{أيحسب}، أي: أيظنّ الإنسان قويّ قريش، وهو أبو الأشدين بقوّته، قوله أبي الأشدين هكذا في النسخ بصيغة التثنية، وفي حاشية الجمل، والأشد هكذا بالإفراد في كثير من نسخ هذا الشرح، وكثير من عبارات المفسرين، وفي بعض نسخ هذا الشرح وكثير من من التفاسير الأشدين بصيغة التثنية فليحرّر اه. {أن} مخففة من الثقيلة واسمها محذوف، أي: أنه {لن يقدر عليه}، أي: خاصة {أحد}، أي: من أهل الأرض أو السماء فيغلبه حتى أنه يعاند خالقه، والله تعالى قادر عليه في كل وقت. وقيل: نزلت في المغيرة بن الوليد المخزومي.
{يقول}، أي: يفتخر بقوّته وشدّته {أهلكت}، أي: على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم {مالاً لبداً}، أي: كثيراً بعضه على بعض.
{أيحسب}، أي: هذا الإنسان العنيد بقلة عقله {أن}، أي: أنه {لم يره أحد} قال سعيد بن جبير:، أي: أظنّ أن الله تعالى لم يره ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وقال الكلبي: إنه كان كاذباً في قوله أنه أنفقه ولم ينفق جميع ما قال، والمعنى: أيظنّ أن الله تعالى لم ير ذلك منه فيعلم مقدار نفقته.
وقرأ {أيحسب} في الموضعين ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها ثم ذكره نعمه عليه ليعتبر بقوله تعالى:
أي: بما لنا من القدرة التامّة {له عينين} يبصر بهما المرئيات وإلا تعطل عليه أكثر مايريد، شققناهما وهو في الرحم في ظلمات ثلاث على مقدار مناسب لا تزيد إحداهما على الأخرى شيئاً، وقدرنا البياض والسواد والشهلة والزرقة وغير ذلك على ماترون، وأودعناهما البصر على كيفيةٍ يعجز الخلق عن إدراكهما.
(13/466)
---(1/5191)
{ولساناً} يترجم به عن ضمائره {وشفتين} يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك. قال قتادة: نِعَمُ الله تعالى عليه متظاهرة فيقررّه بها كي يشكره. قال البغوي: وجاء في الحديث أن الله تعالى يقول: «يا ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق، وإن نازعك فرجك إلى بعض ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق».
{وهديناه}، أي: أتيناه من العقل {النجدين} قال أكثر المفسرين: بيّنا له طريق الخير والشر والهدى والضلال والحق والباطل كقوله تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإمّا كفوراً} (الإنسان: 3)
وصار بما جعلناه له من ذلك سميعاً بصيراً عالماً، فصار موضعاً للتكليف. روى الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإنّ ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى، يا أيها الناس إنما هما نجدان نجد خير ونجد شرّ فلم جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير». قال المنذري: النجد هنا الطريق. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بيّنا له الثديين، وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك، وأصله المكان المرتفع.
{فلا اقتحم العقبة}، أي: فهلا أنفق ماله فيما يجوز به العقبة من فك الرقاب وإطعام المساكين والأيتام بل غمط النعم وكفر بالمنعم.
والمعنى: أن الإنفاق على هذا الوجه هو الإنفاق المرضي النافع عند الله تعالى، لا أن يهلك مالاً لبداً في الرياء والفخر وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم فيكون على هذا الوجه {كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم} (آل عمران: 117)
(13/467)
---(1/5192)
الآية. وقيل: معناه لم يقتحمها و لاجاوزها و الاقتحام الدخول في الأمر الشديد، وذكر العقبة مثل ضربة الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البرّ فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة يقول الله تعالى لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام، وهذا معنى قول قتادة وقيل: إنه شبه ثقل الذنوب على مرتكبها بعقبة، فإذا أعتق رقبة وأطعم المساكين كان كمن اقتحم العقبة وجاوزها وروى عن ابن عمر أنّ هذه العقبة جبل في جهنم، وقال الحسن: هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله تعالى ومجاهدة النفس.w
وقال مجاهد: هي الصراط يضرب على متن جهنم كحد السيف مسيرة ثلاثة آلاف سنة صعوداً وهبوطاً واستواء، وإنّ بجنبيه كلاليب وخطاطيف كأنها شوك السعدان، فناجٍ مسلم وناجٍ مخدوش، ومكردس في النار منكوس، وفي الناس من يمرّ كالريح العاصف، ومنهم من يمرّ كالرجل يعدو، ومنهم من يمرّ كالرجل يسير، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم الزالون، ومنهم من يكردس في النار. وقال ابن زيد: فهلا سلك طريق النجاة.
وقوله تعالى: {وما أدراك}، أي: أعلمك أيها السامع لكلامنا الراغب فيما عندنا {ما العقبة} تعظيم لشأنها والجملة اعتراض قال سفيان بن عيينة: كل شيء قال فيه {وما أدراك} فإنه أخبر به وما كان، قال: {وما يدريك} فإنه لم يخبر به، ثم بين سبب جوازها بقوله تعالى:
{فك}، أي: الإنسان {رقبة}، أي: خلصها من الرق وذلك بأن يعتق رقبة في ملكه أو يعطي مكاتباً ما يصرفه في فك رقبته. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار حتى فرجه بفرجه». قال الزمخشري: وفي الحديث: «أنّ رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم دلني على عمل يدخلني الجنة. قال: تعتق النسمة وتفك الرقبة. قال: أو ليسا سواء؟ قال: لا إعتاقها أن تنفرد بعتقها، وفكها أن تعين في تخليصها من قود أو غرم، والعتق والصدقة من أفضل الأعمال».(1/5193)
(13/468)
---
وعن أبي حنيفة أن العتق أفضل من الصدقة، وعن صاحبيه: الصدقة أفضل. قال الزمخشري: والآية أدل على قول أبي حنيفة لتقديم العتق. وقال عكرمة: يعني فك رقبته من الذنوب. وقال الماوردي: ويحتمل أنه أراد فك رقبته وخلاص نفسه باجتناب المعاصي وفعل الطاعات، ولا يمنع الخبر من هذا التأويل وهو أشبه بالصواب.
{أو إطعام}، أي: دفع الإطعام لشيء له قابلية ذلك. {في يوم ذي مسغبة}، أي: مجاعة، والسغب: الجوع.
{يتيماً}، أي: إنساناً صغيراً لا أب له {ذا مقربة}، أي: ذا قرابة لك بأن كان بينك وبينه قرابة، يقال: فلان ذو قرابتي، وذو مقربتي.
{أو مسكيناً} وهو من له مال أو كسب يقع موقعاً من كفايته، ولا يكفيه. {ذا متربة}، أي: لصوق بالتراب لفقره. يقال: ترب إذا افتقر، ومعناه: التصق بالتراب وأما أترب فاستغنى، أي: صار ذا مال كالتراب في الكثرة كما قيل: أثرى. وعنه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {ذا متربة}: «الذي مأواه المزابل» قال ابن عباس رضي الله عنهما: «هو المطروح على الطرق الذي لا بيت له». وقال مجاهد: وهو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره. وقال قتادة: أنه ذو العيال. واحتج بهذه الآية على أنّ المسكين يملك شيئاً لأنه لو كان لا يملك شيئاً لكان تقييده بقوله تعالى: {ذا متربة} تكريراً. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة برفع الكاف وجرّ رقبة وكسر همزة إطعام وفتح العين وبعدها ألف ورفع الميم منوّنة، والباقون فك بنصب الكاف رقبة بالنصب أطعم بفتح الهمزة والعين والميم بغير تنوين، ولا ألف بين العين والميم.
فإن قيل: قوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة} إلى آخره ذكر لا مرّة واحدة. قال الفرّاء والزجاج: والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي حتى تعيد لا كقوله تعالى: {فلا صدّق ولا صلى} (القيامة: 31)
؟.
أجيب: بأنه إنما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه فيجوز أن يكون قوله تعالى:
(13/469)
---(1/5194)
{ثم كان من الذين آمنوا} قائماً مقام التكرير فكأنه قال: {فلا اقتحم العقبة} ولا آمن. وقال الزمخشري: هي متكرّرة في المعنى: لأنّ معنى فلا اقتحم العقبة فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً، ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك. قال أبو حيان: ولا يتيم له هذا إلا على قراءة فك فعلاً ماضياً. وعن مجاهد: أنّ قوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا} يدل على أن: لا بمعنى لم ولا يلزم التكرير مع لم فإن كرّرت لا كقوله تعالى {فلا صدّق ولا صلى} فهو كقوله تعالى: {لم يسرفوا ولم يقتروا} (الفرقان: 67)
تنبيه: ثم كان معطوف على اقتحم وثم للترتيب، والمعنى: كان وقت الاقتحام من الذين آمنوا. وقال الزمخشري: جاء بثم لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت، لأنّ الإيمان هو السابق المقدّم على غيره، ولا يثبت عمل صالح إلا به. {وتواصوا}، أي: وصبروا وأوصى بعضهم بعضاً {بالصبر}، أي: على الطاعة وعن المعصية والمحن التي يبتلى بها المؤمن.
{وتواصوا بالمرحمة}، أي: بالرحمة على عباده بأن يكونوا متراحمين متعاطفين، أي: بما يؤدّي إلى رحمة الله تعالى.
{أولئك}، أي: الموصوفون بهذه الصفات {أصحاب الميمنة}، أي: الجانب الذي فيه اليمن والبركة والنجاة من كل هلكة. وقال محمد بن كعب:، أي: الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم. وقال يحيى بن سلام: لأنهم ميامين على أنفسهم. وقال ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيمن. وقال ميمون بن مهران: لأنّ منزلتهم عن اليمين. وقال الزمخشري: الميمنة اليمين أو اليمن.
(13/470)
---(1/5195)
{والذين كفروا}، أي: ستروا ما تظهر لهم مرائي بصائرهم من العلم {بآياتنا}، أي: على ما لها من العظمة بالإضافة إلينا، والظهور الذي لا يمكن خفاؤه من القرآن وغيره {هم أصحاب المشأمة}، أي: الخصلة المكسبة للشؤم والحرمان قال محمد بن كعب:، أي: الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم. وقال يحيى بن سلام: لأنهم مشائيم على أنفسهم. وقال ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيسر عليه السلام. وقال ميمون: لأنّ منزلتهم عن اليسار. وقال الزمخشري: المشأمة الشمال أو الشؤم.
قال القرطبي: ويجمع هذه الأقوال أصحاب الميمنة هم أصحاب الجنة وأصحاب المشأمة هم أصحاب النار.
{عليهم}، أي: خاصة {نار مؤصدة}، أي: مطبقة وقرأ أبو عمرو وحفص وحمزة بالهمزة، والباقون بغير همزة، أي: بواو ساكنة، وهما لغتان. يقال: أصدت الباب وأوصدته إذا أغلقته وأطبقته، وقيل: معنى المهموز المطبقة، وغير المهموز المغلقة. وإذا وقف حمزة أبدل على أصله. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة لا أقسم بهذا البلد أعطاه الله الأمان من غضبه يوم القيامة» حديث موضوع.
سورة الشمس مكية
وهي خمس عشرة آية وأربع وخمسون كلمةومائتان وسبعة وأربعون حرفاً
{بسم الله} الذي له الأسماء الحسنى {الرحمن} الذي يعلم السرّ وأخفى {الرحيم} الذي خص خواصه بالفردوس الأعلى.
(13/471)
---(1/5196)
وقوله تعالى: {والشمس}، أي: الجامعة بين النفع والضرّ، بالنور والحرّ {وضحاها} قسم وقد تقدّم الكلام على أن الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته وقيل: التقدير ورب الشمس إلى تمام القسم. واختلف في قوله تعالى: {وضحاها} فقال مجاهد والكلبي: ضوءها وقال قتادة: هو النهار كله. وقال مقاتل: هو حرّها، وقال لقوله تعالى في طه: {ولا تضحى} (طه: 119)، أي: لا يؤذيك الحرّ. وقال البريدي: انبساطها. قال الرازي: إنما أقسم بالشمس لكثرة ما يتعلق بها من المصالح، فإن أهل العالم كانوا كالأموات في الليل، فلما ظهر الصبح في المشرق صار ذلك الضوء كالروح الذي تنفخ فيه الحياة فصارت الأموات أحياء، ولا تزال تلك الحياة في القوّة والزيادة إلى غاية كمالها وقت الضحوة، وذلك يشبه استقرار أهل الجنة.
{والقمر}، أي: المكتسب من نورها كما أن أنوار النفوس من أنوار العقول {إذا تلاها}، أي: تبعها، وذلك إذا سقطت رؤى الهلال. قال الليث: يقال تلوت فلاناً إذا اتبعته. وقال ابن زيد: إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر تلاها القمر بالطلوع وفي آخر الشهر يتلوها بالغروب. وقال الفرّاء: تلاها، أي: أخذ منها يعني أن القمر يأخذ من ضوء الشمس. وقال الزجاج: تلاها، أي: حين استوى ودار وكان مثلها في الضياء والنور وذلك في الليالي البيض.
{والنهار}، أي: الذي هو محل الانتشار فيما جرت به الأقدار {إذا جلاها}، أي: الشمس بارتفاعه لأن الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء وقيل: الضمير للظلمة أو للدنيا أو للأرض وإن لم يجر لها ذكر، كقولهم: أصبحت باردة يريدون الغداة، وأرسلت يريدون السماء.
(13/472)
---(1/5197)
{والليل}، أي: الذي هو ضدّ النهار فهو محل السكون والانقباض {إذا يغشاها}، أي: يغطيها بظلمته فتغيب وتظلم الآفاق وقيل: الكتابة للأرض، أي: يغشى الدنيا بالظلمة فتظلم الآفاق فالكناية ترجع إلى غير مذكور، وجيء يغشاها مضارعاً دون ما قبله وما بعده مراعاة للفواصل؛ إذ لو أتى به ماضياً لكان التركيب إذا غشيها فتفوت المناسبة اللفظية بين الفواصل والمقاطع.
تنبيه: إذا في الثلاثة لمجرّد الظرفية والعامل فيها فعل القسم.
{والسماء وما}، أي: ومن {بناها}، أي: خلقها على هذا السقف المحكم. أقسم تعالى بنفسه وبأعظم مخلوقاته.
وقوله تعالى: {والأرض}، أي: التي هي فراشكم {وما}، أي: ومن {طحاها}، أي: بسطها وسطحها على الماء كذلك.
وكذا قوله تعالى: {ونفس}، أي: أي نفس جمع فيها سبحانه العالم بأسره {وما}، أي: ومن {سوّاها}، أي: عدلها على هذا القانون الأحكم في أعضائها، وما فيها من الجواهر والأعراض والمعاني وغير ذلك. فإن قيل: لم نُكرت النفس؟ أجيب: بوجهين:
أحدهما: أنه يريد نفساً خاصة من بين النفوس، وهي نفس آدم عليه السلام، كأنه قال تعالى: وواحدة من النفوس.
ثانيهما: أنه يريد كل نفسٍ، ونكره للتكثير على الطريقة المذكورة في قوله تعالى: {علمت نفس} (التكوير: 14)
وإنما أوثرت ما على من فيما ذكر لإرادة الوصفية بما ضمنا وإن لم يوصف بلفظها؛ إذ المراد أنها تقع على نوع من يعقل وعلى صفته، ولذلك مثلوا بقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم} (النساء: 3)
وقدّروها بأنكحوا الطيب، وهذا تنفرد به ما دون من. وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم.
أقسم الله تعالى بأنواع مخلوقاته المتضمنة للمنافع العظيمة حتى يتأمّل المكلف فيها ويشكر عليها، لأنّ الذي يقسم الله تعالى به يحصل به روح في القلب فتكون الدواعي إلى تأمّله أقرب.
(13/473)
---(1/5198)
{فألهمها}، أي: النفس {فجورها وتقواها} قال ابن عباس رضي الله عنهما: بين لها الخير والشرّ، وعنه: علمها الطاعة والمعصية. وعن أبي صالح: عرّفها ما تأتي وما تتقي. وقال سعيد بن جبير: ألزمها فجورها وتقواها. وقال ابن زيد: جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إياها للفجور. واختار الزجاج هذا وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان.
قال البغوي: وهذا بين أنّ الله تعالى خلق في المؤمن التقوى وفي الكافر الفجور وعن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضى عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلونه مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم وثبتت الحجة عليهم؟ قلت: بل شيء قضى عليهم، ومضى عليهم، فقال: أفلا يكون ظلماً؟ قال: ففزعت منه فزعاً شديداً وقلت: إنه ليس شيء إلا وهو خلقه وملك يده {لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون} (الأنبياء: 23)
فقال لي سدّدك الله إنما سألتك لأختبر عقلك. إنّ رجلاً من جهينة أو مزينة أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ويكادحون فيه أشيء قضى الله عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وأكدت به الحجة، فقال: في شيء قد مضى عليهم، قال فقلت: ففيم العمل الآن؟ قال: من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه الله لها.
وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها}». وعن جابر قال: «جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أو فيما يستقبل؟ قال: «بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. قال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا وكل ميسر لما خلق له». واختلف في جواب القسم فأكثر المفسرين على أنه:
(13/474)
---(1/5199)
{قد أفلح}، أي: ظفر بجميع المرادات، والأصل: لقد وإنما حذفت لطول الكلام. وقيل: إنه ليس بجواب وإنما جيء به تابعاً لقوله تعالى: {فألهمها فجورها وتقواها} على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء، والجواب محذوف تقديره: ليدمدمن الله عليهم، أي: أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود؛ لأنهم قد كذبوا صالحاً أو لتبعثن وقيل: هو على التقديم والتأخير من غير حذف.
والمعنى: {قد أفلح من زكاها}، أي: طهرها من الذنوب ونماها وأصلحها، وصفاها تصفية عظيمة مما يسره الله تعالى له من العلوم النافعة والأعمال الصالحة {وقد خاب}، أي: خسر {من دساها}، أي: أغواها إغواءً عظيماً أو أفسدها وأهلكها بخبائث الاعتقادات، ومساوئ الأعمال وقبائح السيئات. {والشمس وضحاها} وفاعل زكاها ودساها ضمير من، وقيل: ضمير الباري سبحانه، أي: قد أفلح من زكاها بالطاعة، {وقد خاب من دساها}، أي: خسرت نفسٌ دساها الله تعالى بالمعصية. وأنكر الزمخشري على صاحب هذا القول لمنافرته مذهبه، ولكن قال بعض المفسرين: الحق أنه خلاف الظاهر لا كما قاله الزمخشري. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: خابت نفس أضلها الله تعالى وأغواها، وأصل الزكاة النموّ والزيادة، ومنه زكى الزرع إذا كثر ريعه، ومنه تزكية القاضي الشاهد؛ لأنه يرفعه بالتعديل. وأصل دساها دسسها من التدسيس، وهو إخفاء الشيء فأبدل من السين الثانية ياء، والمعنى: أخملها وأخفى محلها بالكفر والمعصية، وعن زيد بن أرقم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمّ إني أعوذ بك من العجز والكسل والبخل والجبن والهمّ». وفي رواية: «والهرم وعذاب القبر اللهمّ آت نفسي تقواها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهمّ إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن نفس لا تشبع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعوة لا يستجاب لها».
(13/475)
---(1/5200)
{كذبت ثمود} وهم قوم صالح، كذبوا رسولهم صالحاً عليه السلام وأنث فعلهم لضعف أثر تكذيبهم؛ لأنّ كل سامع له يعرف ظلمهم فيه لوضوح آيتهم {بطغواها}، أي: أوقعت التكذيب لرسولها بكل ما أتى به عن الله تعالى، أي: طغيانها. وقيل: إن الباء للاستعانة. قال الزمخشري: مثلها في كتبت بالقلم. والطغوى من الطغيان فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء بأن قلبوا الياء واواً في الاسم، وتركوا القلب في الصفة، فقالوا: امرأة خزياً وصدياً، يعني: فعلت التكذيب بطغيانها كما تقول: ظلمني بجراءته على الله تعالى. وقيل: كذبت بما أوعدت به من عذاب ذي الطغوى كقوله تعالى: {فأهلكوا بالطاغية} (الحاقة: 5)
{إذ}، أي: تحقق تكذيبهم أو طغيانهم بالفعل حين {انبعث أشقاها}، أي: قام وأسرع وذلك أنهم لما كذبوا بالعذاب، وكذبوا صالحاً عليه السلام انبعث أشقى القوم وهو قدار بن سالف وكان رجلاً أشقر أزرق قصيراً فعقر الناقة، وعن عبد الله بن زمعة أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب فذكر الناقة والذي عقرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «{إذ انبعث أشقاها} انبعث لها رجل عزيز عارم متبع في أهله مثل أبي زمعة». وقوله: عارم، أي: شديد ممتنع. قال الزمخشري: ويجوز أن يكونوا جماعة. والتوحيد لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.
تنبيه: إذ منصوب بكذبت أو بطغواها.{{
(13/476)
---(1/5201)
{فقال لهم}، أي: بسبب الانبعاث أو التكذيب الذي دل على قصدهم لها بالأذى {رسول الله}، أي: صالح عليه السلام، وعبر بالرسول لأنّ وظيفته الإبلاغ والتحذير الذي ذكر هنا، ولذلك قال تعالى مشيراً بحذف العامل إلى ضيق الحال عن ذكره لعظم الهول وسرعة التعذيب عند مسها بالأذى. وزاد في التعظيم بإعادة الجلالة {ناقة الله}، أي: الملك الأعظم الذي له الأمر كله، وهي منصوبة على التحذير كقولك: الأسد الأسد، والصبي الصبي بإضمار اتقوا أو احذروا ناقة الله. {وسقياها}، أي: وشربها في يومها، وكان لها يوم ولهم يوم؛ لأنهم لما اقترحوا الناقة فأخرجها لهم من الصخرة جعل لهم شرب يوم من بئرهم، ولها شرب يوم فشق عليهم. وإضافة الناقة إلى الله تعالى إضافة تشريف كبيت الله.
{فكذبوه}، أي: صالحاً عليه السلام بطغيانهم في وعيدهم بالعذاب {فعقروها}، أي: عقرها الأشقى بسبب ذلك التكذيب، وأضيف إلى الكل؛ لأنهم رضوا بفعله، وإن كان العاقر جماعة فواضح. وقال قتادة: بلغنا إنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم. وقال الفرّاء: عقرها اثنان، والعرب تقول: هذان أفضل الناس وهذان خير الناس، وهذه المرأة أشقى القوم ولهذا لم يقل أشقياها.
{فدمدم} أي فأطبق {عليهم ربهم}، أي: الذي أحسن إليهم فغمرهم إحسانه فقطعه عنهم بسبب تكذيبهم فأهلكهم وأطبق عليهم العذاب، يقال: دمدمت عليه القبر أطبقته عليه {بذنبهم}، أي: بسبب كفرهم وتكذيبهم وعقرهم الناقة. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: {دمدم عليهم ربهم بذنبهم}، أي: بجرمهم. وقال القشيري: وقيل: دمدمت على الميت التراب، أي: سوّيته عليه. فالمعنى على هذا: فجعلهم تحت التراب، {فسوّاها}، أي: فسوّى عليهم الأرض فجعلهم تحت التراب وعلى الأوّل فسوّى الدمدمة عليهم، أي: عمهم بها فلم يفلت منهم أحداً.
(13/477)
---(1/5202)
وقرأ {ولا يخاف} نافع وابن عامر بالفاء، والباقون بالواو فالفاء تقتضي التعقيب، والواو يجوز أن تكون للحال، وأن تكون للاستئناف الإخباري. وضمير الفاعل في يخاف الأظهر عوده على الله تعالى؛ لأنه أقرب مذكور، وهو قول ابن عباس، ويؤيده قراءة الفاء المسببة عن الدمدمة والتسوية والهاء في قوله تعالى: {عقباها} ترجع إلى الفعلة، وذلك لأنه تعالى يفعل ذلك بحقَ. وكل من فعل فعلاً يحق فإنه لا يخاف عاقبة فعله.
وقيل: المراد تحقيق ذلك الفعل والله تعالى أجل من أن يوصف بذلك. وقيل: المعنى أنه تعالى بالغ في الإنذار إليهم مبالغة كمن لا يخاف عاقبة عذابهم. وقيل: يرجع ذلك إلى رسولهم صالح عليه السلام، أي: لا يخاف عقبى هذه العقوبة لإنذاره إياهم ونجاه الله وأهلكهم. وقال السدّي: يرجع الضمير إلى أشقاها، أي: انبعث لعقرها والحال أنه غير خائف عاقبة هذه الفعلة الشنعاء.
وقرأ الكسائي جميع رؤوس آي هذه السورة بالإمالة محضة، وقرأها أبو عمرو بين بين، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، وأمال حمزة مثل الكسائي إلا تلاها وضحاها ففتحهما، والباقون بالفتح واتفقوا على فتح فعقروها. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة والشمس فكأنما تصدّق بكل شيء طلعت عليه الشمس والقمر» حديث موضوع.
سورة والليل مكية
وهي إحدى وعشرون آية وإحدى وسبعون كلمة وثلاثمائة وعشرة أحرف
{بسم الله} الملك الحق المبين {الرحمن} الذي عمّ رزقه العالمين {الرحيم} الذي خص بجنته المؤمنين.
(13/478)
---
وقوله تعالى: {والليل}، أي: الذي هو آلة الظلام {إذا يغشى} قسم. وقد مرّ الكلام على ذلك، ولم يذكر تعالى مفعولاً للعلم به، فقيل: يغشى بظلمته كل ما بين السماء والأرض، وقيل: يغشى النهار، وقيل: الأرض، وقيل: الخلائق. قال قتادة: أوّل ما خلق الله تعالى النور والظلمة ثم ميز بينهما فجعل الظلمة ليلاً أسود مظلماً، والنور نهاراً مضيئاً مبصراً.(1/5203)
وقوله تعالى: {والنهار}، أي: الذي هو سبب انكشاف الأمور {إذا تجلى}، أي: تكشف وظهر قسم آخر. قال الرازي: أقسم بالليل الذي يأوي فيه كل حيوان إلى مأواه وتسكن الخلق عن الاضطراب، ويغشاهم النوم الذي جعله الله تعالى راحة لأبدانهم وغذاء لأرواحهم، ثم أقسم بالنهار إذا تجلى؛ لأن النهار إذا جاء انكشف بضوئه ما كان في الدنيا من الظلمة، وجاء الوقت الذي تتحرّك فيه الناس لمعايشهم وتتحرك الطير من أوكارها والهوامّ من مكانها، فلو كان الدهر كله ليلاً لتعذّر المعاش، ولو كان كله نهاراً لبطلت الراحة، لكن المصلحة في تعاقبهما كما قال تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} (الفرقان: 62)
وقال تعالى: {وسخر لكم الليل والنهار} (إبراهيم: 33)
.u
{وما} بمعنى من أي، ومن {خلق الذكر والأنثى}، أي: فيكون قد أقسم بنفسه، أو مصدرية، أي: وخلق الله الذكر والأنثى وجاز إضمار اسم الله تعالى لأنه معلوم لانفراده بالخلق؛ إذ لا خالق سواه والذكر والأنثى آدم وحوّاء عليهما السلام، أو كل ذكر وأنثى من سائر الحيوانات. والخنثى وإن أشكل أمره عندنا فهو عند الله تعالى غير مشكل معلوم بالذكورة أو الأنوثة، فلو حلف بالطلاق أنه لم يلق ذكراً ولا أنثى وقد لقي خنثى مشكلاً كان حانثاً، لأنه في الحقيقة ذكر أو أنثى وإن كان مشكلاً عندنا. وقيل: كل ذكر وأنثى من الآدميين فقط لاختصاصهم بولاية الله تعالى وطاعته.
(13/479)
---(1/5204)
وقوله تعالى: {إنّ سعيكم}، أي: عملكم {لشتى} جواب القسم، والمعنى: أنّ أعمالكم لتختلف، فعامل للجنة بالطاعة وعامل للنار بالمعصية، ويجوز أن يكون محذوفاً كما قيل في نظائره المتقدّمة، وشتى: واحده شتيت مثل: مريض ومرضى، وإنما قيل: للمختلف شتى: لتباعد ما بين بعضه وبعضه، أي: إنّ عملكم المتباعد بعضه من بعض لشتى؛ لأنّ بعضه ضلال وبعضه هدى، أي: فيكم مؤمن وبر وكافر وفاجر، ومطيع وعاص. وقيل: لشتى، أي: لمختلف الجزاء، فمنكم مثاب بالجنة ومعاقب بالنار. وقيل: لمختلف الأخلاق فمنكم راحمٌ وقاسٍ وحليمٌ وطائشٌ وجوادٌ وبخيل قال بعض المفسرين: نزلت هذه الآية في أبي بكر وأبي سفيان بن حرب. وروى أبو مالك الأشعري «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»، أي: مهلكها.
وقوله تعالى: {فأمّا من أعطى}، أي: وقع منه إعطاء على ما حدّدناه له وأمرناه به {واتقى}، أي: ووقعت منه التقوى، وهي إيجاد الوقايات من الطاعات واجتناب المعاصي خوفاً من سطواتنا.
{وصدّق بالحسنى} تفصيل مبين لتشتيت المساعي. واختلف في الحسنى فقال ابن عباس:، أي: بلا إله إلا الله. وقال مجاهد: بالجنة لقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى} (يونس: 26)
. وقال زيد بن أسلم: الصلاة والزكاة والصوم.{{
(13/480)
---
{فسنيسره}، أي: نهيئه بما لنا من العظمة بوعدٍ لا خلف فيه {لليسرى}، أي: لأسباب الخير والصلاح حتى يسهل فعلها. وقال زيد بن أسلم: لليسرى، أي: للجنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من نفس منفوسة إلا كتب الله تعالى مدخلها، فقال القوم: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم بل اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أمّا من كان من أهل السعادة فإنه ميسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فإنه ميسر لعمل أهل الشقاوة. ثم قرأ {فأمّا من أعطى وأتقى وصدّق بالحسنى فسنيسره لليسرى}».(1/5205)
{وأمّا من بخل}، أي: أوجد هذه الحقيقة الخبيثة فمنع ما أمر به وندب إليه. {واستغنى}، أي: طلب الغنى عن الناس وعما وعد به من الثواب، أو وجده بما زعمت له نفسه الخائنة وظنونه الكاذبة فلم يحسن إلى الناس ولا عمل للعقبى.
{وكذب}، أي: أوقع التكذيب لمن يستحق التصديق {بالحسنى}، أي: فأنكرها وكان عامداً مع المحسوسات كالبهائم.
{فسنيسره}، أي: نهيئه {للعسرى}، أي: للخلة المؤدية إلى العسرة والشدة كدخول النار. وعن ابن عباس قال: نزلت في أمية بن خلف، وعنه فسنيسره للعسرى، أي: سأحول بينه وبين الإيمان بالله ورسوله وعنه أيضاً.
{وأمّا من بخل}، أي: بماله واستغنى عن ربه {وكذب بالحسنى}، أي: بالخلف الذي وعده الله تعالى في قوله سبحانه: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} (سبأ: 39)
وقال مجاهد: {وكذب بالحسنى}، أي: بالجنة، وعنه بلا إله إلا الله ويجوز في مافي قوله تعالى:
{وما يغني عنه ماله} أن تكون نافية، أي: لا يغني عنه ماله شيئاً وأن تكون استفهاماً انكارياً، أي: شيء يغني عنه ماله {إذا تردّى} قال أبو صالح: أي إذا سقط في جهنم. وقيل: هو كناية عن الموت كما قال القائل:{{
(13/481)
---
*نصيبك مما تجمع الدهر كله ** رداآن تطوى فيهما وحنوط*
ولما عرفهم سبحانه أنّ سعيهم شتّى وبين للمحسنين من اليسرى وما للمسيئين من العسرى أخبرهم بأنّ عليه بيان الهدى من الضلال بقوله تعالى:
{إنّ علينا}، أي: بما لنا من القدرة والعظمة {للهدى}، أي: للإرشاد إلى الحق بموجب قضائنا، أو بمقتضى حكمتنا فنبين طريق الهدى من طريق الضلال ليمتثل أمرنا بسلوك الأوّل، ونهينا عن ارتكاب الثاني. وقال الفراء: معناه إن علينا للهدى والإضلال فحذف المعطوف، كقوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل: 81)(1/5206)
وهو معنى قول ابن عباس: يريد أرشد أوليائي للعمل بطاعتي، وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي، وهو معنى الإضلال. وقيل: معناه من سلك سبيل الهدى فعلى الله تعالى سبيله كقوله تعالى: {وعلى الله قصد السبيل} (النحل: 9)
{وإنّ لنا للآخرة والأولى}، أي: لنا ما في الدنيا والآخرة فنعطي في الدارين ما نشاء لمن نشاء فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ الطريق. وعن ابن عباس قال: ثواب الدنيا والآخرة. وهو كقوله تعالى: {من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة} (النساء: 134)
{فأنذرتكم}، أي: حذرتكم وخوّفتكم يا أيها المخالفون للطريق الذي بينته {ناراً تلظى} بحذف إحدى التاءين من الأصل، أي: تتلهب وتتوقد وتتوهج، يقال: تلظت النار تلظياً، ومنه سميت جهنم لظى. وقرأ البزي في الوصل بتشديد التاء وهو عَسِرٌ لالتقاء الساكنين على غير حدّهما، وهو نظير قوله تعالى: {إذ تلقونه} (النور: 15)
والباقون بغير تشديد.{{
(13/482)
---
{لا يصلاها}، أي: لا يقاسى شدّتها على طريق اللزوم والانغماس {إلا الأشقى}، أي: الذي هو في الذروة من الشقاوة وهو الكافر فإنّ الفاسق وإن دخلها لم يلزمها ولذلك سماه أشقى ووصفه بقوله تعالى:
{الذي كذب} النبيّ صلى الله عليه وسلم {وتولى}، أي: عن الإيمان، أو كذب الحق وأعرض عن الطاعة أو الأشقى بمعنى الشقي كقوله: لست فيها بأوحد، أي: واحد. والحصر مؤوّل لقوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48)
فيكون المراد الصليّ المؤبد.
{وسيجنبها}، أي: النار الموصوفة بوعد لا خلف فيه {الأتقى}، أي: الذي اتقى الشرك والمعاصي فإنه لا يدخلها فضلاً أن يدخلها ويصلاها، ومفهوم ذلك على التفسير الأوّل أنّ من أتقى الشرك دون المعصية لا يتجنبها ولا يلزم ذلك صليها ولا يخالف الحصر السابق، أو الأتقى بمعنى التقى على وزان ما مرّ.
(13/483)
---(1/5207)
{الذي يؤتي ماله}، أي: يصرفه في وجوه الخير لقوله تعالى: {يتزكى} فإنه بدل من يؤتى أو حال من فاعله فعلى الأوّل: لا محل له لأنه داخل في حكم الصلة، والصلة لا محل لها. وعلى الثاني: محله نصب. قال البغوي: يعني أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه في قول الجميع. قال ابن الزبير: كان يبتاع الضَعَفَة فيعتقهم، فقال له أبوه: أي بنيّ لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، فقال: منع ظهري أريد، فأنزل الله تعالى {وسيجنبها الأتقى} إلى آخر السورة. وذكر محمد بن إسحاق قال: كان بلال لبعض بني جمح وهو بلال ابن رباح واسم أمّه حمامة، وكان صادق الإسلام طاهر القلب، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الشمس فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، فيقول: وهو في ذلك أحد أحد. قال محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه قال: مرّ به أبو بكر يوماً وهم يصنعون به ذلك، وكانت دار أبي بكر في بني جمح، فقال لأمية ألا تتقي الله تعالى في هذا المسكين، قال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى، قال أبو بكر: أفعل عندي غلام أسود أجلد منه، وهو على دينك أعطيكه، قال: قد فعلت فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذه فأعتقه. وكان قد أعتق ست رقاب على الإسلام قبل أن يهاجر وبلال سابعهم، وهم عامر بن هبيرة قوله ابن هبيرة: هكذا في النسخ والذي في حاشية الجمل ابن فهيرة بالفاء والهاء اه شهد بدراً وأحداً، وقتل يوم بئر معونة شهيداً، وأعتق أمّ عميس فأصيب بصرها حين أعتقها فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى ولا تنفعان، فرد الله تعالى بصرها وأعتق النهدية وابنتها وكانتا لامرأةٍ لبني عبد الدار، فمرّ بهما وقد بعثتهما سيدتهما يحتطبان لها وهي تقول لهما: والله لا أعتقكما أبداً، فقال أبو بكر: كلا يا أمّ فلان، فقالت: كلا أنت أفسدتهما فأعتقهما، قال: فبكم؟ قالت: بكذا وكذا، قال:(1/5208)
(13/484)
---
قد أخذتهما وهما حرّتان. ومرّ بجارية من بني المرسل وهي تعذب فابتاعها فأعتقها.
وقال سعيد بن المسيب: بلغني أنّ أمية بن خلف قال له أبو بكر في بلال: أتبيعه؟ قال: نعم أبيعه بقسطاس عبدٍ لأبي بكر صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوارٍ ومواشٍ وكان مشركاً، حمله أبو بكر على الإسلام على أن يكون ماله له فأبى، فأبغضه أبو بكر فلما قال له أمية: أبيعه بغلامك قسطاس اغتنمه أبو بكر وباعه به. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: عذب المشركون بلالاً وبلال يقول أحد أحد، فمرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أحد يعني الله تعالى ينجيك، ثم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: يا أبا بكر إنّ بلالاً يعذب في الله فعرف أبو بكر الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف إلى منزله فأخذ رطلاً من ذهب ومضى به إلى أمية بن خلف، فقال له: أتبيعني بلالاً قال: نعم فاشتراه فأعتقه، فقال: المشركون ما فعل ذلك أبو بكر ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده» فأنزل الله تعالى:
{وما لأحد عنده}، أي: أبي بكر {من نعمة تجزى}»، أي: يد يكافئه عليها.
