأصل ، وإلا فهو ليس بشرط للجواز ولم يقل إن علما أنهما يقيمان ؛ لأنّ اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله.
قال في "الكشاف" ومن فسر الظنّ هنا بالعلم فقد وهم من طريق اللفظ والمعنى ؛ لأنك لا تقول : علمت أن يقوم زيد ، ولكن علمت أنه يقوم ؛ ولأنّ الإنسان لا يعلم ما في الغد وإنما يظنّ ظناً {وتلك} أي : الأحكام المذكورة {حدود الله بينها لقوم يعلمون} أي : يتدبرون ما أمرهم الله تعالى به ويفهمونه ، ويعلمونه بمقتضى العلم.
{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنّ} أي : قاربن انقضاء عدّتهن ولم يرد انقضاء العدّة حقيقة ؛ لأنّ العدّة إذا انقضت لم يكن للزوج إمساكها فالبلوغ ههنا بلوغ مقاربة. وفي قوله تعالى بعد ذلك : {فبلغن أجلهنّ فلا تعضلوهنّ} حقيقة انقضاء العدّة والبلوغ يتناول المعنيين ، يقال : بلغ المدينة إذا قرب منها وإذا دخلها {فأمسكوهنّ} بأن تراجعوهنّ {بمعروف} من غير ضرار ، وقيل : بأن يشهد على رجعتها وأن يراجعها بالقول لا بالوطء {أو سرّحوهنّ بمعروف} أي : اتركوهنّ حتى تنقضي عدّتهنّ ، فيكنّ أملك بأنفسهنّ {ولا تمسكوهنّ} بالرجعة وقوله تعالى : {ضراراً} مفعول له
173
{لتعتدوا} أي : لا تقصدوا بالمراجعة المضارة بتطويل الحبس. نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار ، طلق امرأته حتى إذا قرب انقضاء عدّتها راجعها ثم طلقها بقصد مضارتها ، {ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه} أي : أضرّ بها بتعريضها إلى عذاب الله ، وقرأ أبو الحارث الليث بإدغام اللام من يفعل في الذال حيث جاء والباقون بالإظهار {ولا تتخذوا آيات الله هزواً} أي : مهزؤاً بها بمخالفتها ؛ لأنّ كل من خالف أمر الشرع فهو متخذ آيات الله هزواً ، وقيل : كان الرجل يتزوّج ويطلق ويعتق ويقول : كنت ألعب فنزلت.
جزء : 1 رقم الصفحة : 172
وروي عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال : "ثلاث جدّهنّ جدّ : وهزلهنّ جدّ الطلاق والنكاح والرجعة" {واذكروا نعمت الله عليكم} التي من جملتها الإسلام والإيمان وبعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم {وما أنزل عليكم من الكتاب} أي : القرآن {والحكمة} أي : السنة ، أفردهما بالذكر إظهاراً لشرفهما وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقوقها {يعظكم به} أي : بما أنزل عليكم ليدعوكم به إلى دينه {واتقوا الله واعلموا أنّ الله بكل شيء عليم} لا يخفى عليه شيء ففي ذلك تأكيد وتهديد.
{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنّ} أي : انقضت عدّتهنّ {فلا تعضلوهنّ} أي : تمتعوهنّ من {أن ينكحن أزواجهنّ} أي : المطلقين لهنّ. وعن الشافعيّ رضي الله تعالى عنه دل سياق الكلامين أي : وهما أمسكوهنّ إلخ.. و"فلا تعضلوهنّ" على افتراق البلوغين ، فالمراد بالأوّل المقاربة ، وبالثاني الوصول كما تقرّر ، والعضل الحبس والتضييق ، ومن العضل بهذا المعنى عضلت الدجاجة إذا علقت بيضتها فلم تخرج.(1/127)
فائدة : رسمت التاء في نعمت بالتاء المجرورة ، ووقف ابن كثير وأبو عمرو والكسائيّ بالهاء ، ويميلها الكسائيّ في الوقف ، ووقف الباقون بالتاء على الرسم والمخاطب بذلك الأولياء لما روي أنه نزلت في معقل بن يسار ، حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأوّل ، ففي الآية دليل على أنّ المرأة لا تزوّج نفسها ، إذ لو تمكنت منه لم يكن لعضل الوليّ فائدة ، ولا يعارض ذلك بإسناد النكاح إليهنّ ؛ لأنه إنما أسند إليهن لتوقف النكاح على إذنهنّ ، وقبل الخطاب للأولياء والأزواج ، وقيل : للناس كلهم أي : لا يوجد فيما بينكم هذا الأمر ، فإنه إن وجد بينهم وهم راضون به كانوا كالفاعلين.
له وقوله تعالى : {إذا تراضوا بينهم} أي : الأزواج والنساء ظرف ؛ لأن ينكحن أو لا تعضلوهنّ وقوله تعالى : {بالمعروف} أي : بما يعرفه الشرع ويستحسنه من كونه بعقد حلال حال من ضمير تراضوا ، أو صفة مصدر محذوف أي : تراضياً كائناً بالمعروف وفيه دلالة على أنّ العضل عن التزوج من غير كف غير منهي عنه {ذلك} أي : النهي عن العضل {يوعظ به من كان منكم يؤمن با واليوم الآخر} لأنه المتعظ أو المنتفع به.
فإن قيل : لمن الخطاب في قوله : {ذلك يوعظ به} ؟
أجيب : بأنه يجوز أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل أحد كما في قوله تعالى : {يأيها النبيّ إذا طلقتم النساء} (الطلاق ، 1) ونحوه {ذلكم} أي : ترك العضل {أزكى} أي : أنفع {لكم وأطهر} لكم ولهنّ من دنس الآثام لما يخشى على الزوجين من الريبة بسبب العلاقة بينهما {وا يعلم} ما فيه المصلحة {وأنتم لا تعلمون} ذلك
174
لقصور علمكم ، وقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 172
{والوالدات يرضعن أولادهنّ} خبر بمعنى الأمر كقوله تعالى : {والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ} وهو أمر استحباب لا أمر إيجاب ، لأنه لا يجب عليهنّ الإرضاع إذا كان يوجد من يرضع الولد ، لقوله تعالى في سورة الطلاق : {فإن أرضعن لكم فآتوهنّ أجورهنّ} فإن رغبت الأمّ في الإرضاع فهي أولى من غيرها ، أمّا إذا لم يوجد من يرضعه فيجب عليها إرضاعه ، والوالدات يعمّ المطلقات وغيرهنّ وقيل : يختص بالمطلقات إذ الكلام فيهنّ {حولين} أي : عامين {كاملين} صفة مؤكدة كما في قوله تعالى : {تلك عشرة كاملة} (البقرة ، 196) لأنّ العرب قد تسمي بعض الحول حولاً ، وبعض الشهر شهراً ، كما قال الله تعالى : {الحج أشهر معلومات} (البقرة ، 197) وإنما هو شهران وبعض الثالث وقال تعالى : {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} (البقرة ، 203) وإنما يتعجل في يوم وبعض يوم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 175
وقال قتادة : فرض الله على الوالدات إرضاع حولين كاملين ثم أنزل التخفيف فقال : {لمن أرد أن يتم الرضاعة} أي : هذا منتهى الرضاع ، وليس فيما دون ذلك حدّ محدود ، إنما هو على مقدار إصلاح المولود وما يعيش به.
{وعلى المولود له} أي : الوالد {رزقهنّ} أي : إطعام الوالدات {وكسوتهنّ} أجرة لهنّ على الإرضاع إذا كنّ مطلقات ، واختلف في استئجار الأم للإرضاع فجوّزه الشافعيّ ومنعه أبو حنيفة ما دامت زوجة أو معتدّة نكاح.
فإن قيل : لِمَ قال تعالى : {المولود له} دون الوالد ؟
أجيب : بأنه تعالى إنما ذكر ذلك ليعلم أنّ الوالدات إنما ولدن لهم ؛ لأنّ الأولاد للآباء ولذلك ينتسبون إليهم لا إلى الأمّهات. وأنشد للمأمون بن الرشيد :
*فإنما أمّهات الناس أرعية ** مستودعات وللآباء أبناء*
فكان عليهم أن يرزقوهنّ ويكسوهنّ إذا أرضعن ولدهم ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى وهو قوله تعالى : {واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً} (لقمان ، 33) وقوله تعالى : {بالمعروف} يفسره ما يعقبه وهو قوله تعالى : {لا تكلف نفس إلا وسعها} أي : طاقتها فلا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه {لا تضارّ والدة بولدها} أي : بسببه ، بأن تكره على إرضاعه أو تكلف فوق طاقتها {ولا} يضار {مولود له بولده} أي : بسببه ، بأن يكلف فوق طاقته ، وإضافة الولد إلى كلّ منهما للاستعطاف ، وللتنبيه على أنّ الولد حقيق بأن يتفقا على استصلاحه ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو تضار بضمّ الراء بدل من قوله : لا تكلف والباقون بفتحها {وعلى الوارث} أي : وارث الأب ، وهو الولد أي : على الوليّ في مال الولد {مثل ذلك} أي : الذي كان على الأب للوالدة من الرزق والكسوة ، وقيل : هو وارث الولد الذي لو مات الولد لورثه ، وقيل : الباقي من الأبوين أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم "اللهمّ متعنا بأسماعنا وأبصارنا واجعلهما الوارث ـ أي : الباقي ـ منا" والمعنى واجعل كل منهما في لزومه لنا مدّة الحياة كأنه باق بعد الموت {فإن أرادا} أي : الوالدان {فصالاً} أي : فطاماً له صادر {عن
175(1/128)
تراض} أي : اتفاق {منهما وتشاور} بينهما فتظهر مصلحة الولد فيه {فلا جناح عليهما} في ذلك ، زاد على الحولين أو نقص ، وهذه توسعة بعد التحديد ، وإنما اعتبر تراضيهما مراعاة لصلاح الولد ، حذراً أن يقدم أحدهما على ما يضرّ به لغرض أو غيره {وإن أردتم} خطاب للأولياء {أن تسترضعوا} مراضع غير الوالدات {أولادكم} يقال : أرضعت المرأة الطفل واسترضعتها إياه ، فحذف المفعول الأوّل للاستغناء عنه كما يقال : استنجحت الحاجة ، ولا تذكر من استنجحته وكذلك حكم كل مفعولين يكون أحدهما عبارة عن الأوّل ، هذا ما جرى عليه الزمخشريّ ، من أن استرضع يتعدّى لمفعولين بنفسه ، والجمهور على أنه إنما يتعدّى إلى الثاني بحرف الجرّ ، وتقديره هنا لأولادكم {فلا جناح عليكم} في ذلك {إذا سلمتم} إليهن {ما آتيتم} أي : أردتم إيتاءه لهن من الأجرة ، كقوله تعالى : {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (المائدة ، 6) وإنما قدّر ذلك ؛ لأنّ ما تحقق إيتاؤه لا يتصوّر تسليمه في المستقبل ، وقوله تعالى : {بالمعروف} صلة سلمتم أي : بالوجه المتعارف المستحسن شرعاً ، وجواب الشرط محذوف ، دل عليه ما قبله ، وليس اشتراط التسليم لجواز الاسترضاع بل لسلوك ما هو الأولى والأصلح للطفل. وقرأ ابن كثير بقصر همزة أتيتم ، من أتى إليه إحساناً إذا فعله ومنه قوله تعالى : {إنه كان وعده مأتياً} (مريم ، 61) أي : مفعولاً والباقون بالمد وهم على مراتبهم ، وقوله تعالى : {واتقوا الله} مبالغة في المحافظة على ما شرع في أمر الأطفال والمراضع ثم حثهم على ذلك وهدّدهم بقوله تعالى : {واعلموا أنّ الله بما تعملون بصير} لا يخفى عليه شيء منه.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 175
والذين يُتوفَّون} أي : يموتون {منكم ويذرون} أي : يتركون {أزواجاً يتربصن} أي : ينتظرن {بأنفسهنّ} وهو خبر بمعنى الأمر ، وهو أمر إيجاب أي : يجب عليهن أن يتربصن بعدهم عن النكاح {أربعة أشهر وعشراً} أي : عشرة أيام وكان القياس تذكير العدد بأن يؤتى فيه بالثاء ولكن لما حذف المعدود جاز فيه ذلك كما في قوله تعالى : {إن لبثتم إلا عشراً} (طه ، 103) ثم {إن لبثتم إلا يوماً} (طه ، 104) لأنّ قوله في سورة طه : {إن لبثتم إلا يوماً} بعد قوله : {إن لبثتم إلا عشراً} يدل على أنّ المراد بالعشر الأيام وإن ذكر بما يدل على الليالي ، لأنهم اختلفوا في مدّة اللبث ، فقال بعضهم : عشر وبعضهم يوم فدل على أنّ المقابل باليوم إنما هو أيام الليالي ، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم "من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوّال". قال البيضاويّ : ولعلّ المقتضي لهذا التقدير أي : بهذه المدّة أنّ الجنين في غالب الأمر يتحرّك لثلاثة أشهر إن كان ذكراً ، ولأربعة إن كان أنثى ، فاعتبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشر استظهاراً ، إذ ربما تضعف حركته في المبادي ، فلا يحسن بها أي بالحركة اه. وهذا في غير الحوامل أمّا هن فعدّتهن أن يضعن حملهن بآية الطلاق ، وفي غير الإماء فإنهن على النصف من ذلك بالسنة. وعن علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أنّ الحامل تعتدّ بأقصى الأجلين احتياطاً.
وحكي عن أبي الأسود الدؤلي أنه كان يمشي خلف جنازة فقال له رجل : من المتوفِّى ؟
بكسر الفاء فقال الله : وكان أحد الأسباب الباعثة لعلي رضي الله تعالى عنه على أن أمره أن يضع كتاباً في النحو ، لكن يجوز الكسر على معنى أنه مستوف أجله ، ويدل له قوله تعالى : {والذين يتوفون} بفتح الياء على قراءة شاذة نقلت عن علي ، أي : يستوفون آجالهم.
176
{فإذا بلغن أجلهن} أي : انقضت عدّتهن {فلا جناح} أي : لا حرج {عليكم} أيها الأولياء {فيما فعلن في أنفسهن} أي : من التعرّض للخطاب وسائر ما حرم عليهن للعدّة دون العقد ، فإنّ العقد إلى الولي وقيل : المخاطب بذلك الأئمة أو المسلمون جميعاً.
{بالمعروف} أي : بالوجه الذي لا ينكره الشرع ومفهومه أنهن لو فعلن ما ينكر فعلى المخاطب أن يكفهن ، فإن قصر فعليه الجناح {وا بما تعملون خبير} عالم بباطنه كظاهره فيجازيكم عليه.
{ولا جناح} أي : لا حرج {عليكم فيما عرضتم به} والتعريض في الكلام ما يفهم منه السامع مراده بما لم يوضع له حقية ولا مجازاً كقول السائل : جئتك لأسلّم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم ولذلك قالوا :
*
جزء : 1 رقم الصفحة : 175
وجئتك بالتسليم مني تقاضيا*(1/129)
ويسمى التلويح لأنه يلوح منه ما يريده ، والفرق بينه وبين الكناية أنّ الكناية : هي الدلالة على الشيء بذكر لوازمه وروادفه كقولك : طويل النَّجاد للطويل ، وهو بكسر النون حمائل السيف ، وكثير الرماد للمضياف {من خطبة النساء} المعتدات للموفاة ، والخطبة بالضم والكسر اسم الهيئة ، غير أنّ المضمومة خصت بالموعظة ، والمكسورة بطلب المرأة للنكاح والتعريض بالخطبة مباح في عدّة الوفاة ، وهو أن يقول : رب راغب فيك من يجد مثلك ، إنك لجميلة ، وإنك لصالحة ، وإنك لعليّ كريمة ، وإني فيك لراغب ، وإنّ من غرضي أن أتزوّج ، وإن جمع الله بيني وبينك بالحلال أعجبتني ، ولأن تزوّجتك لأحسنن إليك ، ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه ، من غير أن يصرح بالنكاح فلا يقول : انكحيني والمرأة تجيبه بمثله إن رغبت فيه.
روى ابن المبارك عن عبد الرحمن بن سليمان عن خالته قالت : دخل عليّ أبو جعفر محمد بن علي ، وأنا في عدّتي فقال : قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدّي عليّ وقدمي في الإسلام ، فقلت : قد غفر الله لك أتخطبني في عدّتي ، وأنت يؤخذ عنك ، فقال : أوقد فعلت إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي ، "قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمّ سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها فلم يزل يذكر لها منزلته من الله تعالى وهو متحامل على يديه حتى أثر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها ، فما كانت تلك خطبة". وأمّا عدّة الفرقة في الحياة فيحل لغير صاحب العدّة التعريض في غير رجعية ، لعدم سلطنة الزوج عليها.
أمّا التصريح فحرام إجماعاً وأما الرجعية فلا يحل التعريض لها ؛ لأنها في حكم الزوجة أما صاحب العدّة فيحل له التعريض والتصريح إن حل له نكاحها ، وإلا فلا.
{أوأكننتم} أي : أضمرتم {في أنفسكم} من نكاحهنّ ، فلم تذكروه تصريحاً ولا تعريضاً ، قال السّدّي : هو أن يدخل فيسلم ويهدي إن شاء ، ولا يتكلم بشيء {علم الله أنكم ستذكرونهنّ} بالخطبة ولا تصبرون عنهنّ فأباح لكم التعريض وفيه نوع توبيخ {ولكن لا تواعدوهنّ سراً} أي :
177
نكاحاً فالسر كناية عن النكاح الذي هو الوطء ؛ لأنه مما يسر قال الأعشى :
*ولا تقربنّ جارة إنّ سرها ** عليك حرام فانكحن أو تأبدا*
وقال امرىء القيس :
*ألا زعمت ساسة اليوم أنني ** كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي*
جزء : 1 رقم الصفحة : 175
ثم عبر بالسر الذي هو كناية عن الوطء عن عقد النكاح ؛ لأنّ العقد سبب في الوطء وقيل : هو الزنا ، كان الرجل يدخل على المرأة من أجل الزينة ، وهو يعرض بالنكاح ويقول لها : دعيني فإذا وفيت عدتك أظهرت نكاحك قاله الحسن. وقيل : هو أن يصف نفسه لها بكثرة الجماع كأن يقول : آتيك الأربعة والخمسة ونحو ذلك.
فإن قيل : أين المستدرك بقوله : ولكن لا تواعدوهنّ سراً ؟
أجيب : بأنه محذوف لدلالة ستذكرونهنّ عليه ، تقديره : علم الله أنكم ستذكرونهنّ فاذكروهنّ ولكن لا تواعدوهنّ سراً. {إلا أن تقولوا قولاً معروفاً} أي : ما عرف شرعاً من التعريض فلكم ذلك ، فإن قيل : أين المستثنى منه ؟
أجيب : بأنه محذوف أي : لا تواعدوهنّ مواعدة إلا مواعدة معروفة غير منكرة ، أو إلا مواعدة بقول معروف.
قال في "الكشاف" : ولا يجوز أن يكون استثناءً منقطعاً من "سراً" لأدائه إلى قولك : لا تواعدوهنّ إلا التعريض ، وقال البيضاوي : وقيل : إنه استثناء منقطع من سراً وهو ضعيف لأدائه إلى قولك : لا تواعدوهن إلا التعريض ، وهو ـ أي : التعريض ـ غير موعود أي : بل منجز سراً أي : في السر على أن المواعدة في السر عبارة عن المواعدة بما يستقبح لأنّ مسارتهنّ في الغالب مما يستحيا من المجاهرة به.
{ولا تعزموا عقدة النكاح} أي : على عقده ، وفي ذلك مبالغة في النهي عن عقد النكاح في العدّة ؛ لأنّ العزم يتقدّم على العقد فإذا نهي عما يتقدمه فهو أولى بالنهي ، كما في قوله تعالى : {ولا تقربوا الزنا} (الإسراء ، 42) {حتى يبلغ الكتاب} أي : المكتوب {أجله} بأن ينتهي ما فرض فيه من العدّة {واعلموا أنّ الله يعلم ما في أنفسكم} من العزم وغيره {فاحذروه} أى : خافوا عقابه {واعلموا أنّ الله غفور} لمن عزم ولم يفعل خوفاً من الله {حليم} لا يعاجلكم بالعقوبة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 175
178
أي : تجامعوهنّ {أو} لم {تفرضوا لهنّ فريضة} أي : مهراً ، وما مصدرية ظرفية ، أي : لا تبعة عليكم في الطلاق زمن عدم المسيس والفرض بإثم ولا مهر ، والتبِعة بكسر الباء : ما يتبع المال أو البدن من نوائب الحقوق ، وهو من تبعت الرجل بحقي. وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء وألف بعد الميم ، والباقون بفتح التاء ولا ألف بعد الميم.(1/130)
وقوله تعالى : {ومتعوهن} عطف على مفسد ، ولأنه طلب فلا يعطف على "لا جناح" ؛ لأنه خبر أي : فطلقوهنّ ومتّعوهن ، والحكمة في إيجاب المتعة جبر إيحاش الطلاق ، ويسن أن لا تنقص عن ثلاثين درهماً أو ما قيمته ذلك ، وإذا تراضيا بشيء فذاك ، وإن تنازعا في قَدْرِها قَدّرَها قاض باجتهاده بقدر حالهما من يساره وإعساره ، ونسبها وصفاتها ، كما قال تعالى : {على الموسع} أي : الغني منكم {قدره} أي : ما يطيقه ويليق به {وعلى المقتر} أي : ضيق الرزق {قدره} أي : ما يطيقه ويليق به. ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لأنصاري طلق امرأته المفوّضة قبل أن يمسها : "أمتعتها" قال : لم يكن عندي شيء قال : "متعها بقلنسوتك". ومفهوم الآية يقتضي تخصيص إيجاب المتعة للمفوّضة التي لم يمسها الزوج ، وألحق بها الشافعي رضي الله تعالى عنه الممسوسة المفوّضة وغيرها قياساً وهو مقدّم على المفهوم.
وقرأ ابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بفتح الدال ، والباقون بسكونها وقوله تعالى : {متاعاً} تأكيداً لمتعوهن بمعنى تمتيعاً وقوله تعالى : {بالمعروف} أي : شرعاً صفة "متاعاً" وقوله تعالى : {حقاً} صفة ثانية لمتاعاً أي : متاعاً واجباً عليهم ، أو مصدر مؤكد أي : حق ذلك حقاً {على المحسنين} أي : المطيعين الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال ، أو إلى المطلقات بالتمتيع ، وسماهم قبل الفعل محسنين كما قال عليه الصلاة والسلام : "من قتل قتيلاً فله سلبه" ترغيباً وتحريضاً. ولما ذكر الله تعالى حكم المفوّضة أتبعها حكم قسيمها بقوله تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 178
وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} يجب لهن ويرجع لكم النصف ، وهو دليل على أنّ الجناح المنفي ثم تبعة المهر ، وأن لا متعة مع التشطير ؛ لأنه قسيمها {إلا} لكن {أن يعفون} أي : الزوجات فلا يأخذن شيئاً.
فإن قيل : أي فرق بين قولك : الرجال يعفون والنساء يعفون ؟
أجيب : بأن الواو في الأوّل ضمير هم ، والنون علم الرفع والواو في الثاني لام الفعل ، والنون ضميرهن ، والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل ، وهو في محل النصب.
{أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} وهو الزوج المالك لعقده وحله ، كما يعود إليه بالتشطير
179
فيترك لها الكل. وقيل : هو الولي إذا كانت المرأة محجورة ، وهو قول قديم للشافعيّ ، وهو مروي عن ابن عباس ، وقوله تعالى : {وأن تعفوا} مبتدأ خبره {أقرب للتقوى} والخطاب للرّجال والنساء جميعاً ؛ لأنّ المذكر والمؤنث إذا اجتمعا كانت الغلبة للمذكر أي : وعفو بعضكم عن بعض أقرب للتقوى {ولا تنسوا الفضل بينكم} أي : أن يتفضل بعضكم على بعض بإعطاء الرجل تمام الصداق أو بترك المرأة نصيبها ، حثهما جميعاً على الإحسان {إنّ الله بما تعملون بصير} لا يضيع فضلكم وإحسانكم بل يجازيكم به.
{حافظوا على الصلوات} الخمس بأدائها في أوقاتها ، ولعل الأمر بالصلاة إنما وقع في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج ؛ لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها. {والصلاة الوسطى} أي : الوسطى بين الصلوات أو الفضلى ، من قولهم للأفضل : الأوسط ، وإنما أفردت وعطفت على الصلوات لانفرادها بالفضل ، وهي صلاة العصر على الراجح لقوله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم ناراً" وفضلها لكثرة اشتغال الناس في وقتها واجتماع الملائكة قال صلى الله عليه وسلم "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" وقيل صلاة الصبح ، لأنها بين صلاتي الليل والنهار ، والواقعة في الجزء المشترك بينهما لأنها مشهودة تشهدها الملائكة الحفظة ، نصّ عليها الشافعيّ رحمه الله تعالى لكن رجح الأصحاب الأوّل عملاً بقوله : حيث صحّ الحديث فهو مذهبي وقيل : صلاة الظهر ؛ لأنها وسط النهار ، وكانت أشق الصلوات عليهم ، فكانت أفضل لأنه صلى الله عليه وسلم "سئل : أيّ الأعمال أفضل ؟
فقال : "أحزمها" وهو بحاء مهملة وزاي أقواها وأشدها ، وقيل : صلاة المغرب لأنها متوسطة بالعدد لأنّ عددها بين عددي الركعتين والأربع ، وقيل : صلاة العشاء لأنها بين جهريتين واقعتين طرفي النهار لا يقصران ، وهما المغرب والصبح وقال بعضهم : هي إحدى الصوات الخمس لا بعينها أبهمها الله تعالى تحريضاً للعباد في المحافظة على أداء جميعها ، كما أخفى ليلة القدر في شهر رمضان ، وساعة إجابة الدعوة في يوم الجمعة وأخفى اسمه الأعظم في الأسماء ليحافظوا على جميعها {وقوموا } في الصلاة {قانتين} أي : مطيعين لقوله صلى الله عليه وسلم "كل قنوت في القرآن فهو طاعة" أو ساكنين لحديث زيد بن أرقم : "كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت ، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام" ، رواه الشيخان.
جزء : 1 رقم الصفحة : 178
وقال ابن المسيب المراد به القنوت في الصبح.(1/131)
{فإن خفتم} من عدوّ أو سبع أو سيل أو نحو ذلك {فرجالاً} جمع راجل أي : مشاة صلوا {أو ركباناً} جمع راكب أي : كيف أمكن مستقبلي القبلة ، وغير مستقبليها ويومىء بالركوع والسجود ، ويجعل السجود أخفض من الركوع. والصلاة في حال الخوف على أقسام وهذه صلاة
180
شدّة الخوف وسيأتي بقية الأقسام إن شاء الله تعالى في سورة النساء. ولا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند أكثر أهل العلم.
وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم قال : "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين" وفي الخوف ركعة ، وفي الآية دليل على وجوب الصلاة حال المقاتلة ، وإليه ذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه ، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : لا يصلي حال المشي والمقاتلة ما لم يمكن الوقوف ، وقال سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه : إذا كنت في القتال وضرب الناس بعضهم بعضاً فقل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر واذكر الله فتلك صلاتك {فإذا أمنتم} من الخوف {فاذكروا الله} أي : صلوا الصلوات الخمس تامّة بحقوقها {كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} قبل تعليمه من فرائضها وحقوقها ، والكاف بمعنى مثل وما موصولة أو مصدرية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 178
{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم} قرأ نافع وابن كثير وشعبة والكسائي وصية بالرفع أي : فعليهم وصية ، والباقون بالنصب أي : فليوصوا وصية ، وقوله تعالى : {متاعاً} نصب على المصدر أي : متعوهنّ متاعاً أي : يتمتعن به من النفقة والكسوة {إلى} تمام {الحول} من موتهم الواجب عليهنّ تربصه ، وقوله تعالى : {غير إخراج} نصب على الحال أي غير مخرجات من مسكنهنّ. نزلت هذه الآية في رجل من أهل الطائف ، يقال له الحكم بن الحارث ، هاجر إلى المدينة وله أولاد ومعه أبواه وامرأته ، فمات فأنزل الله هذه الآية ، "فأعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم والديه وأولاده من ميراثه ولم يعط امرأته شيئاً وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً" ، وكانت عدّة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً ، وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول ، وكان نفقتها وسكناها واجبة في مال زوجها تلك السنة ، ما لم تخرج ولم يكن لها الميراث ، فإن خرجت من بيت زوجها سقطت نفقتها ، وكان على الرجل أن يوصي بها ، فكان كذلك حتى نزلت آية الميراث ففسخ الله تعالى نفقة الحول بالربع والثمن ، ونسخ عدّة الحول بآية {أربعة أشهر وعشراً} السابقة.
فإن قيل : كيف نسخت الآية السابقة المتأخرة ؟
أجيب : بأنها متقدّمة في التلاوة متأخرة في النزول كما في قوله تعالى : {سيقول السفهاء} (البقرة ، 142) مع قوله : {قد نرى تقلب وجهك في السماء} (البقرة ، 144) {فإن خرجن} من قبل أنفسهنّ قبل الحول من غير إخراج الورثة {فلا جناح عليكم} يا أولياء الميت {فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف} شرعاً كالتزين وترك الإحداد وقطع النفقة عنها ، خيرها الله تعالى بين أن تقيم حولاً ولها النفقة والسكنى ، وبين أن تخرج ولا نفقة لها ولا سكنى ، إلى أن نسخه بأربعة أشهر وعشراً {وا عزيز} في ملكه {حكيم} في صنعه لا يسئل عما يفعل.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 181
وللمطلقات متاع} أي : يعطينه {بالمعروف} بقدر الإمكان وقوله تعالى : {حقاً} نصب بفعله المقدّر {على المتقين} الله.
فإن قيل : لم كرر الله تعالى ذلك ؟
أجيب : بأنّ ذلك لحكمة ، وهي أن الآية السابقة في غير
181
الممسوسة وهذه أعم منها ، فتشمل الممسوسة أيضاً.
{كذلك} أي : كما بيّن لكم ما سبق من أحكام الطلاق والعدد {يبيّن الله لكم آياته} وعد سبحانه وتعالى أنه سيبيّن لعباده من الدلائل والأحكام ما يحتاجون إليه معاشاً ومعاداً ، {لعلكم تعقلون} أي : تتدبرون فتستعملون العقل فيها وقوله تعالى : (1/132)
{ألم تر} استفهام تعجيب وتشويق إلى استماع ما بعده ، لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب التواريخ ، وقد يخاطب به من لم ير ولم يسمع ، وهذا هنا أولى ، فإنه صار مثلاً في التعجيب ، أي : ينته علمك {إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف} أربعة أو ثمانية أو عشرة أو ثلاثون أو أربعون أو سبعون ألفاً ، وقوله تعالى : {حذر الموت} مفعول له ، هم قوم من بني إسرائيل كانوا في قرية يقال لها : داوردان ، جهة واسط وقع بها الطاعون ، فخرجت ، طائفة منها وبقيت طائفة فهلك أكثر من بقي في القرية ، وسلم الذين خرجوا ، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين ، فقال الذين بقوا : أصحابنا كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا لبقينا ، ولئن وقع الطاعون ثانياً لنخرجنّ إلى أرض لا وباء بها ، فوقع الطاعون من قابل فهرب عنها أهلها ، وخرجوا حتى نزلوا وادياً أفيح ، فلما نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي ، وآخر من أعلاه أن موتوا فماتوا جميعاً ، ثم أحياهم الله تعالى كما قال تعالى : {فقال لهم الله موتوا} أي : فماتوا {ثم أحياهم} ليعتبروا ويتيقنوا أن لا مفر من قضاء الله وقدره. وقيل : قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد ، ففروا حذر الموت ، فأماتهم الله ثمانية أيام أو أكثر ، ثم أحياهم بدعاء نبيهم حِزْقِيل ـ بكسر المهملة والقاف وسكون الزاي ـ ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى ، وكان يقال له ابن العجوز ؛ لأنّ أمّه كانت عجوزاً ، فسألت الله الولد بعدما كبرت وعقمت ، فوهبه الله تعالى لها.
قال الحسن ومقاتل : هو ذو الكفل ، وسمي حزقيل ذا الكفل ؛ لأنه كفل سبعين نبياً وأنجاهم من القتل ، قال : اذهبوا فإني إن قتلت كان خيراً من أن تقتلوا معي جميعاً ، فلما جاء اليهود وسألوا حِزْقِيل عن الأنبياء السبعين ، قال لهم : ذهبوا وما أدري أين هم ، ومنع الله حِزْقِيلَ من اليهود ، فلما مر حِزْقِيل على تلك الموتى وقف عليهم ، فجعل يتفكر فيهم فبكى ، وقال : يا رب كنت في قوم يحمدونك ، ويسبحونك ، ويقدّمونك ، ويكبرونك ، ويهللونك ، فبقيت وحدي لا قوم لي ، فأوحى الله تعالى إليه أن ناد : أيتها العظام إنّ الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمعت العظام من أعلى الوادي وأدناه ، حتى التزق بعضها ببعض ، كل عظم جسد التزق بجسده ، فصارت أجساداً من عظام لا لحم ولا دم ، ثم أوحى الله تعالى إليه : أن ناد أيتها الأجسام إنّ الله يأمرك أن تكسي لحماً ، فاكتست لحماً ، ثم أوحى الله إليه أن ناد : أيتها الأجساد إنّ الله يأمرك أن تقومي فبعثوا أحياء ورجعوا إلى بلادهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 181
وقال مجاهد : إنهم قالوا حين أحيوا : سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت ، فرجعوا إلى قومهم وعاشوا دهراً عليهم أثر الموت ، لا يلبسون ثوباً إلا عاد كالكفن حتى ماتوا لآجالهم ، التي كتبت لهم ، ولو جاءت آجالهم ما بعثوا ، واستمرّ ذلك في أسباطهم ، قال ابن عباس : وأثر ذلك ليوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود.
وفائدة هذه القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة ، وحثهم على التوكل
182
والاستسلام للقضاء فإنّ الموت إذا لم يكن منه بد ولم ينفع منه مفرّ ، فأولى أن يكون في سبيل الله تعالى {إنّ الله لذو فضل على الناس} أي : عامّة فليذكر كل أحد ماله عليه من الفضل {ولكن أكثر الناس لا يشكرون} كما ينبغي أمّا الكفار فلم يشكروا ، وأمّا المؤمنون فلم يبلغوا غاية شكره.
تنبيه : إنما كرّر الناس ، ولم يضمر ليكون أنصّ على العموم لئلا يدّعي مدع أنّ المراد بالناس الأوّل أهل زمان فيخص بالثاني أكثرهم.
{وقاتلوا في سبيل الله} أعداء الله لتكون كلمة الله هي العليا {واعلموا أنّ الله سميع} لأقوالكم فيسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون {عليم} بأحوالكم فيعلم ما تضمرونه فيجازيكم.(1/133)
{من ذا الذي يقرض الله} الذي تفرد بالعظمة بإنفاق ماله في سبيل الله ومن استفهامية مرفوعة ، الموضع بالابتداء ، وذا خبره ، والذي : صفة ذا أو بدل ، وإقراض الله مثل لتقديم العمل الذي يطلب ثوابه ، فهو اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه ، فسمى الله تعالى عمل المؤمنين له على رجاء ما وعد لهم من الثواب قرضاً ؛ لأنهم يعملون لطلب ثوابه ، وأصل القرض في اللغة القطع ، سمي القرض به ؛ لأنه يقطع من ماله شيئاً يعطيه ليرجع إليه مثله وقيل : في الآية اختصار ، معناه : من ذا الذي يقرض عباد الله المحتاجين من خلقه كقوله تعالى : {إنّ الذين يؤذون الله} (الأحزاب ، 57) أي : عباد الله كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنّ الله يقول يوم القيامة : ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال : يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟
قال : استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ؟
" {قرضاً حسناً} أي : جامعاً لطيب النفس وإخلاص النية ، وقيل : لا يمنّ به ولا يؤذي. ولما كانت النفس مجبولة على الشح بما عندها إلا لفائدة رغبّها سبحانه وتعالى في ذلك بقوله : {فيضاعفه} أي : جزاءه {له} في الدنيا والآخرة ، وأوّل هذه المضاعفة أنّ الزائد ضعف ليس كسراً ، "كان صلى الله عليه وسلم لا يقترض قرضاً إلا وفى عليه زيادة وقال : خياركم أحسنكم قضاء" ، وقد أنبأ سبحانه وتعالى أن اقتراضه بما هو فوق ذلك ، لأنه يضعف القرض بمثله وأمثاله بقوله : {أضعافاً كثيرة} (البقرة ، 545) من عشر إلى أكثر من سبعمائة كما سيأتي. روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لما نزلت هذه الآية ، قال أبو الدحداح الأنصاري : "يا رسول الله إنّ الله ليريد منا القرض قال : نعم يا أبا الدحداح قال : أرني يدك يا رسول الله فناوله يده قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي ، وحائطه فيه ستمائة نخلة وأمّ الدحداح فيه وعيالها فجاء أبو الدحداح فناداها : يا أمّ الدحداح قالت : لبيك قال : اخرجي فقد أقرضت ربي عز وجل".
جزء : 1 رقم الصفحة : 181
وقرأ ابن عامر وعاصم فيضاعفه بنصب الفاء على جواب الاستفهام حملاً على المعنى ، فإنّ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً في معنى أيقرض الله أحد ، والباقون برفعها ، وأسقط الألف وشدّد العين ابن كثير وابن عامر ، والباقون بإثبات الألف وتخفيف العين ، ولما رغّب سبحانه وتعالى في إقراضه ، أتبعه جملة خالية من ضمير يضاعف مرهبة مرغبة فقال : {والله يقبض} أي :
183
يمسك الرزق عمن يشاء ابتلاء {ويبسط} أي : يوسعه لمن يشاء امتحاناً ، بحسب ما اقتضته حكمته سبحانه وتعالى ، وقرأ قنبل وأبو عمرو وابن عامر وحفص وحمزة وبالسين ، بخلاف عن ابن ذكوان وخلاد ، والباقون بالصاد والرسم بالصاد {وإليه ترجعون} أي : فيجازيكم على ما قدّمتم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 181
{ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل} أي : إلى قصتهم ، والملأ من القوم أشرافهم ، وأصل الملأ الجماعة من الناس ، لا واحد له من لفظه ، كالقوم والرهط ، والإبل ، والخيل والجيش ، ومن للتبعيض {من بعد} موت {موسى} ومن للابتداء {إذ قالوا لنبيّ لهم} أكثر المفسرين على أنه شمويل ، قال مقاتل : هو من نسل هرون ، وقيل : هو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف عليه الصلاة والسلام وقيل : هو شمعون ، وإنما سمي بذلك ؛ لأنّ أمّه دعت الله أن يرزقها غلاماً فاستجاب دعاءها فسمته شمعون تقول : سمع الله دعائي والسين تصير شيناً بالعبرانية وسبب سؤال بني إسرائيل نبيهم ، ذلك أنه لما مات موسى عليه الصلاة والسلام وخلف ، في بني إسرائيل الخلوف وعظمت الخطايا سلّط الله عليهم قوم جالوت وكانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين ، وهم العمالقة فظهروا على بني إسرائيل وغلبوا على كثير من أرضهم ، وسَبَوا كثيراً من ذراريهم ، وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين غلاماً ، وضربوا عليهم الجزية ، وأخذوا توراتهم ، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاءً كثيراً وشدّة ، ولم يكن لهم حينئذٍ نبيّ يدبر أمرهم ، وكان سبط النبوّة هلكوا ، فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيت ، رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها ، وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً فولدت غلاماً فسمته شمعون ، تقول : سمع الله دعائي فكبر الغلام فأسلمته لتعليم التوراة في بيت المقدس ، فكفله شيخ من
184
علمائهم وتبناه ، فلما بلغ الغلام أتاه جبريل ، فقال له : اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإنّ الله قد بعثك فيهم نبياً ، فلما أتاهم كذّبوه وقالوا : استعجلت بالنبوّة فإن كنت صادقاً {ابعث} أي : أقم {لنا ملكاً نقاتل} معه {في سبيل الله} فتنتظم به كلمتنا ، ونرجع إليه ، ويكون ذلك آية من نبوّتك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 184(1/134)
وإنما كان قوام بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك ، وطاعة الملوك أنبياءهم ، فكان الملك هو الذي يسير بالجموع ، والنبيّ يقيم له أمره ويشير عليه برشده ، ويأتيه بالخبر من ربه.
ولما قالوا له ذلك {قال} لهم {هل عسيتم} قرأ نافع بكسر السين ، والباقون بفتحها ، وقوله تعالى : {إن كتب} أي : فرض {عليكم القتال} مع ذلك الملك {أن لا تقاتلوا} خبر عسى والاستفهام لتقرير المتوقع بها بمعنى التثبت للمتوقع ، وإن كان الشائع من التقرير هو الحمل على الإقرار.
{قالوا : وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} بسبيهم وقتلهم أي : أي غرض لنا في ترك القتال وقد عرض لنا ما يوجبه ويحث عليه من الإخراج عن الأوطان ، والإفراد عن الأولاد.
{فلما كتب عليهم القتال تولوا} عنه وجبنوا وضيعوا أمر االله تعالى {إلا قليلاً منهم} وهم الذين عبروا النهر مع طالوت وانتصروا على الفرقة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وقوله تعالى : {وا عليم بالظالمين} وعيد لهم على ظلمهم في ترك الجهاد.
تنبيه : هذه الأقاصيص ليس المراد منها حديثاً عن الماضين ، وإنما هو إعلام بما يستقبل الآتون ، كما قال القائل : إياك أعني واسمعي يا جارة ، فلذلك لا يسمع القرآن من لم يأخذ بجملته خطاباً لهذه الأمّة بكل ما قص له من أقاصيص الأوّلين. ثم سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم ربه أن يبعث لهم ملكاً فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس ، وقيل له : إن صاحبكم الذي يكون ملكاً يكون طوله طول هذه العصا ، وانظر القرن الذي فيه الدهن ، فإذا دخل عليك رجل ونشّ الدهن الذي في القرن ، فهو ملك بني إسرائيل ، فادهن به رأسه وملّكه عليهم ، وكان طالوت واسمه بالعبرانية شاول بن قيس من أولاد بنيامين بن يعقوب ، سمي طالوت لطوله وكان أطول من كل أحد أي : في زمانه برأسه ومنكبه ، وكان رجلاً دباغاً ، يعمل الأديم قاله وهب ، وقال السدّي : كان سقاء يسقي على حمار له من النيل ، فضلّ حماره ، فخرج في طلبه ، وقال وهب : بل ضلت حمر لأبي طالوت ، فأرسله وغلاماً له في طلبها ، فمرّ ببيت شمويل فقال الغلام لطالوت : لو دخلنا على هذا النبيّ فسألناه على أمر الحمير ليرشدنا ، ويدعو لنا ، فدخلا عليه فبينما هما عنده يذكران له شأن الحمر ، إذ نش الدهن الذي في القرن ، فقام شمويل فقاس طالوت بالعصا ، فكانت على طوله ، فقال لطالوت : قرب رأسك فقرّبه فدهنه بدهن القدس ثم قال له : أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملكه عليهم ، فقال طالوت : أما علمت أنّ سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل وبيتي أدنى بيوتهم ؟
قال : بلى قال : فبأي آية ؟
قال : بآية أنك ترجع وقد وجدت الحمر ، فكان كذلك ثم ، أخبرهم نبيهم بذلك كما قال تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 184
وقال لهم نبيهم} الذي تقدّم ذكره {إنّ الله قد بعث لكم} أي : لأجل سؤالكم {طالوت ملكاً} وهو اسم أعجمي كجالوت ، وداود ، وإنما امتنع من الصرف لتعريفه وعجمته {قالوا أنى} أي : كيف {يكون له الملك علينا} أي : من أين يكون له ذلك ؛ {ونحن} أي : والحال أنا نحن
185
{أحق} أي : أولى {بالملك منه} وإنما قالوا ذلك لأنه كان من بني إسرائيل سبطان سبط نبوّة ، وسبطُ مملكة ، فكان سبط النبوّة سبط لاوي بن يعقوب ، ومنه كان موسى وهرون عليهما الصلاة والسلام ، وسبط المملكة سبط يهوذا بن يعقوب ، ومنه كان داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام ، ولم يكن طالوت من أحدهما ، إنما كان من سبط بنيامين بن يعقوب ، وكانوا عملوا ذنباً عظيماً كانوا ينكحون النساء على ظهر الطريق جهاراً ، فغضب الله عليهم ونزع الملك والنبوّة منهم ، وكانوا يسمون سبط الإثم ، فلما قال لهم نبيهم ذلك أنكروا ؛ لأنه لم يكن من سبط المملكة ، ومع ذلك قالوا : هو دباغ {ولم} أي : والحال أنه لم {يؤت سعة من المال} يستعين بها على إقامة الملك ولما استبعدوا تملكه لفقره وسقوط نسبه ، ردّ عليهم ذلك بأمور حكاها الله تعالى عن نبيهم بقوله تعالى : {قال} أي : نبيهم {إنّ الله اصطفاه} أي : اختاره للملك {عليكم} والعهدة في التملك اصطفاء الله تعالى وقد اختاره عليكم ، وهو أعلم بالمصالح منكم هذا الأمر الأوّل ، والثاني قوله : {وزاده} عليكم {بسطة} أي : سعة {في العلم} الذي يحصل به نظام المملكة ويتمكن به من معرفة الأمور السياسية {و} في {الجسم} الذي به يتمكن من الظفر بمن بارزه من الشجعان وقصده من سائر الأقران ، ويكون أعظم خطراً في القلوب وأقوى على مقاومة العدوّ ، ومكابدة الحروب ، لا ما ذكرتم وقد زاده الله في العلم ، فكان أعلم بني إسرائيل يومئذٍ ، والجسم فكان أجملهم وأتمهم خلقاً ، كان الرجل القائم يمدّ يده فيتناول رأس طالوت.(1/135)
والثالث قوله : {وا يؤتي ملكه} أي : الذي هو له وليس لغيره فيه شيء {من يشاء} فإنه تعالى مالك الملك على الإطلاق ، فله أن يؤتيه من يشاء سواء كان غنياً أم فقيراً ، كما آتاكموه بعد أن كنتم مستعبدين عند آل فرعون والرابع قوله : {وا واسع} أي : واسع الفضل يوسع على الفقير ، ويغنيه {عليم} بمن يليق بالملك من النسيب وغيره.
{وقال لهم نبيهم} لما أذعنوا لذلك وطلبوا منه آية تدلّ على أنه سبحانه وتعالى اصطفى طالوت وملكه عليهم {إنّ آية} أي : علامة {ملكه أن يأتيكم التابوت} أي : الصندوق وكان فيه صور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أنزله الله تعالى على آدم صلى الله عليه وسلم وكان من عود الشِّمشار ـ بمعجمتين أولاهما مكسورة وبينهما ميم ساكنة ـ خشب تعمل منه الأمشاط ، مموّهاً بالذهب نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين ، فكان عند آدم إلى أن مات ثم عند شيث ثم توارثه أولاد آدم إلى أن بلغ إبراهيم ، ثم كان عند إسمعيل ؛ لأنه كان أكبر ولده ثم عند يعقوب ، ثم كان في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى ، ثم تداوله أنبياء بني إسرائيل ، ثم استمرّ عند بني إسرائيل ، وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم أو حكم بينهم ، وإذا حضروا القتال قدّموه بين أيديهم فيستفتحون به على عدوّهم كما قال تعالى : {فيه سكينة} أي : طمأنينة لقلوبكم {من ربكم} ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا قاله قتادة والكلبي : لما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة أصحاب جالوت ، فغلبوهم على التابوت وأخذوه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 184
وقال علي : هو صورة لها رأسان ووجه كوجه الإنسان ، وقال مجاهد : هي شيء يشبه الهرة له رأس كرأس الهرّة وذنب كذنب الهرّة وله جناحان ، وقيل : له عينان لهما شعاع وجناحان من زمرد وزبرجد ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هي طشت من ذهب من الجنة ، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء ، وقال وهب : هي روح من الله تتكلم إذا اختلفوا في شيء تخبرهم ببيان ما يريدون.
ولما كان الكليم وأخوه عليهما الصلاة والسلام أعظم أنبيائهم قال : {و} فيه {بقية مما ترك
186
آل موسى وآل هرون} وآلهما أنفسهما والآل مقحم لتفخيم شأنهما.
وقيل : أبناؤهما ، وقيل : أنبياء بني إسرائيل لأنهم أبناء عمّ موسى وهرون والبقية هي رضاض الألواح أي : فتاتها وعصا موسى وثيابه ونعلاه وعمامة هرون وقفيز من المنّ ، الذي كان ينزل عليهم.
وقوله تعالى : {تحمله الملائكة} حال من فاعل يأتيكم {إنّ في ذلك لآية لكم} على ملكه وقوله تعالى : {إن كنتم مؤمنين} يحتمل أن يكون من كلام نبيهم ، وأن يكون ابتداء خطاب من الله تعالى ، فحملته الملائكة بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه ، حتى وضعته عند طالوت فأقروا بملكه ، وقيل : رفعه الله تعالى بعد موسى ، فنزلت به الملائكة وهم ينظرون إليه ، فلما رأوه لم يشكوا في النصر به ، فأقروا بملكه وتسارعوا إلى الجهاد ، فقال طالوت : لا حاجة لي في كل ما أرى لا يخرج معي رجل يبني بناء لم يفرغ منه ، ولا صاحب تجارة مشتغل بها ولا رجل عليه دين ، ولا رجل تزوّج امرأة ولم يبن بها ، ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ ، فاجتمع عليه ممن اختاره ثمانون ألفاً وكان الوقت صيفاً في حرّ شديد فشكوا قلّة الماء بينهم وبين عدوّهم وقالوا : إن المياه لا تحملنا فادعو الله أن يجري لنا نهراً كما قال تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 184
{فلما فصل} أي : خرج {طالوت} أي : الذي ملكوه {بالجنود} من بيت المقدس أي : التي اختارها والجنود ، جمع جند وهم أتباع يكونون نجدة للمستتبع {قال إنّ الله مبتليكم} أي : مختبركم ليظهر منكم المطيع والعاصي وهو أعلم {بنهر} قال ابن عباس والسدّي : هو نهر فلسطين وقال قتادة نهر بين الأردن وفلسطين عذب {فمن شرب منه} أي : من مائه فليس مني أي : من أتباعي {ومن لم يطعمه} أي : يذقه {فإنه مني} أي : من أتباعي ، وإنما علم ذلك بالوحي إن كان نبياً كما قيل أو بإخبار النبيّ عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى : {إلا من اغترف غرفة بيده} أي : فاكتفى بها ولم يزد عليها ، "فإنه مني" استثناء من قوله تعالى : فمن شرب ، وإنما قدّمت عليه الجملة الثانية ؛ للعناية بها كما قدّم الصابئون على خبر إن في قوله : {إنّ الذين آمنوا والذين هادوا} (البقرة ، 62) والمعنى الرخصة في القليل دون الكثير ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو غرفة بفتح الغين والباقون بضمها.
فائدة : قال أبو عمرو بن العلاء : سمعت أعرابياً ينشد وقد كنت خرجت إلى ظاهر البصرة متفرجاً مما نالني من طلب الحجاج :
*صبر النفس عند كل ملم ** إن في الصبر حيلة المحتال*
*
جزء : 1 رقم الصفحة : 187
لا تضيقن في الأمور فقد تك ** شف لأواؤها بغير احتيال*
*ربما تجزع النفوس من الأم ** ر له فرجة كحل العقال*
*قد يصاب الجبان في آخر الص ** ف وينجو مقارع الأبطال*(1/136)
فقلت ما وراءك يا أعرابي ؟
قال : مات الحجاج فلم أدر بأيهما أفرح أبموت الحجاج أم بقوله فرجة ؛ لأني كنت أطلب شاهداً لاختيار القراءة في سورة البقرة غرفة بالضم.
187
{فشربوا منه} لما وافوه بكثرة وقوله تعالى : {إلا قليلاً منهم} أي : فاقتصر على الغرفة ، نصب على الاستثناء.
روي أن من اغترف غرفة كما أمر الله قوي قلبه وصح إيمانه وعبر النهر سالماً ، وكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه وأروته ، والذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت شفاههم ، وغلبهم العطش ، فلم يرووا وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدوّ ، واختلفوا في عدد الذين لم يشربوا قال البغوي : الصحيح أنهم ثلثمائة وبضعة عشر أي : عدد أهل بدر ، وقال السدّي : كانوا أربعة آلاف ويؤيد الأوّل ما روي عن البراء أنه قال : كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدّث أن عدّة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت ، الذين جاوزوا معه النهر ، ولم يجاوز معه إلا بضعة عشر ، وثلثمائة. ويروى ثلثمائة وثلاثة عشر وفي هذا إيذان بأن أعظم الجيوش جيش يكون فيه من أهل الورع بعدد التائبين من أصحاب طالوت ، الذين كان بعددهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وهم ثلثمائة وثلاثة عشر ، عدد المرسلين من كثرة عدد النبيين ولما كان قصص بني إسرائيل مثلاً لهذه الأمة كان مبتلى هذه الأمة بالنهر ، فابتلاهم بنهر الدنيا الجاري خلالها ، وفي إفراد اليد إيذان بأنّ الأخذ من الدنيا إنما يكون بيد لا بيدين ، لاشتمال اليدين على جانبي الخير والشرّ. {فلما جاوزه} أي : النهر {هو} أي : طالوت {والذين آمنوا معه} أي : وهم الذين اقتصروا على الغرفة {قالوا} أي : الذين شربوا {لا طاقة} أي : لا قوّة {لنا اليوم بجالوت وجنوده} أي : بقتالهم وجبنوا ولم يجاوزوه.
ولما أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم بهذا القول نبّه على أنه لا ينبغي أن يصدر ممن يظنّ أنّ أجله مقدر لا يزيد بالجبن والإحجام ، ولا ينقص بالجراءة والإقدام ، وأنه يلقى الله تعالى ، فيجازيه على عمله ، وأنّ النصر من الله لا بالقوّة والعدد فقال : {قال الذين يظنون} أي : يوقنون {أنهم ملاقوا الله} بالبعث وهم الذين جاوزوه {كم من فئة} أي : جماعة ، وهي جمع لا واحد له من لفظه وجمعه فئات وفئون في الرفع وفئين في النصب والخفض ، وكم يحتمل أن تكون خبرية بمعنى كثير ، ومن مبينة وأن تكون استفهامية ، ومن مؤكدة والأوّل أولى بقرينة المقام {قليلة} كما كان في هذه الأمة في يوم بدر {غلبت فئة كثيرة بإذن الله} أي : بإرادته وتيسيره ، ثم انظر إلى هذا الحال العجيب ؛ وهو أنه لما ندبهم انتدب جيش لا يحصون فاشترط عليهم الشاب الفارغ من بناء دار ، وبناء بامرأة ، فلم يكن الموجود بالشرط إلا ثمانين ألفاً ، ثم امتحنوا بالنصر ، فلم يثبت منهم إلا ثلثمائة وثلاثة عشر وهم دون الثلث من ثمن العشر من المتصفين بالشرط ، من الذين هم دون الدون من المنتدبين ، الذين هم دون الدون من السائلين في بعث الملك الخارجين معه كما قال القائل :
*
جزء : 1 رقم الصفحة : 187
ألم تعلم بأني صيرفي ** أحك الأصدقاء على محكي*
*فمنهم بهرج لا خير فيه ** ومنهم من أجوزه بشك*
*وأنت الخالص الذهب المصفى ** بتزكيتي ومثلي من يزكي*
ثم بين سبحانه وتعالى أنّ ملاك كل ذلك الصبر بقوله : {وا مع الصابرين} بالنصر والمعونة فلا يخذل من كان معه.
{ولما برزوا} أي : ظهروا وهم على ما هم عليه من الضعف والقلة {لجالوت} اسم ملك
188
من ملوك الكنعانيين بالشأم في زمن بني إسرائيل ، جبار من العمالقة من أولاد عمليق بن عاد {وجنوده} على ما هم فيه من القوّة والكثرة التجؤا إلى الله بالدعاء كما نبه على ذلك بقوله : {قالوا ربنا أفرغ} أي : أصبب {علينا صبراً وثبت أقدامنا} بتقوية قلوبنا على الجهاد {وانصرنا على القوم الكافرين} وفي الدعاء ترتيب بليغ إذ سألوا : أولا إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر ، ثم ثبات القدم في مداحض الحرب المسبب عنه ، ثم النصر على العدوّ المترتب عليهما غالباً.(1/137)
{فهزموهم بإذن الله} أي : بإرادته {وقتل داود جالوت} قال أهل التفسير : عبر النهر مع طالوت فيمن عبر إيشا أبو داود في ثلاثة عشر ابناً له ، وكان داود أصغرهم ، فأرسل جالوت إلى طالوت أن ابرز إليّ أو أبرز من يقاتلني ، فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم ، فشق ذلك على طالوت فنادى في عسكره : من قتل جالوت زوّجته ابنتي وناصفته ملكي ، فهابوا لقاء جالوت فلم يجبه أحد فسأل طالوت نبيهم أن يدعو الله تعالى فدعا في ذلك ، فأوحى الله تعالى إليه أن في ولد إيشا من يقتل الله تعالى به جالوت ، وكان داود أصغرهم يرعى الغنم ، فأوحى الله تعالى إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء فقال له طالوت : هل لك أن تقتل جالوت وأزوّجك ابنتي وأناصفك ملكي ؟
قال : نعم قال : آنست من نفسك أن تقوى به قال : نعم أنا أرعى فيجيء الأسد فيأخذ شاة فأقوم إليه وأفتح لحييه عنها وأشقهما إلى قفاه ، فمرّ داود في الطريق فكلمه ثلاثة أحجار ، وقالت له : إنك تقتل جالوت بنا ، فحملها في مخلاته فلما تصافوا للقتال وبرز جالوت وسأل المبارزة وكان من أشدّ الناس وأقواهم ، كان يهزم الجيوش وحده ، وكان له بيضة فيها ثلثمائة رطل حديد ، انتدب له داود وأخذ مخلاته وتقلد بها وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت فلما نظر إلى داود ألقى في قلبه الرعب فقال له : أنت تبرز لي قال : نعم ، وكان جالوت على فرس أبلق عليه السلاح التام ، فقال : أتيتني بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب ؟
قال : نعم أنت شر من الكلب قال : لا جرم لأقسمن لحمك بين سباع الأرض وطير السماء ، قال داود : أو يقسم الله لحمك ، فقال داود : باسم إله إبراهيم وأخرج حجراً ثم أخرج الآخر وقال : باسم إله إسحق ، ووضعه في مقلاعه ثم أخرج الثالث وقال : بسم إله يعقوب ووضعه في مقلاعه فصارت كلها حجراً واحداً ، ودوّر المقلاع ورمى به ، فسخر الله له الريح حتى أصاب أنف البيضة فخالط دماغه وخرج من قفاه ، وقتل من ورائه ثلاثين رجلاً ، وهزم الله تعالى الجيش وخرّ جالوت قتيلاً ، فأخذه داود يجرّه حتى ألقاه بين يدي طالوت ، وفرح المسلمون فرحاً شديداً وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين ، فجاء داود إلى طالوت وقال : أنجزني ما وعدتني فزوّجه ابنته وأجرى خاتمه في ملكه فمال الناس إلى داود وأحبوه ، وأكثروا ذكره فحسده طالوت ، وأراد قتله فأخبر بذلك فهرب ، فسلط عليه العيون وطلبه أشدّ الطلب ، فلم يقدر عليه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 187
ثم إنّ طالوت ركب يوماً فوجد داود يمشي في البرية فقال : أقتله فركض على أثره فاشتدّ داود وكان إذا فزع لم يدرك فدخل غاراً ، فأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فنسجت عليه بيتاً فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت فقال : لو كان دخل ههنا لخرق بناء العنكبوت ، فتركه ومضى وانطلق داود إلى الجبل مع المتعبدين فتعبد فيه إلى أن قتل طالوت ، وكان ملك طالوت إلى أن قتل أربعين سنة ، وأتى بنو إسرائيل بداود وأعطوه خزائن طالوت وملكوه على أنفسهم.
قال الكلبي والضحاك : ملك داود بعد قتل طالوت سبعين سنة ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود فذلك قوله تعالى : {وآتاه الله الملك والحكمة} أي : النبوّة بعد موت
189
شمويل وطالوت ولم يجتمعا لأحد قبله بل كان الملك في سبط والنبوّة في سبط وقيل : الملك والحكمة العلم والعمل.
{وعلمه مما يشاء} كصنعة الدروع كان يصنعها ويبيعها ، وكان لا يأكل إلا من عمل يده ، ومنطق الطير والصوت الطيب ، والألحان ، ولم يعط الله تعالى أحداً من خلقه مثل صوته ، كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها ، وتظله الطير ويركد الماء الجاري ويسكن الريح والسلسلة ، كان لا يمسها ذو عاهة إلا برأ ، وكانوا يتحاكمون إليها بعده إلى أن رفعت ، فمن تعدى على صاحبه وأنكر له حقاً أتى السلسلة ، فمن كان صادقاً مد يده إليها فتناولها ، ومن كان كاذباً لم ينلها وكان ذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة ، فأودع بعض ملوكهم رجلاً جوهرة ثمينة فلما طلبها منه أنكرها ، فتحاكما إلى السلسلة فعمد الذي عنده الجوهرة ، إلى عكازة فنقرها وضمنها الجوهرة واعتمد عليها حتى حضر السلسلة فقام صاحب الجوهرة فتناول السلسلة بيده ثم قام المنكر وقال لصاحب الجوهرة : خذ عكازتي هذه فاحفظها حتى أتناول السلسلة فقال الرجل : اللهمّ إن كنت تعلم أنّ الوديعة التي يدعيها قد وصلت إليه فقرب مني السلسلة فمدّ يده فتناولها فتعجب القوم وشكوا فيها ، فأصبحوا وقد رفع الله السلسلة.
{ولولا دفع الله الناس بعضهم} بدل بعض من الناس {ببعض} أي : ولولا دفع الله بجنود المسلمين الكفار {لفسدت الأرض} بغلبة المشركين وقتل المسلمين ، وتخريب المساجد ، أو لفسدت الأرض بشؤم الكفر فيكون المعنى : ولولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لهلكت الأرض بمن فيها ولكن الله يدفع بالمؤمن عن الكافر وبالصالح عن الفاجر.(1/138)
وقد روي أنّ الله عز وجلّ ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء ثم قرأ ابن عمر الآية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 187
وروي عن ابن عباس أنه قال : "يدفع الله تعالى بمن يصلي ، عمن لا يصلي وبمن يحج ، عمن لا يحج وبمن يزكي عمن لا يزكي" وعن جابر بن عبد الله "أنّ الله ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده ، وأهل دويرته ودويرات حوله ، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم". وعن ابن مسعود "أنّ لله عز وجلّ في الخلق ثلثمائة قلوبهم على قلب آدم ، ولله في الخلق أربعون قلوبهم على قلب موسى ، ولله في الخلق سبعة قلوبهم على قلب إبراهيم ، ولله في الخلق خمسة قلوبهم على قلب جبرائيل ، ولله في الخلق ثلاثة قلوبهم على قلب ميكائيل ، ولله في الخلق واحد قلبه في قلب إسرافيل ، فإذا مات الواحد أبدل الله مكانه من الثلاثة وإذا مات واحد من الثلاثة أبدل الله مكانه من الخمسة ، وإذا مات واحد من الخمسة أبدل الله مكانه من السبعة ، وإذا مات واحد من السبعة أبدل الله مكانه من الأربعين ، وإذا مات واحد من الأربعين أبدل الله مكانه من الثلثمائة ، وإذا مات واحد من الثلثمائة أبدل الله مكانه من العامّة فيهم يحيي ويميت قال : لأنهم يسألون الله إكثار الأمم فيكثرون ويدعون على الجبابرة فينقصمون ويستسقون ، فيسقون ويسألون فتنبت لهم الأرض ويدعون فيدفع الله أنواع البلاء".
{ولكن الله ذو فضل على العالمين} أي : كلهم أوّلاً بالإيجاد ، وثانياً بالدفاع ، فهو يكف عن ظلم الظلمة ، إمّا بعضهم ببعض أو بالصالحين ويسبغ عليهم غير ذلك من أنواع نعمه ظاهرة وباطنة.
{تلك} أي : هذه الآيات التي قصصناها عليك من حديث الأوّلين ، وتمليك طالوت وإتيان
190
التابوت ، وانهزام الجبابرة على يد صبيّ وهو داود ، وقتل داود جالوت {آيات الله} الذي جلّت عظمته وتمت قدرته وقوّته {نتلوها} أي : نقصها {عليك} يا محمد {بالحق} أي : بالوجه المطابق الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنهم يجدونه في كتبهم كذلك وأرباب التواريخ {وإنك} أي : والحال إنك {لمن المرسلين} بما دلّت هذه الآية عليه من علّمك بها من غير معلم من البشر ، ثم بإعجازها الباقي على مدى الدهر ، ولما تقدّم في هذه السورة ذكر رسل كثيرة وختم هذه الآيات بأنه صلى الله عليه وسلم منهم تشوّفت النفس إلى معرفة أحوالهم في الفضل هل هم فيه سواء أو هم متفاضلون ، فأشار إلى علوّ مقادير الكل في قوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 187
{تلك الرسل} بأداة البعد إعلاماً ببعد مراتبهم وعلو منازلهم وأنها بالمحل الذي لا ينال والمقام الذي لا يطال.
تنبيه : تلك مبتدأ والرسل صفة أي : الرسل التي ذكرت قصصها في السورة ، أو التي ثبت علمها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أو جماعة الرسل واللام للاستغراق ، والخبر {فضلنا بعضهم على بعض} بتخصيصه بمنقبة ليست لغيره ، لما أوجب ذلك من تفضيلهم في الحسنات بعد أن فضلنا الجميع بالرسالة ، ولما كان أكثر السورة في بني إسرائيل ، وأكثر ذلك في أتباع موسى عليه الصلاة والسلام ذكر وصفه مع وصف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال : {منهم من كلم الله} بلا واسطة وهو موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم ، كلّم موسى ليلة الحيرة وهي بفتح الحاء ، تحيره في معرفة طريقه من مسيره من مدين إلى مصر وفي الطور ، ومحمداً ليلة المعراج حين كان قاب قوسين أو أدنى ، وبين التكليمين بون عظيم ، ومنهم أيضاً آدم كما ورد في الحديث.
191
{ورفع بعضهم} وهو محمد صلى الله عليه وسلم {درجات} على غيره بعموم الدعوة وختم النبوّة به ، والأتباع الكثيرة في الأزمان الطويلة وينسخ جميع الشرائع ، وبكونه رحمة للعالمين وبتفضيل أمته على سائر الأمم ، وبالمعجزات المتكاثرة المستمرّة ، وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السموات والأرض عن الإتيان بسورة من مثله ، والآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر ، والفضائل العلمية والعملية الغالبة للحصر ، ولو لم يؤت إلا القرآن وحده كفى به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء ؛ لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات وبانشقاق القمر بإشارته ، وحنين الجذع بمفارقته ، وتسليم الحجر عليه ، وكلام البهائم والشهادة برسالته ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 191
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما من نبيّ من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة".
وروي عنه أنه قال : "أعطيت خمساً لم يعطهنّ أحد قبلي : نصرت بالرعب من مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأيما رجل من أمّتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبيّ يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامّة".(1/139)
وروي عنه أنه قال : "فضلت على الأنبياء بست : أوتيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون".
{وأتينا عيسى ابن مريم البينات} من إحياء الموتى وغيره {وأيدناه} أي : قويناه {بروح القدس} وهو جبريل يسير معه حيث سار ، وخص عيسى صلى الله عليه وسلم باسمه لإفراط اليهود في تحقيره ، والنصارى في تعظيمه حيث قالوا : هو ابن الله وأبهم محمداً صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : {بعضهم} حيث لم يقل ورفع محمداً صلى الله عليه وسلم لما في الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه ، والمتميز الذي لا يلتبس ، ويقال للرجل : من فعل هذا ؟
فيقول أحدكم أو بعضكم ، يراد به الذي تعورف واشتهر ، فيكون أفخم من التصريح به وأنوه بصاحبه. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيراً والنابغة ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه ، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي لم يفخم أمره.
{ولو شاء الله} أي : الذي له جميع الأمر ، هدى الناس جميعاً باتفاقهم على دين واحد {ما اقتتل الذين من بعدهم} أي : بعد الرسل أي : ما اقتتلت أممهم {من بعد ما جاءتهم البينات} أي : المعجزات الواضحات على أيدي رسلهم ؛ لاختلافهم في الدين وتضليل بعضهم بعضاً {ولكن اختلفوا} لمشيئته تعالى ذلك {فمنهم} أي : فتسبب عن اختلافهم إن كان منهم {من آمن} أي : ثبت على إيمانه {ومنهم من كفر} كالنصارى بعد المسيح.
192
ولما كان من الناس من أعمى الله قلبه فنسب أفعال المختارين من الخلق إليهم استقلالاً ، قال الله تعالى معلّماً : أنّ الكل بخلقه تأكيداً لما مضى من ذلك ومعيداً ذكر الاسم الأعظم : {ولو شاء الله ما اقتتلوا} بعد اختلافهم بالإيمان والكفر {ولكنّ الله يفعل ما يريد} فيوفق من يشاء فضلاً منه ، ويخذل من يشاء عدلاً منه ، والآية دليل على أنّ الأنبياء متفاوتة الأقدام ، وأنه يجوز تفضيل بعضهم على بعض ، ولكن بنصّ لأنّ اعتبار الظنّ فيما يتعلق بالعمل لا بالاعتقاد ، وأن الحوادث بيد الله لقوله تعالى : {يفعل ما يريد} تابعة لمشيئته تعالى خيراً كان أو شرّاً إيماناً أو كفراً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 191
ولما كان الاختلاف على الأنبياء سبباً للجهاد ، الذي هو حظيرة الدين وكان عماد الجهاد النفقة أتبع ذلك قوله رجوعاً إلى أوّل السورة من هنا إلى آخرها ، وأتى التأكيد بلفظ الأمر لما تقدّم الحثّ عليه من أمر النفقة.
{يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم} أي : مما أوجبت عليكم إنفاقه من الزكاة ، قاله السديّ وقال غيره أراد به صدقة التطوّع والنفقة في الخير ، أي : فلا تبخلوا بالإنفاق فإنه لا داء أدوأ من البخل. قال تعالى : {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} (الحشر ، 9) (التغابن ، 16) وصرف الأمر بالتبعيض إلى الحلال الطيب يمنع احتجاج المعتزلة بها ، في أنّ الرزق لا يكون إلا حلالاً ، لكونه مأموراً به.
وأتبعه بما يرغب ويرهب من حلول يوم التناد الذي تنقطع فيه الأسباب التي أقامها سبحانه وتعالى في هذه الدار فقال : {من قبل أن يأتي يوم} موصوف بأنه {لا بيع فيه} أي : فداء {ولا خلّة} أي : صداقة تنفع {ولا شفاعة} بغير إذنه والمعنى أنه لا يفدى فيه أسير بمال ولا يراعي الصداقة من مساو ، ولا الشفاعة من كبير ، لعدم إرادة الله تعالى لشيء من ذلك ولا يكون إلا ما يريد ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنصب في بيع وخلة وشفاعة ، ولا تنوين على الأصل ، والباقون بالرفع والتنوين على أنها في تقدير جواب هل فيه بيع أو خلة أو شفاعة.
ولما حثّ سبحانه وتعالى على الإنفاق ختم الآية بذمّ الكافرين ، بكونهم لم يتحلوا بهذه الصفة ، لتخليصهم من الإيمان وبعدهم منه وتكذيبهم بذلك اليوم ، فهم لا ينفقون لخوفه وإرهابه فقال بدل ولا نصرة لكافر {والكافرون} أي : المعلوم كفرهم في ذلك اليوم {هم} المختصون بأنهم {الظالمون} أي : الكاملون في الظلم لا غيرهم.
وقوله سبحانه :
{الله لا إله إلا هو} مبتدأ وخبر والمعنى أنه المستحق للعبادة لا غير {الحيّ} أي : الدائم البقاء {القيوم} أي : الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظهم {لا تأخذه سنة} وهي ما يتقدّم النوم من الفتور ، الذي يسمى النعاس ، قال ابن الرقاع العاملي :
*وسنان أقصده (أي : أصابه) النعاس فرنقت ** في عينه سنة وليس بنائم*
أي : لا يأخذه نعاس {ولا نوم} وهو حالة تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة ، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس.
193(1/140)
فإن قيل : تقديم السنة على النوم قياس المبالغة عكسه ، أجيب : بأنّ هذا ذكر ترتيب الوجود ، إذ وجود السنة سابق على وجود النوم ، فهو على طريقة لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، قصداً إلى الإحاطة والإحصاء ؛ ولأنه لمّا عبر بالأخذ الذي هو بمعنى القهر والغلبة وجب تقديم السنة كما لو قيل : فلان لا يغلبه أمير ولا سلطان ، وجملة لا تأخذه سنة ولا نوم نفي للتشبيه بينه وبين خلقه وتأكيد لكونه حياً قيوماً فإن من أخذه نعاس أو نوم كان بآفة تخلّ بالحياة قاصراً في الحفظ والتدبير ، ولذلك ترك العاطف فيه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 191
وفي الجمل التي بعده من قوله : {له ما في السموات وما في الأرض} إلخ.. وقوله تعالى : {له} أي : بيده وفي تصرّفه واختصاصه {ما في السموات وما في الأرض} أي : ملكاً وخلقاً تقرير لقيوميته ، واحتجاج على تفرّده في الألوهية ، والمراد بما فيهما ما وجد فيهما داخلاً في حقيقتهما كالكواكب والنبات والمعادن ، وخارجاً عنهما متمكناً منهما ، كالملائكة والإنس والجنّ.
وقوله تعالى : {من ذا الذي} أي : لا أحد {يشفع عنده إلا بإذنه} له بيان لكبرياء شأنه وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه ، يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة وتواضعاً فضلاً أن يدفعه عناداً ومخاصمة {يعلم ما بين أيديهم} في الخلق من أمر الدنيا {وما خلفهم} أي : من أمر الآخرة قاله مجاهد ، وقال الكلبي : ما بين أيديهم يعني : الآخرة ؛ لأنهم يقدمون عليها وما خلفهم الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم وقيل : ما بين أيديهم ما قدّموا من خير وشرّ وما خلفهم ما هم فاعلوه {ولا يحيطون بشيء} أي : قليل ولا كثير {من علمه} أي : لا يعلمون شيئاً من معلوماته {إلا بما شاء الله} أن يعلمهم به منها بإخبار الرسل {وسع كرسيه السموات والأرض} اختلف في الكرسي فقال الحسن : هو العرش نفسه ، وقال أبو هريرة : هو موضع أمام العرش ، والأحاديث تدل عليه ، ومعنى وسع أنّ سعته مثل سعة السموات والأرض ، وفي الأخبار أن السموات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة.
ويروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ السموات السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس ، وقال علي ومقاتل : كل قائمة من الكرسي طولها مثل السموات السبع والأرضين السبع ، وهو بين يدي العرش ، ويحمل الكرسي أربعة أملاك لكل ملك أربعة وجوه وأقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى مسيرة خمسمائة عام ، ملك على صورة أبي البشر آدم عليه الصلاة والسلام ، وهو يسأل للآدميين الرزق والمطر من السنة ، إلى السنة وملك على صورة سيد الأنعام وهو الثور ، يسأل للأنعام الرزق من السنة إلى السنة ، وعلى وجهه غضاضة منذ عبد العجل ، وملك على صورة سيد السباع ، وهو الأسد يسأل الرزق للسباع من السنة إلى السنة ، وملك على صورة سيد الطير وهو النسر ، يسأل للطير الرزق من السنة إلى السنة ، وفي بعض الأخبار أن ما بين حملة العرش وحملة الكرسي سبعين حجاباً من ظلمة وسبعين حجاباً من نور ، غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام ، لولا ذلك لاحترقت حملة الكرسي من نور حملة العرش وقيل : المراد بالكرسي علمه ، وقيل : ملكه وقيل : تصوير لعظمته وتمثيل مجرّد {ولا يؤده} أي : لا يثقله ولا يشق عليه {حفظهما} أي : السموات والأرض {وهو العليّ} أي : الرفيع فوق خلقه المتعالي عن الأشباه والأنداد {العظيم} أي : الكبير الذي لا شيء أعظم منه ، المستحقر بالإضافة إليه كل ما سواه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 191
وهذه الآية تسمى آية الكرسي ، مشتملة على أمّهات المسائل الإلهية ، فإنها دالة على أنه
194
موجود واحد في الإلهية ، متصف بالحياة واجب لوجود لذاته ، موجد لغيره ، إذ القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره منزه عن التحيز والحلول ، مبرّأ عن التغير والفتور ، لا يناسب الأشباح ولا يعتريه ما يعتري الأرواح ، مالك الملك والملكوت ، ومبدع الأصول والفروع ، ذو البطش الشديد ، الذي لا يشفع عنده إلا من أذن له ، عالم بالأشياء كلها جليها وخفيها كليها وجزئيها ، واسع الملك والقدرة ، إذ المقدور كل ما يصح أن يملك ويقدر عليه لا يؤده شاق ولا يشغله شان ، عن شان متعال عما يدركه وهم عظيم فلا يحيط به فهم ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : "إنّ أعظم آية في القرآن الكرسي" رواه مسلم ، وروى النسائيّ وابن حبان وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت" أي : فإذا مات دخل الجنة.(1/141)
وروى البيهقيّ في "شعبه" أنه صلى الله عليه وسلم قال : "لا يواظب عليها إلا صديق أو عابد" ، وروي البيهقي أيضاً "أنّ من قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه ، وجاره وجار جاره والأبيات حوله". وعن أبيّ بن كعب أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سأله : "أيّ آية من كتاب الله أعظم ؟
" قال : قلت الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم ، قال : فضرب في صدري ثم قال : "ليهنك العلم أبا المنذر ، والذي نفسي بيده إنّ لها لساناً وشفتين تقدّس الملك عند ساق العرش" وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من قرأ حين يصبح آية الكرسي وآيتين من أوّل حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم حفظ في يومه ذلك حتى يمسي فإن قرأهما حين يمسي حفظ في ليلته تلك حتى يصبح". وروي : "ما قرئت آية الكرسي في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة ، يا علي علّمْها ولدك وأهلك وجيرانك ، فما نزلت آية أعظم منها" وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم عليّ رضي الله تعالى عنه : أين أنتم عن آية الكرسي ثم قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عليّ سيد البشر آدم ، وسيد العرب محمد ولا فخر ، وسيد الفرس سلمان وسيد الروم صهيب ، وسيد الحبشة بلال وسيد الجبال ، الطور وسيد الأيام يوم الجمعة ، وسيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة وسيد البقرة ، آية الكرسي".
{لا إكراه في الدين} أي : على الدخول فيه أي : فمن أعطي الجزية لم يكره على الإسلام فهو عام مخصوص بأهل الكتاب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 191
لما روي أنّ أنصارياً كان له ابنان تنصرا قبل المبعث ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر ؟
فنزلت وقيل : عام منسوخ ، فكان هذا في الابتداء قبل أن يؤمر بالقتال فصارت الآية منسوخة بآية السيف ، قاله ابن مسعود : {قد تبين الرشد من الغيّ} أي : ظهر
195
بالآيات البينات أنّ الإيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية ، وأنّ الكفر غيّ يؤدّي إلى الشقاوة السرمدية ، والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإيمان ، طلباً للفوز بالسعادة والنجاة ، فلم يحتج إلى الإكراه والإلجاء {فمن يكفر بالطاغوت} أي : فمن اختار الكفر بالشيطان أو الأصنام {ويؤمن با} أي : بالتوحيد وتصديق الرسل {فقد استمسك بالعروة الوثقى} أي : تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين {لا انفصام} أي : لا انقطاع {لها}.
قال التفتازاني : شبه التديّن بالدين الحق ، والثبات على الهدى والإيمان بالتمسك بالعروة الوثقى المأخوذة من الحبل المحكم المأمون تقطعها ، ثم ذكر المشبه به وأراد المشبه وقال الزمخشريّ : وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس ، حتى يتصوّره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده والتيقن به اه.
والوثقى تأنيث الأوثق ، وقيل : العروة الوثقى السبب الذي يتوصل به إلى رضا الله تعالى {وا سميع} لما يقال : {عليم} بالنيات والأفعال وقيل : سميع لدعائك إياهم إلى الإسلام عليم بحرصك على إيمانهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 191
أي : ناصر ومعين {الذين آمنوا} أي : أرادوا أن يؤمنوا لقوله تعالى : {يخرجهم} أي : بلطفه وتأييده {من الظلمات} أي : الكفر {إلى النور} أي : الإيمان أو أنهم الثابتون على الإيمان بأن يخرجهم من الشبهة في الدين إن وقعت ، لهم بما يهديهم ويوفقهم له من أجلها ، حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين. وعن ابن عباس : أنهم قوم كانوا كفروا بعيسى وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم
{والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت} أي : الشيطان وقال مقاتل : هو كعب بن الأشرف وحييّ بن أخطب وسائر رؤوس الضلالة {يخرجونهم} أي : يدعونهم {من النور} الذي منحوه بالفطرة {إلى الظلمات} أي : الكفر.
فإن قيل : كيف يخرجونهم من النور وهم كفار لم يكونوا في نور قط ، أجيب : بأنّ الطبرانيّ روى عن ابن عباس أنها نزلت في قوم آمنوا بعيسى ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به" ، أو أنه تعالى ذكر الإخراج في مقابلة يخرجهم من الظلمات ، فهو على العموم في حق جميع الكفار كما يقول الرجل لأبيه : أخرجتني من مالك ولم يكن فيه ، كما قال تعالى إخباراً عن يوسف عليه الصلاة والسلام : {إني تركت ملة قوم لا يؤمنون با} (يوسف ، 38) ولم يكن قط في ملتهم وقيل : نزلت في قوم ارتدّوا عن الإسلام ، وإسناد الإخراج إلى الطاغوت باعتبار السبب لا يأبى تعلق قدرته تعالى وإرادته به ، والطاغوت يكون مذكراً ومؤنثاً وواحداً وجمعاً ، قال تعالى في المذكر : والواحد {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به} ، (النساء ، 60) وقال تعالى في المؤنث {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها} (الزمر ، 17) وقال في الجمع : {يخرجونهم من النور إلى الظلمات} (البقرة ، 257) .(1/142)
جزء : 1 رقم الصفحة : 196
وقوله تعالى : {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} وعيد وتحذير. قال البيضاويّ : ولعلّ عدم مقابلته بوعد المؤمنين تعظيم لشأنهم.
196
ولما كان النمروذ المحاجج للخليل ممن أخرجته الشياطين من النور إلى الظلمات ذكره عقب ذلك فقال : {ألم تر} أي : تعلم بما نخبرك به علماً هو عندك كالمشاهدة لمالك من كمال البصيرة ، وبما أودعناه فيك من المعاني المنيرة {إلى الذي} وهو نمروذ {حاج} جادل وخاصم {إبراهيم في ربه} وهو أوّل من وضع التاج على رأسه وتجبر في الأرض وادّعى الربوبية {أن} آي : لأن {آتاه الله الملك} فطغى أي : كانت تلك المحاجة من بطر الملك وطغيانه ، فأورثه الكبر والعتق ، فحاج لذلك. وقال مجاهد : ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر مؤمنان وكافران ، أما المؤمنان فسليمان صلى الله عليه وسلم وذو القرنين ، وأمّا الكافران فنمروذ بن كنعان وبختنصر ، لم يملكها غيرهم. وفي الآية دليل على أنّ الله تعالى يعطي الكافر الملك ، ففيها حجة على من منع إيتاء الملك للكافر من المعتزلة ، وأوّل الملك بالمال والخدم الذي يتسلط به على غلبة الناس لا الملك الحقيقيّ وبهذا أوّل الزمخشريّ.
{إذ قال إبراهيم : ربي الذي} قرأ حمزة ربي بسكون الياء والباقون بنصبها {يحيي ويميت} أي : يخلق الموت والحياة في الأجساد ، وهذا جواب سؤال غير مذكور تقديره ، قال له نمروذ : من ربك ؟
فقال له إبراهيم ذلك.
واختلفوا في وقت هذه المناظرة فقال مقاتل : لما كسر إبراهيم الأصنام سجنه نمروذ ، ثم أخرجه ليحرقه بالنار ، فقال له : من ربك الذي تدعونا إليه ؟
قال آخرون : كان هذا بعد إلقائه في النار ، وذلك أنّ الناس قحطوا على عهد نمروذ ، وكان الناس يمتارون من عنده ، فكان إذا أتاه الرجل في طلب الطعام سأله من ربك ؟
فإن قال : أنت باع منه الطعام فأتاه إبراهيم فقال له : من ربك ؟
فقال له ذلك.
{قال أنا أحيي وأميت} قرأ نافع بمدّ الألف من أنا فيصير مدّاً منفصلاً والباقون بالقصر ، قال أكثر المفسرين : دعا نمروذ برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر فجعل ترك القتل إحياءً ، فانتقل إبراهيم إلى حجة أخرى لا عجزاً بل رآه من غباوته ، فإنّ حجته لازمة لأنه أراد بالإحياء إحياء الميت ، فكان له أن يقول : فأحي من أمتّ إن كنت صادقاً ، لكنه انتقل إلى حجة أوضح من الأولى ذكرها الله تعالى بقوله : {قال إبراهيم فإنّ الله يأتي بالشمس} وهو الذي أوجدها {من المشرق} أي : في كل يوم قبل أن توجد أنت بدهور.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 196
فأت بها} أنت {من المغرب} إن كنت صادقاً فيما تدعيه ، ولو يوماً واحداً ، وفي ذلك إشعار بأنّ الله تعالى لا بدّ وأن يأتي بالشمس من المغرب ، ليكون في ذلك إظهار تصريفه لها حيث شاء يطلعها من حيث غربت كما يطلع الروح من حيث قبضت ، ليكون طلوع الشمس من مغربها آية مقاربة لقيام الساعة وطلوع الأرواح من أبدانها {فبهت الذي كفر} تحير ودهش وانقطعت حجته ، ولم يعط إبراهيم طعاماً فرجع فمّر على كثيب رمل أعفر ، فأخذ منه تطييباً لقلوب أهله إذا دخل عليهم ، فلما أتى أهله ووضع متاعه نام ، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هو أجود طعام رأته ، فأخذته وصنعت له منه وقربته له فقال لها : من أين هذا ؟
قالت : من الطعام الذي جئت به ، فعرف أنّ الله تعالى رزقه فحمد الله تعالى.
فإن قيل : كيف بهت نمروذ وكان يمكنه أن يعارض إبراهيم فيقول له سل أنت ربك حتى يأتي بها من المغرب ؟
أجيب : بأنّ الله تعالى صرفه عن ذلك إظهاراً للحجة عليه ، أو معجزة لإبراهيم
197
عليه الصلاة والسلام أو أنه خاف أن لو سأل ذلك دعا إبراهيم ربه فكانت زيادة في فضيحته وانقطاعه.
ثم بعث الله تعالى إلى نمروذ بن كنعان ملكاً أن آمن بي وأتركك على ملكك قال : فهل رب غيري ، فجاءه الثانية ، فقال له ذلك فأبى عليه ، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه ، فقال له ذلك الملك : فاجمع جموعك إلى ثلاثة أيام ، فجمع الجبار جموعه ، فأمر الله تعالى الملك ، ففتح عليه باباً من البعوض فطلعت الشمس فلم يروها من كثرتها ، فبعثها الله عليهم فأكلت شحومهم وشربت دماءهم فلم يبق إلا العظام ونمروذ كما هو لم يصبه من ذلك شيء فبعث الله عليه بعوضة فدخلت ، في منخره فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه ، ثم ضرب بهما رأسه ، وكان جباراً أربعمائة سنة فعذبه الله تعالى أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته الله ، وهو الذي بنى صرحاً طويلاً ليصعد منه إلى السماء ليقاتل أهلها فأرسل الله تعالى عليه الريح فهدمته ، وستأتي قصته في غافر إن شاء الله تعالى {وا لا يهدي القوم الظالمين} بالكفر إلى محجة الاحتجاج.(1/143)
{أو كالذي مرّ على قرية} فيه حذف تقديره أوَ رأيت مثل الذي ، فحذف لدلالة ألم تر عليه ، لأن كلتيهما كلمة تعجب ، وتخصيصه بحرف التشبيه ، لأنّ المنكرين للإحياء كثير والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحصى ، بخلاف مدّعي الربوبية وقيل : الكاف مزيدة ، وتقدير الكلام ألم تر إلى الذي حاج أو إلى الذي مرّ ، والمار عزير بن شرحيا أو الخضر أو الكافر بالبعث ، ويؤيد هذا نظمه مع نمروذ في سلك وكلمة الاستبعاد التي هي. أنّى يحيي ، وأكثر المفسرين على الأوّل والقرية بيت المقدس حين خربها بختنصر وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم ، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه تراباً فيقذفه في بيت المقدس ، ففعلوا حتى ملؤوه ثم أمرهم أن يجمعوا من كان في بلدان بيت المقدس فاجتمع عنده صغيرهم وكبيرهم من بني إسرائيل ، فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه ، فأصاب كل رجل منهم أربعة ، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق ، فثلثاً قتلهم ، وثلثاً سباهم وثلثاً أقرهم بالشأم وقيل : هي القرية التي خرج منها الألوف وقيل غيرهما {وهي خاوية} أي : ساقطة {على عروشها} أي : سقوفها بأن سقط السقف أولاً ثم سقطت الجدران عليه ، لما أخربها بختنصر {قال أنى} أي : كيف {يحيي هذه الله بعد موتها} أي : بما صارت إليه من الخراب وذهاب الأهل ، فيعيدها إلى ما كانت عليه عامرة آهلة ، وهذا اعتراف بالعجز من معرفة طريق الإحياء ، واستعظام لقدرة المحيي ، إن كان القائل مؤمناً واستبعاد إن كان كافراً.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 196
فأماته الله} وألبثه {مائة عام} ميتاً {ثم بعثه} بالإحياء ليريه كيفية ذلك {قال كم لبثت} أي : مكثت أي : لما أحياه الله بعث إليه ملكاً فسأله كم لبثت ؟
وعن ابن عباس أن عزيراً كان عبداً صالحاً حكيماً خرج ذات يوم إلى ضيعة له يتعاهدها ، فلما انصرف انتهى إلى خربة حين قامت الظهيرة فأصابه الحرّ ، فدخل الخربة وهو على حمار له فنزل عن حماره ومعه سلّة فيها تين وسلة فيها عنب ، فنزل في ظلّ تلك الخربة وأخرج قصعة كانت معه ، فاعتصر من العنب الذي كان معه في القصعة ، ثم أخرج خبزاً يابساً معه فألقاه في تلك القصعة في العصر ليبتل فيأكله ، ثم استلقى على قفاه وأسند رجليه إلى الحائط فنظر سقف تلك البيوت ورأى ما فيها وهي ساقطة على عروشها ورأى عظاماً بالية فقال : {أنى يحيى هذه الله بعد موتها} فلم يشك أنّ الله يحييها ولكن قالها تعجباً ، فبعث الله ملك الموت فقبض روحه فأماته الله مائة عام ، فلما أتت عليه مائة عام ، وكان فيما
198
بين ذلك في بني إسرائيل أمور وأحداث فبعث الله إلى عزير ملكاً فخلق قلبه ليعقل به وعينيه لينظر بهما فيعقل كيف يحيي الله الموتى ، ثم ركّب خلقه وهو ينظر ثم كسا عظامه اللحم والشعر والجلد ، ثم نفخ فيه الروح ، كل ذلك يرى ويعقل فاستوى جالساً فقال له الملك : كم لبثت ؟
{قال لبثت يوماً} وذلك أنّ الله تعالى أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد مائة عام في آخر النهار قبل غيبوبة الشمس فقال : لبثت يوماً وهو يرى أنّ الشمس قد غربت ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال : {أو بعض يوم} أي : بل بعض يوم {قال} أي : الله أو الملك له {بل لبثت مائة عام} قرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة في كم لبثت ، وفي قال : لبثت وفي بل لبثت ، والباقون بالإدغام.
ثم قال له الله أو الملك {فانظر إلى طعامك} وكان تيناً أو عنباً {وشرابك} وكان عصيراً أو لبناً {لم يتسنه} أي : لم يتغير بمرور الزمان فكان التين أو العنب كأنه قد قطف من ساعته والعصير كأنه قد عصر أو اللبن قد حلب من ساعته قال الكسائيّ أي : كأنه لم يأت عليه السنون ، وإنما أفرد الضمير لأنّ الطعام والشراب كالجنس الواحد.
فإن قيل : إذا كان المارّ كافراً فكيف يسوغ أن يكلمه الله ؟
أجاب الزمخشريّ بأنّ الكلام كان بعد البعث ولم يك إذ ذاك كافراً وقال أبو حيان : لا نص في الآية ، إنّ الله كلمه شفاهاً ، وقرأ حمزة والكسائيّ لم يتسنّ بإسقاط الهاء إذا وصلها بما بعدها ، والباقون بإثباتها وفي الوقت ثابتة للجميع.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 196
وانظر إلى حمارك} كيف هو فرآه ميتاً وعظامه بيض وكان له حمار قد ربطه ، وقيل : رآه حياً مكانه كما ربطه حفظ بلا ماء ولا علف ، كما حفظ الطعام والشراب من التغير.
وقوله تعالى : {ولنجعلك آية للناس} معطوف على محذوف تقديره فعلنا ذلك لتعلم ولنجعلك آية وقيل : الواو زائدة مقحمة أي : لنجعلك عبرة ودلالة على البعث بعد الموت {وانظر إلى العظام كيف ننشرها} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالراء ومعناه نحييها ، والباقون بالزاي ومعناه نرفعها من الأرض ونردّها إلى أماكنها من الجسد.(1/144)
وفي الآية تقديم وتأخير وتقديرها : وانظر إلى حمارك وانظر إلى العظام كيف ننشرها ولنجعلك آية للناس ، واختلفوا في معنى الآية فقال الأكثرون : إنه أراد به عظام حماره وهذا يؤيد كون حماره كان ميتاً قال السديّ : إن الله أحيا عزيراً ثم قال له : انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه ، فبعث الله ريحاً فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ، الذي ذهبت به الطيور والسباع ، فاجتمعت فركب بعضها في بعض ، وهو ينظر فصار حماراً من عظام ليس فيه لحم ولا دم ثم كسا العظام لحماً ودماً كما قال تعالى : {ثم نكسوها لحماً} فصار حماراً لا روح فيه ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار فنفخ فيه فقام الحمار ونهق بإذن الله تعالى ، وقال الأقلّون : أراد به عظام هذا الرجل فأحيا الله عينيه ورأسه وسائر جسده ميت ثم قال : انظر إلى حمارك فنظر فرأى حماره قائماً واقفاً كهيئته يوم ربطه ، وهذا يؤيد كون حماره كان حياً وذلك من أعظم الآيات أن يعيش مائة عام من غير علف ولا ماء قال الضحاك وقتادة : وتقدير أي على هذا وانظر إلى حمارك وانظر إلى عظامك كيف ننشرها.
روي أن عزيراً لما أحياه الله تعالى ركب حماره حتى أتى محلته ، فأنكره الناس وأنكر الناس ومنازله ، فانطلق على وهم حتى أتى منزله فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة أتى عليها مائة وعشرون سنة
199
كانت أمة لهم ، فخرج عزير عنهم وهي بنت عشرين سنة فقال لها عزير : يا هذه هذا منزل عزير قالت : نعم هذا منزل عزير وبكت ، وقالت : ما رأيت أحداً من كذا وكذا سنة يذكر عزيراً فقال : فإني أنا عزير فقالت : سبحان الله فإن عزيراً فقدناه من مائة سنة ، لم نسمع له بذكر ، قال : إنّ الله أماتني مائة سنة ثم بعثني قالت : فإنّ عزيراً كان رجلاً مستجاب الدعوة يدعو للمريض وصاحب البلاء بالعافية ، فادع الله أن يردّ عليّ بصري حتى أراك ، فإن كنت عزيراً عرفتك ، فدعا ربه ومسح يده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها فقال : قومي بإذن الله تعالى ، فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال ، فنظرت إليه فقالت : أشهد أنك عزير فانطلقت إلى بني إسرائيل ، وهم في أنديتهم ومجالسهم وابن العزير شيخ ابن مائة سنة وثمان عشرة سنة ، وبنو بنيه شيوخ في المجلس ، قال الضحاك : عاد إلى قريته شاباً وأولاده وأولاد أولاده شيوخ وعجائز ، وهو أسود الرأس واللحية ، فقالت : هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت : أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربه فردّ عليّ بصري وأطلق رجلي ، وزعم أنّ الله أماته مائة عام ثم بعثه ، فنهض الناس وأقبلوا عليه ونظروا إليه ، وقال ابنه : كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه ، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير ، فقال بنو إسرائيل : فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة فيما حدثنا غير عزير ، فقرأ لهم التوراة من الحفظ ولم يحفظها أحد قبله ، فعرفوه بذلك وقالوا : هو ابن الله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 196
وسيأتي الكلام على ذلك في سورة براءة إن شاء الله تعالى.
