(11/411)
---
قلنا: نعم، قال: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر». وتقدم في الحديث المار أنهم ثلثا أهل الجنة ولا منافاة لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أولاً بالقليل ثم أطلعه الله تعالى على الزيادة
ولما أتم وصف أصحاب الجنة أتبعه أضدادهم بقوله تعالى:
(11/412)
---(1/4466)
{وأصحاب الشمال} أي: الجهة التي تتشاءم العرب بها ويعبر بها عن الشيء الأخس والحظ الأنقص قال البقاعي: والظاهر أنهم أدنى أصحاب المشأمة كما أن أصحاب اليمين دون السابقين من أصحاب الميمنة ثم عظم ذمهم ومصابهم فقال تعالى: {ما أصحاب الشمال} أي: أنهم بحال من الشؤم هو جدير بأن يسأل عنه وسماهم بذلك لأنهم يأخذون كتبهم بشمالهم ثم بين متقلبهم وما أعدّ لهم من العذاب فقال تعالى: {في سموم} أي: ريح حارة من النار تنفذ في المسام {وحميم} أي: ماء حار بالغ في الحرارة إلى حدّ يذيب اللحم {وظل من يحموم} أي: دخان أسود كالحمم أي الفحم شديد السواد؛ وقيل: النار سوداء وأهلها سود وكل شيء فيها أسود؛ وقيل: اليحموم اسم من أسماء النار؛ قال الرازي: وفي الأمور الثلاثة إشارة إلى كونهم في العذاب دائماً لأنهم إن تعرضوا لمهب الهواء أصابهم السموم، وإن استكنوا كما يفعل الذي يدفع عن نفسه السموم بالاستكنان بالكن يكونون في ظلّ من يحموم، وإن أرادوا التبرّد بالماء من حرّ السموم يكون الماء من حميم فلا إنفكاك لهم من العذاب؛ أو يقال: أن السموم تضربه فيعطس وتلتهب نار السموم في أحشائه فيشرب الماء فيقطع أمعاءه فيريد الاستظلال بظل فيكون ذلك الظل اليحموم؛ وذكر السموم والحميم دون النار تنبيهاً بالأدنى على الأعلى كأنه قال أبرد الأشياء في الدنيا حارّ عندهم فكيف أحرّها؟ وقوله تعالى {لا بارد} أي: ليروح النفس {ولا كريم} أي: ليؤنس به ويلجأ إليه صفتان للظل كقوله تعالى: {من يحموم} وقال الضحاك: لا بارد أي: كغيره من الظلال بل حار لأنه من دخان شفير جهنم ولا كريم عذب؛ وقال سعيد بن المسيب: ولا حسن منظره وكل شيء لا خير فيه ليس بكريم فسماه ظلاً ونفى عنه برد الظل وروحه ونفعه من يأوى إليه من أذى الحرّ، وذلك كرمه ليمحو ما في مدلول الظن من الاسترواح إليه، والمعنى: أنه ظل حارّ ضارّ إلا أن للنفي في نحو هذا شأناً ليس للإثبات وفيه تهكم بأصحاب المشأمة(1/4467)
(11/413)
---
وأنهم لا يستأهلون الظل البارد الكريم الذي هو لأضدادهم في الجنة.
ثم بين استحقاقهم لذلك بقوله تعالى: {إنهم كانوا} أي: في الدنيا قبل ذلك أي الأمر العظيم الذي وصلوا إليه {مترفين}أي: أنهم إنما استحقوا هذه العقوبة لأنهم كانوا في الدنيا في سعة من العيش متمكنين في الشهوات مستمتعين بها متمكنين منها {وكانوا يصرّون} أي: يقيمون ويديمون على سبيل التجديد لما لهم من الميل الجبلي إلى ذلك {على الحنث} أي: الذنب ويعبر بالحنث عن البلوغ ومنه قولهم: لم يبلغوا الحنث، وإنما قيل ذلك لأنّ الإنسان عند بلوغه إليه يؤاخذ بالحنث أي: الذنب، وتحنث فلان أي: جانب الحنث، وفي الحديث: «كان يتحنث بغار حراء» أي: يتعبد لمجانبة الإثم نحو خرج فتفعل في هذه كلها للسلب.
(11/414)
---(1/4468)
ولما كان ذلك قد يكون من الصغائر التي تغفر قال تعالى: {العظيم} أي: وهو الشرك قاله الحسن والضحاك؛ وقال مجاهد: هو الذنب الذي لا يتوبون منه؛ وقال الشعبي: هو اليمين الغموس وهو من الكبائر يقال حنث في يمينه، أي: لم يبرها ورجع فيها، وكانوا يقسمون أن لا بعث وأنّ الأصنام أنداد الله تعالى فذلك حنثهم، فإن قيل: الترفه هو التنعم وذلك لا يوجب ذمّاً؟ أجيب: بأنّ الذمّ إنما حصل بقوله تعالى: {وكانوا يصرّون على الحنث العظيم} فإن صدور المعاصي ممن كثرت النعم عليه أقبح القبائح وفي الآية مبالغات، لأنّ قوله تعالى: {يصرون} يقتضي أنّ ذلك عادتهم والإصرار مداومة المعصية ولأنّ الحنث أبلغ من الذنب لأن الذنب يطلق على الصغيرة ويدل على ذلك قولهم: بلغ الحنث أي: بلغ مبلغاً تلحقه فيه الكبيرة، ووصفه بالعظيم يخرج الصغائر فإنها لا توصف بذلك؛ قال الرازي: والحكمة في ذكره سبب عذابهم ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم فلم يقل إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين وذلك تنبيه على أنّ الثواب منه فضل والعقاب منه عدل، والفضل سواء ذكر سببه أو لم يذكر يتوهم بالتفضل نقص وظلم، وأما العدل إن لم يعلم سبب العقاب يظن أنّ هناك ظلماً، ويدل على ذلك أنه تعالى لم يقل في حق أصحاب اليمين {جزاء بما كانوا يعملون} كما قال في السابقين لأنّ أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل بخلاف من كثرت حسناته يحسن إطلاق الجزاء في حقه.
(11/415)
---(1/4469)
{وكانوا} أي: زيادة على ما ذكر {يقولون} أي: إنكاراً مجددين لذلك دائماً عناداً {أئذا} أي أنبعث إذا {متنا وكنا} أي كوناً ثابتاً {تراباً وعظاماً} ثم أعادوا الاستفهام تأكيداً لإنكارهم فقالوا: {أئنا لمبعوثون} أي: كائن وثابت بعثنا ساعة من الدهر وأكدوا ليكون إنكارهم لما دون ذلك بطريق الأولى وقرأ قالون أئذا بتحقيق الهمزة الأولى، المفتوحة وتسهيل الثانية المكسورة وإدخال ألف بينهما وكسر الميم من متنا وهمزة واحدة مكسورة في أئناء، وقرأ ورش بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ولا إدخال بينهما وكسر ميم متنا وهمزة واحدة مكسورة في أئنا مع النقل عن أصله؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالاستفهام فيهما مع تسهيل الثانية إلا أنّ أبا عمرو يدخل بينهما ألفاً فيهما وابن كثير لا يدخل ألفاً وضما ميم متنا {أو آباؤنا} أي: أو تبعث آباؤنا {الأولون} أي: الذين قد بليت مع لحومهم عظامهم فصاروا كلهم تراباً ولا سيما أن حملتهم السيول ففرّقت أعضاءهم وذهبت بها في الآفاق؛ فإن قيل: كيف حسن العطف على المضمر في لمبعوثون من غير تأكيد بنحن؟ أجيب بأنه حسن للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله تعالى: {ما أشركنا ولا آباؤنا} (الأنعام: 148)
لفصل لا المؤكدة للنفي، وقرأ قالون وابن عامر: بسكون الواو من أو والباقون بفتحها.
ثم ردّ الله تعالى عليهم قولهم ذلك بقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
(11/416)
---(1/4470)
{قل} أي: لهؤلاء ولكل من كان مثلهم وأكد لإنكارهم {إن الأولين} أي: الذين جعلتم الاستبعاد فيهم وهم الآباء {والآخرين} وهم الأبناء {لمجموعون} أي: في المكان الذي يكون فيه الحساب {إلى ميقات يوم} أي: زمان {معلوم} أي: معين عند الله تعالى وهو يوم القيامة إذ هو من شأنه أن يعلم بما عليه من الأمارات والميقات ما وقت به الشيء من زمان أو مكان إلى حد {ثم إنكم} أي: بعد هذا الجمع {أيها الضالون} أي: الذين غلبت عليهم الغباوة فهم لا يفهمون فضلوا عن الهدى ثم اتبع ذلك ما أوجب الحكم عليهم بالضلال فقال تعالى: {المكذبون} بالبعث والخطاب لأهل مكة ومن في مثل حالهم {لآكلون من شجر من زقوم} وهو من أخبث الشجر المر بتهامة ينبتها الله تعالى في الجحيم فهو في غاية الكراهة وبشاعة المنظر ونتن الرائحة وقد مرّ الكلام على ذلك في الصافات
(11/417)
---
تنبيه: من الأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان الشجر {فمالؤن} أي: ملأ هو في غاية الثبات وأنتم في غاية الإقبال عليه مع ما هو عليه من عظيم الكراهة {منها} أي: الشجر وأنثه لأنه جمع شجرة وهو اسم جنس، قال البقاعي: وهم يكرهون الإناث فتأنيثه والله أعلم زيادة في تنفيرهم؛ وقال الزمخشري: أنت ضمير الشجر على المعنى وذكره على اللفظ في قوله: {منها} وعليه وهو لف ونشر مرتب {البطون} أي: يضطركم إلى تناول هذا الكريه حتى تملؤا بطونكم منه.(1/4471)
ثم لما بين أكلهم أتبعه مشربهم فقال تعالى: {فشاربون عليه} أي: الأكل أو الزقوم {من الحميم} لأجل مرارته وحرارته يحتاجون إلى شرب الماء فيشربون من الماء الحار {فشاربون} أي: منه {شرب الهيم} أي: الإبل العطاش وهو جمع هيمان للذكر وهيمى للأنثى كعطشان وعطشى، والهيام: داء معطش تشرب الإبل منه إلى أن تموت أو تسقم سقماً شديداً؛ وقيل: إنه جمع هائم وهائمة من الهيام أيضاً إلا أن جمع فاعل وفاعلة على فعل قليل نحو نازل ونزل وعائد وعود؛ وقيل: إنه جمع هيام بفتح الهاء وهو الرمل غير المتماسك الذي لا يروى من الماء أصلاً فيكون مثل سحاب وسحب بضمتين ثم خفف بإسكان عينه ثم كسرت فاؤه لتصح الباء كما فعل بالذي قبله، والمعنى: أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرّهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل فإذا ملؤوا منه البطون سلط عليهم من العطش ما يضطرّهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاؤهم فيشربون منه شرب الهيم.
فإن قيل: كيف صح عطف الشاربين على الشاربين وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان فكان عطفاً للشيء على نفسه؟ أجيب: بأنهما ليستا بمتفقتين من حيث أن كونهم شاربين الحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة وقطع أمعائهم أمر عجيب فشربهم له على ذلك كما يشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضاً فكانتا صفتين مختلفتين؛ وقرأ نافع وعاصم وحمزة: بضم الشين والباقون بفتحها.
(11/418)
---
{هذا} أي: ما ذكر {نزلهم} أي: ما يعدّ لهم أول قدومهم مكان ما يعد للضيف أول حلوله كرامة له {يوم الدين} أي: الجزاء الذي هو حكمة القيامة وإذا كان هذا نزلهم فما ظنك بما يأتي بعدما استقرّوا في الجحيم وفي هذا تهكم كما في قوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} (آل عمران: 21)(1/4472)
فإن النزل ما يعد للنازل تكرمة له ثم استدل على منكري البعث بقوله تعالى: {نحن} أي: لا غيرنا {خلقناكم} أي بما لنا من العظمة {فلولا} تحضيض، أي: فهلا {تصدقون} أي: بالبعث فإن الإعادة أسهل من الابتداء؛ وقيل: نحن خلقنا رزقكم فهلا تصدقون أن هذا طعامكم إن لم تؤمنوا؛ ومتعلق التصديق محذوف تقديره: فلولا تصدّقون بخلقنا {أفرأيتم} أي: أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة {ما تمنون} أي: تصبون من المنيّ في أرحام النساء {أأنتم تخلقونه} أي: توجدونه مقدراً على ما هو عليه من الإستواء، والحكمة بعد خلقه من صورة النطفة إلى صورة العلقة ثم من صورة العلقة إلى صورة المضغة ثم منها إلى صورة العظام والأعصاب {أم نحن} أي: خاصة {الخالقون} أي الثابت لنا ذلك وقرأ أفرأيتم في الثلاثة مواضع نافع بتسهيل الهمزة التي هي عين الكلمة، ولو رش وجه ثان وهو أبدالها ألفاً، وأسقطها الكسائي، والباقون بالتحقيق، وقرأ أأنتم في الثلاثة المواضع نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بخلاف عن هشام، وأدخل بينهما ألفاً، قالون وأبو عمرو وهشام، ولم يدخل بينهما ورش وابن كثير ولو رش وجه ثان وهو إبدال الثانية ألفا والباقون بتحقيقهما مع عدم الإدخال بينهما.
(11/419)
---
ولما كان الجواب قطعاً أنت الخالق وحدك أكد ذلك بقوله تعالى: {نحن} أي: بمالنا من العظمة لا غيرنا {قدرنا} أي: تقديراً عظيماً لا يقدر سوانا على نقص شيء منه، {بينكم الموت} أي قسمنا عليكم فلم نترك أحداً منكم بغير حصة منه، وأقتنا موت كل بوقت معين لا يتعداه، فقصرنا عمر هذا وربما كان في الأوج من قوّة البدن وصحة المزاج فلو اجتمع الخلق لهم على إطالة عمره ما قدروا أن يؤخروه لحظة، وأطلنا عمر هذا وربما كان في الحضيض من ضعف البدن واضطراب المزاج فلو تمالؤا على تقصيره طرفة عين لعجزوا.(1/4473)
وقرأ ابن كثير بتخفيف الدال والباقون بالتشديد {وما نحن} أي: على ما لنا من العظمة {بمسبوقين} أي: بالموت أي: لا عاجزين ولا مغلوبين {على} أي: عن {أن نبدّل} أي تبديلاً عظيماً {أمثالكم} أي: صوركم وأشخاصكم {وننشئكم} أي إنشاء جديداً بعد تبديل ذواتكم {في ما لا تعلمون} فإنّ بعضكم تأكله الحيتان أو السباع أو الطيور فننشئ أبدانه منها، وبعضهم يصير تراباً فربما نشأ منه نبات فأكلته الدواب فنشأت منه أبدانها وربما صار ترابه من معادن الأرض الذهب والفضة والحديد والنحاس والحجر ونحو ذلك وقد لمح إلى ذلك قوله تعالى: {قل كونوا حجارة أو حديداً} (الإسراء: 50)
إلى آخرها ويكون المعنى كما قال البغوي: نأت بخلق مثلكم بدلاً منكم ونخلقكم فيما لا تعلمون من الصور أي: بتغيير أوصافكم وصوركم إلى صور أخرى بالمسخ ومن قدر على ذلك قدر على الإعادة وقال الطبري: معنى الآية نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم، وما نحن بمسبوقين في آجالكم أي: لا يتقدّم متأخر ولا يتأخر متقدم، وننشئكم فيما لا تعلمون من الصور وقال الحسن: أي نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام قبلكم، وقيل: المعنى: ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا فنجمل المؤمن ببياض وجهه ونقبح الكافر بسواد وجهه «فائدة» في ما مقطوعة في الرسم.H
(11/420)
---(1/4474)
{ولقد علمتم النشأة الأولى} أي: الترابية لأبيكم آدم عليه السلام، واللحمية لأمكم حواء رضى الله عنها والنطفية لكم وكل منها تحويل من شيء إلى آخر غيره، فما الذي شاهدتم قدرته على ذلك لا يقدر على تحويلكم بعد أن تصيروا تراباً إلى ما كنتم عليه أولاً من الصور ولهذا سبب عما تقدم قوله تعالى: {فلولا} أي: فهلا ولم لا {تذكرون} أي تذكراً عظيماً تكرهون أنفسكم عليه فتعلمون أن من قدر على النشأة الأولى قدر على الثانية فإنها أقل ضعفاً لحصول المواد وتخصيص الأجزاء وسبق المثال وفيه دليل على صحة القياس، وفي الخبر عجباً كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى، وعجباً للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشأة بفتح الشين وبعدها ألف قبل الهمزة والباقون بسكونها ولا ألف بعدها، فإذا وقف حمزة نقل حركة الهمزة إلى الشين وخفف ذال تذكرون حمزة والكسائي وحفص، وشدّدها الباقون.
ثم ذكر لهم حجة أخرى بقوله تعالى: {أفرأيتم} أي: أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة ما نبهنا كم عليه فيما تقدم فتسبب عن تنبيهكم لذلك أنكم رأيتم {ما تحرثون} أي: تجددون حرثه على الاستمرار من أراضيكم فتطرحون فيه البذر {أأنتم تزرعونه} أي: تنشئونه بعد طرحكم وتجعلونه زرعاً فيكون فيه السنبل والحب {أم نحن} خاصة {الزارعون} أي: المنبتون له والحافظون؛ روى أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لا يقولنّ أحدكم زرعت وليقل حرثت». قال أبو هريرة أرأيتم إلى قوله تعالى: {أفرأيتم} الآية.
(11/422)
---(1/4475)
ولما كان الجواب قطعاً أنت الفعال لذلك وحدك قال تعالى موضحاً لأنه ما زرعه غيره {لو نشاء} أي: لو عاملناكم بصفة العظمة {لجعلناه} أي: بتلك العظمة {حطاما} أي: مكسوراً مفتتاً لا حب فيه قبل النبات حتى لا يقبل الخروج أو بعده ببرد مفرط أو حر مهل أو غير ذلك فلا ينتفع به {فظلتم} أي فأقمتم بسبب ذلك نهاراً في وقت الأشغال العظيمة وتركتم ما يهمكم {تفكهون} حذفت منه إحدى التائين في الأصل تخفيفاً أي تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم وقيل: تندمون على ما سلف منكم من المعاصي التي أوجبت تلك العقوبة قال الزمخشري: ومنه الحديث: «مثل العالم كمثل الحمة يأتيها البعداء ويتركها القرباء فبينما هم إذ غار ماؤها فانتفع بها قوم وبقي قوم يتفكهون». أي: يتندمون. وقال الكسائي: التفكة التلهف على ما فات من الأضداد، تقول العرب: تفكهت أي تنعمت وتفكهت أي حزنت وتقولون: {أنا لمغرمون} بحذف القول ومعنى الغرم ذهاب المال بغير عوض من الغرام وهو الهلاك ومن مجيء الغرام بمعنى الهلاك قول القائل:
*أن يعذب يكن غراماً وإن يع ** ط جزيلاً فإنه لا يبالي*
وقال ابن عباس: الغرام العذاب، أي: عذبوا بذهاب أموالهم، والمعنى: أن غرمنا الحب الذي بذرناه فذهب بغير عوض ومن الغرام بمعنى العذاب قول القائل:
*وثقت بأنّ الحلم منك سجية
** وأنّ فؤادي مبتلى بك مغرم
(11/423)
---(1/4476)
وقرأ شعبة: أئنا بهمزة مفتوحة بعدها همزة مكسورة على الاستفهام والباقون بهمزة واحدة مكسورة على الخبر {بل نحن} أي: خاصة {محرومون} أي: ممنوعون رزقنا حرمنا من لا يرد قضاؤه فلاحظ لنا في الاكتساب فلو كان الزارع ممن له خط لأفلح زرعه ثم ذكر تعالى لهم حجة أخرى بقوله تعالى: {أفرأيتم الماء} أي: أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة ما نبهنا عليه فيما مضى من المطعم وغيره فرأيتم الماء {الذي تشربون} فتحيوا به أنفسكم وتسكنوا به عطشكم، ذكرهم بنعمه التي أنعم بها عليهم بإنزال المطر الذي لا يقدر عليه أحد إلا الله عز وجل {أأنتم أنزلتموه من المزن} أي: السحاب وهو اسم جنس واحد مزنة قال القائل:
*فلا مزنة ودقت ودقها
** ولا أرض أبقل إبقالها
وعن ابن عباس والثوري: المزن السماء والسحاب، وقال أبو زيد: المزنة: السحابة البيضاء أي خاصة وهي أعذب ماء والجمع مزن والمزنة المطرة {أم نحن} أي: خاصة {المنزلون} أي: له بمالنا من العظمة {لو نشاء} أي: حال إنزاله وبعده قبل أن ينتفع به {جعلناه} أي بما تقتضيه صفة العظمة {أجاجاً} أي: ملحاً مراً محرقاً كأنه في الأحشاء لهيب النار المؤجج فلا يبرد عطشاً ولا ينبت نبتاً ينتفع به، وقال ابن عادل: الأجاج المالح الشديد الملوحة {فلولا} أي: فهلا ولم لا {تشكرون} أي: تجددون الشكر على سبيل الاستمرار باستعمال ما أفادكم ذلك من القوى في طاعة الله الذي أوجده لكم ومكنكم منه.
(11/424)
---(1/4477)
ثم ذكر تعالى لهم حجة أخرى بقوله تعالى: {أفرأيتم النار} أي: أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة ما تقدم فرأيتم النار {التي تورون} أي: تخرجون من الشجر الأخضر {أأنتم أنشأتم} أي: اخترعتم وأوجدتم وأحييتم وربيتم ورفعتم {شجرتها} أي: التي يقدح منها النار وهي المرخ والعقار وهما شجرتان قدح منهما النار وهما رطبتان، وقيل: أراد جميع الشجر الذي توقد به النار {أم نحن} أي: خاصة وأكد بقوله تعالى: {المنشؤن} أي: لها بمالنا من العظمة على تلك الهيئة فمن قدر على إيجاد النار التي هي أيبس ما يكون في الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادّة لها كان أقدر على إعادة الطراوة في تراب الجسد الذي كان غضاً طرياً فيبس.
(11/425)
---(1/4478)
ولما كان الجواب قطعاً أنت وحدك قال تعالى دالاً على ذلك تنبيهاً على عظم هذا الخبر {نحن} أي: خاصة {جعلناها} أي: لما اقتضته عظمتنا {تذكرة} أي: شيئاً يتذكر به تذكراً عظيماً جليلاً كما أخبرنا به من البعث وعذاب النار الكبرى وما ينشأ فيها من شجرة الزقوم وغير ذلك، وقيل: موعظة يتعظ بها المؤمن؛ وعن أبي هريرة رضى الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ناركم التي توقدون جزء من سبعين جزأ من نار جهنم، قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزأ كلها مثلها مثل حرّها». {ومتاعاً} أي: بلغة ومنفعة {للمقوين} أي: المسافرين والمقوى النازل في أرض القوا بالكسر والقصر والمدّ وهي القفر البعيدة من العمران، والمعنى: أنه ينتفع بها أهل البوادي والأسفار فإن منفعتهم بها أكثر من المقيم فإنهم يوقدونها بالليل لتهرب السباع ويهتدي الضال إلى غير ذلك من المنافع؛ وقال مجاهد: للمقوين أي: المنتفعين بها من الناس أجمعين يستضيئون بها في الظلمة ويصطلون بها من البرد وينتفعون بها في الطبخ والخبز إلى غير ذلك من المنافع، ويتذكر بها نار جهنم فيستجار بالله تعالى منها؛ وقال ابن زيد: للجائعين في إصلاح طعامهم يقال: أقويت منذ كذا وكذا أي: ما أكلت شيئاً قال الشاعر:
*وإني لاختار القوا طاوي الحشى ** محافظة من أن يقال لئيم*
وقال قطرب: المقوي من الأضداد يقال للفقير: مقو لخلوه من المال ويقال للغني: مقو لقوته على ما يريد، والمعنى: فيها متاعاً ومنفعة للفقراء والأغنياء لا غنى لأحد عنها، وقال المهدوي: الآية تصلح للجميع لأنّ النار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير.
(11/426)
---(1/4479)
ولما ذكر تعالى ما يدل على وجوب وحدانيته وقدرته وإنعامه على سائر الخلق خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم أو كل أحد من الناس بقوله تعالى: {فسبح} أي: أوقع التنزيه العظيم من كل شائبة نقص من ترك البعث وغيره ولا سيما بعد بلوغ هذه الأدلة {باسم} أي: ملتبساً بذكر اسم {ربك} أي: المحسن إليك بهذا البيان الأعظم.
فائدة: أثبتوا ألف الوصل هنا في اسم ربك لأنه لم يكثر دوره كثرته في البسملة وحذفوه منها لكثرة دورها وهم شأنهم الإيجاز وتقليل الكثير إذا عرف معناه وهذا معروف لا يجهل، وإثبات ما أثبت من أشكاله مما لا يكثر دليل على الحذف منه، ولذا لا تحذف مع غير الباء في اسم الله ولا مع الباء في غير الجلالة الكريمة من الأسماء وقد أوضحت ذلك في مقدمتي على البسملة والحمدلة.
ولما كان المقام للعظمة قال الله تعالى: {العظيم} أي: الذي ملأ الأكوان كلها عظمة فلا شيء منها إلا وهو مملوء بعظمته تنزيهاً عن أن يلحقه شائبة نقص أو يفوته شيء من كمال، فالعظيم صفة للإسم أو الرب، والاسم قيل: بمعنى الذات وقيل: زائد أي: فسبح ربك واختلف في «لا» في قوله تعالى: {فلا أقسم} فقال أكثر المفسرين: معناه فاقسم ولا صلة مؤكدة بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {وإنه لقسم} ومثلها في قوله تعالى: {لئلا يعلم أهل الكتاب} (الحديد: 29)
(11/427)
---(1/4480)
والتقدير: ليعلم وقال بعضهم أنها حرف نفي وإنّ المنفي بها محذوف وهو كلام الكافر الجاهل والتقدير فلا حجة بما يقوله الكافر؛ ثم ابتدأ قسماً بما ذكر وضعف هذا بأنّ فيه حذف اسم لا وخبرها قال أبو حيان: ولا ينبغي فإنّ القائل بذلك مثل سعيد بن جبير تلميذ حبر القرآن وهو عبد الله بن عباس، ويبعد أن يقول سعيد إلا بتوقيف، وقال بعضهم: إنها لام الابتداء والأصل: فلأقسم فأشبعت الفتحة فتولد منها ألف كقول بعضهم: أعوذ بالله من العقراب قال الزمخشري: ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأمرين: أحدهما: أن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة والإخلال بها ضعيف قبيح، والثاني: أن لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال وفعل القسم يجب أن يكون للحال.
(11/428)
---(1/4481)
واختلف أيضاً في معنى قوله عز وجلّ: {بمواقع النجوم} فقال أكثر المفسرين: بمساقطها لغروبها، قال الزمخشري: ولعل الله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالاً عظيمة مخصوصة وللملائكة عبادات موصوفة، أو لأنه وقت قيام المجتهدين والمبتهلين إليه من عباده الصالحين ونزول الرحمة والرضوان عليهم، فلذلك أقسم بمواقعها واستعظم ذلك بقوله تعالى: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} وقال عطاء بن رباح: أراد بمواقعها منازلها، قال الزمخشري: وله في ذلك من الدليل على عظيم القدرة والحكمة ما لا يحيط به الوصف، وقال الحسن: مواقعها انكدارها وانتثارها يوم القيامة؛ وقال ابن عباس والسدي: المراد نجوم القرآن أي أوقات نزولها؛ وقال الضحاك: هي الأنواء التي كانت الجاهلية تقول إذا مطروا: مطرنا بنوء كذا، وقال القشيري: هو قسم ولله أن يقسم بما يريد وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة فإن قيل لو تعلمون جوابه ماذا؟ أجيب: بأنه مقدّر تقديره لعظمتموه أي: لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم ولكنكم ما علمتموه فعلم أنكم لا تعلمون، وقرأ بموقع حمزة والكسائي بسكون الواو ولا ألف بعدها والباقون بفتح الواو ألف بعدها.
وقوله تعالى: {إنه} أي: القرآن الذي أفهمته النجوم بعموم إفهامها {لقرآن} أي: جامع سهل ذو أنواع جليلة {كريم} أي: بالغ الكرم منزه عن كل شائبة لؤم ودناءة هو المقسم عليه، وفي الكلام اعتراضان أحدهما: الاعتراض بقوله تعالى: {وإنه لقسم} بين القسم والمقسم عليه، والثاني الاعتراض بقوله تعالى: {لو تعلمون} بين الصفة الموصوف.
(11/429)
---(1/4482)
تنبيه: من كرم هذا القرآن العظيم كونه من الملك الأعلى إلى خير الخلق بسفارة روح القدس، مشتملاً على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد وبلسان العرب الذين اتفقت علماء الفرق على أنّ لسانهم أفصح الألسن، وعلى وجه أعجز العرب كافة وبقية الخلق أجمعين واختلف في معنى قوله تعالى: {في كتاب} أي: مكتوب {مكنون} أي: مصون فالذي عليه الأكثر أنه المصحف سمي قرآنا لقرب الجوار على الاتساع ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوّ». أراد به المصحف وقوله تعالى: {لا يمسه} خبر بمعنى النهي ولو كان باقياً على خبرتيه لزم منه الخلف لأنّ غير المطهر يمسه وخبر الله تعالى لا يقع فيه خلف لأنّ المراد بقوله تعالى: {إلا المطهرون} لا المحدثون وهو قول عطاء وطاوس وسالم والقاسم وأكثر أهل العلم وبه قال مالك والشافعي رضى الله عنهما؛ وقال ابن عادل: والصحيح أنّ المراد بالكتاب: المصحف الذي بأيدينا لما روى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم «لا يمس القرآن إلا طاهر»، وقال ابن عمر قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالمصحف {لا يمسه إلا المطهرون} فقام فاغتسل وأسلم، وعلى هذا قال قتادة وغيره معناه لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس انتهى.
وقال ابن عباس: {مكنون} محفوظ عن الباطل والكتاب هنا كتاب في السماء، وقال جابر: هو اللوح المحفوظ، أي: لقوله تعالى: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} (البروج: 21 ـ 22)
(11/430)
---(1/4483)
وقال عكرمة: التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن، وقال السدي: الزبور وقيل: لا من «لا يمسه» نافية والضمة في لا يمسه ضمة إعراب وعلى هذا ففي الجملة وجهان: أحدهما: أن محلها الجرّ صفة لكتاب، والمراد به: إمّا اللوح المحفوظ والمطهرون حينئذ الملائكة، أو المراد به المصحف والمراد بالمطهرون الملائكة كلهم، والثاني: محلها رفع صفة لقرآن والمراد بالمطهرين: الملائكة فقط أي: لا يطلع عليه، لأنّ نسبة المس إلى المعاني متعذرة وقيل: إنها ناهية والفعل بعدها مجزوم لأنه لوفك عن الإدغام لظهر ذلك فيه كقوله تعالى: {لم يمسسهم سوء} (آل عمران: 174)
ولكنه أدغم، ولما أدغم حرّك بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب، وفي الحديث: «إنا لم نرده عليكما إلا أنا حرم» بضم الدال، وإن كان القياس يقتضي جواز فتحها تخفيفاً، وبهذا ظهر فساد رد من رد بأنّ هذا لو كان نهياً كان يقال لا يمسه بالفتح لأنه خفي عليه وانضم ما قبل الهاء في هذا التحويل لا يجوّز سيبويه غيره.
واختلفوا في المس المذكور في الآية فقال أنس وسعيد بن جبير: لا يمس ذلك إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة وقال أبو العالية وابن زيد: هم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم، وقال الكلبي: هم السفرة الكرام البررة وهذا كله قول واحد وهو اختيار مالك، وقال الحسن: هم الملائكة الموصوفون في سورة عبس في قوله تعالى: {صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة} (عبس: 13 ـ 16)
وقيل: معنى لا يمسه لا ينزل به إلا المطهرون أي: إلا الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء ولا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون، ولو كان المراد طهر الحدث لقال المتطهرون أو المطهرون بتشديد الطاء ومن قال بالأوّل قال: المطهرون يعني المتطهرون.
(11/431)
---(1/4484)
تنبيه: اختلف العلماء في مس المصحف وحمله على غير وضوء فالجمهور على المنع من مسه على غير طهارة لحديث عمرو بن حزم وهو مذهب عليّ وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي، وأما الحمل فلأنه أبلغ من المس سواء حمله بعلاقته أم في كمه أم على رأسه وسواء مس نفس الأسطر أم ما بينها أم الحواشي أم الجلد أم العلاقة أم الخريطة أم الصندوق إذا كان المصحف فيهما، وسواء مس بأعضاء الوضوء أم بغيرها؛ وقال جماعة بجواز مسه وحمله واحتجوا بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل كتاباً فيه قرآن، وهرقل محدث يمسه هو وأصحابه، وبأنّ الصبيان يحملون الألواح محدثين بلا إنكار، وبأنه إذا لم تحرم القراءة فالحمل والمس أولى، وبأنه يجوز حمله في أمتعة.
وأجيب عن الأوّل: بأنّ ذلك الكتاب كان فيه آيتان ولا يسمى مصحفاً ولا ما في معناه وبأنه لو كان كتاباً قد تضمن مع القرآن دعاء إلى الإسلام فلم يكن القرآن بانفراده مقصوداً فجاز تغليباً للمقصود فيه، وعن الثاني: بأنه أبيح للصبيان للضرورة لأنهم غير مكلفين، وعن الثالث: بأن القراءة أبيحت للحاجة وعسر الوضوء لها كل وقت وبأنا لا نسلم الأولوية المذكورة بدليل أن الكافر لا يمنع من القراءة ويمنع من حمل المصحف ومسه، وعن الرابع: بأن جواز حمل المصحف في الأمتعة محله إذا لم يكن المصحف مقصود بالحمل.
(11/432)
---(1/4485)
وقال آخرون بحرمة المس دون الحمل واحتجوا بأنّ المحرم يحرم عليه مس الطيب دون حمله، وأجيب عنه: بأنه غير صحيح لأنّ حمل المصحف أبلغ في الاستيلاء عليه من مسه، فلما حرم الأدنى كان تحريم الأعلى أولى ولأن تحريم المصحف إنما هو لحرمته فاستوى فيه مسه وحمله بخلاف طيب المحرم فإنّ تحريمه مقصور على الاستمتاع به وليس في حمله استمتاع به، ولو لف كمه على يده وقلب به أوراق المصحف حرم عليه لأنّ القلب يقع باليد لا بالكم بخلاف قلب ذلك بعود، ويحرم كتب شيء من القرآن أو من أسماءه تعالى بنجس أو على نجس ومسه به إذا كان غير معفو عنه، ولو خاف على المصحف من حرق أو غرق أو وقوع نجاسة عليه أو وقوعه في يد كافر جاز حمله مع الحدث بل يجب ذلك صيانة للمصحف، ولو لم يجد من يودعه المصحف وعجز عن الوضوء فله حمله مع الحدث ويلزمه أن يتيمم إن وجد التراب ولا يجوز المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه في أيديهم للنهي عنه في الصحيحين، وخرج المصحف غيره نحو كتب الفقه والحديث وكتب التفسير، فلا يحرم حملها ولا مسها إلا أن يكون القرآن أكثر من التفسير أو مساوياً له فيحرم الحمل والمس لأنه حينئذ في معنى المصحف وفي ذلك زيادة ذكرتها في شرح المنهاج وغيره.
وقوله تعالى: {تنزيل} أي: منزل إليكم بالتدريج بحسب الوقائع والتقريب للإفهام والتأني والترقية من حال إلى حال وحكم إلى حكم بوسائط الرسل من الملائكة {من رب العالمين} أي: الخالق العالم بتربيتهم صفة القرآن أي: القرآن منزل من عند رب العالمين سمى المنزل تنزيلاً على اتساع اللغة كقوله تعالى: {هذا خلق الله} (لقمان: 11)
وأوثر المصدر لأن تعلق المصدر بالفاعل أكثر، وفي ذلك رد على قول من قال: بأن القرآن شعر أو سحر أو كهانة.
(11/433)
---(1/4486)
{أفبهذا الحديث} أي: القرآن الذي تقدمت أوصافه العالية وهو يتجدد إليكم إنزاله وقتاً بعد وقت {أنتم مدهنون} أي: متهاونون كمن يدهن في الأمر أي: يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به، قال ابن برّجان: الأدهان والمداهنة: الملاينة في الأمور والتغافل والركون إلى التجاوز ا.ه.
(11/434)
---
قال البقاعي: فهو على هذا إنكار على من سمع أحداً يتكلم في القرآن بما لا يليق ثم لا يجاهره بالعداوة، وأهل الاتحاد كابن عربي الطائي صاحب الفصوص، وابن الفارض صاحب التائية، أول من صوبت إليه هذه الآية فإنهم تكلموا في القرآن على وجه يبطل الدين أصلاً ورأساً ويحله عروة عروة، فهم أضر الناس على هذا الدين ومن يتأوّل لهم أو ينافح عنهم أو يعتذر لهم أو يحسن الظنّ بهم مخالف لإجماع الأمّة أنجس حالاً منهم فإنّ مراده إبقاء كلامهم الذي لا أفسد للإسلام منه من غير أن يكون لإبقائه مصلحة ما بوجه من الوجوه ا.ه. وجرى ابن المقري في روضه على كفر من شك في كفر طائفة ابن العربي الذين ظاهر كلامهم عند غيرهم الاتحاد، وهو بحسب ما فهمه من ظاهر كلامهم، ولكن كلام هؤلاء جار على اصطلاحهم إذا اللفظ المصطلح عليه حقيقة في معناه الاصطلاحي مجاز في غيره، والمعتقد منهم لمعناه معتقد لمعنى صحيح؛ وأمّا من اعتقد ظاهره من جهلة الصوفية الذين لا علم عندهم بل أكثرهم يدعي أنّ العلم حجاب ومدعي ذلك هو المحجوب فإنه يعرّف فإن استمرّ على ذلك بعد معرفته صار كافراً. فنسأل الله تعالى التوفيق والعصمة.
ولما كان هذا القرآن متكفلاً بسعادة الدارين قال تعالى: {وتجعلون رزقكم} أي: حظكم ونصيبكم وجميع ما تنتفعون به من هذا الكتاب وهو نفعكم كله {أنكم تكذبون} فتضعون الكذب مكان الشكر كقوله تعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} (الأنفال: 35)
(11/435)
---(1/4487)
أي: لم يكونوا يصلون ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصلاة، قال القرطبي: وفيه بيان أنّ ما أصاب العباد من خير فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسباباً بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة أو صبر إن كان مكروهاً تعبداً له وتذللاً، وعن ابن عباس: أنّ المراد به الاستسقاء بالأنواء، وهو قول العرب مطرنا بنوء كذا؛ ورواه علي بن أبي طالب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: «مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر فقال بعضهم: هذه رحمة الله تعالى وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا قال: فنزلت هذه الآية {فلا أقسم بمواقع النجوم} حتى بلغ {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}».
(11/436)
---(1/4488)
وفيه أيضاً «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فعطشوا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أرأيتم إن دعوت الله تعالى لكم فسقيتم لعلكم أن تقولوا هذا المطر بنوء كذا فقالوا: يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء فصلى ركعتين ودعا الله تعالى، فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمطروا، فمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول سقينا بنوء كذا ولم يقل هذا من رزق الله تعالى فنزلت {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}». أي: شكراً الله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بالنعمة، وتقولون: سقينا بنوء كذا كقول القائل: جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ وجعلت إنعامي لديك أن اتخذتني عدوّاً، قال الشافعي: لا أحب لأحد أن يقول مطرنا بنوء كذا وإن كان النوء عندنا الوقت لا يضرّ ولا ينفع ولا يمطر ولا يحبس شيئاً من المطر، والذي أحب أن يقول: مطرنا وقت كذا كما يقول مطرنا شهر كذا، ومن قال مطرنا بنوء كذا وهو يريد أن النوء أنزل الماء كما يقول أهل الشرك فهو كافر حلال دمه إن لم يتب. وحاصله إن اعتقد أنّ النوء هو الفاعل حقيقة فهو كافر وإلا فيكره له ذلك كراهة تنزيه، وسبب الكراهة: أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره فيساء الظنّ بقائلها ولأنها من شعار الجاهلية ومن سلك مسلكهم
(11/437)
---(1/4489)
ثم بين سبحانه أنه لا فاعل لشيء في الحقيقة سواه بقوله تعالى: {فلولا} وهي: أداة تفهم طلباً بزجر وتوبيخ وتقريع بمعنى فهلا ولم لا {إذا بلغت الحلقوم} أي: بلغت الروح منكم ومن غيركم عند الاحتضار الحلقوم، أضمرت من غير ذكر لدلالة الكلام عليها دلالة ظاهرة، وفي الحديث: «أن ملك الموت له أعوان يقطعون العروق ويجمعون الروح شيئاً فشيئاً حتى تنتهي إلى الحلقوم فيتوفاها ملك الموت». والحلقوم مجرى الطعام في الحلق والحلق مساغ الطعام والشراب معروف فكان الحلقوم أدنى الحلق إلى جهة اللسان {وأنتم} أي: والحال أنكم أيها العاكفون حول المحتضر المتوجعون له {حينئذ} أي: بلغت الروح ذلك الموضع {تنظرون} أي: إلى أمري وسلطاني، أو إلى الميت ولا حيلة لكم ولا فعل بغير النظر ولم يقل: تبصرون لئلا يظنّ أنّ لهم إدراكاً بالبصر لشيء من البواطن من حقيقة الروح ونحوها {ونحن} أي: والحال أنا نحن بما لنا من العظمة {أقرب إليه} أي: المحتضر بعلمنا وقدرتنا {منكم} على شدّة قربكم منه، قال عامر بن قيس: ما نظرت إلى شيء إلا رأيت الله أقرب إليّ منه {ولكن لا تبصرون} من البصيرة أي: لا تعلمون ذلك {فلولا} أي: فهلا {إن كنتم} أيها المكذبون بالعبث {غير مدينين} أي: مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم، أو مقهورين مملوكين مجزيين محاسبين بما عملتم في دار البلاء التي أقامكم فيها أحكم الحاكمين، من دانه إذا ذله واستعبده، وأصل تركيب دان للذل والإنقياد قاله البيضاوي {ترجعونها} أي: الروح إلى ما كانت عليه {إن كنتم} كوناً ثابتاً {صادقين} فيما زعمتم فلولا الثانية تأكيد للأولى، وإذ ظرف لترجعون المتعلق به الشرطان؛ والمعنى: أنكم في جحودكم أفعال الله تعالى وآياته في كل شيء أن أنزل عليكم كتاباً معجزاً قلتم سحر وافتراء، وإن أرسل إليكم رسولاً صادقاً قلتم ساحر كذاب، وإن رزقكم مطراً يحييكم به قلتم صدق نوء كذا على مذهب يؤدي إلى الإهمال والتعطيل، فما لكم لا(1/4490)
(11/438)
---
ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثم قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدئ المعيد.
ثم ذكر تعالى طبقات الخلق عند الموت وبين درجاتهم فقال عز من قائل: {فأما إن كان} المتوفى {من المقرّبين} السابقين الذين اجتذبهم الحق من أنفسهم فقرّبهم منه فكانوا مرادين قبل أن يكونوا مريدين، وليس القرب قرب مكان لأنه تعالى منزه عنه وإنما هو بالتخلق بالصفات الشريفة على قدر الطاقة البشرية ليصير الإنسان روحاً خالصاً كالملائكة لا سبيل إلى الحظوظ والشهوات عليها وقوله تعالى: {فروح} مبتدأ خبره مقدّر قبله أي: فله روح، أي: راحة ورحمة وما ينعشه من نسيم الريح. وقال سعيد بن جبير: فله فرج، وقال الضحاك: مغفرة ورحمة {وريحان} أي: رزق عظيم ونبات حسن بهيج وأزاهير طيبة الرائحة، وقال مقاتل: هو بلسان حمير رزق، يقال: خرجت أطلب ريحان الله أي: رزقه؛ وقيل: هو الريحان الذي يشم؛ قال أبو العالية: لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه ثم تقبض روحه؛ وقال أبو بكر الوراق: الروح النجاة من النار والريحان دخول دار القرار {وجنت} أي: بستان جامع الفواكه والرياحين {نعيم} أي: ذات تنعم ليس فيها غيره وأهله مقصورة عليهم.
تنبيه: جنت هنا مجرورة التاء ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، فالكسائي بالأمالة في الوقف على أصله، والباقون بالتاء على المرسوم.
(11/439)
---(1/4491)
{وأما إن كان} المتوفى {من أصحاب اليمين} أي: الذين هم في الدرجة الثانية من أصحاب الميمنة {فسلام لك} أي: يا صاحب اليمين {من} إخوانك {أصحاب اليمين} أي: يسلمون عليك كقوله تعالى: {إلا قيلاً سلاماً سلاما} وقال القرطبي: فسلام لك من أصحاب اليمين أي: لست ترى منهم إلا ما تحبّ من السلامة فلا تهتم لهم فإنهم يسلمون من عذاب الله تعالى؛ وقيل المعنى: سلام لك منهم، أي: أنت سالم من الاعتمام لهم والمعنى واحد؛ وقيل: أصحاب اليمين يدعون لك يا محمد بأن يصلي الله عليك ويسلم؛ وقيل معناه: سلمت أيها العبد مما تكره فإنك من أصحاب اليمين فحذف إنك؛ وقيل: إنه يحيى بالسلام تكرّماً؛ وعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقوال: أحدها: عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت قاله الضحاك، وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام، الثاني: عند مسألته في القبر يسلم عليه منكر ونكير، الثالث: عند بعثه في القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها؛ قال القرطبي: ويحتمل أن يسلم عليه في المواطن الثلاثة ويكون ذلك إكراماً بعد إكرام.
ولما ذكر تعالى الصنفين الناجيين أتبعهما الهالكين جامعاً لهم في صنف واحد لأنّ من أريدت له السعادة يكفيه ذلك ومن ختم له بالشقاوة والعياذ بالله تعالى لا ينفعه الإغلاظ والإكثار فقال تعالى: {وأما إن كان} المتوفى {من المكذبين} الذين أخذناه من أصحاب المشأمة وأنتم حوله تتقطع أكبادكم له ولا تقدرون له على شيء أصلاً {الضالين} أي: عن الهدى وطريق الحق {فنزل من حميم} كما قال تعالى: {ثم إنكم أيها الضالون المكذبون} إلى أن قال: {فشاربون شرب الهيم} وقال تعالى: {ثم إنّ لهم عليها لشوباً من حميم} (الصافات: 67)
(11/440)
---(1/4492)
أي: ماء متناه في الحرارة بعد ما نالوا من العطش كما يرد أصحاب الميمنة الحوض كما يبادر به للقادم ليبرد به غلة عطشه ويغسل به وجهه ويديه {وتصلية جحيم} أي: ونزل من تصلية جحيم، والمعنى: إدخال في النار؛ وقيل: إقامة في الجحيم ومقاساة لأنواع عذابها، يقال: أصلاه النار وصلاه أي: جعله يصلاها والمصدر هنا مضاف إلى المفعول كما يقال: لفلان إعطاء ما له أي: يعطي المال {إن هذا} أي: الذي ذكر في هذه السورة من أمر البعث الذي كذبوا به في قولهم: إننا لمبعوثون ومن قيام الأدلة عليه {لهو حق اليقين} أي: حق الخبر اليقين أي: لما عليه من الأدلة القطعية المشاهدة كأنه مشاهد مباشر، وقيل: إنما جاز إضافة الحق إلى اليقين وهما واحد لاختلاف لفظهما وذلك من باب إضافة المترادفين
(11/441)
---(1/4493)
ولما حقق له تعالى إلى هذا اليقين سبب عن أمره لنبيه صلى الله عليه وسلم بالتنزيه عما وصفوه به مما يلزم منه وصفه بالعجز فقال تعالى: {فسبح} أي: أوقع التنزيه كله عن كل شائبة نقص بالاعتقاد والقول والفعل بالصلاة وغيرها بأن تصفه بكل ما وصف به نفسه من الأسماء الحسنى وتنزهه عن كل ما نزه نفسه عنه {باسم ربك} أي: المحسن إليك بما خصك به مما لم يعطه أحداً غيرك وإذا كان هذا لاسمه فكيف بما هو له {العظيم} الذي ملأت عظمته جميع الأقطار والأكوان وزادت على ذلك بما لا يعلمه حق العلم سواه، لأنّ من له هذا الخلق على هذا الوجه المحكم وهذا الكلام الأعز الأكرم لا ينبغي لشائبة نقص أن تلم بجنابه أو تدنو من فناء بابه، وعن عقبة بن عامر قال: «لما نزلت {فسبح باسم ربك العظيم} قال النبيّ صلى الله عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت {سبح اسم ربك الأعلى} قال النبي صلى الله عليه وسلم اجعلوها في سجودكم». خرجه أبو داود وعن أبي ذر قال: «قال لي عليه الصلاة والسلام: ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله تعالى سبحان الله وبحمده». وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» هذا الحديث آخر حديث في البخاري وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال: «سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة». «روى أبو طيبة عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً» ورواه البيهقي وغيره وكان أبو طيبة لا يدعها أبداً وأخرجه ابن الأثير في كتابه جامع الأصول ولم يعزه.
سورة الحديد
مكية أو مدنية وهي تسع وعشرون آية وخمسمئة وأربع وأربعون كلمة وألفان وأربعمئة وستة وسبعون حرفاً
(11/442)
---(1/4494)
{بسم الله} الذي أحاطت هيبته بجميع الموجودات {الرحمن} الذي وسعهم جوده في جميع الحركات والسكنات {الرحيم} الذي خص أهل ولايته بما يرضيه من العبادات
ولما ختمت الواقعة بالأمر بتنزيهه عما أنكره الكفرة من البعث جاءت هذه لتقرير ذلك التنزيه فقال تعالى:
(11/443)
---
{سبح لله} أي: الملك المحيط بجميع صفات الكمال {ما في السموات} أي: الإجرام العالية والذي فيها {والأرض} والذي فيها أي: نزهه كل شيء فاللام مزيدة وجيء بما دون من تغليباً للأكثر {وهو} أي: وحده {العزيز} الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} أي: الذي أتقن كل شيء صنعه، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بضمها {له} أي: وحده {ملك السموات والأرض} وما فيهما وما بينهما ظاهراً أو باطناً فالملك الظاهر ما هو الآن موجود في الدنيا من أرض مدحية وسماء مبنية وكواكب مضية وأفلاك ورياح وسحاب مرئية وغير ذلك مما يحيط به علمه تعالى والملك الباطن الغائب عنا وأعظمه المضاف إلى الآخرة وهو الملكوت {يحيي} أي: له صفة الإحياء فيحيي ما شاء من الخلق بأن يوجده على صفة الحياة كيف شاء في أطوار يقلبها كيف شاء ومما شاء {ويميت} أي: له هاتان الصفتان على سبيل الاختيار والتجدد والاستمرار فهو قادر على البعث بدليل ما ثبت له من صفة الإحياء {وهو على كل شيء} أي: من الإحياء والإمانة وغيرهما من كل ممكن {قدير} أي: بالغ القدرة.
(11/444)
---(1/4495)
{هو} أي: وحده {الأول} بالأزلية قبل كل شيء فلا أوّل له، والقديم الذي منه وجود كل شيء، وليس وجوده من شيء لأنّ كل ما نشاهده متأثر لأنه متغير وكل ما كان كذلك فلا بدّ له من موجد غير متأثر ولا متغير {والآخر} أي: بالأبدية الذي ينتهي إليه وجود كل شيء في سلسلة الترقي وهو بعد فناء كل شيء باق فلا آخر له، لأنه يستحيل عليه نعت العدم لأنّ كل ما سواه متغير وكل ما تغير بنوع من التغير جاز إعدامه وما جاز إعدامه فلا بدّ له من معدم يكون بعده ولا يمكن إعدامه {والظاهر} أي: الغالب العلي على كل شيء {والباطن} أي: العالم بكل شيء هذا معنى قول ابن عباس، وقال يمان: هو الأوّل القديم والآخر الرحيم والظاهر الحكيم والباطن العليم؛ وقال السدي: هو الأول ببره إذ عرفك توحيده والآخر بجوده إذ عرفك التوبة على ما جنيت والظاهر بتوفيقه إذ وفقك للسجود له والباطن بستره إذ عصيته فستر عليك؛ وقال الجنيد: هو الأول بشرح القلوب والآخر بغفران الذنوب والظاهر بكشف الكروب والباطن بعلم الغيوب؛ وسأل عمر كعباً عن هذه الآية فقال: معناها أن علمه بالأوّل كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن {وهو بكل شيء عليم} أي: لكون الأشياء عنده على حد سواء والبطون والظهور إنما هو بالنسبة إلى الخلق، وأما هو سبحانه وتعالى فلا باطن من الخلق عنده بل هم في غاية الظهور لديه لأنه الذي أوجدهم.
(11/445)
---(1/4496)
فإن قيل: ما معنى هذه الواوات؟ أجيب: بأنّ الواو الأولى: معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية؛ والثالثة: أنه الجامع بين الظهور والخفاء، وأمّا الوسطى: فعلى أنه الجامع بين الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الآخريين فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والحاضرة والآتية وهي في جميعها ظاهر وباطن جامع للظهور بالأدلة والخفاء فلا يدرك بالحواس؛ قال الزمخشري: وفي هذا حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة وهذا على رأيه الفاسد وهو على رأي المعتزلة المنكرين رؤية الله تعالى في الآخرة؛
وأما أهل السنة فإنهم يثبتون الرؤية للأحاديث الدالة على ذلك من غير تشبيه ولا تكييف تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً؛ وعن سهل قال: كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول: اللهمّ ربّ السموات والأرض ربّ العرش العظيم ربنا ورب كل شيء، فالق الحبّ والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شرّ كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهمّ أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من فضلك. وكان يروى ذلك عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
(11/446)
---(1/4497)
{هو} أي: وحده {الذي خلق السموات} وجمعها لعلم العرب بتعددها {والأرض} أي: الجنس الشامل للكل وأفردها لعدم توصلهم إلى العلم بتعدّدها وقال تعالى: {في ستة أيام} أي: من أيام الدنيا أولها الأحد وآخرها الجمعة سناً للتأني في الأمور وتقدير للأيام التي أوترها سابعها الذي خلق فيه الإنسان الذي دل يوم خلقه باسمه الجمعة على أنه المقصود بالذات وبأنه السابع نهاية المخلوقات وقوله تعالى: {ثم استوى على العرش} أي: السرير كناية عن انفراده بالتدبير وإحاطة قدرته وعلمه، كما يقال في ملوكنا جلس فلان على سرير الملك بمعنى: أنه انفرد بالتدبير لا يكون هناك سرير فضلاً عن جلوس وأتى بأداة التراخي تنبيهاً على عظمته {يعلم ما يلج} أي: يدخل دخولاً يغيب فيه {في الأرض} أي: من النبات وغيره من أجزاء الأموات وغيرها وإن كان ذلك في غاية البعد فإنّ الأماكن كلها بالنسبة إليه تعالى على حد سواء في القرب والبعد {وما يخرج منها} كذلك.
(11/447)
---(1/4498)
تنبيه: في التعبير بالمضارع دلالة على ما أودع في الخافقين من القوى فصارا بحيث يتجدد منهما ذلك بخلقه تجدّد مستمرّاً إلى حين خرابهما {وما ينزل من السماء} من الوحي والأمطار والحرّ والبرد وغيرها من الأعيان والمنافع التي يوجدها سبحانه وتعالى من مقادير أعمار بني آدم وأرزاقهم وغيرها من جميع شؤونهم {وما يعرج} أي: يصعد ويرتقي ويغيب {فيها} كالأبخرة والأنوار والكواكب والأعمال وغيرها ولم يجمع السماء لأنّ المقصود حاصل بالواحدة مع إفهام التعبير بها الجنس الشامل للكل {وهو معكم} بالعلم والقدرة أيها الخلق {أينما كنتم} لا ينفك علمه وقدرته عنكم بحال فهو عالم بجميع أموركم وقادر عليكم تعالى الله عن اتصال بالعالم ومماسة أو انفصال عنه بغيبة أو مسافة {والله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {بما تعملون} أي: على سبيل التجدّد والاستمرار {بصير} أي: عالم بجليله وحقيرة فيجازيكم به وقدم الجار لمزيد الاهتمام والتنبيه على تحقيق الإحاطة {له} أي: وحده {ملك السموات} وجمع لاقتضاء المقام له {والأرض} وأفرد لخفاء تعدّدها عليهم مع إرادة الجنس، ودل على إرادة ملكه وإحاطته بقوله تعالى: {وإلى الله} أي: الملك الذي لا كفؤ له وحده {ترجع} بكل اعتبار على غاية السهولة {الأمور} أي: كلها حساً لبعث ومعنى بالابتداء والإفناء ودل على ذلك بقوله تعالى: {يولج} أي: يدخل ويغيب بالنقص والمحو {الليل في النهار} فإذا هو قد قصر بعد طوله وقد انمحى بعد شخوصه وحلوله، وزاد النهار وملأ الضياء الأقطار بعد ذلك الظلام {ويولج النهار} الذي عمّ الكون ضياؤه {في الليل} الذي كان قد غاب في علمه فإذا الظلام قد طبق الآفاق فيزيد الليل والطول الذي كان في النهار قد صار نقصاً {وهو} أي: وحده {عليم} أي: بالغ العلم {بذات الصدور} أي: بما فيها من الأسرار والمعتقدات على كثرة اختلافها وتغيرها وإن خفيت على أصحابها.
(11/448)
---(1/4499)
ولما قامت الأدلة على تنزيهه سبحانه قال تعالى آمراً بالإذعان له ولرسوله صلى الله عليه وسلم
(11/449)
---
{آمنوا} أي: أيها الثقلان {بالله} أي: الملك الأعظم الذي لا مثل له {ورسوله} الذي عظمته من عظمته، ونزل في غزوة العسرة وهي غزوة تبوك {وأنفقوا} أي: في سبيل الله {مما جعلكم مستخلفين فيه} أي: من الأموال التي في أيديكم فإنها أموال الله تعالى لأنها بخلقه وإنشائه لها، وإنما موّلكم إياها وخولكم بالاستمتاع بها وجعلكم خلفاء في التصرّف فيها فليست هي بأموالكم في الحقيقة وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه، أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما في أيديكم بتوريثه إياكم فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم وسينقل منكم إلى من بعدكم، فلا تبخلوا به وانفعوا بالإنفاق منها أنفسكم.