(13/485)
---(1/5209)
وقوله تعالى: {إلا ابتغاء} استثناء منقطع، أي: لم يفعل ذلك مجازاة لأحد بيد كانت له عنده لكن فعله ابتغاء {وجه ربه}، أي: المحسن إليه {الأعلى} وطلب رضاه. ويجوز أن يكون متصلاً عن محذوف مثل {لا يؤتى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} لا لمكافأة نعمة {ولسوف يرضى}، أي: بما يعطى من الثواب في الجنة. وروي عن عليّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وأعتق بلالاً» والآية تشمل من فعل مثل فعله فيبعد عن النار ويثاب. وقرأ حمزة والكسائيّ يغشى، تجلى، والأنثى، لشتى، من أعطى، وأتقى، وصدّق بالحسنى واستغنى بالحسنى، تردّى، للهدى، والأولى، تلظى، الأشقى، وتولى، الأتقى، يتزكى، تجزى، الأعلى، يرضى بالإمالة محضة في جميع ذلك، وأمال ورش جميع ذلك بين بين والفتح عنه قليل، وله في من أعطى الفتح وبين اللفظين سواء، وأمال أبو عمرو بين بين إلا من أعطى لأنه ليس برأس آية، والباقون بالفتح، وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي لليسرى للعسرى بالإمالة محضة، وورش بين اللفظين والباقون بالفتح، وأمال حمزة والكسائي يصلاها محضة ولورش الفتح وبين اللفظين وإذا فتح اللام وإذا أمال رققها، وأمّا الأشقى والأتقى فلا يمالان إلا في الوقف دون الوصل. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة والليل أعطاه الله تعالى حتى يرضى وعافاه من العسر ويسر له اليسر» حديث موضوع.
سورة الضحى مكية
وهي إحدى عشرة آية وأربعون كلمة ومائة وسبعون حرفاً
ولما نزلت كبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فسنّ التكبير آخرها وروى الأمر به خاتمتها وخاتمة كل سورة بعدها وهو الله أكبر أو لا إله إلا الله والله أكبر.
{بسم الله} الملك ذي الجلال والإكرام {الرحمن} الذي عمّ بنعمته الخاص والعام {الرحيم} الذي خص أهل ودّه بإتمام الإنعام.
(13/486)
---(1/5210)
وقوله تعالى: {والضحى} قسم، وقد مرّ الكلام على ذلك وخصه بالقسم لأنها الساعة التي كلم فيها موسى عليه السلام وألقى السحرة فيها سجداً، وهو صدر النهار كله بدليل أنه قابله بالليل في قوله تعالى:
{والليل}، أي: الذي به تمام الصلاح {إذا سجى}، أي: سكن وركد ظلامه يقال ليلة ساجية ساكنة الريح وقيل: معناه سكون الناس والأصوات فيه، وسجى البحر: سكنت أمواجه، وطرف ساج فاتر.
وقال قتادة: أقسم بالضحى الذي كلم الله تعالى فيه موسى وبليلة المعراج التي عرج فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى قدّم هنا الضحى وفي السورة التي قبلها الليل؟ أجيب: بأنّ لكل منهما أثراً عظيماً في صلاح العالم.
ولليل فضيلة السبق لقوله تعالى: {وجعل الظلمات والنور} (الأنعام: 1)
وللنهار فضيلة النور فقدّم سبحانه هذا تارة وهذا أخرى، كالركوع والسجود في قوله تعالى: {اركعوا واسجدوا} (الحج: 77)
وقوله تعالى: {واسجدي واركعي مع الراكعين} (آل عمران: 43)
أو أنه قدّم الليل في سورة أبي بكر لأنّ أبا بكر سبقه كفر، وقدّم الضحى في سورة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه نور محض ولم يتقدّمه ذنب، أو أنّ سورة الليل سورة أبي بكر وسورة الضحى سورة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يجعل بينهما واسطة بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر رضي الله تعالى عنه.{{
(13/487)
---
فإن قيل: ما الحكمة في كونه تعالى ذكر الضحى، وهو ساعة وذكر الليل بجملته؟ أجيب: بأنّ في ذلك إشارة إلى أن ساعة من نهار توازن جميع الليل كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم يوازن جميع الأنبياء عليهم السلام، وأيضاً الضحى وقت السرور والليل وقت الوحشة ففيه إشارة إلى أنّ سرور الدنيا أقل من شرورها، وأنّ هموم الدنيا أدوم من سرورها، فإنّ الضحى ساعة والليل ساعات.(1/5211)
ويروى أنّ الله تعالى لما خلق العرش أظلت عمامة سوداء ونادت ماذا أمطر؟ فأجيبت: أن امطري السرور ساعة فلهذا ترى الهموم والأحزان دائمة والسرور قليلاً ونادراً، وقدّم ذكر الضحى وأخر الليل؛ لأنه يشبه الموت.
وقوله تعالى: {ما ودّعك}، أي: تركك يا أشرف الرسل تركاً تحصل به فرقة كفرقة المودّع، ولو على أحسن الوجوه الذي هو مراد المودع {ربك}، أي: المحسن إليك جواب القسم {وما قلى}، أي: وما أبغضك بغضاً ما، وتركت الكاف لأنه رأس آية كقوله تعالى: {والذاكرين الله كثيراً والذاكرات} (الأحزاب: 35)
أي الله.
تنبيه: اختلفوا في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقوال أحدها ما روى البخاري عن جندب بن سفيان قال: «اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتين أو ثلاثاً فجاءت أمّ جميل امرأة أبي لهب، فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث» فنزلت.
ثانيها: ما روى أبو عمرو قال: «أبطأ جبريل عليه السلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى شق عليه فجاءه وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو وأنزل عليه الآية».
(13/488)
---
ثالثها: ما روي «أنّ خولة كانت تخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إنّ جرواً دخل البيت فدخل تحت السرير فمات فمكث النبيّ صلى الله عليه وسلم أياماً لا ينزل عليه الوحي، فقال صلى الله عليه وسلم يا خولة ما حدث في بيتي إنّ جبريل عليه السلام لا يأتيني قالت خولة: فكنست فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا جرو ميت فأخذته فألقيته خلف الجدار فجاء نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ترعد لحياه وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة، فقال: يا خولة، دثريني فأنزل الله تعالى هذه السورة.
ولما نزل جبريل عليه السلام سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن التأخير فقال: أما علمت أنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة».(1/5212)
رابعها: ما روي «أنّ اليهود سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف؟ فقال صلى الله عليه وسلم سأخبركم غداً ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي إلى أن نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: {ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} (الكهف: 23)
فأخبره بما سئل عنه، وفي هذه القصة نزلت {ما ودّعك ربك}» واختلفوا في مدّة احتباس الوحي عنه. فقال ابن جرير: اثنا عشر يوماً. وقال ابن عباس: خمسة عشر يوماً. وقال مقاتل: أربعون يوماً. قالوا: وقال المشركون: إنّ محمداً ودّعه ربه وقلاه فأنزل الله تعالى هذه السورة فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «يا جبريل ما جئت حتى اشتقت إليك؟ فقال جبريل عليه السلام: إني كنت إليك أشدّ شوقاً ولكني عبد مأمور وأنزل الله تعالى: {وما نتنزل إلا بأمر ربك}» (مريم: 64)
{وللآخرة} التي هي المقصود من الوجود بالذات لأنها باقية خاصة عن شوائب الكدر {خير لك}، أي: لما فيها من الكرامات لك {من الأولى}، أي: الدنيا الفانية التي لا سرور فيها خالص وقيد تعالى بقوله سبحانه: {لك} لأنها ليست خيراً لكل أحد.
(13/489)
---
قال البقاعي: إنّ الناس على أربعة أقسام: منهم من له الخير في الدارين وهم أهل الطاعة الأغنياء، ومنهم: من له الشرّ فيهما وهم الكفرة الفقراء، ومنهم من له صورة خير في الدنيا وشرّ في الآخرة وهم الكفرة الأغنياء، ومنهم من له صورة شرّ في الدنيا وخير في الآخرة وهم المؤمنون الفقراء. وروى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أهل البيت أختار الله لنا الآخرة على الدنيا».(1/5213)
{ولسوف يعطيك}، أي: بوعد لا خلف فيه وإن تأخر وقته بما أفهمته الأداة {ربك}، أي: المحسن إليك بسائر النعم في الآخرة من الخيرات عطاء جزيلاً {فترضى}، أي: به فقال صلى الله عليه وسلم «إذاً لا أرضى وواحد من أمّتي في النار». وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رفع يديه وقال: «اللهمّ أمّتي أمّتي وبكى فقال الله تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمّتك ولا نسوءك». وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لكل نبيّ دعوة مستجابة فتعجل كل نبيّ دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمّتي يوم القيامة فهي نائلة من مات لا يشرك بالله شيئاً» وعن عوف بن مالك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني آت من عند ربي يخبرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة، فهي نائلة من مات لا يشرك بالله شيئاً». وعن شريح قال: سمعت أبا جعفر محمد بن عليّ يقول: إنكم معشر أهل العراق تقولون أرجى آية في القرآن {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} (الزمر: 53)
(13/490)
---
وإنا أهل البيت نقول: أرجى آية في كتاب الله {ولسوف يعطيك ربك فترضى} وفي هذا موعد لما أعطاه الله تعالى في الدنيا من الفتح والظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة ودخول الناس في الدين أفواجاً، والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن، وهدم بأيديهم من ممالك الجبابرة، وأنهبتهم من كنوز الأكاسرة وما قذف في قلوب أهل الشرق والغرب من الرعب وتهيب الإسلام وفشوّ الدعوة واستيلاء المسلمين.(1/5214)
ولما أعطاه في الآخرة من الثواب الذي لا يعلم كنهه إلا الله تعالى. قال ابن عباس: له الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك. فإن قيل: ما هذه اللام الداخلة على سوف؟ أجيب: بأنها لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والمبتدأ محذوف تقديره: ولأنت سوف يعطيك، وذلك أنها لا تخلو من أن تكون لام قسم ابتداء، ولام الابتداء، لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر فلا بدّ من تقدير مبتدأ وخبر، وأن يكون أصله: ولأنت سوف يعطيك.
فإن قيل: ما معنى الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير؟ أجيب: بأن معناه: أنّ العطاء كائن لا محالة وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة على أنه تعالى أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بالحال التي كان عليها.
(13/491)
---
فقال جل ذكره: {ألم يجدك} وهو استفهام تقرير، أي: وجدك {يتيماً} وذلك أنّ أباه مات وهو جنين قد أتت عليه ستة أشهر، وقيل: مات قبل ولادته وماتت أمّه وهو ابن ثمان سنين. {فآوى}، أي: بأن ضمك إلى عمك أبي طالب فأحسن تربيتك. وعن مجاهد: هو من قول العرب درة يتيمة إذا لم يكن لها نظير، فالمعنى: ألم يجدك يتيماً واحداً في شرفك فآواك الله تعالى بأصحاب يحفظونك ويحوطونك. وهذا خلاف الظاهر من الآية، ولهذا قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير أنه من قولهم: درة يتيمة، وأنّ المعنى: ألم يجدك واحداً في قريش عديم النظير فآواك. فإن قيل: كيف أنّ الله تعالى يمنّ بنعمه والمنّ بها لا يليق، ولهذا ذمّ فرعون في قوله لموسى عليه السلام: {ألم نربك فينا وليداً} (الشعراء: 18)
؟ أجيب: بأنّ ذلك يحسن إذا قصد به تقوية قلبه ووعده بدوام النعمة، فامتنان الله تعالى زيادة نعمة بخلاف امتنان الآدمي.(1/5215)
واختلفوا في قوله تعالى: {ووجدك ضالاً فهدى} فأكثر المفسرين على أنه كان ضالاً عما هو عليه الآن من الشريعة فهداه الله تعالى إليها، وقيل: الضلال بمعنى الغفلة كقوله تعالى: {لا يضل ربي ولا ينسى} (طه: 52)، أي: لا يغفل. وقال تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم {وإن كنت من قبله لمن الغافلين} (يوسف: 3)
. وقال الضحاك: المعنى: لم تكن تدري القرآن وشرائع الإسلام فهداك إلى القرآن وشرائع الإسلام.
وقال السدي: وجدك ضالاً، أي: في قوم ضلال فهداهم الله تعالى بك، أو فهداك على إرشادهم. وقيل: وجدك ضالاً عن الهجرة فهداك إليها. وقيل: ناسياً شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فذكرك كقوله تعالى: {أن تضل إحداهما} (البقرة: 282)
. وقيل: وجدك طالباً للقبلة فهداك إليها. كقوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} (البقرة: 144)
(13/492)
---
الآية، ويكون الضلال بمعنى الطلب لأنّ الضال طالب وقيل: وجدك ضائعاً في قومك فهداك إليهم، ويكون الضلال. بمعنى المحبة كما قال تعالى: {تالله إنك لفي ضلالك القديم} (يوسف: 95)، أي: محبتك. قال الشاعر:
*هذا الضلال أشاب مني المفرقا ** والعارضين ولم أكن متحققا*
*عجباً لعزة في اختيار قطيعتي ** بعد الضلال فحبلها قد أخلقا*(1/5216)
وروى الضحاك عن ابن عباس: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ضل في شعاب مكة وهو صبي صغير فرآه أبو جهل منصرفاً من أغنامه فردّه إلى عبد المطلب. وقال سعيد بن المسيب: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة عبد خديجة، فبينما هو راكب ذات ليلة مظلمة ناقة فجاء إبليس فأخذ بزمام الناقة فعدل بها عن الطريق فجاء جبريل عليه السلام فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الحبشة وردّه إلى القافلة، فمنّ الله تعالى عليه بذلك وقيل: وجدك ضالاً نفسك لا تدري من أنت فعرفك نفسك وحالك. وقال كعب: إنّ حليمة لما قضت حق الرضاع جاءت برسول الله صلى الله عليه وسلم لتردّه على عبد المطلب فسمعت عند باب مكة هنيأ لك يا بطحاء مكة اليوم يرد إليك النور والبهاء والجمال قالت: فوضعته لأصلح شأني فسمعت هدّة شديدة فالتفت فلم أره، فقلت: معشر الناس أين الصبي؟ فقالوا: لم نر شيئاً فصحت وامحمداه فإذا شيخ فان يتوكأ على عصا، فقال: اذهبي إلى الصنم الأعظم فإن شاء أن يرده إليك فعل ثم طاف الشيخ بالصنم وقبل رأسه، وقال: يا رب لم تزل منتك على قريش وهذه السعدية تزعم أنّ ابنها قد ضلّ فردّه إن شئت فانكب على وجهه وتساقطت الأصنام، وقالت إليك عنا أيها الشيخ فهلاكنا على يد محمد فألقى الشيخ عصاه وارتعد، وقال: إنّ لابنك رباً لا يضيعه فاطلبيه على مهل فانحشرت قريش إلى عبد المطلب، وطلبوه في جميع مكة فلم يجدوه فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعاً وتضرّع إلى الله تعالى أن يرده، وقال:
(13/493)
---
*يا رب ردّ ولدي محمداً ** اردده ربي واصطنع عندي يدا*(1/5217)
فسمعوا منادياً ينادي من السماء معاشر الناس لا تضجوا فإن لمحمد رباً لا يخذله ولا يضيعه وإنّ محمداً بوادي ثمامة عند شجرة السمر فسار عبد المطلب هو وورقة بن نوفل فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يلعب بالأغصان وبالورق. وفي رواية ما زال عبد المطلب يردّد البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة ومحمد صلى الله عليه وسلم بين يديه، وهو يقول: ألا تدري ماذا جرى من ابنك فقال عبد المطلب: ولم؟ فقال: إني أنخت الناقة وأركبته خلفي فأبت الناقة أن تقوم فلما أركبته أمامي قامت الناقة. قال ابن عباس: ردّه الله تعالى إلى جده بيد عدوّه كما فعل موسى عليه السلام حين حفظه عند فرعون. وقيل: وجدك ضالاً ليلة المعراج حين انصرف عنك جبريل وأنت لا تعرف الطريق فهداك إلى ساق العرش. وقال بعض المتكلمين إذا وجدت العرب شجرة منفردة من الأرض لا شجرة معها سموها ضالة فيهدى بها إلى الطريق، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {وجدك ضالاً}، أي: لا أحد على دينك بل أنت وحيد ليس معك أحد فهديت بك الخلق إليّ.
وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره فقوله تعالى: {ووجدك ضالاً فهدى}، أي: وجد قومك ضلالاً فهداهم بك، وقيل: غير ذلك. قال الزمخشري: ومن قال: كان على أمر قومه أربعين سنة فإن أراد أنه كان على خلوّهم من العلوم السمعية فنعم، وإن أراد أنه كان على كفرهم ودينهم فمعاذ الله والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجب أن يكونوا معصومين قبل النبوّة وبعدها من الكبائر والصغائر الشائنة، فما بال الكفر والجهل بالصانع ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء، وكفى بالنبيّ نقيصة عند الكفار أن يسبق له كفر.
(13/494)
---(1/5218)
{ووجدك عائلاً}، أي: فقيراً {فأغنى} قال مقاتل: فرضاك بما أعطاك من الرزق واختاره الفراء، وقال: لم يكن غني عن كثرة المال ولكن الله تعالى أرضاه بما أعطاه، وذلك حقيقة الغني. قال صلى الله عليه وسلم «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» وقال صلى الله عليه وسلم «قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه».
وقيل: أغناك بمال خديجة وتربية أبي طالب، ولما اختل ذلك أغناه بمال أبي بكر ولما اختل ذلك أمره بالجهاد وأغناه بالغنائم. روى الزمخشري: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «جعل رزقي تحت ظل رمحي». وقال الرزاي: العائل ذو العيلة ثم أطلق على الفقير، ويجوز أن يراد ووجدك ذا عيال لا تقدر على التوسعة عليهم فأغناك بما جعل لك من ربح التجارة، ثم من كسب الغنائم.
وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته، قلت: يا رب إنك آتيت سليمان بن داود ملكاً عظيماً، وآتيت فلاناً كذا قال: يا محمد ألم أجدك يتيماً فآويتك، قلت: بلى يا رب. قال: ألم أجدك ضالاً فهديتك؟ قلت: بلى يا رب، قال: ألم أجدك عائلاً فأغنيتك؟ قلت: بلى يا رب». وفي رواية «ألم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك؟ قلت بلى يا رب».
(13/495)
---(1/5219)
ثم أوصاه باليتامى والمساكين والفقراء فقال تعالى: {فأمّا اليتيم}، أي: هذا النوع{فلا تقهر} قال مجاهد: لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيماً. وقال الفراء: لا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه كما كانت العرب تفعل في أموال اليتامى، تأخذ أموالهم وتظلمهم حقوقهم. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشرّ بيت في المسلمين فيه يتيم يساء إليه، ثم قال بإصبعيه: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وهو يشير بإصبعيه». اليتيم منصوب بتقهر، وبه استدل ابن مالك على أنه لا يلزم من تقديم المعمول تقديم العامل، ألا ترى أنّ اليتيم منصوب بالمجزوم وقد تقدّم على الجازم، ولو تقدّم على لا، لامتنع؛ لأنّ المجزوم لا يتقدّم على جازمه كالمجرور لا يتقدّم على جاره وفي الآية دلالة على اللطف باليتيم وبره والإحسان إليه، وقال صلى الله عليه وسلم «من ضمّ يتيماً وكان في نفقته وكفاه مؤنته كان له حجاباً من النار يوم القيامة». وقال: «من مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة». وقال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم.
فإن قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم اليتم؟ أجيب: بوجوه:
أحدها: أن يعرف حرارة اليتيم فيرفق باليتيم.
ثانيها: يشاركه في الاسم فيكرمه لأجل ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا سميتم الولد محمداً فأكرموه ووسعوا له في المجلس».
ثالثها: ليستند من أوّل عمره على الله تعالى فيشبه إبراهيم عليه السلام في قوله: حسبي من سؤالي علمه بحالي.
رابعها: أنّ اليتيم تظهر عيوبه فلما لم يجدوا عيباً لم يجدوا فيه مطعناً.
خامسها: جعله يتيماً ليعلم كل أحد أن فضيلته ابتداء من الله تعالى لا من تعليم، لأن من له أب فإنه يؤدّبه ويعلمه.
سادسها: اليتم والفقر نقص في العادة فكونه صلى الله عليه وسلم مع هذين الوصفين من أكرم الخلق كان ذلك قلباً للعادة فيكون معجزة.
(13/496)
---(1/5220)
{وأما السائل}، أي: الذي أحوجته العيلة أو غيرها إلى السؤال {فلا تنهر}، أي: فلا تزجر، يقال نهره وأنهره إذا زجره وأغلظ عليه القول ولكن ردّه رداً جميلاً قال إبراهيم بن أدهم: نعم القوم السؤال يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي: السائل بريدنا إلى الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول: هل تبعثون إلى أهليكم بشيء. وقيل: المراد بالسائل هنا الذي يسأل عن الدين. وروى الزمخشري أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رددت السائل ثلاثاً فلم يرجع فلا عليك أن تزبره».
وقيل: أما أنه ليس السائل المستجدي ولكن طالب العلم إذا جاءك فلا تنهره.
{وأما بنعمة ربك}، أي: المحسن إليك بالنبوّة وغيرها {فحدّث} بها فإن التحدّث بها شكرها، وإنما يجوز لغيره صلى الله عليه وسلم مثل هذا إذا قصد به اللطف وأن يقتدي به غيره وأمن على نفسه الفتنة والستر أفضل ولو لم يكن في الذكر إلا التشبه بأهل الرياء والسمعة لكفي.
والمعنى: إنك كنت يتيماً وضالاً وعائلاً فآواك الله وهداك وأغناك، فمهما يكن من شيء فلا تنس نعمة الله عليك في هذه الثلاث، واقتد بالله فتعطف على اليتيم وآوه فقد ذقت اليتم وهوانه ورأيت كيف فعل الله تعالى بك، وترحم على السائل وتفقده بمعروفك ولا تزجره عن بابك كما رحمك ربك فأغناك بعد الفقر، وحدث بنعمة الله كلها. ويدخل تحت هدايته الضلال وتعليمه الشرائع، والقرآن مقتد بالله تعالى في أن هداه من الضلالة.
(13/497)
---(1/5221)
وقال مجاهد: تلك النعمة هي القرآن، والتحديث به أن يقرأ ويقرئ غيره. وعنه أيضاً: تلك النعمة هي النبوّة، أي: بلغ ما أنزل إليك من ربك. وقيل: تلك النعمة هي أن وفقك الله سبحانه وتعالى فراعيت حق اليتيم والسائل فحدّث بها ليقتدي بك غيرك. وعن الحسن بن علي قال: إذا عملت خيراً فحدّث به إخوانك ليقتدوا بك إلا أن هذا لا يحسن إلا إذا لم يتضمن رياء وظن أنّ غيره يقتدي به كما علم مما مرّ. وروي «أنّ شخصاً كان جالساً عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فرآه رث الثياب فقال له صلى الله عليه وسلم ألك مال؟ قال: نعم. فقال له صلى الله عليه وسلم إذا آتاك الله مالاً فلير أثره عليك». وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله جميل يحب الجمال» ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده». فإن قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى أخر حق نفسه عن حق اليتيم والسائل؟ أجيب: بكأنه يقول: أنا أغنى الأغنياء وهما محتاجان، وحق المحتاج أولى بالتقديم وأختار قوله سبحانه وتعالى: فحدث على قوله تعالى فأخبر ليكون ذلك حديثاً عنه لا ينساه ويعيده مرّة بعد أخرى.
وقرأ {والضحى}، {سجى}، {قلى}، {الأولى}، {فترضى}، {فآوى}، {فهدى}، {فأغنى}، حمزة والكسائيّ بإمالة محضة لكن حمزة لم يمل سجى، وأمال ورش وأبو عمرو بين بين والفتح عن ورش قليل، والباقون بالفتح.
وروى أبيّ بن كعب «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بلغ الضحى كبر بين كل سورتين إلى أن يختم القرآن، ويفصل بينهما بسكتة». وكان المعنى: في ذلك «أنّ الوحي تأخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً فقال ناس من المشركين: قد ودعه صاحبه وقلاه فنزلت هذه السورة فقال صلى الله عليه وسلم الله أكبر». قال مجاهد: قرأت على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأمرني به، وأخبر أنه صلى الله عليه وسلم أمره به. وبعض القرّاء لا يكبر لأنّ ذلك ذريعة إلى الزيادة في القرآن.
(13/498)
---(1/5222)
وقال القرطبي: القرآن ثبت نقله بالتواتر سوره وآياته وحروفه بغير زيادة ولا نقصان فالتكبير ليس بقرآن. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة والضحى جعله الله فيمن يرضى لمحمد أن يشفع له وعشر حسنات يكتبها الله له بعدد كل يتيم وسائل» حديث موضوع.
سورة ألم نشرح مكية
وهي ثمان آيات وتسع وعشرون كلمة ومائة وثلاثة أحرف.
{بسم الله} الظاهر الباطن الملك العلام {الرحمن} الذي عمّ المخلوقين بالإنعام {الرحيم} الذي خص أولياءه بدار السلام.
وقوله تعالى: {ألم نشرح} استفهام تقرير، أي: شرحنا بما يليق بعظمتنا {لك} يا أشرف الخلق {صدرك} بالنبوّة وغيرها حتى وسع مناجاتنا ودعوة الخلق، أو فسحناه بما أودعنا فيه من الحكم والعلوم وأزلنا عنه الضيق والحرج الذي كان يكون معه العمى والجهل. وعن الحسن: ملىء حكمة وعلماً.
وقيل: إنه إشارة إلى ما روي أنّ جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صباه أو في يوم الميثاق فاستخرج قلبه فغسله ثم ملأه إيماناً وعلماً.
فإن قيل: لم قال تعالى صدرك ولم يقل قلبك؟ أجيب: بأن محل الوسوسة هو الصدر كما قال تعالى: {يوسوس في صدور الناس} (الناس: 5){{
(13/499)
---
وأبدلها بدواعي الخير فلذلك خص الشرح بالصدر دون القلب. و قال محمد بن علي الترمذي: القلب محل العقل والمعرفة، والشيطان يجيء إلى الصدر الذي هو حصن القلب، فإذا وجد مسلكاً أغار فيه وثبت جنده فيه وبث فيه الهموم والغموم والحرص فيضيق القلب حينئذ ولا يجد للطاعة لذة ولا للإسلام حلاوة، فإذا طرد العدوّ في الابتداء حصل الأمن وانشرح الصدر. فإن قيل: لم قال تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} ولم يقل: ألم نشرح صدرك؟ أجيب: بوجهين:
أحدهما: كأنه تعالى يقول لام بلام فأنت إنما تفعل جميع الطاعة لأجلي، وأنا أيضاً جميع ما أفعله لأجلك.
ثانيهما: أنّ فيه تنبيهاً على أنّ منافع الرسالة عائدة إليك لأجلك لا لأجلنا.(1/5223)
واختلف في قوله تعالى: {ووضعنا}، أي: بما لنا من العظمة {عنك وزرك} فقال الحسن ومجاهد: حططنا عنك الذي سلف منك في الجاهلية وهو قوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر} (الفتح: 2)
وقال الحسين بن الفضل: يعني الخطأ والسهو. وقيل: ذنوب أمتك، وأضافها إليه لاشتغال قلبه بها.
{الذي أنقض}، أي: أثقل {ظهرك} قال أبو عبيدة: خففنا عنك أعباء النبوّة والقيام بها حتى لا تثقل عليك وقيل: كان في الابتداء يثقل عليه الوحي حتى يكاد يرمي نفسه من شاهق إلى أن جاءه جبريل عليه السلام، وأزال عنه ما كان يخاف من تغير العقل وقيل: عصمناك من احتمال الوزر، وحفظناك قبل النبوّة في الأربعين من الأدناس، حتى نزل عليك الوحي وأنت مطهر.
{ورفعنا}، أي: بما لنا من القدرة التامّة {لك ذكرك} روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: يقول الله عز وجل: لا ذكرت إلا ذكرت معي في الأذان والإقامة والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، ويوم عرفة، وأيام التشريق، وعند الجمار، وعلى الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح، ومشارق الأرض ومغاربها.
(13/500)
---
ولو أنّ رجلاً عبد الله تعالى، وصدّق بالجنة والنار، وكل شيء ولم يشهد أنّ محمداً رسول الله لم ينتفع بشيء، وكان كافراً وقيل: أعلينا ذكرك فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك ولا دين إلا ودينك يظهر عليه.
وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء وفي الأرض عند المؤمنين، ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود وكرائم الدرجات. وقال الضحاك: لا تقبل صلاة إلا به، ولا تجوز خطبة إلا به. وقال مجاهد: يعني التأذين. وفيه يقول حسان بن ثابت:
*أغرّ عليه للنبوّة خاتم ** من الله مشهور يلوح ويشهد*
*وضم الإله اسم النبيّ إلى اسمه ** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد*
*وشق له من اسمه ليجله ** فذو العرش محمود وهذا محمد*(1/5224)
وقيل: رفع ذكره بأخذ ميثاقه على النبيين وإلزامهم الإيمان به والإقرار بفضله. وقيل: عام في كل ما ذكر، وهذا أولى وكم من موضع في القرآن يذكر فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك قوله تعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة: 62)
. وقوله تعالى: {ومن يطيع الله ورسوله فقد فاز} (الأحزاب: 71)
. وقوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} (المائدة: 92)
ولما كان المشركون يعيرونه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالفقر والضيقة حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم، ذكره ما أنعم الله به عليه من جلائل النعم، ثم وعده اليسر والرخاء بعد الشدّة فقال تعالى:
{فإن مع العسر}، أي: ضيق الصدر والوزر المنقض للظهر وضلال القوم وإيذائهم {يسراً}، أي: كالشرح والوضع والتوفيق للاهتداء والطاعة فلا تيأس من روح الله إذا عراك ما يهمك، فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسراً. فإن قيل: إنّ مع للصحبة فما معنى اصطحاب العسر واليسر؟ أجيب: بأن الله تعالى أراد أن يصيبهم بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب، فقرب اليسر المترقب حتى جعله كالمقارن للعسر زيادة في التسلية وتقوية القلوب.
(14/1)
---
وقوله تعالى: {إنّ مع العسر ويسراً} استئناف وعد الله تعالى بأن العسر متبوع بيسر آخر كثواب الآخرة، كقولك: للصائم فرحة، ثم فرحة، أي: فرحة عند الإفطار وفرحة عند لقاء الرب، ويجوز أن يراد باليسرين ما تيسر من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تيسر لهم أيام الخلفاء وقيل: تكرير.(1/5225)
فإن قيل: ما معنى قول ابن عباس رضي الله عنه وابن مسعود رضي الله عنهما: لن يغلب عسر يسرين، وقد روي مرفوعاً أنه صلى الله عليه وسلم «خرج ذات يوم وهو يضحك ويقول: لن يغلب عسر يسرين» أجيب: بأن هذا حمل على الظاهر وبناء على قوّة الرجاء، وأنّ موعد الله لا يحمل إلا على أوفى ما يحتمله اللفظ وأبلغه، والقول عنه أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تكريراً للأولى كما كرر في قوله تعالى: {ويل يومئذ للمكذبين} (المرسلات: 15)
لتقرير معناها في النفوس، وتمكينها في القلوب، وكما تكرر المفرد في قولك: زيد زيد. وأن تكون الأولى عدة بأن العسر مردف بيسر لا محالة، والثانية عدة مستأنفة بأن العسر متبوع بيسر فهما يسران على تقدير الاستئناف.
وإنما كان العسر واحد لأنه لا يخلو إما أن يكون تعريفه للعهد، وهو العسر الذي كانوا فيه فهو هو، لأنّ حكمه حكم زيد في قولك: إنّ مع زيد مالاً إنّ مع زيد مالاً، وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد فهو هو أيضاً.
وأما اليسر فمنكر متناول لبعض الجنس، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفاً غير مكرر فقد تناول بعضاً غير البعض الأوّل بغير إشكال، أو بأن لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعد الله المؤمنين فيها واليسر الذي وعدهم في الآخرة إنما يغلب أحدهما وهو يسر الدنيا فأما يسر الآخرة فدائم غير زائل، أي: لا يجتمعان في الغلبة كقوله صلى الله عليه وسلم «شهرا عيد لا ينقصان»، أي: لا يجتمعان في النقصان. فإن قيل: فما معنى التنكير؟ أجيب: بأنه للتفخيم، كأنه قيل: إنّ مع العسر يسراً عظيماً وأي يسر.
(14/2)
---
روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو كان العسر في جحر ضب لتبعه اليسر حتى يخرجه». وللطبراني عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو كان العسر في جحر لدخل اليسر حتى يخرجه». ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية».(1/5226)
ولما عدد تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم نعمه السابقة ووعده الآنفة حثه على الشكر والاجتهاد في العبادة بقوله تعالى:
{فإذا فرغت} قال ابن عباس رضي الله عنهما: فرغت من صلاتك المكتوبة {فانصب}، أي: انصب في الدعاء. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: فإذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل. وقال الشعبيّ: إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك. وقال الحسن وزيد بن أسلم: إذا فرغت من جهاد عدوّك فانصب في عبادة ربك وصل. وقال ابن حيان عن الكلبيّ: إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب {استغفر لذنبك وللمؤمنين} (محمد: 19)
. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني أكره أن أرى أحدكم فارغاً لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة.
{وإلى ربك}، أي: المحسن إليك بفضائل النعم خصوصاً بما ذكر في هاتين السورتين {فارغب}، أي: اجعل رغبتك إليه خصوصاً، ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه.
وقيل: تضرع إليه راغباً في الجنة راهباً من النار عصمنا الله تعالى وأحبابنا منها بمحمد صلى الله عليه وسلم وآله.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشريّ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ ألم نشرح فكأنما جاءني وأنا مغتمّ ففرج عني» حديث موضوع.
سورة التين والزيتون مكية
وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة مدنية وهي ثمان آيات وأربع وثلاثون كلمة ومائة وخمسون حرفاً.
{بسم الله} الذي له الملك كله {الرحمن} الذي وسع الخلائق عدله {الرحيم} الذي خص أولياءه بتوفيقه فظهر عليهم جوده وفضله.
(14/3)
---(1/5227)
وقوله تعالى: {والتين والزيتون} قسم وتقدّم نظائر ذلك أقسم بهما لأنهما عجيبتان من بين أصناف الأشجار المثمرة، روي أنه «أهدي للنبيّ صلى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه، وقال لأصحابه: كلوا فلو قلت: إنّ فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه» لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير، وتنفع من النقرس ومرّ معاذ بن جبل بشجرة الزيتون فأخذ منها قضيباً واستاك به وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة». وسمعته يقول: «هي سواكي وسواك الأنبياء من قبلي». وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو تينكم هذا الذي تأكلون وزيتونكم هذا الذي تعصرون منه الزيت. وقال عكرمة: هما جبلان من الأرض المقدّسة يقال لهما بالسريانية طور تيناً وطور زيتاً؛ لأنهما منبتا التين والزيتون.
وقيل: التين جبال ما بين حلوان وهمدان، والزيتون جبال الشام لأنها منابتهما، كأنه قيل: ومنابت التين والزيتون. وقال محمد بن كعب: التين مسجد أصحاب الكهف والزيتون مسجد إيليا. وقال الضحاك: مسجدان بالشام. وقال ابن زيد: التين مسجد دمشق، والزيتون مسجد بيت المقدس، وحسن القسم بهما لأنهما موضع الطاعة. وقيل: التين مسجد نوح عليه السلام الذي بناه على الجودي، والزيتون مسجد بيت المقدس.{{
(14/4)
---
{وطور سينين}، أي: الجبل الذي ناجى عليه موسى عليه السلام ربه عز وجل، وسينين وسيناء اسمان للموضع الذي هو فيه فأضيف الجبل إلى المكان الذي هو فيه. وقال مقاتل والكلبيّ: سينين كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسيناء بلغة النبط ولم ينصرف سينين كما لا ينصرف سيناء لأنه جعل اسماً للبقعة أو الأرض، ولو جعل اسماً للمكان أو للمنزل، أو اسم مذكر لانصرف لأنك سميت مذكراً بمذكر وإنما أقسم بهذا الجبل لأنه بالشام وهي الأرض المقدّسة، وقد بارك فيها قال الله تعالى: {إلى المسجد القصى الذي باركنا حوله} (الإسراء: 1)(1/5228)
ولا يجوز أن يكون سينين نعتاً للطور لإضافته إليه.
{وهذا البلد الأمين}، أي: الآمن، من أمن الرجل أمانة فهو أمين، وهي مكة حرسها الله تعالى؛ لأنها الحرم الذي يأمن الناس فيه في الجاهلية والإسلام، لا ينفر صيده ولا يعضد ورقه، أي: شجره، ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد أو المأمون فيه يأمن فيه من دخله.
قال الزمخشريّ: ومعنى القسم بهذه الأشياء الإبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر منها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والصالحين فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم عليه السلام، ومولد عيسى عليه السلام ومنشؤه والطور المكان الذي نودي منه موسى عليه السلام، ومكة البيت الذي هو هدى للعالمين ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه اه.