{فلما تبين له} ذلك بالمشاهدة وفاعل تبين مضمر تقديره : فلما تبيّن له أنّ الله على كل شيء قدير {قال أعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير} فحذف من الأوّل لدلالة الثاني عليه كما في قولهم : ضربني وضربت زيداً ، وقرأ حمزة والكسائيّ بوصل الهمزة قبل العين وسكون الميم ، والباقون بقطع الهمزة ورفع الميم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 196
200
{و} اذكر {إذ قال إبراهيم رب أرني} أي : أبصرني ، قرأ ابن كثير والسوسي بسكون الراء من أرني ، وقرأ الدوريّ باختلاس الكسرة ، والباقون بكسرة كاملة {كيف تحيي الموتى} قال الحسن وقتادة والضحاك : كان سبب هذا السؤال من إبراهيم عليه السلام أنه مرّ على دابة ميتة ، قال ابن جرير : كانت جيفة حمار فرآها وقد توزعتها دواب البحر والبرّ ، فكانت إذا مدّ البحر جاءت الحيتان ودواب البحر فأكلت منها ، وما وقع منها ، يصير في البحر وإذا انحسر البحر جاءت السباع فأكلت منها وما وقع منها يصير تراباً فإذا ذهبت السباع جاءت الطير فأكلت منها وما سقط قطعته الريح في الهواء ، فلما رأى ذلك إبراهيم تعجب منها وقال : يا رب قد علمت أنك لتجمعها من بطون السباع وحواصل الطير وأجواف دواب البحر ، فأرني كيف تحييها فأزداد يقيناً فعابه الله بقوله :
{قال أولم تؤمن} بقدرتي على الإحياء سأله مع علمه بإيمانه بذلك ليجيب بما أجاب به ، فيعلم السامعون غرضه {قال بلى} يا رب آمنت {ولكن ليطمئن قلبي} أي : ليسكن قلبي إلى المعاينة والمشاهدة ، أراد أن يصير له بعد علم اليقين عين اليقين ، فإن العيان يفيد في المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال.
جزء : 1 رقم الصفحة : 200(1/145)
وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم "نحن أحق بالشك من إبراهيم ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي" فقال أبو سسليمان الخطابي : ليس فيه اعتراف بالشك على نفسه ولا على إبراهيم لكن فيه نفي الشك عنهما يقول : إذا لم أشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى ، فإبراهيم أولى بأن لا يشك ، وقال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس ، وكذلك قوله : ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف ، وقيل : سبب سؤاله أنه لما قال له نمروذ أنا أحيي وأميت قال له : إن إحياء الله بردّ الروح إلى بدنها ، فقال نمروذ : هل عاينته فلم يقدر أن يقول : نعم ، وانتقل إلى تقرير آخر ثم سأل ربه أن يريه ليطمئن قلبه في الجواب إن سئل عنه مرّة أخرى.
فإن قيل : بم تعلقت اللام في ليطمئن ؟
أجيب : بأنها تعلقت بمحذوف تقديره : ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب.
وقيل : بل كان قصده بالسؤال رؤية المحيى ولكنه طلبها تلويحاً ، فأجيب بالمنع منها تلويحاً ، وموسى عليه الصلاة والسلام لما سألها تصريحا أجيب بالمنع تصريحاً.
قال تعالى : {فخذ أربعة من الطير} قال مجاهد وابن جرير : أخذ طاوساً وديكاً وحمامة وغراباً ، وإنما خص الطير لأنه أقرب إلى الإنسان شبهاً ، كتدوير الرأس والمشي على رجلين ، وأجمع لخواص الحيوان لأنّ فيها ما يتكلم ، وما يهتدي للطريق كالقطاة ، وللمياه كالهدهد ، وفي هذا إيماء إلى أنّ إحياء النفس بالحياة الأبدية إنما يتأتى بإماتة حب الشهوات والزخارف ، التي هي صفة الطاوس والصولة المشهور بها الديك وخسة النفس ، وبعد الأمل المتصف بهما الغراب والترفع والمسارعة إلى الهوى الموسوم بهما الحمام ، ومنهم من ذكر النسر بدل الحمامة. وروي بدلها البطة وبدل الغراب الغرنوق.
201
{فصرهنّ} أي : فأمسكهن واضممهنّ {إليك} قرأ حمزة بكسر الصاد والباقون بضمها.
فإن قيل : ما معنى أمره بضم الطير إلى نفسه بعد أن يأخذها ؟
أجيب : بأنه ليتأمّلها ويعرف أشكالها وهيئاتها وحلاها ، لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك ، ولذلك قال : {يأتينك سعياً}. وروي أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرّق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها ، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال كما قال تعالى :
{ثم اجعل على كلّ جبل منهنّ جزأ} واختلفوا في عدد الأجزاء والجبال ، فقال ابن عباس وقتادة : أمره الله تعالى أن يجعل كل طائر أربعة أجزاء ويجعلها على أربعة أجبل ، على كل جبل جزء من كل طائر ، وقال السديّ وابن جريج : جزأها سبعة أجزاء ووضعها على سبعة أجبل ، وأمسك رؤوسهنّ ثم دعاهنّ : تعالين بإذن الله ، فجعل كل قطرة من دم طائر تصير إلى القطرة الأخرى ، وكل ريشة إلى الريشة الأخرى ، وكل عظم يصير إلى العظم الآخر ، وإبراهيم ينظر حتى صارت جثثاً بغير رؤوس ثم أقبلن إلى رؤوسهن سعياً فالتقى كل طائر برأسه فذلك قوله تعالى : {ثم أدعهنّ يأتينّك سعياً} أي : سريعاً ، وقيل : مشياً لأنها لو طارت لربما توهم متوهم أنها غير تلك الطير ، وإنّ أرجلها غير سليمة قال البيضاويّ : وفي ذلك إشارة إلى أنّ من أراد إحياء نفسه بالحياة الأبدية فعليه أن يقبل على القوى البدنية كالشهوة والغضب فيقتلها ، ويمزج بعضها ببعض حتى تنكسر سورتها فتطاوعنه مسرعات متى دعاهنّ بداعية العقل أو الشرع ، وكفى لك شاهداً على فضل إبراهيم ويمنه أي : بركته حيث سلك مسلك الضراعة في الدعاء ، وحسن الأدب في السؤال ، أنه تعالى أراه ما أراد أن يريه في الحال على أيسر الوجوه ، وأراه عزيراً بعد أن أماته مائة عام {واعلم أنّ الله عزيز} لا يعجز عما يريد {حكيم} ذو حكمة بالغة في كل ما يفعله.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
مثل الذين ينفقون} أي : يبذلون {أموالهم} بطيب النفس {في سبيل الله} الذي له الكمال كله أي : في طاعته كمثل زراع ومثل ما ينفقون {كمثل حبة} مما زرعه فلا بدّ من حذف كما تقرّر أو يقال مثل نفقتهم كمثل حبة أو مثلهم كمثل باذر حبة {أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة} والمنبت هو الله سبحانه وتعالى ، ولكن الحبة لما كانت سبباً أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم بإظهار تاء التأنيث عند السين ، والباقون بالإدغام ، ومعنى إنباتها سبع سنابل أن يخرج منها ساق يتشعب منه سبع شعب لكل واحدة سنبلة ، وهذا التمثيل تصوير الأضعاف كأنها مصوّرة بين عيني الناظر.
فإن قيل : كيف صح هذا التمثيل ولم نر سنبلة فيها مائة حبة ؟
أجيب : بأنّ ذلك موجود في الدخن والذرة وغيرهما ، وربما فرخت ساق البرة في الأرض القوية المغلة فبلغ حبها هذا المبلغ ، وعلى تقدير عدم وجوده هو غير مستحيل وما لا يكون مستحيلاً يجوز ضرب المثل به وتأوّل ذلك الضحاك فقال : كل سنبلة أنبتت مائة حبة.
فإن قيل : هلا قال الله تعالى سبع سنبلات ، لأنه جمع قلة كما قال الله تعالى {وسبع سنبلات خضر} (يوسف ، الآيات : 43 ـ 46) ؟
أجيب : بما تقدّم في قوله تعالى {ثلاثة قروء} (البقرة ، 228) .(1/146)
{وا يضاعف لمن يشاء} بفضله تلك المضاعفة أو يضاعف على هذا ويزيد لمن شاء ما بين
202
سبعين إلى سبعمائة إلى ما شاء من الأضعاف مما لا يعلمه إلا الله على حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه ، ومن أجل ذلك تتفاوت الأعمال في مقادير الثواب {وا واسع} أي : غنيّ يعطي عن سعة {عليم} بنية المنفق وقدر إنفاقه وبمن يستحق المضاعفة.
{الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} أي : طاعته ، قال الكلبيّ : نزلت في عثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما ، جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كان عندي ثمانية آلاف درهم فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف وأربعة آلاف أقرضتها ربي ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت" وأمّا عثمان فجهز المسلمين في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وألف دينار.
قال عبد الرحمن بن سمرة جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبّها في حجر النبيّ صلى الله عليه وسلم فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يدخل فيها يده ويقلبها ويقول : "ما ضرّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم وقال : يا رب عثمان رضيت عنه فارض عنه".
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً} أي : على المنفق عليه بقولهم مثلاً : قد أحسنت إليه وجبرت حاله ، فيعدّدون عليه النعمة ، فحذر الله عباده المن بالصنيعة ، واختص به صفة لنفسه ؛ لأنه من العباد تعيير وتكدير ومن الله إفضال وتذكير وكان السلف يقولون : إذا صنعتم صنيعة فانسوها ، والعرب يمتدحون بترك المن ويذمون عليه فمن الأوّل قول القائل :
*زاد معروفك عندي عظما ** أنه عندك مستور حقير*
*تتناساه كأن لم تأته ** وهو في العالم مشهور كبير*
ومن الثاني قول القائل
*وإنّ امرأ أسدى إليّ صنيعة ** وذكرنيها مرّة لبخيل*
وقيل : طعم الآلاء أحلى من المنّ ، وهي أمر من الآلاء مع المنّ ، ويطلق المنّ أيضاً على النعمة ، يقال : لفلان عليّ منة أي : نعمة وأنشد ابن الأنباري :
*فمني علينا بالسلام فإنما ** كلامك ياقوت ودرّ منظم
وقال تعالى : {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً} (آل عمران ، 164) الآية {ولا أذى} له كأن يذكر ذلك إلى من لا يحب وقوفه عليه ، أو يتطاول عليه بسبب ما أنعم عليه ، وثم للتفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى {لهم أجرهم} أي : ثواب إنفاقهم {عند ربهم ولا خوف عليهم} أي : فلا يخافون فقد أجورهم {ولا هم يحزنون} في الآخرة بسبب أن لا يوجد.
{قول معروف} أي : كلام حسن وردّ على السائل جميل ، لأنّ القول الجميل وإن كان يردّ السائل يفرح قلبه ، ويروح روحه وقيل : عدة حسنة {ومغفرة} أي : بأن يستر عليه خلته ولا يهتك ستره ، ويتجاوز عنه إذا وجد منه ما ينقل عليه عند ردّه {خير من صدقة} يدفعها إليه {يتبعها أذى} أي : منّ وتعيير السائل أو قول يؤذيه.
203
فإن قيل : لِمَ لم يعد ذكر المنّ فيقول : يتبعها منّ أو أذى ؟
أجيب : بأنّ الأذى يشمل المنّ وغيره ، كما تقرّر وإنما نصّ عليه فيما مرّ لكثرة وقوعه من المتصدّقين ، وعسر تحفظهم منه ، ولذلك قدّم على الأذى قال بعضهم : الآية واردة في صدقة التطوّع ؛ لأنّ الواجب لا يحل منعه ويحتمل أن يراد بها الواجب ، فإنه قد يعدل به عن سائل إلى سائل ، وعن نفر ، إلى نفر وإنما صحّ الابتداء بالنكرة وهي قول لاختصاصها بالصفة وهي معروف ، وأمّا المعطوف وهو مغفرة فلا يحتاج إلى مخصص لتبعيتها {وا غنيّ} عن صدقة العباد ، وإنما أمرهم ليثيبهم عليها {حليم} بتأخير العقوبة عن المانّ والمؤذي بصدقته.
{يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم} أي : أجورها لأنّ الصدقة وقعت فلا يصح أن تبطل {بالمنّ والأذى}.
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
فإن قيل : ظاهر هذا اللفظ أنّ مجموع المنّ والأذى يبطلان الأجر فيلزم أنه لو وجد أحدهما دون الآخر ، لا يبطل الأجر ، أجيب : بأنّ الشرط أن لا يوجد واحد منهما دون الآخر لأنّ قوله تعالى : {ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً} ولا أذى يقتضي أن لا يقع هذا ولا هذا أي : فتبطل لكل واحد منهما إبطالاً.(1/147)
{كالذي} أي : كإبطال أجر نفقة الذي {ينفق ماله رئاء الناس} أي : مرائياً لهم ، ليروا نفقته ، ويقولون : إنه كريم سخي {ولا يؤمن با واليوم الآخر} وهو المنافق لأنّ الكافر معلن بكفره غير مراء {فمثله} أي : هذا المرائي في إنفاقه {كمثل صفوان} وهو الحجر الأملس {عليه} أي : استقرّ عليه {تراب} والتراب معروف وهو اسم جنس لا يثنى ولا يجمع. وقال المبرد : هو جمع واحده ترابة ، وفائدة هذا الخلاف أنه لو قال لزوجته : أنت طالق عدد التراب أنه يقع عليه طلقة على الأوّل وهو الأصح وثلاث على الثاني {فأصابه وابل} وهو المطر الشديد العظيم القطر {فتركه صلداً} أي : أملس نقياً من التراب وقوله تعالى : {لا يقدرون على شيء مما كسبوا} استئناف لبيان مثل المنافق المنفق رياء أي : لا يجدون له ثواباً في الآخرة كما لا يوجد على الصفوان شيء من التراب الذي كان عليه لإذهاب المطر له.
فإن قيل : كيف قال تعالى لا يقدرون بعد قوله كالذي ينفق ؟
أجيب : بأنه تعالى أراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق ولأن من والذي يتعاقبان فكأنه قيل كمن ينفق وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا : يا رسول الله وما الشرك الأصغر ؟
قال : الرياء يقول الله تعالى لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء" وروى أبو هريرة : "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه أن الله تعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ـ أي : أمره ـ ليقضي بينهم وكل أمة جاثية وأوّل من يدعى به رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل الله ورجل كثير المال فيقول الله تعالى للقارىء : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟
قال : بلى قال : فماذا عملت فيما علمت ؟
قال : كنت أقوم به آناء الليل وأناء النهار فيقول الله تعالى : كذبت وتقول الملائكة : كذبت ويقول الله : بل أردت أن يقال فلان قارىء ، وقد قيل ، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟
قال :
204
بلى يا رب قال : فماذا عملت فيما آتيتك ؟
قال : كنت أصل الرحم وأتصدّق فيقول الله : كذبت وتقول الملائكة : كذبت ويقول الله : بل أردت أن يقال : فلان جواد ، وقد قيل ، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له : فيماذا قتلت ؟
فيقول : يا رب أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول الله : كذبت وتقول الملائكة : كذبت ويقول الله : بل أردت أن يقال : فلان جريء ، وقد قيل ، ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتي فقال : يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أوّل خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة".
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
وا لا يهدي القوم الكافرين} إلى الخير والرشاد وفيه تعريض بأنّ الرياء والمنّ والأذى على الإنفاق صفة الكفار ولا بد أن تجتنبوا عنها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
{ومثل} نفقات {الذين ينفقون أموالهم ابتغاء} أي : طلب {مرضاة الله} أي : رضاه {وتثبيتاً من أنفسهم} أي : تثبيتاً بالنظر في إصلاح العمل وإخلاصه بالحمل على الحلم ، والصبر على جميع مشاق التكاليف ، فإن من راض نفسه يحملها على بذل المال ، الذي هو شقيق الروح ، فإن بذله أشق شيء على النفس ؛ لأن النفس إذا رضيت بالتحامل عليها وتكاليفها بما يصعب عليها ذلت خاضعة لصاحبها ، وقلّ طعمها في اتباعه لشهواتها فيسهل عليه حملها على سائر العبادات ، ومتى تركها وهي مطبوعة على النقائص زاد طَعَمُها في اتباع الشهوات ، فمن للتبعيض مفعول به مثلها في قوله : هز من عطفه وحرك من نشاطه.
فإن قيل : ما معنى التبعيض ؟
أجيب : بأنّ معناه إنّ من بذل ماله لوجه الله تعالى فقد ثبت بعض نفسه ، ومن بذل ماله وروحه فهو الذي ثبتها كلها أو تصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم ، لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله تعالى علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ، ومن إخلاص قلبه ، فمن على هذا لابتداء الغاية كقوله تعالى : {حسداً من عند أنفسهم} {كمثل جنة} أي : بستان {بربوة} وهي المكان المرتفع الذي تجري فيه الأنهار ، فلا يعلوه الماء ولا يعلو هو على الماء ، وإنما جعلها بربوة ، لأنّ النبات عليها أحسن وأزكى ، وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء والباقون بضمها {أصابها وابل} أي : مطر شديد كثير.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 205
فأتت} أي : أعطت {أكلها} أي : ثمرتها ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بسكون الكاف ، والباقون بضمها {ضعفين} أي : مثلي ما يثمر غيرها بسبب الوابل والمراد بالضعف المثل وقيل : أربعة أمثاله ، لأنّ الضعف قدر الشيء ومثله معه ، فيكون الضعفان أربعة واستظهره البقاعي ، وقال أبو حيان : يحتمل أنها للتكثير أي : ضعفاً بعد ضعف أي : أضعافاً كثيرة ، لأنّ النفقة لا تضاعف بحسنة فقط ، بل بعشر وسبعمائة وأزيد ، ونصبه على الحال أي : مضاعفاً.(1/148)
{فإن لم يصبها وابل فطل} أي : مطر خفيف يصيبها ويكفيها لارتفاعها ، والمعنى تثمر وتزكو كثر المطر أو قل ، فكذلك نفقات من ذكر تزكو عند الله كثرت أو قلت {وا بما تعملون بصير} فيجازيكم به ففيه وعد ووعيد.
{أيودّ أحدكم} أي : أيحب حباً شديداً {أن تكون له جنة} أي : بستان {من نخيل} جمع نخلة ، وهي الشجرة القائمة على ساق ، ثمرها من أعلاها في كلها نفع حتى في خشبها مثلها كمثل
205
المؤمن الذي ينتفع به كله {وأعناب} جمع عنب وهو شجر الكرم لا يختص ثمره بجهة العلو اختصاص النخلة ، بل يتفرّع علواً وسفلاً ويمنة ويسرة ، مثله كمثل المؤمن المتّقي الذي يكرم بتقواه في كل جهة.
ولما كانت الجنان لا تقوم ولا تدوم إلا بالماء قال تعالى : {تجري من تحتها الأنهار} أي : من تحت هذه الأشجار {له فيها} أي : الجنة ثمر مع ثمر النخل والعنب {من كل الثمرات} فهي محتوية على سائر أنواع الأشجار ، وإنما خص النخل والعنب بالذكر لشرفهما وكثرة منافعهما وحسن منظرهما {وأصابه} أي : والحال أنه أصابه {الكبر} أي : كبر السنّ فصار لا يقدر على اكتساب. {وله ذرية ضعفاء} بالصغر كما ضعف هو بالكبر {فأصابها} أي : الجنة {إعصار} وهو الريح العاصف الذي يرتفع إلى السماء كأنها عمود ، وتسميها العامة الزوبعة وجمعه أعاصر ، والإعصار من بين سائر الرياح مذكر ، ولهذا رجع إليه الضمير مذكراً في قوله : {فيه نار فاحترقت} تلك الجنة ففقدها أحوج ما كان إليها ، وبقي هو وأولاده عجزة متحيرين لا حيلة لهم.
وهذا مثل ضربه الله تعالى لعمل المنافق والمرائي يقول عمله في حسنه كحسن الجنة ينتفع به كما ينتفع صاحب الجنة بها فإذا كبر وضعف وصار له أولاد ضعفاء صغار أصاب جنة إعصار فيه نار فاحترقت أحوج ما يكون إليها ، وضعف عن إصلاحها لكبره ، وضعفت أولاده عن إصلاحها ، ولم يجد هو ما يعود به على أولاده ولا أولاده ، ما يعودون به عليه ، فبقوا جميعاً متحيرين عجزة لا حيلة لهم ، كذلك يبطل الله تعالى عمل المنافق والمرائي في الآخرة ، حين لا مغيث لهما ولا توبة ولا إقالة ، والاستفهام بمعنى النفي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 205
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ضرب لرجل عمل بالطاعات ، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله.
{كذلك} أي : مثل هذا البيان {يبين الله} أي : الذي له الكمال كله {لكم الآيات لعلكم} أي : لكي {تتفكرون} فيها فتعتبرون بها.
ولما ذكر سبحانه وتعالى أن الإنفاق على قسمين وبين كل قسم وضرب له مثلاً ذكر كيفية الانفاق بقوله تعالى :
{يأيها الذين آمنوا أنفقوا} أي : زكوا {من طيبات} أي : جياد {ما كسبتم} من المال والتجارة والصناعة ، وفيه دلالة على إباحة الكسب ، وأنه ينقسم إلى طيب وخبيث. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإنّ ولده من كسبه" وقال صلى الله عليه وسلم "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده" وكان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده.
والزكاة واجبة في مال التجارة فبعد الحول تقوم العروض ، فيخرج من قيمتها عشرين ديناراً ، أو مائتي درهم فضة فيزكيها ، قال سمرة بن جندب : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي يعدّ للبيع".
206
{ومما} أي : ومن طيبات ما {أخرجنا لكم من الأرض} من الحبوب والثمار والمعادن فحذف المضاف وهو طيبات من الثاني لتقدّم ذكره. وفي هذا أمر بإخراج العشر من الثمار والحبوب ، واتفق أهل العلم على إيجاب العشر في النخيل والكروم وفيما يقتات من الحبوب إن كان مسقياً بماء السماء ، أو من نهر يجري الماء فيه من غير مؤنة ، وإن كان مسقياً بساقية أو نضح ففيه نصف العشر ، لقوله صلى الله عليه وسلم "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر ، وفيما يسقي بالنضح نصف العشر" وعنه : "ليس في حب ولا ثمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق" وقال قوم الآية في صدقة التطوع قال صلى الله عليه وسلم "ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كانت له صدقة".
{ولا تيمموا} أي : لا تقصدوا {الخبيث} أي : الرديء {منه} أي : المذكور {تنفقون} في الزكاة حال من ضمير تيمموا {ولستم بآخذيه} أي : الخبيث {إلا أن تغمضوا} أي : تسامحوا {فيه} بالحياء مع الكراهة مجاز من أغمض بصره إذا غضه.
وروي عن البراء قال : لو أهدي ذلك لكم ما أخذتموه إلا على استحياء من صاحبه وغيظ ، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم ؟
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كانوا يتصدّقون بحشف التمر وشواره فنهوا عن ذلك ، هذا إذا كان المال كله أو بعضه جيداً فإن كان كل ماله ردياً فلا بأس بإعطاء الرديء {واعلموا أنّ الله غنيّ} عن إنفاقكم وإنما يأمركم به لانتفاعكم {حميد} أي : يجازي المحسن أفضل الجزاء على أنه لم يزل محموداً ولا يزال عذب أو أثاب.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 205(1/149)
الشيطان يعدكم الفقر} أي : يخوّفكم به إن تصدّقتم ويقال : وعدته خيراً ووعدته شراً قال تعالى في الخير : {عدكم الله مغانم كثيرة} (الفتح ، 20) وقال في الشر : {النار وعدها الله الذين كفروا} (الحج ، 72) فإذا لم يذكر الخير والشر قلت : في الخير وعدته ، وفي الشر : أوعدته والفقر سوء الحال وقلة ما في اليد وأصله من كسر الفقار ومعنى الآية أن الشيطان يخوّفكم بالفقر ، ويقول للرجل : أمسك مالك فإنك إذا تصدّقت افتقرت.
{ويأمركم بالفحشاء} أي : بالبخل ومنع الزكاة قال الكلبي : كل فحشاء في القرآن فهو الزناء إلا في هذا الموضع.
{وا يعدكم مغفرة منه} لما وقع منكم من تقصير وفيه إشعار بأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره ، لما له من الإحاطة بصفات الكمال ، ولما جبل عليه الإنسان من النقص.
{وفضلاً} بالزيادة في الدارين وكل نعمة منه فضل ثم أكد ذلك بقوله تعالى : {وا واسع} فضله {عليم} بالمنفق وغيره.
وفيه إشارة إلى أنه لا يضيع شيئاً وإن دقّ ، وعن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنّ الله تعالى قال : يا ابن آدم أنفق أنفق عليك" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق مند خلق السموات والأرض
207
فإنه لم ينقص ما في يمينه" قال : "وعرشه على الماء وبيده الأخرى القسط يرفع ويخفض" وعن أسماء أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعى الله عليك".
{يؤتى الحكمة} أي : العلم النافع المؤدي إلى العمل. وقال السدّي : هي النبوّة وقال ابن عباس وقتادة : علم القرآن ناسخه ، ومنسوخه ، ومحكمه ، ومتشابهه ، ومقدمه ، ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثال ذلك وقال الضحاك : هي القرآن والفهم فيه وقال : في القرآن مائة وتسع آيات ناسخة ومنسوخة وألف آية حلال وحرام لا يسع المؤمنين تركهن حتى يتعلموهنّ وقال مجاهد : هي القرآن والعلم والنفقة.
وقوله تعالى : {من يشاء} مفعول أوّل أخر للاهتمام بالمفعول الثاني وهو الحكمة {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} لمصيره إلى السعادة الأبدية {وما يذكر} فيه إدغام التاء في الأصل في الذال أي : ما يتعظ بما قص من الآيات أي : ما يتفكر فإنّ المتفكر كالمتذكر لما أودع الله تعالى في قلبه من العلوم بالقوّة {إلا أولوا الألباب} أي : أصحاب العقول الخالصة من شوائب الوهم والركون إلى متابعة الهوى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 205
{وما أنفقتم} أي : أديتم {من نفقة} قليلة أو كثيرة سراً أو علانية زكاة أو صدقة تطوع {أو
208
نذرتم من نذر} بشرط أو بغير شرط فوفيتم به {فإنّ الله يعلمه} فيجازيكم به.
فإن قيل : لِمَ وحّد الضمير في يعلمه وقد تقدّم شيئان : النفقة والنذر ؟
أجيب : بأنّ العطف بأو وهي لأحد الشيئين تقول : زيد أو عمرو أكرمته ، ولا يجوز أكرمتهما بل يجوز أن يراعى الأول نحو زيد أو هند منطلق ، والثاني نحو زيد أو هند منطلقة ، والآية من هذا ، ومن مراعاة الأوّل {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها} (الجمعة ، 11) ولا يجاز أن يقال : منطلقان ولهذا أوجل النحاة قوله تعالى : {إن يكن غنياً أو فقيراً فا أولى بهما} (النساء ، 135) كما سيأتي إن شاء الله تعالى {وما للظالمين} بمنع الزكاة والنذر أو بوضع الإنفاق في غير محله من معاصي الله تعالى {من أنصار} أي : من ينصرهم من الله ويمنعهم من عذابه فهو على طريق التوزيع والمقابلة أي : لا ناصر لظالم قط فسقط ما يقال إنّ نفي الأنصار لا يوجب نفي الناصر.
{إن تبدوا} أي : تظهروا {الصدقات} أي : النوافل {فنعما هي} أي : فنعم شيئاً إبداؤها ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون ، والباقون بكسرها ، وقرأ قالون وأبو عمرو باختلاس كسرة العين ، والباقون بالكسرة الكاملة.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 208(1/150)
وإن تخفوها} أي : تسروها {وتؤتوها الفقراء} أي : تعطوها لهم في السر {فهو خير لكم} أي : أفضل من إبدائها وإيتاؤها للفقراء أفضل من إيتائها للأغنياء. سئل صلى الله عليه وسلم هل صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية ؟
فنزلت هذه الآية ، وفي الحديث : "صدقة السر تطفىء غضب الرب" وقال صلى الله عليه وسلم "سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى ، ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ، ورجلان تحابا في الله تعالى فاجتمعا على ذلك وتفرّقا ، ورجل ذكر الله تعالى خالياً ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله تعالى ، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" نعم إن كان ممن يقتدى به فالإظهار في حقه أفضل ، أما صدقة الفرض فالأفضل إظهارها ، كالصلاة المكتوبة في الجماعة أفضل والنافلة في البيت أفضل وليقتدى به ، لئلا يتهم ولا يجوز دفع شيء منها للأغنياء. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : "صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً".
تنبيه : الصدقة تطلق على الفرض والنفل قال تعالى : {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم} (هود ، 103) وقال عليه الصلاة والسلام : "نفقة المرء على عياله صدقة" والزكاة لا تطلق إلا على الفرض" {ونكفّر عنكم من سيآتكم} أي : بعضها وقيل : من صلة ، وقرأ ابن عامر وحفص بالياء
209
التحتية ، والباقون بالنون. وقرأ نافع وحمزة والكسائي بجزم الراء بالعطف على محل فهو ، والباقون بالرفع على الاستئناف.
وقوله تعالى : {وا بما تعملون خبير} فيه ترغيب في الإسرار لأنه عالم بباطن الشيء كظاهره ولا يخفى عليه شيء منه.
ولما منع النبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمين من التصدّق على فقراء المشركين ، كي تحملهم الحاجة ليسلموا نزل :
{ليس عليك هداهم} أي : لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها ، وإنما عليك الإرشاد والحث على المحاسن والنهي عن القبائح كالمن والأذى وإنفاق الخبيث.
وقوله تعالى : {ولكن الله يهدي من يشاء} أي : هداية التوفيق صريح بأنّ الهداية من الله وبمشيئته وإنما تخص بقوم دون قوم ، أما هدى البيان فكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطوهم بعد نزول الآية {وما تنفقوا من خير} أي : من مال.
وقوله تعالى : {فلأنفسكم} خبر لمبتدأ محذوف أي : فهي لأنفسكم ؛ لأنّ ثوابه لها فلا تمنوا به على غيركم ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم ولا تنفقوا الخبيث.
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
وقوله تعالى : {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} عطف على ما قبله أي : وليس نفقتكم إلا ابتغاء وجه الله ، ولطلب ما عنده ، فما لكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله تعالى {وما تنفقوا من خير يوف إليكم} ثوابه أضعافاً مضاعفة ، فلا عذر لكم في أن ترغبوا على إنفاقه وأن يكون على أحسن الوجوه وأجلها ، والجملتان تأكيد للأولى وهي وما تنفقوا من خير فلأنفسكم أو ما يخلف المنفق استجابه لقوله صلى الله عليه وسلم "اللهمّ اجعل لمنفق خلفاً ولممسك تلفاً" رواه البخاري.
{وأنتم لا تظلمون} أي : لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً تفضلاً من الله تعالى عليكم ، وهذا في صدقة التطوّع أباح الله تعالى أن توضع في أهل الإسلام وأهل الذمة وقيل : حجت أسماء بنت أبي بكر فأتتها أمها تسألها وهي مشركة فأبت أن تعطيها فنزلت.
وروى النسائي والحاكم أنّ ناساً من المسلمين كانت لهم أصهار في اليهود ورضاع ، وقد كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوا عليهم فنزلت. وعن بعض العلماء : لو كان المنفق عليه أشر خلق الله كان لك ثواب نفقتك. وأمّا الصدقة المفروضة فلا يجوز وضعها إلا في المسلمين أهل السهمان المذكورين في سورة التوبة ، لكن جوّز أبو حنيفة رحمه الله صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة.
وقوله تعالى :
{للفقراء} خبر مبتدأ محذوف أي : صدقاتكم للفقراء أو متعلق بفعل مقدر كاجعلوا ما تنفقون للفقراء {الذين أحصروا في سبيل الله} أي : حبسوا أنفسهم على الجهاد وهم فقراء المهاجرين ، كانوا نحواً من أربعمائة لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر ، كانوا يسكنون صفّة المسجد ، يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والعبادة ، وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم المشهورون بأصحاب الصّفّة ، فحث الله عليهم الناس فكان من عنده فضل أتاهم به إذا أمسى.
210
{لا يستطيعون ضرباً} أي : سفراً {في الأرض} للتجارة والمعاش لشغلهم عنه بالجهاد {يحسبهم الجاهل} بحالهم {أغنياء من التعفف} أي : لأجل تعففهم عن السؤال.(1/151)
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين ، والباقون بكسرها {تعرفهم} أيها المخاطب {بسيماهم} أي : بعلامتهم من التخشع والتواضع ، وصفرة الوجوه ، ورثاثة الحالة {لا يسألون الناس} شيئاً فيلحفون {إلحافاً} أي : لا سؤال لهم أصلاً فلا يقع منهم إلحاف ومثل ذلك قول الشاعر :
*لا يفزع الأرنب أهوالها ** ولا ترى الضب بها ينجحر*
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
أي : ليس فيها أرنب فيفزع لهولها ولا ضب فينجحر ، وليس المعنى أنه ينفي الفزع عن الأرنب والانجحار عن الضب والإلحاف الإلحاح ، وهو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه من قولهم : لحفني من فضل لحافه ، أي : أعطاني من فضل ما عنده وقيل : إنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحفوا. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب الحييّ الحليم المتعفف ويبغض البذي السآل الملحف" ، وقال صلى الله عليه وسلم "لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أشياءهم أعطوه أو منعوه" وقال صلى الله عليه وسلم "من سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خدوش" قيل : يا رسول الله وما يغنيه ؟
قال : "خمسون درهماً أو قيمتها" {وما ينفقوا من خير} أي : مال {فإنّ الله به عليم} فيجازيكم وفي هذا ترغيب في الإنفاق.
{الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار وسراً وعلانية} أي : يعمّون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير. نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه : تصدّق بأربعين ألف دينار ، عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة بالسر ، وعشرة بالعلانية. وفي علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : كانت عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها ، فتصدّق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سراً وبدرهم علانية. وقال الأوزاعي : نزلت في الذين يربطون الخيل للجهاد فإنها تعلف ليلاً ونهاراً سراً وعلانية.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة" وقوله تعالى : {فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} خبر الذين ينفقون والفاء للسببية.
فإن قيل : أيّ فرق بين قوله هنا {فلهم أجرهم} (البقرة ، 274) وفيما مرّ {لهم أجرهم} (البقرة ، 262) ؟
أجيب : بأنّ الموصول ثم لم يضمن معنى الشرط وضمنه هنا.
211
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
أي : يأخذونه وهو لغة الزيادة وشرعاً عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما وهو ثلاثة أنواع : ربا الفضل وهو البيع مع زيادة أحد العوضين على الآخر وربا اليد وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما ، وربا النساء وهو البيع إلى أجل وإنما ذكر الأكل ؛ لأنه أعظم منافع المال كقوله تعالى : {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً} (النساء ، 10) فنبه بالأكل على ما سواه من وجوه الإتلافات ؛ ولأنّ نفس الربا الذي هو الزيادة لا يؤكل وإنما يصرف في المأكول وقال صلى الله عليه وسلم "لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه والمحلل له" فعلمنا أنّ الحرمة غير مختصة بالأكل.
ولما كان بين الصدقة والربا مناسبة من جهة التضادّ ؛ لأنّ الصدقة عبارة عن تنقيص المال بأمر الله بذلك والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله عنه فكانا كالمتضادين ذكر عقب الصدقة ويرسم بالواو والألف بعد الواو وإنما رسم على لغة من يفخم وهو يميل الألف أي يخرج الواو كما كتبت الصلاة والزكاة. وقيل : لأنّ أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة ولغتهم الربو بالواو الساكنة ، فعلموهم الخط على لغتهم وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع {لا يقومون} إذا بعثوا من قبورهم {إلا} أي : قياماً {كما يقوم الذي يتخبطه} أي : يصرعه {الشيطان} وقوله تعالى : {من المس} أي : الجنون متعلق بتخبطه من جهة الجنون فيكون في موضع نصب قاله أبو البقاء : والمعنى أنّ آكل الربا يبعث يوم القيامة وهو كالمصروع تلك سيماه يعرف بها عند أهل الموقف.
جزء : 1 رقم الصفحة : 212
فإن قيل : لم نسب هذا للشيطان ؟
أجيب : بأنه وارد على ما تزعم العرب أنّ الشيطان يتخبط الإنسان فيصرع والخبط الضرب على غير استواء يقال : ناقة خبوط للتي تطأ الناس وتضرب الأرض بقوائمها ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه إنه يخبط خبط عشواء وتخبطه الشيطان إذا مسه بخبل أو جنون ؛ لأنه كالضرب على غير استواء في الإدهاش {ذلك} أي : الذي نزل بهم {بأنهم} أي : بسبب أنهم {قالوا إنما البيع مثل الربوا} في الجواز.(1/152)
فإن قيل : ما الحكمة في قلب القصة ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق ؛ لأنّ حل البيع متفق عليه وهم أرادوا قياس الربا عليه فكان نظم الكلام أن يقال إنما الربا مثل البيع ؟
أجيب : بأنّ هذا من عكس التشبيه مبالغة إذ به صار المشبه مشبهاً به وبالعكس وشأن المشبه به أن يكون أقوى من المشبه أو بأنهم لم يكن مقصودهم أن يتمسكوا بنظم القياس بل كان غرضهم أنّ البيع والربا متماثلان في جميع الوجوه المطلوبة فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحل والآخر بالحرمة وعلى هذا التقدير فأيهما قدم أو أخر جاز وقوله تعالى : {وأحل الله البيع وحرّم الربوا} إنكار لتسويتهم وإبطال القياس لمعارضته النص.
تنبيه : أظهر قولي الشافعيّ أنّ هذه الآية عامّة في كل بيع إلا ما خص بالسنة وأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيوع ، والثاني إنها مجملة والسنة مبينة لها أو تظهر فائدة الخلاف في الاستدلال بها في مسائل الخلاف فعلى الأوّل يستدل بها وعلى الثاني لا يستدل {فمن جاءه} أي : بلغه {موعظة} أي : وعظ {من ربه} وزجر بالنهي عن الربا {فانتهى} أي : فاتبع النهي وامتنع
212
من أكله {فله ما سلف} أي : ما مضى قبل النهي فلا يستردّ منه ما أخذه من الربا وقيل : ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له {وأمره إلى الله} بعد النهي إن شاء عصمه حتى يثبت على الإنتهاء وإن شاء خذله حتى يعود. وقيل : أمره إلى الله فيما يأمره وينهاه ويحل له ويحرم عليه وليس له من أمر نفسه شيء {ومن عاد} إلى تحليل الربا مشبهاً له بالبيع في الحل {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} لأنهم كفروا بذلك وورد أنه صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا ومؤكله والواشمة والمستوشمة والمصوّر وأنه صلى الله عليه وسلم قال : "الربا سبعون باباً أهونها عند الله عز وجل كالذي ينكح أمّه".
{يمحق الله الربوا} أي : يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل فيه. وعن ابن مسعود الربا وإن كثر فإلى قل {ويربي الصدقات} أي : يضاعف ثوابها ويبارك فيما أخرجت منه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 212
روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال : "إنّ الله تعالى يقبل الصدقة ويربيها كما يربي أحدكم فلوه".
وروى الإمام أحمد : "ما نقص مال من صدقة" {وا لا يحب كل كفار} أي : مصرّ على تحليل المحرّمات كمن يحلّل الربا {أثيم} منهمك في ارتكابه.
{إنّ الذين آمنوا} بالله وبرسوله ربما جاء لهم عنه {وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة} وإنما عطفهما على ما يعمهما لشرفهما {لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم} من آت {ولا هم يحزنون} على فائت وتقدّم مثل هذه الآية ولكن جرت عادة الله سبحانه وتعالى في القرآن مهما ذكر وعيداً ذكر بعده وعداً ، فلما بالغ هنا في وعيد الربا أتبعه بهذا الوعد.
فإن قيل : إن الإنسان إذا بلغ عارفاً بالله وقبل وجوب الصلاة والزكاة عليه مات فهو من أهل الثواب بالاتفاق ، فدل على أن استحقاق الثواب لا يتوقف على حصول العمل أجيب : بأنه تعالى إنما ذكر هذه الخصال لا لأجل أن استحقاق الثواب مشروط بهذا بل لأجل أن لكل منهما أثراً في جلب الثواب كما قال تعالى في ضد هذا {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} (الفرقان ، 68) ثم قال تعالى : {ومن يفعل ذلك يلق أثاماً} ومعلوم أنّ من ادعى أنّ مع الله إلهاً آخر لا يحتاج في استحقاقه العذاب إلى عمل آخر وإنما جمع الله تعالى الزنا وقتل النفس مع دعاء غير الله تعالى إلهاً لبيان أنّ كل واحد من هذه الخصال يوجب العقوبة.
{يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا} أي : اتركوا بقايا ما شرطتم على الناس من الربا الذي أخذتم بعضه قبل التحريم {إن كنتم مؤمنين} أي : بقلوبكم أو إن بمعنى إذ فإنّ دليل الإيمان امتثال ما أمرتم به. روي أنها نزلت لما طالب بعض الصحابة بعد النهي بربا كان له قبل.
{فإن لم تفعلوا} أي : تذروا ما بقي من الربا {فائذنوا} أي : اعلموا ، من أذن بالشيء إذا علم به أي : فاعلموا أنتم وأيقنوا {بحرب من الله ورسوله} لكم.
فإن قيل : هذا حكمهم إن تابوا ، فما حكمهم إن لم يتوبوا ؟
أجيب : بأنّ مقتضى ذلك أنهم يقاتلون إن لم يرجعوا قال سعيد بن جبير : عن ابن عباس يقال لآكل الربا يوم القيامة : خذ سلاحك
213
للحرب ، قال أهل المعاني : حرب الله تعالى النار وحرب رسوله صلى الله عليه وسلم السيف. وقرأ شعبة وحمزة فآذنوا بفتح الهمزة ومدّها وكسر الذال أي : فأعلموا بها غيركم وهو من الإذن وهو الاستماع لأنه من طريق العلم والباقون بسكون الهمزة وفتح الذال {وإن تبتم} أي : تركتم استحلال الربا ورجعتم عنه {فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون} بطلب الزيادة {ولا تظلمون} بالنقصان عن رأس المال.
جزء : 1 رقم الصفحة : 212
فإن قيل : هلا قال تعالى بحرب الله ورسوله ؟
أجيب : بأنّ هذا أبلغ ؛ لأنّ المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم(1/153)
ولما نزلت هذه الآية قال المرابون : بل نتوب إلى الله ، فإنه لا ثبات لنا بحرب من الله ورسوله ، فرضوا برأس المال فشكا من عليه الدين العسرة وقال لمن لهم الدين : أخرونا إلى أن تدرك الغلات ، فأبوا أن يؤخروا فأنزل الله تعالى :
{وإن كان ذو عسرة فنظرة} له أي : عليكم تأخيره {إلى ميسرة} أي : وقت يسره.
تنبيه : في كان هذه وجهان : أظهرهما أنها تامّة بمعنى حدث ووجد أي : وإن حدث ذو عسرة ، فتكتفي بفاعلها كسائر الأفعال ، الثاني أنها ناقصة وخبرها محذوف ، قال أبو البقاء تقديره : وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق أو نحو ذلك ، وقدره بعضهم وإن كان ذو عسرة غريماً ، وقرأ نافع بضمّ السين والباقون بفتحها {وأن تصدقوا} أي : بالإبراء وقرأ عاصم بتخفيف الصاد والباقون بالتشديد على إدغام التاء في الأصل والتخفيف على حذفها {خير لكم} أي : أكثر ثواباً من الإنظار وهذا مما فضل المندوب فيه الواجب ، فإنّ الإبراء مندوب إليه والإنظار واجب فيحرم حبس المعسر ، وهل القول قوله في إعساره أو لا بدّ من بينة تشهد بذلك ينظر إن كان الدين عن عوض كالبيع والقرض فلا بدّ من بينة ، وإن كان عن غير عوض كالضمان والإتلاف والصداق ، فالقول قول المعسر بيمينه وعلى الغريم البينة إلا أن يعرف له مال فلا بدّ من بينة {إن كنتم تعلمون} فضل التصدق على الإنظار فافعلوا. وقيل : المراد بالتصدّق الإنظار نفسه ورد هذا كما قال الإمام : بأنّ الإنظار قد علم مما قبل فلا بدّ من حمله على فائدة جديدة قال عليه الصلاة والسلام : "لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة".
وروي : "من أنظر معسراً أو وضع عنه أنجاه الله من كرب يوم القيامة" وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنّ الملائكة تلقت روح رجل كان قبلكم فقالوا له : هل عملت خيراً قط ؟
قال : لا قالوا : تذكر قال : ألا إني رجل كنت أداين الناس فكنت آمر فتياني بأن ينظروا الموسر ويتجاوزوا عن المعسر. قال الله تعالى : تجاوزوا عنه" وقال صلى الله عليه وسلم "من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله".
{واتقوا يوماً ترجعون} أي : تصيرون {فيه إلى الله} هو يوم القيامة أي : فتأهبوا لمصيركم إليه. وقرأ أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم ، والباقون بضم التاء وفتح الجيم {ثم توفى} فيه {كل نفس} جزاء {ما كسبت} أي : عملت من خير أو شر {وهم لا يظلمون} بنقص حسنة أو زيادة سيئة.
214
فائدة : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جبريل : ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة وعاش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً وعشرين يوماً" وقال ابن جريج : تسع ليالٍ وقال سعيد بن جبير : سبع ليالٍ ومات يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل وقيل : ثلاث ساعات. وقال الشعبي عن ابن عباس : آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا. ولما منع الله من الربا أذن في السلم والقرض بما يعمهما فقال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 212
{يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} كسلم وقرض {إلى أجل مسمى} أي : معلوم ولذا قال بعض العلماء : لا لذة ولا منفعة يتوصل إليها بالطريق الحرام إلا والله سبحانه وتعالى وضع لتحصيل مثل تلك اللذة طريقاً حلالاً وسبيلاً مشروعاً.
فإن قيل : المداينة مفاعلة وحقيقتها أن يحصل من كل واحد منهما دين وذلك هو بيع الدين بالدين وهو باطل بالإتفاق أجيب : بأن المراد من تداينتم تعاملتم والتقدير تعاملتم بما فيه دين.
فإن قيل : هلا اكتفى بقوله إذا تداينتم إلى أجل وأي حاجة إلى ذكر الدين ؟
أجيب : بأنه ذكر ليرجع الضمير إليه في قوله : {فاكتبوه} إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن ولئلا يتوهم من الدائن المجازاة ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال ، وفائدة قوله مسمى ليعلم أنّ من حق الأجل أن يكون معلوماً كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام ، ولو قال : إلى الحصاد أو الدراس أو رجوع الحاج لم يجز للجهل بوقت الأجل ، وإنما أمر بكتابة الدين ؛ لأنّ ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود.
جزء : 1 رقم الصفحة : 215
فإن قيل : إنّ كلمة إذا لا تفيد العموم والمراد من الآية العموم ؛ لأنّ المعنى كلما تداينتم بدين
215(1/154)
فاكتبوه ، فلم عدل عن كلما وقال : إذا تداينتم ؟
أجيب : بأن كلمة إذا وإن كانت لا تقتضي العموم إلا أنها لا تمنع من العموم وههنا قام الدليل على أنّ المراد هو العموم ، واختلفوا في هذه الكتابة ، فقال بعضهم : هي واجبة والأكثرون على أنه أمر استحباب فإن ترك فلا بأس كقوله تعالى : {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} (الجمعة ، 10) وقال بعضهم كانت كتابة الدين والإشهاد والرهن فرضاً ثم نسخ الكل بقوله تعالى : {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذين ائتمن أمانته} ثم بيّن كيفية الكتابة ، فقال تعالى : {وليكتب} أي : كتاب الدين {بينكم كاتب بالعدل} أي : بالحق في كتابته لا يزيد في المال أو الأجل ولا ينقص وهو في الحقيقة أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين حتى يجيء مكتوبه موثوقاً به معدلاً بالشرع مع أنّ ظاهره أمر للكاتب {ولا يأب} أي : لا يمتنع {كاتب} من {أن يكتب} إذا دعي إليها {كما علمه} أي : فضله {ا} بالكتابة فلا يبخل بها بل ينفع الناس بها كما نفعه الله بتعليمها كقوله تعالى : {وأحسن كما أحسن الله إليك} ( ، ) والكاف متعلقة بيأب {فليكتب} تلك الكتابة المعلمة أمر بها بعد النهي عن الإباء تأكيداً {وليملل الذي عليه الحق} أي : وليكن المملل على الكاتب من عليه الحق ؛ لأنه المقرّ المشهود عليه والإملال والإملاء لغتان فصيحتان معناهما واحد جاء بهما القرآن فالإملال ههنا وهو لغة الحجاز والإملاء قوله تعالى : {فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً} (الفرقان ، 5) وهي لغة تميم.
{وليتق الله ربه} أي : كل من المملي والكاتب {ولا يبخس} أي : لا ينقص {منه} أي : من الحق أو مما أملى عليه {شيئاً فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً} أي : مبذراً {أو ضعيفاً} أي : صغيراً أو كبيراً اختل عقله لكبره {أو لا يستطيع أن يملّ هو} لخرس أو جهل باللغة أو نحو ذلك {فليملل وليه} أي : متولي أمره من والد ووصيّ وقيم ووكيل ومترجم {بالعدل} وفي هذا دليل على جريان النيابة في الإقرار. قال البيضاوي : ولعله مخصوص بما تعاطاه القيم أو الوكيل أي : دون المترجم ودونهما فيما لم يتعاطياه {واستشهدوا} أي : وأشهدوا {شهيدين} أي : شاهدين {من رجالكم} أي : البالغين الأحرار والمسلمين دون الصبيان والعبيد والكفار ، وأجاز ابن سيرين شهادة العبيد ، وأبو حنيفة شهادة الكفار بعضهم على بعض {فإن لم يكونا} أي : الشاهدان {رجلين فرجل} أي : فليشهدا والمستشهد رجل {وامرأتان}.
جزء : 1 رقم الصفحة : 215
وأجمع الفقهاء على أنّ شهادة النساء جائزة مع الرجال في الأموال حتى تثبت برجل وامرأتين ، واختلفوا في غير الأموال فذهبت جماعة إلى أنه تجوز شهادتهنّ مع الرجال في غير العقوبات وهو قول سفيان الثوريّ وأصحاب الرأي ، وذهب جماعة إلى أنّ غير المال لا يثبت إلا برجلين عدلين ، وذهب الشافعيّ إلى أنّ ما يطلع عليه النساء غالباً كالولادة والرضاع والثيوبة والبكارة ونحوها تثبت بشهادة رجل وامرأتين وشهادة أربع نسوة ، واتفقوا على أنّ شهادة النساء غير جائزة في العقوبات {ممن ترضون من الشهداء} أي : من كان مرضياً لدينه وأمانته.
تنبيه : شروط قبول الشهادة سبعة : الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعدالة والمروءة وانتفاء التهمة فمتى فقد شرط منها لم تصح تلك الشهادة ، وإنما اشترط التعدّد في النساء لأجل {أن تضل} أي : تنسى {إحداهما} أي : الشهادة لنقص عقلهنّ وضبطهنّ {فتذكر} قرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون الذال وتخفيف الكاف ، والباقون بفتح الذال وتشديد الكاف ، وقرأ برفع الراء والباقون بالنصب {إحداهما} أي : الذاكرة {الأخرى} أي : الناسية قال الزمخشري : ومن بدع
216
التفاسير فتذكر أي : فتجعل إحداهما الأخرى ذكراً يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر ، وقرأ حمزة وحده أن تضل إحداهما على الشرط فتذكر بالرفع والتشديد كقوله تعالى : {ومن عاد فينتقم الله منه} ( ، ) وجملة الإذكار محل العلة أي : لتذكر إن ضلت ودخلت على الضلال ؛ لأنّ الضلال سبب الإذكار وهم ينزلون كل واحد من السبب والسبب منزلة الآخر {ولا يأب} أي : لا يمتنع {الشهداء إذا ما} أي : إذا {دعوا} لأداء الشهادة والتحمل ، فما مزيدة وسموا شهداء على هذا الثاني تنزيلاً لما يشارف منزلة الواقع {ولا تسأموا} أي : تملوا من {أن تكتبوه} أي : ما شهدتم عليه من الحق لكثرة وقوعه أو تكسلوا من أن تكتبوه فكني عن السآمة التي تكون بعد الشروع للكثرة بالكسل الذي يكون ابتداءً لكونها من لوازمه ؛ لأنّ الكسل صفة المنافق. قال تعالى : {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} (النساء ، 142) وقال صلى الله عليه وسلم "لا يقول المؤمن كسلت" {صغيراً} كان ذلك الحق {أو كبيراً} قليلاً أو كثيراً وقوله تعالى : {إلى أجله} أي : وقت حلوله الذي أقرّ به المديون حال من الهاء في تكتبوه {ذلكم} أي : الكتب {أقسط} أي : أعدل {عند الله وأقوم للشهادة} أي : أعون على إقامتها لأنه يذكرها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 215(1/155)
تنبيه : يجوز على مذهب سيبويه أن يكون أقسط وأقوم مبنيين من أقسط وأقام ، وأن يكون أقسط من قاسط على طريقة النسب بمعنى ذي قسط وأقوم من قويم أو هما مبنيان من أقسط وأقام لا من قسط وقام ؛ لأنّ قسط بمعنى جار ، والمعنى هنا على العدل والفعل منه أقسط فلزم أن يكون أقسط في الآية من المزيد لقصد الزيادة في المقسط قال تعالى : {إنّ الله يحب المقسطين} (المائدة ، 42) لا من المجرّد ؛ لأنّ معناه الزيادة في القاسط وهو الجائز قال تعالى : {وأمّا القاسطون فكانوا لجهنم حطباً} (الجن ، 15) وكذا أقوم معناه أشدّ إقامة لا قياماً وبناؤهما من ذلك على غير قياس ، والقياس أن يكون البناء من المجرّد لا من المزيد ويجوز أن يكون بناؤهما من قاسط بمعنى ذي قسط أي : عدل وبمعنى قويم أي : ذي استقامة على طريقة النسب كلابن وتامر فيكون أفعل لا فعل له ، وإنما صحت الواو في أقوم كما صحت في التعجب لجموده {وأدنى} أي : وأقرب إلى {أن لا ترتابوا} أي : تشكوا في قدر الحق وجنسه والشهود والأجل ونحو ذلك {إلا أن تكون تجارة حاضرة} وهي تعم المبايعة بدين أو عين {تديرونها بينكم} أي : تتعاطونها يداً بيد {فليس عليكم جناح} أي : لا بأس إذا تبايعتم يداً بيد {أن لا تكتبوها} فهو استثناء من الأمر بالكتابة لبعده حينئذ عن التنازع والنسيان ، وقرأ عاصم بنصب التاء فيهما على أنّ تجارة هي الخبر والاسم مضمر تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة ، والباقون بالرفع فيهما على أنّ تجارة هي الاسم والخبر تديرونها أو على كان التامّة {وأشهدوا} أي : ندباً {إذا تبايعتم} عليه سواء كان ناجزاً أو كالئاً فإنه أدفع للاختلاف فهو تعميم بعد تخصيص احتياطاً في جميع المبتاعات ، ويجوز أن يراد هذا التبايع الذي هو التجارة الحاضرة على أنّ الإشهاد كاف فيه دون الكتابة وقوله تعالى : {ولا يضار كاتب ولا شهيد} أصله يضار أدغمت إحدى الراءين في الأخرى ونصبت لحق التضعيف لاجتماع الساكنين ، واختلفوا فمنهم من قال أصله يضارر بكسر الراء الأولى وجعل الفعل للكاتب والشهيد ومعناه نهيهما عن ترك الإجابة وعن التحريف والتغيير في الكتابة والشهادة ، ومنهم من قال : أصله يضارر بفتح الراء على الفعل المجهول وجعلوا الكاتب والشاهد
217
مفعولين ومعناه النهي عن الضرار بهما مثل أن يعجلا عن مهمّ ويكلفا الخروج عما حد لهما ولا يعطى الكاتب جعله ولا الشهيد مؤنة مجيئه حيث كان ، والمنهي حينئذٍ المتبايعان ، فالآية محتملة للبناء للفاعل وللبناء للمفعول فتحمل عليهما معاً أو على كل منهما والأولى أولى.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 215
وإن تفعلوا} ما نهيتم عنه من الضرار {فإنه فسوق بكم} أي : معصية وخروج عن الأمر {واتقوا الله} في مخالفة أمره ونهيه {ويعلمكم الله} أحكامه المتضمنة لمصالحكم {وا بكل شيء عليم} كرّر لفظ الله في الجمل الثلاث لاستقلالها ، فإنّ الأولى حث على التقوى ، والثانية وعد بإنعامه ، والثالثة تعظيم الله لشأنه عز وجل ، ولأنه أدخل في التعظيم من الضمير وهذا آخر آية الدين ، وقد حث سبحانه وتعالى فيها على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد قال تعالى : {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} (النساء ، 5) الآية.
قال القفال رحمه الله تعالى : ويدلّ على ذلك أنّ ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار. وفي هذه الآية بسط شديد ألا ترى أنه قال : {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} ثم قال ثانياً : وليكتب بينكم كاتب بالعدل ، ثم قال ثالثا : {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله} فكان هذا كالتكرار لقوله : {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} لأنّ العدل هو ما علمه الله ، ثم قال رابعاً : فليكتب وهذا إعادة للأمر الأوّل ثم قال خامساً : {وليملل الذي عليه الحق} وفي قوله تعالى : وليكتب بينكم كاتب بالعدل كناية عن قوله : {وليملل الذي عليه الحق} لأنّ الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه ، ثم قال سادساً : {وليتق الله ربه} وهذا تأكيد ثم قال سابعاً : {ولا يبخس منه شيئاً} وهذا كالمستفاد من قوله : {وليتق الله ربه} ثم قال ثامناً : {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله} وهو أيضاً تأكيد لما مضى ثم قال تاسعاً : {ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا} فذكر هذه الفوائد التالية لتلك التأكيدات السالفة وكل ذلك يدل على المبالغة ، في التوصية بحفظ المال الحلال وصونه عن الهلاك ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله والإعراض عن مساخط الله تعالى من الربا وغيره والمواظبة على تقوى الله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 215(1/156)
{وإن كنتم على سفر} أي : مسافرين وتداينتم ، فعلى بمعنى في لئلا يتوهم أن المعنى على نية سفر {ولم تجدوا كاتباً فرهان} أي : فعليكم رهن {مقبوضة} تستوثقون بها وبينت السنة جواز الرهن في الحضر ومع وجود الكاتب ، فقد رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه في المدينة من يهوديّ بعشرين صاعاً من شعير أخذه لأهله" فالتقييد بما ذكر ؛ لأنّ التوثق به أشدّ ، وعن مجاهد والضحاك أنهما لم يجوزاه إلا في السفر أخذاً بظاهر الآية.
وأفاد قوله تعالى : {مقبوضة} اشتراط القبض أي : في لزوم الرهن لا في صحته والإكتفاء به من المرتهن ووكيله ولا يشترط القبض عند مالك ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضمّ الراء والهاء ولا ألف بعدها والباقون بكسر الراء وفتح الهاء وألف بعدها وكلاهما جمع رهن بمعنى مرهون {فإن أمن بعضكم} أي : الدائن {بعضاً} أي : المديون واستغنى بأمانته عن الإرتهان {فليؤدّ الذي ائتمن} أي : المدين {أمانته} أي : دينه سماه أمانة لائتمانه عليه بترك الإرتهان به ، وقرأ ورش
218
فليودّ بإبدال الهمزة واواً وإذا وصل السوسي وورش الذي بائتمن أبدلا الهمزة ياء وفي الابتداء بهمزة مضمومة للجميع {وليتق الله ربه} في الخيانة وإنكار الحق وفيه مبالغات من حيث الإتيان بصيغة الأمر الظاهرة في الوجوب والجمع بين ذكر الله والرب وذكره عقب الأمر بأداء الدين {ولا تكتموا الشهادة} أيها الشهود إذا دعيتم لإقامتها أو المديونون ، وعلى هذا فشهادتهم إقرارهم على أنفسهم {ومن يكتمها فإنه آثم قلبه}.
جزء : 1 رقم الصفحة : 218
فإن قيل : هلا اقتصر على قوله فإنه آثم وما فائدة ذكر القلب ؟
ـ والجملة هي الآثمة لا القلب وحده ـ أجيب : بأن كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها ، فلما كان أي : الكتمان إثماً مقترفاً أي : مختلطاً بالقلب أسند إليه ؛ لأنه محل كتمان الشهادة وإسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ ، ألا ترى أنك تقول : إذا أردت التوكيد : هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي ، ولأنّ القلب هو رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله ، وإن فسدت فسد الجسد كله ، فكأنه قيل : فقد تمكن الإثم في أصل نفسه وملك أشرف مكان فيه ، ولئلا يظنّ أنّ كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط وليعلم أنّ القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه واللسان ترجمان عنه ، ولأنّ أفعال القلوب أعظم من سائر أفعال الجوارح وهي لها كالأصول التي تتشعب منها ، ألا ترى أنّ أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر وهما من أفعال القلوب وإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب ، فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : "أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله تعالى : فقد حرم الله عليه الجنة وشهادة الزور وكتمان الشهادة".
تنبيه : آثم خبر إن وقلبه رفع بآثم على الفاعلية كأنه قيل : فإنه يأثم قلبه ويجوزن أن يرتفع قلبه بالإبتداء وآثم خبر مقدّم والجملة خبر إن وقوله تعالى : {وا بما تعملون عليم} تهديد ؛ لأنه لا يخفى عليه منه شيء {ما في السموات وما في الأرض} خلقاً وملكاً قال الجلال السيوطي وعبيداً : ولعل ذكره بعد ملكاً لئلا يتوهم أنّ ما لما لا يعقل {وإن تبدوا} أي تظهروا {ما في أنفسكم} من السوء والعزم عليه {أو تخفوه} أي : تسروه {يحاسبكم} أي : يجزكم {به الله} يوم القيامة ، والآية حجة على من أنكر الحساب كالمعتزلة والروافض {فيغفر لمن يشاء} مغفرته {ويعذب من يشاء} تعذيبه وهذا صريح في نفي وجوبه ، وقرأ ابن عامر وعاصم برفع الراء : من يغفر ورفع الباء من يعذب على الإستئناف ، والباقون بجزمهما عطفاً على جواب الشرط ، وأدغم الراء المجزومة في اللام السوسي ، واختلف عن الدوري وقول الزمخشري : ومدغم الراء في اللام لاحن مخطىء خطأ فاحشاً. ورواية عن أبي عمرو يعني السوسي مخطىء مرّتين ؛ لأنه يلحن وينسب اللحن إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة ، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو مردود ؛ لأنه مبنيّ على القول بأنّ الراء إنما تدغم في الراء لتكرّره الفائت بإدغامها في اللام ورد بأنّ ذلك قراءة أبي عمرو وهي متواترة مع أنّ القول بامتناع إدغام الراء في اللام إنما هو مذهب البصريين وأمّا الكوفيون بل وبعض البصريين كأبي عمرو فقائلون بالجواز كما نقله عنهم أبو حيان ، ونقل أبو عمرو والكسائي وأبو جعفر صحة إدغام صار لي وصار لك عن العرب ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، ووجه الجعبري إدغام الراء في اللام بتقارب مخرجيهما على رأي سيبويه وتشاركهما على رأي الفرّاء وتجانسهما في الجهر والإنفتاح والإستفال {وا على كل شيء قدير} فيقدر على
219
جزائكم ومحاسبتكم وقوله تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 218(1/157)
آمن} أي : صدق {الرسول} أي : محمد صلى الله عليه وسلم {بما أنزل إليه من ربه} أي : من القرآن فيه شهادة وتنصيص من الله تعالى على صحة إيمانه والإعتداد به وأنه جازم في أمره غير شاك فيه وقوله تعالى : {والمؤمنون} عطف على الرسول {كل} من الرسول والمؤمنين. واختلف في تنوين كل فقيل تنوين عوض من المضاف إليه وقيل : تنوين التمكين قال الشيخ خالد الوقاد : وهو الأصح {آمن با وملائكته} وقرأ {وكتبه} حمزة والكسائي بكسر الكاف وفتح التاء وألف بعدها على التوحيد على أنّ المراد به الجنس ، والباقون بضم الكاف والتاء على الجمع {ورسله} يقولون {لا نفرّق بين أحد} أي : جمع {من رسله} فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل اليهود والنصارى ، فأحد : اسم لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه الواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث فحيث أضيف بين إليه أو أعيد ضمير جمع إليه أو نحو ذلك ، فالمراد به جمع من الجنس الذي يدلّ الكلام عليه ، ويجوز أن يقدر القول مفرداً باعتبار كل وإنما احتيج إلى التقدير لأجل قوله تعالى : {لا نفرق} ولو قال تعالى : لا يفرقون لم يحتج إلى ذلك {وقالوا سمعنا} أي : أمرنا به سماع قبول {وأطعنا} أمرك نسألك {غفرانك ربنا وإليك المصير} أي : المرجع بعد الموت وهو إقرار منهم بالبعث.
روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : لما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم {ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} الآية قال : فاشتدّ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب وقالوا : أي رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير". فلما قرأها القوم وذلت ألسنتهم أنزل الله تعالى في أثرها : {آمن الرسول} الآية ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى بقوله تعالى :
{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} أي : ما تسعه قدرتها وإن شق فضلاً ورحمة {لها ما كسبت} من الخير أي : ثوابه {وعليها ما اكتسبت} من الشر أي : وزره فلا ينتفع بطاعتها غيرها ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد ولا بما لم يكتسبه مما وسوست به نفسه كما يفيده تقديم الخبر وهو لها وعليها من الحصر ، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنّ الله تجاوز عن أمّتي ما وسوست به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به".
جزء : 1 رقم الصفحة : 218
فإن قيل : لم خص الخير بالكسب والشرّ بالإكتساب ؟
أجيب : بأنّ في الإكتساب اعتمالاً أي : اضطراباً في العمل مبالغة واجتهاداً ، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به كانت أشدّ حباً واجتهاداً في تحصيله وأعملت فجعلت لذلك مكتسبة فيه ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال قولوا {ربنا لا تؤاخذنا} أي : لا تعاقبنا {إن نسينا أو أخطأنا} أي : بما أدّى بنا إلى النسيان أو الخطأ من تفريط وقلة مبالاة ؛ لأنّ المؤاخذة إنما هي بالمقدور والنسيان والخطأ ليس بمقدورين ويجوز أن يراد نفس النسيان والخطأ أي : لا تؤاخذنا
220
بهما كما آخذت به من قبلنا ، قال الكلبي : كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئاً مما أمروا به أو أخطؤوا عجلت لهم العقوبة ، فحرم عليهم شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب ، فأمر الله المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".(1/158)
فإن قيل : النسيان والخطأ متجاوز عنهما فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما ؟
أجيب : بأنّ المراد بذكرهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال ألا ترى إلى قوله : {وما أنسانيه إلا الشيطان} (الكهف ، 63) والشيطان لا يقدر على فعل النسيان وإنما يوسوس فتكون وسوسته سبباً للتفريط الذي منه النسيان ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله لاستدامته وذكره بلفظ الدعاء على معنى التحدّث بنعمة الله فيه ، قال الله تعالى : {وأمّا بنعمة ربك فحدّث} (الضحى ، 11) {ربنا ولا تحمل علينا إصراً} أي : لا تكفنا أمراً يثقل علينا حمله {كما حملته على الذين من قبلنا} أي : بني إسرائيل من قتل النفس في التوبة وإخراج ربع المال في الزكاة وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وغير ذلك قاله "الكشاف"" قال البيضاوي : وخمسين صلاة في اليوم والليلة ونسبها غيره من المفسرين إلى اليهود ولا تنافي بينهما إذ المراد من بني إسرائيل هم اليهود منهم فلا يرد على هذا ما قيل إنّ بني إسرائيل لم يفرض عليهم خمسون صلاة قبل ولا خمس صلوات مع أنّ من حفظ حجة على من لم يحفظ {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة} أي : قوّة {لنا به} من البلاء والعقوبة ومن التكاليف التي لا تفي به الطاقة البشرية وهو يدلّ على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص منه ، والتشديد ههنا لتعدية الفعل إلى مفهول ثانٍ لا للمبالغة {واعف عنا} أي : امح ذنوبنا {واغفر لنا} أي : استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا بالمؤاخذة بها {وارحمنا} وتعطف بنا وتفضل علينا فإننا لا ننال العمل بطاعتك ولا نترك معصيتك إلا برحمتك {أنت مولانا} أي : سيدنا ومتولي أمورنا {فانصرنا على القوم الكافرين} بإقامة الحجة والغلبة في قتالهم فإن من حق المولى أن ينصرموا إليه على الأعداء أو المراد بالكافرين عامة الكفر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 218
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : {غفرانك ربنا} قال الله تعالى : {قد غفرت لكم} وفي قوله : {لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال : لا أؤاخذكم ربنا ولا تحمل علينا إصراً قال : لا أحمل عليكم {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال : لا أحملكم {واعف عنا} إلخ.. قال : قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين وكان معاذ إذا ختم سورة البقرة قال : آمين.
وروى مسلم وغيره أنه " صلى الله عليه وسلم لما دعا بهذه الدعوات قيل له عقب كل كلمة : قد فعلت" وعن عبد الله أنه قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها وإليها ، ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها قال : {إذ يغشى السدرة ما يغشى} (النجم ، 16) قال : فراش من ذهب قال : وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً : أعطي الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاً
221
المقحمات" وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أنزل الله تعالى آيتين أوّلهما آمن الرسول من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من قرأهما بعد الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل" والكتابة باليد تمثيل وتصوير لإثباتهما وتقديرهما بألفي سنة تصوير لقدمهما ؛ لأنّ مثل هذا يقال لطول الزمان لا للتحديد.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبيّ قبلي". وروي عنه أنه قال : "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" أي : عن قيام الليل أو عن كل ما يسوءه وهذا يردّ قول من استنكر أن يقال سورة البقرة ، وقال : ينبغي أن يقال السورة التي يذكر فيها البقرة كما قال عليه الصلاة والسلام : "السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها ، فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة" قيل : وما البطلة ؟
قال : "السحرة" أي : أنهم مع حذقهم لا يوفقون لتعليمها أو التأمّل في معانيها أو العمل بما فيها ، وسموا بطلة لانهماكهم في الباطل أو لبطالتهم عن أمر الدين ، والفسطاط الخيمة أو المدينة الجامعة سميت به السورة لاشتمالها على معظم أصول الدين وفروعه والإرشاد إلى كثير من مصالح العباد ونظام المعاش ونجاة المعاد. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : أنه رمى الجمرة ثم قال : من ههنا والذي لا إله إلا هو رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة ولا فرق بين هذا وبين قولك سورة الزخرف والممتحنة والمجادلة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 218
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إنّ الله تعالى كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا يقرآن في دار ثلاث ليال فلا يقربها شيطان" انتهى.
222
جزء : 1 رقم الصفحة : 218(1/159)
سورة آل عمران
مدنية باتفاق وآياتها مائتان أو إلا آية وثلاثة آلاف وأربعمائةوثمانون كلمة وأربعة عشر ألفاً وخمسمائة وعشرون حرفاً
{بسم الله} الذي له صفات الكمال فاستحق التفرد بالألوهية {الرحمن} الذي سرت رحمته خلال الوجود فشملت كل موجود بالكرم والجود {الرحيم} لمن توكل عليه بالعطف إليه وقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 222
{ألم} تقدّم الكلام عليه في أوّل سورة البقرة.
{الله لا إله إلا هو} لم يقطع أحد من القراء السبعة هذه الهمزة التي في الله في الوصل ، وإذا
223
وقف على ألم يبدأ بالهمزة ، ولكل من القراء مدّ على الميم ووصل في الوصل وإنما فتح الميم لالتقاء الساكنين كما هو مذهب سيبويه وجمهور النحاة.
فإن قيل : أصل التقاء الساكنين الكسر فلم عدل عنه ؟
أجيب : بأنهم لو كسروا لكان ذلك مفضياً إلى ترقيق لام الجلالة والمقصود تفخيمها للتعظيم فأوثر الفتح لذلك كما حركوها في نحو من الله ، وأيضاً فقبل الميم ياء وهي أخت الكسرة وقبل هذه الياء كسرة ، فلو كسرنا الميم الأخيرة لالتقاء الساكنين لتوالى ثلاث متجانسات فحركوها بالفتح ، وأمّا سقوط الهمزة فواضح وبسقوطها التقى الساكنان وقيل : إنّ هذه الفتحة ليست لالتقاء الساكنين بل هي حركة نقل أي : نقلت حركة الهمزة التي قبل لام التعريف على الميم الساكنة نحو {قد أفلح} في قراءة ورش وهذا مذهب الفرّاء وجرى عليه الزمخشريّ وأطال الكلام فيه ورده أبو حيان بما يطول ذكره وقوله تعالى {ا} مبتدأ وما بعده خبره وقوله تعالى : {الحيّ القيوم} نعت له والحيّ هو الفعال الدراك والقيوم هو القائم بذاته والقائم بتدبير خلقه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 223
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور في البقرة {الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم} (البقرة ، 255) وفي آل عمران {الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم} وفي طه {وعنت الوجوه للحيّ القيوم} (طه ، 111) ونقل البندنيجي عن أكثر العلماء أن الإسم الأعظم هو الله قال الكلبي والربيع بن أنس وغيرهما : نزلت هذه الآية في وفد نصارى نجران وكانوا ستين راكباً قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم ، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم العاقب أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح والسيد صاحب رحلهم واسمه الأيهم وأبو حارثة بن علقمة حبرهم دخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات والحارث بن كعب يقول من ورائهم : ما رأينا وفداً مثلهم وقد حانت صلاتهم ، فقاموا للصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دعوهم يصلوا إلى المشرق" فكلم السيد والعاقب ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم "أسلما قالا قد أسلمنا قبلك قال : كذبتما يمنعكما من الإسلام ثلاثة أشياء دعاؤكما لله ولداً وعبادتكما للصليب وأكلكما الخنزير" قالوا : إن لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه وخاصموه جميعاً في عيسى ، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم "ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه ؟
" قالوا : بلى قال : "ألستم تعلمون أنّ ربنا حيّ لا يموت وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء ؟
" قالوا : بلى قال : "ألستم تعلمون أنّ ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه ؟
" قالوا : بلى قال : "فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً ؟
" قالوا : لا قال : "ألستم تعلمون أنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؟
" قالوا : بلى قال : "فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علمه الله ؟
" قالوا : لا قال : "فإنّ ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء وربنا لا يأكل ولا يشرب" قالوا : بلى قال : "ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته أمّه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذى الصبيّ ، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث" قالوا : بلى قال : "وكيف يكون هذا كما زعمتم ؟
" فسكتوا فأنزل الله تعالى صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها".
{نزل عليك} يا محمد {الكتاب} أي : القرآن متلبساً {بالحق} أي : بالصدق في أخباره أو
224
بالحجج المحققة أنه من عند الله وهو في موضع الحال أي : محقاً {مصدّقاً لما بين يديه} أي : قبله من الكتب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 223
فإن قيل : كيف سمي ما مضى بأنه بين يديه ؟
أجيب : بأن تلك الأخبار لغاية ظهورها وكونها موجودة سماها بهذا الاسم {وأنزل التوراة} جملة على موسى عليه الصلاة والسلام {والإنجيل} جملة على عيسى عليه الصلاة والسلام.(1/160)
{من قبل} أي : قبل تنزيل القرآن ، واختلف الناس في هذين اللفظين هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف أو لا يدخلانهما لكونهما أعجميين فلا يناسب كونهما مشتقين ، ورجح هذا الزمخشري وقال : قالوا لأنّ هذين اللفظين اسمان عبرانيان لهذين الكتابين الشريفين وقوله تعالى : {هدى} حال بمعنى هاديين من الضلالة ولم يثنه ؛ لأنه مصدر {للناس} أي : على العموم إن قلنا : متعبدون بشرع من قبلنا وهو رأي وإلا فالمراد بالناس قومهما وإنما عبر في التوراة والإنجيل بأنزل وفي القرآن بنزل المقتضى للتكرير ؛ لأنهما أنزلا دفعة واحدة بخلافه. وقيل : إن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا جملة واحدة ومن سماء الدنيا منجماً في ثلاث وعشرين سنة فحيث عبر فيه بأنزل أريد الأول أو ينزل أريد الثاني.
فإن قيل : يردّ الأوّل بقوله تعالى : {هو الذي أنزل عليك الكتاب} وبقوله تعالى : {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} (البقرة ، 4) وبقوله تعالى : {الحمد الذي أنزل على عبده الكتاب} (الكهف ، 1) وبقوله تعالى : {وبالحق أنزلناه} (الإسراء ، 105) ويرد الثاني بقوله تعالى : {وقال الذين كفروا : لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} (الفرقان ، 32) أجيب : بأن القول بذلك جرى على الغالب {وأنزل الفرقان} أي : الكتب الفارقة بين الحق والباطل وذكره بعد الكتب الثلاثة ليعم ما عداها ، فكأنه قال : وأنزل سائر ما يفرق به بين الحق والباطل ولم يجمع ؛ لأنه مصدر بمعنى الفرق كالغفران والكفران وقيل : القرآن وكرّر ذكره بما هو نعت له مدحاً وتعظيماً وإظهاراً لفضله من حيث أنه يشاركهما في كونه وحياً منزلاً وتمييز بأنه معجز يفرق به بين المحق والمبطل.
وقيل : أراد الكتاب الرابع وهو الزبور كما قال تعالى : {وآتينا داود زبوراً} (النساء ، 163) قال الزمخشريّ : وهو ظاهر ولما قرّر سبحانه جميع ما يتعلق بمعرفة الإله أتبع ذلك بالوعيد زجراً للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرة فقال : {إنّ الذين كفروا بآيات الله} من القرآن وغيره {لهم عذاب شديد} بسبب كفرهم {وا عزيز} أي : غالب على أمره فلا يمنعه شيء من إنجاز وعده ووعيده {ذو انتقام} ممن عصاه والنقمة عقوبة المجرم أي : يعاقبه عقوبة شديدة لا يقدر على مثلها أحد.
{إنّ الله لا يخفى عليه شيء} كائن {في الأرض ولا في السماء} لعلمه بما يقع في العالم من كليّ وجزئيّ.
جزء : 1 رقم الصفحة : 223
فإن قيل : لم خصهما بالذكر مع أنه عالم بجميع الأشياء أجيب : بأنه تعالى إنما خصهما ؛ به لأنّ البصر لا يتجاوزهما.
فإن قيل : لم قدّم الأرض على السماء ؟
أجيب : بأنها إنما قدمت ترقياً من الأدنى إلى الأعلى وهذه الآية كالدليل على كونه حياً وقوله تعالى :
{هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء} أي : من ذكورة وأنوثة ، وبياض
225
وسواد ، وحسن وقبح ، وتمام ونقص ، وغير ذلك كالدليل على القيومية والاستدلال على أنه تعالى عالم بإتقان فعله في خلق الجنين وتصويره ، وفي هذا ردّ على وفد نجران من النصارى حيث قالوا : عيسى ولد الله واستدلوا على ذلك بأمور منها : العلم ، فإنه كان يخبر عن الغيوب ، ويقول لهذا إنك أكلت في دارك كذا ، ويقول لذاك إنك صنعت في دارك كذا ، ومنها القدرة وهي أنّ عيسى كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيراً ، فكأنه تعالى يقول : كيف يكون ولد الله وقد صوّره في الرحم والمصوّر لا يكون أب المصوّر ثم إنه تعالى لما أجاب عن شبهتهم أعاد كلمة التوحيد زجراً للنصارى عن قولهم التثليث فقال : {لا إله إلا هو العزيز} في ملكه وفيه إشارة إلى كمال القدرة ، فقدرته تعالى أكمل من قدرة عيسى على الإماتة والإحياء {الحكيم} في صنعه. وفيه إشارة إلى كمال العلم فعلمه أكمل من علم عيسى بالغيوب ، وأنّ علم عيسى ببعض الصور ، وقدرته على بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً بل على أنّ الله أكرمه بذلك إظهاراً لمعجزته وعجزه عن الإحياء في بعض الصور يوجب قطعاً عدم الإلهية ؛ لأنّ الإله هو الذي يكون قادراً على كل الممكنات عالماً بجميع الجزئيات والكليات.
قال عبد الله بن مسعود : "حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوماً نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه الملك ـ أو قال : يبعث إليه الملك ـ بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد وقال : وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها".
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم أربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول : يا رب شقي أم سعيد فيكتبان فيقول : أي رب ذكر أو أنثى فيكتبان فيكتب عمله وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص".
{(1/161)
جزء : 1 رقم الصفحة : 223
هو الذي أنزل عليك} يا محمد {الكتاب} أي : القرآن {منه آيات محكمات} أحكمت عبارتها بأن حفظت عن الاحتمال والاشتباه فهي واضحات الدلالة {هنّ أمّ الكتاب} أي : أصله المعتمد عليه في الأحكام ويحمل المتشابهات عليها وترد إليها ولم يقل أمّهات الكتاب ؛ لأنّ الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة وكلام الله واحد. وقيل : كل آية منهنّ أمّ الكتاب كما قال تعالى : {وجعلنا ابن مريم وأمّه آية} (المؤمنون ، 50) أي : كل واحد منهما آية وقوله تعالى : {وأخر} نعت لمحذوف تقديره وآيات أخر {متشابهات} أي : محتملات لا يتضح مقصودها لإجمال أو مخالفة ظاهر إلا بالفحص والنظر.
فإن قيل : لم جعل بعضه متشابهاً وهلا كان كله محكماً ؟
أجيب : بأن في المتشابه من الإبتلاء حكمة عظيمة وهي التمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه وليظهر فيها فضل العلماء ويزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها فينالوا بها ،
226
وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها والتوفيق بينها وبين المحكمات الدرجات العلى عند الله.
فإن قيل : لم فرق هنا بين المحكم والمتشابه وقد جعل كل القرآن محكماً في موضع آخر فقال {الر كتاب أحكمت آياته} (هود ، 1) وجعل كله متشابهاً في موضع آخر فقال {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً} (الزمر ، 23) أجيب : بأنه حيث جعل الكل محكماً فمعناه أنّ آياته حفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ. وحيث جعل الكل متشابهاً فمعناه أنّ آياته يشبه بعضها بعضاً في صحة المعنى وجزالة اللفظ.
تنبيه : أخر جمع أخرى وإنما لم ينصرف ؛ لأنه وصف معدول عن الأخريات ففيه الوصف والعدل وهما علتان يمنعان الصرف {فأمّا الذين في قلوبهم زيغ} أي : ميل عن الحق كالمبتدعة {فيتبعون ما تشابه منه} أي : فيتعلقون بظاهره أو بتأويل باطل {ابتغاء الفتنة} أي : طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه {وابتغاء تأويله} أي : وطلب أن يؤولوه على ما يشتهونه {وما يعلم تأويله} أي : الذي يجب أن يحمل عليه {إلا الله والراسخون في العلم} أي : الذين ثبتوا وتمكنوا فيه وسئل مالك بن أنس عن الراسخين في العلم قال : العالم العامل بما علم المتبع. وقال غيره : هو من وجد في علمه أربعة أشياء : التقوى بينه وبين الله تعالى ، والتواضع بينه وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدنيا ، والمجاهدة بينه وبين نفسه.
تنبيه : اختلف العلماء في نظم هذه الآية فقال قوم : الواو في قوله {والراسخون} واو العطف أي : أنّ تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم {يقولون آمنا به} وهذا قول مجاهد والربيع وعلى هذا يكون قوله : {يقولون} حالاً معناه والراسخون في العلم قائلين : آمنا به ، وذهب الأكثرون إلى أن الواو في قوله : والراسخون واو الاستئناف وتم الكلام عند قوله : {وما يعلم تأويله إلا الله} وهو قول أبي بن كعب وعائشة وغيرهما وقالوا : لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ويجوز أن يكون للقرآن تأويل استأثر الله بعلمه لم يطلع عليه أحداً من خلقه كما استأثر بعلم الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدجال ، وعدد الزبانية ، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ونحوها والخلق متعبدون في المتشابه بالإيمان به ، وفي المحكم بالإيمان به والعمل. وقال عمر بن عبد العزيز في هذه انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا : آمنا به قال في "الكشاف" : والأوّل هو الأوجه اه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 223
ووجهه شيخنا القاضي زكريا بقوله : لأنّ المتشابه على الثاني يصير الخطاب به كالخطاب بالمهملات اه.
ومع هذا فالوجه هو الثاني ؛ لأنه أشبه بظاهر الآية ويدل له وجوه : أحدها أنه ذمّ طالب المتشابه بقوله تعالى : {فأمّا الذين في قلوبهم زيغ} الآية وثانيها : أنه مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون : آمنا به وقال في أوّل البقرة : {فأمّا الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم} (البقرة ، 26) فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح ؛ لأنّ كل من عرف شيئاً على سبيل التفصيل فلا بد أن يؤمن به وثالثها : لو كان قوله والراسخون معطوفاً لصار قوله : يقولون آمنا به ابتداء وهو بعيد عن الفصاحة ، وكان الأولى أن يقال وهم يقولون أو يقال ويقولون.
فإن قيل : في تصحيحه وجهان : الأوّل : أن يقولون خبر مبتدأ والتقدير هؤلاء العالمون
227(1/162)
بالتأويل يقولون آمنا. الثاني : أن يكون يقولون حالاً من الراسخون. أجيب : بأنّ الأوّل مدفوع بأنّ تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى إضمار أولى ، والثاني أنّ ذا الحال هو الذي تقدّم ذكره وهم الراسخون فوجب أن يكون قوله : آمنا به حالاً من الراسخون لا من الله وذلك ترك للظاهر ، ورابعها : قوله تعالى : {كل} أي : من المحكم والمتشابه {من عند ربنا} معناه أنهم آمنوا بما عرفوا تفصيله وبما لم يعرفوا تفصيله ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل لم يبق لهذا الكلام فائدة ، وخامسها : نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال : تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير لا يسع أحداً جهله ، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها ، وتفسير تعرفه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى ، وسئل مالك بن أنس رضي الله تعالى عنهما عن قوله تعالى : {الرحمن على العرش استوى} (طه ، 5) فقال : الإستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.
فإن قيل : ما الفائدة في لفظ عند ، ولو قال كل من ربنا لحصل المقصود ؟
أجيب : بأنّ الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد التأكيد.
فإن قيل : لم حذف المضاف إليه من كل ؟
أجيب : بأنّ دلالته على المضاف إليه قوية فالأمن من اللبس بعد الحذف حاصل {وما يذكر} بإدغام التاء في الأصل في الذال أي : ما يتعظ بما في القرآن {إلا أولو الألباب} أي : أصحاب العقول.
تنبيه : وجه اتصال هذه الآية وأوّلها {هو الذي أنزل عليك الكتاب} بما قبلها وأوّلها {هو الذي يصوّركم في الأرحام} أنه لما بين أنه قيوم وهو القائم بمصالح الخلق والمصالح قسمان : جسماني وروحاني ، فالجسماني أشرفها تعديل البنية على أحسن شكل وهو المراد بقوله تعالى : {هو الذي يصوّركم في الأرحام} وأمّا الروحاني فأشرفها العلم وهو المراد بقوله : {هو الذي أنزل عليك الكتاب} ولما حكى سبحانه وتعالى عن الراسخين في العلم أنهم يقولون : آمنا به حكى أنهم يقولون :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 223
ربنا لا تزغ} أي : لا تمل {قلوبنا} عن طريق الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه {بعد إذ هديتنا} وفقتنا لدينك والإيمان بالحكم والمتشابه. قال عليه الصلاة والسلام : "قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه ـ أي : القلب على الحق ـ وإن شاء أزاغه عنه" رواه الشيخان وغيرهما ، وقيل : لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا وعلى هذا اقتصر الزمخشري ووجه بأنّ ما ذكر كناية أو مجاز إذ لا تحسن من الله الإزاغة ليشمل نفيها وهذا بناء على مذهبه من الإعتزال ، وأمّا مذهب أهل السنة فالزيغ والهداية خلق الله تعالى وكان صلى الله عليه وسلم يقول : "اللهمّ يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك" وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهراً وبطناً" {وهب لنا} أي : أعطنا {من لدنك} أي : من عندك {رحمة} أي : توفيقاً وتثبيتاً للذي نحن عليه من الإيمان والهدى أو مغفرة للذنوب {إنك أنت الوهاب} لكل سؤل وفيه دليل على أنّ الهدى والضلال من الله تعالى وأنه
228
متفضل بما ينعم على عباده لا يجب عليه شيء ما.
{ربنا إنك جامع الناس} أي : تجمعهم {ليوم} أي : في يوم {لا ريب} أي : لا شك {فيه} أي : في وقوعه وما فيه من الحشر والجزاء وهو يوم القيامة فتجازيهم بأعمالهم كما وعدت وقوله تعالى : {إنّ الله لا يخلف الميعاد} أي : موعده بالبعث يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى ، وأن يكون من كلام الراسخين فيكون فيه التفات عن الخطاب وكأنهم لما طلبوا من ربهم الصون عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية والرحمة قالوا : ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقضية ، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ووعدك حق فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد ومن وفقته وهديته ورحمته بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد.(1/163)
تنبيه : احتج الوعيدية بهذه الآية على القطع بوقوع وعيد الفساق قالوا : لأنّ الوعيد داخل تحت لفظ الوعد لقوله تعالى : {قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً} (الأعراف ، 44) والوعد والميعاد واحد وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد. وأجيب : بأنا لا نسلم القول بالقطع بوقوع وعيد الفساق مطلقاً بل ذلك مشروط بعدم العفو كما هو مشروط بعدم التوبة بالإتفاق فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل ، فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل سلمنا أنه توعدهم ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد ويكون قوله : {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً} كقوله تعالى : {فبشرهم بعذاب أليم} (آل عمران ، 21) وكقوله تعالى : {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان ، 49) فيكون من باب التهكم ، وذكر الواحدي في "البسيط" أنه يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء ؛ لأنّ خلف الوعيد كرم عند العرب لأنهم يمدحون بذلك كما قال القائل :
*
جزء : 1 رقم الصفحة : 223
إذا وعد السرّاء أنجز وعده ** وإن وعد الضرّاء فالعفو مانعه*
وقال الآخر أيضاً :
*وإني وإن أوعدته أو وعدته ** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي*
ولما حكى الله سبحانه وتعالى دعاء المؤمنين وتضرعهم حكى كيفية حال الكافرين وشدّة عقابهم بقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 223
{إنّ الذين كفروا} وهو عام في الكفرة ، وقيل : المراد بهم وفد نجران أو اليهود أو مشركو العرب {لن تغنيَ} أي : لن تنفع ولن تدفع {عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً} أي : من عذابه وقيل : من رحمته أو من طاعته على معنى البدلية قاله البيضاوي : أي : على أنّ من للبدل والمعنى لن تغني عنهم من رحمة الله أو من طاعته شيئاً أي : بدل رحمته وطاعته. قال أبو حيان : وإثبات البدلية جمهور النحاة تأباه {وأولئك هم وقود النار} أي : حطبها وفي ذلك كمال العذاب ؛ لأنّ كماله أن يزول عنه ما ينتفع به ثم يجتمع عليه الأسباب المؤلمة ، فالأوّل هو المراد بقوله
229
تعالى : {لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم} فإن المرء عند الشدّة يفزع إلى المال والولد ؛ لأنهما أقرب الأمور التي يفزع إليها في دفع النوائب ، فبين تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا وإذا تعذر عليه الإنتفاع بالمال والولد وهما أقرب الطرق فما عداه بالتعذر أولى ونظيره {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} (الشعراء ، 89) ، وأمّا الثاني من أسباب كمال العذاب وهو اجتماع الأسباب المؤلمة فهو المراد بقوله تعالى : {وأولئك هم وقود النار} وهذا هو النهاية في العذاب ، فإنه لا عذاب أعظم من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس وقوله تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 229
كدأب آل فرعون} إمّا استئناف مرفوع المحلّ خبر لمبتدأ مضمر تقديره دأبهم في ذلك كدأب آل فرعون ، وإمّا متصل بما قبله أي : لن تغني عنهم كما لم تغن عن أولئك أو توقد النار بهم كما توقد النار بآل فرعون وقوله تعالى : {والذين من قبلهم} عطف على آل فرعون فيكون في محل جر وقيل : استئناف فيكون في محل رفع على الإبتداء والخبر ، وقوله تعالى : {كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم} وعلى الأوّل تكون هذه الجملة مفسرة لما قبلها وقوله تعالى : {وا شديد العقاب} فيه تهويل للمؤاخذة وزيادة تخويف للكفرة.
"ولما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع وقال : يا معشر اليهود احذروا من الله تعالى أن ينزل بكم مثل ما نزل بقريش يوم بدر ، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم ، فقد عرفتم أني نبيّ مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا : يا محمد لا يغرّنك أنك لقيت أقواماً أغماراً أي : جهالاً جمع غمر لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة وإنا والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس" نزل.
{قل} يا محمد {للذين كفروا ستغلبون} في الدنيا بالقتل والأسر وضرب الجزية ، وقد وقع ذلك بقتل قريظة وإجلاء النضير وفتح خيبر وضرب الجزية على من عداهم {وتحشرون} في الآخرة {إلى جهنم وبئس المهاد} أي : الفراش والمخصوص بالذم محذوف أي : بئس المهاد جهنم. وفي هذه الآية إخبار عن أمر يحصل في المستقبل وقد وقع خبره على موافقته فكان هذا إخباراً بالغيب فكان معجزة ولهذا لما نزلت هذه الآية قال لهم صلى الله عليه وسلم "إنّ الله غالبكم وحاشركم إلى جهنم" وقرأ حمزة والكسائي بالياء فيهما على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب.(1/164)
فإن قيل : أي فرق بين القراءتين من جهة المعنى ؟
أجيب : بأنّ معنى قراءة التاء الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم فهو إخبار بما سيغلبون ويحشرون وهو الكائن من نفس المتوعد به والذي يدل عليه اللفظ ومعنى القراءة بالياء الأمر بأن يحكى لهم ما أخبره به من وعيد بلفظه كأنه قال : أد إليهم هذا القول الذي هو قولي لك سيغلبون ويحشرون.
{قد كان لكم آية} أي : عبرة ودلالة على صدق ما أقول لكم إنكم ستغلبون.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل قد كانت ؛ لأنّ الآية مؤنثة ؟
أجيب : بأنه إنما ذكر الفعل للفصل بينه وبين الإسم المؤنث بلكم فإن الفصل مسوغ لذلك مع المؤنث الحقيقي كقوله :
*
جزء : 1 رقم الصفحة : 229
إنّ امرأ غره منكنّ واحدة ** بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور*
230
قال الفرّاء : وكل ما جاء من هذا النحو فهذا وجهه والخطاب لمشركي قريش وقيل : لليهود وقيل : للمؤمنين {في فئتين} أي : فرقتين {التقتا} يوم بدر {فئة} مؤمنة {تقاتل في سبيل الله} أي : طاعته وهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، سبعة وسبعون رجلاً من المهاجرين ، ومائتان وستة وثلاثون رجلاً من الأنصار ، وصاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ، وكان فيهم سبعون بعيراً وفرسان فرس للمقداد بن عمرو وفرس لمرثد بن أبي مرثد وأكثرهم رجالة وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف {و} فئة {أخرى كافرة} تقاتل في سبيل الشيطان وهم مشركو مكة وقوله تعالى : {يرونهم مثليهم} قرأ نافع بالتاء على الخطاب أي : ترى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين وكانوا ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم ويوقنوا بالنصر الذي وعدهم به في قوله : {إن تكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين} (الأنفال ، 66) بعدما كلفوا أن يقاوم الواحد العشرة في قوله تعالى : {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} (الأنفال ، 65) والباقون بالياء على الغيبة أي : يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين وكانوا تسعمائة وخمسين أو مثلي عدد المسلمين وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر.
فإن قيل : هذا مناقض لقوله تعالى في سورة الأنفال {ويقللكم في أعينهم} (الأنفال ، 44) أجيب : بأنه قللهم أوّلاً حتى اجترؤوا عليهم ، فلما لاقوهم كثروا إمداداً من الله تعالى للمؤمنين في أعينهم حتى غلبوا فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين {رأي} أي : في رأي {العين} أي : رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات وقد نصرهم الله تعالى مع قلتهم {وا يؤيد} أي : يقوي {بنصره من يشاء} نصره كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدوّ {إنّ في ذلك} المذكور {لعبرة} أي : عظة {لأولي الأبصار} أي : لذوي البصائر أفلا تعتبرون بذلك فتؤمنون.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 229
زين للناس حب الشهوات} أي : ما تشتهيه النفس ، وتدعو إليه ، والمزين هو الله تعالى للإبتلاء كقوله تعالى : {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم} (الكهف ، 7) أو لأنه من أسباب التعيش وبقاء النوع الإنساني أو لأنه يكون وسيلة إلى السعادة الأخروية إذا كان على وجه يرتضيه الله وقيل : الشيطان هو المزين ، وذهب إليه المعتزلة واستدلوا بقول الحسن : الشيطان والله زينها لأنا لا نعلم أحداً أذم لها من خالقها ، وإنما سميت شهوات مبالغة وإيماء إلى أنهم انهمكوا في محبتها حتى أحيوا شهواتها كقوله تعالى : {أحببت حب الخير} (ص ، 32) والشهوة مسترذلة عند الحكماء مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية ثم بيّن ذلك بقوله تعالى : {من النساء} إنما بدأ بهنّ لأنهنّ حبائل الشيطان {والبنين والقناطير} جمع قنطار وهو المال الكثير قيل : ملء مسك ثور أي : ملء جلده وعن سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه : القنطار مائة ألف دينار. وقال ابن عباس والضحاك : ألف ومائتا مثقال {المقنطرة} أي : المجمعة. وقال السديّ : المضروبة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير. وقال الفرّاء : المضعفة فالقناطير ثلاثة والمقنطرة تسعة {من الذهب والفضة} قيل : سمي الذهب ذهباً ؛ لأنه يذهب ولا يبقى والفضة فضة ؛ لأنها تنفض أي : تتفرّق {والخيل المسوّمة} أي : الحسان ، وقال سعيد بن جبير : هي الراعية يقال : أسام الخيل وسوّمها والخيل جمع لا واحد له من لفظه واحدها فرس كالقوم والنساء {والأنعام} جمع النعم وهي الإبل والبقر والغنم جمع لا واحد له من لفظه {والحرث} أي : الزرع {ذلك}
231
أي : ما ذكر من النساء وما بعده {متاع الحياة الدنيا} أي : يتمتع به فيها ثم يفنى {وا عنده حسن المآب} أي : المرجع وهو الجنة فينبغي الرغبة فيما عنده من اللذات الحقيقية الأبدية دون غيره من الشهوات الناقصة الفانية.(1/165)
فإن قيل : المآب قسمان : الجنة وهي في غاية الحسن والنار وهي خالية عن الحسن كما قال تعالى : {إنّ جهنم كانت مرصاداً للطاغين مآباً} (النبأ ، 21) أجيب : بأنّ المقصود بالذات هو الجنة ، وأمّا النار فمقصودة بالعرض والمقصود بالآية الترهيب في الدنيا والترغيب في الآخرة.