ولما أمر تعالى بالإنفاق ووصفه بما سهله سبب عنه ما يرغب فيه فقال تعالى: {فالذين آمنوا منكم وأنفقوا} من أموالهم في الوجوه التي ندب إليها على وجه الإصلاح على ما دلّ عليه التعبير بالإنفاق {لهم أجر كبير} أي: لا تبلغ عقولكم حقيقة كبره فاغتنموا الإنفاق في أيام استخلافكم قبل عزلكم وإتلافكم، وخصهم بالذكر بقوله تعالى: {منكم} لضيق في زمانهم، وقيل: إنّ ذلك إشارة إلى عثمان فإنه جهز جيش العسرة.
(11/450)
---(1/4500)
وقوله تعالى: {وما} أي: وأيّ شيء {لكم} من الأعذار أو غيرها في أنكم أو حال كونكم {لا تؤمنون بالله} أي: تجدّدون الإيمان تجديداً مستمراً بالملك الأعلى، أي: الذي له الملك كله والأمر كله خطاب للكفار، أي: لا مانع لكم بعد سماعكم ما ذكر {والرسول} أي: والحال أن الذي له الرسالة العامة {يدعوكم} في الصباح والمساء {لتؤمنوا} أي: لأجل أن تؤمنوا {بربكم} الذي أحسن تربيتكم بأن جعلكم من أمّة هذا النبيّ الكريم فشرفكم به {وقد} أي: والحال أنه قد {أخذ ميثاقكم} أي: وقع أخذه فصار في غاية القباحة، ترك التوثق بسبب نصب الأدلة والتمكين من النظر بإبداع العقول وذلك كله منضم إلى أخذ الذرّية من ظهر آدم عليه السلام حين أشهدهم على أنفسهم {ألست بربكم قالوا بلى} (الأعراف: 172)
(11/451)
---(1/4501)
وقرأ أبو عمرو: بضم الهمزة وكسر الخاء ورفع القاف على البناء للمفعول ليكون المعنى: من أيّ أخذ كان من غير نظر إلى معين وقرأ الباقون بفتح الهمزة والخاء ونصب القاف على البناء للفاعل والآخذ هو الله القادر على كل شيء العالم بكل شيء، والحاصل: أنهم نقضوا الميثاق في الإيمان فلم يؤاخذهم حتى أرسل الرسل {إن كنتم مؤمنين} أي: مريدين الإيمان فبادروا إليه {هو} أي: لا غيره {الذي ينزل} أي: على سبيل التدريج والموالاة بحسب الحاجة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي {على عبده} الذي هو أحق الناس بحضرة جماله وإكرامه وهو محمد صلى الله عليه وسلم {آيات} أي: علامات هي من ظهورها حقيقة أن يرجع إليها ويتعبد بها {بينات} أي: واضحات وهي آيات القرآن الكريم {ليخرجكم} أي: الله بالقرآن أو عبده بالدعوة {من الظلمات} التي أنتم منغمسون فيها من الحظوظ والنقائص التي جبل عليها الإنسان والغفلة الكاملة على تراكم الجهل، فمن آتاه الله تعالى العلم والإيمان فقد أخرجه من هذه الظلمات التي طرأت عليه {إلى النور} الذي كان له وصفاً لروحه وفطرته الأولى السليمة {وإن الله} أي: الذي له صفات الكمال {بكم لرؤوف رحيم} أي: حيث نبهكم بالرسل والآيات ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بقصر الهمزة، والباقون بالمدّ، وورش على أصله بالمدّ والتوسط والقصر، وليس قصره كقصر أبي عمرو ومن معه وإنما قصره كمدّ قالون ومن وافقه {وما} أي: وأي شيء يحصل {لكم} في {أن لا تنفقوا} أي: توجدوا الإنفاق للمال {في سبيل الله} أي: في كل ما يرضى الملك الأعظم الذي له صفات الكمال ليكون لكم به وصلة فيخصكم بالرأفة التي هي أعظم الرحمة، فإنه ما يبخل أحد عن وجه خير إلا سلط الله عليه غرامة في وجه شرّ {ولله} أي: الذي له صفات الكمال لا سيما صفة الإرث المقتضية للزهد في الموروث {ميراث السموات(1/4502)
(11/452)
---
والأرض} أي: يرث كل شيء فيهما فلا يبقى لأحد مال فمن تأمّل أنه زائل هو وكل ما في يده والموت من ورائه وطوارق الحوادث مطبقة به وعما قليل ينقل ما في يده إلى غيره هان عليه الجود بنفسه وماله
s
ثم بين تعالى التفاوت بين المنفقين منهم فقال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق} أي: أوجد الإنفاق في ماله وجميع قواه وما يقدر عليه {من قبل الفتح} أي: الذي هو فتح جميع الدنيا في الحقيقة وهو فتح مكة الذي كان سبباً لظهور الدين الحق {وقاتل} سعياً في إنفاق نفسه لمن آمن به قبل الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً وقله الحاجة إلى القتال والنفقة فيه ومن أنفق من بعد الفتح، فحذف لوضوحه ودلالة ما بعده عليه، وفضل الأوّل لما ناله إذ ذاك بالإنفاق من كثرة المشاق لضيق المال حينئذ، وفي هذا دليل على فضل أبي بكر فإنه أوّل من أنفق لم يسبقه في ذلك أحد، وخاصم الكفار حتى ضرب ضرباً شديداً أشرف منه على الهلاك، روى محمد بن فضيل عن الكلبي: أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضى الله عنه، وعن ابن عمر قال: «كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال: مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها بخلال؟ فقال: أنفق ماله عليّ قبل الفتح قال: فإنّ الله عز وجل يقول: اقرأ عليه السلام وقل له: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال أبو بكر: أسخط على ربي إني عن ربي راض» {أولئك} أي: المنفقون المقاتلون وهم السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلع مدّ أحدهم ولا نصيفه» لمبادرتهم إلى الجود بالنفس والمال {أعظم درجة} وتعظيم الدرجة يكون لعظم صاحبها {من الذين أنفقوا من بعد} أي: من بعد الفتح {وقاتلوا} أي: من بعد الفتح {وكلا} أي: وكل واحد من الفريقين {وعد الله} أي: الذي له(1/4503)
الجلال
(11/453)
---
والإكرام {الحسنى} أي: المثوبة الحسنى وهي: الجنة مع تفاوت الدرجات، وقرأ ابن عامر: برفع اللام على الابتداء أي: وكل وعده ليطابق ما عطف عليه والباقون بنصبها أي: وعد كلا {والله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة بجميع صفات الكمال {بما تعملون} أي: تجدّدون عمله على الأوقات {خبير} أي: عالم بباطنه وظاهره علماً لا مزيد عليه بوجه فهو يجعل جزاء الأعمال على قدر النيات التي هي أرواح صورها.
تنبيه: التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدين وقد يكون في أحكام الدنيا فأمّا التقدّم في أحكام الدين فقالت عائشة «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم وأعظم المنازل مرتبة الصلاة» وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» وقال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» وقال: «فليؤمكما أكبركما» وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين فمن قدّم في الدين قدّم في الدنيا، وفي الحديث «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا» وفي الحديث: «ما أكرم شاب شيخاً لسنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه»
(11/454)
---(1/4504)
ثم رغب في الإنفاق بقوله تعالى: {من} وأكد بالإشارة بقوله تعالى: {ذا} لأجل ما للنفوس من الشح {الذي يقرض الله} أي: يعطي الذي له جميع صفات الجلال والإكرام شبه ذلك بالقرض على سبيل المجاز لأنه إذا أعطى المستحق ما له لوجه الله تعالى فكأنه أقرضه إياه {قرضاً حسناً} أي: طيباً خالصاً مخلصاً فيه متحرياّ به أفضل الوجوه من غير منّ وكدر بتسويف وغيره {فيضاعفه له} أي: يؤتي أجره من عشرة إلى أكثر من سبعمئة كما ذكره في البقرة إلى ما شاء الله تعالى من الأضعاف، وقيل: القرض الحسن أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وقال زيد بن أسلم: هو النفقة على الأهل، وقال الحسن: التطوع بالعبادات، وقرأ ابن عامر وعاصم بنصب الفاء بعد العين والباقون بالرفع وقرأ ابن كثير وابن عامر بغير ألف بعد الضاد وتشديد العين، والباقون بألف بعد الضاد وتخفيف العين {وله} أي: للمقرض زيادة على ذلك {أجر} لا يعلم قدره إلا الله تعالى وهو معنى وصفه بقوله تعالى: {كريم} أي: حسن طيب زاك تامّ وقوله تعالى:
(11/455)
---(1/4505)
{يوم} ظرف لقوله تعالى: {وله أجر كريم} أو منصوب بإضمار أذكر أي: واذكر يوم {ترى} أي: بالعين {المؤمنين والمؤمنات} أي: الذين صار الإيمان لهم صفة راسخة {يسعى نورهم} أي: ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة {بين أيديهم وبأيمانهم} لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أنّ الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم فيجعل النور في الجهتين شعار لهم وآية لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا وبصحائفهم البيض أفلحوا، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومرّوا على الصراط يسعون يسعى معهم ذلك النور حبيباً لهم ومتقدّماً، والأوّل: نور الإيمان والمعرفة والأعمال المقبولة، والثاني: نور الإنفاق لأنه بالإيمان نبه عليه الرازي وقال قتادة: ذكر لنا أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم «قال من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن ودون ذلك حتى أنّ من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه». وقال عبد الله بن مسعود: «يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نوراً نوره على إبهامه فيطفأ مرة ويتقد أخرى ويقول لهم الذين يتلقونهم من الملائكة: {بشراكم اليوم} أي: بشارتكم العظيمة في جميع ما يستقبلكم من الزمان.
تنبيه: {بشراكم اليوم} مبتدأ واليوم ظرف وقوله تعالى: {جنات} خبره على حذف مضاف أي: دخول جنات وهو المبشر به ثم وصفها بما لا تكمل اللذة إلا به بقوله: {تجري من تحتها الأنهار} ثم آمنهم من خوف الانقطاع بقوله تعالى: {خالدين فيها} أي: خلوداً لا آخر له لأنّ الله تعالى أورثهم ذلك فلا يورث عنه لأنّ الجنة لا موت فيها {ذلك} أي: هذا الأمر العظيم المتقدّم من النور والبشرى بالجنات المخلدة {هو الفوز العظيم} أي: الذي ملأ بعظمته جميع جهاتهم.
(11/457)
---(1/4506)
ولما شرح تعالى حال المؤمنين في موقف القيامة أتبع ذلك بشرح حال المنافقين بقوله: {يوم يقول المنافقون والمنافقات} وهم المظهرون الإيمان المبطنون الكفر.
تنبيه: يوم بدل من يوم ترى أو منصوب بأذكر {للذين آمنوا} أي: ظاهراً وباطناً {انظرونا} أي: انتظرونا لأنه يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف على ركائب تزف بهم وهؤلاء مشاة، أو انظروا إلينا لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به، وقرأ حمزة: بقطع الهمزة في الوصل وكسر الظاء والباقون بوصل الهمزة ورفع الظاء، وأما الوقف على آمنوا والابتداء بانظرونا فحمزة على حاله كما يقرأ في الوصل، والباقون بضم همزة الوصل في الابتداء والظاء على حالها من الضم {نقتبس} أي: نستضيء {من نوركم} أي: هذا الذي نراه لكم ولا يلحقنا منه شيء كما كنا في الدنيا نرى إيمانكم بما نرى من ظواهركم ولا نتعلق من ذلك بشيء، {جزاء وفاقاً} (النبأ: 26)
وذلك لأنّ الله تعالى يضيء للمؤمنين نوراً على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين أيضاً نوراً خديعة لهم وهو قوله تعالى: {وهو خادعهم} (التحريم: 8)
(11/458)
---(1/4507)
فبينما هم يمشون إذ بعث الله ريحاً وظلمة فأطفأت نور المنافقين فذلك قوله تعالى: {يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه} الآية مخافة أن يسلبوا نورهم كما سلب نور المنافقين والقبس الشعلة من النار أو السراج، قال ابن عباس وأبو إمامة: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة؛ قال الماوردي: أظنها بعد فصل القضاء ثم يعطون نوراً يمشون فيه؛ وقال الكلبي: بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور فإذا سبقهم المؤمنون وبقوا في الظلمة قالوا للمؤمنين: {انظرونا نقتبس من نوركم} قيل لهم جواباً لسؤالهم؛ قال ابن عباس يقول لهم المؤمنون: أي: قول ردّ وتوبيخ وتهكم وتنديم {ارجعوا وراءكم} أي: ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا النور {فالتمسوا نوراً} هناك فمن ثم يقتبس أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان أو ارجعوا خائبين وتنحوا عنا والتمسوا نوراً آخر فلا سبيل لكم إلى هذا النور، وقد علموا أن لا نور وراءهم وإنما هو تخييب وإقناط لهم، وقال قتادة: تقول لهم الملائكة: ارجعوا وراءكم من حيث جئتم، وقرأ هشام والكسائي: بضم القاف والباقون بكسرها.
(11/459)
---(1/4508)
ولما كان التقدير فرجعوا أو فأقاموا في الظلمة سبب عنه وعقب قوله تعالى: {فضرب بينهم} أي: بين المؤمنين والمنافقين {بسور} أي: حائط حائل بين شق الجنة وشق النار {له} أي: لذلك السور {باب} موكل به حجاب لا يفتحون إلا لمن أذن له الله تعالى من المؤمنين لما يهديهم إليه من نورهم الذي بين أيديهم بشفاعة أو نحوها {باطنه} أي: ذلك السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة من جهة الذين آمنوا جزاء لإيمانهم الذي هو غيب {فيه الرحمة} وهي ما لهم من الكرامة لأنه يلي الجنة التي هي ساترة تبطن من فيها بأشجارها وبأستارها كما كانت بواطنهم ملآنة رحمة {وظاهره} أي: ما ظهر لأهل النار {من قبله} أي: من عنده ومن جهته {العذاب} وهو الظلمة والنار لأنه يليها لاقتصار أهلها على الظواهر من غير أن يكون لهم نفوذ إلى باطن، وروي عن عبد الله بن عمر أنّ السور الذي ذكر الله تعالى في القرآن هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد وظاهره من قبله العذاب وادي جهنم.
(11/460)
---(1/4509)
وقال ابن سريج: كان كعب يقول: في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس إنه الباب الذي قال الله تعالى: {فضرب بينهم بسور له باب} الآية، وقيل: السور عبارة عن منع المنافقين عن طلب المؤمنين {ينادونهم} أي: ينادي المنافقون الذين آمنوا ويترققون لهم {ألم نكن معكم} أي: في الدنيا نصلي ونصوم فنستحق المشاركة فيما صرتم إليه بسبب ذلك الذي كنا معكم فيه {قالوا} أي: الذين آمنوا {بلى} أي: كنتم معنا في الظاهر {ولكنكم فتنتم أنفسكم} أهلكتموها بالنفاق والكفر واستعملتموها في المعاصي والشهوات وكلها فتنة {وتربصتم} أي: بالإيمان والتوبة وبمحمد صلى الله عليه وسلم وقلتم: يوشك أن يموت فنستريح منه {وارتبتم} أي: شككتم في الدين وفي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفيما وعدكم به {وغرّتكم الأمانيّ} أي: ما تتمنون من الإرادات التي معها شهوة عظيمة من الأطماع الفارغة التي لا سبب لها غير شهوة النفس إياها بما كنتم تتوقعون لنا من دوائر السوء {حتى جاء أمر الله} أي: قضاء الملك المتصف بجميع صفات الكمال فلا كفؤ له ولا خلف وقرأ قالون وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر، وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية، وأيضاً لهما إبدالها والباقون بتحقيقهما، وأمال الألف بعد الميم حمزة وابن ذكوان، والباقون بالفتح وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة الثانية مع المدّ والتوسط والقصر {وغرّكم بالله} أي: الملك الذي له جميع العظمة {الغرور} أي: من لا صنع له إلا الكذب وهو الشيطان فإنه يزين لكم بغروره التسويف ويقول: إنّ الله غفور رحيم وعفو كريم وماذا عسى أن تكون ذنوبكم عنده وهو عظيم ومحسن وحليم ونحو ذلك فلا يزال حتى يوقع الإنسان فإذا أوقعه واصل عليه مثل ذلك حتى يتمادى فإذا تمادى صار الباعث له حينئذ من قبل نفسه فصار طوع يده {فاليوم} أي: بسبب أفعالكم تلك {لا يؤخذ منكم فدية} أي: نوع من أنواع الفداء وهو البدل والعوض للنفس على أي حال كان من قلة أو(1/4510)
(11/461)
---
كثرة لأنّ الإله غني وقد فات محل العمل الذي شرعه لكم لانقياد أنفسكم، وقرأ ابن عامر بالتاء الفوقية على التأنيث والباقون بالتحتية على التذكير {ولا من الذين كفروا} أي: الذين أظهروا كفرهم ولم يستروه كما سترتموه أنتم لمساواتكم لهم في الكفر، وإنما عطف الكافر على المنافق وإن كان المنافق كافراً في الحقيقة لأنّ المنافق أبطن الكفر والكافر أظهره فصار غير المنافق فحسن عطفه على المنافق {مأواكم النار} أي: منزلكم ومسكنكم لا مقر لكم غيرها تحرقكم كما كنتم تحرقون قلوب الأولياء بإقبالكم على الشهوات وإضاعة حقوق ذوي الحاجات، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح، وورش لا يبدل هذه الهمزة ثم أكد ذلك بقوله تعالى: {هي} أي: لا غيرها {مولاكم} أي: هي أولى بكم وأنشد قول لبيد:
*
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ** مولى المخافة خلفها وأمامها*
والشاهد في مولى المخافة فمولى بمعنى أولى والفرجان الجانبان وهو الخلف والقدام وهو وصف بقرة وحشية أي: غدت على حالة كلا جانبيها مخوف وحقيقته في الآية محراكم بحاء مهملة وراء أي: مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل هو مئنة للكرم أي: مكان، كقول القائل: إنه لكريم، ويجوز أن يراد هي ناصركم، أي: لا ناصر لكم غيرها، والمراد: نفي الناصر على البنات، وقيل: تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار.
(11/462)
---(1/4511)
ولما كان التقدير بئس المولى هي عطف عليه قوله تعالى: {وبئس المصير} أي: هذه النار واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {ألم يأن} أي: يحن ويدرك وينتهي إلى الغاية {للذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان {أن تخشع} أي: تلين وتسكن وتخضع وتذل وتطمئن {قلوبهم لذكر الله} أي: الملك الأعظم الذي لا خير إلا منه فيصدق في إيمانه من كان كاذباً ويقوى في الدين من كان ضعيفاً فيعرض عن الفاني ويقبل على الباقي ولا يطلب لداء دينه دواء ولا لمرض قلبه شفاء في غير القرآن، فقال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، وعن ابن مسعود رضى الله عنه: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، وعن الحسن: أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل ما تقرؤون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق، وقيل: كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت؛ وعن أبي بكر رضى الله عنه: أنّ هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديداً فنظر إليهم وقال: هكذا كنا حتى قست القلوب وقال الشاعر:
*ألم يأن لي يا قلب أن نترك الجهلا ** وأن يحدث الشيب المنير لنا عقلا*
(11/463)
---(1/4512)
وقوله تعالى: {وما نزل من الحق} أي: القرآن عطف على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر لأن القرآن جامع للأمرين للذكر والموعظة أو أنه حق نازل من السموات؛ ويجوز أن يراد بالذكر أن يذكر الله تعالى، وقرأ نافع وحفص بتخفيف الزاي والباقون بالتشديد وقوله تعالى: {ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل} أي: قبل ما نزل إليكم وهم اليهود والنصارى معطوف على تخشع والمراد: النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكى عنهم بقوله تعالى: {فطال عليهم الأمد} أي: الأجل لطول أعمارهم أو آمالهم أو ما بينهم وبين أنبيائهم {فقست} أي: بسبب الطول {قلوبهم} أي: صلبت واعوجت بحيث لا تنفعل بالطاعات والخير فكانوا كل حين في تعنت جديد على أنبيائهم عليهم السلام يسألونهم المقترحات، وأما بعد أنبيائهم فابعدوا في القساوة فمالوا إلى دار الكدر وأعرضوا عن دار الصفاء فانجروا إلى الهلاك باتباع الشهوات؛ قال القشيري: وقسوة القلب إنما تحصل باتباع الشهوة فإن الشهوة والصفوة لا يجتمعان؛ وعن أبي موسى الأشعري: أنه بعث إلى قراء البصرة فدخل عليه ثلاث مئة رجل قد قرؤوا القرآن فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاقرؤه ولا تطيلوا عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم {وكثير منهم} أخرجته قساوته عن الدين أصلاً ورأسا فهم {فاسقون} أي: عريقون في صفة الإقدام على الخروج من دائرة الحق التي حدها لهم الكتاب حتى تركوا الإيمان بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وقوله تعالى:
(11/464)
---(1/4513)
{اعلموا أن الله} أي: الملك الأعظم الذي له الكمال كله فلا يعجزه شيء {يحيي} أي: على سبيل التجديد والاستمرار كما تشاهدونه {الأرض} أي: بالنبات {بعد موتها} أي: يبسها تمثيل لإحياء الأموات بجميع أجسادهم وإفاضة الأرواح عليها كما فعل بالنبات وكما فعل بالأجسام أول مرة، ولإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة فاحذروا سطوته واخشوا غضبه وارجوا رحمته، لإحياء القلوب فإنه قادر على إحيائها بروح الوحي كما أحيا الأرض بروح الماء لتصير بأحيائها بالذكر خاشعة بعد قسوتها كما صارت الأرض رابية بعد خشوعها وموتها.{{
(11/465)
---
ولما انكشف الأمر بهذه غاية الانكشاف أنتج قوله تعالى: {قد بينا} أي: على مالنا من العظمة {لكم الآيات} أي: العلامات النيرات {لعلكم تعقلون} أي: لتكونوا عند من يعلم ذلك ويمنعه من الخلائق على رجاء من حصول العقل لكم بما يتجدد لكم من فهمه على سبيل التواصل الدائم بالاستمرار
وقرأ: {إن المصدقين} أي: العريقين في هذا الوصف من الرجال {والمصدقات} أي: من النساء، ابن كثير وشعبة بتخفيف الصاد فيهما من التصديق بالإيمان والباقون بالتشديد فيهما من التصدق أدغمت التاء في الصاد أي: الذين تصدقوا وقوله تعالى: {وأقرضوا الله} أي: الذي له الكمال كله عطف على معنى الفعل في المصدقين لأنّ اللام بمعنى الذين واسم الفاعل بمعنى أصدقوا كأنه قيل: إنّ الذين أصدقوا وأقرضوا الله {قرضاً حسناً} أي: بغاية ما يكون من طيب النفس وإخلاص النية والنفقة في سبيل الخير وحسنه؛ كما قال الرازي: أن يصرف بصره عن النظر إلى فعله والنفقة وإلا متنا به وطلب العوض عليه {يضاعف} أي: ذلك القرض {لهم} من عشرة إلى سبعمائة كما مرّ لأنّ الذي كان له العرض كريم، وقرأ ابن كثير وابن عامر: بتشديد العين ولا ألف بينها وبين الضاد؛ والباقون بتخفيف العين وبينها وبين الضاد ألف {ولهم} أي: مع المضاعفة {أجر كريم} أي: ثواب حسن وهو الجنة والنظر إلى وجهه الكريم.(1/4514)
(11/466)
---
ثم بين سبحانه وتعالى الحامل على الصدقة ترغيباً فيه وهو الإيمان فقال تعالى: {والذين آمنوا} أي: أوجدوا هذه الحقيقة العظيمة في أنفسهم {بالله} أي: الملك الأعلى الذي له الجلال والإكرام {ورسله} أي: كلهم لأجل ما لهم من النسبة إليه فمن كذب واحد منهم لم يكن مؤمناً بالله تعالى: {أولئك} أي: هؤلاء العالو الرتبة {هم الصديقون} أي: الذين هم في غاية الصدق والتصديق لما يحق له أن يصدقه من سمعه؛ وقال القشيري الصديق من استوى ظاهره وباطنه؛ ويقال: هو الذي يحمل الأمر على الأشق ولا ينزل إلى الرخص ولا يجنح للتأويلات؛ وقال مجاهد: كل من آمن بالله تعالى ورسله عليهم السلام فهو صدّيق وتلا هذه الآية؛ وقال الضحاك: الآية خاصة في ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر بن الخطاب رضى الله عنهم ألحقه الله تعالى بهم لما عرف من صدق نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى آله، واختلف في نظم قوله تعالى: {والشهداء عند ربهم} أي: المحسن إليهم بالتربية لمثل تلك الرتبة العالية فمنهم من قال: هي متصلة بما قبلها والواو للنسق وأراد بالشهداء المؤمنين المخلصين، وقال الضحاك: هم التسعة الذين سميناهم رضي الله عنهم؛ وقال مجاهد: كل مؤمن صدّيق وشهيد وتلا هذه الآية، وقال قوم: تم الكلام عند قوله تعالى: {هم الصديقون} ثم ابتدأ بقوله تعالى: {والشهداء} فهو مبتدأ وخبره {لهم أجرهم} أي: جعله ربهم لهم {ونورهم} أي: الذي زادهموه من فضله برحمته قالوا: والواو للاستئناف وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ومسروق وجماعة؛ ثم اختلفوا فيهم فمنهم من قال: هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين يشهدون على الأمم يروى ذلك عن ابن عباس رضى الله عنهما وهو قول مقاتل بن حيان، وقال مقاتل بن سليمان: هم الذين استشهدوا في سبيل الله عز وجل.
(11/467)
---(1/4515)
ولما ذكر تعالى أهل السعادة جعلنا الله تعالى ووالدينا ومحبينا منهم جامعاً لأصنافهم أتبعهم أهل الشقاوة لذلك بقوله تعالى: {والذين كفروا} أي: ستروا ما دلت عليه الأدلة {وكذبوا بآياتنا} أي: على مالها من العظمة بنسبتها إلينا {أولئك} أي: هؤلاء البعداء من كل خير {أصحاب الجحيم} أي: النار التي هي غاية في توقدها وفي ذلك دليل على أنّ الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث أن التركيب يشعر بالاختصاص، والصحبة تدل على الملازمة عرفاً، وأما غيرهم من العصاة فدخولهم فيها ليس على وجه الصحبة الدالة على الملازمة.
(11/468)
---(1/4516)
ثم بين سبحانه وتعالى الحامل على الصدقة ترغيباً فيه وهو الإيمان فقال تعالى: {والذين آمنوا} أي: أوجدوا هذه الحقيقة العظيمة في أنفسهم {بالله} أي: الملك الأعلى الذي له الجلال والإكرام {ورسله} أي: كلهم لأجل ما لهم من النسبة إليه فمن كذب واحد منهم لم يكن مؤمناً بالله تعالى: {أولئك} أي: هؤلاء العالو الرتبة {هم الصديقون} أي: الذين هم في غاية الصدق والتصديق لما يحق له أن يصدقه من سمعه؛ وقال القشيري الصديق من استوى ظاهره وباطنه؛ ويقال: هو الذي يحمل الأمر على الأشق ولا ينزل إلى الرخص ولا يجنح للتأويلات؛ وقال مجاهد: كل من آمن بالله تعالى ورسله عليهم السلام فهو صدّيق وتلا هذه الآية؛ وقال الضحاك: الآية خاصة في ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر بن الخطاب رضى الله عنهم ألحقه الله تعالى بهم لما عرف من صدق نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى آله، واختلف في نظم قوله تعالى: {والشهداء عند ربهم} أي: المحسن إليهم بالتربية لمثل تلك الرتبة العالية فمنهم من قال: هي متصلة بما قبلها والواو للنسق وأراد بالشهداء المؤمنين المخلصين، وقال الضحاك: هم التسعة الذين سميناهم رضي الله عنهم؛ وقال مجاهد: كل مؤمن صدّيق وشهيد وتلا هذه الآية، وقال قوم: تم الكلام عند قوله تعالى: {هم الصديقون} ثم ابتدأ بقوله تعالى: {والشهداء} فهو مبتدأ وخبره {لهم أجرهم} أي: جعله ربهم لهم {ونورهم} أي: الذي زادهموه من فضله برحمته قالوا: والواو للاستئناف وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ومسروق وجماعة؛ ثم اختلفوا فيهم فمنهم من قال: هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين يشهدون على الأمم يروى ذلك عن ابن عباس رضى الله عنهما وهو قول مقاتل بن حيان، وقال مقاتل بن سليمان: هم الذين استشهدوا في سبيل الله عز وجل.
(11/469)
---(1/4517)
ولما ذكر تعالى أهل السعادة جعلنا الله تعالى ووالدينا ومحبينا منهم جامعاً لأصنافهم أتبعهم أهل الشقاوة لذلك بقوله تعالى: {والذين كفروا} أي: ستروا ما دلت عليه الأدلة {وكذبوا بآياتنا} أي: على مالها من العظمة بنسبتها إلينا {أولئك} أي: هؤلاء البعداء من كل خير {أصحاب الجحيم} أي: النار التي هي غاية في توقدها وفي ذلك دليل على أنّ الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث أن التركيب يشعر بالاختصاص، والصحبة تدل على الملازمة عرفاً، وأما غيرهم من العصاة فدخولهم فيها ليس على وجه الصحبة الدالة على الملازمة.
(11/470)
---(1/4518)
ولما ذكر تعالى حال الفريقين في الآخرة حقر أمر الدنيا بقوله تعالى: {اعلموا} أي: أيها العباد المبتلون بحب الدنيا {أنما الحياة الدنيا} أي: الحاضرة التي رغب في الزهد فيها والخروج عنها بالصدقة والقرض الحسن، وما مزيدة للتأكيد أي: الحياة في هذه الدار {لعب} أي: لعب لا ثمرة له فهو باطل كلعب الصبيان {ولهو} أي: شيء يفرح به الإنسان فيلهيه أي يشغله عما يعنيه ثم ينقضي كلهو الفتيان، ثم أتبع ذلك أعظم ما يلهي في الدنيا بقوله تعالى: {وزينة} أي: شيء يبهج العين ويسر النفس كزينة النسوان وأتبعها ثمرتها بقوله تعالى: {وتفاخر بينكم} أي: كتفاخر الأقران يفتخر بعضهم على بعض فيجر ذلك إلى الحسد والبغضاء وأتبع ذلك بما يحصل به الفخر بقوله تعالى: {وتكاثر} أي: من الجانبين كتكاثر الرهبان {في الأموال} أي: التي لا يفتخر بها إلا أحمق لكونها مائلة {والأولاد} أي: التي لا يغتر بها إلا سفيه لأنها زائلة وآفاتها هائلة وإنما هي فتنة وابتلاء يظهر بها الشاكر من غيره، ثم ذلك كله قد يكون ذهابه عن قريب فيكون على أضداد ما كان عليه فيكون أشد في الحسرة ثم في آخر ذلك يموت فإذا هو قد اضمحل أمره ونسى عما قليل ذكره وصار ماله لغيره وزينته متمتعاً بها سواه، فالدنيا حقيرة وأحقر منها طالبها لأنها جيفة وطالب الجيفة ليس له خطر وأخسهم من يبخل بها، وقال علي لعمار: لا تحزن على الدنيا فإنّ الدنيا ستة أشياء: مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة، وأكثر شرابها الماء ويستوي فيه جميع الحيوان، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة، وأفضل مشمومها المسك وهو دم فأرة، وأفضل المركوب الفرس وعليها تقتل الرجال، وأما المنكوح فهو النساء وهو مبال في مبال والله إنّ المرأة لتزين أحسنها فيراد منها أقبحها ا.ه. ويناسب بعض ذلك قول الشاعر:
*فخير لباسها نسجات دود
** وخير شرابها قيء الذباب
*وأشهى ما ينال المرء فيها
(11/471)
---(1/4519)
** مبال في مبال مستطاب
قال القشيري: وهذه الدنيا المذمومة هي ما يشغل العبد عن الآخرة فكل ما يشغله عن الآخرة فهو الدنيا ا.ه. أي: وأما الطاعات وما يعين عليها فمن أمور الآخرة ثم ضرب الله للدنيا مثلاً بقوله تعالى: {كمثل} أي: هذا الذي ذكرته من أمرها يشبه مثل {غيث} أي: مطر حصل بعد جدب وسوء حال {أعجب الكفار} أي: الزراع الذين حصل منهم الحرث والبذر الذي يستره الحارث كما يستر الكافر حقيقة أنوار الإيمان بما يحصل منه من الجحد والطغيان {نباته} أي: نبات ذلك الغيث كما يعجب الكافر في الغالب بسط الدنيا له استدراجاً من الله تعالى: {ثم يهيج} أي: ييبس فيتم جفافه فيحين حصاده {فتراه} أي: عقب كل ذلك وبالقرب منه {مصفراً} أي: على حالة لا نموّ بعدها {ثم} أي: بعد تناهي الجفاف {يكون} أي: كونا كأنه مطبوع عليه {حطاماً} أي: فتاتاً يضمحل بالرياح.
ولما ذكر تعالى الظل الزائل ذكر أثره الثابت الدائم مقسماً له إلى قسمين فقال تعالى: {وفي الآخرة عذاب شديد} أي: على من آثر الدنيا وأخذها بغير حقها معرضاً عن ذكر الله تعالى وعن الآخرة هذا أحد القسمين، وأما القسم الآخر فهو: ما ذكره بقوله تعالى: {ومغفرة} أي: ولمن أقبل على الآخرة ورفض الدنيا ولم تشغله عن ذلك الله تعالى مغفرة {من الله} أي: الملك الأعظم {ورضوان} أي: في جنة عالية تفضلاً منه تعالى ورحمة، وقوله تعالى جل وعلا: {وما الحياة الدنيا} أي: لكونها تشغل بزينتها مع أنها زائلة {إلا متاع الغرور} أي: هو في نفسه غرور لا حقيقة له إلا ذلك لأنه لا يسر بقدر ما يضر تأكيد لما سبق، قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة.
ثم أرشدهم الله تعالى إلى المسابقة إلى الخيرات لأنّ الدنيا خيال ومحال، والآخرة بقاء وكمال بقوله تعالى:
(11/472)
---(1/4520)
{سابقوا} أي: سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار {إلى مغفرة} أي: ستر لذنوبكم عيناً وأثراً {من ربكم} أي: المحسن إليكم بأنواع الخيرات التي توجب المغفرة لكم من ربكم، وقال الكلبي: سارعوا بالتوبة لأنها تؤدي إلى المغفرة، وقال مكحول: هي التكبيرة الأولى مع الإمام، وقيل: الصف الأول {وجنة} أي: وبستان هو من عظم أشجاره واطراد أنهاره بحيث يستر داخله {عرضها كعرض السماء والأرض} أي: السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكان عرض الجنة في قدرها جميعاً، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه السعة، وقال مقاتل: إنّ السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها إلى بعض لكانت عرض جنة واحدة من الجنان، وسأل عمر ناس من اليهود إذا كانت الجنة عرضها ذلك فأين النار؟ فقال لهم: أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار؟ وإذا جاء النهار أين يكون الليل؟ فقالوا: إنه لمثلهما في التوراة. ومعناه: أنه حيث شاء الله وهذا عرضها ولا شك أن الطول أزيد من العرض فذكر العرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك، وقيل إن هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه ويقع في أنفسهم وأفكارهم وأكثر ما يقع في أنفسهم مقدار السموات والأرض فشبه عرض الجنة بما تعرفه الناس {أعدت} أي: هيئت هذه الجنة الموعود بها وفرغ من أمرها بأيسر أمر {للذين آمنوا} أي: أوقعوا هذه الحقيقة {بالله} أي: الذي له جميع العظمة لأجل ذاته مخلصين له الإيمان {ورسله} فلم يفرقوا بين أحد منهم وفي هذا أعظم رجاء وأقوى أمل لأنه ذكر أنّ الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسله ولم يذكر مع الإيمان شيئاً آخر، يدل عليه قوله تعالى في سياق الآية {ذلك} أي: الفضل العظيم جداً {فضل الله} أي: الملك الذي لا كفؤ له فلا اعتراض عليه {يؤتيه من يشاء} فبين أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله لا بعمله، لما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/4521)
(11/474)
---
«لن يدخل الجنة أحداً منكم عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمة». ولا ينافي ذلك قوله تعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} لأنّ الباء في الحديث عوضيه، وفي الآية سببية، فإن قيل: يلزم على هذا أن يقطع بحصول الجنة لجميع العصاة وأن يقطع بأنه لا عقاب عليهم؟ أجيب: بأنا نقطع بحصول الجنة ولا نقطع بنفي العقاب عنهم لأنهم إذا عذبوا مدة ثم نقلوا إلى الجنة بقوا فيها أبد الآباد فكانت معدة لهم {والله} أي: والحال أنّ الملك المختص بجميع صفات الكمال فله الأمر كله {ذو الفضل العظيم} أي: الذي جل أن تحيط بوصفه العقول {ما أصاب من مصيبة في الأرض} أي: من قحط المطر وقلة النبات ونقص الثمرات وغلاء الأسعار وتتابع الحوائج وغير ذلك {ولا في أنفسكم} أي: من الأمراض والفقر وذهاب الأولاد وضيق العيش وغير ذلك {إلا في كتاب} أي: مكتوبة في اللوح مثبتة في علم الله تعالى: {من قبل أن نبرأها} أي: نخلق ونوجد ونقدر المصيبة في الأرض والأنفس، وهذا دليل على أنّ اكتساب العباد بخلقه سبحانه وتعالى وتقديره {إن ذلك} أي: الأمر الجليل وهو علمه بالشيء وكتبه له على تفاصيله قبل أن يخلقه {على الله} أي: لما له من الإحاطة بصفات الكمال {يسير} لأن علمه محيط بكل شيء فقدرته شاملة لا يعجزه فيها شيء.
(11/475)
---(1/4522)
ثم بين ثمرة إعلامه بذلك بقوله تعالى: {لكيلا} أي: أعلمناكم بأنا على مالنا من العظمة قد فرغنا من التقدير فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير لا الحزن يدفعه ولا السرور يجلبه ويجمعه كما قال صلى الله عليه وسلم «يا معاذ ليقل همك ما قدر يكن» لأجل أن {لا تأسوا} أي: تحزنوا حزناً كبيراً زائداً على ما في أصل الجبلة فربما جرّ ذلك إلى السخط وعدم الرضا بالقضاء {على ما فاتكم} أي: من المحبوبات الدنيوية {ولا تفرحوا} أي: تسروا سروراً يوصلكم إلى البطر بالتمادي على ما في أصل الجبلة وقوله تعالى: {بما آتاكم} قرأه أبو عمرو بقصر الهمزة، أي: جاءكم منه، والباقون بالمد أي أعطاكم قال جعفر الصادق رضي الله عنه: مالك تأسف على مفقود ولا يردّه عليك الفوت ومالك تفرح بموجود ولا يتركه في يدك الموت ا.ه.
(11/476)
---(1/4523)
ولقد عزى الله تعالى المؤمنين رحمة بهم في مصائبهم وزهدهم في رغائبهم بأن أسفهم على فوت المطلوب لا يعيده، وفرحهم بحصول المحبوب لا يفيده، وبأن ذلك لا مطمع في بقائه إلا بإدخاره عند الله تعالى وذلك بأن يقول: المصيبة قدر الله تعالى وما شاء فعل ويصبر؛ وفي النعمة هكذا قضى وما أدري مآله هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر فلا يزال خائفاً عند النعمة قائلاً في الحالين ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن، وأكمل من هذا أن يكون مسروراً بذكر ربه في كلتا الحالتين، وقيمة الرجال إنما تعرف بالواردات المغيرة فمن لم يتغير بالمضار ولم يتأثر بالمسار فهو سيد وقته كما أشار إليه القشيري؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً وغنيمته شكراً والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان تتعدى فيهما إلى ما لا يجوز {والله} أي: الذي له صفات الكمال {لا يحب} أي: لا يفعل فعل المحب بأن يكرم {كل مختال} أي: متكبر نظراً إلى ما في يده من الدنيا {فخور} أي: به على الناس قال القشيري: الاختيال من بقايا النفس ورؤيتها، والفخر من رؤية خطر ما به يفتخر.
(11/477)
---(1/4524)
وقوله تعالى: {الذين يبخلون} بدل من كل مختال فخور فإنّ المختال بالمال يضن به غالباً {ويأمرون الناس} أي: كل من يعرفونه {بالبخل} إرادة أن يكونوا لهم رفقاء يعملون بأعمالهم الخبيثة أو مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله تعالى: {ومن يتول} أي: يكلف نفسه الإعراض ضد ما في فطرته من محبة الخير والإقبال على الله تعالى: {فإن الله} الذي له جميع صفات الكمال {هو} أي: وحده {الغني الحميد} لأنّ معناه ومن يعرض عن الإنفاق فإنّ الله غني أي: عن ماله وعن إنفاقه وكل شيء مفتقر إليه وهو مستحق للحمد سواء أحمده الحامدون أم لا {لقد أرسلنا} أي: بما لنا من العظمة {رسلنا} أي: الذين لهم نهاية الجلال بما لهم بنا من الاتصال من الملائكة إلى الأنبياء على جميعهم أفضل الصلاة والسلام ومن الأنبياء إلى الأمم {بالبينات} أي: الحجج القواطع {وأنزلنا} أي: بعظمتنا التي لا شيء أعلى منها {معهم الكتاب} أي: الكتب المتضمنة للأحكام وشرائع الدين {والميزان} أي: العدل، وقيل: الآلة روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام وقال مر قومك يزنوا به {ليقوم الناس بالقسط} أي: ليتعاملوا بينهم بالعدل {وأنزلنا} أي: خلقنا خلقا عظيماً بما لنا من القوة {الحديد} أي: المعروف على وجه من القوّة والصلابة واللين فلذلك سمي إيجاده إنزالاً؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل آدم عليه السلام من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد وروي من آلة الحدادين السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة، وحكاه القشيري قال: والميقعة ما يحدد به يقال: وقعت الحديدة أقعها أي: حددتها وفي الصحاح: الميقعة الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه، وخشبة القصار التي يدق عليها والمطرقة والمسن الطويل، وروي ومعه المبرد والمسحاة، وعن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض أنزل الحديد والنار والماء والملح». وروى عكرمة(1/4525)
(11/478)
---
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أنزل ثلاثة أشياء مع آدم عليه السلام الحجر الأسود وكان أشد بياضاً من الثلج وعصا موسى عليه السلام وكانت من آس طولها عشرة أذرع مع طول موسى»؛ وعن الحسن {وأنزلنا الحديد} خلقناه كقوله تعالى: {وأنزل لكم من الأنعام} (الزمر: 6)
وذلك أن أوامره تنزل من السماء وقضاياه وأحكامه {فيه بأس} أي: قوة وشدّة {شديد} أي: قوة شديدة فمنه جنة وهي آلة الدفع ومنه سلاح وهو آلة الضرب {ومنافع للناس} بما يعمل منه من مرافقهم لتقوم أحوالهم بذلك قال البيضاوي: ما من صنعة إلا والحديد آلتها، وقال مجاهد: يعني جنة، وقيل: انتفاع الناس بالماعون الحديد كالسكين والفأس ونحو ذلك، وروي أنّ الحديد أنزل في يوم الثلاثاء فيه بأس شديد، أي مهراق الدماء ولذلك نهي عن الفصد والحجامة في يوم الثلاثاء لأنه يوم جرى فيه الدم؛ وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أن في يوم الثلاثاء ساعة لا يراقد فيها الدم».
وقوله تعالى: {وليعلم الله} أي: الذي له جميع العظمة علم شهادة لأجل إقامة الحجة بما يليق بعقول الخلق فيكون الجزاء على العمل لا على العلم، عطف على قوله تعالى: {ليقوم الناس} أي: لقد أرسلنا رسلنا وفعلنا كيت وكيت ليقوم الناس وليعلم الله {من ينصره} أي: ينصر دينه بآلات الحرب من الحديد وغيره وقوله تعالى: {ورسله} عطف على مفعول ينصره أي: وينصر رسله وقوله تعالى: {بالغيب} حال من هاء ينصره، أي: غائباً عنهم في الدنيا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ينصرونه ولا يبصرونه {إن الله} أي: الذي له العظمة كلها {قوي} أي: فهو قادر على إهلاك جميع أعدائه وتأييد من ينصره من أوليائه {عزيز} فهو غير مفتقر إلى نصرة أحد وإنما دعا عباده إلى نصرة دينه ليقيم الحجة عليهم فيرحم من أراد بامتثال المأمور ويعذب من يشاء بارتكاب المنهي لبناء هذه الدار على حكمة ربط المسببات بالأسباب ولما أجمل الرسل في قوله تعالى:
(11/479)
---(1/4526)
{لقد أرسلنا رسلنا} (الحديد: 5)فصل هنا ما أجمل من إرسال الرسل بالكتب فقال تعالى: {ولقد أرسلنا} أي: بما لنا من العظمة {نوحاً} وهو الأب الثاني وجعلنا الأغلب على رسالته مظهر الجلال {وإبراهيم} وهو أبو العرب والروم وبني إسرائيل الذي أكثر الأنبياء من نسله وجعلنا الأغلب على رسالته تجلى الإكرام {وجعلنا} أي: بما لنا من العظمة {في ذريتهما النبوّة} فلا يوجد نبي إلا من نسلهما {والكتاب} أي: الكتب الأربعة وهي التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الكتاب الخط بالقلم يقال: كتب كتاباً وكتابة والضمير في قوله تعالى: {فمنهم مهتد} يعود على الذرية لتقدم ذكرها لفظاً وقيل: يعود على المرسل إليهم لدلالة أرسلنا، أي: هو بعين الرضا منا وهو من لزم طريقة الاصفياء وإن كان من أولاد الأعداء {وكثير منهم} أي: المذكورين {فاسقون} أي: هم بعين السخط وإن كانوا من أولاد الأصفياء، والمراد بالفاسق ههنا: الكافر لأنه جعل الفساق ضد المهتدين، وقيل: هو الذي ارتكب الكبيرة سواء أكان كافراً أم لم يكن لإطلاق هذا الاسم وهو يشمل الكافر وغيره {ثم قفينا} أي: أتبعنا بما لنا من العظمة {على آثارهم} أي: الأبوين المذكورين ومن مضى قبلهما من الرسل أو عاصرهما منهم {برسلنا} أي: فأرسلناهم واحداً في أثر واحد كموسى والياس وداود وغيرهم، ولا يعود الضمير على الذرية لأنها باقية مع الرسل وبعدهم وأيضاً الرسل المقفى بهم من الذرية {وقفينا} أي: أتبعنا بما لنا من العظمة على آثارهم قبل أن تندرس {بعيسى بن مريم} وهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه وهو آخر من جاء قبل النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام فأمته أولى الأمم باتباعه صلى الله عليه وسلم {وآتيناه} أي: بما لنا من العظمة {الإنجيل} كتاباً ضابطاً لما جاء به مقيماً لملته مبشراً بالنبيّ العربيّ موضحاً لأمره مكثراً من ذكره {وجعلنا} أي: بما لنا من العظمة {في قلوب الذين اتبعوه} أي: على(1/4527)
دينه بغاية جهدهم فكانوا على{{
(11/481)
---
منهاجه {رأفة} أي: أشدّ رقة على من كان ينسب إلى الاتصال بهم {ورحمة} أي: رقة وعطفاً على من لم يكن له سبب في الاتصال بهم كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين رحماء بينهم حتى كانوا أذلة على المؤمنين مع أنّ قلوبهم في غاية الصلابة فهم أعزة على الكافرين متوادين بعضهم لبعض وقوله تعالى: {ورهبانية} منصوب بفعل مقدر يفسره الظاهر وهو قوله تعالى: {ابتدعوها} قال أبو علي: ابتدعوا رهبانية ابتدعوها فتكون المسألة من باب الاشتغال وإلى هذا نحا الفارسي والزمخشري وأبو البقاء وجماعة إلا أن هذا يقال: إنه إعراب المعتزلة، وذلك أنهم يقولون: ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له فالرحمة والرأفة لما كانتا من فعل الله تعالى نسب خلقهما إليه، والرهبانية لما لم تكن من فعل الله تعالى بل من فعل العبد يستقل بفعلها نسب ابتداعها إليه، وقيل: إن رهبانية معطوفة على رأفة ورحمة، وجعل إما بمعنى خلق أو بمعنى صيّر وابتدعوها على هذا صفة الرهبانية، وإنما خصت بذكر الابتداع لأنّ الرأفة والرحمة في القلب أمر غريزي لا تكلف للإنسان فيهما بخلاف الرهبانية فإنها أفعال البدن وللإنسان فيها تكسب، لكن أبو البقاء منع هذا بأن ما جعله الله تعالى ليبتدعونه. وجوابه: ما تقدم من أنه لما كانت مكتسبة صح ذلك بها والمراد من الرهبانية ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين متحملين كلفاً زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلو واللباس والخشن والاعتزال عن النساء والتعبد في الكهوف والغيران، روي أنّ ابن عباس رضي الله عنهما قال: في أيام الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم غير الملوك التوراة والإنجيل فساح نفر وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا؛ قال الضحاك: إن ملوكاً بعد عيسى عليه السلام ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم، فقال قوم بقي بعدهم: نحن إذا(1/4528)
نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم
(11/482)
---
فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع. وقال قتادة: الرهبانية التي ابتعدوها رفض النساء واتخاذ الصوامع. وفي خبر مرفوع هي لحوقهم بالبراري والجبال وقوله تعالى: {ما كتبناها} صفة لرهبانية ويجوز أن يكون استئناف إخبار بذلك، قال ابن زيد: معناه ما فرضناها {عليهم} ولا أمرنا هم بها في كتابهم ولا على لسان رسولهم وقوله تعالى: {إلا ابتغاء رضوان الله} أي: الملك الأعظم استثناء منقطع، أي: ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، وقيل: متصل بما هو مفعول من أجله والمعنى: ما كتبناها عليهم الشيء من الأشياء إلا لابتغاء مرضاة الله ويكون كتب بمعنى: قضى فصار المعنى: كتبناها عليهم ابتغاء مرضاة الله {فما رعوها حق رعايتها}أي: ما قاموا بها حق القيام بل ضموا إليها التثليث وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين ملكهم وبقي على دين عيسى كثير منهم وآمنوا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم {فآتينا} أي: بما لنا من صفات الكمال {الذين آمنوا} أي: بالنبيّ صلى الله عليه وسلم {منهم أجرهم} أي: اللائق بهم وهو الرضوان المضاعف {وكثير منهم} أي: من هؤلاء الذين ابتدعوها فضيعوا {فاسقون} أي: عريقون في وصف الخروج عن الحدود التي حدّها الله تعالى وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى عليه السلام، روى البغوي بسنده عن ابن مسعود أنه قال: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم فرقة غزت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى وفرقة لم يكن لهم طاقة بمعاداة الملوك ولا أن يقيموا بين أظهرهم فدعوهم إلى دين الله تعالى ودين عيسى عليه السلام فساحوا في البلاد فترهبوا وهم الذين قال الله عز وجل: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم}» ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم «من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم(1/4529)
الهالكون».
(11/483)
---
وعن ابن مسعود أيضاً قال: «كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار فقال: يا ابن أم عبد هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية؟ فقلت الله ورسوله أعلم، قال: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بالمعاصي فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزموا أهل الإيمان ثلاث مرار فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء قتلونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه فتعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله تعالى النبيّ الذي وعدنا عيسى عليه السلام يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم فتفرّقوا في غيران الجبال وأحدثوا الرهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ثم تلا هذه الآية {ورهبانية ابتدعوها} إلى قوله تعالى: {فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم} يعني من ثبت عليها أجرهم ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي قلت الله ورسوله أعلم قال: الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة»
m
(11/484)
---(1/4530)
وعن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ لكلّ أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله تعالى» وعن ابن عباس قال: كانت ملوك بني إسرائيل بعد عيسى عليه السلام بدلوا التوراة والإنجيل وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله تعالى: فقيل لملوكهم: لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل وإلا فما بدلوا منهما فقالوا نحن نكفيكم أنفسنا، فقالت طائفة: ابنوا لنا اسطوانة ثم ارفعونا إليها أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم، وقالت طائفة: دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا، وقالت طائفة: ابنوا لنا دوراً في الفيافي نحتفر الآبار ونحترث البقر فلا نرد عليكم ولا نراكم ففعلوا بهم ذلك، فمضى أولئك على منهاج عيسى عليه السلام، وخلف قوم من بعدهم ممن غير الكتاب فجعل الرجل يقول: نكون في مكان فلان فنتعبد كما تعبد ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم فذلك قوله عز وجلّ: {ورهبانية ابتدعوها} ابتدعها هؤلاء الصالحون فما رعوها حق رعايتها، يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم {فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم} يعني: الذين اتبعوها ابتغاء مرضاة الله {وكثير منهم فاسقون} هم الذين جاؤوا من بعدهم قال: فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا القليل انحط رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته وصاحب دير من ديره فآمنوا وصدّقوا فقال الله تعالى:
(11/485)
---(1/4531)
{يا أيها الذين آمنوا} أي: بموسى وعيسى عليهما السلام إيماناً صحيحاً {اتقوا الله} أي: خافوا عقاب الملك الأعظم {وآمنوا برسوله} محمد صلى الله عليه وسلم إيماناً مضموماً إلى إيمانكم بمن تقدّمه، هذا إذا كان خطاباً لمؤمني أهل الكتاب، وأمّا إذا كان خطاباً للمؤمنين من أهل الكتاب وغيرهم، فالمعنى: آمنوا برسوله إيماناً مضموماً إلى إيمانكم بالله تعالى فإنه لا يصح الإيمان بالله إلا مع الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم {يؤتكم} أي: يثبكم على اتباعه {كفلين} أي: نصيبين ضخمين {من رحمته} يحصنانكم من العذاب كما يحصن الكفل الراكب من الوقوع وهو كساء يعقد على ظهر البعير فيلقي مقدّمه على الكاهل ومؤخره على العجز وهذا التحصين لأجل إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم وإيمانكم بمن تقدّمه مع خفة العمل ورفع الآصار، ولا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق وإن كان منسوخاً ببركة الإسلام. وقيل: الخطاب للنصارى الذين كانوا في عصره صلى الله عليه وسلم وقال أبو موسى الأشعري: كفلين ضعفين بلسان الحبشة، وقال ابن زيد: كفلين أجر الدنيا وأجر الآخرة، وعن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث يؤتون أجرهم مرتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوّجها، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده» {ويجعل لكم} أي: مع ذلك {نوراً} مجازياً في الدنيا من العلوم والمعارف القلبية وحسياً في الآخرة بسبب العمل {تمشون به} أي: مجازاً في الدنيا بالتوفيق للعمل وحقيقة في الآخرة بسبب العمل، وقال مجاهد: النور هو البيان والهدى، وقال ابن عباس: هو القرآن، وقال الزمخشري: هو النور المذكور في قوله تعالى: {نورهم يسعى} (التحريم: 1)
(11/486)
---(1/4532)
وقيل: يمشون في الناس يدعونهم إلى الإسلام فيكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رياستكم فيه وذلك أنهم خافوا أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله تعالى لا الرياسة الحقيقية في الدين {ويغفر لكم} أي: ما فرط منكم من سهو وعمد وهزل وجدّ {والله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {غفور} أي: بليغ المحو للذنوب عيناً وأثر {رحيم} أي: بليغ الإكرام لمن يغفر له ويوفقه للعمل بما يرضيه.
(11/487)
---(1/4533)
ولما بلغ من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله تعالى: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين} قالوا للمسلمين: أمّا من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابكم وبكتابنا ومن لم يؤمن منا فله أجره كأجوركم فما فضلكم علينا فأنزل الله تعالى: {لئلا يعلم} أي: ليعلم ولا زائدة للتأكيد {أهل الكتاب} الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم {أن} مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشان والمعنى أنهم {لا يقدرون على شيء} في زمن من الأزمان {من فضل الله} أي: الملك الأعلى فلا أجر لهم ولا نصيب في فضله إن لم يؤمنوا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقال قتادة: حسد الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب المؤمنين منهم فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد: قالت اليهود يوشك أن يخرج منا نبيّ يقطع الأيدي والأرجل فلما خرج من العرب كفروا به فنزلت الآية. وروي أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين وادّعوا الفضل عليهم فنزلت، وقيل: المراد من فضل الله الإسلام، وقيل: الثواب، وقال الكلبي: من رزق الله وقيل: نعم الله تعالى التي لا تحصى {وأنّ} أي: وليعلموا أن {الفضل} أي: الذي لا يحتاج إليه من هو عنده {بيد الله} الذي له الأمر كله {يؤتيه من يشاء} لأنه قادر مختار فآتى المؤمنين منهم أجرهم مرتين {والله} أي: الذي أحاط بجميع صفات الكمال {ذو الفضل العظيم} أي: مالكه ملكاً لا ينفك ولا ملك لأحد فيه معه ولا تصرف بوجه أصلاً فلذلك يخص من يشاء بما يشاء
(11/488)
---(1/4534)
روى البخاري عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو قائم على المنبر: «إنما بقاؤكم فيمن سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين، قال أهل التوراة: ربنا هؤلاء أقل عملاً وأكثر أجراً قال: هل ظلمتكم من أجركم شيئاً؟ قالوا: لا، قال فذلك فضلي أوتيه من أشاء» وفي رواية «فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: ربنا» الحديث، وفي رواية «إنما أجلكم في أجل من كان قبلكم خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس»؟ «وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالاً فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعلمت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى من نصف النهار إلى العصر على قيراط قيراط، ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ألا فأنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ألا لكم الأجر مرتين، فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: نحن أكثر عملاً وأقل عطاء قال الله تعالى: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فإنه فضلي أوتيه من شئت». وعن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوماً يعملون له عملاً يوماً إلى الليل على أجر معلوم فعملوا إلى نصف النهار فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل، فقال لهم: لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملاً فأبوا وتركوا واستأجر آخرين من بعدهم فقال: أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت لهم من الأجر فعملوا حتى(1/4535)
(11/489)
---
إذا كان حين صلاة العصر قالوا ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه فقال: أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير فأبوا فاستأجر آخرين على أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكلموا أجر الفريقين كلاهما فذلك مثلهم ومثل ما بقوا من هذا النور». وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسله» حديث موضوع.
سورة المجادلة
مدنية
في قول الجميع الأرواية عن عطاء إلا العشر الأول منها مدني وباقيها مكي، وقال الكلبي: نزل جميعها بالمدينة غير قوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} نزلت بمكة وهي اثنتان وعشرون آية وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة وألف وسبعمائة واثنان وسبعون حرفاً.