(14/5)
---
وقوله تعالى: {لقد خلقنا}، أي: قدّرنا وأوجدنا بما لنا من العظمة والقدرة التامّة {الإنسان} جواب القسم والمراد بالإنسان: الجنس الذي جمع فيه الشهوة والعقل، وفيه من الإنس بنفسه ما ينسيه أكثر مهمه الشامل لآدم عليه السلام وذريته. وقيل: نزلت في منكري البعث. وقيل: في الوليد بن المغيرة وقيل: كلدة بن أسيد. وقوله تعالى: {في أحسن تقويم} صفة لمحذوف، أي: في تقويم أحسن تقويم. وقال أبو البقاء: في أحسن تقويم في موضع الحال من الإنسان، وأراد بالتقويم القوام لأن التقويم فعل وذاك وصف للخالق لا للمخلوق، ويجوز أن يكون التقدير في أحسن قوام التقويم فحذف المضاف، ويجوز أن تكون في زائدة، أي: قومناه أحسن تقويم اه.
وأحسن تقويم أعدله لأنه تعالى خلق كل شيء منكباً على وجهه وخلق الإنسان مستوياً، وله لسان ذلق ويد وأصابع يقبض بها. قال ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإنّ الله تعالى خلقه حياً عالماً قادراً مريداً متكلماً سميعاً بصيراً مدبراً حكيماً وهذه صفات الله تعالى وعبر عنها بعض العلماء، ووقع البيان بقوله: «إن الله تعالى خلق آدم على صورته» يعني: على صفاته المتقدّم ذكرها.(1/5229)
(14/6)
---
وفي رواية على صورة الرحمن ومن أين يكون للرحمن صورة شخصية فلم تكن إلا معاني. وروي أنّ عيسى بن يوسف الهاشميّ كان يحب زوجته حباً شديداً، فقال لها يوماً: أنت طالق ثلاثاً إن لم تكوني أحسن من القمر فنهضت واحتجبت عنه، وقالت: طلقتني فبات بليلة عظيمة فلما أصبح غدا إلى دار المنصور فأخبره الخبر، فاستحضر الفقهاء واستشارهم، فقال جميع من حضر قد طلقت إلا رجلاً واحداً من أصحاب أبي حنيفة فإنه كان ساكتاً، فقال له المنصور: ما لك لا تتكلم، فقال الرجل: بسم الله الرحمن الرحيم {والتين والزيتون} إلى قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} يا أمير المؤمنين فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شيء أحسن منه، فقال المنصور لعيسى: الأمر كما قال الرجل فأقبل على زوجتك، فأرسل المنصور إليها أطيعي زوجك فما طلقك. وهذا يدل على أنّ الإنسان أحسن خلق الله تعالى ولذلك قيل: إنه العالم الأصغر إذ كل ما في المخلوقات اجتمع فيه.
{ثم رددناه} أي: بعض أفراداه بما لنا من القدرة الكاملة {أسفل سافلين} أي: إلى الهرم وأرذل العمر فيضعف بدنه وينقص عقله، والسافلون هم الضعفاء والزمنى والأطفال، والشيخ الكبير أسفل من هؤلاء جميعاً لأنه لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً، فقوس ظهره بعد اعتداله، وأبيض شعره بعد اسوداده، وكل بصره وسمعه وكانا حديدين، وتغير كل شيء منه فمشيه دليف وصوته خفات وقوّته ضعف وشهامته خرف. وقيل: ثم رددناه إلى النار لأنها دركات بعضها أسفل من بعض.
(14/7)
---(1/5230)
فقوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا} أي: تصديقاً لدعواهم الإيمان {الصالحات} أي: الطاعات استثناء متصل على الثاني على أنّ المعنى: رددناه أسفل من سفل خلقاً وتركيباً يعني: أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة، وهم أهل النار وأسفل من سفل من أهل الدركات. فالاتصال على هذا واضح، وعلى الأوّل منقطع، أي: لكن الذين كانوا صالحين من الهرمى {فلهم} أي: فتسبب عن ذلك أن كان لهم {أجر غير ممنون} أي: ثواب دائم غير منقطع على طاعاتهم وصبرهم على ابتلاء الله تعالى لهم بالشيخوخة والهرم وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة على تخاذل نهوضهم وفي الحديث: «إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل كتب له ما كان يعمل». وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إلا الذين قرؤوا القرآن، وقال: من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر. ثم قال تعالى إلزاماً للحجة:
{فما يكذبك} أي: أيها الإنسان الكافر {بعد} أي: بعد ما ذكر من خلق الإنسان من نطفة وتقويمه بشراً سوياً وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يستوي ويكمل ويصير في أحسن تقويم، ثم يردّ إلى أرذل العمر الدال على القدرة على البعث، فيقول: إنّ الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني فما سبب تكذيبك أيها الإنسان {بالدين} أي: الجزاء بعد هذا الدليل القاطع. وقيل: الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى هذا يكون المعنى: فما الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء أو البعث بعد هذه العبر التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت
(14/8)
---(1/5231)
وقوله تعالى: {أليس الله} أي: الملك الأعظم على ما له من صفات الكمال {بأحكم الحاكمين} أي: بأقضى القاضين. وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما هم أهله. وفي الحديث: «من قرأ التين إلى آخرها فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين». وقول البيضاوي تبعاً للزمخشريّ: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والتين أعطاه الله تعالى خصلتين العافية واليقين ما دام في دار الدنيا وإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة» حديث موضوع.
سورة العلق مكية
وهي عشرون آية واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وسبعون حرفاً
{بسم الله} الذي له صفة الكمال المستحق للإلهية {الرحمن} الذي عم جوده سائر البرية {الرحيم} الذي خص أهل طاعته بألطافه السنية.
عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد: أنّ أوّل سورة نزلت من القرآن.
(14/9)
---(1/5232)
{اقرأ باسم ربك} وأوّل ما نزل خمس آيات من أولها إلى قوله تعالى: {ما لم يعلم} وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «أوّل ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة» ولمسلم «الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه، وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاءه الحق». وفي رواية «حتى فجاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال له: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ،. قلت: ما أنا بقارئ،. قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ،. قلت: ما أنا بقارئ،. قال: فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: {اقرأ باسم ربك} حتى بلغ {ما لم يعلم} فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة: لقد خشيت على نفسي، فقالت له خديجة: كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله تعالى أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى يا ليتني أكون فيها جذعاً ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجيّ هم؟ فقال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل(1/5233)
(14/10)
---
ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي» زاد البخاري قال: «وفتر الوحي حتى حزن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً حتى يتردّى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل عليه السلام فقال له: يا محمد إنك لرسول الله حقاً فيسكن لذلك جأشه، وتقرّ نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا مثل ذلك، فإذا وافى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له: مثل ذلك». ففي الحديث دليل صحيح على أن سورة اقرأ أوّل ما نزل من القرآن، وفيه ردّ على من قال: إنّ المدثر أول ما نزل من القرآن، وعلى من قال: إنّ الفاتحة أوّل ما نزل ثم سورة القلم. وفي هذا الحديث من مراسيل الصحابة، ومرسل الصحابي حجة عند جميع العلماء إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني. وإنما ابتدئ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك فيأتيه بصريح النبوّة بغتة فلا تحملها القوى البشرية، فبدئ بأوائل علامة النبوّة توطئة للوحي.
تنبيه: محل{باسم ربك} النصب على الحال، أي: اقرأ مفتتحاً باسم ربك أو مستعيناً به، قل: بسم الله ثم اقرأ. وقال أبو عبيدة: مجازه اقرأ اسم ربك، يعني: أنّ الباء زائدة، والمعنى: اذكر اسمه، أمر أن يبتدئ القراءة باسم الله تعالى تأديباً. وقيل: الباء بمعنى على، أي: أقرأ على اسم ربك كما في قوله تعالى: {وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها} (هود: 41)
قاله الأخفش. فإن قيل: كيف قدم هذا الفعل على الجاررّ وقدر مؤخراً في بسم الله الرحمن الرحيم، أي: على سبيل الأولوية كما في {إياك نعبد وإياك نستعين} (الفاتحة: 4)
(14/11)
---(1/5234)
ولأنه تعالى مقدم ذاتاً لأنه قديم واجب الوجود لذاته فيقدم ذكراً؟ أجيب: بأن هذا في ابتداء القراءة وتعليمها لما مرّ أنها أول سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم باعتبار هذا العارض، وإن كان ذكر الله تعالى أهم في نفسه. وذكرت أجوبة غير هذا في مقدّمتي على البسلمة والحمدلة
وقوله تعالى: {الذي خلق} يجوز أن لا يقدّر له مفعول، ويراد أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه وأن يقدّر له مفعول ويراد خلق كل شيء فيتناول كل مخلوق لأنه مطلق فليس بعض المخلوقات أولى بتقديره من بعض.
وقوله تعالى: {خلق الإنسان} أي: هذا الجنس الذي من شأنه الإنس بنفسه، وما رأى من أخلاقه وحسنه وما ألفه من أبناء جنسه تخصيص بالذكر من بين ما يتناوله الخلق لأنّ التنزيل إليه وهو أشرف ما على الأرض ويجوز أن يراد الذي خلق الإنسان كما قال الله تعالى: {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان} (الرحمن: 1 ـ 2)
فقيل: الذي خلق مبهماً، ثم فسره بقوله: {خلق الإنسان} تفخيماً لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته وقوله تعالى: {من علق} جمع علقة وهي الدم الجامد،فإذا جرى فهو المسفوح ولما كان الإنسان اسم جنس في معنى الجمع جمع العلق، ولمشاكلة رؤس الآي أيضاً
وقوله تعالى: {اقرأ} تكرير للمبالغة، أو الأول مطلق والثاني للتبيلغ، أو في الصلاة قال البيضاوي: ولعله لما قيل له: {اقرأ باسم ربك} قال ما أنا بقارئ فقيل له اقرأ: {وربك الأكرم} أي: الزائد في الكرم على كل كريم، فإنه ينعم على عباده النعم التي لا تحصى، ويحلم عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه، وركوبهم المناهي في إطراحهم الأوامر، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم، فما لكرمه غاية ولا أمد، وكأنه ليس وراء التكرّم بإفادة الفوائد العلمية تكرّم حيث قال الأكرم:
(14/12)
---(1/5235)
{الذي علم } أي: بعد الحلم عن معاجلتهم بالعقاب جوداً منه تعالى من غير مانع من خوف عاقبة، ولا رجاء منفعة {بالقلم } أي: الخط بالقلم.
{علم الإنسان ما لم يعلم } فدل على كمال كرمه بأنه علَّم عباده مالم يعلموه، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأوّلين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به. ولبعضهم في صفة القلم:
*وروا قم رقش كمثل أراقم ** قطف الخطا نيالة أقصى المدى*
*سود القوائم ما يجدّ مسيرها ** إلا إذا لعبت بها بيض المدى*
وقال قتادة: القلم نعمة من الله تعالى، ولولا ذلك لم يقم دين ولم يصلح عيش فدل على كمال كرمه تعالى. وروى عبد الله بن عمر قال: «قلت: يا رسول الله أكتب ما أسمع منك من الحديث قال: نعم فاكتب فإنّ الله تعالى علم بالقلم». ويروى أنّ سليمان عليه السلام سأل عفريتاً عن الكلام فقال: ريح لا يبقى،. فقال: فما قيده؟ قال: الكتابة. وعن عمر قال: خلق الله تعالى أربعة أشياء بيده، ثم قال تعالى لسائر الحيوان: كن فكان، وهي القلم والعرش وجنة عدن وآدم عليه السلام.
وفيمن علم بالقلم ثلاثة أقوال: أحدها: قال كعب: أوّل من كتب بالقلم آدم عليه الصلاة والسلام. ثانيها: قال الضحاك: إدريس عليه السلام. ثالثها: أنه جميع من كتب بالقلم لأنه ما علم إلا بتعليم الله تعالى.
(14/13)
---(1/5236)
وقال القرطبي: الأقلام ثلاثة في الأصل: القلم الأوّل: الذي خلقه الله تعالى بيده وأمره أن يكتب في اللوح المحفوظ، والثاني: قلم الملائكة الذي يكتبون به المقادير والكوائن، والثالث: أقلام الناس يكتبون بها كلامهم ويصلون بها إلى مآربهم. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهنّ الكتابة». قال بعض العلماء: وإنما حذرهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لأنّ في إسكانهنّ الغرف تطلعاً إلى الرجال وليس في ذلك تحصين لهنّ ولا تستر، وذلك أنهنّ لا يملكن أنفسهنّ حين يشرفن على الرجال فتحدث الفتنة فحذر من ذلك، وكذلك تعليم الكتابة ربما كان سبباً للفتنة لأنها قد تكتب لمن تهوى، والكتابة عين من العيون بها يبصر الشاهد الغائب، والخط إشارة اليد وفيها تعبير عن الضمير بما لا ينطق به اللسان، فهي أبلغ من اللسان فأحب صلى الله عليه وسلم أن يقطع عن المرأة أسباب الفتنة تحصيناً لها.
وقوله تعالى: {كلا} ردع لمن كفر بنعمة الله تعالى بطغيانه، وإن لم يذكره لدلالة الكلام عليه، فإنه تعالى قد عدّ مبدأ أمر الإنسان ومنتهاه إظهاراً لما أنعم عليه من أن نقله من أحسن المراتب إلى أعلاها تقريراً لربوبيته وتحقيقاً لأكرميته، {إن الإنسان} أي: هذا النوع الذي من شأنه الأنس بنفسه والنظر في عطفه{ليطغى} أي: من شأنه إلا من عصمه الله تعالى أن يزيد على الحدّ الذي لا ينبغي له مجاوزته.{{
(14/14)
---(1/5237)
{أن رآه} أي: رأى نفسه {استغنى} أي: وجد له الغنى بالمال وقيل: أن يرتفع عن منزلته في اللباس والطعام وغير ذلك. نزلت في أبي جهل كان إذا زاد ماله زاد في ثيابه ومركبه وطعامه فذلك طغيانه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون أتاه أبو جهل، فقال: يا محمد أتزعم أنّ من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهباً لعلنا نأخذ فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك، قال: فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد خيرهم في ذلك فإن شاؤوا فعلنا بهم ما أرادوا، فإن لم يفعلوا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة، فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء إبقاء لهم. وقيل: {أن رآه استغنى} بالعشيرة والأنصار والأعوان، وحذف اللام من قوله تعالى: {أن رآه} كما يقال إنكم لتطغون أن رأيتم غناكم، فرأى علمية واستغنى مفعول ثان، وأن رأى مفعول له.
{إنَّ إلى ربك} أي: المحسن إليك بالرسالة التي رفع بها ذكرك لا إلى غيره {الرجعى} مصدر كالبشرى بمعنى الرجوع، ففي ذلك تخويف للإنسان بأن يجازي العاصي بما يستحقه.
وقوله تعالى: {أرأيت} في مواضعها الثلاث للتعجب {الذي ينهى} أي: على سبيل التجدد والاستمرار وهو أبو جهل.{{
(14/15)
---(1/5238)
{عبداً} أي: من العبيد وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم {إذا صلى} أي: خدم سيده الذي لا يقدر أحد أن ينكر سيادته بإيقاع الصلاة التي هي أعظم العبادات. نزلت في أبي جهل وذلك أنه نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقالوا: نعم. فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته، ولأعفرنّ وجهه في التراب،. قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته فنكص على عقبيه وهو يتقي بيده، فقيل: له: مالك؟، فقال: إن بيني وبينه خندقاً من النار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً فأنزل الله تعالى هذه الآية». وفي رواية «لو فعله لأخذته الملائكة» زاد الترمذي: «عياناً». وعن الحسن أنه أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة وفائدة التنكير في قوله تعالى: {عبداً} الدلالة على أنه كامل العبودية، كأنه قيل: ينهى أشدّ الخلق عبودية عن العبادة وهذا عين الجهل.
وقيل: إن هذا الوعيد يلزم كل من ينهى عن الصلاة عن طاعة الله تعالى ولا يدخل في ذلك المنع من الصلاة في الدار المغصوبة، وفي الأوقات المكروهة لأنه قد ورد النهي عن ذلك في الأحاديث الصحيحة ولا يدخل أيضاً منع السيد عبده والرجل زوجته عن صوم التطوّع وقيام الليل والاعتكاف، لأنّ ذلك مصلحة إلا أن يأذن فيه السيد والزوج.
{أرأيت إن كان} أي: المنهي وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم {على الهدى} وقرأ نافع بتسهيل الهمزة بعد الراء، وعن ورش إبدالها ألفاً، وأسقطها الكسائي، والباقون بالتحقيق
وقوله تعالى: {أو أمر بالتقوى} أي: بالإخلاص والتوحيد للتقسيم.
تنبيه: قوله تعالى: {أرأيت} تكرير للأوّل وكذا الذي في قوله:
{أرأيت إن كذب} وهو أبو جهل {وتولى} عن الإيمان.
(14/16)
---(1/5239)
{ألم يعلم} أي: يقع له علم يوماً من الأيام {بأن الله} الذي له صفات الكمال {يرى} ويطلع على أحواله من هداه وضلاله فيجازيه على حسب ذلك، أي: أعجب منه يا مخاطب في نهيه عن الصلاة من حيث إنّ المنهي على الهدى آمر بالتقوى وفي وجه التعجب وجوه:
أحدها: إنه صلى الله عليه وسلم قال «اللهمّ أعز الإسلام إمّا بأبي جهل وإمّا بعمر بن الخطاب» وهو ينهى عبداً إذا صلى.
الثاني: إنه يلقب بأبي الحكم فقيل: أيلقب بهذا وهو ينهى عن الصلاة فيتعجب منه، ومن حيث أن الناهي مكذب متول عن الإيمان.
الثالث: إنه كان يأمر وينهى ويعتقد وجوب طاعته ثم إنه ينهى عن طاعة الله تعالى.
وقوله تعالى: {كلا} ردع للناهي {لئن لم ينته} أي: عما هو فيه واللام لام قسم {لنسفعاً بالناصية} أي: لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار والسفع القبض على الشيء وجذبه بشدّة. قال عمرو بن معديكرب:
*قوم إذا نقع الصريخ رأيتهم ** ما بين ملجم مهره أو سافع*
والنقع الصوت. ولما علم أنها ناصية المذكور اكتفى باللام عن الإضافة، والآية وإن كانت في أبي جهل فهي عظة للناس وتهديد لمن يمنع غيره عن طاعة الله تعالى.
وقوله تعالى: {ناصية} بدل من الناصية قال الزمخشري: وجاز بدلها عن المعرفة وهي نكرة لأنها وصفت، أي: ب{كاذبة خاطئة} واستقلت بفائدة واعترض عليه بأنّ هذا مذهب الكوفيين فإنهم لا يجيزون إبدال نكرة من معرفة إلا بشرط وصفها، أو كونها بلفظ الأوّل ومذهب البصريين لا يشترط شيء، والمعنى: لنأخذن بناصية أبي جهل الكاذبة في قولها الخاطئة في فعلها، والخاطئ معاقب مأخوذ والمخطئ غير مأخوذ ووصفت الناصية بالكاذبة الخاطئة كوصف الوجوه في قوله تعالى: {إلى ربها ناظرة} (القيامة: 23)
(14/17)
---(1/5240)
وإنما وصفت الناصية بالكاذبة لأنه كان يكذب على الله تعالى في أنه لم يرسل محمداً صلى الله عليه وسلم وعلى رسوله في أنه ساحر وليس بنبي ووصفت بأنها خاطئة لأنّ صاحبها تمرّد على الله تعالى كما قال تعالى: {لا يأكله إلا الخاطئون} (الحاقة: 37)
فهما في الحقيقة لصاحبها وفيه من الحسن والجزالة ما ليس في قولك ناصية كاذب خاطىء.
وروي أنّ أبا جهل مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقال: ألم أنهك فأغلظ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتنهرني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً، فوالله لأملأنّ عليك هذا الوادي إن شئت خيلاً جرداً ورجالاً مرداً فأنزل الله تعالى:
{فليدع} أي: دعاء استغاثة {ناديه} أي: أهل ناديه ليعينوه فهو على حذف مضاف، لأنّ النادي هو المجلس الذي ينتدى فيه القوم قال تعالى: {وتأتون في ناديكم المنكر} (العنكبوت: 29)
أي: يتحدّثون فيه أو على التجوّز لأنه مشتمل على الناس كقوله تعالى: {واسأل القرية} (يوسف: 82)
ولا يسمى المكان نادياً حتى يكون فيه أهله، والمعنى فليدع عشيرته فلينتصر بهم.
(14/18)
---(1/5241)
{سندع} أي: بوعد لا خلف فيه {الزبانية} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد زبانية جهنم سموا بها لأنهم يدفعون أهل النار إليها بشدّة، جمع زبني مأخوذ من الزبن وهو الدفع. وقال الزمخشري: الزبانية في كلام العرب الشُّرط الواحد زبنية. وقال الزجاج: هم الملائكة الغلاظ الشداد. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله تعالى. وروي «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة وبلغ إلى قوله تعالى: {لنسفعاً بالناصية} قال: أبو جهل: أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك». قال الله تعالى: {فليدع ناديه سندع الزبانية} فلما ذكر الزبانية رجع فزعاً، فقيل: له: خشيت منه؟ قال: لا ولكن رأيت عنده فارساً وهدّدني بالزبانية فلا أدري الزبانية، ومال إليّ الفارس فخشيت منه أن يأكلني. قال ابن عباس رضي الله عنهما: والله لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته».
وقوله تعالى: {كلا} ردع لأبي جهل، أي: ليس الأمر على ما يظنه أبو جهل {ولا تطعه} أي: فيما دعاك إليه من ترك الصلاة كقوله تعالى: {ولا تطع المكذبين} وقوله تعالى: {واسجد} يحتمل أن يكون بمعنى السجود في الصلاة، وأن يكون سجود التلاوة في هذه السورة، ويدل لهذا ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سجدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في {إذا السماء انشقت} (الانشقاق: 1)
(14/19)
---(1/5242)
وفي {اقرأ باسم ربك الذي خلق} سجدتين، وهذا نص أن المراد سجود التلاوة، ويدل للأوّل قوله تعالى: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى} إلى قوله تعالى: {كلا لا تطعه واسجد} أي: ودم على سجودك. قال الزمخشري: يريد الصلاة لأنه لا يرى سجود التلاوة في المفصل والحديث عليه. {واقترب} أي: وتقرّب إلى ربك بطاعته وبالدعاء إليه. قال صلى الله عليه وسلم «أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن ـ أي: فحقيق ـ أن يستجاب لكم». «وكان صلى الله عليه وسلم يكثر في سجوده من البكاء والتضرّع حتى قالت عائشة رضي الله عنها: قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر فما هذا البكاء في السجود؟ وما هذا الجهد الشديد؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً». وفي رواية: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء». وقرأ ليطغى، واستغنى، إذا صلى، على الهدى، بالتقوى، وتولى حمزة والكسائي جميع ذلك بالإمالة محضة، وورش وأبو عمرو بين بين والفتح عن ورش قليل، والباقون بالفتح. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة العلق أعطي من الأجر كأنما قرأ المفصل كله» حديث موضوع.
سورة القدر مدنية
في قول أكثر المفسرين، وحكى الماوردي عكسه، وذكر الواحدي أنها أوّل سورة نزلت بالمدينة وهي خمس آيات وثلاثون كلمة ومائة واثنتا عشر حرفاً.
{بسم الله} الملك الأعظم الذي لا يعبد إلا إياه {الرحمن} الذي عمّ بجوده جميع خلقه أقصاه وأدناه {الرحيم} الذي قرّب أهل طاعته وأبعد من عداهم وأشقاه.
(14/20)
---
وقوله تعالى: {إنا أنزلناه} أي: بما لنا من العظمة، أي: القرآن فيه تعظيم له من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه أسند إنزاله إليه وجعله مختصاً به دون غيره.
والثاني: أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه.
والثالث: الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه، وهو قوله تعالى: {في ليلة القدر}.(1/5243)
{وما أدراك} أي: أعلمك يا أشرف الخلق {ما ليلة القدر} فإن في ذلك تعظيماً لشأنها. روي أنه أنزله جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وأملاه جبريل عليه السلام على السفرة، ثم كان ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحاجة إليه. وحكى الماوردي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه نزل في شهر رمضان وفي ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل عليه السلام عشرين سنة، ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة. قال ابن العربي: وهذا باطل ليس بين جبريل وبين الله تعالى واسطة، ولا بين جبريل وبين محمد صلى الله عليه وسلم واسطة، وعن الشعبي: إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: المعنى أنزل في شأنها وفضلها فليست ظرفاً، وإنما هو كقول عمر رضي الله عنه: خشيت أن ينزل فيّ قرآن. وقول عائشة رضي الله عنها لأنا أحقر في شأني أن ينزل فيّ قرآن. وسميت ليلة القدر لأن الله تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره إلى السنة القابلة من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، ويسلمه إلى مدبرات الأمور من الملائكة، وهم إسرافيل وميكائيل وعزرائيل وجبرائيل عليهم السلام، كقوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} (الدخان: 4)
(14/21)
---
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر، وهذا يصلح أن يكون جمعاً بين القولين في قوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} فإنه قيل فيها: إنها ليلة النصف من شعبان وقيل: ليلة القدر وحينئذ لا خلاف، وقيل: سميت بذلك لتضيقها بالملائكة. قال الخليل: لأن الأرض تضيق فيها الملائكة كقوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} (الطلاق: 7)(1/5244)
وقيل: سميت بذلك لعظمها وشرفها وقدرها من قولهم: لفلان قدر، أي: شرف ومنزلة قاله الأزهري وغيره. وقيل: سميت بذلك لأن للطاعة قدراً عظيماً وثواباً جزيلاً. وقيل: لأنه أنزل فيها كتاباً ذا قدر على رسول ذي قدر، ومعنى أنّ الله تعالى يقدر الآجال: أنه يظهر ذلك لملائكته ويأمرهم بفعل ما هو من سعتهم بأن يكتب لهم ما قدّره في تلك السنة، ويعرّفهم إياه، وليس المراد أنه يحدث في تلك الليلة لأن الله تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض في الأزل قيل: للحسين بن الفضل: أليس قد قدر الله تعالى المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض، قال نعم، قيل له: فما معنى ليلة القدر، قال: سوق المقادير إلى المواقيت، وتنفيذ القضاء المقدّر.
(14/22)
---
واختلفوا هل هي باقية أو لا؟ فقيل: إنها كانت مرّة ثم انقطعت، وقيل: إنها رفعت بعد النبي صلى الله عليه وسلم والصحيح أنها باقية إلى يوم القيامة. وروي عن عبد الله بن محسن مولى معاوية قال: قلت لأبي بكر: زعموا أن ليلة القدر قد رفعت، قال: كذب من قال ذلك، قلت: هي في كل شهر رمضان أستقبله، قال: نعم. وعن سعيد بن المسيب أنه سئل عن ليلة القدر أهي شيء كان فذهب، أم هي في كل عام، فقال: بل هي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ما بقي منهم اثنان، واستدل من قال برفعها بقوله صلى الله عليه وسلم حين تلاحى الرجلان: «إني خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم» وهذا غفلة من هذا القائل ففي آخر الحديث «فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» فلو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها.
واختلفوا في وقتها فأكثر أهل العلم أنها مختصة برمضان، واحتجوا بقوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} (البقرة: 185)
(14/23)
---(1/5245)
. وقال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر}. فوجب أن لا تكون ليلة القدر إلا في رمضان لئلا يلزم التناقض. وروي عن أبي بن كعب أنه قال: والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان حلف بذلك ثلاث مرات، وعن ابن عمر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر فقال: «هي في كل رمضان» وقيل: هي دائرة في جميع السنة لا تختص برمضان حتى لو علق طلاق امرأته أو عتق عبده بليلة القدر لا يقع ما لم تنقض سنة من حين حلف، يروى ذلك عن أبي حنيفة. وعن ابن مسعود أنه قال: من أراد أن يعرف ليلة القدر فلينظر إلى غرة رمضان، أي: إلى أوّله فإن كان يوم الأحد فليلة القدر ليلة تسع وعشرين، وإن كان يوم الإثنين فليلة القدر إحدى وعشرين، وإن كان يوم الثلاثاء فليلة سبع وعشرين، وإن كان يوم الأربعاء فليلة تسعة عشر، وإن كان يوم الخميس فليلة خمس وعشرين، وإن كان ليلة الجمعة فليلة سبعة عشر، وإن كان يوم السبت فليلة ثلاث وعشرين. وعلى القول الأول هل هي في كل زمان أو في العشر الأخير قولان: أحدهما: أنها في كل شهره.
(14/24)
---(1/5246)
واختلفوا في، أي: ليلة منه فقال ابن رزين: هي الليلة الأولى من رمضان، وقال الحسن البصري: السابعة عشر، وقال أنس: التاسعة عشر، وقال محمد بن إسحاق: الحادية والعشرون، وقال ابن عباس: الثالثة والعشرون، وقال أبيّ بن كعب: السابعة والعشرون. وقيل: التاسعة والعشرون، وقيل: ليلة الثلاثين، وكل استدل على قوله بما يطول الكلام عليه. والقول الثاني وهو ما عليه الأكثرون أنها مختصة بالعشر الأخير منه، واستدل لذلك بأشياء منها: ما روى عبادة بن الصامت «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر فقال: في رمضان فالتمسوها في العشر الأواخر». ومنها: ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان». وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها». وعنها قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله».
واختلفوا في أنها أي: ليلة من العشر، هل في ليلة من ليالي العشر كله، أو في أوتاره فقط، وهل تلزم ليلة بعينها، أو تنتقل في جميعه أقوال. والذي عليه الأكثر أنها في جميعه، ولكن أرجاها أوتاره وأرجى الأوتار عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين يدل للأوّل خبر الصحيحين وللثاني خبر مسلم وأنها تلزم عنده ليلة بعينها. وقال المزني صاحب الشافعي وابن خزيمة: أنها متنقلة في ليالي العشر جمعاً بين الأحاديث، قال النووي: وهو قويّ. وقال في مجموعه أنه الظاهر المختار وخصها بعض العلماء بأوتار العشر الأواخر، وبعضهم بأشفاعه.
(14/25)
---(1/5247)
وقال ابن عباس وأبيّ: هي ليلة سبع وعشرين وهو مذهب أكثر أهل العلم، واستنبط ذلك بعضهم من أنّ ليلة القدر ذكرت ثلاث مرّات، وهي تسعة أحرف، وإذا ضربت تسعة في ثلاثة تكن سبعة وعشرين، وبعضهم استنبط ذلك من عدد كلمات السورة، وقال: إنها ثلاثون كلمة وفاقاً، وقوله تعالى: {هي} السابع والعشرون، وهي كناية عن هذه الليلة فبان أنها ليلة السابع والعشرين، وهو استنباط لطيف وليس بدليل كما قيل: وفيها نحو الثلاثين قولاً وبضع وعشرون حديثاً وأفردت بالتصنيف، وفيما ذكرناه كفاية.
وذكروا للسبب في إخفائها عن الناس وجوهاً:
أحدها: أنه تعالى أخفاها ليعظموا جميع السنة على القول بأنها فيها، أو جميع رمضان على القول به، أو جميع العشر الأخير على القول به، كما أخفى رضاه في الطاعات ليرغبوا في كلها، وأخفى غضبه في المعاصي ليحذروها كلها، وأخفى وليه من المسلمين ليعظموهم كلهم، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في الدعوات، وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليجتهدوا في العبادة في جميع الأوقات المنهيّ عنها طمعاً في إدراكها، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل أسمائه تعالى، وأخفى الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل، وأخفى التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسامها، وأخفى قيام الساعة ليكونوا على وجل من قيامها بغتة.
ثانيها: أن العبد إذا لم يتيقن ليلة القدر واجتهد في الطاعة رجاء أن يدركها فيباهي الله تعالى به ملائكته، ويقول: تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء وهذا جدّه واجتهاده في الليلة المظنونة، فكيف لو جعلتها معلومة فحينئذ يظهر أني أعلم ما لا تعلمون. ثالثها: ليجتهدوا في طلبها والتماسها فينالوا بذلك أجر المجتهدين في العبادة، بخلاف ما لو عينت في ليلة بعينها لحصل الاقتصار عليها ففاتت العبادة في غيرها.
(14/26)
---(1/5248)
ثم ذكر الله تعالى فضلها من ثلاثة أوجه: أحدها: ما ذكره بقوله سبحانه: {ليلة القدر} أي: التي خصصناها بإنزالنا فيها {خير من ألف شهر} ليس فيها ليلة القدر فالعمل الصالح فيها خير منه في ألف شهر ليست فيها ليلة قدر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما «ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك وتمنى ذلك لأمّته، فقال: يا رب، جعلت أمتي أقصر الأمم أعماراً وأقلها أعمالاً، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، فقال تعالى: {ليلة القدر خير من ألف شهر} التي حمل فيها الإسرائيلي السلاح في سبيل الله لك ولأمتك إلى يوم القيامة»، أي: فهي من خصائص هذه الأمة.
(14/27)
---(1/5249)
وعن مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي يبلغ غيرهم، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر التي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وقيل: إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له: عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر، فأعطوا ليلة إن أحيوها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد، وهي أفضل ليالي السنة، ويدخل في ذلك ليلة الإسراء فهي أفضل منها إن لم تكن ليلة الإسراء ليلة القدر، كما قيل: إن الإسراء كان في رمضان، وإنما كان كذلك لما يريد الله تعالى فيها من المنافع فيكتب فيها جميع خير السنة وشرّها ورزقها وأجلها وبلائها ورخائها ومعاشها إلى مثلها من السنة، ولا يشكل ذلك بما قيل: إن الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى، لما ورد أنّ الله تعالى يأمر بنسخ ما يكون في السنة من الآجال والأمراض والأرزاق ونحوها في ليلة النصف من شعبان، فإذا كان ليلة القدر فيسلمها إلى أربابها. وقيل: يقدّر في ليلة النصف من شعبان الآجال والأمراض، وفي ليلة القدر الأمور التي فيها الخير والبركة والسلامة.
الوجه الثاني: من فضائلها ما ذكره الله تعالى في قوله جلّ ذكره.
(14/28)
---(1/5250)
{تنزل} أي: تنزلاً متدرجاً متواصلاً على غاية ما يكون من الخفة والسرعة بما أشار إليه حذف التاء {الملائكة} أي: إلى الأرض. روي أنه إذا كان ليلة القدر تنزل الملائكة وهم سكان سدرة المنتهى {والروح} أي: جبريل عليه السلام {فيها} أي: في الليلة ومعه أربعة ألوية فينصب لواء على قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ولواء على ظهر بيت المقدس، ولواء على ظهر المسجد الحرام، ولواء على ظهر سيناء، ولا يدع بيتاً فيه مؤمن ولا مؤمنة إلا دخله وسلم عليهم، يقول: يا مؤمن ويا مؤمنة السلام يقرئك السلام إلا على مدمن خمر، وقاطع رحم، وآكل لحم خنزير. وعن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان ليلة القدر نزل جبريل عليه السلام في كبكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم، أو قاعد يذكر الله تعالى». وهذا يدل على أن الملائكة كلهم لا ينزلون، وظاهر الآية نزول الجميع وجمع بين ذلك بما روي أنهم ينزلون فوجاً فوجاً كما أنّ أهل الحج يدخلون الكعبة فوجاً بعد فوج، وإن كانت لا تسعهم دفعة واحدة كما أن الأرض لا تسع الملائكة دفعة واحدة، ولذلك ذكر بلفظ تنزل الذي يقتضي المرّة بعد المرّة، أي: ينزل فوج ويصعد فوج والله أعلم بذلك.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن الملائكة في تلك الليلة أكثر من عدد الحصى، وقال بعضهم: الروح ملك تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة وله ألف رأس أعظم من الدنيا، وفي كل رأس ألف وجه، وفي كل وجه ألف فم، وفي كل فم ألف لسان يسبح الله تعالى بكل لسان ألف نوع من التسبيح والتحميد والتمجيد، ولكل لسان لغة لا تشبه لغة أخرى. فإذا فتح أفواهه بالتسبيح خرّت ملائكة السموات السبع سجداً مخافة أن تحرقهم أنوار أفواهه، وإنما يسبح الله تعالى غدوة وعشية فينزل في ليلة القدر لشرفها وعلوّ شأنها فيستغفر للصائمين والصائمات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بتلك الأفواه كلها إلى طلوع الفجر.
(14/29)
---(1/5251)
وعن عليّ أنه صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت ليلة أسري بي ملكاً رجلاه جاوزت من الأرض السابعة السفلى، ورأسه من السماء السابعة العليا، ومن لدن رأسه إلى قدميه وجوه وأجنحة في كل وجه فم ولسان يسبح الرحمن تسبيحاً لا يسبحه العضو الآخر، ولو أمره الله تعالى أن يلتقم السموات السبع والأرضين السبع لقمة واحدة، كما يلتقم أحدكم اللقمة لأطاق ذلك، ثم لم تكن تلك في فيه إلا كلقمة أحدكم في فيه، ولو سمع أهل الدنيا صوته بالتسبيح لصعقوا، ما بين شحمة أذنه إلى منكبه خفقان الطير السريع سبعة آلاف سنة، وهو رأس الملائكة». وقيل: الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا في تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر. {بإذن ربهم} أي: بأمر المحسن إليهم المربي لهم {من كل أمر} أي: قضاه الله تعالى فيها لتلك السنة إلى قابل، وتقدّم الجمع بينها وبين ليلة النصف من شعبان، ومن سببية بمعنى الباء.