{قل} يا محمد لقومك {أؤنبئكم} أأخبركم {بخير من ذلكم} أي : المذكور من الشهوات وهذا استفهام تقريري.
جزء : 1 رقم الصفحة : 229
تنبيه : هنا همزتان مختلفتان من كلمة : الأولى مفتوحة والثانية مضمومة ، قرأ قالون بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية وأدخل بينهما ألفاً وورش يسهل الثانية من غير إدخال ألف وينقل حركة الهمزة الأولى إلى اللام من قل فتصير اللام مفتوحة والثانية مضمومة ، وابن كثير كورش إلا أنه لا ينقل الحركة إلا في لفظ القرآن وقرآن ، وأبو عمرو يسهل الثانية ويدخل بينهما ألفاً كقالون وله وجه آخر وهو عدم إدخال ألف بينهما ، والباقون بتحقيقهما وقوله تعالى : {للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} أي : مقدّرين الخلود فيها إذا دخلوها كلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير من ذلكم كما تقول : هل أدلك على رجل عالم عندي رجل عالم من صفته كيت وكيت ويجوز أن تتعلق اللام بخير وترتفع جنات على هو جنات {وأزواج مطهرة} من الحيض وغيره مما يستقذر من النساء وقوله تعالى : {ورضوان من الله} قرأه شعبة بضم الراء ، والباقون بكسرها وهما لغتان : الكسر لغة الحجاز والضم لغة تميم. وقيل : بالكسر اسم وبالضم مصدر وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير ، في يديك فيقول : هل رضيتم ؟
فيقولون : ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ، فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟
فيقولون : يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك ؟
فيقول : أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً".
تنبيه : قد نبه سبحانه وتعالى في هذه الآية على نعمه فأدناها متاع الحياة الدنيا وأعلاها رضوان الله لقوله تعالى : {ورضوان من الله أكبر} (التوبة ، 72) وأوسطها الجنة ونعيمها {وا بصير} أي : عالم {بالعباد} أي : بأعمالهم فيجازي كلاً منهم بعمله أو بأحوال الذين اتقوا فلذلك أعدّ لهم جنات وقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 229
232
{الذين} نعت للذين اتقوا أو للعباد أو بدل من الذين قبله {يقولون} يا {ربنا إننا آمنا} أي : صدّقنا {فاغفر لنا ذنوبنا} أي : استرها علينا وتجاوز عنا {وقنا عذاب النار}.
تنبيه : في ترتيب سؤال المغفرة وما عطف عليها وسيلة على مجرّد الإيمان دليل على أنّ مجرّد الإيمان كاف في استحقاق المغفرة والإستعداد لأسبابها وأسباب ما عطف عليها وقوله تعالى : {الصابرين} أي : على الطاعة وعن المعصية وعلى البأساء والضرّاء نعت {والصادقين} أي : في إيمانهم وأقوالهم قال قتادة : هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم فصدقوا في السرّ والعلانية {والقانتين} أي : المطيعين لله {والمنفقين} أي : المتصدّقين {والمستغفرين بالأسحار} أي : أواخر الليل كأن يقولوا : اللهمّ اغفر لنا خصت بالذكر ؛ لأنها وقت الغفلة ولذة النوم ، وفي هذا كما قال البيضاوي : حصر لمقامات السالك على أحسن الترتيب أي : الذكرى فإنّ معاملته مع الله إمّا توسل وإمّا طلب ، والتوسل إمّا بالنفس وهو منعها عن الرذائل وحبسها على الفضائل والصبر يشملهما ، وإمّا بالبدن وهو إمّا قولي وهو الصدق وإمّا فعلي وهو القنوت الذي هو ملازمة الطاعة ، وإمّا بالمال وهو الإنفاق في سبيل الخير وإمّا الطلب فالاستغفار ؛ لأنّ المغفرة أعظم المطالب بل الجامع لها انتهى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 232
وتوسيط الواو بين الصابرين وما بعده للدلالة على استقلال كل واحد منها وكما لهم فيها أو لتغاير الموصوفين بالصفات. وتخصيص الأسحار ؛ لأن الدعاء فيها أقرب من الدعاء في غيرها إلى الإجابة ؛ لأنّ العبادة حينئذٍ أشق والنفس أصفى والعقل أجمع لمعاني الألفاظ التي ينطق بها لا سيما للمتهجد قيل : إنهم كانوا يصلون إلى السحر ثم يستغفرون ويدعون ، وعن الحسن كانوا يصلون في أوّل الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والإستغفار فذا نهارهم وهذا ليلهم. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ينزل الله إلى سماء الدنيا ـ أي : أمره ـ كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول : أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له
233
من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له".(1/166)
وحكي عن الحسن أن لقمان قال لابنه : يا بنيّ لا تكن أعجز من هذا الديك يصوّت في الأسحار وأنت نائم على فراشك. وعن زيد بن أسلم أنه قال : هم الذين يصلون الصبح في جماعة. وعبر بالسحر لقربه من الصبح.
{شهد الله} أي : بين لخلقه بالدلائل وإنزال الآيات {أنه لا إله} أي : لا معبود بحق في الوجود {إلا هو} قال الكلبيّ : "قدم حبران من أحبار الشام على النبيّ صلى الله عليه وسلم فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي يخرج في آخر الزمان ، فلما دخلا عليه عرفاه بالصفة فقالا له : أنت محمد ؟
قال : نعم قالا له : وأنت أحمد ؟
قال : أنا محمد وأحمد قالا : فإنا نسألك عن شيء ، فإن أخبرتنا به آمنا بك وصدّقناك فقال لهما : سلا قالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل ، فأنزل الله هذه الآية فأسلم الرجلان". وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : خلق الله الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة ، وخلق الله الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة ، فشهد لنفسه بنفسه قبل أن يخلق الخلق حين كان ولم يكن سماء ولا أرض ولا برّ ولا بحر فقال : شهد الله أنه لا إله إلا هو {و} شهد بذلك {الملائكة} أي : أقرّوا بذلك {و} شهد بذلك {أولو العلم} أي : بالإيمان بذلك والاحتجاج عليه.
فإن قيل : ما المراد بأولي العلم الذين عظمهم الله تعالى هذا التعظيم حيث جمعهم معه ومع الملائكة في الشهادة على وحدانيته وعدله ؟
أجيب : بأنّ المراد بهم أنهم الذين يثبتون وحدانيته وعدله بالحجج الساطعة والبراهين القاطعة وهم علماء العدل والتوحيد من الأنبياء والمؤمنين وفيه دليل على فضل علم أصول الدين وشرف أهله وقوله تعالى : {قائماً} أي : بتدبير مصنوعاته حال من الله وإنما جاز إفراده تعالى بها لعدم اللبس ، وإن اختلف في جاءني زيد وعمرو راكباً فقد منعه الزمخشري وتبعه البيضاويّ وجوّزه أبو حيان وقال : يحمل على الأقرب كما في الوصف في نحو جاءني زيد وعمرو الطويل أو حال من هو والعامل فيها معنى الجملة أي : تفرّد {بالقسط} أي : بالعدل وقوله تعالى : {لا إله إلا هو} كرّر للتأكيد ومزيد الاعتناء بمعرفة أدلة التوحيد والحكم به بعد إقامة الحجة وليبنى عليه قوله تعالى : {العزيز} أي : في ملكه {الحكيم} أي : في صنعه فيعلم أنه الموصوف بهما ، وقدم العزيز ؛ لأن العزة تلائم الوحدانية والحكمة تلائم القيام بالقسط فأتى بهما لتقرير الأمرين على ترتيب ذكرهما ورفعهما على البدل من الضمير الأوّل أو الثاني أو على الخبر المحذوف.
جزء : 1 رقم الصفحة : 232
وعن أبي غالب القطان قال : أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريباً من الأعمش ، وكنت أختلف إليه ، فلما كنت ذات ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة فقام من الليل يتهجد فمرّ بهذه الآية ، أي : شهد الله إلى آخرها ثم قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة إن الدين عند الله الإسلام قالها مراراً قلت : لقد سمع فيها فصليت معه وودّعته ثم قلت : إني سمعتك تردّدها فما بلغك فيها ؟
قال : والله لا أحدّثك بها إلى سنة فمكثت على بابه ذلك اليوم وأقمت سنة فلما مضت السنة قلت : يا أبا محمد قد مضت السنة فقال : حدّثني أبو وائل عن
134
عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله : إن لعبدي هذا عندي عهداً وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة" ، روى هذا الحديث الطبراني والبيهقيّ لكن بسند ضعيف وقوله تعالى : (1/167)
{إن الدين} أي : المرضي {عند الله} هو {الإسلام} جملة مستأنفة مؤكدة للأولى أي : لا دين مرضي عند الله سوى الإسلام وهو الشرع المبعوث به الرسل كما قال تعالى : {ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة ، 3) وقال تعالى : {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} (آل عمران ، 85) وقرأ الكسائي بفتح الهمزة إن قيل على أنه بدل من أنه إلخ.. بدل اشتمال وضعفه أبو حيان ؛ لأن فيه فصلاً بين البدل والمبدل منه بأجنبي قال : والصواب أنه معمول للحكيم بإسقاط الجار أي : الحكيم بأن الدين ، والباقون بكسرها على الإستئناف {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب} أي : من اليهود والنصارى وقيل : من أرباب الكتب المتقدّمة في دين الاسلام فقال قوم : إنه حق. وقال قوم : إنه مخصوص بالعرب ونفاه آخرون مطلقاً أو في التوحيد فثلثت النصارى. وقالت اليهود : عزير ابن الله وقالوا : كنا أحق بأن تكون النبوّة فينا من قريش ؛ لأنهم أميون ونحن أهل الكتاب {إلا من بعد ما جاءهم العلم} بالتوحيد أنه الحق الذي لا محيد عنه {بغياً} أي : ما كان الاختلاف وتظاهر هؤلاء بمذهب وهؤلاء بمذهب إلا حسداً {بينهم} وطلباً للرياسة. وقيل : هو اختلاف في نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم من بعد ماجاءهم العلم ببيان بعثته في كتبهم حيث آمن به بعض وكفر به بعض وقيل : هو إختلافهم في الإيمان بالأنبياء فمنهم من آمن بموسى ومنهم من آمن بعيسى ولم يؤمن ببقية الأنبياء وقوله تعالى : {ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب} أي : المجازاة له وعيد لمن كفر منهم.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 232
فإن حاجوك} أي : جادلك الذين كفروا يا محمد في الدين {فقل} لهم {أسلمت وجهي } أي : أخلصت نفسي وجملتي لله وحده لم أجعل فيهما لغيره شركاً بأن أعبده ولا أدعو إلهاً معه يعني : أن ديني دين التوحيد وهو الدين القويم الذي ثبت عندكم صحته كما ثبت عندي ، وما جئت بشيء مبتدع حتى تجادلوني فيه وخص الوجه بالذكر لشرفه فهو تعبير عن جملة الشخص بأشرف أجزائه الظاهرة وقوله تعالى : {ومن اتبعن} عطف على التاء في أسلمت وحسن للفاصل ويجوز كما قال في "الكشاف" أن تكون الواو بمعنى مع فيكون مفعولاً معه أي : نظراً إلى أن المشاركة بين المتعاطفين في مطلق الإسلام أي : الإخلاص لا فيه بقيد وجهه حتى يمتنع ذلك لاختلاف وجهيهما {وقل للذين أوتوا الكتاب} وهم اليهود والنصارى {والأمّيين} أي : الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب {أأسلمتم} أي : فهل أسلمتم ما أسلمت أنا فقد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضي حصوله لا محالة ، أم أنتم بعد على الكفر وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقاً إلا سلكته هل فهمتها ؟
وفي هذا الإستفهام استقصار وتعيير بالمعاندة وقلة الإنصاف ؛ لأن المنصف إذا انجلت له الحجة لم يتوقف إذعاناً للحق وكذلك في هل فهمتها ؟
توبيخ بالبلادة. وقيل : المراد بالإستفهام هنا الأمر أي : أسلموا كما قال تعالى : {فهل أنتم منتهون} (المائدة ، 91) أي : انتهوا {فإن أسلموا فقد اهتدوا} أي : نفعوا أنفسهم حيث خرجوا من
235
الضلال إلى الهدى ، ومن الظلمة إلى النور فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال أهل الكتاب : أسلمنا فقال لليهود : "أتشهدون أنّ عيسى كلمة الله وعبده ورسوله ؟
فقالوا : معاذ الله. وقال للنصارى : أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله فقالوا : معاذ الله أن يكون عيسى عبداً" فقال عز وجل {وإن تولوا} أي : عن الإسلام لم يضرّوك {فإنما عليك البلاغ} أي : فإنك رسول منبه ما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الهدى وقد بلغت وليس إليك الهداية {وا بصير بالعباد} أي : عالم بمن يؤمن ، وبمن لا يؤمن فيجازي كلاً منهم بعمله ، وهذا قبل الأمر بالقتال.
{إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط} أي : بالعدل {من الناس} وهم اليهود قتل أوّلهم الأنبياء وقتلوا أتباعهم ، ومن في عصره صلى الله عليه وسلم كفروا به وقصدوا قتله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لكن الله تعالى عصمهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 232
وعن أبي عبيدة بن الجرّاح قلت : "يا رسول الله أي الناس أشدّ عذاباً يوم القيامة ؟
قال رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عنه". وروي أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبياً فنهاهم مائة وسبعون من عبادهم فقتلوهم من يومهم وخبر إن {فبشرهم} أي : أعلمهم {بعذاب أليم} أي : مؤلم وذكر البشارة تهكم بهم.
فإن قيل : لم أدخل الفاء في خبر إن مع أنه لا يقال أن زيداً فقائم أجيب : بأن الموصول متضمن معنى الشرط فكأنه قيل : الذين يكفرون فبشرهم بمعنى من يكفر فبشرهم.
{أولئك الذين حبطت أعمالهم} أي : ما عملوه من خير كصدقة وصلة رحم {في الدنيا والآخرة} فلا يعتدّ بها لعدم شرطها {وما لهم من ناصرين} أي : مانعين عنهم العذاب.(1/168)
جزء : 1 رقم الصفحة : 232
{ألم تر} أي : تنظر {إلى الذين أوتوا نصيباً} أي : حظاً {من الكتاب} أي : التوراة أو جنس الكتب السماوية ومن للتبعيض أو البيان ، قال البيضاوي : وتنكير النصيب يحتمل التعظيم والتحقير انتهى. أمّا التعظيم فظاهر وهو ما اقتصر عليه الزمخشريّ ، وأمّا التحقير ففيه نظر إذ النصيب المراد به الكتاب أو بعضه لا حقارة فيه وقد يقال : إن تحقيره بالنسبة إليهم حيث لم يعملوا به {يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم} الداعي هو محمد صلى الله عليه وسلم وكتاب الله القرآن أو التوراة واختلفوا في سبب نزول هذه الآية ، فروى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس ـ أي : موضع صاحب دراسة كتبهم ـ على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله عز وجل فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد : على أي دين أنت ؟
قال : دين إبراهيم فقالا له : إن إبراهيم كان يهودياً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله عز وجل هذه الآية".
جزء : 1 رقم الصفحة : 236
وروى الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما "أنّ رجلاً وامرأة من أهل خيبر زنيا وكان في كتابهم الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم فرفعوا أمرهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ورجوا أن تكون عنده رخصة فحكم عليهما بالرجم ، فقال له النعمان بن أوفى وعديّ بن عمرو : جرت علينا يا محمد ليس عليهما الرجم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بيني وبينكم التوراة" قالوا : قد أنصفتنا قال : "فمن أعلمكم بالتوراة ؟
" قالوا : رجل يقال له عبد الله بن صوريا فأرسلوا إليه فدعا رسول الله
236
صلى الله عليه وسلم بشيء من التوراة فيها الرجم مكتوب فقال له : اقرأ فلما أتى على آية الرجم وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ابن سلام : يا رسول الله قد جاوزها وقام فرفع كفه عنها ثم قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اليهود أن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجماً ، وإن كانت حبلى تتربص حتى تضع ما في بطنها ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باليهوديين فرجما فغضب اليهود وانصرفوا فأنزل الله عز وجل هذه الآية {ثم يتولى فريق منهم}" وأتى بثم لاستبعاد توليهم مع علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله تعالى واجب لا للتراخي في الزمان إذ لا تراخي فيه. وقوله تعالى : {وهم معرضون} أي : عن قبول حكمه جملة حالية من فريق وإنما ساغ لتخصيصه بالصفة.
{ذلك} إشارة إلى ما ذكر من التولي والإعراض {بأنهم قالوا} أي : بسبب قولهم {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات} أي : قالوا ذلك بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم لهذا الإعتقاد المائل والطمع الفارغ عن حصول المطموع فيه وهو الخروج من النار بعد أيام قليلة وهي أربعون يوماً مدّة عبادة آبائهم العجل ثم تزول عنهم {وغرّهم في دينهم} والغرور هو الإطماع فيما لا يحصل منه شيء {ما كانوا يفترون} أي : من أن النار لن تمسهم إلا أياماً قلائل أو أن آبائهم الأنبياء يشفعون لهم ، أو أنه تعالى وعد يعقوب أن لا يعذب أولاده إلا تحلة القسم.
تنبيه : في دينهم متعلق بغرّهم ولا يصح تعلقه بيفترون خلافاً للسيوطي ؛ لأن ما قبل الموصول لا يتعلق بما بعده.
{فكيف} حالهم أو فكيف صنعهم {إذا جمعناهم ليوم} أي : في يوم {لا ريب} أي : لا شك {فيه} وهو يوم القيامة وفي ذلك استعظام لما يحيق بهم في الآخرة.
روي أن أوّل راية أي : علم ترفع يوم القيامة من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله تعالى على رؤوس الأشهاد ثم يؤمر بهم إلى النار {ووفيت كل نفس} أي : من أهل الكتاب وغيرهم جزاء {ما كسبت} أي : عملت من خير أو شر وفي ذلك دليل على أن العبادة لا تحبط وأن المؤمن لا يخلد في النار وإن دخلها ؛ لأن توفية إيمانه وعمله لا يكون في النار ولا قبل دخولها فإذا هي بعد الخلاص إن دخلها ؛ {وهم لا يظلمون} أي : بنقص حسنة أو زيادة سيئة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 236
تنبيه : ذكر ضمير وهم لا يظلمون وجمعه باعتبار معنى كل نفس ؛ لأنه في معنى كل إنسان ، ولما فتح النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة ووعد أمته ملك فارس والروم ، قال المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم أولم يكف محمداً مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم فأنزل الله سبحانه وتعالى.(1/169)
{قل اللهمّ} أي : يا الله والميم عوض عن ياء النداء ولذلك لا يجتمعان ، والتعويض من خصائص هذا الإسم كما اختص بدخولها عليه مع لام التعريف وقطع همزته وكما اختص بدخول تا القسم عليه وأمّا قولهم : ترب الكعبة فنادر {مالك الملك} أي : مالك العباد وما ملكوا قال الله تعالى في بعض الكتب المنزلة : أنا الله ملك الملوك ومالك الملوك ، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي ، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة ، وإن عصوني جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم "كما تكونوا يولى عليكم"
237
{تؤتي} أي : تعطي {الملك} أي : في الدنيا {من تشاء} من خلقك {وتنزع الملك ممن تشاء} منهم ، وقيل : المراد بالملك النبوّة ونزعها نقلها من قوم إلى قوم ، وقال الكلبيّ : تؤتي الملك لمحمد وأصحابه وتنزعه من أبي جهل وصناديد قريش ، وقيل : تؤتيه لآدم وذرّيته وتنزعه من إبليس وجنوده {وتعز من تشاء} من خلقك ، وقيل : محمداً وأصحابه حتى دخلوا مكة في عشرة آلاف ظاهرين عليها {وتذل من تشاء} منهم وقيل : أبا جهل وأصحابه حزت رؤوسهم وألقوا في القليب ، وقيل : تعز من تشاء بالطاعة وتذل من تشاء بالمعصية ، وقيل : تعز من تشاء بالقناعة وتذل من تشاء بالحرص والطمع ، وقيل : تعز من تشاء بالتهجد وتذل من تشاء بتركه {بيدك} أي : بقدرتك {الخير} أي : والشر ، واقتصر على الأوّل لمسارعة الأدب في الخطاب أو اكتفى بذكر أحد المقابلين كما في قوله تعالى : {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل ، 81) أي : والبرد أو ؛ لأن الكلام وقع فيه إذ روى البيهقيّ وغيره : "أنه صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق وقطع لكل عشر أربعين ذراعاً وأخذوا يحفرون فظهر فيه صخرة عظيمة لم تعمل فيها المعاول فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فجاء وأخذ المعول منه فضربها ضربة فصدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لا بتيها ـ أي : المدينة ـ فكأنّ بها مصباحاً جاء في جوف بيت مظلم فكبر وكبر المسلمون وقال : أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ـ أي : في بياضها وصفرتها وانضمام بعضها إلى بعض ، واللابتان حرّتان يكتنفانها والحرّة كل أرض ذات حجارة سوداء كأنها محترقة من الحرّ ثم ضرب الثانية فقال : أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم ، ثم ضرب الثالثة فقال : أضاءت لي قصور صنعاء وأخبرني جبريل أنّ أمّتي ظاهرة على كلها أي : الأراضي التي أضاءت ـ فأبشروا ، فقال المنافقون : ألا تعجبون يمنيكم أيها المؤمنون ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب ـ أي : المدينة ـ قصور الحيرة وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق ـ أي : الخوف ـ فنزلت". ونبه أيضاً على أن الشرّ بيده بقوله : {إنك على كل شيء قدير} والشرّ شيء ثم عقب ذلك ببيان قدرته على تعاقب الليل والنهار والموت والحياة وسعة فضله فقال :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 236
تولج} أي : تدخل {الليل في النهار} حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات {وتولج} أي : تدخل {النهار في الليل} حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة ، والنهار تسع ساعات فيزيد كل منهما بما نقص من الآخر {وتخرج الحيّ من الميت} كالإنسان من النطفة والطائر من البيضة {وتخرج الميت من الحيّ} كالنطفة من الإنسان والبيضة من الطائر ، وقال الحسن وعطاء : تخرج المؤمن من الكافر ، وتخرج الكافر من المؤمن فالمؤمن حيّ الفؤاد والكافر ميت الفؤاد قال الله تعالى : {أومن كان ميتاً فأحييناه} (الأنعام ، 122) وقال الزجاج : تخرج النبات الغض الطريّ من الحب اليابس وتخرج الحب اليابس من النبات الحيّ النامي ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة : {الميت} بسكون الياء والباقون بكسر الياء مشدّدة.
{وترزق من تشاء بغير حساب} أي : رزقاً واسعاً. عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنّ فاتحة الكتاب وآية الكرسي والآيتين من آل عمران شهد الله إلى قوله : {إنّ الدين عند الله الإسلام} ، {وقل اللهمّ مالك الملك} إلى قوله {بغير حساب} معلقات ما بينهنّ وبين الله عز وجل حجاب قلن يا رب تهبطنا إلى أرضك وإلى من يعصيك ؟
قال الله عز
238
وجل بي حلفت لا يقرأكنّ أحد دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مثواه على ما كان فيه ولأسكننه حظيرة قدسي ولأنظرن إليه بعيني المكنونة كل يوم سبعين مرّة ولأقضينّ له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة ولأعيذنه من كل عدوّ وحاسد ولأنصرنه منه".(1/170)
{لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء} يوالونهم. عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في المنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار يرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية ونهى المؤمنين أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر وقوله تعالى : {من دون} أي : غير {المؤمنين} إشارة إلى أنهم الأحقاء بالموالاة وأنّ في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان {ومن يفعل ذلك} أي : يوالي الكفرة {فليس من الله} أي : من ولاية الله {في شيء} يصح أن يسمى ولاية شرعية فإنّ ولاية المتعاديين لا يجتمعان لما بينهما من التضاد كما قال القائل :
*فليس أخي من ودّني رأي عينه ** ولكن أخي من ودّني في المغايب*
*
جزء : 1 رقم الصفحة : 236
تودّ عدوّي ثم تزعم أنني ** صديقك ليس النوك عنك بعازب*
بعين مهملة وزاي أي : بغائب والنوك بضم النون الحمق والجنون ثم استثنى فقال : {إلا أن تتقوا منهم تقاة} أي : إلا أن تخافوا منهم مخافة فلكم موالاتهم باللسان دون القلب كما قال عيسى عليه الصلاة والسلام : كن وسطاً ـ أي : في معاشرتهم ومخالفتهم ـ وامش جانباً ـ أي : من موافقتهم فيما يأمرون ويذرون ـ وهذا قبل عزة الإسلام ويجري في بلد ليس قوياً فيها ، قال معاذ بن جبل ومجاهد : كانت التقية في بدء الإسلام قبل استحكام الدين وقوّة المسلمين وأمّا اليوم فقد أعز الله الإسلام فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوّهم {ويحذركم الله} أي : يخوّفكم {نفسه} أن يغضب عليكم إن واليتموهم {وإلى الله المصير} أي : المرجع فيجازيكم فلا تتعرّضوا للسخط بمخالفة أحكامه وموالاة أعدائه وهو تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهي عنه في القبح وذكر النفس ليعلم أن المحذر منه عقاب يصدر منه فلا يبالي عنده بما يحذر من الكفرة.
{قل} لهم يا محمد {إن تخفوا ما في صدوركم} أي : قلوبكم من موالاة الكفار أو غيرها بما لا يرضى الله {أو تبدوه} أي : تظهروه {يعلمه الله} ويحفظه عليكم حتى يجازيكم به وقال الكلبيّ : إن تسرّوا ما في قلوبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من التكذيب أو تظهروه بحربه وقتاله يعلمه الله {و} هو الذي {يعلم ما في السموات وما في الأرض} لا يخفى عليه منه شيء قط فلا يخفى عليه سرّكم وعلانيتكم {وا على كل شيء قدير} فهو قادر على عقوبتكم إن لم تنتهوا عما نهيتم عنه وهذا بيان لقوله تعالى : {ويحذركم الله نفسه} لأنّ نفسه متصفة بعلم ذاتي يحيط بالمعلومات كلها وقدرة ذاتية تعمّ المقدورات بأسرها فلا تعصوه إذ ما من معصية إلا وهو مطلع عليها لا محالة قادر على العقاب بها ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الإطلاع على أحواله بأن يوكل من يتجسس عن مواطن أموره لأخذ حذره منه كل الحذر فما بال من علم أن العالم الذي يعلم السر وأخفى
239
مهيمن عليه وهو آمن. اللهمّ إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك ونسألك اليقظة من سنة الغفلة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 236
{يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً} نصب يوم بمضمر نحو اذكر وقوله تعالى : {وما عملت} أي : عملته {من سوء} مبتدأ خبره {تودّ لو أنّ بينها} أي : النفس {وبينه} أي : السوء {أمداً بعيداً} أي : غاية في نهاية البعد فلا يصل إليها ، وكرّر سبحانه وتعالى : {ويحذركم الله نفسه} ، قال البيضاوي : للتأكيد والتذكير وقال التفتازاني : الأحسن ما قيل أنّ ذكره أوّلاً للمنع من موالاة الكافرين وثانياً للحث على عمل الخير والمنع من عمل الشرّ وقوله تعالى : {وا رؤف بالعباد} إشارة إلى أنه تعالى : إنما نهاهم وحذرهم رأفة بهم ومراعاة إصلاحهم. وعن الحسن من رأفته بهم أن حذرهم نفسه. وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي رؤوف بقصر الهمزة والباقون بالمدّ وورش على أصله في المدّ والتوسط والقصر ونزل في اليهود والنصارى حيث قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 240
قل} لهم يا محمد {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : وقف النبيّ صلى الله عليه وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وهم يسجدون لها فقال : "يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسمعيل" فقال له قريش : إنما نعبدها حباً لله تعالى ليقرّبونا إلى الله زلفى ، فقال الله تعالى : قل لهم يا محمد إن كنتم تحبون الله وتعبدون الأصنام لتقرّبكم إليه فاتبعوني يحببكم الله
240(1/171)
فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم أي : اتبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله ، فحب المؤمنين لله اتباعهم أمره وإيثار طاعته وابتغاء مرضاته وحب الله للمؤمنين ثناؤه عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم فذلك قوله تعالى : {ويغفر لكم ذنوبكم وا غفور} لمن اتبعني ما سلف من ذنبه قبل ذلك {رحيم} به. وعن الحسن زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله فأراد أن يجعل لقولهم تصديقاً من عملهم ، فمن ادّعى محبته وخالف سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كذاب وكتاب الله يكذبه ، وإذا رأيت من يذكر محبة الله ويصفق بيديه مع ذكره ويطرب وينعر ويصعق فلا شك أنه لا يعرف ما الله ولا يدري ما محبة الله ، وما تصفيقه وطربه ونعرته وصعقته إلا ؛ لأنه تصوّر في نفسه الخبيثة صورة مستملحة معشقة فسماها الله بجهله وادّعائه ثم صفق وطرب ونعر وصعق عند تصوّرها وربما رأيت المنيّ قد ملأ إزار ذلك المحب عند صعقته وحمقى العامة حواليه قد ملؤوا أذقانهم بالدموع لما رأوه من حاله.
ولما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن أبيّ لأصحابه : إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى نزل قوله تعالى :
{قل} لهم {أطيعوا الله والرسول} فيما يأمركم به من التوحيد {فإن تولوا} أي : أعرضوا عن الطاعة {فإنّ الله لا يحب الكافرين} أي : لا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم وإنما أتى بالظاهر ولم يقل لا يحبهم لقصد العموم والدلالة على أنّ التولي كفر وأنه من هذه الحيثية ينفي محبة الله وأنّ محبته مخصوصة بالمؤمنين ، ولما أوجب الله سبحانه وتعالى طاعة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وبيّن أنها الجالبة لمحبة الله عقب ذلك ببيان مناقبهم تحريضاً على الطاعة فقال تعالى :
{إن الله اصطفى} أي : اختار {آدم ونوحاً وآل إبراهيم} وهم إسمعيل وإسحق وأولادهما الرسل وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلم {وآل عمران} موسى وهرون ابنا عمران بن يصهر {على العالمين} بالرسالة والخصائص الروحانية والجسمانية ، ولذلك قووا على ما لم يقو عليه غيرهم وبهذه الآية استدل على فضل الرسل على الملائكة وقيل : آل عمران عيسى وأمه مريم بنت عمران بن ماثان وكان بين العمرانين ألف وثمانمائة سنة وقيل : آل إبراهيم وآل عمران أنفسهما وقوله تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 240
ذرّية} بدل من آل إبراهيم وآل عمران {بعضها من} ولد {بعض} منهم وقيل : بعضها من بعض في الدين والذرّية تقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى {وا سميع} لأقوال الناس {عليم} بأحوالهم فيصطفي من كان منهم مستقيم القول والحال ، واذكر.
{إذ قالت امرأت عمران} وهي حنة بنت فاقوذ أمّ مريم ، وعمران هو عمران بن ماثان رئيس بني إسرائيل وليس هو عمران أبا موسى وهرون إذ كان بين العمرانين ألف وثمانمائة سنة كما مرّ وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم.
فائدة : رسمت امرأة بالتاء المجرورة ووقف ابن كثير وأبو عمرو والكسائيّ بالهاء ، والباقون بالتاء ، ووقف الكسائيّ بالفتح والإمالة وإذا وقف حمزة سهل الهمزة.
وروي أنّ حنة كانت عاقراً عجوزاً فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائراً يطعم فرخه فحنت إلى الولد وتمنته فقالت : اللهمّ إن لك عليّ نذراً شكراً إن رزقتني ولداً أن أتصدّق به على بيت المقدس فيكون من خدمه فحملت ، فلما أحست بالحمل قالت : يا {رب إني نذرت} أن أجعل {لك ما في بطني محرّراً} أي : عتيقاً خالصاً من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدّس ، وكان هذا
241
النذر مشروعاً في عهدهم في الغلمان فقال لها زوجها : ويحك ما صنعت أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى لا تصلح لذلك فوقعا جميعاً في همّ من ذلك وهلك عمران وحنة حامل بمريم {فتقبل مني} ما نذرته {إنك أنت السميع} لقولي {العليم} بنيتي.
{فلما وضعتها} أي : ولدتها جارية والضمير لما في بطنها ، وإنما أنث على المعنى ؛ لأنّ ما في بطنها كان أنثى في علم الله أو على تأويل النفس أو النسمة ولم يكن يحرّر إلا الغلمان وكانت ترجو أن يكون غلاماً ولذلك نذرت تحريره {قالت} معتذرة يا {رب إني وضعتها أنثى}.(1/172)
فإن قيل : كيف جاز انتصاب أنثى حالاً من الضمير في وضعتها وهو كقوله وضعت الأنثى أنثى ؟
أجيب : بأنّ الأصل وضعته أنثى وإنما أنث لتأنيث الحال ؛ لأنّ الحال وصاحبها بالذات واحد وأما على تأويل النفس أو النسمة فهو ظاهر كأنها قالت : إني وضعت النفس أو النسمة أنثى {وا أعلم} أي : عالم {بما وضعت} قرأ ابن عامر وشعبة بسكون العين وضم التاء فيكون من كلامها قالته تسلية لنفسها أي : ولعل لله فيه سرّاً وحكمة ولعلّ هذه الأنثى خير من الذكر ، وقرأ الباقون بفتح العين وسكون التاء فيكون من كلام الله تعالى تعظيماً لموضوعها وتجهيلاً لها بقدر ما وهب لها منه ومعناه والله أعلم بالأنثى التي وضعت وما علق به من عظائم الأمور وأن يجعلها وولدها آية للعالمين وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تحسرت. وقرأ أبو عمرو والله أعلم بسكون الميم وإخفائها عند الباء بخلاف عنه ، والباقون بالإظهار وقوله تعالى : {وليس الذكر كالأنثى} بيان لما في قوله : {وا أعلم بما وضعت} من التعظيم للموضوع والرفع منه ومعناه وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها واللام فيهما للعهد أمّا معهود لام الأنثى ففي قولها إني وضعتها أنثى وأمّا معهود لام الذكر ففي قولها محرّراً ويجوز أن يكون معنى قولها وليس الذكر كالأنثى أي : وليس الذكر والأنثى سيين فيما نذرت لما يعتري الأنثى من الحيض والنفاس فتكون اللام للجنس وقوله تعالى : {وإني سميتها مريم} عطف على {إني وضعتها أنثى} وما بينهما جملتان معترضتان كقوله تعالى : {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} (الواقعة ، 76) وإنما ذكرت ذلك لربها تقرّباً إليه وطلباً ؛ لأن يعصمها ويصلحها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها فإنّ مريم في لغتهم بمعنى العابدة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 240
تنبيه : في قوله تعالى : حكاية عنها {سميتها مريم} دليل على أنّ الإسم والمسمّى والتسمية أمور متغايرة أو معنى سميتها مريم جعلت اسم المولود مريم {وإني أعيذها} أي : أجيرها {بك} أي : بحفظك {وذرّيتها} أي : أولادها {من الشيطان الرجيم} أي : المطرود. روى الشيخان : "ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها" ولا يبعد كما قال الطيبي اختصاص عيسى وأمّه بهذه الفضيلة دون الأنبياء لجواز أن يمكن الله تعالى الشيطان من مسهم مع عصمتهم من الإغواء ولا يمتنع كما قال التفتازاني : أن يمس الشيطان المولود حين يولد بحيث يصرخ كما ترى وتسمع وليست تلك المسة للإغواء ليدفع أنه لا يتصوّر في حق المولود حيث يولد وحينئذٍ فقول البيضاويّ معناه أنّ الشيطان يطمع في إغواء كل مولود أي : لا يمسه فيه إخراج الحديث عن ظاهره ، وتبع فيه الزمخشريّ وهو ما سلكه المعتزلة حيث أنكروا هذا الحديث وقدحوا
242
في صحته ؛ لأنّ الشيطان إنما يدعو إلى الشر من له تمييز. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل بني آدم يطعنه الشيطان في جنبيه بإصبعيه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعنه فطعنه في الحجاب".
{فتقبلها ربها} أي : قبل مريم من أمّها ورضي بها في النذر مكان الذكر {بقبول حسن} وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم يقبل قبلها أنثى {وأنبتها نباتاً حسناً} أي : أنشأها بخلق حسن فكانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام {وكفلها زكريا} قرأ عاصم وحمزة والكسائيّ بتشديد الفاء وقصروا زكريا غير عاصم في رواية ابن عياش على أنّ الفاعل هو الله تعالى وزكريا مفعول أي : جعله كافلاً لها وضامناً لمصالحها فلا بدّ من تقدير مضاف في الآية وهو مصالح ؛ لأنّ كفالة البدن لا معنى لها ، وقرأ الباقون بتخفيف الفاء ومدّوا زكريا مرفوعاً على الفاعلية.
روي أن حنة لما ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد الأقصى ووضعتها عند الأحبار وقالت : دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها ؛ لأنها بنت إمامهم الأعظم في العلم والصلاح فقال زكريا : أنا أحق بها ؛ لأنّ خالتها عندي ، فقالت الأحبار : لا تقل ذلك فإنها لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمّها التي ولدتها لكنا نقترع فيها فتكون عند من خرج سهمه وكانوا تسعة وعشرين رجلاً فانطلقوا إلى نهر الأردن وألقوا فيه أقلامهم على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها فثبت قلم زكريا فأخذها وضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها غرفة في المسجد وجعل بابها في وسطه لا يرقى إليه إلا بالسلم ولا يصعد إليها غيره.
جزء : 1 رقم الصفحة : 240(1/173)
وكان يأتيها بأكلها وشربها ودهنها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء كما قال تعالى : {كلما دخل عليها زكريا المحراب} أي : الغرفة والمحراب أشرف المجالس ومقدّمها وكذلك هو من المسجد ويقال أيضاً للمسجد محراب قال المبرّد : لا يكون المحراب إلا أن يرتقى إليه بدرج {وجد عندها رزقاً} قال الربيع بن أنس : كان زكريا إذا خرج يغلق عليها سبعة أبواب ، فإذا دخل عليها غرفتها وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فإذا وجد عندها ذلك.
{قال يا مريم أنّى لك هذا} أي : من أين لك هذا الرزق الآتي في غير أوانه والأبواب مغلقة عليك {قالت} وهي صغيرة {هو من عند الله} يأتيني به من الجنة قيل : تكلمت في المهد وهي صغيرة كما تكلم ابنها عيسى وهو صغير في المهد ولم ترضع ثدياً قط ، وكان رزقها ينزل عليها من الجنة وفي هذا دليل وأي دليل على كرامة الأولياء وليس ذلك معجزة لزكريا كما زعمه جماعة ؛ لأنّ ذلك مدفوع باشتباه الأمر عليه حتى قال لها : أنى لك هذا ؟
ولو كان معجزة له لادعاها وقطع بها ؛ لأنّ النبيّ شأنه ذلك ويدل عليها غير ذلك كقصة أصحاب الكهف ولبثهم في الكهف سنين عدداً بلا طعام ولا شراب وقصة آصف من إتيانه بعرش بلقيس قبل ارتداد الطرف ورؤية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو على المنبر جيشه بنهاوند حين قال : يا سارية الجبل وسماع سارية ذلك وكان بينهما مسافة شهر ، وشرب خالد رضي الله تعالى عنه السم من غير أن يضره ، وبالجملة فكرامات الأولياء حق ثابتة بالكتاب والسنة وليس بعجيب إنكارها من أهل البدع والأهواء إذا لم يشاهدوا ذلك من
243
أنفسهم ولم يسمعوا به من رؤسائهم الذين يزعمون أنهم على شيء ، فوقعوا في أولياء الله تعالى أصحاب الكرامات يمزقونهم ويسمونهم بالجملة المتصوّفة ولم يعرفوا أنّ مبنى هذا الأمر على صفاء العقيدة ونقاء السريرة واقتفاء الطريقة واصطفاء الحقيقة ، وإنما العجب من بعض فقهاء أهل السنة حيث قال فيما روي عن إبراهيم بن أدهم أنهم رأوه بالبصرة يوم التروية وفي ذلك اليوم بمكة أنّ من اعتقد جواز ذلك يكفر والإنصاف ما ذكره الإمام النسفيّ حين سئل عما يحكى أنّ الكعبة كانت تزور بعض الأولياء هل يجوز القول به ؟
فقال : نقض العادة على سبيل الكرامة لأهل الولاية جائز عند أهل السنة.
وروي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جاع في زمن قحط فأهدت له فاطمة رضي الله تعالى عنها رغيفين وبضعة لحم في طبق مغطى آثرته به فرجع بذلك إليها وقال : "هلمي يا بنية" فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزاً ولحماً فبهتت وعلمت أنّ ذلك نزل من عند الله فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنى لك هذا ؟
" قالت : هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب فقال لها عليه الصلاة والسلام : "الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل" ثم جمع صلى الله عليه وسلم علياً والحسن والحسين وجميع أهل بيته ، فأكلوا حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت فاطمة على جيرانها". فهذه كرامة لفاطمة رضي الله تعالى عنها وفي هذه الرواية دليل على أنّ قوله تعالى : {إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب} أي : رزقاً واسعاً بلا تبعة من كلام مريم رضي الله تعالى عنها ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 240
ولما رأى زكريا كرامة مريم ومنزلتها عند الله قال : إنّ الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب قادر على أن يصلح زوجتي ويهب لي ولداً في غير حينه على الكبر فطمع في الولد وذلك أنّ أهل بيته كانوا قد انقرضوا وكان زكريا قد شاخ وأيس من الولد قال الله عز وجل :
جزء : 1 رقم الصفحة : 240
{هنالك دعا زكريا ربه} أي : في ذلك المكان أو الوقت ، قال الزمخشريّ : قد تستعار هنا ، وثم وحيث للزمان أي : لمشابهة الزمان للمكان في الظرفية فاستعير له فدخل زكريا المحراب وناجى ربه في جوف الليل {قال} يا {ربّ هب لي} أي : أعطني {من لدنك} أي : من عندك {ذرية طيبة} كما وهبتها لحنة العجوز العاقر أي : ولداً مباركاً تقياً صالحاً رضياً ، والذرّية يكون واحداً وجمعاً ذكراً وأنثى وهو هنا واحد بدليل قوله : {فهب لي من لدنك ولياً يرثني} (مريم ، 6) وإنما قال طيبة لتأنيث لفظ الذرّية {إنك سميع} أي : مجيب {الدعاء} لمن دعاك فلا تردّني خائباً {فنادته الملائكة} أي : جنسهم كقولهم : فلان يركب الخيل فإنّ المنادى كان هو جبريل وحده ، وقرأ حمزة والكسائيّ فناداه بالإمالة والتذكير ، والباقون بالتاء {وهو قائم يصلي في المحراب} أي : المسجد وذلك أنّ زكريا كان هو الحبر الكبير الذي يقرب القربان ويفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول فبينما هو قائم يصلي في المحراب والناس ينتظرون أن يؤذن لهم في الدخول ، فإذا هو برجل شاب عليه ثياب بيض ، ففزع منه فناداه وهو جبريل.(1/174)
جزء : 1 رقم الصفحة : 244
وقرأ {إن الله يبشرك بيحيى} ابن عامر وحمزة بكسر الهمزة على إرادة القول ، أو لأنّ النداء نوع من القول ، والباقون بالفتح على بأن ، وقرأ حمزة والكسائيّ بفتح الياء من يبشرك وسكون الباء الموحدة وضمّ الشين مخففة ، والباقون بضمّ الياء وفتح الباء الموحدة وكسر الشين المشدّدة ، واختلفوا في أنه لِمَ سمي يحيى قال ابن عباس : لأنّ الله أحيا به عقر أمّه وقال قتادة : لأنّ الله أحيا
244
قلبه بالإيمان وقيل : لأنّ الله تعالى أحيا قلبه بالطاعة حتى أنه لم يهم بمعصية وهو اسم أعجمي منع صرفه للتعريف والعجمة كموسى وعيسى وقيل : عربي ومنع صرفه للتعريف ووزن الفعل كينسى ، وجمعه يحيون كموسون وعيسون {مصدّقاً بكلمة} كائنة {من الله} أي : بعيسى أنه روح الله وسمي كلمة ؛ لأنه خلق بكلمة كن وقيل : لأنّ الله أخبر الأنبياء بكلامه في كتابه أنه يخلق نبياً بلا أب فسماه بكلمة لحصول ذلك الوعد ، وكان يحيى أوّل من آمن بعيسى وصدقه ، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر ثم قتل يحيى قبل أن يرفع عيسى عليهما الصلاة والسلام ، وقول البيضاويّ وكان يحيى وعيسى ابن خالة من الأب فيه تجوز إذ يحيى ابن خالة أمّ عيسى لا ابن خالته وعيسى ابن بنت خالة يحيى لا ابن خالته {وسيداً} أي : يسود قومه فيصير متبوعاً. وقال الضحاك : السيد الحسن الخلق. وقال سعيد بن جبير : السيد الذي يطيع ربه وقال سعيد بن المسيب : السيد الفقيه العالم {وحصوراً} أي : مبالغاً في حبس النفس على الشهوات والملاهي.
روي أنه مرّ وهو طفل بصبيان فدعوه للعب فقال : ما للعب خلقت. وقال سعيد بن المسيب : الحصور هو المعسر الذي لا مال له فيكون الحصور بمعنى المحصور كأنه ممنوع من النساء وقيل : كان له مثل هدبة الثوب ، وقد تزوّج مع ذلك ليكون أغض لبصره ، وقيل : هو الممتنع من الوطء مع القدرة عليه واختار قوم هذا القول لوجهين : أحدهما أنّ الكلام خرج مخرج الثناء وهذا أقرب إلى استحقاق الثناء ، والثاني أنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء {ونبياً} ناشئاً {من الصالحين} لأنه كان من أصلاب الأنبياء أو كائناً من جملة الصالحين فمن على هذا للتبعيض كقوله تعالى : {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} (البقرة ، 130) .
{قال رب أنى} أي : كيف {يكون لي غلام} أي : ابن {وقد بلغني الكبر} أي : أدركني كبر السن وأثر فيّ وكان عمره مائة وعشرين سنة وقيل : تسعاً وتسعين سنة {وامرأتي عاقر} أي : لا تلد من العقر وهو القطع ؛ لأنها ذات عقر من الأولاد وكانت بنت ثمان وتسعين سنة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 244
فإن قيل : كيف قال زكريا بعدما وعده الله تعالى أن يكون له غلام أنى يكون لي غلام أكان شاكاً في وعد الله وفي قدرته ؟
أجيب : بأنه قال ذلك استبعاداً من حيث العادة كما قالت مريم أو استعظاماً وتعجباً أو استفهاماً عن كيفية حدوثه أي : أتجعلني وامرأتي شابين أوترزقنا ولداً على الكبر منا أو ترزقني امرأة أخرى ؟
وقيل : إنّ زكريا لما سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان فقال : يا زكريا إنّ الصوت الذي سمعت ليس هو من الله إنما هو من الشيطان ، ولو كان من الله لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور ، فقال ذلك دفعاً للوسوسة {قال} الأمر {كذلك} أي : من خلق غلام منكما {الله يفعل ما يشاء} لا يعجزه عنه شيء ولإظهار هذه القدرة العظيمة ألهمه الله السؤال ليجاب بها ولما تاقت نفسه إلى سرعة المبشر به.
{قال رب اجعل لي آية} أي : علامة أعرف بها حمل امرأتي لأتلقى النعمة إذا جاءت بالشكر {قال آيتك} عليه {أن لا تكلم الناس} أي : تمتنع من كلامهم {ثلاثة أيام} أي : بلياليها كما في سورة مريم ثلاث ليال {إلا رمزاً} أي : إشارة بيد أو رأس والاستثناء منقطع وقيل : متصل والمراد بالكلام حينئذٍ ما دل على ما في الضمير وإنما خص تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله ولذلك قال : {واذكر ربك كثيراً وسبح} أي : صل {بالعشيّ} وهو من حين تزول الشمس إلى أن تغيب {والإبكار} وهو من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.
245
فإن قيل : لم حبس لسانه عن كلام الناس ؟
أجيب : بأنه إنما فعل به ذلك لتخلص المدّة المذكورة لذكر الله تعالى لا يشغل لسانه بغيره توفراً منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها التي طلب الآية من أجله كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له : آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر ، وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقاً من السؤال ومنتزعاً منه وقال قتادة : أمسك لسانه عن الكلام عقوبة له لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام.(1/175)
{و} اذكر {إذ قالت الملائكة} أي : جبريل قال لها شفاهاً : {يا مريم إنّ الله اصطفاك} أي : اختارك بأن تقبلك من أمّك ولم يقبل قبلك أنثى وفرغك للعبادة وأغناك برزق الجنة عن الكسب وتكليمه لها شفاها كرامة لها. وقيل : كان معجزة لزكريا ، وقيل : كان إرهاصاً أي : تأسيساً لنبوّة عيسى صلى الله عليه وسلم بطريق الخوارق قبل البعثة كإظلال الغمام لنبينا صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بطريق الشام وإنما حمل على هذا التأويل ؛ لأنها ليست بنبية على الأصح بل حكى البيضاويّ الإجماع على أنه تعالى لم ينبىء امرأة لقوله تعالى : {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً} (الأنبياء ، 7) لكن نوزع في دعوى الإجماع ؛ لأنّ الخلاف ثابت في نبوّة نسوة خصوصاً مريم إذ القول بنبوّتها مشهور {وطهرك} أي : مسيس الرجال ومما يستقذر من النساء {واصطفاك} ثانياً {على نساء العالمين} بهدايتك وإرسال الملائكة إليك وتخصيصك بالكرامات السنية كالولد من غير أب ولم يكن لأحد من النساء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 244
فائدة : أفضل نساء العالمين مريم كما في الآية إذ قيل بنوّتها ثم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خديجة أمّها ثم عائشة ثم آسية امرأة فرعون.
فإن قيل : روى الطبرانيّ : "خير نساء العالمين مريم بنت عمران ثم خديجة بنت خويلد ثم فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ثم آسية امرأة فرعون" أجيب : بأنّ خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومة لا باعتبار السيادة.
{يا مريم اقنتي لربك} أي : أطيعيه {واسجدي واركعي مع الراكعين} أي : وصلي مع المصلين في الجماعة أو وانظمي نفسك في جملة المصلين وكوني معهم في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم.
فإن قيل : لم قدم السجود على الركوع ؟
أجيب : باحتمال أنه كان كذلك في تلك الشريعة وقيل : بل كان السجود قبل الركوع في الشرائع كلها أو للتنبيه على أنّ الواو لا تقتضي الترتيب.
{ذلك} أي : ما قصصناه عليك يا محمد من حديث زكريا ويحيى ومريم وعيسى {من أنباء الغيب نوحيه إليك} أي : من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي {وما كنت لديهم} أي : عندهم {إذ يلقون أقلامهم} في الماء أي : سهامهم التي طرحوها فيه وعليها علامة على القرعة وقيل : هي الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة اختاروها للقرعة تبركاً بها ليعلموا {أيهم يكفل مريم} أي : يحضنها ويربيها ، فأيّ متعلق بمحذوف كما علم من التقدير {وما كنت لديهم إذ يختصمون} في كفالتها فتعرف ذلك فتخبر به وإنما عرفته من جهة الوحي.
246
فإن قيل : لم نفيت المشاهدة وانتفاؤها معلوم من غير شبهة وترك نفي استماع الأنباء من حفاظها وهو موهوم ؟
أجيب : بأنه كان معلوماً عندهم علماً يقيناً أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة ومثل ذلك قوله تعالى : {وما كنت بجانب الغربيّ} (القصص ، 44) {وما كنت بجانب الطور} (القصص ، 26) {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم} (يوسف ، 102) واذكر.
{إذ قالت الملائكة} أي : جبريل {يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه} أي : بابن {اسمه المسيح عيسى بن مريم} وإنما خاطبها بنسبته إليها تنبيهاً على أنها تلده بلا أب إذ عادة الأبناء نسبتهم إلى آبائهم لا إلى أمهاتهم وبنسبته إليها فضلت واصطفيت على نساء العالمين.
فإن قيل : هذه ثلاثة أشياء : الإسم منها عيسى ، وأمّا المسيح والابن فلقب وصفة أجيب : بأنّ الإسم للمسمى علامة يعرف بها ويتميز عن غيره فكأنه قيل : الذي يعرف به ويتميز عمن سواه مجموع هذه الثلاثة ، والمسيح لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق وأصله مشيحا بالعبرانية ومعناه المبارك لقوله : {وجعلني مباركاً أينما كنت} واشتقاقه من المسح ؛ لأنه مسح بالبركة أو بما طهره من الذنوب أو مسح الأرض ولم يقم في موضع ، أو لأنه خرج من بطن أمّه ممسوحاً بالدهن ، أو لأنّ جبريل مسحه بجناحه حتى لم يكن للشيطان عليه سبيل ، أو لأنه كان مسيح القدم لا أخمص له. وقال ابن عباس : سمي مسيحاً لأنه ما مسح ذا عاهة إلا برىء ، ويسمى الدجال مسيحاً لأنه ممسوح إحدى العينين وعيسى معرب إيشوع وهو بالشين المعجمة السيد. قال البيضاويّ اشتقاقه من العيس وهو بياض تعلوه حمرة وهو تكلف لا طائل تحته وقوله تعالى : {وجيهاً} أي : ذا جاه حال مقدّرة من كلمة وهي وإن كانت نكرة لكنها موصوفة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 244
فإن قيل : لم ذكر ضمير الكلمة أجيب : بأنّ المسمى بها مذكر {في الدنيا} أي : بالنبوّة والتقدّم على الناس {و} في {الآخرة} بالشفاعة والدرجات العلى {ومن المقرّبين} عند الله تعالى لعلوّ درجته في الجنة ورفعه إلى السماء وصحبته للملائكة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 244
247(1/176)
{ويكلم الناس في المهد} أي : صغيراً قبل أوان الكلام كما ذكر في سورة مريم قال : {إني عبد الله آتاني الكتاب} (مريم ، 30) الآية. وحكي عن مجاهد قال : قالت مريم : كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدّثني وحدّثته فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع. والمهد ما يمهد للصبيّ من مضجعه وقوله تعالى : {وكهلاً} عطف على في المهد أي : ويكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولية وحال الكهولية التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء ، وقد رفع بعد كهولته ، وقيل : إنه رفع شاباً وعلى هذا المراد كهلاً بعد نزوله وذكر تعالى أحواله المختلفة المتنافية إرشاداً إلى أنه بمعزل عن الألوهية.
فإن قيل : فما فائدة البشارة بكلامه كهلاً والناس في ذلك سواء ؟
أجيب : بأنه بشرها بأنه يبقى إلى أن يتكهل وبعدم التفاوت بين الحالين كما مرّ وقوله تعالى : {ومن الصالحين} أي : من عباد الله الصالحين حال من كلمة أو من ضميرها الذي في يكلم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 247
فإن قيل : لم ختم الصفات المذكورة بقوله : {ومن الصالحين} بعد كونه وجيها في الدنيا وفسرت بالنبوّة ولا شك أنّ النبوّة أرفع من منصب الصلاح بل كل واحدة من الصفات المذكورة أشرف من كونه صالحاً ؟
أجيب : بأنه لا يكون كذلك إلا ويكون في جميع الأفعال والتروك مواظباً على المنهج الأصلح وذلك يتناول جميع المقامات في الدين والدنيا في أفعال القلوب وفي أفعال الجوارح ولهذا قال نبيّ الله سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام بعد النبوّة {وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين} (النمل ، 19) فلما عدّد صفات عيسى عليه الصلاة والسلام أردفها بهذا الوصف الدال على أرفع الدرجات.
{قالت ربّ} أي : يا سيدي فقولها لله عز وجلّ وقيل : قالته لجبريل قاله البغويّ وقال الزمخشري : ومن بدع التفاسير أن قولها رب نداء لجبريل بمعنى يا سيدي {أنى} أي : كيف {يكون لي ولد ولم يمسسني بشر} أي : ولم يصبني رجل بتزوّج ولا غيره ، قالت ذلك تعجباً إذ لم تكن جرت العادة بأن يولد مولود بلا أب أو استفهاماً عن أن يكون بتزوّج أو بغيره {قال} الأمر {كذلك} من خلق ولد منك بلا أب {الله يخلق ما يشاء} القائل جبريل أو الله وجبريل حكى لها وقوله تعالى {إذا قضى أمراً} أي : أراد كون شيء {فإنما يقول له كن} صر وقرأ {فيكون} ابن عامر بفتح النون ، والباقون بضمها أي : فهو يكون ؛ لأنه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرّجاً بأسباب وموادّ يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك ، فنفخ جبريل في جيب درعها فحملت وكان من أمرها ما ذكر في سورة مريم وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليه هناك وقوله تعالى :
{ونعلمه الكتاب} أي : الكتابة {والحكمة} أي : العلم المقترن بالعمل {والتوراة والإنجيل} كلام مستأنف ذكر تطييباً لقلبها وإزاحة لما همها من خوف اللوم حين علمت أنها تلد من غير زوج وقيل : المراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة وخص الكتابان لفضلهما ، وقرأ نافع وعاصم بالياء والباقون بالنون.
248
{و} نجعله {رسولاً إلى بني إسرائيل} إما في الصبا أو بعد البلوغ وتخصيص بني إسرائيل لخصوص بعثه إليهم وللردّ على من زعم أنه مبعوث إلى غيره.
فائدة : كان أوّل أنبياء بني إسرائيل يوسف بن يعقوب وآخرهم عيسى عليهم الصلاة والسلام ، ولما بعث إليهم قال لهم : إني رسول الله إليكم {أني} أي : بأني {قد جئتكم بآية} أي : علامة {من ربكم} تصدّق قولي ، وإنما قال بآية وقد أتى بآيات ؛ لأنّ الكل دل على شيء واحد وهو صدقه في الرسالة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 247
ولما قال ذلك لبني إسرائيل قالوا : وما هي ؟
قال : هي {إني} قرأ نافع وحده بكسر الهمزة على الاستئناف ، وفتح الياء من إني نافع وأبو عمرو ، وسكنها الباقون {أخلق} أي : أصوّر {لكم من الطين كهيئة الطير} أي : مثل صورته فيصير طيراً كسائر الطيور وحياً طياراً ، والكاف اسم مفعول وقرأ ورش بالمدّ على الياء من هيئة والتوسط كما تقدّم في شيء {فأنفخ فيه} الضمير للكاف أي : في ذلك المماثل للطير أي : في فيه {فيكون طيراً بإذن الله} أي : بإرادته نبه بذلك على أن إحياءه من الله تعالى لا منه ، وقرأ نافع بألف بعد الطاء بعدها همزة مكسورة ورقق ورش الراء على أصله والباقون بياء ساكنة بعد الطاء من غير ألف فقراءة الجمع نظراً إلى أنه خلق طيراً كثيراً وقراءة المفرد نظراً إلى أنه نوع واحد من الطير ؛ لأنه لم يخلق غير الخفاش وإنما خص الخفاش ؛ لأنه أكمل الطير خلقاً ؛ لأنّ له أسناناً وللأنثى ثدياً وتحيض ، قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل الخلق من فعل الله وليعلم أنّ الكمال لله عز وجلّ.(1/177)
{وأبرىء} أي : أشفي {الأكمه} وهو الذي ولد أعمى أو ممسوح العينين. قال الزمخشريّ : ويقال لم يكن في هذه الأمّة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب "التفسير" ولعل هذا على التفسير الثاني {والأبرص} وهو الذي به برص وهو بياض شديد يبقع الجلد ويذهب دمويته وإنما خص هذين المرضين بالذكر ؛ لأنهما أعييا الأطباء وكان الغالب في زمن عيسى الطب فأراهم المعجزة من جنس ذلك ، قال وهب : ربما اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفاً ، من أطاق منهم أن يبلغه أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده على شرط الإيمان.
جزء : 1 رقم الصفحة : 247
وإنما قال ثانياً {وأحيي الموت بإذن الله} وكرّر بإذن الله دفعاً لتوهّم الألوهية ، فإنّ الإحياء ليس من جنس الأفعال البشرية ، قال ابن عباس : قد أحيا عيسى أربعة أنفس : عازر وابن العجوز وابنة العاشر وسام بن نوح عليه السلام ، فأمّا عازر فكان صديقاً له فأرسلت أخته إلى عيسى عليه السلام إنّ أخاك عازر يموت وكان بينه وبينه مسيرة ثلاثة أيام فأتى هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام فقال لأخته : انطلقي بنا إلى قبره فانطلقت معهم إلى قبره فدعا الله سبحانه وتعالى فقام وخرج من قبره وبقي وولد له ، وأما ابن العجوز فمرّ به ميتاً على عيسى يحمل على سرير فدعا الله تعالى عيسى فجعل على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي وولد له ، وأما ابنة العاشر فكان رجلاً يأخذ العشور ماتت له بنت بالأمس فدعا الله تعالى فأحياها فبقيت وولد لها ، وأما سام بن نوح فإنّ عيسى عليه السلام جاء إلى قبره ودعا فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفاً من قيام الساعة وما كانوا يشيبون في ذلك الزمان فقال : قد قامت القيامة ؟
فقال : لا ولكن قد دعوت الله تعالى فأحياك ، ثم قال له : مت فقال : بشرط أن يعيذني الله تعالى من سكرات الموت فدعا الله تعالى ففعل به ما قال.
249
{وأنبئكم} أي : أخبركم {بما تأكلون} بما لم أعاينه {وما تدّخرون} أي : تخبئون {في بيوتكم} حتى تأكلوه فكان يخبر الرجل بما أكل البارحة وبما أكل اليوم وبما ادّخره للعشاء ، وقال السدي : كان عيسى في الكتاب يحدث الغلمان بما تصنع آباؤهم ، ويقول للغلام : انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا ورفعوا لك كذا وكذا قال : فينطلق الصبي إلى أهله ويبكي حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون : من أخبرك بهذا ؟
فيقول : عيسى فحبسوا صبيانهم عنه وقالوا لهم : لا تلعبوا مع هذا الساحر فجمعوهم في بيت فجاء عيسى يطلبهم فقالوا : ليسوا ههنا قال : فما في هذا البيت ؟
قالوا : خنازير قال عيسى : كذلك يكونوا ففتحوا عنهم فإذا هم خنازير ففشا ذلك في بني إسرائيل فهمت به بنو إسرائيل فلما خافت عليه أمّه حملته على حمار لها وخرجت هاربة إلى مصر ، وقال قتادة : إنما هذا في المائدة وكان خواناً ينزل عليهم أينما كانوا كالمنّ والسلوى وأمروا أن لا يخونوا ولا يخبئوا لغد فخانوا وخبؤوا فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وادّخروا منها فمسخهم الله خنازير {إن في ذلك} الذي ذكرته لكم {لآية لكم إن كنتم مؤمنين} أي : مصدّقين للحق غير معاندين وقوله تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 247
ومصدّقاً} منصوب بإضمار فعل يدل عليه قد جئتكم أي : وجئتكم مصدّقاً {لما بين يدي} أي : قبلي {من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرّم عليكم} فيها في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام فأحل لهم أكل الشحوم والثروب وهو شحم رقيق يغشى الكرش والسمك ولحوم الإبل والعمل في السبت وقيل : أحل الجميع فبعض بمعنى كل كقول لبيد :
*ترّاك أمكنة إذا لم أرضها ** أو يرتبط بعض النفوس حمامها*
يعني كل النفوس.
فإن قيل : كيف يكون مصدّقاً للتوراة والإحلال يدل على أنّ شرعه كان ناسخاً لشرع موسى ؟
أجيب : بأنه لا تناقض كما لا يعود نسخ القرآن بعضه ببعض عليه بالتناقض والتكاذب ، فإن النسخ في الحقيقة بيان وتخصيص في الأزمان وإنما كرر {وجئتكم بآية من ربكم} للتأكيد وليبني عليه {فاتقوا الله} أي : في مخالفة أمره أي : جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من خلق الطير والإبراء والإحياء والإنباء بالخفيات وبغيره من ولادتي من غير أب ومن كلامي في المهد وغير ذلك ، فهي في الحقيقة آيات وإنما وحدها لأنها كلها جنس واحد في الدلالة على رسالته {وأطيعون} فيما أدعوكم إليه من توحيد الله وطاعته ، ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل فقال :
{إنّ الله ربي وربكم} لأنّ جميع الرسل كانوا على هذا القول لم يختلفوا فيه {فاعبدوه} أي : لازموا طاعته التي هي الإتيان بالأوامر والإنتهاء عن المناهي {هذا} الذي دعوتكم إليه {صراط} أي : طريق {مستقيم} أي : هو المشهود له بالإستقامة.
روى الإمام أحمد وغيره أنّ رجلاً قال : يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه
250(1/178)
أحداً بعدك ، قال : "قل آمنت بالله ثم استقم". ولما قال لهم ذلك كذبوه ولم يؤمنوا به كما قال تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 247
فلما أحس عيسى} أي : علم {منهم} علماً لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس {الكفر قال من أنصاري} قرأ نافع بفتح الياء والباقون بالسكون أي : أعواني وقوله : {إلى الله} متعلق بمحذوف حال من الياء أي : من أنصاري ذاهباً إلى الله تعالى ملتجئاً إليه تعالى لأنصر دينه وقيل : إلى هنا بمعنى مع أو في أو اللام {قال الحواريون نحن أنصار الله} أي : أعوان دينه واختلفوا في الحواريين ، فقال السدي : لما بعث الله تعالى عيسى إلى بني إسرائيل كذبوه وأخرجوه فخرج هو وأمه يسبحان في الأرض فنزلا في قرية على رجل فأضافهما وأحسن إليهما ، وكان لتلك المدينة جبار متعد فجاء ذلك الرجل يوماً مهتماً حزيناً فدخل منزله ومريم عند امرأته فقالت لها مريم : ما شأن زوجك أراه كئيباً ؟
قالت : لا تسأليني قالت : أخبريني لعل الله يفرّج كربته قالت : إن لنا ملكاً يجعل على كل رجل منا يوماً أن يطعمه وجنوده ويسقيهم خمراً فإن لم يفعل عاقبه واليوم نوبتنا وليس لذلك عندنا سعة قالت : فقولي له لا تهتم فإني آمر ابني فيدعو له فيكفي ذلك ، فقالت مريم لعيسى في ذلك قال عيسى : إن فعلت ذلك وقع شرّ قالت : فلا تبال فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا. قال عيسى : قولي له إذا اقترب ذلك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني ففعل ذلك فدعا الله عيسى فتحوّل ماء القدور مرقاً ولحماً وماء الخوابي خمراً لم ير الناس مثله قط ، فلما جاء الملك أكل فلما شرب الخمر قال : من أين هذا الخمر ؟
قال : من أرض كذا قال : فإن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه قال : هي من أرض أخرى فلما خلط على الملك شدّد عليه قال : فأنا أخبرك عندي غلام لا يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه وإنه دعا الله فجعل الماء خمراً ، فلما أحضره وكان للملك ابن يريد أن يستخلفه فمات قبل ذلك بأيام وكان أحب الخلق إليه فقال : إنّ رجلاً دعا الله تعالى فجعل الماء خمراً ليجأ به إليّ حتى يحيي ابني فدعي بعيسى إليه فكلمه في ذلك فقال عيسى : لا أفعل فإنه إن عاش وقع شرّ. قال الملك : لا عليك. قال عيسى : إن أحييته تتركني أنا وأمي نذهب حيث نشاء ؟
قال : نعم فدعا الله تعالى فعاش الغلام ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح وقالوا : أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه فاقتتلوا ، وذهب عيسى وأمّه فمرّوا بالحواريين وهم يصطادون السمك فقال : ما تصنعون ؟
قالوا : نصطاد السمك قالوا : ومن أنت ؟
قال : عيسى بن مريم عبد الله ورسوله فقالوا : {آمنا} أي : صدقنا {با واشهد} يا عيسى {بأنا مسلمون} لتشهد لنا يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 247
{ربنا آمنا بما أنزلت} من الإنجيل {واتبعنا الرسول} عيسى {فاكتبنا مع الشاهدين} لك بالوحدانية أو مع النبيين الذين يشهدون لأتباعهم أو مع أمّة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم شهداء على الناس وقال الحسن : كانوا قصارين سموا بذلك ؛ لأنهم كانوا يحورون الثياب أي : يبيضونها ، وعلى الأوّل سموا حواريين لبياض ثيابهم. وقال عطاء : سلمت مريم عيسى إلى أعمال شتى فكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وكانوا قصارين وصباغين فدعته إلى رئيسهم ليتعلم منه فاجتمع عنده ثياب وعرض له سفر فقال : يا عيسى إنك قد تعلمت هذه الحرفة وأنا خارج في سفر لا أرجع إلى عشرة أيام وهذه
251
ثياب مختلفة الألوان وقد علمت على كل واحد منها بخيط على اللون الذي يصبغ به فيجب أن تكون فارغاً منها عند قدومي ، وخرج فطبخ عيسى جباً واحداً على لون واحد وأدخل فيه جميع الثياب وقال : كوني بإذن الله تعالى على ما أريد منك فقدم الحواري والثياب كلها في الجب فقال : ما فعلت ؟
قال : فرغت منها قال : أين هي ؟
قال : في الجب قال : كلها ؟
قال : نعم قال : لقد أفسدت تلك الثياب فقال : قم فانظر فأخرج عيسى ثوباً أصفر وثوباً أخضر وثوباً أحمر إلى أن أخرجها على الألوان التي أرادها ، فجعل الحواري يتعجب وعلم أنّ ذلك من الله تعالى ، فقال للناس : تعالوا فانظروا فآمن هو وأصحابه وهم الحواريون وقال الكلبي وعكرمة : الحواريون الأصفياء وهم كانوا أصفياء عيسى أوّل من آمن به وكانوا اثني عشر من الحور وهو البياض الخاص ، وحواري الرجل صفوته وخالصته. وقيل للحضريات الحواريات لخلوص ألوانهنّ ونظافتهن قال القائل :
*
جزء : 1 رقم الصفحة : 251
فقل للحواريات يبكين غيرنا ** ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح*
قال الله تعالى : (1/179)
{ومكروا} أي : كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر به ، وذلك أن عيسى عليه الصلاة والسلام بعد إخراج قومه إياه وأمّه عاد إليهم مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة فهموا بقتله وتواطؤوا على الفتك به ووكلوا به من يقتله غيلة ـ وهي بالكسر ـ أن يخدع غيره فيذهب به إلى موضع فإذا صار إليه قتله فذلك مكرهم إذ المكر من المخلوق الخبث والخديعة والحيلة ، وأمّا من الخالق وهو قوله تعالى : {ومكر الله} أي : بهم {وا خير الماكرين} أي : أعلمهم به ، فقال الزجاج : مجازاتهم على مكرهم فسمي الجزاء باسم الإبتداء ؛ لأنه في مقابلته كقوله تعالى : {الله يستهزىء بهم} (البقرة ، 15) وهو خادعهم ومكر الله تعالى بهم في هذه الآية بأن ألقى شبهه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى حتى قتل.
روي أنّ عيسى استقبل رهطاً من اليهود فلما رأوه قالوا : قد جاء الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه ، فلما سمع ذلك عيسى دعا عليهم ولعنهم فمسخهم الله خنازير ، فلما رأى ذلك يهودا رأس اليهود وأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى وساروا إليه ليقتلوه فبعث الله تعالى إليه جبريل فأدخله في خوخة في سقفها كوة فرفعه الله تعالى إلى السماء من تلك الكوة فأمر يهودا رأس اليهود رجلاً من أصحابه أن يدخل الخوخة ويقتله فلما دخل لم ير عيسى فأبطأ عليهم فظنوا أنه يقاتله فيها فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى فلما خرج ظنوا أنه عيسى فقتلوه وصلبوه ، فلما صلب جاءت أمّ عيسى وامرأة كان عيسى دعا لها فأبرأها الله تعالى من الجنون يبكيان عند المصلوب ، فجاءهما عيسى فقال لهما : على من تبكيان ؟
إنّ الله تعالى رفعني ولم يصبني إلا خير وإن هذا شبه لهم ، فلما كان بعد سبعة أيام قال الله تعالى لعيسى : اهبط إلى مريم فإنه لم يبك عليك أحد بكاها ولم يحزن حزنها ، ثم لتجمع لك الحواريين فبثهم في الأرض دعاة إلى الله عز وجل ، فأهبطه الله تعالى إليها فاشتعل حين أهبط نور فجمعت له
252
الحواريين ، فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه الله تعالى إليه وتلك الليلة هي التي تدخن فيها النصارى ، فلما أصبح الحواريون تحدث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى عليه الصلاة والسلام إليهم.
وروي أنّ الله تعالى أرسل إليه سحابة فرفعته فتعلقت به أمه وبكت فقال لها : إنّ القيامة تجمعنا وكان ذلك ليلة القدر ببيت المقدس وله ثلاث وثلاثون سنة ، وقالت أهل التواريخ : حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشر سنة وولدته لمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل ، فأوحى الله تعالى إليه على رأس ثلاثين سنة ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وكانت نبوّته ثلاث سنين وعاشت أمّه بعد رفعه ست سنين وقوله تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 251
إذ قال الله} ظرف لخير الماكرين أو لمكر الله أو لمضمر مثل اذكر {يا عيسى إني متوفيك} أي : مستوفي أجلك ومعناه إني عاصمك من أن يقتلك الكافر ومؤخرك إلى أجل كتبته لك ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم أو قابضك من الأرض. من توفيت مالي أي : قبضته أو متوفيك نائماً كما قال تعالى : {وهو الذي يتوفاكم بالليل} (الأنعام ، 60) أي : يميتكم ، إذ روي أنه رفع نائماً أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت {ورافعك إليّ} أي : إلى محل كرامتي ومقرّ ملائكتي ، إذ روي أنّ الله تعالى رفعه وكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش وكان إنسياً سماوياً أرضياً ، وقال محمد بن إسحاق : النصارى يزعمون أن الله تعالى توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه. وقال الضحاك : إنّ في الآية تقديماً وتأخيراً معناه إني رافعك إليّ {ومطهرك من الذين كفروا} أي : مخرجك من بينهم ومنجيك منهم ومتوفيك بعد إنزالك من السماء.
روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد".(1/180)
وروى الشيخان حديث : "أنه ينزل قرب الساعة ويحكم بشريعة نبينا ويقتل الدجال والخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية" وفي حديث مسلم أنه يمكث سبع سنين ، وفي حديث عند أبي داود والطيالسي "أربعين سنة" ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ، فيحمل على أنّ مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده أربعون ، وقيل للحسين بن الفضل : هل تجد نزول عيسى في القرآن ؟
قال : نعم قوله تعالى : {ويكلم الناس في المهد وكهلاً} (آل عمران ، 46) وهو لم يتكهل في الدنيا وإنما معناه كهلاً بعد نزوله من السماء انتهى. وهذا إنما يأتي على القول بأنه رفع شاباً ، وأما على القول بأنه رفع بعد ثلاث وثلاثين فلا دليل فيه إذ الكهولة من الثلاثين إلى الأربعين {وجاعل الذين اتبعوك} أي : صدقوا بنبوّتك من النصارى ومن المسلمين ؛ لأنه متبعوه في أصل الإسلام ، وإن اختلفت الشرائع {فوق الذين كفروا} بك من اليهود والنصارى أي : يغلبونهم بالحجة
253
والسيف {إلى يوم القيامة} وقيل : المراد بالذين اتبعوه النصارى وبالذين كفروا اليهود إذ لم نسمع غلبة اليهود عليهم ولم يتفق لهم ملك ودولة وملك النصارى قائم إلى قريب من قيام الساعة وعلى هذا يكون الإتباع بمعنى الإدعاء في المحبة لا اتباع الدين {ثم إليّ مرجعكم} الضمير لعيسى ومن آمن معه ومن كفر به وغلب المخاطب على الغائبين {فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون} من أمر الدين ثم بين الحكم بقوله :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 251
فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا} بالقتل والسبي والجزية والذلة {و} أعذبهم في {الآخرة} بالنار.
فإن قيل : الحكم مرتب على الرجوع إلى الله تعالى وذلك في القيامة فكيف يصح في تبيينه العذاب في الدنيا ؟
أجيب : بأنّ المقصود التأييد من غير نظر إلى الدنيا والآخرة كما في قوله : خالدين فيها ما دامت السموات والأرض {وما لهم من ناصرين} أي : مانعين منه.
{وأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فنوفيهم أجورهم} أي : أجور أعمالهم ، وقرأ حفص بالياء ، والباقون بالنون {وا لا يحب الظالمين} أي : لا يرحم الكافرين ولا يثني عليهم بالجميل وقوله تعالى :
{ذلك} إشارة إلى ما سبق من خبر عيسى ومريم وامرأة عمران وهو مبتدأ خبره {نتلوه} أي : نقصه {عليك} يا محمد وقوله تعالى : {من الآيات} خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف أو حال من الهاء {والذكر الحكيم} أي : القرآن وصف بصفة من هو سببه أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه. وقيل : هو اللوح المحفوظ وهو معلق بالعرش من درة بيضاء. ولما قال وفد نجران للرسول صلى الله عليه وسلم مالك سببت صاحبنا ؟
قال : وما أقول ؟
قالوا : تقول إنه عبد قال : أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول فغضبوا وقالوا : هل رأيت إنساناً قط من غير أب ، نزل.
{إنّ مثل عيسى} أي : شأنه وحالته الغريبة {عند الله كمثل آدم} أي : كشأنه في خلقه من غير أب وقوله تعالى : {خلقه} أي : آدم {من تراب} جملة مفسرة لما له شبه عيسى بآدم أي : خلق آدم من تراب ولم يكن ثم أب ولا أم فكذلك حال عيسى.
فإن قيل : كيف شبه به وقد وجد هو من غير أب وآدم بغير أب وأم ؟
أجيب : بأنّ مثله في أحد الطرفين ولا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيه به ؛ لأنّ المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف ، ولأنه شبه به في أنه وجد وجوداً خارجاً عن العادة المستمرة وهما في ذلك نظيران ، ولأنّ الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود من غير أب ، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه. وعن بعض العلماء أنه أسر بالروم فقال لهم : لم تعبدون عيسى ؟
قالوا : لأنه لا أب له قال : فآدم أولى ؛ لأنه لا أبوين له قالوا : كان يحيي الموتى قال فخر قيل أولى ؛ لأنّ عيسى أحيا أربعة أنفس ؟
قيل ثمانية آلاف فقالوا : كان يبرىء الأكمه والأبرص قال : فجرجيس أولى ؛ لأنه طبخ وأحرق ثم قام سالماً. ومعنى خلق آدم من تراب أي : صوّر جسده من تراب {ثم قال له كن} أي : أنشأه بشراً بأن نفخ فيه الروح كقوله تعالى : {ثم أنشأناه خلقاً آخر} (المؤمنون ، 14) وقوله تعالى : {فيكون} حكاية حال ماضية أي : فكان وكذلك عيسى قال له : كن من غير أب فكان ويجوز أن تكون ثم لتراخي الخبر لا
254
لتراخي المخبر عنه وقوله تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 251
الحق من ربك} خبر مبتدأ محذوف أي : أمر عيسى وقوله تعالى : {فلا تكن من الممترين} أي : الشاكين خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد غيره فحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ممترياً.(1/181)
{فمن حاجك} أي : جادلك من النصارى {فيه} أي : عيسى {من بعد ما جاءك من العلم} أي : من البينات الموجبة للعلم بأنّ عيسى عبد الله ورسوله {فقل} لهم {تعالوا} أي : هلموا بالرأي والعزم {ندع} جزم في جواب الأمر وعلامة جزمه سقوط الواو {أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم} أي : ليدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله وإنما قدّمهم على النفس ؛ لأنّ الرجل يخاطر بنفسه لأجلهم ويحارب دونهم فنجمعهم {ثم نبتهل} أي : نتضرع في الدعاء ونبالغ فيه {فنجعل لعنت الله على الكاذبين} بأن نقول : اللهم إلعن الكاذب بأمر عيسى ، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى نرجع وننظر في أمرنا ثم نأتيك غداً ، فخلا بعضهم ببعض وقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ما ترى ؟
فقال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمداً نبيّ مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم والله ما بأهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لنهلكنّ ، فإن أبيتم إلا الإقامة على دينكم وعلى ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضناً للحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفها رضي الله عنها وهو صلى الله عليه وسلم يقول لهم : "إذا أنا دعوت فأمنوا" فقال أسقف نجران ـ وهو اسم سرياني لرئيس النصارى وعاملهم وهو غير العاقب : يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ، فقالوا : يا أبا القاسم رأيت أن لا نباهلك وأن نقرّك على دينك ونثبت على ديننا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم" فأبوا فقال : "إني أنابذكم" فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تحنفنا ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ألف في صفر وألف في رجب تؤديها للمسلمين وعارية ثلاثين درعاً وثلاثين فرساً وثلاثين بعيراً وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها ، والمسلمون ضامنون لها حتى يؤدّوها ، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال : "والذي نفسي بيده إنّ العذاب تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ولاستأصل الله تعالى نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر" ولما حال الحول على النصارى حتى هلكوا كلهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 251
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله ثم فاطمة ثم علي ثم قال : {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت}" (الأحزاب ، 33) ، وفي ذلك دليل على نبوّته صلى الله عليه وسلم وعلى فضل أهل الكساء رضي الله تعالى عنهم وعن بقية الصحابة أجمعين.
فائدة : رسمت لعنة هنا بالتاء المجرورة ، ووقف ابن كثير وأبو عمرو والكسائي عليها بالهاء ، والباقون بالتاء.
255
جزء : 1 رقم الصفحة : 251
{إن هذا} أي : الذي قص عليك من نبأ عيسى {لهو القصص} أي : الخبر {الحق} الذي لا شك فيه ، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء من لهو والباقون بالرفع حيث جاء وهو إما فصل بين اسم إن وخبرها وإمّا مبتدأ والقصص الحق خبره والجملة خبران.
فإن قيل : لم جاز دخول اللام على الفصل ؟
أجيب : بأنه إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أولى ؛ لأنه أقرب إلى المبتدأ وأصلها أن تدخل على المبتدأ {وما من إله إلا الله} إنما صرح فيه بمن المزيدة للإستغراق تأكيداً للردّ على النصارى في تثليثهم {وإن الله لهو العزيز} في ملكه {الحكيم} في صنعه فلا أحد يساويه في القدرة التامة والحكمة البالغة فلا يشاركه في الألوهية.
{فإن تولوا} أي : أعرضوا عن الإيمان {فإنّ الله عليم بالمفسدين} فيجازيهم وفيه وضع الظاهر موضع المضمر ليدل على أنّ التولي عن الحجج والإعراض عن التوحيد إفساد للدين والإعتقاد المؤدّي إلى فساد النفس بل وإلى فساد العالم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 256
ولما قدم وفد نجران المدينة والتقوا مع اليهود واختصموا في إبراهيم صلى الله عليه وسلم فزعمت النصارى أنه كان نصرانياً وهم على دينه وأولى الناس به ، وقالت اليهود : بل كان يهودياً وهم على دينه وأولى الناس به ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم "كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه بل كان إبراهيم حنيفاً مسلماً وأنا على دينه فاتبعوا دينه الإسلام" فقالت اليهود : يا محمد ما تريد إلا أن نتخذك رباً كما اتخذت
256(1/182)
النصارى عيسى ، وقالت النصارى : يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير ، نزل.
{قل يا أهل الكتاب} وهو يعم أهل الكتابين وهم اليهود والنصارى {تعالوا إلى كلمة} العرب تسمي كل قصة لها شرح كلمة ومنها سميت القصيدة كلمة ، وقوله تعالى : {سواء} مصدر بمعنى مستو أمرها لا تختلف فيها الرسل والكتب {بيننا وبينكم} هو نعت الكلمة ؛ لأنّ المصادر لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث ، فإذا فتحت السين مدّت وإذا كسرت أو ضمت قصرت كقوله تعالى : {مكاناً سوى} (طه ، 58) ثم فسر الكلمة بقوله : {أن لا نعبد إلا الله} أي : نوحده بالعبادة ونخلص له فيها {ولا نشرك به شيئاً} أي : ولا نجعل غيره شريكاً له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلاً ؛ لأن يعبد {ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله} أي : ولا نقول عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل ، لأنهم بشر مثلنا.
روى الترمذي لما نزل قوله تعالى : {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} قال عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله قال : "أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم ؟
قال : نعم قال : هو ذلك" أي : أخذكم بقولهم {فإن تولوا} أي : أعرضوا عن التوحيد {فقولوا} أنتم لهم {اشهدوا بأنا مسلمون} أي : موحدون دونكم فقد لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا بذلك ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو نحو ذلك : اعترف بأني الغالب وسلم لي الغلبة.
قال البيضاوي : تنبيه : انظر ما راعى أي : الله سبحانه وتعالى في هذه القصة من المبالغة والإرشاد وحسن التدرج في الحجاج أولاً لأحوال عيسى وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للإلهية ، ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح أي : يزيل شبهتهم ، فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز ثم لما أعرضوا عنها وانقادوا بعض الإنقياد عاد إليهم بالإرشاد وسلك طريقاً أسهل وألزم بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى والإنجيل وسائر الأنبياء والكتب ثم لما لم يجد أي : ينفع ذلك أيضاً عليهم وعلم أن الآيات والنذر لا تغني عنهم أعرض عن ذلك ، وقال : اشهدوا بأنا مسلمون.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 256
يا أهل الكتاب} وقد مرّ أنه يعم أهل الكتابين اليهود والنصارى {لم تحاجون} أي : تخاصمون {في إبراهيم} بزعمكم أنه على دينكم {وما أنزلت التوراة} على موسى {والإنجيل} على عيسى {إلا من بعده} أي : بزمن طويل إذ كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة وبين موسى وعيسى ألفا سنة وبعد نزول التوراة حدثت اليهودية وبعد نزول الإنجيل حدثت النصرانية {أفلا تعقلون} بطلان قولكم حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال.
{ها أنتم} يا {هؤلاء} ها للتنبيه وأنتم مبتدأ خبره {حاججتم} أي : جادلتم {فيما لكم به علم} من أمر موسى وعيسى وزعمتم أنكم على دينهما {فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} من شأن إبراهيم وليس له ذكر في كتابكم {وا يعلم} ما حاججتم فيه {وأنتم لا تعلمون} أي : جاهلون به.
257
ثم قال تعالى تبرئة لإبراهيم :
{ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً} أي : مائلاً عن الأديان كلها إلى الدين القيّم {مسلماً} أي : موحداً منقاداً لله تعالى وليس المراد أنه كان على دين الإسلام وإلا لاشترك الإلزام ؛ لأنهم يقولون : ملة الإسلام حدثت بعد نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وكان إبراهيم قبله بمدّة طويلة فكيف يكون على ملة الإسلام الحادثة بنزول القرآن ، فعلم أن المراد يكون إبراهيم مسلماً أنه كان على ملة التوحيد لا على هذه الملة {وما كان من المشركين} كما لم يكن منكم أو أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم عزيراً والمسيح.
{إنّ أولى الناس} أي : أحقهم {بإبراهيم} من أمّته {للذين اتبعوه} من أمّته {وهذا النبيّ والذين آمنوا وا وليّ المؤمنين} أي : ناصرهم وحافظهم ولما دعا اليهود معاذاً وحذيفة وعماراً إلى دينهم نزل.
{ودّت} أي : تمنت {طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم} عن دينكم ويردّونكم إلى الكفر {وما يضلون إلا أنفسهم} أي : أمثالهم أو إن أثم إضلالهم عليهم والمؤمنون لا يطيعونهم فيه {وما يشعرون} بذلك.
{يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله} بما نطقت به التوراة والإنجيل ودلت على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم {وأنتم تشهدون} أنها آيات الله عز وجل أو بالقرآن العزيز وأنتم تشهدون نعته في الكتابين أو تعلمون بالمعجزات أنه حق.
جزء : 1 رقم الصفحة : 256
{يأهل الكتاب لم تلبسون الحق} أي : القرآن المشتمل على نعت محمد صلى الله عليه وسلم {بالباطل} أي : بالتحريف والتزوير {وتكتمون الحق} أي : نعت محمد صلى الله عليه وسلم {وأنتم تعلمون} أنه حق.(1/183)
{وقالت طائفة من أهل الكتاب} أي : اليهود قالوا لجماعة منهم {آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا} أي : القرآن أي : أظهروا الإيمان به {وجه النهار} أي : أوّله وإنما سمي أوّله وجهاً لأنه أحسنه ولأنه أوّل ما يرى بعد الليل {واكفروا} به {آخره لعلهم} أي : المؤمنين {يرجعون} عن دينهم إذا رأوكم رجعتم واختلف في هذه الطائفة ، فقال الحسن والسديّ : هي اثنا عشر من يهود خيبر وقيل : قريظة تواطؤوا ، وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد أوّل النهار وقولوا : إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمداً ليس بذلك فظهر لنا كذبه ، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينه واتهموه وقالوا : إنهم أهل كتاب وهم أعلم به منا فيرجعون عن دينهم. وقال مجاهد ومقاتل والكلبيّ : هم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف قالا لأصحابهما لما تحوّلت القبلة وشق ذلك على اليهود آمنوا بالذي أنزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا إليها أوّل النهار ثم اكفروا وارجعوا إلى قبلتكم آخر النهار وصلوا إلى الصخرة لعلهم يقولون هؤلاء أهل كتاب وهم أعلم فيرجعون إلى قبلتنا.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 258
ولا تؤمنوا إلا لمن تبع} أي : وافق {دينكم} أي : ولا تقرّوا عن تصديق قلب إلا لأهل دينكم أو لا تظهروا إيمانكم وجه النهار إلا لمن كان على دينكم فإن رجوعهم أولى وأهمّ فأطلع الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على سرّهم.
تنبيه : قال البغويّ : اللام في لمن صلة أي : لا تصدقوا إلا من تبع دينكم اليهودية كقوله تعالى : {عسى أن يكون ردفاً لكم} (النمل ، 72) أي : ردفكم {قل} يا محمد {إنّ الهدى هدى الله} الذي هو الإسلام وما عداه ضلال وقوله تعالى : {أن يؤتى} بمعنى الجحد أي : ما يؤتى {أحد مثل ما أوتيتم} يا أمّة محمد {أو يحاجوكم} أي : إلا أن يجادلكم اليهود بالباطل فيقولوا : نحن
258
أفضل منكم وقوله تعالى : {عند ربكم} أي : عند فعل ربكم بكم ذلك ، وهذا معنى قول سعيد بن جبير والكلبيّ ومقاتل والحسن وهو حسن ، وقال الفرّاء : ويجوز أن تكون أو بمعنى حتى كما يقال تعلق به أو يعطيك حقك أي : حتى يعطيك حقك ويكون معنى الآية ما أعطى أحد مثل ما أعطيتم يا أمّة محمد من الدين والحجة حتى يحاجوكم عند ربكم أي يوم القيامة.
وقال مجاهد قوله : {قل إن الهدى هدى الله} كلام معترض بين كلامين وما بعد متصل بالكلام الأوّل إخبار عن قول اليهود بعضهم لبعض أي : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والحكمة والكتاب والآيات من المنّ والسلوى وفلق البحر وغيرها من الكرامات ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم لأنكم أصح ديناً منهم ، وقرأ ابن كثير وحده بهمزة واحدة ، وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون هدى الله بدلاً من الهدى وأن يؤتى أحد خبر أن على معنى قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم حتى يحاجوكم عند ربكم فيقرعوا باطلكم بحقهم ويدحضوا حجتكم ، قال : ويجوز أن ينتصب أن يؤتى بفعل مضمر يدل عليه قوله : {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} كأنه قيل : قل إنّ الهدى هدى الله فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم لأنّ قولهم : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم إنكار ، لأن يؤتى أحد مثل ما أوتوا قال تعالى : {قل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء} من عباده {وا واسع} أي : كثير الفضل {عليم} بمن هو أهله {يختص برحمته} أو نبوّته {من يشاء وا ذو الفضل العظيم} ففي ذلك ردّ وإبطال لما زعموه بالحجة الواضحة.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 258(1/184)
ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار} أي : بمال كثير {يؤدّه إليك} كعبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية ذهباً فأدّاه إليه {ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك} كفنحاص بن عازوراء استودعه رجل آخر من قريش ديناراً فجحده {إلا ما دمت عليه قائماً} أي : إلا إن أودعته واسترجعته منه وأنت قائم على رأسه لم تفارقه ردّه إليك وإن فارقته وأخرته نكل ولم يردّه ، وقيل : المأمون على الكثير النصارى لغلبة الأمانة عليهم ، والخائنون في القليل اليهود لغلبة الخيانة عليهم ، وقرأ حمزة وأبو عمرو وشعبة يؤدّه ولا يؤدّه إليك بإسكان الهاء فهو وصل بنية الوقف فهو سكون وقف بالنية لا بالفعل وقالون باختلاس حركة الهاء ، وحفص والكسائي بالحركة الكاملة والألف في قنطار ودينار بالإمالة لأبي عمرو والدوري عن الكسائي وورش بينَ بين والباقون بالفتح {ذلك} أي : ترك الأداء المدلول عليه بقوله تعالى لا يؤدّه {بأنهم قالوا} أي : بسبب قولهم {ليس علينا في الأمّيين} أي : العرب {سبيل} أي : إثم لاستحلالهم ظلم من خالفهم ونسبوا ذلك إلى الله تعالى قالوا : لن يجعل الله لهم في التوراة حرمة فكذبهم الله عز وجل بقوله عز من قائل {ويقولون على الله الكذب} أي : في نسبة ذلك إليه {وهم يعلمون} أنهم كاذبون وقال الحسن وابن جريج ومقاتل : بايع اليهود رجلاً من المسلمين في الجاهلية ، فلما أسلموا تقاضوهم بقية أموالهم فقالوا : ليس لكم علينا حق ولا عندنا قضاء ؛ لأنكم تركتم دينكم وانقطع العهد بيننا وبينكم وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم ، فكذبهم الله تعالى في ذلك.
روى الطبراني وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه "كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي" أي : منسوخ متروك إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر أي : والديون من
259
الأمانة ؛ لأنّ المراد من الأمانة الرضا بالذمّة وقوله تعالى :
{بلى} إثبات لما نفوه أي : بلى على اليهود في الأمّيين سبيل ثم ابتدأ فقال : {من أوفى بعهده} أي : ولكن من أوفى بعهد الله الذي عهد إليه في التوراة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وأداء الأمانة {واتقى} الله بترك المعاصي وفعل الطاعات {فإن الله يحب المتقين} فيه وضع الظاهر موضع المضمر أي : يحبهم بمعنى يثيبهم.
فإن قيل : فأين الضمير الراجع من الخبر إلى من ؟
أجيب : بأنّ عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير.
ونزل في أحبار من اليهود حرفوا التوراة وبدلوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم وحكم الأمانة وغيرهما وأخذوا على ذلك رشوة.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 258
إن الذين يشترون} أي : يستبدلون {بعهد الله} إليهم في الإيمان للنبيّ صلى الله عليه وسلم والوفاء بأداء الأمانة {وإيمانهم} أي : حلفهم به تعالى كاذباً من قولهم : والله لنؤمننّ ولننصرنه {ثمناً قليلاً} من الدنيا {أولئك لا خلاق} أي : لا نصيب {لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله} أي : بما يسرّهم أو بشيء أصلاً وأنّ الملائكة يسألونهم يوم القيامة {ولا ينظر إليهم} أي : ولا يرحمهم {يوم القيامة ولا يزكيهم} أي : ولا يثني عليهم بالجميل ولا يطهرهم من الذنوب {ولهم عذاب أليم} أي : مؤلم وقيل : نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد اشتراها بما لم يشترها به وقيل : نزلت في جماعة من اليهود جاؤوا إلى كعب بن الأشرف في سنة أصابتهم ممتارين فقال لهم : أتعلمون أنّ هذا الرجل رسول الله قالوا : نعم قال : لقد هممت أن أميركم وأكسوكم فحرمكم الله خيراً كثيراً فقالوا : لعله اشتبه علينا فرويداً حتى نلقاه فانطلقوا فكتبوا صفة غير صفته ثم رجعوا إليه وقالوا : لقد غلطنا وليس هو بالنعت الذي نعت لنا ففرح ومارهم ، وعن الأشعث بن قيس : "نزلت فيّ كان بيني وبين رجل خصومة في بئر وأرض ، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : شاهداك أو يمينه فقلت : إذا يحلف ولا يبالي فقال : من حلف على يمين يستحق بها مالاً هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك هذه الآية".
وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" قال : فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرّات فقال أبو ذر : خابوا وخسروا من هم يا رسول الله ؟
قال : "المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" وفي رواية المسبل إزاره ، وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم رجل حلف على يمين على مال مسلم فاقتطعه ، ورجل حلف يميناً بعد صلاة العصر أنه أعطى بسلعته أكثر مما أعطى وهو كاذب ورجل منع فضل ماء ، فإنّ الله تعالى يقول : "اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك".