{بسم الله} الذي تمت قدرته وكملت جميع صفاته {الرحمن} الذي شمل الخلائق جوداً بالإيجاد وإرسال الهداة {الرحيم} الذي خص أصفياءه فتمت عليهم نعمة مرضاته
ونزل في خولة بنت ثعلبة وكانت تحت أوس بن الصامت وكان قد ظاهر منها.
(11/490)
---(1/4536)
{قد سمع الله} أي: أجاب بعظيم فضله الذي أحاط بجميع صفات الكمال فوسع سمعه الأصوات {قول التي تجادلك} أي: تراجعك أيها النبيّ {في زوجها} المظاهر منها روي «أنّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مرّ بها في خلافته وهو على حمار والناس معه، فاستوقفته طويلاً ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعى عميراً ثم قيل لك: عمر ثم قيل لك: أمير المؤمنين فاتق الله يا عمر فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت ومن أيقن بالحساب خاف العذاب وهو واقف يسمع كلامها فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الموقف فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة أتدرون من هذه العجوز هي: خولة بنت ثعلبة سمع الله تعالى قولها من فوق سبع سموات أيسمع ربّ العالمين قولها ولا يسمعه عمر» وعن عائشة: «تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهمّ إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل بهذه الآية {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} الآية. وروي «أنها كانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها فلما انصرفت أرادها فأبت فغضب عليها، قال عروة: وكان امرأ به لمم فأصابه بعض لممه فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي وكان الإيلاء والظهار من الطلاق في الجاهلية، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنّ أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ فلما علا سنى ونثرت بطني أي: كثر ولدي جعلني عليه كأمّه فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم حرمت عليه فقالت: والله ما ذكر طلاقاً وإنه أبو ولدي وأحب الناس إليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت عليه فقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي فقد طالت صحبتي ونفضت له بطني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما آراك إلا حرمت عليه(1/4537)
(11/492)
---
أو أومر في شأنك بشيء فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت عليه، هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدّة حالي وأنّ لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليّ جاعوا وإن ضممتهم إليه ضاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهمّ أني أشكو إليك، فأنزل على لسان نبيك وكان هذا أوّل ظهار في الإسلام، فأنزل الله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} الآية فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زوجها وقال: ما حملك على ما صنعت قال: الشيطان فهل من رخصة؟ فقال: نعم وقرأ عليه الأربع آيات فقال له هل تستطيع العتق فقال لا والله فقال هل تستطيع الصوم؟ فقال لا والله إني إن أخطأني أن آكل في اليوم مرّة أو مرتين لكل صبري ولظننت أني أموت قال: فأطعم ستين مسكيناً، قال: ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعاً، وأخرج أوس من عنده مثله فتصدق به على ستين مسكيناً».
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لها مريه أن يعتق رقبة فقالت: أيّ رقبة والله لا يجد رقبة وما له خادم غيري، فقال: مريه أن يصوم شهرين، فقالت: والله ما يقدر على ذلك إنه يشرب في اليوم كذا كذا مرّة، فقال: مريه فليطعم ستين مسكيناً، فقالت: أنّى له ذلك» {وتشتكي} أي: تتعمد بتلك المجادلة الشكوى منتهية {إلى الله} أي: سؤال الملك الأعظم الرحمة الذي أحاط بكل شيء علماً.
(11/493)
---(1/4538)
فإن قيل: ما معنى قد في قوله تعالى: {قد سمع} أجيب: بأنّ معناها التوقع لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله تعالى تجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرّج عنها لصدقها في شكواها وقطع رجائها في كشف ما بها من غير الله إنّ الله تعالى يكشف كربتها {والله} أي: والحال أنّ الذي وسعت رحمته كلّ شيء، لأنّ له الأمر كله {يسمع تحاوركما} أي: تراجعكما الكلام وهو على تغليب الخطاب {إن الله} أي: الذي أحاط بجميع صفات الكمال {سميع} أي: بالغ السمع لكل مسموع {بصير} أي: بالغ البصر لكل ما يبصر فهما صفتان كالعلم والقدرة والحياة والإرادة وهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه متصفاً بهما
ولما أتم تعالى الخبر عن إحاطة العلم استأنف الإخبار عن حكم الأمر المجادل بسببه فقال تعالى: {الذين يظهرون} أي: يوجدون الظهار في أي زمان كان وقوله تعالى: {منكم} أي: أيها العرب المسلمون توبيخ لهم وتهجين لعادتهم لأنّ الظهار كان خاصاً بالعرب دون سائر الأمم فنبه تعالى على أنّ اللائق بهم أن يكونوا أبعد الناس عن هذا الكلام لأنّ الكذب لم يزل مستهجناً عندهم في الجاهلية ثم زاده الإسلام استهجاناً {من نسائهم} أي: يحرمون نساءهم على أنفسهم تحريم الله تعالى عليهم ظهور أمّهاتهم.
والظهار لغة: مأخوذ من الظهر لأنّ صورته الأصلية أن يقول لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي، وخصوا الظهر دون البطن والفخذ وغيرهما لأنه موضع الركوب والمرأة مركوب الزوج.
وقيل: من العلو قال تعالى: {فما اسطاعوا أن يظهروه} (الكهف: 97)
أي: أن يعلوه وكان طلاقاً في الجاهلية، وقيل: في أوّل الإسلام ويقال: كان في الجاهلية إذا كره أحدهم أمرأته أنه ولم يرد أن تتزوج بغيره آلى منها أو ظاهر فتبقى لا ذات زوج ولا خلية تنكح غيره؛ فغير الشارع حكمه إلى تحريمها بعد العود ولزوم الكفارة كما سيأتي.
(11/494)
---(1/4539)
وحقيقته الشرعية: تشبيه الزوجة غير البائن بأنثى لم تكن حلاله وسمى هذا المعنى ظهاراً لتشبيه الزوجة بظهر الأم، وله أركان أربعة: مظاهر ومظاهره منها وصيغة ومشبه به وشرط في المظاهر كونه زوجاً يصح طلاقه، وشرط في المشبه به كونه كلّ أنثى محرم أو جزء أنثى محرم لم تكن حلاله كابنته وأخته، وشرط في الصيغة لفظ يشعر بالظهار صريح كأنتِ أو رأسك أو بدنك كظهر أمي أو كجسمها أو بدنها أو كناية كانت أمي أو كعينها أو غيرها مما يذكر للكرامة كرأسها أو روحها ويصح تأقيته وتعليقه، وأصل يظهرون يتظهرون أدغمت التاء في الظاء وقرأ {الذين يظاهرون} و{الذي يظاهرون} عاصم بضم الياء وتخفيف الظاء وبعدها ألف وتخفيف الهاء مكسورة، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح الياء وتشديد الظاء وتخفيف الهاء مع فتحها وبين الظاء والهاء ألف، والباقون بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء ولا ألف بينهما {ما هنّ} أي: نساؤهم {أمهاتهم} أي: على الحقيقة {إن} أي: ما {أمهاتهم} أي: حقيقة {إلا اللائي ولدنهم} ونساؤهم لم يلدنهم فلا يحرمن عليهم حرمة مؤبدة للإكرام والاحترام، ولا هنّ ممن ألحق بالأمهات بوجه يصح كأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم فإنهنّ أمّهات لما لهنّ من حق الإكرام والاحترام والإعظام؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أعظم في أبوة الدين من أبي النسب، وكذا المرضعات، لما لهنّ من حق الرضاع الذي هو وظيفة الأمّ بالأصالة.
وأمّا الزوجة فمباينة لجميع ذلك.
(11/495)
---(1/4540)
وقرأ قالون وقنبل: بالهمزة المكسورة ولا ياء بعدها، وقرأ ورش والبزي وأبو عمرو بتسهيل الهمزة مع المدّ والقصر وللبزي وأبو عمر وأيضاً موضع الهمزة ياء ساكنة مع المدّ والباقون بهمزة مكسورة وبعدها ياء وهم على مراتبهم في المدّ {وإنهم} أي: المظاهرون {ليقولون} أي: في هذا التظهر على كلّ حالة {منكراً من القول} إذ الشرع أنكره وهو حرام إتفاقاً كما نقل عن الرافعي في باب الشهادات {وزوراً} أي: قولاً مائلاً عن السداد منحرفاً عن القصد، لأنّ الزوجة معدّة للاستمتاع الذي هو في الغاية من الامتهان والأمّ في غاية البعد عن ذلك.
فإن قيل: المظاهر إنما قال: أنت عليّ كظهر أمي فشبه بأمه ولم يقل أنها أمّه فما معنى أنه منكر من القول وزور والزور الكذب وهذا ليس بكذب.
أجيب: بأنّ قوله هذا إن كان خبراً فهو كذب وإن كان إنشاء فهو كذلك لأنه جعله سبباً للتحريم والشرع لم يجعله سبباً لذلك، وأيضاً فإنما وصف بذلك لأنّ الأم مؤبدة التحريم والزوجة لا يتأبد تحريمها بالظهار فهو زور محض.
فإن قيل: قوله تعالى: {إلا اللائي ولدنهم} يقتضي أن لا أمّ إلا الوالدة وهذا مشكل بقوله تعالى: {وأمّهاتكم اللاتي أرضعنكم} (النساء: 23)
وقوله تعالى: {وأزواجه أمّهاتهم} (الأحزاب: 6)
أجيب: بأنّ الشارع ألحقهنّ بالوالدات لما مر {وإن الله} أي: الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه في شرع ولا غيره {لعفوّ} أي: من صفاته أن يترك عقاب من شاء {غفور} أي: من صفاته أن يمحو عين الذنب وأثره.
(11/496)
---(1/4541)
ثم بين أحكام الظهار بقوله تعالى: {والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا} والعود في ظهار غير مؤقت من غير رجعية أن يمسكها بعد ظهاره مع علمه بوجود الصفة في المعلق زمن إمكان فرقة ولم يفارق، لأن العود للقول مخالفته، يقال: قال فلان قولاً ثم عادله وعاد فيه أي: خالفه ونقضه، وهو قريب من قولهم عاد في هبته، ومقصود الظهار وصف المرأة بالتحريم وإمساكها يخالفه، فلو اتصل بظهاره جنونه أو إغماؤه أو فرقة بموت أو فسخ من أحدهما بمقتضية كعيب بأحدهما أو بطلاق بائن أو رجعي ولم يراجع فلا عود، والعود في ظهار غير مؤقت من رجعية سواء أطلقها عقب الظهار أم قبله أن يراجع.
ولو ارتد متصلاً بالظهار بعد الدخول ثم أسلم في العدّة فلا عود بالإسلام بل بعده، والفرق أنّ الرجعة إمساك في ذلك النكاح والإسلام بعد الردّة تبديل للدّين الباطل بالحق والحّل تابع له فلا يحصل به إمساك وإنما يحصل بعده فالعود في ظهار مؤقت يحصل بتغييب حشفة أو قدرها من فاقدها في المدّة ويجب في العود به وإن حلّ نزع لما غيبه، كما لو قال: إن وطأتك فأنت طالق لحرمة الوطء قبل التكفير كما سيأتي وانقضاء المدة واستمرار الوطء وطء ولما كان المبتدأ الموصول يتضمن معنى الشرط أدخل الفاء في خبره ليفيد السببية فيتكرّر الوجوب بتكرير سببه فقال عز من قائل: {فتحرير} أي: فعليهم بسبب هذا الظهار والعود تحرير {رقبة} مؤمنة فلا تجزىء كافرة قال تعالى في كفارة القتل: {فتحرير رقبة مؤمنة} (النساء: 92)
وألحق بها غيرها قياساً عليها بجامع حرمة سببيهما من القتل والظهار أو حملاً للمطلق على المقيد كما في حمل المطلق في قوله تعالى: {واستشهدوا شهدين من رجالكم} (البقرة: 282)
على المقيد في قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (الطلاق: 2)
(11/497)
---(1/4542)
بلا عوض ولا بعيب يخل بعمل فيجزئ صغير ولو ابن يوم وأقرع وأعرج يمكنه تباع مشي بأن يكون عرجه غير شديد وأعور لم يضعف عوره بصر عينه السليمة ضعفاً يخل بالعمل وأصم وأخرس يفهم الإشارة وتفهم عنه وأخشم وفاقد أنفه وأذنيه وأصابع رجليه لا فاقد رجل أو خنصر وبنصر من يد أو أنملتين من كلّ منهما أو فاقد أنملتين من أصبع غيرهما أو فاقد أنملة إبهام لا خلال كل من الصفات المذكورة بالعمل.
ولا يجزىء مريض لا يرجى برؤه ولم يبرأ كيد شلاء وهرم بخلاف من يرجى برؤه ومن لا يرجى برؤه إذا برىء، ولا مجنون إفاقته أقلّ من جنونه تغليباً للأكثر، ويجزئ معلق عتقه بصفة بأن ينجز عتقه بنية الكفارة أو معلقه كذلك بصفة أخرى وتوجد قبل الأولى، ويجزئ نصفا رقبتين أعتقهما عن كفارة باقيهما أو في أحدهما كما استظهره بعضهم، ويجزئ إعتاق رقبتيه عن كفارتيه لأجعل العتق المعلق كفارة عند وجود الصفة ولا مستحق عتق كأم ولد وصحيح كتابة {من قبل أنّ يتماسا} أي: يتجدّد بينهما مس روى أبو داود وغيره «أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل ظاهر من امرأته وواقعها: لا تقربها حتى تكفّر». وكالتكفير مضى مدة المؤقت لانتهائه بها وحمل التماس هنا لشبه الظهار بالحيض على التمتع بما بين السرّة والركبة ومن حمله على الوطء ألحق به التمتع بغيره فيما بينهما، ولو ظاهر من أربع بكلمة كأنتن كظهر أمي فإن أمسكهنّ فأربع كفارات لوجود سببها أو ظاهر منهنّ بأربع كلمات ولو متوالية فعائد من غير أخيرة، ولو كرر في امرأة متصلاً تعدد الظهار إن قصد استئنافاً ويصير المظاهر بالاستئناف عائداً {ذلكم} أي: ذلك الحكم بالكفارة {توعظون به} أي: أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار ولا تعاودوه {والله} أي: الذي له الإحاطة بالكمال {بما تعملون} أي: تجدّدون فعله {خبير} أي: عالم بظاهره وباطنه فهو عالم بما يكفره فافعلوا بما أمر به وقفوا عند حدوده، وإنما يلزم الإعتاق عن الكفارة من ملك رقيقاً أو(1/4543)
(11/498)
---
ثمنه فاضلاً عن كفاية ممونة من نفسه وغيره.
قال الرافعي: وسكتوا عن تقدير مدة ذلك ويجوز أن تقدر بالعمر الغالب وأن تقدّر بسنة ا.ه. والذي عليه الجمهور هو: الأوّل ولا يلزمه بيع عقار ورأس تجارة وماشية لا يفضل دخلوها عن غلة العقار وربح مال التجارة وفوائد الماشية من نتاج وغيره عن كفاية ممونة ولا بيع مسكن ورقيق نفيسين ألفهما ولا يلزمه شراء بغبن.
{فمن لم يجد} أي: الرقبة بأن عجز المكفر عن الإعتاق حساً أو شرعاً وقت أداء الكفارة {فصيام} أي: فعليه صيام {شهرين متتابعين} عن كفارته فالرقيق لا يكفر إلا بالصوم لأنه معسر لا يملك شيئاً وليس لسيده منعه من الصوم إن ضره، وإنما اعتبر العجز وقت الأداء لا وقت الوجوب قياساً على سائر العبادات.
ولو ابتدأ الصوم ثم وجد الرقبة لم يلزمه الانتقال عنه، لأنه أمر به حيث دخل فيه، وقال أبو حنيفة: يعتق قياساً على الصغيرة المعتدة بالشهور إذا رأت الدم قبل انقضاء عدّتها فإنها تستأنف الحيض إجماعاً ويكفيه نية صوم الكفارة، وإن لم ينو الولاء، فإن انكسر الشهر الأول أتمه من الثالث ثلاثين لتعذر الرجوع فيه إلى الهلال.
وينقطع التتابع بفوات يوم ولو بعذر كمرض أو سفر فيجب الاستئناف ولو كان الفائت اليوم الأخير أو اليوم الذي نسيت النية له بخلاف ما إذا فات بجنون أو إغماء مستغرق لمنافاة ذلك الصوم {من قبل أن يتماسا} كما مرّ في العتق، فإن جامع ليلاً عصى ولم ينقطع التتابع لأنه ليس محلاً للصوم بخلافه نهاراً وقال أبو حنيفة ومالك: يبطل بكلّ حال ويجب عليه ابتداء الكفارة لقوله تعالى: {من قبل أن يتماسا}.
(11/499)
---(1/4544)
{فمن لم يستطع} بأن عجز عن صوم أو لا لمرض يدوم شهرين بالظنّ المستفاد من العادة في مثله أو من قول الأطباء أو لمشقة شديدة تلحقه بالصوم أو بولائه ولو كانت المشقة لشدّة شهوة الوطء أو خوف زيادة مرض {فإطعام} أي: فعليه إطعام {ستين مسكيناً} أي: من قبل أن يتماسا حملاً للمطلق على المقيد بأن يملك كل مسكين من أهل الزكاة مدّاً من جنس الفطرة كبر وشعير وأقط ولبن فلا يجزئ لحم ودقيق وسويق، وخرج بأهل زكاة غيره فلا يجزئ دفعها لكافر ولا لهاشميّ ومطلبيّ ولا لمواليهما ولا لمن تلزمه مؤنته ولا لرقيق، لأنها حق الله تعالى فاعتبر فيها صفات الكمال.
{ذلك} أي: الترخيص العظيم لكم والرفق بكم والبيان الشافي من أمر الله الذي هو موافق للحنيفية السمحة ملة أبيكم إبراهيم عليه السلام {لتؤمنوا} أي: ليتحقق إيمانكم {بالله} أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه فتطيعوا بالانسلاخ عن أمر الجاهلية {ورسوله} أي: الذي تعظيمه من تعظيمه.
ولما رغب في هذا الحكم رهب في التهاون به بقوله تعالى: {وتلك} أي: هذه الأحكام العظيمة المذكورة {حدود الله} أي: أوامر الملك الأعظم ونواهيه التي يجب امتثالها والتعبد بها لترعى حق رعايتها فالتزموها وقفوا عندها ولا تعدوها، فإنه لا يطاق انتقامه إذا تعدّى نقضه وإبرامه {وللكافرين} أي: العريقين في الكفر بها أو بشيء من شرائعه {عذاب أليم} أي: بما آلموا المؤمنين به من الاعتداء فإن عجز عن جميع خصال الكفارة لم تسقط الكفارة عنه بل هي باقية في ذمته إلى أن يقدر على شيء منها، فإذا قدر عل خصلة من خصالها فعلها، ولا يتبعض العتق ولا الصوم بخلاف الإطعام حتى لو وجد بعض مدّ أخرجه، لأنه لا بدل له وبقي الباقي في ذمته.
(11/500)
---(1/4545)
قال الزمخشري: فإن قلت فإذا امتنع المظاهر من الكفارة هل للمرأة أن تدافعه قلت لها ذلك وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفر وأن يحبسه، ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها لأنه يضرّ بها في ترك التكفير والانتفاع بحق الاستمتاع فيلزم أبداً حقها فإن قلت: فإن مس قبل أن يكفر قلت عليه أن يستغفر ولا يعود حتى يكفر لما روي أن سلمة بن صخر البياضي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرت من امرأتي ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعتها فقال عليه الصلاة والسلام: استغفر ربك ولا تعد حتى تكفر» ا.ه. والمراد بالاستغفار هنا: التوبة.
ولما ذكر تعالى المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين المخالفين لها بقوله تعالى: {إن الذين يحادّون الله} أي: يغالبون الملك الأعلى على حدوده ليجعلوا حدوداً غيرها وذلك صورته صورة العداوة؛ لأنّ المحادة المعاداة والمخالفة في الحدود وهو كقوله تعالى: {ومن يشاق الله} (الحشر: 4)
{ورسوله} أي: الذي عزه من عزه، وقيل: يحادّون الله أي: أولياء الله كما في الخبر «من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة» والضمير في قوله تعالى: {إن الذين يحادّون الله ورسوله} يحتمل أن يرجع إلى المنافقين، فإنهم كانوا يوادّون الكافرين ويظاهرونهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فأذلهم الله تعالى ويحتمل أن يرجع لجميع الكفار فأعلم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم {كبتوا} أي: أذلوا وقال أبو عبيدة والأخفش: أهلكوا، وقال قتادة: أخذوا، وقال أبو زيد: عذبوا، وقال السدي: لعنوا، وقال الفراء: أغيظوا يوم الخندق.
وقيل: يوم بدر {كما كبت الذين من قبلهم} أي: المحادّين المخالفين رسلهم كقوم نوح ومن بعدهم ممن أصرّ على العصيان.
(12/1)
---(1/4546)
قال القشيريّ: ومن ضيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو أحدث في دينه بدعة انخرط في هذا السلك {وقد أنزلنا} أي: بما لنا من العظمة عليكم وعلى من قبلكم {آيات بينات} أي: دلالات عظيمة هي في غاية البيان لذلك ولكل ما يتوقف عليه الإيمان كترك المحادّة وتحصيل الإذعان {وللكافرين} أي: الراسخين في الكفر بالآيات أو بغيرها من أوامر الله تعالى: {عذاب مهين} بما تكبروا واعتدوا على أولياء الله تعالى وشرائعه يهينهم ذلك العذاب ويذهب عزهم وشماختهم ويتركون به محادتهم.
وقوله تعالى: {يوم} منصوب باذكر كما قاله الزمخشري قال: تعظيماً لليوم أو بلهم أي بالاستقرار الذي تضمنه لوقوعه خبراً أو بفعل مقدّر قدّره أبو البقاء يهانون أو يعذبون أو استقرّ ذلك يوم {يبعثهم الله} أي: الملك الأعظم {جميعاً} أي: حال كونهم مجتمعين، الكافرين المصرّح بهم والمؤمنين المشار إليهم الرجال والنساء أحياء كما كانوا لا يترك منهم أحد، وقيل: مجتمعين في حال واحد {فينبئهم} أي: يخبرهم أخباراً عظيماً مستقصى {بما عملوا} تخجيلاً وتوبيخاً وتشهيراً لحالهم {أحصاه الله} أي: أحاط به عدداً وكماً وكيفاً وزماناً ومكاناً بماله من صفات الكمال والجلال {ونسوه} لأنهم تهاونوا به حيث ارتكبوه ولم يبالوا به لضر أو تهم بالمعاصي وإنما تحفظ معظمات الأمور أو لخروجه عن الحدّ في الكثرة فكيف كل واحد على انفراده {والله} أي: بماله من القدرة الشاملة والعلم المحيط {على كل شيء} أي: على الإطلاق {شهيد} أي: حفيظ حاضر لا يغيب ورقيب لا يغفل.
ثم إنه تعالى أكد بيان كونه عالماً بكل المعلومات فقال جل ذكره:
(12/2)
---(1/4547)
{ألم تر} أي: تعلم علماً هو في وضوحه كالرؤية بالعين {أنّ الله} أي: الذي له صفات الكمال كلها {يعلم ما في السموات} كلها {وما في الأرض} كذلك كليات ذلك وجزئياته لا يغيب عنه شيء منه بدليل أنّ تدبيره محيط بذلك على أتم ما يكون، وهو يخبر من شاء من أنبيائه وأصفيائه بما يشاء من أخبار ذلك القاصية والدانية والماضية والآتية فيكون كما أخبر، وقوله تعالى: {ما يكون من نجوى} يكون فيه من كان التامة، ومن نجوى فاعلها، ومن مزيدة فيه أي: ما يقع من تناجي {ثلاثة} ويجوز أن يقدره مضاف أي: أهل نجوى فيكون ثلاثة صفة لأهل وإن يؤوّل نجوى بمتناجين جعلوا نجوى مبالغة فيكون ثلاثة صفة لنجوى واشتقاقها من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض فإنّ السر يرتفع إلى الذهن لا يتيسر لكل أحد أن يطلع عليه وقوله تعالى: {إلا هو رابعهم} استثناء من أعمّ الأحوال.
أي: ما يوجد شيء من هذه الأشياء في حال من الأحوال إلا وهو يعلم نجواهم كأنه حاضر معهم وشاهدهم كما تكون نجواهم عند الرابع الذي يكون معهم {ولا خمسة} أي: من نجواهم {إلا هو سادسهم} أي: يعلم نجواهم كما مرّ.
(12/4)
---(1/4548)
فإن قيل: ما الداعي إلى تخصيص الثلاثة والخمسة؟ أجيب: بوجهين أحدهما: أن قوماً من المنافقين تحلقوا للتناجي فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم مغايظة للمؤمنين على هذين العددين ثلاثة وخمسة، فقيل: ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة كما ترونهم يتناجون {ولا أدنى من ذلك} أي: من عددهم {ولا أكثر} أي: من ذلك {إلا هو معهم} يسمع ما يقولون {أينما} أي: في أي مكان {كانوا} فإنه لا مسافة بينه وبين شيء فقد روي عن ابن عباس: أنها نزلت في ربيعة وخبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوماً يتحدّثون فقال أحدهم: أترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً وقال الثالث: إن كان يعلم بعضه فهو يعلم كله وصدق لأنّ من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها، لأنّ كونه عالماً بغير سبب ثابت له مع كل معلوم.
والوجه الثاني: أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى والمتخالين للشورى والمندوبون لذلك ليسوا بكل أحد وإنما هم طائفة مجتباة من أولي النهي والأحلام ورهط من أهل الرأي والتجارب، وأوّل عددهم اثنان فصاعداً إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال، وحكم به الاستصواب.
(12/5)
---(1/4549)
ألا ترى إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه كيف ترك الأمر شورى بين ستة ولم يتجاوز بها إلى سابع فذكر عز وجل الثلاثة والخمسة وقال {ولا أدنى من ذلك} فدلّ على الاثنين والأربعة، وقال: {ولا أكثر} فدلّ على ما يلي هذا العدد ويقاربه، وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال في خطبته الكبرى أخرجها الحارث ابن أبي أسامة رقى المنبر وقال: «يا أيها الناس ادنوا واسمعوا لمن خلفكم ثلاث مرات» فدنا الناس وانضمّ بعضهم إلى بعض والتفتوا فلم يروا أحداً فقال: رجل منهم بعد الثالثة: لمن نسمع يا رسول الله الملائكة فقال: «لا أنهم إذا كانوا معكم لم يكونوا بين أيديكم ولا خلفكم ولكن عن أيمانكم وعن شمائلكم» وعلى ذلك فليسوا في مكان الإيمان هنا والشمائل بل في المكانة من ذلك فالله جلّ جلاله أعلى وأجل وأنزه مكانة وأكرم استواء {ثم ينبئهم} أي: يخبر أصحاب النجوى أخباراً عظيماً {بما عملوا} دقيقه وجليله {يوم القيامة} الذي هو المراد الأعظم من الوجود لإظهار الصفات العلا فيه أتم إظهار {إنّ الله} الذي له الكمال كله {بكل شيء} أي: مما ذكر وغيره {عليم} أي: بالغ العلم فهو على كل شيء شهيد وهذا تحذير من المعاصي وترغيب في الطاعات.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {ألم تر} أي: تعلم علماً هو كالرؤية {إلى الذين نهوا عن النجوى} فقيل: في اليهود وقيل: في المنافقين، وقيل: في فريق من الكفار وقيل في فريق من المسلمين لما روى أبو سعيد الخدري قال: «كنا ذات ليلة نتحدث إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم ما هذه النجوى فقلنا تبنا إلى الله تعالى يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيخ يعني الدجال فرقاً منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بما هو أخوف عندي منه قلنا بلى يا رسول الله قال: الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل» ذكره الماوردي.
(12/6)
---(1/4550)
وقال ابن عباس: «نزلت في اليهود والمنافقين، كانوا يتناجون فيما بينهم وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم يوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيحزنون لذلك ويقولون: ما نراهم إلا وقد بلغهم من إخواننا الذين خرجوا وفي السرايا قتل أو موت أو هزيمة، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم، فلما طال ذلك عليهم وأثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فأنزل الله تعالى: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} {ثم يعودون} أي: على سبيل الاستمرار، لأنه وقع مرّة وبادروا إلى التوبة منها أو فلتة معفواً عنها {لما نهوا عنه} أي: من غير أن يعتدوا لما يتوقع من جهة الناهي من الضرر عنده {ويتناجون} أي: يقبل بعضهم على المناجاة إقبالاً واحداً فيفعل كل منهم منها ما يفعله الآخر مرّة بعد أخرى على سبيل الاستمرار.
وقرأ حمزة بعد الياء: بنون ساكنة وبعدها ثاء فوقية مفتوحة ولا ألف قبل الجيم وضم الجيم، والباقون بتاء فوقية مفتوحة وبعدها نون مفتوحة وبعد النون ألف وفتح الجيم {بالإثم} أي: بالشيء الذي لا يثبت عليهم به الذنب وبالكذب وبما لا يحل {والعدوان} أي: العدوان الذي هو نهاية في قصد الشرّ بالإفراط في مجاوزة الحدود {ومعصيت الرسول} أي: مخالفة النبيّ الذي جاء إليهم من الملك الأعلى وهو كامل في الرسالة لكونه مرسلاً إلى جميع الخلق وفي كل الأزمان فلا نبيّ بعده فهو لذلك مستحق غاية الإكرام.
فائدة: رسمت معصية في الموضعين بالتاء المجرورة، وإذا وقف عليها فأبو عمرو وابن كثير والكسائي بالهاء في الوقف، والكسائي بالإمالة في الوقف على أصله ووقف الباقون بالتاء على الرسم واتفقوا في الوصل على التاء
(12/7)
---(1/4551)
{وإذا جاؤوك} أي: يا أشرف الخلق {حيوك} أي: واجهوك بما يعدونه تحية {بما لم يحيك به الله} أي: الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه «وذلك أنّ اليهود كانوا يدخلون على النبيّ صلى الله عليه وسلم ويقولون السام عليك، والسام الموت وهم يوهمون أنهم يقولون السلام عليك وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرد عليهم فيقول: وعليكم فقالت السيدة عائشة: السام عليكم ولعنة الله وغضبه عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلاً يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش، فقالت: أو لم تسمع ما قالوا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم تسمعي ما قلت، رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيّ» وقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: عليك ما قلت» فأنزل الله تعالى: {وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله} وروى أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» بالواو فقال بعض العلماء: إنّ الواو العاطفة تقتضي التشريك فيلزم منه أن ندخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت أو من سآمة ديننا وهو الملال يقال سئم يسأم سأمة وسأماً، وقال بعضهم: الواو زائدة كما زيدت في قول الشاعر:
*فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى*
أي: لما أجزنا انتحى فزاد الواو وقال: آخرون هي للاستئناف، كأنه قيل: والسام عليكم، وقال آخرون: هي على بابها من العطف ولا يضرّنا ذلك لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا كما تقدّم في قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة.
تنبيه: اختلف العلماء في ردّ السلام على أهل الذمة فقال ابن عباس والشعبي وقتادة: هو واجب لظاهر الأمر بذلك، وقال مالك: ليس بواجب فإن رددت فقل وعليك، وعندنا يجب أن يقول له وعليك لما مرّ في الحديث، وقال بعضهم: يقول في الردّ علاك السلام أي: ارتفع عنك، وقال بعض المالكية: يقال في الردّ السلام عليك بكسر السين يعني الحجارة
(12/8)
---(1/4552)
ولما كانوا يخفون ذلك جهدهم ويظنون بإملاء الله تعالى لهم أنه صلى الله عليه وسلم لا يطلع عليه وإن اطلع عليه لم يقدر أن ينتقم منهم عبر عن ذلك بقوله تعالى: {ويقولون في أنفسهم} من غير أن يطلع عليه أحد {لولا} أي: هلا ولم لا {يعذبنا الله} أي: الذي له الإحاطة بكل شيء {بما نقول} أي: لو كان نبيناً لعذبنا الله بما نقول وقيل: قالوا إنه يردّ علينا ويقول: وعليكم السام فلو كان نبياً لاستجيب له فينا ومتنا وهذا موضع تعجب منهم فإنهم كانوا أهل الكتاب وكانوا يعلمون أنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يغضبون فلا يعاجلون من يغضبهم بالعذاب {حسبهم} أي: كافيهم في الانتقام {جهنم} أي: الطبقة التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة والفظاظة فإن حصل لهم في الدنيا عذاب كان زيادة على الكفاية فاستعجالهم بالعذاب محض رعونة {يصلونها} أي: يقاسون عذابها دائماً، فإنا قد أعددناها لهم {فبئس المصير} أي: مصيرهم.
{يا أيها الذين آمنوا} أي: ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة {إذا تناجيتم} أي: اطلع كل منكم الكلام من نفسه فرفعه وكشفه لصاحبه سرّاً {فلا تتناجوا} أي: توجدوا هذه الحقيقة {بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول} أي: الكامل في الرسالة كفعل المنافقين واليهود، وقال مقاتل: أراد تعالى بقوله: {آمنوا} المنافقين آمنوا بلسانهم، وقال عطاء: يريد الذين آمنوا بزعمهم، وقيل: يا أيها الذين آمنوا بموسى {وتناجوا بالبرّ والتقوى} أي: الطاعة والعفاف عما نهى الله تعالى عنه {واتقوا الله} أي: اقصدوا قصداً يتبعه العمل بأن تجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعظم وقاية {الذي إليه} خاصة {تحشرون} أي: تجمعون بأيسر أمر وأسهله بقهر وكره وهو يوم القيامة، فيتجلى فيه سبحانه للحكم بين الخلق والإنصاف بينهم بالعدل ومحاسبتهم على النقير والقطمير، لا تخفى عليه خافية ولا تقي منه واقية.
(12/9)
---(1/4553)
{إنما النجوى} أي: المعهود وهي المنهي عنها {من الشيطان} أي: مبتدئة وممتدّة من المحترق بطرده عن رحمة الله تعالى، فإنه الحامل عليها بتزيينها ففاعلها تابع لأعدى أعدائه مخالف لأعظم أوليائه {ليحزن} أي: الشيطان {الذين آمنوا} أي: ليوهمهم أنها لسبب شيء وقع مما يؤذيهم، والحزن همّ غليظ وتوجع يدق، يقال: حزنه وأحزنه بمعنى، قال في القاموس: أو أحزنه جعله حزيناً.
وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي من أحزنه، والباقون بفتح الياء وضم الزاي من حزن، والقراءة الأولى أشد في المعنى على ما في القاموس
{وليس} أي: الشيطان أو ما حمل عليه من التناجي {بضارهم} أي: الذين آمنوا {شيأ} من الضرر وإن قلّ {إلا بأذن الله} أي: بمشيئة الملك المحيط علماً وقدرة.
(12/10)
---(1/4554)
فإن قيل: كيف لا يضرّهم ذلك ولا يحزنهم إلا بإذن الله؟ أجيب: بأنهم كانوا يوهمون المؤمنين في نجواهم وتفاخرهم أنّ غزاتهم غلبوا وأنّ أقاربهم قتلوا فقال تعالى: {لا يضرّهم الشيطان} والحزن بذلك الموهم إلا بأذن الله تعالى أي: بمشيئته وهو أن يقضي الموت على أقاربهم والغلبة على الغزاة {وعلى الله} أي: الملك الذي لا كفء له لا على أحد غيره {فيتوكل المؤمنون} أي: الراسخون في الإيمان في جميع أمورهم، فإنه القادر وحده على إصلاحها وإفسادها فلا يحزنوا من أحد أن يكيدهم بسرّه ولا يجهره فإنهم توكلوا عليه وفوّضوا أمورهم إليه، وخص الراسخين لإمكان ذلك منهم في العادة، وأمّا أصحاب البدايات فلا يكون ذلك منهم إلا خرق عادة، روى ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بأذنه فإنّ ذلك يحزنه» وعن عبد الله بن مسعود أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى يختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه» فبين في هذا الحديث غاية المنع وهو أن يجد الثالث من يتحدّث معه كما فعل ابن عمر وذلك أنه كان يتحدث مع رجل فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يناجه حتى دعا رابعاً فقال له وللأول تأخرا وناجى الرجل الطالب للمناجاة، أخرجه في الموطأ ونبه على العلة بقوله: من أجل أن يحزنه أي: يقع في نفسه ما يحزن لأجله وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلاً، لوجود ذلك المعنى في حقه بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع فيكون بالمنع أولى، وإنما خص الثلاثة بالذكر، لأنه أوّل عدد يتأتى ذلك فيه.
(12/11)
---(1/4555)
قال القرطبي: وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال وذهب إليه ابن عمر ومالك والجمهور وسواء أكان التناجي في واجب أو مندوب أو مباح فإنّ الحزن ثابت به، وقد ذهب بعض الناس إلى أنّ ذلك كان في أوّل الإسلام لأنّ ذلك كان حال المنافقين فيتناجى المنافقون دون المؤمنين فلما فشا الإسلام سقط ذلك، وقال بعضهم: ذلك خاص بالسفر وفي المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه فأمّا الحضر وبين العمارة فلا؛ لأنه يجد من يغيثه بخلاف السفر فإنه مظنة الاغتيال وعدم الغوث
ولما نهى المؤمنين عما يكون سبباً للتباغض والتنافر أمرهم الآن بما يصير سبباً لزيادة المحبة والمودّة بقوله تعالى:
(12/12)
---
{يا أيها الذين آمنوا} أي: الذين اتصفوا بهذا الوصف {إذا قيل لكم} أي: من أيّ قائل كان فإنّ الخير يرغب فيه لذاته {تفسحوا} أي: توسعوا أي: كلفوا أنفسكم في اتساع المواضع {في المجلس} أي: الجلوس أو مكانه لأجل من يأتي فلا يجد مجلساً يجلس فيه، قال قتادة ومجاهد: «كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض»، وقال ابن عباس: المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب، قال الحسن وزيد بن أبي حبيب «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه على الصف الأوّل فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال والشهادة فنزلت». فيكون كقوله تعالى: {مقاعد للقتال} (آل عمران: 121)(1/4556)
وقال مقاتل «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصفة وكان في المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين، والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس، فقاموا قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لمن حوله من غير أهل بدر: قم يا فلان بعدد القائمين من أهل بدر فشق ذلك على من قام، وعرف النبيّ صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم فقال المنافقون: والله ما عدل على هؤلاء أنّ قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ» فنزلت الآية يوم الجمعة
(12/13)
---
وروي عن ابن عباس قال: «نزلت الآية في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه دخل المسجد وقد أخذ القوم مجالسهم وكان يريد القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم للوقر أي: الصمم الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضايقه بعضهم وجرى بينه وبينهم كلام فنزلت» وقد تقدّمت قصته في سورة الحجرات. وقرأ عاصم: يفتح الجيم،ألف بعدها جمعاً لأنّ لكل جالس مجلساً أي: فليفسح كل واحد في مجلسه والباقون بسكون الجيم ولا ألف إفرادا، قال البغوي: لأنّ المراد منه مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم
وقال القرطبي: الصحيح في الآية أنها عامة في مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير وللأجر سواء أكان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة، وإنّ كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه قال صلى الله عليه وسلم «من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ بذلك فيخرجه الضيق من موضعه» فيكون المراد بالمجلس الجنس ويؤيده قراءة الجمع {فافسحوا} أي: وسعوا فيه عن سعة صدر {يفسح الله} أي: الذي له الأمر كله {لكم} في كل ما تكرهون ضيقه من الدارين.(1/4557)
وقال الرازي: هذا يطلق فيما يطلب الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة قال: ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه.
(12/14)
---
وإذا قيل: أي من أيّ قائل كان كما مضى إذا كان يريد الإصلاح والخير {انشزوا} أي: ارتفعوا وانهضوا إلى الموضع الذي تؤمرون به أو يقتضيه الحال للتوسعة أو غيرها من الأوامر كالصلاة والجهاد {فانشزوا} أي: فارتفعوا وانهضوا {يرفع الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {الذين آمنوا} وإن كانوا غير علماء {منكم} أي: أيها المأمورون بالتفسح السامعون للأوامر المبادرون إليها بطاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامهم في مجلسهم وتوسعهم لإخوانهم {والذين أوتوا العلم درجات} يجوز أن يكون معطوفاً على الذين آمنوا فهو من عطف الخاص على العام فإنّ الذين أوتوا العلم بعض المؤمنين، ويجوز أن يكون والذين أوتوا العلم من عطف الصفات أي: تكون الصفتان لذات واحدة كأنه قيل: يرفع الله المؤمنين العلماء ودرجات مفعول ثان، وقال ابن عباس: تمّ الكلام عند قوله تعالى: {منكم} وينتصب الذين أوتوا بفعل مضمر أي: ويخص الذين أوتوا العلم درجات أو ويرفع درجات.
قال المفسرون: في هذه الآية أنّ الله تعالى رفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم، قال ابن مسعود مدح الله تعالى العلماء في هذه الآية، والمعنى: أنّ الله تعالى يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذا فعلوا بما أمروا به وقال تعالى: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (الزمر: 9)
وقال تعالى: {وقل رب زدني علماً} (طه: 114)
وقال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28)
والآيات في ذلك كثيرة معلومة
(12/15)
---(1/4558)
وأمّا الأحاديث فكثيرة مشهورة منها من «يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» وروي أنّ عمر رضى الله عنه «كان يقدّم عبد الله بن عباس على الصحابة رضي الله تعالى عنهم فكلموه في ذلك فدعاهم ودعاه فسألهم عن تفسير {إذا جاء نصر الله والفتح} فسكتوا فقال ابن عباس: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله إياه فقال عمر ما أعلم منها إلا ما تعلم».
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله ما لا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» والمراد بالحسد: الغبطة: وهي أن تتمنى مثله ومنها أنه صلى الله عليه وسلم «قال لعليّ كرّم الله وجهه: لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من جاءه أجله وهو يطلب العلم لحيي به الإسلام لم يفضله النبيون إلا بدرجة واحدة» ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة».
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وفي رواية كفضلي على أدناكم».
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: إنّ الله أوحى إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أني عليم أحب كل عليم».
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(12/16)
---(1/4559)
ومنها: «أنه صلى الله عليه وسلم مرّ بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون الله تعالى ويرغبون إليه، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه، أما هؤلاء فيدعون لله عز وجل ويرغبون إليه، وأما هؤلاء فيتعملون الفقه ويعلمونه الجاهل فهؤلاء أفضل، وإنما بعثت معلماً ثم جلس فيهم» والأحاديث في ذلك كثيرة جدّاً.
وأمّا أقوال السلف فلا تحصر، فمنها ما قاله ابن عباس: أن سليمان عليه السلام خير بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه، وما قاله بعض الحكماء: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم وأي شيء فات من أدرك العلم.
وما قاله الأحنف: كاد العلماء يكونون أرباباً، وكل عز لم يؤكد بعلم فإلى ذل ما يصير.
وما قاله الزبيري: العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال.
وما قاله أبو مسلم الخولاني: مثل العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء إذا برزت للناس اهتدوا بها وإذا خفيت عنهم تحيروا.
وما قاله معاذ: تعلم العلم فإنّ تعلمه لك حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة.
وما قاله علي: العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق.
وما قاله ابن عمر: مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة.
وما قاله الشافعي من أن: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة وقال: ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، وقال: من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم فإنه يحتاج إليه في كل منهما.
(12/17)
---(1/4560)
وقد ذكرت في أوّل شرح المنهاج من الأحاديث ومن أقوال السلف ما يسرّ الناظر الراغب في الخير وفيما ذكرته هنا كفاية لأولي الأبصار {والله} أي: والحال أنّ المحيط بكل شيء علماً وقدرة {بما تعملون} أي: حال الأمر وغيره {خبير} أي: عالم بظاهره وباطنه فإن كان العلم مزيناً بالعمل بامتثال الأوامر واجتناب النواهي وتصفية الباطن كانت الرفعة على حسبه، وإن كان على غير ذلك فكذلك.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي: ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة أغنياء كانوا أو فقراء {إذا ناجيتم الرسول} أي: أردتم مناجاة الذي لا أكمل منه في الرسالة الآية، فقال ابن عباس: «إنّ المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية فكف كثير من الناس». وقال الحسن: «أنّ قوماً من المسلمين كانوا يستخلون بالنبيّ صلى الله عليه وسلم يناجونه، فظنّ بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى فشق عليهم ذلك فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه».
(12/18)
---(1/4561)
وقال زيد بن أسلم «إنّ المنافقين واليهود كانوا يناجون النبيّ صلى الله عليه وسلم ويقولون: إنه أذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحداً من مناجاته فكان ذلك يشق على المسلمين لأنّ الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم يناجون أنّ جموعاً اجتمعت للقتال فنزلت {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول}» أي: أردتم مناجاته {فقدّموا} أي: بسبب هذه الإرادة وقوله تعالى: {بين يدي نجواكم} استعارة ممن له يدان والمعنى: قبل نجواكم التي هي سرّكم الذي تريدون أن ترفعوه {صدقة} لقول عمر من أفضل ما أوتيت العرب الشعر يقدّمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم ويستنزل به اللئيم يريد قبل حاجته، والصدقة تكون لكم برهاناً على إخلاصكم كما ورد أنّ الصدقة برهان فهي مصدّقة لكم في دعوى الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وبكل ما جاء به عن الله تعالى.
تنبيه: ظاهر الآية يدل على أنّ تقديم الصدقة كان واجباً لأنّ الأمر للوجوب ويؤكد ذلك قوله تعالى بعده: {فإنّ لم تجدوا فإنّ الله غفور رحيم} وقيل: كان مندوباً لقوله تعالى: {ذلك} أي: التصدّق {خير لكم وأطهر} أي: لأنفسكم من الريبة وحب المال هذا إنما يستعمل في التطوّع لا في الواجب ولأنه لو كان واجباً لما أزيل وجوبه والكلام متصل به وهو قوله تعالى: {فإن لم تجدوا} الآية.
وأجيب عن الأوّل: بأنّ المندوب كما يوصف بأنه خير وأطهر فكذلك أيضاً يوصف بهما الواجب.
وعن الثاني: بأنه لا يلزم من اتصال الآيتين في التلاوة كونهما متصلتين في القول كما قيل في الآية الدالة على وجوب الاعتداد أربعة أشهر وعشراً أنها ناسخة للاعتداد بحول وإن كان الناسخ متقدّماً في التلاوة.
(12/19)
---(1/4562)
وعن علي أنه قال: «لما نزلت دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تقول في دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: كم؟ قلت: حبة أو شعيرة قال إنك لزهيد فلما رأوا ذلك اشتدّ عليهم فارتدعوا، أما الفقير فلعسرته وأما الغنيّ فلشحته» واختلف في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ في هذه الآية، فقال الكلبي: ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من نهار ثم نسخ وقال مقاتل وابن حبان: بقي ذلك التكليف عشرة أيام ثم نسخ لما روي عن عليّ أنه قال إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي كان لي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيته تصدّقت بدرهم. وفي رواية عنه فاشتريت به عشرة دراهم وكلما ناجيت النبيّ صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهماً ثم نسخت فلم يعمل بها أحد.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنهم نهوا عن المناجاة حتى يتصدّقوا فلم يناج أحد إلا علي تصدّق بدينار، وعدم عمل غيره لا يقدح فيه لاحتمال أن يكون لم يجد عند المناجاة شيئاً أو أن لا يكون احتاج إلى المناجاة ثم نزلت الرخصة.
وعن ابن عمر رضى الله عنه كان لعليّ ثلاث لو كان لي واحدة منهنّ كانت أحب إليّ من حمر النعم تزويجه فاطمة وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى.
واختلف في الناسخ لذلك فقيل: هي منسوخة بالزكاة وأكثر المفسرين أنها منسوخة بالآية التي بعدها وهي {أأشفقتم} كما سيأتي وكان عليّ يقول: وخفف عن هذه الأمة {فإن لم تجدوا} أي: ما تقدّمونه فإن الله أي الذي له جميع صفات الكمال {غفور رحيم} أي: له صفتا الستر للمساوي والإكرام بإظهار المحاسن على الدوام فهو يعفو ويرحم تارة يقدّم العقاب للعاصي وتارة بالتوسعة للضيق بأن ينسخ ما يشق إلى ما يخف.
(12/20)
---(1/4563)
وقوله تعالى: {أأشفقتم} أي: خفتم العيلة لما يعدكم به الشيطان من الفقر خوفاً كاد أن يفطر قلوبكم {أن تقدّموا} أي: بإعطاء الفقراء وهم إخوانكم {بين يدي نجواكم} أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم {صدقات} وجمع؛ لأنه أكثر توبيخاً من حيث إنه يدل على أنّ النجوى تتكرّر استفهام معناه التقرير وهو الناسخ عند الأكثر كما مرّ.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام: بتسهيل الثانية بخلاف عن هشام، وأدخل بينهما الفاء قالون وأبو عمرو وهشام، والباقون بتحقيقهما ولا إدخال والأولى محققة بلا خلاف {فإذ} أي: فحين {لم تفعلوا} أي: ما أمرتكم به من الصدقة للنجوى بسبب هذا الإشفاق {وتاب الله} أي: الملك الأعلى {عليكم} أي: رجع بكم عنها بأن نسخها عنكم تخفيفاً عليكم {فأقيموا} أي: بسبب العفو عنكم شكراً أي: على هذا الكرم والحلم {الصلاة} التي هي طهرة لأرواحكم وصلة لكم بربكم {وآتوا الزكاة} التي هي براءة لأبدانكم وتطهير ونماء لأموالكم وصلة لكم بإخوانكم، ولا تفرّطوا في شيء من ذلك فتهملوه فالصلاة نور يهدي إلى المقاصد الدنيوية والأخروية ويعين على نوائب الدارين، والصدقة برهان على صحة القصد في الصلاة.
ثم عمم بعد أن خصص أشرف العبادات البدنية وأعلى المناسك المالية بقوله تعالى: {وأطيعوا الله} أي: الذي له الكمال له {ورسوله} أي: الذي عظمته من عظمته في سائر ما يأمرانكم به، فإنه تعالى ما أمركم لأجل إكرام رسولكم صلى الله عليه وسلم إلا بالحنيفية السمحة {والله} أي: الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة {خبير بما تعملون} أي: يعلم بواطنكم كما يعلم ظواهركم لا تخفى عليه خافية.
(12/21)
---(1/4564)
{ألم تر} أي: تنظر يا أشرف الخلق {إلى الذين تولوا} أي: تكلفوا بغاية جهدهم وهم المنافقون أي جعلوا أولياءهم الذين يتولون لهم أمورهم {قوماً} وهم اليهود ابتغوا عندهم العزة اغتراراً بما يظهر لهم منهم من القوة {غضب الله} أي: الملك الأعلى الذي لا ندّله {عليهم} أي: المتولى والمتولى لهم {ما هم} أي: المنافقون {منكم} أي: المؤمنين {ولا منهم} أي: اليهود بل هم مذبذبون وزاد في الشناعة عليهم بأقبح الأشياء بقوله تعالى: {ويحلفون} أي: المنافقون يجدّدون الحلف على الاستمرار ودل بأداة الاستعلاء على أنهم في غاية الجراءة على استمرارهم على الإيمان الكاذبة بأنّ التقدير مجترئين {على الكذب} في دعوى الإسلام وغير ذلك مما يقعون فيه من عظائم الآثام فإذا عوتبوا عليه بادروا إلى الإيمان {وهم يعلمون} أنهم كاذبون متعمدون.
(12/22)
---
روي «أنّ عبد الله بن نبتل كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجره إذ قال لأصحابه: يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان، فدخل ابن نبتل وكان أزرق العينين أسمر قصيراً خفيف اللحية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل فقال النبي صلى الله عليه وسلم فعلت فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فنزلت».
{أعد الله} أي: الذي له العظمة الباهرة فلا كفء له {لهم عذاباً} أي: أمراً قاطعاً لكل عذوبة {شديداً} أي: لا طاقة لهم به ثم علل عذابهم بما دلّ على أنه واقع في أتم مواقعه بقوله تعالى مؤكداً تقبيحاً على من كان يستحسن فعالهم {إنهم ساء} أي: بلغ الغاية بما يسوء ودل على أنّ ذلك لهم كالجبلة بقوله تعالى: {ما كانوا يعملون} أي: يجدّدون عمله مستمرّين عليه لا ينفكون عنه، قال الزمخشري: أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة
(12/23)
---(1/4565)
{اتخذوا أيمانهم} أي: الكاذبة التي لا تهون على من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان {جنة} وقاية وسترة من كل ما يفضحهم من النفاق كائناً ما كان {فصدّوا} أي: كان قبول ذلك منهم وتأخير عقابهم سبباً لإيقاعهم الصدّ {عن سبيل الله} أي: شرع الملك الأعلى الذي هو طريق إلى رضوانه الذي هو سبب الفوز العظيم فإنهم كانوا يثبطون من لقوا عن الدخول في الإسلام ويوهنون أمره ويحقرونه، ومن رآهم قد خلصوا من المكاره بأيمانهم الخائنة ودرّت عليهم الأرزاق استدراجاً، وحصلت لهم الرفعة عند الناس بما يرضونه من أقوالهم المؤكدة بالإيمان، غرّه ذلك فاتبع سنتهم في أقوالهم وأفعالهم ونسج على منوالهم غروراً بظاهر أمرهم معرضاً عما توعدهم الله تعالى عليه من جزاء خداعهم وأمرهم وأجرى الأمر على أسلوب التهكم باللام التي تكون في المحبوب فقال تعالى: {فلهم} أي: فتسبب عن صدّهم إنه كان لهم {عذاب مهين} جزاء بما طلبوا بذلك الصدّ إعزاز أنفسهم وإهانة أهل الإسلام
{لن تغنى} أي: بوجه من الوجوه {عنهم أموالهم} أي: في الدنيا ولا في الآخرة بالافتداء ولا بغيره {ولا أولادهم} أي: بالنصرة والمدافعة {من الله} أي: أغناه مبتدأ من الملك الأعلى {شيئاً} ولو قل جدّاً فمهما أراد بهم سبحانه كان ونفذ ومضى لا يدفعه شيء تكذيباً لمن قال منهم: لئن كان يوم القيامة لنكوننّ أسعد فيه منكم كما نحن الآن ولننجونّ بأنفسنا وأموالنا وأولادنا {أولئك} أي: البعداء من كل خير {أصحاب النار هم} أي: خاصة {فيها} أي: خاصة {خالدون} أي: دائمون لازمون إلى غير نهاية
(12/24)
---(1/4566)
وقوله تعالى: {يوم} منصوب باذكر أي: واذكر يوم {يبعثهم الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {جميعاً} فلا يترك أحداً منهم ولا من غيرهم إلا أعاده إلى ما كان قبل موته {فيحلفون} أي: فيتسبب عن ظهور القدرة التامّة لهم ومعاينة ما كانوا يكذبون به أنهم يحلفون {له} أي: لله في الآخرة أنهم مسلمون فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين ونحو ذلك {كما يحلفون لكم} في الدنيا أنهم مثلكم، وقال ابن عباس رضى الله عنهما: يحلفون لله تعالى يوم القيامة كذباً كما حلفوا لأوليائه في الدنيا وهو قولهم والله ربنا ما كنا مشركين. {ويحسبون} أي: في القيامة بأيمانهم الكاذبة {أنهم على شيء} أي: يحصل لهم به نفع بإنكارهم وحلفهم، وقيل: يحسبون في الدنيا أنهم على شيء، لأنهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار والأول أظهر والمعنى: أنهم لشدّة توغلهم في النفاق ظنوا يوم القيامة أنهم يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب.
وإليه الإشارة بقوله تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} (الأنعام: 28)
وعن ابن عباس رضى الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينادي مناد يوم القيامة أين خصماء الله تعالى فتقوم القدرية مسودّة وجوههم مزرقة أعينهم مائل شقهم يسيل لعابهم فيقولون والله ما عبدنا من دونك شمساً ولا قمراً ولا صنماً ولا اتخذنا من دونك إلهاً» قال ابن عباس رضى الله عنهما: صدقوا والله أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون ثم تلا: {ويحسبون أنهم على شيء}» وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: بفتح السين، والباقون بكسرها {ألا إنهم هم الكاذبون} المحكوم بكذبهم في حسبانهم هم والله القدرية ثلاثاً.
(12/25)
---(1/4567)
{استحوذ} أي: استولى {عليهم الشيطان} مع أنه طريد ومحترق ووصل منهم إلى ما يريده وملكهم ملكاً لم يبق لهم معه اختيار فصاروا رعيته وصار هو محيطاً بهم من كل جهة غالباً عليهم ظاهراً وباطناً من قولهم حذت الأبل وحذذتها إذا استوليت عليها، والحوذ أيضاً: السوق السريع ومنه الأحوذي الخفيف في الشيء لحذقه، واستحوذ مما جاء على الأصل وهو ثبوت الواو دون قلبها ألفاً {فأنساهم} أي: فتسبب عن استحواذه عليهم أن أنساهم {ذكر الله} أي: الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا {أولئك} أي: البعداء البغضاء {حزب الشيطان} أي: أتباعه وجنوده وطائفته وأصحابه {ألا إنّ حزب الشيطان} أي: الطريد المحترق {هم الخاسرون} أي: العريقون في هذا الوصف؛ لأنهم لم يظفروا بغير الطرد والاحتراق.
{إن الذين يحادون الله} أي: يفعلون مع الملك الأعظم الذي لا كفؤ له، فعل من ينازع آخر في الأرض فيغلب على طائفة ليجعل لها حداً لا يتعداه خصمه {ورسوله} أي: الذي عظمته من عظمته {أولئك} أي: البعداء البغضاء {في الأذلين} أي: في جملة من هو أدل خلق الله تعالى.
واختلف في معنى قوله عز وجلّ {كتب الله} أي: الملك الذي لا كفؤ له فقال أكثر المفسرين أي: قضى الله عز وجلّ {لأغلبن} وقال قتادة: كتب في اللوح المحفوظ، وقال الفراء: كتب بمعنى قال وقوله تعالى: {أنا} تأكيد {ورسُلي} أي: من بعث منهم بالحرب ومن بعث منهم بالحجة فإذا انضم إلى الغلبة بالحجة الغلبة بالحرب كان أغلب وأقوى.
وقال مقاتل: قال المؤمنون لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهنّ رجونا أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها والله أنهم لأكثر عدداً وأشدّ بطشاً من أن تظنوا فيهم فنزل {لأغلبن أنا ورسلي}.