الوجه الثالث: فضائلها ما ذكره تعالى بقوله سبحانه:
{سلام} أي: عظيم جدّاً، وهو خبر مقدّم والمبتدأ. {هي} جعلت سلاماً لكثرة السلام فيها من الملائكة لا يمرّون بمؤمن ولا مؤمنة إلا سلمت عليه وستمرّون على ذلك من غروب الشمس {حتى} أي: إلى {مطلع الفجر} أي: وقت مطلعه، أي: طلوعه. وقرأ الكسائي بكسر اللام على أنه كالمرجع، واسم زمان على غير قياس كالمشرق، والباقون بفتحها.
ومن فضائلها أنّ من قامها غفرت له ذنوبه ففي الصحيحين: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه». قال النووي في «شرح مسلم»: ولا ينال فضلها إلا من أطلعه الله تعالى عليها فلو قامها إنسان ولم يشعر بها لم ينل فضلها. قال الأذرعي وكلام المتولي ينازعه حيث قال: يستحب التعبد في كل ليالي العشر حتى يحوز الفضيلة على اليقين اه.m
(14/30)
---(1/5252)
وهذا أولى نعم حال من أطلق أكمل إذا قام بوظائفها. وعن أبي هريرة مرفوعاً «من صلى العشاء الأخيرة في جماعة من رمضان فقد أدرك ليلة القدر»، أي: أخذ حظاً منها. ويسنّ لمن رآها أن يكتمها، ويسنّ أن يكثر الدعاء والتعبد في ليالي رمضان وأن يكون من دعائه: «اللهمّ إنك عفوّ كريم تحب العفو فاعف عني».
ومن علاماتها أنّ الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها، رواه مسلم عن أبيّ بن كعب وعن ابن مسعود: قال: «إنّ الشمس تطلع كل يوم بين قرني شيطان إلا صبيحة ليلة القدر فإنها تطلع يومئذ بيضاء ليس لها شعاع». فإن قيل: لا فائدة في هذه العلامة فإنها قد انقضت. أجيب: بأنه يستحب أن يجتهد في ليلتها ويبقى يعرفها كما مرّ عن الشافعي أنها تلزم ليلة واحدة. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة القدر أعطى من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر» حديث موضوع.
سورة لم يكن
وتسمى القيامة، وتسمى المنفكين مكية في قول يحيى بن سلام، ومدنية في قول الجمهور، وهي ثمان آيات وأربع وتسعون كلمة وثلاث مائة وتسعون حرفاً.
{بسم الله} الذي لا يخرج شيء عن مراده {الرحمن} الذي عمّ بنعمه جميع عباده {الرحيم} الذي خص أولياءه بإسعاده.
ولما كان الكفار جنسين أهل كتاب ومشركين ذكرهم الله تعالى في قوله سبحانه:
(14/31)
---
{لم يكن الذين كفروا} أي: في مطلق الزمان الماضي والحال والاستقبال {من أهل الكتاب} أي: من اليهود والنصارى الذين كان أصل دينهم حقاً فألحدوا فيه بالتبديل والتحريف والاعوجاج في صفات الله تعالى، ثم نسخه الله تعالى بما شرع من مخالفته في الفروع وموافقته في الأصول فكذبوا. {والمشركين} أي: بعبادة الأصنام والنار والشمس، ونحو ذلك ممن هم عريقون في دين لم يكن له أصل في الحق، بأن لم يكن لهم كتاب.(1/5253)
تنبيه: من للبيان. وقوله تعالى: {منفكين} خبر يكن، أي: منفصلين وزائلين عما كانوا عليه من دينهم انفكاكاً يزيلهم عنه بالكلية بحيث لا تبقى لهم به علقة، ويثبتون على ذلك الانفكاك، وأصل الفك الفتح والانفصال لما كان ملتحماً من فك الكتاب والختم والعظم إذا أزيل ما كان ملتصقاً أو متصلاً به، أو عن الموعد باتباع الحق إذا جاءهم الرسول المبشر به، فإنّ أهل الكتاب كانوا يستفتحون به، والمشركين كانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم.
فإن قيل: لِمَ قال تعالى: {كفروا} بلفظ الماضي، وذكر المشركين باسم الفاعل؟{{
(14/32)
---
أجيب: بأنّ أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أوّل الأمر، لأنهم كانوا مصدّقين بالتوراة والإنجيل وبمبعث محمد صلى الله عليه وسلم بخلاف المشركين فإنهم ولدوا على عبادة الأوثان وذلك يدل على الثبات على الكفر.
وقوله تعالى: {حتى} أي: إلى أن {تأتيهم البينة} متعلق بيكن أو بمنفكين، والبينة الآية التي هي البيان كالفجر المنير الذي لا يزداد بالتمادي إلا طوراً وضياء ونوراً، وذلك هو الرسول صلى الله عليه وسلم وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب، وهو القرآن.
وقوله تعالى: {رسول} أي: عظيم جدّاً بدل من البينة بنفسه، أو بتقدير مضاف، أي: سنة رسول، أو مبتدأ وزاد عظمته بقوله تعالى واصفاً له: {من الله} أي: الذي له الجلال والإكرام وهو محمد صلى الله عليه وسلم لأنه في نفسه بينة وحجة ولذلك سماه الله تعالى سراجاً منيراً، ولأنّ اللام في البينة للتعريف، أي: هو الذي سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى عليهم السلام. وقد يكون التعريف للتفخيم؛ إذ هو البينة التي لا مزيد عليها والبينة كل البينة، وكذا التنكير وقد جمعها الله تعالى ههنا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم
ونظيره: قوله تعالى حين أثنى على نفسه: {ذو العرش المجيد فعال لما يريد} (البروج، الآيتان: 15 ـ 16)
(14/33)
---(1/5254)
فنكر بعد التعريف. وقال أبو مسلم: المراد من البينة مطلق الرسول وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب سواء التوراة أو الزبور أو الانجيل أو القرآن، وعبر بالمضارع لتجدّد البيان في كل وقت بتجدّد الرسالة والتلاوة. وقال البغوي: لفظه مستقبل ومعناه الماضي، أي: حتى أتتهم البينة، وتبعه على ذلك الجلال المحلى. وقوله تعالى: {يتلو صحفاً} صفة الرسول، أو خبره والرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان أمّياً لكنه لما تلا مثل ما في الصحف كان كالتالي لها. وقيل: المراد جبريل عليه السلام وهو التالي للصحف المنتسخة من اللوح التي ذكرت في سورة عبس، ولا بدّ من مضاف محذوف وهو الوحي. والصحف جمع صحيفة وهي: القرطاس، والمراد فيها عبر بها عنه لشدّة المواصلة {مطهرة} أي: في غاية الطهارة والنزاهة من كل قذر مما جعلنا لها من البعد عن الأدناس بأنّ الباطل من الشرك بالأوثان، وغيرها من كل زيغ لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها، وأنها لا يمسها إلا المطهرون.
{فيها} أي: تلك الصحف {كتب} أي: أحكام مكتوبة {قيمة} أي: مستقيمة ناطقة بالحق والعدل الذي لا مرية فيه ليس فيه شرك، ولا اعوجاج بنوع من الأنواع.
{وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب} أي: عما كانوا عليه، وخص أهل الكتاب بالتفرق دون غيرهم وإن كانوا مجموعين مع الكافرين، لأنهم يظنون بهم علماً فإذا تفرّقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. {إلا من بعد جاءتهم البينة} أي: أتتهم البينة الواضحة، والمعنيّ به محمد صلى الله عليه وسلم أتى بالقرآن موافقاً للذي في أيديهم من الكتاب بنعته وصفته، وذلك أنهم كانوا مجمعين على نبوته فلما بعث صلى الله عليه وسلم جحدوا نبوّته وتفرّقوا، فمنهم من كفر بغياً وحسداً ومنهم من آمن كقوله تعالى: {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم} (الشورى: 14)
(14/34)
---(1/5255)
. وقال تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} (البقرة: 89)
وقد كان مجيء البينة يقتضي اجتماعهم على الحق لا تفرّقهم فيه. وقرأ حمزة وابن ذكوان بإمالة الألف بعد الجيم محضة، والباقون بالفتح.
ولما كان حال من أضل على علم أشنع زاد في فضيحتهم فقال تعالى:
{وما أمروا} أي: هؤلاء في التوراة والإنجيل {إلا ليعبدوا الله} أي: يوحدوا الإله الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد غيره، واللام بمعنى أن كقوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم} (النساء: 26)
. وقوله تعالى: {مخلصين له الدين} فيه دليل على وجوب النية في العبادات لأنّ الإخلاص من عمل القلب، وهو أن يراد به وجه الله تعالى لا غيره، ومن ذلك قوله: {إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين} (الزمر: 11)
. {حنفاء} أي: مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، وأصل الحنف في اللغة: الميل وخصه العرف بالميل إلى الخير، وسموا الميل إلى الشرّ إلحاداً والحنيف المطلق الذي يكون متبرئاً عن أصول الملل الخمسة اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين. وعن فروعها من جميع النحل إلى الاعتقادات، وعن توابعها من الخطأ والنسيان إلى العمل الصالح، وهو مقام التقى، وعن المكروهات إلى المستحبات وهو المقام الأوّل من الورع، وعن الفضول شفقة على خلق الله وهو ما لا يعني إلى ما يعنى وهو المقام الثاني من الورع، وعما يجر إلى الفضول وهو مقام الزهد، فالآية جامعة لمقامي الإخلاص. الناظر: أحدهما: إلى الحق، والثاني: إلى الخلق.
ولما ذكر أصل الدين أتبعه الفروع، وبدأ بأعظمها الذي هو مجمع الدين وموضع التجرّد عن العوائق، فقال عز من قائل: {ويقيموا} أي: يعدلوا من غير اعوجاج بجميع الشرائط والأركان والحدود {الصلاة} لتصير بذلك أهلاً بأن تقوم بنفسها، وهي من التعظيم لأمر الله تعالى.
(14/35)
---(1/5256)
ولما ذكر تعالى صلة الخالق أتبعها صلة الخلائق بقوله تعالى: {ويؤتوا الزكاة} أي: يدفعوها لمستحقيها شفقة على خلق الله تعالى إعانة على الدين، أي: ولكنهم حرّفوا ذلك وبدّلوه بطبائعهم المعوجة، وتدخل الزكاة عند أهل الله تعالى في كل ما رزق الله من عقل وسمع وبصر ولسان ويد ورجل وجاه، وغير ذلك كما هو واضح من قوله تعالى: {وممارزقناهم ينفقون} (البقرة: 3)
. {وذلك} أي: والحال أنّ هذا الموصوف من العبادة على الوجه المذكور {دين القيمة} أي: الملة المستقيمة، وأضاف الدين إلى القيمة وهي نعته لاختلاف اللفظين، وأنث القيمة ردّاً بها إلى الملة. وقيل: الهاء للمبالغة فيه. وقيل: القيمة هي الكتب التي جرى ذكرها، أي: وذلك دين الكتب القيمة فيما تدعو إليه وتأمر به، كما قال تعالى: {وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} (البقرة: 213)
. وقال النضر بن شميل: سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى: {وذلك دين القيمة} فقال: القيمة جمع القيم، والقيم والقائم واحد. قال البغوي: ومجاز الآية: وذلك دين القائمين لله تعالى بالتوحيد.
ثم ذكر تعالى ما للفريقين فقال سبحانه:
(14/36)
---(1/5257)
{إنّ الذين كفروا} أي: وقع منهم الستر لمرأى عقولهم بعد صرفها للنظر الصحيح فضلوا واستمروا على ذلك، وإن لم يكونوا عريقين فيه {من أهل الكتاب} أي: اليهود والنصارى {والمشركين} أي: العريقين في الشرك {في نارجهنم} أي: النار التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة {خالدين فيها} أي: يوم القيامة، أو في الحال لسعيهم لموجباتها. واشتراك الفريقين في جنس العذاب لا يوجب التساوي في النوع، بل يختلف بحسب اشتداد الكفر وخفته {أولئك} أي: هؤلاء البعداء البغضاء {هم} أي: خاصة بما لضمائرهم من الخبث {شر البرية} أي: الخليقة الذين أهملوا إصلاح أنفسهم وفرّطوا في حوائجهم ومآربهم، وهذا يحتمل أن يكون على التعميم، وأن يكون بالنسبة لعصر النبيّ صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وأني فضلتكم على العالمين} (البقرة: 47)
أي: عالمي زمانهم، ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم قبل من هو شرّ منهم، مثل فرعون وعاقر ناقة صالح.
ولما ذكر تعالى الأعداء وبدأ بهم لأنّ ذلك أردع لهم أتبعه الأولياء فقال تعالى مؤكداً ما للكفار من الإنكار:
{إنّ الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان {وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} أي: هذا النوع {أولئك} أي: هؤلاء العالو الدرجات {هم} أي: خاصة {خير البرية} أي: على التعميم، أو برية عصرهم يأتي فيه ما مرّ. وقرأ نافع وابن ذكوان بالهمز في الحرفين لأنه من قولهم برأ الله الخلق، والباقون بالياء المشدّدة بعد الراء كالذرية ترك همزه في الاستعمال. ثم ذكر ثوابهم بقوله تعالى:{{
(14/37)
---(1/5258)
{جزاؤهم} أي: على طاعاتهم وعظمه بقوله تعالى: {عند ربهم} أي: المربي لهم والمحسن إليهم {جنات عدن} أي: إقامة لا يحولون عنها {تجري} أي: جرياً دائماً لا انقطاع له {من تحتها} أي: تحت أشجارها وغرفها {الأنهار خالدين فيها} أي: يوم القيامة، أو في الحال لسعيهم في موجباتها وأكد معنى الخلود تعظيماً لجزائهم بقوله تعالى: {أبداً رضي الله} أي: بما له من نعوت الجلال والجمال {عنهم} أي: بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق {ورضوا عنه} لأنهم لم يبق لهم أمنية إلا أعطاهموها مع علمهم أنه تفضل في جميع ذلك لا يجب عليه لأحد شيء، ولا يقدره أحد حق قدره فلو أخذ الخلق بما يستحقونه لأهلكهم كما قال تعالى: {لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} (فاطر: 45)
. وقال ابن عباس: ورضوا عنه بثواب الله عز وجل. {ذلك} أي: الأمر العالي الذي جوزوا به {لمن خشي ربه} أي: خاف المحسن إليه خوفاً يليق به فلم يركن إلى التسويف والتكاسل، فإنّ الخشية ملاك الأمر والباعث على كل خير وهي للعارفين، فإنّ الإنسان إذا استشعر عذاباً يأتيه لحقته حالة يقال لها: الخوف، وهي انخلاع القلب عن طمأنينته، فإن اشتدّ سمي: وجلاً لجولانه في نفسه، فإن اشتدّ سمي: رهباً لأدائه إلى الهرب وهي حالة المؤمنين الفارّين إلى الله تعالى. ومن غلب عليه الحب لاستغراقه في شهود الجماليات لحقته حالة تسمى مهابة ووراء هذا الخشية {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28)
(14/38)
---(1/5259)
فمن خاف ربه هذا الخوف أنفك عن جميع ما عنده مما لا يليق بجنابه تعالى، وما فارق الخوف قلباً إلا خرب. روى أنس «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ بن كعب: إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك {لم يكن الذين كفروا} قال أبيّ: وسماني لك؟ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم نعم فبكى أبيّ». قال البقاعي: سبب تخصيصه بذلك أنه وجد اثنين من الصحابة قد خالفاه في القراءة فرفعهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمرهما فعرضا عليه فحسن لهما قال: فسقط في نفسي من التكذيب أشدّ ما يكون في الجاهلية، فضرب صلى الله عليه وسلم في صدري ففضت عرقاً وكأنما أنظر إلى الله فرقاً، أي: خوفاً ثم قصَّ عليّ خبر التخفيف بالسبعة الأحرف، وكانت السورة التي وقع فيها الخلاف النحل، وفيها أنه تعالى يبعث رسوله صلى الله عليه وسلم يوم البعث شهيداً، وأنه نزل عليه الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة، وأنه نزل عليه روح القدس بالحق ليثبت الذين آمنوا، وأنّ اليهود اختلفوا في السبت.
(14/39)
---(1/5260)
وسورة لم يكن على قصرها حاوية إجمالاً لكل ما في النحل على طولها وزيادة، وفيها التحذير من الشك بعد البيان، وتقبيح حال من فعل ذلك وأنّ حاله يكون كحال الكفرة من أهل الكتاب في العناد فيكون شر البرية فقرأها صلى الله عليه وسلم تذكيراً له بذلك كله على وجه أبلغ وأخصر ليكون أسرع له تصوّراً، فيكون أرسخ في النفس، وأثبت في القلب، وأعشق للطبع، فاختصه الله بالتثبيت، وأراد له الثبات فكان من المريدين المرادين لما وصل إلى قلبه بركة ضربة النبيّ صلى الله عليه وسلم لصدره، وصار كلما قرأ هذه السورة الجامعة غائباً عن تلاوة نفسه مصغياً بإذن قلبه إلى روح النبوّة يتلو عليه ذلك فيدوم له حال الشهود الذي وصل إليه بسر تلك الضربة، ولثبوته في هذا المقام قال صلى الله عليه وسلم «اقرؤكم أُبيّ». قال القرطبي: وفيه من الفقه قراءة العالم على المتعلم. وقال بعضهم: إنما قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم على أبيّ ليعلم الناس التواضع، لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على دونه في المنزلة. وقيل: إنّ أبياً كان أسرع أخذاً لألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد بقراءته عليه أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليه ويعلم غيره وفيه فضيلة عظيمة لأبيّ؛ إذ أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة لم يكن كان يوم القيامة مع خير البرية مساء ومقيلاً». حديث موضوع.
سورة الزلزلة مدنية
في قول ابن عباس وقتادة ومكية في قول ابن مسعود وعطاء وجابر وهي ثمان آيات وخمس وثلاثون كلمة ومائة وتسع وأربعون حرفاً.
{بسم الله} المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {الرحمن} الذي عمّ الخلق بنعمته الظاهرة قسماً {الرحيم} الذي أتم النعمة على خواصه حقيقة عيناً واسماً.
(14/40)
---(1/5261)
ولما قال تعالى: للمؤمنين {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن} كأنَّ المكلف قال: متى يكون ذلك فقيل: له:
{إذا زلزلت الأرض} أي: تحرّكت واضطربت لقيام الساعة، فالعاملون كلهم يكونون في الخوف وأنت في ذلك الوقت تنال جزاءك وتكون آمناً لقوله تعالى: {وهم من فزع يومئذ آمنون} (النمل: 89)
. {زلزالها} أي: تحريكها الشديد المناسب لعظم جرم الأرض وعظمة ذلك كما تقول: أكرم التقي إكرامه، وأهن الفاسق إهانته تريد ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة.
ولما كان الاضطراب العظيم يكشف عن الخفي في المضطرب قال تعالى:{{
(14/41)
---
{وأخرجت الأرض} أي: كلها، ولم يضمر تحقيقاً للعموم {أثقالها} أي: مما هو مدفون فيها من الكنوز والأموات. قال أبو عبيدة والأخفش: إذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقل لها، وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها. وقال ابن عباس ومجاهد: أثقالها أمواتها تخرجهم في النفخة الثانية، ومنه قيل للجنّ والإنس: الثقلان. وقيل: أثقالها كنوزها، ومنه الحديث: «تنفى الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول: في هذا قتلت، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً» فيعطيها الله تعالى قوّة إخراج ذلك كله كما كان يعطيها قوّة أن تخرج النبات الصغير اللطيف الطريّ الذي هو أنعم من الحرير، فتشق الأرض الصلبة التي تكل عنها المعاويل شق النواة مع ما لها من الصلابة التي استعصت بها على الحديد، فتنفلق نصفين وينبت منها سائر ما يريده سبحانه وتعالى فالذي قدر على ذلك قادر على تكوين الموتى في بطن الأرض، وإعادتهم على ما كانوا عليه كما يكون الجنين في البطن، ويشق جميع منافذه من السمع والبصر والفم وغير ذلك من غير أن يدخل هناك بيكار ولا منشار، ثم يخرج من البطن. هكذا إخراج الموتى من غير فرق كل ذلك عليه هين سبحانه. ما أعظم شأنه وأعز سلطانه.(1/5262)
{وقال الإنسان} أي: هذا النوع الصادق بالقليل والكثير لما له من النسيان لما أكده عنده من أمر البعث لما له من الإنس بنفسه، والنظر في عطفه على سبيل التعجب أو الدهش والحيرة أو الكافر كما يقول: {من بعثنا من مرقدنا} (يس: 52)
فيقول له المؤمن: {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} (يس: 52)
. {ما لها} أي: أيّ شيء ثبت للأرض في هذه الزلزلة الشديدة التي لم يعهد مثلها ولفظت ما في بطنها.
(14/42)
---
{يومئذ} أي: إذ كان ما ذكر من الزلزال وما لزم عنه وقوله تعالى: {تحدّث أخبارها} جواب إذا وهو الناصب لها عند الجمهور، ومعنى تحدّث، أي: تخبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شرّ يومئذ، ثم قيل: هو من قول الله تعالى، وقيل: من قول الإنسان، أي: يقول الإنسان ما لها تحدّث أخبارها متعجباً. روى الترمذي عن أبي هريرة أنه قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {يومئذ تحدّث أخبارها} قال: «أتدرون ما أخبارها قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم كذا وكذا كذا وكذا. قال: فهذه أخبارها».
في تحديثها بأخبارها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنّ الله تعالى يقلبها حيواناً ناطقاً فتتكلم بذلك.
ثانيها: أنّ الله تعالى يحدث فيها الكلام.
ثالثها: أن يكون فيها بيان يقوم مقام الكلام. قيل: في الآية تقديم وتأخير تقديره يومئذ تحدث أخبارها فيقول الإنسان مالها أي: تخبر الأرض بما عمل عليها.
{بأن ربك} متعلق بتحدِّث، ويجوز أن يتعلق بنفس أخبارها والباء سببية، أي: تحدّث بسبب أن ربك المحسن إليك بأنواع النعم {أوحى لها} أي: أذن لها أن تتكلم بذلك المذكور بالقال أو بالحال على ما مرّ. قال البقاعي: وعدل عن قوله إليها إلى قول الله تعالى: {لها} إيذاناً بالإسراع في الإيحاء. وقال البغوي: أوحى إليها واحد. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة،. وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح.
(14/43)
---(1/5263)
وقوله تعالى: {يومئذ} بدل من يومئذ قبله منصوب بقوله تعالى: {يصدر} أو بأذكر مقدّراً، أي: واذكر يوم إذ كان ما تقدّم وهو حين يقوم الناس من القبور يصدر {الناس} أي: يرجعون من قبورهم إلى ربهم الذي كان لهم بالمرصاد ليفصل بينهم. وقرأ حمزة والكسائي بإشمام الصاد بين الصاد والزاي، والباقون بالصاد الخالصة {أشتاتاً} أي: متفرّقين بحسب مراتبهم في الذوات والأحوال من مؤمن وكافر، وآمن وخائف، ومطيع وعاص. وعن ابن عباس: متفرّقين على قدر أعمالهم أهل الإيمان على حدة، أو متفرّقين فأخذ ذات اليمين على الجنة، وأخذ ذات الشمال إلى النار {ليروا} أي: يرى الله تعالى المحسن منهم والمسيء بواسطة من شاء من جنوده، أو بغير واسطة حين يكلم سبحانه كل أحد من غير ترجمان ولا واسطة كما أخبر بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم {أعمالهم} فيعلموا جزاءها، أو صادرين عن الموقف كل إلى داره ليرى جزاء عمله، ثم سبب عن ذلك قوله تعالى مفصلاً الجملة التي قبله: {فمن يعمل} من محسن أو مسيء، مسلم أو كافر {مثقال ذرّة خيراً} أي: من جهة الخير {يره} أي: يرى ثوابه حاضراً لا يغيب عنه شيء منه، لأنّ المحاسب له الإحاطة علماً وقدرة.
{ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره} فالمؤمن يراه ليشتدّ سروره به، والكافر يوقف على عمله أنه أحبط لبنائه على غير أساس الإيمان، أو على أنه جوزي في الدنيا فهو صورة بلا معنى ليشتدّ ندمه وتبقى حسرته. وعن ابن عباس: من يعمل من الكفار خيراً يره في الدنيا ولا يثاب عليه في الآخرة، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر عوقب عليه في الآخرة مع عقاب الشرك، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر من المؤمنين يره في الدنيا ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا تاب ويتجاوز عنه، وإن عمل مثقال ذرّة من خير يقبل منه ويضاعف في الآخرة
(14/44)
---(1/5264)
وفي بعض الأحاديث: إنّ الذرّة لا زنة لها، وهذا مثل ضربه الله تعالى ليبين أنه لا يغفل عن عمل ابن آدم صغيراً ولا كبيراً، وهو كقوله تعالى: {إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة} (النساء: 40)
. وذكر بعض أهل اللغة أنّ الذرأن يضرب الرجل يده على الأرض فما علق من التراب فهو الذر. وعن ابن عباس: إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها فكل واحدة مما لزق من التراب ذرّة، وفسرها بعضهم بالنملة الصغيرة، وبعضهم بالهباءة التي ترى طائرة في الشعاع الداخل من الكوة. وقال محمد كعب القرظي: فمن يعمل مثقال ذرّة من خير من كافر يرى ثوابه في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى خير ومن يعمل مثقال ذرّة من شرّ، من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى شررّ ودليله ما روى أنس «أن هذه الآية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأكل فأمسك وقال: يا رسول الله وإنا لنرى ما عملنا من خير وشرّ؟ فقال صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذر الشر ويدّخر لكم مثاقيل ذر الخير حتى تعطوه يوم القيامة». وقال أبو إدريس: إنّ مصداقه من كتاب الله عز وجل: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} (الشورى: 30)
(14/45)
---(1/5265)
. وقال مقاتل: نزلت في رجلين أحدهما كان يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير كالكذبة والغيبة والنظرة، ويقول: إنما وعد الله تعالى النار على الكبائر فنزلت هذه الآية لترغبهم في القليل من الخير يعطوه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة» وتحذرهم من اليسير من الذنب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعائشة: «إياك ومحقرات الذنوب فإنّ لها من الله تعالى طالباً» وقال ابن مسعود: هذه الآية أحكم آية في القرآن وأصدق. وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية.
وقال كعب الأحبار: لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آيتان أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره}. وكان صلى الله عليه وسلم يسمي هذه الجامعة الفاذة حين سئل عن زكاة الحمير فقال: «ما نزل عليّ فيها شيء غير هذه الآية الجامعة الفاذة»: {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره}. وروى مالك في الموطأ أنّ مسكيناً استطعم عائشة رضي الله عنها وبين يديها عنب، فقالت لإنسان خذ حبة فأعطه إياها فجعل ينظر إليها ويتعجب فقالت: أتعجب كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرّة، وكذا تصدّق عمر رضي الله عنه، وإنما فعلا ذلك لتعليم الغير وإلا فهما من كرماء الصحابة. قال الربيع بن خيثم مرّ رجل بالحسن وهو يقرأ هذه الآية فلما بلغ آخرها قال: حسبي قد انتهت الموعظة.
تنبيه: قوله تعالى: {يره} جواب الشرط في الموضعين. وقرأ هشام بسكون هاء يره وصلاً في الحرفين، والباقون بضمها وصلاً وساكنة وقفاً كسائر هاء الكناية. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ إذا زلزلت أربع مرّات كان كمن قرأ القرآن كله»، رواه الثعلبي بسند ضعيف لكن يشهد له ما رواه ابن أبي شيبة مرفوعاً «إذا زلزلت تعدل ربع القرآن».(1/5266)
(14/46)
---
سورة والعاديات مكية
في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء، ومدنية في قول ابن عباس وأنس ابن مالك، وهي إحدى عشرة آية وأربعون كلمة ومائة وثلاثة وستون حرفاً.
{بسم الله} الذي له الأمر كله فلا يسئل عما يفعل {الرحمن} الذي نعمته أتم نعمة وأشمل {الرحيم} الذي خص أولياءه بتوفيقه وأتم نعمته عليهم وأكمل.
وقوله سبحانه وتعالى:
{والعاديات ضبحاً} قسم أقسم الله سبحانه بخيل الغزاة تعدو فتضبح، والضبح: صوت أنفاسها إذا عدون. وعن ابن عباس أنه حكاه فقال: أح أح، قال عنترة:
*والخيل تكدح حين تض ** بح في حياض الموت ضبحا*
وانتصاب ضبحاً على يضبحن أو بالعاديات، كأنه قيل: والضابحات ضبحاً لأنّ الضبح يكون مع العدو، أو على الحال، أي: ضابحات، والعاديات جمع عادية وهي الجارية بسرعة من العدو وهو المشي بسرعة.{{
(14/47)
---
وعن ابن عباس: كنت جالساً في الحجر فجاء رجل فسألني عن العاديات ضبحاً ففسرتها بالخيل فذهب إلى عليّ رضي الله عنه، وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت، فقال: ادعه لي فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، والله إن كانت لأوّل غزوة في الإسلام بدر وما كان معنا إلا فرسان؛ فرس للزبير وفرس للمقداد العاديات ضبحاً الإبل من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى. قال الزمخشري: فإن صحت الرواية فقد استعير الضبح للإبل كما استعير المشافر والحافر للإنسان، والشفتان للمهر وما أشبه ذلك. قال ابن عباس: وليس شيء من الحيوان يضبح غير الفرس والكلب والثعلب، ونقل غيره أنّ الضبح يكون في الإبل والأسود من الحيات والبوم والضرو والأرنب والثعلب والفرس.
ثم اتبع عدوها ما ينشأ عنه فقال تعالى عاطفاً بأداة التعقيب:
(14/48)
---(1/5267)
{فالموريات قدحاً} قال عكرمة والضحاك: هي الخيل توري النار بحوافرها إذا سارت في الحجارة لا سيما عند سلوك الأوعار، وقدحاً منصوب لما انتصب به ضبحاً. قال الزمخشري: ففيه الثلاثة أوجه المتقدّمة. وعن ابن عباس: أورت بحوافرها غباراً، وهذا إنما يناسب من فسر العاديات بالإبل. وقال ابن مسعود: هي الإبل تطأ الحصى فتخرج منه النار أصل القدح: الاستخراج، ومنه قدحت العين إذا أخرجت منها الماء الفاسد. وعن قتادة وابن عباس أيضاً: أنّ الموريات قدحاً الرجال في الحرب، والعرب تقول: إذا أرادوا أنّ الرجل يمكر بصاحبه والله لأمكرنّ بك ثم لأورين لك، وعن ابن عباس أيضاً: هم الذين يغزون فيورون نيرانهم بالليل لحاجتهم وطعامهم، وعنه أيضاً: إنها نيران المجاهدين إذا كثرت إرهاباً ليظنهم العدوّ كثيراً قال القرطبي: وهذه الأقوال مجاز كقولهم: فلان يوري زناد الضلالة والأوّل الحقيقة وأنّ الخيل من شدّة عدوها تقدح النار بحوافرها. وقال مقاتل: تسمى تلك النار نار أبي حباب، وأبو حباب كان شيخاً من مضر في الجاهلية من أبخل الناس، وكان لا يوقد نار الخبز ولا غيره حتى تنام العيون فيوقد نويرة تقد مرّة وتخمد أخرى، فإن استيقظ لها أحداً أطفأها كراهة أن ينتفع بها أحد، فشبهت العرب هذه النار بناره لأنه لا ينتفع بها.
ولما ذكر العدو وما يتأثر عنده ذكر نتيجته وغايته بقوله:
{فالمغيرات} أي: بإغارة أهلها وقوله تعالى: {صبحاً} ظرف، أي: التي تغير وقت الصبح يقال أغار بغير إغارة إذا باغت عدوّه لنهب أو قتل أو أسر، قال الشاعر:
*فليت لي بهم قوماً إذا اركبوا ** شنوا الإغارة فرساناً وركبانا*
وغار لغية.
{فأثرن} أي: فهيجن {به} أي: بفعل الإغارة ومكانها وزمانها من شدّة العدو {نقعاً} أي: غبار الشدّة حركتهنّ والنقع الغبار.
(14/49)
---(1/5268)
تنبيه: عطف الفعل وهو فأثرن على الاسم لأنه في تأويل الفعل لوقوعه صلة لأل. وقال الزمخشري: معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه، لأنّ المعنى واللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن.
{فوسطن به} أي: بذلك النقع أو العدو أو الوقت {جمعاً} من العدوّ، أي: صرن وسط العدو وهو الكتيبة، يقال: وسطت القوم بالتخفيف ووسطتهم بالتشديد، وتوسطتهم بمعنى واحد. وقال القرطبي: يعني جمع منى وهو مزدلفة، فوجه القسم على هذا أنّ الله تعالى أقسم بالإبل لما فيها من المنافع الكثيرة وتعريضه بإبل الحج للترغيب فيه، وفيه تعريض على من لم يحج بعد القدرة عليه كما في قوله تعالى: {ومن كفر} أي: من لم يحج {فإنّ الله غنيّ عن العالمين} (آل عمران: 97)
وجواب القسم قوله تعالى:
{إنّ الإنسان} أي: هذاالنوع بما له من الإنس بنفسه والنسيان لما ينفعه {لربه} المحسن إليه بإبداعه ثم بإبقائه وتدبيره وتربيته {لكنود} قال ابن عباس: لكفور جحود لنعم الله تعالى. وقال الكلبي: هو بلسان ربيعة ومضر الكفور وبلسان كندة وحضرموت العاصي. وقال الحسن: هو الذي يعدّ المصائب وينسى النعم وقال أبو عبيدة: هو قليل الخير والأرض الكنود التي لا تنبت شيئاً، وفي الحديث عن أبي امامة هو الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده. وقال الفضيل بن عياض: الكنود الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان، والشكور الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإحسان الخصال الكثيرة من الإساءة.
{وإنه} أي: الإنسان {على ذلك} أي: الكنود العظيم حيث أقدم على مخالفة الملك الأعظم المحسن مع الكفر لإحسانه {لشهيد} أي: يشهد على نفسه ولا يقدّر أن يجحده لظهور أثره عليه، أو أن الله تعالى على كنوده لشاهد على سبيل الوعيد.
(14/50)
---(1/5269)
{وإنه} أي: الإنسان من حيث هو {لحب} أي: لأجل حب {الخير} أي: المال الذي لا يعدّ غيره لجهله خيراً {لشديد} أي: بخيل بالمال ضابط له ممسك عليه، أو بليغ القوة في حبه لأنّ منفعته في الدنيا، وهو متقيد بالعاجل الحاضر المحسوس مع علمه بأنّ أقل ما فيه أنه يشغله عن حسن الخدمة لربه تعالى، ومع ذلك فهو لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق، وهو لحب عبادة ربه وشكر نعمته ضعيف متقاعس.
ثم سبب عن ذلك قوله تعالى:
{أفلا يعلم} أي: هذا الإنسان الذي أنساه أنسه بنفسه {إذا بعثر} أي: انتثر بغاية السهولة وأخرج {ما في القبور} أي: من الموتى. قال أبو عبيدة: بعثرت المتاع: جعلت أسفله أعلاه. قال محمد بن كعب: ذلك حين يبعثون. فإن قيل: لِمَ قال: {ما في القبور} ولم يقل من، ثم قال بعد ذلك:
{إن ربهم بهم} أجيب: عن الأوّل بأنّ ما في الأرض غير المكلفين أكثر فأخرج الكلام على الأغلب، أو أنهم حال ما يبعثون لا يكونون أحياء عقلاء بل يصيرون كذلك بعد البعث، فلذلك كان الضمير الأوّل ضمير غير العقلاء، والضمير الثاني ضمير العقلاء.
{وحُصِّل} أي: أخرج وجمع بغاية السهولة {ما في الصدور} من خير وشر مما يظن مضمره أنه لا يعلمه أحد أصلاً، وظهر مكتوباً في صحائف الأعمال وهذا يدل على أن النيات يحاسب عليها كما يحاسب على ما يظهر من آثارها. وتخصيص الصدر بذلك لأنه محله القلب.
(14/51)
---(1/5270)
{إن ربهم} أي: المحسن إليهم بخلقهم وخلقهم وتربيتهم {بهم يومئذ} أي: إذا كانت هذه الأمور وهو يوم القيامة {لخبير} أي: لمحيط بهم من جميع الجهات عالم غاية العلم ببواطن أمورهم فكيف بظواهرها ومعنى علمه بهم يوم القيامة مجازاته لهم، وإلا فهو خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره فكيف ينبغي للعاقل أن يعلق آماله بالمال فضلاً عن أن يؤثره على الباقي. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والعاديات أعطي من الأجر حسنات من بات بالمزدلفة وشهد جمعاً» حديث موضوع.
سورة القارعة مكية
وهي إحدى عشرة آية وست وثلاثون كلمة ومائة واثنان وخمسون حرفاً
{بسم الله} الملك الأعلى {الرحمن} الذي عمت نعمه إيجاده جميع الورى {الرحيم} الذي يخص أولياءه بالتوفيق لما يحب ويرضى.