جزء : 1 رقم الصفحة : 258
260(1/185)
أي : أهل الكتاب {لفريقاً} أي : طائفة ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب {يلوون ألسنتهم بالكتاب} أي : يقتلونها بقراءته عن المنزل إلى ما حرفوه من نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغير ذلك يقال : لوى لسانه عن كذا أي : غيره {لتحسبوه} أي : المحرف المدلول عليه بقوله تعالى : {يلوون} {من الكتاب}الذي أنزل الله {وما هو من الكتاب} قرأ ابن عامر وعاصم بفتح السين والباقون بكسرها ، وقوله تعالى : {ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله} تأكيد لقوله {وما هو من الكتاب} وزيادة تشنيع عليهم به وبيان لأنهم يزعمون ذلك تصريحاً لا تعريضاً أي : ليس هو نازلاً من عنده.
فإن قيل : نفى الله تعالى كون التحريف من عنده وهو فعل العبد فلا يكون فعل العبد مخلوقاً لله تعالى وإلا لما صح نفيه عنه تعالى أجيب : بأنّ المنفي هو الإنزال كما تقرّر ولا كون التحريف غير مخلوق لله تعالى بكسب العبد وقوله تعالى : {ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} تأكيد أيضاً وتسجيل عليهم بالكذب والتعمد فيه واختلف في سبب نزول قوله تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 260
ما كان} أي : ما ينبغي {لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم} أي : الفهم للشريعة {والنبوّة} أي : المنزلة الرفيعة بالإنباء {ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله} فقال مقاتل والضحاك : نزلت في نصارى نجران كانوا يقولون : إن عيسى أمرهم أن يتخذوه رباً فقال تعالى : {ما كان لبشر} أي : عيسى {أن يؤتيه الله الكتاب} أي : الإنجيل ، وقال ابن عباس وعطاء : ما كان لبشر أي : محمد أن يؤتيه الله الكتاب أي : القرآن وذلك "أن أبا رافع القرظي من اليهود والسيد من نصارى نجران قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتريد أن نعبدك ونتخذك رباً ؟
فقال : "معاذ الله أن نأمر بعبادة غير الله ما بذلك بعثني الله ولا بذلك أمرني" فنزلت.
261
وقيل : "قال رجل : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك ؟
قال : "ما ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله" والبشر جميع بني آدم لا واحد له من لفظه كالقوم ويوضع موضع الجمع والواحد {ولكن} يقول : {كونوا ربانيين} أي : علماء عاملين منسوب إلى الرب بزيادة ألف ونون تفخيماً كما يقال رقباني ولحياني وهو الشديد التمسك بدين الله تعالى وطاعته ، وقيل : الرباني هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ، وقيل : الربانيون فوق الأحبار والأحبار العلماء والربانيون الذين جمعوا مع العلم البصارة لسياسة الناس. وعن الحسن : ربانيين علماء فقهاء ، وحكي عن عليّ رضي الله تعالى عنه أنه قال : هو الذي يربي علمه بعمله. وقال محمد بن الحنفية : يوم مات ابن عباس رضي الله تعالى عنهم : اليوم مات رباني هذه الأمّة {بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} أي : بسبب كونكم تعلمون الكتاب وبسبب كونكم دارسين له ، فإنّ فائدة التعليم والتعلم معرفة الحق والخير للاعتقاد والعمل فيكتفي بذلك دليلاً على خيبة سعي من جهد نفسه وكدّ روحه في جميع العلم ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل ، فكان مثله كمثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها ويجوز أن يكون معناه : تدرسونه على الناس كقوله تعالى : {لتقرأه على الناس} وفيه أنّ من علم ودرس العلم ولم يعمل ، فليس من الله في شيء وأنّ السبب بينه وبين الله تعالى منقطع حيث لم يثبت النسبة إليه إلا للمتمسكين بطاعته. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح التاء وسكون العين وفتح اللام مخففة ، والباقون بضمّ التاء وفتح العين وكسر اللام مشدّدة.
{ولا يأمركم} قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بنصب الراء عطفاً على يقول أي : البشرط والباقون برفع الراء على أنه استئناف أي : الله {أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً} كما اتخذت الصابئة الملائكة واليهود عزيراً والنصارى عيسى وقوله تعالى : {أيأمركم بالكفر} إنكار والضمير فيه للبشر أو لله على الوجهين السابقين وقوله تعالى : {بعد إذ أنتم مسلمون} دليل على أنّ الخطاب للمسلمين وهم المستأذنون على أن يسجدوا له.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 260
و} اذكر {إذ} أي : حين {أخذ الله ميثاق النبيين} أي : عهدهم {لما آتيتكم من كتاب وحكمة}.(1/186)
قرأ حمزة والكسائي بكسر اللام من لما فتكون متعلقة بأخذ ، والباقون بالفتح على الإبتداء وتوكيد معنى القسم الذي في أخذ الميثاق ، وما موصولة على الوجهين أي : للذي آتيتكموه لتؤمننّ به ، وقرأ نافع : آتيناكم بالنون مفتوحة بعد الياء بعدها ألف ، والباقون بتاء مضمومة {ثم جاءكم} تقدّم أنّ حمزة وابن ذكوان يميلان الألف محضة ، والباقون بالفتح {رسول مصدّق لما معكم} من الكتاب والحكمة وهو محمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى : {لتؤمننّ به ولتنصرنه} جواب القسم أي : إن أدركتموه وأممهم تبع لهم في ذلك. وقيل : المراد أولاد النبيين على حذف المضاف وهم بنو إسرائيل أو سماهم نبيين تهكماً لأنهم كانوا يقولون : نحن أولى بالنبوّة من محمد ؛ لأنا أهل كتاب والنبيون كانوا منا {قال} الله تعالى لهم : {أأقررتم} بذلك قرأ قالون وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية وألف بينها وبين الهمزة الأولى وابن كثير كذلك إلا أنه لا يدخل ألفاً بينهما ، ولورش
262
وجهان : أحدهما كابن كثير والثاني أنه يبدل الثانية حرف مدّ ولهشام في الهمزة التحقيق والتسهيل مع دخول ألف بينهما ، والباقون بتحقيق الهمزتين من غير دخول ألف بينهما {وأخذتم} أي : قبلتم تقدّم أن ابن كثير وحفصاً يظهران الذال المعجمة عند التاء من أخذتم والباقون بالإدغام {على ذلكم إصري} أي : عهدي سمي به ؛ لأنه مما يؤصر أي : يشدّ ويعقد ومنه الآصار الذي يعقد به {قالوا أقررنا قال فاشهدوا} على أنفسكم وأتباعكم بذلك {وأنا معكم من الشاهدين} عليكم وعليهم وهو توكيد وتحذير عظيم من الرجوع إذا علموا بشهادة الله وشهادة بعضهم على بعض ، وقيل : الخطاب للملائكة.
{فمن تولى} أي : أعرض {بعد ذلك} أي : الميثاق والتوكيد بالإقرار والشهادة {فأولئك الفاسقون} أي : المتمرّدون من الكفرة.
روي "أن أهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكل واحد من الفريقين ادّعى أنه أولى به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم" فقالوا : ما نرضى بقضائك ولا نأخذ دينك فنزل.
{أفغير دين الله يبغون}" وهذه الجملة معطوفة على الجملة المتقدّمة وهي {فأولئك هم الفاسقون} والهمزة متوسطة بينهما للإنكار ويجوز أن تعطف على محذوف تقديره أيتولون فغير دين الله يبغون وقدم المفعول الذي هو غير دين الله على فعله ؛ لأنه أهمّ من حيث أن الإنكار الذي معنى الهمزة متوجه إلى المعبود الباطل ، وقرأ أبو عمرو وحفص بالياء على الغيبة ، والباقون بالتاء على الخطاب على تقدير وقل لهم : {وله} سبحانه وتعالى : {أسلم} أي : خضع وانقاد {من في السموات والأرض طوعاً} أي : بالنظر في الأدلة واتباع الحجة والإنصاف من نفسه {وكرهاً} بالسيف ومعاينة ما يلجىء إلى الإسلام كنتق الجبل على بني إسرائيل وإدراك الغرق فرعون وقومه والإشراف على الموت لقوله تعالى : {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا با وحده} (غافر ، 84) وقال الحسن : أسلم أهل السموات طوعاً وأهل الأرض بعضهم طوعاً وبعضهم كرهاً خوفاً من السيف والسبي وقيل : هذا يوم الميثاق حين قال : {ألست بربكم ؟
قالوا : بلى} (الأعراف ، 172) فقال بعضهم طوعاً وبعضهم كرهاً قال قتادة : المسلم أسلم طوعاً فنفعه ، والكافر كرهاً في وقت البأس فلم ينفعه قال تعالى : {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} (غافر ، 15) وانتصب طوعاً وكرهاً على الحال بمعنى الطائعين ومكروهين {وإليه ترجعون} قرأ حفص بالياء على الغيبة ، والباقون بالتاء على الخطاب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 260
{قل} لهم يا محمد {آمنا با وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط} أي : أولاده {وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم} بالتصديق والتكذيب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبر عن نفسه وعمن تبعه بالإيمان ، فلذلك وحد الضمير في قل وجمعه في آمنا وعلينا ؛ لأن القرآن كما هو منزل عليه منزل على متابعيه بتوسط تبليغه إليهم أو بأن يتكلم عن نفسه بالجمع على طريقة الملوك إجلالاً له.
فإن قيل : لم عدي أنزل في هذه الآية بعلى وفيما تقدّم من مثلها في سورة البقرة بإلى ؟
أجيب : بأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل فعدي تارة بإلى ؛ لأنه ينتهي إلى الرسل وتارة بعلى ؛ لأنه من فوق وما قيل : من أنه إنما خص ما هنا بعلى وما هناك بإلى ؛ لأن ما هنا خطاب
263
للنبيّ وكان واصلاً إليه من الملأ الأعلى بلا واسطة بشرية فناسب الإتيان بعلى المختصة بالعلوّ ، وما هناك خطاب للأمّة وقد وصل إليهم بواسطة النبيّ الذي هو من البشر فناسب الإتيان بإلى المختصة بالإتصال. قال الزمخشري : فيه تعسف ألا ترى إلى قوله : {بما أنزل إليك} و{أنزلنا إليك الكتاب} (النساء ، 105) وإلى قوله تعالى : {آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا} (آل عمران ، 72) .
جزء : 1 رقم الصفحة : 263(1/187)
فإن قيل : لم قدم المنزل عليه على المنزل على سائر الرسل ؟
أجيب : بأنه إنما قدم ؛ لأن المنزل عليه هو المعرّف للمنزل على سائر الرسل ، ولأنه أفضل الكتب المنزلة {ونحن له مسلمون} أي : موحدون مخلصون له في العبادة لا نجعل له شريكاً فيها. ونزل فيمن ارتدّ ولحق بالكفار وهم اثنا عشر رجلاً ارتدّوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفاراً منهم الحارث بن سويد الأنصاري.
{ومن يبتغ غير الإسلام ديناً} أي : غير التوحيد والإنقياد لحكم الله فهو مشتمل على الإيمان بهذا التقدير وديناً تمييز مبين للإسلام والدين يشتمل على التصديق والأعمال الصالحة فالإسلام كذلك ؛ لأنّ المبين لا يخالف المبين وعلى هذا حمل الإسلام على الدين في قوله تعالى : {إنّ الدين عند الله الإسلام} (آل عمران ، 199) والدين هو الوضع الإلهي السائق لكل خير {فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} لمصيره إلى النار المؤبدة عليه وقوله تعالى :
{كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم} لفظه استفهام ومعناه جحد أي : لا يهديهم الله لما علم من تصميمهم على كفرهم بأنهم كفروا بعد إيمانهم {و} بعدما {شهدوا أن الرسول حق و} قد {جاءهم البينات} أي : الحجج الظاهرة على صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم {وا لا يهدي القوم الظالمين} أي : الكافرين.
{أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} والمراد بالناس المؤمنون أو العموم ، فإن الكافر يلعن منكر الحق والمرتد عنه ولكن لا يعرف الحق بعينه.
تنبيه : دلت هذه الآية بمنطوقها على جواز لعن القوم المذكورين وبمفهومها على نفي جواز لعن غيرهم من الكفار الذين لم يكفروا بعد إيمانهم. قال البيضاوي : ولعلّ الفرق أنهم أي : هؤلاء مطبوعون على الكفر ممنوعون عن الهدي مايوسون عن الرحمة بخلاف غيرهم أي : فلا يلعن الكافر الأصلي المعين حياً ولا ميتاً ما لا يعلم موته على الكفر ، وكالأصلي المرتدّ وأمّا لعن الكافر على العموم فيجوز.
{خالدين فيها} أي : اللعنة أو النار أو العقوبة المدلول باللعنة عليها {لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون} أي : يمهلون.
{إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} عملهم تصديقاً لتوبتهم {فإنّ الله غفور} لهم يقبل توبتهم {رحيم} بهم يتفضل عليهم وذلك "أنّ الحرث بن سويد لما ارتدّ ولحق بالكفار ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة ، فأرسل إليه أخوه الجلاس بالآية فأقبل إلى المدينة فتاب وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم توبته".
جزء : 1 رقم الصفحة : 263
ونزل في اليهود.
{إنّ الذين كفروا} بعيسى والإنجيل {بعد إيمانهم} بموسى والتوراة {ثم ازدادوا كفراً} بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وقيل : كفروا بمحمد بعدما آمنوا به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بالإصرار والعناد والطعن فيه والصدّ عن الإيمان ونقض الميثاق {لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون} أي : الثابتون على الضلال.
فإن قيل : قد وعد الله تعالى قبول توبة من تاب فما معنى قوله تعالى : {لن تقبل توبتهم} ؟
أجيب : بأنّ محل القبول إذا كان قبل الغرغرة وهؤلاء توبتهم كانت بعدها وإنهم لم يتوبوا أصلاً فكنى عن عدم توبتهم بعدم قبولها أو أنّ توبتهم لا تكون إلا نفاقاً.
{إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء} أي : مقدار ما يملؤها من {الأرض} شرقها إلى غربها {ذهباً} تغليظاً في شأنهم وإبراز حالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة.
فإن قيل : لم قال في الآية الأولى لن تقبل بغير فاء وفي هذه بقوله : فلن يقبل بالفاء أجيب : بأن الفاء إنما دخلت في خبر إن لشبه الذين بالشرط وإيذاناً بتسبب امتناع الفدية على الموت على الكفر بخلافه في الآية الأولى لا دليل فيه على السبب كما تقول : الذي جاءني له درهم لم تجعل المجيء سبباً لاستحقاق الدرهم بخلاف قولك : فله درهم ونصب ذهباً على التمييز كقولهم : عشرون درهماً وقوله تعالى : {ولو افتدى به} محمول على المعنى كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً أو معطوف على مضمر تقديره فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً لو تقرّب به في الدنيا ولو افتدى به من العذاب في الآخرة ، ويجوز أن يراد ولو افتدى بمثله كقوله تعالى : {ولو أنّ للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه} والمثل يحذف كثيراً في كلامهم كقوله : ضربته ضرب زيد وأبو يوسف أبو حنيفة تريد مثله {أولئك لهم عذاب أليم} أي : مؤلم {وما لهم من ناصرين} أي : مانعين عنهم العذاب ومن مزيدة للإستغراق.
روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يقول الله لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة : لو أنّ لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به فيقول : نعم فيقول : أردت منك أهون من ذلك وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي".
جزء : 1 رقم الصفحة : 263
265(1/188)
جزء : 1 رقم الصفحة : 265
جزء : 1 رقم الصفحة : 265
{لن تنالوا البر} أي : لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير أو لن تنالوا بر الله تعالى الذي هو الرحمة والرضا والجنة {حتى تنفقوا مما تحبون} من أموالكم أو ما يعمها وغيرها كبذل الجاه في معاونة الناس والبدن في طاعة الله تعالى والنفس في سبيله ، وقال الحسن : لن تكونوا أبراراً.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً" وكان السلف رحمهم الله إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله.
روي لما نزلت هذه الآية جاء أبو طلحة فقال : يا رسول الله إن أحب أموالي إلي بيرحاء ـ وهو بفتح الباء الموحدة وكسرها وبفتح الراء وضمها مع المدّ والقصر ضيعة بالمدينة وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب ـ فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بخ بخ ذاك مال رابح ـ أو قال رائح ـ وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة : افعل يا رسول الله فقسمها في أقاربه" قوله صلى الله عليه وسلم بخ بخ كلمة تقال عند المدح والرضا بالشيء وتكرّر للمبالغة وهي مبنية على السكون ، فإن وصلت كسرت ونونت وربما شدّدت وقوله : رابح أو رائح يقال لضيعة الإنسان : مال رائح بالياء أي : يروح نفعه إليه ورابح بالباء الموحدة أي : ذو ربح كقولك لابن وتامر أي : ذو لبن وذو تمر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 266
وجاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها فقال : هذه في سبيل الله فحمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة فكأن زيداً وجد في نفسه وقال : إنما أردت أن أتصدّق به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما إن الله قد قبلها منك" وكتب عمر رضي الله تعالى عنه إلى أبي موسى الأشعريّ أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى ، فلما جاءت أعجبته فقال : إن الله قال :
{لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} (آل عمران ، 92) فأعتقها وقال : لولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها {وما تنفقوا من شيء} أي : من أي شيء تحبونه أو غيره ومن بيان لما {فإنّ الله به عليم} فيجازيكم بحسبه.
266
ولما قالت اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم ، وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكلها فلست أنت على ملته ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم "كان ذلك حلالاً لإبراهيم" فقالوا : كل ما نحرّمه اليوم كان حراماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا" نزل.
{كل الطعام} أي : المطعومات أو كل أنواع الطعام {كان حلاً} أي : حلالاً أكله {لبني إسرائيل} والحل مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والجمع قال تعالى : {لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} (الممتحنة ، 10) {إلا ما حرم إسرائيل} وهو يعقوب صلى الله عليه وسلم {على نفسه من قبل أن تنزل التوراة} أي : ليس الأمر على ما قالوا من حرمة لحوم الإبل وألبانها على إبراهيم بل كان الكل حلالاً له ولبني إسرائيل وإنما حرمها إسرائيل على نفسه قبل نزول التوراة فليس في التوراة حرمتها. واختلفوا في الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه وفي سببه ، فقال مقاتل والكلبي : كان ذلك الطعام لحمان الإبل وألبانها وسبب ذلك أنه مرض مرضاً شديداً وطال سقمه فنذر لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه وكان ذلك أحب إليه فحرمه ، وقال ابن عباس والضحاك : هي العروق وسبب ذلك أنه اشتكى عرق النسا ـ وهو بفتح النون والقصر عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذ ـ وكان أصل وجعه أنه كان نذر إن وهبه الله اثني عشر ولداً وأتى بيت المقدس صحيحاً أن يذبح آخرهم فتلقاه ملك من الملائكة فقال : يا يعقوب إنك رجل قوي فهل لك في الصراع فعالجه فلم يصرع واحد منهما صاحبه فغمزه الملك غمزة فعرض له عرق النسا ثم قال له : أما إني لو شئت أن أصرعك لفعلت ولكن غمزتك هذه الغمزة ؛ لأنك كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحاً ذبحت ولدك فجعل الله لك بهذه الغمزة من ذلك مخرجاً فكان لا ينام بالليل من الوجع فحلف يعقوب لئن عافاه الله تعالى أن لا يأكل عرقاً ولا طعاماً فيه عرق ، فحرّمه على نفسه وكان بنوه بعد ذلك يتتبعون العروق يخرجونها من اللحم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 266(1/189)
وقال ابن عباس : لما أصاب يعقوب عرق النسا وصف له الأطباء أن يجتنب لحمان الإبل فحرّمها يعقوب على نفسه ، ثم اختلفوا في حال هذا الطعام المحرّم على بني إسرائيل بعد نزول التوراة فقال السدي : حرّم الله عليهم في التوراة ما كانوا يحرمونه قبل نزولها. وقال الضحاك : لم يكن شيء من ذلك حراماً عليهم وإنما حرموا على أنفسهم اتباعاً لأبيهم ثم أضافوا تحريمه إلى الله عز وجل وأكذبهم الله تعالى فقال تعالى : {قل} لهم يا محمد {فأتوا بالتوراة فاتلوها} ليتبين صدق قولكم {إن كنتم صادقين} فيه فبهتوا ولم يأتوا بها وفي إخباره صلى الله عليه وسلم عما في التوراة دليل على نبوّته قال الله تعالى :
{فمن افترى} أي : ابتدع {على الله الكذب من بعد ذلك} أي : ظهور الحجة بأنّ التحريم إنما كان من جهة يعقوب لا على عهد إبراهيم {فأولئك هم الظالمون} أي : المتجاوزون الحق إلى الباطل وقوله تعالى :
{قل} أي : لهم {صدق الله} تعريض بكذبهم أي : ثبت أنّ الله صادق في هذا كجميع ما أخبر به وأنتم الكاذبون {فاتبعوا ملة إبراهيم} أي : ملة الإسلام التي أنا عليها التي هي في الأصل ملة إبراهيم حتى تخلصوا من اليهودية التي وطنتكم في فساد دينكم ودنياكم حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله تعالى لتسوية أغراضكم وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله تعالى لإبراهيم عليه السلام ومن تبعه {حنيفاً} أي : مائلاً عن كل دين إلى دين الإسلام وقوله تعالى : {وما كان من المشركين} فيه إشارة إلى أن اتباع إبراهيم صلى الله عليه وسلم واجب في
267
التوحيد الصرف ، والاستقامة في الدين والتجنب عن الإفراط وهو تحريف التوراة وعن التفريط وهو ترك العمل وفيه إشارة إلى التعريض بشرك اليهود.
ولما قالت اليهود للمسلمين : بيت المقدس قبلتنا وهو أفضل من الكعبة وأقدم وهو مهاجر الأنبياء ، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل نزل.
{إن أوّل بيت وضع للناس} أي : جعله الله متعبداً لهم وهو أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض خلقه الله تعالى قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على وجه الماء فدحيت الأرض تحته بناه الملائكة قبل خلق آدم ووضع بعده الأقصى وبينهما أربعون سنة كما في حديث الصحيحين. ولما أهبط آدم قالت له الملائكة : طف حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام وقيل : أوّل من بناه آدم فانطمس في الطوفان ثم بناه إبراهيم وقيل : كان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح ـ بضاد معجمة وحاء مهملة ـ سمي بذلك ؛ لأنه ضرّح من الأرض أي : بعد ويطوف به الملائكة ، فلما أهبط أمر بأن يحجه ويطوف حوله ، ورفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السموات.
جزء : 1 رقم الصفحة : 266
قال البيضاوي : وهذا القول لا يلائم ظاهر الآية وقيل : أول من بناه إبراهيم ثم هدم فبناه قوم من جرهم ثم العمالقة ثم قريش {للذي} أي : للبيت الذي {ببكة} بالباء لغة في مكة سميت بذلك ؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة أي : تدقها فلم يرمها جبار بسوء إلا وقسمه الله وسميت مكة بالميم لقلة مائها من قول العرب : مك الفصيل ضرع أمه وامتكه إذا امتص كل ما فيه من اللبن وتدعى أم رحم ؛ لأنّ الرحمة تنزل بها وقوله تعالى : {مباركاً} حال من الذي أي : ذا بركة لأنه كثير الخير والنفع لما يحصل لمن حجوا واعتمره واعتكف عنده أو طاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب {وهدى للعالمين} لأنه قبلتهم ومتعبدهم ولأنّ فيه آيات عجيبة كما قال تعالى :
{فيه آيات بينات} كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار فلا تعلو فوقه وأن ضواري السباع تخالط الصيود في الحرم ولا تتعرّض لها ، وإذا قصدت الجارحة صيداً فدخلت الحرم كفت عنه وأنه بلد صار إليه الأنبياء والمرسلون والأولياء والأبرار ، وإنّ الصلاة فيه تضاعف بمائة ألف وإن كان جبار قصده بسوء قهره الله تعالى كأصحاب الفيل ، وجملة فيه آيات بينات مفسرة لهدى أو حال كمباركاً وهدى وقوله تعالى : {مقام إبراهيم} مبتدأ حذف خبره أي : منها مقام إبراهيم أو خبر مبتدأ محذوف أي : أحدها أو بدل من آيات بدل بعض من كل وهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكان أثر قدميه فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي ولعل الذي اندرس بعضه فإني رأيت أثر القدمين فيه ، وفي هذا دلالة على قدرة الله تعالى وبنوّة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ؛ لأنّ تأثير القدم في الصخرة الصماء وغوصه فيها إلى الكعبين ، ولأنه بعض الصخرة دون بعض وإبقاءه دون سائر آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنين معجزة عظيمة ، واختلف في سبب هذا الأثر على قولين : أحدهما أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا
268(1/190)
الحجر ، فغاصت به قدماه وهذا هو المشهور ، والقول الثاني أنه لما جاز إبراهيم من الشام إلى مكة قالت له امرأة إسماعيل : انزل حتى تغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حوّلته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقي أثر قدميه عليه. قال البيضاوي : وقيل عطف بيان وردّ هذا القول بأنّ آيات نكرة ومقام إبراهيم معرفة ولا يجوز التخالف في عطف البيان بإجماع البصريين والكوفيين وقوله تعالى : {ومن دخله كان آمناً} جملة ابتدائية أو شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام لأنه في معنى أمن من دخله أي : ومنها أمن من دخله وذلك بدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام : {رب اجعل هذا البلد آمناً} (إبراهيم ، 35) ، وفي الإقتصار على ذكر هاتين الآيتين وطيّ ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما ، ونحوه في طي الذكر قول جرير :
*
جزء : 1 رقم الصفحة : 266
كانت حنيفة أثلاثاً فثلثهم ** من العبيد وثلث من مواليها
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة ، والأمن من العذاب يوم القيامة" قال عليه الصلاة والسلام : "من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً" رواه أبو داود والدارقطني وغيرهما.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "الحجون والبقيع يؤخذا بأطرافهما وينثران في الجنة" والحجون مقبرة مكة والبقيع مقبرة المدينة. وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى : من لزمه القتل بردة أو قصاص أو غيرهما لم يتعرّض له إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج فيقتل ، وكان عمر بن الخطاب يقول : لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه ، وعند الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى : لا يلجأ إلى الخروج بل يقتل للأمر في خبر الشيخين بقتل ابن خطل وقد كان ارتدّ وتعلق بأستار الكعبة وأمّا قوله : ومن دخله كان آمناً وخبر من دخل المسجد فهو آمن فمعناه جمعاً بين الأدلة أنّ من دخله بغير استحقاق قتل كان آمناً ، ومن دخله بعد استحقاق قَتل قُتل ، وأما إذا ارتكب الجريمة في الحرم فيستوفى منه بالإتفاق {و على الناس حج البيت} أي : قصده للزيارة على وجه مخصوص وهو أحد أركان الإسلام ، قال صلى الله عليه وسلم "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان" وقرأ حفص وحمزة والكسائي بكسر الحاء وهي لغة نجد وقرأ الباقون بالفتح وهي لغة أهل الحجاز
269
وهما لغتان فصيحتان ومعناهما واحد وقوله تعالى : {من استطاع إليه} أي : الحج أو البيت {سبيلاً} أي : طريقاً بدل من الناس مخصص له "وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإستطاعة بالزاد والراحلة" رواه الحاكم وغيره {ومن كفر} أي : بما فرضه الله من الحج أو كفر بالله {فإنّ الله غني عن العالمين} أي : الإنس والجنّ والملائكة وعن عبادتهم وقيل : وضع كفر موضع لم يحج تأكيداً لوجوبه وتشديداً على تاركه ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً" رواه الترمذي وضعفه ونحوه في التغليظ : "من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر".
تنبيه : في هذه الآية أنواع من التأكيد والتشديد على طلب الحج منها قوله تعالى : {و على الناس حج البيت} أي : أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته ومنها أنه ذكر الناس ثم أنه أبدل منه من استطاع إليه سبيلاً وفيه ضربان من التوكيد : أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له ، والثاني أنّ الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين ومنها ذكر الإستغناء وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان ومنها قوله : عن العالمين ولم يقل عنه وفيه من الدلالة على الإستغناء عنه ببرهان ؛ لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الإستغناء لا محالة ولأنه يدل على الإستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه وعن سعيد بن المسيب نزلت في اليهود فإنهم قالوا : الحج إلى مكة غير واجب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 266
وروي أنه لما نزل قوله تعالى : {و على الناس حج البيت} جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال : "إنّ الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل وهم المشركون واليهود والنصارى والصابئون والمجوس ، قالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه فنزل : ومن كفر إلخ". وعنه صلى الله عليه وسلم "حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرّتين ويرفع في الثالثة".(1/191)
وروي : "حجوا قبل أن لا تحجوا ، حجوا قبل أن يمنع البرّ جانبه" ، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : "حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت" أي : ماتت.
{قل يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله} الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره وتخصيص أهل الكتاب بالخطاب دليل على أنّ كفرهم أقبح وأنهم وإن زعموا أنهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل فهم كافرون بهما {وا شهيد} أي : والحال إنّ الله تعالى شهيد {على ما تعملون} فيجازيكم عليه {قل يأهل الكتاب لم تصدّون} أي : تصرفون {عن سبيل الله} أي : دينه الحق المأمور بسلوكه وهو الإسلام {من آمن} بتكذيبكم النبيّ صلى الله عليه وسلم وكتمكم نعته ، وكانوا يفتنون
270
المؤمنين ويحتالون في صدّهم عن دين الله ويمنعون من أراد الدخول فيه جهدهم وقيل : أتت اليهود الأوس والخزرج فذكروهم ما كان بينهم في الجاهلية من العدوان والحروب ليعودوا لمثله ، وإنما كرر الخطاب والإستفهام مبالغة في التوبيخ ونفي العذر لهم وإشعاراً بأنّ كل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه مستقل باستجلاب العذاب وقوله تعالى : {تبغونها} أي : السبيل {عوجاً} حال من الواو أي : باغين طالبين لها اعوجاجاً أي : ميلاً عن القصد والإستقامة بأن تلبسوا على الناس وتوهموا أنّ في دين الإسلام عوجاً عن الحق بمنع النسخ وبتغيير صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوهما.
فائدة : قال أبو عبيدة : العوج بالكسر في الدين والقول والعمل وبالفتح في الجدار وكل شخص قائم {وأنتم شهداء} أي : عالمون بأنّ الدين المرضي هو دين الإسلام كما في كتابكم {وما الله بغافل عما تعملون} من الكفر والتكذيب وإنما يؤخركم لوقتكم فيجازيكم.
فإن قيل : لم ختمت الآية الأولى بقوله تعالى : {وا شهيد على ما تعملون} وهذه الآية بقوله تعالى : {وما الله بغافل عما تعملون} ؟
أجيب : بأنه لما كان المنكر في الآية الأولى كفرهم وهم يجهرون به ختمها بقوله تعالى : {وا شهيد على ما تعملون} ولما كان في هذه الآية صدهم المؤمنين عن الإسلام كانوا يخفونه ويحتالون فيه قال : {وما الله بغافل عما تعملون}.
جزء : 1 رقم الصفحة : 266
ولما مر شاس بن قيس اليهوديّ ـ وكان شيخاً عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد لهم ـ على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مسجد لهم يتحدّثون فغاظه ذلك حيث تألفوا واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة وقال : ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار ، فأمر شاباً من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث ـ وهو موضع بالمدينة وينشدهم بعض ما قيل فيه من الأشعار وكان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس ـ ففعل فتنازع القوم عند ذلك وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا : السلاح السلاح فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار فقال : "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ كرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف به بينكم ؟
" فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوّهم فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضاً ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين" نزل.
{يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب} أي : شاساً وأصحابه {يردوكم بعد إيمانكم كافرين} قال جابر : ما رأيت يوماً قط أقبح أوّلاً وأحسن آخراً مثل ذلك اليوم ، ثم قال الله تعالى على وجه التعجب والتوبيخ.
جزء : 1 رقم الصفحة : 266
{وكيف تكفرون} أي : ولم تكفرون {وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله} محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى من أين يتطرّق إليكم الكفر والحال إنّ آيات الله وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم غضة طرية وبين أظهركم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم {ومن يعتصم با} أي : ومن يتمسك بدينه أو يلتجىء إليه في مجامع أموره {فقد هدى} أي : فقد حصل له الهدى لا محالة كما تقول : إذا جئت فلاناً فقد أفلحت كان الهدي قد حصل فهو يخبر عنه حاصلاً ومعنى التوقع في قد ظاهر لأنّ المعتصم بالله متوقع للهدي كما أنّ قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده
271
{إلى صراط} أي : طريق {مستقيم} أي : واضح.
{يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} أي : واجب تقواه وما يحق منها وهو القيام بالواجب واجتناب المحارم. وقال ابن مسعود : بأن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 271(1/192)
وروي مرفوعاً لما نزلت هذه الآية "قالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم : يا رسول الله من يقوى على هذا ؟
فنسخ بقوله تعالى : {فاتقوا الله ما استطعتم}. وقال مقاتل : ليس في آل عمران منسوخ إلا هذه الآية {ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون} أي : موحدون والمعنى : لا تكونن على حال سوى حالة الإسلام إذا أدرككم الموت ، فإنّ النهي عن المقيد بحال أو غيرها قد يتوجه بالذات إلى القيل تارة وإلى المقيد أخرى وإلى المجموع منهما وهو هنا إلى المقيد كما تقول لمن تستعين به على لقاء العدوّ ولا تأتني إلا وأنت على حصان بكسر الحاء فلا تناه عن الإتيان ولكنك تنهاه عن خلاف الحال التي شرطت عليه في وقت الإتيان ، فالنهي هما متوجه إلى القيد وحده ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ، الآية فلو أنّ قطرة من الزقوم قطرت على الأرض لأمرّت على أهل الدنيا معيشتهم فكيف بمن هو طعامهم وليس لهم طعام غيره".
{واعتصموا بحبل الله} أي : بدينه وهو دين الإسلام استعار له الحبل من حيث إنّ التمسك به سبب للنجاة من الردى كما أنّ التمسك بالحبل سبب للسلامة من التردي أو بكتابه وهو القرآن لقوله صلى الله عليه وسلم "القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد من قال به صدق ومن عمل به رشد ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم" وقوله تعالى : {جميعاً} حال أي : مجتمعين عليه {ولا تفرقوا} أي : ولا تتفرقوا بعد الإسلام بوقوع الإختلاف بينكم كأهل الكتاب أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية متدابرين يعادي بعضكم بعضاً ويحاربه.
{واذكروا نعمة الله} أي : إنعامه {عليكم} التي من جملتها الهداية والتوفيق للإسلام المؤدّي إلى التآلف {إذ كنتم أعداء} في الجاهلية بينكم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة {فألف بين قلوبكم} بالإسلام وقذف فيها المحبة {فأصبحتم بنعمته إخواناً} متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد وهو الأخوّة في الله وقيل : هم الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم فوقعت بينهما العداوة بسبب قتيل وتطاولت الحروب والعداوة بينهم مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام وألف بينهم برسول الله صلى الله عليه وسلم {وكنتم على شفى} أي : طرف {حفرة من النار} أي : حفرة ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا كفاراً {فأنقذكم منها} بالإسلام والضمير للحفرة أو النار أو الشفى وأنثه لتأنيث ما أضيف إليه كقول الشاعر :
*
جزء : 1 رقم الصفحة : 271
كما شرقت صدر القناة من الدم*
{كذلك} أي : مثل ذلك البيان البليغ {يبين الله لكم آياته} أي : دلائله {لعلكم تهتدون}
272
إرادة أن تزدادوا هدى.
{ولتكن منكم أمة} أي : طائفة {يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} فمن للتبعيض ؛ لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشره ، فإنّ الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة وعلى هذا فالمخاطب به الكل على الأصح ويسقط بفعل البعض الحرج عن الباقين وهكذا كل ما هو فرض كفاية ، فإن تركوه أصلاً أثموا جميعاً وقيل : من زائدة وقيل : للتبيين بمعنى وكونوا أمة تأمرون بالمعروف كقوله تعالى : {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف} {وأولئك} أي : الداعون الآمرون الناهون {هم المفلحون} أي : الفائزون بكمال الفلاح.
روى الإمام أحمد وغيره "أنه صلى الله عليه وسلم سئل وهو على المنبر : من خير الناس ؟
قال : "آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم".
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه".
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم".
وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال : أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية {يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} (المائدة ، 105) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إنّ الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعذابه".(1/193)
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها فكان الذي في أسفلها يمرّ بالماء على الذي في أعلاها فتأذوا به فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا : مالك فقال : تأذيتم بي ولا بد لي من الماء ، فإن أخذوا على يديه أنجوه وأنجوا أنفسهم ، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم" وعن حذيفة : يأتي على الناس زمان يكون فيهم جيفة الحمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. وعن سفيان الثوري : إذا كان الرجل محبباً في جيرانه محموداً عند إخوانه
273
فاعلم أنه مداهن. والأمر بالمعروف تابع للمأمور به إن كان واجباً فواجب ، وإن كان مندوباً فمندوب ، وأمّا النهي عن المنكر ـ أي : الحرام ـ فواجب كله لأنّ جميع المنكر تركه واجب لاتصافه بالقبح والأظهر أن العاصي يجب عليه أن ينهى عما يرتكبه ؛ لأنه يجب عليه تركه وإنكاره فلا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر. وعن السلف مروا بالخير وإن لم تفعلوا وإنما يجب الأمر والنهي على المكلف إذا لم يخش ضرراً ويجب أن يدفع بالأخف فالأخف كدفع الصائل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 271
فإن قيل : الدعاء للخير عام في التكاليف من الأفعال والتروك فهو شامل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فما فائدة ذكر ذلك ؟
أجيب : بأنه من عطف الخاص على العام إيذاناً بفضله كقوله تعالى : {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (البقرة ، 238)
{ولا تكونوا كالذين تفرقوا} عن دينهم {واختلفوا} فيه وهم اليهود والنصارى {من بعدما جاءهم البينات} أي : الآيات والحجج الموجبة للإتفاق على كلمة واحدة وهي كلمة الحق ، وقيل : هم مبتدعة هذه الأمة وهم المشبهة والجبرية والحشوية وأشباههم وقوله تعالى : {وأولئك لهم عذاب عظيم} وعيد للذين تفرقوا وتهديد للمتشبه بهم.
{يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه} هو يوم القيامة ونصب يوم بالظرف وهو لهم لما فيه من معنى الفعل أو بإضمار اذكروا والبياض من النور والسواد من الظلمة فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه وابيضت صحيفته وأشرقت وسعى النور بين يديه ويمينه ، ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه واسودت صحيفته وأظلمت وأحاطت به الظلمة من كل جانب نعوذ بالله وبسعة رحمته من ظلمات الباطل وأهله {فأما الذين اسودّت وجوههم} فهم الكافرون فيلقون في النار ويقال لهم توبيخاً {أكفرتم بعد إيمانكم} واختلفوا في كيف كفروا بعد إيمانهم فقال أبي بن كعب : أراد به الإيمان يوم الميثاق حين قال لهم : {ألست بربكم ؟
قالوا : بلى} (الأعراف ، 72) يقول : أكفرتم بعد إيمانكم يوم الميثاق ؟
وعلى هذا هم جميع الكفرة وقال الحسن : هم المنافقون تكلموا بالإيمان بألسنتهم وأنكروا بقلوبهم. وعن عكرمة أنهم أهل الكتابين آمنوا بأنبيائهم وبمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به. وقال قتادة : هم أهل البدع. وقال أبو أسامة : هم الخوارج ، ولما رآهم على درج دمشق دمعت عيناه ثم قال كلاب : أهل النار هؤلاء شر قتلى تحت أديم السماء وخير قتلى تحت أديم الأرض الذين قتلهم هؤلاء ، فقال له أبو غالب : أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرّة قال : فما شأنك دمعت عيناك قال : رحمة لهم كانوا من أهل الإسلام فكفروا ثم قرأ هذه الآية ثم أخذ بيده فقال : إنّ بأرضك منهم كثيراً فأعاذك الله تعالى منهم وقوله تعالى : {فذوقوا العذاب} أمر إهانة {بما كنتم تكفرون} أي : بسبب كفركم أو جزاء كفركم فالباء متعلقة بذوقوا على الأول وبمحذوف على الثاني.
{وأمّا الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله} أي : جنته عبر عنها بالرحمة تنبيهاً على أنّ المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى لا يدخل الجنة إلا برحمته وفضله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 271
فإن قيل : كان حق الترتيب أن يقدّم ذكرهم أجيب : بأنّ القصد أن يكون مطلع الكلام ومقطعه حلية المؤمنين وثوابهم.
فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : {هم فيها خالدون} بعد قوله {ففي رحمة الله} أجيب : بأنّ
274
فائدته أنه أخرج مخرج الإستئناف والتأكيد كأنه قيل : كيف يكونون فيها ؟
فقال : هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون.
{تلك} أي : هذه الآيات الواردة في الوعد والوعيد {آيات الله نتلوها عليك} يا محمد {بالحق} أي : متلبسة بالحق والعدل من جزاء المحسن والمسيء {وما الله يريد ظلماً للعالمين} إذ يستحيل الظلم منه تعالى ؛ لأنه لا يجب عليه شيء بل هو المالك على الإطلاق كما قال تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 271
{و ما في السموات وما في الأرض} ملكاً وخلقاً {وإلى الله ترجع} أي : تصير {الأمور} فيجازي كلاً بما وعد له وأوعد.(1/194)
{كنتم} يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم في علم الله تعالى {خير أمة أخرجت} أي : أظهرت {للناس} وقيل : كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة موصوفين به.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي خيرها وأكرمها على الله تعالى".
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوّله خير أم آخره".
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "إنّ الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمّتي".
275
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون من هذه الأمة" وقوله تعالى : {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} استئناف بين به كونهم خير أمة كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم أو خبر ثان لكنتم وقوله تعالى : {وتؤمنون با} يتضمن الإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به ؛ لأنّ من آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتدّ بإيمانه فكأنه غير مؤمن بالله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 275
فإن قيل : لم أخر تؤمنون بالله وحقه أن يقدم ؟
أجيب : بأنه إنما أخر ؛ لأنه قصد بذكره الدلالة على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إيماناً بالله تعالى وتصديقاً به وإظهاراً لدينه.
تنبيه : استدل بهذه الآية على أنّ إجماع هذه الأمة حجة ؛ لأنها تقتضي كونهم آمرين بكل معروف ناهين عن كل منكر إذ اللام فيها للإستغراق فلو أجمعوا على باطل كتحريم شيء هو في نفس الأمر معروف كان أمرهم على خلاف ذلك {ولو آمن أهل الكتاب} بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم {لكان} الإيمان {خيراً لهم} مما هم عليه لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً للرياسة واستتباع العوام {منهم المؤمنون} كعبد الله بن سلام وأصحابه {وأكثرهم الفاسقون} أي : المتمرّدون في الكفر.
{لن يضروكم} أي : اليهود يا معشر المسلمين بشيء {إلا أذى} أي : ضرراً يسيراً كسب وطعن في الدين وتهديد ونحو ذلك {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار} منهزمين ولا يضرّوكم بقتل أو أسر {ثم لا ينصرون} عليكم بل لكم النصر عليهم. وفي هذا تثبيت لمن أسلم منهم ؛ لأنهم كانوا يؤذونهم بأنهم لا يقدرون أن يتجاوزوا الأذى إلى ضرر يبالي به مع أنه تعالى وعدهم الغلبة عليهم والانتقام منهم وأنّ عاقبة أمرهم الخذلان والذل.
فإن قيل : هلا جزم المعطوف في قوله : {ثم لا ينصرون} ؟
أجيب : بأنه عدل به عن حكم الجزاء ؛ إلى حكم الإخبار ابتداء كأنه قيل : ثم أخبركم أنهم لا ينصرون والفرق بين رفعه وجزمه في المعنى أنه لو جزم لكان نفي النصر مقيداً بمقاتلتهم كتولية الأدبار وحين رفع كان نفي النصر وعداً مطلقاً كأنه قال : ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها أو أبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوّة لا ينهضون بعدها بجناح ولا يستقيم لهم أمر كما أخبر عن حال بني قريظة والنضير ويهود خيبر.
فإن قيل : ما معنى التراخي في ثم أجيب : بأنّ معناه التراخي في الرتبة ؛ لأنّ الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار.
{ضربت عليهم الذلة}أي : هدر النفس والمال والأهل أو ذل التمسك بالباطل والجزية {أينما ثقفوا} أي : حيثما وجدوا فلا عز لهم ولا اعتصام في سائر أحوالهم {إلا} في حال اعتصامهم {بحبل من الله} أي : بذمّة الله أو كتابه {وحبل من الناس} أي : بذمّة المسلمين أو بدين الإسلام واتباع سبيل المؤمنين أي : لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمّة لما قبلوا من الجزية أو دين الإسلام {وباؤا} أي : رجعوا {بغضب من الله} أي : مستوجبين له {وضربت عليهم المسكنة} كما يضرب البيت على أهله فهم ساكنون في المسكنة غير ظاعنين عنها
276
يظهرون الفقر والمسكنة. وفسر أكثر المفسرين المسكنة بالجزية وهم اليهود عليهم لعنة الله وغضبه قال البيضاوي : واليهود في غالب الأمر فقراء مساكين اه. {ذلك} أي : ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب كائن {بأنهم} أي : بسبب أنهم {كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك} أي : الكفر والقتل {بما عصوا وكانوا يعتدون} أي : كائن بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود الله تعالى فإنّ الإصرار على الصغائر يقضي إلى الكبائر والإصرار على الكبائر يقضي إلى الكفر والعياذ بالله تعالى.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 275(1/195)
ليسوا} أي : أهل الكتاب {سواء} أي : مستوين ، وقوله تعالى : {من أهل الكتاب أمّة قائمة} أي : مستقيمة ثابتة على الحق استئناف لبيان نفي الإستواء وهم الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وأصحابه. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لما أسلم عبد الله بن سلام قالت أحبار اليهود : ما آمن بمحمد إلا أشرارنا ولولا ذلك ما تركوا دين آبائهم ، فأنزل الله هذه الآية {يتلون آيات الله} أي : يقرؤون كتاب الله {آناء الليل} أي : في ساعاته وقوله تعالى : {وهم يسجدون} حال أي : يصلون ؛ لأنّ التلاوة لا تكون في السجود ، واختلفوا في معناها فقال بعضهم : هي قيام الليل. وقال ابن مسعود : هي صلاة العتمة ؛ لأنّ أهل الكتاب لا يصلونها لما روي : "أنه عليه الصلاة والسلام أخرها ثم خرج إلى المسجد ، فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال : أما إنه ـ أي : الشأن ـ ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى هذه الساعة غيركم" رواه الإمام أحمد والنسائيّ وغيرهما وقوله : غيركم بالنصب خبر ليس ومن أهل الأديان حال من أحد قاله التفتازاني. ثم وصف الله تعالى تلك الأمة القائمة بصفات أخر فقال :
{يؤمنون با واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك} أي : الموصوفون بما ذكر {من الصالحين} أي : ممن صلحت أحوالهم عند الله واستحقوا رضاه وثناه أي : والأمة الأخرى غير قائمة بل منحرفون عن الحق غير متعبدين بالليل مشركون بالله ملحدون في صفاته واصفون لليوم الآخر بغير صفته متباطئون عن الخيرات فترك هذه اكتفاء بذكر أحد الفريقين.
{وما تفعلوا من خير فلن تكفروه} أي : تعدموا ثوابه بل تجازون عليه ، وقرأ حفص وحمزة والكسائيّ بالياء فيهما أي : الأمة القائمة والباقون بالتاء على الخطاب أي : أيها الأمة القائمة وقوله تعالى : {وا عليم بالمتقين} بشارة لهم وإشعار بأن التقوى مبدأ الخير وحسن العمل وأنّ الفائز عند الله هو أهل التقوى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 275
{إنّ الذين كفروا لن تغني} أي : تدفع {عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله} أي : من عذابه {شيئاً} وخص الأموال والأولاد بالذكر لأنّ الإنسان يدفع عن نفسه تارة بفداء المال وتارة بالاستعانة بالأولاد {وأولئك أصحاب النار} أي : ملازموها {هم فيها خالدون مثل} أي : صفة.
{ما ينفقون} أي : الكفار {في هذه الحياة الدنيا} في عداوة النبيّ صلى الله عليه وسلم ونحوها {كمثل ريح فيها صرّ} قال أكثر المفسرين : فيها برد شديد وحكي عن ابن عباس أنها السموم الحارّة التي تقتل وقيل : فيها صرّ أي : صوت {أصابت حرث} أي : زرع {قوم ظلموا أنفسهم} بالكفر والمعاصي
277
{فأهلكته} عقوبة لهم ؛ لأنّ الإهلاك عن سخط أشدّ وأبلغ والمعنى مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح الزرع فلم ينتفعوا به فكذلك نفقة هؤلاء ذاهبة لا ينتفعون بها {وما ظلمهم الله} بضياع نفقاتهم {ولكن أنفسهم يظلمون} بالكفر الموجب لضياعها ويجوز أن يعود الضمير لأصحاب الحرث الذين ظلموا أنفسهم أي : وما ظلمهم الله تعالى بإهلاك حرثهم ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 277
يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة} أي : أصفياء تطلعونهم على سرّكم ثقة بهم شبهوا ببطانة الثوب كما شبهوا بالشعار قال عليه الصلاة والسلام : "الأنصار شعار والناس دثار" رواه الشيخان والشعار ما يلي الجسد والدثار فوقه وقوله تعالى : {من دونكم} أي : من دون المسلمين متعلق بلا تتخذوا أو بمحذوف هو صفة بطانة أي : كائنة من دونكم أي : غيركم من الكفار المنافقين {لا يألونكم خبالاً} أي : لا يقصرون لكم في الفساد والألو التقصير وأصله أن يعدّى بالحرف وعدي إلى مفعولين كقولهم : لا آلوك نصحاً على تضمين معنى المنع أو النقص والمعنى لا أمنعك نصحاً ولا أنقصكه {ودّوا} أي : تمنوا {ما عنتم} أي : عنتكم وهو شدّة الضرر وما مصدرية أي : تمنوا أن يضرّوكم في دينكم ودنياكم أشدّ الضرر وأبلغه {قد بدت} أي : ظهرت {البغضاء من أفواههم} أي : في كلامهم بالوقيعة فيكم وإطلاع المشركين على سركم لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم ، وعن قتادة : قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لإطلاع بعضهم بعضاً على ذلك {وما تخفي صدورهم} من العداوة والغيظ {أكبر} أي : أعظم مما بدا ؛ لأنّ بدوّه ليس عن روية واختيار {قد بينا لكم الآيات} الدالة على وجوب الإخلاص في الدين وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين {إن كنتم تعقلون} ما بين لكم فلا توالوهم.
فإن قيل : كيف موقع هذه الجمل وهي لا يألونكم وودّوا ما عنتم وقد بدت البغضاء وقد بينا لكم الآيات أجيب : بأنها مستأنفات على وجه التعليل بمعنى إنّ كلا علة للنهي عن اتخاذهم بطانة.(1/196)
{ها أنتم أولاء} ها تنبيه وأنتم كناية للمخاطبين وأولاء اسم للمشار إليهم وهم المؤمنون وقوله تعالى : {تحبونهم} أي : هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي منكم من القرابة والرضاع والمصاهرة {ولا يحبونكم} لمخالفتهم لكم في الدين بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء {وتؤمنون بالكتاب كله} أي : بالكتب كلها وهم لا يؤمنون بكتابكم ، وفي هذا توبيخ شديد للمؤمنين بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ونحو هذا قوله تعالى : {فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون} (النساء ، 104) .
{وإذا لقوكم قالوا آمنا} أي : نفاقاً وتغريراً {وإذا خلوا} أي : خلا بعضهم ببعض {عضوا عليكم الأنامل} أي : أطراف الأصابع {من الغيظ} أي : شدّة الغضب لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم ويعبر عن شدّة الغضب بَعض الأنامل مجازاً ، وإن لم يكن ثم عض فيوصف المغتاظ والنادم بَعض الأنامل والبنان والإبهام. قال الحارث بن ظالم المري :
*
جزء : 1 رقم الصفحة : 277
فأقتل أقواماً لئاماً أذلة ** يعضون من غيظ رؤوس الأباهم*
278
{قل موتوا بغيظكم} أي : ابقوا إلى الممات بغيظكم فلن تروا ما يسركم وقوله تعالى : {إنّ الله عليم بذات الصدور} أي : بما في القلوب ومنه ما يضمره هؤلاء يحتمل أن يكون من المقول أي : وقل لهم : إنّ الله عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل غيظاً وأن يكون خارجاً عنه بمعنى قل لهم ذلك ولا تتعجب من إطلاعي إياك على أسرارهم فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم.
{إن تمسسكم} أي : تصبكم أيها المؤمنون {حسنة} أي : نعمة كنصر وغنيمة وخصب في معاشكم وتتابع الناس في دينكم {تسؤهم} أي : تحزنهم {وإن تصبكم سيئة} أي : إساءة كهزيمة وجدب واختلاف يكون بينكم {يفرحوا بها} وجملة الشرط متصلة بالشرط ، قيل : وما بينهما اعتراض والمعنى إنهم متناهون في عداوتكم فلم توالونهم فاجتنبوهم.
فإن قيل : كيف وصفت الحسنة بالمس والسيئة بالإصابة ؟
أجيب : بأنّ المس مستعار بمعنى الإصابة فكان المعنى واحد ألا ترى إلى قوله تعالى : {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} (النساء ، 79) {وإن تصبروا} على أذاهم {وتتقوا} الله في موالاتهم وغيرها {لا يضركم كيدهم شيئاً} بفضل الله وحفظه الموعود للصابرين والمتقين وهذا تعظيم من الله تعالى وإرشاداً إلى أنه يستعان على كيد العدوّ بالصبر والتقوى ، وقد قال الحكماء : إذا أردت أن تكيد من يحسدك فازدد فضلاً في نفسك ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بكسر الضاد وسكون الراء من ضاره يضيره ، والباقون بضم الضاد وضم الراء مشدّدة للإتباع كضمة مدّ وهي ضمة الأمر المضاعف وكل مجزوم من المضاعف المضموم العين ، فإنه يجوز ضمه للإتباع كما يجوز فتحه للخفة وكسر لأجل تحريك الساكن {إن الله بما تعملون محيط} أي : عالم فيجازيكم به.
{و} اذكر يا محمد {إذ غدوت من أهلك} أي : من حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها {تبوّىء} أي : تنزل {المؤمنين مقاعد} أي : مراكز يقفون فيها {للقتال وا سميع} لأقوالكم {عليم} بأحوالكم.
روي "أنّ المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ودعا عبد الله بن أبيّ ابن سلول ولم يدعه قط قبلها واستشاره ، فقال عبد الله وأكثر الأنصار : يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدوّ قط إلا أصاب منا ، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ـ أي : بكسر الباء وهو مكان لا ماء فيه ولا طعام ـ وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي وقال بعض أصحابه : اخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب لا يرون أنا قد جبنا عنهم وضعفنا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 277
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني رأيت في منامي بقراً مذبحة حولي فأوّلتها خيراً ، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأولته هزيمة ، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم" فقال رجال من المسلمين قد فاتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد : اخرج بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا به حتى دخل ، فلبس لأمته أي : درعه فلما رأوه قد لبس لأمته ندموا وقالوا : بئس ما صنعنا نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه وقالوا : اصنع يا رسول الله ما رأيت فقال : "لا ينبغي لنبيّ أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوّال سنة ثلاث من الهجرة ونزل في عدوة الوادي
279(1/197)
ـ أي : بالعين المهملة وهي جانبه ـ وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وسوى صفوفهم وأجلس خمسين من الرماة وأمّر عليهم عبد الله بن جبير بسفح الجبل وقال : انضحوا علينا بالنبل لا يأتون من ورائنا ولا تبرحوا غلبنا أو نصرنا".
جزء : 1 رقم الصفحة : 277
{إذ} بدل من إذ قبله {همت طائفتان منكم} بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وهما جناحا العسكر {أن تفشلا} أي : تجبنا عن القتال وترجعا.
روي "أنه صلى الله عليه وسلم خرج في زهاء ألف رجل ووعدهم النصر إن صبروا وكان المشركون ثلاثة آلاف فلما بلغوا عند جبل أحد بالمدينة انعزل ابن أبيّ المنافق في ثلاثمائة وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا ؟
فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري وقال : أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم فقال ابن أبيّ : لو نعلم قتالاً لاتبعناكم فهمّ الحيان باتباعه فثبتهم الله ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الزمخشريّ : إنها ما كانت إلا همة وحديث نفس وكما لا تخلو النفس عند الشدّة من بعض الهلع ثم يردّها صاحبها إلى الثبات والصبر ويوطنها على احتمال المكروه كما قال عمرو بن الإطنابة :
*أقول لها إذا جشأت وجاشت ** مكانك تحمدي أو تستريحي*
280
{وا وليهما} أي : ناصرهما فما لهما تفشلان {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} أي : ليثقوا به دون غيره فينصرهم كما نصرهم ببدر ، ونزل لما هزموا من أحد تذكرة لهم بنعمة الله تعالى.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 280
ولقد نصركم الله ببدر} وهو ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدراً فسمي به وقوله تعالى : {وأنتم أذلة} أي : بقلة العدد والسلاح والمال حال من الضمير.
فإن قيل : قال الله تعالى : {وأنتم أذلة} وقد قال تعالى : {و العزة ولرسوله وللمؤمنين} أجيب : بأنه بمعنى القلة وضعف الحال وقلة السلاح والمال كما مرّ فإن نقيض ذلك العز وهو القوّة والغلبة.
روي أنّ المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ولم يكن فيهم إلا فرس واحد وأكثرهم كانوا رجالة وربما كان الجمع منهم يركبون جملاً واحداً والكفار كانوا قريباً من ألف مقاتل ومعهم مائة فرس مع الأسلحة الكثيرة والعدّة الكاملة {فاتقوا الله} في الثبات وعدم المخالفة {لعلكم تشكرون} أي : بتقواكم نعمه التي أنعم بها عليكم من نصرته وقوله تعالى :
{إذ تقول للمؤمنين} أي : توعدهم تطميناً ظرف لنصركم وقوله تعالى : {ألن يكفيكم أن يمدّكم} أي : يعينكم {ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين} إنكار أن لا يكفيهم ذلك وإنما جيء بلن إشعاراً بأنهم كانوا كالآيسين من النصر لضعفهم وقلتهم وقوّة العدوّ وكثرتهم. وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد الزاي ، والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي وقوله تعالى :
{بلى} إيجاب لما بعد لن أي : بلى يكفيكم.
فإن قيل : قد قال تعالى في سورة الأنفال : {إني ممدّكم بألف من الملائكة مردفين} فكيف قال هنا بثلاثة آلاف ؟
أجيب : بأنه مدهم أولاً بألف ثم صارت ثلاثة ثم صارت خمسة كما قال تعالى : {إن تصبروا} أي : على لقاء العدوّ {وتتقوا} الله في المخالفة {ويأتوكم} أي : المشركون {من فورهم} أي : من وقتهم {هذا} والفور العجلة والسرعة ومنه فارت القدر اشتدّ غليانها وسارع ما فيها إلى الخروج {يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين} أي : معلمين وقد صبروا واتقوا وأنجز الله وعده بأن قاتل معهم الملائكة على خيل يلف عليهم عمائم صفر أو بيض أرسلوها بين أكتافهم ، وعن عرفة بن الزبير : كانت عمامة الزبير يوم بدر صفراء فنزلت الملائكة كذلك ، وعن الضحاك معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الدواب وأذنابها ، وعن مجاهد مجزوزة أذناب خيلهم. قال أكثر المفسرين : إن الملائكة لم تقاتل في غير يوم بدر.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : "تسوموا فإنّ الملائكة قد تسوّمت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم" وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بكسر الواو والباقون بفتحها.
{وما جعله الله} أي : الإمداد{إلا بشرى} أي : بشارة {لكم} أي : بالنصر {ولتطمئن} أي : ولتسكن {قلوبكم به} فلا تجزعوا من كثرة عدوّكم وقلة عددكم كما كانت السكينة لبني إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة لقلوبهم {وما النصر إلا من عند الله} لا من العدّة والعدد وهو تنبيه على أنه لا حاجة في نصرهم إلى مدد الملائكة وإنما أمدّهم ووعدهم به بشارة لهم وربطاً على
281
قلوبهم من حيث إن نظر العامة إلى الأسباب أكثر {العزيز} الذي لا يغالب {الحكيم} الذي ينصر ويخذل من يشاء بوسط وبغير وسط على مقتضى الحكمة والمصلحة وقوله تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 280
ليقطع} متعلق بنصركم أي : ليهلك {طرفاً} أي : طائفة {من الذين كفروا} بالقتل والأسر وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من رؤساء قريش وصناديدهم {أو يكبتهم} أي : لم ينالوا ما راموه وأو للتنويع لا للترديد.(1/198)
ونزل لما كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم وشج وجهه يوم أحد وقال : "كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم".
{ليس لك من الأمر شيء} بل الأمر كله لله فاصبر إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد : "اللهمّ العن الحارث بن هشام اللهمّ إلعن صفوان بن أمية" فنزلت هذه الآية ، وقال قوم : نزلت في أهل بئر معونة وهم سبعون رجلاً من القرّاء بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد ليعلموا الناس القرآن والعلم أميرهم المنذر بن عمرو فقتلهم عامر بن الطفيل فوجد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجداً شديداً وقنت شهراً في الصلوات كلها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللعن والسنين وقوله تعالى : {أو يتوب عليهم أو يعذبهم} عطف على قوله أو يكبتهم وليس لك من الأمر شيء اعتراض ، والمعنى أن الله تعالى مالك أمرهم ، فإمّا أن يهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا {فإنهم ظالمون} بالكفر ، وقيل : إنّ أو يتوب عليهم بمعنى إلى أن يتوب عليهم.
{و ما في السموات وما في الأرض} ملكاً وخلقاً فله الأمر كله والمقصود من هذا تأكيد ما ذكره أوّلاً من قوله : {ليس لك من الأمر شيء} والمعنى : إنما يكون ذلك لمن له الملك وليس هو لأحد إلا لله تعالى.
فإن قيل : ظاهر ما ذكر يدل على أنّ ذلك ورد للمنع من أمر كان صلى الله عليه وسلم يريد أن يفعله وذلك الفعل إن كان بأمر الله تعالى فكيف يمنعه منه وإن كان بغير أمره فكيف يصح مع قوله تعالى : {وما ينطق عن الهوى} (النجم ، 3) أجيب : بأنّ ذلك كان من باب ترك الأفضل والأولى فلا جرم أرشده الله تعالى إلى اختيار الأولى نظيره قوله تعالى : {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ، واصبروا وما صبرك إلا با} (النحل ، 127) فكأنه تعالى قال أوّلاً : إن كان ولا بدّ أن تعاقب ذلك الظالم فاكتف بالمثل ، ثم قال ثانياً وإن تركته كان ذلك أولى. ثم أمره أمراً جازماً بتركه فقال : واصبر وما صبرك إلا بالله {يغفر لمن يشاء} مغفرته {ويعذب من يشاء} تعذيبه. ولما كان له فعل ذلك إلا أن جانب المغفرة والرحمة غالب لا على سبيل الوجوب بل على سبيل التفضل والإحسان قال : {وا غفور} لأوليائه {رحيم} بعباده فلا تبادر بالدعاء عليهم. ولما شرح سبحانه وتعالى عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح في أمر الدين والجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير فقال :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 280
يأيها الذين آمنوا
282
لا تأكلوا الربا أضعافاً} وهو جمع ضعف. ولما كان جمع قلة والمقصود الكثرة أتبعه بما يدل على ذلك وهو الوصف بقوله : {مضاعفة} بأن تزيدوا في المال عند حلول الأجل وتؤخروا الطلب والتخصيص بحسب الواقع ، إذ كان الرجل منهم يرابي إلى أجل ثم يزيد في الدين زيادة أخرى حتى يستغرق بالشيء اللطيف مال الديون وإلا فالربا حرام بلا مضاعفة بل هو من الكبائر مطلقاً ، وقرأ ابن كثير وابن عامر بتشديد العين ولا ألف قبلها ، والباقون بتخفيف العين وألف قبلها {واتقوا الله} بترك ما نهيتم عنه {لعلكم تفلحون} أي : تفوزون ثم خوّفهم فقال تعالى :
{واتقوا النار التي أعدّت للكافرين}بالتحرّز عن متابعتهم وتعاطي أفعالهم ، كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول : هذه أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتقوه باجتناب محارمه وفي الآية تنبيه على أنّ النار بالذات للكفار وبالعرض للعصاة.
{وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون} لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد ترهيباً عن المخالفة وترغيباً في الطاعة على عادته تعالى المستمرّة في القرآن ، قال محمد بن إسحاق بن يسار هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بما أمرهم يوم أحد ولعلّ وعسى في أمثال ذلك دليل على عزة التوصل إلى ما جعل خيراً لهما ومن تأمّل هذه الآيات وأمثالها لم يحدّث نفسه بالأطماع الفارغة والتمني على الله تعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 280(1/199)
{وسارعوا} أي : بادروا وأقبلوا {إلى مغفرة من ربكم} أي : إلى ما تستحق به المغفرة كالإسلام والتوبة وأداء الفرائض والهجرة والجهاد والتكبيرة الأولى والأعمال الصالحات. وقرأ نافع وابن عامر بغير واو قبل السين والباقون بواو قبلها {و} إلى {جنة عرضها السموات والأرض} أي : عرضها كعرضهما كقوله تعالى : {عرضها كعرض السماء والأرض} (الحديد ، 21) وإنما جمعت السماء وأفردت الأرض لأنها أنواع قيل : بعض فضة وبعض غير ذلك ، والأرض نوع واحد وذكر العرض للمبالغة في وصف الجنة بالسعة ؛ لأنّ العرض دون الطول كما دلّ عليه قوله تعالى : {بطائنها من إستبرق} (الرحمن ، 54) على أن الظهارة أعظم يقول : هذه صفة عرضها فكيف طولها ؟
قال الزهري : إنما وصف عرضها فأما طولها فلا يعلمه إلا الله تعالى وهذا على سبيل التمثيل لا أنها كالسموات والأرض لا غير بل معناه كعرض السموات السبع والأرضين السبع عند ظنكم كقوله تعالى : {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض} (هود ، 107) أي : عند ظنكم وإلا فهما زائلتان.
وعن ابن عباس : الجنة كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض. وعنه أيضاً إنّ لكل واحد من المطيعين جنة بهذه السعة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 283
وروي أنّ ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : إذا كانت الجنة عرضها ذلك فأين تكون النار ؟
فقال لهم : أرأيتم إذا جاء الليل فأين يكون النهار ؟
وإذا جاء النهار فأين يكون الليل ؟
فقالوا : إنه لمثلها في التوراة ، ومعناه أنه حيث شاء الله. وسئل أنس بن مالك عن الجنة : أفي السماء أم في الأرض وأيّ أرض وسماء تسع الجنة ؟
قيل : فأين هي ؟
قال : فوق السموات السبع تحت العرش ، وقال قتادة : كانوا يرون أنّ الجنة فوق السموات السبع وأنّ جهنم تحت الأرضين السبع.
283
فإن قيل : قال تعالى : {وفي السماء رزقكم وما توعدون} وأراد بالذي وعدنا الجنة فإذا كانت الجنة في السماء فكيف يكون عرضها ما ذكر ؟
أجيب : بأنّ باب الجنة في السماء وعرضها كما أخبر تعالى : {أعدّت} هيئت {للمتقين} الله بعمل الطاعات وترك المعاصي وفي ذلك دليل على أنّ الجنة مخلوقة الآن وقيل : إنّ الجنة والنار يخلقان بعد قيام الساعة.
ثم وصف الله تعالى المتقين بصفات فقال :
{الذين ينفقون} أي : في طاعة الله {في السرّاء والضرّاء} أي : في العسر واليسر أو الأحوال كلها ؛ لأنّ الإنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة أي : لا يخلون عن حال مّا بإنفاق ما قدروا عليه من قليل أو كثير كما يحكى عن بعض السلف أنه ربما تصدّق ببصلة ، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها تصدّقت بحبة عنب. فأول ما ذكر من أوصافهم الموجبة للجنة ذكر السخاء. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "السخيّ قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد عن النار والبخيل بعيد من الله قريب من النار ولجاهل سخي أحب إلى الله من العالم البخيل" {والكاظمين الغيظ} أي : الممسكين عليه الكافين عن إمضائه مع القدرة.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من كظم غيظاً وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء".
وروي : "من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً".
وروي : "ليس الشديد بالصرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب" {والعافين عن الناس} أي : التاركين عقوبة من استحقوا مؤاخذته.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله فلا يقوم إلا من عفا" وعن ابن عيينة أنه رواه للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "إنّ هؤلاء في أمّتي قليل إلا من عصم الله" وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت وهذا الإستثناء يحتمل أن يكون منقطعاً وهو ظاهر وأن يكون متصلاً لما في القلة من معنى العدم كأنه قيل : إن هؤلاء في أمّتي لا يوجدون إلا من عصم الله فإنه يوجد في أمّتي وقوله تعالى : {وا يحب المحسنين} يجوز أن تكون اللام فيه للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون وأن تكون للعهد فتكون إشارة إلى هؤلاء وقوله تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 283
والذين إذا فعلوا فاحشة} أي : ذنباً قبيحاً كالزنا {أو ظلموا أنفسهم} أي : بما دون الزنا كالقبلة وقيل : الفاحشة ما يتعدّى وظلم النفس ما ليس كذلك {ذكروا الله} أي : ذكروا وعيده أو
284
حكمه أو حقه العظيم {فاستغفروا لذنوبهم} بالندم والتوبة عطف على المتقين أو على الذين ينفقون. واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال عطاء : نزلت في أبي سعيد التمار ؛ أتته إمرأة حسنة تبتاع منه تمراً فقال لها : إنّ هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته وضمها إلى نفسه وقبلها فقالت له : اتق الله فتركها وندم على ذلك ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية.(1/200)
وقال مقاتل والكلبي : آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف ، فخرج الثقفي في غزاة واستخلف الأنصاري على أهله فاشترى لهم اللحم ذات يوم ، فلما أرادت المرأة أن تأخذ منه دخل على أثرها وقبل يدها ثم ندم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه ، فلما رجع الثقفيّ لم يستقبله الأنصاري ، فسأل امرأته عن حاله فقالت : لا أكثر الله في الإخوان مثله ووصفت له الحال والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً ، فطلبه الثقفي حتى وجده فأتى به أبا بكر رجاء أن يجد عنده راحة وفرجاً ، وقال الأنصاري : هلكت وذكر القصة ، فقال أبو بكر : ويحك أما علمت أنّ الله تعالى يغار للغازي ما لا يغار للمقيم ثم أتيا عمر ، فقال عمر : مثل ذلك ثم أتيا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : مثل مقالهما فنزلت هذه الآية وقوله تعالى : {ومن} أي : أحد {يغفر الذنوب إلا الله} استفهام بمعنى النفي معترض بين المعطوفين والمراد به وصفه سبحانه وتعالى بسعة الرحمة وعموم المغفرة والحث على الإستغفار والوعد بقبول التوبة {ولم يصروا على ما فعلوا} أي : ولم يقيموا على قبيح فعلهم بل أقلعوا عنه مستغفرين.
روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة".
وروي : "لا كبيرة مع الإستغفار ولا صغيرة مع الإصرار" وقوله تعالى : {وهم يعلمون} حال من يصروا أي : ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به وقوله تعالى :
{أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار} إشارة إلى الفريقين ويجوز أن يكون والذين مبتدأ وأولئك خبره وقوله تعالى : {خالدين فيها} حال مقدّرة أي : مقدّرين الخلود فيها إذا دخلوها.
تنبيه : لا يلزم من إعداد الجنة للمتقين والتائبين جزاء لهم أن لا يدخلها المصرون كما لا يلزم من إعداد النار للكافرين جزاء لهم أن لا يدخلها غيرهم ، فقول الزمخشري في "الكشاف" وفي هذه الآيات بيان قاطع على أنّ الذين آمنوا على ثلاث طبقات : متقون وتائبون ومصرون وأنّ الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرين ومن خلف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه جار على طريق الإعتزال من أن مرتكب الكبيرة إذا مات مصرّاً لا يدخل الجنة ونعوذ بالله من ذلك بل كل من مات على الإسلام يدخل الجنة وهو تحت المشيئة إن شاء الله عذبه ، وإن شاء عفا عنه وقوله تعالى : {ونعم أجر العاملين} المخصوص فيه بالمدح محذوف تقديره ونعم أجر العاملين ذلك أي : المغفرة والجنات.
جزء : 1 رقم الصفحة : 283
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "ما من عبد مؤمن أذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ثم يستغفر الله
285
إلا غفر الله له".
وروي : "أيّ عبد أذنب ذنباً فقال : يا رب أذنبت ذنباً فاغفر لي فقال ربه : علم عبدي أنّ له رباً يغفر الذنوب ويؤاخذ بها فغفر له فمكث ما شاء الله ثم أذنب ذنباً آخر فقال : يا رب أذنبت ذنباً آخر فاغفر لي قال ربه : علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويؤاخذ به قد غفرت له فليعمل ما شاء ـ أي : ويستغفر ـ فأغفر له".
وروي أنه تبارك وتعالى قال : "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ، ابن آدم إنك إن تلقني بقراب الأرض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة بعد أن لا تشرك بي شيئاً ، ابن آدم إنك إن تذنب ذنباً حتى يبلغ ذنبك عنان السماء ثم تستغفرني أغفر لك".
وروي أنّ الله تبارك وتعالى قال : "من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئاً" قال ثابت البناني : بلغني أنّ إبليس بكى حين نزلت هذه {والذين إذا فعلوا فاحشة} إلى آخرها.
وروي أنّ الله تعالى أوحى إلى موسى عليه الصلاة والسلام : "ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عمل كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي". وعن شهر بن حوشب : طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة ، وعن الحسن يقول الله تعالى يوم القيامة : "جوزوا الصراط بعفوي وادخلوا الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم" ، وعن رابعة البصرية أنها كانت تنشد :
*ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ** إنّ السفينة لا تجري على اليبس*
ونزل في هزيمة أحد.
{قد خلت} أي : مضت {من قبلكم سنن} جمع سنة وهي الطريقة التي يكون عليها الإنسان ويلازمها ومنه سنة الأنبياء عليه الصلاة والسلام أي : قد مضت من قبلكم طرائق في الكفار بإمهالهم ثم أخذهم {فسيروا} أيها المؤمنون {في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة} أي : آخر أمر {المكذبين} الرسل من الهلاك فلا تحزنوا لغلبتهم فأنا أمهلهم لوقتهم.
{هذا} أي : القرآن {بيان للناس} عامّة {وهدى} من الضلالة {وموعظة للمتقين} خاصة {ولا تهنوا} أي : تضعفوا عن قتال الكفار بما نالكم من القتل والجراح يوم أحد.(1/201)
{ولا تحزنوا} على ما أصابكم وكان قد قتل يومئذٍ من المهاجرين خمسة : منهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وقتل من الأنصار سبعون رجلاً {وأنتم الأعلون} أي : وحالكم أنكم أعلى شأناً منهم فإنكم على الحق وقتالكم لله وقتلاكم في الجنة ، وإنهم على الباطل وقتالهم للشيطان وقتلاهم في النار أو لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم اليوم أو هي بشارة لهم بالعلو والغلبة أي : وأنتم الأعلون في العاقبة {وإن جندنا لهم الغالبون} (الصافات ، 173) وقوله
286
تعالى : {إن كنتم مؤمنين} متعلق بالنهي بمعنى لا تهنوا إن صح إيمانكم على أنّ صحة الإيمان توجب قوّة القلب والثقة بالله تعالى وقلة المبالاة بأعدائه أو متعلق بالأعلون أي : إن كنتم مصدّقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 283
إن يمسسكم قرح} جهد من جرح ونحوه يوم أحد {فقد مس القوم} الكفار {قرح مثله} يوم بدر ثم إنهم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى أن لا تضعفوا فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون ، وقيل : كلا المسين كان يوم أحد ، فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ أبو بكر وشعبة وحمزة والكسائي بضم قاف قرح في الموضعين ، والباقون بالفتح وهما لغتان بمعنى ، وقال الفرّاء : القرح بالفتح الجرح وبالضم آلمه {وتلك الأيام} تلك مبتدأ أو الأيام صفته وقوله تعالى : {نداولها} خبره ويصح أنّ تلك الأيام مبتدأ وخبر كما تقول هي الأيام تبلي كل جديد والمراد بالأيام أوقات الظفر والغلبة أي : نصرّفها {بين الناس} قال البغوي : فيوماً عليهم ويوماً لهم. قال في "الكشاف" كقوله وهو من أبيات الكتاب :
*فيوم علينا ويوماً لنا ** ويوم نُساءُ ويوماً نُسَر*
تقديره فيوماً يكون الأمر علينا أي : بالأضرار ويوماً لنا أي : بالنفع فيكون يوماً ظرفاً ملائماً لقوله : ويوماً نُساء ويوماً نسر قاله الشيخ سعد الدين. أي : أديل تارة للمسلمين على المشركين وهو يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين ، وأسروا سبعين وأديل تارة للكافرين على المسلمين وهو يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمساً وسبعين.
روي أنه صلى الله عليه وسلم جعل عبد الله بن جبير على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلاً ، فقال : "إن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزموهم قال : فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهنّ وسوقهنّ رافعات ثيابهنّ" فقال أصحاب عبد الله بن جبير : الغنيمة الغنيمة فما تنتظرون ؟
فقال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : والله لنأتين الناس فلنصيبنّ من الغنيمة ، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم فلم يثبت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً فأصابوا منا سبعين وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة وسبعين أسيراً وسبعين قتيلاً ، فقال أبو سفيان : أفي القوم محمد ثلاث مرّات فنهاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه ، ثم قال : أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرّات ، ثم قال : أفي القوم ابن الخطاب ثلاث مرّات ، ثم رجع إلى أصحابه وهو يقول : أما هؤلاء فقد قتلوا فما ملك عمر نفسه فقال : كذبت والله يا عدوّ الله إنّ الذين عددت لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك قال : يوم بيوم بدر والحرب سجال إنكم ستجدون في القوم مثلة ثم أخذ يرتجز :
*
جزء : 1 رقم الصفحة : 283
اعل هبل اعل هبل*
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم "ألا تجيبوه ؟
" فقالوا : يا رسول الله ما نقول قال : قولوا الله أعلى وأجل قال : إنّ لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم "ألا تجيبوه" فقالوا : يا رسول الله ما نقول ؟
287
فقال : قولوا الله مولانا ولا مولى لكم". وفي حديث ابن عباس : قال أبو سفيان : يوم بيوم وإنّ الأيام دول والحرب سجال ، فقال عمر رضي الله تعالى عنه لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار" وإنما كانت الدولة يوم أحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم {وليعلم الله الذين آمنوا} أي : أخلصوا إيمانهم من غيرهم.
فإن قيل : ظاهر هذه الآية أنّ الله تعالى إنما فعل تلك المداولة ليكتسب هذا العلم وذلك في حقه تعالى محال ونظير هذا الإشكال قوله تعالى : {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} (آل عمران ، 142)
وقوله تعالى : {ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين} ( ، )
وقوله : {لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا} (الكهف ، 12)
وقوله : {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم} (محمد ، 31)
وقوله : {إلا لنعلم من يتبع الرسول} (البقرة ، 143)
وقوله : {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} (الملك ، 2)(1/202)
فظاهر هذه الآيات يدل على أنه تعالى إنما صار عالماً بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها ، وأجاب المتكلمون عنها بأن الدلائل العقلية دلت على أنه تعالى يعلم الحوادث قبل وقوعها ، فثبت أن التغير في العلم محال إلا أن إطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على المقدرة مجاز مشهور يقال : هذا علم فلان والمراد معلومه ، وهذه قدرة فلان والمراد مقدوره ، فكل آية يشعر ظاهرها بتجدّد العلم فالمراد تجدّد المعلوم وإذا عرف هذا فهذه الآية محتملة لوجوه أحدها : ليظهر المخلص من المنافق والمؤمن من الكافر وثانيها : ليعلم أولياء الله وأضاف إلى نفسه تفخيماً وثالثها : ليحكم بالإمتياز فأوقع العلم مكان الحكم بالامتياز ؛ لأنّ الحكم لا يحصل إلا بعد العلم ورابعها : ليعلم ذلك واقعاً كما كان يعلم أنه سيقع ؛ لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لا يوجد {ويتخذ منكم شهداء} ويكرم ناساً منكم بالشهادة وهم المتشهدون يوم أحد أو وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما وجد منهم من الثبات والصبر على الشدائد كما قال تعالى : لتكونوا شهداء على الناس وقوله تعالى : {وا لا يحب الظالمين} قال ابن عباس أي المشركين كقوله تعالى : {إن الشرك لظلم عظيم} وهو اعتراض بين بعض التعاليل وبعض وفيه تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافرين على الحقيقة وإنما يظفرهم أحياناً استدراجاً لهم وابتلاء للمؤمنين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 283
288
{وليمحص الله الذين آمنوا} أي : ليطهرهم من الذنوب بما أصابهم {ويمحق} أي : يهلك {الكافرين} أي : إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والإستشهاد والتمحيص وغير ذلك مما هو أصلح لهم ، وإن كانت على الكافرين فلمحقهم ومحو آثارهم.
{أمّ} منقطعة مقدّرة ببل ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي : بل أ{حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} في الشدائد وقد مرّ معنى يعلم.
تنبيه : قال البيضاوي : والفرق بين لما يعلم ولم أنّ في لما توقع الفعل فيما يستقبل لكن قال أبو حيان : لا أعلم أحداً من النحويين ذكره بل ذكروا أنك إذا قلت لما يخرج زيد دل ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلاً نفيه إلى وقت الإخبار ، وأمّا أنها تدل على توقعه في المستقبل فلا انتهى. لكن قال الفرّاء : لما لتعريض الوجود بخلاف لم.
{ولقد كنتم تمنون} فيه حذف إحدى التاءين في الأصل أي : تتمنون {الموت} أي : الحرب فإنها من أسباب الموت أو الموت بالشهادة والخطاب للذين لم يشهدوا بدراً وتمنوا أن يشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً لينالوا ما نال شهداء بدر من الكرامة فألحوا يوم أحد على الخروج {من قبل أن تلقوه} أي : تشاهدوه وتعرفوا شدّته {فقد رأيتموه} أي : الحرب أو الموت حتى قتل دونكم من قتل من إخوانكم {وأنتم تنظرون} أي : بصراء تتأملون الحال كيف هم فلم انهزمتم.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 288
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} فسيخلو كما خلوا بالموت أو القتل ومحمد هو المستغرق لجميع المحامد ؛ لأنّ الحمد لا يستوجبه إلا الكافل والتحيمد فوق الحمد فلا يستحقه إلا المستولي على الأمر في الكمال وأكرم الله تعالى نبيه وصفيه صلى الله عليه وسلم باسمين مشتقين من اسمه جل وعلا محمد وأحمد وفيه يقول حسان بن ثابت :
*وشق له من اسمه ليجله ** فذو العرش محمود وهذا محمد*
وقوله تعالى : {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} إنكار لارتدادهم وانقلابهم على أعقابهم عن الدين لخلوه صلى الله عليه وسلم بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به.
فإن قيل : قوله تعالى : {أفإن مات أو قتل} شك وهو على الله محال ؟
أجيب : بأن المراد أنه سواء وقع هذا أو ذاك فلا تأثير له في ضعف الدين ووجود الإرتداد ، قال ابن عباس وأصحاب المغازي : لما رأى خالد بن الوليد الرماة يوم أحد اشتغلوا بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في
289(1/203)
خيله من المشركين ثم حمل على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم من خلفهم ، فهزموهم وقتلوهم ورمى عبد الله ابن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله وتفرّق عنه أصحابه ، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة ليعلوها وكان قد ظاهر بين درعين فلم يستطع فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى عليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أوجب طلحة" ووقعت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد وأعطتها وحشياً وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها وأقبل عبد الله بن قمئة يريد قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم فذب مصعب بن عمير وهو صاحب راية النبيّ صلى الله عليه وسلم فقتله ابن قمئة وهو يرى أنه قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم فرجع وقال : إني قتلت محمداً وصاح صارخاً ، ألا إن محمداً قد قتل فقيل : إن ذلك الصارخ كان إبليس فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : "إليّ عباد الله إليّ عباد الله" فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً فحموه حتى كشفوا عنه المشركين ، ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه ونثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته فقال : "ارم فداك أبي وأمي".
جزء : 1 رقم الصفحة : 288
وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد النزع كسر يومئذٍ قوسين أو ثلاثاً ، فكان الرجل يمرّ ومعه جعبته من النبل فيقول : انثرها لأبي طلحة وكان إذا رمى يشرف النبيّ صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موضع نبله وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذٍ حتى وقعت على وجنته فردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها ، فعادت كأحسن ما كانت ، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه أبيّ بن خلف الجمحي وهو يقول : لا نجوت ، لا نجوت ، فقال القوم : يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دعوه حتى إذا دنا منه وكان أبيّ قبل ذلك يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : عندي رمكة أعلفها يوم فرق ذرة أقتلك عليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بل أنا أقتلك إن شاء الله" فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهده عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور وهو يقول : قتلني محمد واحتمله أصحابه وقالوا : ليس عليك بأس قال : بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم أليس قال لي : أقتلك فلو بزق عليّ بعد تلك المقالة لقتلني فلم يلبث إلا يوماً حتى مات بموضع يقال له سرف".
قال ابن عباس : اشتدّ غضب الله على من قتله نبيّ ، واشتدّ غضب الله على من رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وفشا في الناس أن محمداً قد قتل ، فقال بعض المسلمين : ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم وقال أناس من أهل النفاق : إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأوّل ، فقال أنس بن مالك بن النضر : يا قوم إن كان محمد قد قتل ، فإن رب محمد لم يقتل وما تصنعون في الحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وموتوا على ما مات عليه ثم قال : اللهمّ إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ـ يعني المسلمين ـ وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ـ يعني المنافقين ـ ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل ثم إن
290
رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس ، فأوّل من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وقال : عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم "فأشار إليّ أن أمسك" فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفرار ، فقالوا : يا نبيّ الله فديناك بآبائنا وأمّهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 288
فإن قيل : إنه تعالى بيّن في آيات كثيرة أنه عليه الصلاة والسلام لا يقتل فقال : {إنك ميت وإنهم ميتون} (الزمر ، 30)
وقال : {وا يعصمك من الناس} (المائدة ، 67)
وقال : {ليظهره على الدين كله} (التوبة ، 33)
وإذا علم أنه لا يقتل فلم قال أو قتل ؟
أجيب : بأن هذا ورد على سبيل الإلزام ، فإن موسى عليه الصلاة والسلام مات ولم ترجع أمّته عن دينه ، والنصارى زعموا أن عيسى عليه الصلاة والسلام قتل ولم يرجعوا عن دينه فكذا ههنا {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً} بارتداده وإنما يضرّ نفسه {وسيجزي الله الشاكرين} على نعمة الإسلام بالثبات عليه كأنس وأضرابه.(1/204)
{وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله} أي : بقضائه ومشيئته أو بإذنه لملك الموت في قبضه روحه وقوله تعالى : {كتاباً} مصدر أي : كتب الله ذلك {مؤجلاً} أي : مؤقتاً لا يتقدّم ولا يتأخر فلم انهزمتم والهزيمة لا تدفع الموت والثبات لا يقطع الحياة.
ونزل في الذين تركوا المركز يوم أحد طلباً للغنيمة {ومن يرد} أي : بعمله {ثواب الدنيا نؤته منها} ما نشاء مما قدّرناه له كما قال تعالى : {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} وفي الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا {ومن يرد} أي : بعمله {ثواب الآخرة نؤته منها} أي : من ثوابها {وسنجزي الشاكرين} أي : الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلا ما كتب له" وقال صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" وقوله تعالى :
{وكأين} أصله أي : دخلت الكاف عليها فصارت مركبة من كاف التشبيه ومن أي : وحدث فيهما بعد التركيب معنى التكثير المفهوم من كم الخبرية ومثلها في التركيب وإفهام التكثير كذا في قولهم : عندي كذا كذا درهماً وأصله كاف التشبيه ، وذا الذي هو إسم إشارة فلما ركبا حدث فيهما معنى التكثير فكم الخبرية وكأين وكذا كلها بمعنى واحد ، والنون تنوين في المعنى أثبت في الخط على غير قياس. قال البغوي : لم يقع للتنوين صورة في الخط إلا في هذا الحرف خاصة وقرأ ابن كثير بألف بعد الكاف بعدها همزة مكسورة ، والباقون بهمزة بعد الكاف مفتوحة
291
بعدها ياء مشدّدة ، ووقف أبو عمرو على الياء والباقون على النون وسهل حمزة الهمزة وحققها الباقون وقوله تعالى : {من نبيّ} تمييز لكأين لأنها مثل كم الخبرية وقوله تعالى : {قتل} قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم القاف وكسر التاء ولا ألف بين القاف والتاء والباقون بفتح القاف والتاء وألف بين القاف والتاء وقوله تعالى : {معه} خبر مبتدؤه {ربيون} وهم جمع ربي وهو العالم المتقي منسوب إلى الرب ، وإنما كسرت راؤه تغييراً في النسب وقيل : لا تغيير فيه وهو منسوب إلى الربة وهي الجماعة للمبالغة وقوله تعالى : {كثير} صفة لربيون وإن كان بلفظ الإفراد لأنّ معناه جمع {فما وهنوا} أي : ضعفوا {لما أصابهم في سبيل الله} من الجراح وقتل أنبيائهم وأصحابهم {وما ضعفوا} عن الجهاد {وما استكانوا} أي : خضعوا لعدوّهم كما فعلتم حين قيل : قتل نبيكم {وا يحب الصابرين} على الشدائد فيثيبهم ويعظم أجرهم.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 288
وما كان قولهم} عند قتل نبيهم مع ثباتهم وصبرهم وكونهم ربانيين {إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا} أي : تجاوزنا الحدّ وقولهم : {في أمرنا} إيذان بأنّ ما أصابهم لسوء فعلهم وهضماً لأنفسهم {وثبت أقدامنا} أي : بالقوّة على الجهاد {وانصرنا على القوم الكافرين} أي : فهلا قلتم وفعلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
{فآتاهم الله ثواب الدنيا} أي : بالنصر والغنيمة والعز وحسن الذكر {وحسن ثواب الآخرة} أي : بالجنة والنعيم المقيم وخص ثوابها بالحسن إشعاراً بفضله وأنه المعتدّ به عند الله {وا يحب المحسنين} أي : فيكثر لهم الثواب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 288
{يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا} أي : اليهود والنصارى فيما يأمرونكم به وقال علي : يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم ولو كان محمد نبياً لما قتل {يردّوكم على أعقابكم} أي : إلى الكفر {فتنقلبوا خاسرين} الدنيا والآخرة أمّا خسران الدنيا فلأنّ أشق الأشياء على العقلاء في الدنيا الإنقياد إلى العدوّ وإظهار الحاجة إليه وأمّا خسران الآخرة ، فالحرمان عن الثواب المؤبد والوقوع في العقاب المخلد.
{بل الله مولاكم} أي : ناصركم وحافظكم على دينكم {وهو خير الناصرين} فاستغنوا به عن ولاية غيره ونصره.(1/205)
{سنلقي} أي : سنقذف {في قلوب الذين كفروا الرعب} أي : الخوف وذلك أنّ الكفار لما هزموا المسلمين في أحد أوقع الله الرعب في قلوبهم فتركوهم وفرّوا منهم من غير سبب ، حتى روي أنّ أبا سفيان صعد الجبل ونادى يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت ، فقال عليه الصلاة والسلام : "إن شاء الله" وقيل : لما ذهبوا متوجهين إلى مكة ، فلما كانوا في بعض الطريق ندموا وقالوا : ما صنعنا شيئاً قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا الشريد تركناهم ارجعوا حتى نستأصلهم بالكلية ، فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم. وقرأ ابن عامر والكسائي بضم العين والباقون بالسكون {بما أشركوا} أي : بسبب إشراكهم {با ما لم ينزل به سلطاناً} أي : حجة على عبادته وهو الأصنام وهذا كقوله :
292
ولا ترى الضبّ بها ينحجر ، أي : ليس بها ضب فلا ينحجر فكذلك هؤلاء ليس لهم حجة أصلاً ، وأصل السلطنة القوة ومنه السليط لقوة اشتعاله والسلاطة بحدة اللسان {ومأواهم النار وبئس مثوى} أي : مأوى {الظالمين} أي : الكافرين هي.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 292
ولقد صدقكم الله وعده} قال محمد بن كعب القرظي : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة من أحد وقد أصابهم ما أصابهم قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ؟
فأنزل الله هذه الآية ؛ لأنّ النصر كان للمسلمين في الابتداء كما قال تعالى : {إذ تحسونهم} أي : تقتلونهم من حسه إذا أبطل حسه وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار ذال إذ عند التاء والباقون بالإدغام {بإذنه} أي : بإرادته {حتى إذا فشلتم} أي : جبنتم عن القتال {وتنازعتم} أي : اختلفتم {في الأمر} أي : أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمقام في سفح الجبل للرمي حين انهزم المشركون ، فقال بعضكم : نذهب فقد نصر أصحابنا وقال آخرون : لا تخالفوا أمر النبيّ فاثبتوا مكانكم ، فثبت عبد الله بن جبير أمير الرماة في نفر دون العشرة ونفر الباقون للنهبى وهو المعنى بقوله تعالى : وعصيتم أي : أمر النبي وتركتم المركز لطلب الغنيمة {من بعدما أراكم} أي : الله {ما تحبون} من الظفر والغنيمة وانهزام العدوّ وجواب إذا محذوف دل عليه ما قبله أي : منعكم نصره ويجوز أن يكون المعنى صدقكم الله وعده إلى وقت فشلكم وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل وأمرهم أن يثبتوا في مكانهم ولا يبرحوا سواء كانت الدولة للمسلمين أو عليهم ، فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم ، والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم ، ثم اشتغل بعضهم بالغنيمة كما قال تعالى : {منكم من يريد الدنيا} وهم التاركون المركز للغنيمة {ومنكم من يريد الآخرة} وهم الثابتون مع عبد الله بن جبير حتى قتلوا.
فإن قيل : فإذا كان البعض هو المخالف فكيف جاء العتاب عاماً بقوله : {وعصيتم} أجيب : بأنّ اللفظ وإن كان عاماً فقد جاء المخصص بعده وهو قوله : {منكم} وقوله تعالى : {ثم صرفكم} أي : ردّكم بالهزيمة {عنهم} أي : الكفار عطف على ما قبله والجملتان من قوله منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة اعتراض بين المتعاطفين وقيل : عطف على جواب إذا المقدّر {ليبتليكم} أي : ليمتحنكم فيظهر المخلص من غيره {ولقد عفا عنكم} ما ارتكبتموه من مخالفة أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم وميلكم إلى الغنيمة تفضلاً منه تعالى.