ونظيره قوله تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم لهم المنصورون وإنّ جندنا لهم الغالبون} (الصافات: 171 ـ 173)
(12/26)
---(1/4568)
وقرأ نافع وابن عامر: بفتح الياء والباقون بالسكون {إن الله} أي: الذي له الأمر كله {قويّ} أي: على نصر أوليائه {عزيز} أي: لا يغلب عليه في مراده.
ثم نهى تعالى عن موالاة أعداء الله تعالى بقوله سبحانه {لا تجد} أي: بعد هذا البيان {قوماً} أي: ناساً لهم قوة على ما يريدون {يؤمنون} أي: يجددون الإيمان ويديمونه {بالله} أي: الذي له صفات الكمال {واليوم الآخر} الذي هو موضع الجزاء لكل عامل بكل ما عمل الذي هو محط الحكمة {يوادّون} أي: يحصل منهم ودّ لا ظاهراً ولا باطناً {من حادّ الله} أي: عادى بالمناصبة في حدود الملك الأعلى {ورسوله} فإن من حادّه فقد حادّ الذي أرسله بل لا تجدهم إلا يحادّونهم لا أنهم يوادّونهم.
وزاد ذلك تأكيداً بقوله تعالى: {ولو كانوا آباؤهم} أي: الذين أوجب الله تعالى إلا بناء طاعتهم في المعروف، وذلك كما فعل أبو عبيدة بن الجراح حيث قتل أباه عبد الله بن الجرّاح يوم أحد {أو أبناءهم} أي: الذين جبلوا على محبتهم ورحمتهم، كما فعل أبو بكر «فإنه دعا ابنه يوم بدر إلى المبارزة وقال: دعني يا رسول الله أكن في الرعلة الأولى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم متعنا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري» {أو إخوانهم} أي: الذين هم أعضادهم كما فعل مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد وخزف سعد بن أبي وقاص غير مرّة فراغ منه روغان الثعلب فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عنه وقال: أتريد أن تقتل نفسك.
وقتل محمد بن سلمة الأنصاري أخاه من الرضاع كعب بن الأشرف اليهودي رأس بني النضير {أو عشيرتهم} أي: الذين هم أنصارهم وأمدادهم كما قتل عمر خاله العاصي وهشام بن المغيرة يوم بدر، وعلي وحمزة وعبيدة بن الحارث قتلوا يوم بدر بني عمهم عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة.
(12/27)
---(1/4569)
وعن الثوري: أنّ السلف كانوا يرون أنّ الآية نزلت فيمن يصحب السلطان ا.ه. ومدار ذلك على أنّ الإنسان يقطع رجاء من غير الله تعالى، وإن لم يكن كذلك لم يكن مخلصاً في إيمانه.
تنبيه: قدّم الآباء أوّلاً لأنهم تجب طاعتهم على أبنائهم، ثم ثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب وهم حياتها، ثم ثلث بالأخوان لأنهم هم الناصرون بمنزلة العضد من الذراع. قال الشاعر:
*أخاك أخاك إن من لا أخا له
** كساع إلى الهيجا بغير سلاح
*وإن ابن عمّ المرء فاعلم جناحه
** وهل ينهض البازي بغير جناح
ثم ربع بالعشيرة لأنّ بها يستغاث وعليها يعتمد، والمعنى: أنّ الميل إلى هؤلاء أعظم أنواع المحبة ومع هذا فيجب أن يكون هذا الميل مطروحاً بسبب الدين.
قال ابن عباس رضى الله عنهما: نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجرّاح لما قتل أباه، وعمر بن الخطاب رضى الله عنه لما قتل خاله العاصي ابن هشام يوم بدر روي أنها نزلت في أبي بكر، وذلك أنّ أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه صكةً سقطت منها أسنانه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال: أو فعلت، قال: نعم، قال: لا تعد إليه، فقال: والذي بعثك بالحق نبياً لو كان السيف مني قريباً لقتلته، فهؤلاء لم يوادّوا أقاربهم.
قال القرطبي: استدل مالك بهذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم، قال القرطبي: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم. وعن عبد العزيز بن أبي دواد: أنه لقي المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلا الآية. وقال صلى الله عليه وسلم «اللهمّ لا تجعل لفاجر عندي نعمة، فإني وجدت فيما أوحيت إليّ {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر} الآية {أولئك} أي: العالو الهمة {كتب} أي: أثبت قاله الربيع بن أنس رضى الله عنه، وقيل: خلق، وقيل: جعل كقوله تعالى: {فاكتبنا مع الشاهدين} (آل عمران: 53)
أي: اجعلنا، وقوله تعالى: {فسأكتبها للذين يتقون} (الأعراف: 156)
(12/28)
---(1/4570)
وقيل: {كتب في قلوبهم الإيمان} (طه: 71)
بما وفقهم فيه وشرح له صدرهم، أي: على قلوبهم كقوله تعالى: {في جذوع النخل} وخص القلوب بالذكر لأنها موضع الإيمان. قال البيضاوي: وهو دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان، فإنّ جزاء الثابت في القلب يكون ثابتاً فيه، وأعمال الجوارح لا تثبت فيه. {وأيدهم} أي: وقوّاهم وشدّدهم وشرّفهم {بروح} أي: نور شريف جدّاً يفهمون به ما أودع في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من نور العلم والعمل {منه} أي: من الله تعالى أحياهم به فلا إنفكاك لذلك عنهم في وقت من الأوقات، فأثمر لهم استقامة المناهج ظاهراً وباطناً، فعملوا الأعمال الصالحة فكانوا للدنيا كالسراج، فلا تجد شيئاً أدخل في الإخلاص من موالاة أولياء الله تعالى، ومعاداة أعدائه لا بل هو عين الإخلاص، ومن جنح إلى منحرف عن دينه، أوداهن مبتدعاً في عقيدته نزع الله تعالى نور التوحيد من قلبه.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الضمير للإيمان، أي: بروح من الإيمان على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به وقال ابن عباس رضى الله عنهما: نصرهم على عدوّهم، وسمى تلك النصرة روحاً، لأنّ بها يحيا أمرهم. وقال الربيع بن أنس رضى الله عنه: بالقرآن وحججه، وقال ابن جريج: بنور وبرهان وهدى، وقيل: برحمة، وقيل: أيدهم بجبريل عليه السلام {ويدخلهم جنات} أي: بساتين تستر داخلها من كثرة أشجارها.
(12/29)
---(1/4571)
وأخبر عن ريها بقوله تعالى: {تجري من تحتها الأنهار} أي قصورها {الأنهار} فهي بذلك كثيرة الرياض والأشجار وقال تعالى: {خالدين فيها} لأنّ ذلك لا يلذ إلا بالدوام، وقال تعالى: {رضى الله} أي: الملك الأعظم {عنهم} لأنّ ذلك لا يتم إلا برضا مالكها الذي له الملك كله {ورضوا عنه} أي: لأنه أعطاهم فوق ما يؤملون {أولئك} أي: الذين هم في الدرجات العلى من العظمة لكونهم قصروا ودّهم على الله تعالى، علماً منهم بأنه ليس الضرّ والنفع إلا بيده {حزب الله} أي: جند الملك الذي أحاط بجميع صفات الكمال {ألا إنّ حزب الله} أي: جند الملك الأعلى، وهم هؤلاء الموصوفون ومن والاهم {هم المفلحون} أي: الذين حازوا الظفر بكل ما يؤملون في الدارين، وقد علم من الرضا من الجانبين والحزبية والإفلاح عدم الإنفكاك عن السعادة فأغنى ذلك عن تقييد الخلود بالتأييد.
فائدة: هذه السورة نصف القرآن عدداً، وليس فيها آية إلا وفيها ذكر الجلالة الكريمة مرة أو مرتين أو ثلاثاً. وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنّ من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله تعالى يوم القيامة حديث موضوع. والله تعالى أعلم.
سورة الحشر
مدنية
في قول الجميع، وهي أربع وعشرون آية وأربعمائةوخمس وأربعون كلمة، وألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفاً
{بسم الله} الملك الأعظم الذي لا خلف لميعاده {الرحمن} الذي عمت نعمة إيجاده {الرحيم} الذي خص أهل ودّه بالتوفيق فهم أهل السعادة.
ولما ختمت المجادلة بأنه يعز أهل طاعته ويذل أهل معصيته تنزه عن النقائص تأييداً للوعد بنصرهم فقال تعالى:
(12/30)
---
{سبح} أي: أوقع التنزيه الأعظم عن كل شائبة نقص {لله} الذي أحاط بجميع صفات الكمال {ما في السموات} أي: كلها {وما في الأرض} أي: كذلك، وقيل: أن اللام مزيدة، أي: نزهة وأتى بما تغليباً للأكثر، وجمع السماء لأنها أجناس.(1/4572)
قيل: بعضها من فضة وبعضها من غير ذلك، وأفراد الأرض لأنها جنس واحد {وهو} أي: والحال أنه وحده {العزيز} الذي يغلب كل شيء، ولا يمتنع عليه شيء {الحكيم} الذي نفذ علمه في الظواهر والبواطن، وأحاط بكل شيء فأتقن ما أراد، فكل ما خلقه جعله على وحدانيته دليلاً، وإلى بيان ماله من العزة والحكمة سبيلاً.
(12/31)
---
وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء، والباقون بضمها، قال المفسرون: نزلت هذه السورة في بني النضير، وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يكونوا عليه ولا له، فلما غزا بدراً وظهر على المشركين قالوا: هو النبيّ الذي نعته في التوراة لا تردّ له راية، فلما غزا أحد وهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم
(12/32)
---(1/4573)
وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكباً من اليهود إلى مكة، فأتوا قريشاً فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل أبو سفيان في أربعين وكعب في أربعين من اليهود المسجد، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين أستار الكعبة، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة فنزل جبريل عليه السلام، وأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بما عاقد عليه كعب وأبو سفيان، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة، فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير، وكانوا بقرية يقال لها: زهرة فلما سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدهم ينوحون على كعب، وقالوا: يا محمد واعية على أثر واعية، وباكية على أثر باكية، قال: نعم، قالوا: ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اخرجوا من المدينة، فقالوا: الموت أقرب إلينا من ذلك، ثم تنادوا بالحرب وآذنوا بالقتال، ودس المنافقون عبد الله بن أبيّ وأصحابه إليهم أن لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم، ولئن خرجتم لنخرجنّ معكم، فدربوا على الأزفة وحصنوها، ثم إنهم اجمعوا الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا إليه أن اخرج في ثلاثين رجلاً من أصحابك، ويخرج منا ثلاثون حتى نلتقي بمكان نصف بيننا وبينك فيسمعون منك، فإن صدّقوك وآمنوا بك آمنا كلنا. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثين من أصحابه، وخرج إليه ثلاثون حبراً من اليهود حتى إذا كانوا في براز من الأرض، قال بعض اليهود لبعض: كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون من رجال أصحابه كلهم يحب الموت قبله، ولكن أرسلوا إليه كيف نفهم ونحن ستون رجلاً اخرج في ثلاثة من أصحابك ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا فيسمعون منك، فإن آمنوا بك آمنا كلنا بك وصدقناك.
(12/33)
---(1/4574)
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة من أصحابه، واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها، وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أخوها سريعاً حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فسارّه بخبرهم.
فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح، فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به النبيّ صلى الله عليه وسلم فقبلوا ذلك فصالحهم على الجلاء وعلى أنّ لهم ما أقلت الإبل من أموالهم إلا الحلقة، وهي السلاح، وعلى أن يخلوا لهم ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: على أن يحمل كل أهل بيت على بعير ما شاء من متاعهم، وللنبيّ صلى الله عليه وسلم ما بقي.
وقال الضحاك: على كل ثلاثة نفر بعيراً ووسقاً من طعام. ففعلوا ذلك وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحاء إلا أهل بيتين من آل بني الحقيق، وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة بالحيرة.
(12/34)
---(1/4575)
فذلك قوله تعالى: {هو} أي: وحده من غير إيجاف خيل ولا ركاب {الذي أخرج} أي: على وجه القهر {الذي كفروا} أي: ستروا ما في كتبهم من الشواهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه النبيّ الخاتم، وما في فطرتهم الأولى من اتباع الحق {من أهل الكتاب} أي: الذي أنزله الله تعالى على رسوله موسى صلى الله عليه وسلم وهم بنو النضير. وفي التعبير بكفروا إشعار بأنهم الذي أزالوا بالتبديل والإخفاء ما قدروا عليه مما بقي من التوراة {من ديارهم} أي: مساكنهم بالمدينة عقوبة لهم، لأنّ الوطن عديل الروح لأنه للبدن كالبدن للروح فكان الخروج منه في غاية العسر. قال ابن اسحق: كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد، وفتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان {لأول الحشر} هو حشرهم إلى الشام.
وآخره أن جلاهم عمر في خلافته إلى خيبر. قال سمرة الهمداني: كان أوّل الحشر من المدينة، والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من الشام في أيام عمر وقال القرطبي: الحشر الجمع، وهو على أربعة أضرب: حشران في الدنيا وحشران في الآخرة، أما الذي في الدنيا فقوله تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر} كانوا من سبط لم يصبهم جلاء، وكان الله تعالى قد كتب عليهم الجلاء فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا، وكان أوّل حشر في الدنيا إلى الشام، قال ابن عباس وعكرمة رضي الله عنهم: من شك أنّ المحشر في الشام فليقرأ هذه الآية، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: «اخرجوا قالوا إلى أين، قال: إلى أرض الحشر» قال قتادة: هذا أول الحشر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو أول من حشر من أهل الكتاب وأخرج من داره.
(12/35)
---(1/4576)
وأما الحشر الثاني: فحشرهم قرب القيامة، قال قتادة: تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا وتأكل من تخلف منهم، وهذا ثابت في الصحيح. وذكروا أنّ تلك النار ترى بالليل ولا ترى بالنهار.
وقال ابن العربي: للحشر أوّل ووسط وآخر، فالأوّل: جلاء بني النضير، والأوسط: جلاء خيبر، والآخر: حشر يوم القيامة. وعن الحسن: هم بنو قريظة وخالفه بقية المفسرين، وقالوا: بنو قريظة ما حشروا ولكنهم قتلوا حكاه الثعلبي {ما ظننتم} أيها المؤمنون {أن يخرجوا} أي: يوقعوا الخروج من شيء أورثتموه منهم لما كان لكم من الضعف ولهم من القوة لكثرتهم وشدّة بأسهم وقرب بني قريظة منهم وأهل خيبر أيضاً غير بعيدين عنهم، وكلهم أهل ملتهم والمنافقون من أنصارهم فخابت ظنونهم في جميع ذلك {وظنوا أنهم} وقوله تعالى: {ما نعتهم حصونهم} فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون حصونهم مبتدأ، وما نعتهم خبر مقدّماً، والجملة خبر أنهم.
الثاني: أن تكون مانعتهم خبر أنهم، وحصونهم فاعل به نحو إنّ زيداً قائم أبوه، وإنّ عمراً قائمة جاريته. وجعله أبو حيان أولى لأنّ في نحو قائم زيد على أن يكون خبراً مقدّماً ومبتدأ مؤخراً خلافاً، والكوفيون يمنعونه فمحل الوفاق أولى.
(12/36)
---(1/4577)
وقال الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين قولك وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو ما نعتهم، وبين النظم الذي جاء عليه. قلت: في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، وفي تصيير ضميرهم اسماً لأن وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة، لا يبالي معها بأحد يتعرّض لهم أو يطمع في معازتهم، وليس ذلك في قولك: وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم ا.ه. وهذا الذي ذكره إنما يتأتى على الإعراب الأوّل، وقد تقدّم أنه مرجوح ودل على ضعف عقولهم بأن عبر عن جنده باسمه الأعظم بقوله تعالى: {من الله} أي: الملك الأعظم الذي لا عز إلا له {فأتاهم الله} أي: جاءهم الملك الأعظم الذي لا يحتملون مجيئه {من حيث لم يحتسبوا} بما صوّر لهم من حقارة أنفسهم على حبسها، وهي خذلان المنافقين رعباً كرعبهم. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بفتحها {وقذف} أي: أنزل إنزالاً كأنه قذف بحجارة فثبت {في قلوبهم الرعب} أي: الخوف الذي سكنها بعد أن كان الشيطان زين لهم غير ذلك، وملأ قلوبهم من الأطماع الفارغة. وقرأ في قلوبهم الرعب، وعليهم الجلاء، ولأخوانهم الذين حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم، وأبو عمر وبكسرهما، والباقون بكسر الهاء وضم الميم، وحرّك العين بالضم ابن عامر والكسائي، والباقون بالكسون
(12/37)
---(1/4578)
ثم بين تعالى حالهم عند ذلك وفسر قذف الرعب بقوله تعالى: {يخربون بيوتهم} أي: لينقلوا ما استحسنوه منها من خشب وغيره. وقرأ أبو عمرو بفتح الخاء وتشديد الراء، والباقون بسكون الخاء وتخفيف الراء وهما بمعنى، لأنّ خرب عدّاه أبو عمرو بالتضعيف، وهم بالهمزة. وعن أبي عمر وأنه فرق بمعنى آخر فقال: خرّب بالتشديد هدم، وأفسد وأخرب بالهمزة ترك الموضع خراباً وذهب عنه، وهو قول الفرّاء. قال المبرد: ولا أعلم لهذا وجهاً، وزعم سيبويه أنهما متعاقبان في بعض الكلام فيجري كل واحد مجرى الآخر، نحو: فرحته وأفرحته.
وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بيوتهم بضم الباء الموحدة، والباقون بكسرها {بأيديهم وأيدي المؤمنين} قال الزهري: وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما صالحهم على أنّ لهم ما أقلت الأبل، كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم فيهدمونها، وينزعون ما استحسنوه منها فيحملونه على إبلهم، ويخرّب المؤمنون باقيها. وقال قتادة والضحاك: كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود من داخل ليبنوا ما خرّب من حصنهم.
وقال مقاتل: إنّ المنافقين أرسلوا إليهم أن لا تخرجوا ود ربوا عليهم الأزقة، وكان المسلمون سائر الجوانب.
فإن قيل: ما معنى تخريبها لهم بأيدي المؤمنين؟ أجيب: بأنهم لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه. وقال أبو عمرو بن العلاء: بأيديهم في تركهم لها، وبأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها
(12/38)
---(1/4579)
ولما كان في غاية الغرابة أن يعمل الإنسان في نفسه كما يفعل فيه عدوّه تسبب عن ذلك قوله {فاعتبروا} أي: احملوا أنفسكم بالإمعان في التأمّل في عظيم قدرة الله تعالى، والاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخدّ. وسمي علم التعبير لأنّ صاحبه ينتقل من التخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات؛ لأنها تنقل المعاني عن لسان القائل إلى عقل المستمع ويقال: السعيد من اعتبر بغيره لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره. ولهذا قال القشيري: الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالاتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها
ثم بين أنّ الاعتبار لا يحصل إلا للكمل بقوله تعالى: {يا أولي الأبصار} بالنظر بإبصارهم وبصائرهم في غريب هذا الصنع، لتحققوا به ما وعدكم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من إظهار دينه وإعزاز نبيه، ولا تعتمدوا على غير الله تعالى كما اعتمد هؤلاء على المنافقين، فإنّ من اعتمد على مخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره ومذلته.
{ولولا أن كتب الله} أي: فرض فرضاً حتماً الملك الذي له الأمر كله {عليهم الجلاء} أي: الخروج من ديارهم والجولان في الأرض. فأمّا معظمهم فأجلاهم بختنصر من بلاد الشام إلى العراق، وأمّا هؤلاء فحماهم الله تعالى بمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك الجلاء، وجعله على يده صلى الله عليه وسلم فأجلاهم، فذهب بعضهم إلى خيبر، وبعضهم إلى الشام مرة بعد مرة
(12/39)
---(1/4580)
تنبيه:: قال الماوردي: الجلاء أخص من الخروج، لأنه لا يقال إلا للجماعة، والإخراج يكون للجماعة والواحد. وقال غيره: الفرق بينهما أنّ الجلاء ما كان مع الأهل والولد، بخلاف الإخراج فإنه لا يستلزم ذلك {لعذبهم} أي: بالقتل والسبي {في الدينا} كما فعل بقريظة من اليهود {ولهم} أي: على كل حال أجلوا أو تركوا {في الآخرة} التي هي دار البقاء {عذاب النار} وهو العذاب الأكبر.
{ذلك} أي: الأمر العظيم الذي فعله بهم من الجلاء ومقدماته في الدنيا، ويفعله بهم في الآخرة {بأنهم شاقوا الله} أي: الملك الأعلى الذي له الإحاطة التامّة فكانوا في شق غير شقه، بأن صاروا في شق الأعداء المحاربين بعدما كانوا الموادعين {و} شاقوا {رسوله} أي: الذي إجلاله من إجلاله {ومن يشاق الله} أي: يوقع في الباطن مشاقة الملك الأعلى الذي لا كفؤ له في الماضي والحال والاستقبال {فإن الله} أي: المحيط بجميع العظمة {شديد العقاب} وذلك كما فعل بأهل خيبر.
وقوله تعالى:
(12/40)
---
{ما} شرطية في موضع نصب بقوله تعالى: {قطعتم} وقوله تعالى: {من لينة} بيان له. واختلف في معنى قوله تعالى: {من لينة} فأكثر المفسرين على أنها هي النخلة مطلقاً، كأنهم اشتقوها من اللين. قال ذو الرمة:
*كان قتودي فوقها عش طائر ** على لينة سوقاء تهفو جنوبها*
وقال الزهري: هي النخلة ما لم تكن عجوة ولا برنية، وقال جعفر بن محمد: هي العجوة خاصة، وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح عليه الصلاة والسلام في السفينة، والعتيق: الفحل وكانت العجوة أصل الإناث كلها فلذلك شق على اليهود قطعها حكاه الماوردي. وقال سفيان: هي ضرب من النخل يقال لثمرها اللون، وهو شديد الصفرة يرى نواه من خارجه، ويغيب فيه الضرس النخلة منها أحب إليهم من وصيف.
(12/41)
---(1/4581)
وقيل: هي النخلة الكريمة، أي: القريبة من الأرض. وقيل: هي الفسيلة، أي: بالفاء وهي صغار النخل لأنها ألين من النخلة. وقيل: هي الأشجار كلها للينها بالحياة. وقال الأصمعي: هي الدقل. قال ابن العربي: والصحيح ما قاله الأزهري ومالك، وجمع اللينة لين؛ لأنه من باب اسم الجنس كتمرة وتمر، وقد تكسر على ليان وهو شاذ لأن تكسر ما يفرق بتاء التأنيث شاذ كرطبة ورطب وأرطاب والضمير في قوله تعالى: {أوتركتموها قائمة} عائد على معنى ما.
ولما كان الترك يصدق ببقائها مغروسة أو مقطوعة قال تعالى: {على أصولها فبأذن الله} أي: فقطعها بتمكين الملك الأعظم، روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فجزع أعداء الله تعالى عند ذلك وقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخل، وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض، فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم وخشوا أن يكون ذلك فساداً، واختلفوا في ذلك فقال بعضهم لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا، وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعه فأنزل الله تعالى هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الأثم، وإن ذلك كان بإذن الله وعن ابن عمر قال: «حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع» واللام في قوله تعالى: {وليخزي الفاسقين} متعلقة بمحذوف، أي: وأذن في قطعها ليخزي اليهود في اعتراضهم بأن قطع الشجر المثمر فساد، وليسر المؤمنين ويعزهم، وليخزي الفاسقين.
فإن قيل: لم خصت اللينة بالقطع؟ أجيب: بأنه إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية، وإن كانت من كرام النخل فليكون غيظ اليهود أشدّ.
(12/42)
---(1/4582)
واحتجوا بهذه الآية على أنّ حصون الكفرة وديارهم يجوز هدمها وتحريقها وتغريقها، وأن ترمى بالمناجيق، وكذا أشجارهم. وعن ابن مسعود: أنهم قطعوا منها ما كان موضعاً للقتال، وروي: أنّ رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة والآخر اللون فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا تركتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا قطعتها غيظاً للكفار. وقد استدل به على جواز الاجتهاد، وعلى جوازه بحضور النبي صلى الله عليه وسلم لأنهما بالاجتهاد فعلا ذلك، واحتج به من يقول: كل مجتهد مصيب. وقال الكيا الطبري: وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبيّ صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، ولا شك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ذلك وسكت، فتلقوا الحكم من تقريره فقط. قال ابن العربي: وهذا باطل لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم، ولا اجتهاد مع حضوره صلى الله عليه وسلم وإنما يدل على اجتهاد النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه أخذاً بعموم الأدلة للكفار ودخولاً للأذن في الكل بما يقضي عليهم بالبوار، وذلك قوله تعالى: {وليخزي الفاسقين}
{وما أفاء الله} أي: ردّ الملك الذي له الأمر كله ردّاً سهلاً بعد أن كان في غاية العسر والصعوبة {على رسوله} فصيره في يده بعد أن كان خروجه عنها بوضع أيدي الكفرة عليه ظلماً وعدواناً، كما دل عليه التعبير بالفيء الذي هو عود الظلّ إلى الناحية التي كان ابتدأ منها {منهم} أي: ردّاً مبتدأ من الفاسقين فبين تعالى أن هذا فيء لا غنيمة، ويدخل في الفيء أموال من مات منهم بلا وارث، وكذا الفاضل عن وارث له غير حائز، وكذا الجزية وعشر تجارتهم، وما جلوا أي: تفرقوا عنه ولو لغير خوف كضرّ أصابهم.
(12/43)
---(1/4583)
وأمّا الغنيمة فهي ما حصل لنا من الحربيين مما هو لهم بايجاف حتى ما حصل بسرقة أو التقاط، وكذا ما انهزموا عنه عند التقاء الصفين ولو قبل شهر السلاح، أو أهداه الكافر لنا والحرب قائمة. ولم تحل الغنائم لأحد قبل الإسلام بل كانت الأنبياء إذا غنموا مالاً جمعوه فتأتي نار من السماء فتأخذه، ثم أحلت لنبينا صلى الله عليه وسلم وكانت في صدر الإسلام له خاصة، لأنه كالمقاتلين كلهم نصرة وشجاعة بل أعظم، ثم نسخ ذلك واستقرّ الأمر على ما هو في سورة الأنفال في قوله تعالى: {واعلموا إنما غنمتم من شيء} (الأنفال: 41)
الآية وأما الفيء فهو مذكور هنا بقوله تعالى: {فما أوجفتم} أي: أسرعتم يا مسلمين {عليه} ومن في قوله تعالى: {من خيل} مزيدة، أي: خيلاً، وأكد بإعادة النافي دفعاً لظن من ظنّ أنه غنيمة لأحاطتهم به بقوله تعالى: {ولا ركاب} والركاب الإبل غلب ذلك عليها من بين المركوبات، واحدها راكبة ولا واحد لها من لفظها.
وقال الرازي: العرب لا يطلقون لفظ الراكب إلا على راكب البعير، ويسمون راكب الفرس فارساً، والمعنى: لم تقطعوا إليها شقة ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، فإنها كانت من المدينة على ميلين، قاله الفرّاء فمشوا إليها مشياً، ولم يركبوا إليها خيلاً ولا إبلاً إلا النبي صلى الله عليه وسلم ركب جملاً، وقيل: حماراً مخطوماً بليف فافتتحها صلحاً.
قال الرازي: إنّ الصحابة طلبوا من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة بينهم، فذكر الله تعالى الفرق بين الأمرين، وأنّ الغنيمة هي التي تعبتم أنفسكم في تحصيلها، وأمّا الفيء فلم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكان الأمر مفوّضاً فيه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يضعه حيث يشاء
(12/44)
---(1/4584)
{ولكن الله} أي: الذي له العز كله فلا كفؤ له {يسلط رسله} أي: له هذه السنة في كل زمن {على من يشاء} يجعل ما آتاهم سبحانه من الهيبة رعباً في قلوب أعدائه {والله} أي: الملك الذي له الكمال كله {على كل شيء} يصح أن تتعلق المشيئة به، وهو كل ممكن من التسليط وغيره {قدير} أي: بالغ القدرة إلى أقصى الغايات فلا حق لكم فيه، ويختص به النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن ذكر معه في الآية الثانية من الأصناف الأربعة، على ما كان عليه القسمة من أنّ لكل منهم خمس الخمس وله صلى الله عليه وسلم الباقي يفعل فيه ما يشاء
(12/45)
---(1/4585)
ثم بين تعالى مصرف الفيء بقوله تعالى: {ما أفاء الله} أي: الذي اختص بالعزة والقدرة والحكمة {على رسوله من أهل القرى} أي: قرية بني النضير وغيرها من وادي القرى والصفراء وينبع، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية، فيخمس ذلك خمسة أخماس وإن لم يكن في الآية تخميس، فإنه مذكور في آية الغنيمة فحمل المطلق على المقيد، وكان صلى الله عليه وسلم يقسم له أربعة أخماسه وخمس خمسة، ولكل من الأربعة المذكورين معه خمس خمس وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بين اللفظين، والباقون بالفتح فقوله تعالى: {فلله} أي: الملك الأعلى الذي كله بيده ذلك للتبرّك، فإنّ كل أمر لا يبدأ فيه به فهو أجذم {وللرسول} أي: الذي عظمته من عظمته تعالى، وقد تقدم ما كان له صلى الله عليه وسلم وأمّا بعده صلى الله عليه وسلم فيصرف ما كان له من خمس الخمس لمصالح المسلمين، وسد ثغور، وقضاة، وعلماء بعلوم تتعلق بمصالح المسلمين كتفسير وقراءة، والمراد بالقضاة غير قضاة العسكر أمّا قضاته وهم الذين يحكمون لأهل الفيء في مغزاهم فيرزقون من الأخماس الأربعة لا من خمس الخمس، يقدّم وجوباً الأهمّ فالأهمّ. وأمّا الأربعة المذكورة معه صلى الله عليه وسلم فأولها المذكور في قوله تعالى: {ولذي القربى} أي: منه، وهم مؤمنو بني هاشم وبني المطلب لاقتصاره صلى الله عليه وسلم في القسم عليهم مع سؤال غيرهم من بني عميهم نوفل وعبد شمس له، ولقوله صلى الله عليه وسلم «أما بنو هاشم وبنو المطلب فشيء واحد، وشبك بين أصابعه» فيعطون ولو أغنياء لأنه صلى الله عليه وسلم أعطى العباس وكان غنياً، ويفضل الذكر على الأنثى كالإرث فله سهمان ولها سهم، لأنه عطية من الله تعالى يستحق بقرابة الأب كالإرث سواء الكبير والصغير، والعبرة بالانتساب إلى الآباء فلا يعطى أولاد البنات من بني هاشم والمطلب شيئاً لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعط الزبير وعثمان مع أن أم كل منهما كانت هاشمية.(1/4586)
(12/46)
---
وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، وأبو عمرو بين بين، والباقون بالفتح، وخالفهم أبو عمرو في واليتامى. ثانيها: المذكور في قوله تعالى: {واليتامى} أي: الفقراء منا لأن لفظ اليتيم يشعر بالحاجة لأنه مال أو نحوه أخذ من الكفار فاختص كسهم المصالح، واليتيم صغير ولو أنثى لخبر «لا يتم بعد احتلام» رواه أبو داود وحسنه النووي وإن ضعفه غيره لا أب له، وإن كان له أمّ. وحد اليتيم في البهائم من فقد أمّه، وفي الطير من فقد أباه وأمّه، ومن فقد أمّه فقط من الآدميين يقال له: منقطع. ثالثها: المذكور في قوله تعالى: {والمساكين} الصادقين بالفقراء، وهم أهل الحاجة منا وتقدّم تعريفهما في سورة الأنفال، وكذا تعريف الرابع المذكور في قوله تعالى: {ابن السبيل} أي: الطريق الفقير منا ذكوراً كانوا أو إناثاً، ولو اجتمع في واحد من هذا الأصناف يتم ومسكنة أعطي باليتم فقط، لأنه وصف لازم والمسكنة زائلة، وللإمام التسوية والتفضيل بحسب الحاجة ويعم الإمام ولو بنائبه الأصناف الأربعة الأخيرة بالأعطاء وجوباً لعموم الآية فلا يخص الحاضر بموضع حصول الفيء، ولا من في كل ناحية منهم بالحاصل فيها نعم لو كان الحاصل لا يسد مسدّاً بالتعميم قدم الأحوج فالأحوج، ولا يعمّ للضرورة.
(12/47)
---(1/4587)
ومن فقد من الأربعة صرف نصيبه للباقين منهم، وأمّا الأخماس الأربعة فهي للمرتزقة، وهم المرصدون للجهاد بتعيين الإمام لهم بعمل الأولين به بخلاف المتطوّعة فلا يعطون من الفيء بل من الزكاة عكس المرتزقة، ويشرك المرتزقة قضاتهم كما مرّ وأئمتهم ومؤذنوهم وعمالهم، ويجب على الإمام أن يعطي كل من المرتزقة بقدر حاجة ممونه من نفسه، وغيرها كزوجاته ليتفرّغ للجهاد ويراعي في الحاجة الزمان والمكان والرخص والغلاء، وعادة الشخص مروأة وضدّها ويزادان زادت حاجته بزيادة ولد، أو حدوث زوجة فأكثر ومن لا عبد له يعطى من العبيد ما يحتاجه للقتال معه، أو لخدمته إن كان ممن يخدم، ويعطي مؤنته.
ومن يقاتل فارساً ولا فرس له يعطي من الخيل ما يحتاجه للقتال، ويعطى مؤنته بخلاف الزوجات يعطى لهنّ مطلقاً لانحصارهن في أربع، ثم ما يدفعه إليه لزوجته وولده الملك فيه لهما حاصل من الفيء.
وقيل: يملكه هو ويصير إليهما من جهته، فإن مات أعطى الإمام أصوله وزوجاته وبناته إلى أن يستغنوا، ويسنّ أن يضع الإمام ديواناً وهو الدفتر الذي يثبت فيه أسماء المرتزقة وأوّل من وضعه عمر رضي الله عنه وأن ينصب لكل جمع عريفاً، وأن يقدّه في اسم وإعطاء قريشاً لشرفهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ولخبر قدّموا قريشاً، وأن يقدم منهم بني هاشم وبني المطلب فبني عبد شمس فبني عبد العزى فسائر بطون العرب الأقرب فالأقرب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسائر العرب فالعجم، ولا يثبت في الديوان من لا يصلح، ومن مرض فكصحيح وإن لم يرج برؤه، ويمحى اسم كل من لم يرج، وما فضل عنهم وزع عليهم بقدر مؤنتهم وللإمام صرف بعضه في ثغور وسلاح وخيل ونحوها، وله وقف عقار فيء أو بيعه وقسم غلته أو ثمنه كقسم المنقول أربعة أخماسه للمرتزقة وخمسة للمصالح، وله أيضاً: قسمه كالمنقول لكن خمس الخمس الذي للمصالح لا سبيل إلى قسمته.
(12/48)
---(1/4588)
ولما حكم سبحانه هذا الحكم في الفيء المخالف لما كانوا عليه في الجاهلية من اختصاص الأغنياء به بين علته المظهرة لعظمته بقوله تعالى: {كي لا يكون} أي: الفيء الذي يسره الله تعالى بقوّته من قذف الرعب في قلوب أعدائه، ومن حقه أن يعطاه الفقراء {دولة} أي: متداولاً {بين الأغنياء منكم} أي: يتداوله الأغنياء ويدور بينهم كما كان في الجاهلية، فإنهم كانوا يقولون: من عزيز، ومنه قول الحسن: اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً، يريد: من غلب منهم أخذه واستأثر به. وقرأ هشام بخلاف عنه تكون بالتأنيث دولة بالرفع، والباقون بالتذكير والنصب، فأمّا الرفع فعلى أن كان تامّة، وأمّا التأنيث والتذكير فواضحان؛ لأنه تأنيث مجازي، وأما النصب فعلى إنها الناقصة واسمها ضمير عائد على الفيء. والتذكير واجب لتذكير المرفوع، ودولة خبرها، وقيل: دولة عائد على ما اعتباراً بلفظها، وكي لا هنا مقطوعة في الرسم
{وما آتاكم الرسول} أي: وكل شيء أحضره لكم الكامل في الرسالة من الغنيمة، أو مال الفيء أو غيره {فخذوه} أي: فاقبلوه لأنه حلال لكم، وتمسكوا به فإنه واجب الطاعة {وما نهاكم عنه} أي: من جميع الأشياء {فانتهوا} لأنه لا ينطق عن الهوى، ولا يقول ولا يفعل إلا ما أمر ربه عز وجل.
(12/49)
---(1/4589)
تنبيه: هذه الآية تدل على أنّ كل ما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر من الله تعالى لأنّ الآية، وإن كانت في الغنائم فجميع أوامره صلى الله عليه وسلم ونواهيه داخل فيها. قال عبد الرحمن بن زيد: لقي ابن مسعود رجلاً محرماً وعليه ثيابه، فقال: انزع عنك هذا، فقال الرجل: تقرأ عليّ بهذا آية من كتاب الله تعالى، قال: نعم {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وقال عبد الله بن محمد بن هارون الفريابي: سمعت الشافعي رضى الله عنه يقول: سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله تعالى، وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم قال: فقلت له: أصلحك الله ما تقول في المحرم يقتل الزنبور، قال: فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر» حدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن أسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب: أنه أمر بقتل الزنبور. وهذا الجواب في غاية الحسن أفتى بقتل الزنبور في الإحرام، وبين أنه يقتدى فيه بعمر، وأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به، وأنّ الله تعالى أمر بقبول ما يقوله صلى الله عليه وسلم فجواز قتله من الكتاب والسنة.
وسئل عكرمة عن أمّهات الأولاد هل هنّ أحرار؟ فقال: في سورة النساء في قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} (النساء: 59)
(12/50)
---(1/4590)
وفي صحيح مسلم وغيره عن علقمة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله تعالى» فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب فجاءت فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول فقال: لئن كنت قرأتيه فقد وجدتيه أما قرأت {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه الحديث.
فائدة: الوشم: هو غرز العضو من الإنسان بالإبرة، ثم يحشى بالكحل. والمستوشمة، هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك، والنامصة: هي التي تنتف الشعر من الوجه، والمتفلجة: هي التي تتكلف تفريج ما بين ثناياها بصناعة، وقيل: تتفلج في مشيها في كل شيء منهي عنه. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح والهمزة ممدودة بلا خلاف لأنها بمعنى الإعطاء {واتقوا الله} أي: واجعلوا لكم بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاية من عذاب الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة، وعلل ذلك بقوله تعالى: {إن الله} أي: الذي له الجلال والإكرام على الإطلاق {شديد العقاب} أي: العذاب الواقع بعد الذنب. قال البقاعي ومن زعم أن شيئاً مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ، لأنّ الأنفال نزلت في بدر، وهي قبل هذه بمدّة.
(12/51)
---(1/4591)
وقوله تعالى: {للفقراء} أي: الذين كان الإنسان منهم يعصب الحجر على بطنه من الجوع ويتخذ الحفرة في الشتاء لتقيه البرد وماله دثار غيرها بدل من لذي القربى، وما عطف عليه قاله الزمخشري. والذي منع الإبدال من لله وللرّسول والمعطوف عليهما وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ الله تعالى أخرج رسوله صلى الله عليه وسلم من الفقراء في قوله تعالى: {وينصرون الله ورسوله} ولأنه تعالى يترفع برسوله صلى الله عليه وسلم عن تسميته بالفقير، وقال غيره: إنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: ولكن الفيء للفقراء.
وقيل تقديره: ولكن يكون للفقراء، وقيل تقديره: أعجبوا للفقراء، واقتصر على هذا التقدير الجلال المحلى. وإنما جعله الزمخشري بدلاً من لذي القربى لأنه حنفي، والحنفية يشترطون الفقر في إعطاء ذوي القربى من الفيء، ولذا قال البيضاوي: ومن أعطى أغنياء ذوي القربى، أي: كالشافعي خصص الإبدال بما بعده، أو الفيء بفيء بني النضير ا.ه. أوانهم كانوا عند نزول الآية كذلك، ثم خصص بالوصف بقوله تعالى: {المهاجرين} وقيد ذلك بقوله تعالى: {الذين أخرجوا من ديارهم} لأنّ الهجرة قد تطلق على من هجر أهل الكفر من غيره مفارقة الوطن وقوله تعالى: {وأموالهم} إشارة إلى أنّ المال لما كان يستره الإنسان كان كأنه ظرف له
(12/52)
---(1/4592)
ولما كان طلب الدنيا من النقائص بين أنه إذا كان من الله لم يكن كذلك، وأنه لا يكون فادحاً في الإخلاص فقال تعالى: {يبتغون} أي: اخرجوا حال كونهم يطلبون على وجه الاجتهاد، وبين أنه لا يجب عليه سبحانه لأحد شيء بقوله تعالى: {فضلاً من الله} أي: الملك الأعظم الذي لا كفء له، لأنه المختص بجميع صفات الكمال فيغنيهم بفضله عمن سواه {ورضوانا} بأن يوفقهم لما يرضيه عنهم، ولا يجعل رغبتهم في العوض منه فادحاً في الإخلاص فيوصلهم إلى دار كرامته وقرأ شعبة بضم الراء، والباقون بكسرها {وينصرون} أي: على سبيل التجديد والاستمرار {الله} أي: دين الملك الأعظم {ورسوله} الذي عظمته من عظمته بأنفسهم وأموالهم ليضمحل حزب الشيطان {أولئك} أي: العالو الرتبة في الأخلاق الفاضلة {هم الصادقون} أي: العريقون في هذا الوصف، لأنّ مهاجرتهم لما ذكر وتركهم لما وصف دل على كمال صدقهم فيما ادعوه من الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم حيث نابدوا من عاداهما، ووالوا أولياءهما وإن بعدت دارهم وشط مزارهم
ثم اتبع ذكر المهاجرين بذكر الأنصار الذين كانوا في كل حال معه صلى الله عليه وسلم كالميت بين يدي الغاسل مهما شاء فعل ومهما أراد منهم صاروا إليه بقوله تعالى:
(12/53)
---
{والذين تبوّؤا} أي: جعلوا بغاية جهدهم {الدار} أي: الكاملة في الدور التي جعلها الله تعالى في الأزل للهجرة، وهيأها للنصرة وجعلها محل إقامتهم. وفي قوله تعالى: {والإيمان} أوجه:
أحدها: أنه ضمن تبوّؤا معنى لزموا فيصح عطف الإيمان عليه؛ إذ الإيمان لا يتبوأ.
ثانيها: أنه منصوب بمقدر، أي: واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا كقول القائل: علفتها تبناً وماء بارداً. وقول الآخر: ومقلداً سيفاً ورمحاً.
ثالثها: أنه يتجوّز في الإيمان فيجعل لاختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم، فكأنهم نزلوه وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وفيه خلاف مشهور.
(12/54)
---(1/4593)
رابعها: أن يكون الأصل دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه.
خامسها: أن يكون سمى المدينة به، لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان، قال: هذين الوجهين الزمخشري، وليس فيه إلا قيام أل مقام المضاف إليه وهو محل خلاف، وهو أن أل هل تقوم مقام الضمير المضاف إليه فالكوفيون يجوّزونه كقوله تعالى: {فإنّ الجنة هي المأوى} (النازعات: 41)
أي: مأواه، والبصريون يمنعونه ويقولون الضمير محذوف، أي: المأوى له. وأما كونها عوضاً عن المضاف إليه، فقال ابن عادل: لا نعرف فيه خلافاً.
سادسها: أنه منصوب على المفعول معه، أي: مع الإيمان. قال وهب: سمعت مالكاً يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق فقال: إنّ المدينة تبوّئت بالإيمان والهجرة، وإنّ غيرها من القرى افتتحت بالسيف، ثم قرأ {والذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبلهم} أي: وهم الأنصار {يحبون} أي: على سبيل التجديد والاستمرار {من هاجر} وزادهم محبة فيهم بقوله تعالى: {إليهم} لأنّ القصد إلى الإنسان يوجب حقه عليه، لأنه لولا كمال محبته له ما خصه بالقصد إليه {ولا يجدون في صدورهم} أي: التي هي مساكن قلوبهم فضلاً عن أن تنطق ألسنتهم {حاجة} قال الحسن: حسداً وحزازة وغيظاً {مما أوتوا} أي: آتى النبيّ المهاجرين من أموال بني النضير وغيرهم، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة لأنّ هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة، فأطلق اسم اللازم على الملزوم على سبيل الكناية.g
فعلى هذا يكون الضمير الأوّل للجائين بعد المهاجرين، وفي أوتوا للمهاجرين.
(12/55)
---(1/4594)
وقيل: إنّ الحاجة هنا على بابها من الاحتياج إلا أنها واقعة موقع المحتاج إليه، والمعنى: ولا يجدون طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره، والمحتاج إليه يسمى حاجة، تقول: خذ منه حاجته، وأعطاه من ماله حاجته قاله الزمخشري: والضميران على ما تقدم، وقال أبو البقاء: مس حاجة، أي: أنه حذف المضاف للعلم به، وعلى هذا فالضميران للذين تبوؤا الدار والإيمان. قال القرطبي: كان المهاجرون في دور الأنصار فلما غنم صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير دعا الأنصال وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم منازلهم وإشراكهم في الأموال، ثم قال صلى الله عليه وسلم «إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبينهم وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دياركم» فقال سعد بن عبادة، وسعد ابن معاذ: بل تقسمه بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا، ونادت الأنصار رضينا وسلمنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين، ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين، أبا دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة.
ولما أخبر تعالى عن تخليهم عن الرذائل أتبعه الأخبار بتحليهم بالفضائل فقال عز من قائل: {ويؤثرون على أنفسهم} فيبذلون لغيرهم كائناً من كان ما في أيديهم، فإنّ الإيثار تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الأخروية، وذلك ينشأ عن قوّة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة، وذكر النفس دليل على أنهم في غاية النزاهة عن الرذائل فإنّ النفس إذا طهرت كان القلب أطهر وأكد ذلك بقوله تعالى: {ولو كان} أي كونا هو في غاية المكنة {بهم} أي خاصة لا بالمؤثر {خصاصة} أي: فقر وحاجة إلى ما يؤثرون به.
(12/56)
---(1/4595)
روي عن أبي هريرة أن رجلاً بات به ضيف، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نومي الصبية وأطفىء السراج وقربي للضيف ما عندك، فنزلت هذه الآية. وعنه أيضاً قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يضيف هذا الليلة رحمه الله فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله فانطلق به إلى رحله فقال: لامرأته هل عندك شيء؛ قالت: لا إلا قوت صبياني، قال: فعلليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج» وذكر نحو الحديث الأول.
وفي رواية فقام رجل من الأنصار يقال له: أبو طلحة فانطلق به إلى رحله. وذكر المهدوي أنها نزلت في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار يقال له: أبو المتوكل، ولم يكن عنده إلا قوته.
وذكر القشيري قال: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال: إنّ أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا فبعثها إليهم، فلم يزل يبعث بها واحد إلى آخر حتى تناولها سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأول فنزلت الآية.
وذكر القرطبي عن أنس قال: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة، وكان مجهوداً فوجه بها إلى جار له فتداولها سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عادت إلى الأوّل فنزلت.
فإن قيل: قد صح في الخبر النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء أجيب: بأن محل النهي فيمن لا يوثق منه بالصبر على الفقر، وخاف أن يتعرّض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، فأما الأنصار الذين أثنى الله تعالى عليهم بالإيثار على أنفسهم فكانوا كما قال تعالى: {والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس} (البقرة: 177)
(12/57)
---(1/4596)
فكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك، والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار. كما روي «أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب، فقال: هذه صدقة فرماه بها، وقال: يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ثم يقعد فيتكفف الناس» والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس. ومن الأمثال: والجود بالنفس أعلى غاية الجود، وأفضل من الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيح أن أبا طلحة ترس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله لا يصيبونك نحري دون نحرك»، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت. وقال حذيفة الدوري انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي فإذا برجل يقول: آه، آه. فأشار إليّ ابن عمي أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاصي فقلت أسقيك فأشار أن نعم فسمع آخر يقول آه آه فأشار هشام أن انطلق عليه فجئت إليه، فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
وقال أبو يزيد البسطامي: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم إلينا حاجاً، فقال لي: يا أبا يزيد ما حد الزهد عندكم، فقلت: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال: هكذا كلاب بلخ فقلت: وما حد الزهد عندكم، فقال: إذا فقدنا شكرنا وإذا وجدنا آثرنا.
(12/58)
---(1/4597)
وسأل ذو النون ما حد الزهد قال: ثلاث: تفريق المجموع، وترك تطلب المفقود، والإيثار عند القوت. وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى الري، وبينهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام، فلما فرغوا فإذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منهم شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه {ومن يوق شح نفسه} أي: يجعل بينه وبين أخلاقه الذميمة المشار إليها بالنفس وقاية تحول بينه وبينها، فلا يكون مانعاً لما عنده حريصاً على ما عند غيره حسداً. قال ابن عمر الشح: أن تطمح عين الرجل فيما ليس له، قال صلى الله عليه وسلم «اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم». وقال القرطبي: الشح والبخل سواء، وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من البخل. وفي الصحاح: الشح البخل مع حرص، والمراد بالشح في الآية الشح بالزكاة، وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة وما شاكل ذلك وليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك، وإن أمسك عن نفسه، ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكر من الزكاة والطاعات فلم يوق شح نفسه.
(12/59)
---(1/4598)
روى الأموي عن ابن مسعود: أنّ رجلاً أتاه فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وماذاك قال سمعت الله يقول: ومن يوق شح نفسه، وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يدي شيئاً، فقال ابن مسعود: ليس ذلك الذي ذكر الله تعالى، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً، ولكن ذلك البخل وبئس الشيء البخل، ففرق بين الشح والبخل. وقال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح بما في أيدي الناس، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام فلا يقنع، وقال بعضهم: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، إنما الشح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له. وقال ابن جبير: الشح منع الزكاة، وادخار الحرام وقال ابن عيينة: الشح الظلم. وقال الليث: ترك الفرائض، وانتهاك المحارم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من اتبع هواه ولم يقبل الإيمان، فذلك الشحيح وقال ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً نهاه الله تعالى عنه، ولم يمنع شيئاً أمره الله تعالى بإعطائه فقد وقاه الله تعالى شح نفسه.
(12/60)
---(1/4599)
وعن أنس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «برىء من الشح من أدى الزكاة، وأقرى الضيف، وأعطى في النائبة» وعنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم «كان يدعو اللهم إني أعوذ بك من شح نفسي وإسرافها وسوأتها» وقال ابن الهياج الأسدي: رأيت رجلاً في الطواف يدعو اللهم قني شح نفسي لا يزيد على ذلك، فقلت له: فقال: إذا وقيت شح نفسي لم أسرق، ولم أزن، ولم أقتل فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف. قال القرطبي: ونزل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم «اتقوا الظلم فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإنّ الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماؤهم واستحلوا محارهم» وعن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجتمع غبار في سبيل الله، ودخان جهنم في جوف عبد أبداً» وقال كسرى لأصحابه: أي شيء أضرّ بابن آدم؟ قالوا: الفقر، فقال: الشح أضر من الفقر لأنّ الفقير إذا وجد شبع، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبداً {فأولئك} أي: العالو المنزلة {هم المفلحون} أي: الكاملون في الفوز بكل مراد، قال القشيري: ومجرد القلب من الأعراض والأملاك صفة السادة والأكابر من أسرته الأخطار
(12/61)
---(1/4600)
ولما أثنى سبحانه وتعالى على المهاجرين والأنصار بما هم عليه وأهله أتبعهم ذكر التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين فقال تعالى: {والذين جاؤوا} أي: من أي طائفة كانوا {من بعدهم} أي بعد المهاجرين والأنصار، وهم من آمن بعد انقطاع الهجرة بالفتح، وبعد إيمان الأنصار الذين أسلموا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة {يقولون} على سبيل التجديد والاستمرار تصديقاً لإيمانهم بدعائهم {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا بإيجاد من مهد الدين قبلنا {اغفر لنا} أي: أوقع ستر النقائص آثارها وأعيانها {ولأخواننا} أي: في الدين فإنهم أعظم أخوة، وبينوا العلة بقولهم {الذين سبقونا بالإيمان} قال ابن أبي ليلى الناس على ثلاثة منازل: المهاجرين، والذين تبوؤا الدار والإيمان، والذي جاؤوا من بعدهم فاجتهد أن لا تخرج من هذه المنازل. وقال بعضهم: كن مهاجراً، فإن قلت: لا أجد فكن أنصارياً، فإن لم تجد فاعمل بأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمر الله تعالى.
(12/62)
---(1/4601)
وقال مصعب بن سعد: الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقول في عثمان فقال له يا أخي أنت من قوم قال الله تعالى فيهم: {للفقراء المهاجرين} الآية، قال: لا، قال: فأنت من قوم قال الله تعالى فيهم: {والذين تبوؤا الدار والإيمان} الآية، قال: لا، قال: فو الله إن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجنّ من الإسلام، وهي قوله تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم} الآية وروي أنّ نفراً من أهل العراق جاؤوا إلى محمد بن علي بن الحسين فسبوا أبا بكر وعمر وعثمان فأكثروا، فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم، فقالوا: لا فقال: من الذين تبؤوا الدار والإيمان، قالوا: لا قال: فقد تبرأتم من هذين الفريقين، أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم} قوموا فعل الله بكم وفعل.
تنبيه: هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة رضى الله تعالى عنهم أجمعين، لأنه جعل لمن بعدهم حظاً في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، ومن أبغضهم أو واحداً منهم، أو اعتقد فيهم شراً أنه لا حق له في الفيء.
(12/63)
---(1/4602)
قال مالك: من كان يبغض أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه لهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ {والذين جاؤوا من بعدهم} الآية، وهي عامة في جميع التابعين الآتين بعدهم إلى يوم القيامة. يروى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت لو رأيت إخواننا، فقالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض» فبين صلى الله عليه وسلم أن أخوانه كان من أتى بعدهم كما قال السدي والكلبي: إنهم الذي هاجروا بعد ذلك، وعن الحسن أيضاً: أنّ الذين جاؤوا من بعدهم من قصد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد انقطاع الهجرة، وإنما بدؤوا في الدعاء بأنفسهم لقوله صلى الله عليه وسلم «ابدأ بنفسك» وقال الشعبي: تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سألت اليهود من خير أهل ملتكم فقالوا: أصحاب موسى، وسألت الأنصار من خير أهل ملتكم فقالوا: أصحاب عيسى، وسألت الرافضة من شر أهل ملتكم فقالوا: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم. وعن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تذهب هذه الأمّة حتى يلعن آخرها أوّلها» أعاذنا الله تعالى ومحبينا من الأهواء المضلة {ولا تجعل في قلوبنا غلاً} أي: ضغناً وحسداً وحقداً، وهو حرارة وغليان يوجب الانتقام {للذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان وإن كانوا في أدنى درجاته وقيدوا بالقلب لأنّ رذائل النفس قل أن تنفك، وأنها إن كانت مع صحة القلب أو شك أن لا تؤثر {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا بتعليم ما لم نكن نعلم، وأكدوا إعلاماً بأنهم يعتقدون ما يقولون بقولهم: {إنك رؤوف} أي: راحم أشد الرحمة لمن كانت له بك وصلة بفعل من أفعال الخير {رحيم} مكرم غاية الإكرام لمن أردت، ولو لم يكن(1/4603)
(12/64)
---
له وصلة فأنت جدير بأن تجيبنا لأنا بين أن تكون لنا وصلة فنكون من أهل الرأفة، أو لا فنكون من أهل الرحمة.
فقد أفادت هذه الآية أن من كان في قلبه غلّ على أحد من الصحابة فليس ممن عنى الله تعالى بهذه الآية. وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بكسر الهمزة، والباقون بمدها
ولما ذكر حال المؤمنين اتبعهم بذكر حال المنافقين فقال تعالى: {ألم تر} أي: تعلم علماً هو في غاية الجزم كالمشاهدة يا أعلى الخلق، وبين بعدهم عن جنابه العالي ومنصبه الشريف العالي بأداة الانتهاء فقال تعالى: {إلى الذين نافقوا} أي: أظهروا غيرما أضمروا وبالغوا في إخفاء عقائدهم، وهم عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه، قالوا: والنفاق لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبله، وهو استعارة من الضب في نافقائه وقاصعائه وصور حالهم بقوله تعالى: {يقولون لأخوانهم الذين كفروا} أي: غطوا أنوار المعارف التي دلتهم على الحق {من أهل الكتاب} وهم اليهود من بني قريظة والنضير. والأخوان هم الأخوة، وهي هنا تحتمل وجوهاً:
أحدها: الأخوة في الآخرة لأنّ اليهود والمنافقين اشتركوا في عموم الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم
وثانيها: الأخوة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة.
وثالثها: الأخوة بسبب اشتراكهم في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا لليهود: {لئن أخرجتم} أي: من مخرجّ ما من المدينة {لنخرجن معكم} أي: منها {ولا نطيع فيكم} أي في خذلانكم {أحداً} أي يريد خذلانكم من الرسول والمؤمنين. وأكدوا بقولهم: {أبداً} أي: ما دمنا نعيش، وبمثل هذا العزم يستحق الكافر الخلود الأبدي في العذاب {وإن قوتلتم} أي: من أي مقاتل كان يقاتلكم ولم تخرجوا {لننصرنكم} أي: لنعيننكم ولنقاتلنّ معكم.
(12/65)
---(1/4604)
ولما كان قولهم هذا كلاماً يقضي عليه سامعه بالصدق من حيث كونه مؤكداً مع كونه مبتدأ من غير سؤال فيه بين حاله سبحانه بقوله تعالى: {والله} أي: يقولون ذلك والحال أنّ المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {يشهد إنهم} أي: المنافقين {لكاذبون} أي: فيما قالوا ووعدوا، وهذا من أعظم دلائل النبوّة لأنه إخبار بغيب بعيد عن العادة.
ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين بقوله تعالى: {لئن أخرجوا} أي: بنو النضير من أي مخرج كان {لا يخرجون} أي: المنافقون {معهم} أي: حمية لهم لأسباب يعلمها الله تعالى: {ولئن قوتلوا} أي: اليهود من أيّ مقاتل كان، فيكف بأشجع الخلق وأعلمهم صلى الله عليه وسلم {لا ينصرونهم} أي: المنافقون.