ولما ختم العاديات بالبعث ذكر صيحته بقوله تعالى:
{القارعة} أي: الصيحة، أو القيامة التي تقرع القلوب بأهوالها والأجرام الكثيفة بالتشقق والانفطار، والأشياء الثابتة بالانتشار. وقوله تعالى:
{ما القارعة} تهويل لشأنها وهما مبتدأ وخبر، خبر القارعة، وأكد تعظيمها إعلاماً بأنه مهما خطر في بالك من عظمها فهي أعظم منه، فقال تعالى:
{وما أدراك} أي: أعلمك {ما القارعة} أي: إنك لا تعرفها لأنك لم تعهد مثلها، وما الأولى مبتدأ وما بعدها خبره، وما الثانية وخبرها في محل المفعول الثاني لأدري.{{
(14/52)
---(1/5271)
واختلف في ناصب {يوم} على وجهين أحدهما أنه بمضمر دلّ عليه القارعة، أي: تقرعهم يوم. وقيل تقديره: تأتي القارعة يوم {يكون الناس} والثاني أنه أذكر مقدّراً فهو مفعول به لا ظرف. وقوله تعالى: {كالفراش المبثوث} يجوز أن يكون خبراً للناقصة وأن يكون حالاً من فاعل التامة، أي: يؤخذون ويحشرون شبه الفراش شبههم في الكثرة والانتشار، والضعف والذلة، والتطاير إلى الداعي من كل جانب كما يتطاير الفراش إلى النار، والفراش طائر معروف. قال قتادة: الفراش الطير الذي يتساقط في النار والسراج، الواحدة فراشة. وقال الفراء: هو الهمج من البعوض والجراد وغيرهما، وبه يضرب المثل في الطيش والهرج يقال: أطيش من فراشة. وأنشدوا:
*فراشة الحلم فرعون العذاب وأن ** تطلب نداه فكلب دونه كلب*
وفي أمثالهم: أضعف من فراشة، وأذل وأجهل. وسمي فراشاً لتفرشه وانتشاره. وروى مسلم عن جابر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبهنّ عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي». وفي تشبيه الناس بالفراش مبالغات شتى منها الطيش الذي يلحقهم وانتشارهم في الأرض، وركوب بعضهم بعضاً، والكثرة والضعف، والذلة والمجيء من غير ذهاب، والقصد إلى الداعي من كل جهة، والتطاير إلى النار. قال جرير:
*إنّ الفرزدق ما علمت وقومه ** مثل الفراش غشين نار المصطلى*
والمبثوث المتفرق، وقال تعالى في موضع آخر: {كأنهم جراد منتشر} (القمر: 7)
فإن قيل: كيف شبه الشيء الواحد بالصغير والكبير معاً لأنه شبههم بالجراد المنتشر والفراش المبثوث؟ أجيب: بأنّ التشبيه بالفراش في ذهاب كل واحد إلى غير جهة الآخر، وأمّا التشبيه بالجراد فبالكثرة والتتابع.
{وتكون الجبال} على ما هي عليه من الشدّة والصلابة وأنها صخوراً راسخة {كالعهن} أي: الصوف المصبوغ ألواناً لأنها ملوّنه قال تعالى: {ومن الجبال جدد بيض وحمر} (فاطر: 27)(1/5272)
(14/53)
---
أي: وغير ذلك {المنفوش} أي: المندوف المفرّق الأجزاء فتراها لذلك متطايرة في الجوّ كالهباء المنثور، كما قال تعالى في موضع آخر: {هباءً منبثاً} (الواقعة: 6)
حتى تعود الأرض كلها لا عوج فيها ولا أمّتا.
ثم سبب عن ذلك تعالى مفصلاً لهم:
{فأمّا من ثقلت موازينه} أي: برجحان الحسنات، وفي الموازين قولان: أحدهما: أنه جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله تعالى، وهذا قول الفراء. والثاني: قال ابن عباس: إنه جمع ميزان له لسان وكفتان لا يوزن فيه إلا الأعمال، فتوزن فيه الصحف المكتوبة فيها الحسنات والسيئات أو الأعمال أنفسها، فيؤتى بحسنات المؤمن في أحسن صورة فتوضع في كفة الميزان فإذا رجحت فالجنة له، ويؤتى بسيئات الكافر في أقبح صورة فيخف ميزانه فيدخل النار.
وقيل: إنما توزن أعمال المؤمنين فمن ثقلت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن ثقلت سيئاته على حسناته دخل النار فيقتص منه على قدرها، ثم يخرج منها فيدخل الجنة، أو يعفو الله عنه فيدخل الجنة بفضله ورحمته. وأمّا الكافر فقد قال الله تعالى في حقه: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} (الكهف: 105)
ثم قيل: إنه ميزان واحد بيد جبريل عليه السلام يزن به أعمال بني آدم، فعبر عنه بلفظ الجمع. وقيل: موازين لكل حادثة ميزان، وقيل: الموازين الحجج والدلائل قاله عبد العزيز بن يحيى، واستشهد بقول الشاعر:
*قد كنت قبل لقائكم ذا مرّة ** عندي لكل مخاصم ميزانه*
{فهو} أي: بسبب رجحان حسناته {في عيشة} أي: حياة يتقلب فيها. قال البقاعي: ولعله ألحقها بالهاء الدالة على الوحدة، والمراد العيش ليفهم أنها على حالة واحدة في الصفاء واللذة وليست ذات ألوان كحياة الدنيا {راضية} أي: ذات رضا أو مرضية لأنّ أمّه جنة عالية.
{وأمّا من خفت} أي: طاشت {موازينه} أي: غلبت سيئاته، أو لم تكن له حسنة لاتباعه الباطل وخفته عليه في الدنيا.
(14/54)
---(1/5273)
{فأمّه} أي: التي تؤويه وتضمه إليها كما يقال للأرض أم لأنها تقصد لذلك، ويسكن إليها كما يسكن إلى الأمّ وكذا المسكن {هاوية} أي: نار نازلة سافلة جدّاً، فهو بحيث لا يزال يهوي فيها نازلاً فهو في عيشة ساخطة فالآية من الاحتباك ذكر العيشة أولاً دليلاً على حذفها ثانياً وذكر الأمّ ثانياً، دليلاً على حذفها أوّلاً، والهاوية اسم من أسماء جهنم وهي المهواة لا يدرك قعرها.
وقال قتادة: هي كلمة عربية كان الرجل إذا وقع في أمر شديد يقال: هوت أمّه. وقيل: أراد أمّ رأسه يعني أنهم يهوون في النار على رؤوسهم، وإلى هذا التأويل ذهب قتادة وأبو صالح. وروي عن أبي بكر أنه قال: وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباع الحق وثقله في الدنيا، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحسنات أن يثقل، وإنما خفت موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل وخفته في الدنيا، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا السيئات أن يخف.
{وما أدراك} أي: وأيّ شيء أعلمك وإن اشتدّ تكلفك {ماهيه} أي: الهاوية، والأصل ما هي فدخلت الهاء للسكت وقرأ حمزة في الوصل بغيرها بعد الياء التحتية ووقف بها، والباقون بإثباتها وصلاً ووقفاً.
فإن قيل: قال هنا: {وما أدراك ماهيه} وقال أوّل السورة: {وما أدراك ما القارعة} ولم يقل ما أدراك ما الهاوية؟.
أجيب: بأنّ كونها قارعة أمر محسوس وكونها هاوية ليس كذلك فظهر الفرق.
وقوله تعالى: {نار حامية} خبر مبتدأ مضمر، أي: هي، أي: الهاوية نار شديدة الحرارة. روى مسلم أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ناركم هذه التي توقد جزء من سبعين جزءً من حرّ جهنم، قالوا: وإنها لكافية يا رسول الله؟ قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءً كلها مثل حرّها» وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة القارعة ثقل الله بها ميزانه يوم القيامة» حديث موضوع.
سورة التكاثر مكية
(14/55)
---(1/5274)
وهي ثمان آيات وثمانية وعشرون كلمة ومائة وعشرون حرفاً
{بسم الله} ذي الجلال والإكرام {الرحمن} الذي عمّ بالإيجاد بعد الإعدام {الرحيم} الذي خص أولياءه بتمام الإنعام.
ولما ختم القارعة بالشقي افتتح هذه بفعل الشقاوة ومبتدأ الحشر لينزجر السامع. فقال تعالى:
{ألهاكم التكاثر} أي: شغلكم المباهاة والمفاخرة والمكاثرة بكثرة المال والعدد عن طاعة ربكم، وما ينجيكم من سخطه.
{حتى زرتم المقابر} أي: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم منفقين أعماركم في طلب الدنيا، والاستباق إليها والتهالك عليها إلى أن أتاكم الموت، لا همّ لكم غيرها عما هو أولى بكم من السعي لعاقبتكم، والعمل لآخرتكم، وزيارة القبر عبارة عن الموت. قال الأخطل:
*لن يخلص العام خليل عشراً ** ذاق الضماد أو يزور القبرا*
تنبيه: حتى غاية لقوله تعالى: {ألهاكم} وهو عطف عليه، والمعنى: حتى أتاكم الموت فصرتم في المقابر زواراً ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار، يقال لمن مات: قد زار قبره.
فإن قيل: شأن الزائر أن ينصرف قريباً والأموات ملازمون للقبور فكيف يقال: إنه زار القبر، وأيضاً حتى زرتم إخبار عن الماضي فكيف يحمل على المستقبل.
أجيب: عن الأول: بأن سكان القبور لا بد أن ينصرفوا عنها، فإن كل آت قريب، وعن الثاني: لتحققه عبر عنه بالماضي كقوله تعالى: {أتى أمر الله} (النحل: 10){{
(14/56)
---(1/5275)
وقال أبو مسلم: إنّ الله تعالى يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعبيراً للكفار وهم في ذلك الوقت قد تقدّمت منهم زيارة القبور. وقال مقاتل والكلبي: نزلت في حيين من قريش بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا أيهم أكثر عدداً فكثرهم بنو عبد مناف، وقالت بنو سهم: إنّ البغي أهلكنا في الجاهلية فعادّونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات، لأنهم كانوا في الجاهلية أكثر عدداً، والمعنى: أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى استوعبتم عددهم ثم صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة القبور تهكماً بهم، وإنما حذف الملهى عنه وهو ما يعنيهم من أمر الدين للتعظيم والمبالغة.
وقال قتادة: في اليهود قالوا نحن أكثر من بني فلان وبنو فلان أكثر من بني فلان، شغلهم ذلك حتى ماتوا ضلالاً، أو أنهم كانوا يزورون المقابر فيقولون: هذا قبر فلان، وهذا قبر فلان عند تفاخرهم، والمعنى: ألهاكم ذلك وهو مما لا يعينكم ولا يجدي عنكم في دنياكم وآخرتكم عما يعينكم من أمر الدين الذي هو أهمّ وأعنى من كل مهمّ من المقابر، والمقابر: جمع مقبرة بفتح الباء وضمها، ويسمى سعيد المقبري لأنه كان يسكن المقابر. قال القرطبي: لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة، واعترضه ابن عادل: بأنّ الله تعالى قال في سورة أخرى: {ثم أماته فأقبره} (عبس: 21)
(14/57)
---(1/5276)
وهذا ممنوع فإنه قال المقابر، فلفظ هذه الآية غير لفظ تلك. وزيارة القبور من أعظم الأدوية للقلب القاسي لأنها تذكر الموت والآخرة، وذلك يحمل على قصر الأمل والزهد في الدنيا وترك الرغبة فيها قال صلى الله عليه وسلم «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة». وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن زوّارات القبور». فتكره لهنّ لقلة صبرهنّ وكثرة جزعهنّ نعم زيارة النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة لهنّ ويلحق به بقية الأنبياء والعلماء، وينبغي لمن زار القبور أن يتأدّب بآدابها ويحضر قلبه في إتيانها، ولا يكون حظه منها الطواف عليها فقط فإنّ هذه حالة يشاركه فيها البهائم، بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى وإصلاح فساد قلبه، ونفع الميت بما يتلوه عنده من القرآن والدعاء، ويتجنب الجلوس عليها.
ويسلم إذا دخل المقابر فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون». وإذا وصل على قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضاً، وأتاه من قبل وجهه لأنه في زيارته كمخاطبه حياً، ثم يعتبر بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، ويتأمّل حال من مضى من إخوانه كيف انقطعت آمالهم ولم تغن عنهم أموالهم، ومجيء التراب على محاسنهم ووجوههم، وافترقت في التراب أجزاؤهم، وترمل من بعدهم نساؤهم، وشمل ذل اليتم أولادهم وأنه لا بدّ صائر إلى مصيرهم، وأنّ حاله كحالهم وماله كمالهم.
(14/58)
---(1/5277)
وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: «انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية قال: يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدّقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت». وعن مالك قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان، ويبقى واحد يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله». وقرأ ألهاكم حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح.
وقوله تعالى: {كلا} ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه ولا يهتم بذنبه. وقوله تعالى: {سوف تعلمون} إنذار ليخافوا فينتبهوا عن غفلتهم وقوله تعالى:
{ثم كلا سوف تعلمون} تكرير للتأكيد وثم للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأوّل وأشدّ كما يقال للمنصوع أقول لك لا تفعل، والمعنى سوف تعلمون والخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول لقاء الله تعالى، وإن هذا التنبيه نصيحة لكم ورحمة عليكم.
وعن عليّ كرم الله وجهه ورضي الله عنه {كلا سوف تعلمون} في الدنيا.
{ثم كلا سوف تعلمون} في الآخرة فعلى هذا يكون غير مكرّر لحصول التغاير بينهما لأجل تغاير المتعلقين وثم على بابها من المهلة. وعن ابن عباس {كلا سوف تعلمون }ما ينزل بكم من العذاب في القبور {ثم كلا سوف تعلمون }في الآخرة إذا حل بكم العذاب فالتكرار للحالتين. وروى زر بن حبيش عن علي كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة فأشار على أنّ قوله تعالى: {كلا سوف تعلمون }في القبور. وقيل: {كلا سوف تعلمون }إذا نزل بكم الموت وجاءتكم رسل ربكم بنزع أرواحكم {ثم كلا سوف تعلمون} في القيامة أنكم معذبون، وعلى هذا تضمنت أحوال القيامة، من بعث وحشر وعرض وسؤال إلى غير ذلك من أهوال القيامة، وقال الضحاك: {كلا سوف تعلمون }يعني الكفار{ثم كلا سوف تعلمون} أيها المؤمنون فالأوّل وعيد والثاني وعد.
(14/59)
---(1/5278)
ولما كان هذا أمراً صادقاً أشار تعالى إلى أنه يكفي هذه الأمّة المرحومة التأكيد بمرّة واحدة، فقال سبحانه مردّداً الأمر بين تأكيد الردع تالياً بالأداة الصالحة له، ولأن يكون بمعنى حقاً كما يقوله أئمة القراءة.
{كلا} أي: ليشتدّ ارتداعكم عن التكاثر، فإنه أساس كل بلاء فإنكم {لو تعلمون} أي: أيها الكافرون {علم اليقين} أي: لو يقع لكم علم على وجه اليقين مرّة من الدهر لعلمتم ما بين أيديكم فلم يلهكم التكاثر ولضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون فحذف الجواب أخوف ليذهب الوهم معه كل مذهب ولا يجوز أن يكون.
{لترون الجحيم} جوابها الآن هذا مثبت، وجواب لو يكون منفياً ولأنه تعالى عطف عليه، ثم لتسألن وهو مستقبل لا بد من وقوعه وحذف جواب لو كثير. قال الأخفش: التقدير لو تعلمون علم اليقين لالهاكم بل هو جواب قسم محذوف أكد به الوعيد، وأوضح به ما أنذرهم منه بعد إبهامه تفخيماً.
وقوله تعالى: {ثم لترونها} تكرير للتأكيد، والأولى إذا رأتهم من مكان بعيد، والثانية إذا وردوها والمراد بالأولى المعرفة والثانية الإبصار. {عين اليقين} أي: الرؤية التي هي نفس اليقين، فإن علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين. قال الرازي: واليقين مركب الإخلاص في هذا الطريق، وهو غاية درجات العامة وأوّل خطرة الخاصة. قال صلى الله عليه وسلم «خير ما ألقي في القلب اليقين» وعلمه قبول ما ظهر من الحق وقبول ما غاب للحق والوقوف على ما قام بالحق. وقال قتادة: اليقين هنا الموت، وعنه أيضاً. البعث، أي: لو تعلمون علم الموت، أو البعث فعبر عنه الموت باليقين، والعلم من أشدّ البواعث على العمل. وقيل: لو تعلمون اليوم في الدنيا علم اليقين بما أمامكم مما وصفت..
{لترونّ الجحيم} بعيون قلوبكم، فإنّ علم اليقين يريك الجحيم بعين فؤادك. وقرأ لترونَ ابن عامر والكسائي بضم التاء، والباقون بالفتح.
(14/60)
---(1/5279)
{ثم لتسئلنّ} حذف منه نون الرفع لتوالي النونات، والواو لالتقاء الساكنين {يومئذ} أي: يوم رؤيتها {عن النعيم} وهو ما يلتذ به في الدنيا من الصحة والفراغ والأمن والمطعم والمشرب وغير ذلك، والمراد بذلك ما يشغله عن الطاعة للقرينة والنصوص الكثيرة كقوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} (الأعراف: 32)
وقوله تعالى: {كلوا من الطيبات} (المؤمنون: 51)
وقال الحسن: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار، لأنّ أبا بكر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قال: يا رسول الله، أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم من خبز وشعير ولحم وبسر وماء عذب، أيكون من النعيم الذي يسأل عنه، فقال صلى الله عليه وسلم «إنما ذلك للكفار ثم قرأ صلى الله عليه وسلم {وهل نجازي إلا الكفور} (سبأ: 17)
» لأنّ ظاهر الآية يدل على ذلك لأنّ الكفار ألهاهم التكاثر بالدنيا والتفاخر بلذاتها عن طاعة الله تعالى، والاشتغال بشكره فالله تعالى يسألهم عنها يوم القيامة حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه لسعادتهم كان من أعظم الأسباب لشقاوتهم. وقيل: السؤال عام في حق المؤمن والكافر لقوله صلى الله عليه وسلم «أوّل ما يسأل العبد يوم القيامة عن النعيم فيقال له: ألم نصحح جسمك، ألم نروك من الماء البارد؟». وقيل: الزائد على ما لا بدّ منه، وقيل: غير ذلك. قال الرازي: والأولى على جميع النعم لأنّ الألف واللام تفيد الاستغراق وليس صرف اللفظ على البعض أولى من صرفه إلى الباقي، فيسأل عنها هل شكرها أم كفرها.
وإذا قيل: إنّ هذا السؤال للكافر، فقيل: هو في موقف الحساب، وقيل: بعد دخول النار يقال لهم: إنما حل بكم هذا العذاب لاشتغالكم في الدنيا بالنعيم عن العمل الذي ينجيكم من هذه النار، ولو صرفتم عمركم إلى طاعة ربكم لكنتم اليوم من أهل النجاة.
(14/61)
---(1/5280)
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ ألهاكم التكاثر لم يحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم به عليه في دار الدنيا، وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية» حديث موضوع إلا آخره، فرواه الحاكم بلفظ «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم قالوا: ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية؟ قال: أو ما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر».
سورة العصر مكية
وروي عن ابن عباس وعبادة أنها مدنية،وهي ثلاث آيات وأربع عشرة كلمة وثمانية وستون حرفاً
{بسم الله} الذي كل شيء هالك إلا وجهه {الرحمن} الذي عمّ الوجود بإنعامه فليس شيء شبهه {الرحيم} الذي أعز أولياءه فكانوا للدّهر غرّة ولأهله جبهه.
وقوله تعالى: {والعصر} قسم، واختلف في المراد به. فقال ابن عباس: والدهر أقسم به لأنّ فيه عبرة للناظر بتصرّف الأحوال وتبدلها وما فيها من الدلالة على الصانع، وقيل: معناه ورب العصر ومرّ الكلام في أمثاله وقال ابن كيسان أراد بالعصر الليل والنهار، يقال لهما العصران وقال الحسن: بعد زوال الشمس إلى غروبها وقال قتادة: آخر ساعة من ساعات النهار وقال مقاتل: أقسم بصلاة العصر وهي الصلاة الوسطى، وهذا أشبه قال صلى الله عليه وسلم «من فاتته الصلاة الوسطى فكأنما وتر أهله وماله» ولأنّ التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار واشتغالهم بعشائهم.
ونقل ابن عادل عن مالك أنّ من حلف أن لا يكلم الرجل عصراً لم يكلمه سنة. قال ابن العربيّ: إنما حمل مالك يمين الحالف على السنة لأنه أكثر ما قيل: فيه. ونقل عن الشافعي يبرّ بساعة إلا أن تكون له نية. وجواب القسم.{{
(14/62)
---
{إن الإنسان} أي: الجنس {لفي خسر} أي: نقص بحسب مساعيهم في أهوائهم وصرف أعمارهم في إغراضهم لما لهم بالطبع من الميل إلى الحاضر، والإعراض عن الغائب، والإغترار بالفاني.(1/5281)
تنبيه: تنكير خسر يحتمل التهويل والتحقير، فإن حمل على الأوّل وهو الظاهر كان المعنى: أنّ الإنسان لفي خسر عظيم لا يعلم كنهه إلا الله تعالى، لأنّ الذنب يعظم أمّا لعظم من في حقه الذنب، أو لأنه وقع في مقابلة النعم العظيمة، فلذلك كان الذنب في غاية العظم. وإن حمل على الثاني كان المعنى: إن خسران الإنسان دون خسران الشيطان
ولما كان الحكم على الجنس حكماً على الكلّ لأنهم ليس لهم من ذواتهم إلا ذلك، وكان فيهم من خلصه الله تعالى مما طبع عليه الإنسان وحفظه عن الميل استثناهم بقوله عز من قائل:
{إلا الذين آمنوا} أي: أوجدوا الإيمان وهو التصديق بما علم بالضرورة مجيء النبيّ صلى الله عليه وسلم به من توحيده سبحانه، والتصديق بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. {وعملوا} أي: تصديقاً لما أقرّوا به من الإيمان {الصالحات} أي: هذا الجنس من إيقاع الأوامر واجتناب النواهي، واشتروا الآخرة بالدنيا فلم يلههم التكاثر ففازوا بالحياة الأبدية والسعادة السرمدية، فلم يلحقهم شيء من الخسران.
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: المراد بالإنسان الكافر، وقال في رواية الضحاك: يريد به جماعة من المشركين الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب. وقيل: لفي خسر غبن وقال الأخفش لفي هلكة وقال الفراء: لفي عقوبة. وقال ابن زيد: لفي شرّ. وروى ابن عوف عن إبراهيم قال: أراد أن الإنسان إذا عمر في الدنيا وأهرم لفي ضعف ونقص وتراجع إلا المؤمنين فإنه يكتب لهم أجورهم التي كانوا يعملونها في حال شبابهم، ونظيره قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا} (التين: 4 ـ 6)
(14/63)
---(1/5282)
ولما كان الإنسان بعد كماله في نفسه بالأعمال لا ينتفي عنه مطلق الخسر إلا بتكميل غيره، وحينئذ كان وارثاً لأنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا للتكميل. قال تعالى مخصصاً لما دخل في الأعمال الصالحة منبهاً على عظمه: {وتواصوا} أي: أوصى بعضهم بعضاً بلسان الحال والمقال {بالحق} أي: الأمر الثابت وهو كل ما حكم الشرع بصحته ولا يسوغ إنكاره، وهو الخير كله من توحيد الله تعالى وطاعته، واتباع كتبه ورسله، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة {وتواصوا} أيضاً {بالصبر} عن المعاصي وعلى الطاعات، وعلى ما يبتلي الله به عباده من الأمراض وغيرها.
ويروى عن أبيّ بن كعب أنه قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم والعصر، ثم قلت: ما تفسيرها يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم «والعصر قسم من الله أقسم ربكم بآخر النهار أنّ الإنسان لفي خسر أبو جهل إلا الذين آمنوا أبو بكر، وعملوا الصالحات عمر وتواصوا بالحق عثمان، وتواصوا بالصبر عليّ». وهكذا خطب ابن عباس على المنبر موقوفاً عليه. وقال قتادة: بالحق، أي: بالقرآن. وقال السدّي: الحق هنا الله عز وجل. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والعصر غفر الله له،وكان ممن تواصى بالحق وتواصى بالصبر». حديث موضوع.
سورة الهمزة مكية
وهي تسع آيات وثلاثون كلمة ومائة وثلاثون حرفاً
{بسم الله} الحكم العدل {الرحمن} الذي عمّ جوده أهل البخل وأولي العدل {الرحيم} الذي خص أولياءه بزيادة الفضل
(14/64)
---(1/5283)
وقوله تعالى: {ويل} فيه قولان: أحدهما: أنه كلمة عذاب، والثاني: أنه واد في جهنم {لكل همزة لمزة} قال ابن عباس: هم المشاؤون بالنميمة المفرّقون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب، فعلى هذا هما بمعنى. وقال صلى الله عليه وسلم «شرّ عباد الله المشاؤون بالنميمةالمفسدون بين الأحبة الباغون للبراء العيب». وقال مقاتل: الهمزة الذي يعيبك في الغيب، واللمزة الذي يعيبك في الوجه. وقال أبو العالية والحسن: الهمزة الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل، واللمزة الذي يغتابه من خلفه، وهذا اختيار النحاس. ومنه قوله تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} (التوبة: 58)
. وقال سعيد بن جبير: الهمزة الذي يأكل لحوم الناس ويغتابهم، واللمزة الطعان عليهم. وقال ابن زيد: الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمزة الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم. وقال سفيان الثوري: يهمز بلسانه ويلمز بعينه. وقال ابن كيسان: الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء اللفظ، واللمزة الذي يكسر عينه ويشير برأسه ويرمز بحاجبه. وحاصل هذه الأقاويل يرجع إلى أصل واحد وهو الطعن وإظهار العيب، ويدخل في ذلك من يحاكي الناس بأقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا منهم. وأصل الهمز الكسر واللمز الطعن، ثم خصا بالكسر من أعراض الناس والطعن فيهم حتى صار ذلك عادة، لأنه خلق ثابت في جبلتهم والذي دلّ على الاعتياد صيغة فعلة بضم ففتح، كما يقال: ضحكة للذي يفعل الضحك كثيراً حتى صار عادة له وضرى به.
واختلفوا فيمن نزلت فيه هذه الآية، فقال الكلبي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي كان يقع في الناس ويغتابهم. وقال محمد بن إسحاق: ما زلنا نسمع أنّ سورة الهمزة نزلت في أمية بن خلف الجمحيّ. وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم من ورائه، ويطعن عليه في وجهه. وقال مجاهد: هي عامّة في حق من هذه صفته.
(14/65)
---(1/5284)
وقوله تعالى: {الذي جمع مالاً} بدل من كل، أو ذمّ منصوب أو مرفوع. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بتشديد الميم على المبالغة والتكثير ولأنه يوافق قوله تعالى: {وعدّده} والباقون بتخفيفها، وهي محتملة للتكثير وعدمه، ومعنى عدّده: أحصاه وجعله للحوادث. وقال الضحاك: أعدّ ماله لمن يرثه من أولاده، وقيل: فاخر بعدده وكثرته: والمقصود الذم على إمساك المال عن سبيل الطاعة كقوله تعالى:
{مناع للخير} (ص: 5)
وقوله تعالى: {جمع فأوعى} (المعراج: 18)
{يحسب} أي: يظنّ لجهله {أنّ ماله أخلده} أي: أوصله إلى رتبة الخلد في الدنيا فيصير خالداً فيها لا يموت، أو يعمل من تشييد البنيان الموثق بالصخر والآجر وغرس الأشجار وعمارة الأرض عمل من يظنّ أنّ ماله أبقاه حياً، أو هو تعريض بالعمل الصالح، أو أنه هو الذي أخلد صاحبه في النعيم، فأمّا المال فما أخلد أحداً فيه. وروي أنه كان للأخنس أربعة آلاف دينار، وقيل: عشرة آلاف دينار. وعن الحسن: أنه عاد موسراً فقال: ما تقول في ألوف لم أفتد بها من لئيم ولا تفضلت بها على كريم؟ قال: لماذا؟ قال: لنبوة الزمان، وجفوة السلطان ونوائب الدهر، ومخافة الفقر. قال: إذاً تدعه لمن لا يحمدك، وترد على من لا يعذرك. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين، والباقون بكسرها.
وقوله تعالى: {كلا} ردع له عن حسبانه، وقيل: معناه حقاً. وقوله تعالى: {لينبذنّ} جواب قسم محذوف، أي: ليطرحن بعد موته {في الحطمة} أي: الطبقة من جهنم التي شأنها أن تحطم، أي: تكسر بشدّة وعنف كل ما طرح فيها يكون أخسر الخاسرين ويقال للرجل الأكول: إنه لحطمة.
{وما أدراك} أي: وأيّ شيء أعلمك، ولو بمحاولة منك للعلم واجتهاد في التعرف مع كونك أعلم الحكماء {ما الحطمة} أي: الدركة النارية التي سميت هذا الاسم بهذه الخاصة، وإنه ليس في الوجود الذي شاهدتموه ما يقاربها ليكون مثالاً لها، ثم فسرها بقوله تعالى:
(14/66)
---(1/5285)
{نار الله} أي: الملك الأعظم الذي له الملك كله {الموقدة} أي: التي وجد وتحتم إيقاده، ومن الذي يطيق محاولة ما أوقد فهي لا يزال لها هذا الاسم ثابتاً.
روى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أوقد على النار ألف سنة حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودّت فهي سوداء مظلمة».
{التي تطلع} أي: إطلاعاً شديداً {على الأفئدة} جمع فؤاد وهو القلب الذي يكاد يحترق من شدّة ذكائه فكان ينبغي أن يجعل ذكاءه في أسباب الخلاص، وإطلاعها عليه بأن تعلو وسطه وتشتمل عليه اشتمالاً بليغاً سُمِّيَ بذلك لشدّة توقدّه وخُصَّ لأنه ألطف ما في البدن وأشدّ تألماً بأدنى شيء من الأذى، ولأنه منشأ العقائد الفاسدة، ومعدن حبّ المال الذي هو منشأ حبّ الفساد والضلال، وعنه تصدر الأفعال القبيحة. وقيل: معنى {تطلع على الأفئدة} أي: تعمل ما يستحقه كل واحد منهم من العذاب يقال: اطلع على كذا، أي: علمه.
ثم أشار إلى خلودهم فيهابقوله تعالى مؤكداً لأنهم يكذبون بها:
{إنها عليهم مؤصدة} قال الحسن: مطبقة، أي: بغاية الضيق. وقال مجاهد: مغلقة بلغة قريش، يقال: أصدت الباب، أي: أغلقته ومنه قول عبد الله بن قيس:
*إنّ في القصر لو دخلنا غزالاً ** مفتناً مؤصداً عليه الحجاب*
ثم بين حال عذابهم بقوله تعالى:
(14/67)
---(1/5286)
{في} أي: في حال كونهم موثوقين في {عمد} قرأ حمزة والكسائي وشعبة بضم العين والميم جمع عمود نحو رسول ورسل، وقيل: جمع عماد ككتاب وكتب، والباقون بفتحهما فقيل: هو اسم جمع لعمود، وقيل: بل هو جمع له. قال الفراء: كأديم وأدم. وقال أبو عبيدة: هو جمع عماد. {ممددة} أي: معترضة كأنها موضوعة على الأرض في غاية المكنة فلا يستطيع الموثوق بها على نوع حيلة في أمرها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ الله يبعث عليهم ملائكة بأطباق من نار ومسامير من نار، وعمد من نار، فيطبق عليهم بتلك الأطباق، وتسدّ بتلك المسامير، وتمدّ بتلك العمد فلا يبقى فيها خلل يدخل منه روح ولا يخرج منه غم فيكون كلامهم فيها زفيراً وشهيقاً».g
وقال قتادة: عمد تعذبون بها، واختاره الطبريّ. وقال ابن عباس: إنّ العمد الممدّدة أغلال في أعناقهم. وقال أبو صالح قيود في أرجلهم. وقال القشيري: العمد أوتاد الأطباق. وقيل: المعنى في دهور ممدودة لا انقطاع لها. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه» حديث موضوع.
سورة الفيل مكية
وهي خمس آيات وعشرون كلمة وستة وتسعون حرفاً
{بسم الله} الذي قدّر به في كل شيء عاملة {الرحمن} الذي له النعمة الشاملة {الرحيم} الذي يخص أهل الاصطفاء بالنعمة الكاملة:
(14/68)
---(1/5287)
وقوله تعالى: {ألم تر} استفهام تعجب، أي: أعجب {كيف فعل ربك} أي: المحسن إليك {بأصحاب الفيل} فهو خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وهو وإن لم يشهد تلك الواقعة لكن شاهد آثارها وسمع بالتواتر أخبارها فكأنه رآها، وإنما قال تعالى: كيف لأن المراد ذكر ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله وقدرته وعزة بيته، وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم وكانت قصة الفيل ما روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس، وأراد أن يصرف إليها الحاج، وكتب إلى النجاشي إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها، ولست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب فسمع بذلك رجل من بني مالك بن كنانة، فخرج إليها فدخلها ليلاً فقعد فيها ولطخ بالعذرة قبلتها، فبلغ ذلك أبرهة فقال: من أجترأ علييّ فقيل: صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت سمع الذي قلت، فحلف أبرهة عند ذلك ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، وسأله أن يبعث إليه بفيله، وكان له فيل يقال له محمود، وكان فيلاً لم ير مثله عظماً وجسماً وقوّة فبعث به إليه فخرج أبرهة في الحبشة سائراً إلى مكة، وخرج معه بالفيل واثنى عشر فيلاً غيره، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: كان معه ألف فيل.
(14/69)
---(1/5288)
وقيل: كان وحده، فسمعت العرب بذلك فأعظموه ورأوا جهاده حقاً عليهم فخرج ملك من ملوك اليمن يقال له ذونفر بمن أطاعه من قومه فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ ذانفر، فقال له: أيها الملك استبقني فإن استبقائي خير لك من قتلي فاستبقاه فأوثقه، وكان أبرهة رجلاً حليماً. ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج له نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم، ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن فقاتلوه فهزمهم وأخذ نفيلاً، فقال نفيل: أيها الملك إني دليل بأرض العرب وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة فاستبقاه، وخرج معه يدله حتى إذا مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف، فقال: أيها الملك نحن عبيدك ليس عندنا خلاف لك إنما تريد البيت الذي بمكة نحن نبعث معك من يدلك عليه فبعثوا أبا رغال مولى لهم، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال وهو الذي يرجم قبره، وبعث أبرهة من المغمس رجلاً من الحبشة يقال له: الأسود بن مسعود على مقدمة خيله وأمره بالغارة على نعم الناس فجمع الأسود إليه أموال الحرم، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير.
ثم إنّ أبرهة بعث بحناطة الحميري إلى أهل مكة فقال: سل عن شريفها ثم أبلغه ما أرسلك به إليه أخبره أني لم آت لقتال، إنما جئت لأهدم هذا البيت. فانطلق حتى دخل مكة فلقي عبد المطلب بن هاشم فقال: إنّ الملك أرسلني إليك لأخبرك إنه لم يأت لقتال إنما جئت لأهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال، ولا لنا به يدانا سنخلي بينه وبين ما جاء إليه، فإن هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخلّ بينه وبين ذلك فوالله ما لنا به قوّة.
(14/70)
---(1/5289)
قال: فانطلق معي إلى الملك، قال بعض العلماء: أنه أردفه على بغلة كان عليها وركب معه بنيه حتى قدم العسكر، وكان ذو نفر صديقاً لعبد المطلب فأتاه فقال: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا، فقال: ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة أو عشياً، ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل، فإنه صديق لي فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير ويعظم خطرك ومنزلتك عنده، فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال له: إنّ هذا سيد قريش صاحب عين مكة يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب الملك له مائتي بعير، فإن استطعت أن تنفعه عنده فانفعه فإنه صديق لي أحبّ ما وصل إليه من الخير.
فدخل أنيس على أبرهة فقال: أيها الملك هذا سيد قريش صاحب عين مكة يطعم الناس في السهل والوحوش على رؤوس الجبال يستأذن عليك، وأنا أحبّ أن تأذن له فيكلمك وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف عليك فأذن له، وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً وسيماً فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه وكره أن يجلس معه على السرير، وأن يجلس تحته فهبط إلى البساط فجلس عليه، ثم دعاه فأجلسه معه.
ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك إلى الملك؟ فقال الترجمان ذلك، فقال عبد المطلب: حاجتي إلى الملك أن يردّ إليّ مائتي بعير أصابها لي. فقال أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت فيك، قال لِمَ؟ قال: جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك، وهو شرفكم وعصمتكم لأهدمه لم تكلمني فيه وتكلمني في مائتي بعير أصبتها؟ قال عبد المطلب: أنا رب الإبل وللبيت رب سيمنعه. قال: ما كان ليمنعه مني، قال: فأنت وذاك فأمر بإبله فردت عليه، وقيل: عرض عليه عبد المطلب أموال تهامة ليرجع فأبى فلما ردت الإبل على عبد المطلب خرج فأخبر قريشاً الخبر، وأمرهم أن يتفرّقوا في الشعاب، ويتحرّزوا في رؤوس الجبال تخوّفاً عليهم من معرّة الجيش، وأتى عبد المطلب الكعبة فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول:
(14/71)
---(1/5290)
*يا رب لا أرجو سواكا ** يا ربّ فامنع منهم حماكا*
*إنّ عدوّ البيت من عاداكا ** أمنعهم أن يخربوا قراكا*
وقال أيضاً:
*لا هم إن المرء يمنع ** رحله فامنع حلالك*
*لا يغلبن صليبهم ** ومحالهم عدوا محالك*
*جروا جموع بلادهم
** والفيل كي يسبوا عيالك*
*عمدوا حماك بكيدهم ** جهلاً وما رقبوا جلالك*
*إن كنت تاركهم وكع ** بتنا فأمر ما بدا لك*
ثم ترك عبد المطلب الحلقة وتوجه في بعض تلك الوجوه مع قومه فأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول وهيأ جيشه وهيأ فيله، فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم ثم أخذ بأذنه وقال: أبرك محمود وارجع راشداً من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام فبرك الفيل فبعثوه فأبى، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى فوجهوه راجعاً إلى اليمن فقام مهرولاً، فوجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك فضربوه إلى الحرم فبرك وأبى أن يقوم وخرج عبد المطلب يشتدّ حتى صعد الجبل فأرسل الله تعالى عليهم ما قصه في قوله سبحانه:
{ألم يجعل} أي: جعل بما له من الإحسان إلى العرب لا سيما قريش {كيدهم} أي: في هدم الكعبة {في تضليل} أي: خسارة وهلاك.