فإن قيل : إنّ ظاهر الآية يدل على أنّ الذنب من الصغائر لصحة العفو عنه من غير توبة لقيام الدليل على أن أصحاب الكبائر إذا لم يتوبوا لم يكونوا من أهل العفو والمغفرة أجيب : بأنّ هذا الذنب لا شك أنه كبيرة لأنهم خالفوا صريح نص الرسول صلى الله عليه وسلم وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام المسلمين فلا بدّ من إضمار توبتهم {وا} أي : المتفضل المنعم {ذو فضل على المؤمنين} أي : يتفضل عليهم بالعفو أو في الأحوال كلها سواء أجعلت الدولة لهم أم عليهم إذ الإبتلاء أيضاً رحمة وقوله تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 292
إذ} العامل فيها مضمر أي : اذكر إذ {تصعدون} أي : تبعدون في الأرض هاربين {ولا تلوون} أي : تعرجون {على أحد} أي : لا يقف أحد لأحد ولا ينتظره {والرسول
293
يدعوكم} أي : يقول : إليّ عباد الله إليّ عباد الله أنا رسول الله من يكرّ فله الجنة {في أخراكم} أي : من ورائكم {فأثابكم} أي : جازاكم {غماً}بالهزيمة {بغمّ} أي : بسبب غمكم الرسول بالمخالفة. وقيل : الباء بمعنى على أي : مضاعفاً على غمّ فوت الغنيمة.(1/206)
والغموم كانت هناك كثيرة أحدها : غمهم بما نالهم من العدوّ في الأنفس والأموال وثانيها : غمهم بما وقع منهم من المعصية وخوف عقابها وثالثها : غمهم بما وصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ورابعها : غمهم بسبب التوبة التي صارت واجبة عليهم ؛ لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بترك الهزيمة والعود إلى المحاربة بعد الإنهزام وذلك من أشق الأشياء ؛ لأنّ الإنسان بعد انهزامه يضعف قلبه ويجبن فإذا أمر بالمعاودة فإن فعل خاف القتل ، وإن لم يفعل خاف عقاب الآخرة وخامسها : غمهم حين سمعوا أن محمداً قد قتل وسادسها : غمهم حين أشرف عليهم خالد بن الوليد بخيل المشركين وسابعها : غمهم حين أشرف عليهم أبو سفيان.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذٍ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة ، فلما رأوه وضع رجل سهماً في قوسه وأراد أن يرميه فقال : "أنا رسول الله" ففرحوا حين وجدوه وفرح صلى الله عليه وسلم حين رأى من يمتنع به فأقبلوا على المشركين يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا ، فأقبل أبو سفيان وأصحابه حتى وقفوا بباب الشعب ، فلما نظر المسلمون إليهم همهم ذلك وظنوا أنهم يميلون عليهم ، فيقتلونهم فأنساهم هذا ما نالهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس لهم أن يعلونا اللهمّ إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض" ثم بدت أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم ، وإذا عرفت ذلك فلا يضر اختلاف المفسرين ، فإن بعضهم فسر هذين الغمين بغمين من هذه وبعضهم بخلافه وقال القفال : وعندي أن الله تعالى ما أراد بقوله غماً بغمّ اثنين وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها أي : إن الله تعالى عاقبكم بغموم كثيرة مثل قتل إخوانكم وأقاربكم ونزول المشركين من فوق الجبل عليكم بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم ، فكأنه تعالى قال : أثابكم هذه الغموم المتعاقبة ليصير ذلك زجراً لكم عن الإقدام على المعصية والإشتغال بما يخالف أمر الله تعالى. والغمّ التغطية ومنه غمّ الهلال إذا لم ير وقوله تعالى {لكيلا تحزنوا على ما فاتكم} أي : من الغنيمة متعلق بعفا أو بأثابكم فلا زائدة {ولا ما أصابكم} أي : من القتل والهزيمة {وا خبير بما تعملون} أي : عالم بأعمالكم وبما قصدتم بها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 292
294
{ثم أنزل عليكم} يا معشر المسلمين {من بعد الغمّ أمنة} أي : أمناً والأمن والأمنة بمعنى واحد وقيل : الأمن يكون مع زوال سبب الخوف ، والأمنة مع بقاء سبب الخوف وكان سبب الخوف ههنا قائماً وقوله تعالى : {نعاساً} بدل من أمنة ، وأمنة مفعول أو نعاساً هو المفعول وأمنة حال منه متقدّمة {يغشى طائفة منكم} وهم المؤمنون. وقرأ حمزة والكسائيّ بالتاء على التأنيث ردّاً إلى الأمنة والباقون بالياء على التذكير ردّاً إلى النعاس {وطائفة} وهم المنافقون {قد أهمتهم أنفسهم} أي : حملتهم على الهزيمة فلا رغبة لهم إلا إنجاءها دون النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يناموا ، فإن الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فريقان أحدهما : الجازمون بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم فهؤلاء كانوا قاطعين بأن الله ينصر هذا الدين وأن هذه الوقعة لا تؤدّي إلى الاستئصال فلا جرم كانوا آمنين وبلغ ذلك الأمن إلى أن غشيهم النعاس فإن النوم لا يجيء مع الخوف ، قال أبو طلحة : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فكان السيف يسقط من أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه ، وقال ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال : رفعت رأسي يوم أحد فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت حجفته من النعاس. قال الزبير : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتدّ الخوف ، فأرسل الله علينا النوم والله إني لأسمع قول معتب بن بشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم يقول : {لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا}. والفريق الثاني : هم المنافقون كانوا شاكين في نبوّته صلى الله عليه وسلم وما حضروا إلا لطلب الغنيمة فهؤلاء اشتدّ جزعهم وعظم خوفهم. قال ابن مسعود : النعاس في القتال أمنة ، والنعاس في الصلاة من الشيطان وذلك لأنه في القتال لا يكون إلا من الوثوق بالله والفراغ من الدنيا ، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 294
فإن قيل : ما فائدة هذا النعاس ؟
أجيب : بأنّ له فوائد : الأولى : أنّ السهر يوجب الضعف والكلال والنوم يفيد عود القوّة والنشاط والثانية : أنّ الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى الله تعالى النوم على الباقين لئلا يشاهدوا قتل غيرهم فيشتدّ خوفهم والثالثة : أنّ الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم فبقاؤهم في النوم مع السلامة في تلك المعركة من أدل الدلائل على أنّ الله تعالى يحفظهم ويعصمهم وذلك مما يزيل الخوف من قلوبهم ويورّثهم الأمن.
تنبيه : قوله تعالى : {وطائفة} مبتدأ والخبر {قد أهمتهم أنفسهم}.(1/207)
فإن قيل : كيف جاز الإبتداء بالنكرة ؟
أجيب : بأنه جاز لأحد أمرين : إمّا للإعتماد على واو الحال وقد عدّه بعضهم مسوّغاً وإن كان الأكثر لم يذكروه وأنشد :
295
*سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا ** محياك أخفى ضوءه كل شارق*
وإمّا لأنّ الموضع موضع تفصيل ، فإنّ المعنى يغشى طائفة وطائفة لم يغشاهم فهو كقوله :
*إذا ما بكى من خلفها انصرفت له ** بشق وشق عندنا لم يحوّل*
وقوله تعالى : {يظنون با غير الحق} أي : أن لا ينصر الله محمداً صفة أخرى لطائفة وغير الحق نصب على المصدر أي : يظنون بالله غير الظنّ الحق الذي يحق أن يظنّ به {ظنّ} أي : كظنّ {الجاهلية} حيث اعتقدوا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قتل أو لا ينصر وقوله تعالى : {يقولون} أي : لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدل من يظنون {هل لنا} أي : ما لنا لفظه استفهام ومعناه جحد {من الأمر} أي : النصر الذي وعدناه {من شيء} أي : شيء ومن صلة زيدت للتأكيد وهو إمّا مبتدأ خبره لنا وإمّا فاعل للنا لاعتماده على الإستفهام ومن الأمر حال من المبتدأ أو الفاعل وهو شيء لكونه مرفوعاً حقيقة لا مجروراً ، وقيل : إنّ عبد الله بن أبيا بنُ سلول لما شاوره النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه الوقعة أشار إليه بأن لا يخرج من المدينة ثم إنّ بعض الصحابة ألحوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم في أن يخرج إليهم فغضب ابن أبيّ من ذلك ، فقال : عصاني وأطاع الولدان ثم لما كثر القتل في بني الخزرج ورجع ابن أبي فقيل له : قتل بنو الخزرج فقال : هل لنا من الأمر من شيء يعني أنّ محمداً لم يقبل قولي حين أمرته بأن لا يخرج من المدينة والمعنى : هل لنا أمر يطاع فهو استفهام على سبيل الإنكار {قل} لهم يا محمد {إنّ الأمر كله } أي : الغلبة الحقيقية لله ولأوليائه ، فإنّ حزب الله هم الغالبون أو القضاء له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وقرأ أبو عمرو برفع اللام بعد الكاف على أنه مبتدأ والخبر لله والباقون بالنصب على أنه توكيد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 294
تنبيه : هذه الآية تدل على أنّ جميع المحدثات خلق الله تعالى بقضائه وقدره ؛ لأنّ المنافقين قالوا : لو أنّ محمداً قبل منا رأينا ونصحنا لما وقع في هذه المحنة ، فأجابهم الله تعالى بأنّ الأمر كله لله. وهذا إنما ينتظم إذا كانت أفعال العباد بقضائه وقدره ، إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب رافعاً لشبهة المنافقين وقوله تعالى : {يخفون في أنفسهم ما لا يبدون} أي : يظهرون {لك} حال من ضمير يقولون ، وقل إنّ الأمر كله لله اعتراض بين الحال وذي الحال أي : يقولون مظهرين أنهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الإنكار والتكذيب وقوله تعالى : {يقولون} بيان لما قبله {لو كان لنا من الأمر شيء} أي : كما وعد محمد وزعم أنّ الأمر كله لله ولأوليائه أو لو كان الإختيار إلينا لم نخرج كما كان رأي ابن أبيّ وغيره {ما قتلنا ههنا} أي : لما غلبنا ولما قتل من قتل منا في هذه المعركة.
{قل} لهم {لو كنتم في بيوتكم} وفيكم من كتب الله تعالى عليه القتل {لبرز} أي : خرج {الذين كتب} أي : قضى {عليهم القتل} منكم {إلى مضاجعهم} أي : مصارعهم فيقتلوا ولم ينجهم قعودهم ؛ لأنّ قضاء الله تعالى كائن لا محالة فإنه قدر الأمور ودبرها في سابق قضائه لا معقب لحكمه وقرأ أبو عمرو وحفص وورش بضم الباء في بيوتكم والباقون بالكسر قوله تعالى : {وليبتلي} أي : ليختبر {الله ما في صدوركم} أي : قلوبكم من الإخلاص والنفاق علة فعل محذوف تقديره فرض الله عليكم القتال ولم ينصركم يوم أحد ليبتلي وقيل : معطوف على علة
296
محذوفة تقديره ليقضي الله أمره وليبتلي وقوله تعالى : {وليمحص ما في قلوبكم} فيه وجهان : أحدهما : إنّ هذه الواقعة تخرج ما في قلوبكم من الوساوس والشبهات وتظهرها والثاني : إنها تصير كغارة لذنوبكم فيمحصكم من تبعات المعاصي والسيئات.
فإن قيل : قد سبق ذكر الإبتلاء في قوله تعالى : {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} فلِمَ أعاده ؟
أجيب : بأنه أعيد إما لطول الكلام بينهما وإما لأنّ الإبتلاء الأوّل هزيمة للمؤمنين والإبتلاء الثاني بسائر الأحوال {وا عليم بذات الصدور} أي : بما في القلوب قبل إظهارها وفيه وعد ووعيد وتنبيه على أنه تعالى : غني عن الإبتلاء وإنما يبتلي ليظهر للناس حال المؤمنين من حال المنافقين.
{إنّ الذين تولوا منكم} عن القتال {يوم التقى الجمعان} أي : جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد وكان قد انهزم أكثر المسلمين ولم يبق مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة عشر رجلاً : ستة من المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص {إنما استزلهم الشيطان} أي : طلب منهم الزلل بوسوسته {ببعض ما كسبوا} من الذنوب بترك المركز والحرص على الغنيمة ومخالفة النبيّ صلى الله عليه وسلم فأطاعوه فمنعوا التأييد وقوّة القلب حتى تولوا {ولقد عفى الله عنهم} لتوبتهم واعتذارهم {إنّ الله غفور} للذنوب {حليم} لا يعاجل بعقوبته المذنب كي يتوب.
{(1/208)
جزء : 1 رقم الصفحة : 294
يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا} أي : المنافقين وهم ابن أبي وأصحابه {وقالوا لإخوانهم} أي : في شأنهم ومعنى إخوانهم اتفاقهم في النفاق والكفر وقيل : في النسب {إذا ضربوا في الأرض} أي : سافروا فيها لتجارة أو غيرها فماتوا {أو كانوا غزا} أي : غزاة جمع غاز فقتلوا {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا} أي : لا تقولوا كقولهم {ليجعل الله ذلك} القول في عاقبة أمرهم {حسرة في قلوبهم} أي : لأنهم إذا ألقوا تلك الشبهة على المؤمنين لم يلتفتوا إليهم فيضيع سعيهم ويبطل كيدهم فتحصل الحسرة في قلوبهم. وقيل : إنّ اجتهادهم في تكثير الشبهات وإلقاء الضلالات يعمي قلوبهم فيقعون عند ذلك في الحسرة والخيبة وضيق الصدر وهو المراد بقوله تعالى : {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً} (الأنعام ، 125)
فإن قيل : كيف قيل إذا ضربوا مع قالوا ؟
أجيب : بأنّ ذلك هي حكاية الحال الماضية قال التفتازاني معناه : إنك تقدّر نفسك كأنك موجود في ذلك الزمان الماضي ، أو تقدر ذلك الزمان كأنه موجود الآن وهذا كقولك : قالوا ذلك حين يضربون والمعنى : حين ضربوا إلا أنك جئت بلفظ المضارع استحضاراً لصورة ضربهم في الأرض وقوله تعالى : {وا يحيي ويميت} ردّ لقولهم. أي : هو المؤثر في الحياة والممات لا الإقامة والسفر ، فإنه تعالى قد يحيي المسافر والمغازي ويميت المقيم والقاعد {وا بما تعملون بصير} قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة ردّاً على الذين كفروا ، والباقون بتاء الخطاب ردّاً على قوله : ولا تكونوا وهو خطاب للمؤمنين وفيه تهديد لهم على أن يماثلوهم.
{ولئن قتلتم} اللام هي الموطئة لقسم محذوف {في سبيل الله} أي : الجهاد {أو متم} أي : أتاكم الموت في سبيل الله وجواب القسم قوله تعالى : {لمغفرة} كائنة {من الله} وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسدّه لكونه دالاً عليه {ورحمة} أي : من الله فحذف صفتها لدلالة الأولى عليها ولا بد من حذف آخر مصحح للمعنى تقديره لمغفرة من الله لكم ورحمة منه لكم.
297
فإن قيل : المغفرة هي الرحمة فلم كررها ونكرها ؟
أجيب : بأنه إنما نكرها إيذاناً بأن أدنى خير وأقلّ شيء خير من الدنيا وما فيها وهو المراد بقوله : {خير مما تجمعون} من الدنيا وأما التكرير فغير مسلم ؛ لأنّ المغفرة مترتبة على الرحمة فيرحم ثم يغفر.
فإن قيل : كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعون أصلاً ؟
أجيب : بأنّ الذي يجمعونه في الدنيا قد يكون من الحلال الذي يعد خيراً وأيضاً هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات فقيل : المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات.
جزء : 1 رقم الصفحة : 294
يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا} أي : المنافقين وهم ابن أبي وأصحابه {وقالوا لإخوانهم} أي : في شأنهم ومعنى إخوانهم اتفاقهم في النفاق والكفر وقيل : في النسب {إذا ضربوا في الأرض} أي : سافروا فيها لتجارة أو غيرها فماتوا {أو كانوا غزا} أي : غزاة جمع غاز فقتلوا {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا} أي : لا تقولوا كقولهم {ليجعل الله ذلك} القول في عاقبة أمرهم {حسرة في قلوبهم} أي : لأنهم إذا ألقوا تلك الشبهة على المؤمنين لم يلتفتوا إليهم فيضيع سعيهم ويبطل كيدهم فتحصل الحسرة في قلوبهم. وقيل : إنّ اجتهادهم في تكثير الشبهات وإلقاء الضلالات يعمي قلوبهم فيقعون عند ذلك في الحسرة والخيبة وضيق الصدر وهو المراد بقوله تعالى : {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً} (الأنعام ، 125)
فإن قيل : كيف قيل إذا ضربوا مع قالوا ؟
أجيب : بأنّ ذلك هي حكاية الحال الماضية قال التفتازاني معناه : إنك تقدّر نفسك كأنك موجود في ذلك الزمان الماضي ، أو تقدر ذلك الزمان كأنه موجود الآن وهذا كقولك : قالوا ذلك حين يضربون والمعنى : حين ضربوا إلا أنك جئت بلفظ المضارع استحضاراً لصورة ضربهم في الأرض وقوله تعالى : {وا يحيي ويميت} ردّ لقولهم. أي : هو المؤثر في الحياة والممات لا الإقامة والسفر ، فإنه تعالى قد يحيي المسافر والمغازي ويميت المقيم والقاعد {وا بما تعملون بصير} قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة ردّاً على الذين كفروا ، والباقون بتاء الخطاب ردّاً على قوله : ولا تكونوا وهو خطاب للمؤمنين وفيه تهديد لهم على أن يماثلوهم.
{ولئن قتلتم} اللام هي الموطئة لقسم محذوف {في سبيل الله} أي : الجهاد {أو متم} أي : أتاكم الموت في سبيل الله وجواب القسم قوله تعالى : {لمغفرة} كائنة {من الله} وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسدّه لكونه دالاً عليه {ورحمة} أي : من الله فحذف صفتها لدلالة الأولى عليها ولا بد من حذف آخر مصحح للمعنى تقديره لمغفرة من الله لكم ورحمة منه لكم.
297(1/209)
فإن قيل : المغفرة هي الرحمة فلم كررها ونكرها ؟
أجيب : بأنه إنما نكرها إيذاناً بأن أدنى خير وأقلّ شيء خير من الدنيا وما فيها وهو المراد بقوله : {خير مما تجمعون} من الدنيا وأما التكرير فغير مسلم ؛ لأنّ المغفرة مترتبة على الرحمة فيرحم ثم يغفر.
فإن قيل : كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعون أصلاً ؟
أجيب : بأنّ الذي يجمعونه في الدنيا قد يكون من الحلال الذي يعد خيراً وأيضاً هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات فقيل : المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات.
جزء : 1 رقم الصفحة : 294
{ولئن متم أو قتلتم} على أيّ وجه اتفق هلاككم {لا إلى الله} لا غيره {تحشرون} في الآخرة فيجازيكم وقرأ نافع وحمزة {متم} بكسر الميم والباقون بالضم ، وقرأ حفص {يحشرون} بياء الغيبة والباقون بتاء الخطاب ورسمت لا إلى الله بألف بعد اللام.
فإن قيل : هنا ثلاثة مواضع فقدّم الموت على القتل في الأوّل والأخير وقدّم القتل على الموت في المتوسط فما الحكمة في ذلك ؟
أجيب : بأنّ الأوّل لمناسبة ما قبله من قوله : {إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزا} فرجع الموت لمن ضرب في الأرض والقتل لمن غزا ، وأمّا الثاني فلأنه محل تحريض على الجهاد فقدّم الأهم الأشرف ، وأمّا الأخير فلأن الموت أغلب.
{فبما رحمة} أي : فبرحمة {من الله لنت لهم} فما مزيدة للتأكيد والجار والمجرور مقدّم للدلالة على أنّ لينه صلى الله عليه وسلم ما كان إلا برحمة من الله ، ومعنى الرحمة توفيقه للرفق بهم حتى اغتم لهم بعد أن خالفوه {ولو كنت فظاً} أي : سيىء الخلق {غليظ القلب} أي : جافياً {لانفضوا} أي : تفرّقوا {من حولك} أي : عنك وذلك ؛ لأنّ المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله تعالى إلى الخلق وذلك لا يتم إلا بميل قلوبهم إليه وسكون نفوسهم لديه وهذا المقصود لا يتم إلا إذا كان رحيماً بهم كريماً يتجاوز عن ذنوبهم ويعفو عن سيئاتهم ويخصهم بالبر والشفقة فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول مبرأ عن سوء الخلق وغلظ القلب ويكون كثير الميل إلى إعانة الضعفاء كثير القيام بإعانة الفقراء. وحمل القفال هذه الآية على واقعة أحد قال : فبما رحمة من الله لنت لهم يوم أحد حين عادوا إليك بعد الإنهزام ، ولو كنت فظاً غليظ القلب فشافهتهم بالملامة على ذلك الإنهزام لانفضوا من حولك هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم من الإنهزام ، فكان ذلك مما يطمع العدوّ فيك وفيهم {فاعف} أي : تجاوز {عنهم} أي : ما أتوه {واستغفر لهم} ذنوبهم حتى أشفعك فيهم فأغفر لهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 298
واختلفوا في معنى قوله تعالى : {وشاورهم في الأمر} على وجوه أحدها : إنّ ذلك يقتضي شدّة محبته لهم فلو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة لهم فيحل سوء الخلق والفظاظة وثانيها : إنه عليه الصلاة والسلام وإن كان أكمل الناس عقلاً إلا أنّ عقول الخلق غير متناهية ، فقد يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر ببال آخر لا سيما فيما يتعلق بأمور الدنيا ، قال عليه الصلاة والسلام : "أنتم أعرف بأمور دنياكم وأنا أعرف بأمور دينكم" ولهذا السبب قال صلى الله عليه وسلم "ما شاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم" وثالثها : قال الحسن وسفيان بن عيينة : إنما أمر بذلك ليقتدي
298
به غيره في المشاورة وتصير سنة ورابعها : أنه عليه الصلاة والسلام شاورهم في وقعة أحد أشاروا عليه بالخروج وكان ميله أن لا يخرج ، فلما خرج وقع ما وقع فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم بسبب مشاورتهم شيء ، فأمر الله تعالى بمشاورتهم بعد تلك الواقعة ليدل على أنه لم يبق في قلبه أثر من تلك الواقعة وخامسها : أمره بالمشاورة لا ليستفيد منهم رأياً ولكن ليعلم مقادير عقولهم ومحبتهم له. وذكروا أيضاً وجوهاً أخر ، وفي هذا القدر كفاية واتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول أن يشاور الأمّة فيه ؛ لأنّ النص إذا جاء بطل الرأي {فإذا عزمت} أي : قطعت الأمر على إمضاء ما تريد بعد المشاورة {فتوكل على الله} أي : ثق به لا بالمشاورة فليس التوكل إهمال التدبير بالكلية بل بمراعاة الأسباب مع تفويض الأمر إلى الله تعالى {إن الله يحب المتوكلين} عليه فينصرهم ويهديهم إلى الصلاح.
{إن ينصركم الله} أي : يعنكم على عدوّكم كيوم بدر {فلا غالب لكم} أي : فلا يغلبكم أحد {وإن يخذلكم} بترك نصركم كيوم أحد {فمن ذا الذي ينصركم من بعده} أي : من بعد خذلانه أي : لا أحد ينصركم. وفي هذا تنبيه على المقتضي للتوكل وتحريض على ما يستحق به النصر من الله وتحذير عما يستجاب خذلانه {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} أي : فليخصوه بالتوكل عليه لما علموا أن لا ناصر سواه ؛ لأنّ إيمانهم يوجب ذلك ويقتضيه.(1/210)
{وما كان لنبي أن يغل} أي : ما صح لنبيّ أن يخون في الغنائم فإنّ النبوّة تنافي الخيانة واختلفوا في سبب نزول هذه الآية ، فقال ابن عباس : نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، فقال بعض المنافقين لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها ، وقال مقاتل : نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز وطلبوا الغنيمة وقالوا : نخشى أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئاً فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم تقسم يوم بدر ، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم "ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري ؟
" فقالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفاً ، فقال لهم صلى الله عليه وسلم "بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم ؟
" وقال محمد بن إسحاق بن يسار : هذا في الوحي يقول ما كان لنبي أن يكتم شيئاً من الوحي رغبة أو رهبة أو مداهنة ، كان صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن وفيه سب دينهم وسب آلهتهم فسألوا أن يترك ذلك فنزلت.
جزء : 1 رقم الصفحة : 298
وروي أنه صلى الله عليه وسلم غنم في بعض الغزوات وجمع الغنائم وتأخرت القسمة لبعض الموانع ، فجاء قوم وقالوا : ألا نقسم غنائمنا ؟
فقال عليه الصلاة والسلام : "لو كان لكم مثل أحد ذهباً ما حبست عليكم منه درهماً أتحسبون أني أغلكم مغنمكم" فنزلت وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بفتح الياء وضم الغين على البناء للفاعل والباقون بضم الياء وفتح الغين على البناء للمفعول والمعنى على هذا وما صح لنبي أن يوجد غالاً أو ينسب إلى الغلول {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} قال أكثر المفسرين : إنّ هذه الآية على ظاهرها ، قالوا : وهي نظير قوله تعالى في مانعي الزكاة {يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} (التوبة ، 35)
ويدل له قوله صلى الله عليه وسلم "لا ألقين أحدكم يجيء على رقبته يوم القيامة ببعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها نغاء فينادي : يا محمد فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك" قال المحققون : وفائدته أنه إذا
299
جاء يوم القيامة وعلى رقبته ذلك المغلول ازدادت فضيحته. وعن ابن عباس أنه قال : يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنم ثم يقال له : انزل إليه فخذه فينزل إليه فإذا انتهى إليه حمله على ظهره ، فإذا بلغ موضعه وقع في النار ثم يكلف أن ينزل إليه فيخرجه ففعل ذلك به. وعن أبي هريرة : قتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبد فقال الناس : هنيئاً له الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم تشتعل عليه ناراً" فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "شراك من النار أو شراكان من نار" وقال أبو مسلم : ليس المقصود من الآية ظاهرها بل المقصود تشديد الوعيد على سبيل التمثيل كقوله تعالى : {إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله} (لقمان ، 16)
فإنه ليس المقصود نفس هذا الظاهر بل المقصود إثبات أنّ الله تعالى لا يعزب عن علمه وعن حفظه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء فكذا ههنا المقصود تشديد الوعيد والمعنى أنّ الله تعالى يحفظ عليه هذا المغلول ويقرّره عليه يوم القيامة ويجازيه به ؛ لأنه تعالى لا يخفى عليه خافية. وعن أبي حميد الساعدي قال : استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسد على الصدقة ، فلما قدم قال : هذا لكم وهذا أهدي لي ، فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال : "ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول : هذا لكم وهذا أهدي لي ، فهلا جلس في بيت أمّه أو في بيت أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا فوالذي نفسي بيده لا يأخذ منها أحد شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تثغو" ثم رفع يديه حتى رؤيت عفرة إبطه ثم قال : "اللهمّ هل بلغت اللهمّ هل بلغت" {ثم توفى كل نفس} أي : تعطى جزاء {ما كسبت} أي : عملت وافياً الغال وغيره.
جزء : 1 رقم الصفحة : 298
فإن قيل : هلا قيل : ثم يوفى أي : الغال ما كسب ؟
أجيب : بأنه عم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه فإنه إذا كان كل كاسب مجزياً بعمله فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى {وهم لا يظلمون} شيئاً فلا ينقص ثواب مطيعهم ولا يزاد في عقاب عاصيهم وقوله تعالى : (1/211)
{أفمن اتبع رضوان الله} الهمزة فيه للإنكار والفاء للعطف على محذوف والتقدير أفمن اتقى فاتبع رضوان الله {كمن باء} أي : رجع {بسخط من الله} بسبب المعاصي {ومأواه جهنم وبئس المصير} أي : المرجع هي أي : ليس مثله واختلف في المراد من هذه الآية ، فقال الكلبي والضحاك : فمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول كمن باء بسخط من الله في فعل الغلول ، وقال الزجاج : لما حل المشركون على المسلمين دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى أن يحملوا على المشركين ففعله بعضهم وتركه آخرون فقوله : {أفمن اتبع رضوان الله} هم الذين امتثلوا أمره كمن باء بسخط من الله هم الذين لم يقبلوا قوله.
وقيل : {أفمن اتبع رضوان الله} بالإيمان به والعمل بطاعته كمن باء بسخط من الله بالكفر به والإشتغال بمعصيته ، قال القاضي : وكل واحد من هذه الوجوه صحيح ولكن لا يجوز قصر اللفظ
300
عليه ؛ لأنّ اللفظ عام فيجب أن يتناول الكل وإن كانت الآية نزلت في واقعة معينة لكن عموم اللفظ لا يبطل بخصوص السبب.
تنبيه : الفرق بين المصير والمرجع أنّ المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى ولا كذلك المرجع فإنه قد يوافق المبدأ ، وقرأ شعبة {رضوان} بضم الراء والباقون بالكسر وقوله تعالى :
{هم درجات} مبتدأ وخبر أي : الفريقان درجات ولا بد من تأويل في الأخبار بالدرجات عن هم ؛ لأنها ليست إياهم فيجوز أن يكون جعلوا نفس الدرجات مبالغة ، والمعنى : إنهم متفاوتون في الجزاء على كسبهم كما أنّ الدرجات متفاوتة فهو تشبيه بليغ بحذف الأداة أي : هم مثل الدرجات في التفاوت ويجوز أن يكون على حذف مضاف أي : ذوو درجات أي : أصحاب منازل ورتب في الثواب والعقاب {عند الله} فلمن اتبع رضوانه الثواب ولمن باء بسخطه العقاب {وا بصير بما يعملون} أي : عالم بأعمالهم ودرجاتها فيجازيهم على حسبها.
{لقد منّ الله على المؤمنين} أي : أنعم على من آمن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ووجه هذه المنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى ما يخلصهم من عقاب الله تعالى ويوصلهم إلى ثوابه كقوله تعالى : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء ، 107)
جزء : 1 رقم الصفحة : 298
فإن قيل : لم خصهم بالنعمة مع أن البعثة عامّة ؟
أجيب : بأنهم هم المنتفعون بها كقوله تعالى : {هدى للمتقين} {إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} أي : من جنسهم عربياً مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة ويكونوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة ، فكان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه والوثوق به ويشرفوا به لا ملكاً ولا عجمياً وقرىء شاذاً من أنفسهم بفتح الفاء أي : من أشرفهم ؛ لأنه كان من أشرف قبائل العرب وبطونهم وقد خطب أبو طالب لما تزوّج صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله تعالى عنها وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر ، فقال : الحمد لله الذي جعلنا من ذريّة إبراهيم وزرع إسمعيل وضئضىء معد وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمنا وجعلنا الحكام على الناس ثم إنّ ابن أخي هذا محمد بن عبد الله من لا يوزن به فتى من قريش الإرجح به ، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل. ولم أذكر في التفسير قراءة شاذة إلا هذه لكونها في شرف الرسول صلى الله عليه وسلم وقراءة السيدة فاطمة رضي الله تعالى عنها {يتلو عليهم آياته} أي : القرآن بعدما كانوا جهالاً لم يسمعوا الوحي {ويزكيهم} أي : ويطهرهم من دنس الطباع وسوء العقائد والأعمال {ويعلمهم الكتاب} أي : القرآن {والحكمة} أي : السنة من بعدما كانوا من أجهل الناس وأبعدهم من دراسة العلوم كما قال تعالى : {وإن كانوا من قبل} أي : قبل بعثته صلى الله عليه وسلم {لفي ضلال مبين} أي : بين ظاهر.
{أو لما} أي : حين {أصابتكم مصيبة} بأحد بقتل سبعين منكم {قد أصبتم مثليها} ببدر بقتل سبعين وأسر سبعين {قلتم} متعجبين {أنى} أي : من أين لنا {هذا} القتل والهزيمة ونحن مسلمون ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا ، والجملة الأخيرة محل الإستفهام الإنكاري {قل} لهم {هو من عند أنفسكم} أي : هو مما اقترفته أنفسكم من مخالفة الأمر بترك المركز ، فإن الوعد كان مشروطاً بالثبات في المركز والمطاوعة في الأمر ، وعن علي رضي الله تعالى عنه لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم.
روى عبيدة السلماني عن علي رضي الله تعالى عنه قال : جاء جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إنّ
301(1/212)
الله قد كره ما صنع قومك من أخذهم الفداء من الأسارى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدّموا ـ أي : الأسارى ـ فتضرب أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عددهم ، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا لا بل نأخذ منهم فداهم فنتقوّى به على قتال أعدائنا ويستشهد منا عدّتهم ، فقتل منهم يوم أحد سبعون عدد أسارى بدر" وهذا معنى قوله : {قل هو من عند أنفسكم} أي : بأخذكم الفداء واختياركم للقتل {إنّ الله على كل شيء قدير} فيقدر على النصر وعلى منعه وعلى أن يصيب بكم تارة ويصيب منكم أخرى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 298
{وما أصابكم يوم التقى الجمعان} أي : جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد من القتل والجرح والهزيمة {فبإذن الله} أي : فهو كائن بقضائه وإرادته ودخلت الفاء في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط نحو الذي يأتيني فله درهم {وليعلم المؤمنين} وقد تقدّم أنّ معنى وليعلم الله كذا أي : يميز أو يظهر للناس ما كان في علمه.
{وليعلم الذين نافقوا} قال الواحدي : يقال نافق الرجل فهو منافق إذا أظهر كلمة الإيمان وأضمر خلافها. قال أبو عبيدة : مشتق من نافقاء اليربوع ؛ لأنّ جحر اليربوع له بابان القاصعاء والنافقاء فإن طلب من أيهما كان يخرج من الآخر فقيل للمنافق : إنه منافق وهم اسم إسلامي ؛ لأنه صنع لنفسه طريقين إظهار الإسلام وإضمار الكفر فمن أيهما طلب خرج من الآخر وقوله تعالى : {وقيل لهم} عطف على نافقوا أي : وليعلم الذين قيل لهم لما انصرفوا عن القتال وقالوا : لم نلق
302
أنفسنا في القتل فرجعوا ، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه وكانوا ثلاثمائة من جملة الألف الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم {تعالوا قاتلوا في سبيل الله} الكفار {أو ادفعوا} عنا أي : إن كان في قلبكم حب الإيمان فقاتلوا للدين ، وإن لم تكونوا كذلك فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم ، وقال السدي وابن جريج : ادفعوا عنا العدوّ بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا ؛ لأنّ الكثرة أحد أسباب الهيبة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 302
روي عن سهل بن سعد الساعدي وقد كف بصره : لو أمكنني لبعت داري ولحقت بثغر من ثغور المسلمين فكنت بينهم وبين عدوّهم قيل : وكيف وقد ذهب بصرك ؟
قال : لقوله تعالى : {أو ادفعوا} أراد أكثروا سوادهم واختلفوا في القائل فقال الأصم : إنه الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم إلى القتال وقيل : أبو جابر الأنصاري قال لهم : أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العدوّ {قالوا لو نعلم} أي : نحسن {قتالاً لاتبعناكم} فيه قال تعالى تكذيباً لهم : {هم للكفر يومئذٍ} أي : يوم إذ قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم {أقرب منهم للإيمان} أي : لانقطاعهم وارتدادهم وكلامهم ، فإنّ ذلك أوّل إمارات ظهرت منهم مؤذنة بكفرهم. وقيل : المعنى على حذف مضاف أي : هم لأهل الكفر أقرب منهم لأهل الإيمان بما أظهروه من خذلانهم للمؤمنين وكانوا قبل أقرب إلى الإيمان من حيث الظاهر.
تنبيه : فضلوا هنا على أنفسهم باعتبار حالين ووقتين ، ولولا ذلك لم يجز تقول زيد قاعداً أفضل منه قائماً أو زيد قاعداً اليوم أفضل منه قاعداً غداً ولو قلت : زيد اليوم قاعداً أفضل منه اليوم قاعداً لم يجز {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} أي : يظهرون خلاف ما يضمرون لا تواطىء قلوبهم ألسنتهم بالإيمان فهم وإن كانوا يظهرون الإيمان باللسان لكنهم يضمرون في قلوبهم الكفر.
تنبيه : إضافة القول إلى الأفواه تصوير لنفاقهم ، فإنّ إيمانهم موجود في أفواههم فقط وبهذا انتفى كونه للتأكيد ، كما قيل به لتحصيل هذه الفائدة وقال ابن عادل : والظاهر أنّ القول يطلق على اللساني وعلى النفساني فتقييده بأفواههم تقييد لأحد محمليه اللهمّ إلا أن يقال إطلاقه على النفساني مجاز {وا أعلم بما يكتمون} أي : عالم بما في ضمائرهم وبما يخلو به بعضهم إلى بعض فإنه يعلم ذلك مفصلاً بعلم واجب وأنتم تعلمونه مجملاً بإمارات وجوّزوا في موضع.
{الذين قالوا} ألقاب الإعراب الثلاثة : الرفع والنصب والجرّ ، فالرفع من ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون مرفوعاً على خبر مبتدأ محذوف تقديره هم الذين ، الثاني : أنه بدل من واو يكتمون ، الثالث : إنه مبتدأ والخبر قوله {قل فادرؤا} ولا بد من حذف عائد تقديره قل لهم فادرؤا ، والنصب من ثلاثة أوجه أيضاً : أحدها : النصب على الذمّ أي : أذم الذين قالوا ، الثاني : أنه بدل من الذين نافقوا ، الثالث : إنه صفة لهم ، والجرّ من وجهين : أحدهما أنه بدل من الضمير في بأفواههم ، والثاني : أنه بدل من الضمير في قلوبهم. كقول الفرزدق :
*
جزء : 1 رقم الصفحة : 302
على حالة لو أنّ في القوم حاتماً ** على جوده لضنّ بالماء حاتم*(1/213)
بجرّ حاتم على أنه بدل من الهاء في جوده وضن مبني للمفعول وهو بالماء أي : ولو أن حاتماً مستقرّاً في القوم كائناً على جوده ، وهم بتلك الحالة لبخل بالماء {لإخوانهم} أي : لأجل إخوانهم
303
من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد أو إخوانهم في النسب أو في سكنى الدار أو في عداوة النبيّ صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى : {وقعدوا} حال مقدّرة بقد أي : قالوا : قاعدين عن القتال {لو أطاعونا} في القعود {ما قتلوا} كما لم نقتل. واختلف في قائل ذلك ، فقال أكثر المفسرين : هو ابن أبي وأصحابه ، وقول الأصم هذا لا يجوز ؛ لأنّ ابن أبي خرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجهاد يوم أحد وهذا القول واقع ممن تخلف فيه نظر لاحتمال أنّ المراد بالقعود القعود عن القتال لا عن الخروج إلى القتال {قل : } لهم {فادرؤا} أي : ادفعوا {عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} في أن القعود ينجي منه لأنكم إن دفعتم القتل الذي هو أحد أسباب الموت لم تقدروا على دفع سائر أسبابه المبثوثة ولا بد لكم أن يتعلق بكم بعضها.
وروي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة : سبعون منافقاً.
فإن قيل : ما وجه هذا الاستدلال فإن التحرز عن القتل ممكن وأمّا التحرز عن الموت فغير ممكن ؟
أجيب : بأن الكل بقضاء الله وقدره فلا فرق بين الموت والقتل وفي قوله تعالى : {فادرؤا عن أنفسكم الموت} استهزاء بهم أي : إن كنتم رجالاً دفاعين لأسباب الموت فادرؤا جميع أسبابه حتى لا تموتوا ، ونزل في شهداء أحد كما رواه الحاكم : وكانوا سبعين رجلاً : أربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شاس وعبد الله بن جحش وسائرهم من الأنصار.
{ولا تحسبن} أي : ولا تظنن {الذين قتلوا في سبيل الله} أي : لأجل دينه والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد {أمواتاً بل} هم {أحياء عند ربهم} أي : ذوو زلفى منه فليس المراد القرب المكاني لاستحالته ولا بمعنى في علمه وحكمه لعدم مناسبة المقام له بل بمعنى القرب شرفاً ورتبة.
قال البيضاوي وقيل : نزلت في شهداء بدر أي : وكانوا أربعة عشر رجلاً ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين ، قال شيخنا القاضي زكريا : وهو غلط إنما نزل فيهم آية البقرة {يرزقون} من ثمار الجنة.
روى ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال : "أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش".
جزء : 1 رقم الصفحة : 302
وروي أنّ الله تعالى يطلع عليهم ويقول : سلوني ما شئتم فيقولون : يا رب كيف نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا ؟
فلما رأوا أن لا يتركوا من أن يسألوا شيئاً قالوا : نسألك أن تردّ أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا نقتل في سبيلك لما رأوا من النعيم ، كما قال تعالى :
{فرحين بما آتاهم الله من فضله} وهو شرف الشهادة والفوز بالحياة الأبدية والقرب من الله والتمتع بنعيم الجنة {ويستبشرون} أي : ويفرحون {بالذين لم يلحقوا بهم} من إخوانهم الذين تركوهم أحياء في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد لعلمهم أنهم إذا استشهدوا لحقوا بهم ونالوا من الكرامة ما نالوا فلذلك يستبشرون {من خلفهم} أي : الذين من خلفهم زماناً أو رتبة وأبدل من الذين {أن} أي : بأن {لا خوف عليهم} أي : الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم {ولا هم يحزنون} في الآخرة والمعنى : إنهم يستبشرون بما تبين لهم من أمر الآخرة وحال من تركوا خلفهم
304
من المؤمنين وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة لا يكدّرون بخوف وقوع محذور ولا بحزن فوات محبوب وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على ازدياد الطاعة والجدّ في الجهاد والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم وإحماد لحال من يرى نفسه في خير فيتمنى مثله لإخوانه ؛ لأنّ الله تعالى مدحهم على ذلك.
{يستبشرن بنعمة من الله وفضل} لما بين تعالى أنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم بين هنا أنهم يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم لذلك أعاد لفظ الإستبشار.
فإن قيل : أليس ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم والفرح عين الإستبشار فلزم التكرار ؟
أجيب : بأن الإستبشار هو الفرح التامّ فلا يلزم التكرار بأنّ المراد حصول الفرح بما حصل في الحال وحصول الإستبشار بما عرفوا أن النعمة العظيمة تحصل لهم في الآخرة والفرق بين النعمة والفضل أن النعمة هي الثواب والفضل هو التفضل الزائد.
فإن قيل : لم قال يستبشرون من غير عطف ؟
أجيب : بأنه تأكيد للأوّل ؛ لأنه قصد بالنعمة والفضل بيان متعلق الإستبشار الأول {وأنّ الله لا يضيع أجر المؤمنين} لما ذكر إيصال الثواب العظيم إلى الشهداء بين أنّ ذلك ليس مخصوصاً بهم بل كل مؤمن يستحق شيئاً من الأجر والثواب ، فإنّ الله تعالى يوصل ثوابه إليه ولا يضيعه وقوله تعالى :
{الذين استجابوا والرسول} أي : دعاءه مبتدأ {من بعد ما أصابهم القرح} بأحد وخبر المبتدأ {للذين أحسنوا منهم} بطاعته {واتقوا} مخالفته {أجر عظيم} هو الجنة.(1/214)
جزء : 1 رقم الصفحة : 302
روي أنّ أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوّة فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان وقال : "لا يخرجنّ معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فخرج صلى الله عليه وسلم مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد" وهي من المدينة على ثمانية أميال وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر.
روي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة ثم إنّ المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى وذلك لكثرة الجراحات فيهم وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة ، فمرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم معبد الخزاعي بحمراء الأسد ، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعبد يومئذٍ مشرك فقال : يا محمد والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أنّ الله قد أعفاك فيهم ، ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء ، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى أبو سفيان معبداً قال : ما وراءك يا معبد ؟
قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط قال : ويلك ما تقول ؟
قال : والله ما أراك ترحل حتى ترى نواصي الخيل فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت.
تنبيه : من في الذين أحسنوا منهم للتبيين مثلها في قوله تعالى : {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة} (الفتح ، 29)
لأنّ الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم وقوله تعالى :
305
{الذين} بدل من الذين قبله أو نعت {قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم} أي : الجموع ليستأصلوكم {فاخشوهم}.
جزء : 1 رقم الصفحة : 302
روي أنّ أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت ، فقال صلى الله عليه وسلم "إن شاء الله" فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مرّ الظهران فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمراً فقال : يا نعيم إني واعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر وإنّ هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي أن لا أخرج إليه ، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جراءة ، ولأن يكون الخلف من قبلهم أحبّ إلي من أن يكون من قبلي ، فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أني في جمع كثير ولا طاقة لهم بنا ولك عندي عشرة من الإبل أضعها في يد سهل بن عمرو ويضمنها ، فقال له نعيم : يا أبا يزيد أتضمن لي ذلك وأنطلق إلى محمد وأثبطه ؟
قال : نعم ، فخرج نعيم حتى أتى المدينة ، فوجد الناس يجهزون لميعاد أبي سفيان فقال : أين تريدون ؟
فقالوا : واعدنا أبو سفيان بموسم بدر الصغرى أن نقتتل بها ، فقال : بئس الرأي رأيتم أتوكم في دياركم وقراركم ، فلم يفلت منكم أحد إلا شريداً فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم والله لا يفلت منكم أحد ، فكره بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لأخرجنّ ولو وحدي ولو لم يخرج معي أحد" فخرج في سبعين راكباً وهم يقولون : حسبنا الله ونعم الوكيل ولم يلتفتوا إلى ذلك القول كما قال تعالى : {فزادهم} ذلك القول {إيماناً} أي : تصديقاً بالله ويقيناً {وقالوا حسبنا الله} أي : كافينا أمرهم {ونعم الوكيل} أي : المفوّض إليه الأمر هو حتى وافوا بدراً الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون : قد جمعوا لكم يريدون أن يرهبوا المسلمين فيقول المسلمون : حسبنا الله ونعم الوكيل وهذه هي الكلمة التي قالها إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حين ألقي في النار ، حتى بلغوا بدراً وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ينتظر أبا سفيان ثمان ليال ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحداً من المشركين ووافوا السوق وكان معهم تجارات فباعوها واشتروا أدماً وزبيباً وأصابوا الدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين كما قال تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 302
أي : انصرفوا {بنعمة من الله} أي : بعافية لم يلقوا عدوّاً {وفضل} أي : تجارة وربح وهو ما أصابوا في السوق {لم يمسسهم سوء} أي : لم يصبهم أذى ولا مكروه ، ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق قالوا : إنما خرجتم لتشربوا السويق.
تنبيه : الناس الأول المثبطون والآخرون أبو سفيان وأصحابه.(1/215)
فإن قيل : المثبط هو أبو نعيم فكيف قيل : الناس ؟
أجيب : بأنه من جنس الناس كما يقال : فلان يركب الخيل ويلبس البرد وماله إلا فرس واحد ، وبرد واحد ولأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يثبطون مثل تثبيطه بل قيل : إنهم كانوا جماعة فقد مرّ بأبي سفيان ركب من عبد القيس يريدون المدينة للميرة فجعل لهم حمل بعير من زبيب إن ثبطوهم.
فإن قيل : كيف زادهم القول إيماناً ؟
أجيب : بأنهم لما سمعوا ذلك وأخلصلوا عنده النية والعزم على الجهاد وأظهروا حمية الإسلام كان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى لاعتقادهم كما يزداد
306
الإيمان والإيقان بتناصر الحجج ، ولأن خروجهم على أثر التثبيط إلى وجه العدو طاعة عظيمة والطاعات تزيد الإيمان فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قلنا : يا رسول الله إنّ الإيمان يزيد وينقص قال : "نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار". وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يأخذ بيد الرجل فيقول : قم بنا نزدد إيماناً ، وعنه رضي الله تعالى عنه : "لو وزن إيمان أبي بكر رضي الله تعالى عنه بإيمان هذه الأمّة لرجح به" {واتبعوا رضوان الله} الذي هو مناط الفوز بخير الدارين بجراءتهم وخروجهم {وا ذو فضل عظيم} قد تفضل عليهم بالتثبيت وزيادة الإيمان والتوفيق للمبادرة إلى الجهاد والتصلب في الدين وإظهار الجراءة على العدوّ بالحفظ على كل من يسوءهم وإصابة النفع من ضمان الأجر حتى انقلبوا بنعمة من الله وفضل وفيه تحسر المتخلف وتخطئة رأيه حيث حرم نفسه ما فازوا به.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 306
إنما ذلكم} أي : المثبط أو أبو سفيان {الشيطان يخوّف أولياءه} أي : القاعدين عن الخروج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم أو يخوّفكم أولياءه وهم أبو سفيان وأصحابه ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى : {فلا تخافوهم وخافون} في مخالفة أمري فجاهدوا مع رسولي {إن كنتم مؤمنين} حقاً فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف الله على خوف الناس ، وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء وصلاً وحذفها وقفاً ، والباقون بالحذف وقفاً ووصلاً.
{ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} أي : يقعون فيه وقوعاً سريعاً حرصاً عليه ، وهم المنافقون من المتخلفين أو قوم ارتدوا عن الإسلام أي : لا تهتم لكفرهم {إنهم لن يضرّوا الله شيئاً} بفعلهم وإنما يضرّون به أنفسهم ، وقرأ نافع يحزنك بضمّ الياء وكسر الزاي حيث وقع ما خلا قوله تعالى في الأنبياء {لا يحزنهم الفزع الأكبر} (الأنبياء ، 103)
فإنه على فتح الياء وضمّ الزاي فيه والباقون كذلك في الكل من حزنه لغة في أحزنه {يريد الله أن لا يجعل لهم حظاً} أي : نصيباً {في الآخرة} أي : الجنة فلذلك خذلهم وهو يدل على تمادي طغيانهم وموتهم على الكفر {ولهم} مع حرمان الثواب {عذاب عظيم} في النار.
{إنّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان} أي : أخذوه بدله {لن يضروا الله} بكفرهم {شيئاً ولهم عذاب أليم} أي : مؤلم وكرّر ذلك للتأكيد أو هو تعميم للكفرة بعد تخصيص من نافق من المتخلفين أو ارتدوا من الأحزاب.
ونزل في مشركي مكة كما قاله مقاتل أو في قريظة أو النضير كما قاله عطاء :
{ولا يحسبنّ الذين كفروا أنما نملي} أي : نمهل {لهم} بتطويل الأعمار {خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً} بكثرة المعاصي {ولهم عذاب مهين} أي : ذو إهانة.
روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل : أيّ الناس خير ؟
قال : "من طال عمره وحسن عمله" قيل : فأيّ الناس شرّ ؟
قال : "من طال عمره وساء عمله" وقرأ حمزة : {ولا تحسبنّ الذين كفروا} و{لا تحسبنّ
307
الذين يبخلون} بالتاء فيهما على الخطاب ، والباقون بالياء على الغيبة وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة.
{ما كان الله ليذر} أي : ليترك {المؤمنين على ما أنتم عليه} أيها الناس من اختلاط المسلم بغيره {حتى يميز} أي : يفصل {الخبيث} أي : المنافق {من الطيب} ، واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال الكلبيّ : قالت قريش : يا محمد تزعم أنّ من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان ، وأنّ من اتبعك على دينك فهو في الجنة والله عنه راض فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن ؟
فنزلت وقال السديّ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عرضت عليّ أمّتي في صورتها في الطين كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن ومن يكفر" فبلغ ذلك المنافقين ، فقالوا استهزاء : زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعده ونحن معه وما يعرفنا ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر وحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : "ما بال أقوام طعنوا في علمي لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلا نبأتكم به" فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال : من أبي يا رسول الله ؟
قال : "حذافة" فقام عمر رضي الله تعالى عنه فقال : يا رسول الله رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبك نبياً فاعف عنا عفا الله تعالى عنك ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم "فهل أنتم منتهون ؟
" ثم نزل عن المنبر فنزلت.(1/216)
جزء : 1 رقم الصفحة : 306
فإن قيل : لمن الخطاب في أنتم ؟
أجيب : بأنه للمصدّقين جميعاً من أهل النفاق والإخلاص كأنه قيل : ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض ، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم لاتفاقكم على التصديق جميعاً حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم أو بالتكاليف الشاقة التي لا يصبر عليها ولا يذعن لها إلا الخلص المخلصون منكم كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله فيختبر بها بواطنكم ويستدلّ بها على عقائدكم ففعل ذلك يوم أحد حيث أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ حمزة والكسائي يميز بضم الياء وفتح الميم وتشديد الياء بعد الميم مع كسرها ، والباقون بفتح الياء وكسر الميم وسكون الياء بعد الميم {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} فتعرفوا المنافق من غيره قبل التمييز {ولكنّ الله يجتبي من رسله من يشاء} فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات أو ينصب له ما يدل عليها {فآمنوا با ورسله} أي : بصفة الإخلاص أو بأن تعلموا أنّ الله وحده مطلع على الغيب وتعلموا أنهم عباد مجتبون لا يعلمون إلا ما علمهم الله تعالى ولا يقولون إلا ما يوحى إليهم.
روي أنّ الكفرة قالوا : إن كان محمد صادقاً فليخبرنا بمن يؤمن ومن يكفر فنزلت الآية {وإن تؤمنوا} حق الإيمان {وتتقوا} النفاق {فلكم أجر عظيم} أي : لا يقادر قدره.
{ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو} أي : بخلهم {خيراً لهم بل هو} أي : بخلهم {شرّ لهم} لاستجلاب العقاب إليهم ، واختلفوا في المراد بهذا البخل ، فقال أكثر العلماء : المراد به منع الواجب واستدلوا بوجوه : أحدها : أنّ الآية دالة على الوعيد الشديد وذلك لا يليق إلا بالواجب وثانيها : أنّ الله تعالى ذمّ البخل ، والتطوّع لا يذمّ على تركه وثالثها : قال عليه الصلاة والسلام : "وأي داء أدوأ من البخل" ، وتارك التطوّع لا يليق به هذا الوصف وإنفاق الواجب على أقسام منها : إنفاقه على نفسه وعلى أقاربه الذين تلزمه مؤنتهم ومنها : الزكوات ومنها ما إذا احتاج المسلمون إلى دفع عدوّ يقصد أنفسهم وأموالهم فيجب عليهم إنفاق الأموال على من
308
يدفعهم عنهم ومنها : دفع ما يسدّ رمق المضطرّ.
{سيطوّقون} أي : سوف يطوّقون {ما بخلوا به يوم القيامة} اختلفوا في هذا الوعيد ، فقال ابن عباس وابن مسعود : يجعل ما منعه من الزكاة حية يطوّقها في عنقه يوم القيامة تنهشه من فرقه إلى قدمه وتنقر رأسه تقول : أنا مالك. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك ثم تلا : {ولا يحسبن الذين يبخلون} الآية" ، وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده ـ أو الذي لا إله غيره أو كما حلف ـ ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدّي حقها إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جازت عليه أخراها ردّت عليه أولاها حتى يقضي بين الناس" وقال مجاهد : معنى سيطوّقون سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة أي : يؤمرون بأداء ما منعوا فلا يمكنهم الإتيان به فيكون ذلك توبيخاً وقيل : إنّ هذه الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته وأراد بالبخل كتمان العلم كما في سورة النساء : {الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله} (النساء ، 37)
جزء : 1 رقم الصفحة : 306
ومعنى قوله : على هذا سيطوّقون أي : يحملون وزره وإثمه كقوله تعالى : {يحملون أوزارهم على ظهورهم} (الأنعام ، 31)
وقوله تعالى : {و ميراث السموات والأرض} في معناه وجهان أحدهما : أنّ له ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره فهو الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله ونحوه قوله تعالى : {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} (الحديد ، 7)
والثاني : وبه قال الأكثرون : إنّ معناه أنه يفنى أهل السموات والأرض ويفنى الأملاك ولا مالك لها إلا الله فجرى هذا مجرى الوراثة ، قال ابن الأنباري : يقال : ورث فلان علم فلان إذا انفرد به بعد أن كان مشاركاً فيه ، وقال تعالى : {وورث سليمان داود} (النمل ، 16)
لأنه انفرد بذلك الأمر بعد أن كان داود مشاركاً له فيه.
{وا بما تعملون} من المنع والإعطاء {خبير} فيجازيكم به ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 306
309(1/217)
{لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} قال الحسن ومجاهد لما نزل قوله تعالى : {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} (البقرة ، 245)
قالت اليهود : إنّ الله فقير ويستقرض منا ونحن أغنياء ، وذكر الحسن : أنّ قائل هذه المقالة حييّ بن أخطب ، وقال عكرمة والسديّ ومقاتل ومحمد بن إسحق : "كتب النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصدّيق إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً ، فدخل أبو بكر ذات يوم بيت مدارسهم فوجد أناساً كثيراً من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم ومعه حبر آخر يقال له أشيع ، فقال أبو بكر لفنحاص : اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة ، فآمن وصدّق وأقرض الله قرضاً حسناً يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب ، فقال فنحاص : يا أبا بكر تزعم أنّ ربنا يستقرض من أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني ، فإن كان ما تقول حقاً فإنّ الله إذن لفقير ونحن أغنياء وإنه ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنياً ما أعطانا الربا يعني في قوله : {فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} ( ، )
جزء : 1 رقم الصفحة : 309
فغضب أبو بكر رضي الله تعالى عنه وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدوّ الله ، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : "ما حملك على ما صنعت ؟
" فقال : يا رسول الله إنّ عدوّ الله قال قولاً عظيماً زعم أنّ الله فقير وهم أغنياء فغضبت لله فضربت وجهه. فجحد ذلك فنحاص فأنزل الله عز وجل ردّاً على فنحاص وتصديقاً لأبي بكر رضي الله تعالى عنه : {لقد سمع الله} الآية".
وهذا لا يدل على أنّ غيره لم يقل ذلك ؛ لأنّ الآية دالة على أنّ القائل جماعة لقوله تعالى :
310
الذين قالوا : {سنكتب} أي نأمر بكتب {ما قالوا} من الإفك والفرية في صحائف أعمالهم ليجازوا عليه ونحوه وإنا له كاتبون أو سنحفظه في علمنا لا نهمله ؛ لأنه كلمة عظيمة إذ هو كفر بالله واستهزاء بالله والرسول ولذلك نظمه مع قتل الأنبياء كما قال تعالى : {وقتلهم} أي : وسنكتب قتلهم {الأنبياء بغير حق} وفي نظمه به تنبيه على أنه ليس أوّل جريمة ارتكبوها وأنّ من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه أمثال هذا القول {ويقول} أي : الله لهم في الآخرة على لسان الملائكة {ذوقوا عذاب الحريق} أي : النار وهي بمعنى المحرق كما يقال عذاب أليم أي : مؤلم وقرأ حمزة : سيكتب بالياء المثناة تحت بعد السين مضمومة وفتح التاء بعد الكاف وضمّ اللام من قتلهم وبالياء في ويقول والباقون بالنون بعد السين مفتوحة وضمّ التاء بعد الكاف ونصب اللام من قتلهم وبالنون في ونقول ويقال لهم : إذا ألقوا في النار.
{ذلك} أي : العذاب {بما قدّمت أيديكم} من الإفتراء وقتل الأنبياء وغير ذلك من المعاصي وعبر بالأيدي عن الأنفس ؛ لأنّ أكثر أعمالها بهنّ {وأنّ الله ليس بظلام} أي : بذي ظلم {للعبيد} فيعذبهم بغير ذنب.
فإن قيل : ظلام للمبالغة المقتضية للتكثير فهو أخص من ظالم ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعمّ أجيب : بأنه لما قوبل بالعبيد وهم كثيرون ناسب أن يقابل الكثير بالكثير وبأنه إذا نفي الظلم الكثير ينفى القليل ؛ لأنّ الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم ، فإذا ترك كثيره مع زيادة نفعه فيمن يجوز عليه النفع والضر كان لقليله مع قلة نفعه أترك وبأن ظلام للنسب كما قدّرته في الآية الكريمة ، كما في بزاز وعطار أي : لا ينسب إليه ظلم البتة وقوله تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 309(1/218)
الذين} نعت للذين قبله {قالوا} لمحمد صلى الله عليه وسلم تزعم أنّ الله بعثك بالحق رسولاً وأنزل عليك كتاباً وأن نؤمن بك أي : وقالوا {إنّ الله} قد {عهد إلينا} أي : أمرنا وأوصانا في كتبه {أن لا نؤمن لرسول} أي : لا نصدّق رسولاً أنه قد جاء من عند الله {حتى يأتينا بقربان تأكله النار} أي : حتى يأتينا بهذه المعجزة الخاصة التي كانت لأنبياء بني إسرائيل ، فيكون دليلاً على صدقه والقربان كل ما يتقرّب به العبد إلى الله من نسيكة وعمل صالح وكانوا إذا قرّبوا قرباناً أو غنموا غنيمة جاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي وهفيف فتأكل ذلك القربان وتأكل الغنيمة. ومعنى أكلها أن تحيل ذلك إلى طبعها بالإحراق فيكون ذلك علامة القبول وإذا لم يتقبل بقي على حاله وهذا من مفترياتهم وأباطيلهم ؛ لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات في ذلك سواء ، وقال السديّ : هذا الشرط جاء في التوراة ولكنه مع شرط آخر وهو أنّ الله تعالى أمر بني إسرائيل من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدّقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار حتى يأتيكم المسيح ومحمد ، فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان قال الله تعالى إقامة للحجة عليهم {قل} لهم يا محمد {قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات} أي : بالمعجزات {وبالذي قلتم} من القربان كزكريا ويحيى فقتلتموهم {فلم قتلتموهم} والخطاب لمن في زمن نبينا وإن كان الفعل لأجدادهم لرضاهم به {إن كنتم صادقين} في أنكم تؤمنون بالرسل عند الإتيان بذلك.
ثم قال الله تعالى تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه واليهود :
{فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤا بالبينات} أي : المعجزات {والزبر} أي : الصحف كصحف إبراهيم {والكتاب} أي : التوراة والإنجيل {المنير} أي : الواضح فاصبر كما صبروا ، وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الجيم والباقون بالإدغام ، وقرأ ابن عامر وبالزبر بالباء الموحدة والباقون بغير باء بعد
311
الواو ، وقرأ هشام وبالكتاب بالباء الموحدة بعد الواو والباقون بغير باء وقوله تعالى :
{كلّ نفس ذائقة الموت} زيادة تأكيد في تسليته صلى الله عليه وسلم ومبالغة في إزالة الحزن عن قلبه ، فإنّ من علم أن عاقبته إلى الموت زالت عن قلبه الغموم والأحزان.
روي أنّ الله تعالى لما خلق آدم اشتكت الأرض إلى ربها لما أخذ منها فوعدها أن يردّ فيها ما أخذ منها فما من أحد إلا يدفن في التربة التي أخذ منها ، ولأنّ بعد هذه الدار داراً يتميز فيها المحسن من المسيء والمحق من المبطل ويجازى كلّ بما يستحقه كما قال تعالى : {وإنما توفون أجوركم} أي : جزاء أعمالكم {يوم القيامة} إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ {فمن زحزح} أي : بعد {عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} بالنجاة ونيل المراد والفوز بالظفر بالبغية بالنظر إلى وجه الله تعالى الكريم {وما الحياة الدنيا} أي : العيش فيها {إلا متاع الغرور} أي : الباطل يتمتع به قليلاً ثم يفنى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 309
روي أنّ الله تعالى يقول : "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" اقرؤوا إن شئتم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون} (السجدة ، 17)
وإنّ في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرؤوا إن شئتم {وظل ممدود} (الواقعة ، 30)
ولموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها واقرؤوا إن شئتم {فمن زحزح عن النار} الآية".
وروي : "من أحبّ أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويؤتي الناس ما يحبّ أن يؤتى إليه" أي : يفعل بهم ما يحبّ أن يفعل به.(1/219)
وقوله تعالى : {لتبلونّ} جواب قسم محذوف تقديره والله لنبلونّ وحذف منه نون الرفع لتوالي النونات والواو ضمير الجمع وحذفت واو الرفع لالتقاء الساكنين أي : لتختبرنّ {في أموالكم} بالفرائض فيها والجوائح {و} في {أنفسكم} بالعبادات والبلاء والأسر والجراح وغير ذلك {ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} أي : اليهود والنصارى {ومن الذين أشركوا} أي : مشركي العرب {أذى كثيراً} وذلك أنهم كانوا يقولون : عزير ابن الله والمسيح ابن الله وثالث ثلاثة وكانوا يطعنون في النبيّ صلى الله عليه وسلم بكل ما يقدرون عليه وهجاه كعب بن الأشرف وكانوا يحرضون الناس على مخالفته صلى الله عليه وسلم ويجمعون العساكر لمحاربته ويثبطون المسلمين عن نصرته {وإن تصبروا} على ذلك {وتتقوا} الله {فإنّ ذلك من عزم الأمور} أي : من صواب التدبير والرشد الذي ينبغي لكل عاقل أن يقدم عليه ، واختلف في سبب نزول هذه الآية ، فقال ابن جريج والكلبيّ ومقاتل : نزلت في أبي بكر وفنحاص وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى فنحاص اليهودي ليستمدّه وكتب إليه كتاباً لا تفتاتنّ علي بشيء حتى ترجع إليّ فجاء أبو بكر رضي الله تعالى عنه وهو متوشح بالسيف فأعطاه الكتاب فلما قرأه قال : احتاج ربك إلى أن نمدّه فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسيف فتذكر أبو بكر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم وكف عنه ، فنزلت وقال الزهري : نزلت في كعب بن الأشرف فإنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعره ويسب المسلمين ويحرض المشركين على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه في شعره ويتشبب بنساء المسلمين.
312
تنبيه : في الآية تأويلان : أحدهما : المراد بالمصابرة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على الإبتلاء في النفس والمال وتحمل الأذى وترك المعارضة والمقاتلة وذلك لأنه أقرب إلى دخول المخالف في الدين كقوله تعالى : {فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى} (طه ، 44)
جزء : 1 رقم الصفحة : 309
وقال تعالى : {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} (الجاثية ، 14)
وقال تعالى : {وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً} (الفرقان ، 72)
وقال تعالى : {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} (الأحقاف ، 35)
وقال تعالى : {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم} (فصلت ، 34) ، قال الواحدي : وهذا قبل نزول آية السيف ، وقال القفال : والذي عندي أنّ هذا ليس بمنسوخ والظاهر أنها نزلت عقب قصة أحد والمعنى أنهم أمروا بالصبر على ما يؤذون به الرسول عليه الصلاة والسلام من طريق الأقوال الجارية فيما بينهم واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة. التأويل الثاني : إنّ المراد الصبر على مجاهدة الكفار ومنابذتهم والإنكار عليهم ، فالصبر عبارة عن احتمال المكروه والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 309
اذكر {إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب} أي : العهد عليهم في التوراة أي : على علمائهم {ليبيننه} أي : الكتاب {للناس ولا يكتمونه} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة بالياء في الفعلين على الغيبة ؛ لأنّ أهل الكتاب المخاطبين بذلك غيب ، والباقون بالتاء على الخطاب حكاية لمخاطبتهم {فنبذوه} أي : طرحوا الميثاق {وراء ظهورهم} أي : لم يعملوا به ولم يلتفتوا إليه ونقيض هذا جعله نصب عينيه {واشتروا به} أي : أخذوا بدله {ثمناً قليلاً} من حطام الدنيا وأعراضها من سفلتهم برياستهم في العلم فكتموه خوف فوتها عليهم وقوله تعالى : {فبئس ما يشترون} العائد محذوف تقديره يشترونه ، قال قتادة رضي الله تعالى عنه : "هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم فمن علم شيئاً فليعلمه وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة" ، وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه : لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدّثتكم بشيء ثم تلا هذه الآية وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" وقال أبو الحسن بن عمارة رضي الله تعالى عنه : أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت : إن رأيت أن تحدّثني فقال : أما علمت أني قد تركت الحديث فقلت : إمّا أن تحدّثني وإمّا أن أحدّثك فقال : حدّثني فقلت : حدّثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الخراز قال : سمعت عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يقول : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال : فحدّثني أربعين حديثاً.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 313(1/220)
لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا} أي : فعلوا من إضلال الناس {ويحبون أن يحمدوا} بما أوتوا من علم التوراة و{بما لم يفعلوا} من التمسك بالحق وهم على ضلال وهذا أيضاً من جملة أذاهم ، لأنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخبث والتلبيس على ضعفة المسلمين ويحبون أن يحمدوا بأنهم أهل البرّ والصدق والتقوى ولا شك أنّ الإنسان يتأذى بمشاهدة مثل هذه الأحوال فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالصبر عليها.
روي أنه صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروه بخلافه ، وأروه أنهم قد صدقوا وفرحوا بما فعلوا فأطلع الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم أي :
313
لا تحسبن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من تدليسهم عليك ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه ناجين من العذاب وقيل : هم قوم تخلفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم رأوا المصلحة في التخلف واستحمدوا به ، وقيل : هم المنافقون فإنهم يفرحون بمنافقتهم ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة ويجوز أن يكون شاملاً لكل من يأتي بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب ويحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بالديانة والزهد بما ليس فيه وقوله تعالى : {فلا تحسبنهم} تأكيد {بمفازة} أي : مكان ينجون فيه {من العذاب} في الآخرة بل هم في مكان يعذبون فيه وهو جهنم {ولهم عذاب أليم} أي : مؤلم فيها وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة والباقون بالكسر ، ومفعولا تحسب الأولى دل عليهما مفعولا الثانية على قراءة التحتانية وعلى الفوقانية حذف الثاني فقط ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : فلا يحسبنهم بالياء على الغيبة وضم الباء الموحدة والباقون بالتاء على الخطاب وفتح الباء الموحدة وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة كما تقدّم.
{و ملك السموات والأرض} فهو يملك أمرهما وما فيهما من خزائن المطر والرزق والنبات وغير ذلك {وا على كل شيء قدير} ومنه تعذيب الكافرين وإنجاء المؤمنين.
{إنّ في خلق السموات والأرض} وما فيهما من العجائب {واختلاف الليل والنهار} بالمجيء والذهاب والزيادة والنقصان {لآيات} أي : دلالات واضحة على قدرته تعالى : وباهر حكمته {لأولي الألباب} لذوي العقول الذين يفتحون بصائرهم للنظر والإستدلال والإعتبار ولا ينظرون إليها نظر البهائم غافلين عما فيها من عجائب الفطر ، وفي النصائح الصغار : املأ عينيك من زينة هذه الكواكب ، وأجلها في جملة هذه العجائب متفكراً في قدرة مقدرها متدبراً حكمة مدبرها قبل أن يسافر بك القدر ويحال بينك وبين النظر. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما "قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها : أخبريني بأعجب ما رأيت من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت وأطالت ثم قالت : كل أمره عجب أتاني ليلة فدخل في لحافي حتى التصق جلده بجلدي ثم قال : "يا عائشة هل لك أن تأذني الليلة في عبادة ربي ؟
" فقلت : يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب هواك قد أذنت لك فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حقويه ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه وجعل يبكي ثم رفع يديه ، فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال : يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر فقال : "يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً ؟
" ثم قال : "وما لي لا أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة {إنّ في خلق السموات والأرض} ـ ثم قال : ـ ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها".
جزء : 1 رقم الصفحة : 313
وروي : "ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها" ، وعن علي رضي الله تعالى عنه : أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول : إنّ في خلق السموات والأرض ، وحكي أنّ الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة ، فعبدها فتى من فتيانهم
314
فلم تظله ، فقالت أمه : لعل فرطة فرطت منك في مدتك فقال : ما أذكر ؟
قالت : لعلك نظرت مرّة إلى السماء ولم تعتبر قال : لعل ، قالت : فما أوتيت إلا من ذاك. وقوله تعالى :
{الذين} نعت لما قبله أو بدل {يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم} أي : مضطجعين أي : يذكرونه دائماً على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين ؛ لأنّ الإنسان قلّ أن يخلو من إحدى هذه الحالات الثلاث.
وروى الطبرانيّ وغيره : أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله". وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هذا في الصلاة يصلي قائماً فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنب ، وعن عمران بن حصين قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة المريض فقال : "يصلي قائماً فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنب".(1/221)
تنبيه : قياماً وقعوداً حالان من فاعل يذكرون وعلى جنوبهم حال أيضاً فيتعلق بمحذوف ، والمعنى يذكرون قياماً وقعوداً ومضطجعين فعطف الحال المؤوّلة على الصريحة عكس الآية الأخرى وهي قوله : دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً حيث عطف الصريحة على المؤوّلة {ويتفكرون في خلق السموات والأرض} وما أبدع فيهما ليدلهم ذلك على قدرة الله تعالى ويعرفون أنّ لهما مدبراً حكيماً. قال بعض العلماء : الفكرة تذهب الغفلة ، وتحدث في القلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات ، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم "لا تفضلوني على يونس بن متى" ـ أي : تفضيلاً يؤدي إلى تنقيصه وإلا فهو صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم ـ فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض. قالوا : وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله تعالى الذي هو عمل القلب ، لأنّ أحداً لا يقدر أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض ، وقال صلى الله عليه وسلم "لا عبادة كالتفكر" أي : لأنه المخصوص بالقلب والمقصود من الخلق لكن الحديث رواه البيهقيّ وغيره وضعفوه وقال صلى الله عليه وسلم "بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال : أشهد أنّ لك رباً وخالقاً اللهمّ اغفر لي فنظر الله تعالى إليه فغفر له" رواه الثعلبيّ بسند فيه من لا يعرف قال البيضاوي : وهذا دليل واضح على شرف علم أصول الدين وفضل أهله وقوله تعالى : {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} على إرادة القول أي : يتفكرون قائلين ذلك ، وهذا إشارة إلى الخلق بمعنى المخلوق من السموات والأرض أو إلى السموات والأرض ؛ لأنهما في معنى المخلوق والمعنى ما خلقته عبثاً وضائعاً من غير حكمة بل خلقته لحكم عظيمة من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإنسان وسبباً لمعاشه ودليلاً يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك لينال الحياة الأبدية والسعادة السرمدية في جوارك.
315
تنبيه : نصب باطلاً على الحال من هذا وهي حال لا يستغنى عنها لو حذفت لاختل الكلام وهي كقوله تعالى : {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين} (الدخان ، 38)
جزء : 1 رقم الصفحة : 313
وقيل : على إسقاط حرف الخفض وهو الباء والمعنى ما خلقتهما بباطل بل بحق وقدرة {سبحانك} أي : تنزيهاً لك عن العبث وهو معترض بين قوله {ربنا} وبين قوله {فقنا عذاب النار} أي : للإختلال بالنظر في خلق السموات والأرض والقيام بما يقتضيه قال أبو البقاء : ودخلت الفاء لمعنى الجزاء والتقدير إذا نزهناك أو وحدناك فقنا قال ابن عادل : ولا حاجة إليه بل التسبب فيها ظاهر تسبب عن قولهم {ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك} طلبهم وقاية النار.
{ربنا إنك من تدخل النار} أي : للخلود فيها {فقد أخزيته} أي : أهنته {وما للظالمين} أي : للكافرين فيه وضع الظاهر موضع المضمر إشعاراً بتخصيص الخزي بهم {من أنصار} أي : أنصار فمن زائدة زيدت لتأكيد النفي.
{ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي} أي : يدعو الناس {للإيمان} أي : إليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم أو القرآن العظيم {أن} أي : بأن {آمنوا بربكم فآمنا} به.
فإن قيل : أي فائدة في الجمع بين منادياً وينادي ؟
أجيب : بأنه ذكر المبدأ مطلقاً ثم مقيداً بالإيمان تفخيماً لشأن المنادي ؛ لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان ونحوه قولك : مررت بهاد يهدي للإسلام وذلك أنّ المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب أو لإغاثة المكروب أو نحو ذلك وكذا الهادي قد يطلق على من يهدي للطريق ويهدي لسداد الرأي وغير ذلك ، فإذا قلت : ينادي للإيمان ويهدي للإسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي وفخمته ويقال : دعاه لكذا وإلى كذا {ربنا فاغفر لنا ذنوبنا} أي : الكبائر منها {وكفر عنا سيآتنا} أي : الصغائر منها أو يكون ذلك من باب التعميم والإستيعاب كقوله : {الرحمن الرحيم} ولأنّ الإلحاح والمبالغة في الدعاء أمر مطلوب {وتوفنا مع الأبرار} أي : مخصوصين بصحبتهم معدودين في جملتهم وهم الأنبياء والصالحون وفيه تنبيه على إنهم يحبون لقاء الله تعالى "ومن أحب لقاء الله تعالى أحب الله لقاءه" ، رواه الشيخان.
{ربنا وآتنا} أي : أعطنا {ما وعدتنا} به {على} ألسنة {رسلك} من الرحمة والفضل وسؤالهم ذلك ، وإن كان وعده تعالى لا يتخلف سؤال أن يجعلهم من مستحقيه ؛ لأنهم لم يتيقنوا استحقاقهم لتلك الكرامة ، فسألوه أن يجعلهم مستحقين لها وتكرير ربنا مبالغة في التضرّع. وفي الآثار : من جزبه أي أصابه أمر فقال : ربنا خمس مرات أنجاه الله تعالى مما يخاف وأعطاه ما أراد {ولا تخزنا} أي : ولا تعذبنا ولا تفضحنا ولا تهنا {يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد} أي : الموعد بإثابة المؤمن وإجابة الداعي ، وعن ابن عباس : الميعاد البعث بعد الموت.
جزء : 1 رقم الصفحة : 313(1/222)
دعاءهم وهو أخص من أجاب ؛ لأنه يفيد حصول جميع المطلوب لكثرة مبانيه ؛ لأنّ كثرة المباني تدل على كثرة المعاني ويتعدّى بنفسه وباللام {أني} أي : بأني {لا أضيع عمل عامل منكم} وقوله تعالى : {من ذكر أو أنثى} بيان عامل {بعضهم من بعض} أي : يجمع ذكركم وأنثاكم أصل واحد فكل واحد منكم من الآخر أي : الذكور من الإناث والإناث من
316
الذكور وقيل : المراد وصلة الإسلام وهذه الجملة وهي بعضكم من بعض معترضة بين عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى وما فصل به عمل عامل من قوله : {فالذين هاجروا} إلخ.. بينت بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله تعالى عباده العاملين.
روي أنّ أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت : "يا رسول الله أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت" وقوله تعالى : {فالذين هاجروا} أي : من مكة إلى المدينة {وأخرجوا من ديارهم} تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له والتفخيم كأنه قال : فالذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة وهي المهاجرة عن أوطانهم فارّين إلى الله تعالى بدينهم من دار الفتنة واضطروا إلى الخروج من ديارهم التي ولدوا فيها ونشؤوا {وأوذوا في سبيلي} أي : ديني {وقاتلوا} الكفار {وقتلوا} في الجهاد ، وقرأ حمزة والكسائي بتقديم قتلوا وتأخير قاتلوا وشدد ابن كثير وابن عامر التاء من قتلوا للتكثير {لأكفرن عنهم سيئاتهم} أي : أسترها بالمغفرة {ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً} أي : أثيبهم بذلك إثابة {من عند الله} أي : تفضلاً منه تعالى فهو مصدر مؤكد لما قبله ؛ لأنّ قوله تعالى : {لأكفّرن عنهم ولأدخلنهم} في معنى لأثيبنهم {وا عنده حسن الثواب} أي : الجزاء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 316
ولما كان المشركون في رخاء ولين من العيش يتجرون ويتنعمون ، وقال بعض المؤمنين : إن أعداء الله فيما نرى من الخير ونحن في الجهد نزل.
{لا يغرنك تقلب} أي : تصرف {الذين كفروا في البلاد} للتجارات وأنواع المكاسب والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد منه غيره وقوله تعالى :
{متاع قليل} خبر مبتدأ محذوف أي : ذلك التقلب متاع قليل يتمتعون به في الدنيا يسيراً ويغني فهو قليل في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة أو في جنب ما أعدّ الله للمؤمنين من الثواب قال صلى الله عليه وسلم "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع" رواه مسلم ، وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : "جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشربة وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال : "ما يبكيك ؟
" فقلت : يا رسول الله إنّ كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله فقال : "أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟
" {ثم مأواهم} أي : مصيرهم {جهنم وبئس المهاد} أي : الفراش هي.
{لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين} أي : مقدرين الخلود {فيها نزلاً من عند الله} وهو ما يعد للضيف ونصبه على الحال من جنات لتخصيصها بالوصف
317
والعامل فيها معنى الظرف {وما} أي : والذي {عند الله} من الثواب لكثرته ودوامه {خير للأبرار} مما يتقلب فيه الكفار من متاع الدنيا لقلته وسرعة زواله ، واختلف في سبب نزول قوله تعالى : (1/223)
{وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن با} فقال جابر وابن عباس وأنس : نزلت في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه الصلاة والسلام للنبيّ صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : "اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم" فقالوا : ومن هو ؟
قال : "النجاشي" فخرج إلى البقيع وكشف له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبّر عليه أربع تكبيرات واستغفر له ، فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصرانيّ لم يره قط وليس على دينه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية" ، وقال عطاء : نزلت في أربعين رجلاً من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم وكانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وقال ابن جريج : نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه ، وقال مجاهد : نزلت في مؤمني أهل الكتاب {وما أنزل إليكم} أي : القرآن {وما أنزل إليهم} أي : التوراة والإنجيل وقوله تعالى : {خاشعين} حال من ضمير يؤمن مراعى فيه معنى من لأنها في معنى الجمع أي : متواضعين {لا يشترون} أي : لا يستبدلون {بآيات الله} التي عندهم في التوراة والإنجيل من نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم {ثمناً قليلاً} من الدنيا بأن يكتموها خوفاً على الرياسة كما فعل غيرهم من اليهود {أولئك لهم أجرهم} أي : ثواب أعمالهم {عند ربهم} وهو ما يختص بهم من الأجر وهو ما وعدوه في قوله تعالى : {أولئك يؤتون أجرهم مرتين} وقوله تعالى : {يؤتكم كفلين من رحمته} {إن الله سريع الحساب} لنفوذ علمه في كل شيء فهو عالم بما يستوجبه كل عامل من الأجر بحساب الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 316
يأيها الذين آمنوا اصبروا} على مشاق الطاعة وما يصيبكم من الشدائد وعن المعاصي {وصابروا} أي : غالبوا أعداء الله في الصبر على شدائد الحرب فلا يكونوا أشد صبراً منكم {ورابطوا} أي : أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين للغزو قال الله تعالى : {ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم} (الأنفال ، 60)
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من رابط يوماً وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة".
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة" {واتقوا الله} في جميع أحوالكم {لعلكم تفلحون} أي : تفوزون بالجنة وتنجون من النار وقال بعض العلماء : اصبروا على البأساء والضراء ورابطوا في دار الأعداء واتقوا له الأرض والسماء لعلكم تفلحون في دار البقاء.
روى الطبريّ لكن بإسناد ضعيف : من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى
318
الله عليه وملائكته حتى تحجب الشمس أي : تغيب وما رواه البيضاويّ تبعاً للزمخشري وتبعهما ابن عاد من أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من قرأ سورة آل عمران أعطي بكل آية منها أماناً على جسر جهنم" فهو من الأحاديث الموضوعة على أبي بن كعب في فضائل السور فليتنبه لذلك ويحذر منه ، وقد نبه أئمة الحديث قديماً وحديثاً على ذلك وعابوا على من أورده من المفسرين في تفاسيرهم والله تعالى أعلم.
319
جزء : 1 رقم الصفحة : 316(1/224)
سورة النساء
مدنية مائة وخمس أو ست أو سبع وسبعون آية وثلاثة آلافوخمس وأربعون كلمة وستة عشر ألف حرف وثلاثون حرفاً
{بسم الله} الظاهر الملك العلام {الرحمن} الذي عم عباده بالأنعام {الرحيم} الذي خص أهل ولايته بدار السلام وقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 319
{يأيها الناس} خطاب يعم المكلفين من أولاد آدم من الذكور والإناث الموجودين منهم في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم من العرب وغيرهم ، وقيل : يختص بالعرب منهم لقوله تعالى : {واتقوا الله الذي
320
تساءلون به والأرحام} إذ المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم فيقولون : أنشدك بالله وبالرحم ، وأجيب بأنّ خصوص آخر الآية لا يمنع عموم أوّلها {اتقوا ربكم} أي : عذابه بأن تطيعوه {الذي خلقكم من نفس واحدة} أي : فرّعكم من أصل واحد ، وهو نفس آدم أبيكم.
وقوله تعالى : {وخلق منها زوجها} معطوف على "خلقكم" أي : خلقكم من شخص واحد هو آدم ، وخلق منها أمكم حوّاء بالمدّ من ضلع من أضلاعه اليسرى ، أو معطوف على محذوف كأنه قيل : من نفس واحدة أنشأها وابتدأها وخلق منها زوجها ، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه ، والمعنى : شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حوّاء ، وهو تقرير لخلقكم من نفس واحدة ، وقوله تعالى : {وبث منهما} أي : من آدم وحوّاء {رجالاً كثيراً ونساء} أي : كثيراً بيان لكيفية تولدهم منهما.
جزء : 1 رقم الصفحة : 320
والمعنى : وبث أي : نشر من تلك النفس والزوج المخلوقة منها بنين وبنات كثيرة ، واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها إذ الحكمة تقتضي أن يكنّ أكثر إذ للرجل أن يزيد في عصمته على واحدة بخلاف المرأة ، وذكر كثيراً حملاً على الجمع ولا تكرار في الآية ؛ لأن خلقكم من نفس واحدة مغاير لخلق حوّاء منها ؛ لأنها خلقت من ضلعه وهم من مائهما ولبث الرجال والنساء ؛ لأنه بين به أن خلقهم من نفس واحدة معناه من نفس آدم وحوّاء مع زيادة التصريح بالرجال والنساء {واتقوا الله الذي تساءلون} فيه إدغام التاء في الأصل في السين أي : تتساءلون {به} فيما بينكم حيث يقول بعضكم لبعض : أسألك بالله ، وأنشدك بالله.
فإن قيل : الذي يقتضيه سداد نظم الكلام وجزالته أن يجاء عقب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعو إليها ويبعث عليها ، فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره موجباً للتقوى وداعياً إليها ؟
أجيب : بأنّ ذلك مما يدل على القدرة العظيمة ، ومن قدر على ذلك كان قادراً على كل شيء ، ومن المقدورات عقاب العصاة ، فالنظر فيه يؤدّي إلى أن يتقي القادر عليه ويخشى عقابه ؛ ولأنه يدل على النعمة السابقة عليهم فحقهم أن يتقوه في كفرانها ، والتفريط فيما يلزمهم من القيام بشكرها ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف السين والباقون بتشديدها {و} اتقوا {الأرحام} أي : بأن تصلوها ولا تقطعوها ، وكانوا يتناشدون بالرحم ، وقد نبه سبحانه وتعالى إذ قرن الأرحام باسمه على أن صلتها بمكان منه تعالى.
روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال : "الرحم معلقة بالعرش تقول : ألا من وصلني وصله الله تعالى ومن قطعني قطعه الله تعالى" ، وقرأ غير حمزة بالنصب عطفاً على الله تعالى فالعامل فيه اتقوا كما قدرته أو معطوف على محل الجار والمجرور كقولك : مررت بزيد وعمراً ، وأما حمزة فقرأه بالجر عطفاً على الضمير المجرور ، وقول البيضاوي : وهو ضعيف أي : كما هو مذهب البصريين ممنوع ، والحق أنه ليس بضعيف فقد جوّزه الكوفيون ، وكيف يكون ضعيفاً والقراءة به متواترة ؟
فيجب أن يضعف كلام البصريين ويرجع إلى كلام رب العالمين ، وتعليلهم عدم الجواز بكونه كبعض كلمة لا يقتضي إلحاقه به في عدم جواز العطف إذ حذف الشيء مع القرينة جائز ومنه :
321
*رسم دار وقفت في طلله*
أي : ورب رسم دار وقول الشاعر :
*اذهب فما بك والأيام من عجب
{إنّ الله كان عليكم رقيباً} أي : حافظاً لأعمالكم فيجازيكم بها أي : لم يزل متصفاً بذلك {وآتوا اليتامى} أي : بعد البلوغ والرشد {أموالهم} وسموا اليتامى بعد البلوغ مع أنّ اليتيم في عرف الشرع صغير لا أب له على معنى أنهم كانوا يتامى ، وإن كان اليُتْيم في اللغة الانفراد ، ومنه الدرّة اليتيمة ، وقيل : اليتيم في الإناس من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات وفي الطير من قبلهما ، والخطاب للأولياء والأوصياء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 320
روي أنّ رجلاً كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ اليتيم طلب المال من عمه فمنعه فترافعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ، فلما سمعها العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول ، نعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع إليه ماله ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم "ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحله داره" أي : جنته ، وسيأتي تفسير الحوب الكبير ، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم "ثبت الأجر وبقي الوزر" فقالوا : يا رسول الله قد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله ؟
فقال : "ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده" أي : ولعله كان لا يخرج زكاته {ولاتتبدلوا الخبيث} أي : الحرام {بالطيب} أي : الحلال أي : لا تأخذوه بدله كما تفعلون في أخذ الجيد من مال اليتيم وجعل الرديء من مالكم مكانه.
قال الزمخشريّ : وهذا ليس بتبدل ، وإنما هو تبديل ، قال التفتازانيّ : لأن معنى تبدلت هذا بذاك أنك أخذت هذا وتركت ذاك وكذا استبدلت ؛ لأنّ معنى بدلت هذا بذاك أخذت ذاك وأعطيت هذا قال تعالى : {ومن يتبدل الكفر بالإيمان} (البقرة ، 108)
فإذا أعطى الرديء وأخذ الجيد فقد أعطى الخبيث وأخذ الطيب كما لو أخذ الخبيث وترك الطيب ؛ ليكون تبدل الخبيث بالطيب ، فالحاصل أنّ في التبدل ما دخلته الباء متروك ، وما تعدى إليه الفعل بنفسه مأخوذ وفي التبديل بالعكس اه. وقد أوضحت ذلك في "شرح المنهاج" {ولا تأكلوا أموالهم إلى} أي : مع {أموالكم} كقوله تعالى : {من أنصاري إلى الله} (آل عمران ، 52)
أي : مع الله ، أي : لا تنفقوهما معاً ، ولا تسووا بينهما ، فأكلكم أموالكم حلال لكم ، وأكلكم أموالهم حرام عليكم ، فلا يحل لكم من أموالهم ما زاد على قدر الأقل من أجرتكم ونفقتكم.(1/225)
فإن قيل : قد حرم الله عليهم أكل مال اليتيم وحده ومع أموالهم فلم ورد النهي عن أكله معها ؟
أجيب : بأنهم كانوا يفعلون كذلك فأنكر عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم ؛ ولأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال ، وهم مع ذلك يطمعون فيها ، كان
322
القبح أبلغ والذم أحق {إنه} أي : أكلها {كان حوباً} أي : ذنباً {كبيراً} أي : عظيماً ولما نزلت هذه الآية في اليتامى ، وما كان في أكل أموالهم من الحوب الكبير خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك العدل في حقوق اليتامى ، وأخذوا يتحرّجون من ولايتهم ، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج والثمان والست ولا يقوم بحقوقهنّ ولا يعدل بينهنّ نزل.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 320
وإن خفتم} أي : خشيتم {أن لا تقسطوا} أي : تعدلوا {في اليتامى} فتحرّجتم من أمورهم فخافوا أيضاً ترك العدل بين النساء وقللوا عدد المنكوحات {فانكحوا ما طاب} أي : حلّ {لكم من النساء} ؛ لأنّ منهنّ ما حرم كاللاتي في آية التحريم {مثنى وثلاث ورباع} أي : تزوّجوا اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً ؛ لأنّ من تحرّج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرّج ولا تائب ؛ لأنه إنما وجب أن يتحرّج من الذنب ويتاب عنه لقبحه ، والقبح قائم في كل ذنب وإنما عبر عنهنّ بما ومن يعقل إنما يعبر عنه بمن ذاهباً إلى الصفة ؛ لأنه إنما يفرق بين من وما في الذوات لا في الصفات أو أجراهنّ مجرى غير العقلاء لنقصان عقلهنّ ، وقيل : كانوا لا يتحرّجون من الزنا وهم يتحرّجون من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم الحوب في حق اليتامى ، فخافوا الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تجولوا حول المحرّمات ، وقيل : كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال فيتزوّجها ضناً ـ أي : بخلاً ـ بها فربما يجتمع عنده منهنّ عدد ولا يقدر على القيام بحقوقهنّ.
فإن قيل : الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع ، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع حتى إنّ بعض الرافضة قال : للشخص أن يتزوّج بثمانية عشر ؟
أجيب : بأنّ الخطاب للجمع فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له كما تقول للجماعة : اقتسموا هذا المال ، وهو ألف درهم ، درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ولو أفردت لم يكن له معنى.
فإن قيل : لم جاء العطف بالواو دون أو حتى قال بعض الرافضة : إنّ له أن يتزوج بتسعة ؟
أجيب : بأنه لو عطف بأو لذهب معنى تجويز أنواع الجمع بين أنواع القسمة التي دلت عليها الواو {فإن خفتم أن لا تعدلوا} بين هذه الأعداد أيضاً بالقسم والنفقة {فواحدة} أي : فانكحوا واحدة وذروا الجمع {أو ما ملكت أيمانكم} أي : اقتصروا على ذلك سواء بين الواحدة من الأزواج والعدد من السراري ؛ لخفة مؤنتهنّ وعدم وجوب القسم بينهنّ.
تنبيه : هذا في حق الحر أما من فيه رق فلا يتزوّج أكثر من ثنتين بإجماع الصحابة وقد يعرض للحر عوارض لا يزاد فيها على واحدة كجنون أو سفه {ذلك} أي : نكاح الأربعة فقط أو الواحدة أو التسري {أدنى} أقرب إلى {أن لا تعولوا} أي : تجوروا ، يقال : عال الحاكم في حكمه إذا جار.
وروي أن أعرابياً حكم عليه حاكم فقال له : أتعول علي وقد ورد عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن لا تعولوا ، أن لا تجوروا" ، وحكي عن الشافعيّ رضي الله تعالى عنه أنه فسر "أن لا تعولوا" بأن لا تكثروا عيالكم قال البغويّ : وما قاله أحد إنما يقال : من كثرة العيال أعال يعيل إعالة إذا كثرت عياله ، وقال الزمخشريّ : ووجهه أن يجعل من قولك عال الرجل
323
عياله يعولهم كقولك : مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم ؛ لأنّ من كثر عياله لزمه أن يعولهم ، ثم قال : وكلام مثله من أعلام العلم وأئمة الشرع ورؤوس المجتهدين حقيق بالحمل على الصحة والسداد ، وأن لا يظن به تحريف تعيلوا إلى تعولوا فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : لا تظننّ بكلمة خرجت من في أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً. وكان الشافعيّ رحمه الله تعالى أعلى كعباً وأطول باعاً في علم كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا اه.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 320(1/226)
وآتوا} أي : أعطوا {النساء صدقاتهنّ} جمع صدقة أي : مهورهنّ {نحلة} أي : عطية يقال : نحله كذا نحلة أي : أعطاه إياه عن طيب نفس بلا توقع عوض ، ونصبها على المصدر ؛ لأنّ النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء ، فكأنه قيل : وأنحلوا النساء صدقاتهنّ نحلة ، قال الكلبيّ وجماعة : والخطاب للأولياء ، وذلك أنّ وليّ المرأة كان إذا زوّجها ، فإن كان معهم في العشيرة فلم يعطها من مهرها شيئاً ، وإن زوجها غريباً حملوها إليه على بعير ولا يعطوها من مهرها غير ذلك ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك وأمرهم أن يدفعوا الحق إلى أهله {فإن طبن لكم عن شيء منه} أي : الصداق وقوله تعالى : {نفساً} محوّل عن الفاعل أي : إن طابت نفسهنّ لكم عن شيء من الصداق فوهبنه لكم {فكلوه} أي : فخذوه وأنفقوه {هنيئاً} أي : طيباً {مريئاً} أي : محمود العاقبة لا ضرر فيه عليكم في الآخرة.
روي أنّ ناساً كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء مما ساقه إلى امرأته ، فقال الله تعالى : إن طابت نفس واحدة من غير إكراه ولا خديعة فكلوه هنيئاً مريئاً.
قال الزمخشريّ وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك ، ووجوب الاحتياط حيث بني الشرط على طيب النفس فقيل : "فإن طبن" ، ولم يقل : فإن وهبن أو سمحن إعلاماً بأنّ المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة ، وعن الشعبي : إنّ رجلاً أتى مع امرأته شريحاً في عطية أعطتها إياه ، وهي تطلب أن ترجع ، فقال شريح : ردّ عليها ، فقال الرجل : أليس الله تعالى قد قال : {فإن طبن لكم} ؟
قال : لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه.
وحكي أنّ رجلاً من آل أبي معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقاً كان لها عليه ، فلبث شهراً ثم طلقها ، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان ، فقال الرجل : أعطتني طيبة بها نفسها فقال عبد الملك : فأين الآية التي بعدها {ولا تأخذوا منه شيئاً} أردد عليها. وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى قضاته : إنّ النساء يعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها.
{ولا تؤتوا} أيها الأولياء {السفهاء} أي : المبذرين من الرجال والنساء {أموالكم} أي : أموالهم وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء ؛ لأنها في تصرفهم وتحت ولايتهم وقيل : نهي إلى كل أحد أن يعمد إلى ما خوّله الله من المال فيعطيه امرأته وأولاده ، ثم ينظر إلى ما في أيديهم وإنما سماهم سفهاء استخفافاً بعقلهم واستهجاناً لجعلهم قوّاماً وهذا أوفق لقوله تعالى : {التي جعل الله لكم قياماً} أي : تقوم بمصالحكم ومصالح أولادكم فيضعوها في غير وجهها ، وعلى القول الأولّ يؤوّل بأنّ أموال السفهاء التي من جنس ما جعل الله لكم قياماً ، وسمى الله ما به القيام قياماً للمبالغة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 320
وقرأ نافع وابن عامر "قيماً" بغير ألف بعد الياء والقيم جمع قيمة ما يقوّم به الأمتعة ، والباقون بالألف مصدر قام و{وارزقوهم} أي : أطعموهم {فيها واكسوهم} فيها ، وإنما قال تعالى : "فيها"
324
لجعله الأموال ظروفاً للرزق ، فيكون الإنفاق من الربح لا من الأموال التي هي الظروف بأن يتجروا فيها ويحصلوا من ربحها ما يحتاجون إليه ، ولو قيل : منها لكان الإنفاق من نفس الأموال {وقولوا لهم قولاً معروفاً} أي : عدوهم عدة جميلة بإعطائهم أموالهم إذا رشدوا وكل ما سكنت إليه النفس وأحبته لحسنه عقلاً أو شرعاً من قول أو عمل فهو معروف ، وما أنكرته ونفرت منه لقبحه فهو منكر ، وعن عطاء : إذا ربحت أعطيتك وإذا غنمت في غزاتي جعلت لك حظاً ، وقيل : إن لم يكن ممن وجبت عليك نفقته فقل له : عافانا الله وإياك بارك الله فيك. وقيل : لا يختص ذلك بالأولياء بل هو أمر لكل أحد أن لا يخرج ماله إلى أحد من السفهاء قريب أو أجنبيّ رجل أو امرأة يعلم أنه يضيعه فيما لا ينبغي ويفسده.