ولقد صدق الله تعالى وكذبوا في الأمرين معاً القتال والإخراج لا نصروهم ولا خرجوا معهم فكان ذلك من أعلام النبوة، وعلم به من كان شاكاً فضلاً عن الموفقين {ولئن نصروهم} أي: المنافقون في وقت من الأوقات {ليولنّ} أي: المنافقون ومن ينصرونه. وحقرهم بقوله تعالى: {الأدبار} أي: ولقد قدر وجود نصرهم لولوا الأدبار منهزمين {ثم لا ينصرون} أي: يتجدّد لفريقيهم، ولا لواحد منهما نصرة في وقت من الأوقات. ولم يزل المنافقون واليهود في الذل.
(12/66)
---(1/4605)
{لأنتم} أيها المؤمنون {أشد رهبة} أي: خوفاً {في صدورهم} أي: اليهود ومن ينصرهم {من الله} أي: لتأخير عذابه، وأصل الرهبة والرهب: الخوف الشديد مع حزن واضطراب، والمعنى: أنهم يرهبونكم ويخافون منكم أشد الخوف، وأشد من رهبتهم من الله لما مرّ. {ذلك} أي: الأمر الغريب وهو خوفهم الثابت اللازم من مخلوق مثلهم ضعيف لرؤيتهم له، وعدم خوفهم من الخالق على ماله من العظمة في ذاته، ولكونه غنياً عنهم {بأنهم قوم} أي: على ما لهم من القوة {لا يفقهون} أي: لا يتجدّد لهم بسبب كفرهم واعتمادهم على مكرهم في وقت من الأوقات، فهم يشرح صدورهم ليدركوا به أنّ الله تعالى هو الذي ينبغي أن يخشى لا غيره، بل هم كالأنعام لا نظر لهم إلى الغيب إنما هم مع المحسوسات. والفقه هو العلم بمفهوم الكلام ظاهره الجلي وغامضه الخفي بسرعة فطنة وجودة قريحة.
{س59ش14/ش19 يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِs فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُر?? بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ? تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى? ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ s يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا? ذَاقُوا? وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِ?نسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِى?ءٌ مِّنكَ إِنِّى? أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا? وَذَالِكَ جَزَا?ؤُا? الظَّالِمِينَ * يَا?أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا? اتَّقُوا? اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ? وَاتَّقُوا? اللَّهَ? إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ? بِمَا تَعْمَلُونَ * وَ تَكُونُوا? كَالَّذِينَ نَسُوا? اللَّهَ فَأَنسَـ?ـاهُمْ أَنفُسَهُمْ? أُو?لَا??ـ?ِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
(12/67)
---(1/4606)
{لا يقاتلونكم} أي: اليهود والمنافقون {جميعاً} أي: قتالاً تقصدونه مجاهرة وهم مجتمعون كلهم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن {إلا في قرى محصنة} أي: ممتنعة بحفظ الدروب، وهي السكك الواسعة بالأبواب والخنادق ونحوها {أو من وراء جدر} أي: محيط بهم سواء كان بقرية أم بغيرها لشدّة خوفهم، وقد أخرج هذا ما حصل من بعضهم عن ضرورة كالأسير، ومن كان ينزل من أهل خيبر من الحصن يبارز ونحو ذلك فإنه لم يكن عن اجتماع أو يكون هذا خاصاً ببني النضير في هذه الكرة. وقرأ ابن كثير وأبو عمر وبكسر الجيم وفتح الدال وألف بعدها وأمال الألف أبو عمرو، والباقون بضم الجيم والدال {بأسهم} أي: حربهم {بينهم شديد} أي: بعضهم فظ على بعض وعداوة بعضهم بعضاً شديدة. وقيل: بأسهم بينهم من وراء الحيطان والحصون شديد، فإذا خرجوا إليكم فهم أجبن خلق الله تعالى: {تحسبهم} أي: اليهود والمنافقين يا أعلى الخلق، أو يا أيها الناظر وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بكسر السين، والباقون بفتحها {جميعاً} لما هم فيه من اجتماع الأشباح {وقلوبهم شتى} أي: متفرقة أشدّ افتراقاً، وموجب هذا الشتات اختلاف الأهواء التي لا جامع لها من نظام العقل كالبهائم، وإن اجتمعوا في عداوة أهل الحق كاجتماع البهائم في الهرب من الذئب.
قال القشيري: اجتماع النفوس مع تنافر القلوب واختلافها أصل كل فساد، وموجب كل تخاذل، ومقتض لتجاسر العدو واتفاق القلوب، والاشتراك في الهمة، والتساوي في القصد موجب كل ظفر، وكل سعادة. وقرأ شتى الحسن وحمزة والكسائي بالإمالة محصنة، وورش بالفتح وبين اللفظين وأبو عمرو بين بين، والباقون بالفتح، وهي على وزن فعلى {ذلك} أي: الأمر الغريب من الافتراق بعد الاتفاق الذي يحيل الاجتماع {بأنهم قوم} أي: مع شدتهم {لا يعقلون} فلا دين لهم مثلهم في ترك الإيمان.
(12/68)
---(1/4607)
{كمثل الذين من قبلهم قريباً} أي: بزمن قريب، وهم كما قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما: بنو قينقاع من أهل دينهم اليهود أظهروا بأساً شديداً عندما قصدهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في أثر غزوة بدر، فوعظهم وحذرهم بأس الله تعالى فقالوا: لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم أما والله لو قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس، ثم مكروا بامرأة من المسلمين فراودوها عن كشف وجهها فأبت، فعقدوا طرف ثوبها من تحت خمارها فلما قامت انكشف سوقها فصاحت، فغار لها شخص من الصحابة فقتل اليهودي الذي عقد ثوبها، فقتلوه فانتقض عهدهم فأنزل الله النبيّ صلى الله عليه وسلم بساحتهم فأذلهم الله تعالى، ونزلوا من حصنهم على حكمه صلى الله عليه وسلم وقد كانوا حلفاء ابن أبي، ولم يغن عنهم شيئاً غير أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم في أن لا يقتلهم وألح عليه حتى كف عن قتلهم، فذهبوا عن المدينة الشريفة بأنفسهم من غير حشر لهم بالإلزام بالجلاء. {ذاقوا وبال أمرهم} أي: عقوبته في الدنيا من القتل وغيره {ولهم عذاب أليم} أي: مؤلم في الآخرة
مثلهم أيضاً في سماعهم من المنافقين وتخلفهم عنهم {كمثل الشيطان} أي: البعيد من كل خير لبعده من الله تعالى المحترق بعذابه، والشيطان هنا مثل المنافقين {إذ قال للإنسان} وهو هنا مثل اليهود {اكفر} أي: بالله بما زين له ووسوس إليه من اتباعه الشهوات القائم مقام الأمر
{فلما كفر} أي: أوجد الإنسان الكفر على أيّ وجه. ودلت الفاء على إسراعه في متابعة تزيينه. {قال} أي: الشيطان الذي هو هنا عبارة عن المنافقين {إني بريء منك} أي: ليس بيني وبينك علاقة في شيء أصلاً ظناً منه أنّ هذه البراءة تنفعه شيئاً مما استوجبه المأمور بقبوله لآمره، وذلك مثل ضربه الله تعالى للمنافقين واليهود في انخذالهم وعدم الوفاء في نصرتهم.g
(12/69)
---(1/4608)
وحذف حرف العطف ولم يقل وكمثل الشيطان لأنّ حذف العطف كثير. كقولك: أنت عاقل، أنت كريم، أنت عالم، وقوله {كمثل الشيطان} كالبيان لقوله تعالى: {كمثل الذين من قبلهم} روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنّ الإنسان الذي قال له الشيطان: راهب نزلت عنده امرأة أصابها لمم ليدعو لها، فزين له الشيطان فوطئها فحملت، ثم قتلها خوفاً من أن يفتضح فدل الشيطان قومها على موضعها، فجاؤوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه فجاءه الشيطان، فوعده إن سجد له أنجاه منهم فسجد له فتبرأ منه» وروى عطاء وغيره عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال: كان راهب يقال له: برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله تعالى فيها طرفة عين، وإن إبليس أعياه في أمره الحيل فجمع ذات يوم مردة الشياطين، فقال: ألا أجد فيكم من يكفيني برصيصا فقال له: الأبيض وهو صاحب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو الذي تصدى للنبيّ صلى الله عليه وسلم وجاءه في صورة جبريل عليه السلام ليوسوس إليه على وجه الوحي، فدفعه جبريل عليه السلام إلى أقصى أرض الهند، فقال الأبيض لإبليس: أنا أكفيك أمره فانطلق فتزيا بزيّ الرهبان، وحلق وسط رأسه، وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام مرّة ولا يفطر في كل عشرة أيام إلا مرة فلما رآه الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العباد في أصل صومعته فلما انفتل برصيصا اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائماً يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان فلما رأى ذلك من حاله ندم على نفسه حين لم يجبه، فقال له: إنك حين ناديتني كنت مشتغلاً عنك فما حاجتك؟ قال: حاجتي أني أحببت أن أكون معك فأتأدب بأدبك، وأقتبس من علمك، ونجتمع على العبادة، وتدعو لي، وأدعو لك فقال برصيصا: إني لفي شغل عنك، فإن كنت مؤمناً فإن الله سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين نصيباً إن استجاب الله لي، ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، فأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا(1/4609)
(12/70)
---
أربعين يوماً، فلما التفت بعدها رآه قائماً يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاد الأبيض، قال له: ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن تأذن لي أن أرتفع إليك فأذن له فارتفع إليه في صومعته فأقام حولاً يتعبد فلا يفطر إلا في كل أربعين يوماً مرة، ولا ينفتل من صلاته إلا كذلك وربما مد إلى الثمانين فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض فلما حال الحول قال الأبيض برصيصا إن لي صاحباً غيرك ظننت أنك أشد اجتهاداً
(12/71)
---(1/4610)
مما رأيت، وكان بلغنا عنك أنك غير الذي رأيت فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد، وكره مفارقته للذي رآه من شدة اجتهاده فلما ودعه الأبيض قال له: إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه، يشفي الله تعالى بها المريض، ويعافي بها المبتلى والمجنون، قال برصيصا: أني أكره هذه المنزلة لأن في نفسي شغلاً، وإني أخاف إن علم به الناس يشغلوني عن عبادة ربي عز وجل، فلم يزل به الأبيض حتى علمه ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال: والله قد أهلكت الرجل. فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فجننه، ثم جاءه في صورة رجل مطبب، فقال لأهله: إن بصاحبكم جنوناً أفأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال: إني لا أقوى على جنيته، ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله تعالى فيعافيه. انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب، فانطلقوا به إليه فسألوه فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان، فكان الأبيض يفعل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا فيدعو لهم فيعافون. فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل، وكان لها ثلاثة أخوة، وكان أبوهم هو الملك فلما مات استخلف أخاه فكان عمها ملك بني إسرائيل قصد لها وخنقها، ثم جاء إليهم في صورة رجل مطبب فقال أفأعالجها؟ قالوا: نعم، قال: إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تدعونها عنده، إذا جاءها شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنها قد عوفيت فتردونها صحيحة، قالوا: ومن هو؟ قال: برصيصاً، قالوا: كيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأناً من ذلك، قال: ابنوا صومعة إلى جنب صومعته، ولتكن لزيق صومعته حتى يشرف عليها فإن قبلها وإلا فتضعونها في صومعتها، ثم قولوا له: هي أمانة عندك فاحتسب أمانتك. فانطلقوا إليه فسألوه ذلك فأبى، فبنوا صومعة على ما أمرهم به الأبيض، ووضعوا الجارية في صومعتها، وقالوا: يا برصيصا هذه أختنا أمانة عندك فاحتسب فيها، ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا من صلاته عاين الجارية، وما هي عليه من(1/4611)
(12/72)
---
الجمال فوقعت في قلبه، ودخل عليه أمر عظيم فجاءها الشيطان فخنقها فكانت تكشف عن نفسها وتتعرض لبرصيصا، فجاء الشيطان وقال: ويحك واقعها فلم تجد مثلها وستتوب بعد ذلك، ويتم لك ما تريد من الأمر فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل على ذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها وتتوب، فإن سألوك فقل ذهب بها شيطانها ولم أقو عليه، فدخل فقتلها ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل، فجاء الشيطان وهو يدفنها ليلاً فأخذ بطرف إزارها فبقي خارجاً من التراب، ثم رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته؛ إذ جاء أخوتها يتعهدون أختهم، وكانوا يجيئون في بعض الأيام يسألون عنها ويوصونه بها، فلما لم يجدوها قالوا: يا برصيصا ما فعلت أختنا؟ قال: قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه، فصدقوه وانصرفوا فلما أمسوا مكروبين جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال: ويحك إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وإنه دفنها في موضع كذا وكذا، فقال الأخ: هذا حلم وهو من عمل الشيطان، برصيصا خير من ذلك فتابع عليه ثلاث ليال، فلم يكترث فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك، فقال الأوسط له ما قال الأكبر ولم يخبر به أحداً، فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك، فقال الأصغر لأخويه: والله لقد رأيت كذا وكذا، فقال الأوسط: أنا والله رأيت مثله، وقال الأكبر: أنا والله رأيت مثله. فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا له: ما فعلت بأختنا؟ فقال: أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم قد اتهمتموني، فقالوا: والله لا نتهمك واستحيوا منه وانصرفوا، فجاءهم الشيطان، وقال: ويحكم إنها مدفونة في موضع كذا وكذا، وإن طرف إزارها خارج من التراب. فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم فذهبوا إليه ومعهم غلمانهم ومواليهم بالفؤوس والمساحي فهدموا صومعة برصيصا، وأنزلوه منها وكتفوه ثم أتوا به إلى الملك فأقرّ على نفسه، وذلك أنّ الشيطان أتاه فقال: تقتلها، ثم تكابر فيجتمع(1/4612)
عليك أمران
(12/73)
---
قتل ومكابرة اعترف. فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة، فلما صلب أتاه الأبيض فقال: يا برصيصاً تعرفني، قال: لا، قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات فاستجيب لك ويحك أما اتقيت الله تعالى في الأمانة خنت أهلها، وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل، أما استحيت فلم يزل يعيره، ثم قال: ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت نفسك وأشباهك من الناس، فإن مت على هذه الحالة فلم يفلح أحد من نظائرك، قال: فكيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه، فأخذ بأعينهم وأخرجك من مكانك، قال: وما هي؟ قال: تسجد لي، قال: أفعل فسجد له فقال: يا برصيصا هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك إني برئ منك».
{
إني أخاف الله} أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، والباقون بسكونها {رب العالمين} أي: الذي أوجدهم من العدم ورباهم بما يدل على جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا، فلا يغني أحد من خلقه عن أحد شيأ إلا بإذنه.
{فكان} أي: فتسبب عن قوله ذلك أنه كان {عاقبتهما} أي: الغار والمغرور {أنهما في النار} حال كونهما {خالدين فيها} لأنهما ظلما ظلماً لا فلاح معه {وذلك} أي: العذاب الأكبر {جزاء الظالمين} أي: كل من وضع العبادة في غير موضعها، أو هم الكافرون لقوله تعالى: {إنّ الشرك لظلم عظيم} (لقمان: 13)
قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما: ضرب الله تعالى هذا المثل ليهود بني النضير، والمنافقين من أهل المدينة فدس المنافقون إليهم، وقالوا: لا تجيبوا محمداً إلى ما دعاكم إليه، ولا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم فإنا معكم فأجابوهم، وإن أخرجوكم خرجنا معكم فأجابوهم فدربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين فناصبوهم الحرب فخذلوهم وتبرؤوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصاً، وخذله فكان عاقبة الفريقين في النار.
(12/74)
---(1/4613)
قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما: وكانت الرهبان بعد ذلك في بني إسرائيل لا يمشون إلا بالتقية والكتمان، وطمع أهل الفسوق في الأحبار، ورموهم بالبهتان حتى كان أمر جريج الراهب، فلما برأه الله تعالى مما رموه به انبسطت بعده الرهبان، وظهروا للناس وكانت قصة جريج ما روي عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلاً عابداً فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتت أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال رب أمي وصلاتي وأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته، فقال: مثل مقالته الأولى فقالت اللهم لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات. فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم، قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج فأتوه فاستنزلوه، وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: زنيت بهذه البغي فحلمت منك، فقال: أين الصبيّ فجاؤوا به، فقال: دعوه حتى أصلي فلما انصرف من صلاته أتى الصبيّ وطعن في بطنه، وقال: يا غلام من أبوك، فقال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا. والثالث: كلم أمه وهي ترضعه في قصة مشهورة».
{يا أيها الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان باللسان {اتقوا الله} أي: اجعلوا لكم وقاية تقيكم سخط الملك الأعظم باتباع أوامره واجتناب نواهيه، واحذروا عقوبته بسبب التقصير فيما حدّه لكم من أمر أو نهي {ولتنظر نفس ما قدّمت لغد} أي: في يوم القيامة لأنّ هذه الدنيا كلها كيوم واحد يجيء فيه ناس ويذهب آخرون، والموت والآخرة لا بدّ من كل منهما، وكل ما لا بدّ منه فهو في غاية القرب، والعرب تكني عن المستقبل بالغد.
(12/75)(1/4614)
---
وقيل: ذكر الغد تنبيهاً على أنّ الساعة قريبة كقول القائل: وإنّ غداً لناظره قريب. وقال الحسن وقتادة: قرب الساعة حتى جعلها كغد، لأنّ كل آت قريب، والموت لا محالة آت. ومعنى {ما قدمت} أي: من خير أو شر، ونكر النفس لاستقلال الأنفس التي تنظر فيما قدمت للآخرة، كأنه قال: ولتنظر نفس واحدة في ذلك، ونكر الغد لتعظيمه وإبهام أمره كأنه قال: الغد لا تعرف كميته لعظمته. وقوله تعالى: {واتقوا الله} أي: الجامع لجميع صفات الكمال تأكيد.
وقيل: كرّر لتغاير متعلق التقويين فمتعلق الأولى أداء الفرائض لاقترانه بالعمل، والثانية ترك المعاصي لاقترانه بالتهديد والوعيد، قال معناه الزمخشري {إن الله} أي: الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا {خبير} أي عظيم الاطلاع على ظواهركم وبواطنكم والإحاطة {بما تعملون} فلا تعملون عملاً إلا كان بمرأى من ومسمع فاسحيوا منه.
{ولا تكونوا} أيها المحتاجون إلى التحذير وهم الذين آمنوا {كالذين نسوا الله} أي: أعرضوا عن أوامر ونواهي الملك الأعظم، وتركوهها ترك الناسين لمن برزت عنه مع ماله من صفات الجلال والإكرام {فأنساهم} أي: فتسبب عن ذلك أن أنساهم بماله من الإحاطة بالظواهر والبواطن {أنفسهم} أي: فلم يقدموا لها ما ينفعها، وإن قدموا شيئاً كان مشوباً بالمفسدات من الرياء والعجب فكانوا ممن قال فيه تعالى: {وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة} (الغاشية، الآيتان: 2 ـ 3)
الآية لأنهم لم يدعوا باباً من أبواب الفسق، فإنّ رأس الفسق الجهل بالله، ورأس العلم ومفتاح الحكمة معرفة النفس فأعرف الناس بنفسه أعرفهم بربه {أولئك} أي: البعداء من كل خير {هم الفاسقون} أي: العريقون في المروق من دائرة الدين.
(12/76)
---(1/4615)
{لا يستوي} أي: بوجه من الوجوه {أصحاب النار} أي: التي هي محل الشقاء الأعظم {وأصحاب الجنة} أي: التي هي دار النعيم الأكبر لا في الدنيا ولا في الآخرة، واستدل بهذه الآية على أنّ المسلم لا يقتل بالكافر {أصحاب الجنة هم الفائزون} أي: الناجون من كل مكروه المدركون لكل محبوب، وأصحاب النار هم الهالكون في الدارين كما وقع في هذه الغزوة لفريقي المؤمنين وبني النضير ومن والاهم من المنافقين فشتان ما بينهما.
{لو أنزلنا} أي: بعظمتنا التي أبانها هذا الإنزال {هذا القرآن} أي: الجامع لجميع العلوم الفارق بين كل ملتبس المبين لجميع الحكم {على جبل} أي جبل كان، أو جبل فيه تمييز كالإنسان {لرأيته} يا أشرف الخلق وإن لم يتأهل غيرك لتلك الرؤية {خاشعاً} أي: متذللاً باكياً {متصدّعاً} أي: متشققاً غاية التشقق {من خشية الله} أي: من الخوف العظيم ممن له الكمال كله، وفي هذا حث على تأمّل مواعظ القرآن وتدبر آياته {وتلك الأمثال} أي: التي لا يضاهيها شيء {نضربها للناس لعلهم يتفكرون} فيؤمنون.
(12/77)
---
والمعنى: أنا لو أنزلنا هذا القرآن على الجبل لخشع لوعده، وتصدع لوعيده، وأنتم أيها المشهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده، والغرض من هذا الكلام التنبيه على قساوة قلوب هؤلاء الكفار وغلظ طباعهم، ونظيره {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة} (البقرة: 74)
وقيل الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي: لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت وتصدّع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له فيكون ذلك امتناناً عليه أن ثبته لما لم تثبت له الجبال.
وقيل: إنه خطاب للأمة، والمعنى: لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدّعت من خشية الله تعالى، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتاً فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدر على ردّه إن عصى لأنه موعود بالثواب ومزجور بالعقاب.
(12/78)
---(1/4616)
ولما وصف تعالى القرآن بالعظم، ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف أتبع ذلك بوصف عظمته تعالى، فقال عز من قائل: {هو} أي: الذي وجوده من ذاته فلا عدم له بوجه من الوجوه، فلا شيء يستحق الوصف بهو غيره لأنه الموجود دائماً أزلاً وأبداً فهو حاضر في كل ضمير غائب بعظمته عن كل حس، فلذلك تصدّع الجبل من خشيته ولما عبر عنه بأخص أسمائه أخبر عنه لطفاً بنا وتنزلاً لنا بأشهرها الذي هو مسمى الأسماء كلها بقوله تعالى: {الله} أي: المعبود الذي لا ينبغي العبادة والألوهية الإله {الذي لا إله إلا هو} فإنه لا مجالس له، ولا يليق ولا يصح ولا يتصوّر أن يكافئه، أو يدانيه شيء والإله أول اسم لله تعالى فلذلك لا يكون أحد مسلماً إلا بتوحيده، فتوحيده فرض وهو أساس كل فريضة {عالم الغيب} أي: الذي غاب عن جميع خلقه {والشهادة} أي: الذي وجد فكان يحسه ويطلع عليه بعض خلقه. وقال ابن عباس: معناه عالم السرّ والعلانية، وقيل: ما كان وما يكون. وقال سهل: عالم بالآخرة والدنيا، وقيل: استوى في علمه السرّ والعلانية والموجود والمعدوم. وقوله تعالى: {هو الرحمن الرحيم} معناه ذو الرحمة، ورحمة الله تعالى إرادته الخير والنعمة والإحسان إلى خلقه. وقيل: إنّ رحمن أشدّ مبالغة من رحيم، ولهذا قيل: هو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة لأنه تعالى بإحسانه في الدنيا يعم المؤمن والكافر، وفي الآخرة يختص إنعامه وإحسانه بالمؤمنين.
{هو الله} أي: الذي لا يقدر على تعميم الرحمة لمن أراد وتخصيصها بمن شاء إلا هو {الذي لا إله} أي: لا معبود بحق {إلا هو الملك} أي: فلا ملك في الحقيقة إلا هو لأنه لا يحتاج إلى شيء، لأنه مهما أراد كان فهو متصرّف بالأمر والنهي في جميع خلقه، فهم تحت ملكه وقهره وإرادته {القدوس} أي: البليغ في النزاهة عن كل وصم يدركه حس، أو يتصورّه خيال، أو يسبق إليه وهم، أو يختلج إليه ضمير.
(12/79)
---(1/4617)
ونظيره: السبوح وفي تسبيح الملائكة سبوح قدوس رب الملائكة والروح {السلام} أي: الذي سلم من النقائص وكل آفة تلحق الخلق، فهو بمعنى السلامة ومنه دار السلام وسلام عليكم وصف به مبالغة في وصف كونه سليماً من النقائص، أو في إعطائه السلامة {المؤمن} قال ابن عباس: هو الذي أمن الناس من ظلمه، وأمن من آمن به عذابه. وقيل: هو المصدّق لرسله بإظهار المعجزات لهم، والمصدّق للمؤمنين بما وعدهم من الثواب وبما أوعد الكافرين من العذاب. وقال مجاهد: المؤمن الذي وحد نفسه لقوله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} (آل عمران: 18)
(12/80)
---(1/4618)
قال ابن عباس: إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار، وأوّل من يخرج من وافق اسمه اسم نبي حتى إذا لم يبق فيها من وافق اسمه اسم نبي قال الله تعالى لباقيهم: أنتم المسلمون وأنا السلام وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن، فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين {المهيمن} قال ابن عباس أي الشهيد على عباده بأعمالهم الذي لا يغيب عنه شيء، وقيل: هو القائم على خلقه بقدرته، وقيل: هو الرقيب الحافظ لكل شيء مفيعل من الأمن قلبت همزته هاء {العزيز} أي: الذي لا يوجد له نظير، وقيل: هو الغالب القاهر {الجبار} الذي جبر خلقه على ما أراده، أو جبر حالهم بمعنى أصلحه، والجبار في صفة الله صفة مدح، وفي صفة الناس صفة ذم وكذا قوله تعالى: {المتكبر} أي: الذي تكبر على كل ما يوجب حاجة أو نقصاً، وهو في حقه تعالى صفة مدح لأنه له جميع صفات العلوّ والعظمة، وفي صفة الناس صفة ذم لأنّ المتكبر هو الذي يظهر من نفسه التكبر، وذلك نقص في حقه لأنه ليس له كبر ولا علوّ بل له الحقارة والذلة، فإذا أظهر الكبر كان كذاباً في فعله {سبحان الله} أي: تنزه الملك إلا على الذي اختص بجميع صفات الكمال تنزهاً لا تدرك العقول منه أكثر من أنه علا عن أوصاف الخلق فلا يدانيه شيء من نقص تعالى: {عما يشركون} أي: من هذه المخلوقات من الأصنام وغيرها مما في الأرض، أو في السماء من صغير وكبير وجليل وحقير.
(12/81)
---(1/4619)
{هو} أي: الذي لا شيء يستحق أن يطلق عليه هذا الضمير غيره لأنّ وجوده من ذاته، ولا شيء غيره إلا وهو ممكن ولما ابتدأ بهذا الغيب المحض الذي هو أظهر الأشياء أخبر عنه بأشهر الأشياء الذي لم يقع فيه شركة بوجه. فقال تعالى: {الله} أي: الذي ليس له سميّ فلا كفء له فهو المعبود بالحق فلا شريك له بوجه {الخالق} أي: المقدر للأشياء على مقتضى حكمته {البارئ} أي: المخترع المنشئ للأشياء من العدم إلى الوجود برياً من التفاوت وقوله تعالى: {المصور} أي: الذي يخلق صور الأشياء على ما يريد بكسر الواو ورفع الراء إما صفة، وإمّا خبر واحترزت بهذا الضبط عن قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن فإنهما قرأا بفتح الواو ونصب الراء، وهي قراءة شاذة وإنما تعرّضت لها لأبين وجهها، وهو أن تخرّج هذه القراءة على أن يكون المصور منصوباً بالبارئ، والمصوّر هو الإنسان إمّا آدم وإما هو وبنوه وعلى هذه القراءة يحرم الوقف على المصوّر بل يجب الوصل ليظهر النصب في الراء، وإلا فقد يتوهم منه في الوقف ما لا يجوز {له} أي: خاصة {الأسماء الحسنى} التسعة والتسعون الوارد فيها الحديث، وقد ذكرتها في سورة الإسراء. والحسنى تأنيث الأحسن {يسبح} أي: يكرّر التنزيه الأعظم عن كل شيء من شوائب النقص على سبيل التجدّد والاستمرار {له} أي: على وجه التخصيص {ما في السموات} أي السموات وما فيها {والأرض} وما فيها {وهو} أي: والحال أنه وحده {العزيز} أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} أي: الجامع الكمالات بأسرها فإنها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم. وعن معقل بن يسار أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ الثلاث آيات من سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قاله حين يمسي كان كذلك».m
(12/82)
---(1/4620)
أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب. وعن أبي هريرة أنه قال: «سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم فقال: عليك بآخر سورة الحشر فأكثر قراءتها فأعدت عليه فأعاد علي» وقال جابر بن زيد: إنّ اسم الله الأعظم هو الله لمكان هذه الآية. وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال «من قرأ سورة الحشر غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر» حديث موضوع.
سورة الممتحنة
مدنية وهي ثلاث عشرة آية وثلاثمائة وثمانوأربعون كلمة وألف وخمسمائة وعشرة أحرف
{بسم الله} الذي من تولاه أغناه عمن سواه {الرحمن} الذي شمل برحمة البيان من حاطه بالعقل ورعاه {الرحيم} الذي خص بالتوفيق من أحبه وارتضاه ونزل في حاطب بن أبي بلتعة.
(12/83)
---(1/4621)
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّى} أي: وأنتم تدّعون موالاتي {وعدوّكم} أي: العريق في عدواتكم ما دمتم على مخالفته في الدين {أولياء} وذلك ما روي «أنّ مولاة لأبي عمرو بن صيفي يقال لها: سارة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح، فقال لها: أمسلمة جئت، قالت: لا، قال: أفمهاجرة جئت، قالت: لا، قال: فما جاء بك، قالت: كنتم الأهل والموالي والعشيرة، وقد ذهبت الموالي تعني قتلوا يوم بدر فاحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني، فقال صلى الله عليه وسلم فأين أنت عن شباب أهل مكة وكانت مغنية نائحة قالت: ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب على إعطائها، فكسوها وحملوها وزوّدوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً، واستحملها كتاباً لأهل مكة نسخته: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، إعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم، وقد توجه إليكم بجيش كالليل وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله تعالى بكم، وأنجز له موعده فيكم فالله وليه وناصره فخرجت سارة، ونزل جبريل عليه السلام بالخبر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، وعماراً، وعمر، وطلحة، والزبير، والمقداد، وأبا مرثد، وكانوا فرساناً، وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإنّ بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة فخذوه منها وخلوها، فإن أبت فاضربوا عنقها. فادركوها فجحدت وحلفت ما معها كتاب ففتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً فهموا بالرجوع، فقال عليّ: والله ما كذبنا، ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلّ سيفه، وقال: أخرجي الكتاب، وإلا والله لأجردنك ولأضربنّ عنقك، فلما رأت الجدّ أخرجته من عقاص شعرها فخلوا سبيلها ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة:(1/4622)
(12/84)
---
هي أحدهم فاستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً، وقال له: هل تعرف هذا الكتاب، قال: نعم، قال: فما حملك عليه، فقال: يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكني كنت أمرأ ملصقاً في قريش، وروى عزيزاً فيهم أي: غريباً ولم أكن من أنفسها، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري، فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً، وقد علمت أنّ الله تعالى ينزل عليهم بأسه، وإنّ كتابي لا يغني عنهم شيئاً فصدّقه وقبل عذره، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: «وما يدريك يا عمر لعلّ الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ففاضت عينا عمر»، وقال: الله ورسوله أعلم. وإضافة العدوّ إلى الله تعالى تغليظاً في خروجهم، وهذه السورة أصل في النهي عن موالاة الكفار، وتقدّم نظيره في قوله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء} (آل عمران: 28)
وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم} (آل عمران: 118)
روي أنّ حاطباً لما سمع {يا أيها الذين آمنوا} غشي عليه من الفرح بخطاب الإيمان.
(12/85)
---(1/4623)
ثم إنه تعالى استأنف بيان هذا الاتخاذ بقوله تعالى مشيراً إلى غاية الإسراع والمبادرة إلى ذلك بالتعبير بقوله تعالى: {تلقون} أي: جميع ما هو في حوزتكم مما لا تطمعون فيه إلقاء الشيء الثقيل من علو {إليهم} على بعدهم منكم حساً، ومعنى {بالمودّة} أي: بسببها قال القرطبي: تلقون إليهم بالمودّة، يعني: بالظاهر لأنّ قلب حاطب كان سليماً بدليل أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أمّا صاحبكم فقد صدق» هذا نص في إسلامه وسلامة فؤاده وخلوص اعتقاده. وقرأ حمزة بضم الهاء، والباقون بكسرها. وقوله تعالى: {وقد كفروا} أي: غطوا جميع مالكم من الأدلة {بما} أي: بسبب ما {جاءكم من الحق} أي: الأمر الثابت الكامل في الثبات الذي لا شيء أعظم ثباتاً منه فيه أوجه:
أحدها: الاستئناف.
ثانيها: الحال من فاعل تتخذوا.
ثالثها: الحال من فاعل تلقون، أي: لا تتولوهم ولا توادّوهم، وهذه حالهم. وقوله تعالى: {يخرجون الرسول} يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون تفسير الكفر هم فلا محل له على هذين، وأن يكون حالاً من فاعل كفروا. وقوله تعالى: {وآياكم} عطف على الرسول وقدم عليهم تشريفاً له صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {أن تؤمنوا} أي: توقعوا حقيقة الإيمان مع التجدّد والاستمرار {بالله} أي: الذي اختص بجميع صفات الكمال {ربكم} أي: المحسن إليكم تعليل ليخرجون، والمعنى: يخرجون الرسول ويخرجونكم من مكة لأن تؤمنوا بالله، أي: لأجل إيمانكم بالله.
(12/86)
---(1/4624)
قال ابن عباس: وكان حاطب ممن أخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك تغليب المخاطب والإلتفات من التكلم إلى الغيبة للدلالة على ما يوجب الإيمان {إن كنتم خرجتم} أي: عن أوطانكم، وقوله تعالى: {جهاداً في سبيلي} أي: بسبب إرادتكم تسهيل طريقي التي شرعتها لعبادي أن يسلكوها {وابتغاء مرضاتي} أي: ولأجل تطلبكم أعظم الرغبة لرضاي علة للخروج، وعمدة للتعليق، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه لا تتخذوا. وقرأ الكسائي بالإمالة محضة، والباقون بالفتح. وقوله تعالى: {تسرون} أي: توجدون جميع ما يدل على مناصحتكم إياهم والتودّد {إليهم بالمودّة} أي: بسببها بدل من تلقون قاله ابن عطية. قال ابن عادل: ويشبه أن يكون بدل اشتمال لأنّ القاء المودّة يكون سرّاً وجهراً، أو استئناف واقتصر عليه الزمخشري {وأنا} أي: والحال أني {أعلم} أي: من كل أحد حتى من نفس الفاعل، وقرأ نافع بمدّ الألف بعد النون {بما أخفيتم وما أعلنتم} قال ابن عباس: بما أخفيتم قي صدوركم وما أظهرتم بألسنتكم، أي: فأي فائدة لأسراركم إن كنتم تعلمون أني عالم به، وإن كنتم تتوهمون أني لا أعلمه فهي القاصمة {ومن يفعله} أي: يوجد أسرار خبر إليهم ويكاتبهم {منكم} أي: في وقت من الأوقات {فقد ضلّ} أي: عمي ومال وأخطأ {سواء السبيل} أي: قويم الطريق الواسع الموصل إلى القصد قويمه وعدله. قال القرطبي: هذا كله معاتبة لحاطب، وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق إيمانه فإنّ المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيب، كما قال القائل:
*إذا ذهب العتاب فليس ودّ ** ويبقى الودّ ما بقي العتاب*
وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال عند الضاد، والباقون بالإدغام.
(12/87)
---(1/4625)
{إن يثقفوكم} أي: يظفروا بكم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن {يكونوا لكم أعداء} أي: ولا ينفعكم القاء المودّة إليهم {ويبسطون إليكم} أي: خاصة، وإن كان هناك في ذلك الوقت من غير من قتل أعز الناس عليهم {أيديهم} أي: بالضرب أن استطاعوا {وألسنتهم} أي: بالشتم مضمومة إلى فعل أيديهم فعل من ضاق صدره بما تجرّع من آخر من الغصص حتى أوجب له غاية السفه {بالسوء} أي: بكل ما من شأنه أن يسوء {وودّوا} أي: تمنوا قبل هذا {لو تكفرون} لأنّ مصيبة الدين أعظم فهو إليها أسرع، لأنّ دأب العدوّ القصد إلى أعظم ضرر يراه لعدوّه، وعبر بما يفهم التمني الذي يكون في المحالات ليكون المعنى أنهم أحبوا ذلك غاية الحب وتمنوه، وفيه بشرى بأنه من قبيل المحال، وقدم الأوّل لأنه أبين في العداوة وإن كان الثاني أنكى.
ولما كانت عداوتهم معروفة، وإنما غطاها محبة القرابات لأنّ الحب للشيء يعمي ويصم فخطأ رأيهم في موالاتهم بما أعلمهم به من حالهم، فقال تعالى مستأنفاً إعلاماً بأنها خطأ على كل حال.
(12/88)
---(1/4626)
{لن تنفعكم} بوجه من الوجوه {أرحامكم} أي: قراباتكم الحاملة لكم على رحمتكم والعطف عليهم {ولا أولادكم} أي: الذين هم أخص أرحامكم إن واليتم أعداء الله تعالى لأجلهم، فينبغي أن لا تعدّوا قربهم منكم بوجه أصلاً، ثم علل ذلك وبينه بقوله تعالى: {يوم القيامة} أي: القيام الأعظم {يفصل} أي: يوقع الفصل، وهو الفرقة العظيمة بانقطاع جميع الأسباب. وقرأ عاصم بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الصاد مخففة، وقرأ ابن عامر بضم الياء وفتح الفاء وفتح الصاد مشددة، وحمزة والكسائي كذلك إلا أنهما يكسران الصاد، والباقون بضم الياء وسكون الفاء {بينكم} أي: أيها الناس فيدخل من يشاء من أهل طاعته الجنة، ومن يشاء من أهل معصيته النار فلا ينفع أحد أحداً منكم بشيء من الأشياء، إلا إن كان قد أتى الله تعالى بقلب سليم فيأذّن الله تعالى في إكرامه بذلك {والله} أي: الذي له الإحاطة التامّة {بما تعملون} أي: من كل عمل في كل وقت {بصير} فيجازيكم عليه في الدنيا والآخرة.
ولما نهى تعالى عن موالاة الكفار ذكر قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنّ من سيرته التبري من الكفار بقوله تعالى:
(12/89)
---
{قد كانت} أي: وجدت وجوداً تامّاً، وكأنّ تأنيث الفعل إشارة إلى الرضا بها، ولو كانت على أدنى الوجوه {لكم} أي: أيها المؤمنون {أسوة} أي موضع اقتداء وتأسية في إبراهيم وطريقة مرضية. وقرأ أسوة في الموضعين عاصم بضم الهمزة، والباقون بكسرها {حسنة} أي: يرغب فيها {في إبراهيم} أي: في قول أبي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {والذين معه} أي: ممن كان قبله من الأنبياء. قاله القشيري: وممن آمن به في زمانه كابن أخته لوط عليه الصلاة والسلام، وهم قدوة أهل الجهاد والهجرة، وقيل: المراد بمن معه أصحابه من المؤمنين. وقرأ هشام بفتح الهاء وألف بعدها، والباقون بكسر الهاء وبعدها ياء أي: فاقتدوا به إلا في استغفاره لأبيه.
(12/90)
---(1/4627)
قال القرطبي: الآية نص في الأمر بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام في فعله، وذلك يدل على أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله، وقيل: إنه شرع لنا إذا ورد في شرعنا ما يقرره، وقيل: ليس بشرع لنا مطلقاً وهو الأصح عندنا {إذ} أي: حين {قالوا} وقد كان من آمن به أقل منكم وأضعف {لقومهم} أي: الكفرة وقد كانوا أكثر من عدوّكم وأقوى، وكان لهم فيهم أرحام وقرابات، ولهم فيهم رجاء بالقيام والمحاولات {أنا براء} أي: متبرؤن تبرئة عظيمة {منكم} وإن كنتم أقرب الناس إلينا، ولا ناصر لنا منهم غيركم {ومما تعبدون} أي: توجدون عبادته في وقت من الأوقات {من دون الله} أي: الملك الأعظم {كفرنا بكم} أي: جحدناكم وأنكرنا دينكم {وبدا} أي: ظهر ظهوراً عظيماً {بيننا وبينكم العداوة} وهي المباينة في الأفعال بأن يعدو كل أحد على الآخر {والبغضاء} وهي المباينة بالقلوب للبغض العظيم.
ولما كان ذلك قد يكون سريع الزوال قالوا: {أبداً} أي: على الدوام. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة الثانية المفتوحة بعد المضمومة واواً خالصة، والباقون بتحقيقها وهم على مراتبهم في المدّ، وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً مع المدّ والتوسط والقصر، ولهما أيضاً التسهيل مع المدّ والقصر والروم معهما. ولما كان ذلك مؤيساً من صلاح الحال، وقد يكون لحظ النفس بينوا غايته بقولهم: {حتى تؤمنوا بالله} أي: الملك الذي له الكمال كله {وحده} أي: تكونوا مكذبين بكل ما يعبد من دون الله تعالى، وقوله تعالى: {إلا قول إبراهيم لأبيه} فيه أوجه:
أحدها: إنه استثناء متصل من قوله تعالى في إبراهيم، ولكن لا بدّ من حذف مضاف ليصح الكلام، تقديره في مقالات إبراهيم: إلا قوله كيت وكيت.
(12/91)
---(1/4628)
ثانيها: إنه مستثنى من أسوة حسنة، واقتصر على ذلك الجلال المحلي، وجاز ذلك لأنّ القول أيضاً من جملة الأسوة، لأنّ الأسوة الاقتداء بالشخص في أقواله وأفعاله فكأنه قيل لكم فيه أسوة في جميع أحواله من قول وفعل إلا قوله كذا، وهو أوضح لأنه غير محوج إلى تقدير مضاف، وغير مخرج للاستثناء من الاتصال الذي هو أصله إلى الانقطاع، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره.
ثالثها: قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الاستثناء من التبري والقطيعة التي ذكرت، أي: لم تبق صلة إلا كذا.
رابعها: إنه استثناء منقطع، أي: لكن قول إبراهيم وهذا بناء من قائله على أنّ القول لم يندرج تحت قوله أسوة، وهو ممنوع. قال القرطبي: معنى قوله تعالى إلا قول إبراهيم لأبيه {لأستغفرنّ لك} أي: فلا تتأسوا به في الاستغفار فتستغفروا للمشركين فإنه كان عن موعدة منه له، قاله قتادة ومجاهد وغيرهما. وقيل: معنى الاستثناء أن إبراهيم هجر قومه وباعدهم إلا في الاستغفار لأبيه، ثم بين عذره في سورة التوبة، وفي هذا دلالة على تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء، لأنا حين أمرنا بالاقتداء به أمرنا أمراً مطلقاً في قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم استثنى بعض أفعاله، وهذا إنما جرى لأنه ظنّ أنه أسلم فلما بان أنه لم يسلم تبرّأ منه، وعلى هذا فيجوز الاستغفار لمن يظنّ أنه أسلم، وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظنّ فلم توالونهم. وقوله {وما أملك لك من الله} أي: من عذاب أو ثواب الملك إلا على المحيط بنعوت الجلال {من شيء} من تمام قوله المستثنى، ولا يلزم من استثناء المجموع استثناء جميع أحواله.
(12/92)
---(1/4629)
وقوله: {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا {عليك} أي: لا على غيرك {توكلنا} أي: فوّضنا أمرنا إليك يجوز أن يكون من مقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام والذين معه، فهو من جملة الأسوة الحسنة، وفصل بينهما بالاستثناء ويجوز أن يكون منقطعاً عما قبله على إضمار قول، وهو تعليم من الله تعالى لعباده كأنه قال لهم قولوا ربنا عليك توكلنا {وإليك} أي: وحدك {أنبنا} أي: رجعنا بجميع ظواهرنا وبواطننا {وإليك} أي وحدك {المصير} أي: الرجوع في الآخرة.
{ربنا} أي: أيها المربي لنا والمحسن إلينا {لا تجعلنا فتنة للذين كفروا} أي: بأن تسلطهم علينا فيفتنوننا بعذاب لا نحتمله، أو فيظنوا أنهم على حق فيفتتنوا بذلك. وقيل: لا تعذبنا بعذاب من عندك فيقولون لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك. وقيل: لا تسلط عليهم الرزق دوننا، فإنّ ذلك فتنة لهم {واغفر لنا} أي: استر ما وقع منا من الذنوب، وامح عينه وأثره {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا وأكدوا إعلاماً بشدّة رغبتهم في حسن الثناء عليه فقالوا: {إنك أنت} أي: وحدك لا غيرك {العزيز} أي: الذي يغلب كل شيء، ولا يغلبه شيء {الحكيم} أي: الذي يضع الأشياء في أوفق محالها فلا يستطاع نقضها، ومن كان كذلك فهو حقيق بأن يعطى من أمله ما طلب.
(12/93)
---(1/4630)
وقوله تعالى: {لقد كان لكم} أي: يا أمّة محمد جواب قسم مقدّر {فيهم} أي: إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء {أسوة حسنة} أي: في التبري من الكفار، وكرّر للتأكيد. وقيل: نزل الثاني بعد الأول بمدّة. قال القرطبي: وما أكثر المكرّرات في القرآن على هذا الوجه. وقوله تعالى: {لمن كان يرجو الله} أي: الملك المحيط بجميع صفات الكمال {واليوم الآخر} أي: الذي يحاسب فيه على النقير والقطمير بدل من الضمير في لكم بدل بعض من كل، وفي ذلك بيان أنّ هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة {ومن يتول} أي: يوقع الأعراض عن أوامر الله تعالى فيوالي الكفار {فإن الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة {هو} أي: خاصة {الغنيّ} أي: عن كل شيء {الحميد} أي: الذي له الحمد المحيط لإحاطته بأوصاف الكمال، فهو حميد في نفسه وصفاته، أو حميد إلى أوليائه وأهل طاعته.
ولما نزلت الآية الأولى عادى المسلمون أقرباءهم من المشركين، فعلم الله تعالى شدّة وجد المسلمين في ذلك فنزل {عسى الله} أي: أنتم جديرون بأن تطمعوا في الملك إلا على المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {أن يجعل} أي: بأسباب لا تعلمونها {بينكم وبين الذين عاديتم منهم} أي: كفار مكة {مودة} أي: بأن يلهمهم الإيمان فيصيروا لكم أولياء، وقد جعل ذلك عام الفتح تحقيقاً لما رجاه سبحانه، لأنّ عسى من الله تعالى وعد، وهو لا يخلف الميعاد {والله} أي الذي له كمال الإحاطة {قدير} أي: بالغ القدرة على كل ما يريده، فهو يقدر على تقليب القلوب وتيسير العسير {والله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {غفور} أي: محاء لا عيان الذنوب وآثارها {رحيم} يكرم الخاطئين إذا أراد بالتوبة، ثم بالجزاء غاية الإكرام فيغفر لما فرط منكم في موالاتهم من قبل، وما بقي في قلوبكم من ميل الرحم وقوله تعالى:
(12/94)
---(1/4631)
{لا ينهاكم الله} أي: الذي اختص بالجلال والإكرام {عن الذين لم يقاتلوكم} أي: بالفعل {في الدين} الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم. قال ابن زيد: هذا كان في أوّل الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال، ثم نسخ. قال قتادة: نسخها {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} (التوبة: 5)
وقال ابن عباس: نزلت في خزاعة، وذلك أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً، فرخص الله تعالى في برّهم.
(12/95)
---(1/4632)
وقال أكثر أهل التأويل: إنها محكمة، واحتجوا بأنّ أسماء بنت أبي بكر قدمت أمّها وهي مشركة عليها المدينة بهدايا، فقالت أسماء: لا أقبل منك هدية، ولا تدخلي علي بيتاً حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخل منزلها، وأن تقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها، وفي ذلك إشارة إلى الاقتصار في العداوة والولاية، كما قال صلى الله عليه وسلم «أحبب حبيبك هوناً مّا عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً مّا عسى أن يكون حبيبك يوماً ما» وروى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه «أنّ أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه طلق امرأته قتيلة في الجاهلية، وهي أمّ أسماء بنت أبي بكر فقدمت عليهم في المدّة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطاً وأشياء، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين}. {ولم يخرجوكم من دياركم أن} أي: لا ينهاكم عن أن {تبروهم} بنوع من أنواع البرّ الظاهرة، فإنّ ذلك غير صريح في قصد المودّة {وتقسطوا إليهم} أي: تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة قال ابن العربي: وليس يريد به من العدل، فإنّ العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل وحكي أن القاضي إسماعيل بن إسحاق دخل عليه ذمي فأكرمه فأخذ عليه الحاضرون في ذلك فتلا عليهم هذه الآية {إن الله} أي: الذي له الكمال كله {يحب} أي: يثيب {المقسطين} أي: الذين يزيلون الجور، ويوقعون العدل.
(12/96)
---(1/4633)
{إنما ينهاكم الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة {عن الذين قاتلوكم} أي: جاهدوكم متعمدين لقتالكم {في الدين} أي: عليه فليس شيء من ذلك خارجاً عنه {وأخرجوكم من دياركم} أي بأنفسهم لبغضكم، وهم عتاة أهل مكة {وظاهروا} أي: عاونوا غيرهم {على إخراجكم} وهم مشركوا مكة. وقوله تعالى: {أن تولوهم} بدل اشتمال من الذين أي: تتخذوهم أولياء. وقرأ البزي بتشديد التاء، والباقون بالتخفيف.
ولما كان التقدير فمن أطاع فأولئك هم المفلحون عطف عليه قوله تعالى: {ومن يتولهم} أي: يكلف نفسه الحمل على غير ما تدعو إليه الفطرة الأولى من المنابزة، وأطلق ولم يقيد بمنكم ليعم المهاجرين وغيرهم، والمؤمنين وغيرهم {فأولئك} أي: الذين أبعدوا عن العدل {هم الظالمون} أي: الغريقون في إيقاع الأشياء في غير مواضعها.g
ولما أمر المسلمين بترك موالاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة فبين أحكام مهاجرة النساء بقوله تعالى:
(12/97)
---
{يا أيها الذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان {إذا جاءكم المؤمنات} أي: بأنفسهن {مهاجرات} أي: من الكفار بعد الصلح معهم في الحديبية {فامتحنوهنّ} أي: بالحلف أنهنّ ما هاجرن إلا رغبة في الإسلام، لا بغضاً في أزواجهن الكفار، ولا عشقاً لرجال من المسلمين. كذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفهنّ.
(12/98)
---(1/4634)
قيل: إنّ سبب الامتحان أنه كان من أرادت منهنّ إضرار زوجها قالت: سأهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بامتحانهنّ {الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {أعلم} أي: منكم ومن أنفسهنّ {بإيمانهنّ} هل هو كائن، أم لا على وجه الرسوخ، أم لا فإنه المحيط بما غاب كإحاطته بما شوهد، وإنما وكل الأمر إليكم في ذلك ستراً للناس {فإن علمتموهنّ مؤمنات} أي: العلم الممكن لكم، وهو الظنّ المؤكد بالإمارات الظاهرات بالحلف وغيره {فلا ترجعوهنّ} أي: بوجه من الوجوه {إلى الكفار} وإن كانوا أزواجاً. قال ابن عباس: لما جرى الصلح مع مشركي قريش عام الحديبية على أنّ من أتاه من أهل مكة ردّه إليهم جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعد فأقبل زوجها وكان كافراً وكان صيفي بن الراهب، وقيل: مسافر المخزومي فقال: يا محمد أردد علي امرأتي فأنت شرطت ذلك، وهذه طية الكتاب لم تجف بعد فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروي «أنّ أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم فجاء أهلها يسألونه أن يردّها، وقيل: هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عمارة والوليد، فردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخويها وحبسها فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ردّها علينا للشرط، فقال صلى الله عليه وسلم كان الشرط في الرجال لا في النساء فأنزل الله تعالى هذه الآية». وعن عروة قال كان مما اشترط سهل بن عمرو على النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديبية أن لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه، فكره المؤمنون ذلك وأبى سهل إلا ذلك، فكاتبه النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فردّ يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهل بن عمرو ولم يأته أحد من الرجال إلا ردّه في تلك المدّة، وإن كان مسلماً حتى أنزل الله تعالى في المؤمنات ما أنزل، وهذا يومي إلى(1/4635)
(12/99)
---
أنّ الشرط في ردّ النساء نسخ بذلك، وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن. وقال بعض العلماء: كله منسوخ بالقرآن، وقالت طائفة: لم يشترط ردّهنّ في العقد لفظاً، وإنما أطلق العقد في ردّ من أسلم فكان ظاهر العموم اشتماله عليهنّ مع الرجال، فبين الله تعالى خروجهنّ عن عمومه وفرق بينهنّ وبين الرجال لأمرين: أحدهما: أنهنّ ذوات فروج فحرمن عليهنّ، الثاني: أنهنّ أرق قلوباً وأسرع تقلباً منهم، فأما المقيمة منهنّ على شركها فمردودة عليهم {لا هنّ} أي: المؤمنات {حلّ} أي: موضع حلّ ثابت {لهم} أي: الكفار باستمتاع، ولا غيره. وقوله تعالى: {ولا هم} أي: رجال الكفار {يحلون لهنّ} أي: المؤمنات تأكيد للأوّل لتلازمهما. وقال البيضاوي: والتكرير للمطابقة والمبالغة، والأولى لحصول الفرقة، والثانية للمنع عن الاستئناف.
وقيل: أراد استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل كما هو في الحال ما داموا مشركين، وهنّ مؤمنات. والمعنى: لم يحل الله تعالى مؤمنة لكافر في حال من الأحوال، وهذا أدل دليل على أنّ الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها الكافر إسلامها لا هجرتها. وقال أبو حنيفة: الذي فرق بينهما هو اختلاف الدارين، والصحيح كما قال ابن عادل: الأول لأنّ الله تعالى بين العلة، وهو عدم الحل بالإسلام لا باختلاف الدار.
ولما نهى عن الردّ وعلله أمر بما قدم من الأقساط إليهم فقال تعالى: {وآتوهم} أي: أعطوا الأزواج {ما أنفقوا} أي: عليهنّ من المهور، فإنّ المهر في نظير أصل العشرة ودوامها، وقد فوتتها المهاجرة فلا يجمع عليه خسارتان الزوجية والمالية وأما الكسوة والنفقة فأنهما لما يتجدّد من الزمان.
(12/100)
---(1/4636)
تنبيه: أمر الله تعالى برد ما أنفقوا إلى الأزواج، وإنّ المخاطب بهذا الإمام. وهل يجب ذلك أو يندب؟ ظاهرة الآية الوجوب، ولكن رجح الندب وعليه الشافعي، لأنّ البضع ليس بمال فلا يشمله الأمان كما لا يشمل زوجية، والآية وإن كان ظاهرها الوجوب محتملة للندب الصادق بعدم الوجوب الموافق للأصل وقال مقاتل: يردّ المهر للذي يتزوّجها من المسلمين، وليس لزوجها الكافر شيء. وقال قتادة: الحكم في ردّ الصداق إنما هو في نساء أهل الذمّة، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يرد عليهم الصداق. قال القرطبي: والأمر كما قال {ولا جناح} أي: حرج وميل {عليكم} يا أيها المشرفون بالخطاب {أن تنكحوهنّ} أي: تجدّدوا زواجكم بهنّ بعد الاستبراء، وإن كان أزواجهنّ من الكفار لم يطلقوهنّ لزوال العلق عنهنّ لأنّ الإسلام فرق بينهم، قال الله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} (النساء: 141)
(12/101)
---(1/4637)
ولما كان قد أمر برد مهور الكفار فكان ربما ظنّ أنه مغن عن تجديد مهر لهنّ إذا نكحهنّ المسلم نفى ذلك بقوله: {إذا آتيتموهنّ} أي: لأجل النكاح {أجورهنّ} أي: مهورهنّ، وفي شرط أثناء المهر في نكاحهنّ إيذان بأن ما أعطى أزواجهنّ لا يقوم مقام المهر {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} جمع عصمة، وهي هنا عقد النكاح، أي: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّ بها فقد انقطعت عصمتها فلا يكن بينكم وبينهنّ عصمة ولا علقة زوجية، والكوافر جمع كافرة كضوارب في ضاربة. قال النخعي: المراد بالآية هي المرأة المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر، وكان الكفار يتزوّجون المسلمات، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك بهذه الآية فطلق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين له بمكة مشركتين قريبة بنت أبي أمية فتزوجها معاوية بن أبي سفيان، وهما على شركهما بمكة وأمّ كلثوم بنت عمر والخزاعية أم عبد الله بن المغيرة فتزوجها أبو جهم بن حذافة، وهما على شركهما بمكة فلما ولي عمر قال أبو سفيان لمعاوية: طلق قريبة فلا يرى عمر سلبه في بيتك فأبى معاوية، وكانت عند طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ففرق الإسلام بينهما، ثم تزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص، وكانت ممن فرت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار فحبسها وزوجها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية. وقال الشعبي: كانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت ولحقت بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وأقام أبو العاص بمكة مشركاً، ثم أتى المدينة وأسلم فردّها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم روى أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس بالنكاح الأوّل، ولم يحدث شيئاً. قال محمد بن عمرو في حديث بعد ست سنين، وقال الحسن بن علي: بعد سنتين، قال أبو عمر: فإن صح هذا فلا يخلو من وجهين: إما أنها لم تحض حتى أسلم زوجها، وإما أنّ الأمر فيها منسوخ بقوله تعالى: {وبعولتهن أحق(1/4638)
(12/102)
---
بردّهن في ذلك} يعني: في عدّتهن، وهذا مما لا خلاف فيه أنه عنى به العدّة قال الزهري في قصة زينب: هذه كانت قبل أن تنزل الفرائض، وقال قتادة: كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة بقطع العهود بينهم وبين المشركين.