{وأرسل عليهم} أي: خاصة من بين ما هناك من كفار العرب {طيراً} أي: طيوراً سوداء، وقيل: خضراء وقيل: بيضاء {أبابيل} أي: جماعات بكثرة متفرّقة يتبع بعضها بعضاً من نواحي شتى فوجاً فوجاً وزمرة زمرة أما كل فرقة منها طائر يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق. وقيل: أبابيل كالإبل المؤبلة. قال الفراء: لا واحد لها من لفظها، وقيل: واحدها إبالة. وقال الكسائي: كنت أسمع النحويين يقولون: واحدها أبول كعجول وعجاجيل. وقال ابن عباس: كانت طيراً لها خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب. وقال عكرمة لها رؤوس كرؤوس السباع. وقال سعيد بن جبير: خضر لها مناقير صفر وقال قتادة: طير سود.
(14/72)
---(1/5291)
{ترميهم} أي: الطير {بحجارة} أي: عظيمة في الكثرة والفعل، صغيرة في المقدار والحجم مع كل طائر حجر في منقاره، وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة. وعن ابن عباس أنه رأى منها عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بالحمرة كالجزع الظفاري، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه ففرّوا فهلكوا في كل طريق ومنهل وأمّا أبرهة فتساقطت أنامله كلها كلما سقطت أنملة اتبعها مدّة وقيح ودم، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير، وما مات حتى انصدع صدره من قلبه، وانفلت وزيره أبويكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة فلما أتمها وقع عليه الحجر فخرّ ميتاً بين يديه لأن تلك الحجارة كانت {من سجيل} أي: طين متحجر مصنوع للعذاب في موضع هو في غاية العلو
ولما تسبب عن هذا الرمي هلاكهم، وكان ذلك بفعل الله تعالى لأنه الذي خلق الأثر قطعاً، لأنّ مثله لا ينشأ عنه ما نشأ من الهلاك قال الله تعالى:
{فجعلهم} أي: ربك المحسن إليك بإحسانه على قومك لأجلك بذلك {كعصف مأكول} أي: كورق زرع أكلته فراثته فيبس وتفرّقت أجزاءه شبه قطع أوصالهم بتفرّق أجزاء الروث. قال مجاهد: العصف ورق الحنطة. وقال قتادة: هو التبن. وقال عكرمة كالحبّ إذا أكل وصار أجوف، لأنّ الحجر كان يأتي في الرأس فيحرق بما له الحرارة وشدّة الوقع كلما مرّ به حتى يخرج من الدبر، ويصير موضع تجويفه أسود لما له من من النارية. وقال ابن عباس: هو القشر الخارج الذي يكون على حب الحنطة كهيئة الغلاف له، وروي أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في جوفه فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة وعن عكرمة: من أصابه جدره وهو أوّل جدري ظهر. وعن أبي سعيد الخدري أنه سئل عن الطير فقال: حمام مكة منها، وقيل: جاءت عشية ثم صبحتهم.
واختلف في تاريخ عام الفيل، فقيل: كان قبل مولد النبيّ صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة وقيل: بثلاث وعشرين سنة.
(14/73)
---(1/5292)
والأكثرون على أنه كان في العام الذي ولد فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم وعن عائشة قالت: رأيت سائس الفيل وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس، وقال عبد الملك بن مروان: لعتاب بن أسيد: أنت أكبر أم النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: النبيّ صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أسنّ منه، ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس، بل قيل: لم يكن بمكة أحد إلا رأى قائد الفيل وسائسه أعميين يتكففان الناس لأنّ عائشة مع صغر سنها رأتهما. وقال ابن إسحاق لما ردّ الله تعالى الحبشة عن مكة المشرّفة عظمت العرب قريشاً، وقالوا: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوّهم، فكان ذلك نعمة من الله عليهم.
وقال بعض العلماء: كانت قصة الفيل مما نعدّه من معجزاته صلى الله عليه وسلم وإن كانت قبله، لأنها كانت توكيداً لأمره وتمهيداً لشأنه. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشريّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الفيل أعفاه الله أيام حياته من الخسف والمسخ» حديث موضوع.
سورة قريش مكية
في قول الجمهور ومدنية في قول الضحاك والكلبيوهي أربع آيات وسبع عشرة كلمة وثلاثة وسبعون حرفاً
{بسم الله} الذي له جميع الكمال {الرحمن} ذي النعم والأفضال {الرحيم} الذي خص أولياءه بالقرب والإجلال.
(14/74)
---
وقوله تعالى: {لإيلاف قريش} في متعلقه أوجه أحدها: أنه ما في السورة قبلها من قوله تعالى: {فجعلهم كعصف مأكول}. قال الزمخشري: وهذا بمنزلة التضمين في الشعر، وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقاً لا يصح إلا به، وهما في مصحف أبيّ سورة واحدة بلا فصل، وعن عمر أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب، وقرأ في الأولى والتين اه. وإلى هذا ذهب الأخفش. وقال الرازي: المشهور أنهما سورتان ولا يلزم من التعلق الاتحاد لأنّ القرآن كسورة واحدة.(1/5293)
ثانيها: أنه مضمر تقديره فعلنا ذلك، وهو إيقاعهم للإيلاف وهو الفهم لبلدهم الذي ينشأ عنه طمأنينتهم وهيبة الناس لهم وقيل: تقديره اعجبوا لئلاف قريش رحلة الشتاء والصيف وتركهم عبادة رب هذا البيت.
(14/75)
---
ثالثها: أنه متعلق بقوله تعالى: {فليعبدوا} أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين لأنهما أظهر نعمة عليهم، وهذا هو الذي صدر به الزمخشري كلامه، وفي هذا إشارة إلى تمام قدرته سبحانه، وأنه إذا أراد شيئاً يسر سببه لأنّ التدبير كله له يخفض من يشاء، وإن عز، ويرفع من يشاء وإن ذل، وقريش هم ولد النضر بن كنانة ومن ولده النضر فهو قرشيّ، ومن لم يلده النضر فليس بقرشيّ. قال صلى الله عليه وسلم «إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» وأخرج الحاكم وصححه البيهقي عن أم هانئ بنت أبي طالب أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «فضل الله قريشاً بسبع خلال أني منهم، وأنّ النبوّة فيهم، وأنّ الله نصرهم على الفيل، وأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبده غيرهم وأنّ الحجابة والسقاية فيهم، وأنّ الله أنزل فيهم سورة من القرآن» وسموا قريشاً من القرش وهو التكسب والجمع، يقال: فلان يقرش لعياله ويقترش، أي: يكتسب، وهم كانوا تجاراً حرّاصاً على جمع المال، وقا أبو ريحانة: سأل معاوية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: لم سميت قريش قريشاً؟ قال: لدابة تكون في البحر من أعظم دوابه تعبث بالسفن، ولا تطاق إلا بالنار يقال لها: القرش، ولا تمرّ بشيء من الغث والسمين إلا أكلته، وهي تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى،. قال: وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها، قال: نعم فأنشده شعر الجمحي:
*وقريش هي التي تسكن البح ** ر بها سميت قريش قريشاً*
*تأكل الغث والسمين فلا تت ** رك فيه لذي الجناحين ريشاً*
*هكذا في الكتاب حي قريش ** يأكلون البلاد أكلاً كميشا*(1/5294)
*ولهم آخر الزمان نبيّ ** يكثر القتل منهموا والخموشا*
وقيل: هو من تقرش الرجل إذا تنزه عن مدانس الأمور، أومن تقارشت الرماح في الحرب إذا دخل بعضها في بعض.
(14/76)
---
وقوله تعالى: {إيلافهم} بدل من الإيلاف الأول، وقرأ ابن عامر لإلاف بغير ياء بعد الهمزة، والباقون لإيلاف بياء بعدها، وأجمع الكل على إثبات الياء في الثاني وهو إيلافهم بالياء بعد الهمزة. قال ابن عادل: ومن غريب ما اتفق في هذين الحرفين أن القراء اختلفوا في سقوط الياء، وثبوتها في الأول مع اتفاق المصاحف على إثباتها خطاً، واتفقوا على إثبات الياء في الثاني مع اتفاق المصاحف على سقوطها منها خطاً، وهذا أدل دليل على أنّ القراء متبعون الأثر والرواية لا مجرّد الخط. وقوله تعالى: {رحلة الشتاء} منصوب بإيلافهم مفعول به كما نصب يتيماً بإطعام، وهي التي يرحلونها في زمنه إلى اليمن لأنها بلاد حارة ينالون منهامتاجر الحبوب. {والصيف} التي يرحلونها إلى الشام في زمنه؛ لأنها بلاد باردة ينالون فيها منافع الثمار، وهم آمنون من سائر العرب لأجل عزهم بالحرم المعظم وبيت الله، والناس يتخطفون من حولهم ولا يجترىء أحد عليهم.
والإيلاف من قولك: آلفت المكان أولفه إيلافاً إذا بلغته فأنا مؤلف، والأصل رحلتي الشتاء والصيف ولكنه أفرد ليشمل كل رحلة كما هو شأن المصادر وأسماء الأجناس، وفي ذلك إشارة إلى أنهم يتمكنون من الرحلة إلى أي بلاد أرادوا لشمول الأمن لهم. قال مالك: الشتاء نصف السنة والصيف نصفها.
(14/77)
---(1/5295)
وقال قوم: الزمان أربعة أقسام شتاء وربيع وصيف وخريف، وقيل: شتاء وصيف وقيظ وخريف. قال القرطبي: الذي قاله مالك أصح لأنّ الله تعالى قسم الزمان قسمين، ولم يجعل لهما ثالثاً، وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنهم كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف، وقال آخرون: كانت لهم رحلتان في كل عام للتجارة إحداهما: في الشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ، والأخرى في الصيف إلى الشام، وكان الحرم وادياً جدباً لا زرع فيه ولا ضرع، وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم ولولا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف، وأول من سنّ لهم الرحلة هاشم بن عبد مناف، وكانوا يقسمون ربحهم بين الغني والفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم، وفي ذلك يقول الشاعر:
*قل للذي طلب السماحة والندى ** هلا مررت بآل عبد مناف*
*هلا مررت بهم تريد قراهم ** منعوك من ضر ومن اتلاف*
*الرائشين وليس يوجد رائش ** والقائلين هلم للأضياف*
*والخالطين فقيرهم بغنيهم ** حتى يكون فقيرهم كالكافي*
*والقائلين بكل وعد صادق ** والراحلين برحلة الإيلاف*
*عمرو العلا هشم الثريد لقومه ** ورجال مكة مسنتون عجاف*
*سفرين سنهما له ولقومه ** سفر الشتاء ورحلة الأصياف*
وتبع هاشماً على ذلك إخوته فكان هاشم يؤالف إلى الشام، وعبد شمس إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس، وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بجاه هذه الإخوة، أي: بعهودهم التي أخذوها بالأمان لهم من ملك كل ناحية من هذه النواحي.
(14/78)
---(1/5296)
ولما كان هذا التدبير لهم من الله تعالى كافياً لهمومهم الظاهرة بالغنى والباطنة بالأمن، وكان شكر المنعم واجباً، قال تعالى: {فليعبدوا} أي: قريش على سبيل الوجوب شكراً على هذه النعمة خاصة إن لم يشكروه على جميع نعمه التي لا تحصى، لأنهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان وأبعدهم عن الكفران {رب هذا البيت} أي: الموجد له والمحسن إلى أهله بحفظه من كل طاغ، وبإذلال الجبابرة له ليكمل إحسانه إليهم، وعطفه عليهم بإكمال إعزازه لهم في الدنيا والآخرة، والمراد به الكعبة عبر عنها بالإشارة تعظيماً لشأنها.
ثم وصف نفسه الأقدس بما هو ثمرة الرحلتين ومظهر لزيادة شرف البيت بقوله تعالى:
{الذي أطعمهم} أي: قريشاً بحمل الميرة إلى مكة بالرحلتين إطعاماً مبتدأ {من جوع} أي: عظيم فيه غيرهم من العرب، أو كانوا هم فيه قبل ذلك؛ لأنّ بلدهم ليس بذي زرع فهم عرضة للفقر الذي ينشأ عنه الجوع فكفاهم ذلك وحده، ولم يشركه أحد في كفايتهم فليس من الشكر إشراكهم غيره معه في عبادته، ولا من البر بأبيهم إبراهيم عليه السلام الذي دعا لهم بالرزق بقوله عليه السلام: {وارزقهم من الثمرات} (إبراهيم: 37)
ونهى أشدّ النهي عن عبادة الأصنام ولم يقل أشبعهم لأنه ليس كلهم كان يشبع منهم طالب لأكثر مما هو عنده، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب {وآمنهم} أي: تخصيصاً لهم {من خوف} أي: شديد جدّاً من أصحاب الفيل الذين أرادوا خراب البيت الذي به نظامهم، وما ينال من حولهم من التخطف بالقتل والنهب والغارات، ومن الجذام بدعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام، ومن الطاعن والدخان بتأمين النبيّ صلى الله عليه وسلم
(14/79)
---(1/5297)
وعن ابن زيد: كانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضهم بعضاً فأمنت قريش ذلك لمكان الحرم. وقيل: شق عليهم السفر في الشتاء والصيف فألقى الله تعالى في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعاماً في السفن، فحملوا فخافت قريش منهم وظنوا أنهم قدموا لحربهم، فخرجوا إليهم متحرزين فإذا هم قد جلبوا إليهم الطعام وأعانوهم بالأقوات، فكان أهل مكة يخرجون إلى جدّة بالإبل والحمر فيشترون الطعام على مسيرة ليلتين. وقيل: إنّ قريشاً لما كذبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال: «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف» فاشتدّ القحط فقالوا: يا محمد، ادع الله لنا فإنا مؤمنون. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخصبت تبالة وجرش من بلاد اليمن فحملوا الطعام إلى مكة وأخصب أهلها». وقال الضحاك والربيع في قوله تعالى: {وآمنهم من خوف}، أي: من خوف الحبشة. وقال عليّ: {وآمنهم من خوف} أن تكون الخلافة إلا فيهم. قال الزمخشريّ: من بدع التفاسير {وآمنهم من خوف} أن تكون الخلافة في غيرهم اه. لكن إن ثبت ذلك عن علي كرم الله وجهه فليس كما قال وقيل: كفاهم أخذ الإيلاف من الملوك. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة لإيلاف قريش أعطاه الله عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها» حديث موضوع.
سورة الدين وتسمى
سورة الماعون مكية
في قول عطاء وجابر وأحد قولي ابن عباس رضي الله عنهما، ومدنية في قول له آخر وهو قول قتادة وغيره، وهي سبع آيات وخمس وعشرون كلمة ومائة وثلاثة وعشرون حرفاً.t
{بسم الله} الذي له كل كمال {الرحمن} الذي عم جميع عباده بالنوال {الرحيم} الذي خص أولياءه بنعمة الإفضال.
(14/80)
---(1/5298)
وقوله تعالى: {أرأيت} استفهام معناه التعجب. وقرأ نافع بتسهيل الهمزة بعد الراء ولورش أيضاً إبدالها ألفاً، وأسقطها الكسائيّ. قال الزمخشريّ: وليس بالاختيار لأن حذفها مختص بالمضارع، ولم يصح عن العرب ريت، ولكن الذي سهل من أمرها وقوع حرف الاستفهام في أول الكلام، ونحوه:
*صاح هل ريت أو سمعت براع ** رد في الضرع ما قرى في الحلاب*
وخففها الباقون، والمعنى: أرأيت {الذي يكذب} أي: يوقع التكذيب لمن يخبره كائناً من كان {بالدين} أي: بالجزاء والحساب، أي: هل عرفته أم لم تعرفه.
{فذلك} بتقدير هو بعد الفاء، أي: البغيض البعيد المبعد من كل خير {الذي يدُّع} أي: يدفع دفعاً عظيماً بغاية القسوة {اليتيم} ولا يحث على إكرامه لأنّ الله تعالى نزع الرحمة من قلبه، ولا ينزعها إلا من شقي لأنه لا حامل على الإحسان إليه إلا الخوف من الله تعالى، فكان التكذيب بجزائه مسبباً للغلظة عليه. وقال قتادة: يقهره ويظلمه فإنهم كانوا لا يورّثون النساء ولا الصغار، ويقولون: إنما يحوز المال من يطعن بالسنان ويضرب بالحسام. وقال صلى الله عليه وسلم «من ضم يتيماً من المسلمين حتى يستغني فقد وجبت له الجنة».
واختلف فيمن نزل ذلك فيه، فقال مقاتل: في العاص بن وائل السهمي. وقال السديّ: في الوليد بن المغيرة. وقال الضحاك: في عمرو بن عابد المخزومي. وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: في رجل من المنافقين. وقيل: في أبي جهل.{{
(14/81)
---
{ولا يحض} أي: يحث نفسه ولا غيره {على طعام المسكين} أي: بذله له وإطعامه إياه، بل يمقته ولا يكرمه ولا يرحمه، وقد تضمن هذا أنّ علامة التكذيب بالبعث إيذاء الضعيف، والتهاون بالمعروف
ولما كان هذا مع الخلائق أتبعه حاله مع الخالق بقوله تعالى:(1/5299)
{فويل} أي: عذاب، أو واد في جهنم {للمصلين الذين هم} أي: بضمائرهم وخالص سرائرهم {عن صلاتهم} التي هي جديرة بأن تضاف إليهم لوجوبها عليهم وإيجابها لأجل مصالحهم ومنافعهم بالتزكية وغيرها {ساهون} أي: عريقون في الغفلة عنها وتضييعها، وعدم المبالاة بها، وقلة الالتفات إليها. وروى البغويّ بسنده أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال: «هو إضاعة الوقت». وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «هم المنافقون يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس ويصلونها في العلانية مع الناس إذا حضروا» لقوله تعالى:
(14/82)
---
{الذين هم} أي: بجملة سرائرهم {يراؤون} أي: بصلاتهم وغيرها الناس، لأنهم يفعلون الخير ليراهم الناس لا لرجاء الثواب، ولا لخوف العقاب من الله تعالى، ولذلك يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس. وقال إبراهيم: هو الذي يلتفت في صلاته. وقال قطرب: هو الذي لا يقرأ ولا يذكر الله تعالى. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لو قال في صلاتهم ساهون لكانت في المؤمنين. وقال عطاء: الحمد لله الذي قال تعالى: {عن صلاتهم ساهون} ولم يقل في صلاتهم ساهون فدل على أنّ الآية في المنافقين وقال قتادة: ساه عنها لا يبالي صلى أم لم يصلّ. وقال مجاهد: غافلون عنها متهاونون بها. وقال الحسن: هو الذي إن صلاها صلاها رياء، وإن فاتته لم يندم، وقيل: هم الذي يسهون عنها قلة مبالاة بها حتى تفوتهم، أو يخرج وقتها، أو لا يصلونها كما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف، ولكن ينقرونها نقراً من غير خشوع، ولا اجتناب لما يكره فيها من العبث باللحية والثياب وكثرة التثاؤب والالتفات، لا يدري الواحد منهم عن كم انصرف، ولا ما قرأ من السورة، وكما ترى صلاة أكثر من ترى من الذين عادتهم الرياء بأعمالهم، ومنع حقوق أموالهم والمعنى: أنّ هؤلاء أحق أن يكون سهوهم عن الصلاة التي هي عماد الدين.(1/5300)
والفارق بين الإيمان والكفر والرياء الذي هو شعبة من الشرك ومنع الزكاة التي هي شقيقة الصلاة وقنطرة الإسلام علماً على أنهم مكذبون بالدين، وكم ترى من المتسمين بالإسلام بل بالعلم من هو منهم على هذه الصفة فيا مصيبتاه.
(14/83)
---
فإن قيل: كيف جعل المصلين قائماً مقام ضمير الذي يكذب، وهو واحد؟ أجيب: بأن معناه الجمع لأنّ المراد به الجنس. فإن قيل: أي: فرق بين قوله تعالى: {عن صلاتهم} وقولك في صلاتهم؟ أجيب: بأن معنى عن أنهم ساهون عنها سهو ترك وقلة التفات إليها وذلك فعل المنافقين أو الفسقة الشياطين من المسلمين، ومعنى في أن السهو يعتريهم فيها بوسوسة شيطان أو حديث نفس، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع له السهو في صلاته فضلاً عن غيره، ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم. وعن أنس الحمد لله على أن لم يقل في صلاتهم، وقد مرّت الإشارة إلى بعض ذلك. فإن قيل: ما معنى المراآة؟ أجيب: بأنها مفاعلة من الإراءة، لأن المرائي يري الناس عمله وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به، ولا يكون الرجل مرائياً بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها لقوله صلى الله عليه وسلم «ولا غمة في فرائض الله» لأنها أعلام الإسلام وشعائر الدين، ولأنّ تاركها يستحق الذم والمقت فوجب إناطة الهمة بالإظهار، وإن كان تطوّعاً فحقه أن يخفي لأنه مما لا يلام بتركه ولا تهمة فيه، فإن أظهره قاصداً للاقتدار به كان جميلاً.
وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين فتثني عليه بالصلاح. وعن بعضهم: أنه رأى رجلاً في المسجد قد سجد سجدة الشكر فأطال، فقال: ما أحسن هذا لو كان في بيتك، وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة على أنّ اجتناب الرياء صعب إلا على المرتاضين بالإخلاص. ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم «الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة المظلمة على المسح الأسود».(1/5301)
ثم بين أن من هو بهذه الصفة يغلب عليه الشح بقوله تعالى:
(14/84)
---
{ويمنعون} أي: على تجدد الأوقات {الماعون} أي: حقوق الأموال والشيء اليسير من المنافع، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: الماعون الفأس والدلو والقدر وأشباه ذلك وهي رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال مجاهد: الماعون أعلاها الزكاة المفروضة، وأدناها عارية المتاع. وعن عليّ أنها الزكاة. وقال محمد بن كعب الكلبيّ: الماعون المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم.
وقال قطرب: أصل الماعون من القلة، تقول العرب: ما له سعنة ولا معنة، أي: شيء قليل فسمى الزكاة والصدقة والمعروف ماعوناً لأنه قليل من كثير وقيل: الماعون ما لا يحل منعه مثل الماء والملح والنار. وقول البيضاويّ تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة أرأيت غفر له إن كان للزكاة مؤدّياً» حديث موضوع.
سورة الكوثر وتسمى سورة النحر مكية
في قول ابن عباس رضي الله عنهما والكلبي ومقاتل، ومدنية في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة، وهي ثلاث آيات وعشر كلمات واثنان وأربعون حرفاً
{بسم الله} الذي لا حد لفائض فضله {الرحمن} الذي شمل الخلائق بجوده فلا رادّ لأمره {الرحيم} الذي خص حزبه بالاعتصام بحبله
(14/85)
---(1/5302)
وقوله تعالى: {إنا} أي: بما لنا من العظمة {أعطيناك} أي: خوّلناك مع التمكين العظيم يا أشرف الخلق {الكوثر} أي: نهراً في الجنة هو حوضه صلى الله عليه وسلم ترد عليه أمّته،لما روي عن أنس أنه قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ غفا إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسماً فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزل عليّ آنفاً سورة فقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر} إلى آخرها، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم؟ قال: فإنه نهر وعدنيه ربي خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول رب إنه من أمّتي، فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك». وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج». وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «دخلت الجنة فإذا أنا بنهر يجري بياضه بياض اللبن، وأحلى من العسل، وحافتاه خيام الدر، فضربت بيدي فإذا الثرى مسك أذفر،. فقلت لجبريل: ما هذا؟ قال: الكوثر أعطاكه الله تعالى». وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء من شرب منها لا يظمأ أبداً».
(14/86)
---(1/5303)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن إلىّ رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: إي: رب أصحابي، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك». وعن ثوبان أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عرضه فقال: «من مقامي إلى عمان» وسئل عن شرابه فقال: «أشدّ بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل فيه ميزابان يمدانه من الجنة أحدهما من ذهب والآخر من ورق». و عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يرد عليّ يوم القيامة رهطان من أصحابي»، أو قال: «من أمتي فيجلون عن الحوض فأقول: أي: رب أصحابي، فيقول إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك كإنهم ارتدّوا على ادبارهم القهقرى».
ولمسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ترد عليّ أمّتي الحوض وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله، قالوا: يا نبيّ الله تعرفنا قال: نعم لكم سيما ليست لأحد غيركم تردون عليّ غرّاً محجلين من آثار الوضوء، وليصدنّ عني طائفة منكم فلا يصلون، فأقول: يا رب هؤلاء أصحابي فيجيبني فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك». وأحاديث الحوض كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية لأولي الألباب فنسأل الله تعالى أن يروينا منه نحن وأحبابنا، ويدخلنا وإياهم الجنة بغير حساب.
قال القاضي عياض: أحاديث الحوض صحيحة، والإيمان به فرض، والتصديق به من الإيمان. وقال ابن عادل: وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة لا يتأوّل ولا يختلف فيه، وحديثه متواتر النقل رواه خلائق من الصحابة اه. وقيل: الكوثر القرآن العظيم، وقيل:: هو النبوّة والكتاب والحكمة وقيل: هو كثرة أتباعه.
(14/87)
---(1/5304)
وقيل: الكوثر الخير الكثير الذي أعطاه الله تعالى إياه. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: الكوثر الخير الكثير. قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير: إن ناساً يزعمون أن الكوثر نهر في الجنة؟ فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله تعالى إياه.
وأصل الكوثر فوعل من الكثرة والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد أو كثير القدر والخطر كوثراً قيل: لأعرابية رجع ابنها من السفر: آب ابنك،قالت: آب بكوثر، وقال الشاعر:
*وأنت كثير يا ابن مروان طيب ** وكان أبوك ابن العقائل كوثرا*
وقيل: الكوثر الفضائل الكثيرة التي فضلها على جميع الخلائق.
تنبيه: لا منافاة بين هذه الأقوال كلها فقد أعطيها النبيّ صلى الله عليه وسلم وأعطي صلى الله عليه وسلم النبوّة والحكمة والعلم والشفاعة والحوض المورود، والمقام المحمود، وكثرة الاتباع، وإظهاره على الأديان كلها، والنصر على الأعداء، وكثرة الفتوح في زمنه إلى يوم القيامة، وأولى الأقاويل في الكوثر وهو الذي عليه جمهور العلماء أنه نهر في الجنة.
ولما كمل له سبحانه من النعم ما لا يأتي عليه حصر مما لا يناسب أدناه نعيم الدنيا بجملتها سبب عنه قوله تعالى آمراً بما هو جامع لمجامع الشكر:
{فصلِّ} أي: بقطع العلائق عن الخلائق بالوقوف بين يدي الله تعالى في حضرة المراقبة شكراً لإحسان المنعم، خلافاً للساهي عنها والمرائي فيها. {لربك} أي: المحسن إليك بأنواع النعم مراغماً من شئت فلا سبيل لأحد عليك {وأنحر} أي: أنفق له الكوثر من المال على المحاويج خلافاً لمن يدعهم ويمنعهم الماعون، والنحر أفضل نفقات العرب لأنّ الجزور الواحد يغني مائة مسكين، وإذا أطلق العرب المال انصرف إلى الإبل.
(14/88)
---(1/5305)
وقال محمد بن كعب: إن ناساً كانوا يصلون لغير الله تعالى، وينحرون لغير الله فأمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يصلي وينحر لله عز وجل. وقال عكرمة وعطاء وقتادة: {فصل لربك} صلاة العيد يوم النحر، وانحر نسكك، واقتصر على هذا الجلال المحلي وقال سعيد بن جبير ومجاهد: فصل الصلاة المفروضة بجمع، أي: مزدلفة، وانحر البدن بمنى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: وضع اليمين على الشمال في الصلاة عند النحر. وعن علي: أنّ معناه أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره. وقال الكلبيّ: استقبل القبلة بنحرك. وعن عطاء أمره أن يستوي بين السجدتين جالساً حتى يبدو نحره.
(14/89)
---(1/5306)
{إنّ شانئك} أي: مبغضك والشانىء المبغض، يقال: شنأه يشنؤه، أي: أبغضه {هو الأبتر} أي: المنقطع عن كل خير، وأما أنت فقد أعطيت ما لا غاية لكثرته من خير الدارين الذي لم يعطه أحد غيرك فمعطي ذلك كله هو الله رب العالمين فاجتمعت لك العطيتان السنيتان إصابة أشرف عطاء وأوفره من أكرم معط وأعظم منعم، أو المنقطع العقب لا أنت لأنّ كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أعقابك وأولادك وذكرك مرفوع على المنابر والمنائر وعلى لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر يبدأ بذكر الله تعالى ويثني بذكرك ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف فمثلك لا يقال له أبتر إنما الأبتر هو شانئك المسيء في الدنيا والآخرة وقال الرازي: هذه السورة كالمقابلة للتي قبلها فإنه ذكر في الأولى البخل وترك الصلاة والرياء ومنع الماعون وذكر ههنا في مقابلة البخل {إنا أعطيناك الكوثر} وفي مقابلة الصلاة {فصلّ} أي: دم على الصلاة وفي مقابلة الرياء {لربك} أي: لرضاه خالصاً، وفي مقابلة منع الماعون {وانحر} أي: تصدّق بلحم الأضاحي ثم ختم السورة بقوله تعالى: {إنّ شانئك هو الأبتر} أي: أنّ المشاقق الذي اتى بتلك الأفعال القبيحة سيموت ولا يبقى له أثر وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل وفي الآخرة الثواب الجزيل.
واختلف المفسرون في الشانىء فقيل: هو العاص بن وائل وكانت العرب تسمي من كان له بنون وبنات ثم مات البنون وبقي البنات أبتر فقيل: إنّ العاص وقف مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يكلمه فقال له جمع من صناديد قريش: مع من كنت واقفاً مع ذلك الأبتر، وكان قد توفيّ قبل ذلك عبد الله ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية.
(14/90)
---(1/5307)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل الجاهلية إذا مات ابن الرجل قالوا أبتر فلان فلما توفي عبد الله ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل على أصحابه فقال: بتر محمد فنزلت. وقال السديّ: إنّ قريشاً كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده بتر فلان فلما مات لرسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم بمكة وإبراهيم بالمدينة قالوا بتر محمد فليس له من يقوم بأمره من بعده فنزلت.
وقيل: لما أوحى الله تعالى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا قريش إلى الإيمان قالوا: أبتر منا محمد، أي: خالفنا وانقطع عنا فنزلت.
تنبيه: قال أهل العلم قد احتوت هذه السورة على قصرها على معان بليغة وأساليب بديعة منها دلالة استهلال السورة على أنه تعالى أعطاه كثيراً من كثير ومنها إسناد الفعل إلى المتكلم المعظم نفسه، ومنها إيراده بصيغة الماضي تحقيقاً لوقوعه كما في قوله تعالى: {أتى أمر الله} (النحل: 1)
ومنها: تأكيد الجملة بأن. ومنها بناء الفعل على الاسم ليفيد الإسناد مرّتين.
ومنها: الإتيان بصيغة تدل على مبالغة الكثرة.
ومنها: حذف الموصوف بالكوثر لأنّ في حذفه من فرط الشياع والإبهام ما ليس في إثباته، ومنها تعريفه بأل الجنسية الدالة على الاستغراق.
(14/91)
---(1/5308)
ومنها: فاء التعقيب الدالة على السبب فإنّ الإنعام سبب للشكر والعبادة، ومنها التعريض بمن كانت صلاته ونحره لغير الله تعالى، ومنها أنّ الأمر بالصلاة إشارة إلى الأعمال الدينية التي الصلاة قوامها وأفضلها والأمر بالنحر إشارة إلى الأعمال البدينة التي النحر أسناها، ومنها حذف متعلق انحر إذ التقدير فصل لربك وانحر له، ومنها مراعاة السجع فإنه من صناعة البديع العاري عن التكلف، ومنها قوله تعالى: {لربك} في الإتيان بهذه الصفة دون سائر صفاته الحسنى دلالة على أنه المربي له والمصلح بنعمه، فلا يلتمس كل خير إلا منهن ومنها الالتفات من ضمير المتكلم إلى الغائب في قوله تعالى: {لربك} ومنها الأمر بترك الاهتمام بشانئه للاستئناف، وجعله خاتمة للإعراض عن الشانئ، ولم يسمه ليشمل كل من اتصف بهذه الصفة القبيحة، ولو كان المراد شخصاً معيناً لعينه الله تعالى.
ومنها: التنبيه بذكر هذه الصفة القبيحة على أنه لم يتصف إلا بمجرّد قيام الصفة به من غير أن تؤثر فيمن يشنؤه شيئاً البتة، لأنّ من يشنأ شخصاً قد يؤثر شنؤه شيئاً.
ومنها: تأكيد الجملة بأن المؤذنة بتأكيد الخبر، ولذلك يتلقى بها القسم وتقدير القسم يصلح هنا. ومنها الإتيان بضمير الفصل المؤذن بالاختصاص والتأكيد إن جعلنا فصلاً، وإن جعلناه مبتدأ فكذلك يفيد التأكيد؛ إذ يصير الإسناد مرّتين.
ومنها: تعريف الأبتر بأل المؤذنة بالخصوصية بهذه الصفة كأنه قيل: الكامل في هذه الصفة. ومنها إقباله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بالخطاب من أوّل السورة إلى آخرها. وقول البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الكوثر سقاه الله من كل نهر في الجنة،ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قرّبه العباد في يوم النحر، أو يقرّبونه» حديث موضوع.
سورة الكافرون مكية
(14/92)
---(1/5309)
في قول ابن مسعود والحسن وعكرمة، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك، وتسمى أيضاً سورة المعابدة والإخلاص لأنها في إخلاص العبادة والدين كما أن{قل هو الله أحد} في إخلاص التوحيد، واجتماع النفاق فيهما محال لمن اعتقدهما وعمل بهما. ويقال لها ولسورة الإخلاص: المقشقشتان، أي: المبرئتان من النفاق. قال الشاعر:
*أعيذك بالمقشقشتين مما ** أحاذره ومن نظر العيون*
وهي ست آيات وستة وعشرون كلمة وأربعة وسبعون حرفاً.
{بسم الله} الذي لا يستطيع أحد أن يقدره حق قدره {الرحمن} الذي عمّ برحمته من أوجب عليهم شكره {الرحيم} الذي وفق أهل ودّه فالتزموا نهيه وأمره
(14/93)
---
وقوله تعالى: {قل} أي: يا أشرف الخلق {يا أيها الكافرون} إلى آخر السورة نزل في رهط من قريش منهم الحارث بن قيس السهمي، والعاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب بن أسد، وأمية بن خلف. قالوا: يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك ونشركك في امرنا كله، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيراً كنا قد شركناك فيه وأخذنا حظاً منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه، فقال: معاذ الله أن نشرك به غيره، قالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد إلهك، قال: حتى أنظر ما يأتي إليّ من ربي فأنزل الله تعالى هذه السورة، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة فأيسوا منه عند ذلك وأذوه وأصحابه، وفي مناداتهم بهذا الوصف الذي يسترذلونه في بلدهم، ومحل عزهم وحميتهم إيذان بأنه محروس منهم علم من أعلام النبوّة.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى في التحريم: {يا أيها الذين كفروا} (التحريم: 7)
وههنا قال: {قل يا أيها الكافرون؟}.
(14/94)
---(1/5310)
أجيب: بأنّ في سورة التحريم إنما يقال لهم يوم القيامة، وثم لا يكون رسولاً إليهم فأزال الواسطة فيكونون في ذلك الوقت مطيعين لا كافرين فلذلك ذكره تعالى بلفظ الماضي، وأمّا هنا فكانوا موصوفين بالكفر، وكان الرسول رسولاً إليهم فقال تعالى: {قل يا أيها الكافرون}، أي: الذي قد حكم بثباتهم على الكفر فلا انفكاك لهم عنه فستروا ما تدلّ عليه عقولهم من الاعتقاد الحق لو جردّوها من أدناس الحظ وهم كفرة مخصوصون، وهم من حكم بموته على الكفر بما طابقه من الواقع، ودل عليه التعبير بالوصف دون الفعل، واستغرق اللام كل من كان على هذا الوصف في كل مكان وكل زمان، والتعبير بالجمع الذي هو أصل في القلة، وقد يستعار للكثرة إشارة إلى البشارة بقلة المطبوع على قلبه من العرب المخاطبين بهذا في حياته صلى الله عليه وسلم
وقال الله تعالى له: {قل يا أيها الكافرون} لأنه صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالرفق واللين في جميع الأمور كما قال تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران: 159)
وقال تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم} (آل عمران: 159)
وقال تعالى: {بالمؤمنين رؤوف رحيم} (آل عمران: 159)
ثم كان مأموراً بأن يدعوهم إلى الله تعالى بالوجه الأحسن، فلذا خاطبهم بيا أيها فكانوا يقولون: كيف يليق هذا التغليظ بذلك الرفق، فأجاب بأني مأمور بهذا الكلام لا أني ذكرته من عند نفسي.