{وابتلوا} أي : اختبروا {اليتامى} في دينهم وتصرفهم بأن تختبروا ولد التاجر بالبيع والشراء والمماكسة فيهما ، وولد الزراع بالزراعة والنفقة على القوّام بها ، والمرأة فيما يتعلق بالغزل والقطن وصون الأطعمة عن الهرّة ونحوها وحفظ متاع البيت ، وولد الأمير ونحوه بالإنفاق مدّة في خبز وماء ولحم ونحوها ، كل ذلك على العادة في مثله ، ويشترط تكرار الاختبار مرّتين أو أكثر بحيث يفيد غلبة الظنّ برشده ، ووقت الاختبار قبل البلوغ ولا يصح عقده بل يمتحن في المماكسة فإذا أراد العقد عقد الوليّ {حتى إذا بلغوا النكاح} أي : صاروا أهلاً له إمّا بالسنّ وهو استكمال خمس عشرة سنة تحديدية لخبر ابن عمر رضي الله تعالى عنه : "عرضت على النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ولم يرني بلغت وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ورآني بلغت" ، رواه ابن حبان وأصله في الصحيحين وابتداؤها من انفصال جميع الولد ، قيل : عرض عليه صلى الله عليه وسلم سبعة عشر من الصحابة وهم أبناء أربع عشرة فلم يجزهم وعرضوا عليه وهم أبناء خمس عشرة فأجازهم.(1/227)
وإما بخروج المنيّ في وقت إمكانه وأقله تسع سنين قمرية تحديدية سواء أخرج في نوم أم يقظة بجماع أو غيره وتزيد المرأة على هذين الأمرين الحيض لوقت إمكانه وأقله تسع سنين قمرية تقريبية فيغتفر فيها زمن لا يسع حيضاً وطهراً ، والولادة لأنها يسبقها الإنزال ويحكم بالبلوغ قبلها بستة أشهر وشيء وإنبات شعر العانة الخشن دليل للبلوغ في حق الكفار لا في حق المسلمين ولا عبرة بإنبات شعر الإبط واللحية.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 320
فإن آنستم} أي : أبصرتم {منهم رشداً} وهو صلاح الدين والمال ، أما صلاح الدين فلا يرتكب محرّماً يسقط العدالة من كبيرة أو إصرار على صغيرة ويعتبر في رشد الكافر دينه ، وأما صلاح المال فلا يضيعه بإلقائه في بحر أو يصرفه في محرم ، أو باحتمال الغبن الفاحش في المعاملة ونحوها ، وليس صرفه في الخير بتبذير ولا صرفه في الثياب والأطعمة النفيسة وشراء الجواري والاستمتاع بهنّ ؛ لأنّ المال يتخذ لينتفع به ، نعم إن صرفه في ذلك بطريق الاقتراض له حرم عليه {فادفعوا إليهم أموالهم} من غير تأخير {ولا تأكلوها} أيها الأولياء وقوله تعالى : {إسرافاً} أي : بغير حق {وبداراً} حالان أي : مسرفين ومبادرين إلى إنفاقها مخافة {أن يكبروا} رشداء فيلزمكم تسليمها إليهم {ومن كان} من الأولياء {غنياً فليستعفف} أي : يعف عن مال اليتيم ويمتنع من أكله {ومن كان فقيراً فليأكل} منه {بالمعروف} أي : بقدر الأقلّ من حاجته وأجرة سعيه كما مرّ ، ولفظ
325
الاستعفاف والأكل بالمعروف مشعر بأن الوليّ له حق في مال الصبي.
وروى النسائيّ وغيره أنّ رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم إنّ في حجري يتيماً أفآكل من ماله ؟
قال : "بالمعروف".
تنبيه : إيراد هذا التقسيم بعد قوله : {ولا تأكلوها} يدل على أنه نهي للأغنياء منهم أن لا يأخذوا لأنفسهم من أموال اليتامى شيئاً ، وللفقراء منهم أن لا يأخذوا منها شيئاً بغير المعروف ، كما أنّ قوله : {ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا} يدل على أنه نهي للفريقين عن أكلها إسرافاً ومبادرة لكبرهم {فإذا دفعتم إليهم} أي : اليتامى {أموالهم فأشهدوا} ندباً {عليهم} بأنهم قبضوها ، فإنّ الإشهاد أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة فتحتاجون إلى البينة وهذا يدلّ على أنّ القيم لا يصدّق في دعواه الدفع ولو أبى إلا ببينة وهو مذهب الشافعيّ ومالك خلافاً لأبي حنيفة {وكفى با حسيباً} أي : حافظاً الأعمال خلقه ومحاسبتهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 320
{للرجال} أي : الذكور {نصيب} أي : حظ {مما ترك الوالدان والأقربون} أي : المتوفون {وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه} أي : المال {أو كثر} جعله الله {نصيباً مفروضاً} أي : مقطوعاً بتسليمه إليهم.
روي أن أوس بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه توفي وترك امرأته أم كحة ـ بضمّ الكاف والحاء المشدّدة ـ وثلاث بنات له منها فقام رجلان هما ابنا عمّ الميت ووصياه سويد وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئاً ، وكان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء ولا الصغار وإن كان الصغير ذكراً إنما كانوا يورثون الرجال ويقولون : لا نعطي إلا من قاتل وحاز الغنيمة ، فجاءت أمّ كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفضيخ ـ وهو بالضاد والخاء المعجمتين ، موضع بالمدينة ، قيل : لعله المسجد الذي كان يسكنه أصحاب الصفة ؛ لأنهم كانوا يرضخون فيه النوى ـ فشكت إليه فقالت : يا رسول الله إنّ أوس بن ثابت مات وترك علي ثلاث بنات ، وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهنّ وقد ترك أبوهن مالاً حسناً وهو عند سويد وعرفجة لم يعطياني ولا بناته شيئاً ، وهن في حجري لا يطعمن ولا يسقين ، فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلأ ولا ينكي عدوّاً ، فنزلت هذه الآية ، فأثبتت لهنّ الميراث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقربا من مال أوس شيئاً فإنّ الله جعل لبناته نصيباً مما ترك ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل فيهنّ" فأنزل الله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم} فأعطى صلى الله عليه وسلم أمّ كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي ابني العمّ" وهذا دليل على جواز تأخير البيان عن الخطاب {وإذا حضر القسمة} للميراث {أولو القربى} أي : ذوو القرابة ممن لا يرث {واليتامى والمساكين فارزقوهم} أي : أعطوهم {منه} أي : المقسوم شيئاً قبل القسمة تطييباً لقلوبهم وتصدّقاً عليهم ، وهو أمر ندب للبلغ من الورثة ، وقيل : أمر وجوب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 326
واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم : هي منسوخة بآية المواريث كالوصية ، وعن سعيد بن جبير : إنّ ناساً يقولون : نسخت والله ما نسخت ولكنها مما تهاون بها الناس {وقولوا لهم
326(1/228)
قولاً معروفاً} وهو أن يدعوا لهم ويستقلوا ما أعطوهم ولا يمنوا عليهم. وعن الحسن والنخعي : أدركنا الناس وهم يقسمون على القرابات والمساكين واليتامى من العين يعنيان الذهب والورق فإذا قسم الذهب والورق وصارت القسمة إلى الأقربين والرقيق وما أشبه ذلك قالوا لهم قولاً معروفاً كأن يقولون : بورك فيكم.
{وليخش} أي : وليخف على اليتامى {الذين لو تركوا} أي : قاربوا أن يتركوا {من خلفهم} أي : بعد موتهم {ذرّية ضعافاً} أي : أولاداً صغاراً {خافوا عليهم} أي : الضياع {فليتقوا الله} في أمر اليتامى وغيرهم ، وليأتوا إليهم ما يحبون أن يفعل بذريتهم من بعدهم {وليقولوا} أي : للمريض {قولاً سديداً} أي : عدلاً وصواباً بأن يأمروه أن يتصدّق بدون ثلثه ، ويترك الباقي لورثته ، ولا يتركهم عالة ، وذلك أنه كان إذا حضر أحدهم الموت يقول له من بحضرته : انظر لنفسك فإنّ أولادك وورثتك لا يغنون عنك شيئاً قدّم لنفسك أعتق وتصدّق وأعط فلاناً كذا وفلاناً كذا حتى يأتي على عامة ماله ، فنهاهم الله عز وجل وأمرهم أن يأمروه أن ينظر لولده ، ولا يزيد في وصيته على الثلث ، ولا يجحف بورثته.
{إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً} أي : بغير حق {إنما يأكلون في بطونهم ناراً} أي : ملء بطونهم يقال : أكل فلان في بطنه ، وفي بعض بطنه. قال الشاعر :
*كلوا في بعض بطنكم تعفوا*
ومعنى يأكلون ناراً يأكلون ما يجرّ إلى النار ، فكأنه نار في الحقيقة.
روي "أنه يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ومن فيه وأنفه وأذنيه وعينيه فيعرف الناس أنه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا".
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "رأيت ليلة أسري بي قوماً لهم مشافر كمشافر الإبل إحداهما.... على منخريه والأخرى على بطنه وخزنة النار يلقمونهم جمر جهنم وصخرها فقلت : يا جبريل من هؤلاء ؟
قال : الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً". {وسيصلون سعيراً} أي : ناراً شديدة يحترقون فيها ، وقرأ ابن عامر وشعبة بضم الياء والباقون بالفتح.
{يوصيكم الله} أي : يأمركم {في أولادكم} أي : في شأن ميراثهم بما هو العدل والمصلحة ، وهذا إجمال تفصيله {للذكر} منهم {مثل حظ} أي : نصيب {الأنثيين} إذا اجتمعتا معه فله نصف المال ولهما النصف ، فإن كان معه واحدة فلها الثلث وله الثلثان وإنما فضل الذكر على الأنثى لاختصاصه بلزوم ما لا يلزم الأنثى من الجهاد وتحمل الدية وغيرهما ، وله حاجتان : حاجة لنفسه وحاجة لزوجته ، والأنثى حاجة واحدة لنفسها بل هي غالباً مستغنية بالتزويج عن الإنفاق من مالها ، ولكن لما علم الله تعالى احتياجها إلى النفقة وأنّ الرغبة تقل فيها إذا لم يكن لها
327
مال جعل لها حظاً من الإرث وأبطل حرمان الجاهلية لها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 326
فإن قيل : هلا قيل للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى نصف حظ الذكر ؟
أجيب : بأنه إنما بدأ ببيان حظ الذكر لفضله كما ضوعف حظه لذلك ؛ ولأنّ قوله {للذكر مثل حظ الأنثيين} قصد إلى بيان فضل الذكر وقولك : للأنثيين مثل حظ الذكر قصد إلى بيان نقص الأنثى وما كان قصداً إلى بيان فضله كان أدل على فضله من القصد إلى بيان نقص غيره عنه ؛ ولأنهم كانوا يورّثون الرجال دون النساء والصبيان ، وكان في ابتداء الإسلام بالمحالفة قال تعالى : {والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} (النساء ، 33)
ثم صارت الوراثة بالهجرة قال الله تعالى : {والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء} (الأنفال ، 72)
ثم نسخ ذلك كله بالآية الكريمة ، واختلف في سبب نزولها ، فعن جابر أنه قال : "جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب عليّ من وضوئه فعقلت فقلت : يا رسول الله لمن الميراث إنما يرثني كلالة" فنزلت ، وقال مقاتل والكلبي : نزلت في أمّ كحة امرأة أوس بن ثابت وبناته. وقال عطاء : استشهد سعد بن الربيع النقيب يوم أحد ، وترك امرأة وبنتين وأخاً ، فأخذ الأخ المال ، فأتت امرأة سعد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بابنتي سعد فقالت : يا رسول الله إنّ هاتين ابنتا سعد وإن سعداً قتل يوم أحد شهيداً وإن عمهما أخذ مالهما ، ولا ينكحان إلا ولهما مال فقال صلى الله عليه وسلم "ارجعي فلعل الله سيقضي في ذلك" فنزلت ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمهما وقال : "أعط ابنتي سعد الثلثين وأمّهما الثمن وما بقي فهو لك" فهذا أوّل ميراث قسم في الإسلام ، وكأنه قيل : كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث ، ولا يضارون في حظهنّ حتى يحرمن مع إدلائهنّ مع القرابة مثل ما يدلون به.(1/229)
فإن قيل : حظ الأنثيين الثلثان فكأنه قيل للذكر الثلثان ؟
أجيب : بأنّ المراد حالة الاجتماع كما مرّ أما في حالة الانفراد فالابن يأخذ المال كله ، والبنتان يأخذان الثلثين والدليل على أنّ الغرض حكم الاجتماع أنه اتبعه حكم الانفراد بقوله تعالى : {فإن كنّ} أي : إن كان الأولاد {نساء} خلصاً ليس معهنّ ذكر ، وأنث الضمير باعتبار الخبر أو على تأويل المولودات وقوله تعالى : {فوق اثنتين} خبر ثان أو صفة لنساء أي : نساء زائدات على اثنتين.
فإن قيل : قوله تعالى : للذكر مثل حظ الأنثيين كلام مسوق لبيان حظ الذكر من الأولاد لا لبيان حظ الأنثيين ، فكيف صح أن يردف قوله : {فإن كن نساء} وهو لبيان حظ الإناث ؟
أجيب : بأنه وإن كان مسوقاً لبيان حظ الذكر إلا أنه لما علم منه حظ الأنثيين مع أخيهما كان كأنه مسوق للأمرين جميعاً فلذلك صح أن يقال : فإن كنّ نساء {فلهن ثلثا ما ترك} أي : المتوفى منكم ويدل عليه المعنى {وإن كانت} أي : المولودة {واحدة فلها النصف} وقرأ نافع واحدة بالرفع على كان التامّة ، والباقون بالنصب على كان الناقصة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 326
واختلف في ميراث الأنثيين فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه : حكمهما حكم الواحدة ؛ لأنه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما ، وقال الباقون : حكمهما حكم ما فوقهما ؛ لأنه تعالى لما بين أنّ حظ الذكر مثل حظ الأنثيين إذا كان معه أنثى ، وهو الثلثان ، اقتضى ذلك أنّ فرضهما الثلثان ثم
328
لما أوهم ذلك أن يزاد النصيب بزيادة العدد ردّ ذلك بقوله تعالى : {فإن كنّ نساء فوق اثنتين} ويؤيد ذلك أنّ البنت الواحدة لما استحقت الثلث مع أخيها فبالأولى والأحرى أن تستحقه مع أخت مثلها ، ويؤيده أيضاً إنّ البنتين أمسّ رحماً من الأختين وقد فرض لهما الثلثين بقوله : {فلهما الثلثان مما ترك} وقيل : فوق صلة وقيل : لدفع توهم زيادة النصيب بزيادة العدد لما أفهم استحقاق البنتين من جعل الثلث للواحدة مع الذكر {ولأبويه} أي : الميت وقوله تعالى : {لكل واحد منهما السدس مما ترك} بدل بعض من كل فالسدس مبتدأ ولأبويه خبر وفائدة البدل دفع توهم أن يكون للأب ضعف ما للأم أخذاً من قوله تعالى : {للذكر مثل حظ الأنثيين} وبهذا اندفع كما قال التفتازاني إنّ البدل ينبغي أن يكون بحيث لو أسقط استقام الكلام معنى ، وهنا لو قيل : لأبويه السدس لم يستقم هذا {إن كان له} أي : الميت {ولد} ذكر أو غيره وألحق بالولد ولد الابن وبالأب الجدّ {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه} أي : فقط بقرينة المقام {فلأمه الثلث} مما ترك وإنما لم يذكر حصة الأب ؛ لأنه لما فرض أنّ الوارث أبواه فقط ، وعين نصيب الأمّ علم أنّ الباقي للأب ، وكأنه قال : فلهما ما ترك أثلاثاً ، ولو كان معهما أحد الزوجين كان لها ثلث ما بقي بعد فرضه كما قال الجمهور لا ثلث المال كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، فإنه يفضي إلى تفضيل الأنثى على الذكر المساوي لها في الجهة والقرب ، وهو كما قال البيضاوي خلاف وضع الشرع {فإن كان له إخوة} أي : اثنان فصاعداً ذكور أو إناث كما عليه الجمهور {فلأمّه السدس} والباقي للأب ولا شيء للإخوة.
وقال ابن عباس : لا يحجب الأمّ من الثلث إلى السدس إلا ثلاثة إخوة ذكور ، أخذاً بظاهر اللفظ ، وإطلاق اللفظ يدلّ على أنّ الإخوة يردّونها من الثلث إلى السدس وإن كانوا لا يرثون مع الأب شيئاً ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الأمّ.
وقرأ حمزة والكسائي في الوصل فلأمّه بكسر الهمزة فراراً من ضمة إلى كسرة لثقله في الموضعين ، والباقون بضمها ، وقوله تعالى : {من بعد وصية يوصى بها أو دين} متعلق بما تقدّمه من قسمة المواريث كلها أي : هذه الأنصباء للورثة من بعد وصية أو وفاء دين ، وإنما عبر بأو دون الواو للدلالة على أنهما متساويان في الوجوب مقدّمان على القسمة مجموعين ومفردين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 326(1/230)
فإن قيل : لم قدّمت الوصية في الذكر على الدين مع أنها متأخرة في حكم الشرع عنه ؟
أجيب : بأنها لما كانت شاقة على الورثة لكونها مأخوذة بلا عوض وهي مستحبة لكل مكلف بخلاف الدين فإنه : لا يكون على كل مكلف فقدّمت لذلك ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وشعبة (يوصى) بفتح الصاد ووافقهم حفص على فتح الصاد في الحرف الثاني ، والباقون بكسر الصاد فيهما ، وقوله تعالى : {آباؤكم وأبناؤكم} مبتدأ خبره {لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً} أي : لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم فمنكم من يظنّ أن الأب أنفع له ، فيكون الابن أنفع له ، ومنكم من يظنّ أنّ الابن أنفع له فيكون الأب أنفع له ، وإنما العالم بذلك هو الله تعالى ، وقد دبر أمركم على ما فيه المصلحة فاتبعوه ، وقال ابن عباس : أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة ، والله يشفع المؤمنين بعضهم في بعض فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة رفع إليه ولده ، وإن كان الولد أرفع درجة من الآخر في الجنة سأل الله أن يرفع إليه فيرفع بشفاعته {فريضة} أي : ما قدر من المواريث فرض فريضة {من الله إنّ الله كان عليماً} بأمور عباده {حكيماً} فيما قضى وقدّر أي : لم يزل متصفاً بذلك.
329
جزء : 1 رقم الصفحة : 326
{ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهنّ ولد} ذكر أو غيره منكم أو من غيركم {فإن كان لهنّ ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين} وولد الابن في ذلك كالولد إجماعاً {ولهنّ} أي : الزوجات تعددن أو لا {الربع مما تركتم إن لم يكم لكن ولد فإن كان لكم ولد} منهنّ أو من غيرهنّ {فلهنّ الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين} وولد الابن كالولد في ذلك إجماعاً ، فقد فرض للرجل بحق العقد الصحيح ضعف ما للمرأة كما في النسب وهكذا قياس كل رجل وامرأة وارثين اشتركا في الجهة والقرب من الميت ولا يستثنى من ذلك إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة {وإن كان رجل} أي : الميت {يورث} أي : منه من ورث ، صفة رجل وخبر كان {كلالة ، } أو يورث خبر كان وكلالة حال من الضمير في يورث واختلفوا في الكلالة فذهب أكثر الصحابة إلى أنها من لا ولد له ولا والد ، قال الشعبي : سئل أبو بكر رضي الله تعالى عنه عن الكلالة فقال : إني سأقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان أراه ما خلا الوالد ، والولد فلما استخلف عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : إني لأستحي من الله أن أردّ شيئاً قاله أبو بكر.
وذهب طاوس أنّ الكلالة من لا ولد له وهي إحدى الروايتين عن ابن عباس وأحد القولين عن عبد الله بن عمر ، وسأل رجل عقبة عن الكلالة فقال : ألا تعجبون من هذا ؟
سألني وما أعضل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : ثلاث لأن يكون النبيّ بينهنّ لنا أحب إلينا من الدنيا وما فيها الكلالة والخلافة وأبواب الربا. وقال سعيد بن أبي طلحة : خطب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال : إني لا أدع بعدي شيئاً أهم عندي من الكلالة ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة ، وما أغلظ لي
330
في شيء ما أغلظ فيه حتى طعن بإصبعه في صدري وقال : "يا عمر ألا يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن" وقوله : "ألا يكفيك آية الصيف" أراد أنّ الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أوّل سورة النساء ، والأخرى في الصيف وهي التي في آخرها ، وفيها من البيان ما ليس في آية الشتاء ، فلذلك أحاله عليها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 330
وقوله تعالى : {أو امرأة} عطف على رجل أي : أو امرأة تورث كلالة {وله} أي : الرجل {أخ أو أخت} واكتفى بحكم الرجل عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فيه ، ويصح أن يعود الضمير على الموروث الكلالة فيشمل الرجل والمرأة {فلكل واحد منهما السدس} وقد أجمعوا على أنّ المراد به الأخ والأخت من الأم {فإن كانوا} أي : الأخت والأخوات من الأم {أكثر من ذلك} أي : من واحد {فهم شركاء في الثلث} يستوي فيه ذكورهم وإناثهم ؛ لأنّ الإدلاء بمحض الأنوثة {من بعد وصية يوصى بها أو دين} وقوله تعالى : {غير مضارّ} حال من ضمير يوصى أي : غير مدخل الضرر على الورثة بأن يوصى بأكثر من الثلث ، وعن قتادة : كره الله الضرار في الحياة وعند الممات ونهى عنه.
وعن الحسن المضارّة في الدين أن يوصي بدين ليس عليه ، ومعناه الإقرار ، وقوله تعالى : {وصية من الله} مصدر مؤكد ليوصيكم أي : يوصيكم بذلك وصية كقوله : {فريضة من الله} (النساء ، 11)
{وا عليم} بما دبره لخلقه من الفرائض {حليم} بتأخير العقوبة عمن خالفه.
تنبيه : خصت السنة توريث من ذكر بمن ليس فيه مانع من قتل أو اختلاف دين أو رق.(1/231)
{تلك} أي : الأحكام المذكورة في أمر اليتامى والوصايا والمواريث {حدود الله} أي : شرائعه التي حدّها لعباده ليعملوا بها ولا يتعدّوها {ومن يطع الله ورسوله} فيما حكما به {يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار} وقوله تعالى : {خالدين فيها} حال مقدرة كقولك : مررت برجل معه صقر صائداً به غداً {وذلك الفوز العظيم}.
{ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده} أي : الله {يدخله ناراً} وقوله تعالى : {خالداً فيها} حال كما مرّ ، ولا يجوز أن يكون (خالدين) و(خالداً) صفتين لجنات ونار ؛ لأنهما جريا على غير من هما له ، فلا بدّ من الضمير وهو قولك : خالدين هم فيها وخالداً هو فيها هذا على مذهب البصريين ، أما على مذهب الكوفيين فهو جائز عندهم عند أمن اللبس كما هنا ، وهو الراجح كما جرى عليه ابن مالك وغيره {وله عذاب مهين} أي : ذو إهانة ، وروعي في الضمائر في الآيتين لفظ من وفي خالدين معناها. وقرأ نافع وابن عامر (ندخله جنات) و(ندخله ناراً) بالنون فيهما على الالتفات ، والباقون بالياء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 330
{واللاتي يأتين الفاحشة} أي : الزنا {من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم} أي : من رجال المسلمين ، وهذا خطاب للحكام أي : فاطلبوا عليهنّ أربعة من الشهود ، وفيه بيان أنّ الزنا لا يثبت إلا بأربعة من الشهود {فإن شهدوا} عليهنّ بها {فأمسكوهنّ} أي : احبسوهنّ {في البيوت}
331
واجعلوها سجناً لهنّ وامنعوهنّ عن مخالطة الناس ، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بضمّ الباء والباقون بكسرها {حتى يتوفاهنّ الموت} أي : ملائكته {أو} إلى أن {يجعل الله لهنّ سبيلاً} أي : طريقاً إلى الخروج منها أمروا بذلك أوّل الإسلام ، ثم جعل لهنّ سبيلاً بجلد البكر مئة وتغريبها عاماً ورجم المحصنة ، وفي الحديث ، لما بين الحدّ قال : "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلاً". رواه مسلم {واللذان} أي : الزاني والزانية ، وقرأ ابن كثير بتشديد النون والباقون بالتخفيف {يأتيانها} أي : فاحشة الزنا {منكم} أي : الرجال {فآذوهما} بالسب والضرب بالنعال {فإن تابا} أي : منها {وأصلحا} أي : العمل {فأعرضوا عنهما} ولا تؤذوهما {إنّ الله كان توّاباً} على من تاب {رحيماً} به ، وهو علة الأمر بالإعراض وترك المذمة وهذا منسوخ بالحدّ.
جزء : 1 رقم الصفحة : 331
روى ابن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنهما أخبراه أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله ، فقال الآخر وكان أفقههما : أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم فقال : إنّ ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أنّ على ابني الرجم فافتديت منه بمئة شاة وبجارية لي ، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني جلد مئة وتغريب سنة وإنما الرجم على امرأته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله أما غنمك وجاريتك فردّ عليك" وجلد ابنه مئة وغرّبه عاماً. أي : لأنه كان غير محصن وأمر أنيساً الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها.
وروى ابن عباس عن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : إنّ الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ورعيناها ، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو الاعتراف. وجملة حد الزنا أنّ الزاني إذا كان محصناً وهو الذي اجتمع فيه أربعة أوصاف : العقل والبلوغ والحرّية والإصابة بالنكاح الصحيح ، فحدّه الرجم مسلماً كان أو ذميّاً ، وعند أبي حنيفة أنّ الإسلام من شرائط الإحصان فلا يرجم عنده الذميّ ، ويردّه ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه رجم يهوديين زنيا وكانا قد أحصنا" وإن كان الزاني غير محصن بأن لم تجتمع فيه هذه الأوصاف نظر إن كان غير بالغ أو مجنوناً فلا حد عليه وإن كان حرّاً عاقلاً بالغاً غير أنه لم يصب بنكاح صحيح فعليه جلد مئة وتغريب عام وإن كان رقيقاً فعليه جلد خمسين وتغريب نصف
332
عام. ومثل الزنا اللواط عند الشافعيّ رضي الله تعالى عنه لكن المفعول به لا رجم عليه وإن كان محصناً بل يجلد ويغرّب ، وقيل : نزلت آية {واللاتي يأتين الفاحشة} في المساحقات وآية {واللذان يأتيانها منكم} في اللواطين.(1/232)
{إنما التوبة على الله} أي : إن قبول التوبة كالمحتوم على الله تفضلاً منه بمقتضى وعده ؛ لأنه تعالى وعد بقبول التوبة فإذا وعد شيئاً لا بدّ أن ينجز وعده ؛ لأن الخلف في وعده سبحانه وتعالى محال {للذين يعملون السوء} أي : المعصية وقوله تعالى : {بجهالة} في موضع الحال أي : يعملون السوء جاهلين أي : سفهاً فإن ارتكاب الذنب مما يدعو إليه السفه والشهوة لا ما تدعو إليه الحكمة والعقل ، وعن مجاهد : من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع أي : يخرج من جهالته ، وقال قتادة : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي به الله فهو جهالة عمداً كان أو لم يكن ، وكل من عصى الله تعالى فهو جاهل {ثم يتوبون من} زمن {قريب} أي : قبل أن يغرغروا لقوله تعالى : {حتى إذا حضر أحدهم الموت} وقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" رواه الترمذي وحسنه. وعن عطاء ولو قبل موته بفواق ناقة ، وعن الحسن إن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض : وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده فقال : وعزتي وجلالي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر. والغرغرة تردّد الروح في الحلق.
جزء : 1 رقم الصفحة : 331
تنبيه : معنى (من) في قوله تعالى {من قريب} التبعيض أي : يتوبون بعض زمان قريب كأنه سمى ما بين وجود المعصية وبين حضور الموت زمناً قريباً ؛ لأن أمد الحياة قريب لقوله تعالى : {قل متاع الدنيا قليل} (النساء ، 77)
ففي أي جزء تاب من أجزاء هذا الزمان فهو تائب من قريب وإلا فهو تائب من بعيد {فأولئك يتوب الله عليهم} أي : يقبل توبتهم.
فإن قيل : ما فائدة ذلك بعد قوله تعالى : {إنما التوبة على الله} ؟
أجيب : بأنّ ذلك وعد بالوفاء بما وعد به وكتبه على نفسه كما يعد العبد الوفاء بما عليه {وكان الله عليماً} بخلقه {حكيماً} في صنعه بهم.
{وليست التوبة للذين يعملون السيآت} أي : الذنوب {حتى إذا حضر أحدهم الموت} أي : أخذ في النزع {قال} عند مشاهدة ما هو فيه {إني تبت الآن} حين لا يقبل من كافر إيمان ولا من عاص توبة قال تعالى : {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} (غافر ، 85)
ولذلك لم ينفع إيمان فرعون حين أدركه الغرق {ولا الذين يموتون وهم كفار} أي : إذا تابوا في الآخرة عند معاينة العذاب لا ينفعهم ذلك ، ولا تقبل توبتهم ، فسوى سبحانه وتعالى بين الذين سوفوا توبتهم إلى حضور الموت وبين الذين ماتوا على الكفر في أنه لا توبة لهم ؛ لأنّ حضور الموت أوّل أحوال الآخرة ، فكما أن المصرين على الكفر قد فاتتهم التوبة على اليقين فكذلك المسوف إلى حضور الموت لمجاوزة كل منهما أوان التكليف والاختيار وقوله تعالى : {أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً} أي : مؤلماً تأكيد لعدم قبول توبتهم وبيان أن العذاب أعده لهم لا يعجزه عذابهم متى شاء والاعتداد التهيئة من العتاد وهو العدة ، وقيل : أصله أعددنا أبدلت الدال الأولى تاء.
{يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء} أي : ذواتهنّ {كرهاً} نزلت في أهل المدينة
333
كانوا في الجاهلية ، وفي أوّل الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة وللرجل عصبة وألقى ثوبه على امرأة الميت أو على خبائها صار أحق بها من نفسها ومن غيره ، ثم إن شاء تزوّجها بصداقها الأوّل وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها ، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج يضارها لتفتدي منه بما ورثته من الميت أو تموت هي فيرثها ، فإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها عصبة الميت ثوبه فهي أحق بنفسها ، وكانوا على هذا حتى توفي أبو القيس بن الأسلت الأنصاري وترك امرأته ، فقام ابن له من غيرها فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها ، ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارها لتفدي نفسها منه ، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أبا قيس توفي وورث نكاحي ابنه ، فلا هو ينفق عليّ ولا يدخل بي ولا يخلي سبيلي ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقعدي في بيتك حتى يأتي أمر الله" فأنزل الله تعالى هذه الآية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 331
وقرأ حمزة والكسائي بضم الكاف ، والباقون بفتحها قال الكسائي : وهما لغتان ، وقال الفرّاء : الكره بالفتح ما أكره عليه ، وبالضم المشقة ، وقوله تعالى : {ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ} عطف على (أن ترثوا) أي : لا تمنعوا أزواجكم عن نكاح غيركم بإمساكهنّ ولا رغبة لكم فيهنّ ضراراً لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ من المهر ، وقيل : هذا خطاب لأولياء الميت ، والصحيح كما قال البغوي : إنه خطاب للأزواج ، قال ابن عباس : هذا في الرجل يكون له المرأة وهو كاره صحبتها ولها عليه مهر فيضارها لتفتدي وتردّ إليه ما ساق إليها من المهر فنهى الله تعالى عن ذلك.(1/233)
قال الزمخشريّ : والعضل الحبس والضيق ومنه عضلت المرأة بولدها إذا اختنقت رحمها به فخرج بعضه وبقي بعضه {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} كالزنا والنشوز وسوء العشرة ، فحينئذٍ يحل لكم إضرارهنّ ليفتدين منكم قال عطاء : كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها فنسخ ذلك بالحدود ، وقرأ ابن كثير وشعبة بفتح الياء المثناة تحت والباقون بالكسر وقوله تعالى : {وعاشروهنّ بالمعروف} قال الحسن : رجع إلى أوّل الكلام يعني وآتوا النساء صدقاتهنّ نحلة وعاشروهنّ بالمعروف وهو النصفة في المبيت والنفقة والإجمال في القول وقيل : هو أن يتصنع لها كما تتصنع له {فإن كرهتموهنّ} فاصبروا ولا تفارقوهنّ {فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً} أي : فربما كرهت النفس ما هو أصلح في الدين وأحمد وأدنى إلى الخير وأحبت ما هو بضدّ ذلك وليكن نظركم ما هو أصلح للدين وأدنى إلى الخير فلعل أن يرزقكم الله تعالى منهنّ ولداً صالحاً أو يعطفكم الله عليهنّ وقد بينت الآية جواز إمساك المرأة مع الكراهة لها ونبهت على معنيين :
أحدهما أنّ الإنسان لا يعلم وجوه الصلاح :
والثاني أنّ الإنسان لا يكاد يجد محبوباً ليس فيه ما يكره فليصبر على ما يكره لما يحب وأنشدوا في هذا المعنى :
*ومن لم يغمض عينه عن صديقه ** وعن بعض ما فيه يمت وهو عائب*
*ومن يتتبع جاهداً كل عثرة ** يجدها ولم يسلم له الدهر صاحب*
334
ولما كان الرجل إذا طمحت عينه إلى استظراف امرأة بهت بالتي تحته ورماها بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى زوج غيرها نزل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 331
{وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج} أي : أخذها بدلها بأن طلّقتموها{و} قد {آتيتم إحداهنّ} أي : الزوجات {قنطاراً} أي : مالاً كثيراً صداقاً {فلا تأخذوا منه} أي : القنطار {شيئاً} وقوله تعالى : {أتأخذونه بهتاناً} أي : ظلماً {وإثماً مبيناً} أي : بيناً حال أي : أتأخذونه باهتين وآثمين ، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قام خطيباً فقال : أيها الناس لا تغالوا بصداق النساء فلو كان مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله ما أصدق امرأة من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقية فقامت إليه امرأة فقالت له : يا أمير المؤمنين لِمَ تمنعنا حقاً جعله الله لنا والله تعالى يقول : {وآتيتم إحداهنّ قنطاراً} فقال عمر رضي الله تعالى عنه : كل أحد أعلم من عمر ثم قال لأصحابه : تسمعونني أقول مثل هذا القول ولا تنكرونه عليّ حتى تردّ عليّ امرأة ليست من أعلم النساء.
وقوله تعالى :
{وكيف تأخذونه} استفهام توبيخ وإنكار أي : تأخذونه بأي وجه {وقد أفضى} أي : وصل {بعضكم إلى بعض} بالجماع المقرّر للمهر وكنى الله تعالى عن الجماع بالإفضاء وهو الوصول إلى الشيء من غير واسطة تعليماً لعباده ؛ لأنه مما يستحيا منه {وأخذن منكم ميثاقاً} أي : عهداً {غليظاً} أي : شديداً وهو ما أخذه الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم "اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم
335
فروجهنّ بكلمة الله". وقد قيل : صحبة عشرين يوماً قرابة فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج. ولما توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار خطب ابنه قيس امرأة أبيه وكان أهل الجاهلية ينكحون أزواج آبائهم فقالت : إني أعدّك ولداً وأنت من صالحي قومك ، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره فأتته وأخبرته بذلك فنزل.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 335
ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} وإنما عبر بما دون من ؛ لأنه أريد به صفة ذات معينة وهي كونهنّ منكوحات الآباء ، وقيل : ما مصدرية على إرادة المفعول من المصدر وقوله تعالى : {إلا ما قد سلف} استثناء من المعنى اللازم للنهي فكأنه قيل : تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف أو من اللفظ للمبالغة في التحريم ، والمعنى : لا تنكحوا حلائل آبائكم إلا ما قد سلف إن أمكنكم أن تنكحوه ولا يمكن ذلك والغرض المبالغة في تحريمه وسدّ الطريق إلى إباحته كما يعلق بالمحال في التأبيد في نحو قوله تعالى : {حتى يلج الجمل في سم الخياط} (الأعراف ، 40)(1/234)
أو منقطع أي : لكن ما قد سلف من فعلكم ذلك فإنه معفو عنه وقوله تعالى : {إنه} أي : نكاحهنّ {كان فاحشة ومقتاً} علة للنهي أي : إنه فاحشة فكان مزيدة أي : قبيحاً عند الله تعالى ما رخص فيه لأمّة من الأمم ممقوتاً عند ذوي المروءات من الجاهلية وغيرهم وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه : المقتى ويسمي به الرجل المذكور أيضاً قال في "القاموس" : نكاح المقت أن يتزوّج امرأة أبيه بعده فالمقتى ذلك المتزوّج أو ولده أي : ومن ثم قيل : ومقتاً كأنه قيل : هو فاحشة في دين الله بالغة في القبح قبيح ممقوت في المروءة ولا مزيد على ما يجمع القبحين {وساء} أي : بئس {سبيلاً} أي : طريقاً ذلك ، روي عن البراء بن عازب أنه قال : "مرّ بي خالي ومعه لواء فقلت : أين تذهب ؟
فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوّج امرأة أبيه آتيه برأسه".
واعلم أن أسباب التحريم المؤبد ثلاثة : قرابة ورضاع ومصاهرة وضابط المحرمات بالنسب والرضاع أن يقال : محرم نساء القرابة إلا من دخلت تحت ولد العمومة أو ولد الخؤولة وقد بدأ الله بالسبب الأوّل وهو القرابة فقال :
{حرّمت عليكم أمهاتكم} أي : العقد عليهنّ وكذلك يقدّر في الباقي ؛ لأن تحريم نكاحهنّ هو الذي يفهم من تحريمهنّ كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها ومن تحريم لحم الخنزير تحريم أكله.
والأمّهات جمع أمّ وأصلها أمّهة ، قاله الجوهريّ. وضابط الأمّ هي كل من ولدتك فهي أمّك حقيقة أو ولدت من ولدك ذكراً كان أو أنثى كأم الأب وإن علت وأمّ الأمّ كذلك فهي أمّك مجازاً ، وإن شئت قلت : هي كل أنثى ينتهي إليها نسبك {وبناتكم} جمع بنت وضابطها هو كل من ولدتها فهي بنتك حقيقة أو ولدت من ولدها ذكراً كان أو أنثى كبنت ابن وإن نزل وبنت بنت وإن نزلت فبنتك مجازاً وإن شئت قلت : كل أنثى ينتهي إليك نسبها ، وخرج بالبنت المخلوقة من ماء زنا الرجل فإنها تحل له ؛ لأنها أجنبية عنه بدليل منع الإرث بالإجماع فلا تتبعض الأحكام ويحرم على
336
المرأة ولدها من زنا بالإجماع كما أجمعوا على أنه يرثها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 335
والفرق أن الابن كالعضو منها وانفصل منها إنساناً ولا كذلك النطفة التي خلقت منها البنت بالنسبة للأب {وأخواتكم} جمع أخت وضابطها هو كل من ولدها أبواك أو أحدهما فهي أختك {وعماتكم} جمع عمة ، وضابطها : هو كل من هي أخت ذكر ولدك بلا واسطة فعمتك حقيقة أو بواسطة كعمة أبيك فعمتك مجازاً وقد تكون العمة من جهة الأمّ كأخت أبي الأمّ {وخالاتكم} جمع خالة وضابطها هو كل من هي أخت أنثى ولدتك بلا واسطة فخالتك حقيقة ، أو بواسطة كخالة أمّك فخالتك مجازاً ، وقد تكون الخالة من جهة الأب كأخت أمّ الأب {وبنات الأخ وبنات الأخت} من جميع الجهات وبنات أولادهم وإن سفلن.
ثم ثنى بالسبب الثاني وهو الرضاع فقال : {وأمّهاتكم اللاتي أرضعنكم} وضابط أمّك من الرضاع هو : كل من أرضعتك أو أرضعت من أرضعتك أو صاحب اللبن أو أرضعت من ولدك بواسطة أو غيرها أو ولدت مرضعتك بواسطة أو غيرها أو صاحب لبنها وهو الفحل بواسطة أو غيرها فأمّ رضاع {وأخواتكم من الرضاعة} وضابط أخت الرضاع هو كل من أرضعتها أمّك أو ارتضعت بلبن أبيك أو ولدتها مرضعتك أو ولدها الفحل ويلحق بذلك بالسنة باقي السبع لخبر الصحيحين : "يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة" ، وفي رواية : "حرموا من الرضاعة ما يحرم من الولادة" ، وفي رواية : "حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب".
وضابط بنت الرضاع هو كل أنثى ارتضعت لبنك أو لبن من ولدته بواسطة أو غيرها أو أرضعتها امرأة ولدتها بواسطة أو غيرها وكذا بناتها من نسب أو رضاع وإن سفلن ، وضابط عمة الرضاع هو كل أخت للفحل أو أخت ذكر ولد الفحل بواسطة أو غيرها من نسب أو رضاع.
وضابط خالة الرضاع هو كل أخت للمرضعة أو أخت أنثى ولدت المرضعة بواسطة أو غيرها من نسب أو رضاع ، وضابط بنات الإخوة وبنات الأخوات من الرضاع : كل أنثى من بنات أولاد المرضعة والفحل من الرضاع والنسب ، وكذا كل أنثى أرضعتها أختك أو ارتضعت بلبن أخيك وبناتها وبنات أولادها من نسب أو رضاع ، وإنما تثبت حرمة الرضاع بشرطين :
أحدهما أن يكون قبل استكمال المولود حولين لقوله تعالى : {والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين} (البقرة ، 233)
ولقوله صلى الله عليه وسلم "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء" ، وعن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "لا رضاع إلا ما أنشر العظم وأنبت اللحم" وإنما يكون هذا في حال الصغر ، وعند أبي حنيفة مدّة الرضاع ثلاثون شهراً لقوله تعالى : {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} (الأحقاف ، 15)
جزء : 1 رقم الصفحة : 335
وهي عند الأكثرين لأقل مدّة الحمل وأكثر مدّة الرضاع وأقل مدّة الحمل ستة أشهر وابتداء الحولين من تمام انفصاله. والشرط الثاني : أن توجد خمس رضعات متفرّقات ، لما روي عن عائشة رضي
337(1/235)
الله تعالى عنها أنها قالت : فيما أنزل الله في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخت بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن أي : يقرؤهنّ من لم يبلغه نسخهنّ فقد نسخت تلاوتهنّ وبقي حكمهنّ ، وهذا ما ذهب إليه الشافعي ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أن قليل الرضاع وكثيره محرم ، وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب ، وإليه ذهب سفيان الثوري ومالك والأوزاعي وعبد الله بن المبارك وأبو حنيفة ، ويقوي الأوّل قوله صلى الله عليه وسلم "لا تحرم المصة من الرضاع والمصتان".
ثم ثلث بالسبب الثالث وهو النكاح فقال تعالى : {وأمّهات نسائكم} أي : بواسطة أو بغيرها من نسب أو رضاع سواء أدخل بزوجته أم لا لإطلاق الآية {وربائبكم} جمع ربيبة وهي بنت الزوجة من غيره وسميت ربيبة ؛ لأنه يربيها كما يربي ولده في غالب الأمر ، ثم اتسع فيه وسميت بذلك وإن لم يربها وقوله تعالى : {اللاتي في حجوركم} أي : تربونها صفة موافقة للغالب فلا مفهوم لها {من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ} أي : جامعتموهنّ سواء أكان ذلك بعقد صحيح أم فاسد لإطلاق الآية {فإن لم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جناح عليكم} أي : في نكاح بناتهنّ إذا فارقتموهنّ.
فإن قيل : لم أعيد الوصف إلى الجملة الثانية ولم يعد إلى الجملة الأولى {وهي وأمّهات نسائكم} مع أنّ الصفات عقب الجمل تعود إلى الجميع ؟
أجيب : بأنّ نساءكم الثاني مجرور بحرف الجرّ ، ونساءكم الأول مجرور بالإضافة ، وإذا اختلف العامل لم يجز الإتباع وتعين القطع واعترض بأنّ المعمول الجرّ وهو واحد.
تنبيه : قضية كلام الشيخ أبي حامد وغيره أنه يعتبر في الدخول أن يقع في حياة الأمّ فلو ماتت قبل الدخول ووطئها بعد موتها لم تحرم بنتها ؛ لأنّ ذلك لا يسمى دخولاً وإن تردّد فيه الروياني.
فإن قيل : لِمَ لم يعتبر الدخول في تحريم أصول البنت واعتبر في تحريمها الدخول ؟
أجيب : بأنّ الرجل يبتلى عادة بمكالمة أمّها عقب العقد لترتيب أموره فحرمت بالعقد ليسهل ذلك عليه بخلاف بنتها واستدخال الماء المحترم يثبت المصاهرة كالوطء ، وتحرم البنت المنفية باللعان وإن لم يدخل بأمّها ؛ لأنها لا تنتفي عنه قطعاً {وحلائل} أي : أزواج {أبنائكم} واحدتها حليلة والذكر حليل سميا بذلك ؛ لأن كل واحد منهما حلال لصاحبه ، وقيل : سميا بذلك ؛ لأن كل واحد يحلّ إزار صاحبه من الحل وهو ضدّ العقد وقوله تعالى : {الذين من أصلابكم} احتراز عن حليلة المتبنى فإنها لا تحرم على الرجل الذي تبناه ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّج امرأة زيد بن حارثة وكان تبناه صلى الله عليه وسلم لا عن حليلة ولده من الرضاع فإنها تحرم عليه ، ولا عن حلائل أبناء الولد وإن سفلوا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 335
تنبيه : كل امرأة تحرم عليك بعقد النكاح تحرم بالوطء في ملك اليمين والوطء بشبهة النكاح ، فإذا وطىء امرأة بشبهة أو جارية بملك اليمين حرم على الواطىء أمّها وبنتها ، وتحرم الموطوءة على أبي الواطىء وابنه ، ولو زنى بامرأة لم تحرم أمّها ولابنتها على الزاني ولا تحرم الزانية على أبي الزاني وابنه كما قاله ابن عباس ، وإليه ذهب مالك والشافعيّ ، وذهب قوم إلى التحريم.
338
يروي ذلك عن عمران بن حصين وأبي هريرة وهو قول أصحاب الرأي. وهل المباشرة بشهوة كلمس وقبلة كالوطء في تحريم الربيبة ؟
فيه قولان :
أحدهما : وهو الأصح من مذهب الشافعيّ لا ؛ لأنّ ذلك لا يوجب العدّة ، فكذا لا يوجب الحرمة.
والثاني : نعم ؛ لأنّ ذلك كالوطء بجامع التلذذ بالمرأة ؛ ولأنه استمتاع يوجب الفدية على المحرم فكان كالوطء وبهذا قال جمهور العلماء.(1/236)
ثم ذكر سبحانه وتعالى تحريم الجمع بقوله تعالى : {وأن تجمعوا بين الأختين} أي : ولا يجوز للرجل أن يجمع بين أختين في نكاح سواء كانتا من نسب أم رضاع سواء أنكحهما معاً أم مترتباً ، فإذا نكح امرأة ، ثم طلقها بائناً جاز له نكاح أختها ، وخرج بالجمع في النكاح الجمع بملك اليمين ، فإنه جائز لكن لا يجوز أن يجمع بينهما في الوطء فإذا وطىء إحداهما لم يحل له وطء الأخرى حتى يحرّم الأولى على نفسه ، ويلحق بالأختين بالسنة الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من نسب أو رضاع ولو بواسطة ، قال صلى الله عليه وسلم "لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على بنت أخيها ولا المرأة على خالتها ولا الخالة على بنت أختها لا الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى" ، رواه الترمذي وغيره وصححوه ؛ ولما فيه من قطيعة الرحم ، وإن رضيت بذلك ، فإن الطبع يتغير وإليه أشار صلى الله عليه وسلم في خبر النهي عن ذلك بقوله : "إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامهنّ". كما رواه ابن حبان وغيره ، وضابط تحريم الجمع ابتداء ودواماً هو كل امرأتين بينهما قرابة أو رضاع ولو فرضت إحداهما ذكراً حرم الجمع بينهما بنكاح أو وطء بملك اليمين ، وقوله تعالى : {إلا ما قد سلف} استثناء عن لازم المعنى وهو المؤاخذة ، فكأنه قال تعالى : تؤاخذون بذلك إلا ما قد سلف قبل النهي فلا تؤاخذون به أو منقطع أي : لكن ما قد سلف من نكاح بعض ما ذكر فإنه مغفور لكم ويؤيد هذا قوله تعالى : {إنّ الله كان غفوراً} لما سلف منكم قبل النهي {رحيماً} بكم في ذلك ، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر من رواية ابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند السين والباقون بالإدغام.
جزء : 1 رقم الصفحة : 335
{و} حرمت {المحصنات} أي : ذوات الأزواج {من النساء} أن تنكحوهنّ قبل مفارقة أزواجهنّ سواء أكن حرائر أم لا ، مسلمات أم لا ، قال أبو سعيد الخدري : نزلت في نساء كنّ هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهنّ أزواج ، فتزوّجهن بعض المسلمين ، ثم قدم أزواجهن مهاجرين ، فنهى الله المسلمين عن نكاحهنّ ، ثم استثنى فقال : {إلا ما ملكت أيمانكم} أي : من الإماء بالسبي فلكم وطؤهنّ وإن كان لهنّ أزواج في دار الحرب بعد الاستبراء ؛ لأنّ بالسبي يرتفع النكاح بينها وبين زوجها ، قال أبو سعيد الخدري : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين جيشاً إلى أوطاس ، فأصابوا سبايا لهنّ أزواج من المشركين ، فكرهوا غشيانهنّ وتحرجوا فأنزل الله هذه الآية.
فائدة : قرأ الكسائي جميع ما في القرآن من لفظ المحصنات ومحصنات بكسر الصاد إلا هذا
339
الحرف فإنه فتح الصاد موافقة للجميع ، ووجه تسميتهنّ بذلك ؛ لأنهنّ أحصن فروجهنّ بالتزويج فهنّ محصنات ، ومحصنات بالكسرة في غير هذه الآية وقوله تعالى : {كتاب الله} مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي قبله وهي حرمت عليكم إلخ.. أي : كتب الله {عليكم} تحريم هؤلاء كتاباً وقوله تعالى : {وأحل لكم} عطف على الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله إذا قرىء بالبناء للفاعل كما قرأه غير حفص وحمزة والكسائي ، وأمّا هم فقرؤوه بالبناء للمفعول عطفاً على حرمت {ما وراء ذلكم} أي : سوى ما حرم عليكم من النساء وقوله تعالى : {أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} مفعول له والمعنى أحل لكم ما وراء ذلك إرادة أن تبتغوا أي : تطلبوا النساء بأموالكم التي جعل الله لكم قياماً في حال كونكم محصنين أي : متزوّجين غير مسافحين أي : زانين ؛ لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم فتخسروا دنياكم ودينكم ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 339
والإحصان : العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام والمسافح الزاني من السفح وهو صبّ المني ، وكان الفاجر يقول للفاجرة : سافحيني ماذيني من المذي. والأموال المهور وما يخرج في المناكح.
تنبيه : يجوز أن يكون مفعول تبتغوا مقدراً وهو النساء كما قدّرته لك ، قال الزمخشري : والأجود أن لا يقدر وكأنه قيل : أن تخرجوا أموالكم ويجوز أن يكون أن تبتغوا بدلاً مما وراء ذلكم بدل اشتمال ؛ لأنّ المبدل منه ذات والمبدل معنى والذات مشتملة عليه {فما} أي : فمن {استمتعتم} أي : تمتعتم {به منهنّ} أي : ممن تزوجتم بالوطء {فآتوهنّ أجورهنّ} أي : مهورهنّ ، فإنّ المهر في مقابلة الاستمتاع ، وقوله تعالى : {فريضة} حال من الأجور بمعنى مفروضة أو صفة مصدر محذوف أي : إيتاء مفروضاً أو مصدر مؤكد {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم} أنتم وهنّ {به من بعد الفريضة} فيما يزاد على المسمى أو يحط عنه بالتراضي ، أو فيما تراضيا به من نفقة أو مقام أو فراق.(1/237)
وقيل : نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نسخت كان الرجل ينكح المرأة وقتاً معلوماً ليلة أو ليلتين أو أسبوعاً بثوب أو غير ذلك ويقضي منها وطره ثم يسرحها سميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها ، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أباحها ثم أصبح يقول : "يأيها الناس إني كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء إلا أنّ الله حرّم ذلك إلى يوم القيامة". وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : "لا أوتى برجل تزوّج بامرأة إلى أجل إلا رجمتهما بالحجارة". وعن ابن عباس أنه قال : هي محكمة أي : تنسخ وكان يقرأ : فما استمتعتم به إلى أجل مسمى ، ويروى أنه رجع عن ذلك عند موته وقال : اللهمّ إني أتوب إليك من قولي بالمتعة ، وقيل : إنها أبيحت مرّتين وحرمت مرّتين {إنّ الله كان عليماً} بخلقه {حكيماً} فيما دبره لهم.
{ومن لم يستطع منكم طولاً} أي : غنى وأصل الطول الفضل يقال : لفلان على فلان طول
340
أي : زيادة فضل وقد طاله طولاً فهو طائل كما قال القائل :
*لقد زادني حباً لنفسي أنني ** بغيض إلى كل امرىء غير طائل*
ومنه قولهم : هذا أمر ما تحته طائل أي : شيء يعتد به مما له فضل وخطر ، ومنه الطول في الجسم ؛ لأنه زيادة فيه كما أنّ القصر قصور فيه ونقصان ، والمعنى : ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة {أن ينكح المحصنات} أي : الحرائر وقوله تعالى : {المؤمنات} جرى على الغالب ، فلا مفهوم له فإن الحرائر الكتابيات كذلك {فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} أي : إمائكم المؤمنات أي : ومن لم يقدر على مهر الحرّة المؤمنة أي : أو الكتابية كما مرّ فليتزوّج الأمة المؤمنة ، وظاهر الآية حجة للشافعي رضي الله تعالى في تحريم نكاح الأمة على من ملك ما يجعله صداق حرّة ومنع نكاح الأمة الكتابية مطلقاً ، وأوّل أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه طول المحصنات بأن يملك فراشهنّ على أنّ النكاح هو الوطء وحمل قوله : (من فتياتكم المؤمنات) على الأفضل كما حمل عليه قوله : (المحصنات المؤمنات).
جزء : 1 رقم الصفحة : 339
ومن أصحابنا من حمله أيضاً على التقييد وجوّز نكاح الأمة لمن قدر على الحرّة والكتابية دون المؤمنة حذراً من مخالطة الكفار وموالاتهم ، والمحذور في نكاح الأمة رق الولد ؛ ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة ، وذلك كله نقصان راجع إلى الناكح ومهانة ، والعزة من صفات المؤمنين ، وأمّا وطؤها بملك اليمين فجائز باتفاق.
فائدة : قوله تعالى : {فمن ما ملكت} من مقطوعة عن ما {وا أعلم بإيمانكم} أي : بتفاضل ما بينكم وبين أرقائكم في الإيمان ورجحانه ونقصانه فيهم وفيكم ، وربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرّة ، والمرأة أفضل في الإيمان من الرجل وحق المؤمنين أن لا يعتبروا إلا فضل الإيمان لا فضل الأحساب والأنساب ، وهذا تأنيس بنكاح الإماء وترك الاستنكاف منه فإنه العالم بالسرائر {بعضكم من بعض} أي : أنتم وإماؤكم سواء في النسب والدين نسبكم من آدم ودينكم الإسلام فلا تستنكفوا من نكاحهنّ {فانكحوهنّ بإذن أهلهنّ} أي : مواليهنّ {وآتوهنّ أجورهنّ} أي : أدوا إليهنّ مهورهنّ بإذن أهلهنّ فحذف بإذن لتقدّم ذكره ، أو أدوا إلى مواليهنّ فحذف المضاف للعلم بأن المهر للسيد ؛ لأنه عوض حقه فيجب أن يؤدّى إليه ، وقال مالك : المهر للأمة ذاهباً إلى ظاهر الآية {بالمعروف} أي : من غير مطل ولا ضرار وقوله تعالى : {محصنات}أي : عفيفات حال من ضمير فانكحوهنّ وهو محمول على الندب بناء على المشهور من جواز نكاح الزواني {غير مسافحات} أي : زانيات جهراً {ولا متخذات أخدان} أي : أخلاء يزنون بها سراً جمع خدن وهو الصديق في السر ، وقيل : المسافحات اللاتي يزنين مع أي رجل ، وذوات الأخدان اللاتي يزنين مع معين وذلك بحسب ما كان في الجاهلية.
{فإذا أحصن} قرأ شعبة وحمزة والكسائي أحصن بفتح الهمزة والصاد على البناء للفاعل أي : تزوّجن والباقون بضم الهمزة وكسر الصاد على البناء للمفعول أي : زوّجن ، {فإن أتين بفاحشة} أي : زنا {فعليهنّ نصف ما على المحصنات} أي : الحرائر الأبكار إذا زنين {من العذاب} أي : الحدّ فيجلدن خمسين ويغربن نصف سنة ، ويقاس عليهنّ العبد.
341
فإن قيل : ما فائدة وجوب تنصيف الحدّ عليهنّ بتقييده بتزوّجهنّ إذ تنصيف العذاب لازم للأمة الزانية تزوّجت أم لا ؟
أجيب : بأنّ فائدة ذلك بيان أن لا رجم عليهنّ أصلاً وبأنه إنما ذكر لبيان جواب سؤال إذ الصحابة رضي الله تعالى عنهم عرفوا مقدار حد الأمة قبل التزوّج دون مقداره بعده ، فسألوا عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية ، وذهب بعضهم إلى أنه لا حد على من لم يتزوّج من المماليك إذا زنا أخذاً بظاهر الآية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 339(1/238)
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحدّ ولا يثربن عليها ثم إن عادت فليجلدها الحد ولا يثربن عليها ، فإن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر" {ذلك} أي : نكاح الإماء عند عدم الطول {لمن خشي} أي : خاف {العنت} أي : الزنا ، وأصله المشقة سمي به الزنا ؛ لأنه سببها بالحدّ في الدنيا أو العقوبة في الأخرى {منكم} أيها الأحرار بخلاف من لم يخفه أمّا العبيد فيجوز لهم نكاح الإماء مطلقاً لكن إن كان العبد مسلماً فلا بد أن تكون الأمة مسلمة {وإن تصبروا} عن نكاح الإماء متعففين {خير لكم} لئلا يصير الولد رقيقاً ، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم "الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت" {وا غفور} لمن لم يصبر {رحيم} بأن وسع له في ذلك {يريد الله ليبين لكم} شرائع دينكم ومصالح أموركم {ويهديكم} أي : يرشدكم {سنن} أي : شرائع {الذين من قبلكم} من الأنبياء في التحريم والتحليل فتتبعوهم {ويتوب عليكم} أي : ويتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبين لكم {وا عليم} بكم {حكيم} فيما دبره لكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 339
342
{وا يريد أن يتوب عليكم} إن وقع منكم تقصير في دينه {ويريد الذين يتبعون الشهوات} قال السدي : هم اليهود والنصارى ، وقال بعضهم : هم المجوس ؛ لأنهم يستحلون نكاح الأخوات وبنات الأخ والأخت فلما حرمهنّ الله قالوا : فإنكم تحلون بنات الخالة والعمة والخالة والعمة عليكم حرام فانكحوا بنات الأخ والأخت ، فنزلت ، وقال مجاهد : هم الزناة {أن تميلوا} أي : تعدلوا عن الحق {ميلاً عظيماً} بارتكاب ما حرم عليكم فتكونوا مثلهم.
{يريد الله أن يخفف عنكم} أي : يسهل عليكم أحكام الشرع ، وقد سهل كما قال تعالى : {ويضع عنهم إصرهم} (الأعراف ، 157)
وقال صلى الله عليه وسلم "بعثت بالحنيفية السمحة" أي : السهلة {وخلق الإنسان ضعيفاً} لا يصبر على الشهوات وعلى مشاق الطاعات ، وعن سعيد بن المسيب : ما أيس الشيطان من أحد قط إلا أتاه من قبل النساء فقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عينيّ وأنا أعشو بالأخرى وإن أخوف ما أخاف عليّ فتنة النساء. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ثمان آيات في سورة النساء خير لهذه الأمّة مما طلعت عليه الشمس وغربت ، (يريد الله ليبين لكم) (والله يريد أن يتوب عليكم) (يريد الله أن يخفف عنكم) (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم) (إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك) (إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة) (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه) (ما يفعل الله بعذابكم).
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 342
يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} أي : بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والخيانة والغصب والقمار والربا ، وقوله تعالى : {إلا أن تكون تجارة} استثناء منقطع أي : لكن أن تقع تجارة على قراءة الرفع وهي قراءة غير عاصم وحمزة والكسائي وأمّا هؤلاء فقرؤوا بالنصب على كان الناقصة وإضمار الاسم أي : إلا أن تكون الأموال تجارة {عن تراض منكم} أي : فلكم أن تأكلوها {ولا تقتلوا أنفسكم} أي : بارتكاب ما يؤدّي إلى هلاكها في الدنيا والآخرة ، وقال الحسن : يعني إخوانكم أي : لا يقتل بعضكم بعضاً أو لا يقتل الرجل نفسه كما يفعله بعض الجهلة.
روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة".
وروي أنّ الله تعالى يقول : "بادرني عبدي بنفسه فحرّمت عليه الجنة".
وعن عمرو بن العاص أنه تأوّله في التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم {إنّ الله كان بكم} يا أمّة محمد {رحيماً} حيث أمر بني إسرائيل بقتل الأنفس ونهاكم عنه.
{ومن يفعل ذلك} أي : ما نهى عنه من قتل النفس وغيره من المحرمات ، وقوله تعالى : {عدواناً} حال أي : متجاوزاً للحلال وقوله تعالى : {وظلماً} تأكيد وقيل : أراد بالعدوان التعدّي على الغير وبالظلم ظلم الشخص نفسه بتعريضها للعقاب {فسوف نصليه} أي : ندخله {ناراً}
343
يحترق فيها {وكان ذلك على الله يسيراً} أي : هيناً لا عسر عليه فيه.
{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} أي : كلاً منها وفسر جماعة الكبيرة بأنها ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة ، وقال جماعة : هي المعصية الموجبة للحدّ ، والأوّل أولى ؛ لأنهم عدوا الربا وأكل مال اليتيم وشهادة الزور ونحوها من الكبائر ولا حد فيها ، وقال الإمام : هي كل جريمة تؤذن أي : تعلم بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ، وقال سفيان الثوري : الكبائر ما كان بينك وبين العباد ، والصغائر ما كان بينك وبين الله ، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم "ينادي مناد من بطنان العرش يوم القيامة : يا أمّة محمد إنّ الله قد عفا عنكم جميعاً المؤمنين والمؤمنات تواهبوا المظالم وادخلوا الجنة برحمتي".(1/239)
وهي أشياء كثيرة ، قال ابن عباس : هي إلى السبعين أقرب ، وقال سعيد بن جبير : هي إلى السبعمائة أقرب أي : باعتبار أصناف أنواعها {نكفر عنكم سيآتكم} أي : الصغائر وهي ما عدا الكبائر أي : نكفر بفعل الطاعات كالصلاة والصوم. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنّ ما اجتنبت الكبائر".
جزء : 1 رقم الصفحة : 342
ولا بأس بذكر شيء من النوعين فمن الأوّل تقديم الصلاة أو تأخيرها عن وقتها بلا عذر ، ومنع الزكاة ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة ونسيان القرآن ، واليأس من رحمة الله وأمن مكره تعالى ، والقتل عمداً أو شبه عمد ، والكفر ، والفرار من الزحف ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والإفطار في رمضان من غير عذر ، وعقوق الوالدين والزنا ، واللواط ، وشهادة الزور ، وشرب الخمر وإن قل ، والسرقة ، والغصب وقيده جماعة بما يبلغ ربع مثقال كما يقطع به في السرقة ، وكتمان الشهادة بلا عذر ، وضرب المسلم بغير حق ، وقطع الرحم ، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسب الصحابة ، وأخذ الرشوة ، والنميمة ، وأمّا الغيبة فإن كانت في أهل العلم أو حملة القرآن فهي من الكبائر ، وإلا فهي صغيرة ، ومن الصغائر النظر المحرم ، وكذب لا حد فيه ولا ضرر ، والإشراف على بيوت الناس ، وهجر المسلم فوق ثلاث ، وكثرة الخصومات إلا إن راعى حق الشرع فيها ، والضحك في الصلاة والنياحة وشق الجيب في المصيبة ، والتبختر في المشي ، والجلوس بين الفساق إيناساً لهم ، وإدخال مجانين وصبيان يغلب تنجيسهم ونجاسة المسجد ، واستعمال نجاسة في بدن أو ثوب لغير حاجة.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار ، وقيل : الكبائر الشرك وما عداه من الصغائر قال الله تعالى : {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء ، 48 ـ 116)
{وندخلكم مدخلاً} قرأ نافع بفتح الميم أي : موضعاً {كريماً} أي : حسناً وهو الجنة ، وقرأ الباقون بضمها على المصدر بمعنى الإدخال مع الكرامة.
{ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} من جهة الدنيا والدين ؛ لئلا يؤدّي إلى التحاسد والتباغض ؛ لأنّ ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد
344
وبما يصلح للمقسوم له من بسط في الرزق وقبض {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض} (الشورى ، 27)
فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له علماً بأنّ ما قسم له هو المصلحة ولو كان خلافه لكان مفسدة له ولا يحسد أخاه على حظه.
قال مجاهد : قالت أمّ سلمة : يا رسول الله إنّ الرجال يغزون ولا نغزو ولهم ضعف ما لنا من الميراث فلو كنا رجالاً غزونا وأخذنا من الميراث مثل ما أخذوا فنزلت هذه الآية ، وقيل : لما جعل الله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين في الميراث قالت النساء : نحن أحوج إلى الزيادة من الرجال ، فإنا ضعفاء وهم أقوياء وأقدر في طلب المعاش منا فنزلت.
جزء : 1 رقم الصفحة : 342
وقال قتادة والسديّ : لما أنزل الله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين قال الرجال : إنا لنرجو أن نفضل على النساء في الآخرة فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء كما فضلنا عليهنّ في الميراث فأنزل الله تعالى {للرجال نصيب} أي : ثواب {مما اكتسبوا} أي : بسبب ما عملوا من الجهاد {وللنساء نصيب ما اكتسبن} أي : من حفظ فروجهنّ وطاعة الله وطاعة أزواجهنّ ، فالرجال والنساء في الأجر في الآخرة سواء ، وذلك أنّ الحسنة تكون بعشر أمثالها يستوي في ذلك الرجال والنساء ، وفضل الرجال على النساء إنما هو في الدنيا {واسألوا الله من فضله} أي : لا تتمنوا ما للناس واسألوا الله ما احتجتم إليه يعطكم من خزائنه التي لا تنفد ، فنهى الله عن التمني لما فيه من دواعي الحسد والحسد ، أن يتمنى الشخص زوال النعمة عن صاحبها سواء تمناها لنفسه أم لا ، والغبطة أن يتمنى لنفسه مثل ما لصاحبه وهو جائز ، قال صلى الله عليه وسلم "لا حسد ـ أي : لا غبطة ـ إلا في اثنتين" الحديث {إنّ الله كان بكلّ شيء عليماً} فهو يعلم ما يستحقه كل إنسان فيفضل عن علم وتبيان.(1/240)
{ولكل} من الرجال والنساء {جعلنا موالي} أي : عصبة يعطون {مما ترك الوالدان والأقربون} لهم من المال فالوالدان والأقربون هم المورثون ، وقيل : معناه ولكل جعلنا موالي أي : ورثة مما ترك أي : من الذين تركهم فتكون ما بمعنى من ، ثم فسر الموالي فقال : الوالدان والأقربون أي : هم الوالدان والأقربون ، فعلى هذا القول الوالدان هم الوارثون {والذين عاقدت أيمانكم} والمعاقدة المعاهدة والمحالفة ، والأيمان جمع يمين بمعنى القسم أو اليد وذلك أنهم كانوا عند المحالفة يأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد ، ومحالفتهم أنّ الرجل كان في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك وثأري ثأرك وحربي حربك وسلمي سلمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عني وأعقل عنك ، فيكون للحليف السدس من مال الحليف وكان ذلك ثابتاً في ابتداء الإسلام ، فذلك قوله تعالى : {فآتوهم نصيبهم} (النساء ، 109)
أي : أعطوهم حظهم من الميراث ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} (الأنفال/ 75.
وسورة الأحزاب ، 6)
وقال مجاهد : أراد فآتوهم نصيبهم من النصر والرفد ولا ميراث ، وعلى هذا الآية غير منسوخة لقوله تعالى : {أوفوا بالعقود} (المائدة ، 1)
وقوله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم فتح مكة : "لا تحدثوا حلفاً في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به فإنه لم يزده الإسلام إلا شدّة" قال
345
الزمخشريّ : وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صح عنده وورث بحق الموالاة خلافاً للشافعيّ رحمه الله تعالى اه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 342
وقرأ غير عاصم وحمزة والكسائي : عاقدت بألف بين العين والقاف ، وأمّا هؤلاء الثلاثة فقرأوا : (عقدت) بغير ألف بمعنى عقدت عهودهم أيمانكم فحذف العهود وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه ، ثم حذف كما حذف في القراءة الأولى {إنّ الله كان على كل شيء شهيداً} أي : مطلعاً فخافوه {الرجال قوّامون على النساء} أي : يقومون عليهنّ قيام الولاة على الرعية وعلل ذلك بأمرين : أحدهما وهبيّ والآخر كسبيّ ، وقد ذكر الأوّل بقوله تعالى : {بما فضل الله بعضهم على بعض} أي : بسبب تفضيله الرجال على النساء بكمال العقل وحسن التدبير ومزيد القوّة في الأعمال والطاعات ، ولذلك خصوا بالنبوّة والأمانة والولاية ، وإقامة الشعائر ، والشهادة في مجامع القضايا ، ووجوب الجهاد ، والجمعة ، والتعصيب وزيادة السهم في الميراث والاستبداد بالفراق والرجعة وعدد الأزواج وإليهم الانتساب وهم أصحاب اللحى والعمائم ، ثم ذكر الثاني بقوله تعالى : {وبما أنفقوا من أموالهم} في نكاحهنّ كالمهر والنفقة.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها".
وروي أنّ سعيد بن الربيع أحد نقباء الأنصار نشزت عليه زوجته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أفرشته كريمتي فلطمها فقال : "لتقتص منه" فنزلت فقال : "أردنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراد الله خير" ورفع القصاص {فالصالحات} منهنّ {قانتات} أي : مطيعات لأزواجهنّ {حافظات للغيب} أي : لما يجب عليهنّ حفظه في حال غيبة أزواجهنّ من الفروج والبيوت والأموال ، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرّتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها" {بما حفظ الله} أي : بما حفظهنّ الله حين أوصى بهنّ الأزواج في كتابه ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "استوصوا بالنساء خيراً" أو بما حفظهنّ الله وعصمهنّ ووفقهنّ لحفظ الغيب ، أو بما حفظهنّ حين وعدهنّ الثواب العظيم على حفظ الغيب وأوعدهنّ بالعذاب الشديد على الخيانة {واللاتي تخافون} أي : تعلمون {نشوزهنّ} كما في قوله تعالى : {فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً} (البقرة ، 182)
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 346
فعظوهنّ} أي : خوفوهنّ كأن يقول لزوجته : اتقي الله في الحق الواجب لي عليك واحذري العقوبة ويبيّن لها أنّ النشوز يسقط النفقة والقسم {واهجروهنّ في المضاجع} أي : اعتزلوهنّ في الفراش {واضربوهنّ} وإن لم يتكرّر النشوز إن أفاد الضرب وإلا فلا يضرب كما لا يضرب ضرباً مبرّحاً ولا وجهاً ولا مهالك ومع ذلك فالأولى له العفو ، وخرج بالعلم بالنشوز ما إذا ظهرت أماراته فقط إما بقول كأن صارت تجيبه بكلام خشن بعد أن كان بلين ، وإما بفعل كأن يجد منها إعراضاً وعبوساً بعد تلطف وطلاقة وجه ، فإنه يعظها بلا هجر وبلا ضرب
346(1/241)
لعلها تبدي عذراً أو تتوب عما وقع منها بغير عذر ، وخرج بالمضجع الهجر بالكلام ، فلا يجوز الهجر فوق ثلاثة أيام ويجوز فيها للخبر الصحيح : "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" إن قصد بهجرها ردّها لحظ نفسه فإن قصد به ردّها عن المعصية وإصلاح دينها فلا تحريم إذ النشوز حينئذ عذر شرعيّ ، والهجر له في الكلام جائز مطلقاً ، ومنه هجره صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه ونهيه الصحابة عن كلامهم {فإن أطعنكم} فيما يراد منهنّ {فلا تبغوا} أي : لا تطلبوا {عليهنّ سبيلاً} أي : طريقاً إلى ضربهنّ ظلماً واجعلوا ما كان بينهنّ كأن لم يكن ، "فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له" ، رواه الطبرانيّ وابن ماجة وغيرهما {إنّ الله كان علياً كبيراً} فاحذروه أن يعاقبكم إن ظلمتموهنّ فإنه أقدر عليكم منكم على من تحت أيديكم.
{وإن خفتم} أي : علمتم {شقاق} أي : خلاف {بينهما} أي : بين المرء وزوجه وذكرهما بضميرهما وإن لم يجر ذكرهما لجري ما يدلّ عليهما وهو الرجال والنساء ، وإضافة الشقاق إلى الظرف إمّا لإجرائه مجرى المفعول به كقوله : يا سارق الليلة أهل الدار ، أو الفاعل كقولهم نهارك صائم {فابعثوا} أي : أيها الحكام متى اشتبه عليكم حالهما إليهما لكن برضاهما {حكماً من أهله} أي : أقاربه {وحكماً} آخر {من أهلها} أي : أقاربها لينظرا في أمرهما بعد اختلاء حكمه به وحكمها بها ومعرفة ما عندهما في ذلك ويصلحا بينهما ، أو يفرّقا إن عسر الإصلاح على ما يأتي ، فإنّ الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح.
جزء : 1 رقم الصفحة : 346
تنبيه : بعث الحكمين على سبيل الوجوب ، وكونهما من الأقارب على سبيل الندب وهما وكيلان لهما فاشترط رضاهما لا حكمان من جهة الحاكم ؛ لأنّ الحال يؤدّي إلى الفراق ، والبضع حق الزوج ، والمال حق الزوجة ، وهما رشيدان فلا يولي عليهما في حقهما ، فيوكل هو حكمه بطلاق أو خلع ، وتوكل هي حكمها ببذل عوض وقبول طلاق ، ويشترط فيهما إسلام وحرية وعدالة واهتداء إلى المقصود من بعثهما ، له وإنما اشترط فيهما ذلك مع أنهما وكيلان لتعلق وكالتهما بنظر الحاكم كما في أمينه ، ويسنّ كونهما ذكرين ولا يكفي حكم واحد {إن يريدا} أي : الحكمان {إصلاحاً يوفق الله بينهما} أي : الزوجين أي : إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله تعالى بورك في وساطتهما وأوقع الله بطيب أنفسهما وحسن سعيهما بين الزوجين الوفاق والإلفة ، وألقى في نفوسهما المودّة والرحمة ، وقيل : الضمير الأوّل للزوجين ، والثاني للحكمين أي : إن يرد الزوجان إصلاحاً يوفق الله بين الحكمين اختلافهما حتى يعملا بالصلاح ، وقيل : الضميران للحكمين أي : إن قصدا الإصلاح يوفق الله بينهما لتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما ، وقيل : للزوجين أي : إن أرادا الإصلاح وزوال الشقاق : أوقع الله بينهما الإلفة والوفاق ، وفيه تنبيه على أنّ من أصلح نيته فيما يتحرّاه أصلح الله تعالى مبتغاه ، وإن لم يرضيا ببعثهما ولم يتفقا على شيء أدب الحاكم الظالم واستوفى للمظلوم حقه {إنّ الله كان عليماً} بكل
347
شيء {خبيراً} بالبواطن كالظواهر ، فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق قال تعالى : {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألف بينهم} (الأنفال ، 63).
{واعبدوا الله} أي : وحدوه وأطيعوه {ولا تشركوا به شيئاً} أي : شيئاً من الإشراك جلياً كان أو خفياً ، وعن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أنه قال : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس ؟
" قال : قلت الله ورسوله أعلم ، قال : "حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، أتدري يا معاذ ما حق الناس على الله تعالى إذا فعلوا ذلك ؟
" قلت : الله ورسوله أعلم قال : "فإنّ حق الناس على الله أن لا يعذبهم" قال قلت : يا رسول الله ألا أبشر الناس ؟
قال : "دعهم يعملون" {و} أحسنوا {بالوالدين إحساناً} أي : برّاً ولين جانب {وبذي القربى} أي : صاحب القرابة {واليتامى والمساكين} ويدخل في المساكين الفقراء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 346
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "أنا وكافل اليتيم في الجنة" وفي رواية : "من مسح رأس يتيم ولم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة تمرّ عليها يداه حسنات ، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وقرن بين أصبعيه" {والجار ذي القربى} أي : القريب منك في النسب أو الجوار {والجار الجنب} أي : البعيد عنك في النسب أو الجوار.
روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : يا رسول الله إنّ لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟
قال : "إلى أقربهما منك باباً".
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر : "لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق وإذا طبخت مرقة فأكثر ماءها واغرف لجيرانك منها".(1/242)
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه يورّثه". {والصاحب بالجنب} أي : الرفيق في السفر كما قاله ابن عباس ومجاهد ، أو المرأة تكون معه إلى جنبه كما قاله علي والنخعي ، أو الذي يصحبك رجاء نفعك في تعلم علم أو حرفة أو نحو ذلك كما قاله ابن جريج وابن زيد {وابن السبيل} أي : المسافر ؛ لأنه يلازم السبيل ، أو الضيف كما عليه الأكثر.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت". وفي
348
رواية : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة" ، والضيافة ثلاثة أيام ، فما كان بعد ذلك فهو صدقة ولا يحلّ له أن يثوي عنده حتى يخرجه {وما ملكت أيمانكم} أي : من الأرقاء من عبيد وإماء.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل ما يغلبه فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه" ، وفيه رواية أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في مرضه : "الصلاة وما ملكت أيمانكم" فجعل يتكلم وما يفيض بها لسانه {إنّ الله لا يحبّ من كان مختالاً} أي : متكبراً على الناس من أقاربه وأصحابه وجيرانه وغيرهم ولا يلتفت إليهم {فخوراً} أي : يتفاخر عليهم بما آتاه الله.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "بينما رجل يتبختر في بردين وقد أعجبته نفسه خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة". وفي رواية : "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرّ ثوبه خيلاء". وقوله تعالى : {الذين} مبتدأ {يبخلون} أي : بما يجب عليهم {ويأمرون الناس بالبخل} بذلك {ويكتمون ما آتاهم الله من فضله} من العلم والمال وهم اليهود بخلوا ببيان صفته صلى الله عليه وسلم وكتموها وكانوا يأتون رجالاً من الأنصار ويخالطونهم فيقولون : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون. وخبر المبتدأ محذوف تقديره لهم وعيد شديد ويصح أن يكون (الذين) بدلاً من قوله : من كان ، أو منصوباً على الذم أو مرفوعاً عليه أي : هم الذين ، وقرأ حمزة والكسائي (بالبخل) بفتح الباء والخاء ، والباقون بضمّ الباء وسكون الخاء {وأعتدنا للكافرين} بذلك وبغيره {عذاباً مهيناً} أي : ذا إهانة وضع الظاهر فيه موضع المضمر إظهاراً بأنّ من هذا شأنه فهو كافر بالله لكتمانه صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم وكافر بنعمة الله عليه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 346
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إذا أنعم الله على عبد نعمة أحبّ أن ترى نعمته على عبده". وبنى عامل للرشيد قصراً حذاء قصره فنم به عنده فقال الرجل : يا أمير المؤمنين إنّ الكريم يسره أن يرى أثر نعمته ، فأحببت أن أسرك بالنظر إلى آثار نعمتك فأعجبه كلامه ، وقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 346
349
{والذين} عطف على الذين قبله {ينفقون أموالهم رئاء الناس} أي : مرائين لهم {ولا يؤمنون با ولا باليوم الآخر} أي : كالمنافقين ومشركي مكة المنفقين أموالهم في عداوة النبيّ صلى الله عليه وسلم {ومن يكن الشيطان له قريناً} أي : صاحباً يعمل بأمره كهؤلاء {فساء} أي : فبئس {قريناً} هو حيث حملهم على البخل والرياء وكل شر وزينه لهم كقوله تعالى : {إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين} (الإسراء ، 27)
والمراد : إبليس وأعوانه الداخلة في باطن الإنسان والخارجة عنه ، ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأنّ الشيطان يقرن بهم في النار.
{وماذا عليهم لو آمنوا با واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله} أي : أيّ ضرر عليهم في ذلك والاستفهام للإنكار ، ولو مصدرية أي : لا ضرر فيه ، وإنما الضرر فيما هم عليه وقوله تعالى : {وكان الله بهم عليماً} وعيد لهم فيجازيهم بما عملوا.
{إنّ الله لا يظلم} أحداً {مثقال} أي : وزن {ذرّة} وهي أصغر نملة ، ويقال : لكل جزء من أجزاء الهباء في الكوّة ، أي : لا ينقص قدر ذلك من حسناته ولا يزيده في سيئاته كما قال تعالى : {إنّ الله لا يظلم الناس شيئاً} (يونس ، 44) ، وفي ذكر المثقال إيماء إلى أنه وإن صغر قدره عظم جزاؤه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه أدخل يده في التراب فرفعها ثم نفخ فيه فقال : كل واحدة من هؤلاء ذرة {وإن تك حسنة} أي : وإن يك المثقال حسنة {يضاعفها} أي : ثوابها من عشر إلى أكثر من سبعمائة ، وعن أبي عثمان النهدي أنه قال لأبي هريرة : بلغني عنك أنك تقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إنّ الله يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة" قال أبو هريرة : لا بل سمعته يقول "إنّ الله يعطيه ألفي ألف حسنة". ثم تلا هذه الآية.(1/243)
جزء : 1 رقم الصفحة : 349
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "إنّ الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزيه بها في الآخرة" قال : وأمّا الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة
350
يعطى بها خيراً. وفي رواية : "إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشد مجادلة من المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار ، قال : يقولون : ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويحجون معنا فأدخلتهم النار قال : فيقول اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم فيأتون فيعرفونهم بصورهم لا تأكل النار صورهم فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ومنهم من أخذته إلى ركبتيه فيخرجونهم فيقولون : ربنا قد أخرجنا من أمرتنا قال : ثم يقول : أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار حتى يقول من كان في قلبه مثقال ذرّة ، قال أبو سعيد : فمن لم يصدّق فليقرأ هذه {إنّ الله} إلخ.. قال : فيقولون ربنا قد أخرجنا من أمرتنا فلم يبق أحد في النار فيه خير ثم يقول الله عز وجل : شفعت الملائكة وشفعت الأنبياء وشفعت المؤمنون وبقي أرحم الراحمين قال : فيقبض قبضة من النار أو قال قبضتين ناساً لم يعملوا خيراً حتى احترقوا حتى صاروا حمماً فيؤتى بهم إلى ماء يقال له : ماء الحياة فيصب عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ـ وهي بكسر الحاء المهملة وتجمع على حبب ـ قال : فتخرج أجسادهم مثل اللؤلؤ في أعناقهم الخاتم عتقاء الله فيقال لهم : ادخلوا الجنة فما تمنيتم أو رأيتم من شيء فهو لكم قال : فيقولون : ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين قال : فيقول الله تعالى : فإنّ لكم عندي أفضل منه فيقولون : ربنا وما أفضل من ذلك ؟
فيقول : رضائي عنكم فلا أسخط عليكم أبداً".
فإن قيل : لم أنث الضمير مع أنه راجع للمثقال وهو مذكر ؟
أجيب : بأنه أنثه لتأنيث الخبر أو لإضافة المثقال إلى مؤنث ، وقيل : إنّ الضمير راجع إلى ذرّة وهي مؤنثة لا إلى مثقال وحذفت النون تشبيهاً بحروف العلة ، وقرأ نافع وابن كثير : حسنة برفع التاء على كان التامّة والباقون بنصبها على كان الناقصة ، وقرأ ابن كثير وابن عامر (يضعفها) بتشديد العين ولا ألف قبلها والباقون بتخفيف العين وألف قبلها {ويؤت} أي : يعط صاحب الحسنة {من لدنه} أي : من عند الله على سبيل التفضل زائداً على ما وعد في مقابلة العمل {أجراً عظيماً} أي : عطاء جزيلاً وإنما سماه أجراً ؛ لأنه تابع للأجر مزيد عليه لا يثبت إلا بثباته.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 349
فكيف} حال الكفار ؟
{إذا جئنا من كل أمّة بشهيد} يشهد عليها بعملها وهو نبيها لقوله تعالى : {وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم} (المائدة ، 117)
{وجئنا بك} يا محمد {على هؤلاء} الشهداء {شهيداً} أي : شاهداً تشهد على صدقهم لعلمك بعقائدهم واستجماع شرعك على مجامع قواعدهم ، وقيل : هؤلاء إشارة إلى المؤمنين لقوله تعالى : {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} (البقرة ، 143)
وقيل : إلى الكافرين المستفهم عن حالهم.
وعن ابن مسعود أنه قرأ سورة النساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله : {وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "حسبك".
351
{يومئذٍ} أي : المجيء وهو يوم القيامة {يودّ} أي : يتمنى {الذين كفروا وعصوا الرسول لو} أي : أن {تسوّى بهم الأرض} كالموتى أو لم يبعثوا أو لم يخلفوا وكانوا هم والأرض سواء ، وقال الكلبيّ يقول الله عز وجلّ للبهائم والوحوش والطيور والسباع : كونوا تراباً فتسوّى بهنّ الأرض فعند ذلك يتمنى الكافر أنه لو كان تراباً كما قال تعالى : {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} (النبأ ، 40)
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم : تسوّى بضم التاء للبناء للمفعول ، والباقون بالفتح بالبناء للفاعل مع حذف إحدى التاءين في الأصل ، وشدّد السين نافع وابن عامر ، وخففها الباقون.
{ولا يكتمون الله حديثاً} أي : مما عملوه ؛ لأنّ جوارحهم تشهد عليهم ، وقال الحسن : إنها مواطن ففي موطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همساً ، وفي موطن يتكلمون ويكذبون ويقولون : ما كنا مشركين وما كنا نعمل من سوء ، وفي موطن يسألون الرجعة ، وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم وهو قوله تعالى : {ولا يكتمون الله حديثاً} وقال سعيد بن جبير : قال رجل لابن عباس : إني أجد في القرآن شيئاً يختلف عليّ فقال : هات ما اختلف عليك قال : قال الله تعالى : {فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون} (المؤمنون ، 101)
وقال تعالى : {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} (الطور ، 25)
وقال تعالى : {ولا يكتمون الله حديثاً} (النساء ، 42)
وقال : {وا ربنا ما كنا مشركين} (الأنعام ، 23)
فقد كتموا ، وقال تعالى : {أم السماء بناها} إلى قوله : {والأرض بعد ذلك دحاها} (النازعات ، 30)(1/244)
فذلك خلق السماء قبل خلق الأرض ، ثم قال : {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} إلى {طائعين} (فصلت ، 11)
جزء : 1 رقم الصفحة : 349
فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء وقال تعالى : {وكان الله غفوراً رحيماً} (الفتح ، 14)
وقال : {كان الله عزيزاً حكيماً} (الفتح ، 19)
فكأنه كان ثم مضى ، فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون في النفخة الأولى قال : {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض} {فلا أنساب} عند ذلك {ولا يتساءلون} ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون في النفخة الآخرة {ثم أقبل بعضهم على بعض يتساءلون} (المؤمنون ، 101)
وأمّا قوله : والله ربنا ما كنا مشركين ، ولا يكتمون الله حديثاً ، فإنّ الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فقال المشركون : تعالوا نقل : لم نك مشركين ، فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم وأرجلهم فعند ذلك عرفوا أنّ الله لا يكتم حديثاً ، وعنده يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ، وخلق الأرض في يومين ، ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهنّ في يومين آخرين ، ثم دحا الأرض في يومين ودحوها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين ، فقال : خلق الأرض في يومين فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلقت السموات في يومين ، وكان الله غفوراً رحيماً أي : لم يزل كذلك ، فلا يختلف عليك القرآن فإنّ كلاً من عند الله.
{يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة} أي : لا تغشوها ولا تقوموا إليها واجتنبوها {وأنتم سكارى} من الشراب {حتى تعلموا ما تقولون} بأن تصحوا منه كقوله تعالى : {ولا تقربوا الزنا} (الإسراء ، 32)
{ولا تقربوا الفواحش} (الأنعام ، 151).
352
روي أنّ عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً وشراباً فدعا نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان الخمر مباحاً فأكلوا وشربوا فلما سكروا جاء وقت صلاة المغرب فقدّموا أحدهم يصلي بهم فقرأ : قل يأيها الكافرون أعبد ما تعبدون بحذف لا هكذا إلى آخر السورة فنزلت ، فكانوا لا يشربونها في أوقات الصلاة ، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون ، ثم نزل تحريمها.
وقيل : أراد بالصلاة مواضعها وهي المساجد. وقيل : أراد بالسكر سكر النوم ونهى عن الصلاة عند غلبة النوم قال صلى الله عليه وسلم "إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإنّ أحدكم إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه".
وقوله تعالى : {ولا جنباً} منصوب على الحال أي : ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب بإيلاج أو إنزال ، يقال : رجل جنب وامرأة جنب ورجال ونساء جنب ؛ لأنه يجري مجرى المصدر لا أنه مصدر بل هو اسم مصدر ؛ لأنه لم يستوف حروف الفعل ؛ لأنّ فعله أجنب فمصدره إجناباً لا جنباً ، وأصل الجنابة البعد وسمي جنباً ؛ لأنه يجتنب موضع الصلاة أو لمجانبته الناس وبعده منهم حتى يغتسل {إلا عابري} أي : مجتازي {سبيل} أي : طريق أو مسافرين {حتى تغتسلوا} أي : فلكم أن تصلوا ، واستثناء المسافر له حكم آخر سيأتي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 349(1/245)
وفي هذا دليل على أن التيمم لا يرفع الحدث ؛ لأنه غياه بقوله : (حتى تغتسلوا) ومن فسر الصلاة بمواضعها فسر عابري سبيل بالمجتازين فيها وجوّز للجنب عبور المسجد ، وبه قال الشافعيّ رضي الله تعالى عنه ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز له المرور إلا إذا كان فيه الماء أو الطريق إلى الماء {وإن كنتم مرضى} أي : مرضاً يخاف معه من استعمال الماء فإنّ الواجد كالفاقد {أو على سفر} أي مسافرين وأنتم جنب أو محدثون {أو جاء أحد منكم من الغائط} أي : أحدثتم بخروج الخارج من أحد السبيلين ، والغائط المكان المطمئن من الأرض تقضي فيه الحاجة سمي باسمه الخارج للمجاورة {أو لامستم النساء} ، قرأ حمزة والكسائيّ بغير ألف بين اللام والميم والباقون بألف ، واختلف في معنى اللمس والملامسة فقال قوم : هما التقاء البشرتين سواء أكان بجماع أم بغيره ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر والشعبي والنخعي وبه استدلّ الشافعيّ رضي الله تعالى عنه أنّ اللمس ينقض الوضوء ، وقال قوم : هما المجامعة وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة كني باللمس عن الجماع ؛ لأنّ باللمس يوصل إلى الجماع {فلم تجدوا ماء} تطهرون به للصلاة بعد الطلب ؛ لأنه لا يسمى غير واجد إلا بعد الطلب وهذا راجع إلى ما عدا المرض {فتيمموا} أي : بعد دخول الوقت {صعيداً طيباً} أي : تراباً طاهراً أي : طهوراً أمّا المرضى فيتيممون مع حضور الماء ؛ لأنّ وجوده بالنسبة إليهم كالعدم {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} مع المرفقين منه بضربتين كما ثبت في الحديث وقال الزجاج : الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو غيره وإن كان صخراً لا تراب عليه لو ضرب المتيمم يده عليه ومسح لكان ذلك طهوره ، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وأجاب عن قوله تعالى في آية المائدة : {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} أي : بعضه وهو لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه بأنّ من لابتداء الغاية ، قال الزمخشريّ : وقولهم : إنها لابتداء الغاية فيه تعسف ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل : مسحت برأسي من الدهن ومن الماء ومن التراب إلا معنى التبعيض ، قال : والإذعان للحق أحق من المراء ،
353
والتيمم من خصائص هذه الأمّة.
روي عن حذيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء" وكان بدء التيمم ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس أبا بكر فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ؟
فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال : حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس على ماء وليس معهم ماء ؟
فعاتبني أبو بكر وقال : ما شاء الله أن يقول ، وجعل يطعن بيده في خاصرته ولا يمنعني من التحرّك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء ، فأنزل الله آية التيمم ، فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء : ما هي بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر ، فقالت عائشة : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته".
جزء : 1 رقم الصفحة : 349
وفي رواية أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء ، فلما أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت ، فقال أسيد بن حضير : جزاك الله خيراً فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً وجعل للمسلمين فيه بركة ، وقوله تعالى : {إنّ الله كان عفوّاً غفوراً} كناية عن الترخيص والتيسير ؛ لأنّ من كانت عادته أن يعفو عن الخطائين ويغفر لهم آثر ما كان ميسوراً غير معسر.
{ألم تر} أي : تنظر {إلى الذين أوتوا نصيباً} أي : حظاً يسيراً {من الكتاب} أي : من علم التوراة وهم أحبار اليهود {يشترون} أي : يختارون {الضلالة} على الهدى {ويريدون أن تضلوا} أيها المؤمنون {السبيل} أي : تخطئون طريق الحق لتكونوا مثلهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 349
{وا أعلم} منكم {بأعدائكم} فيخبركم بهم لتجتنبوهم ولا تستصحبوهم فإنهم أعداؤكم {وكفى با ولياً} أي : حافظاً {وكفى با نصيراً} أي : مانعاً لكم من كيدهم وقوله تعالى : (1/246)
{من الذين هادوا} بيان للذين أوتوا نصيباً من الكتاب ؛ لأنهم يهود ونصارى وقوله تعالى : {وا أعلم بأعدائكم وكفى با ولياً وكفى با نصيراً} جمل توسطت بين البيان والمبين على سبيل الاعتراض أو بيان لأعدائكم وما بينهما اعتراض أو صلة لنصيراً أي : ينصركم من الذين هادوا كقوله تعالى : {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا} (الأنبياء ، 77)
أو خبر مبتدأ محذوف صفته {يحرّفون الكلم عن مواضعه} أي : ومن الذين هادوا قوم يحرّفون أي : يغيرون الكلم الذي أنزل في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم عن مواضعه التي وضع عليها بإزالته عنها وإثبات غيره فيها ، وفي المائدة {من بعد مواضعه }(المائدة ، 41)
جزء : 1 رقم الصفحة : 354
والمعنيان متقاربان ، قال ابن عباس : كانت اليهود يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألونه عن الأمر فيخبرهم ويرى أنهم يأخذون بقوله ، فإذا انصرفوا من عنده حرّفوا كلامه {ويقولون} للنبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم {سمعنا} قولك {وعصينا} أمرك
354
{واسمع غير مسمع} بمعنى الدعاء أي : لا سمعت بصمم أو بموت ، أو بمعنى اسمع منا ولا نسمع منك ، أو بمعنى اسمع غير مسمع كلاماً ترضاه {و} يقولون له : {راعنا} يريدون به النسبة إلى الرعونة وقد نهى عن خطابه صلى الله عليه وسلم بها وهي كلمة سب بلغتهم {لياً} أي : تحريفاً {بألسنتهم} أي : يحرفون ما يظهرون من الدعاء والتوقير إلى ما يضمرونه من السب والتحقير نفاقاً {وطعناً} أي : قدحاً {في الدين} أي : الإسلام {ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا} بدل وعصينا {واسمع} أي : فقط {وانظرنا} أي : انظر إلينا بدل راعنا {لكان خيراً لهم} مما قالوه {وأقوم} أي : أعدل وأصوب {ولكن لعنهم الله} أي : أبعدهم عن رحمته {بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً} أي : إيماناً قليلاً لا يعبأ به وهو الإيمان ببعض الآيات والرسل ويجوز أن يراد بالقلة العدم أو إلا نفراً قليلاً منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه.
{يأيها الذين أوتوا الكتاب} يخاطب اليهود {آمنوا بما نزلنا} أي : القرآن {مصدّقاً لما معكم} أي : التوراة وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كلم أحبار اليهود عبد الله بن صوريا وأصحابه وكعب بن أسد وقال : "يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق" قالوا : ما نعرف ذلك وانصرفوا على الكفر فنزلت {من قبل أن نطمس وجوهاً} أي : نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم {فنردّها على أدبارها} أي : فنجعلها كالأقفاء مطموسة مثلها أو ننكسها إلى ورائها في الدنيا أو في الآخرة.
روي أنّ عبد الله بن سلام لما سمع هذه الآية جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله ويده على وجهه وأسلم وقال : يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحوّل وجهي في قفاي وكذلك كعب الأحبار لما سمع هذه الآية أسلم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه فقال : يا رب آمنت يا رب أسلمت مخافة أن يصيبه وعيد هذه الآية.
فإن قيل : قد أوعدهم الله بالطمس إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل بهم ذلك ؟
أجيب : بأنّ هذا الوعيد باق ويكون طمس ومسخ في اليهود قبل قيام الساعة ، أو أنّ هذا كان وعيداً بشرط فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه رفع ذلك عن الباقين ، وقيل : أراد به في القيامة ، وقال مجاهد : أراد بقوله : نطمس وجوهاً أي : نتركهم في الضلالة ، فيكون المراد طمس وجه القلب والردّ عن بصائر الهدى على أدبارها في الكفر والضلالة {أو نلعنهم} أي : نمسخهم قردة وخنازير {كما لعنا} أي : مسخنا {أصحاب السبت} منهم قردة وخنازير {وكان أمر الله} أي : قضاؤه {مفعولاً} أي : نافذاً وكائناً فيقع لا محالة ما أوعدتم به إن لم تؤمنوا.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 354
إن الله لا يغفر أن يشرك به} أي : لا يغفر الإشراك به ، قال عمر رضي الله تعالى عنهما : لما نزل {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً} (الزمر ، 53)
قالوا : يا رسول الله والشرك فنزلت. ولما أخبر بعدله أخبر تعالى بفضله فقال : {ويغفر ما دون ذلك} الأمر الكبير العظيم من كل معصية سواء أكانت صغيرة أم كبيرة سواء أتاب فاعلها أم لا ، ورهب بقوله : إعلاماً بأنه مختار لا يجب عليه شيء {لمن يشاء}.