تنبيه: المراد بالكوافر هنا عبدة الأوثان، ومن لا يجوز ابتداء نكاحها. وقيل: هي عامّة نسخ منها نساء أهل الكتاب، فعلى الأول: إذا أسلم وثني، أو مجوسي ولم تسلم أمرأته فرق بينهما، وهو قول بعض أهل العلم منهم مالك والحسن وطاوس وعطاء وعكرمة وقتادة لقوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} وقال بعضهم: ينتظر بها تمام العدّة، وهو قول الزهري والشافعي وأحمد، واحتجوا بأن أبا سفيان بن الحارث أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته، وكان إسلامه بمرّ الظهران، ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة مقيمة على كفرها، فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال، ثم أسلمت بعده بأيام فاستقرّا على نكاحهما لأنّ عدتها لم تكن انقضت، قالوا: ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته، ثم أسلمت بعده فكانا على نكاحهما. قال الشافعي: ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى: {بعصم الكوافر} لأنّ نساء المؤمنين محرمات على الكفار كما أن المسلمين لا تحل لهم الكوافر الوثنيات ولا المجوسيات لقوله تعالى: {لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} ثم بينت السنة أن مراد الله تعالى من قوله هذا: أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا إن أسلم الثاني منهما في العدّة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه في الكافرين الذمّيين: إذا أسلمت المرأة عرض على الزوج الإسلام فإن أسلم، وإلا فرق بينهما، قالوا: ولو كانا حربيين فهي امرأته حتى تحيض ثلاث حيض إذا كانا جميعاً في دار الحرب، أو في دار الإسلام، وإن كان أحدهما في دار الحرب والآخر في دار الإسلام انقطعت العصمة بينهما، وقد تقدمّ أنّ اعتبار الدار ليس بشيء، وهذا الخلاف إنما هو في المدخول بها.
(12/103)
---(1/4639)
فأمّا غير المدخول بها فلا نعلم خلافاً في انقطاع العصمة بينهما إذ لا عدّة عليها، وكذا يقول مالك في المرأة يرتد زوجها المسلم تنقطع العصمة بينهما لقوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح وقال الشافعي وأحمد: ينتظر بها تمام العدّة، فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة فذهب مالك والشافعي وأحمد إلى تمام العدّة، وهو قول مجاهد، وكذا الوثني تسلم زوجته إن أسلم في عدّتها فهو أحق بها، كما أن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدّتهما لما ذكر مالك في الموطأ.
(12/104)
---(1/4640)
قال بعض العلماء: كان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحو من شهر، قال: ولم يبلغنا أنّ امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم زوجها مهاجراً قبل أن تنقضي عدتها. وقال بعضهم: ينفسخ النكاح بينهما لما روى يزيد بن علقمة قال: أسلم جدّي ولم تسلم جدّتي ففرق بينهما عمر، وهو قول طاوس وعطاء والحسن وعكرمة قالوا: لا سبيل له عليها إلا بخطبة {واسألوا} أي: أيها المؤمنون الذين ذهبت زوجاتهم إلى الكفار مرتدّات {ما أنفقتم} أي: من مهور نسائكم {وليسألوا} أي: الكفار {ما أنفقوا} أي: من مهور أزواجهم اللائي أسلمن. قال المفسرون: كان من ذهب من المسلمات مرتدّات إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار: هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين: إذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة ردّوا إلى الكفار مهرها، وكان ذلك نصفاً وعدلاً بين الحالين {ذلكم} أي: الحكم الذي ذكر في هذه الآيات البعيدة تعلق الرتبة عن كل سفيه {حكم الله} أي: الملك الذي له صفات الكمال، فلا تلحقه شائبة نقص {يحكم} أي: الله إذ حكمه على سبيل المبالغة {بينكم} أي: في هذا الوقت وفي غيره على هذا المنهاج البديع، وذلك لأجل الهدنة التي كانت وقعت بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبينهم، وأمّا قبل الحديبية فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يمسك النساء ولا يردّ الصداق {والله} أي: الذي له الإحاطة التامّة {عليم} أي: بالغ العلم لا يخفى عليه شيء {حكيم} أي: فهو لتمام علمه يحكم كل أموره غاية الأحكام، فلا يستطيع أحد نقض شيء منها.
(12/105)
---(1/4641)
روي أن المسلمين قالوا: رضينا بما حكم الله تعالى، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزل قوله تعالى: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم} أي: واحدة فأكثر منهن، أو شيء من مهورهن بالذهاب {إلى الكفار} مرتدات {فعاقبتم} فغزوتم وغنمتم من أموال الكفار فجاءت نوبة ظفركم بأداء المهر إلى إخوانكم طاعة وعدلاً عقب نوبتهم التي اقتطعوا فيها ما أنفقتم ظلماً {فآتوا} أي: فاحضروا وأعطوا من مهر المهاجرة {الذين ذهبت أزواجهم} أي: منكم من الغنيمة {مثل ما أنفقوا} أي: لفواته عليهم من جهة الكفار. روى الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت: حكم الله تعالى بينهم فقال جلّ ثناؤه {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} فكتب إليهم المسلمون قد حكم الله تعالى بيننا بأنه إن جاءتكم امرأة منا أن توجهوا إلينا صداقها، وإن جاءتنا امرأة منكم وجهنا إليكم بصداقها، فكتبوا أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئاً فإن كان لنا عندكم شيء فوجهوا به فأنزل الله تعالى: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم} الآية. وقال ابن عباس: في قوله تعالى: {ذلكم حكم الله} أي: بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة يرد بعضهم على بعض. قال الزهري: ولولا العهد لأمسك النساء ولم يرد عليهم صداقاً، وقال قتادة ومجاهد: إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة، وقالا: هي فيمن بيننا وبينه عهد، وقالا: فمعنى {فعاقبتم} فاقتصصتم {فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل مثل ما أنفقوا} أي: من المهور. وقال ابن عباس: معنى الآية إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل مكة، وليس بينكم وبينهم عهد، ولها زوج مسلم قبلكم فغنمتم فأعطوا هذا الزوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس. وقال الزهري: يعطي من مال الفيء، وعنه يعطى من صداق من لحق بها
(12/106)
---(1/4642)
تنبيه: محصل مذهب الشافعي في هذه الآية: أنّ الهدنة لو عقدت بشرط أن يردوا من جاءهم منا مرتداً صح، ولزمهم الوفاء به سواء أكان رجلاً أو امرأة، حرّاً أو رقيقاً، فإن امتنعوا من ردّه فناقضون للعهد لمخالفتهم الشرط، أو عقدت على أن لا يردوه جاز، ولو كان المرتدّ امرأة فلا يلزمهم ردّه لأنه صلى الله عليه وسلم شرط ذلك في مهادنة قريش، حيث قال لسهل بن عمرو وقد جاء رسولاً منهم «من جاءنا منكم رددناه، ومن جاءكم منا فسحقاً سحقاً» ومثله ما لو أطلق العقد كما فهم بالأولى، ويغرمون فيهما مهر المرتدّة. فإن قيل: لم غرموا مهر المرتدّة، ولم نغرم نحن مهر المسلمة على ما تقدم من الخلاف؟ أجيب: بأنهم قد فوتوا عليه الاستتابة الواجبة علينا، وأيضاً المانع جاء من جهتها، والزوج غير متمكن منها بخلاف المسلمة الزوج متمكن منها بالإسلام، وكذا يغرمون قيمة رقيق ارتدّ دون الحرّ، فإن عاد الرقيق المرتد إلينا بعد أخذنا قيمته رددناها عليهم.
بخلاف نظيره في المهر لأنّ الرقيق بدفع القيمة يصير ملكاً لهم، والنساء لا يصرن زوجات.
فإن قيل: كونه يصير ملكاً لهم مبنى على جواز بيع المرتد للكافر، والصحيح خلافه.
أجيب: بأنّ هذا ليس مبنياً عليه لأن هذا ليس بيعاً حقيقة فاغتفر ذلك أجل المصلحة، وإن شرطنا عدم الرد.
فإن قيل: هل يغرم الإمام لزوج المرتدة ما أنفق من صداقها، لأنا بعقد الهدنة حلنا بينه وبينها، ولولاه لقاتلناهم حتى يردوها؟.
أجيب: بأنّ هذا ينبني على أنّ الإمام هل يغرم لزوج المسلمة المهاجرة ما أنفق، وقد تقدم الكلام على ذلك.
(12/107)
---(1/4643)
فائدة: روي عن ابن عباس أنه قال: لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة أم الحكم بنت أبي سفيان، وكانت تحت شداد بن عياض الفهري، وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، وعزة بنت عبد العزيز بن نضلة، وزوجها عمرو بن عبد ود، وهند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل، وأمّ كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر بن الخطاب رجعن عن الإسلام، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهنّ مهور نسائهم من الغنيمة.
ولما كان التحرّي في مثل ذلك عسراً فإنّ المهور تتفاوت تارة وتتساوى أخرى قال تعالى: {واتقوا} أي: في الإعطاء والمنع وغير ذلك {الله} الذي له صفات الكمال، وقد أمركم بالتخلق بصفاته على قدر ما تطيقون {الذي أنتم به مؤمنون} أي: متمكنون في رتبة الإيمان.
ولما خاطب المؤمنين الذين هم موضع الحماية والنصرة للدين أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الحكم بإيمانهن بمبايعتهن بقوله تعالى:
(12/108)
---(1/4644)
{يا أيها النبيّ} مخاطباً له بالوصف المقتضى للعلم {إذا جاءك المؤمنات} جعل إقبالهن عليه صلى الله عليه وسلم لا سيما مع الهجرة مصححاً لإطلاق الهجرة عليهن {يبايعنك على أن لا يشركن} أي: كل واحدة منهن تبايعك على عدم الإشراك في وقت من الأوقات {بالله} أي: الملك الذي لا كفؤ له {شيئاً} أي من إشراك على الإطلاق {ولا يسرقن} أي: يأخذن مال الغير بغير استحقاق في خفية {ولا يزنين} أي: يمكن أحداً من وطئهن بغير عقد صحيح {ولا يقتلن أولادهن} أي: بالوأد كما كان يفعل في الجاهلية من وأد البنات، أي: دفنهن أحياء خوفاً من العار والفقر {ولا يأتين ببهتان} أي: بولد ملقوط أو شبهة بأن {يفترينه} أي: يتعمدن كذبه بأن ينسبنه للزوج، ووصفه بصفة الولد الحقيقي بقوله تعالى: {بين أيديهن} أي: بالحمل في البطون لأنّ بطنها التي تحمل فيها الولد بين يديها {وأرجلهن} أي: بالوضع من الفروج لأنّ فرجها الذي تلد منه بين رجليها، أو لأنّ الولد إذا وضعته سقط بين يديها ورجليها.
(12/109)
---(1/4645)
وقيل: بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة، ومعنى: بين أرجلهن فروجهن. وقيل: ما بين أيديهن من قبلة أو جسة وبين أرجلهن الجماع. وروي أن هند لما سمعت ذلك قالت: والله إنّ البهتان لأمر قبيح، وما يأمر إلا بالأرشد ومكارم الأخلاق {ولا يعصينك} أي: على حال من الأحوال {في معروف} وهو ما وافق طاعة الله تعالى كترك النياحة، وتمزيق الثياب، وجر الشعر وشق الجيب، وخمش الوجه {فبايعهن} أي: التزم لهن بما وعدن على ذلك من إعطاء الثواب في نظير ما ألزمن أنفسهن من الطاعة، فبايعهن صلى الله عليه وسلم بالقول ولم يصافح واحدة منهن. قالت عائشة رضى الله عنها «والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمر الله عز وجل، وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امراة قط. وروي أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية {أن لا يشركن بالله شيئاً} إلى آخرها قالت: وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها» وقالت أميمة بنت رقيقة «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة فقال فيما استطعتن أطعن، فقلت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارحم بنا من أنفسنا، وقلت: يا رسول الله صافحنا، فقال إني لا أصافح النساء إنما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة». وروي «أنه صلى الله عليه وسلم بايع النساء وبين يديه وأيديهن ثوب، وكان يشترط عليهن» وقالت أم عطية: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب فقام على الباب فسلم فرددن عليه السلام فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن أن لا تشركن بالله شيئاً الآية، فقلن نعم، فمد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: اللهم اشهد» وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه فغمسن أيديهن(1/4646)
(12/110)
---
فيه» وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال يوم الفتح لمكة، وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه وهو يبايع النساء بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبلغهن عنه أن لا يشركن بالله شيئاً، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها لما صنعت بحمزة يوم أحد، فقالت: والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيتك أخذته على الرجال، وكان بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ولا يسرقن، فقالت هند إن أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصيب من ماله قوتنا فلا أدري أيحل لي أم لا، فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وما غير فهو حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها، فقال لها: «وإنك لهند بنت عتبة»، قالت: نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك.
(12/111)
---(1/4647)
وروي أنها قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك، فهل عليّ حرج إن أخذت ما يكفيني وولدي، قال: «لا إلا بالمعروف» فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها فتضيع و تأخذ أكثر من ذلك فتكون سارقة ناكثة للبيعة المذكورة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أي لا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف من غير استطالة إلى أكثر من الحاجة، ثم قال: ولا يزنين، فقالت هند: أوتزني الحرة، فقال: ولا يقتلن أولادهن أي: بالوأد، ولا يسقطن الأجنة، فقالت هند: ربيناهم صغاراً وقتلتهم يوم بدر كباراً، وأنت وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: {ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: {ولا يعصينك في معروف} فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا، وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء قال أكثر المفسرين: معناه لا يلحقن بأزواجهن ولداً من غيرهن، وكانت المرأة تلتقط ولداً تلحقه بزوجها وتقول: هذا ولدي منك فكان من البهتان والافتراء.g
وهذا عام في الإتيان بولد وإلحاقه بالزوج، وإن سبق النهي عن الزنا.
تنبيه: ذكر تعالى في هذه الآية لرسوله صلى الله عليه وسلم في صفة البيعة خصالاً ستاً صرح فيهن بأركان النهي، ولم يذكر أركان الأمر وهي ست أيضاً: الشهادة، والزكاة، والصلاة، والصيام، والحج، والاغتسال من الجناب، وذلك لأن النهي دائم في كل زمان ومكان، وكل الأحوال فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد.
(12/112)
---(1/4648)
وقيل: إن هذه المناهي كانت في النساء كثيراً ممن يرتكبها، ولا يحجزهن عنها شرف النسب فخصت بالذكر لهذا، ونحو هذا قوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس «وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت» فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي لأنها كانت شهوتهم وعادتهم، وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي هان عليه ترك سائرها مما لا شهوة فيها.
ولما كان الإنسان محل النقصان لا سيما النسوان رجاهن سبحانه بقوله تعالى: {واستغفر} أي: اسأل {لهن الله} أي: الملك الأعظم ذا الجلال والإكرام في الغفران إن وقع منهن تقصير وهو واقع، لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله تعالى حق قدره {إن الله} أي: الذي له صفات الكمال {غفور} أي: بالغ الستر للذنوب عيناً وأثراً {رحيم} أي: بالغ الإكرام بعد الغفران تفضلاً منه وإحساناً.
وروي أن ناساً من فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فنهاهم الله عن ذلك بقوله تعالى:
{يأيها الذين آمنوا لا تتولوا} أي: لا تعالجوا أنفسكم أن توالوا {قوماً} أي: ناساً لهم قوة على ما يحاولونه فغيرهم من باب أولى {غضب الله} أي: أوقع الملك الأعلى الغضب {عليهم} لإقبالهم على ما أحاط بهم من الخطايا، فهو عام في كل من اتصف بذلك يتناول اليهود تناولاً أولياً {قد يئسوا} أي: تحققوا عدم الرجاء {من الآخرة} أي: من ثوابها مع إيقانهم بها لعنادهم النبي صلى الله عليه وسلم مع علمهم أنه الرسول المبعوث في التوراة {كما يئس الكفار من أصحاب القبور} أي من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء.
(12/113)
---(1/4649)
وقيل: من أصحاب القبور بيان للكفار، أي: كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة، إذ تعرض عليهم مقاعدهم من الجنة لو كانوا آمنوا، وما يصيرون إليه من النار فيتبين لهم قبح حالهم، وسوء منقلبهم. وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء يوم القيامة» حديث موضوع.
سورة الصف
مدنية في قول الأكثرين، وذكر النحاس عن ابن عباس أنها مكية،وهي أربع عشرة آية ومائتان وإحدى وعشرون كلمة وتسعمائة حرف
{بسم الله} الملك الأعظم الذي لا كفء له {الرحمن} الذي عم بفضله كل أحد من خلقه {الرحيم} الذي خص من شاء من عباده فهيأه لعبادته وأهله.
{سبح لله} أي: أوقع التنزيه الأعظم للملك الأعظم {ما في السموات} من جميع الملائكة وغيرها كالأفلاك والنجوم {وما في الأرض} كذلك من الآدميين وغيرهم كالشجر والثمار. وقيل: اللام مزيدة، أي: نزه الله وأتى بما دون من، قال الجلال المحلي: تغليباً للأكثر.
فإن قيل: ما الحكمة في انه تعالى قال في بعض السور سبح لله بلفظ الماضي، وفي بعضها يسبح بلفظ المضارع، وفي بعضها فسبح بلفظ الأمر؟.
(12/114)
---(1/4650)
أجيب: بأن الحكمة في ذلك تعليم العبد أن يسبح الله تعالى على الدوام كما أن الماضي يدل عليه في الماضي من الزمان، والمستقبل يدل عليه في المستقبل من الزمان، والأمر يدل عليه في الحال فإن قيل: هلا قيل سبح لله السموات والأرض وما فيهما، وهو أكثر مبالغة أجيب: بأن المراد بالسماء جهة العلو فيشمل السماء وما فيها، وبالأرض جهة السفل فيشمل الأرض وما فيها {وهو} أي: وحده {العزيز} أي: الغالب على غيره أي شىء كان ذلك الغير، ولا يمكن أن يغلب عليه غيره {الحكيم} أي: الذي يضع الأشياء في أتقن مواضعها. روى الدرامي في مسنده قال: أنبأنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا مع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملناه، فأنزل الله تعالى: {سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم} {يأيها الذين آمنوا} أي: ادّعوا الإيمان {لم تقولون ما لا تفعلون} حتى ختمها. قال عبد الله: «فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها، قال أبو سلمة: قرأها علينا عبد الله بن سلام حتى ختمها، قال يحيى فقرأها علينا أبو سلمة فقرأها علينا أبو يحيى، فقرأها علينا الأوزاعي، فقرأها علينا محمد فقرأها علينا الدرامي. انتهى. ولي بقراءتها سند متصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقال عبد الله بن عباس: قال عبد الله بن رواحة: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه فلما نزل الجهاد كرهوه. وقال الكلبي: قال المؤمنون: يا رسول الله لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لسارعنا إليه فنزل {هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} فمكثوا زماناً يقولون: لو نعلمها لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين، فدلهم الله تعالى عليها بقوله تعالى: {تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله} (الصف: 11)
(12/115)
---(1/4651)
الآية، فابتلوا يوم أحد ففروا فنزلت الآية تعييراً لهم بترك الوفاء. وقال محمد بن كعب: لما أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء بدر.
قالت الصحابة: اللهم اشهد لئن لقينا قتالاً لنفرغن فيه وسعنا، ففروا يوم أحد فعيرهم الله تعالى بذلك. وقال قتادة والضحاك: نزلت في قوم كانوا يقولون: نحن جاهدنا وأبلينا، ولم يفعلوا. وقيل: قد آذى المسلمين رجل ونكى فيهم، فقتله صهيب وانتحل قتله آخر، فقال عمر لصهيب: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنك قتلته، فقال: إنما قتلته لله ولرسوله، فقال عمر: يا رسول الله قتله صهيب، قال: كذلك يا أبا يحيى، قال: نعم، فنزلت في المنتحل. وقال ابن زيد: نزلت في المنافقين ونداؤهم بالإيمان تهكم بهم وبإيمانهم، وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم، وقاتلنا فلما خرجوا نكصوا عنهم وتخلفوا. وقال القرطبي: هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملاً فيه طاعة أن يفي به
(12/116)
---(1/4652)
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى: أنه بعث إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه، ولا تطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة فشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني قد حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وكنا نقرأ سورة فشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} فلبثت شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة. قال ابن العربي: وهذا كله ثابت في الدين لفظاً ومعنى في هذه السورة، وأما قوله: شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة، فمعنى ذلك: ثابت في الدين فإن من التزم شيئاً ألزمه شرعاً. وقال القرطبي: ثلاث آيات منعتني أن أقضي على الناس {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} (البقرة: 44)
{وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود: 88)
و{يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت عادت، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون، ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به».
(12/117)
---(1/4653)
تنبيه: قوله تعالى: {لم تقولون ما لا تفعلون} استفهام على وجه الإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير مالا يفعله، إما في الماضي فيكون كذباً، وإما في المستقبل فيكون خلقاً وكلاهما مذموم. قال الزمخشري: لم هي لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك: بم، وفيم، ومم، وعم، وإلام، وعلام، وإنما حذفت الألف لأن ما والحرف كشيء واحد، ووقع استعمالهما كثيراً في كلام المستفهم، وقد جاء استعمال الأصل قليلاً والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان. ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف كما سمع ثلاثه أربعه بالهاء وإلقاء حركة الهمزة عليها محذوفة ا.ه. ووقف البزي لمه بهاء السكت بخلاف عنه.
{كبر} أي: عظم. وقوله تعالى: {مقتاً} تمييز، والمقت أشد البغض، وزاد في تشنيعه زيادة في التنفير منه بقوله تعالى: {عند الله} أي: الملك الأعظم الذي يحقر عنده كل متعاظم، وقيل: إن كبر من أمثلة التعجب. وقد عده ابن عصفور في التعجب المبوب له في النحو فقال: صيغة ما أفعله وأفعل به، وفعل، نحو كرم الرجل، وإليه نحا الزمخشري فقال: هذا من أفصح الكلام وأبلغه في معناه قصد في كبر التعجب من غير لفظه، كقوله: غلت ناب كليب بواؤها، ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله. وقوله تعالى: {أن تقولوا} أي: عظم من تلك الجهة أن يقع في وقت من الأوقات، أو حال من الأحوال قولكم {ما لا تفعلون} فاعل كبر. قال الرازي: وجه تعلق هذه السورة بما قبلها هو أن في السورة التي قبلها بين الخروج إلى الجهاد في سبيل الله وابتغاء مرضاته بقوله تعالى: {إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي} وفي هذه السورة بين ما يحمل المؤمن ويحثه على الجهاد بقوله تعالى:
(12/118)
---(1/4654)
{إن الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {يحب} أي: يفعل فعل المحب مع {الذين يقاتلون} أي: يوقعون القتال {في سبيله} أي: بسبب تسهيل طريقه الموصلة إلى رضاه. وقوله تعالى: {صفاً} حال، أي: مصطفين حتى كأنهم في اتحاد المراد على قلب واحد كما كانوا في التساوي في الاصطفاف كالبدن الواحد {كأنهم} من شدة التراص والمساواة بالصدور والمناكب والثبات في المركز {بنيان} وزاد في التأكيد بقوله تعالى: {مرصوص} أي: ملزوق بعض إلى بعض ثابت كثبوت البناء.
وقال ابن عباس: يوضع الحجر على الحجر، ثم يرص بأحجار صغار، ثم يوضع اللبن عليه فيسميه أهل مكة المرصوص. وقال الرازي: يجوز أن يكون المعنى على أن يستوي شأنهم في حرب عدوهم، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة وموالاة بعضهم بعضاً كالبنيان المرصوص قال القرطبي: استدل بعضهم بهذه الآية على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة. قال المهدوي: وذلك غير مستقيم لما جاء في فضل الفارس من الأجر والغنيمة، ولا يخرج الفرسان من معنى الآية لأن معناها الثبات، ولهذا يحرم الخروج من الصف إن قاومناهم إلا متحرفاً لقتال، كمن ينصرف ليكمن في موضع ويهجم، أو ينصرف من مضيق ليتبعه العدو إلى متسع سهل للقتال، أو متحيز إلى فئة يستنجد بها ولو بعيدة قليلة أو كثيرة، فيجوز انصرافه لقوله تعالى: {إلا متحرفاً لقتال} (الأنفال: 16)
وتجوز المبارزة لكافر لم يطلبها بلا كره، وندب لقوي أذن له الإمام أو نائبه لإقراره صلى الله عليه وسلم عليها، وهي ظهور اثنين من الصفين للقتال، من البروز وهو الظهور، فإن طلبها كافر سنت للقوي المأذون له للأمر بها في خبر أبي داود، ولإن تركها حينئذ إضعافاً لنا وتقوية لهم، وإلا كرهت
ولما ذكر تعالى الجهاد ذكر قصة موسى وعيسى عليهما السلام تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذى قومه، مبتدئاً بقصة موسى عليه السلام لتقدمه فقال تعالى:
(12/119)
---(1/4655)
{وإذ} أي: واذكر ياأشرف الخلق إذ {قال موسى لقومه} أي: بني إسرائيل، وقوله: {ياقوم} استعطاف لهم واستنهاض إلى رضا ربهم {لم تؤذونني} أي: تجددون أذاي مع الاستمرار، وذلك حين رموه بالأدرة كما مر في سورة الأحزاب ومن الأذى ما ذكر في قصة قارون أنه دس إلى امرأة تدعي على موسى الفجور، ومن الأذى قولهم {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} (الأعراف: 138)
وقولهم: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون} (المائدة: 24)
(12/120)
---
وقولهم: أنت قتلت هارون، وغير ذلك. وقوله تعالى: {وقد تعملون} جملة حالية، أي: علمتم علماً قطعياً تجدده لكم كل وقت بتجدد أسبابه بما آتيتكم به من المعجزات، والكتاب الحافظ لكم من الزيغ {إني رسول الله} الملك الأعظم الذي لا كفؤ له {إليكم} ورسوله يعظم ويحترم لا أنه تنتهك جلالته وتخترم، وأنا لا أقول لكم شيئاً إلا عنه، ولا أنطق عن الهوى {فلما زاغوا} أي: عدلوا عن الحق بمخالفة أوامر الله تعالى وبإيذائه. وقرأ حمزة بالإمالة والباقون بالفتح {أزاغ الله} أي: الملك الذي له الأمر كله {قلوبهم} أي: أمالهم عن الهدى على وفق ما قدره في الأزل {والله} أي: الذي له الحكمة البالغة لأنه المستجمع لصفات الكمال {لا يهدي} أي: بالتوفيق بعد هداية البيان {القوم الفاسقين} أي: العريقين في الفسق الذين لهم قوة المحاولة، فلم يحملهم على الفسق ضعف فاحذروا أن تكونوا مثلهم في العزائم فتساووهم في عقوبات الجرائم، وهذا تنبيه على عظيم إيذاء الرسل حتى إن أذاهم يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى، ثم ذكر القصة الثانية بقوله تعالى:
(12/121)
---(1/4656)
{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} {وإذ} أي: واذكر يا أشرف المرسلين إذ {قال عيسى} ووصفه بقوله {ابن مريم} ليعلم أنه من غير أب وثبتت نبوته بالمعجزات {يا بني إسرائيل} فذكرهم بما كان عليه أبوهم من الدين وما أوصى به بنيه من التمسك بالإسلام، ولم يقل: يا قوم، كما قال موسى عليه السلام؛ لأنه لا أب له فيهم وإن كانت أمه منهم، فإن النسب إنما هو من جهة الأب، وأكد لإنكار بعضهم فقال {إني رسول الله} أي: الملك الأعظم {إليكم} أي: لا إلى غيركم {مصدقاً لما بين يدي} أي: قبلي {من التوراة} التي تعلمون أن الله تعالى أنزلها على موسى عليه السلام، وهي أول الكتب التي نزلت بعد الصحف وحكم بها النبيون، فتصديقي لها مع تأييدي بها مؤيد، لأن ما أقمت من الدلائل حق ومبين أنها دليلي فيما لم أنسخه منها، كما يستدل بما قدامه من الإعلام ويراعيه ببصره. وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ حمزة ونافع بين بين بخلاف عنه عن قالون، والباقون بالفتح {ومبشراً} في حال تصديقي للتوراة {برسول} أي: إلى كل من شملته الربوبية {يأتي من بعدي} أي: يصدق بالتوراة. فكأنه قيل: ما اسمه؟ قال: {اسمه أحمد} والمعنى: أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني من التوراة، وفي حال تبشيري برسول يأتي من بعدي يعني أن ديني التصديق بكتب الله تعالى وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر.
فإن قيل: بم انتصب مصدقاً ومبشراً، أبما في الرسول من معنى الإرسال أم بإليكم؟.
(12/122)
---(1/4657)
أجيب: بأنه بمعنى الإرسال لأن إليكم صلة للرسول فلا يجوز أن يعمل شيئاً لأن حروف الجر لا تعمل بأنفسها، ولكن بما فيها من معنى الفعل، فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل فمن أين تعمل.
وعن كعب: أن الحواريين قالوا لعيسى: يا رسول الله هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم أمة أحمد حكماء علماء أبرار أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل. وعن حبيش بن مطعم قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي» وقد سماه الله تعالى رؤوفاً ورحيماً. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اسمي في التوراة أحيد لأني أحيد أمتي عن النار، واسمي في الزبور الماحي محى الله بي عبدة الأوثان، واسمي في الإنجيل أحمد، وفي القرآن محمد لأني محمود في أهل السماء والأرض» بل ذكر بعض العلماء أنه له ألف اسم. قال البغوي: والألف في أحمد للمبالغة في الحمد، وله وجهان:
أحدهما: أنه مبالغة من الفاعل، أي: ومعناه أن الأنبياء حمادون لله تعالى، وهو أكثر حمداً من غيره.
والثاني: أنه مبالغة من المفعول، أي: ومعناه أن الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة، وهو أكثر مبالغة وأجمع للفضائل والمحاسن والأخلاق التي يحمد بها ا. ه. وعلى كلا الوجهين منعه من الصرف للعملية والوزن الغالب، إلا أنه على الاحتمال الأول يمتنع معرفة وينصرف نكرة، وعلى الثاني يمتنع تعريفاً وتنكيراً لأنه يخلف العلمية الصفة، وإذا نكر بعد كونه علماً جرى فيه خلاف سيبويه والأخفش، وهي مسألة مشهورة بين النحاة. وأنشد حسان يمدحه وصرفه:
*صلى الإله ومن يحف بعرشه ** والطيبون على المبارك أحمد*
(12/123)
---(1/4658)
أحمد بدل أو بيان للمبارك، وأما محمد فمنقول من صفة أيضاً، وهو في معنى محمود ولكن في معنى المبالغة والتكرار، فأحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة. قال القرطبي: كما أن المكرم من أكرم مرة بعد مرة، وكذلك الممدح ونحو ذلك: واسم محمد مطابق لمعناه، والله سبحانه وتعالى سماه قبل أن يسمي به نفسه، فهذا علم من أعلام نبوته، وكان اسمه صادقاً عليه فهو محمود في الدنيا لما هدي إليه ونفع به من العلم والحكمة، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة. فقد تكرر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ، ثم إنه لم يكن محمداً حتى كان أحمد حمد ربه فنبأه وشرفه، فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمد فذكره عيسى فقال: اسمه أحمد، وذكره موسى عليه السلام حين قال له ربه: تلك أمة أحمد، فقال: اللهم اجعلني من أمة محمد. فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد، لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث كان محمداً بالفعل.
وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه فيكون أحمد الناس لربه، ثم يشفع فيحمد على شفاعته، فدل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم أشرف الأنبياء فاتحاً لهم وخاتماً عليهم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وشعبة بفتح الياء، والباقون بالسكون
وقوله تعالى: {فلما جاءهم} يحتمل أن يعود فيه الضمير لأحمد، أي: جاء الكفار، واقتصر على ذلك الجلال المحلي، ويحتمل عوده لعيسى، أي: جاء لبني إسرائيل {بالبينات} أي: من المعجزات العظيمة التي لا يسوغ لعاقل إلا التسليم لها، ومن الكتاب المبين {قالوا} أي: عند مجيئها من غير نظرة تأمل {هذا} أي: المأتي به من البينات، أو الآتي بها على المبالغة {سحر} فكانوا أول كافر به، لأن هذا وصف لهم لازم سواء بلغهم ذلك أم لا {مبين} أي: في غاية البيان في سحريته. وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء، وهذه القراءة مناسبة للتفسير الثاني، والباقون بكسر السين وسكون الحاء، وهذه مناسبة للتفسير الأول.
(12/124)(1/4659)
---
{ومن} أي: لا أحد {أظلم} أي: أشد ظلماً {ممن افترى} أي: تعمد {على الله} أي: الملك الأعلى {الكذب} أي: بنسبة الشريك والولد إليه، ووصف آياته بالسحر، ووصف أنبيائه بالسحرة {وهو} أي: والحال أنه {يدعى} أي: من أي داع كان {إلى الإسلام} أي: الذي هو أحسن الأشياء فإن له فيه سعادة الدارين، فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله تعالى: {والله} أي: الذي له الأمر كله فلا أمر لأحد معه {لا يهدي القوم} أي: لا يخلق الهداية في قلوب من فيهم قوة المجادلة للأمور الصعاب {الظالمين} أي: الذين يخبطون في عقولهم خبط من هو في الظلام.
{يريدون} أي: يوقعون إرادة ردهم للرسالة بافترائهم {ليطفئوا} أي: لأجل أن يطفئوا {نور الله} أي: الملك الذي لا شئ يكافئه {بأفواههم} أي: بما يقولون من كذب لا منشأ له غير الأفواه، لأنه لا اعتقاد له في القلوب.
تنبيه: الإطفاء هو الإخماد يستعملان في النار وفيما يجري مجراها من الضياء والظهور، ويفرق بين الإطفاء والإخماد من حيث إن الإطفاء يستعمل في القليل، فيقال: أطفأت السراج، ولا يقال: أخمدت السراج، وفي هذه اللام أوجه: أحدها: أنها تعليلية كما مر، ثانيها: أنها مزيدة في مفعول الإرادة، وقال الزمخشري: أصله يريدون أن يطفئوا كما في سورة التوبة، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة توكيداً له، لما فيها من معنى الإرادة في قولك: جئتك لإكرامك، كما زيدت اللام في: لا أب لك تأكيداً لمعنى الإضافة في لا أباك.r
(12/125)
---(1/4660)
قال الماوردي: وسبب نزول هذه الآية ما حكاه عطاء عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر يهود أبشروا فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه وما كان ليتم أمره، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية»، واتصل الوحي بعدها واختلف في المراد بالنور، فقال ابن عباس: هو القرآن، أي: يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول. وقال السدي: الإسلام، أي: يريدون رفعه بالكلام. وقال الضحاك: إنه محمد صلى الله عليه وسلم أي: يريدون هلاكه بالأراجيف وقال ابن جريج: حجج الله تعالى ودلائله، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم. وقيل: إنه مثل مضروب، أي: من أراد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلاً ممتنعاً، كذلك من أراد إطفاء الحق {والله} أي: الذي لا مدافع له لتمام عظمته {متم نوره} فلا يضره ستر أحد له بتكذيبه ولا إرادة إطفائه، وزاد ذلك بقوله تعالى: {ولو كره} أي: إتمامه له {الكافرون} أي: الراسخون في جهة الكفر المجتهدون في المحاماة عنه.
{هو} أي: الذي ثبت أنه جامع لصفات الكمال والجلال وحده من غير أن يكون له شريك أو وزير {الذي أرسل رسوله} أي: الحقيق بأن يعظمه كل من بلغه أمره لأن عظمته من عظمته، ولم يذكر حرف الغاية إشارة إلى عموم الإرسال إلى كل من شمله الملك كما مضى {بالهدى} أي: البيان الشافي بالقرآن والمعجزة {ودين الحق} أي: والملة الحنيفية {ليظهره} أي: يعليه مع الشهرة وإذلال المنازع {على الدين} أي: جنس الشريعة التي ستجعل ليجازى من يسلكها ومن يزغ عنها بما يشرع فيها من الأحكام {كله} فلا يبقى دين إلا كان دونه، وانمحق به وذل أهله ذلاً لا يقاس به ذل {ولو كره} أي: إظهاره {المشركون} أي: المعاندون في كفرهم الراسخون في سلك المعاندة.
فإن قيل: قال أولاً: {ولو كره الكافرون}، وقال ثانياً: {ولو كره المشركون}، فما الحكمة في ذلك؟.
(12/126)
---(1/4661)
أجيب: بأنه تعالى أرسل رسوله، وهو من نعم الله تعالى، والكافرون كلهم في كفران النعم سواء فلهذا قال {ولو كره الكافرون} لأن لفظ الكافر أعم من لفظ المشرك فالمراد من الكافرين هنا اليهود والنصارى والمشركون، فلفظ الكافر أليق به. وأما قوله تعالى: {ولو كره المشركون} فذلك عند إنكارهم التوحيد وإصرارهم عليه، لأنه صلى الله عليه وسلم في ابتداء الدعوة أمر بالتوحيد بلا إله إلا الله فلم يقولوها، فلهذا قال: {ولو كره المشركون}.
{س61ش10/ش14 يَا?أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا? هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ? وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ? ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ا?نْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ? ذَالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا? نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ? وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * يَا?أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا? كُونُو?ا? أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّـ?نَ مَنْ أَنصَارِى? إِلَى اللَّهِ? قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ? فَـ?َامَنَت طَّآ?ـ?ِفَةٌ مِّن? بَنِى? إِسْرَا?ءِيلَ وَكَفَرَت طَّآ?ـ?ِفَةٌ? فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا? عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا? ظَاهِرِينَ }
(12/127)
---(1/4662)
واختلف في سب نزول قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان {هل أدلكم} أي: وأنا المحيط علماً وقدرة فهي إيجاب في المعنى، ذكر بلفظ الاستفهام تشريفاً ليكون أوقع في النفس {على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} أي: مؤلم فقال مقاتل: نزلت في عثمان بن مظعون قال: «يا رسول الله لو أذنت لي طلقت خولة، وترهبت واختصيت، وحرمت اللحم، ولا أنام بليل أبداً، ولا أفطر بنهار، فقال صلى الله عليه وسلم إن من سنتي النكاح، ولا رهبانية في الإسلام إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله، وخصاء أمتي الصوم، ولا تحرموا طيبات ما احل الله لكم، ومن سنتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم فمن رغب عن سنتي فليس مني، فقال عثمان: والله لوددت يا رسول الله أيّ التجارة أحب إلى الله تعالى فأتجر فيها، فنزلت» وقيل: أدلكم، أي: سأدلكم، والتجارة: الجهاد، قال الله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} (التوبة: 111)
الآية، وهذا خطاب لجميع المؤمنين. وقيل: نزل هذا حين قالوا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملنا به. قال البغوي: وجعل هذا بمنزلة التجارة لأنهم يربحون بها رضا الله تعالى، ونيل جنته والنجاة من النار وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشدد الجيم، والباقون بسكون النون وتخفيف الجيم
(12/128)
---(1/4663)
ثم بين سبحانه تلك التجارة بقوله تعالى: {تؤمنون} أي: تدومون على الإيمان {بالله} أي: الذي له جميع صفات الكمال، وعلى هذا فلا ينافي ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} وقيل: المراد من هذه الآية المنافقون وهم الذين آمنوا في الظاهر، وقيل: أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فإنهم آمنوا بالكتب المتقدمة {ورسوله} الذي تصديقه آية الإذعان للعبودية {وتجاهدون} بياناً لصحة إيمانكم على سبيل التجديد والاستمرار {في سبيل الله} أي: الملك الأعظم الذي لا أمر لغيره {بأموالكم وأنفسكم} وقدم الأموال لعزتها في ذلك الزمان، ولأنها قوام الأنفس فمن بذل ماله كله لم يبخل بنفسه، لأن المال قوامها. وقال القرطبي: ذكر الأموال أولاً لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق {ذلكم} أي: الأمر العظيم من الإيمان وتصديقه بالجهاد {خير لكم} أي: من أموالكم وأنفسكم {إن كنتم تعلمون} أي: إن كان يمكن أن يتجدد لكم علم في وقت فأنتم تعلمون أن ذلك خير لكم، فإذا علمتم أنه خير أقبلتم عليه فكان لكم به أمر عظيم، وإن كانت قلوبكم قد طمست طمساً لا رجاء لصلاحه فصلوا على أنفسكم صلاة الموت.
وقوله تعالى: {يغفر لكم} فيه أوجه:
أحدها: أنه مجزوم على جواب الخبر بمعنى الأمر، أي: آمنوا وجاهدوا.
والثاني: أنه مجزوم في جواب الاستفهام، كما قاله الفراء.
(12/129)
---(1/4664)
والثالث: أنه مجزوم بشرط مقدر، أي: إن تؤمنوا يغفر لكم. قال القرطبي: وأدغم بعضهم فقرأ يغفر لكم، والأحسن ترك الإدغام فإن الراء متكرر قوي فلا يحسن الإدغام في اللام، لأن الأقوى لا يدغم في الأضعف ا.ه. وتقدم في آخر سورة البقرة مثل ذلك للزمخشري والبيضاوي ورد عليهما {ذنوبكم} أي: يمحو أعيانها وآثارها كلها {ويدخلكم} أي: بعد التزكية بالمغفرة رحمة لكم {جنات} أي: بساتين {تجري من تحتها} أي: من تحت أشجارها وغرفها وكل منتزه فيها {الأنهار} فهي لا تزال غضة زهراء لم يحتج هذا الأسلوب إلى ذكر الخلود لإغناء ما بعده عنه، ودل على الكثرة المفرطة في الدور بقوله في صيغة منتهى الجموع {ومساكن طيبة} روى الحسن قال: «سألت عمران بن حصين، وأبا هريرة عن قوله تعالى: {ومساكن طيبة} فقالا: على الخبير سقطت سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: «قصر من لؤلؤة في الجنة في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتاً من زبرجدة خضراء، في كل بيت سبعون سريراً، في كل سرير سبعون فراشاً من كل لون على كل فراش سبعون امرأة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفاً ووصيفة فيعطي الله تعالى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله» {في جنات عدن} أي: بساتين هي أهل للإقامة بها لا يحتاج في إصلاحها إلى شيء خارج يحتاج في تحصيله إلى الخروج عنها له، قال حمزة الكرماني في كتابه «جوامع التفسير»: هي أي جنات عدن قصبة الجنان ومدينة الجنة أقربها إلى العرش {ذلك} أي: الأمر العظيم جداً {الفوز العظيم} أي: السعادة الدائمة الكبيرة، وأصل الفوز الظفر بالمطلوب.
ولما ذكر تعالى ما أنعم به عليهم في الآخرة بشرهم بنعمته في الدنيا.
(12/130)
---(1/4665)
بقوله تعالى: {وأخرى تحبونها} أي: ولكم إلى هذه النعمة المذكورة نعمة أخرى عاجلة محبوبة، وفي تحبونها تعريض بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل. وقوله تعالى: {نصر من الله} أي: الذي أحاطت عظمته بكل شيء خبر مبتدأ مضمر، أي: تلك النعمة أو الخصلة الأخرى نصر من الله {وفتح قريب} أي: غنيمة في عاجل الدنيا قيل: فتح مكة قال الكلبي: هو النصر على قريش، وقال ابن عباس: يريد فتح فارس والروم. وقوله تعالى: {وبشر المؤمنين} عطف على محذوف مثل {قل يا أيها الذين آمنوا وبشر}، أو على يؤمنون فإنه في معنى الأمر كأنه قال آمنوا وجاهدوا أيها المؤمنون، وبشرهم يا أشرف الرسل بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة.
{يا أيها الذين آمنوا} أي: أقروا بذلك {كونوا} أي: بغاية جهدكم {أنصاراً لله} أي: لدينه، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو أنصاراً بالتنوين وجر اللام من الاسم الجليل وترقيقها، والباقون بغير تنوين وتفخيم اللام. {كما} أي: كونوا لأجل أني ندبتكم أنا بقولي من غير واسطة ولذذتكم بخطابي مثل ما كان الحواريون أنصار الله حين {قال عيسى بن مريم} حين أرسلته إلى بني إسرائيل ناسخاً لشريعة موسى عليه السلام {للحواريين} أي: خلص أصحابه وخاصته منهم {من أنصاري إلى الله} أي: المحيط بكل شيء أي: انصروا دين الله تعالى مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى عليه السلام من أنصاري إلى الله، أي: من ينصرني مع الله تعالى: {قال الحواريون} معلمين إنهم جادون في ذلك جداً لا مزيد عليه لعلمهم أن أجابته إجابة الله تعالى، لأنه لا ينطق عن الهوى فليس كلامه إلا عن الله تعالى: {نحن} أي: بأجمعنا وكانوا اثني عشر رجلاً، وهم أول من آمن بعيسى {أنصار الله} أي: الملك الأعلى القادر على تمام نصرنا، ولو كان عدونا كل أهل الأرض.
(12/131)
---(1/4666)
ولما كان التقدير ثم دعوا كل من خالفهم من بني اسرائيل وبارزهم تسبب عنهم قوله تعالى: {فآمنت} أي: به {طائفة} أي: ناس منهم أهل الاستدارة لما لهم من الكثرة {من بني اسرائيل} قومه {وكفرت طائفة} أي: منهم، وأصل الطائفة: القطعة من الشيء، وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق:
فرقة قالوا: كان الله فارتفع.
وفرقة قالوا: كان ابن الله فرفعه إليه.
وفرقة قالوا: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه، وهم المؤمنون.
واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا، وظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتى بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى: {فأيدنا} أي: قوينا بعد رفع عيسى عليه السلام {الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان المخلص {على عدوهم} أي: الذين عادوهم لأجل إيمانهم {فأصبحوا} أي: صاروا بعد ما كانوا فيه من الذل {ظاهرين} أي: عالين غالبين قاهرين في أقوالهم وأفعالهم لا يخافون أحداً ولا يستخفون منه، وروى المغيرة عن إبراهيم قال: فأصبحت حجة من آمن بعيسى عليه السلام ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام كلمة الله وعبده ورسوله. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الصف كان عيسى مصلياً عليه مستغفراً له ما دام في الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه» حديث موضوع.
سورة الجمعة
مدنية وهي إحدى عشرة آية، ومائةوثمانون كلمة، وسبعمائة وعشرون حرفاً
(12/132)
---(1/4667)
روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نحن الآخرون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب الأول من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فهدانا الله تعالى لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له» وقال يوم الجمعة: «فاليوم لنا، وغداً لليهود، وبعد غد للنصارى».
{بسم الله} الذي أحاط علمه بكل معلوم فتم بيانه {الرحمن} الذي تمت نعمة بيانه فهو العظيم شأنه {الرحيم} الذي خص حزبه بالتوفيق فثبت عندهم حبه وإيمانه
(12/133)
---
{يسبح} أي: يوقع التنزيه الأعظم الأنهى الأكمل {لله} أي: الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {ما في السموات} أي: من جميع الأشياء من الملائكة وغيرها كالأفلاك والنجوم {وما في الأرض} كذلك من الآدميين وغيرهم كالشجر والثمار، وقيل: اللام مزيدة، أي: ينزه الله وأتى بما دون من، قال الجلال المحلي: تغليباً للأكثر، ويحتمل أن يكون المراد بالسماء جهة العلو فيشمل السماء وما فيها، وبالأرض جهة السفل فيشمل الأرض وما فيها {الملك} أي: الذي ثبت له جميع الكمالات، فهو ينصر من يشاء من جنده ولو كان ذليلاً فيصبح ظاهراً {القدوس} أي: المنزه عما لا يليق به، وعن إحاطة أحد من الخلق بعلمه وإدراك كنه ذاته فليس في أيدي الخلق إلا التردد في شهود أفعاله والتدبير لمفاهيم نعوته وجلاله وأحقهم بالقرب و العداد في حزبه المتخلق بأوصافه على قدر اجتهاده، فينبغي للمؤمن التنزه عن أن يقول مالا يفعل، أو يبني شيئاً من أموره على غير إحكام {العزيز} أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} أي: الذي يوقع كل ما أراد في أحكم مواقعه وأتمها وأتقنها.
(12/134)
---(1/4668)
{هو} أي: وحده {الذي بعث في الأميين} أي: العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرؤون، والأمي: من لا يقرأ ولا يكتب {رسولاً منهم } أي: من جملتهم أمياً مثلهم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم وما من حي من العرب إلا وله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة، وقد ولدوه. قال ابن إسحاق: إلا بني تغلب فإن الله تعالى طهر نبيه صلى الله عليه وسلم منهم فلم يجعل لهم عليه ولادة، وكان أمياً لم يقرأ من كتاب ولم يتعلم صلى الله عليه وسلم علمه الله ما لم يكن يعلم من غير تطلب، فكانت آثار البشرية عنه مندرسة وأنوار الحقائق علية لائحة، وذلك لئلا يتوهم الافتقار إلى الاستعانة بالكتب لأن مشاكلته لحال من بعث فيهم أقرب إلى مساواتهم له لو أمكنهم فيكون معنى عدم إمكان المساواة أدل على الإعجاز، وبعثه إلى العرب لا ينفي بعثه إلى غيرهم لاسيما مع ما ورد فيه من صرائح الدلائل القطعية، فذكر موضع البعث وابتداءه فتكون الغاية مطلقة تقديرها إلى عامة الخلق {يتلو} أي: يقرأ قراءة يتبع بعضها بعضاً على وجه الكثرة والعلو والرفعة {عليهم} مع كونه أمياً مثلهم {آيات} أي: يأتيهم بها على سبيل التجدد والمواصلة، وهي القرآن الذي أعجز الجن والإنس أن يأتوا بسورة من مثله {ويزكيهم} أي: يطهرهم من الشرك والأخلاق الرذيلة، والعقائد الزائغة فكانت تزكيته لهم مدة حياته بنظره الشريف إليهم، وتعليمه لهم وتلاوته عليهم، فربما نظر الإنسان نظرة محبة فزكاه الله تعالى بها بحسب القابليات والأمور التي قضى الله تعالى أن تكون مهيآت فكان له أعشق فكان لأتباعه ألزم فكان في كتاب الله وسنته أرسخ {ويعلمهم الكتاب } أي: القرآن المنزل عليه الجامع لكل خير ديني ودنيوي في الأولى والأخرى {والحكمة} هي غاية الحكم للكتاب في قوة فهمه والعمل به فهي العمل المزين بالعلم المتقن به، وقال الحسن: الكتاب: القرآن، والحكمة: السنة. وقال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم، والحكمة: السنة، لأن الخط إنما فشا(1/4669)
(12/135)
---
في العرب بالشرع لما أمروا بالتقييد بالخط. وقال مالك بن أنس: الحكمة: الفقه في الدين {وإن} أي: والحال أنهم {كانوا} أي: كوناً هو كالجبلة لهم {من قبل} أي: قبل إرساله إليهم {لفي ضلال} أي: بعد عن المقصود {مبين} أي: ظاهر في نفسه مناد لغيره أنه ضلال باعتقادهم الأباطيل الظاهرة، وظنهم أنهم على شيء، وعموم الجهل لهم ورضاهم به واختبارهم له.
وقوله تعالى: {وآخرين منهم} فيه وجهان: أحدهما: أنه مجرور عطفاً على الأميين، أي: وبعث في الآخرين من الأميين، أي: الموجودين والآتين منهم بعدهم {لما} أي: لم {يلحقوا بهم} في السابقة والفصل والثاني: أنه منصوب عطفاً على الضمير المنصوب في يعلمهم، أي: ويعلم آخرين لما يلحقوا بهم وسيلحقون، وكل من تعلم شريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى آخر الزمان فرسول الله صلى الله عليه وسلم معلمه بالقوة، لأنه أصل ذلك الخير العظيم والفضل الجسيم.
تنبيه: الذين لم يلحقوا بهم هم الذين لم يكونوا في زمنهم وسيجيئون بعدهم. قال عمر وسعيد بن جبير: هم العجم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: «كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه سورة الجمعة فلما قرأ: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثاً، قال: وفينا سلمان الفارسي، قال: «فوضع النبي صلى الله علية وسلم يده على سلمان ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجل من هؤلاء» وفي رواية «لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجال من فارس» أو قال: من أبناء فارس حتى يتناوله. وقال عكرمة: هم التابعون، وقال مجاهد: هم الناس كلهم، يعني: من بعد العرب الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم وقال ابن زيد، ومقاتل بن حبان: هم من دخل في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.
(12/136)
---(1/4670)
وروى سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن في أصلاب أمتي رجالاً ونساء يدخلون الجنة بغير حساب، ثم تلا {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم}» قال ابن عادل: والقول الأول أثبت. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيتني أسقي غنماً سوداً، ثم أتبعتها غنماً عقراً أولها يا أبا بكر، قال: يا نبي الله أما السود فالعرب، وأما العقر فالعجم تتبعك بعد العرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كذلك أولها الملك يعني جبريل عليه الصلاة والسلام» رواه ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. {وهو} أي: والحال أنه وحده {العزيز} أي: الذي يقدر على كل ما أراده، ولا يغلبة شيء فهو يزكي من يشاء ويعلمه ما أراد من أي طائفة كان، ولو كان أجهل أهل تلك الطائفة لأن الأشياء كلها بيده {الحكيم} فهو إذاً أراد شيئاً موافقاً لشرعه وأمره جعله على أتقن الوجوه وأوثقها، فلا يستطاع نقضه ومهما أراده كيف كان فلا بد من إنفاذه فلا يطاق ردة بوجه.
ولما كان هذا أمراً باهراً عظمه بقوله تعالى على وجه الاستثمار من قدرته:
{ذلك} الأمر العظيم الرتبة من تفضيل الرسول وقومه، وجعلهم متبوعين بعد أن كان العرب أتباعاً لا وزن لهم عند غيرهم من الطوائف {فضلُ الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال والفضل ما لم يكن مستحقاً بخلاف الفرص {يؤتيه من يشاء} قال ابن عباس: حيث ألحق العجم بقريش، وقال الكلبي: يعني الإسلام فضل الله يؤتيه من يشاء، وقال مقاتل: يعني الوحي والنبوة.
(12/137)
---(1/4671)
وقيل: إنه المال ينفق في الطاعة لما روى أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ فقالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون، وتكبرون، وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة، قال أبو صالح فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا من أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» وقيل: إنه انقياد الناس إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ودخولهم في دينه ونصرته {والله} الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {ذو الفضل العظيم}.
ولما ترك اليهود العمل بالتوراة ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ضرب الله تعالى لهم مثلاً بقوله تعالى:
(12/138)
---(1/4672)
{مثل الذين حملوا التوراة} أي: كلفوا وألزموا حمل الكتاب الذي آتاه الله تعالى لبني إسرائيل على لسان موسى عليه الصلاة والسلام، بأن علمهم إياها سبحانه وكلفهم حفظ ألفاظها عن التغيير والنسيان ومعانيها عن التحريف والتلبيس، وحدودها وأحكامها عن الإهمال والتضييع {ثم لم يحملوها} أي: بأن حملوا ألفاظها ولم يعملوا بما فيها من الوصية باتباع عيسى عليه الصلاة والسلام إذا جاءهم، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا جاء فهي ضارة لهم بشهادتها عليهم فإذا لهم النار من غير نفع أصلاً {كمثل} أي: مثلهم مثل {الحمار} أي: الذي هو أبلد الحيوان فهو مثل في الغباوة حال كونه {يحمل أسفاراً} أي: كتباً كباراً من كتب العلم جمع سفر، وهو الكتاب الكبير المسفر عما فيه، في عدم الانتفاع بها لأنه يمشي ولا يدري منها إلا ما يضر بجنبيه وظهره من الكد والتعب، وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله ومثل ذلك قول الشاعر:
k
*زوامل للأسفار لا علم عندهم ** بجيدها إلا كعلم الأباعر*
*لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ** بأحماله أو راح ما في الغرائر*
من إنشاد الشيخ ابن الخباز. {بئس مثل القوم} أي: الذين لهم قوة شديدة على محاولة ما يريدون {الذين كذبوا} أي: محمداً على علم {بآيات الله} أي: دلالات الملك الأعظم على رسوله، ولاسيما محمد صلى الله عليه وسلم والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هذا المثل {والله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {لا يهدي القوم} أي: لا يخلق الهداية في قلوب الذين تعمدوا الزيغ {الظالمين } أي: الذين تعمدوا الظلم بمنابذة الهدى الذي هو البيان، الذي لم يدع لبساً حتى صار الظلم لهم صفة راسخة.
ولما ادعت اليهود الفضيلة وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه نزل قوله تعالى:
(12/139)
---(1/4673)
{قل} أي: يا أشرف الرسل {يا أيها الذين هادوا} أي: تدينوا باليهودية {إن زعمتم} أي: قلتم قولاً هو معرض للتكذيب، ولذلك أكذبتموه {إنكم أولياء لله} أي: الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه خصكم بذلك خصوصية مبتدأة {من دون} أي: أدنى رتبة من رتب {الناس} فلم تنفذ الولاية، وتلك الرتبة في الدنيا إلى أحد منهم غيركم بل خصكم بذلك عن كل من فيه أهلية الحركة لاسيما الأميين {فتمنوا الموت} وأخبروا عن أنفسكم بذلك للنقلة من دار البلاء إلى محل الكرامة والآلاء {إن كنتم} أي: كوناً راسخاً {صادقين} أي: غريقين عند أنفسكم في الصدق، فإن من علامات المحبة الاشتياق إلى المحبوب، ومن المقطوع به أن من كان في كدر وكان له ولي قد وعده عند الوصول إليه الراحة التي لا يشوبها ضرر تمنى النقلة إلى وليه. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم «والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه فلم يقلها منهم أحد علماً منهم بصدقه صلى الله عليه وسلم فلم يقولوا ولم يؤمنوا عناداً منهم».
ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يتمنونه في المستقبل أيضاً بقوله تعالى:
{ولا يتمنونه} أي: في المستقبل {أبداً بما قدمت أيديهم} أي: بسبب ما قدموا من الكفر والمعاصي التي أحاطت به فلم تدع لهم حظاً في الآخرة.
تنبيه: قال تعالى هنا: {ولا يتمنونه} وفي البقرة {ولن يتمنوه} (البقرة: 95)
(12/140)
---(1/4674)
قال الزمخشري: لا فرق بين لا ولن في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل، إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا فأتى مرة بلفظ التأكيد {ولن يتمنوه} ومرة بغير لفظه {ولا يتمنونه} قال أبو حيان: وهذا رجوع منه عن مذهبه وهو أن لن تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة، وهي أنها لا تقتضيه. قال بعضهم: وليس فيه رجوع، غاية ما فيه أنه سكت عنه، وتشريكه بين لا و لن في نفي المستقبل لا ينفي اختصاص لن بمعنى آخر ا.ه. ودعواهم الولاية إلى التوسل إلى الجنة لا يلزم منها الاختصاص بالنعم بدليل أن الدنيا ليست خالصة للأولياء المحقق لهم الولاية بل البر والفاجر مشتركون فيها. {والله} أي: الذي له الإحاطة بكل شيء قدرة وعلماً {عليم} بالغ العلم محيط بهم هكذا كان الأصل ولكنه تعالى قال: {بالظالمين} تعميماً وتعليقاً بالوصف لا بالذات، فالمعنى أنه عالم بأصحاب هذا الوصف الراسخين فيه منهم ومن غيرهم، فهو مجازيهم على ظلمهم.