ولما كان القصد إعلامهم بالبراءة منهم من كل وجه، وأنه لا يبالي بهم بوجه لأنه محفوظ منهم قال:
{لا أعبد} أي: الآن {ما تعبدون} من دون الله من المعبودات الظاهرة والباطنة بوجه من وجوه العبادات في سرّ ولا علن؛ لأنه لا يصلح للعبادة بوجه.
{ولا أنتم عابدون} أي: الآن {ما أعبد} وهو الله تعالى وحده .
{ولا أنا عابد}، أي: في الاستقبال ما عبدتم} من دون الله تعالى.
(14/95)
---(1/5311)
{ولا أنتم عابدون} ،أي: في الاستقبال {ما أعبد} وهو الله وحده لا شريك له، وهذا خطاب لمن علم الله تعالى منهم أنهم لا يؤمنون. وإطلاق ما على الله تعالى على جهة المقابلة، وبهذا زال التكرار ووجه التكرار كما قال أكثر أهل المعاني: هو أن القرآن نزل بلسان العرب وعلى مجارى خطابهم ومن مذاهبهم التكرار لإرادة التأكيد والإفهام، كما أنّ من مذاهبهم الاختصار لإرادة التخفيف والإيجاز فالقائل بالتأكيد يقول قوله تعالى: {ولا أنا عابد ما عبدتم} تأكيد لقوله تعالى: {لا أعبد ما تعبدون} (التكاثر: 3 ـ 4)
وقوله تعالى: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} ثانياً تأكيد لقوله تعالى: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} ومثله {فبأي آلاء ربكما تكذبان} (الرحمن: 77)
و{ويل يومئذ للمكذبين} (المرسلات: 15)
في سورتيهما و{كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون} وفي الحديث: «فلا أذن ثم لا أذن إنما فاطمة بضعة مني» وفائدة التأكيد هنا قطع أطماع الكفار وتحقيق الأخبار وهو إقامتهم على الكفر، وأنهم لا يسلمون أبداً وعلى الأوّل قد تقيدت كل جملة بزمان غير الزمان الآخر قال ابن عادل: وفيه نظر كيف يقيد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفي عبادته لما يعبدون بزمان، وهذا مما لا يصح اه. وقد يردّ هذا بأنه صلى الله عليه وسلم نفى في الجملة الأولى الحال، وفي الثانية الاستقبال وقول البيضاوي: فإن لا، لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الاستقبال كما أنّ ما لا تدخل إلا على المضارع بمعنى الحال جرى على الغالب فيهما
ولما أيس منهم صلى الله عليه وسلم قال: {لكم دينكم} أي: الذي أنتم عليه من الشرك {ولي دين} أي: الذي أنا عليه من التوحيد وهو دين الإسلام، وفي هذا معنى التهديد كقوله تعالى: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} (القصص: 55)
(14/96)
---(1/5312)
أي: إن رضيتم بدينكم فقد رضينا بديننا، وهذا كما قال الجلال المحلي: قبل أن يؤمر بالحرب، وقيل: السورة كلها منسوخة وقيل: ما نسخ منها شيء لأنها خبر، ومعنى لكم دينكم، أي: جزاء دينكم ولي دين، أي: جزاء ديني وسمي دينهم ديناً لأنهم اعتقدوه، وقيل: المعنى: لكم جزاؤكم ولي جزائي لأنّ الدين الجزاء، وحذفت ياء الإضافة من دين للتبعية وقفاً ووصلاً. قرأ نافع وهشام وحفص والبزي بخلاف عنه بفتح الياء والباقون بإسكانها.
فائدة: قال الرازي: جرت العادة بأنّ الناس يتمثلون بهذه الآية عند المتاركة وذلك غير جائز، لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به بل ليتدبر فيه فيعمل بموجبه.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشريّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الكافرين فكأنما قرأ ربع القرآن، وتباعدت منه مردة الشياطين، وبرئ من الشرك، ويعافى من الفزع الأكبر» حديث موضوع إلا الجملة الأولى منه فرواها الترمذي.
سورة النصر مدنية
بالإجماع وتسمى سورة التوديع، وهي ثلاث آيات وستة عشر كلمة وتسعة وسبعون حرفاً
{بسم الله} الذي له الأمر كله فهو العليم الحكيم {الرحمن} الذي أرسلك رحمة من الله العليّ العظيم {الرحيم} الذي خص أهل ودّه بفضله العميم.
وقوله تعالى: {إذا} منصوب بسبح {جاء نصر الله}، أي: الملك الأعظم الذي لا مثل له، ولا أمر لأحد معه بإظهاره إياك على أعدائك ومعنى جاء استقرّ وثبت في المستقبل بمجيء وقته المضروب له في الأزل، وزاد في تعظيمه بالإضافة ثم بكونها إلى اسم الذات.{{
(14/97)
---(1/5313)
وقرأ حمزة وابن ذكوان بإمالة الألف بعد الجيم محضة والباقون بالفتح، والإعلام به قبل كونه من أعلام النبوّة، روي أنها نزلت أيام التشريق بمنى في حجة الوداع {والفتح}، أي: فتح مكة وهو الفتح الذي يقال له فتح الفتوح، وقصته مشهورة في البغوي وغيره فلا نطيل بذكرها، وكان فتح مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطواف العرب، وأقام بها خمس عشرة ليلة، ثم خرج إلى هوزان وحين دخلها وقف على باب الكعبة ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثم قال: يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، ثم قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الله تعالى قد أمكنه من رقابهم عنوة وكانوا له فيأ فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء ثم بايعوه على الإسلام في دين الله تعالى في ملة الإسلام التي لا دين له يضاف إليه غيرها {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} (آل عمران: 85)
وقيل: المراد جنس نصر الله تعالى المؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم. فإن قيل: ما الفرق بين النصر والفتح حتى عطف عليه؟ أجيب: بأنّ النصر الإعانة والإظهار على العدوّ، ومنه نصر الله تعالى الأرض أغاثها قال الشاعر:
*إذا انسلخ الشهر الحرام فودّعي ** بلاد تميم وانصري آل عامر*
ويروى:
*إذا دخل الشهر الحرام فجاوزي ** بلاد تميم وانصري أرض عامر*
والفتح فتح البلاد، وقال الرازي: الفرق بين النصر والفتح أنّ الفتح هو الإعانة على تحصيل المطلوب الذي كان متعلقاً به، والنصر كالسبب فلهذا بدأ بذكر النصر وعطف الفتح عليه.
فإن قيل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دائماً منصوراً بالدلائل والمعجزات فما المعنى: بتخصيص لفظ النصر بفتح مكة؟.
(14/98)
---(1/5314)
أجيب: بأنّ المراد من هذا النصر هو النصر الموافق للطبع. فإن قيل: النصر لا يكون إلا من الله تعالى، قال الله تعالى: {وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} (آل عمران: 126)
فما فائدة التقييد بنصر الله؟ أجيب: بأنّ معناه نصر لا يليق إلا بالله تعالى، كما يقال هذا صنعة زيد إذا كان مشهوراً بإحكام الصنعة والمقصود منه تعظيم حال تلك الصنعة فكذا ههنا. فإن قيل: الذين أعانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة هم أصحابه من المهاجرين والأنصار، ثم إنه تعالى سمى نصرتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم نصر الله فما السبب في ذلك؟ أجيب: بأنّ النصر وإن كان على يد الصحابة لكن لا بدّ له من داع وباعث وهو من الله تعالى، فإن قيل: فعلى هذا الجواب يكون فعل العبد مقدّماً على فعل الله تعالى، وهذا بخلاف النصر لأنه تعالى قال: {إن تنصروا الله ينصركم} (محمد: 7)
فجعل نصره مقدّماً على نصره لنا؟ أجيب: بأنه لا امتناع في أن يكون فعل العبد سبباً لفعل آخر يصدر عن الله تعالى، فإنّ أسباب الحوادث ومسبباتها على ترتيب عجيب تعجز عن إدراكه العقول البشرية.
ولما عبر عن المعنى: بالمجيء عبر عن المرئي بالرؤية فقال تعالى:
{ورأيت}، أي: ببصرك ((الناس))، أي: العرب الذي كانوا حقيرين عند جميع الأمم فصاروا بك هم الناس كما دلت عليه لام الكمال، وصار سائر أهل الأرض لهم أتباعاً بالنسبة إليهم رعاعاً حال كونهم {يدخلون} شيئاً فشيئاً متجدّداً دخولهم مستمرّاً {في دين الله}، أي: شرع من لم تزل كلمته هي العليا {أفواجاً}، أي: جماعات كثيفة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون واحداً واحداً واثنين اثنين.
(14/99)
---(1/5315)
وعن جابر بن عبد الله أنه بكى ذات يوم، فقيل له في ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دخل الناس في دين الله أفواجاً وسيخرجون منه أفواجاً». وقال عكرمة ومقاتل: أراد بالناس أهل اليمن وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين بعضهم يؤذنون، وبعضهم يقرؤون القرآن، وبعضهم يهللون فسر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك. قال أبو هريرة لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الله أكبر جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم الإيمان يمان، والفقه يمان والحكمة يمانية» وقال: «أجد نفس ربكم من قبل اليمن» وفي هذا تأويلات:
أحدها: أنه الفرج لتتابع إسلامهم أفواجاً.
الثاني: أنّ الله تعالى نفس الكرب عن نبيه صلى الله عليه وسلم بأهل اليمن وهم الأنصار. وعن الحسن لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أقبلت العرب بعضها على بعض، فقالوا: أمّا إذ ظفر بأهل الحرم فليس به يدان، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل ومن كل من أرادهم فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجاً من غير قتال أمّة بعد أمّة. قال الضحاك: والأمة أربعون رجلاً.
تنبيه: دين الله تعالى هو الإسلام لقوله تعالى: {إنّ الدين عند الله الإسلام} (آل عمران: 19)
وقال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} (آل عمران: 85)
وإضافة الدين إلى الاسم الدال على الإلهية إشارة على أنه يجب أن يعبد لكونه إلهاً وللدّين أسماء أخر منها الصراط قال تعالى: {صراط الله} (الشورى: 53)
ومنها النور {يريدون ليطفئوا نور الله} (التوبة: 32)
ومنها الهدى قال تعالى: {هدى الله يهدي به من يشاء} (الأنعام: 88)
ومنها العروة الوثقى قال تعالى: {ومن يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} (البقرة: 256)
ومنها الحبل المتين قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله} (آل عمران: 103)
ومنها صبغة الله، ومنها فطرة الله.
(14/100)
---(1/5316)
تنبيه: جمهور الفقهاء وأكثر المتكلمين على أنّ إيمان المقلد صحيح، واحتجوا بهذه الآية قالوا: إنّ الله تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج وجعله من أعظم المنن على نبيه صلى الله عليه وسلم فلو لم يكن إيمانهم صحيحاً لما ذكره في هذا المعرض، ثم إنا نعلم قطعاً أنهم كانوا يعرفون حدوث الأجسام بالدليل ولإثبات كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ولإثبات الصفات والتنزيهات بالدليل والعلم بأنّ أولئك الأعراب ما كانوا عالمين بهذه الدقائق ضروري فعلمنا أنّ إيمان المقلد صحيح.
فإن قيل: إنهم كانوا عالمين بأصول دلائل هذه المسائل لأنّ أصول هذه الدلائل ظاهرة، بل كانوا جاهلين بالتفاصيل؟.
أجيب: بأنّ الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان، فإنّ الدليل إذا كان مثلاً من عشر مقدمات فمن علم تسعة منها وكان في المقدّمة العاشرة مقلداً كان في النتيجة مقلداً لا محالة.
ولما كمل الدين أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يشتغل بنفسه فقال عز من قائل:
(14/101)
---(1/5317)
{فسبح}، أي: نزه بقولك وفعلك بالصلاة وغيرها تسبيحاً ملتبساً {بحمد ربك}، أي: الذي أنجز لك الوعد بإكمال الدين وقمع المعتدين المحسن إليك بجميع ذلك، لأنّ هذا كله لكرامتك وإلا فهو عزيز حميد على كل حال تعجباً لتيسير الله تعالى لهذا الفتح الذي لم يخطر ببال أحد حامداً له عليه، أو فصل له حامداً على نعمه قاله ابن عباس. روي أنه صلى الله عليه وسلم «لما دخل مكة بدأ بالسجود فدخل الكعبة وصلى ثمان ركعات» . {واستغفره}، أي: اطلب غفرانه لتقتدي بك أمّتك في المواظبة على الأمان الثاني، فإنّ الأمان الأول الذي هو وجودك بين أظهرهم قد دنا رجوعه إلى معدنه في الرفيق الأعلى، والمحل الأقدس، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله تعالى حق قدره كما أشار إلى ذلك الاستغفار عقب الصلاة التي هي أعظم العبادات وفي الصحيحين عن عائشة أنها قالت: «ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة إذا جاء نصر الله والفتح إلا يقول: استغفر الله وأتوب إليه، قال: فإني أمرت بها، ثم قرأ {إذا جاء نصر الله والفتح} إلى آخرها». وقال عكرمة: لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم قط أشد اجتهاداً في أمور الآخرة ما كان عند نزولها. وقال مقاتل: لما نزلت قرأها النبيّ صلى الله عليه وسلم على أصحابه، وفيهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص والعباس ففرحوا واستبشروا، وبكى العباس فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «ما يبكيك يا عمّ؟ قال: نعيت إليك نفسك،. قال: إنه كما قلت، فعاش بعدها ستون يوماً ما رؤى ضاحكاً مستبشراً» وقيل: نزلت في منى بعد أيام التشريق في حجة الوداع فبكى عمر والعباس، فقيل لهما: هذا يوم فرح، فقالا: لا بل فيه نعي النبيّ صلى الله عليه وسلم وعن ابن عمر نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ثم نزل {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} (المائدة: 3)
(14/102)
---(1/5318)
فعاش صلى الله عليه وسلم بعدها ثمانين يوماً، ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوماً، ثم نزلت {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} (التوبة: 128)
فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً، ثم نزل: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} (البقرة: 281)
فعاش بعدها أحداً وعشرين يوماً. وقال مقاتل: سبعة أيام، وقيل: غير ذلك. وقال الرازي: اتفق الصحابة على أنّ هذه السورة دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لوجوه:
أحدها: أنهم عرفوا ذلك لما خطب صلى الله عليه وسلم عقب السورة وذكر التخيير، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته لما نزلت هذه السورة: «إنّ عبداً خيره الله بين الدنيا وبين لقائه فاختار لقاء الله فقال أبو بكر رضي الله عنه: فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا».
ثانيها: أنه لما ذكر حصول النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجاً دل ذلك على حصول الكمال والتمام، وذلك يستعقبه الزوال كما قيل::
*إذا تمّ أمر بدا نقصه ** توقع زوالاً إذا قيل تم*
(14/103)
---(1/5319)
ثالثها: أنه تعالى أمره بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقاً، واشتغاله بذلك يمنعه من الاشتغال بأمر الأمة فكان هذا كالتنبيه على أنّ أمر التبليغ قد تم وكمل، وذلك يقتضي انقضاء الأجل إذ لو بقي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لكان كالمعزول من الرسالة وذلك غير جائز وعن ابن عباس: أن عمر كان يدنيه ويأذن له مع أهل بدر، فقال عبد الرحمن: أتأذن لهذا الفتى معنا وفي أبنائنا من هو مثله؟ فقال: إنه من قد علمتم. قال ابن عباس: فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم فسألهم عن قول الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح} ولا أراه سألهم إلا من أجلي، فقال بعضهم: أمر الله تعالى نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه فقلت ليس كذلك ولكن نعيت إليه نفسه، فقال عمر: ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم، ثم قال: كيف تلوموني عليه بعد ما ترون. وروي أنه صلى الله عليه وسلم «دعا فاطمة رضي الله عنها فقال: يابنتاه إني نعيت إلى نفسي فبكت، فقال: لا تبكي فإنك أوّل أهلي لحوقاً بي» وعن عائشة «كان صلى الله عليه وسلم يكثر قبل موته أن يقول: «سبحانك اللهمّ وبحمدك اشتغفرك وأتوب إليك» وعنها أيضاً «ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت {إذا جاء نصر الله والفتح} إلا يقول فيها: سبحانك اللهمّ وبحمدك اللهمّ اغفر لي». وقالت أم سلمة رضي الله عنها:«كان النبيّ صلى الله عليه وسلم آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلا قال: «سبحان الله وبحمده استغفر الله وأتوب إليه. قال: فإني أمرتُ بها ثم قرأ {إذا جاء نصر الله والفتح} إلا آخرها». وقيل: استغفره هضماً لنفسك واستصغاراً لعملك واستدراكاً لما فرط منك بالالتفات على غيره وعنه عليه الصلاة والسلام: «إني استغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة» وقيل: استغفر لأمّتك وتقديم التسبيح ثم الحمد على الاستغفار على طريق النزول من الخالق إلى الخلق، كما قيل: ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله.
(14/104)
---(1/5320)
ولما أمره الله تعالى بالتسبيح والاستغفار أرشده إلى التوبة بقوله تعالى: {إنه}، أي: المحسن إليك بالنصر والفتح وغير ذلك مما لا يدخل تحت الحصر {كان}، أي: ولم يزل {تواباً}، أي: رجاعاً بمن ذهب به الشيطان من أهل رحمته، فهو الذي رجع بأنصارك عما كانوا عليه من الاجتماع على الكفر والاختلاف والعداوات، فأيدك الله تعالى بدخولهم في الدين شيئاً فشيئاً إلى أن دخلت مكة بعشرة آلاف، وهو أيضاً يرجع بك إلى الحالة التي يزداد بهاظهور رفعتك في الرفيق الأعلى. قال الله تعالى: {وللآخرة خير لك من الأولى} (الضحى: 4)
فتفوز بتلك السعادات العالية. وعن ابن مسعود: أنّ هذه السورة تسمى سورة التوديع. قال قتادة ومقاتل: عاش النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين وهذا بناء على أنها نزلت قبل فتح مكة، وهو قول الأكثر فإنّ الفتح كان في سنة ثمان، وأمّا من قال: عاش دون ذلك كما مر فبناء على أنها نزلت في حجة الوداع كما مرّ أيضاً.
تنبيه: في الآية سؤالات أحدها أنّ قوله تعالى: {كان تواباً} يدل على الماضي وحاجتنا إلى قبوله في المستقبل. ثانيها: هلا قال غفاراً كما قال في سورة نوح عليه السلام. ثالثها: أنه قال تعالى: {نصر الله} وقال تعالى: {في دين الله} وقال تعالى {بحمد ربك} ولم يقل بحمد الله؟ أجيب: عن الأوّل بوجوه:
أحدها: أنّ هذا أبلغ كأنه يقول إني تبت على من هو أقبح فعلاً منكم كاليهود، فإنهم بعد ظهور المعجزات العظيمة كفلق البحر ونتق الجبل ونزول المنّ والسلوى عصوا ربهم وأتوا بالقبائح،ولما تابوا قبلت توبتهم فإذا كنت قابلاً لتوبة أولئك وهم دونكم أفلا أقبل توبتكم وأنتم خير أمّة أخرجت للناس.
ثانيها: إني شرعت في توبة العصاة، والشروع ملزم على قول النعمان فكيف في كرم الرحمن.
ثالثها: كنت تواباً قبل أمركم بالاستغفار، أفلا أقبل وقد أمرتكم.
(14/105)
---(1/5321)
رابعها: كأنه أشار إلى تخفيف جنايتهم، أي: لستم أوّل من جنى وتاب، والمعصية إذا عمت خفت.
خامسها: كأنه نظير ما يقال لقد أحسن الله إليك فيما مضى، كذلك يحسن إليك فيما بقي. وأجيب: عن الثاني بوجهين:أحدهما لعله خص هذه الأمة بزيادة الشرف لأنه لا يقال في صفات العبد: غفار، ويقال: تواب إذا كان آتياً بالتوبة فيقول تعالى: كنت لي سمياً من أوّل الأمر أنت مؤمن وأنا مؤمن، وإن كان المعنى: مختلفاً فتب حتى تصير سمياً في آخر الأمر، وأنت تواب وأنا تواب ثم التوّاب في حق الله تعالى إنه يقبل التوبة كثيراً. فيجب على العبد أن يكون إتيانه بالتوبة كثيراً. وثانيهما: أنه تعالى إنما قال تواباً لأنّ القائل قد يقول استغفر الله وليس بتائب كقوله عليه الصلاة والسلام: «المستغفر بلسانه المصر بقلبه كالمستهزئ بربه».
فإن قيل: قد يقول أتوب وليس بتائب؟ أجيب: بأن ذا يكون كاذباً لأنّ التوبة اسم للرجوع والندم، بخلاف الاستغفار فإنه لا يكون كاذباً فيه فصار تقدير الكلام: واستغفره بالتوبة، وفيه تنبيه على أنّ خواتيم الأعمال يجب أن تكون بالتوبة والاستغفار فكذا خواتيم الأعمار. وأجيب عن الثالث: بأنه تعالى راعى العدل فذكر اسم الذات مرّتين، وذكر اسم الفعل مرّتين أحدهما الرب، والثاني التوّاب. ولما كانت التربية تحصل أولاّ والتوبة آخراً، لا جرم ذكر اسم الرب أولاً واسم التوبة آخراً فنسأل الله تعالى من فضله وكرمة أن يمنّ علينا بتوبة نصوح لا ننكث بعدها أبداً، فإنه كريم رحيم.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة {إذا نصر الله} «أعطي من الأجر كمن شهد مع محمد يوم فتح مكة» حديث موضوع.
سورة تبت مكية
وهي خمس آيات وثلاث وعشرون كلمة وسبعة وسبعون حرفاً
{بسم الله} المتكبر الجبار المضل الهاد {الرحمن} الذي عمّ خلقه بنعمه بعد الإكرام بالإيجاد {الرحيم} الذي خص بتوفيقه أهل الوداد
(14/106)
---(1/5322)
وقوله تعالى: {تبت يدا أبي لهب} دعاء عليه، وسبب نزول ذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال: لما نزل قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (الشعراء: 214)
صعد صلى الله عليه وسلم الصفا جعل ينادي: «يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا عنده، فجعل الرجل إذا لم يستطع أرسل رسولاً لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدّقون؟ قالوا: بلى/.r
قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك لهذا دعوتنا جميعاً فنزلت».
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل ونادى: «يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش وذكر نحوه».
وفي رواية فصعد الصفا فهتف: «يا صباحاه فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ فقالوا: محمد فاجتمعوا إليه فقال صلى الله عليه وسلم أرأيتم لو أخبرتكم أنّ خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدّقيّ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تباً لك أما جمعتنا إلا لهذا فنزلت».{{
(14/107)
---(1/5323)
وعن أبي زيد أنّ ابا لهب أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا أعطى إن آمنت بك يا محمد فقال صلى الله عليه وسلم «كما يعطى المسلمون فقال ما لي عليهم فضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم وأيّ شيء تبتغي قال: تباً لهذا من دين أن أكون وهؤلاء سواء فنزلت». ومعنى تبت قال ابن عباس: خابت. وقال قتادة: خسرت. وقال عطاء: صلت. وقال ابن جبير: هلكت والتباب الهلاك، ومنه قولهم: أشابة أم تابة، أي: هالكة من الهرم والتعجيز، والمعنى: هلكت يداه لأنه فيما يروى أخذ حجراً ليرمي به النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل: رماه به فأدمى عقبه فلهذا ذكرت اليد وإن كان المراد جملة البدن فهو كقولهم: خسرت يده، وكسبت يده فأضيفت الأفعال إلى اليد، وذلك على عادة العرب في التعبير ببعض الشيء عن كله وجميعه، أو عبر باليدين لأنّ الغالب أنّ الأعمال تزاول بهما. وقال يمان بن رباب: صفرت من كل خير حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان سمع الناس هاتفاً يقول:
*لقد خلوك وانصرفوا ** فما آبوا ولا رجعوا*
*ولم يوافوا نذورهم ** فتباً للذي صنعوا*
(14/108)
---(1/5324)
وقيل: المراد باليدين دينه ودنياه، أو أولاه وعقباه، أو المراد بأحدهما جرّ المنفعة وبالأخرى دفع المضرّة، أو لأنّ اليمين سلاح واليسرى جنة. وأبو لهب هو ابن عبد المطلب عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم واسمه عبد العزى. فإن قيل:: لماذا كني بذلك ولم يكن له ولد اسمه لهب، وأيضاً فالتكنية من باب التعظيم؟ أجيب: عن الأوّل بأنّ الكنية قد تكون اسماً كما سمي أبو سفيان وأبو طالب ونحو ذلك، فإنّ هؤلاء أسماؤهم كناهم، أو لتلهب وجنتيه وكان مشرق الوجه أحمره؟ وأجيب عن الثاني بوجوه: أحدها: أنه لما كان اسماً خرج عن إفادة التعظيم، ثانيها: أن اسمه، كان عبد العزى كما مرّ فعدل عنه إلى كنيته لقبح اسمه لأنّ الله تعالى لم يضف العبودية في كتابه إلى صنم. ثالثها: أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب، وافقت حاله كنيته فكان جديراً بأن يذكر بها، كقولهم: أبو الخير وأبو الشر لصدورهما منه، أو لأنّ الكنية كانت أغلب من الاسم، أو لأنها أنقص منه، ولذلك ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم دون كناهم.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لما كناه والكنية تكرمة، ثم ذكر ثلاثة أجوبة إمّا لشهرته بكنيته، وإمّا لقبح اسمه كما تقدّم، وإمّا لأنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب وافقت حالته كنيته اه. وهذا يقتضي أنّ الكنية أشرف من اللقب لا أنقص وهو عكس قول تقدّم. وقرأ ابن كثير بإسكان الهاء، والباقون بفتحها وهما لغتان بمعنى نحو: النهر والنهر
وقوله تعالى: {وتب} خبر كما يقال: أهلكه الله وقد هلك، فالأول: أخرج مخرج الدعاء عليه، والثاني: أخرج مخرج الخبر فحقق به ما أريد من الإسناد إلى اليدين من الكناية عن الهلاك الذي لا بقاء بعده، وقيل: المراد ماله وملكه كما يقال فلان قليل ذات اليد يعنون به المال، وبالثاني نفسه.
(14/109)
---(1/5325)
ولما دعا صلى الله عليه وسلم أقربيه إلى الله تعالى وخوّفهم، قال أبو لهب: إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فإني أفتدي نفسي بمالي وولدي فأنزل الله تعالى:
{ما أغنى عنه} أي: عن أبي لهب {ماله}، أي: الكثير الذي جرت العادة أنه منج من الهلاك، فإنه كان صاحب مواش كثيرة. {وما كسب}، أي: من الولد والأصحاب والعز بعشيرته التي كان يؤذي بها النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان ابنه عتبة شديد الأذى للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «اللهمّ سلط عليه كلباً من كلابك فكان أبو لهب يعرف أن هذه الدعوة، لا بدّ أن تدركه فسافر إلى الشأم فأوصى به الرفاق لينجوه من هذه الدعوة فكانوا يحدقون به إذا نام ليكون وسطهم والحمول محيطة به وهم محيطون بها، والركاب محيطة بهم، فلم ينفعهم بل جاء الأسد فتشمم الناس حتى وصل إليه فاقتلع رأسه» وإنما كان الولد من الكسب لقوله صلى الله عليه وسلم «أطيب ما يأكل أحدكم من كسبه، وإنّ ولده من كسبه».
تنبيه: ما في {ما أغنى} يجوز فيها النفي والاستفهام فعلى الاستفهام، تكون منصوبة المحل بما بعدها التقدير: أي شيء أغنى المال وقدم لكونه له صدر الكلام، ويجوز في ما في قوله تعالى: {وما كسب} أن تكون بمعنى الذي فالعائد محذوف، وأن تكون مصدرية، أي: وكسبه وأغنى بمعنى يغني. ثم أوعده سبحانه بالنار فقال تعالى:
{سيصلى} أي: عن قريب بوعد لا خلف فيه {ناراً} يندس فيها وتنعطف عليه وتحيط به {ذات لهب}، أي: لا تسكن ولا تخمد أيداً لأنّ ذلك مدلول الصحبة المعبر عنها بذات وذلك بعد موته.
ولما أخبر تعالى عنه بكمال التباب الذي هو نهاية الخسار زاده تحقيراً بذكر من يصونها بأزرى صورة وأشنعها بقوله تعالى:
(14/110)
---(1/5326)
{وامرأته} وهو عطف على ضمير يصلى سوغه الفصل بالمفعول وصفته، وهي أمّ جميل وهي أخت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، مثل زوجها في التباب والصليّ من غير أن يغني عنها شيء من مال ولا حسب ولا نسب، وعدل عن ذكرها لأنّ صفتها القباحة وهي ضدّ كنيتها. قال البقاعي: ومن هنا يؤخذ كراهة التلقيب بناصر الدين ونحوها لمن ليس متصفاً بما دل عليه لقبه. وقوله تعالى: {حمالة الحطب} فيه وجهان:
أحدهما: هو حقيقة. قال قتادة: وكانت تعير النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفقر، ثم كانت مع كثرة مالها تحمل الحطب على ظهرها لشدّة بخلها فعيرت بالبخل، وقال ابن زيد: كانت تحمل العضاه والشوك تلقيه في الليل في طريق النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يطؤه كما يطأ الحرير، وقال برّة الهمداني: كانت أمّ جميل تأتي في كل يوم بإبالة من الحسك فتطرحها في طريق المسلمين فبينما هي ذات ليلة حاملة حزمة عييت فقعدت على حجر تستريح فجذبها الملك من خلفها فأهلكها.
الوجه الثاني: أنّ ذلك مجاز عن المشي بالتسمية ورمي الفتن بين الناس، ويقال للمشاء بين الناس بالنمائم المفسد بين الناس يحمل الحطب منهم، أي: يوقد بينهم ويثير الشر قال الشاعر:
*من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ** ولم تمش بين الناس بالحطب الرطب*
جعله رطباً ليدلّ على التدخين الذي هو زيادة في الشرّ. وقال سعيد بن جبير: حمالة الخطايا والذنوب من قولهم: فلان يحتطب على ظهره قال تعالى: {يحملون أوزارهم على ظهورهم} (الأنعام: 31)
وقرأ عاصم بنصب التاء من حمالة على الشتم، قال الزمخشري: وأنا أستحب هذه القراءة، وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب شتم أمّ جميل اه. والباقون برفعها على أنها صفة امرأته فإنها مرفوعة باتفاق إما بالعطف على الضمير في سيصلى كما مرّ، ويكون قوله تعالى:
(14/111)
---(1/5327)
{في جيدها حبل} حالاً من امرأته، أو على الابتداء ففي جيدها حبل هو الخبر وحبل فاعل به، ويجوز أن يكون في جيدها خبراً مقدّماً وحبل مبتدأ مؤخراً، والجملة حالية أو خبر ثان. والجيد العنق ويجمع على أجياد.
وقوله تعالى: {من مسد} صفة لحبل والمسد ليف المقل، وقيل: الليف مطلقاً، وقال أبو عبيد: هو حبل يكون من صوف، وقال الحسن: هي حبال من شجر ينبت باليمن يسمى المسدد، وكانت تفتله. وقال الضحاك وغيره: هذا في الدنيا وكانت تعير النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من ليف فخنقها الله عز وجل به فأهلكها، وهو في الآخرة حبل من نار. فإن قيل: إن كان ذلك حبلها فكيف يبقى في النار؟ أجيب: بأنّ الله تعالى قادر على تجدده كلما احترق كما يبقي اللحم والعظم أبداً في النار. وعن ابن عباس قال: هو سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً تدخل فيها وتخرج من أسفلها، ويلوي سائرها على عنقها.
وقال قتادة: هو قلادة من ودع. وقال الحسن: إنما كان خرزاً في عنقها. وقال سعيد بن المسيب: كانت لها قلادة فاخرة من جوهر فقالت: واللات والعزى لانفقنها في عداوة محمد، ويكون ذلك عذاباً في جيدها يوم القيامة. وقيل: إنّ ذلك إشارة إلى الخذلان يعني أنها مربوطة عن الإيمان لما سبق لها من الشقاء كالمربوط في جيده بحبل من مسد والمسد الفتل، يقال: مسد حبله يمسده مسداً، أي: أجاد فتله والجمع أمساد. وروي أنها لما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر، وفي يدها فهر من حجارة تريد أن ترميه به فلما وقفت عليه أخذ الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر أين صاحبك قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، والله إني لشاعرة:
* ** مذمما عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا
(14/112)
---(1/5328)
ثم انصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله أما ترى ما رأتك قال صلى الله عليه وسلم «ما رأتني لقد أخذ الله تعالى بصرها» عني وكانت قريش إنما تسمي محمداً صلى الله عليه وسلم مذمما ثم يسبونه، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «ألاتعجبوا لما صرف الله تعالى عني من أذى قريش يهجون مذمماً وأنا محمداً». انظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل هذا الأذى ويحلم عليهم فينبغي لغيره أن يكون له به أسوة قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب: 21)
تنبيه: احتج أهل السنة على تكليف ما لا يطاق بأنه تعالى كلف أبا لهب بالإيمان بتصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه أنه لا يؤمن من أهل النار، فإنه قد صار مكلفاً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال وذلك مذكور في أصول الفقه. وقد تضمنت هذه الآيات الأخبار عن الغيب بثلاثة أوجه:
أحدها: الإخبار عنه بالتباب والخسران وقد كان ذلك.
ثانيها: الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده وقد كان ذلك.
ثالثها: الإخبار عنه بأنه من أهل النار وقد كان ذلك، لأنه مات على الكفر هو وامرأته ففي ذلك معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم وامرأته خنقها الله تعالى بحبلها كما مرّ، وأبو لهب رماه الله تعالى بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال فمات، وأقام ثلاثة أيام لا يدفن حتى أنتن ثم إنّ ولده غسله بالماء قذفاً من بعيد مخافة عدوى العدسة وكانت قريش تتقيها كما تتقي الطاعون، ثم احتملوه إلى أعلى مكة وأسندوه إلى جدار ثم رضموا عليه الحجارة. وقيل: إنّ الله تعالى يدخل امرأته جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الحطب، ولا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من أصل شجرة الزقوم، أو من الضريع وفي جيدها حبل من مسد من سلاسل النار، كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه.
(14/113)
---(1/5329)
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة تبت رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة». حديث موضوع.
سورة الإخلاص مكية
في قول ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك والسدّي، وهي أربع آيات وخمس عشرة كلمة وسبعة وأربعون حرفاً.
{بسم الله} الذي له جميع الكمال ذي الجلال والجمال {الرحمن} الذي أفاض على جميع خلقه عموم الأفضال {الرحيم} الذي خص أهل وداده من نور الإنعام بالإتمام والأكمال.
واختلف في سبب نزول سورة {قل هو الله أحد} فروى أبو العالية عن أبيّ بن كعب: أنّ المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنسب لنا ربك فنزلت. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال عامر: إلى من تدعنا يا محمد؟ فقال: إلى الله تعالى، قال: صفه لنا، أمن ذهب هو أم من فضة أم من حديد أم من خشب فنزلت، واهلك الله تعالى أربد بالصاعقة وعامر من الطفيل بالطاعون. وقال الضحاك وقتادة ومقاتل: جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك، فإنّ الله تعالى أنزل صفته في التوراة فأخبرنا من أي: شيء هو، وهل يأكل ويشرب، ومن ورث ومن يرثه فنزلت.{{
(14/114)
---(1/5330)
تنبيه: هو ضمير الشأن وهو مبتدأ وخبره الله، وأحد بدل أو خبر ثان يدل على مجامع صفات الجلال كما دل الله تعالى على جميع صفات الكمال؛ إذ الواحد الحقيقي ما يكون منزه الذات عن التركيب والتعدّد وما يستلزم أحدهما كالجسيمة والتحيز والمشاركة في الحقيقة، وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الذاتية والحكمة التامّة المقضية للألوهية. فائدة: جاء في الواحد عن العرب لغات كثيرة، يقال: واحد وأحد ووحد ووحيد ووحاد وأحاد وموحد وأوحد، وهذا كله راجع إلى معنى الواحد، وإن كان في ذلك معان لطيفة ولم يجيء في صفات الله تعالى إلا الواحد والأحد.
وقوله تعالى: {الله}، أي: الذي ثبتت إلهيته وأحديته لا غيره مبتدأ خبره {الصمد} وأخلى هذه الجملة عن العاطف لأنها كالنتيجة للأولى، أو الدليل عليها. والصمد: السيد المصمود إليه في الحوائج، والمعنى: هو الله الذي تعرفونه وتقرّون بأنه خالق السموات والأرض وخالقكم، وهو واحد متوحد بالإلوهية ولا يشارك فيها وهو الذي يصمد إليه كل مخلوق لا يستغنون عنه، وهو الغني عنهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الصمد هو الذي لا جوف له، وقال الشعبي: هو الذي لا يأكل ولا يشرب، وقال الربيع: هو الذي لا تعتريه الآفات، وقال مقاتل بن حبان: هو الذي لاعيب فيه، وقال قتادة: هو الباقي بعد فناء خلقه، وقال سعيد بن جبير: هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله، وقال السدّي: هو المقصود إليه في الرغائب المستغاث به عند المصائب. تقول العرب: صمدت فلاناً أصمده صمداً بسكون الميم إذا قصدته.