355
وقال الكلبيّ : نزلت هذه الآية في وحشي بن حرب وأصحابه وذلك أنه لما قتل حمزة وذهب إلى مكة ندم هو وأصحابه وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قد ندمنا على ما صنعنا وإنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول وأنت بمكة : {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} (الفرقان ، 68)
الآيات وقد دعونا مع الله إلهاً آخر وقتلنا النفس التي حرّم الله قتلها وزنينا فلولا هذه الآيات لاتبعناك فنزلت : {إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً} (مريم ، 60)(1/247)
الآيتين فبعث بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فلما قرؤوهما كتبوا إليه : إن هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملاً صالحاً فنزلت : {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فبعث بها إليهم فبعثوا إليه إنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزل : {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} (الزمر ، 53)
الآية فبعث بها إليهم ، فدخلوا في الإسلام ورجعوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقبل منهم ثم قال لوحشيّ "أخبرني كيف قتلت حمزة ؟
" فلما أخبره قال : "ويحك غيب وجهك عني" فلحق وحشيّ بالشأم فكان بها إلى أن مات {ومن يشرك با فقد افترى} أي : ارتكب {إثماً عظيماً} أي : كبيراً فالافتراء كما يطلق على القول يطلق على الفعل وكذا الاختلاق.
روي أن رجلاً قال : يا رسول الله ما الموجبات ؟
قال : "من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار".
وروى أبو ذر أنه صلى الله عليه وسلم قال : "ما من عبد قال : لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" قلت : وإن زنى وإن سرق ؟
قال : "وإن زنى وإن سرق" قلت : وإن زنى وإن سرق قال : "وإن زنى وإن سرق" قلت : "وإن زنى وإن سرق ؟
قال : "وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر" وكان أبو ذر إذا حدّث بهذا قال : وإن رغم أنف أبي ذر {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم} قال الحسن وقتادة : نزلت في اليهود والنصارى قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه {وقالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى} (البقرة ، 111) ، وقال الكلبيّ : نزلت في رجال من اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأطفالهم فقالوا : هل على هؤلاء ذنب ؟
قال : "لا" قالوا : والله ما نحن إلا كهيئتهم ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار.
جزء : 1 رقم الصفحة : 354
ويدخل في الآية كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله إلا إذا كان لغرض صحيح وطابق الواقع كقول سيدنا يوسف صلى الله عليه وسلم {اجعلني على خزائن الأرض ، إني حفيظ عليم} (يوسف ، 55) ، وقوله صلى الله عليه وسلم "إني أمين في السماء أمين في الأرض" حين قال له المنافقون : اعدل في القسمة إكذاباً لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه ، ولكن شتان بين من شهد الله له بالتزكية ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم {بل الله} الذي له صفات الكمال {يزكي من يشاء} أي : بماله من العلم التامّ والقدرة الشاملة والحكمة البالغة ، وأصل التزكية نفي ما يستقبح فعلاً أو قولاً {ولا يظلمون} أي : ينقصون من أعمالهم {فتيلاً} أي : قدر ما يكون في شق النواة قاله عكرمة عن ابن عباس ، فهو اسم لما في شق النواة ، والقطمير اسم للقشرة التي على النواة ، والنقير اسم للنقطة التي تكون على ظهر النواة ، وقيل : الفتيل من الفتل وهو ما
356
يحصل بين الإصبعين من الوسخ عند الفتل.
ولما أخبر سبحانه وتعالى أنّ التزكية إنما هي إليه قال لنبيه صلى الله عليه وسلم
{انظر} متعجباً {كيف يفترون} أي : يتعمدون {على الله} الذي لا يخفى عليه شيء ولا بعجزه شيء {الكذب} من غير خوف منهم لذلك عاقبة ذلك {وكفى به} أي : بهذا الكذب {إثماً مبيناً} أي : بيناً واضحاً.
{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} وهما صنمان بمكة لقريش وذلك أنّ كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ، ونزلت اليهود في دور قريش فقال أهل مكة : إنكم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب ، ولا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ، ففعلوا فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت ؛ لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس فيما فعلوا ، ثم قال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أمّيون لا نعلم فأينا أهدى طريقاً نحن أم محمد ؟
قال كعب : اعرضوا عليّ دينكم فقال أبو سفيان : نحن ولاة البيت نسقي الحجاج الماء ، ونقري الضيف ، ونفك العاني ، ونصل الرحم ، ونعمر بيت ربنا ، ونطوف به ، ونحن أهل الحرم ، ومحمد فارق دين آبائه ، وقطع الرحم ، وفارق الحرم ، وديننا القديم ودين محمد الحديث ، فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلاً مما عليه محمد فأنزل الله تعالى : {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً} أي : حظاً من الكتاب وهم كعب بن الأشرف وأصحابه يؤمنون بالجبت والطاغوت إي الصنمين {ويقولون للذين كفروا} وهم أبو سفيان وأصحابه {هؤلاء} أي : أنتم {أهدى من الذين آمنوا} وهم محمد وأصحابه {سبيلاً} أي : أقوم ديناً وأرشد طريقاً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 354
{أولئك الذين لعنهم الله} أي : طردهم وأبعدهم من رحمته {ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً} أي : مانعاً يمنع العذاب عنه بشفاعة أو غيرها.(1/248)
تنبيه : في {هؤلاء أهدى} همزتان من كلمتين الأولى مكسورة والثانية مفتوحة ، قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الثانية ياء خالصة ، والباقون بالتحقيق.
357
{أولئك الذين لعنهم الله} أي : طردهم وأبعدهم من رحمته {ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً} أي : مانعاً يمنع العذاب عنه بشفاعة أو غيرها.
{أم} منقطعة أي : بل {لهم نصيب} أي : حظ {من الملك} ومعنى الهمزة إنكار أن يكون لهم شيء من الملك وجحد لما زعمت اليهود من أنّ الملك سيصير لهم ولو كان لهم نصيب منه {فإذاً} أي : فيتسبب عن ذلك أنهم {لا يؤتون الناس} أي : واحداً منهم {نقيراً} ومرّ أنه النقرة في ظهر النواة ، وهو مثل في القلة كالفتيل والقطمير ، والمراد بالملك إما ملك الدنيا وإما ملك الله كقوله تعالى : {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق} وهذا مبالغة في شحهم فإنهم بخلوا بالنقير وهم ملوك فما ظنك بهم إذا كانوا أذلاء منقادين ويصح أن يكون معنى الهمزة في أم لإنكار أنهم قد أوتوا نصيباً من الملك وكانوا أصحاب أموال وبساتين وقصور مشيدة كما تكون أحوال الملوك وإنهم لا يؤتون أحداً مما يملكون شيئاً.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 357
أم} أي : بل {يحسدون الناس} أي : محمداً صلى الله عليه وسلم الذي جمع فضائل الناس الأوّلين والآخرين {على ما آتاهم الله من فضله} أي : من النبوّة والكتاب والنصرة والإعزاز وكثرة النساء أي : يتمنون زواله عنه ويقولون : لو كان نبياً لاشتغل عن النساء {فقد آتينا آل إبراهيم} وهو جدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن آل إبراهيم موسى وداود وسليمان {الكتاب} أي : ما أنزل إليهم {والحكمة} أي : النبوّة {وآتيناهم ملكاً عظيماً} فلا يبعد أن يؤتيه الله تعالى مثل ما آتاهم فكان لداود تسع وتسعون امرأة وكان لسليمان ألف وثلاثمائة حرّة وسبعمائة سريّة.
وقيل : المراد بالناس الناس جميعاً ، وقيل : العرب. وحسدوهم لأنّ النبيّ الموعود منهم وقيل : النبيّ وأصحابه لأنّ من حسد على النبوّة فكأنما حسد الناس كلهم على كمالهم ورشدهم.
{فمنهم} أي : اليهود {من آمن به} أي : بمحمد صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه {ومنهم من صدّ} أي : أعرض {عنه} فلم يؤمن به {وكفى بجهنم سعيراً} أي : عذاباً لمن لم يؤمن وقوله تعالى :
{إنّ الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم} أي : ندخلهم {ناراً} كالبيان والتقرير لذلك {كلما نضجت} أي : احترقت {جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} بأن يعاد ذلك الجلد بعينه على صورة أخرى.
روي أنّ هذه الآية قرئت عند عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال عمر للقارىء : أعدها فأعادها وكان عنده معاذ بن جبل فقال معاذ : عندي تفسيرها : يبدله الله تعالى في ساعة مائة مرّة قال عمر : هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الحسن : تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرّة كلما أكلتهم قيل لهم : عودوا فيعودون كما كانوا.
فإن قيل : كيف تعذب جلود لم تكن في الدنيا ولم تعص ؟
أجيب : بأن المعاد إنما هو الجلد الأوّل وإنما قال : جلوداً غيرها لتبدل صفتها كما تقول : صنعت من خاتمي خاتماً غيره فالخاتم الثاني هو الأوّل لا أنّ الصناعة والصفة تبدلت.
روي أنّ ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع.
358
وروي أنّ ضرسه أو نابه مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث {ليذوقوا العذاب} أي : ليقاسوا شدّته ، وقيل : يخلق مكان ذلك الجلد جلد آخر والمعذب في الحقيقة على كل حال هي النفس العاصية القائمة بالبدن ؛ لأنها المدركة دونه {إنّ الله كان} ولم يزل {عزيزاً} أي : لا يعجزه شيء {حكيماً} في خلقه يعاقب على وفق حكمته.
{والذين آمنوا} أي : أقرّوا بالإيمان {وعملوا الصالحات سندخلهم} أي : بوعد لا خلف فيه ، وربما أفهم التنفيس لهم بالسين دون سوف كما في الكافرين أنهم أقصر الأمم مدّة أو أنهم أقصرهم أعماراً راحة لهم من دار الكدر إلى محل الصفاء وأنهم يدخلون الجنة قبل جميع الفرق الناجية من أهل الموقف {جنات} أي : بساتين ووصفها بما يديم بهجتها ويعظم نضرتها وزهرتها فقال : {تجري من تحتها الأنهار} أي : إنّ أرضها في غاية الري كل موضع صالح لأن يجري منه نهر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 357
ولما ذكر قيامها وما به دوامها أتبعه بما تهواه النفوس من استمرار الإقامة بها فقال {خالدين فيها أبداً} وإنما قدّم تعالى ذكر الكفار ووعيدهم ؛ على ذكر المؤمنين ووعدهم لأنّ الكلام فيهم وذكر المؤمنين بالعرض ، ولما وصف تعالى حسن الدار ذكر حسن الجار فقال تعالى : {لهم فيها أزواج مطهرة} أي : من الحيض والقذر.(1/249)
فإن قيل : المطرد في وصف جمع القلة لمن يعقل أن يكون بالألف والتاء فيقال مطهرات ، أجيب : بأنه عدل عن ذلك إلى الوحدة لإفهام أنهنّ لشدّة الموافقة في الطهر كذات واحدة {وندخلهم} أي : فيها {ظلاً} عظيماً وأكده تعالى بقوله : {ظليلاً} أي : متصلاً لا فرج فيه منبسطاً لا ضيق معه دائماً لا تصيبه الشمس يوماً ما لا حرّ فيه ولا برد بل هو في غاية الاعتدال ، وهو ظل الجنة ، جعلنا الله تعالى ومن يحبنا ونحبه من أهلها السابقين مع النبيين والصدّيقين. وقوله تعالى :
{إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} خطاب يعم المكلفين ، والأمانات وإن نزلت يوم الفتح في عثمان بن طلحة بن عبد الدار لما أغلق باب الكعبة وصعد السطح فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح ليدخلها فأبى وقال : لو علمت أنه رسول لم أمنعه المفتاح فلوى عليّ رضي الله تعالى عنه يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وصلى فيه ركعتين ، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له بين السقاية والسدانة ، فأنزل الله هذه الآية ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر ففعل ذلك وقال : هاك خالدة تالدة ، فعجب من ذلك وقال عثمان : أكرهت وأذيت ، ثم جئت ترفق ؟
فقال : قد أنزل الله في شأنك قرآناً ، وقرأ عليه فقال عثمان : أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله فهبط جبريل وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السدانة تكون في أولاد عثمان أبداً فلما مات عثمان دفعه إلى أخيه شيبة ، فالمفتاح والسدانة في أيديهم إلى اليوم وإلى يوم القيامة ، فالآية ، وإن وردت في سبب خاص فعمومها معتبر بقرينة الجمع {وإذا حكمتم بين الناس} أي : قضيتم بين من ينفذ عليه أمركم أو يرضى بحكمكم {أن تحكموا بالعدل} أي : بالسواء بأن تأمروا من وجب عليه حق بأدائه إلى من هو له فإنّ ذلك من أعظم الصالحات الموجبة لحسن المقيل في الظل الظليل ، أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل
359
إلا ظله : إمام عادل" ، الحديث.
جزء : 1 رقم الصفحة : 357
وروي : "إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلساً إمام عادل وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدّهم عذاباً إمام جائر". ولما أخبرهم بأمره زادهم رغبة بقوله : {إنّ الله نعما} فيه إدغام ميم نعم في ما النكرة الموصوفة أي : نعم شيئاً {يعظكم به} وهو تأدية الأمانة والحكم بالعدل ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون ، وكسرها الباقون ، واختلس كسر العين قالون وأبو عمرو وشعبة {إنّ الله كان} أي : ولم يزل ولا يزال {سميعاً} لكل ما يقال {بصيراً} بكلّ ما يفعل.
{يأيها الذين آمنوا} أي : أقروا بالإيمان ، وبدأ بما هو العمدة في الحمل على ذلك فقال : {أطيعوا الله} أي : فيما أمركم به {وأطيعوا الرسول} أي : فيما بينه لكم {و} أطيعوا {أولي} أي : أصحاب {الأمر} أي : الولاة {منكم} أي : إذا أمروكم بإطاعة الله ورسوله ، وسواء كان ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بعده ، ويندرج فيهم الخلفاء والقضاة وأمراء السرية.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "السمع والطاعة على المرء فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".
وروي أنه صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع فقال : "اتقوا الله وصلوا رحمكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدّوا زكاة أموالكم وأطيعوا إذا أمركم تدخلوا جنة ربكم". وقيل : "المراد بأولي الأمر أبو بكر وعمر لقوله صلى الله عليه وسلم "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" وقال عطاء هم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان بدليل قوله تعالى : {والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان} (التوبة ، 100)
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "مثل أصحابي وأمّتي كالملح في الطعام ولا يصلح الطعام إلا بالملح" ، قال الحسن : فقد ذهب ملحنا فكيف نصلح وقيل : المراد علماء الشرع لقوله تعالى : {ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستبطونه منهم} (النساء ، 83)
{فإن تنازعتم} أي : اختلفتم {في شيء فردوه إلى الله} أي : كتابه {والرسول} أي : مدّة حياته وبعد وفاته إلى سنته أي : اكشفوا عليه منهما والردّ إلى الكتاب والسنة واجب إن وجد فيهما ، فإن لم يوجد فسبيله الاجتهاد. وقيل : الرد إلى الله والرسول أن يقول لما لا يعلم : الله ورسوله أعلم {إن كنتم تؤمنون با واليوم الآخر} أي : فإن الإيمان يوجب هذا {ذلك} أي : من الردّ إليهما {خير} لكم من التنازع والقول
360
بالرأي {وأحسن تأويلاً} أي : تأويلكم بلا رد أو عاقبة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 357(1/250)
{ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا} أي : أوجدوا هذه الحقيقة وأوقعوها في أنفسهم {بما أنزل إليك} أي : القرآن {وما أنزل من قبلك} أي : التوراة والإنجيل ، قال الأصبهاني : ولا يستعمل أي : الزعم في الأكثر إلا في القول الذي لا يتحقق يقال : زعم فلان كذا إذا شك فيه فلا يعرف كذبه أو صدقه {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت} أي : الباطل المغرق في البطلان ، وقيل : هو كعب بن الأشرف.
روي عن ابن عباس أنّ بشراً المنافق خاصم يهودياً فقال اليهودي : ننطلق إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقال المنافق : بل إلى كعب بن الأشرف فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى المنافق ذلك أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال : انطلق بنا إلى عمر رضي الله تعالى عنه فأتيا عمر فقال اليهودي : اختصمت أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه يخاصم إليك فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟
فقال : نعم فقال لهما عمر : مكانكما حتى أخرج إليكما ، فدخل وأخذ سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق ، وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله ، فنزلت هذه الآية ، وقال جبريل عليه السلام : إنّ عمر فرق بين الحق والباطل فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم "أنت الفاروق".
جزء : 1 رقم الصفحة : 361
والطاغوت على هذا هو كعب بن الأشرف سمي بذلك لفرط طغيانه أو لتشبيهه بالشيطان ، أو لأن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان من حيث إنه الحامل عليه {وقد} أي : والحال إنهم قد {أمروا} ممن له الأمر في كل ما أنزل إليك من كتاب ما قبله {أن يكفروا به} أي : بالشيطان فمتى تحاكموا إليه كانوا مؤمنين كافرين بالله وهو معنى قوله : {ويريد الشيطان} أي : بإرادتهم ذلك التحاكم إليه {أن يضلهم} أي : المتحاكم إليه {ضلالاً بعيداً} أي : بحيث لا يمكنهم معه الرجوع إلى الهدى ، ولما ذكر ضلالهم بالإرادة ورغبتهم في التحاكم إلى الطاغوت ذكر فعلهم فيه في نفرتهم عن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
{وإذا قيل لهم} أي : من أي قائل كان ، وقرأ هشام والكسائي بضم القاف والباقون بالكسر وتقدّم ذكر الإدغام لأبي عمرو {تعالوا} أي : أقبلوا رافعين أنفسكم من وهاد الجهل إلى شرف العلم {إلى ما أنزل الله} أي : الذي عنده كل شيء {وإلى الرسول} أي : الذي تجب طاعته لأجل مرسله مع إنه أكمل الرسل الذين هم أكمل الخلق رسالة {رأيت المنافقين يصدون} أي : يعرضون {عنك} إلى غيرك وأكد ذلك بقوله : {صدوداً} أي : هو أعلى طبقات الصدود.
{فكيف} يكون حالهم {إذا أصابتهم مصيبة} أي : عقوبة كقتل عمر رضي الله تعالى عنه المنافق {بما قدّمت أيديهم} أي : من التحاكم إلى غيرك وعدم الرضا بحكمك من الكفر بغير ذلك أي : أيقدرون على الإعراض والفرار منها ؟
لا وتم الكلام ههنا ، وقوله تعالى : {ثم جاؤك} أي : حين يصابون للاعتذار معطوف على يصدون وما بينهما اعتراض {يحلفون با إن} أي : ما {أردنا} أي : بالمحاكمة إلى غيرك {إلا إحساناً} أي : صلحاً {وتوفيقاً} أي : تأليفاً بين
361
الخصمين ولم نرد مخالفتك ، وقيل : جاء أصحاب القتيل طالبين بدمه وقالوا : ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا ويوفق بينه وبين خصمه بالتقريب في الحكم دون الحمل على مرّ الحق.
{أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم} أي : من النفاق والبغض للإسلام وأهله وإن اجتهدوا في إخفائه وكذبهم في حلفهم وعذرهم {فأعرض عنهم} أي : عن عتابهم بالصفح ؛ لأنهم أقل من أن يحسب لهم حساب {و} لكن {عظهم} أي : خوّفهم الله القادر على استئصالهم {وقل لهم في أنفسهم} أي : في شأنها أو خالياً بهم فإن النصح في السر أنجع {قولاً بليغاً} أي : مؤثراً فيهم أي : ازجرهم ليرجعوا عن كفرهم ، وقيل : هذا منسوخ بآية القتال.
ولما أمر الله تعالى بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذم من حاكم إلى غيره وهدده وختم تهديده بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنه والوعظ له ، فكان التقدير فما أرسلناك وغيرك من الرسل إلا للرفق بالأمّة والصفح عنهم والدعاء لهم على غاية الجهد والنصيحة عطف عليه قوله :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 361
وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع} أي : فيما يأمر به ويحكم ؛ لأن منصبه الشريف يقتضي ذلك {بإذن الله} أي : بإرادته من أنه يطاع فلا يعصي ولا يخالف {ولو أنهم إذ} أي : حين {ظلموا أنفسهم} أي : بالتحاكم إلى الطاغوت أو غيره {جاؤك} أي : تائبين {فاستغفروا الله} بالتوبة والإخلاص {واستغفر} أي : شفع {لهم الرسول} أي : اعتذروا إليه حتى انتصب لهم شفيعاً ، وإنما عدل عن الخطاب تفخيماً لشأنه {لوجدوا الله توّاباً} عليهم {رحيماً} بهم ، وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام بخلاف عنه.(1/251)
{فلا وربك} أي : فوربك ولا مزيدة لتأكيد القسم {لا يؤمنون} أي : يوجدون هذا الوصف ويجدونه {حتى يحكموك} أي : يجعلوك حكماً {فيما شجر} أي : اختلف واختلط {بينهم} من كلام بعضهم لبعض للتنازع حتى كانوا كأغصان الشجرة في التداخل والتضايق {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً} أي : نوعاً من الضيق {مما قضيت} به عليهم {ويسلموا تسليماً} أي : وينقادوا لك انقياداً بظواهرهم وبواطنهم ، وفي الصحيح : إنّ الآية نزلت في الزبير وخصم له من الأنصار وقد شهد بدراً في شراج من الحرة كانا يستقيان بها النخل فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم للزبير : "اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك" فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله : أن كان ابن عمتك ؟
فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : "اسق يا زبير ثم احبس حتى يبلغ الجدر واستوف حقك ثم أرسله إلى جارك" وقيل : نزلت في بشر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى عمر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 361
362
{ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم} كما أمرنا بني إسرائيل ، أو تعرّضوا بها للقتل بالجهاد ، وإن مصدرية أو مفسرة ؛ لأنّ (كتبنا) في معنى أمرنا ، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بكسر النون في الوصل ، والباقون بالضم {أو اخرجوا من دياركم} أي : التي هي لأشباحكم كأشباحكم لأرواحكم توبة لربكم {ما فعلوه} أي : المكتوب عليهم أي : إنا ما كتبنا عليهم إلا طاعة الله ورسوله والرضا بحكمه ولو كتبنا عليهم القتل والخروج من الديار ما كان يفعله {إلا قليل منهم} قال الحسن ومقاتل : لما نزلت هذه الآية ، قال عمر وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم القليل والله لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك فقال : "إنّ من أمّتي لرجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي" ، وقرأ ابن عامر قليلاً بالنصب على الاستثناء والباقون بالرفع على البدل {ولو أنهم} أي : هؤلاء المنافقين {فعلوا ما يوعظون به} من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم {لكان خيراً لهم} في عاجلهم وآجلهم مما اختاروه لأنفسهم {وأشدّ تثبيتاً} أي : تحقيقاً لإيمانهم.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 362
وإذاً} أي : لو ثبتوا {لآتيناهم من لدنا} أي : من عندنا {أجراً عظيماً} وهو الجنة {ولهديناهم صراطاً مستقيماً} يصلون بسلوكه جنات القدس وتفتح لهم أبواب الغيب قال صلى الله عليه وسلم "من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم" رواه أبو نعيم في حليته.
روي أنّ ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه يعرف الحزن في وجهه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما غير لونك ؟
" فقال : يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ، ثم ذكرت الآخرة وأخاف أن لا أراك ؛ لأنك ترفع مع النبيين وإني إن دخلت الجنة كنت في منزلة
363
أدنى من منزلتك ، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبداً فأنزل الله تعالى
{ومن يطع الله} في امتثال أوامره والوقوف عند زواجره {والرسول} أي : في كل ما أراده فإن منصب الرسالة يقتضي ذلك لا سيما من بلغ نهايتها {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم} أي : معدود من حزبهم ، فهو بحيث إذا أراد زيارتهم أو رؤيتهم وصل إليهم بسهولة ، وقوله تعالى : {من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين} بيان للذين حال منه أو من ضميره ، قسمهم أربعة أقسام بحسب منازلهم في العلم والعمل وحث كافة الناس على أن لا يتأخروا عنهم ، وهم الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل المتجاوزون حدّ الكمال إلى درجة التكميل ، ثم الصدّيقون الذين صعدت نفوسهم تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات وأخرى بمعارج التصفية والرياضات إلى أوج العرفان حتى اطلعوا على الأشياء وأخبروا عنها على ما هي عليه ، ثم الشهداء الذين أدّى بهم الحرص على الطاعة والجدّ في إظهار الحق حتى بذلوا مهجتهم في إعلاء كلمة الله تعالى ، ثم الصالحون الذين صرفوا أعمارهم في طاعته وأموالهم في مرضاته {وحسن} أي : وما أحسن {أولئك} أي : العالون الأخلاق السابقون {رفيقاً} من الرفق وهو لين الجانب ولطافة الفعل ، وهو مما يستوي واحده وجمعه أي : رفيقاً في الجنة بأن يستمتع فيها برؤيتهم ورؤيا ربهم والحضور معهم وإن كان مقرّهم في درجات عالية بالنسبة إلى غيرهم.
روي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رجلاً قال : يا رسول الله الرجل يحب قوماً ولم يلحق بهم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم "المرء مع من أحب".
وروي أيضاً أن رجلاً قال : يا رسول الله متى الساعة ؟
قال : "وما أعددت لها ؟
" فلم يذكر كثيراً إلا أنه يحب الله ورسوله قال : "فأنت مع من أحببت" وقوله تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 362(1/252)
ذلك} أي : كونهم مع من ذكر مبتدأ خبره {الفضل من الله} أي : تفضل به عليهم لا إنهم نالوه بطاعتهم {وكفى با عليماً} أي : بجزاء من أطاعه أو بمقادير الفضل واستحقاق أهله.
روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "قاربوا وسدّدوا واعلموا أنه لا ينجو أحد منكم بعمله" قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟
قال : "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل".
{يأيها الذين آمنوا} أي : أقرّوا بالإيمان {خذوا حذركم} من عدوّكم أي : احترزوا منه ، وتيقظوا له والحذر الحذر كالأثر الأثر {فانفروا} أي : اخرجوا إلى قتاله مسرعين {ثبات} أي : جماعات متفرّقين سرية في أثر سرية جمع ثبة ، وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة {أو انفروا جميعاً} أي : مجتمعين كوكبة واحدة ، قال البيضاوي : والآية وإن نزلت في الحرب لكن يقتضي إطلاق لفظها وجوب المبادرة إلى الخيرات كلها كيفما أمكن قبل الفوات.
{وإنّ منكم} الخطاب لعسكر النبيّ صلى الله عليه وسلم المؤمنين منهم والمنافقين {لمن ليبطئن} أي :
364
ليتأخرن وليتثاقلن عن القتال وهم المنافقون كعبد الله بن أبيّ المنافق وأصحابه ، وإنما قال منكم لاجتماعهم مع أهل الإيمان في الجنسية والنسب وإظهار الإسلام لا في حقيقة الإيمان {فإن أصابتكم مصيبة} كقتل وهزيمة {قال} هذا المتبطىء جهلاً منه وغلظة {قد أنعم الله عليّ إذ} أي : حين {لم أكن معهم شهيداً} أي : حاضراً فأصاب.
{ولئن} لام قسم {أصابكم فضل} أي : فتح وظفر وغنيمة {من الله} الذي كل شيء بيده {ليقولنّ} نادماً على ما فاته من الأغراض الدنيوية ، وأكده تنبيهاً على فرط تحسره وقوله تعالى : {كأن} مخففة واسمها محذوف أي : كأنه {لم تكن بينكم وبينه مودّة} أي : معرفة وصداقة رجع إلى قوله : {قد أنعم الله عليّ} اعتراض بين القول ومقوله وهو {يا} للتنبيه {ليتني كنت معهم فأفوز} أي : بمشاركتهم في ذلك {فوزاً عظيماً} أي : آخذ حظاً وافراً من الغنيمة ، وقرأ ابن كثير وحفص بالتاء في تكن على التأنيث والباقون بالياء على التذكير ، ولما بين أن محط رحال القاعد عن الجهاد الدنيا علم أن قصد المجاهد الآخرة فقال تعالى :
{فليقاتل في سبيل الله} أي : لإعلاء دينه {الذين يشرون} أي : يبيعون برغبة {الحياة الدنيا بالآخرة} وهم المؤمنون ، والمعنى : إن تباطأ هؤلاء عن القتال فليقاتل المجاهدون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة ويشرون أي : يأخذون وهم المتباطئون فيختارونها على الآخرة ، والمعنى : حثهم على ترك ما حكي عنهم ، وفي هذا استعمال للمشترك في مدلوليه {ومن يقاتل في سبيل الله} لإعلاء دينه {فيقتل} أي : يستشهد {أو يغلب} أي : يظفر بعدوّه {فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} أي : ثواباً جزيلاً ، وإنما وعد له الأجر العظيم غلب أو غلب ترغيباً في القتال وتكذيباً لقول المتبطىء {قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً} وإنما قال : فيقتل أو يغلب تنبيهاً على أنّ المجاهد ينبغي أن يثبت في المعركة حتى يعدّ نفسه بالشهادة أو الدين بالظفر والغلبة وأن لا يكون قصده بالذات إلى القتل بل إلى إعلاء كلمة الحق وإظهار الدين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 362
روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة".
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصائم الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجعه الله إلى أهله إنما يرجعه من غنيمة وأجر أو يتوفاه فيدخله الجنة" وقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 362
{وما لكم لا تقاتلون} استفهام توبيخ أي : لا مانع لكم من القتال {في سبيل الله} لإعلاء دينه وقوله تعالى : {والمستضعفين} عطف على إسم الله أي : وفي سبيل المستضعفين وهو تخليصهم من الأسر وصونهم عن العدوّ وقوله تعالى : {من الرجال والنساء والولدان} بيان للمستضعفين وهم المسلمون الذين حبسهم الكفار عن الهجرة وآذوهم قال ابن عباس : كنت أنا
365(1/253)
وأمي منهم وإنما ذكر الوالدان مبالغة في الحث وتنبيهاً على تناهي المشركين بحيث بلغ أذاهم الولدان وإن دعوتهم أجيبت بسبب مشاركتهم في الدعاء حتى يشاركوا في استنزال الرحمة واستدفاع البلية. وقيل : المراد بهم العبيد والإماء وهم جمع وليد {الذين يقولون} أي : داعين يا {ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها} أي : بالكفر {واجعل لنا من لدنك} أي : من عندك {ولياً} يتولى أمرنا {واجعل لنا من لدنك نصيراً} يمنعنا منهم وقد استجاب الله تعالى دعاءهم فيسر لبعضهم الخروج إلى المدينة ، وبقي بعضهم إلى أن فتحت مكة له صلى الله عليه وسلم فتولاهم ونصرهم ، ثم استعمل عليهم عتاب بن أسيد بفتح الهمزة وكسر السين فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعز أهلها ، وكان حينئذ ابن ثمان عشرة سنة ، والقرية مكة ، والظالم صفتها ، وتذكيره لتذكير ما أسند إليه ، فإن إسم الفاعل أو المفعول إذا جرى على غير من هو له كان كالفعل يذكر ويؤنث على حسب ما عمل فيه.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 365
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله} أي : في طاعته الله {والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت} أي : في طاعة الشيطان {فقاتلوا} أيها المؤمنون {أولياء الشيطان} أي : حزبه وجنوده وهم الكفار {إن كيد الشيطان} أي : مكره بالمؤمنين {كان ضعيفاً} بالإضافة إلى كيد الله تعالى بالكافرين لا يعتدّ به ، فلا تخافوا أولياءه فإن اعتمادهم على أضعف شيء أوهنه كما فعل الشيطان يوم بدر لما رأى الملائكة خاف أن تأخذه فهرب وخذلهم.
{ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم} أي : عن قتال الكفار ، وهم جماعة من الصحابة كانوا يلقون من المشركين أذى كثيراً قبل أن يهاجروا ويقولون : يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم فإنهم قد آذونا ، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "كفوا أيديكم فإني لم أؤمر بقتالهم" {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}. فلما هاجروا إلى المدينة وأمرهم الله تعالى بقتال المشركين شق ذلك على بعضهم كما قال تعالى : {فلما كتب} أي : فرض {عليهم القتال} قرأ أبو عمرو بكسر الهاء والميم في الوصل وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم في الوصل ، وأمّا الوقف فالجميع يسكنون الميم ، وحمزة بضم الهاء على أصله ، وكسرها الباقون {إذا فريق منهم يخشون} أي : يخافون {الناس كخشية الله} أي : كخشيتهم من الله {أو أشدّ خشية} من خشيتهم له.
تنبيه : نصب أشدّ على الحال ، وجواب لما دل عليه إذا وما بعدها أي : فاجاءتهم الخشية {وقالوا} جزعاً من الموت {ربنا لم كتبت علينا القتال لولا} أي : هلا {أخرتنا إلى أجل قريب} وهو الموت أي : هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا ، واختلفوا في هؤلاء الذين قالوا ذلك فقيل : قاله قوم من المنافقين ؛ لأن قوله : {لم كتبت علينا القتال} لا يليق بالمؤمنين ؟
وقيل : قاله جماعة من المؤمنين لم يكونوا راسخين في العلم قالوه خوفاً وجبناً لا اعتقاداً ، ثم تابوا ، وأهل الإيمان يتفاضلون فيه ، وقيل : هم قوم كانوا مؤمنين فلما كتب عليهم القتال نافقوا من الجبن وتخلفوا عن الجهاد ، وقرأ البزي في الوقف (لمه) بهاء بعد الميم بخلف عنه ، والباقون بالميم بغير هاء والهاء ساقطة في الوصل للجميع {قل} لهم يا محمد {متاع الدنيا} أي : ما يتمتع به فيها والاستمتاع بها {قليل} أي : آيل إلى الزوال {والآخرة} أي : ثوابها وهو الجنة والنظر إلى الله تعالى {خير لمن اتقى} عقاب الله بترك معاصيه.
366
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع" {ولا تظلمون} أي : تنقصون من أعمالكم {فتيلاً} أي : قدر ما يكون في شق النواة كما مرّ عن عكرمة. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب ، ونزل في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا} (آل عمران ، 156).
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 365
أينما تكونوا} أيها الناس كلكم مطيعكم وعاصيكم {يدرككم الموت} أي : فإنه طالب لا يفوته هارب.
واختلف كتاب المصاحف في رسم أينما هنا فمنهم من كتب ما مقطوعة من أين ومنهم من وصلها {ولو كنتم في بروج} أي : حصون برج داخل برج أو كل واحد منكم داخل برج {مشيدة} أي : مرتفعة كل واحد منها شاهق في الهواء منيع فلا تخشوا القتال خوف الموت.(1/254)
ونزل في اليهود لما قالوا حين قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه {وإن تصبهم} أي : اليهود {حسنة} أي : خصب ورخص في السعر {يقولون هذه من عند الله} لنا لا مدخل لك فيها {وإن تصبهم سيئة} أي : جدب وغلاء في الأسعار {يقولون هذه من عندك} أي : من شؤم محمد وأصحابه وقيل : المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر ، والسيئة القتل والهزيمة يوم أحد ، يقولون : هذه من عندك أي : أنت الذي حملتنا عليه يا محمد فعلى هذا يكون هذا قول المنافقين {قل} لهم يا محمد {كل} أي : الحسنة والسيئة {من عند الله} ثم عيرهم بالجهل فقال : {فما لهؤلاء القوم} أي : اليهود أو المنافقين {لا يكادون يفقهون} أي : لا يقاربون أن يفهموا {حديثاً} يوعظون به وهو القرآن ؛ لأنهم لو فهموه وتدبروا معانيه لعلموا أنّ الكل من عند الله ، أو حديثاً ما يلقى إليهم كبهائم لا أفهام لهم ، وما استفهام تعجب من فرط جهلهم ونفي مقاربة الفعل أشدّ من نفيه.
{ما أصابك} أي : أيها الإنسان {من حسنة} أي : نعمة دنيوية أو أخروية {فمن الله} أتتك تفضلاً منه والإيمان أحسن المحسنات ، قال الإمام : إنهم اتفقوا على أنّ قوله : {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} (فصلت ، 33)
المراد به كلمة الشهادة {وما أصابك من سيئة} أي : بلية وأمر تكرهه {فمن نفسك} أتتك حيث ارتكبت ما يستوجبها من الذنوب.
فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى : {قل كل من عند الله} وبين قوله {فمن نفسك} ؟
أجيب : بأنّ قوله : {قل كل من عند الله} أي : الخصب والجذب والنصر والهزيمة كلها من عند الله وقوله : {فمن نفسك} أي : ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك كما قال تعالى : {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} (الشورى ، 30) ، وقيل : إنّ هذه الآية متصلة بما قبلها ، والقول فيه مضمر تقديره : فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً يقولون : {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك قل كل من عند الله} {وأرسلناك} يا محمد {للناس} أي : كافة وقوله تعالى : {رسولاً} حال قصد بها التأكيد {وكفى با شهيداً} على إرسالك بنصب المعجزات ، ولما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم "من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبني فقد أحب الله" فقال بعض المنافقين : ما يريد هذا الرجل إلا أن تتخذوه رباً كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم" نزل.
367
جزء : 1 رقم الصفحة : 365
{من يطع الرسول فقد أطاع الله} لأنه في الحقيقة مبلغ والآمر هو الله تعالى {ومن تولى} أي : أعرض عن طاعتك فلا يهمنك {فما أرسلناك} يا محمد {عليهم حفيظاً} أي : حافظاً لأعمالهم وتحاسبهم عليها إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب فنجازيهم ، وهذا قبل الأمر بالقتال.
{ويقولون} أي : المنافقون إذا أمرتهم بشيء من أمرنا وهم بحضرتك {طاعة} أي : أمرنا وشأننا طاعة أي : نطيعك فيما تأمرنا به {فإذا برزوا} أي : خرجوا {من عندك بيت طائفة منهم} أي : أضمرت {غير الذي تقول} لك في حضورك من الطاعة أي : عصتك ، وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء في الطاء فإنها عندهما ساكنة أي : التاء فإذا سكنت التاء قبل الطاء وجب إدغامها فيها ، والباقون بالإظهار فإن التاء عندهم مفتوحة {وا يكتب} أي : يأمر بكتب {ما يبيتون} أي : ما يسرون من النفاق في صحائفهم ليجازوا عليها {فأعرض عنهم} أي : قلل المبالاة بهم {وتوكل على الله} أي : ثق به فإنه كافيك معرتهم وينتقم لك منهم {وكفى با وكيلاً} أي : مفوّضاً إليه.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 368
أفلا يتدبرون} أي : يتأمّلون {القرآن} وما فيه من المعاني البديعة {ولو كان من عند غير الله} أي : ولو كان من كلام البشر كما زعم الكفار {لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} أي : تناقضاً في معانيه وتبايناً في نظمه ، فكان بعضه فصيحاً وبعضه ركيكاً وبعضه تصعب معارضته وبعضه تسهل وتخلفاً عن الصدق في الإخبار عن الغيب بما كان وما يكون ، أفلا يتفكرون فيه ؟
فيعرفون عدم التناقض فيه وصدق ما يخبرهم به إنه كلام الله ولأن ما لا يكون من عند الله لا يخلو عن تناقض واختلاف ، والمراد من التقييد بالكثير المبالغة في إثبات الملازمة أي : لو كان من عند غير الله للزم أن يكون فيه اختلاف كثير فضلاً عن القليل لكنه من عند الله فليس فيه اختلاف لا كثير ولا قليل.
368(1/255)
{وإذا جاءهم} أي : المنافقين {أمر} أي : خبر عن سرايا النبيّ صلى الله عليه وسلم {من الأمن} أي : الغنيمة {أو الخوف} أي : القتل والهزيمة {أذاعوا به} أي : أفشوه وكانت إذاعتهم مفسدة ، والباء مزيدة أو لتضمن الإذاعة معنى التحدّث ، وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا فإذا غلبوا بادر المنافقون يستخبرون عن حالهم فيفشونه ويتحدّثون به قبل أن يحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضعفون به قلوب المؤمنين ويتأذى النبيّ صلى الله عليه وسلم {ولو ردّوه} أي : ذلك الخبر {إلى الرسول} أي : لم يحدثوا به حتى يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به {وإلى أولي الأمر منهم} أي : ذوي الرأي من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم {لعلمه} على أي : وجه يذكر أي : {الذين يستنبطونه منهم} أي : يستخرجون تدابيره بتجاربهم وأنظارهم هل ينبغي أن يكتم أو يفشى {ولولا فضل الله عليكم} بالإسلام {ورحمته} لكم بإرسال الرسل وإنزال القرآن {لاتبعتم الشيطان} فيما يأمركم به من الكفر والمعاصي {إلا قليلاً} أي : منكم فإنهم لا يتبعونه حفظاً من الله بما وهبهم الله من صحيح العقل ، والعصمة تقال في حق غير الأنبياء أيضاً ؛ لأنها المنع من المعصية ولكن الشائع أن يقال في حق النبيّ معصوم ، وفي حق غيره محفوظ.
{فقاتل} يا محمد {في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك} فلا تهتم بتخلفهم عنك أي : قاتل ولو وحدك فإنك موعود بالنصر من الله وليس النصر إلا بيده وما كان ليأمرك بشيء إلا وأنت كفؤ ، فأنت كفؤ لمقاتلة الكفار وإن كانوا أهل الأرض كلهم ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واعد أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد ودعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم فأنزل الله هذه الآية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 368
تنبيه : الفاء في قوله تعالى : {فقاتل في سبيل الله} قال البغوي : جواب عن قوله تعالى : {ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} فتأمّل انتهى..
{وحرّض المؤمنين} أي : حثهم على القتال ورغبهم فيه إذ ما عليك في شأنهم إلا التحريض {عسى الله أن يكف بأس} أي : حرب {الذين كفروا} وعسى في كلام الله وعد واجب الوقوع بخلافها في كلام المخلوق {وا أشدّ بأساً} أي : صولة منهم {وأشدّ تنكيلاً} أي : عقوبة منهم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لأخرجنّ ولو وحدي" فخرج بسبعين راكباً إلى بدر الصغرى فكف الله بأس الذين كفروا بإلقاء الرعب في قلوبهم ومنع أبا سفيان من الخروج كما تقدّم في سورة آل عمران.
{من يشفع شفاعة حسنة} راعى بها حق مسلم بأن دفع عنه بها ضرراً أو جلب إليه نفعاً ابتغاء وجه الله ، ومنها الدعاء للمسلم قال صلى الله عليه وسلم "من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك : ولك مثله" أي : مثل ذلك أي : ودعاء الملك لا يردّ {يكن له نصيب} أي : أجر {منها} أي : بسببها قال أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً إذ جاءه رجل يسأل أو يطلب حاجة أقبل علينا بوجهه فقال : اشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه
369
ما شاء" {ومن يشفع شفاعة سيئة} مخالفة للشرع {يكن له كفل} أي : نصيب من الوزر {منها} أي : بسببها {وكان الله على كل شيء مقيتاً} قال ابن عباس مقتدراً مجازياً قال الشاعر :
وذي ضغن (أي : رب صاحب حقد) كففت الضغن عنه
وكنت على إساءته (أي : إساءتي لذي الضغن) مقيتاً
أي : مقتدراً وقال مجاهد : شاهداً وقال قتادة : حفيظاً ، وقيل : معناه على كل حيوان مقيتاً أي : يوصل القوت إليه ، وجاء في الحديث : "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت" .
{وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها} التحية هي دعاء الحياة ، ولكن جمهور المفسرين على أن ذلك في السلام أي : إذا سلم عليكم مسلم فأجيبوه بأحسن مما سلم فإذا قال : السلام عليكم ، فيزيد الرادّ : ورحمة الله ، فإذا قال : ورحمة الله ، فيزيد الرادّ : وبركاته {أو ردّوها} أي : بأن تردّ عليه بمثل ما سلم.(1/256)
روي أنّ رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم السلام عليك فقال : "وعليك السلام ورحمة الله" وقال آخر : السلام عليك ورحمة الله فقال : "وعليك السلام ورحمة الله وبركاته" وقال آخر : السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال : "وعليك أي : السلام ورحمة الله وبركاته فقال الرجل : نقصتني أي : الفضل على سلامي ، فأين ما قال الله أي : من الفضل ؟
وتلا الآية فقال : "لم تترك لي فضلاً فرددت عليك مثله" لأنّ ذلك هو النهاية لاستجماعه أقسام المطالب وهي السلامة من المضار وحصول المنافع وثبوتها ، وظاهر الآية إنه لو رد عليه بأقل مما سلم عليه به إنه لا يكفي ، وظاهر كلام الفقهاء إنه يكفي ، وتحمل الآية على أنه الأكمل وابتداء السلام على المسلم سنة عين من المنفرد وكفاية من الجماعة ، وردّه فرض عين إذا كان المسلم عليه واحداً ، وكفاية من الجماعة ، ويشترط في الردّ الفور ، والجوب مستفاد من الأمر ، والفور من الفاء ، وأمّا كونه كفاية فلخبر أبي داود "يجزىء عن الجماعة إذا مرّوا أن يسلم أحدهم ويجزىء عن الجلوس أن يردّ أحدهم" والراد منهم هو المختص بالثواب ويسقط الحرج عن الباقين ، وإن أجابوا كلهم كانوا مؤدّين للفرض سواء أكانوا مجتمعين أم متفرّقين كصلاة الجنازة ، ولا يسقط الفرض بردّ الصبيّ المميز.
جزء : 1 رقم الصفحة : 368
فإن قيل : قد سقط به فرض الصلاة عن الجنازة ، أجيب : بأن المقصود من الصلاة الدعاء والصبيّ أقرب إلى الإجابة والمقصود من السلام الأمان والصبيّ ليس من أهله ، ولا يسقط أيضاً بردّ من لم يسمع ، ولو سلم على امرأة إن كان يباح له النظر إليها كمحرمة وزوجته يسنّ له السلام
370
عليها ، ووجب عليها الردّ وإلا كره له ابتداء وردّاً وحرم عليها ابتداء وردّ هذا إذا كانت مشتهاة ، فإن كانت عجوزاً أو جماعة نسوة لم يكره ، ويجب الردّ لانتفاء خوف الفتنة ، ولا يسنّ ابتداؤه على قاضي حاجة ولا على آكل ولا على من في حمام ولا على مصلّ ومؤذن وخطيب وملب ومستغرق القلب بالدعاء ، ولا يجب الجواب عليهم ، ويحرم ابتداؤه على الكافر ، ويرد عليه إذا سلم بعليك فقط ، وهذا باب طويل قد بينته السنة وقد أكثرت منه في شرح المنهاج {إنّ الله كان} أي : أزلاً وأبداً {على كل شيء حسيباً} أي : محاسباً فيجازي عليه ، وقال مجاهد : حفيظاً ، وقال أبو عبيدة : كافياً ، يقال : حسبي هذا أي : كفاني وقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 368
{الله لا إله إلا هو} مبتدأ وخبر وقوله تعالى : {ليجمعنكم} اللام لام القسم أي : والله ليجمعنكم الله من قبوركم {إلى} في {يوم القيامة} وسميت بذلك ؛ لأنّ الناس يقومون من قبورهم قال تعالى : {يوم يخرجون من الأجداث سراعاً} (المعارج ، 43)
وقيل : لقيامهم إلى الحساب قال تعالى : {يوم يقوم الناس لرب العالمين} (المطففين ، 6)
{لا ريب} أي : لا شك {فيه} أي : في ذلك اليوم أو في الجمع {ومن أصدق من الله حديثاً} أي : قولاً.
فإن قيل : الصدق لا يتفاوت كالعلم إذ لا يقال : هذا الصدق أصدق من هذا الصدق كما لا يقال : هذا العلم أعلم من هذا المعلم ، أجيب : بأنّ الصدق صفة للقائل لا صفة للحديث أي : لا أحد غير الله أصدق منه ؛ لأنّ غيره يتطرّق إلى خبره الكذب ، وذلك مستحيل في حقه تعالى ، والأنبياء مخبرون عن الله تعالى ، وقرأ حمزة والكسائيّ بإشمام الصاد أي : بحرف متولد بين الصاد والزاي {فما لكم} أي : فما شأنكم صرتم {في المنافقين} أي : في أمرهم {فئتين} أي : فرقتين ولم تتفقوا على كفرهم وذلك أن ناساً منهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا المشركين ، فاختلف المسلمون في إسلامهم ، وقال مجاهد : هم قوم خرجوا إلى المدينة وأسلموا ، ثم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها فخرجوا وأقاموا بمكة ، واختلف المسلمون فيهم فقائل يقول : هم منافقون ، وقائل يقول : هم مؤمنون ، وقال قوم : في الذين تخلفوا يوم أحد من المنافقين ، فلما رجعوا قال بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم اقتلهم فإنهم منافقون ، وقال بعضهم : اعف عنهم فإنهم تكلموا بالإسلام.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 371
وا أركسهم} أي : نكسهم بأن صيرهم إلى النار أو ردّهم إلى حكم الكفرة {بما كسبوا} من الكفر والمعاصي {أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله} أي : أتعدّونهم من جملة المهتدين والاستفهام في الموضعين للإنكار {ومن يضلل الله} أي : ومن يضله الله {فلن تجد له سبيلاً} أي : طريقاً إلى الهدى.
{ودّوا} أي : تمنوا {لو تكفرون كما كفروا فتكونون} أنتم وهم {سواء} في الكفر.
تنبيه : قوله تعالى : {فتكونون} لم يرد به جواب التمني ؛ لأنّ جوابه بالفاء منصوب وإنما أراد النسق أي : ودّوا لو تكفرون وودّوا لو تكونون سواء مثل قوله : {ودّوا لو تدهن فيدهنون} (القلم ، 9)(1/257)
أي : ودّوا لو تدهن وودّوا لو يدهنون {فلا تتخذوا منهم أولياء} أي : فلا توالوهم وإن أظهروا الإيمان {حتى يهاجروا في سبيل الله} معكم هجرة صحيحة تحقق إيمانهم ، قال عكرمة : هي هجرة أخرى ، والهجرة على ثلاثة أوجه : هجرة المؤمنين في أوّل الإسلام وهي قوله تعالى : {للفقراء
371
المهاجرين} وقوله تعالى : {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله} (النساء ، 100)
ونحوهما من الآيات ، وهجرة المنافقين وهي خروج الشخص مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صابراً محتسباً لا لأغراض الدنيا وهي المرادة ههنا ، وهجرة عن جميع المعاصي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" {فإن تولوا} أي : أعرضوا عن التوحيد والهجرة وأقاموا على ما هم عليه {فخذوهم} أي : بالأسر {واقتلوهم حيث وجدتموهم} أي : في حلّ أو في حرم كسائر الكفرة {ولا تتخذوا منهم ولياً} توالونه {ولا نصيراً} تنتصرون به على عدوّكم أي : بل جانبوهم مجانبة كلية ، وقوله تعالى : {إلا الذين يصلون} استثناء من قوله : {فخذوهم واقتلوهم} أي : إلا الذين يصلون أي : ينتهون {إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} أي : عهد بالأمان لهم ولمن وصل إليهم كما عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم وقت خروجه إلى مكة هلال بن عمير الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، ومن لجأ إليه فله من الجوار مثل ما له ، وقوله تعالى : {أو جاؤكم} عطف على الصلة أي : أو الذين جاؤوكم ، وقوله تعالى : {حصرت} أي : ضاقت حال بإضمار قد أي : وقد ضاقت {صدورهم أن يقاتلوكم} أي : عن قتالكم مع قومهم {أو يقاتلوا قومهم} معكم أي : ممسكين عن قتالكم وقتالهم فلا تتعرّضوا لهم بأخذ ولا قتل ، وهذا وما بعده منسوخ بآية القتال.
وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار تاء تأنيث حصرت عند الصاد وأدغمها الباقون {ولو شاء الله} تسليطهم عليكم {لسلطهم عليكم} بأن يقوّي قلوبهم ويبسط صدورهم ويزيل الرعب {فلقاتلوكم} ولكنه لم يشأه فألقى في قلوبهم الرعب {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم} أي : بأن لم يتعرّضوا لكم {وألقوا إليكم السلم} أي : الاستسلام والانقياد {فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً} أي : طريقاً بالأخذ أو القتل.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 371
ستجدون} أي : عن قريب بوعد لا شك فيه {آخرين} أي : من المنافقين. روي عن ابن عباس أنه قال : هم أسد وغطفان كانوا حاضري المدينة تكلموا بالإسلام رياء وهم غير مسلمين وكان الرجل منهم يقول له قومه : بماذا أسلمت ؟
فيقول : آمنت بهذا القرد وبهذا العقرب والخنفساء ، وإذا لقوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا : إنا على دينكم يريدون بذلك الأمن من الفريقين كما قال تعالى : {يريدون أن يأمنوكم} بإظهار الإيمان عندكم {ويأمنوا قومهم} بإظهار الكفر إذا رجعوا إليهم {كلما ردّوا} أي : دعوا {إلى الفتنة} أي : الكفر {اركسوا} أي : انقلبوا منكوسين {فيها} أي : الفتنة أقبح قلب {فإن لم يعزلوكم} أي : بترك قتالكم {ويلقوا} أي : ولم يلقوا {إليكم السلم ويكفوا} أي : ولم يكفوا {أيديهم} عن قتالكم {فخذوهم} أي : بالأسر {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} أي : وجدتموهم {وأولئكم} أي : أهل هذه الصفة {جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً} أي : حجة واضحة في التعرّض لهم بالقتل والسبي لظهور عداوتهم ووضوح كفرهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 371
372(1/258)
{وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً} أي : ما ينبغي أن يصدر منه قتل له بغير حق {إلا خطأ} أي : مخطئاً في قتله من غير قصد ، نزلت في عياش بن ربيعة ، وذلك إنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة وأسلم ثم خاف أن يظهر الإسلام لأهله فخرج هارباً إلى المدينة وتحصن في أطم من آطامها فجزعت أمّه لذلك جزعاً شديداً وقالت لإبنيها الحارث وأبي جهل ابني هشام وهما أخواه لأمّه : والله لا يظلني سقف ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى تأتيا به ، فخرجا في طلبه وخرج معهما الحارث بن زيد حتى أتوا المدينة فأتوا عياشاً وهو في الأطم وقالوا له : انزل فإنّ أمّك لم يأوها سقف بيت بعدك وقد حلفت أن لا تأكل طعاماً ولا تشرب شراباً حتى ترجع إليها ولك والله علينا عهد أن لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك ، فلما ذكروا له ذلك أي : جزع أمّه وأوثقوا بالله نزل إليهم فأخرجوه من المدينة ثم أوثقوه وجلده كل واحد منهم مئة جلدة ثم قدموا به إلى أمّه فلما أتاها قالت له : والله لا أحلك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به ، ثم تركوه موثوقاً مطروحاً في الشمس ما شاء الله فأعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحارث بن زيد فقال : يا عياش أهذا الذي أنت عليه ؟
فوالله لئن كان هدى لقد تركت الهدى ولئن كان ضلالة لقد كنت عليها فغضب عياش من مقالته وقال : والله لا ألقاك خالياً أبداً إلا قتلتك ، ثم إنّ عياشاً بعد ذلك أسلم وهاجر ، ثم أسلم الحارث بن زيد بعده ، وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عياش حاضراً يومئذٍ ولم يشعر بإسلامه فبينما عياش بظهر قباء إذ لقي الحارث ، فقتله ، فقال الناس : ويحك أي شيء صنعت إنه قد أسلم فرجع عياش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلنه فنزلت الآية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 372
تنبيه : قوله تعالى : {إلا خطأ} إمّا منصوب على الحال أي : وليس من شأن المؤمن أن يقتل مؤمناً في حالة من الأحوال إلا حال الخطأ ، وإما مفعول لأجله أي : لا يقتله لعلة إلا للخطأ ،
373
وقيل : إلا بمعنى ولا ، أي : ليس له قتله في حال من الأحوال ولا خطأ نظير قوله تعالى : {إني لا يخاف لديّ المرسلون إلا من ظلم} (النمل ، 10 ـ 11)
وقوله : {لئلا يكون للناس على الله حجة إلا الذين ظلموا منهم} (النساء ، 165)
{ومن قتل مؤمناً خطأً} كأن قصد رمي غيره كصيد أو شجر فأصابه {فتحرير رقبة} أي : فعليه أي : فواجبه تحرير رقبة كاملة الرق فلا يجزىء مكاتب كتابة صحيحة ولا أم ولد والتحرير الإعتاق ويعبر عن النسمة بالرقبة كما يعبر عنها بالرأس {مؤمنة} أي : محكوم بإسلامها وإن كانت صغيرة ولو كان إسلامها بتبعية الدار أو السابي سليمة عما يخلّ بالعمل {ودية مسلمة} أي : مؤدّاة {إلى أهله} أي : ورثة المقتول يقتسمونها كسائر المواريث {إلا أن يصدّقوا} أي : يتصدّقوا بها عليه بأن يعفوا عنها ، وسمي العفو عنها صدقة حثاً عليه وتنبيهاً على فضله ، قال صلى الله عليه وسلم "كل معروف صدقة".
وبينت السنة أنّ ديّة الخطأ مئة من الإبل عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة ، وإن عاقلة القاتل تتحملها عنه وهم عصبيته لا أصله وفرعه موزعة عليهم على ثلاث سنين على الغني منهم نصف دينار والمتوسط ربع دينار كل سنة فإن لم يفوا فمن بيت المال ، فإن تعذر فعلى الجاني {فإن كان} أي : المقتول : {من قوم عدوّ لكم} أي : محاربين {وهو} أي : والحال أنه {مؤمن} أي : ولم يعلم القاتل إيمانه {فتحرير} أي : فالواجب على القاتل تحرير {رقبة مؤمنة} ولا دية تسلم إلى أهله إذ لا وراثة بينه وبينهم ؛ لأنهم محاربون {وإن كان} أي : المقتول {من قوم} أي : كفرة أيضاً عدوّ لكم {بينكم وبينهم ميثاق} أي : عهد كأهل الذمّة وهو كافر مثلهم {فدية} أي : فالواجب فيه دية {مسلمة} أي : مؤدّاة {إلى أهله} وهي ثلث دية المؤمن إن كان نصرانياً أو يهودياً تحل مناكحته ، وثلثا عشرها إن كان مجوسياً أو كتابياً لا تحلّ مناكحته {وتحرير رقبة مؤمنة} على قاتله {فمن لم يجد} أي : الرقبة بأن فقدها وما يحصلها به {فصيام} أى : فالواجب عليه صيام {شهرين متتابعين} حتى لو أفطر يوماً واحداً لغير حيض أو نفاس وجب الاستئناف ، ولم يذكر تعالى الانتقال إلى الطعام كالظهار ، وبه قال الشافعيّ رضي الله تعالى عنه في أصح قوليه وقوله تعالى : {توبة من الله} نصب على المصدر أي : وتاب عليكم توبة ، أو على المفعول له أي : وشرع لكم ذلك توبة مأخوذة من تاب الله عليه إذا قبل توبته {وكان الله} أي : ولم يزل {عليماً} أي : بأحوالكم وبما يصلحكم في الدنيا والآخرة {حكيماً} فيما دبره لكم من نصب الزواجر بالكفارات أو غيرها فالزموا أوامره وباعدوا زواجره لتفوزوا بالعلم والحكمة.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 372(1/259)
ومن يقتل مؤمناً متعمداً} بأن يقصد قتله بما يقتل غالباً عالماً بإيمانه {فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه} أي : أبعده من رحمته {وأعدّ له عذاباً عظيماً} في النار وهذا مخصوص بالمستحلّ له كما قاله عكرمة وغيره ، ويؤيده أنّ الآية نزلت في نفيس بن ضبابة وجد أخاه هشاماً قتيلاً في بني النجار ولم يظهر قاتله فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعوا إليه ديته فدفعوا إليه ، ثم حمل على مسلم فقتله ورجع إلى مكة مرتدّاً والمراد من الآية التغليظ كقوله تعالى : {و على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين} (آل عمران ، 97)
تفسير من كفر بمن لم يحج ، وكقوله صلى الله عليه وسلم للمقداد : "لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك
374
بمنزلته قبل أن تقول الكلمة التي قال" أو إنّ هذا جزاؤه إن جوزي ولا بدع في خلف الوعيد لقوله تعالى : {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء ، 48)
أو المراد بالخلود المكث الطويل فإنّ الدلائل متظاهرة على أنّ عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم ولهذا لم يذكر في الآية أبداً ، وما روي عن ابن عباس أنه قال : "لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمداً" كما رواه الشيخان أراد به التشديد كما قاله البيضاويّ إذ روي عنه خلافه رواه البيهقي في سننه ، وبينت آية البقرة إن قاتل العمد يقتل به وإنّ عليه الدية إن عفي عنه وسبق قدرها وبينت السنة أنّ بين العمد والخطأ قتلاً يسمى شبه العمد وهو أن يقتله بما لا يقتل غالباً ، فلا قصاص فيه بل فيه دية كالعمد في الصفة والخطأ في التأجيل والحمل وهو أي : العمد أولى بالكفارة من الخطأ.
{يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم} أي : سافرتم للجهاد {في سبيل الله فتبينوا}.
روي أنّ سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم غزت أهل فدك فهربوا وبقي رجل يقال له : مرداس ، لأنه كان على دين المسلمين فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من غير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد هو إلى الجبل فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون فلما سمع التكبير علم إنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر ونزل وهو يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم فتغشاه أسامة بن زيد فقتله واستاق غنمه فنزلت ، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجداً شديداً وقد كان سبقهم قبل ذلك الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قتلتموه إرادة ما معه" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على أسامة بن زيد فقال : يا رسول الله استغفر لي فقال : "وكيف بلا إله إلا الله ؟
" قال أسامة : فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرّرها عليّ حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذٍ ، ثم إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي ثلاث مرّات وقال : أعتق رقبة" ، وقال عكرمة عن ابن عباس قال : مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غنم له فسلم عليهم قالوا : ما سلم عليكم إلا ليعوذ منكم فقاموا فقتلوه وأخذوا غنمه وأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.
جزء : 1 رقم الصفحة : 372
وقرأ حمزة والكسائي بالثاء المثلثة مكان الباء الموحدة وبالباء الموحدة مكان الياء المثناة تحت وبالتاء المثناة فوق مكان النون فهو من التثبت والباقون من البيان {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام} أي : لمن حياكم بتحية الإسلام ، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة بغير ألف بعد اللام من السلام أي : الاستسلام والانقياد والباقون بالألف {لست مؤمناً} وإنما فعلت ذلك متعوّذاً {تبتغون عرض الحياة الدنيا} أي : تطلبون ماله الذي هو حطام سريع النفاد {فعند الله مغانم كثيرة} تغنيكم عن قتل مثله لماله {كذلك كنتم من قبل} أي : أوّل ما دخلتم في الإسلام تفوّهتم بكلمة الشهادة فحصنتم بها أموالكم ودماءكم من غير أن تعلم مواطأة قلوبكم ألسنتكم {فمنّ الله عليكم} أي : بالاشتهار بالإيمان والاستقامة في الدين {فتبينوا} أي : وافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل الله بكم ولا تبادروا إلى قتلهم ظناً إنهم دخلوا اتقاءً وخوفاً ، فإن بقاء ألف كافر أهون عند الله من قتل
375
امرىء مسلم ، وتكريره تأكيد لتعظيم الأمر بالتبيين وترتيب الحكم على ما ذكر من حالهم {إنّ الله كان} ولم يزل {بما تعملون خبيراً} أي : عالماً به وبالغرض منه فيجازيكم به فلا تتساهلوا في القتل واحتاطوا فيه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 372(1/260)
{لا يستوي القاعدون} أي : عن الجهاد حال كونهم {من المؤمنين} روي أن زيد بن ثابت أخبر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله ، فجاءه ابن أمّ مكتوم وهو يمليها عليّ فقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان رجلاً أعمى ، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي فثقلت عليّ حتى خفت أن ترض فخذي أي : تكسر ثم سرّي عنه أي : أزيل وكشف ما به من برحاء الوحي {غير أولى الضرر} أي : من زمانة أو عمى أو نحوه فقال : اكتب (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر) ، وقرأ نافع وابن عامر والكسائيّ بنصب الراء على الحال من القاعدين أو الاستثناء ، والباقون بالرفع صفة للقاعدين ؛ لأنه لم يقصد به قوم بأعيانهم بل أراد به الجنس كما في قوله :
*
جزء : 1 رقم الصفحة : 376
ولقد أمر على اللئيم يسبني*
فصح جعل غير صفة للقاعدين {والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم} أي : لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الجهاد من غير علة.
تنبيه : فائدة ذكر قوله تعالى : {لا يستوي القاعدون} إلخ.. تذكير ما بينهما من التفاوت ليرغب القاعد في الجهاد رفعاً لرتبته واتقاء عن انحطاط منزلته.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لما رجع من غزوة تبوك ودنا من المدينة قال : "إنّ في المدينة لأقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه" قالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة قال : "نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر" {فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين} لضرر {درجة} أي : فضيلة لاستوائهما في النية وزيادة المجاهد بالمباشرة {وكلاً} من القاعدين لضرر والمجاهدين {وعد الله الحسنى} أي : الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم وإنما التفاوت في زيادة العمل المقتضى لمزيد الثواب {وفضل الله المجاهدين على القاعدين} لغير ضرر {أجراً عظيماً} ويبدل منه.
{درجات منه} أي : منازل بعضها فوق بعض من الكرامة ، وقوله تعالى : {ومغفرة ورحمة} منصوبان بفعلهما المقدر {وكان الله} أي : ولم يزل {غفوراً} لأوليائه {رحيماً} بأهل طاعته.
وروى أبو سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يا أبا سعيد من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وجبت له الجنة" قال : فعجب بها أبو سعيد فقال : أعدها يا رسول الله ففعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأخرى يرفع الله بها العبد مئة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" فقال : وما هي يا رسول الله قال : "الجهاد في سبيل الله" وعن أبي هريرة رضي الله
376
تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان كان حقاً على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها" قالوا : يا رسول الله أفلا ننذر الناس بذلك ؟
فقال : "إنّ في الجنة مئة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتموه فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة" وإنما يجب الجهاد على كل مسلم مكلف حرّ ذكر مستطيع له وهو فرض كفاية للآية المتقدّمة إذا كان الكفار ببلادهم ويجب على الإمام أن يغزوهم في كل عام مرّة بنفسه أو بنائبه أو بشحن الثغور بما يقاوم العدوّ ، وأمّا إذا دخلوا بلادنا والعياذ بالله تعالى تعين على أهل البلدة وعلى من دون مسافة القصر حتى على فقير وولد ومدين ورقيق بلا إذن ، ويجب على من هو في مسافة القصر بقدر الكفاية وإن أسروا مسلماً لزمنا النهوض لخلاصه إن رجى وإن لم يدخلوا بلادنا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 376
ونزل في جماعة أسلموا ولم يهاجروا فلما خرجوا إلى بدر رجعوا معهم فقتلوا مع الكفار.
{إنّ الذين توفّاهم الملائكة} أي : ملك الموت وأعوانه أو ملك الموت وحده كما قال تعالى : {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} (السجدة ، 11)(1/261)
والعرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع {ظالمي أنفسهم} أي : في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة وموافقة الكفرة بالمقام في دار الشرك فإنّ الهجرة كانت واجبة قبل فتح مكة ثم نسخ الوجوب بعد فتحها فقال صلى الله عليه وسلم "لا هجرة بعد الفتح" وقرأ البزيّ بتشديد التاء المثناة فوق من توفاهم في الوصل ، والباقون بالتخفيف ، وأدغم أبو عمرو التاء في الظاء بخلاف عنه ، والباقون بغير إدغام {قالوا} أي : الملائكة لهم {فيم كنتم} أي : في أي شيء كنتم من أمر دينكم ، وقرأ البزيّ (فيمه) بالهاء بعد الميم في الوقف بخلاف عنه {قالوا} معتذرين مما وبخوا به {كنا مستضعفين} أي : عاجزين عن إظهار الدين وإعلاء كلمته {في الأرض} أي : في أرض مكة {قالوا} أي : الملائكة تكذيباً لهم وتوبيخاً {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} من أرض الكفر إلى بلد أخرى كما فعل غيركم من المهاجرين إلى المدينة والحبشة ، قال تعالى : {فأولئك مأواهم جهنم} أي : لتركهم الواجب ومساعدتهم الكفار {وساءت مصيراً} أي : جهنم ، وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه ، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم "من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان ما بينهما شبراً استوجبت أي : وجبت له الجنة ، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم . ثم استثنى أهل العذر منهم فقال :
{إلا المستضعفين} أي : الذين وجد ضعفهم في نفس الأمر وعدّوا ضعفاء وتقوّى عليهم غيرهم {من الرجال والنساء والولدان} ثم بين ضعفهم بقوله : {لا يستطيعون حيلة} أي : لا قوّة لهم على الهجرة ولا نفقة لهم {ولا يهتدون سبيلاً} أي : طريقاً إلى أرض الهجرة.
{فأولئك عسى الله أن يعفو} أي : يتجاوز {عنهم} وعسى من الله واجب للإطماع والله
377
تعالى إذا أطمع عبده بشيء أوصله إليه ولكن في ذكر الإطماع والعفو إيذان بأن أمر الهجرة مضيق لا توسعة فيه حتى أنّ المضطرّ البين الاضطرار من حقه أن يقول : عسى الله أن يعفو عني فكيف بغيره {وكان الله عفوّاً غفوراً} قال ابن عباس : كنت أنا وأمي ممن عذر الله أي : من المستضعفين وكان صلى الله عليه وسلم يدعو لهؤلاء المستضعفين في كل صلاة ، قال أبو هريرة : كان إذا قال : سمع الله لمن حمده في الركعة الأخيرة من صلاة العشاء قنت يقول : "اللهمّ أنج عياش بن ربيعة اللهمّ أنج الوليد بن الوليد اللهمّ أنج سلمة بن هشام اللهمّ أنج المستضعفين من المسلمين ، اللهمّ اشدد وطأتك على مضر ، اللهمّ اجعلها عليهم سنين كسني يوسف".
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 376
ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً} أي : متحوّلاً يتحوّل إليه ، وقيل : طريقاً يراغم بسلوكه قومه أي : يفارقهم على رغم أنوفهم مأخوذ من الرغام ، والرغم الذل والهوان ، وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب يقال : راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك {و} يجد {سعة} في الرزق كما قال صلى الله عليه وسلم "صوموا تصحوا وسافروا تغنموا" أخرجه الطبرانيّ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولفظه "واغزوا تغنموا وهاجروا تفلحوا" ولما سمع هذه الآية رجل من بني قيس يقال له : جندب بن ضمرة قال : ما أنا ممن استثنى الله عز وجل وإني لأجد حيلة ولي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها والله لا أبيت الليلة بمكة اخرجوني فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به التنعيم فأدركه الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال : اللهمّ هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما يبايعك عليه رسولك فمات ، قال التفتازانيّ : الظاهر أنّ هذه إشارة إلى اليمين وهذه إلى الشمال لا قصد إسناد الجارحة إلى الله تعالى بل على سبيل التصوير وتمثيل مبايعة الله تعالى على الإيمان والطاعة بمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه ، وقيل : إشارة إلى البيعة والصفقة ، والمعنى : أن بيعته كبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بيعة كبيعة الناس فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : لو وافى المدينة كان أتمّ وأوفى أجراً وضحك المشركون وقالوا : ما أدرك هذا ما طلب فنزل {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت} أي : في الطريق قبل مقصده {فقد وقع أجره على الله} أي : ثبت أجره عنده تعالى ثبوت الأجر الواجب تفضلاً منه ورحمة {وكان الله غفوراً} لتقصيره إن كان {رحيماً} يكرم بعد المغفرة بأنواع الكرامات.
ولما أوجب الله السفر للجهاد والهجرة وكان مطلق السفر مظنة المشقة فكيف بسفرهما مع ما ينضم إلى المشقة فيهما من خوف الأعداء ذكر تخفيف الصلاة بالقصر بقوله تعالى : (1/262)
{وإذا ضربتم} أي : سافرتم {في الأرض} سفراً طويلاً لغير معصية ، والطويل عند الشافعيّ رحمه الله تعالى أربعة برد وهي مرحلتان كما ثبت ذلك بالنسبة ، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ثلاثة أيام ولياليهنّ بسير الإبل ومشي الأقدام على القصد ، وقوله تعالى : {فليس عليكم جناح} أي : إثم وميل في {أن تقصروا من الصلاة} أي : من أربع إلى ركعتين ، وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء يدل على جواز القصر دون وجوبه ، ويؤيده أنه عليه الصلاة والسلام أتم في السفر كما رواه الشافعيّ وغيره.
378
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها : اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وصمت وأفطرت فقال : "أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ" رواه الدارقطني وحسنه البيهقيّ وصححه ، وكان عثمان رضي الله تعالى عنه : يتم ويقصر ، وأوجب القصر أبو حنيفة لقول عمر رضي الله تعالى عنه : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ، رواه النسائيّ وابن ماجة ، ولقول عائشة رضي الله تعالى عنها : "أوّل ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرّت في السفر وزيدت في الحضر" رواه الشيخان.
جزء : 1 رقم الصفحة : 376
فإن قيل : ظاهرهما يخالف الآية ؟
أجيب : بأنّ الأوّل مؤوّل بأنّ القصر كالتمام في الصحة والإجزاء ، ومعنى الثاني لمن أراد الاقتصار عليهما جمعاً بين الأدلة ، وقوله تعالى : {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} أي : ينالوكم بمكروه بيان باعتبار الغالب في ذلك الوقت فلا مفهوم له ، قال يعلى بن أمية : قلت لعمر : إنما قال الله تعالى : {إن خفتم} وقد أمن الناس قال : قد عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" رواه مسلم {إنّ الكافرين كانوا} أي : جبلة وطبعاً {لكم عدوّاً مبيناً} أي : بين العداوة وقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 376
379
{وإذا كنت} أي : يا محمد حاضراً {فيهم} أي : وأنتم تخافون العدوّ {فأقمت لهم الصلاة} تمسك بمفهومه من خص صلاة الخوف بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وعامّة الفقهاء على أنه تعالى علم نبيه صلى الله عليه وسلم كيفيتها ليقتدي به الأئمة بعده فإنهم نوّاب عنه فيكون حضورهم كحضوره.
روي أنّ المشركين لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى الظهر يصلون جميعاً ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقال بعضهم لبعض : دعوهم فإنّ لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وهي صلاة العصر فإذا قاموا فيها فشدّوا عليهم فاقتلوهم فنزل جبريل فقال : يا محمد إنها صلاة الخوف وإنّ الله يقول : {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} فعلمه صلاة الخوف وهي أنواع :
الأوّل : إذا كان العدو في جهة القبلة وسائر والمسلمون كثيرون فيصلي بهم الإمام ثم يسجد بصف أوّل ويحرس صف ثانٍ ، فإذا قاموا سجد من حرس ولحقه وسجد معه بعد تقدّمه وتأخر الأوّل بلا كثرة أفعال في الركعة الثانية ، وحرس الآخرون فإذا جلس للتشهد جلس الآخرون وتشهد وسلم بالجميع ، روى هذا النوع مسلم ، وقد صلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، وهي قرية على مرحلتين من مكة بقرب خليص سميت بذلك لعسف السيول فيها وجاز عكس هذه الكيفية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 379
والنوع الثاني : إذا كان العدو في غير جهة القبلة أو فيها ، وثم ساتر ، فيصلي الإمام بهم ركعتين مرّتين كلّ مرة بفرقة كما قال تعالى : {فلتقم طائفة منهم معك} أي : وتتأخر طائفة {وليأخذوا} أي : الطائفة التي قامت معك {أسلحتهم} معهم {فإذا سجدوا} أي : صلوا {فليكونوا} أي : هذه الطائفة الأخرى {من ورائكم} يحرسون إلى أن تقضوا الصلاة وتذهب هذه الطائفة الأخرى تحرس {ولتأت طائفة أخرى} تحرس {لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم} معهم إلى أن يقضوا الصلاة "وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك ببطن نخل" ، رواه الشيخان وهذه الصلاة وإن جازت في غير الخوف سنت فيه عند كثرة المسلمين ، وقلة عدوّهم ، وخوف هجومهم عليهم في الصلاة.
فإن قيل : أخذ الحذر وهو الخوف مع التحفظ مجاز ، وأخذ الأسلحة حقيقة ، فلا يجمع بينهما أجيب : بأنّ أخذ الحذر حقيقة أيضاً تنزيلاً له منزلة الآلة على سبيل الاستعارة بالكناية ، فالجمع إنما هو بين حقيقتين على أنّ الجمع بين الحقيقتين على أنّ الجمع بين الحقيقة ، والمجاز جائز كما عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه.
فإن قيل : لم ذكر أخذ الحذر في الثانية دون الأولى ؟
أجيب : بأنّ الكفار يتنبهون للثانية ما لا يتنبهون للأولى.(1/263)
والنوع الثالث : صلاة ذات الرقاع رواها الشيخان أيضاً ، وهي والعدوّ في غير جهة القبلة أو فيها ، وثم ساتر أن تقف فرقة في وجه العدوّ ، ويصلي الإمام بفرقة ركعة ، ثم عند قيامه للثانية تفارقه وتتم بقية صلاتها ، وتقف في وجه العدوّ ، وتجيء تلك والإمام ينتظر لها فيصلي بها ثانية ، فإذا جلس للتشهد قامت وأتت بركعة وتلحقه ، ويسلم بها ويصلي الثلاثية بفرقة ركعتين وبالثانية ركعة ،
380
وهو أفضل من عكسه ويصلي الرباعية بكل فرقة ركعتين.
وبقي نوع رابع : تقدّم عند قوله تعالى : {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} (البقرة ، 239)
{ود} أي : تمنى {الذين كفروا لو تغفلون} إذا قمتم إلى الصلاة {عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة} بأن يحملوا عليكم فيأخذوكم وهذه علة الأمر بأخذ السلاح.
ولما كان الله تعالى قد تفضل على هذه الأمة ورفع عنها الحرج وكان المطر والمرض يشقان قال : {ولا جناح} أي : حرج {عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم} ؛ لأنّ حمل السلاح في المطر يكون سبباً لبله ، وفي المرض يزيد حملها المريض وهناً ، وهذا يفيد إيجاب حملها عند عدم العذر وهو أحد قولي الشافعي ، والثاني : أنه سنة ورجح بشرط أن لا يؤذي ولا يحصل بترك حمله خطر ولا يمنع صحة الصلاة ، فإن أذى كرمح وسط الصف كره حمله بل إن غلب على ظنه ذلك حرم ، وإن حصل بتركه خطر وجب حمله ويمكن حمل الآية على هذه الحالة وكحمله وضعه بين يديه إن سهل مدّ يده إليه بل يتعين إن منع حمله الصحة من نجس أو غيره {وخذوا حذركم} من العدوّ أي : احترزوا منه ما استطعتم كيلا يهجم عليكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 379
فإن قيل : كيف طابق الأمر بالحذر قوله تعالى : {إنّ الله أعدّ للكافرين عذاباً} أي : قتلاً وأسراً ونهباً في الدنيا {مهيناً} أي : ذا إهانة ؟
أجيب : بأنّ الأمر بالحذر من العدوّ يوهم توقع غلبته واغتراره فنفى عنهم ذلك الإيهام بإخبارهم أن الله تعالى يهين عدوّهم ويخذله وينصرهم عليه لتقوى قلوبهم ويعلموا أنّ الأمر بالحذر ليس لذلك وإنما هو تعبد من الله تعالى كما قال تعالى : {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (البقرة ، 195).
ولما أعلمهم بما يفعلون في الصلاة حال الخوف اتبع ذلك ما يفعلون بعدها لئلا يظن أنها تغني عن مجرّد الذكر فقال مشيراً إلى تعقيبه.
{فإذا قضيتم الصلاة} أي : فرغتم من فعلها وأدّيتموها على حالة الخوف أو غيرها {فاذكروا الله} أي : بالتهليل والتسبيح والتحميد والتمجيد {قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم} أي : مضطجعين أي : اذكروه في كل حال ، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه" وقيل : صلوا قياماً في حال الصحة وقعوداً في حال المرض وعلى جنوبكم عند الحرج والزمانة {فإذا اطمأننتم} أي : أمنتم بما كنتم فيه من الخوف {فأقيموا الصلاة} أي : أدّوها بحقوقها على الحالة التي كنتم تفعلونها قبل الخوف {إنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً} أي : مكتوباً أي : مفروضاً {موقوتاً} أي : مقدّراً وقتها لا تؤخر عنه ولا تقدّم عليه ، قال صلى الله عليه وسلم "أمني جبريل عند البيت مرّتين فصلى بي الظهر حين زالت الشمس ، والعصر حين كان ظله أي الشيء مثله ، والمغرب حين أفطر الصائم أي : دخل وقت إفطاره ، والعشاء حين غاب الشفق الأحمر ، والفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم ، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله والعصر حين كان ظله مثليه والمغرب حين أفطر الصائم والعشاء إلى ثلث الليل ، والفجر فأسفر وقال : هذا وقت الأنبياء من قبلك" ، رواه أبو داود وغيره وصححه الحاكم وغيره ، وقوله صلى الله عليه وسلم "فصلى الظهر حين صار ظله مثله" أي : فرغ منها حينئذٍ كما
381
شرع في العصر في اليوم الأوّل حينئذٍ قاله الشافعيّ رضي الله تعالى عنه نافياً به إشتراكهما في وقت ويدل له خبر مسلم وقت الظهر إذا زالت الشمس ما لم يحضر العصر ، ونزل لما بعث صلى الله عليه وسلم طائفة في طلب أبي سفيان وأصحابه لما رجعوا من أحد فشكوا الجراحات :
{ولا تهنوا} أي : تضعفوا {في ابتغاء القوم} أي : في طلب أبي سفيان وأصحابه {إن تكونوا تألمون} أي : تتوجعون من ألم الجراح {فإنهم يألمون} أي : يتوجعون من الجراح {كما تألمون} ولم يجبنوا عن قتالكم فلا تجبنوا عن قتالهم {وترجون} أنتم {من الله} من النصر والثواب على جهادكم {ما لا يرجون} هم فأنتم تزيدون عليهم بذلك فيجب أن تكونوا أرغب منهم في الحرب وأصبر عليها {وكان الله عليماً} بأعمالكم وضمائركم {حكيماً} أي : فيما يأمر وينهى.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 379(1/264)
إنا أنزلنا إليك الكتاب} أي : القرآن وقوله تعالى : {بالحق} متعلق بأنزل {لتحكم بين الناس بما أراك} الله أي : عرفك وأوحى به إليك وليس أرى من الرؤية بمعنى العلم وإلا لاستدعى ثلاثة مفاعيل ، وعن عمر رضي الله تعالى عنه لا يقولنّ أحدكم قضيت بما أراني الله فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه ولكن ليجتهد رأيه ؛ لأن الرأي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مصيباً ؛ لأن الله تعالى كان يريه إياه وهو منا الظن والتكليف.
وروى الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يقال له طعمة بكسر الطاء وفتحها ، والأوّل أفصح ابن أبيرق من بني ظفر بن الحارث سرق درعاً من جار له يقال له : قتادة بن النعمان وكانت الدرع في جراب فيه دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه حتى انتهى إلى الدار ، ثم أخبأها عند رجل من اليهود يقال له : زيد بن السمين فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها وماله بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوها فقال : دفعها إليّ طعمة وشهد له ناس من اليهود فقالت بنو ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واسألوه أن يجادل عن صاحبهم فقالوا : إن لم تفعل افتضح صاحبنا فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ؛ لأنه بريء بحلفه وأن يعاقب اليهودي لثبوت المال عنده ، وقيل : همّ أن يقطع يده فقال تعالى : {ولا تكن للخائنين} كطعمة {خصيماً} أي : مخاصماً مدافعاً عنهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 379
{واستغفر الله} أي : مما هممت به أي : من الذب عنه وهذا الاستغفار لا عن ذنب إذ هو منزه عن ذلك معصوم ، ولكن عن مقام عال سام للارتقاء إلى أعلى منه وأتم {إنّ الله كان غفوراً رحيماً} لمن يستغفره.
{ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} أي : يخونونها بالمعاصي ؛ لأنّ وبال خيانتهم عليهم.
فإن قيل : لم قال {للخائنين} و {يختانون} أنفسهم والخائن واحد فقط ؟
أجيب : بأنه جمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته أو ليتناوله وقومه فإنهم شاركوه في الإثم حين شهدوا على براءته وخاصموا عنه ، وقيل : إنّ هذا خطاب مع صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره كقوله تعالى : {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك} (يونس ، 94)
والاستغفار في حق الأنبياء بعد النبوّة على أحد وجوه ثلاثة : إمّا الذنب تقدّم على النبوّة ، أو لذنوب أمّته ، أو لمباح جاء الشرع بتحريمه ، فيتركه بالاستغفار ، فالاستغفار
382
يكون معناه السمع والطاعة لحكم الشرع {إنّ الله لا يحب} أي : يعاقب {من كان خوّاناً} أي : كثير الخيانة {أثيماً} أي : منهمكاً فيه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 382
روي أنّ طعمة هرب إلى مكة وارتدّ وثقب حائطاً ليسرق متاع أهله فسقط الحائط عليه فقتله.
فإن قيل : لم قال خوّاناً أثيماً على المبالغة ؟
أجيب : بأنّ الله تعالى كان عالماً من طعمة بالإفراط في الخيانة وركوب المأثم ، ومن كانت تلك خلقة أمره لم يشك في حاله ، وقيل : إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أنّ لها أخوات ، وعن عمر رضي الله تعالى عنه إنه أمر بقطع يد سارق ، فجاءت أمّه تبكي وتقول : هذه أوّل سرقة سرقها فاعف عنه فقال : كذبت إنّ الله لا يؤاخذ عبده في أوّل مرّة.
{يستخفون} أي : طعمة وقومه يستترون ويستحيون ويخافون {من الناس ولا يستخفون} أي : ولا يستحيون ولا يخافون {من الله} وهو أحق أن يستحيا ويخاف منه {وهو معهم} بعلمه لا يخفى عليه سرهم {إذ يبيتون} أي : يدبرون ليلاً على طريق الإمعان في الكفر والإتقان للرأي {ما لا يرضى من القول} أي : من رمي اليهودي بالسرقة وشهادة الزور عليه والحلف الكاذب على نفيها.
فإن قيل : لم سمى التدبير قولاً ، وإنما هو معنى في النفس ؟
أجيب : بأنه لما حدث بذلك نفسه سمي قولاً مجازاً. قال في الكشاف : ويجوز أن يراد بالقول الحلف الكاذب الذي حلف به بعد أن بيّنه {وكان الله بما يعملون محيطاً} أي : علماً وقدرة لا يفوت عنه شيء وقوله تعالى :
{ها أنتم هؤلاء} خطاب لقوم طعمة أي : يا هؤلاء {جادلتم} أي : خاصمتم {عنهم} أي : عن طعمة وذويه {في الحياة الدنيا} أي : بما جعل لكم من الأسباب {فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة} إذا عذبهم {أم من يكون عليهم وكيلاً} يتولى أمرهم ويذب عنهم أي : لا أحد يفعل ذلك.
فائدة : اتفق كتاب المصاحف على قطع (أم) عن (من)(1/265)
{ومن يعمل سوءاً} أي : ذنباً يسوء به غيره كرمي طعمة اليهودي {أو يظلم نفسه} أي : يعمل ذنباً يختص به لا يتعدّاه ، وقيل : المراد بالأوّل الصغيرة والثاني الكبيرة {ثم يستغفر الله} أي : يطلب من الله تعالى غفرانه بالتوبة بشروطها {يجد الله غفوراً} أي : محاء للزلات {رحيماً} أي : مبالغاً في إكرام من يقبل إليه كما في الحديث عن الله : "من تقرّب مني شبراً تقرّبت منه ذراعاً ومن تقرّب مني ذراعاً تقرّبت منه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة" ، وعن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه إنّ هذه الآية نسخت من {يعمل سوأً يجز به} (النساء ، 123).
{ومن يكسب إثماً} أي : ذنباً {فإنما يكسبه على نفسه} أي : لأنّ وباله راجع عليه إذ الله له بالمرصاد فهو مجازية عليه فلا يتعدّاه وباله قال تعالى : {وإن أسأتم فلها} (الإسراء ، 7)
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 382
وكان الله عليماً} بالغ العلم بدقيق ذلك وجليله فلا يترك شيئاً منه {حكيماً} في صنعه فلا يجازيه إلا بمقدار ذنبه.
{ومن يكسب خطيئة} أي : ذنباً صغيراً أو ما لا عمد فيه {أو إثماً} أي : كبيرة أو ما كان
383
عن عمد {ثم يرم به بريئاً} أي : ينسبه إلى من لم يعمله كما فعل طعمة باليهودي {فقد احتمل} أي : تحمل {بهتاناً} أي : خطر كذب ببهت المرمي به {وإثماً} أي : ذنباً كبيراً {مبيناً} أي : بيناً يكسبه بسبب رمي البريء.
{ولولا فضل الله عليك} يا محمد {ورحمته} بالعصمة {لهمت طائفة منهم} أي : من قوم طعمة أي : هماً مؤثراً عندك {أن يضلوك} أي : عن القضاء بالحق مع علمهم بالحال بتلبيسهم عليك فلا ينافي ذلك أنهم قد هموا بذلك ؛ لأنّ الهم المؤثر لم يوجد {وما يضلون إلا أنفسهم} إذ وبال ذلك عليهم {وما يضرونك من شيء} فإنّ الله عصمك وما خطر ببالك كان اعتماداً منك على ظاهر الأمر لا ميلاً في الحكم.
تنبيه : (من شيء) في موضع نصب على المصدر أي : شيئاً من الضر فمن مزيدة {وأنزل الله عليك الكتاب} أي : القرآن {والحكمة} أي : السنة فإنها ليست قرآناً يتلى وفسرت أيضاً بأنها علم الشرائع وكل كلام وافق الحق {وعلمك ما لم تكن تعلم} أي : من المشكلات وغيرها غيباً وشهادة من أحوال الدين والدنيا {وكان فضل الله عليك عظيماً} أي : بهذا وبغيره من أمور لا تدخل تحت الحصر ، وفي هذا دليل على أن العلم من أشرف الفضائل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 382
{لا خير في كثير من نجواهم} أي : الناس قوم طعمة فإنهم ناجوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في الدفع عنه وكذا غيرهم {إلا} نجوى {من أمر بصدقة} واجبة أو مندوبة {أو معروف} أي : عمل بر ، وقيل : المراد بالصدقة الواجبة ، وبالمعروف صدقة التطوّع {أو إصلاح بين الناس} وسواء إصلاح ذات البين وغيرهم قال صلى الله عليه وسلم "كلام ابن آدم كله عليه لا لهُ إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو
384
ذكر الله" ، وسمع سفيان رجلاً يقول : ما أشدّ هذا الحديث فقال : ألم تسمع الله يقول : {لا خير في كثير من نجواهم} فهو هذا بعينه أو ما سمعته يقول : {والعصر إن الإنسان لفي خسر} فهو هذا بعينه.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة ؟
" قلنا : بلى يا رسول الله قال : "إصلاح ذات البين ، وإفساد ذات البين هي الحالقة".
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال "ليس بالكذاب من أصلح بين الناس فقال : خيراً أو أثنى خيراً" {ومن يفعل ذلك} أي : هذا المذكور {ابتغاء} أي : طلب {مرضاة الله} أي : لا غيره من أمور الدنيا ؛ لأنّ الأعمال بالنيات {فسوف يؤتيه} أي : الله في الآخرة بوعد لا خلف فيه {أجراً عظيماً} هو الجنة والنظر إلى وجهه الكريم ، وفي هذه الآية دلالة على أنّ المطلوب من أعمال الظاهر رعاية أحوال الباطن في إخلاص النية وتصفية القلب من الالتفات إلى غرض دنيوي ، وقرأ أبو عمرو وحمزة (يؤتيه) بالياء ، والباقون بالنون.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 384
ومن يشاقق الرسول} أي : يخالفه فيما جاء به مأخوذ من الشق ، فإنّ كلاً من المتخالفين في شق غير شق الآخر {من بعدما تبين} أي : ظهر {له الهدى} أي : الدليل الذي هو سببه {ويتبع} طريقاً {غير سبيل المؤمنين} أي : طريقهم الذي هم عليه من الدين بأن يتبع غير دين الإسلام {نوله ما تولى} أي : نجعله والياً لما تولاه بأن نخلي بينه وبينه في الدنيا {ونصله} أي : ندخله في الآخرة {جهنم} يحترق فيها {وساءت مصيراً} أي : مرجعاً هي ، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة (نوله) و(نصله) بسكون الهاء ، واختلس كسرة الهاء قالون ولهشام وجهان : الإختلاس كقالون ، وإشباع الحركة كباقي القرّاء.
فإن قيل : ما الحكمة في فك الإدغام في قوله تعالى : {ومن يشاقق الرسول} والإدغام في سورة الحشر في قوله : {ومن يشاق الله} (الحشر ، 4)(1/266)
؟
أجيب : بأن أل في لفظ الجلالة لازم بخلافه في الرسول واللزوم يقتضي الثقل ، فخفف بالإدغام فيما صحبته الجلالة بخلاف ما صحبه لفظ الرسول.
فإن قيل : يرد هذا قوله تعالى في سورة الأنفال : {ومن يشاقق الله ورسوله} (الأنفال ، 13)
أجيب : أنه لما انضم الرسول إلى الله صار المعطوف والمعطوف عليه كالشيء الواحد {إن الله لا يغفر أن يشرك به} أي : وقوع الشرك به من أيّ شخص كان وبأي شيء كان {ويغفر ما} أي : كل شيء هو {دون ذلك} أي : من سائر المعاصي لكن {لمن يشاء} لأنّ جميع الأمور بمشيئته.
روي "أنّ شيخاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله شيئاً منذ عرفته وآمنت به ، ولم أتخذ من دونه ولياً ولم أوقع المعاصي جراءة وما توهمت طرفة عين إني أعجز الله هرباً وإني لنادم تائب مستغفر فما ترى حالي عند الله فنزلت {ومن يشرك با فقد ضل ضلالاً بعيداً}" عن الحق فإن الشرك أعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الصواب
385
والاستقامة ، وإنما ذكر في الآية الأولى (فقد افترى) ؛ لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب ، ومنشأ شركهم نوع افتراء ، وهو دعوى التبني على الله.
{إن} أي : ما {يدعون} أي : يعبد المشركون {من دونه} أي غير الله {إلا إناثاً} وهي اللات والعزى ومناة ، وعن الحسن لم يكن حيّ من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان ، وقيل : كانوا يقولون في أصنامهم هنّ بنات الله ، وقيل : المراد الملائكة لقولهم : الملائكة بنات الله {وإن} أي ما {يدعون} أي يعبدون بعبادتها {إلا شيطاناً مريداً} أي : خارجاً عن الطاعة وهو إبليس ؛ لأنه الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها ، فكانت طاعته في ذلك عبادة له.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 384
لعنه الله} أي أبعده عن رحمته {وقال} الشيطان المذكور {لأتخذنّ من عبادك نصيباً} أي : حظاً {مفروضاً} أي : مقطوعاً أدعوهم فيه إلى طاعتي قال الحسن : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار {ولأضلنهم} أي عن طريقك السوى بما سلطتني به من الوسواس وتزيين الأباطيل {ولأمنينهم} أي بكل ما أقدر عليه من الباطل من عدم البعث والحساب ولا جنة ولا نار وغيره ، وألقي في قلوبهم طول الأعمار وبلوغ الآمال من الدنيا والآخرة بالرحمة والحنو والإحسان ونحوه مما هو سبب للتسويف بالتوبة {ولآمرنهم فليبتكن} أي : يقطعن {آذان الأنعام} كما كانت العرب تفعله بالبحائر والسوائب التي حرّموها على أنفسهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن ، وجاء الخامس ذكراً حرموا على أنفسهم الانتفاع بها {ولآمرنهم فليغيرنّ خلق الله} أي : فطرة الله التي هي دين الإسلام بالكفر وإحلال ما حرّم الله ، وتحريم ما أحل الله ، ويدخل في ذلك اللواط والسحر والوشم ، وهو أن يغرز الجلد بإبرة ويحشى بنحو نيلة ، والوشر وهو أن تحدّ المرأة أسنانها وترققها ونحو ذلك ، وكالخصاء وهو حرام في بني آدم ، قال الزمخشري : وعند أبي حنيفة يكره شراء الخصيان وإمساكهم واستخدامهم ؛ لأن الرغبة فيهم تدعو إلى خصائهم ، وأمّا في البهائم فيجوز في المأكول الصغير ويحرم في غيره.
وقيل للحسن رحمه الله تعالى : إنّ عكرمة يقول : المراد هنا هو الخصاء فقال : كذب عكرمة هو دين الله وعن ابن مسعود هو الوشم {ومن يتخذ الشيطان ولياً} أي : يتولاه ويطيعه {من دون الله} أي : غيره {فقد خسر خسراناً مبيناً} بيناً لمصيره إلى النار المؤبدة عليه.
{يعدهم} ما لا ينجزه بأن يخيل إليهم بما يصل إلى قلوبهم بالوسوسة في شيء من الأباطيل ، إنه قريب الحصول فيسعون في تحصيله فيضيع عليهم في ذلك الزمان ويرتكبوا ما لا يحل من الأهوال والهوان {ويمنيهم} نيل الآمال في الدنيا ولا بعث ولا جزاء {وما} أي : والحال إنه ما {يعدهم الشيطان} بذلك {إلا غروراً} أي : باطلاً ، وهو إظهار النفع فيما فيه الضر وهذا الوعد إمّا بالخواطر أو بلسان أوليائه.
{أولئك} أي : الشيطان وأولياؤه {مأواهم} أي : مقرّهم {جهنّم} يحترقون فيها {ولا يجدون عنها محيصاً} أي : معدلاً ومهرباً.