{قل} أي: لهؤلاء يا أشرف الرسل {إن الموت الذي تفرون منه} بالكف عن التمني {فإنه ملاقيكم} أي: لا تفوتونه لاحق بكم.
تنبيه: في هذه الفاء وجهان: أحدهما: إنها داخلة لما تضمنه الاسم من معنى الشرط، وحكم الموصوف بالموصول حكم الموصول في ذلك. قال الزجاج: لا يقال: إن زيداً فمنطلق، وههنا قال: {فإنه ملاقيكم} لما في معنى الذي من الشرط أو الجزاء، أي: إن فررتم منه فإنه ملاقيكم، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه. الثاني: إنها مزيدة محضة لا للتضمن المذكور.
(12/141)
---(1/4675)
ولما كان الحبس في البرزخ أمراً لا بد منه مهولاً نبه عليه وعلى طوله بأداة التراخي فقال تعالى: {ثم تردون إلى عالم الغيب} أي: السر {والشهادة} أي: العلانية، أو كل ما غاب عن الخلق، وكل ما شوهد {فينبئكم} أي: يخبركم إخباراً عظيماً مستقصى مستوفى {بما كنتم} أي: بما هو لكم كالجبلة {تعملون} أي: بكل جزء منه بما برز إلى الخارج، وبما كان في جبلاتكم ولو بقيتم لفعلتموه ليجازيكم.
{يا أيها الذين أمنوا} أي: أقروا بألسنتهم بالإيمان {إذا نودي} أي: من أي مناد كان من أهل النداء {للصلاة} أي: صلاة الجمعة {من} أي: في {يوم الجمعة} كقوله تعالى: {أروني ماذا خلقوا من الأرض} (فاطر: 40)
أي: في الأرض، والمراد بهذا النداء الأذان عند قعود الإمام على المنبر للخطبة، لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه، كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر أذن بلال، وعن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثاني على الدور، زاد في رواية فثبت الأمر على ذلك.
(12/142)
---
وعن أبي داود قال: كان يؤذن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يوم الجمعة على المنبر على باب المسجد، روي أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد، فإذا نزل أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر وعلي بالكوفة على ذلك حتى إذا كان عثمان، وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد أذاناً آخر، فأمر بالتأذين الأول على داره التي تسمى زوراء، فإذا سمعوا أقبلوا حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذن الأذان الثاني الذي كان على زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا نزل أقام الصلاة، فلم يعب ذلك عليه لقوله صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي».(1/4676)
قال الماوردي: أما الأذان الأول فمحدث فعله عثمان بن عفان ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها، وكان عمر أمر أن يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن سوقهم، فإذا اجتمعوا أذن في المسجد فجعله عثمان أذانين في المسجد. قال ابن العربي: وفي الحديث الصحيح: «أن الأذان كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً، فلما كان زمن عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء»، وسماه في الحديث ثالثاً لأنه أضافه إلى الإقامة، كقوله صلى الله عليه وسلم «بين كل إذانين صلاة لمن شاء» يعني: الأذان والإقامة، وتوهم بعض الناس أنه أذان أصلي فجعلوا المؤذنين ثلاثة. قال ابن عادل: فكان وهماً، ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهماً على وهم.
(12/143)
---
واختلفوا في تسمية هذا اليوم جمعة فمنهم من قال: لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم عليه الصلاة والسلام. روى مالك عن أبن هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم عليه الصلاة والسلام، وفيه أهبط، وفيه مات وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وهو عند الله يوم المزيد» وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل وفي كفه مرآة بيضاء، وقال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيداً ولأمتك من بعدك، وهو سيد الأيام عندنا، ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد» ومنهم من قال: لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فاجتمعت فيه المخلوقات، ومنهم من قال: لاجتماع الجماعات فيه للصلاة، وقيل: أول من سمى هذا اليوم جمعة كعب بن لؤي.(1/4677)
قال أبو سلمة: أول من قال أما بعد: كعب بن لؤي، وكان أول من سمى الجمعة جمعة، وكان يقول له: يوم العروبة. وعن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموها الجمعة. وقيل: إن الأنصار قالوا لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك، فهلموا نجعل لنا يوماً نجتمع فيه فنذكر الله تعالى فيه ونصلي، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين، وذكرهم فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، ثم أنزل الله تعالى آية الجمعة فهي أول جمعة كانت في الإسلام.
وروي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة، قال: لأنه أول من جمع بنا في هزم النبت من حرة بني بياضة في بقيع يقال له: بقيع الخضمان، قلت له: كم كنتم يومئذٍ، قال: أربعين» أخرجه أبو داوود.
(12/144)
---
وأما أول جمعة جمعها النبي صلى الله عيه وسلم بأصحابه، فقال أهل السير: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً نزل قباء على بني عمرو بن عوف يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، حين اشتد الضحى ومن تلك السنة يعد التاريخ، فأقام بها إلى يوم الخميس وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامداً المدينة، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجداً، فجمع بهم وخطب وهي أول خطبة خطبها بالمدينة.(1/4678)
وقال فيها: «الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره، وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفر به، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق، والنور والموعظة، والحكمة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة وقرب من الأجل. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى وفرط، وضل ضلالاً بعيداً أوصيكم بتقوى الله فإن خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، واحذروا ما حذركم الله من نفسه فإن تقوى الله لمن عمل بها على وجل ومخافة من ربه عنوان صدق على ما تبغون من الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية لا ينوي به إلا وجه الله يكون له ذكراً في عاجل أمره، وذخراً فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، و ما كان مما سوى ذلك {يود لو أن بينه وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد} (آل عمران: 30)
وهو الذي صدق قوله وأنجز وعده لا خلف لذلك، فإنه يقول: {ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} (ق: 29)
فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عن سيئاته ويعظم له أجراً {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} (الأحزاب: 71)
(12/145)
---
وإن تقوى الله توقي مقته، وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضي الرب، وترفع الدرجة فخذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله فقد علمكم في كتابه، وأوضح لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين وأحسنوا كما أحسن الله إليكم وعادوا أعداءه وجاهدوا في الله حق جهاده {هو اجتباكم} و{سماكم المسلمين} (الحج: 78)(1/4679)
ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حيّ عن بينة ولا حول ولا قوة إلا بالله فأكثروا ذكر الله تعالى واعملوا لما بعد الموت، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
قال بعضهم: قد أبطل الله تعالى قول اليهود في ثلاث افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه، فكذبهم في قوله: {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم الله بالحمار يحمل أسفاراً وبالسبت وإنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله تعالى لهم يوم الجمعة.
تنبيه: سمى الله تعالى الجمعة ذكراً له، قال أبو حنيفة: إن اقتصر الخطيب على مقدار يسمى ذكر الله كقوله: الحمد لله سبحان الله جاز، وعن عثمان أنه صعد المنبر فقال: الحمد لله؛ فارتج عليه، فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالاً، وإنكم إلى أمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال، وستأتيكم الخطب، ثم نزل وكان ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكر عليه أحد.
وعند صاحبيه والشافعي لا بد من كلام يسمى خطبة، ولها أركان وشروط مذكورة في الفقه.
فإن قيل: كيف يفسر ذكر الله بالخطبة، وفيها ذكر غير الله؟
أجيب: بأن ما كان من ذكر رسوله والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين، وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله، وأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم، وهم أحق بعكس ذلك فمن ذكر الشيطان.
(12/146)
---(1/4680)
وهو من ذكر الله على مراحل فإن المنصت للخطبة إذا قال لصاحبه: صه فقد لغا، أفلا يكون الخطيب المغالي في ذلك لاغياً نعوذ بالله من غربة الإسلام، ومن نكد الأيام وقد خاطب الله تعالى المؤمنين بالجمعة دون الكافرين تشريفاً لهم وتكريماً، فقال {يا أيها الذين آمنوا} ثم خصه بالنداء وإن كان قد دخل في عموم قوله تعالى: {وإذا ناديتم إلى الصلاة} ليدل على وجوبه وتأكد فرضه. وقال بعض العلماء: كون الصلاة الجمعة ههنا معلوم بالإجماع لا من نفس اللفظ، وقال ابن العربي: وعندي إنه معلوم من نفس اللفظ بنكتة، وهي قوله تعالى: {من يوم الجمعة} وذلك يفيده لأن النداء الذي يختص بذلك اليوم هو نداء تلك الصلاة، وأما غيرها فهو عام في سائر الأيام، ولو لم يكن المراد به نداء الجمعة لما كان لتخصيصه بها وإضافته إليها معنى فلا فائدة فيه.
واختلف في معنى قوله تعالى: {فاسعوا} أي: لتكونوا أولياء الله ولا تتهاونوا في ذلك. فقال الحسن: والله ما هو سعي على الأقدام، ولكن سعي بالقلوب والنية، وقال الجمهور: السعي: العمل لقوله تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن} (الإسراء: 19)
كقوله تعالى: {إن سعيكم لشتى} (الليل: 4)
وقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم: 39)
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن أئتوها تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» واختلفوا أيضاً: في معنى قوله تعالى: {إلى ذكر الله} أي: الملك الأعظم، فقال سعيد بن المسيب: هو موعظة الإمام، وقال غيره: الخطبة والصلاة المذكرة بالملك الأعظم الذي من انقطع عن خدمته هلك.
(12/147)
---(1/4681)
ولما أمر بالمبادرة إلى تجارة الآخرة قال تعالى ناهياً عن تجارة الدنيا التي تعوق عن الجمعة {وذروا البيع } أي: اتركوا البيع والشراء؛ لأن اسم البيع يتناولهما جميعاً، وإنما يحرم البيع والشراء عند الأذان الثاني. وقال الزهري: عند خروج الإمام، وقال الضحاك: إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء. وإنما خص البيع من بين الأمور الشاغلة عن ذكر الله تعالى، لأن يوم الجمعة يوم تهبط الناس فيه من بواديهم وقراهم، وينصبون إلى المصر من كل أوب ووقت هبوطهم واجتماعهم، واختصاص الأسواق إذا انتفخ النهار وتعالى الضحى، ودنا وقت الظهيرة وحينئذ تنجز التجارة ويتكاثر البيع والشراء، فلما كان ذلك الوقت مظنة للذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى المسجد قيل: بادروا تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، واسعوا إلى ذكر الله {ذلكم} أي: الأمر العالي الرتبة من فعل السعي، وترك الاشتغال بالدنيا {خير لكم} لأن الأمر الذي أمركم به الذي له الأمر كله، وهو يريد تطهيركم في أديانكم وأبدانكم وأموالكم وبيده إسعادكم وإشقاؤكم.
فإن قيل: إذا كان البيع في هذا الوقت محرماً فهل هو فاسد؟.
(12/148)
---(1/4682)
أجيب: بأن عامة العلماء على أن ذلك لا يوجب فساد البيع، قالوا: لأن البيع لم يحرم لعينه، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة، والثوب المغصوب، والوضوء بماء مغصوب، وعن بعض الناس أنه فاسد. وزاد في الحث على ذلك بقوله تعالى: {إن كنتم} أي: بما هو لكم كالجبلة {تعلمون} أي: يتجدد لكم علم في يوم من الأيام فأنتم ترون ذلك خيراً، فإذا علمتموه خيراً أقبلتم عليه فكان ذلك خيراً لكم وصلاة الجمعة فرض عين تجب على كل من جمع الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورة، والإقامة، إذا لم يكن له عذراً مما ذكره الفقهاء، ومن تركها استحق الوعيد. قال صلى الله عليه وسلم : «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله تعالى على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين» وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها طبع الله تعالى على قلبه» قال ابن عادل: ونقل عن بعض الشافعية أن الجمعة فرض على الكفاية، أما من به عذر يعذر به في ترك الجماعة مما يتصور هنا فلا تجب عليه، وتجب على أعمى وجد قائداً وشيخ هرم وزمن وجدا مركباً لا يشق ركوبه عليهما.
واختلف أهل العلم في موضوع إقامة الجمعة، وفي العدد الذي تنعقد به الجمعة، وفي المسافة التي يجب أن يؤتى منها، فذهب قوم إلى أن كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلاً بالصفة المتقدمة تجب عليهم إقامة الجمعة فيها، وهو قول عبد الله بن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال الشافعي، وأحمد، وإسحاق قالوا: لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلاً على هذه الصفة، وشرط عمر بن عبد العزيز مع الأربعين أن يكون فيهم وال.
(12/149)
---(1/4683)
وعند أبي حنيفة تنعقد بأربعة، والوالي شرط، ولا تقام عنده إلا في مصر جامع. وقال الأوزاعي وأبو يوسف: تنعقد بثلاثة إن كان فيهم وال. وقال الحسن، وأبو ثور: تنعقد باثنين كسائر الصلوات، وقال شعبة: تنعقد باثني عشر رجلاً ولا تجب الجمعة على أهل البوادي إلا إذا سمعوا النداء من موضع تقام فيه الجمعة، فيلزمهم الحضور، وإن لم يسمعوا فلا جمعة عليهم، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق.
والشرط أن يبلغهم نداء مؤذن جهوري الصوت في وقت تكون الأصوات هادئة، والرياح ساكنة فكل قرية تكون من موضع الجمعة في القرب على هذا القدر يجب على أهلها حضور الجمعة. وقال سعيد بن المسيب: تجب الجمعة على من آواه المبيت. قال الزهري: تجب على من كان على ستة أميال وقال ربيعة: على أربعة أميال، وقال مالك والليث: على ثلاثة أميال، وقال أبو حنيفة: لا جمعة على أهل البوادي سواء كانت القرية قريبة أم بعيدة.
دليل الشافعي ومن وافقه ما روى البخاري عن ابن عباس: «أن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجؤانا من البحرين»، ولأبي داود نحوه، وفيه بجؤانا قرية من قرى البحرين».
(12/150)
---(1/4684)
تنبيه: فضل يوم الجمعة مشهور وأحاديثه كثيرة مشهورة تقدم بعضها، ومنها: أن الله يعتق في كل جمعة ستمائة عتيق من النار»، وعن كعب: إن الله تعالى فضل من البلدان مكة، ومن الشهور رمضان، ومن الأيام الجمعة. وقال صلى الله عليه وسلم «من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد، ووقي فتنة القبر» وفي الحديث «إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المساجد بأيديهم صحف من فضة، وأقلام من ذهب يكتبون الأول فالأول على مراتبهم» قال الزمخشري: وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج، وقيل: أول بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة. وعن ابن مسعود: أنه بكر فرأى ثلاثة نفر سبقوه فاغتم وأخذ يعاتب نفسه ويقول: أراك رابع أربعة، وما رابع أربعة بسعيد. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ـ أي: مثل غسلها ـ ثم راح في الساعة الأولى كان كمن قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة كأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر» وروى النسائي «في الخامسة كالذي يهدي عصفوراً، وفي السادسة بيضة، فمن جاء في أول ساعة منها، ومن جاء في آخرها مشتركان في تحصيل البدنة مثلاً، لكن بدنة الأول أكمل من بدنة الآخر، وبدنة المتوسط متوسطة» وهذا في حق غير الإمام أما هو فيسن له التأخير إلى وقت الخطبة اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، ويسن إكثار الدعاء يومها وليلتها، أما يومها فلرجاء أن يصادف ساعة الإجابة، وهي ساعة خفية وإرجاها من جلوس الخطيب إلى آخر الصلاة كما في خبر مسلم. قال النووي: وأما خبر: «يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة فيه ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه، فالتمسوها آخر(1/4685)
(12/151)
---
ساعة بعد العصر فيحتمل أن هذه الساعة منتقلة تكون يوماً في وقت، ويوماً في آخر كما هو المختار في ليلة القدر.
وأما ليلتها فبالقياس على يومها، وقد قال الشافعي: بلغني أن الدعاء يستجاب في ليلة الجمعة، ويسن إكثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في يومها وليلتها لخبر: «أكثروا علي من الصلاة ليلة الجمعة ويوم الجمعة فمن صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً» وإكثار قراءة سورة الكهف يومها وليلتها لخبر: «من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق» وخبر: «من قرأها يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين» وفي هذا القدر كفاية.
ولما حث على الصلاة وأرشد إلى أن وقتها لا يصلح لطلب شيء غيرها بين لهم وقت المعاش بقوله تعالى:
{فإذا قضيت الصلاة} أي: وقع الفراغ منها على أيّ وجه كان {فانتشروا} أي: فدبوا وتفرقوا مجتهدين {في الأرض} أي: جميعها للتجارة والتصرف في حوائجكم إن شئتم لا جناح عليكم ولا حرج رخصة من الله تعالى لكم {وابتغوا} أي: اطلبوا الرزق {من فضل الله} أي: الذي بيده كل شيء ولا شيء لغيره، وهذا أمر إباحة كقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} (المائدة: 2)
(12/152)
---(1/4686)
قال ابن عباس: إن شئت فاخرج، وإن شئت فاقعد، وإن شئت فصل إلى العصر. وقيل: فانتشروا في الأرض ليس لطلب دنيا، ولكن لعيادة مريض وحضور جنازة، وزيارة أخ في الله تعالى. وقال الحسن، وسعيد بن جبير ومكحول {وابتغوا من فضل الله} هو طلب العلم {واذكروا الله} أي: الذي له الأمر كله {كثيراً} أي: بحيث لا تغفلون عنه بقلوبكم أصلاً ولا بألسنتكم حتى عند الدخول إلى الخلاء وعند أول الجماع، واستثني من الثاني وقت التلبس بالقذر كوقت قضاء الحاجة والجماع {لعلكم تفلحون} أي: تفوزون بالجنة والنظر إلى وجهه الكريم وعن جابر بن عبد الله «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها، حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً» وفي رواية «أنا فيهم» فأنزل الله تعالى: {وإذا رأوا تجارة} أي: حمولاً هي موضع للتجارة {أو لهواً} أي: ما يلهي عن كل نافع {انفضوا} أي: نفروا متفرقين من العجلة {إليها} أي: التجارة لأنها مطلوبهم دون اللهو، وأيضاً العطف بأو فإفراد الضمير أولى. وقال الزمخشري: تقديره: إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. وذكر الكلبي وغيره: أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من الشام عن مجاعة وغلاء سعر، وكان معه جميع ما تحتاج إليه الناس من بر ودقيق وغيره، فنزل عند أحجار الزيت وضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه، فخرج الناس إلا اثنى عشر رجلاً، وقيل: أحد عشر رجلالاً وقال ابن عباس في رواية الكلبي: لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط. وقال الحسن وأبو مالك: أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشوا أن يسبقوا إليه، فلما لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا رهط منهم أبو بكر وعمر فنزلت هذه الآية، فقال صلى الله عليه وسلم «والذي نفس محمد بيده لو(1/4687)
(12/153)
---
تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي ناراً».
وقال مقاتل بن حيان، ومقاتل بن سليمان: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بالتجارة وكان إذا قدم المدينة لم يبق بالمدينة عاتق إلا أتته، وكان يقدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق وغيره، فينزل عند أحجار الزيت، وكانت في سوق المدينة ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فخرج إليه الناس ليتبايعوا منه، فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس، ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلاً وامرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لولا هؤلاء لرميت عليهم الحجارة من السماء» وأنزل الله تعالى هذه الآية والمراد باللهو الطبل.
(12/154)
---(1/4688)
وقيل: كانت العير إذا قدمت المدينة استقبلوا بالطبل والتصفيق. وقال علقمة: سئل عبد الله أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً أو قاعداً فقال: أما تقرأ {وتركوك قائماً} وعن جابر بن عبد الله قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة خطبتين قائماً يفصل بينهما بجلوس» وذكر أبو داود في مراسيله السبب الذي ترخصوا لأنفسهم في ترك سماع الخطبة، وقد كانوا خليقاً لفضلهم أن لا يفعلوا، فقال: حدثنا محمد بن خالد، قال: حدثنا الوليد، قال: أخبرني أبو معاذ بكير بن معروف أنه سمع مقاتل بن حبان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة كالعيدين، حتى كان يوم جمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل يقال له: دحية بن خليفة قدم بتجارة، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفوف فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة الخطبة وأخر الصلاة، وكان لا يخرج أحد لرعاف أو حدث بعد النهي حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام، فيأذن له النبي صلى الله عليه وسلم ثم يشير إليه بيده، فكان في المنافقين من تثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد، فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه مستتراً به حتى يخرج فأنزل الله تعالى: {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً} (النور: 63)
الآية». قال السهيلي: وهذا الخبر وإن لم ينقل من وجه ثابت فالظن الجميل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوجب أن يكون صحيحاً وقال قتادة: وبلغنا أنهم فعلوه ثلاث مرات كل مرة عير تقدم من الشام، وكل ذلك يوافق يوم الجمعة.
(12/155)
---(1/4689)
وقيل: إن خروجهم لقدوم دحية بتجارته ونظرهم إلى العير، وهي تمر لهو لا فائدة فيه إلا أنه كان مما لا إثم فيه لو وقع على ذلك الوجه، ولكنه لما اتصل به الإعراض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والانفضاض عن حضرته غلظ وكبر، ونزل فيه من القرآن وتهجينه باسم اللهو ما نزل. وقوله تعالى: {وتركوك} أي: تخطب حتى بقيت في اثني عشر رجلاً، قال جابر: أنا أحدهم {قائماً} جملة حالية من فاعل انفضوا، وقد مقدرة عند بعضهم.
تنبيه: في قوله تعالى: {قائماً} تنبيه على مشروعيته في الخطبتين، وهو من الشروط للقادر على القيام، وأما أركانهما فخمسة: حمد الله تعالى، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بلفظهما، ووصية بتقوى الله، وهذه الثلاثة في كل من الخطبتين، وقراءة آية مفهمة ولو في إحداهما والأولى أولى، ودعاء للمؤمنين والمؤمنات في ثانية، ومن الشروط كونهما عربيتين، وكونهما في الوقت، وولاء، وطهر، وستر كالصلاة {قل} يا أشرف الخلق للمؤمنين {ما عند الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {خير} ما موصولة مبتدأ وخير خبرها {من اللهو ومن التجارة} والمعنى: ما عند الله تعالى من ثواب صلاتكم خير من لذة لهوكم، وفائدة تجارتكم. وقيل: ما عند الله من رزقكم الذي قسمه لكم خير مما اقتسمتموه من لهوكم وتجارتكم {والله} أي: ذو الجلال والإكرام وحده {خير الرازقين} أي: خير من رزق وأعطى فاطلبوا منه، واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة. وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الجمعة أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة ومن لم يأتها في أمصار المسلمين» حديث موضوع.
سورة المنافقين
مدنية وهي إحدى عشرة آية، ومائة وثمانون كلمةوسبعمائة وستة وسبعون حرفاً
{بسم الله} الذي له الإحاطة العظمى علماً وقدرة {الرحمن} الذي ستر بعموم رحمته من أراد من عباده {الرحيم} الذي وفق أهل وده لما يحبه ويرضاه.
(12/156)(1/4690)
---
{إذا جاءك} يا أيها الرسول المبشر بك في التوراة والإنجيل، وقرأ حمزة وابن ذكوان بالإمالة والباقون بالفتح، وإذا وقف حمزة سهل الهمزة مع المد والقصر، وله أيضاً إبدالها ألفاً مع المد والقصر{المنافقون} أي: الغريقون في وصف النفاق، وهم عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه {قالوا} مؤكدين لأجل استشعارهم بتكذيب من يسمعهم لما عندهم من الارتياب {نشهد} قال الحسن: هو بمنزلة اليمين كأنهم قالوا نقسم {إنك لرسول الله} أي: الملك الذي له الإحاطة الكاملة فوافقوا الحق بظاهر أحوالهم، وخالفوا بقلوبهم وأفعالهم. وقوله تعالى: {والله يعلم} أي: وعلمه هو العلم في الحقيقة، وأكد سبحانه بحسب إنكار المنافقين فقال تعالى: {إنك لرسوله} سواء أشهد المنافقون بذلك أم لا فالشهادة حق ممن يطابق لسانه قلبه جملة معترضة بين قولهم: {نشهد إنك لرسول الله} وبين قوله تعالى: {والله يشهد} لفائدة.
قال الزمخشري: لو قال قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يشهد انهم لكاذبون، لكان يوهم أن قولهم هذا كذب فوسط بينهما قوله تعالى: {والله يعلم إنك لرسوله} ليميط هذا الإيهام {والله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {يشهد} شهادة هي الشهادة لأنها محيطة بدقائق الظاهر والباطن {إن المنافقين} أي: الراسخين في وصف النفاق {لكاذبون} أي: في إخبارهم عن أنفسهم إنهم يشهدون، لأن قلوبهم لا تطابق ألسنتهم فهم لا يعتقدون ذلك، ومن شرط قول الحق أن يتصل ظاهره بباطنه وسره بعلانيته، ومتى تخالف ذلك فهو كذب ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم نشهد إنك لرسول الله وسماه الله تعالى كذباً لأن قولهم خالف اعتقادهم.
(12/158)
---(1/4691)
{اتخذوا أيمانهم} أي: كلها من شهادتهم وكل يمين سواها {جنة} أي: سترة عن أموالهم ودمائهم، روى البخاري عن زيد بن أرقم قال: كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي ابن سلول يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي فذكره عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني، فأصابني هم لم يصبني مثله فجلست في بيتي، فأنزل الله عز وجل {إذا جاءك المنافقون} إلى قوله تعالى: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله} وقوله {ليخرجن الأعز منها الأذل} فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «إن الله قد صدقك» وروى الترمذي عن زيد بن أرقم قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناس من الأعراب فكنا نبتدر الماء، وكان الأعراب يسبقوننا فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض، ويجعل حوله حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه، قال: فأتى رجل من الأنصار أعرابياً فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه، فانتزع حجراً ففاض الماء، فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره، وكان من أصحابه فغضب عبد الله بن أبي، ثم قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، يعني: الأعراب وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام، فقال عبد الله: إذا انفضوا من عند محمد فائتوا محمداً بالطعام فليأكل هو ومن عنده، ثم قال لأصحابه: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال زيد: وأنا ردف عمي فسمعت عبد الله بن أبي فأخبرت عمي فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف وجحد، قال: فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني(1/4692)
(12/159)
---
قال: فجاء عمي إلي فقال: ما أردت إلا أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك المنافقون، قال: فوقع علي من جراءتهم ما لم يقع على أحد، قال: فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قد خفقت رأسي من الهمّ؛ إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني، وضحك في وجهي فكان ما يسرّني أنّ لي بها الخلد في الدنيا، ثم إنّ أبا بكر لحقني فقال: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: ما قال لي شيئاً إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي، فقال: أبشر ثم لحقني عمر فقلت له: مثل قولي لأبي بكر، فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(12/160)
---(1/4693)
وروي «أنه صلى الله عليه وسلم حين لقي بني المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم وقتل منهم، ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد أجير لعمر يقود فرسه، وسنان الجهني حليف لعبد الله بن أبيّ، واقتتلا فصرخ جهجه: يا للمهاجرين، وسنان يا للأنصار فأعان جهجاهاً جعال من فقراء المهاجرين، ولطم سناناً، فقال عبد الله لجعال: وأنت هناك وقال: ما صحبنا محمداً إلا لتلطم وجوهنا، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل، عنى بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لقومه: ماذا فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، ولأوشكوا أن يتحوّلوا عنكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد، فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث، فقال: أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك، ومحمد في عز من الرحمن وقوّة من المسلمين، فقال عبد الله: اسكت فإنما كنت ألعب، فأخبر زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله، فقال: إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب، قال: فإن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر به أنصارياً، قال: فكيف إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه؟ وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله: أنت صاحب الكلام الذي بلغني، قال: والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك، وإنّ زيداً لكاذب فهو قوله تعالى: {اتخذوا إيمانهم جنة} فقال الحاضرون: يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام عسى أن يكون قد وهم».
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لعلك غضبت عليه، قال: لا، قال: فلعله أخطأ سمعك، قال: لا، قال: فلعله شبه عليك، قال: لا، فلما نزلت لحق صلى الله عليه وسلم زيداً من خلفه فعرك أذنه، وقال: وعت أذنك يا غلام إنّ الله قد صدقك وكذب المنافقين».
(12/161)(1/4694)
---
تنبيه:: سئل حذيفة بن اليمان عن المنافق فقال: الذي يصف الإيمان ولا يعمل به.
وروى أبو هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» وروى عبد الله بن عمر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهنّ كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» وروي عن الحسن أنه ذكر هذا الحديث فقال: إنّ بني يعقوب حدثوا فكذبوا، ووعدوا فأخلفوا، وائتمنوا فخانوا، إنما هذا القول من النبيّ صلى الله عليه وسلم على سبيل الإنذار للمسلمين، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال شفقة أن تفضي بهم إلى النفاق، وليس المعنى أنّ من ندرت منه هذه الخصال من غير اختيار واعتياد أنه منافق وقال عليه الصلاة والسلام: «المؤمن إذا حدث صدق، وإذا وعد نجز، وإذا ائتمن وفى» والمعنى المؤمن الكامل {فصدّوا} أي: فسبب لهم اتخاذهم هذا أن أعرضوا بأنفسهم مع سوء البواطن وحرارة ما في الصدور، وحملوا غيرهم على الإعراض {عن سبيل الله} أي: عن طريق الملك الأعظم الذي شرعه لعباده ليصلوا به إلى محل رضوانه، ووصلوا إلى ذلك بخداعهم ومكرهم بجراءتهم على الأيمان الخائنة {إنهم ساء ما كانوا} أي: جبلة وطبعاً {يعملون} أي: يجدّدون عمله مستمرّين عليه بما هو كالجبلة من جراءتهم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وخلص عباده بالأيمان الخائنة.
ولما كانت المعاصي تعمي القلوب فكيف بأعظمها علله بقوله تعالى:
{ذلك} أي: سوء عملهم {بأنهم آمنوا ثم كفروا}.
فإن قيل: إنّ المنافقين لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم، فما معنى قوله تعالى: {آمنوا ثم كفروا}؟ أجيب: بثلاثة أوجه:
(12/162)
---(1/4695)
أحدها: آمنوا، أي: نطقوا بكلمة الشهادة، وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام، ثم كفروا أي: ثم ظهر كفرهم بعد ذلك، وتبين بما اطلع عليه من قولهم إن كان ما يقول محمد حقاً، فنحن حمير، وقولهم في غزوة تبوك: أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات، ونحوه قوله: {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} (التوبة: 74)
أي: وظهر كفرهم بعد أن أسلموا، ونحوه {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} (التوبة: 66)
والثاني: آمنوا أي: نطقوا بالإيمان عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام بقوله تعالى: {وإذا لقوا الذين آمنوا} إلى قوله {إنما نحن مستهزؤن} (البقرة: 14)
وهذا إعلام من الله تعالى بأنّ المنافقين كفار.
الثالث: أن يراد أنّ ذلك في قوم آمنوا ثم ارتدّوا {فطبع} أي: فحصل الطبع وهو الختم مع أنه معلوم أنه لا يقدر على ذلك غيره سبحانه {على قلوبهم} أي: لأجل اجترائهم على ما هو أكبر الكبائر على وجه النفاق {فهم} أي: فتسبب عن ذلك أنهم {لا يفقهون} أي: لا يقع لهم فقه في شيء من الأشياء، فهم لا يميزون صواباً من خطأ، ولا حقاً من باطل.
{وإذا رأيتهم} أي: أيها الرسول على ما لك من الفطنة ونفوذ الفراسة، أو أيها الرائي كائناً من كان بعين البصر {تعجبك أجسامهم} لضخامتها وصباحتها، فإنّ عنايتهم كلها بصلاح ظواهرهم وترفيه أنفسهم، فهم أشباح وقوالب ليس وراءها ألباب وحقائق.
(12/163)
---(1/4696)
قال ابن عباس: كان ابن أبيّ جسيماً صحيحاً فصيحاً ذلق اللسان، وقوم من المنافقين في مثل صفته وهم رؤساء المدينة، وكانوا يحضرون مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم ويستندون فيه، ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم {وإن يقولوا} أي: يوجد منهم قول في وقت من الأوقات {تسمع لقولهم} أي: لفصاحته فيلذذ السمع ويروق الفكر {كأنهم} أي: في حسن ظواهرهم وسوء بواطنهم، وفي عدم الانتفاع بهم في شيء {خشب} جمع كثرة لخشبة، وهو دليل على كثرتهم {مسندة} أي: قطعت من مغارسها ممالة إلى الجدار. وقرأ أبو عمرو والكسائي بسكون الشين، والباقون بضمها {يحسبون} أي: لضعف عقولهم وكثرة ارتيابهم لكثرة ما يباشرون من سوء أعمالهم {كل صيحة} أي: من نداء مناد في إنشاد ضالة، أو انفلات دابة، أو نحو ذلك واقعة {عليهم} وضارّة لهم لجبنهم وهلعهم لما في قلوبهم من الرعب أن ينزل فيهم ما يبيح دماءهم. ومنه أخذ الأخطل:
*مازلت تحسب كل شيء بعدهم ** خيلا تكرّ عليهم ورجالاً*
ومنه قول الآخر:
*كأنّ بلاد الله وهي عريضة ** على الخائف المطلوب كفة حابل*
*يخال إليه أنّ كل ثنية ** تيممها ترمي إليه بقاتل*
{هم العدوّ} أي: الكامل العداوة بما دل عليه الأخبار بالمفرد الذي يقع على الجمع، إشارة إلى إنهم في شدّة عداوتهم للإسلام وأهله، وكمال قصدهم وشدّة سعيهم فيه على قلب رجل واحد، وإن أظهروا التودّد في الكلام، والتقرّب به إلى أهل الإسلام فإنّ ألسنتهم معكم إذا لقوكم، وقلوبهم عليكم مع أعدائكم فهم عيون لهم عليكم {فاحذرهم} لأنّ أعدى عدوّك من يعاشرك وتحت ضلوعه الداء لكنه يكون بلطف الله دائم الخذلان منكوساً في أكثر تقلباته بيد القهر والحرمان لسرّ قوله تعالى: {قاتلهم الله} أي: أحلهم الملك المحيط قدرة وعلماً محل من يقاتله عدوّ قاهر له أشدّ مقاتلة على عادة الفعل الذي يكون بين اثنين.
(12/164)
---(1/4697)
وقال ابن عباس: أي لعنهم الله، وقال أبو مالك: هي كلمة ذم وتوبيخ، وقد تقول العرب: قاتله الله ما أشعره فيضعونه موضع التعجب {أنى} أي: كيف، ومن أيّ جهة {يؤفكون} أي: يصرفهم عن قبح ما هم عليه صارف ما كائن ما كان ليرجعوا عما هم عليه، وقال ابن عباس: أنى يؤفكون، أي: يكذبون، وقال مقاتل: أي: يعدلون عن الحق، وقال الحسن: يصرفون عن الرشد، وقيل: معناه كيف تضل عقولهم عن هذا مع وضوح الدلائل، وهو من الإفك.
{وإذا قيل لهم} أي: من أيّ قائل كان {تعالوا} أي: ارفعوا أنفسكم مجتهدين في ذلك بالمجيء إلى أشرف الخلق الذي لا يزال مكانه عالياً لعلوّ مكانته {يستغفر لكم} أي: يطلب الغفران لأجلكم خاصة من أجل هذا الكذب أي: الذي أنتم مصرّون عليه {رسول الله} أي: أقرب الخلق إلى الملك الأعظم الذي لا شبيه لوجوده {لوّوا رؤوسهم} أي: فعلوا اللي بغاية الشدّة والكثرة، وهو الصرف إلى جهة أخرى إعراضاً وعتواً، وإظهاراً للبغض والنفرة {ورأيتهم} أي: بعين البصيرة {يصدّون} أي: يعرضون إعراضاً قبيحاً عما دعوا إليه، مجدّدين لذلك كلما دعوا إليه، والجملة في وضع المفعول الثاني لرأيت {وهم مستكبرون} أي: ثابتوا الكبر عما دعوا إليه، وعن إحلال أنفسهم في محل الاعتذار فهم لشدّة غلظهم لا يدركون قبح ما هم عليه، ولا يهتدون إلى دوائه، وإذا أرشدهم غيرهم ونبههم لا ينتبهون.g
فقد روي أنه لما نزل القرآن فيهم أتاهم عشائرهم من المؤمنين، وقالوا: ويحكم افتضحتم وأهلكتم أنفسكم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوبوا إليه من النفاق، واسألوه أن يستغفر لكم فلووا رؤوسهم، أي: حرّكوها إعراضاً وإباء قاله ابن عباس.
(12/165)
---(1/4698)
وعنه: أنه كان لعبد الله بن أبي موقف في كل سبت يحض على طاعة الله وطاعة رسوله، فقيل له: وما ينفعك ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم عليك غضبان، فأته يستغفر لك فأبى، وقال: لا أذهب إليه. وروي أنّ ابن أبيّ رأسهم لوى رأسه، وقال لهم: أشرتم عليّ بالإيمان فآمنت، وأشرتم عليّ بأن أعطي زكاة مالي ففعلت، ولم يبق إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد فنزل {وإذا قيل لهم تعالوا} الآية. ولم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات.
ولما كان صلى الله عليه وسلم يحب صلاحهم فهو يحب أن يستغفر لهم، وربما ندبه إلى ذلك بعض أقاربهم، قال تعالى منبهاً على أنهم ليسوا بأهل للاستغفار لأنهم لا يؤمنون:
{سواء عليهم أستغفرت لهم} استغنى بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل {أم لم تستغفر} الله {لهم} أي: سواء عليهم الاستغفار وعدمه لأنهم لا يلتفتون إليه، ولا يعتدّون به لكفرهم {لن يغفر الله} أي: الملك الأعظم {لهم} لرسوخهم في الكفر {إن الله} أي: الذي له كمال الصفات {لا يهدي القوم} أي: الناس الذين لهم قوّة في أنفسهم على ما يريدونه {الفاسقين} أي: لأنهم لا عذر لهم في الإصرار على الفسق، وهو المروق من حصن الإسلام بخرقه وهتكه مرّة بعد مرّة، والتمرن عليه حتى استحكم فهم راسخون في النفاق، والخروج عن مظنة الإصلاح.
{هم} أي خاصة بخالص بواطنهم {الذين يقولون} أي: أوجدوا هذا القول للأنصار، ولا يزالون يجددونه لأنهم كانوا مربوطين بالأسباب محجوبين عن شهود التقدير {لا تنفقوا} أي: أيها المخلصون في النصرة {على من} أي: الذين {عند رسول الله} أي: الملك المحيط بكل شيء، وهم فقراء المهاجرين {حتى ينفضوا} أي: يتفرّقوا فيذهب كل أحد منهم إلى أهله وشغله الذي كان له قبل ذلك.
(12/166)
---(1/4699)
قال البقاعي: وما درى الأجلاف أنهم لو فعلوا ذلك أتاح الله تعالى غيرهم للإنفاق، أو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا في الشيء اليسير فصار كثيراً، أو كان بحيث لا ينفد، أو أعطى كلاً يسيراً من طعام على كيفية لا ينفد معها كتمر أبي هريرة، وشعير عائشة، وعكة أمّ أيمن وغير ذلك كما روى غير مرّة، ولكن {من يضلل الله فما له من هاد} (الزمر: 23)
ولذلك عبر في الردّ عليهم بقوله تعالى: {ولله} أي: قالوا ذلك واستمرّوا على تجديد قوله، والحال أنّ الملك الذي لا أمر لغيره {خزائن السموات} أي: كلها {والأرض} كذلك من الأشياء المعدومة الداخلة تحت مقدوره، {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} (يس: 82)
ومن الأشياء التي أوجدها فهو يعطي من يشاء منها، حتى مما في أيديهم لا يقدر أحد على منع شيء من ذلك لا مما في يده ولا مما في يده غيره.
ونبه على سوء غباوتهم وأنهم تقيدوا بالوهم حتى سفلوا عن رتبة البهائم كما قال بعضهم: إن كان محمد صادقاً فنحن شرّ من البهائم بقوله تعالى: {ولكن المنافقين} أي: العريقين في وصف النفاق {لا يفقهون} أي: يتجدّد لهم فهم أصلاً كالبهائم بل هم أضل، لأنّ البهائم إذا رأت شيئاً ينفعها يوماً في مكان طلبته مرة أخرى، وهؤلاء رأوا غير مرّة ما أخرج الله تعالى من خوارق البركات على يد رسوله صلى الله عليه وسلم فلم ينفعهم ذلك، ودل على عدم نفعهم بقوله تعالى:
(12/167)
---(1/4700)
{يقولون} أي: يوجدون هذا القول ويجدّدونه مؤكدين لاستشعارهم بأنّ أكثر قومهم ينكره {لئن رجعنا} أي: أيتها العصابة المنافقة {إلى المدينة} أي: من غزاتنا هذه، وهي غزوة بني المصطلق حيّ من هذيل خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل {ليخرجنّ الأعز} يعنون أنفسهم {منها} أي: المدينة {الأذل} يعنون النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم كاذبون في هذا لكونهم تصوروا لشدة غباوتهم أنّ العزة لهم، وأنهم يقدرون على إخراج المؤمنين {وله} أي: والحال أنّ كل من له نوع بصيرة يعلم أنّ الملك الأعلى هو الذي له وحده {العزة} أي: الغلبة كلها {ولرسوله} لأنّ عزتّه من عزته {وللمؤمنين} فعزة الله قهره من دونه، وكل من عداه دونه وعزة رسوله إظهار دينه على الأديان كلها، وعزة المؤمنين نصر الله تعالى إياهم على أعدائهم {ولكن المنافقين} أي: الذين استحكم فيهم مرض القلوب {لا يعلمون} أي: لا يوجد لهم علم الآن، ولا يتجدد في حين من الأحيان فلذلك هم يقولون مثل هذا الخراف.
(12/168)
---(1/4701)
روي أنه لما نزلت هذه الآية جاء عبد الله ولد عبد الله بن أبي ابن سلول الذي نزلت هذه الآيات بسببه كما مرّ إلى أبيه، وذلك في غزوة المريسيع لبني المصطلق فأخذ بزمام ناقته، وقال: أنت والله الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز. ولما أراد أن يدخل المدينة عبد الله بن أبي اعترضه ابنه حباب، وهو عبد الله غير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه، وقال «إن حباباً اسم شيطان» وكان مخلصاً، وقال: وراءك والله لا تدخلها حتى تقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل، فلم يزل حبيساً في يده حتى أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخليته. وروي أنه قال: لئن لم تقرّ لله ولرسوله بالعزة لأضربنّ عنقك، فقال: ويحك أفاعل أنت؟ قال: نعم، فلما رأى منه الجدّ، قال: أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابنه «جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيراً».
فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى ختم الآية الأولى بقوله تعالى: {لا يفقهون} وختم الثانية بقوله تعالى: {لا يعلمون}؟.
أجيب: بأنه ليعلم بالأولى قلة كياستهم وفهمهم، وبالثانية حماقتهم وجهلهم. ويفقهون من فقه يفقه كعلم يعلم، أو من فقه يفقه كعظم يعظم، فالأوّل لحصول الفقه بالتكلف، والثاني لا بالتكلف، فالأول علاجي، والثاني مزاجي.
ثم نهى الله تعالى المؤمنين عن التشبه بالمنافقين فقال تعالى:
(12/169)
---(1/4702)
{يا أيها الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان، وقلوبهم مذعنة كظواهرهم {لا تلهكم} أي: لا تشغلكم {أموالكم ولا أولادكم} سواء كان ذلك في إصلاحها، أو التمتع بها بحيث تغفلون {عن ذكر الله} أي: الملك الأعظم حذر المؤمنين أخلاق المنافقين، أي: لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المنافقون؛ إذ قالوا لأجل الشح بأموالهم {لا تنفقوا على من عند رسول الله} وقوله تعالى: {عن ذكر الله} قال الضحاك: أي: عن الصلوات الخمس، نظيره: قوله تعالى: {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} (النور: 37)
وقال الحسن: عن جميع الفرائض، كأنه قال: عن طاعة الله تعالى. وقيل: عن الحج والزكاة. وقيل عن قراءة القرآن، وقيل: عن إدامة الذكر، وقيل: هذا خطاب للمنافقين، أي: آمنتم بالقول فآمنوا بالقلب.
ولما كان التقدير فمن انتهى فهو من الفائزين عطف عليه قوله تعالى: {ومن يفعل} أي: يوقع في زمن من الأزمان على سبيل التجديد والاستمرار فعل {ذلك} أي: الأمر البعيد عن أفعال ذوي الهمم من الانقطاع إلى الاشتغال بالفاني والإعراض عن الباقي {فأولئك} البعداء عن الخير {هم الخاسرون} أي: العريقون في الخسارة في تجارتهم، حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني، حتى كأنهم مختصون بها دون الناس، وذلك بضد ما أرادوا.
(12/170)
---
{وأنفقوا} أي: ما أمرتم به من واجب أو مندوب كما قاله بعض المفسرين، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يريد زكاة الأموال، وهو ظاهر الأمر.(1/4703)
ثم إنّ الله تعالى زاد في الترغيب بالرضا منهم باليسير بقوله تعالى: {مما رزقناكم} أي: بعظمتنا. قال الزمخشري: من في {مما رزقناكم} للتبعيض، والمراد الإنفاق الواجب ا.ه. ثم قال تعالى محذراً من الاغترار بالتسويف في أوقات السلامة: {من قبل أن يأتي أحدكم الموت} أي: يرى دلائله وأماراته وكل لحظة مرّت فهي دلائله وأماراته. قال القرطبي: وهذا دليل على وجوب تعجيل إخراج الزكاة، ولا يجوز تأخيرها أصلاً، أي: بلا عذر، وكذا سائر العبادات إذا دخل وقتها. وقال الرازي: وبالجملة فقوله تعالى: {لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} تنبيه على المحافظة على الذكر قبل الموت، وقوله تعالى: {وأنفقوا مما رزقناكم} تنبيه على الشكر كذلك.
ولما كانت الشدّة تقتضي الإقبال إلى الله تعالى سبب عن ذلك قوله تعالى: {فيقول} أي: سائلاً في الرجعة، وأشار إلى ترقيقها للقلوب بقوله: {رب لولا} أي: هلا ولم لا {أخرتني} أي: أخرت موتي إمهالاً {إلى أجل} أي: زمان، وقوله {قريب} بين به أن مراده استدراك ما فات ليس إلا، وقيل: لا زائدة ولو للتمني أي: لو أخرتني إلى أجل قريب {فأصدّق} أي: للتزوّد في سفري هذا الطويل الذي أنا مستقبله.
(12/171)
---
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: تصدّقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت، فلا تقبل توبة ولا ينفع عمل. وعنه: ما يمنع أحدكم إذا كان له مال أن يزكي، وإذا أطاق الحج أن يحج من قبل أن يأتيه الموت، فيسأل ربه الكرة فلا يعطاها. وعنه: أنها نزلت في مانعي الزكاة، ووالله لو رأى خيراً ما سأل الرجعة، فقيل له: أما تتقي الله يسأل المؤمنون الكرّة، قال: نعم أنا أقرأ عليكم قرآناً يعني: أنها نزلت في المؤمنين، وهم المخاطبون بها. وكذا عن الحسن: ما من أحد لم يزك، ولم يصم، ولم يحج إلا سأل الرجعة. وقال الضحاك: لا ينزل بأحد لم يحج ولم يؤدّ الزكاة الموت إلا وسأل الرجعة، وعن عكرمة: نزلت في أهل القبلة.(1/4704)
وقيل: نزلت في المنافقين، ولهذا نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال هذه الآية تدل على أنّ القوم لم يكونوا من أهل التوحيد، لأنه لا يتمنى الرجوع إلى الدنيا والتأخير فيها أحد له عند الله تعالى خير في الآخرة، أي: إذا لم يكن بالصفة المتقدمة. قال القرطبي: إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل لما يرى من الكرامة. وقرأ {وأكون من الصالحين} أي: العريقين في هذا الوصف بالتدارك أبو عمرو بواو بعد الكاف ونصب النون عطفاً على فأصدّق، والباقون بحذف الواو لالتقاء الساكنين وجزم النون.
واختلفت عبارات الناس في ذلك، فقال الزمخشري: عطفاً على محل فأصدّق، كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن. وقال ابن عطية: عطفاً على الموضع لأنّ التقدير: إن أخرتني أصدّق وأكن، هذا مذهب أبي عليّ الفارسي. وقال القرطبي: عطفاً على موضع الفاء لأنّ قوله: {فأصدّق} لو لم تكن الفاء لكان مجزوماً، أي: أصدّق.
ثم زاد تعالى في الحث على المبادرة بالطاعات قبل الفوات بقوله تعالى مؤكداً لأجل عظم الرجاء من هذا المحتضر بالتأخير عاطفاً على ما، تقديره: فلا يؤخره الله فيفوته ما أراد:
(12/172)
---
{ولن يؤخر الله} أي: الملك الأعظم الذي لا كفء له فلا اعتراض عليه {نفساً} أيّ نفس كانت، وحقق الأجل بقوله تعالى: {إذا جاء أجلها} أي: وقت موتها الذي حدّه الله تعالى لها فلا يؤخر الله تعالى نفس هذا القائل، لأنها من جملة النفوس التي شملها النفي.
وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر، وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية بعد تحقيق الأولى، ولهما أيضاً إبدالها ألفاً، والباقون بتحقيقهما {والله} أي: الذي له الإحاطة الشاملة علماً وقدرة {خبير} أي: بالغ الخبرة والعلم ظاهراً وباطناً {بما تعملون} أي: توقعون عمله في الماضي والحال والمآل كله باطنه وظاهره.(1/4705)
وقرأ شعبة بالياء التحتية على الغيبة على الخبر عمن مات، وقال هذه المقالة، والباقون بالفوقية على الخطاب. وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة المنافقين بريء من النفاق» حديث موضوع.
سورة التغابن
مدنية
في قول الأكثرين، وقال الضحاك: مكية، وقال الكلبي: مدنية ومكية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن سورة التغابن نزلت بمكة إلا آيات من آخرها نزلت بالمدنية في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده، فأنزل الله عز وجلّ {يا أيها الذين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوّاً لكم} إلى آخرها، وهي ثماني عشرة آية، ومائتان وإحدى وأربعون كلمة، وألف وسبعون حرفاً.
{بسم الله} مالك الملك فلا كفء له ولا مثيل {الرحمن} أي: الذي وسع الخلائق بره الجليل {الرحيم} الذي خص من عمه فوفقهم للجميل.
(12/173)
---
{يسبح} أي: يوقع التنزيه التامّ مع التجديد والاستمرار {لله} أي: الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال {ما في السموات} أي: كلها {وما في الأرض} كذلك، وقيل: اللام زائدة، أي: ينزه الله تعالى، قال الجلال المحلي: وأتى بما دون من تغليباً للأكثر {له} أي: وحده {الملك} أي: كله مطلقاً في الدنيا والآخرة {وله} أي: وحده {الحمد} أي: الإحاطة بأوصاف الكمال كلها، فلذلك نزهه جميع مخلوقاته وقدّم الظرفين ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله تعالى، وذلك بأنّ الملك على الحقيقة له، لأنه مبدئ كل شيء ومبدعه، والقائم به والمهيمن عليه، وكذا الحمد لأنّ أصول النعم وفروعها منه وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء وحمده اعتداد بأنّ نعمة الله جرت على يده {وهو على كل شيء قدير}(1/4706)
{هو} أي: وحده {الذي خلقكم} أي: أنشأكم على ما أنتم عليه {فمنكم} أي: فتسبب عن خلقه لكم وتقديره {كافر} أي: عريق في صفة الكفر {ومنكم مؤمن} أي: راسخ في الإيمان في حكم الله تعالى في الأزل، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنّ الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، ويعيدهم في القيامة مؤمناً وكافراً.
(12/174)
---
وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية فذكر شيئاً مما يكون فقال: تولد الناس على طبقات شتى، يولد الرجل مؤمناً ويعيش مؤمناً ويموت مؤمناً، ويولد الرجل كافراً ويعيش كافراً ويموت كافراً، ويولد الرجل كافراً ويعيش كافراً ويموت مؤمناً»، أي: وسكت عن القسم الآخر، وهو أن يولد الرجل مؤمناً ويعيش مؤمناً ويموت كافراً اكتفاء بالمقابل، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «خلق الله تعالى فرعون في بطن أمّه كافراً، وخلق يحيى بن زكريا عليهما السلام في بطن أمّه مؤمناً وفي الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة» قال القرطبي: قال علماؤنا: والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم فيجري ما علم وأراد وحكم، فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال، وقد يريده إلى وقت معلوم، وكذلك الكفر.(1/4707)
وقيل: في الكلام محذوف، تقديره: فمنكم مؤمن ومنكم كافر ومنكم فاسق فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه، قاله الحسن. وقال غيره: لا حذف لأنّ المقصود ذكر الطرفين، وقيل: إنه خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا، والتقدير: هو الذي خلقكم، ثم وصفهم فقال: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} كقوله تعالى: {والله خلق كل دابة من ماء} (النور: 45)
ثم قال تعالى: {فمنهم من يمشي على بطنه} (النور: 45)
(12/175)
---
الآية. قالوا: فإنه خلقهم والمشي فعلهم، وهذا اختيار الحسين بن الفضل، قال: لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله تعالى: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» قال البغوي: وروينا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الغلام الذي قتله الخضر طبع على الكفر» وقال تعالى: {ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً} (نوح: 27)
وروى أنس رضى الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وكل الله بالرحم ملكاً، فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها، قال: يا رب ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، فما الرزق، فما الأجل، فيكتب ذلك في بطن أمه» وقال الضحاك: فمنكم كافر في السرّ مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في العلانية والسرّ، كعمار وزيد. وقال عطاء بن أبي رباح: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب، يعني: في شأن الأنواء كما جاء في الحديث. قال القرطبي: وقال الزجاج: وهو أحسن الأقوال.(1/4708)
والذي عليه الأئمة أن الله خلق الكافر وكفره فعل له، وكسب واختيار، وخلق المؤمن وإيمانه فعل له، وكسب واختيار وكسبه واختياره بتقدير الله ومشيئته، فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار الإيمان لأنّ الله تعالى أراد ذلك منه وقدّره عليه وعلمه منه، والكافر بعد خلق الله إياه يختار الكفر لأنّ الله تعالى قدره عليه وعلمه منه، ولا يجوز أن يوجد من كل منهما غير الذي قدره عليه وعلمه منه، لأنّ وجود خلاف المقدور عجز، ووجود خلاف المعلوم جهل فلا يليقان بالله تعالى. قال البغوي: وهذا طريق أهل السنة، من سلكه أصاب الحق وسلم من الجبر والقدر.
قال الرازي: فإن قيل: إنه تعالى حكيم وقد سبق في علمه أنه تعالى إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر فأيّ حكمة دعت إلى خلقهم؟.
(12/176)
---
فالجواب: إذا علمنا أنه تعالى حكيم علمنا أنّ أفعاله كلها على وفق الحكمة فيكون خلقه تعالى هذه الطائفة على وفق الحكمة، ولا يلزم من عدم علمنا بذلك أن لا يكون كذلك، بل اللازم أن يكون خلقهم على وفق الحكمة {والله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة {بما تعملون} أي: توقعون عمله كسباً {بصير} أي: بالغ العلم بذلك، فهو الذي خلق جميع أعمالكم التي نسب كسبها إليكم، وهو خالق جميع الاستعدادات والصفات كما خلق الذوات خلافاً للقدرية، لأنه لا يتصور أن يخلق الخالق ما لا يعلمه، ولو سئل الإنسان كم مشى في يومه من خطوة لم يدر فكيف لو سئل أين موضع مشيه، ومتى زمانه فكيف، وإنه ليمشي أكثر مشيه وهو غافل عنه، ومن جهل أفعاله كماً وكيفاً وأيناً وغير ذلك لم يكن خالقاً لها بوجه.
ولما ذكر المظروف ذكر ظرفه دالاً على تمام إحاطته بالبواطن والظواهر.(1/4709)
وقوله تعالى: {خلق السموات} أي: على علوها وكبرها {والأرض} على سعتها {بالحق} أي: بالأمر الذي يطابقه الواقع لما أراد {وصورّكم} أي: آدم عليه السلام خلقه بيده كرامة له. قال مقاتل: وقيل: جميع الخلائق على صور لا توافق شيئاً من صور العلويات، ولا السفليات، ولا فيها صور توافق الأخرى من كل وجه {فأحسن صوركم} فجعلها أحسن الحيوانات كلها كما هو مشاهد، وبدليل أن الإنسان لا يتمنى أن يكون على خلاف ما يرى من سائر الصور، ومن حسن صورته أن خلقه منتصباً غير منكب كما قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} (التين: 4)
كما يأتى إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: قد يوجد في أفراد هذا النوع من كل مشوه الخلقة سمج الصورة.
(12/177)
---
أجيب: بأنه لا سماجة لأن الحسن في المعاني، وهو على طبقات ومراتب، فانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقه لا يمنع حسنه، فهو داخل في حيز الحسن غير خارج عن حدّه، فقبح القبيح منه إنما هو بالنسبة إلى أحسن منه. ولذا قال الحكماء: شيئان لا غاية لهما الجمال والبيان، فقدرة الله سبحانه وتعالى لا تتناهى.
قال البقاعي: فإياك أن تصغي لما وقع في كتب الغزالي إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، فإن ذلك ينحل إلى أنه سبحانه لا يقدر أن يخلق أحسن من هذا العالم، وهذا لا يقوله أحد، ا. ه. وهو لا ينقص مقدار الغزالي فإن كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه كما قال الإمام مالك، وعزاه الغزالي نفسه إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الشافعي: صنفت هذه الكتب وما ألوت فيها جهداً وإني لا علم أن فيها الخطأ لأن الله تعالى يقول: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا} (النساء: 82)
ولما كان التقدير فكان منه سبحانه المبدأ عطف عليه قوله تعالى: {وإليه} وحده {المصير} أي: المرجع بعد البعث فيجازى كلاً بعمله.