(14/115)
---(1/5331)
وعن أبيّ بن كعب: هو الذي {لم يلد} لأنّ من يلد سيموت، ومن يرث يورث عنه ففسر الصمد بما بعده. وينبغي أن تجعل هذه التفاسير كلها تفسيراً واحداً فإنه متصف بجميعها فكونه لم يلد لأنه لم يجانس ولم يفتقر إلى من يعينه، أو يخلف عنه لامتناع الحاجة والفناء عليه لدوامه في أبديته، والاقتصار على الماضي لوروده ردّا على من قال الملائكة بنات الله، أو العزيز أو المسيح أو غيره.
ولما بين أنه لا فصل له ظهر أنه لا جنس له فدل عليه بقوله تعالى :
{ولم يولد} لأنه لو تولد عنه غيره تولد هو عن غيره كما هو المعهود والمعقول، فهو قديم لا أوّل له، بل هو الأوّل الذي لم يسبقه عدم لأنّ الولادة تتكوّن ولا تتشخص إلا بواسطة المادّة وعلاقتها وكل ما كان مادّياً أو كان له علاقة بالمادة كان متولداً عن غيره، والله سبحانه وتعالى منزه عن جميع ذلك.
{ولم يكن}، أي: لم يتحقق ولم يوجد بوجه من الوجوه ولا بتقدير من التقادير {له}، أي: خاصة {كفواً}، أي: مثلاً ومساوياً {أحد} على الإطلاق، أي: لا يساويه في قوّة الوجود لأنه لو ساواه في ذلك لكانت مساواته باعتبار الجنس والفصل، فيكون وجوده متولداً عن الازدواج الحاصل من الجنس الذي يكون كالأمّ، والفصل الذي يكون كالأب، وقد ثبت أنه لا يصح بوجه من الوجوه أن يكون في شيء من الولادة، لأنّ وجوب وجوده لذاته فانتفى أن يساويه شيء. وكان الأصل أن يؤخر الظرف؛ لأنه صلة لكن لما كان المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى قدّم تقديماً للأهمّ، ويجوز أن يكون حالاً من الممتكن في كفؤاً، أو خبراً، أو يكون كفؤاً حالاً من أحد وعطف هاتين الجملتين على الجملة التي قبلهما، لأنّ الثلاث شرح الصمدية النافية لأقسام الأمثال فهي كالجملة الواحدة.
(14/116)
---(1/5332)
روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمّا تكذيبه إياي يقول: لن يعيدني كما بدأني، وليس أوّل الخلق بأهون عليّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفؤاً أحد». وقرأ حمزة بسكون الفاء والباقون بضمها، وقرأ حفص كفواً بالواو وقفاً ووصلاً، وإذا وقف حمزة وقف بالواو.
وروي في فضائل هذه السورة أحاديث كثيرة منها ما روى البخاري عن أبي سعيد الخدري «أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ {قل هو الله أحد} يردّدها فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكان الرجل يتقللها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن».
فإن قيل: لم كانت تعدل ثلث القرآن؟
أجيب: بأن القرآن أنزل أثلاثاً ثلث أحكام، وثلث وعد ووعيد، وثلث أسماء وصفات فجمعت هذه السورة أحد الأثلاث، وهو الأسماء والصفات. وقيل: إنها تعدل القرآن كله مع قصر متنها وتقارب طرفيها، وما ذاك إلا لاحتوائها على صفات الله تعالى وعدله وتوحيده، وكفى بذلك دليلاً لمن اعترف بفضلها.
ومنها ما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية فكان يقرأ في صلاتهم فيختم ب{قل هو الله أحد} فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه لأيّ شيء يصنع ذلك؟ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال صلى الله عليه وسلم أخبروه أن الله تعالى يحبه».
ومنها ما رواه الترمذي عن أنس بن مالك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقرأ {قل هو الله أحد} فقال صلى الله عليه وسلم وجبت قلت: ما وجبت؟ قال: الجنة».
(14/117)
---(1/5333)
ومنها ما روى أنس أيضاً «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ {قل هو الله أحد} خمسين مرة «غفرت ذنوبه». ومنها ما روى سعيد بن المسيب «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ {قل هو الله أحد} عشر مرّات بنى الله له قصراً في الجنة، ومن قرأها عشرين مرّة بنى الله له قصرين في الجنة، ومن قرأها ثلاثين مرّة بنى الله له ثلاث قصور في الجنة، فقال عمر: إذن تكثر قصورنا فقال صلى الله عليه وسلم أوسع من ذلك».
ومنها ما رواه الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه «أنه صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ {قل هو الله أحد} بعد صلاة الصبح اثنتى عشرة مرّة فكأنما قرأ القرآن أربع مرّات، وكان أفضل أهل الأرض يومئذ إذا اتقى». وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ {قل هو الله أحد} «في مرضه الذي يموت فيه لم يفتن في قبره، وأمن من ضغطة القبر، وحملته الملائكة بأكفها حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة». وقد أفردت أحاديثها بالتأليف وفي هذا القدر كفاية لأولي الألباب.
(14/118)
---(1/5334)
ولها أسماء كثيرة، وزيادة الأسماء تدل على شرف المسمى. أحدها: أنها سورة التفريد، ثانيها: سورة التجريد، ثالثها: سورة التوحيد، رابعها: سورة الإخلاص، خامسها: سورة النجاة، سادسها: سورة الولاية، سابعها: سورة النسبة، لقولهم: أنسب لنا ربك، ثامنها: سورة المعرفة، تاسعها: سورة الجمال، عاشرها: سورة المقشقشة، حادي عشرها: سورة المعوذة، ثاني عشرها: سورة الصمد، ثالث عشرها: سورة الأساس، قال: أسست السموات السبع والأرضين السبع على {قل هو الله أحد}، رابع عشرها: المانعة لأنها تمنع فتنة القبر ونفحات النار، خامس عشرها: سورة المحتضر لأنّ الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت، سادس عشرها: المنفرة لأن الشياطين تنفر عند قراءتها، سابع عشرها: سورة البراءة لأنها براءة من الشرك، ثامن عشرها: المذكرة لأنها تذكر العبد خالص التوحيد، تاسع عشرها: سورة النور لأنها تنوّر القلب المكمل للعشرين سورة الإنسان قال صلى الله عليه وسلم «إذا قال العبد: الله، قال الله: دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي». فنسأل الله تعالى أن يجيرنا من عذابه، ويدخلنا الجنة نحن وجميع الأحباب بغير حساب؛ لأنه كريم حليم وهاب.
وما رواه البيضاوي من أنها تعدل ثلث القرآن فرواه البخاري، ومن أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقرؤها الخ فرواه الترمذي والنسائي وغيرهما.
سورة الفلق مكية
في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ومدنية في قول ابن عباس وقتادة، وهي خمس آيات وثلاث وعشرون كلمة وأربعة وسبعون حرفاً.
{بسم الله} الذي له جميع الحول {الرحمن} الذي استجمع كمال الطول {الرحيم} الذي أتم على أهل ودّه جميع النول."
(14/119)
---(1/5335)
واختلف في سبب نزول سورة {قل أعوذ برب الفلق} فقال ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم: كان غلام من اليهود يخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم فدنت إليه اليهود فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم وعدّة أسنان من مشطه وأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم رجل من اليهود فنزلت هذه و{قل أعوذ برب الناس} فيه.
وعن عائشة رضي الله عنها «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم طب، أي: سحر حتى كأنه يخيل إليه أنه صنع شيئاً وما صنعه، وأنه دعى ربه ثم قال: أشعرت أنّ الله أفتاني فيما استفتيته فيه، فقالت عائشة رضي الله عنها: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال الآخر: مطبوب، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: فيماذا، قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في ذروان، وذروان بئر بني زريق، قالت عائشة رضي الله عنها: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى عائشة فقال: والله لكأنّ ماءها نقاعة الحناء ولكأنّ نخلها رؤوس الشياطين، قالت: فقلت: يا رسول الله هل أخرجته؟ قال: أما أنا فقد شفاني الله وكرهت أن أثير على الناس منه شراً».
وعن زيد بن أرقم قال: «سحر النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فاشتكى ذلك أياماً فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن رجلاً من اليهود سحرك وعقد لك عقداً في بئر كذا وكذا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فاستخرجها فجاء بها، فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال، قال: فما ذكر ذلك اليهودي ولا أرى وجهه قط». وروي «أنه كان تحت صخرة في البئر، فرفعوا الصخرة وأخرجوا جف الطلعة فإذا فيها مشاطة من رأسه صلى الله عليه وسلم وأسنان مشطه».
(14/120)
---(1/5336)
وعن مقاتل والكلبي: كان ذلك في وتر عقد عليه إحدى عشرة عقدة، وقيل: كانت مغروزة بالإبرة فأنزل الله هاتين السورتين، وهما إحدى عشر آية سورة الفلق خمس آيات وسورة الناس ست آيات كلما قرأ آية انحلت عقدة، حتى انحلت العقد كلها فقام صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال. وروي: أنه لبث فيه ستة أشهر اشتدّ عليه بثلاث ليال فنزلت المعوّذتان، وروي: أنه كان يخيل له أنه يطأ زوجاته، وليس بواطىء قال سفيان: وهذا أشدّ ما يكون من السحر.
وعن أبي سعيد الخدري: «أنّ جبريل عليه السلام أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، اشتكيت، قال: نعم، قال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن شرّ كل نفس أو عين حاسد، والله يشفيك بسم الله أرقيك».
فإن قيل: المستعاذ منه هل هو بقضاء الله وقدره، أو لا فإن كان بقضاء الله وقدره فكيف أمر بالاستعاذة مع أن ما قدر لا بدّ واقع؟ وإن لم يكن بقضاء الله وقدره فذلك قدح في القدرة؟ أجيب: بأنّ كل ما وقع في الوجود فهو بقضاء الله وقدره، والاستشفاء بالتعوّذ والرقي من قضاء الله يدل على صحة ذلك ما روى الترمذي عن أبي خزامة عن أبيه قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقي بها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها هل يردّ من قضاء الله شيئاً؟ قال: هو من قدر الله». قال الترمذي: هذا حديث حسن. وعن عمر: نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، ومعنى أعوذ: أستجير وأعتصم وأحترز، والفلق: الصبح في قول الأكثرين، ومنه قوله تعالى: {فالق الإصباح} (الأنعام: 96)
(14/121)
---(1/5337)
لأنه ظا هر في تغير الحال، ومحاكاة يوم القيامة الذي هو أعظم فلق يشق ظلمة الفناء، والهلاك بالبعث والأحياء. وقال الملوي: الفلق بالسكون والحركة كل شيء انفلق عنه ظلمة العدم، وأوجد من الكائنات جميعاً. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سجن في جهنم. وقال الكلبي: واد في جهنم. وقال الضحاك: يعني الخلق، وقيل: المطمئن من الأرض وجمعه: فلقان مثل خلق وخلقان، وقيل: الفلق الجبال والصخور وتنفلق بالمياه، أي: تنشق وقيل: هو التفليق بين الجبال لأنها تنشق من خوف الله تعالى. ولفظ الرب هنا أوقع من سائر أسمائه تعالى، لأن الإعادة من المشارّ تربية.
ولما كانت الأشياء قسمين: عالم الخلق وعالم الأمر، وكان عالم الأمر خيراً كله فكان الشر منحصراً في عالم الخلق خصه بالاستعاذة فقال تعالى معمماً فيها:
{من شر ما خلق} فخص عالم الخلق بالاستعاذة منه لانحصار الشر فيه يكون اختيارياً من العاقل الداخل تحت مدلول ما وغيره من سائر الحيوانات كالكفر والظلم ونهش السباع ولدغ ذوات السموم، وتارة طبيعياً كإحراق النار، وإهلاك السموم.
وقيل: المراد به إبليس خاصة لأنه لم يخلق الله خلقاً شراً منه، ولأنّ السحر لا يتم إلا به وبأعوانه وجنوده، وقيل: من شر كل ذي شر.
وقوله تعالى: {ومن شر غاسق إذا وقب} فيه أوجه: أحدها: ما روي عن عائشة قالت: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال: يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا فإنّ هذا هو الغاسق إذا وقب» أخرجه الترمذي، وقال: حديث صحيح حسن فعلى هذا المراد به القمر إذا خسف وأسود وذهب ضوءه، أو إذا دخل في المحاق وهو آخر الشهر، وفي ذلك الوقت يتم السحر المؤثر للتمريض، وهذا مناسب لسبب نزول هذه السورة.
(14/122)
---(1/5338)
ثانيها: ما روي عن ابن عباس: أنّ الغاسق الليل إذا وقب، أي: أقبل بظلمته من المشرق، وسمي الليل غاسقاً لأنه أبرد من النهار. والغسق: البرد، وإنما أمر بالتعوّذ من الليل لأنّ فيه الآفات ويقل: الغوث، ومنه قولهم: الليل أخفى للويل، وقولهم: أعذر الليل لأنه إذا أظلم كثر فيه العدوّ، وفيه يتم السحر، وأسند الشر إليه لملابسته له من حدوثه فيه.
ثالثها: إنه الثريا إذا سقطت وغابت، ويقال: أنّ الأسقام تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها، فلهذا أمر بالتعوّذ من الثريا عند سقوطها.
رابعها: أنه الأسود من الحيات، ووقبه: ضربه ونقبه والوقب الثقب، ومنه: وقبت الثريد.
ولما كان السحر أعظم ما يكون لما فيه من تفريق المرء من زوجه وأبيه وابنه ونحو ذلك عقب ذلك بقوله تعالى:
{ومن شرّ النفاثات في العقد}، أي: النساء، أو النفوس، أو الجماعات السواحر اللواتي تعقد عقداً في خيوط وينفثن عليها ويرقين عليها، والنفث: النفخ مع ريق. وقال أبو عبيدة: النفاثات من بنات لبيد بن أعصم اليهودي سحرن النبيّ صلى الله عليه وسلم فإن قيل: ما معنى الاستعاذة من شرّهن؟ أجيب: بثلاثة أوجه: أحدها: أنه يستعاذ من عملهنّ الذي هو صنعة السحر، ومن إثمهنّ في ذلك. ثانيها: أن يستعاذ من فتنتهنّ الناس بسحرهنّ وما يخدعنهم به من باطلهنّ. ثالثها: أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهنّ. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بهنّ النساء الكيادات من قوله تعالى:
{إنّ كيدكنّ عظيم} (يوسف: 28)
تشبيهاً لكيدهنّ بالسحر والنفث في العقد، أو اللاتي يفتنّ الرجال بتعرضهنّ لهم وعرضهنّ محاسنهنّ كأنهنّ يسحرنهم بذلك.
(14/123)
---(1/5339)
تنبيه: اختلف في النفث في الرقي، فجوّزه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ويدل عليه حديث عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوّذتين». وروى محمد بن حاطب: «أنّ يده احترقت فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فجعل ينفث عليها ويتكلم بكلام زعم أنه لم يحفظه». وروى «أنّ قوماً لدغ رجل منهم فأتوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: هل فيكم من راق؟ قالوا: لا حتى تجعلوا لنا شيئاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فجعل رجل منهم يقرأ فاتحة الكتاب ويرقي ويتفل حتى برئ، فأخذوه، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: وما يدريك أنها رقية خذوا واضربوا لي معكم بسهم». وأنكر جماعة النفث والتفل في الرقي، وأجازوا النفخ بلا ريق. وقال عكرمة: لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد. وقيل: إنّ النفث في العقد إنما يكون مذموماً إذا كان سحراً مضراً بالأرواح والأبدان، وإذا كان النفث لإصلاح الأرواح والأبدان فلا يضر، وليس بمذموم ولا مكروه بل هو مندوب إليه.
ولما كان أعظم حامل على السحر وغيره من أذى الناس الحسد، وهو تمني زوال نعمة المحسود للحاسد، أو غيره قال تعالى:
{ومن شرّ حاسد}، أي: ثابت الاتصاف بالحسد معروف فيه، وأعظم الحساد الشيطان الذي ليس له دأب إلا السعي في إزالة نعم العبادات عن الإنسان بالغفلات، ثم قيد ذلك بقوله تعالى: {إذا حسد}، أي: إذا ظهر حسده وعمل بمقتضاه من بغي الغوائل للمحسود، لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمر فلا ضرر يعود منه على من حسده، بل هو الضار لنفسه لاغتمامه بسرور غيره.
(14/124)
---(1/5340)
وعن عمر بن عبد العزيز: لم أر ظالماً أشبه بالمظلوم من حاسد، وفي إشعار الآية إدعاء بما يحسد عليه من نعم الدارين لأنّ خير الناس من عاش محسوداً ومات محسوداً. فإن قيل: لم عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه؟ أجيب: بأنّ النفاثات عرفت لأنه كل نفاثة شريرة، ونكر غاسق لأنّ كل غاسق لا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض وكذلك كل حاسد لا يضر.
وربّ حسد محمود وهو الحسد في الخيرات، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «لا حسد إلا في اثنتين» الحديث. وقال أبو تمام: وما حاسد في المكرمات بحاسد. وقال آخر: إن العلا حسن في مثلها الحسد.
فائدة: قال بعض الحكماء: الحاسد بارز ربه من خمسة أوجه: أولها: أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره. ثانيها: أنه ساخط لقسمة ربه كأنه يقول: لم قسمت هذه القسمة. ثالثها: إنه ضاد فعل الله تعالى إن فضل ببره من شاء، وهو يبخل بفضل الله تعالى. رابعها: أنه خذل أولياء الله تعالى، أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم. خامسها: أنه أعان عدوّ الله إبليس، والحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة، ولا ينال في الدنيا إلا جزعاً وغماً، ولا ينال في الآخرة إلا حزناً واحتراقاً، ولا ينال من الله تعالى إلا بعداً ومقتاً.
(14/125)
---(1/5341)
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاثة لا يستجاب دعاؤهم آكل الحرام، ومكثر الغيبة، ومن كان في قلبه غلّ أو حسد للمسلمين». وقيل: المراد بالحاسد في الآية اليهود، فإنهم كانوا يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم فإن قيل: قوله تعالى: {من شر ما خلق} تعميم في كل ما يستعاذ منه فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد؟ أجيب: بأنه قد خص شر هؤلاء من كل شر لخفاء أمرهم، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم، كأنما يغتال به، وقالوا: شر العداة المداجي الذي يكيدك من حيث لا تشعر وأخرج الإمام أحمد عن الزبير بن العوّام أنه صلى الله عليه وسلم قال: «دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، ألا والبغضاء هي الحالقة». فنسأل الله تعالى أن يحفظنا ومحبينا منه إنه كريم جواد.
وروى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لقد أنزلت عليّ سورتان ما أنزل مثلهما». وروى ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «وإنك إن تقرأ سورتين لا أحب ولا أرضى عند الله منهما يعني المعوّذتين». وعن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوّذون؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم قال: {قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ بربّ الناس}. وما رواه الزمخشري ولم يقله البيضاوي هنا لكن قال في آخر السورة الآتية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ المعوّذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى» حديث موضوع.
سورة الناس مكية
وهي ست آيات وعشرون كلمة وتسعة وتسعون حرفاً
{بسم الله} المحيط بكل ما بطن كإحاطته بكل ظاهر {الرحمن} الذي عمت نعمته كل باد وحاضر {الرحيم} الذي خص أهل ودّه بإتمام النعمة في جميع أمورهم الأوّل منها والأثناء والآخر.
ولما أمر الله تعالى نبيه بالاستعاذة مما تقدّم أمره أن يستعيذ من شر الوسواس بقوله تعالى:
(14/126)
---(1/5342)
{قل}، أي: يا أشرف المرسلين {أعوذ}، أي: اعتصم والتجئ {برب}، أي: مالك وخالق {الناس} وخصهم بالذكر وإن كان رب جميع المحدثات لأمرين: أحدهما: أنّ الناس يعظمون فأعلم بذكرهم أنه رب لهم وإن عظموا. الثاني: أنه أمر بالاستعاذة من شرهم فاعلم بذكرهم أنه هو الذي يعيذ منهم. قال الملوي: والرب من له ملك الرق، وجلب الخيرات من السماء والأرض وإنقاذها، ودفع الشرور ورفعها، والنقل من النقص إلى الكمال، والتدبير العام العائد بالحفظ والتتميم على المربوب.{{
(14/127)
---
وقوله تعالى: {ملك الناس} إشارة إلى أنّ له كمال التصرف ونفوذ القدرة، وتمام السلطان فإليه الفزع، وهو المستغاث والملجأ والمنجا والمعاد. وقوله تعالى: {إله الناس} إشارة إلى أنه تعالى كما انفرد بربوبيتهم وملكهم لم يشركه في ذلك أحد فكذلك هو وحده إلههم لا يشركه في ألوهيته أحد، وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معاني أسمائه الحسنى، فإنّ الرب هو القادر الخالق إلى غير ذلك مما يتوقف الإصلاح والرحمة والقدرة الذي هو بمعنى الربوبية عليه من أوصاف الجمال. والملك هو الآمر والناهي المعز المذل إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى العظمة والجلال، وأمّا الإله فهو الجامع لجميع صفات الكمال، ونعوت الجلال فيدخل فيه جميع الأسماء الحسنى، ولتضمنها لجميع معاني الأسماء الحسنى كان المستعيذ جديراً بأن يعاذ، وقد يوقع ترتيبها على الوجه الأكمل الدال على الواحدانية لأنّ من رأى ما عليه من النعم الظاهرة والباطنة علم أنّ له مربياً، فإذا درج في العروج في درج معارفه سبحانه علم أنه غني عن الكل والكل إليه محتاج، وعن أمره تعالى تجري أمورهم فيعلم أنه ملكهم، ثم يعلم بانفراده بتدبيرهم بعد إبداعهم أنه المستحق للإلهية بلا مشارك له فيها.
(14/128)
---(1/5343)
فائدة: قد أجمع جميع القراء في هذه السورة على إسقاط الألف من مالك، بخلاف الفاتحة كما مضى لأنّ المالك إذا أضيف إلى اليوم أفهم اختصاصه بجميع ما فيه من جوهر وعرض، وأنه لا أمر لأحد معه، ولا مشاركة في شيء من ذلك، وهو معنى الملك بالضم. وأمّا إضافة المالك إلى الناس فإنها لا تستلزم أن يكون ملكهم، فلو قرئ به هنا لنقص الملك بالضم، وأطبقوا في آل عمران على إثبات الألف في المضاف وحذفها من المضاف إليه، لأنّ المقصود من السياق أنه سبحانه يعطي الملك من يشاء ويمنعه من يشاء. والملك بكسر الميم أليق بهذا المعنى، وأسرار كلام الله تعالى أعظم من أن تحيط بها العقول، وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها.
تنبيه: يجوز في ملك الناس وإله الناس أن يكونا وصفين لرب الناس، وأن يكونا بدلين، وأن يكونا عطف بيان، واقتصر عليه الزمخشري قال: كقولك: سيرة أبي حفص عمر الفاروق بين بملك الناس، ثم زيد بياناً بإله الناس، لأنه قد يقال لغيره: رب الناس كقوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} (التوبة: 31)
وقد يقال: ملك الناس. وأمّا إله الناس فخاص لا شركة فيه فجعل غاية للبيان. فإن قيل: هلا اكتفى بإظهار المضاف إليه الذي هو الناس مرّة واحدة؟ أجيب: بأنّ عطف البيان للبيان فكان مظنة للإظهار دون الإضمار.
(14/129)
---(1/5344)
{من شر الوسواس} وهو اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة، وأمّا المصدر فوسواس بالكسر كزلزال، والمراد به شيطان سمي بالمصدر كأنه وسوس في نفسه، لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه أو أريد ذو الوسواس والوسوسة الصوت الخفي، ويقال لحس الصائد، والكلاب، وأصوات الحلي: وسواس. «والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم». كما في الصحيح فهو الذي يوسوس بالذنب سراً ليكون أحلى، ولا يزال يزينه ويثير الشهوة الداعية إليه حتى يوقع الإنسان، فإذا أوقعه وسوس لغيره إن فلاناً فعل كذا حتى يفضحه بذلك، فإذا افتضح ازداد جراءة على أمثال ذلك كأنه يقول: قد وقع ما كنت أحذر من إيقاعه فلا يكون شيء غير الذي كان فيجترئ على الذنب.
ولما كان الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل دواء غير السأم وهو الموت، وكان قد جعل دواء الوسوسة ذكره تعالى فإنه يطرد الشيطان وينير القلب ويصفيه، وصف سبحانه الموسوس عند استعماله الدواء بقوله تعالى: {الخناس}، أي: الذي عادته أن يخنس، أي: يتوارى ويتأخر ويختفي بعد ظهوره مرّة بعد مرّة كلما كان الذكر خنس وكلما بطل عاد إلى وسواسه، فالذكر له كالمقامع التي تقمع المفسد فهو شديد النفور منه، ولهذا كان شيطان المؤمن هزيلاً كما حكي عن بعض السلف أنّ المؤمن يضني شيطانه كما يضني الرجل بعيره في السفر.
قال قتادة: الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب، وقيل: كخرطوم الخنزير في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبد ربه خنس، ويقال: رأسه كرأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب يمسه، فإذا ذكر الله تعالى خنس ورجع ووضع رأسه فذلك قوله تعالى:
(14/130)
---(1/5345)
{الذي يوسوس}، أي: يلقي المعاني الضارة على وجه الخفاء والتكرير {في صدور الناس}، أي: المضطربين إذا أغفلوا عن ذكر ربهم من غير سماع. وقال مقاتل: إنّ الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه سلطه الله تعالى على ذلك. وقال القرطبي: وسوسته هي الدعاء إلى إطاعته بكلام خفيّ يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع صوت.
تنبيه: يجوز في محل {الذي يوسوس} الحركات الثلاث، فالجرّ على الصفة والرفع والنصب على الشم، ويحسن أن يقف القارئ على الخناس ويبتدئ الذي يوسوس على أحد هذين الوجهين.
وقوله تعالى: {من الجنة}، أي: الجنّ الذين هم في غاية الشر والتمرد، والخناس {والناس}، أي: أهل الاضطراب والذبذبة بيان للذي يوسوس على أن الشيطان ضربان: جني وأنسي كما قال تعالى: {شياطين الإنس والجنّ} (الأنعام: 112)
ويجوز أن يكون بدلاً من الذي يوسوس، أي: الموسوس من الجن والإنس، وأن يكون حالاً من الضمير في يوسوس، أي: حال كونه من هذين الجنسين. وقيل: غير ذلك. قال الحسن: هما شيطانان لنا أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية. وقال قتادة: إن من الجن شياطين، وإنّ من الإنس شياطين. فنعوذ بالله من شياطين الجنّ والإنس. وعن أبي ذر قال لرجل هل تعوّذت بالله من شيطان الإنس، فقال: أومن الإنس شياطين؟ قال: نعم لقوله تعالى: {وكذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّا شياطين الإنس والجنّ} الآية.
وذهب قوم إلى أنّ المراد بالناس هنا الجن سموا ناساً كما سموا رجالاً في قوله تعالى: {وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجنّ} (الجن: 6)
وكما سموا نفراً في قوله تعالى: {قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن} (الجن: 1)
(14/131)
---(1/5346)
وكما سموا قوماً نقل الفراء عن بعض العرب أنه قال: وهو يحدّث جاء قوم من الجنّ فوقفوا، فقيل: من أنتم؟ فقالوا: ناس من الجنّ، فعلى هذا يكون والناس عطفاً على الجنة ويكون التكرير لاختلاف اللفظين. والجنة جمع جني كما يقال: أنس وأنسي والهاء لتأنيث الجماعة. وقيل: إنّ إبليس يوسوس في صدور الجنّ كما يوسوس في صدور الناس فعلى هذا يكون في صدور الناس عاماً في الجميع.
و{من الجنة والناس} بياناً لما يوسوس في صدروهم. وقيل: معنى {من شر الوسواس} الوسوسة التي تكون {من الجنة والناس} وهو حديث النفس.
قال صلى الله عليه وسلم «إنّ الله تعالى تجاوز لأمّتي عما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به». وعن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم تر آيات نزلت الليلة لم ير مثلهنّ قط {أعوذ برب الفلق} و{أعوذ برب الناس}a. وعنه أيضاً أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبرك بأفضل ما تعوّذ به المتعوذ؟ قلت: بلى، قال: {قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس}.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه فنفث فيهم وقرأ {قل هو الله أحد} و{قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس} ثم مسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما رأسه ووجه وما أقبل من جسده يصنع ذلك ثلاث مرات». وعنها أيضاً «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوّذتين وينفث، فلما اشتدّ وجعه كنت أقرأهما عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها». وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به أناء الليل وأطراف النهار». وعن ابن عباس قال: «قال رجل: يا رسول الله، أي: الأعمال أحب إلى الله تعالى؟ قال: الحال المرتحل، قال: وما الحال المرتحل؟ قال: الذي يضرب من أوّل القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل».
(14/132)
---(1/5347)
وعن أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أذن الله لأحد ما أذن لنبيّ حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به».
لطيفة: نختم بها كما ختم بها الفخر الرازي رحمه الله تعالى تفسيره، وهي أن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة، وهي أنه رب الفلق والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات: وهي الغاسق والنفاثات والحاسد. وأمّا في هذه السورة فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاث: وهي الرب والملك والإله، والمستعاذ منه آفة واحدة وهي الوسوسة.
والفرق بين الموضعين أن الثناء يجب أن يقدر بقدر المطلوب، فالمطلوب في السورة الأولى سلامة النفس والبدن، والمطلوب في السورة الثانية سلامة الدين، وهذا تنبيه على أنّ مضرة الدين وإن قلت أعظم من مضار الدنيا وإن عظمت.
وهذا آخر ما يسره الله تعالى من السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير فدونك تفسيراً كأنه سبيكة عسجد، أو در منضد جمع من التفاسير معظمها ومن القراءات متواترها، ومن الأقاويل أظهرها، ومن الأحاديث صحيحها وحسنها محرّر الدلائل في هذا الفنّ مظهراً لدقائق استعملنا الفكر فيها إذا الليل جنّ، فإذا ظفرت بفائدة شاردة فادع لي بالتجاوز والمغفرة، أو بزلة قلم أو لسان فافتح لها باب التجاوز والمعذرة:
*فلا بدّ من عيب فإن تجدنه ** فسامح وكن بالستر أعظم مفضل*
*فمن ذا الذي ما ساء قط ومن له ال ** محاسن قد تمت سوى خير مرسل*
(14/133)
---(1/5348)
وأنا أعوذ بجميع كلمات الله الكاملة التامّة، وألوذ بكنف رحمته الشاملة العامّة من كل ما يكلم الدين ويثلم اليقين، أو يعود في العاقبة بالندم، أو يقدح في الإيمان المسوط باللحم والدم، وأسأله بخضوع العنق وخشوع البصر، ووضع الخد لجلاله الأعظم الأكبر مستشفعاً إليه بنوره الذي هو الشيبة في الإسلام، متوسلاً إليه بسيد الأنام عليه الصلاة والسلام، وبالتوبة الممحصة للآثام وبما عنيت به من مصابرتي على تواكل من القوي، وتخاذل من الخطأ، ثم أسأله بحق صراطه المستقيم، وقرآنه المجيد الكريم، وبما لقيت من كدح اليمين، وعرق الجبين في عمل هذا التفسير المبين عن حقائقه المخلص عن مضايقه، المطلع على غوامضه، المثبت في مداحضه، المكتنز بالفوائد التي لا توجد إلا فيه المحيط بما لا يكتنه من بديع ألفاظه، ومعانيه مع الإيجاز الحاذف للفضول، وتجنب المستكره المملول متوسط الحجم، وخير الأمور أوساطها لا تفريطها ولا إفراطها. هذا ولسان التقصير في طول مدحه قصير:
*أعيذه بالمصطفى من حاسد قد هما
*بذمّه وقد غدا من أجله مهتما
*فليس يبغي ذمّه إلا بغيض أعمى
*كفاه ربي شرهم وزان منه الرسما
*وزاد في تدبيرهم تدميرهم والغما
*وردّهم بغيظهم فلم ينالوا غنما
*وزاده سعادة ولازمته النعمى
(14/134)
---(1/5349)
فنسأل الله الكريم الذي به الضر والنفع، والإعطاء والمنع أن يجعله لوجهه خالصاً، وإن يداركني بألطافه إذ الظل أضحى في القيامة قالصاً، وأن يتجاوز عني إنه السميع العليم، وأن يرفع به درجتي في جنات النعيم، وأن يجعله ذخيرة لي عنده إنه ذو الفضل العظيم، وأن ينفع به من تلقاه بالقبول إنه جواد كريم، وأن يخفف عني كل تعب ومؤنة، وأن يمدّني بحسن المعونة، وأن يهب لي خاتمة الخير، ويقيني مصارع السوء، وأن يتجاوز عن فرطاتي يوم التناد، ولا يفضحني بها على رؤوس الأشهاد أنا ووالدي وأولادي، وأقاربي وأحبابي، ويحلنا دار المقام من فضله بواسع طوله وسابغ نوله إنه هو الجواد الكريم، الرؤوف الرحيم، وهذا شيء ما كان في قدرتي فإني والله معترف بقصر الباع، وكثرة الزلل، ولكن فضل الله وكرمه لا يعلل بشيء من العلل. فلهذا رجوت أن أكون متصفاً بإحدى الخصال الثلاث التي إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا منها، بل أرجو من الله الكريم، اجتماعها إنه جواد كريم حليم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: وكان الفراغ من تأليفه يوم الاثنين المبارك، ثالث عشر صفر الخير، من شهور سنة ثمان وستين وتسعمائة من الهجرة النبوّية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، على يد مؤلفه فقير رحمة ربه القريب محمد بن أحمد الشربيني الخطيب غفر الله تعالى له ذنوبه، وستر في الدارين عيوبه والمسلمين، والحمد لله ربّ العالمين، وصلاة الله وسلامه على سيدنا محمد خاتم النبيين، والمرسلين والصحابة أجمعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
(14/135)
---(1/5350)
يقول المتوسل إلى الله بالجاه الصديقي إبراهيم عبد الغفار الدسوقي، مصحح دار الطباعة جمل الله طباعه قد تم طبع السراج المنير بعون الله الملك القدير، وهذا الكتاب العجيب المنسوب للإمام الخطيب قد اعتنت بتحريره دار الطباعة، وبذلن في تنقيره غاية الاستطاعة، فأزالت عنه ربقة التحريف، وأطلقته من أسر التصحيف بمراجعة أصول أساليبه، والبحث عن صواب تراكيبه، فحصلت بركاته وعمت نفحاته، وأنار الآفاق بدر وجوده، وروى الظماء قاموس فضله وجوده، وتحلت بصحاح جواهر معانيه أجياد مباشريه ومبتاعيه، ثم إنّ تمام بيعه في اثنا طبعه أوّل دليل على عموم نفعه، وهذا كما يقع في خلدي ويقيني من كرامات مؤلفه محمد بن أحمد الشربيني وكان تمام طبعه بدار الطباعة العامرة الكائنة ببولاق مصر القاهرة على ذمّة هذه المصلحة الميمونة التي هي بطالع السعد مقرونة في سنة خمس وثمانين ومائتين وألف من هجرة من خلقه الله على أكمل وصف، مشمولاً بنظر المجدّ في نفع أوطانه، الباذل مروءته في قضاء حاج إخوانه من عليه أحاسن أخلاقه تثنى حضرة حسين بك حسني، فإنه لا يزال باحثاً عن عموم المنافع عند وجود المقتضيات، وزوال الموانع في ظل من تعطرت الأفواه بطيب ثنائه، وبلغ من كل وصف جميل حدّ انتهائه، ومحا ظلم الظلم بسنا صورته، وأثبت مراسم العدل بحسن سيرته، وأفاض على أهل مملكته غيوث إنعامه وإحسانه، وشملهم بعظيم رأفته ومزيد امتنانه، وبسط لهم بساط عدله، وحلاهم بحلي جوده وفضله. عزيز الديار المصرية، وحامي حمى حوزتها النيليه بشدّة بأسه وعزمه الجلي، سعادة أفندينا إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي لا زال ملحوظاً بعين العناية الإلهية، موفقاً لسائر الآراء الخيرية محفوظ الجناب، مقصود الأعتاب، مسروراً بسائر الأنجال بجاه خاتم رسل ذي الجلال. ولما تهيأ للتمام والكمال، ولبس من حسن الطبع حلة الجمال انطلق لسان اليراع يقرظه، وبعين الإطراء يلحظه فقال:
(14/136)
---(1/5351)
*كلام الله أفضل ما رواه ** رسول الله عن جبريل قطعا*
*عجائبه يحار اللب فيها ** وليست تنقضي بدعاً وصنعا*
*وخادمه بتفسير المعاني ** أجل الناس منقبة ووضعا*
*ولا سيما الخطيب أبو المعالي ** مبين الآي أفذاذاً وشفعا*
*هو التفسير إيضاحاً وبسطاً ** ومتبعوه أرقى الناس طبعا*
*ولما تم حسناً قلت أرخ ** وفي أوب الخطيب وتم طبعاً*
فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على المؤيد بباهر المعجزات، وعلى أصحابه الكرام البررة، وآل بيته المنتخبين الخيرة ما توالى الجديدان وتعاقب النيران.(1/5352)