ولما ذكر ما للكافر ترهيباً اتبعه ما لغيرهم ترغيباً فقال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 384
{والذين آمنوا} أي : أقرّوا بالإيمان {وعملوا الصالحات} أي : الطاعات تصديقاً لإقرارهم {سندخلهم} بوعد لا خلف فيه {جنات تجري من تحتها الأنهار} أي : لريّ أرضها فحيثما أجرى منها نهر جرى {خالدين فيها} ولما كان الخلود يطلق على المكث الطويل دفع ذلك بقوله تعالى :
386
{أبداً} أي : لا إلى آخر {وعد الله حقاً} أي : وعدهم الله ذلك وهو قوله تعالى : سندخلهم وحقه حقاً {ومن} أي : لا أحد {أصدق من الله قيلاً} أي : قولاً ، وأكثر سبحانه وتعالى من التأكيد هنا ؛ لأنه في مقابلة وعد الشيطان ، ووعد الشيطان موافق للهوى الذي طبعت عليه النفوس ، فلا تنصرف عنه إلا بعسر شديد.(1/267)
ونزل لما افتخر المسلمون وأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فقال أهل الكتاب : نبيِّنا قبل نبيِّكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : نبيِّنا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب وقد آمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا فنحن أولى.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 386
ليس} أي : الأمر منوطاً {بأمانيكم} أيها المسلمون {ولا أمانيّ أهل الكتاب} بل بالإيمان والعمل الصالح {من يعمل سوأً يجز به} قال ابن عباس لما نزلت هذه شقت على المسلمين وقالوا : يا رسول الله أينا لم يعمل سوأً غيرك فكيف الجزاء ؟
قال : منه ما يكون في الدنيا أي : بالبلاء والمحن كما ورد في الحديث : "فمن يعمل حسنة فله عشر أمثالها ومن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقي له تسع حسنات ، فويل لمن غلبت آحاده أعشاره" وأمّا ما كان جزاء في الآخرة فيقابل بين حسناته وسيئاته فيلقى مكان كل سيئة حسنة وينظر في الفضل فيعطي الجزاء في الجنة فيؤتي كل ذي فضل فضله ، وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه {من يعمل سوأً يجز به} {ولا يجد له من دون الله} أي : غيره {ولياً} أي : يحفظه {ولا نصيراً} أي : يمنعه منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا بكر ألا أقرئك آية نزلت عليّ ؟
" قلت : بلى يا رسول الله قال : فأقرأنيها قال : ولا أعلم أني قد وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطيت لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك يا أبا بكر فقلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي وأينا لم يعمل سوءاً وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمّا أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا" أي : بالبلاء والمحن كما مرّ حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب ، "وأمّا الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا يوم القيامة".
{ومن يعمل} شيئاً {من الصالحات} فإن كل أحد لا يتمكن من كلها وليس مكلفاً بها وقوله تعالى : {من ذكر أو أنثى} في موضع الحال من المستكن في يعمل ومن للبيان أو من الصالحات أي : كائنة من ذكر أو أنثى ومن للابتداء وقوله تعالى : {وهو مؤمن} حال شرط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب المذكور تنبيهاً على أنه لا اعتداد بالعمل الصالح دون اقتران بها {فأولئك} أي : العالو الرتبة {يدخلون} أي : ندخلهم {الجنة} أي : الموصوفة {ولا يظلمون نقيراً} قدر نقرة النواة من ثواب أعمالهم وإن لم ينقص ثواب المطيع فبالحرى أن لا يزاد عقاب العاصي ؛ لأنّ المجازي هو أرحم الراحمين ، ولذلك اقتصر على ذكره عقب الثواب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة بضم الياء وفتح الخاء ، والباقون بفتح الياء وضم الخاء.
{ومن} أي : لا أحد {أحسن ديناً ممن أسلم وجهه} أي : انقاد وأخلص عمله {} فلا حركة ولا سكون إلا فيما يرضاه ، وفي هذا الاستفهام تنبيه على أنّ ذلك منتهى ما تبلغه القوّة البشرية {وهو} أي : والحال أنه {محسن} أي : مؤمن مراقب آت بالحسنات تارك للسيآت ، لأنه يعبد الله كأنه يراه ، وقد اشتملت هذه الكلمات العشر على الدين كله أصلاً وفرعاً مع الترغيب بالمدح
387
الكامل لمتبعه وإفهام الذمّ الكامل لغيره {واتبع ملة إبراهيم} أي : الموافقة لملة الإسلام وقوله تعالى : {حنيفاً} حال أي : مائلاً عن الأديان كلها إلى الدين القيّم {واتخذ إبراهيم خليلاً} أي : صفياً خالص المحبة له ، وإنما أعاد ذكره ، ولم يضمره تفخيماً له ، وتنصيصاً على أنه الممدوح ، والخلة من الخلال فإنه ودّ تخلل النفس وخالطها ، قال الزجاج : الخليل الذي ليس في محبته خلل ، والخلة الصداقة فسمي خليلاً ؛ لأن الله تعالى أحبه واصطفاه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 386
روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يسمى أبا الضيفان وكان منزله على ظهر الطريق يضيف من مر به من الناس فأصاب الناس سنة فحشروا إلى باب إبراهيم يطلبون الطعام وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي بمصر فقال خليله لغلمانه : لو كان إبراهيم يريده لنفسه لفعلت ولكن يريده للأضياف وقد أصباننا ما أصاب الناس من الشدّة ، فرجع غلمانه فمرّوا ببطحاء أي : بأرض ذات حصى فقالوا : لو أنا حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة فإنا نستحيي أن نمرّ بهم وإبلنا فارغة فملؤا تلك الغرائر ثم أتوا إبراهيم فلما أخبروه بذلك وسارة نائمة ساءه الخبر فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة وقد ارتفع النهار فقالت : سبحان الله ما جاء الغلمان قالوا : بلى فقامت إلى الغرائر ففتحتها فإذا هو أجود حوّاري أي : وهو بضم الحاء المهملة وتشديد الواو وفتح الراء ، الدقيق الذي نخل مرّة بعد أخرى ، فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناس ، فاستيقظ إبراهيم فوجد رائحة الخبز فقال : من أين هذا لكم ؟
فقالت : من خليلك المصري فقال : بل من عند خليلي الله عز وجل ، فسماه الله خليلاً.(1/268)
{و ما في السموات وما في الأرض} خلقاً وملكاً يفعل فيهما ما يشاء {وكان الله بكل شيء محيطاً} علماً وقدرة أي : ولم يزل متصفاً بذلك فمهما أراد كان في وعد وعيد للمطيع والعاصي لا يخفى عليه أحد منهم ولا يعجزه شيء.
{ويستفتونك} أي : يطلبون منك الفتوى {في} شأن {النساء} أي : في شأن اليتامى {قل الله يفتيكم} أي : يبين لكم حكمه {فيهن} والإفتاء تبيين المبهم {و} يفتيكم أيضاً في {ما يتلى عليكم في الكتاب} أي : القرآن من آية الميراث {في يتامى النساء} أي : في شأن اليتامى {اللاتي لاتؤتونهن ما كتب} أي : فرض {لهن} أي : من الميراث {وترغبون} أيها الأولياء {أن} أي : في أن أو عن أن {تنكحوهن} لجمالهن أو دمامتهن ، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : هي اليتيمة تكون في حجر الرجل وهو وليها فيرغب في نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال بأقل من سنة صداقها وإن كانت مرغوباً عنها في قلة المال والجمال تركها.
وفي رواية : هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله فيرغب عنها أن يتزوّجها لدمامتها ، ويكره أن يزوّجها غيره فيدخل عليه في ماله فيحبسها حتى تموت فيرثها ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك {و} يفتيكم في {المستضعفين} أي : الصغار {من الولدان} أي : أن تعطوهم حقوقهم ؛ لأن العرب كانوا لا يورثونهم كما لا يورثون النساء وقوله تعالى : {وأن تقوموا} في محل نصب بإضمار فعل أي : ويأمركم أن تقوموا {لليتامى} بالقسط أي : العدل من الميراث وغيره ، والخطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا حقهم أو للقوّام بالنصفة في شأنهم {وما تفعلوا من خير} أي : في ذلك أو غيره {فإن الله كان به عليماً} أي : فيجازيكم عليه فإنه أكرم الأكرمين فطيبوا نفساً وقرّوا عيناً ، قال سعيد بن جبير : كان رجل له امرأة قد كبرت وله منها أولاد فأراد أن يطلقها ويتزوّج غيرها فقالت له : لا تطلقني ودعني على ولدي واقسم لي من كل شهرين إن شئت وإن
388
شئت فلا تقسم لي فقال : إن كان يصلح ذلك فهو أحب إليّ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 386
{وإن امرأة} مرفوع بفعل يفسره {خافت} أي : توقعت {من بعلها} أي : زوجها {نشوزاً} أي : تجافياً عنها وترفعاً عن صحبتها كراهة لها ومنعاً لحقوقها {أو إعراضاً} بأن يقل محادثتها ومجالستها {فلا جناح عليهما} أي : الزوج والزوجة {أن يصلحا بينهما صلحاً} أي : في القسم والنفقة وهو أن يقول الزوج لها : إنك قد دخلت في السن وإني أريد أن أتزوّج امرأة شابة جميلة أوثرها عليك في القسم ليلاً ونهاراً فإن رضيتي بهذا فأقيمي وإن كرهت خليت سبيلك ، فإن رضيت كانت هي المحسنة ، ولا تجبر على ذلك وإن لم ترض بدون حقها كان على الزوج أن يوفيها حقها من القسم والنفقة ، أو يسرحها بإحسان ، فإن أمسكها ووفاها حقها مع كراهته فهو المحسن ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بضم الياء وسكون الصاد ولا ألف من أصلح بين المتنازعين ، والباقون بفتح الياء وفتح الصاد مع التشديد وألف بعدها وفتح اللام وفيه إدغام التاء في الأصل في الصاد ، وغلظ ورش اللام من يصالحا بخلاف عنه {والصلح} بأن يترك كل منهما حقه أو بعض حقه {خير} من الفرقة والنشوز والإعراض.
جزء : 1 رقم الصفحة : 389
كما "يروى أن سودة كانت امرأة كبيرة أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يفارقها فقالت : لا تطلقني وإنما بي أن أبعث في نسائك وقد جعلت نوبتي لعائشة فأمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقسم لعائشة يومها ويوم سودة" ثم بين سبحانه وتعالى ما جبل عليه الإنسان بقوله : {وأحضرت الأنفس الشح} أي :
389
جبلت عليه فكأنها حاضرة لا تغيب عنه ، فلا تكاد المرأة تسمح بالإعراض عنها والتقصير في حقها ولا بنفسه بأن يمسكها ويقوم بحقها على ما بنبغي إذ الزوج لا يكاد يسمح بنفسه إذا كرهها وخصوصاً إذا أحب غيرها ، والشح أقبح البخل وحقيقته الحرص على منع الخير {وإن تحسنوا} أي : في عشرة النساء وإن كنتم كارهين {وتتقوا} أي : النشوز والإعراض ونقص الحق {فإنّ الله كان} أزلاً وأبداً {بما تعملون} أي : من الإحسان والخصومة {خبيراً} أي : عليماً به وبالغرض منه فيجازيكم عليه.
{ولن تستطيعوا} أي : توجدوا من أنفسكم طواعية بالغة دائمة {إن تعدلوا} أي : تسووا بين {النساء} أي : في المحبة ؛ لأنّ العدل أن لا يقع ميل البتة وهو متعذر ، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول : "هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك" رواه أبو داود وغيره وصححه الحاكم {ولو حرصتم} على تحرّي ذلك وبالغتم فيه {فلا تميلوا} أي : إلى التي تحبونها {كل الميل} في القسم والنفقة فإنّ ما لا يدرك كله لا يترك كله {فتذروها} أي : تتركوا المرأة الممال عنها {كالمعلقة} أي : التي لا هي أيم ولا ذات بعل.(1/269)
وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم "من كان له امرأتان يميل إلى إحداهما جاء يوم القيامة وإحدى شقيه مائل" رواه أبو داود وغيره وصححه الحاكم.
وروي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه بعث إلى أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم بمال فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : إلى كل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث عمر مثل هذا قالوا : لا بعث إلى القرشيات بمثل هذا وإلى غيرهنّ بغيره فقالت : ارفع رأسك فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا في القسمة بماله ونفسه فرجع الرسول فأخبره فأتم لهنّ جميعاً ، وكان لمعاذ رضي الله تعالى عنه امرأتان فإذا كان عند إحداهما لم يتوضأ في بيت الأخرى فماتتا في الطاعون فدفنهما في قبر واحد {وإن تصلحوا} أي : ما كنتم تفسدون من أمورهنّ {وتتقوا} فيما يستقبل {فإنّ الله كان غفوراً} أي : لما في قلوبكم من الميل {رحيماً} بكم في ذلك وغيره فإنه أرحم الراحمين.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 389
وإن يتفرّقا} أي : يفترق كل من الزوجين من صاحبه بالطلاق {يغن الله كلاً} منهما عن الآخر ببدل بأن يرزقها زوجاً ويرزقه غيرها أو سلواً {من سعته} أي : من فضله وكرمه {وكان الله واسعاً} أي : واسع الفضل والرحمة بخلقه {حكيماً} أي : فيما دبره لهم ، وفي قوله تعالى :
{و ما في السموات وما في الأرض} أي : ملكاً وعبيداً تنبيه على كمال سعته وقدرته {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب} أي : جنس الكتب {من قبلكم} أي : اليهود والنصارى ومن قبلهم وقوله تعالى : {وإياكم} عطف على الذين وهو خطاب لأهل القرآن {أن اتقوا الله} أي : بأن اتقوا الله أي : خافوا عقابه بأن تطيعوه ، وقوله تعالى : {وإن تكفروا} أي : بما وصيتم به {فإنّ ما في السموات وما في الأرض} على إرادة القول. قال التفتازاني : لأنّ الجملة الشرطية لا تصح أن تقع بعد أن المصدرية فلا يصح عطفها على الواقع بعدها أي : وقلنا لهم ولكم إن تكفروا فإنّ الله مالك
390
الملك كله لا يتضرر بكفركم ومعاصيكم كما لا ينتفع بشكركم وتقواكم وإنما يوصيكم لرحمته لا لحاجته. ثم قرّر ذلك بقوله تعالى : {وكان الله غنياً} عن الخلق وعبادتهم {حميداً} في ذاته حمد أو لم يحمد.
{و ما في السموات وما في الأرض وكفى با وكيلاً} أي : شهيداً بأنّ ما فيهما له.
فإن قيل : ما فائدة تكرير لله ما في السموات وما في الأرض ؟
أجيب : بأنّ لكل واحدة منها وجهاً أمّا الأوّل : فمعناه لله ما في السموات وما في الأرض وهو يوصيكم بالتقوى فاقبلوا وصيته ، وأمّا الثاني : فمعناه لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنياً حميداً أي : هو الغنيّ المطلق فاطلبوا منه ما تطلبون فإنه لا ينفد ما عنده ، وأمّا الثالث : فمعناه لله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً ولا تتوكلوا على غيره فذكرت كل مرّة دليلاً على شيء غير الذي قبله ، وكررت ؛ لأنّ الدليل الواحد إذا كان دالاً على مدلولات يحسن أن يستدل به على كل واحد منها وإعادته مع كل واحد أولى من الاكتفاء بذكره مرّة واحدة ؛ لأنّ إعادته تحضر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول فيكون العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجل ، وفي ختم كل جملة بصفة من الصفات الحسنى تنبيه الذهن بها إلى أنّ هذا الدليل محتوٍ على أسرار شريفة ومطالب جليلة لا تنحصر ، فيجتهد السامع في التفكّر لإظهار الأسرار والاستدلال على صفات الكمال ؛ لأنّ الغرض الكلي من هذا الكتاب صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله إلى الاستغراق في معرفته سبحانه وتعالى ، وهذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 389
إن يشأ يذهبكم} أي : يفنكم {أيها الناس} كما أوجدكم {ويأت بآخرين} أي : ويوجد قوماً آخرين مكانكم أو خلقاً آخرين مكان الإنس {وكان الله على ذلك} أي : الإعدام والإيجاد {قديراً} أي : بليغ القدرة لا يمتنع عليه شيء أراده. وقيل : هذا خطاب لمن كان يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب إن يشأ يمتكم ويأت بناس آخرين يوالونه.
وروي أنه لما نزلت {إن يشأ يذهبكم} الآية ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهر سلمان وقال : "إنهم قوم هذا" أي : سلمان وهم بنو فارس.
{من كان يريد ثواب الدنيا} الخسيسة الفانية كالمجاهد يجاهد للغنيمة لقصور نظره على الخسيس الحاضر مع خسته كالبهائم {فعند الله ثواب الدنيا} الخسيسة الفانية {والآخرة} النفيسة الباقية لا عند غيره فما له يطلب الخسيس فليطلبهما منه كمن يقول : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، أو ليطلب الأشرف منهما فإنّ من غلب همته فأقبل بقلبه إليه وقصر همه عليه جمع له سبحانه وتعالى بينهما كمن يجاهد لله خالصاً يجمع له بين الآخرة والمغنم {وكان الله سميعاً} أي : بالغ السمع لكل قول وإن خفي {بصيراً} أي : بالغ البصر لكل ما يبصر وإن خفي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 389(1/270)
أي : قائمين قياماً بليغاً مواظباً عليه مجتهداً فيه {بالقسط} أي : بالعدل {شهداء } بالحق أي : تقيمون شهادتكم لوجه الله {ولو} كانت الشهادة {على أنفسكم} فاشهدوا عليها بأن تقرّوا بالحق ولا تكتموه {أو الوالدين والأقربين} أي : ولو كانت الشهادة على والديكم وأقاربكم {إن يكن} أي : المشهود عليه {غنياً} فلا تمنع الشهادة عليه لغناه
391
طلباً لرضاه {أو فقيراً} فلا تمنع ترحماً عليه {فا أولى بهما} أي : الغني والفقير وبالنظر لهما فلو لم تكن الشهادة لهما أو عليهما صلاحاً لما شرعها.
تنبيه : الضمير في (بهما) راجع إلى ما دلّ عليه المذكور وهو جنس الغني والفقير لا إليهما وإلا لوحد الضمير لكون العطف بأو ، فكأنه قال : فالله أولى بجنس الغني والفقير أي : بالأغنياء والفقراء {فلا تتبعوا الهوى} أي : في شهادتكم بأن تحابوا الغني لرضاه أو الفقير رحمة له {أن تعدلوا} أي : إرادة أن تعدلوا فقد بان لكم أن لا عدل في ذلك ، أو لئلا تعدلوا أي : تميلوا عن الحق {وإن تلووا} أي : ألسنتكم لتحرفوا الشهادة {أو تعرضوا} أي : عن أدائها {فإنّ الله كان بما تعملون خبيراً} فيجازيكم به. وقرأ ابن عامر وحمزة بضم اللام وحذف الواو الأولى ، والباقون بسكون اللام وواوين الأولى مضمومة.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 391
يأيها الذين آمنوا آمنوا} أي : داوموا على الإيمان {با ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله} محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن {والكتاب الذي أنزل من قبل} على الرسل بمعنى الكتب أي : آمنوا بجميع كتب الله المنزلة وقيل : إنّ الخطاب في ذلك لأهل الكتاب.
روي أنّ ابن سلام وأصحابه قالوا : يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ، ونكفر بما سواه ، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم "بل آمنوا بالله ورسوله محمد والقرآن وبكل كتاب كان قبله" فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضم النون من (نزل) ، وضم الهمزة من (أنزل) وكسر الزاي فيهما ، والباقون بفتح النون والهمزة وفتح الزاي فيهما {ومن يكفر با وملائكته وكتبه} التي أنزل على أنبيائه {ورسله} أي : من الملائكة والبشر {واليوم الآخر} أي : الذي أخبرت به رسله وهو يوم القيامة أي : ومن يكفر بشيء من ذلك {فقد ضل ضلالاً بعيداً} عن الحق بحيث لا يكاد يعود إليه ، وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار دال قد عند الضاد والباقون بالإدغام.
{إن الذين آمنوا} أي : بموسى وهم اليهود {ثم كفروا} حين عبدوا العجل {ثم آمنوا} بعد عود موسى إليهم {ثم كفروا} بعيسى {ثم ازدادوا كفراً} بمحمد صلى الله عليه وسلم {لم يكن الله ليغفر لهم} أي : ما داموا على هذه الحالة ؛ لأنه لا يغفر أن يشرك به {ولا ليهديهم سبيلاً} أي : طريقاً إلى الحق {بشر المنافقين} يا محمد {بأنّ لهم عذاباً أليماً} أي : مؤلماً هو النار.
تنبيه : وضع بشر مكان أنذر تهكماً بهم ، وقوله تعالى :
{الذين} بدل أو نعت للمنافقين {يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} لما يتوهمون فيهم من القوّة وقوله تعالى : {أيبتغون} أي : أيطلبون {عندهم العزة} استفهام إنكاري أي : لا يجدونها عندهم {فإن العزة جميعاً} في الدنيا والآخرة ولا ينالهما إلا أولياؤه قال الله تعالى : {و العزة ولرسوله وللمؤمنين} (المنافقون ، 8).
{وقد} أي : تتخذونهم والحال أنه قد {نزل عليكم} أي : أيتها الأمّة الصادقين منكم والمنافقين {في الكتاب} أي : القرآن في سورة الأنعام النازلة بمكة المشرفة النهي عن مجالستهم فضلاً عن ولايتهم {أن} أي : إنه فهي مخففة واسمها محذوف {إذا سمعتم آيات الله} أي : القرآن {يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم} أي : الكافرين والمستهزئين {حتى يخوضوا في حديث
392
غيره} أي : حتى يأخذوا في حديث غير ذلك ، قال الضحاك عن ابن عباس : دخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع إلى يوم القيامة ، وقرأ عاصم : (نزل) بفتح النون والزاي ، والباقون بضمّ النون وكسر الزاي {إنكم إذاً} أي : إن قعدتم معهم {مثلهم} أي : في الإثم ؛ لأنكم قادرون على الإعراض عنهم والإنكار عليهم أو الكفر إن رضيتم به ، وقيل : كان الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار هم المنافقون فقيل لهم : إنكم إذاً مثل الأحبار في الكفر ، ويدل عليه قوله تعالى : {إنّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً} أي : القاعدين والمقعود معهم كما اجتمعوا في الدنيا على الكفر والاستهزاء ، وقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 391(1/271)
{الذين} إمّا بدل من الذين قبله ، وإمّا صفة للمنافقين ، وإمّا نصب على الذم منهم {يتربصون} أي : ينتظرون وقوع أمر {بكم فإن كان لكم فتح من الله} أي : ظفر وغنيمة {قالوا} لكم {ألم نكن معكم} أي : في الدين والجهاد فاجعلوا لنا نصيباً من الغنيمة {وإن كان للكافرين نصيب} أي : من الظفر ، فإنّ الحرب سجال ، وعبر بنصيب تحقيراً لظفرهم بالنسبة لما حصل للمسلمين من الفتح {قالوا} لهم {ألم تستحوذ} أي : نستول {عليكم} ونقدر على أخذكم وقتلكم فأبقينا عليكم {ونمنعكم من المؤمنين} أي : من تسلطهم عليكم بما كنا نخادعهم به ونشيع فيهم من الإرجافات والأمور المرعبات الصارفة لهم عن كثير من المقاصد لتصديقهم لنا لإظهارنا الإيمان ، ومراد المنافقين بذلك إظهار المنة على الكافرين {فا يحكم بينكم} وبينهم {يوم القيامة} بأن يدخلكم الجنة ويدخلهم النار {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} أي : طريقاً بالاستئصال ، واحتج أصحابنا بهذه الآية عدلى فساد شراء الكافر العبد المسلم.
393
{إن المنافقين يخادعون الله} أي : بإظهارهم خلاف ما يبطنونه من الكفر ليدفعوا عنهم أحكامهم الدنيوية {وهو خادعهم} أي : مجازيهم على خداعهم فيفضحهم في الدنيا باطلاع نبيه على ما أبطنوه ويعاقبهم في الآخرة {وإذا قاموا إلى الصلاة} مع المؤمنين {قاموا كسالى} أي : متثاقلين كالمكرهين على الفعل {يراؤن الناس} بصلاتهم ليظنوهم مؤمنين {ولا يذكرون الله} أي : ولا يصلون {إلا قليلاً} أي : حين يتعين ذلك طريقاً لمخادعتهم ولا يصلون غائبين قط عن عيون الناس وما يجهرون به أيضاً إلا قليلاً ؛ لأنهم ما وجدوا مندوحة عن تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه ويجوز أن يراد بالقلة العدم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 393
فإن قيل : أما معنى المراآة وهي مفاعلة من الرؤية ؟
أجيب : بأنّ المرائي يريهم عمله وهم يرون استحسانه ، وقوله تعالى :
{مذبذبين} حال من واو يراؤن أي : مترددين {بين ذلك} أي : الكفر والإيمان {لا} منسوبين {إلى هؤلاء} أي : الكفار {ولا إلى هؤلاء} أي : المؤمنين {ومن يضلل الله} أي : يضله {فلن تجد له سبيلاً} أي : طريقاً إلى الهدى ونظيره قوله تعالى : {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} (النور ، 40)
{يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين} أي : المجاهرين بالكفر {أولياء من دون المؤمنين} فإنه صنيع المنافقين وديدنهم فلا تتشبهوا بهم {أتريدون أن تجعلوا عليكم} أي : بموالاتهم {سلطاناً} أي : دليلاً على كفركم باتباعهم غير سبيل المؤمنين {مبيناً} أي : واضحاً على نفاقكم.
{إنّ المنافقين في الدرك} أي : البطن {الأسفل من النار} أي : لأنّ ذلك أخفى ما في النار وأستره وأخبثه كما أنّ كفرهم أخفى الكفر وأخبثه وأستره وسميت طبقات النار دركات ؛ لأنها متداركة متتابعة إلى أسفل كما إنّ الدرج متراقية إلى فوق.
فإن قيل : لم كان المنافق أشدّ عذاباً من الكافر ؟
أجيب : بأنِه مثله في الكفر وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون الراء والباقون بفتحها {ولن تجد لهم نصيراً} أي : مانعاً يمنعهم من عذاب الله تعالى فيخرجهم {إلا الذين تابوا} أي : رجعوا عما كانوا عليه من النفاق {وأصلحوا} أي : أعمالهم {واعتصموا} أي : وثقوا {با وأخلصوا دينهم } من الرياء فلا يريدون بطاعتهم إلا وجهه تعالى {فأولئك مع المؤمنين} في الجنة {وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً} فيشاركونهم ويساهمونهم.
فإن قيل : من المنافق ؟
أجيب : بأنه في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر ، وأمّا تسمية من ارتكب ما يفسق به منافقاً فللتغليظ كقوله صلى الله عليه وسلم "من ترك الصلاة متعمّداً فهو كافر" ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان" وقيل لحذيفة رضي الله تعالى عنه : من المنافق ؟
قال : الذي يصف الإسلام ولا يعمل به ، وقيل لابن عمر رضي الله تعالى عنهما : ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه فقال : كنا نعده من النفاق.
فائدة : اتفق كتاب المصاحف على حذف الياء من {يؤت الله} ولا سبب لحذفها.
394
{ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم} نعماءه {وآمنتم به} أي : لينفي به غيظاً أو يدفع ضراً أو يستجلب به نفعاً ، وهو الغنيّ المطلق المتعالي عن النفع والضرّ ، والاستفهام بمعنى النفي أي : لا يعذبكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 393
فإن قيل : لم قدم الشكر على الإيمان مع أنه لا ينفع مع عدم الإيمان ؟
أجيب : بأنّ الناظر يدرك النعمة أوّلاً فيشكر شكراً مبهماً فإذا انتهى إلى معرفة المنعم آمن به ، ثم شكر شكراً مفصلاً ، فكان الشكر متقدّماً على الإيمان ، وكأنه أصل التكليف ومداره فيؤمن به ، والشكر ضدّ الكفر ، فالكفر ستر النعمة ، والشكر إظهارها {وكان الله شاكراً} لأعمال المؤمنين بالإثابة يقبل اليسير ويعطي الجزيل {عليماً} بخلقه.(1/272)
جزء : 1 رقم الصفحة : 393
فإن قيل : لم قدم الشكر على الإيمان مع أنه لا ينفع مع عدم الإيمان ؟
أجيب : بأنّ الناظر يدرك النعمة أوّلاً فيشكر شكراً مبهماً فإذا انتهى إلى معرفة المنعم آمن به ، ثم شكر شكراً مفصلاً ، فكان الشكر متقدّماً على الإيمان ، وكأنه أصل التكليف ومداره فيؤمن به ، والشكر ضدّ الكفر ، فالكفر ستر النعمة ، والشكر إظهارها {وكان الله شاكراً} لأعمال المؤمنين بالإثابة يقبل اليسير ويعطي الجزيل {عليماً} بخلقه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 393
{لا يحب الله الجهر بالسوء} أي : القبيح {من القول} من أحد أي : يعاقب عليه {إلا من} أي : جهر من {ظلم} وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما هو فيه من السوء فلا يؤاخذ به قال الله تعالى : {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} (الشورى ، 41)
قال الحسن البصري : دعاؤه عليه أن يقول : اللهمّ أعني عليه اللهمّ استخرج حقي منه ، وقيل : إن شئتم أجاز له أن يشتم بمثله لا يزيد عليه ، وقال مجاهد : هذا في الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه ولم يحسنوا ضيافته فله أن يشكو ويذكر ما صنع به.
روي أنّ رجلاً أضاف قوماً أي : نزل بهم ضيفاً فلم يطعموه فأصبح شاكياً فعوتب على الشكاية فنزلت ، وعن عقبة بن عامر قال : قلنا يا رسول الله ، إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا فما ترى ؟
فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا ، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم" {وكان الله سميعاً} لكل ما يقال ومنه دعاء المظلوم {عليماً} بكل ما يفعل ومنه فعل الظالم.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 395
إن تبدوا} أي : تظهروا {خيراً} من أعمال البرّ {أو تخفوه} أي : تعملوه سراً {أو تعفوا عن سوء} أي : عن مظلمة {فإن الله كان} أي : دائماً أزلاً وأبداً {عفوّاً قديراً} أي : يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على الانتقام فأنتم أولى بذلك وهو حث للمظلوم على تمهيد العفو بعدما رخص له في الانتصار حملاً على مكارم الأخلاق وقوله تعالى :
{إنّ الذين يكفرون با ورسله} نزل في اليهود وذلك أنهم آمنوا بموسى والتوراة وعزير وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن {ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله} بأن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله {ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض} أي : نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعضهم {ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً} أي : طريقاً وسطاً بين اليهودية والإسلام ، ولا واسطة إذ الحق لا يختلف ، فإنّ الإيمان بالله إنما يتم بالإيمان برسله وتصديقهم فيما بلغوا عنه تفصيلاً وإجمالاً ، والكفر ببعض ذلك كالكافر بالكل في الضلال قال تعالى : {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (يونس/ 32).
{أولئك هم الكافرون} أي : الكاملون في الكفر وقوله تعالى : {حقاً} مصدر مؤكداً لمضمون الجملة قبله {وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً} أي : ذا إهانة وهو عذاب النار.
395
ولما بين سبحانه وتعالى ما أعده للكافرين بين ما أعده للمؤمنين بقوله تعالى :
{والذين آمنوا با ورسله} كلهم {ولم يفرّقوا بين أحد منهم} بأن كفروا ببعض وآمنوا ببعض كما فعل الأشقياء منهم وإنما أدخل بين على أحد وهو يقتضي متعدّداً لعمومه من حيث إنه وقع في سياق النفي {أولئك} أي : العالو الرتبة في رتب السعادة {سوف نؤتيهم} بوعد لا خلف فيه وإن تأخر {أجورهم} الموعودة لهم بإيمانهم بالله وكتبه ورسله ، وقرأ حفص بالياء على الغيبة ، والباقون بالنون {وكان الله غفوراً} لما يريد من الزلات {رحيماً} أي : لمن يريد إسعاده بالجنات ، ونزل لما قال أحبار اليهود للنبيّ صلى الله عليه وسلم إن كنت نبياً فأتنا بكتاب جملة من السماء كما أتى به موسى.(1/273)
{يسئلك} يا محمد {أهل الكتاب} أي : أحبار اليهود {أن تنزل عليهم كتاباً من السماء} جملة كما أنزل على موسى وقيل : كتاباً محرزاً أي : مجلداً مصوناً بخط سماوي على ألواح كما كانت التوراة ، وقيل : كتاباً نعاينه حين ينزل أو كتاباً إلينا بأعياننا بأنك رسول الله قالوا ذلك تعنتاً ، قال الحسن : لو سألوا لكي يتبينوا الحق لأعطاهم وفيما آتاهم كفاية. وقوله تعالى : {فقد سألوا} أي : آباؤهم {موسى} جواب شرط مقدّر معناه : إنك إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى {أكبر} أي : أعظم {من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة} أي : عياناً وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى عليه الصلاة والسلام وهم النقباء السبعون ؛ لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومضاهين لهم في التعنت {فأخذتهم الصاعقة} أي : عقب هذا السؤال ، وهي نار جاءت من السماء فأهلكتهم {بظلمهم} أي : بسببه وهو تعنتهم وسؤالهم لما يستحيل في تلك الحال التي كانوا عليها وذلك لا يقتضي امتناع الرؤية مطلقاً {ثم} بعد العفو عنهم وإحيائهم من إماتة هذه الصاعقة {اتخذوا العجل} أي : تكلفوا أخذه وجعلوه إلهاً {من بعدما جاءتهم البينات} المعجزات على وحدانية الله تعالى ، وليس المراد التوراة ؛ لأنها لم تأتهم فيما مضى بل أتتهم بعد {فعفونا عن ذلك} أي : الذنب العظيم بتوبتنا عليهم من غير استئصالهم {وآتينا موسى سلطاناً} تسليطاً واستيلاءً {مبيناً} أي : ظاهراً ، فإنه أمرهم بقتل أنفسهم توبة من عبادة العجل فبادروا إلى الامتثال.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 395
ورفعنا فوقهم الطور} أي : الجبل العظيم {بميثاقهم} أي : بسبب أخذ الميثاق عليهم ليخافوا فيقبلوه {وقلنا لهم} على لسان موسى صلى الله عليه وسلم والطور مظلل عليهم {ادخلوا الباب} أي : الذي لبيت المقدس {سجداً} أي : سجود انحناء {وقلنا لهم} أي : على لسان داود {لا تعدوا} أي : لا تتجاوزوا ما حددناه لكم {في السبت} أي : لا تعملوا فيه عملاً من الأعمال تسمية للشيء باسم سببه سمي عدواً ؛ لأنّ العامل للشيء يكون لشدّة إقباله عليه كأنه يعدو ، ويحتمل أن يكون ذلك على لسان موسى حين ظلل عليهم الجبل ، فإنه شرع السبت أي : ترك العمل فيه ولكن كان الاعتداء في السبت ، والمسخ به في زمن داود. وقرأ ورش بفتح العين مع تشديد الدال وقرأ قالون باختلاس حركة العين مع تشديد الدال ، والباقون بسكون العين وتخفيف الدال ، {وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً} على ذلك وهو قولهم سمعناه وأطعنا ، ومعاهدتهم على أن يقيموا عليه ، ثم نقضوه بعد ، كما قال تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 395
396
أي : فبنقضهم وما مزيدة للتوكيد ، والباء للسببية متعلقة بمحذوف أي : لعناهم بسبب نقضهم {ميثاقهم وكفرهم بآيات الله} أي : القرآن أو بما في كتابهم {وقتلهم الأنبياء بغير حق} فإنهم معصومون من كل نقيصة ومبرؤن من كل ريبة لا يتوجه عليهم حق {وقولهم قلوبنا غلف} أي : أوعية للعلوم أو في أكنة مما تدعونا إليه فلا نعي كلامك {بل طبع الله} أي : ختم {عليها بكفرهم} فلا تعي وعظاً {فلا يؤمنون إلا قليلاً} منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه أو إيماناً قليلاً لا عبرة به بأن يؤمنوا وقتاً يسيراً كوجه النهار ويكفروا في غيره ، ويؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض ، وقوله تعالى :
{وبكفرهم} معطوف على (فبما نقضهم) ويجوز عطفه على (بكفرهم) وقد تكرر منهم الكفر ؛ لأنهم كفروا بموسى ، ثم بعيسى ، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فعطف بعض كفرهم على بعض وكرر الباء للفصل بينه وبين ما عطف عليه {وقولهم على مريم} أي : بعدما ظهر على يديها من الكرامات الدالة على براءتها وإنها ملازمة للعبادة بأنواع الطاعات {بهتاناً عظيماً} وهو نسبتها إلى الزنا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 396
فإن قيل : كان مقتضى الظاهر أن يقول : في مريم. أجيب : بأنه ضمن القول معنى الافتراء وهو يتعدّى بعلى.
{وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله} أي : بمجموع ذلك عذبناهم.
فإن قيل : كانوا كافرين بعيسى أعداء له عامدين لقتله يسمونه الساحر بن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فكيف قالوا : إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله ؟
أجيب : بأنهم قالوه بزعم عيسى عندهم أو إنهم قالوه على وجه الاستهزاء كقول فرعون : {إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} (الشعراء ، 27)
قال الزمخشري : ويجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية
397
عنهم رفعاً لعيسى عليه الصلاة والسلام عما كانوا يذكرونه به اه.
قال الله تعالى تكذيباً لهم في قتله {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} أي : المقتول والمصلوب.(1/274)
روى النسائي عن ابن عباس : "أنّ رهطاً من اليهود سبوه وسبوا أمّه فدعا عليهم فمسخهم الله قردة وخنازير فاجتمعت اليهود على قتله فأخبره الله تعالى بأنه يرفعه إلى السماء ويطهره من صحبة اليهود فقال لأصحابه : أيكم يرضى أن يلقى الله عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة ؟
فقال رجل منهم : أنا فألقى الله عليه شبهه فقتل وصلب". وقيل : كان رجلاً ينافق عيسى أي : يظهر له الإسلام ويخفي الكفر فلما أرادوا قتله قال : أنا أدلكم عليه فدخل في بيت عيسى فرفع عيسى عليه الصلاة والسلام ، وألقى الله شبهه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى.
وقيل : إنهم حبسوا عيسى عليه الصلاة والسلام في بيت وجعلوا عليه رقيباً فألقى الله شبه عيسى على الرقيب فقتلوه ، {وإنّ الذين اختلفوا فيه} أي : في شأن عيسى ، فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس ، فقال بعض اليهود : إنه كان كاذباً فقتلناه حقاً ، وتردد آخرون ، وقال بعضهم : إن كان هذا عيسى ، فأين صاحبنا ؟
وقال بعضهم : الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا ، وكان الله ألقى شبه وجه عيسى عليه ولم يلق على جسده ، وقال : من سمع من عيسى إنّ الله يرفعني إلى السماء إنه رفعه إلى السماء : وقال قوم : صلب الناسوت أي : الإنسانية وصعد اللاهوت أي : الألوهية {لفي شك منه} أي : من قتله {ما لهم به} أي : بقتله {من علم} وقوله تعالى : {إلا إتباع الظن} استثناء منقطع أي : لكن يتبعون فيه الظنّ الذي تخيلوه.
فإن قيل : قد وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح أحد الجائزين ثم وصفوا بالظنّ والظنّ أن يترجح أحدهما ، فكيف يكونون شاكين ظانين ؟
أجيب : بأنّ الشك كما يطلق على ما لا يترجح أحد طرفيه يطلق على مطلق التردّد وعلى ما يقابل العلم فيشمل الاعتقاد {وما قتلوه} أي : انتفى قتلهم له انتفاء {يقيناً} أي : انتفاؤه على سبيل القطع ويجوز أن يكون حالاً من واو قتلوه أي : ما فعلوا القتل متيقنين أنه عيسى عليه الصلاة والسلام بل فعلوه شاكين ، فيه والحق إنهم لم يقتلوا إلا الرجل الذي ألقى عليه شبهه. قال البقاعي : والوجه الأوّل أولى لقوله تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 396
بل رفعه الله إليه} أي : إلى مكان لا يصل إليه حكم آدمي ، وعن وهب : إنه أوحي إليه وهو ابن ثلاثين سنة ورفع وهو ابن ثلاث وثلاثين ، فكانت رسالته ثلاث سنين {وكان الله عزيزاً} أي : في ملكه لا يغلب عما يريد {حكيماً} في صنعه لا يطمع أحد في نقص شيء منه.
{وإن من أهل الكتاب} أي : وما من أهل الكتاب أحد {إلا ليؤمنن به} أي : بعيسى عليه الصلاة والسلام هذا قول أكثر المفسرين وأهل العلم {قبل موته} اختلف في عود هذا الضمير ، فقال عكرمة ومجاهد والضحاك : يعود للكتابي أي : إنّ الكتابي يؤمن بعيسى حين يعاين ملائكة الموت فلا ينفعه إيمانه سواء احترق أو غرق أو تردى أو سقط عليه جدار أو أكله سبع أو مات فجأة ، فقيل لابن عباس : أرأيت من خرّ من فوق بيت ؟
فقال : يتكلم به في الهوي ، فقيل : أرأيت إن ضرب عنق أحدهم ؟
قال : يتلجلج بها لسانه ، وذهب قوم إلى عود الضمير إلى عيسى أي : وما من
398
أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى ، وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان ، فلا يبقى أحد إلا آمن به حتى تكون الملة واحدة ملة الإسلام.
روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يوشك أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً عدلاً يكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ، ويقتل الدجال فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون".
قال أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم {وإن من أهل الكتاب} الآية ثم أعادها أبو هريرة ثلاث مرّات ولا يعارض هذا ما في مسلم في قصة الدجال إنّ الله يبعث عيسى بن مريم فيطلبه فيهلكه ، ثم يلبث الناس بعده سبع سنين ليس بين إثنين عداوة ؛ لأنّ قوله : ثم يلبث الناس بعده أي : بعد موته فلا معارضة ، أو لأنّ السبع محمول على مدّة إقامته بعد نزوله ويكون ذلك مضافاً إلى مكثه فيها قبل رفعه إلى السماء وكان عمره إذ ذاك ثلاثاً وثلاثين سنة على المشهور.
وروى عكرمة : إن الهاء في قوله تعالى : {ليؤمنن به} كناية عن محمد صلى الله عليه وسلم يقول : لا يموت كتابي حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل : الهاء راجعة إلى الله عز وجل يقول : وإنّ من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالله عز وجل قبل موته عند المعاينة حين لا ينفعه إيمانه {ويوم القيامة يكون} أي : عيسى على القول الأوّل {عليهم شهيداً} إنه قد بلغهم رسالة ربه وأقرّ بالعبودية على نفسه كما قال تعالى مخبراً عنه : {وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم} (المائدة/ 117). وكل نبيّ شاهد على أمّته قال تعالى : {فكيف إذا جئنا من كل أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} (النساء ، 41).
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 396(1/275)
فيظلم من الذين هادوا} وهو ما تقدّم ذكره من نقضهم الميثاق وبكفرهم بآيات الله وبهتانهم على مريم ، وقولهم : {إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم} (النساء ، 157)
{حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم} أي : كان وقع إحلالها لهم في التوراة ، ثم حرّمت عليهم وهي التي في قوله تعالى في سورة الأنعام : {وعلى الذين هادوا حرّمنا كل ذي ظفر} (الأنعام ، 146)
الآية {وبصدّهم} أي : الناس {عن سبيل الله} أي : دينه ، وقوله تعالى : {كثيراً} صفة مصدر محذوف أي : صدّاً كثيراً بالإضلال عن الطريق ، فمنعوا مستلذات تلك المآكل بما منعوا أنفسهم وغيرهم من لذاذة الإيمان.
{وأخذهم الربا وقد} أي : والحال إنهم قد {نهوا عنه} في التوراة ، فكان محرماً عليهم كما هو محرّم علينا ؛ لأنه قبيح في نفسه مزر بصاحبه ، وفي الآية دليل على أنّ النهي للتحريم {وأكلهم أموال الناس بالباطل} أي : من الرشا في الحكم والمآكل أي : التي كانوا يصيبونها من عوامهم عاقبناهم بأن حرمنا عليهم طيبات ، فكانوا كلما ارتكبوا كبيرة حرّم عليهم شيء من الطيبات التي كانت حلالاً لهم قال تعالى : {ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون} (الأنعام ، 146)
{وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً} أي : مؤلماً دون من تاب وآمن.
ولما بين سبحانه وتعالى ما للمطبوع على قلوبهم الغريقين في الكفر من العقاب بين ما لنيري البصائر بالرسوخ في العلم والإيمان من الثواب فقال :
{لكن الراسخون} أي : الثابتون المتمكنون {في العلم منهم} أي : من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه {والمؤمنون} أي : من
399
المهاجرين والأنصار {يؤمنون بما أنزل إليك} أي : القرآن {وما أنزل من قبلك} أي : من سائر الكتب المنزلة وقوله تعالى : {والمقيمين الصلاة} نصب على المدح ؛ لأنّ الصلاة لما كانت أعظم دعائم الدين ولذلك كانت ناهية عن الفحشاء والمنكر نصبت على المدح من بين هذه المرفوعات إظهاراً لفضلها.
وحكي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وأبان بن عثمان أنّ ذلك غلط من الكاتب ينبغي أن يكتب والمقيمون الصلاة ، وكذلك قوله في سورة المائدة : {إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى} وقوله تعالى : {إنّ هذان لساحران} (طه ، 63)
قالا : ذلك خطأ من الكاتب ، وقال عثمان : إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها ، فقيل له : ألا تغيره فقال : دعوه فإنه لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً وعامّة الصحابة وأهل العلم على إنه صحيح كما قدّمناه ، وقيل : نصب بإضمار فعل تقديره : أعني المقيمين الصلاة ، وقوله تعالى : {والمؤتون الزكاة والمؤمنون با واليوم الآخر} رجوع إلى النسق الأوّل {أولئك سنؤتيهم} بوعد لا خلف فيه على جمعهم بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح {أجراً عظيماً} وهو الجنة والنظر إلى وجهه الكريم ، وقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 396
{إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ، واحتجاج عليهم بأنّ شأنه في الوحي إليه كشأن سائر الأنبياء الذين سلفوا ، وبدأ بذكر نوح عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه كان أبا البشر مثل آدم عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى : {وجعلنا ذريته هم الباقين} (الصافات ، 77)
؛ ولأنه أوّل نبيّ من أنبياء الشريعة وأول نذير على الشرك وأوّل من عذبت أمته لردهم دعوته ، وأهلك أهل الأرض بدعائه ، وكان أطول الأنبياء عمراً ، وجعلت معجزته في نفسه ؛ لأنه عمر ألف سنة فلم ينقص له سن ولم يشب له شعرة ولم تنقص له قوّة ولم يصبر أحد على أذى قومه ما صبر هو على طول عمره {و} كما {أوحينا إلى إبراهيم وإسمعيل وإسحق} بني إبراهيم {ويعقوب} بن إسحق {والأسباط} أولاد يعقوب وظاهر هذا أنهم كلهم أنبياء وهو أحد قوليه ، والقول الآخر : أن يوسف هو النبي فقط وعلى هذا فالمراد المجموع {وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا} أباه {داود زبوراً} قرأ حمزة بضم الزاي مصدر بمعنى مزبوراً أي : مكتوباً ، والباقون بالنصب على إنه إسم للكتاب المؤتى ، وكان فيه التحميد والتمجيد والثناء على الله عز وجلّ.
جزء : 1 رقم الصفحة : 400
كان داود يبرز إلى البرية فيقوم ويقرأ الزبور ويقوم معه علماء بني إسرائيل ، فيقومون خلفه ، ويقوم الناس خلف العلماء ، ويقوم الجن خلف الناس الأعظم فالأعظم ، والشياطين خلف الجن ، وتجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين يديه تعجباً لما يسمعن منه ، والطير ترفرف على رؤوسهم ، فلما قارف الذنب لم ير ذلك فقيل له : ذاك أنس الطاعة وهذا وحشة المعصية ، قال السيوطي في شرح التنبيه : إنّ الزبور مئة وخمسون سورة ما بين قصار وطوال ، والطويلة منها قدر ربع حزب ، والقصيرة قدر سورة النصر اه.(1/276)
وعن أبي موسى قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو رأيتني البارحة وأنا أسمع لقراءتك لقد أعطيت مزماراً من مزامير داود" وكان عمر إذا رآه قال : ذكرنا يا أبا موسى فيقرأ عنده ، وإنما
400
خص هؤلاء بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تعظيماً لهم ، وقوله تعالى : {ورسلاً} أي : غير هؤلاء نصب بمضمر دل عليه أوحينا إليك مثل أرسلنا {قد قصصناهم} أي : تلونا ذكرهم {عليك من قبل} أي : قبل إنزال هذه السورة أو هذه الآية {ورسلاً لم نقصصهم عليك} أي : إلى الآن.
روي أنه سبحانه وتعالى بعث ثمانية آلاف نبيّ : أربعة آلاف من بني إسرائيل وأربعة آلاف من سائر الناس ، قاله الجلال المحلي في سورة غافر ، وقوله تعالى : {وكلم الله موسى تكليماً} هو منتهى مراتب الوحي أي : كلمه على التدريج شيئاً فشيئاً بحسب المصالح بغير واسطة ملك ، فلا فرق في الوحي بين ما كان بواسطة وبين ما كان بلا واسطة وخص به موسى من بين سائر الأنبياء غير نبينا ، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد فضله الله بأن أعطاه مثل ما أعطى كل واحد منهم وقوله تعالى :
{رسلاً} بدل من رسلاً قبله {مبشرين} أي : بالثواب من آمن {ومنذرين} أي : مخوّفين بالعذاب من كفر وقوله تعالى : {لئلا يكون للناس على الله حجة} متعلق بأرسلنا أو بمبشرين ومنذرين أي : حجة فقال : {بعد} إرسال {الرسل} فيقولوا : ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ، فبعثناهم لقطع عذرهم.
فإن قيل : كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله تعالى من الأدلة التي النظر فيها يوصل إلى المعرفة ؟
أجيب : بأنّ الرسل ينبهون عن الغفلة وباعثون على النظر في الأدلة فإرسالهم ضروري {وكان الله عزيزاً} في ملكه لا يغلب فيما يريده {حكيماً} في صنعه.
روي أن سعد بن عبادة قال : لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أتعجبون من غيرة سعد والله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحبّ إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ولا أحد أحبّ إليه المدحة من الله ومن أجل ذلك وعد بالجنة" ، قال ابن عباس : إن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد إنا سألنا عنك اليهود وعن صفتك في كتابهم ، فزعموا أنهم لا يعرفونك ، ودخل عليهم جماعة من اليهود فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم "والله إنكم لتعلمون أني رسول الله" فقالوا : والله ما نعلم ذلك أنزل الله عز وجل :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 400
لكن الله يشهد} أي : يبيّن نبوّتك {بما أنزل إليك} أي : من القرآن المعجز الدال على نبوّتك إن جحدوك وكذبوك {أنزله} متلبساً {بعلمه} الخاص به وهو العلم بتأليفه على نظم يعجز عنه كل بليغ.
وروي أنه لما نزل {إنا أوحينا إليك} قالوا : ما نشهد لك فنزلت {والملائكة يشهدون} لك أيضاً {وكفى با شهيداً} على ذلك بما قام من الحجج على صحة نبوّتك عن الاستشهاد بغيره {إنّ الذين كفروا وصدوا} الناس {عن سبيل الله} أي : دين الإسلام بكتمهم دين محمد صلى الله عليه وسلم وهم اليهود {قد ضلوا ضلالاً بعيداً} عن الحق ؛ لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال ، ولأنّ المضل يكون أعرق في الضلال وأبعد من الانقلاع عنه.
{إنّ الذين كفروا} بالله {وظلموا} نبيه بكتمان نعته {لم يكن الله ليغفر لهم} لكفرهم وظلمهم {ولا ليديهم طريقاً} من الطرق.
401
{إلا طريق جهنم} أي : الطريق المؤدي إليها {خالدين} أي : مقدرين الخلود {فيها} إذا دخلوها وأكد ذلك بقوله : {أبداً} لأنّ الله لا يغفر أن يشرك به {وكان ذلك على الله يسيراً} أي : هيّناً لا يصعب عليه ولا يستعظمه.
{يأيها الناس قد جاءكم الرسول} محمد صلى الله عليه وسلم {بالحق من ربكم} لما قرّر من أمر النبوّة وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ووعيد من أنكرها خاطب الناس عامة بالدعوة وإلزام الحجة والوعد بالإجابة والوعيد على الرد {فآمنوا} بالله وقوله تعالى : {خيراً لكم} وكذلك قوله تعالى فيما يأتي {انتهوا خيراً لكم} (النساء ، 171)
منصوب بمضمر وذلك إنه لما بعثهم على الإيمان وعلى الانتهاء عن التثليث علم أنه يحملهم على أمر فقال خيراً لكم أي : اقصدوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث ، وهو الإيمان والتوحيد ، وقيل : تقديره يكن الإيمان خيراً لكم. قال البيضاوي : ومنعه البصريون ؛ لأنّ كان لا يحذف مع اسمه إلا فيما لا بدّ منه ، ولأنه يؤدي إلى حذف الشرط وجوابه اه.
{وإن تكفروا} بالله {فإنّ ما في السموات والأرض} ملكاً وخلقاً ، فهو غني عنكم فلا يضره كفركم كما لا ينفعه إيمانكم ، ونبّه على غناه بقوله تعالى : {ما في السموات والأرض} وهو يعم ما اشتملتا عليه وما تركبتا منه {وكان الله عليماً} بأحوالكم {حكيماً} أي : فيما دبره لهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 400(1/277)
{يا أهل الكتاب لا تغلوا} أي : تجاوزوا الحد {في دينكم} الخطاب للفريقين غلت اليهود في حط عيسى حتى رموه بالزنا ، والنصارى في رفعه حتى اتخذوه إلهاً ، وقيل : للنصارى خاصة ، والمراد بالكتاب الإنجيل ، فإنه أوفق لقوله تعالى : {ولا تقولوا على الله إلا} القول {الحق} أي : من تنزيهه عن الشريك والولد {إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها} أي : أوصلها {إلى مريم} وجعلها فيها {وروح} أي : ذو روح {منه} لا بتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادّة له ، وسمى عيسى كلمة الله وكلمة منه ؛ لأنه وجد بكلمته وأمره لا غير من غير واسطة أب ولا نطفة ، وقيل له : روح الله وروح منه ؛ لأنه ذو روح وجسد من غير جزء من ذي روح كالنطفة المنفصلة من الأب الحيّ ، وإنما اخترع اختراعاً من عند الله وقدرته بأن أمر جبريل ، فنفخ
402
في جيب درعها ، فحملت به فأضيف إلى الله تعالى تشريفاً له ، وليس كما زعمتم أنه ابن الله ، أو إله معه ، أو ثالث ثلاثة ؛ لأنّ الروح مركب ، والإله منزه عن التركيب وعن نسبة المركب إليه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 402
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وأنّ عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" {فآمنوا با ورسله} أي : عيسى وغيره ولا تؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض {ولا تقولوا} كما قالت النصارى : الآلهة {ثلاثة} الله وعيسى وأمه ، قال تعالى : {انتهوا} عن ذلك وائتوا {خيراً لكم} من ذلك وهو التوحيد {إنما الله إله واحد} أي : لا تعدّد فيه بوجه مّا {سبحانه} تنزيهاً له {أن} أي : عن أن {يكون له ولد} أي : كما قلتم أيها النصارى ، فإنّ ذلك يقتضي الحاجة ويقتضي التركيب والمجانسة ، ثم علل ذلك بقوله : {له ما في السموات وما في الأرض} خلقاً وملكاً ، فلا يتصوّر أن يحتاج إلى شيء منهما ، ولا إلى شيء متحيّز فيهما ، ولا يصح بوجه أن يكون بعض ما يملكه المالك جزأ منه وولداً له ؛ لأنّ المكية تنافي البنوة ، وعيسى وأمه كل منهما محتاج إلى ما في الوجود {وكفى با وكيلاً} أي : يحتاج إليه كل شيء ولا يحتاج هو إلى شيء ، فهو غني عن الولد ، فإنّ الحاجة إليه ليكون وكيلاً لأبيه ، والله سبحانه وتعالى قائم بحفظ الأشياء كافٍ في ذلك مستغن عمن يخلفه أو يعينه.
روي أنّ وفد نجران قالوا : يا رسول الله لم تعيب صاحبنا ؟
قال : "ومن صاحبكم ؟
" قالوا : عيسى قال : "وأيّ شيء أقول ؟
" قالوا : تقول إنه عبد الله قال : "إنه ليس بعار أن يكون عبداً لله" قالوا : بلى ، فنزل قوله تعالى :
{لن يستنكف}" أي : يتكبر ويأنف {المسيح} أي : الذي زعمتم إنه إله {أن} أي : عن أن {يكون عبد الله} فإنّ عبوديته له شرف يتباهى به وإنما المذلة والاستنكاف في عبودية غيره وقوله تعالى : {ولا الملائكة المقرّبون} أي : عند الله عطف على المسيح أي : ولا تستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيداً لله ، وهذا من أحسن الاستطراد ذكر للرد على من زعم إنها آلهة أو بنات الله كما ردّ بما قبله على النصارى الزاعمين ذلك المقصود خطابهم ، فلا حجة فيه على أن الملائكة أفضل من الأنبياء كما زعمه بعض المعتزلة قائلاً بأنّ المعطوف أعلى درجة من المعطوف عليه.
قال الطيبي : وإنما تنهض الحجة على النصارى إذا سلموا أن الملائكة أفضل من عيسى ودونه خرط القتاد ، فكيف والنصارى رفعوا درجة عيسى إلى الإلهية ، فظهر أن ذكر الملائكة للاستطراد كما ردّ على النصارى وأنه من باب التتميم لا من باب الترقي اه. أو من باب الترقي في الخلق لا في المخلوق كما قاله البقاعي ، قال : لأن الملائكة أعجب خلقاً من عيسى في كونهم ليسوا من ذكر ولا أنثى ، ولا ما يجانس عضو البشر فكانوا لذلك أعجب خلقاً من آدم عليه الصلاة والسلام أيضاً أو في القوّة ؛ لأنهم أقوى من عيسى ؛ لأنهم يقتلعون الجبال ويأتون بالمياه العظيمة والعبادات الدائمة المستمرّة {ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر} أي : يطلب الكبر عن ذلك قال الراغب : الاستنكاف تكبر في أنفة والاستكبار بخلافه {فسيحشرهم} أي : المستكبرين وغيرهم {إليه جميعاً} في الآخرة بوعد لا يخلف فيجازيهم.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 402
فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} تصديقاً لإقرارهم بالإيمان {فيوفيهم أجورهم} أي :
403
ثواب أعمالهم {ويزيدهم من فضله} أي : ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {وأما الذين استنكفوا واستكبروا} عن عبادته {فيعذبهم عذاباً أليماً} أي : مؤلماً هو عذاب النار بما وجدوا من لذاذة الترفع والتكبر {ولا يجدون لهم} أي : حالاً ولا مآلاً {من دون الله} أي : غيره {ولياً} يدفعه عنهم {ولا نصيراً} يمنعهم منه.(1/278)
{يأيها الناس} أي : كافة أهل الكتاب وغيرهم {قد جاءكم برهان من ربكم} أي : حجة نيرة واضحة مفيدة لليقين التام وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأدلة القاطعة من المعجزات وغيرها {وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} أي : واضحاً في نفسه موضحاً لغيره وهو القرآن الجامع بإعجازه وحسن بيانه ، فلم يبق لكم عذر ولا علة ، وقيل : المراد بالبرهان المعجزات وبالنور القرآن.
{فأما الذين آمنوا با واعتصموا به فسيدخلهم} أي : بوعد لا خلف فيه {في رحمة منه} أي : ثواب عظيم هو رحمته لهم لا بشيء استوجبوه {وفضل} أي : إحسان زائد عليه {ويهديهم} أي : في الدنيا والآخرة {إليه صراطاً مستقيماً} أي : طريقاً مستقيماً وهو الإسلام والطاعة في الدنيا والجنة في الآخرة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 402
{يستفتونك} أي : في الكلالة حذف لدلالة الجواب عليه.
روي أن جابر بن عبد الله قال : "عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب عليّ من وضوئه فعقلت وقلت : يا رسول الله لمن الميراث وإنما يرثني كلالة" فنزل : {يستفتونك} {قل الله يفتيكم في الكلالة} وقد تقدّم معنى الكلالة وحكم الآية في أوّل السورة وفي هذه الآية بيان حكم ميراث الأخوة للأب والأم أو للأب ، وقوله تعالى : {إنّ امرؤ} هو مرفوع بفعل يفسره {هلك} أي : مات {ليس له ولد} أي : ولا والد وهو الكلالة ، قال الأصبهاني عن الشعبي : اختلف أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في الكلالة فقال أبو بكر : هو ما عدا الوالد ، وقال عمر : ما عدا الوالد والولد ثم قال عمر : إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر وقوله تعالى : {وله أخت} يحتمل الحال والعطف والمراد بالأخت الأخت من الأبوين أو الأب لأنه جعل أخوها عصبة والذي لأم لا يكون عصبة والولد يشمل الذكر والأنثى فإنّ الأخت وإن ورثت مع البنت قد لا ترث النصف وذلك عند تعدد البنت {فلها نصف ما ترك وهو} أي : هذا الأخ للميت {يرثها} أي : إن ماتت هي وبقي هو جميع مالها {إن لم يكن لها ولد} فإن كان لها ولد ذكر فلا شيء له أو أنثى فله ما فضل عن نصيبها ولو كانت الأخت أو الأخ من الأم ففرضه السدس كما مرّ أوّل السورة {فإن كانتا} أي : الأختان {اثنتين} أي : فصاعداً لأنها نزلت في جابر وقد مات عن أخوات {فلهما الثلثان مما ترك} أي : الأخ {وإن كانوا} أي : الورثة {إخوة رجالاً ونساءً فللذكر} منهم {مثل حظ الأنثيين يبيّن الله لكم} أي : ولم يكلكم في بيانه إلى بيان غيره ، وقال مرغباً مرهباً {أن} أي : كراهة أن {تضلوا} وقيل : لئلا تضلوا فحذف لا وهو قول الكوفيين ، وقيل : يبيّن الله لكم ضلالكم أي : الذي من شأنكم أي : إذا خليتم وطباعكم لتحترزوا عنه وتتحروا خلافه {والله بكل شيء عليم} فهو عالم بمصالح العباد في المحيا والممات ومنه الميراث.
جزء : 1 رقم الصفحة : 404
روي عن البراء رضي الله تعالى عنه أنه قال : آخر سورة نزلت كاملة براءة ، وآخر آية نزلت قال
404
السيوطي أي : من الفرائض خاتمة سورة النساء يستفتونك الآية.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أنّ آخر آية نزلت آية الربا ، وآخر سورة نزلت : {إذا جاء نصر الله والفتح} (النصر ، 1).
وروي عنه أنّ آخر آية نزلت قوله تعالى : {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} (البقرة ، 281).
وروي بعدما نزلت سورة النصر عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها عاماً, فنزلت بعدها سورة براءة وهي آخر سورة نزلت كاملة فعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها ستة أشهر ثم نزل في طريق حجة الوداع{يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} فسميت آية الصيف ثم نزل هو واقف بعرفة : {اليوم أكملت لكم دينكم} فعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها أحداً وثمانين يوماً ، ثم نزلت آية البا ، ثم نزلت : {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} (البقرة ، 281) فعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها أحداً وعشرين يوماً ، وقول البيضاويّ تبعاً للزمخرشي عن النبيّ صلى اللع عليه وسلم : "من قرأ سورة النساء فكأنما تصدّق على كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ورث ميراثاً ، وأعطي من الأجر كمن اشترى محرّراً أي : رقيقاً وحرّره ، وبرىء من الشرك ، وكان في مشيئة الله تعالى من الذين يتجاوز عنهم" ، حديث موضوع.
405
جزء : 1 رقم الصفحة : 404(1/279)
سورة المائدة
مدنية
مائة وعشرون آية أو اثنتان أو ثلاثوكلماتها ألفان وثمانمائة وأربع كلماتوحروفها أحد عشر ألفاً وسبعمائة وثلاثة وثلاثون حرفاً
{بسم الله} الذي له الأمر كله فلا يسئل عما يفعل {الرحمن} الذي عم بنعمة إيجاده وبيانه فنعمته أتم نعمة وأشمل {الرحيم} الذي خص خلص عباده بتوفيقه وأتم نعمته عليهم وأكمل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 405
{يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} أي : التي عقدها الله تعالى على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف وما يعقدون بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به أو يحسن إن حملنا الأمر على المشترك بين الوجوب والندب والعقد العهد الموثق شبه بعقد الحبل
406
ونحوه قول الحطيئة :
*قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم ** شدّوا العِناجَ وشدوا فوقه الكرَبَا*
والعناج حبل يشدّ في أسفل الدلو ثم يشدّ إلى العراقي ليكون عوناً له ، والكرب الحبل الذي يشدّ في وسط العراقي والعرقوتان الخشبتان المعترضتان على الدلو كالصليب وقوله تعالى : {أحلت لكم بهيمة الأنعام} تفصيل للعقود لأنّ العقود مجملة فهو شامل لجميع العقود لأنّ ذلك أمهات التكاليف وجميع ما في هذه السورة من الأحكام تفصيل لذلك.
فائدة : روي عن ابن مسعود قال : أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكماً لم ينزلها في غيرها قوله تعالى : {والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام} {وما عملتم من الجوارح مكلبين} {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} وتمام الطهر في قوله تعالى : {إذا قمتم إلى الصلاة} {والسارق والسارقة} {ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} الآية {وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} وقوله تعالى : {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} وزيد عليها تاسع عشر وهو قوله تعالى : {وإذا ناديتم إلى الصلاة} ليس للآذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة وأما في سورة الجمعة فهو مخصوص بالجمعة وهو في هذه السورة عام في جميع الصلوات والبهيمة كل حيّ لا يميز أي : من شأنه أنه لا يميز فلا يدخل في ذلك المجنون ونحوه ، والأنعام : الإبل والبقر والغنم وهي الأزواج الثمانية وألحق بها الظباء وبقر الوحش.
جزء : 1 رقم الصفحة : 406
تنبيه : إضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان كقولك : ثوب خز ومعناه البهيمة من الأنعام.
فإن قيل : لم أفرد البهيمة وجمع الأنعام ؟
أجيب : بإرادة الجنس وقوله تعالى : {إلا ما يتلى عليكم} أي : تحريمه في قوله تعالى : {حرّمت عليكم الميتة} الآية استثناء منقطع ويجوز أن يكون متصلاً والتحريم عرض من الموت ونحوه وقوله تعالى : {غير محلي الصيد} حال من ضمير لكم وقوله تعالى : {وأنتم حرم} مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من الضمير في محل جمع حرام وهو المحرم {إنّ الله يحكم ما يريد} من تحليل وتحريم وغيرهما على سبيل الإطلاق لا يجب عليه مراعاة مصلحة ولا حكمة كما تقوله المعتزلة ، فلا يسئل عن تخصيص ولا تفصيل فما فهمتم حكمته فذاك ومالا فكلوه إليه وارغبوا في أن يلهمكم حكمته.
{يأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله} جمع شعيرة : وهي اسم ما أشعر أي : جعل شعاراً وعلماً للنسك من مواقف الحج ومرامي الجمار والمطاف والمسعى والأفعال التي هي علامات الحاج ، يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر ، وقيل : معالم دينه ، وقيل : فرائضه التي حدّها لعباده {ولا} تحلوا {الشهر الحرام} أي : بالقتال فيه قال تعالى : {إنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم} (التوبة ، 36) وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، فيجوز أن يكون ذلك إشارة إلى جميع هذه الأشهر كما يطلق اسم الواحد على الجنس لأنّ الأشهر كلها في الحرمة سواء ، ولكن قال
407
الزمخشريّ : والشهر الحرام شهر الحج {ولا} تحلوا {الهدى} أي : بالتعرّض له وهو ما أهدى إلى الحرم من النعم {ولا} تحلوا {القلائد} أي : صاحب القلائد من الهدى ، وعبر بها مبالغة في تحريمها أو القلائد أنفسها ، والنهي عن إحلالها مبالغة في النهي عن التعرّض للهدى ، والقلائد جمع قلادة وهي ما قلّد به الهدى من نعل أو غيره ليعلم به أنه هدى فلا يتعرّض له {ولا} تحلوا {آمّين} أي : قاصدين {البيت الحرام} لزيارته أي : بأن تقاتلوهم.
{يبتغون فضلاً من ربهم} وهو الثواب {ورضواناً} أي : وأن يرضى عنهم والجملة في موضع الحال من المستكن في آمين ، أي : لا تتعرضوا لقومٍ هذه صفتهم تعظيماً لهم واستنكاراً أن يتعرّض لمثلهم ، وقيل : معناه يبتغون من الله رزقاً بالتجارة ورضواناً بزعمهم لأنهم كانوا يظنون ذلك فوصفوا به بناء على ظنهم ولأنّ الكافر لا نصيب له في الرضوان كقوله تعالى : {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان ، 49) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كان المسلمون والمشركون يحجون جميعاً فنهى الله تعالى المسلمين أن يمنعوا أحداً عن حج البيت بقوله تعالى :
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 406(1/280)
لا تحلوا شعائر الله} فعلى الأوّل الآية محكمة قال الحسن : ليس في المائدة منسوخ ، وعلى الثاني قال البيضاوي : فالآية منسوخة أي : لما فيها من حرمة القتال في الشهر الحرام ، ومن حرمة منع المشركين عن المسجد الحرام والأوّل منسوخ بقوله تعالى : {اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} (التوبة ، 5) والثاني بقوله تعالى : {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (التوبة ، 28) فقوله : منسوخ منزل على هذا ، لكن إذا قلنا بشمول آمين للمسلمين والمشركين إنما يكون النسخ في حق المشركين خاصة وهو في الحقيقة تخصيص لا نسخ ففي تسميته نسخاً تسمح ، وقرأ شعبة بضم الراء والباقون بالكسر.
{وإذا حللتم} أي : من الإحرام وقوله تعالى : {فاصطادوا} أمر إباحة أباح لهم الاصطياد بعد حظره عليهم كأنه قيل : وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا كما في قوله تعالى : {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} (الجمعة ، 10) {ولا يجرمنكم} أي : يحملنَّكم أو يكسبنَّكم {شنآن قوم} أي : شدّة بغضهم ، وقرأ ابن عامر وشعبة بسكون النون بعد الشين والباقون بنصبها وقوله تعالى : {أن صدّوكم} قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أن الشرطية والباقون بفتحها أي : لأجل أن صدوكم في عام الحديبية أو غيره {عن المسجد الحرام} وقوله تعالى : {أن تعتدوا} أي : يشتد عدْوُكم عليهم بأن تنتقموا منهم بالقتل وغيره ، ثاني مفعولي يجرمنكم فإنه يتعدّى إلى واحد وإلى اثنين ككسب {وتعاونوا على البر والتقوى} أي : بفعل ما أمرتم به {ولا تعاونوا} فيه حذف إحدى التاءين في الأصل {على الإثم} أي : المعاصي للتشفي {والعدوان} أي : التعدي في حدود الله للانتقام {واتقوا الله} أي : خافوا عقابه بأن تطيعوه {إنّ الله شديد العقاب} لمن خالفه فانتقامه أشد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 406
وقوله تعالى :
{حرمت عليكم الميتة} أي : أكلها بيان ما يتلى عليكم والميتة ما فارقته الروح من غير ذكاة شرعية {والدم} أي : المسفوح قال تعالى : {أو دماً مسفوحاً} وكان أهل الجاهلية يصبونه في الأمعاء ويشوونها {ولحم الخنزير} قال العلماء : الغذاء يصير جزءاً من جوهر المتغذي ولا بد أن يحصل للمتغذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلاً في الغذاء ، والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المنهيات فحرّم أكله على الإنسان لئلا يتكيّف بتلك الكيفية ، ولذلك إن الفرنج لما واظبوا على أكل لحم الخنزير أورثهم الحرص العظيم والرغبة الشديدة في
408
المنهيات ، وأورثهم عدم الغيرة فإنّ الخنزير يرى الذكر من الخنازير ينزو على الأنثى التي له ولا يتعرّض له لعدم الغيرة.
{وما أهل لغير الله به} أي : رفع الصوت به لغير الله بأن ذبح على اسم غيره ، والإهلال : رفع الصوت ومنه يقال : فلان أهل بالحج إذا لبى وكانوا يقولون عند الذبح : باسم اللات والعزى ، قال ابن عادل : وقدم هنا لفظ الجلالة في قوله لغير الله به وأخرت في البقرة لأنها هناك فاصلة أو تشبه الفاصلة بخلافها هنا لأنّ بعدها معطوفات {والمنخنقة} وهي التي ماتت بالخنق سواء أفعل بها ذلك آدميّ أم اتفق لها ذلك {والموقوذة} وهي التي وقذت أي : ضربت حتى ماتت ويدخل في الموقوذة ما رمي بالبندق فمات {والمتردّية} أي : الساقطة من علو بان سقطت من جبل أو مشرف أو في بئر فماتت ، ولو رمى صيداً في الهواء بسهم فأصابه فسقط على الأرض ومات حلّ لأنّ الوقوع على الأرض من ضرورته وإن سقط على جبل أو شجر ثم تردى منه فمات لم يحل لأنه من المتردية إلا أن يكون السهم ذبحه في الهواء فيحل كيفما وقع لأنّ الذبح قد حصل قبل التردية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 408
تنبيه : دخلت الهاء في هذه الكلمات لأنّ المنخنقة هي الشاة المنخنقة كأنه قيل : حرّمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة والمتردية وخصَّت الشاة لأنها من أعمّ ما يأكل الناس والكلام يُخرّج على الأعمّ ويكون المراد الكل وأما الهاء في قوله تعالى : {والنطيحة} وهي التي تنطحها أخرى فتموت فِللْنَّقل من الوصفية إلى الاسمية وإلا فكان من حقها أن لا تدخلها تاء التأنيث كقتيل وجريح ، وما في قوله تعالى : {وما أكل السبع} بمعنى الذي وعائده محذوف أي : وما أكله السبع ولا بد من حذف ، ولهذا قال الزمخشريّ : وما أكل بعضه السبع وهذا يدل على أنّ جوارح الصيد إذا أكلت ما اصطادته لم يحل أكله.(1/281)
وقوله تعالى : {إلا ما ذكيتم} استثناء متصل أي : إلا ما أدركتم ذكاته وصار فيه حياة مستقرة من ذلك فهو حلال ، وقيل : الاستثناء مخصوص بما أكل السبع وقيل : الاستثناء منقطع أي : ولكن ما ذكيتم من غيرها فحلال أو فكلوه ، وكأنّ هذا القائل رأى أنها وصلت بهذه الأسباب إلى الموت أو إلى حالة قريبة منه فلم تفد تذكيتها عنده شيئاً ، وقيل : الاستثناء من التحريم لا من المحرّمات أي : حرّم عليكم ما مضى إلا ما ذكيتم فإنه لكم حلال فيكون الاستثناء منقطعاً أيضاً ، وأقلّ الذكاة في الحيوان المقدور عليه قطع الحلقوم والمريء وكمالها أن يقطع الودجين معهما ، وهما عرقان في صفحتي العنق ويجوز بكل محدد يجرح من حديد أو قصب أو زجاج أو غيره إلا السن والظفر لقوله صلى الله عليه وسلم "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر".
وقوله تعالى : {وما ذبح على النصب} في محل رفع عطفاً على الميتة أي : وحرم عليكم ذلك والنصب واحد الأنصاب ، وهي حجارة ، كانت حول الكعبة يذبح عليها تقرباً إليها وتعظيماً لها ، وقيل : هي الأصنام لأنها تنصب لتعبد ، وعلى : بمعنى اللام أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأنصاب ، وقيل : هو جمع والواحد نصاب ويدل للأوّل قول الأعشى :
409
*وذا النصب المنصوب لا تعبدنه ** ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا*
وقوله تعالى : {وأن تستقسموا بالأزلام} في محل رفع أيضاً فكان عطفاً على الميتة أي : وحرم عليكم ذلك والأزلام جمع زَلَم بفتح الزاي وضمها مع فتح اللام قِدح بكسر القاف صغير وهو سهم لا ريش له ولا نصل ، وذلك إنهم كانوا إذا قصدوا فعلاً ضربوا ثلاثة أقداح مكتوب على أحدها أمرني ربي ، وعلى الآخر نهاني ربي ، والثالث غفل أي : لا سمة عليه فإن خرج الأمر مضوا على ذلك وإن خرج الناهي تجنبوا عنه وإن خرج الغفل أداروها ثانياً ، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم بالأزلام ، وقيل : هو قسمة الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 408
وقوله تعالى : {ذلكم فسق} إشارة إلى ما ذكر تحريمه أي : خروج عن الطاعة ، وقيل : إشارة إلى الاستقسام وكونه فسقاً ؛ لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر بعلمه علام الغيوب ، وقد قال تعالى : {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} (النمل ، 65) وضلال باعتقاد إنّ ذلك طريق إليه وقوله : أمرني ربي ونهاني ربي افتراء على الله عز وجل إن كان أراد بربي الله وما يدريه إنّ الله أمره أو نهاه ، فالكهنة والمنجمون بهذه المثابة ، وجهالة وشرك إن أراد به الصنم.
وقوله تعالى : {اليوم} لم يرد به يوماً بعينه وإنما أراد الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية ، وقيل : الألف واللام للعهد ، قيل : أراد يوم نزولها ، وقيل : نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع ، وقيل : هو يوم دخوله صلى الله عليه وسلم مكة سنة تسع ، وقيل : ثمان ، وقوله تعالى : {يئس الذين كفروا من دينكم} فيه قولان أحدهما : يئسوا من أن يحلوا هذه الخبائث بعد أن جعلها الله تعالى محرمة ، والثاني : يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم فترتدّوا عنه بعد طمعهم في ذلك ، لما رأوا من قوته ؛ لأنه تعالى كان وعد بإعلاء هذا الدين على كل الأديان بقوله تعالى : {ليظهره على الدين كله} (التوبة ، 33) فحقق ذلك النصر وأزلل الخوف {فلا تخشوهم} أن يظهروا عليكم {واخشون} أجمع القرّاء السبعة على حذف الياء بعد النون لحذفها في الرسم أي : واخلصوا الخشية لي وحدي فإنّ دينكم قد اكتمل بدره وجل عن انمحاق محله وقدره ورضي به الآمر ومكّنه على رغم أنوف الأعداء وهو قادر وذلك قوله تعالى مسوقاً مساق التعليل :
{اليوم أكملت لكم دينكم} أي : الذي أرسلت به أكمل خلقي محمداً صلى الله عليه وسلم نزلت هذه الآية يوم الجمعة يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع والنبيّ صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء فكادت عضد الناقة تندق من ثقلها فبركت ، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنّ رجلاً من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين آية من كتابكم تقرأونها لو علينا معاشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً قال : أي أية ؟
قال : {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي أنزلت فيه على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة ، أشار عمر إلى أنّ ذلك اليوم كان عيداً ، قال ابن عباس : كان ذلك اليوم خمسة أعياد جمعة وعرفة وعيد اليهود وعيد النصارى والمجوس ، ولم يجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده.
جزء : 1 رقم الصفحة : 408
وروي أنها لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله تعالى عنه فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم "ما يبكيك
410(1/282)
يا عمر ؟
" قال : أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا فإذا كمل فلم يكمل شيء إلا نقص قال : "صدقت" ، فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعدها أحداً وثمانين يوماً ومات يوم الإثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة من الهجرة. وقيل : توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل وكانت هجرته في الثاني عشر منه ، فقوله تعالى : {اليوم أكملت لكم دينكم} أي : الفرائض والسنن والحدود والجهاد والحلال والحرام فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض وهذا معنى قول ابن عباس ، وقال سعيد بن جبير وقتادة : اليوم أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك ، وقيل : أظهرت دينكم وأمتكم من عدوّكم.
فإن قيل : قوله تعالى : {اليوم أكملت لكم دينكم} يقتضي أنّ الدّين كان ناقصاً قبل ذلك وذلك يوجب أنّ الدين الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم أكثر عمره كان ناقصاً ، وإنما وجد الدّين الكامل في آخر عمره مدّة قليلة. أجيب : بأنّ الدين لم يكن ناقصاً بل كان أبداً كاملاً وكانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت ، إلا أنه تعالى كان عالماً في أوّل وقت المبعث بأنّ ما هو بعد العدم وأمّا في آخر زمان المبعث فأنزل شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة فالشرع أبداً كان كاملاً إلا أنّ الأوّل كمال إلى زمان مخصوص ، والثاني كمال إلى يوم القيامة فلهذا قال : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي بإكماله ، وقيل : بدخول مكة آمنين ورضيت أي : اخترت لكم الإسلام ديناً من بين الأديان ، وهو الذي عند الله لا غير قال الله تعالى : {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} (آل عمران ، 85).
وقوله تعالى : {فمن اضطرّ} متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض بما يوجب التجنب عنها وهو إن تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامّة والإسلام المرضي ، والمعنى : فمن اضطرّ إلى تناول شيء من هذه المحرمات {في مخمصة} أي : مجاعة {غير متجانف} أي : مائل {لإثم} أي : معصية بأن يأكل ذلك تلذّذاً ومجاوزاً حدّ الرخصة كقوله تعالى : {غير باغ ولا عاد} (البقرة ، 173) {فإنّ الله غفور} له ما أكل {رحيم} به في إباحته فلا يؤاخذه ومن المائل إلى الإثم قاطع الطريق ونحوه فلا يحل له الأكل مما ذكر قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر نون فمن اضطرّ في الوصل والباقون بالضم.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 408
يسئلونك} يا محمد {ماذا أحل لهم} من الطعام وإنما أتى بقوله لهم بلفظ الغيبة لتقديم ضمير الغيبة في قوله تعالى : {يسئلونك} ولو قيل في الكلام : ماذا أحلّ لنا لكان جائزاً على حكاية الجملة كقولك : أقسم زيد ليضربن ولأضربن بلفظ الغيبة والتكلم ، إلا أنّ ضمير المتكلم يقتضي حكاية ما قالوه كما أن لأضربن يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها وماذا مبتدأ وأحلّ لهم خبره كقولك : أي شيء أحلّ لكم منها ؟
فقال تعالى : {قل} لهم {أحلّ لكم الطيبات} أي : ما ليس بخبيث منها وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد ولا مستقذر من ذي الطباع السليمة ، وهذا يشمل كل ما ذبح وهو مأذون في ذبحه مما كانوا يحرّمونه على أنفسهم من السائبة وما معها وكل ما أذن فيه من غير ذبح كحيوان البحر وما أذن فيه من غير المطاعم.
411
وقوله تعالى : {وما علمتم من الجوارح} معطوف على الطيبات أي : أحلّ لكم الطيبات وصيد ما علمتم فحذف المضاف للعلم به والجوارح جمع جارحة من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والباز والشاهين ، والهاء للمبالغة سميت ؛ بذلك ؛ لأنّ الجرح الكسب لأنها تكسب الصيد ، ومنه قوله تعالى : {ويعلم ما جرحتم بالنهار} (الأنعام ، 60) أي : كسبتم أو لأنها تجرح الصيد غالباً ، وقوله تعالى : {مكلبين} حال من ضمير علمتم أي : حال كونكم معلّمين هذه الكواسب الصيد والمكلب المؤدّب الجوارح ومغريها مأخوذ من الكلب بسكون اللام وهو الحيوان النابح ؛ لأنّ التأديب أكثر ما يكون في الكلاب فأخذ من لفظه لكثرته في جنسه أو لأنّ السبع يسمى كلباً ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عتبة بن أبي لهب حين أراد سفر الشام فغاظ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال النبيّ : "اللهمّ سلّط عليه كلباً من كلابك" فأكله الأسد ، وقوله تعالى : {تعلمونهنّ} حال ثانية من ضمير علمتم أو استئناف.(1/283)
فإن قيل : ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم ؟
أجيب : بأنّ فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح فقيهاً عالماً بالشرائط المعتبرة في الشرع لحل الصيد ، وفي هذا فائدة جليلة وهي أنّ على كل طالب لشيء أن لا يأخذه إلا من أجلّ العلماء به وأشدّهم دراية له وأغوصهم على لطائفه وحقائقه ، وإن احتاج في ذلك إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل فكم من أخذ من غير متقن قد ضيّع أيامه وعض عند لقاء التحارير أنامله {مما علمكم الله} أي : من علم التكليب لأنه إلهام من الله تعالى أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة منه أو مما علمكم الله أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره وانصرافه بدعائه وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه. {فكلوا مما أمسكن} أي : الجوارح مستقرّاً إمساكها {عليكم} أي : على تعليمكم وإن قتلته بأن لم تأكل منه بخلاف غير المعلّمة فلا يحل صيدها وشروط التعليم فيها ثلاثة أشياء : إذا أرسلت استرسلت ، وإذا زجرت انزجرت ، وإذا أخذت الصيد أمسكته ولم تأكل منه ، وأقل ما يعرف به ذلك ثلاث مرات فإن أكلت منه فليس مما أمسكن على صاحبها فلا يحل أكله كما في حديث الصحيحين ، وإن أكل منه فلا تأكل ، منه إنما أمسك على نفسه. وعن علي رضي الله تعالى عنه : إذا أكل البازي فلا تأكل وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء وبعضهم لا يشترط ذلك في سباع الطير ؛ لأن تأدبها إلى هذا الحدّ متعذر وقال آخرون : لا يشترط مطلقاً وفي هذا الحديث إنّ صيد السهم إذا أرسل وذكر اسم الله عليه كصيد المعلم من الجوارح.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 408
واذكروا اسم الله عليه} في هذه الكناية ثلاثة أوجه أحدها : أنها تعود إلى المصدر المفهوم من الفعل وهو الأكل كأنه قيل : واذكروا اسم الله عليه على الأكل ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم "سمّ الله وكل مما يليك" الثاني : إنها تعود إلى ما علمتم أي : اذكروا اسم الله على الجوارح عند إرسالها على الصيد ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه" الثالث : إنها تعود إلى ما
412
أمسكن أي : اذكروا اسم الله تعالى على ما أدركتم ذكاته مما أمسكت عليكم الجوارح {واتقوا الله} أي : في محرماته {إنّ الله سريع الحساب} فيؤاخذكم بما جل ودق ، وقوله تعالى :
{اليوم} الكلام فيه كالكلام فيما قبله {أحلّ لكم الطيبات} أي : المستلذات {وطعام الذين أوتوا الكتاب} أي : ذبائح اليهود والنصارى ، ومن دخل في دينهم قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم {حل} أي : حلال {لكم} فأمّا من دخل في دينهم بعد المبعث فلا تحل ذبيحتهم ، ولو ذبح يهوديّ أو نصرانيّ على اسم غير الله تعالى كالنصراني يذبح على اسم المسيح لم تحل ذبيحته ، وأما المجوس فقد سنّ بهم سنة أهل الكتاب في تقريرهم بالجزية دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم ، قال صلى الله عليه وسلم "سنّوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم" رواه الإمام مالك {وطعامكم} إياهم {حل لهم} فلا عليكم أن تطعموهم ولا تبيعوه منهم ولو حرم عليهم لم يجز ذلك.
{والمحصنات من المؤمنات} أي : الحرائر {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} وهم اليهود والنصارى أي : حل لكم أن تنكحوهنّ وإن كنّ حربيات. وقال أبي عباس : لا تحل الحربيات وأما الإماء المسلمات فيحل نكاحهنّ في الجملة بخلاف الإماء الكتابيات فلا يحل نكاحهنّ عندنا ويحل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
{إذا آتيتموهنّ أجورهنّ} أي : مهورهنّ فتقييد الحلّ بإتيانها لتأكيد وجوبها والحث على الأولى وإنّ من تزوّج امرأة وعزم أن لا يعطي صداقها كان في صورة الزاني ، وورد فيه حديث وتسميته بالأجر يدل على أنه لا حدّ لأقلّه كما إن أقل الأجر في الإجارة لا يتقدّر {محصنين} أي : قاصدين الإعفاف والعقاب. وقيل : متزوّجين {غير مسافحين} أي : معلنين بالزنا بهنّ {ولا متخذي أخدان} أي : مسرّين بالزنا منهنّ ، والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى قال الشعبي : الزنا ضربان : السفاح وهو الزنا على سبيل الإعلان واتخاذ الخدن وهو الزنا سراً والله تعالى حرمهما في هذه الآية وأباح التمتع بالمرأة على جهة الإحصان وهذه الآية مخصصة لقوله تعالى : {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ} (البقرة ، 221) فبقي على التحريم ما تضمنته تلك ما عدا الكتابيات من الوثنيات وغيرهنّ من جميع المشركات ، حتى المنتقلة من الكتابيات من دينها إلى غير دين الإسلام ، وقرأ الكسائي بكسر صاد المحصنات والباقون بنصبها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 408(1/284)
وقوله تعالى : {ومن يكفر بالإيمان} اختلف المفسرون في معناه فقال ابن عباس ومجاهد : ومن يكفر بالإيمان أي : بالله الذي يجب الإيمان به وإنما حسن هذا المجاز ؛ لأنه يقال : رب الإيمان ورب الشيء على سبيل المجاز ، وقال الكلبي : ومن يكفر بالإيمان أي : بكلمة التوحيد وهي شهادة أن لا إله إلا الله لأنّ الإيمان من لوازمها وإطلاق الشيء على لازمه مجاز مشهور ، وقال قتادة : إنّ ناساً من المسلمين قالوا : كيف نتزوّج نساءهم مع كونهم على غير ديننا ؟
فأنزل الله هذه الآية : {ومن يكفر} بما أنزل الله في القرآن فهو كذا وكذا فسمي القرآن إيماناً ؛ لأنه مشتمل على بيان كل ما لا بد منه في الإيمان ، والمراد من ذلك أن يأتي بشيء يصير به مرتداً {فقد حبط} أي : فسد {عمله} الصالح قبل ذلك إن اتصل ذلك بالموت بدليل قوله تعالى : {وهو في الآخرة
413
من الخاسرين} وقوله تعالى في آية أخرى : {فيمت وهو كافر} (البقرة ، 217) أمّا من أسلم قبل الموت فإنّ ثوابه يفسد دون عمله فلا يجب عليه إعادة حج قد فعله ولا صلاة قد صلاها قبل الردّة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 408
{يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} أي : أردتم القيام إليها كقوله تعالى : {فإذا قرأت القرآن فاستعذ با} (النحل ، 98) عبرّ عن إرادة الفعل بالفعل المسبب عنها للإيجاز والتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة ، وظاهر الآية الكريمة يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثاً ، لكن صدّ عنه الإجماع لما روي أنه صلى الله عليه وسلم صلى الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال له عمر : صنعت شيئاً لم تكن تصنعه فقال : "عمداً فعلته" ، فقيل : هو مطلق أريد به التقييد والمعنى : إذا قمتم إلى الصلاة محدثين وقيل : الأمر فيه للندب وقيل : كان ذلك أوّل الأمر ثم نسخ قال البيضاوي : وهو ضعيف لقوله صلى الله عليه وسلم "المائدة من آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلالها وحرموا حرامها" {فاغسلوا وجوهكم} أي : أمروا الماء عليها ، ولا يجب الدّلك خلافاً لمالك رضي الله تعالى عنه {و} اغسلوا {أيديكم إلى المرافق} أي : معها إن وجدت وقدرها إن فقدت ، لما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد" إلخ.. وللإجماع أوان إلى في الآية بمعنى مع كما في قوله
414
تعالى : {من أنصاري إلى الله} (آل عمران ، 52) ويزدكم قوّة إلى قوّتكم أو يجعل اليد التي هي حقيقة إلى المنكب مجازاً إلى المرفق مع جعل إلى غاية للغسل الداخلة هنا في المغيّا بقرينة الإجماع والاحتياط للعبادة ، والمعنى اغسلوا أيديكم من رؤوس الأصابع إلى المرافق ، أو تجعل باقية على حقيقتها إلى المنكب مع جعل إلى غاية للترك المقدّر فتخرج الغاية والمعنى اغسلوا أيديكم واتركوا منها إلى المرافق ، والمرافق جمع مرفق بفتح الميم وكسر الفاء على الفصيح من اللغة وهو مفصل ما بين العضد والمعصم ولو قطع بعض ما يجب غسله وجب غسل الباقي ؛ لأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور ، وإن قطع من المرفق فإن سلّ عظم الذراع وبقي العظمان المسميان برأس العضد وجب غسل رأس عظم العضد ؛ لأنه من المرفق وهو مجموع العظمين والإبرة الداخلة بينهما وإن قطع من فوق المرفق ندب غسل باقي عضده.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 414
وامسحوا برؤسكم} أي : ببعضها. لما روى مسلم "إنه صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى عمامته" واكتفى بمسح البعض لأنه المفهوم من المسح عند إطلاقه ولم يقل أحد بوجوب خصوص الناصية وهي الشعر الذي بين النزعتين والاكتفاء بها يمنع وجوب الاستيعاب ويمنع وجوب التقدير بالربع أو أكثر لأنها دونه والباء إذا دخلت على متعدّد كما في الآية تكون للتبعيض أو على غيره كما في قوله تعالى : {وليطوفوا بالبيت العتيق} (الحج ، 29) تكون للالصاق.
فإن قيل : صيغة الأمر بمسح الرأس والوجه في التيمم واحدة فهلا أوجبتم التعميم أيضاً ؟
أجيب : بأن المسح ثم بدل للضرورة فاعتبر ببدله ومسح الرأس أصل فاعتبر لفظه.(1/285)
فإن قيل : المسح على الخف بدل فهلا وجب تعميمه كمُبْدَله ؟
أجيب : بقيام الإجماع على عدم وجوبه ، ولا فرق بين أن يمسح على بشرة الرأس أو شعرها ولو شعرة واحدة في حدّ الرأس ؛ لأنّ ذلك يصدق عليها مسمى الرأس عرفاً إذ الرأس اسم لما رأس وعلا وقوله تعالى : {وأرجلكم} قرأ نافع وابن عامر وحفص والكسائي بنصب اللام عطفاً على وجوهكم. وقيل : على أيديكم والباقون بالكسر على الجوار ومنهم من عطف على المجرور على قراءة الجرّ والممسوح ليفيد مسح الخف ، وعطف على المنصوب على قراءة النصف على المغسول ليفيد غسل الرجل المتجرّدة منه فيفيد كل من القراءتين غير ما أفادته الأخرى وقوله تعالى : {إلى الكعبين} وهم العظمان الناتئان في كل رجل من جانبين عند مفصل الساق والقدم دل على دخولهما في الغسل ما دل على دخول المرفقين فيه وقد مرّ.
تنبيه : الفصل بين الأيدي والأرجل المغسولة بالرأس الممسوح فيه دليل على وجوب الترتيب في طهارة هذه الأعضاء وعليه الشافعيّ رضي الله تعالى عنه ولو قطع بعض القدم وجب غسل الباقي وإن قطع فوق الكعب فلا فرض عليه ، وندب غسل الباقي كما مرّ في اليد ويؤخذ من السنة وجوب النية فيه كغيره من العبادات.
{وإن كنتم جنباً} من جماع وغيره {فاطهروا} أي : بالغسل لجميع البدن ؛ لأنه أطلق ولم يخص الأعضاء كما في الوضوء {وإن كنتم مرضى} أي : مرضاً يضره الماء {أو على سفر} أي : مسافرين سفراً مباحاً طويلاً أو قصيراً {أو جاء أحد منكم من الغائط} أي : الموضع المطمئن من
415
الأرض الذي يقضي فيه حاجته الإنسان التي لا بد منها سمي باسمه الخارج للمجاورة. قيل : وفي ذلك حكمة وهي شدة عجز الإنسان ليكف عن إعجابه وكبره وترفعه وفخره كما حكي أنّ بعض الأمراء لقي بعض البله فلم يفسح له فغضب وقال : كأنك لم تعرفني فقال : بلى والله إني لأعرفك أوّلك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة ، وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر وسهل ورش وقنبل الهمزة الثانية وحقق الباقون الهمزتين معاً.
{
جزء : 1 رقم الصفحة : 414
أو لامستم النساء} بالذكر أو غيره أمنيتم أم لا وقرأ حمزة والكسائي بغير ألف بين اللام والميم والباقون بالألف {فلم تجدوا ماء} بعد طلبه لفقده حساً أو معنى بالعجز عن استعماله للمرض بجرح أو غيره {فتيمّموا} أي : اقصدوا {صعيداً} أي : تراباً {طيباً} أي : طهوراً خالصاً {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} مع المرفقين {منه} بضربتين والباء للإلصاق وبينت السنة أنّ المراد استيعاب العضوين بالمسح وتقدّم مثل هذه الآية في النساء في البيضاوي ، ولعل تكريره ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة.
{ما يريد الله ليجعل عليكم} في الدين {من حرج} أي : ضيق بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم {ولكن يريد ليطهركم} من الأحداث والذنوب فإنّ الوضوء يكفر الذنوب {وليُتِمّ نعمته عليكم} ببيان شرائع الدين {لعلكم تشكرون} نعمه فيثيبكم ، قال البيضاوي : والآية مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى طهارتان أصل وبدل والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح وباعتبار المحل محدود وغير محدود وإنّ آلتيهما مائع وجامد وموجبهما حدث أصغر أو أكبر ، وإنّ المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر ، وإنّ الموعود عليه تطهير الذنوب وإتمام النعمة.
{واذكروا نعمة الله عليكم} أي : في هدايته لكم إلى الإسلام بعد أن كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ، وفي غير ذلك من جميع النعم ليذكركم المنعم ويرغبكم في شكره ، لأنّ كثرة النعم توجب على المنعم عليه الاشتغال بخدمة المنعم والانقياد لأوامره ونواهيه وقال تعالى : {نعمة الله} ولم يقل نعم الله ؛ لأنّ هذا الجنس لا يقدر عليه إلا الله لأنّ نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون من الآفات وإيصال الخيرات في الدنيا والآخرة لا يعلمه إلا الله تعالى وإن المراد التأمل في هذا النوع من حيث إنه ممتاز عن نعمة غيره.(1/286)