(12/178)
---(1/4710)
{يعلم} أي: علمه حاصل في الماضي والحال والمآل {ما} أي: كل شئ {في السماوات} أي: كلها {والأرض} كذلك {ويعلم} أي: على سبيل الاستمرار {ما تسرون} أي: تخفون {وما تعلنون} أي: تظهرون من الكلمات والجزئيات {والله} أي: الذي له الإحاطة التامة {عليم} أي: بالغ العلم {بذات} أي: صاحبة {الصدور} من الأسرار والخواطر التي لم تبرز في الخارج سواء كان صاحب الصدر قد علمها أم لا، وعلمه لكل ذلك على حد سواء لا تفاوت فيه بين علم الخفي وعلم الجلي نبه بعمله ما في السماوات والأرض، ثم يعلم ما يسره العباد ويعلنونه، ثم بعلمه ذوات الصدور إن شيئاً من الجزئيات والكليات غير خافٍ عليه، ولا عازب عنه، ولا يجترىء على شيء مما يخالف رضاه، وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد، وكل ما ذكره بعد قوله: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} كما ترى في معنى الوعيد على الكفر، وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته.
(12/179)
---
{ألم يأتكم} أيها الناس ولا سيما الكفار {نبأ} أي: خبر {الذين كفروا من قبل} كقوم نوح وهود وصالح {فذاقوا} أي: باشروا مباشرة الذائق {وبال أمرهم} أي: ضرر كفرهم في الدنيا، وأصله الثقل، ومنه الوبيل لطعام يثقل على المعدة، والوابل: المطر الثقيل القطر {ولهم عذاب أليم} أي: مؤلم في البرزخ ثم يوم القيامة التي هي موضع الفصل الأعظم.(1/4711)
{ذلك} أي: الأمر العظيم من الوبال الدال قطعاً على أن الكفر أبطل الباطل وأنه مما يغضب الخالق {بأنه} أي: بسبب أن الشان العظيم البالغ في الفظاعة {كانت تأتيهم} على عادة مستمرة {رسلهم} أي: رسل الله الذين أرسلهم إليهم {بالبينات} أي: الحجج الظاهرات على الإيمان {فقالوا} أي: الكل لرسلهم منكرين غاية الإنكار تكبراً، وقولهم: {أبشر يهدوننا} يجوز أن يرتفع بشر على الفاعلية ويكون من الاشتغال، وهو الأرجح لأن الأداة تطلب الفعل، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبر، وجمع الضمير في يهدوننا؛ إذ البشر اسم جنس، وقد يأتي الواحد بمعنى الجمع فيكون اسماً للجنس، وقد يأتي الجمع بمعنى الواحد كقوله تعالى: {ما هذا بشراً} (يوسف: 31)
فأنكروا على الملك الأعظم إرساله لهم {فكفروا} أي: بهذا القول؛ إذ قالوه استصغاراً ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده {وتولوا} عن الإيمان.
(12/181)
---
فإن قيل: قوله تعالى: {فكفروا} تعميم يفهم منه التولي فما الحاجة إلى ذكره؟ أجيب: بأنهم كفروا وقالوا: {أبشر يهدوننا} وهذا في معنى الإنكار والإعراض بالكلية، وهذا هو التولي فكأنهم كفروا وقالوا قولاً يدل على التولي، فلهذا قال: {فكفروا وتولوا}، وقيل: كفروا بالرسل وتولوا بالبرهان، وأعرضوا عن الإيمان والموعظة.
ونبه بقوله تعالى: {واستغنى الله} أي: الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه على أن هذا إنما هو لمصالح الخلق فهو غني عن كل شيء.
فإن قيل: قوله تعالى: {وتولوا واستغنى الله} يوهم وجود التولي والاستغناء معاً، والله تعالى لم يزل غنياً؟ أجيب: بأن معناه وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان، ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك {والله} أي: المستجمع الصفات الكمال {غني} عن خلقه {حميد} أي: محمود في أفعاله.(1/4712)
{زعم الذين كفروا} أي: أوقعوا الستر لما دلت عليه العقول من وحدانية الله تعالى، ولو على أدنى الوجوب. وزعم قال ابن عربي: كنية الكذب، وقال الزمخشري: الزعم ادعاء العلم، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «زعموا مطية الكذب» وعن شريح: لكل شيء كنية، وكنية الكذب زعموا. وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند أبي داود: «بئس مطية الرجال زعموا» {أن لن يبعثوا} أي: من أي باعث ما بوجه من الوجوه {قل} أي: يا أشرف الرسل لهؤلاء البعداء {بلى} أي: لتبعثن ثم أكد بصريح القسم فقال: {وربي} أي: المحسن إلي بالانتقام ممن كذب بي {لتبعثنّ} أي: بأهون شيء وأيسر أمر {ثم لتنبؤن} أي: تخبرنّ إخباراً عظيماً ممن يقيمه الله تعالى لإخباركم {بما عملتم} أي: بأعمالكم لتجزون عليها {وذلك} أي: الأمر العظيم عندكم من البعث والحساب {على الله} أي: المحيط بصفات الكمال وحده {يسير} إذ الإعادة أسهل من الابتداء.
فإن قيل: كيف يفيد القسم في إخباره عن البعث، وهم قد أنكروا الرسالة؟.
(12/182)
---
أجيب: بأنهم أنكروا الرسالة لكنهم يعتقدون أنه يعتقد ربه اعتقاداً جازماً فيعلمون أنه لا يقدم على القسم بربه إلا وأن يكون الإخبار عنده صدقاً أظهر من الشمس في اعتقاده، ثم إنه أكد الخبر باللام والنون فكأنه قسماً بعد قسم.
ثم إن الله تعالى لما أخبر عن البعث، والاعتراف بالبعث من لوازم الإيمان قال تعالى:
{فآمنوا بالله} أي: الملك الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء {ورسوله} أي: كل من أرسله ولا سيما محمداً صلى الله عليه وسلم {والنور} أي: القرآن {الذي أنزلنا} أي: بما لنا من العظمة؛ لأنه نور يهتدى به من ظلمة الضلالة كما يهتدى بالنور في الظلمات.(1/4713)
فإن قيل: هلا قيل: ونوره، بالإضافة كما قال: ورسوله؟ أجيب بأن الألف واللام في النور بمعنى الإضافة فكأنه قال: ورسوله ونوره {والله} أي: المحيط علماً وقدرة {بما تعملون خبير} أي: بالغ العلم بما تسرون وما تعلنون فراقبوه في السر والعلانية.
وقوله تعالى: {يوم يجمعكم} منصوب بقوله تعالى: {لتنبئون} عند النحاس و{بخبير} عند الحوفي لما فيه من معنى الوعيد كأنه قال: والله يعاقبكم يوم يجمعكم، وباذكر مضمراً عند الزمخشري فيكون مفعولاً به، أو بما دلّ عليه الكلام، أي: تتفاوتون يوم يجمعكم؛ قاله أبو البقاء {ليوم الجمع} أي: لأجل ما يقع في ذلك اليوم، وهو يوم القيامة الذي يجمع الله تعالى فيه الأولين والآخرين من الإنس والجن وجميع أهل السماء والأرض.
(12/183)
---
وقيل: يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله، وقيل: يجمع فيه بين الظالم والمظلوم، وقيل: يجمع فيه بين كل نبي وأمّته، وقيل: يجمع فيه ثواب أهل الطاعة وعقاب أهل المعاصي، بل هو جامع لجميع ما ذكر {ذلك} أي: اليوم العظيم {يوم التغابن} والتغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة، وهو أن يغبن بعضهم بعضاً لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء، وفيه تهكم بالأشقياء؛ لأن نزولهم ليس بغبن. ولهذا قيل: التفاعل هنا من واحد لا من اثنين، وفي الحديث «ما من عبد أدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرةً» وهو معنى {ذلك يوم التغابن} وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم استعظاماً له وإن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت.(1/4714)
وذكر في بعض التفاسير أن التغابن هو أن يكتسب الرجل مالاً من غير وجهه ليرثه غيره فيعمل فيه بطاعة الله فيدخل الأول النار والثاني الجنة بذلك المال، فذلك هو الغبن البين، والمغابن ما انثنى من البدن نحو الإبطين والفخذين، والمغبون من غبن في أهله ومنازله في الجنة، ويظهر يومئذ غبن كل كافر بتركه الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وبصنيعه في الآثام.
قال الزجاج: ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة بالنسبة إلى من هو أعلى منزلة منه. فإن قيل: فأي معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها؟ أجيب: بأنه تمثيل للغبن في الشراء والبيع كقوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم} (البقرة: 16)
(12/184)
---
فلما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خسروا، ذكر أيضاً أنهم غبنوا وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة، وهذا نوع مبادلة اتساعاً ومجازاً.(1/4715)
وقد فرق الله تعالى الخلق فريقين فريقاً للجنة وفريقاً للنار، وقال الحسن وقتادة: بلغنا أن التغابن على ثلاثة أصناف: رجل علم علماً فضيعه ولم يعمل به فشقي به، ورجل علم علماً وعمل به فنجا به، ورجل اكتسب مالاً من وجوه يسأل عنها وشح عليه وفرط في طاعة ربه بسببه ولم يعمل فيه خيراً، وتركه لوارث لا حساب عليه، فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه، ورجل كان له عبد فعمل ذلك العبد بطاعة ربه فسعد، وعمل السيد بمعصية ربه فشقي. وروى القرطبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى يقيم الرجل والمرأة يوم القيامة بين يديه فيقول الله تعالى لهما قولاً: ما أنتما قائلان؟ فيقول الرجل: يا رب أوجبت نفقتها علي فنفقتها من حرام ومن حلال، وهؤلاء الخصوم يطلبون ذلك، ولم يبق لي ما أوفي، فتقول المرأة: يا رب وما عسى أن يقول اكتسبه حراماً وأكلته حلالاً، وعصاك في مرضاتي ولم أرض له بذلك فبعداً له وسحقاً، فيقول الله تعالى: قد صدقت فيؤمر به إلى النار ويؤمر بها إلى الجنة، فتطلع عليه من طبقات الجنة فتقول له: غبناك غبناك سعدنا بما شقيت أنت به، فذلك يوم التغابن».
وقال بعض علماء الصوفية: إن الله تعالى كتب الغبن على الخلق أجمعين فلا يلقى أحد ربه إلا مغبوناً، لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب قال صلى الله عليه وسلم «لا يلقى الله أحد إلا نادماً إن كان مسيئاً إن لم يحسن، وإن كان محسناً إن لم يزدد».
(12/185)
---(1/4716)
تنبيه:: استدل بعض العلماء بقوله تعالى: {ذلك يوم التغابن} أنه لا يجوز الغبن في المعاملات الدنيوية لأن الله تعالى خص التغابن بيوم القيامة فقال تعالى: {ذلك يوم التغابن} وهذا الاختصاص يفيد أن لاغبن في الدنيا، فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث، واختاره البغداديون واحتجوا عليه بقوله صلى الله عليه وسلم لحسان بن سعد: «إذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثاً» ولأن الغبن في الدنيا ممنوع منه بالإجماع في حكم الدين إذ هو من باب الخداع المحرم شرعاً في كل ملة لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه، فمضى في البيوع إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبداً لأنه لا يخلو منه، فإذا كان كثيراً أمكن الاحتراز عنه فوجب الرد به.
(12/186)
---(1/4717)
والفرق بين القليل والكثير في الشريعة غير معلوم فقدر بالثلث، وهذا الحد اعتبره الشارع في الوصية وغيرها، ويكون معنى الآية على هذا يوم التغابن الجائز مطلقاً من غير تفصيل، وذلك يوم التغابن الذي لا يستدرك أبداً {ومن يؤمن} أي: يوقع الإيمان ويجدده على سبيل الاستمرار {بالله} أي: الملك الأعظم الذي لا كفء له {ويعمل} تصديقاً لإيمانه {صالحاً} أي: عملاً هو مما ينبغي الاهتمام بتحصيله لأنه لا مثل له في جلب المصالح ودفع المضار {يكفر عنه سيئاته} التي غلبه عليها نقصان الطبع واتبع ذلك الحامل الآخر، وهو التوجيه بجلب المسار لأن الإنسان يطير إلى ربه سبحانه بجناحي الخوف والرجاء، والرهبة والرغبة، والنذارة والبشارة {ويدخله} أي: رحمة له وإكراماً وفضلاً {جنات} أي: بساتين ذات أشجار عظيمة وأغصان ظليلة تستر داخلها ورياض مديدة متنوعة الأزاهير عطرة النشر بهيج ريها، وأشار إلى دوام ريها بقوله تعالى: {تجري من تحتها} أي: من تحت قصورها وأشجارها {الأنهار} وقرأ نكفر عنه وندخله، نافع وابن عامر بالنون فيهما، أي: نحن بما لنا من العظمة، والباقون بالياء التحتية، أي: الله الواحد القهار {خالدين} أي: مقدرين الخلود {فيها} وأكده بقوله: {أبداً} فلا خروج لهم منها {ذلك} أي: الأمر العالي جداً من الغفران والإكرام {الفوز العظيم} لأنه جامع لجميع المصالح ودفع المضار وجلب المسار، ومن جملة ذلك النظر إلى وجه الله الكريم.
(12/187)
---(1/4718)
ولما ذكر تعالى الفائز بلزومه التقوى ترغيباً اتبعه بضده ترهيباً فقال عز من قائل: {والذين كفروا} أي: غطوا أدلة ذلك اليوم فكانوا في الظلام {وكذبوا} أي: أوقعوا جميع التغطية وجميع التكذيب {بآياتنا} أي: بسببها مع مالها من العظمة بإضافتها إلينا وهي القرآن فلم يعملوا به {أولئك} أي: البعداء البغضاء {أصحاب النار خالدين} أي: مقدرين الخلود {فيها وبئس المصير} هي، قال الرازي: فإن قيل: قال تعالى في حق المؤمنين {ومن يؤمن بالله} بلفظ المستقبل، وفي الكفار قال: {والذين كفروا} بلفظ الماضي.
فالجواب: أن تقدير الكلام: ومن يؤمن بالله من الذين كفروا وكذبوا بآياتنا يدخله جنات، ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النار.
فإن قيل: قال تعالى: {يؤمن} بلفظ الوحدان و{خالدين فيها} بلفظ الجمع. أجيب: بأن ذلك بحسب اللفظ، وهذا بحسب المعنى.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: {وبئس المصير} بعد قوله تعالى: {خالدين فيها} وذلك بئس المصير؟ أجيب: بأن ذلك وإن كان في معناه فهو تصريح بما يؤكده كما في قوله: {أبداً}.
{ما أصاب} أحداً {من مصيبة} أيّ مصيبة كانت دينية أو دنيوية في نفس أو مال أو قول أو فعل تقتضي هماً، أو توجب عقاباً آجلاً أو عاجلاً {إلا بإذن الله} أي: بتقدير الملك الأعظم. وقال الفراء: يريد إلا بأمر الله. وقيل: إلا بعلم الله، وقيل: سبب نزول هذه الآية أن الكفار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقاً لصانهم الله تعالى عن المصائب في الدنيا، فبين الله تعالى أن ما أصاب من مصيبة إلا بقضائه وقدره.
فإن قيل: بم يتصل قوله تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله}؟ أجيب: بأنه يتعلق بقوله تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله}.
(12/188)
---(1/4719)
{ومن يؤمن بالله} يصدق بأنه لا تصيبه مصيبة إلا بقضاء الله الملك الأعظم وتقديره وإذنه {يهد قلبه} قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو أن يجعل في قلبه اليقين حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، أي: فيسلم لقضاء الله وقدره. وقال الكلبي: هو إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر.
وقيل: يهد قلبه إلى نيل الثواب في الجنة، وقيل: يثبته على الإيمان. وقال أبو عثمان الحيري: من صح إيمانه يهد الله قلبه لاتباع السنة. وقيل: يهد قلبه عند المصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، قاله ابن جبير. {والله} أي: الملك الذي لا نظير له {بكل شيء} مطلقاً من غير استثناء {عليم} فلا يخفى عليه تسليم من انقاد لأمره، فإذا تحقق من هدى قلبه ذلك زاح عنه كل اعتقاد باطل من كفر أو بدعة أو صفة خبيثة.
{وأطيعوا الله} أي: الملك الأعلى الذي له الأمر كله {وأطيعوا الرسول} أي: هونوا على أنفسكم المصائب واشتغلوا بطاعة الله تعالى، واعملوا بكتابه وأطيعوا الرسول في العمل بسنته {فإن توليتم} أي: عن الطاعة {فإنما على رسولنا} أضافه إليه على وجه الكمال تعظيماً له وتهديداً لمن يتولى عنه {البلاغ المبين} أي: الظاهر في نفسه المظهر لكل أحد أنه أوضح له غاية الإيضاح، ولم يدع لبساً، وليس إليه خلق الهداية في القلوب.
{الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {لا إله إلا هو} فهو القادر على خلق الهداية في القلوب والإقبال بها لا يقدر على ذلك غيره {وعلى الله} أي: الذي له الأمر لا على غيره {فليتوكل المؤمنون} أي: لأن إيمانهم بأن الكل منه يقتضي ذلك. وقال الزمخشري: هذا بعث لرسول الله صلى الله عليه وسلم على التوكل عليه، والتقوى به في أمره حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه.
(12/189)
---(1/4720)
واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم} أي: وإن أظهرن غاية المودة {وأولادكم} أي: وإن أظهروا غاية الشفقة {عدواً لكم} فقال ابن عباس: نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده فنزلت ذكره النحاس، وحكاه الطبري عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة التغابن كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم} فإنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوه ورققوه، وقالوا: إلى من تدعنا فيرق فيقيم، فنزلت هذه الآية إلى آخر السورة بالمدينة.
وروى الترمذي عن ابن عباس وسئل عن هذه الآية قال: هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد تفقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى هذه الآية، حديث حسن صحيح.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان قعد لابن آدم في طرق الإيمان فقال له: أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك فخالفه فآمن، ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له: أتهاجر وتترك أهلك ومالك فخالفه فهاجر، ثم قعد له على طريق الجهاد فقال له: أتجاهد فتقتل نفسك فتنكح نساؤك ويقسم مالك فخالفه فجاهد فقتل، فحق على الله أن يدخله الجنة».
وقعود الشيطان يكون بوجهين: أحدهما: يكون بالوسوسة، والثاني: أن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب قال تعالى: {وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم} (فصلت: 25)
(12/190)
---(1/4721)
وفي حكمة عيسى عليه الصلاة والسلام: من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان في الدنيا عبداً. وقال عليه الصلاة والسلام: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة» ولا دناءة أعظم من دناءة الدينار والدرهم، ولا أخس من همة ترتفع بثوب جديد ويدخل في قوله تعالى: {إن من أزواجكم} الذكر والأنثى، فكما أن الرجل تكون زوجته عدواً له كذلك المرأة يكون زوجها عدواً لها بهذا المعنى {فاحذروهم} أي: أن تطيعوهم في التخلف عن الخير، ولا تأمنوا غوائلهم {وإن تعفوا} أي: توقعوا المجاوزة عن ذنوبهم بعدم العقاب عليها فإنه لا فائدة في ذلك، فإن من طبع على شيء لا يرجع عنه وإنما النافع الحذر الذي أرشد إليه تعالى لئلا يكون سبباً للذم المنهي عنه {وتصفحوا} أي: بالإعراض عن المقابلة بالتثريب باللسان {وتغفروا} أي: بأن تستروا ذنوبهم ستراً تاماً شاملاً للعين والأثر بالتجاوز {فإن الله} أي: الجامع لصفات الكمال {غفور} أي: بالغ المحو لأعيان الذنوب وآثارها جزاء لكم على غفرانكم لهم، وهو جدير بأن يصلحهم لكم بسبب غفرانكم {رحيم} فيكرمكم بعد ذلك الستر بالإنعام فتخلقوا بأخلاقه تعالى يزدكم من فضله.
{إنما أموالكم} أي: عامة {وأولادكم} كذلك {فتنة} أي: اختبار من الله تعالى لكم، وهو أعلم بما في نفوسكم منكم لكي ليظهر في عالم الشهادة من يميله ذلك فيكون عليه نقمة ممن لا يميله فيكون عليه نعمة، فربما رام الإنسان صلاح ماله وولده فبالغ فأفسد نفسه، ثم لا يصلح ذلك ماله ولا ولده. روى أبو نعيم في الحلية في ترجمة سفيان الثوري رضي الله عنه أنه قال: يؤتى برجل يوم القيامة فيقال: أكل عياله حسناته. وعن بعض السلف: العيال سوس الطاعات ويكفي في فتنة لمال قصة ثعلبة بن حاطب أحد من نزل فيه قوله تعالى: {ومنهم من عاهد الله} (التوبة: 75)
(12/191)
---(1/4722)
وعن ابن مسعود: لا يقولن أحدكم اللهم اعصمني من الفتنة، فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال ولا ولد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل اللهم أعوذ بك من مضلات الفتن. وقال الحسن في قوله تعالى: {إن من أزواجكم وأولادكم} أدخل من للتبعيض لأنهم كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر في قوله تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما.
روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل صلى الله عليه وسلم فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله عز وجل {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما» ثم أخذ في خطبته./
تنبيه:: قدم الأموال على الأولاد لأن فتنة المال أكثر، وترك ذكر الأزواج في الفتنة قال البقاعي: لأن منهن من يكون صلاحاً وعوناً على الآخرة {والله} أي: ذو الجلال {عنده} وناهيك بما يكون منه بسبيل جلاله وعظمته {أجر} ثم وصفه بقوله تعالى: {عظيم} أي: لمن ائتمر بأوامره التي أمره بها.
وقوله تعالى: {فاتقوا الله} أي: الملك الأعلى {مااستطعتم} أي: جهدكم ووسعكم ناسخ لقوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} (آل عمران: 102)
قاله قتادة والربيع بن أنس السدي، وذكر الطبري عن ابن زيد في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} قال جاء أمر شديد قال: ومن يعرف قدر هذا ويبلغه، فلما علم الله تعالى أنه قد اشتد عليهم نسخه عنهم، وجاء بهذه الآية الأخرى فقال {فاتقوا الله ما استطعتم} وقال ابن عباس: وهي محكمة لا نسخ فيها، ولكن {حق تقاته} أن يجاهدوا فيه حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.
(12/192)
---(1/4723)
فإن قيل: إذا كانت الآية غير منسوخة فكيف الجمع بين الآيتين، وما وجه الأمر باتقائه حق تقاته مطلقاً من غير تخصيص ولا مشروطاً بشرط، والأمر باتقائه بشرط الاستطاعة؟ أجيب: بأن قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} معناه: فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جعله فتنة لكم من أموالكم وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فتتركوا الهجرة وأنتم مستطيعون، وذلك أن الله تعالى قد عذر من لم يقدر على الهجرة بتركها بقوله تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} إلى قوله تعالى: {فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم} (النساء: 99)
فأخبر تعالى أنه قد عفا عمن لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً بالإقامة في دار الشرك، فكذلك معنى قوله تعالى: {ما استطعتم} في الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام أن تتركوها فتنة أموالكم وأولادكم، ويدل على صحة هذا أن قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} عقب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم} ولا خلاف بين علماء التأويل في أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كفار تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك كما تقدم، وهذا اختيار الطبري.
وقال ابن جبير: قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} أي: فيما يتطوع به من نافلة أو صدقة، فإنه لما نزل قوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} اشتدت على القوم فقاموا حتى ورمت وقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفاً فيهم {فاتقوا الله ما استطعتم} فنسخت الأولى.
(12/193)
---(1/4724)
قال الماوردي: ويحتمل أن يثبت هذا النقل لأن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها، لأنه لا يستطيع اتقاءها {واسمعوا} أي: سماع إذعان وتسليم لما توعظون به وجميع أوامره {وأطيعوا} أي: وصدقوا ذلك الإذعان بمباشرة الأفعال الظاهرة في الإسلاميات من القيام بأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله في كل أمر ونهي على حسب الطاقة وحذف المتعلق ليصدق الأمر بكل طاعة {وأنفقوا} أي: أوقعوا الإنفاق كما حد لكم فيما وجب أو ندب إليه، والإنفاق لا يخص نوعاً بل يكون بكل ما رزق الله من الذاتي والخارجي. وقوله تعالى: {خيراً لأنفسكم} في نصبه أوجه: أحدها: قال سيبويه إنه مفعول بفعل مقدر دل عليه {وأنفقوا} تقديره: وقدموا خيراً لأنفسكم كقوله تعالى: {انتهوا خيراً لكم} (النساء: 171)
الثاني: تقديره يكن الإنفاق خيراً فهو خبر كان المضمرة، وهو قول أبي عبيدة. الثالث: أنه نعت مصدر محذوف، وهو قول الكسائي والفراء، أي: إنفاقاً خيراً لأنفسكم فإن الله يعطي خيراً منه في الدنيا مع ما تزكى به النفس ويدخر عليه من الجزاء في الآخرة مما لا يدري كنهه فلا يغرنكم عاجل شيء من ذلك فإنما هو زخرف.
ولما ذكر ما في الإنفاق من الخير عمم في جميع الأوامر بقوله تعالى: {ومن يوق شح نفسه} فيفعل في ماله جميع ما أمر به موقناً به مطمئناً إليه حتى يرتفع عن قلبه الإخطار، ويتحرر عن رق المكنونات، والشح خلق باطنى هو الداء العضال، والبخل فعل ظاهر ينشأ عن الشح، والنفس تارة تشح بترك الشهوة من المعاصي فتفعلها، وتارة بإعطاء الأعضاء في الطاعات فتتركها وتارة بإنفاق المال ومن فعل ما فرض عليه خرج من الشح. ولما كان الواقي هو الله تعالى سبب عن وقايته قوله تعالى: {فأولئك} أي: العالو الرتبة {هم المفلحون} أي: الفائزون الذين حازوا جميع المرادات بما اتقوا الله فيه.
(12/194)
---(1/4725)
ثم رغب في الإنفاق بقوله تعالى: {إن تقرضوا الله} أي: الملك الأعلى ذا الغنى المطلق الحائز لجميع صفات الكمال {قرضاً حسناً} والقرض الحسن هو التصدق من الحلال مع طيب النفس ومع الإخلاص والمبادرة {يضاعفه لكم} أي: لأجلكم خاصة أقل ما يكون بالواحد عشراً إلى ما لا يتناهى على حسب النيات.
قال القشيري: يتوجه الخطاب بهذا على الأغنياء في بذل أموالهم، وعلى الفقراء في إخلاء أيامهم وأوقاتهم من مروآتهم وإيثار مراد الحق على مراد أنفسهم، فالغني يقال له آثر حكمي على مرادك في مالك وغيره، والفقير يقال له: آثر حكمي في نفسك وقلبك ووقتك.
ولما كان الإنسان لما له من النقصان وإن اجتهد لا يبلغ جميع ما أمر به لأن الدين وإن كان يسيراً فهو متين لن يشاده أحد إلا غلبه قال تعالى: {ويغفر لكم} أي: يوقع الغفران وهو محو ما فرط عينه وأثره {والله} أي: الذي لا تقاس عظمته بشيء {شكور} أي: بليغ الشكر لمن يعطي لأجله، ولو كان قليلاً فيثيبه ثواباً جزيلاً خارجاً عن الحصر، وهو ناظر إلى المضاعفة {حليم} فلا يعجل بالعقوبة على ذنب من الذنوب، وإن عظم بل يمهل طويلاً ليتذكر العبد الإحسان مع العصيان فيتوب، ولا يهمل ولا يغتر بحلمه فإن غضب الحليم لا يطاق، وهو راجع إلى الغفران.
{عالم الغيب} وهو ما غاب عن الخلق كلهم فيشمل ما هو داخل القلب مما تؤثره الجبلة، ولا علم لصاحب القلب به فضلاً عن غيره {والشهادة} وهو كل ما ظهر وكان بحيث يعلمه الخلق، وهذا الوصف داع إلى الإحسان من حيث إنه موجب للمؤمن ترك ظاهر الإثم وباطنه، وكل قصور وفتور وغفلة وتهاون فيعبد الله تعالى كأنه يراه {العزيز} أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} أي: بالغ الحكمة التي يعجز عن إدراكها الخلائق.
وقال ابن الأنباري: الحكيم: هو المحكم لخلق الأشياء، فصرف عن مفعل إلى فعيل، ومنه قوله تعالى: {الم تلك آيات الكتاب الحكيم} (لقمان: 1 ـ 2)
(12/195)
---(1/4726)
معناه: المحكم فصرف من مفعل إلى فعيل، وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال «من قرأ سورة التغابن رفع عنه موت الفجأة» حديث موضوع.
سورة الطلاق
مدنية وهي إحدى عشرة آية، وقيل: اثنتا عشرة آية، وقيل: ثلاث عشرةآية ومائتان وتسع وأربعون كلمة، وألف وستون حرفاً
{بسم الله} الذي له جميع صفات الكمال {الرحمن} الذي عم برحمته والنوال {الرحيم} الذي خص بتمام النعمة ذوي الهمم العوال
وقرأ: {يا أيها النبي} نافع بالهمزة وسهل الهمزة من إذا وأبدلها أيضاً واواً. خصه صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهاراً لتقدمته واعتباراً لرآسته، وإنه لسان قومه والذي يصدرون عن رأيه، ولا يستبدون بأمر دونه فكان هو وحده في حكم كلهم وساداً مسد جميعهم.
(12/196)
---
وقيل: إنه على إضمار قول، أي يا أيها النبي قل لأمتك {إذا طلقتم النساء} أي: أردتم طلاق هذا النوع واحدة منهن فأكثر. وقيل: إنه خطاب له ولأمته، والتقدير: يا أيها النبي وأمته فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه كقوله: إذا حذفته رجلها، أي: ويدها، وكقوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحر} (النحل: 81)
وقيل: إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خوطب بلفظ الجمع تعظيماً له كقوله:
*فإن شئت أحرمت النساء سواكم ** وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولابرداً*
قال الرازي: وجه تعلق أول هذه السورة بآخر التي قبلها، هو أنه تعالى أشار في آخر التي قبلها إلى كمال علمه بقوله تعالى: {عالم الغيب والشهادة} وفي أول هذه السورة إشارة إلى كمال علمه بمصالح النساء والأحكام المخصوصة بطلاقهن، فكأنه بين ذلك الكلي بهذه الجزئيات.(1/4727)
وروى ابن ماجه عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها، وعن أنس قال: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة فأتت أهلها، فأنزل الله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} وقيل له: راجعها فإنها صوامة قوامة وهي من أزواجك في الجنة، ذكره الماوردي، والقشيري. وزاد القشيري ونزل خروجها إلى أهلها قوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن}.
(12/197)
---
وقال الكلبي: سبب نزول هذه الآية غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفصة لما أسر إليها حديثاً فأظهرته لعائشة، فطلقها تطليقة فنزلت. وقال السدي: نزلت في عبد الله بن عمر «طلق امرأته حائضاً تطليقة واحدة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر فإن شاء أمسكها وإن شاء طلقها قبل أن يجامع فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء». وهو قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} أي: في الوقت الذي يشرعن فيه في العدة، وقد قيل: إن رجالاً فعلوا مثل ما فعل عبد الله بن عمر، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص، وعمر بن سعيد بن العاص، وعتبة بن غزوان فنزلت الآية فيهم. وروى الدراقطني عن ابن عباس أنه قال: «الطلاق على أربعة وجوه: وجهان حلالان، ووجهان حرامان.
فأما الحلال فأن يطلقها طاهراً عن غير جماع، وأن يطلقها حاملاً مستبيناً حملها.
وأما الحرام فأن يطلقها حائضاً، أو أن يطلقها حين يجامعها لا يدري اشتمل الرحم على ولد أم لا».(1/4728)
تنبيه: الطلاق ينقسم إلى سني وبدعي ولا ولا، فطلاق موطوأة ولو في دبر تعتد بإقراء سني إن ابتدأتها الإقراء عقب الطلاق، ولم يطأها في طهر طلقها فيه أو علق طلاقها بمضي بعضه، ولا وطئها في نحو حيض قبله، ولا في حيض طلق مع آخره أو علق بآخره وذلك لاستعقابه الشروع في العدة وعدم الندم فيمن ذكرت، وإلا فبدعي وإن سألته طلاقاً بلا عوض وطلاق غير الموطوأة المذكورة بأن لم توطأ أو كانت صغيرة أو آيسة أو حاملاً منه وخلع زوجته في زمن حيض بعوض لا سني ولا بدعي، والبدعي حرام للنهي عنه.
(12/198)
---
وقسم جماعة الطلاق إلى واجب كطلاق المولى، أي: واجب مخير إن لم يكن عذر، ومعين إن كان عذر شرعي كالإحرام، ومندوب كطلاق غير مستقيمة الحال كسيئة الخلق، ومكروه كمستقيمة الحال، وحرام كطلاق البدعة. وأشار الإمام إلى المباح بطلاق من لا يهواها، ولا تسمح نفسه بمؤنتها من غير تمتع بها، وروى الثعلبي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق» وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الطلاق يهتز منه العرش» وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا معاذ ماخلق الله تعالى شيئاً على وجه الأرض أحب إليه من العتاق، ولا خلق الله تعالى شيئاً أبغض إليه من الطلاق» وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أحل الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق» واختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق، فقالت طائفة بجوازه، وهو مروي عن طاووس، وبه قال حماد الكوفي، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وقال مالك والأوزاعي: لا يجوز الاستثناء في الطلاق والعتق. وقال قتادة: لا يجوز الاستثناء في الطلاق خاصة. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول.(1/4729)
ولما كان نظر الشارع إلى العدة شديداً صرح بصيغة الأمر فقال تعالى: {وأحصوا} أي: اضبطوا ضبطاً كأنه في إتقانه محسوس {العدة} ليعرف زمان الرجعة والنفقة والسكنى، وحل النكاح لأخت المطلقة مثلاً ونحو ذلك من الفوائد الجليلة {واتقوا} أي: في ذلك {الله} أي: الملك الأعظم الذي له الخلق والأمر {ربكم} أي: لإحسانه في تربيتكم في حملكم علي الحنيفية السمحة ورفع جميع الآصار عنكم {لا تخرجوهن} أي: أيها الرجال في حال العدة {من بيتوهن} أي: المسكن التي وقع الفراق فيها، وهي مساكنهن التي يسكنها قبل العدة، وهي بيوت الأزواج، وأضيفت إليهن لاختصاصها بهن من حيث السكنى.
(12/199)
---
وقرأ ورش وأبو عمر وحفص بضم الباء الموحدة، والباقون بكسرها {ولا يخرجن} أي: من بيتوهن حتى تنقضي عدتهن ولو وافق الزوج على ذلك، وعلى الحاكم المنع منه لأن في العدة حقاً لله تعالى، وقد وجبت في ذلك المسكن. وقوله تعالى: {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} مستثنى من الأول، والمعنى إلا أن تبدو على الزوج فإنه كالنشوز في إسقاط حقها.(1/4730)
وقال ابن عباس: الفاحشة المبينة أن تبدو على أهل زوجها فيحل إخراجها لسوء خلقها وقال ابن مسعود: أراد بالفاحشة المبينة أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها، ثم ترد إلى منزلها. وقال قتادة: الفاحشة النشوز، وذلك أن يطلقها على النشوز فتحوّل عن بيته. ويجوز أن يكون مستثنى من الثاني للمبالغة في النهي والدلالة على أن خروجها فاحشة هذا كله عند عدم العذر، أما لعذر كشراء غير من لها نفقة على المفارق نحو طعام كقطن وكتان نهاراً، وغزلها ونحوه كحديثها وتأنيسها عند جارتها ليلاً وترجع وتبيت ببيتها، فإنه جائز للحاجة إلى ذلك، وكخوف على نفس أو مال من نحو هدم وغرق وفسقة مجاورين لها وشدة تأذيها بجيران وشدة تأذيهم بها للحاجة إلى ذلك، بخلاف الأذى اليسير إذ لا يخلو منه أحد ومن الجيران الإحماء وهم أقارب الزوج، نعم إن اشتد أذاها بهم أو عكسه وكانت الدار ضيقة نقلهم الزوج عنها وخرج بالجيران ما لو طلبت بيت أبويها وتأذت بهما أو هما بها فلا نقل، لأن الوحشة لا تطول بينهما، ولو انتقلت لبلد أو مسكن بإذن زوجها فوجبت العدة، ولو قبل وصولها إليه اعتدت فيه لأنها مأمورة بالمقام فيه، فإن انتقلت لذلك بلا إذن فتعتد في الأول وإن وجبت العدة بعد وصولها للثاني لعصيانها بذلك. نعم إن أذن لها بعد انتقالها أن تقيم في الثاني فكما لو انتقلت بالإذن.
(12/200)
---
ولو أذن لها في الانتقال فوجبت العدة قبل خروجها اعتدت في الأول. ولو سافرت بإذن زوجها فوجبت في الطريق فعودها أولى من مضيها، فإن مضت وجب عودها بعد انقضاء حاجتها إن سافرت لها، أو بعد انقضاء مدة الأذن إن قدر لها مدة، أو مدة إقامة المسافر إن لم تقدر لها مدة في سفر غير حاجتها.(1/4731)
ولو خرجت فطلقها وقال: ما أذنت في الخروج، أو قال ـ وقد قالت: أذنت في نقلتي : أذنت لا لنقله، صدق بيمينه، ولو كان المسكن ملكاً له ويليق بها تعين؛ لأن تعتد فيه كما مر ويصح بيعه في عدة أشهر كالمكتري، أو كان مستعاراً، أو مكري وانقضت مدة الكراء انتقلت منه إن امتنع المالك، وإن كان ملكاً لها تخيرت بين الاستمرار فيه بإعارة أو إجارة والانتقال منه كما لو كان المسكن خسيساً، ويخير هو إن كان نفيساً وسكنى المعتدة عن فرقة واجب على الزوج حيث تجب نفقتها عليه لو لم تفارق، سواء أكانت الفرقة بطلاق أو فسخ أو وفاة لقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم} (الطلاق: 6)
وقيس به الفسخ بأنواعه بجامع فرقة النكاح في الحياة، ولخبر فريعة بنت مالك في الوفاة: «أن زوجها قتل فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أن ترجع إلى أهلها، وقالت: إن زوجي لم يتركني في منزل يملكه، فأذن لها في الرجوع، قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد، دعاني فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً» صححه الترمذي وغيره.
وقرأ ابن كثير وأبو بكر بفتح الياء التحتية، والباقون بكسرها {وتلك} أي: الأحكام العالية جداً لما فيها من الجلالة وبانتسابها إلى الملك الأعلى من هذا الذي ذكر في هذه السورة وغيرها {حدود الله} أي: الملك الأعظم {ومن يتعد} أي: يقع منه في وقت من الأوقات أنه تعمد أن يعدو {حدود الله} أي: الملك الذي لا كفء له أو بعضها كأن طلق بدعياً {فقد ظلم نفسه} أي: عرضها للعقاب.
(12/201)
---(1/4732)
وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال عند الظاء، والباقون بالإدغام {لا تدري} أي: نفس، أو أنت أيها النبي، أو المطلق {لعل الله} أي: الذي بيده القلوب ومقاليد جميع الأمور {يحدث} أي: يوجد شيئاً حادثاً لم يكن إيجاداً ثابتاً لا تقدر الخلق على التسبب في زواله {بعد ذلك} أي: الحادث من الإساءة والبغض {أمراً} بأن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها.
وقال أكثر المفسرين: أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة، ومعنى الكلام التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث، وهذا أحسن الطلاق وأحله في السنة وأبعده عن الندم..
ويدل عليه ما روي عن ابراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقوا للسنة إلا واحدة، ثم لا يطلقون غير ذلك حتى تنقضي العدة، وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثاً في ثلاثة أطهار. وقال مالك بن أنس: لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة، وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو مفرقة. وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحدة في طهر واحد، فأما مفرقاً في الأطهار فلا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض: «ما هكذا أمر الله إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً وتطلقها لكل قرء تطليقة» وروي أنه قال لعمر: «مر ابنك فليراجعها ثم ليدعها تحيض، ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء» وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث وقال: لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة، وهو مباح. ومالك يراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت، وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت، والشافعي يراعي الوقت وحده.
(12/202)
---(1/4733)
قال الزمخشري: فإن قلت: هل يقع الطلاق المخالف للسنة؟ قلت: نعم وهو آثم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً بين يديه فقال: أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم» وفي حديث ابن عمر أنه قال: يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثاً فقال له: قال: «إذاً عصيت وبانت منك امرأتك».
وعن عمر رضي الله عنه أنه كان لايؤتى برجل طلق امرأته ثلاثاً إلا أوجعه ضرباً، وأجاز ذلك عليه. وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين أن من خالف السنة في الطلاق فأوقعه في حيض أو ثلاث لم يقع، وشبهوه بمن وكل غيره بطلاق السنة فخالف.
فإن قيل: قوله تعالى: {إذا طلقتم النساء} عام يتناول المدخول بهن وغير المدخول بهن من ذوات الأقراء والآيسات والصغائر والحوامل، فكيف صح تخصيصه بذوات الأقراء المدخول بهن؟.
أجيب: بأنه لا عموم ثم ولا خصوص، ولكن النساء اسم جنس للإناث من الإنس، وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن وفي بعضهن فجاز أن يراد بالنساء هذا وذلك، فلما قيل: {فطلقوهن لعدتهن} علم أنه أطلق على بعضهن وهن المدخول بهن من المعتدات بالحيض.
ولما حدّ سبحانه مايفعل في العدة أتبعه مايفعل عند انقضائها بقوله تعالى: {فإذا بلغن} أي: المطلقات {أجلهن} أي: شارفن انقضاء العدة مشارفة عظيمة {فأمسكوهن} أي: بالمراجعة وهذا يدل على أن الأولى من الطلاق مادون البائن لا سيما الثلاث {بمعروف} أي: حسن عشرة لا لقصد المضارة بطلاق آخر لأجل إيجاد عدة أخرى، أو غير ذلك. {أو فارقوهن} بعدم المراجعة لتتم العدة فتملك نفسها {بمعروف} أي: بإيفاء الحق مع حسن الكلام وكل أمر حسنه الشرع، فلا يقصد أذاها بتفريقها عن ولدها مثلاً، أو عنه إن كانت عاشقة له لقصد الأذى فقط من غير مصلحة، وكذلك ما أشبه ذلك من أنواع الضرر بالفعل والقول فقد تضمنت الآية بإفصاحها الحث على فعل الخيرات وبإفهامها اجتناب المنكرات.
(12/203)
---(1/4734)
تنبيه: قال بعض العلماء في قوله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} وقوله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (البقرة: 229)
إن: الزوج له حق في بدن الزوجة ولها حق في بدنه وذمته فكل من له دين في ذمة غيره سواء أكان مالاً، أو منفعة من ثمن أو مثمن أو أجرة، أو بدل متلف، أو ضمان مغصوب، أو نحو ذلك فعليه أن يؤدي ذلك الحق الواجب بإحسان، وعلى صاحب الحق أن يتبع بإحسان كما قال تعالى في آية القصاص: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} (البقرة: 178)
وكذا الحق الثابت في بدنه مثل حق الاستمتاع والإجارة على عينه ونحو ذلك، فالطالب يطلب بمعروف والمؤدي يؤدي بإحسان.g
ولما كان الإشهاد أقطع للنزاع قال تعالى حاثاً على الكيس واليقظة والبعد عن أفعال المغفلين العجزة: {وأشهدوا} أي: على الرجعة والمفارقة، وقيل: المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعاً {ذوي عدل منكم} قطعاً للنزاع، وهذا الإشهاد مندوب إليه عند الجمهور كقوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} (البقرة: 282)
وأوجب الإشهاد في الرجعة الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، والشافعي كذلك لظاهر الأمر. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الأخر: إن الرجعة لاتفتقر إلى القبول فلم تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق.
وإذا جامع أو قبل أو باشر يريد بذلك الرجعة فليس بمراجع، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قبل أو باشر أو لمس بشهوة فهو رجعة، وكذا النظر إلى الفرج رجعة، وقال الشافعي وأبو ثور: إذا تكلم بالرجعة فهي رجعة، وقيل: وطؤه مراجعة على كل حال نواها أو لم ينوها، وهو مذهب أحمد وإليه ذهب الليث وبعض المالكية. قال القرطبي: وكان مالك يقول: إذا وطىء ولم ينو الرجعة فهو وطء فاسد، ولا يعود إلى وطئها حتى يستبرئها من مائه الفاسد، وله الرجعة في بقية العدة الأولى، وليست له الرجعة في هذا الاستبراء.
(12/204)
---(1/4735)
تنبيه: قوله تعالى: {منكم} قال الحسن: من المسلمين، وعن قتادة: من أحراركم، وذلك يوجد اختصاص الشهادة على الرجعة بالذكور دون الإناث لأن ذوى للمذكر. وقوله تعالى: {وأقيموا} أي: أيها المأمورون حيث كنتم شهوداً {الشهادة} التي تحملتموها بأدائها على أكمل أحوالها {لله} أي: مخلصين لوجه الملك الأعلى لا لأجل المشهود له والمشهود عليه، ولا شيء سوى وجه الله تعالى.
وفيه حث على أداء الشهادة لما فيه من العسر على الشاهد بترك مهماته وعسر لقاء الحاكم الذي يؤدي عنده، وربما بعد مكانه وكان للعدل في الأداء عوائق أيضاً {ذلكم} أي: الذي ذكرت لكم أيتها الأمة من هذه الأمور البديعة النظام العالية المرام، وأولاها بذلك هذا الإشهاد وإقامة الشهادة {يوعظ} أي: يلين ويرقق {به من كان} أي: كوناً راسخاً من جميع الناس{يؤمن بالله} أي: الذي له الكمال كله {واليوم الآخر} فإنه المحط الأعظم للترقيق، وأما من لم يكن متصفاً بذلك فكأنه لقساوة قلبه ماوعظ به لأنه لم ينتفع به.
وقوله تعالى: {ومن يتق الله} أي: يخف الملك الأعظم فيجعل بينه وبين ما يسخطه وقاية بما يرضية، وهو اجتلاب ما أمر به واجتناب ما نهي عنه من الطلاق وغيره، ظاهراً وباطناً لأن التقوى إذا انفردت في القرآن عن مقارن عمت الأمر والنهي، وإن اقترنت بغيرها نحو إحسان أو رضوان خصت المناهي {يجعل} أي: بسبب التقوى {له مخرجاً } جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق بالوعد على اتقائه عما نهى عنه صريحاً أو ضمناً من الطلاق في الحيض والإضرار بالمعتدة وإخراجها من المسكن، وتعدى حدود الله تعالى. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم «سئل عمن طلق ثلاثاً أو ألفاً هل له من مخرج فتلاها» وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والثعلبي والضحاك: هذا في الطلاق خاصة، أي: من طلق كما أمره الله تعالى يكن له مخرج في الرجعة في العدة، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة.
(12/205)
---(1/4736)
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضاً: يجعل له مخرجاً ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة، وقيل: المخرج هو أن يقنعه الله بما رزقه، قاله علي بن صالح. وقال الكلبي: ومن يتق الله بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة، وقال الحسن: مخرجاً مما نهى الله عنه، وقال أبو العالية: مخرجاً من كل شدة، وقال الربيع بن خيثم: مخرجاً من كل شيء ضاق على الناس، وقال الحسين بن الفضل: ومن يتق الله في أداء الفرائض يجعل له مخرجاً من العقوبة.
{ويرزقه} أي: الثواب {من حيث لا يحتسب} أي: يبارك له فيما أتاه، وقال سهل بن عبد الله: ومن يتق الله في اتباع السنة يجعل له مخرجاً من عقوبة البدع، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب، وقال أبو سعيد الخدري: ومن تبرأ من حوله وقوته بالرجوع إلى الله تعالى يجعل له مخرجاً مما كلفه الله بالمعونة له، وتأول ابن مسعود ومسروق الآية على العموم، وهذا هو الذي يقوى عندي.
وقال أبو ذر: «قال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم آيه لو أخذ الناس بها لكفتهم، وتلا: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} قال: مخرجاً من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة».
(12/206)
---(1/4737)
وقال أكثر المفسرين: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابناً له يسمى سالماً فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه الفاقة، وقال: إن العدو أسر ابني وجزعت الأم فما تأمرني؟ فقال صلى الله عليه وسلم «اتقي الله واصبر، وآمرك وإياها أن تكثرا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله فعاد إلى بيته وقال لامرأته: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني وإياك أن نكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فقالت: نعم ما أمرنا به فجعلا يقولان فغفل العدو عن ابنه فساق غنمهم وجاء بها إلى المدينة وهي أربعة آلاف شاة فنزلت الآية، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأغنام له» وروي أنه جاء وقد أصاب إبلاً من العدو، وكان فقيراً. فقال الكلبي: إنه أصاب خمسين بعيراً، وفي رواية فأفلت ابنه من الأسر وركب ناقة لقوم فمر بسرح لهم فاستاقه، وقال مقاتل: أصاب غنماً ومتاعاً، فقال أبوه للنبي صلى الله عليه وسلم أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني قال: نعم ونزل {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} وروى الحسن عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها».
وقال الزجاج: أي: إذا اتقى وآثر الحلال والصبر على أهله فتح الله عليه إن كان ذا ضيقة، ورزقه من حيث لا يحتسب. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب».
(12/207)
---(1/4738)
{ومن يتوكل} أي: يسند أموره كلها معتمداً فيها {على الله} أي: الملك الذي بيده كل شيء ولا كفء له {فهو} أي: الله في غيبه فضلاً عن الشهادة بسبب توكله {حسبه} أي: كافيه ما أهمه، وحذف المتعلق للتعميم، وحرف الاستعلاء للإشارة إلى أنه كان حمل أموره كلها عليه سبحانه، لأنه القوي العزيز الذي يدفع عنه كل ضار ويجلب له كل سار إلى غير ذلك من المعاني الكبار، فلا يبدو له عالم الشهادة شيء يشينه.
وقيل: من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية ولم يرد الدنيا، لأن المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل، وفي الحديث: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً» ويؤخذ من هذا أن التوكل يكون مع مباشرة الأسباب لأنه صلى الله عليه وسلم قال: تغدو وتروح وهي من المقامات العظيمة. قال البقاعي نقلاً عن المولوي: وإلا كان اتكالاً، وليس بمقام بل خسة همة وعدم مروءة؛ لأنه إبطال حكمة الله التي أحكمها في الدنيا من ترتب المسببات على الأسباب. ا. ه.
(12/208)
---(1/4739)
ولما كان ذلك أمراً إلا يكاد يحيط به الوهم بقوله تعالى مهوّلاً له بالتأكيد والإظهار في موضع الإضمار: {إن الله} أي: المحيط بكل كمال المنزه عن كل شائبة نقص {بالغ أمره} أي: جميع ما يريده فلا بد من نفوذه سواء حصل توكل أم لا، قال مسروق: يعني قاضٍ أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه، إلا أن من توكل عليه يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً. وقرأ حفص: بالغ، بغير تنوين وأمره بالجر مضاف إليه على التخفيف، والباقون بالتنوين، وأمره بنصب الراء وضم الهاء. قال ابن عادل: وهو الأصل خلافاً لأبي حيان {قد جعل الله} أي: الملك الذي لا كفء له ولا معقب لحكمه جعلاً مطلقاً من غير تقييد بجهة ولا حيثية {لكل شيء} كرخاء وشدة {قدراً} أي: تقديراً لا يتعداه في مقداره وزمانه وجميع عوارضه وأحواله، وإن اجتهد جميع الخلائق في أن يتعداه. فمن توكل استفاد الأجر، وخفف عنه الألم، وقذف في قلبه السكينة، ومن لم يتوكل لم ينفعه ذلك، وزاد ألمه وطال غمه بشدة وخيبة أسبابه التي يعتقد أنها هي المنجية. فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط جف القلم فلا يزاد في المقادير شيء، ولا ينقص منها شيء.
ويحكى أن رجلاً أتى عمر فقال: أولني مما أولاك الله، فقال: أتقرأ القرآن، قال: لا، قال: إنا لا نولي من لا يقرأ القرآن، فانصرف الرجل واجتهد حتى تعلم القرآن رجاء أن يعود إلى عمر فيوليه فلما تعلم القرآن تخلف عن عمر فرآه ذات يوم فقال: يا هذا أهجرتنا؟ فقال: يا أمير المؤمنين لست ممن يهجر، ولكني تعلمت القرآن فأغناني الله عن عمر وعن باب عمر، قال: فأي آية أغنتك قال: قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} فمن توكل على غيره سبحانه ضاع، لأنه لا يعلم المصالح وإن علم لا يعلم كيف يستعملها، وهو سبحانه المنفرد بعلم ذلك كله ولا يعلمه حق علمه غيره.
(12/209)
---(1/4740)
تنبيه: الآية تفهم أن من لم يتق الله يقتر عليه، وهو موافق لما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الزرق بالذنب يصيبه». وتفهم أن من لم يتوكل لم يكف شيئاً من الأشياء.
وقال عبد الله بن رافع: لما نزل قوله تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنحن إذا توكلنا عليه نرسل ما كان لنا ولا نحفظه، فنزل {إن الله بالغ أمره} فيكم وعليكم. وقال الربيع بن خيثم: إن الله قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له. وتصديق ذلك في كتاب الله {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} (التغابن: 11)
{ومن يتوكل على الله فهو حسبه} {إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم} (التغابن: 17)
{ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم} (آل عمران: 101)
{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} (البقرة: 186).
ولما بين تعالى أمر الطلاق والرجعة في التي تحيض، وكانوا قد عرفوا عدة ذوات الأقراء عرفهم في هذه السورة عدة التي لا ترى الدم. قال أبو عثمان عمر بن سليمان: نزلت عدة النساء في سورة البقرة في المطلقة والمتوفى عنها زوجها، قال أبي بن كعب: يا رسول الله إن ناساً يقولون قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شيء الصغار والكبار وذوات الحمل فنزل:
(12/210)
---
{واللائي يئسن} أي: من المطلقات {من المحيض} أي: الحيض الآية. وقال مقاتل: لما ذكر قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (البقرة: 228)(1/4741)
قال خلاد بن النعمان: يا رسول الله فما عدة التي لم تحض وعدة التي انقطع حيضها وعدة الحبلى فنزلت، وقيل: إن معاذ بن جبل سأل عن عدة الكبيرة التي يئست فنزلت، وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة لا تدري دم حيض هو أو دم علة. واختلف في سن اليأس فالذي عليه الأكثر أنه اثنان وستون سنة، وقيل: خمس وخمسون، وقيل: ستون، وقيل: سبعون.
(12/211)
---
ولما كان هذا الحكم خاصاً بأزواج المسلمين لحرمة فرشهم وحفظ أنسابهم قال تعالى: {من نسائكم} أي: أيها المسلمون سواء كن مسلمات أو من أهل الكتاب {إن ارتبتم} أي: شككتم في عدتهن {فعدتهن ثلاثة أشهر} كل شهر يقوم مقام حيضة لأن أغلب عوائد النساء أن يكون كل قرء في شهر {واللائي لم يحضن} أي: لصغرهن أو لأنهن لا حيض لهن أصلاً، وإن كن بالغات فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاً هذا كله في غير المتوفى عنهن أزواجهن، أما هن فعدتهن ما في آية {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} (البقرة: 234)
وقرأ: {واللائي} في الموضعين ابن عامر والكوفيون بالهمز وياء بعده، وقرأ قالون وقنبل بالهمز ولا ياء بعده، وللبزي وأبي عمرو أيضاً إبدال الهمزة ياء ساكنة مع المد لا غير.(1/4742)
ولما فرغ من ذكر الحوائل أتبعه ذكر الحوامل بقوله تعالى: {وأولات الأحمال} أي: من جميع الزوجات المسلمات والكافرات المطلقات والمتوفى عنهن {أجلهن} أي: لمنتهى العدة سواء كان لهن مع الحمل حيض أم لا {أن يضعن حملهن} وهذا على عمومه مخصص لآية {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} لأن المحافظة على عمومه أولى من المحافظة على عموم ذاك في قوله تعالى: {أزواجاً} لأن عموم هذه بالذات لأن الموصول من صيغ العموم وعموم أزواجاً بالعرض لأنه بدل لا يصلح لجميع الأزواج في حال واحد، والحكم معلل هنا بوصف الحملية بخلاف ذاك، ولأن هذه الآية متأخرة النزول عن آية البقرة فتقديمها على تلك تخصيص، وتقديم تلك في العمل بعمومها رفع لما في الخاص من الحكم فهو نسخ، والأول هو الراجح للوفاق، ولأن سبيعة بنت الحارث وضعت حملها بعد وفاة زوجها بليالٍ فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتزوج.
(12/212)
---
تنبيه: إذا وضعت المرأة ما في بطنها من علقة أو مضغة حلت عند مالك، وقال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة: لا تحل إلا بوضع ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان، فإن كانت حاملاً بتوأمين لم تنقض عدتها حتى تضع الثاني منهما، ولابد أن يكون الحمل منسوباً لذي العدة، أما إذا كان من زنا فلا حرمة له والعدة بالحيض.
ولما كانت أمور النساء في المعاشرة والمفارقة في غاية المشقة كرر بالحث على التقوى إشارة إلى ذلك، وترغيباً في لزوم ما حده سبحانه فقال عاطفاً على ما تقديره فمن لم يحفظ هذه الحدود عسر الله تعالى عليه أموره: {ومن يتق الله} أي: يوجد الخوف من الملك الأعظم إيجاداً مستمراً ليجعل بينهم وبين سخطه وقاية من طاعته، اجتلاباً للمأمور واجتناباً للمنهي.(1/4743)
{يجعل له} أي: يوجد إيجاداً مستمراً باستمرار التقوى، إن الله لا يمل حتى تملوا {من أمره} أي: كله في النكاح وغيره {يسراً} أي: سهولة وفرجاً وخيراً في الدارين بالدفع والنفع، وذلك أعظم من مطلق الخروج المتقدم في الآية الأولى، وقال مقاتل: ومن يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسراً في توفيقه لطاعته.
{ذلك} أي: الأمر المذكور من جميع هذه الأحكام العالية المراتب {أمر الله} أي: الملك الأعلى الذي له الكمال كله {أنزله إليكم} وبينه لكم {ومن يتق الله} أي: الذي لا أمر لأحدٍ معه في أحكامه فيراعي حقوقها {يكفر} أي: يغط تغطية عظيمة {عنه سيئاته} ليتخلى عن المبعدات، فإن الحسنات يذهبن السيئات {ويعظم له أجراً} بأن يبدل سيئاته حسنات، ويوفيه أجرها في الدارين مضاعفة فيتحلى بالقربات، وهذا أعظم من مطلق اليسر المتقدم.
{أسكنوهن} وقال الرازي: أسكنوهن وما بعده بيان لما شرط من التقوى في قوله تعالى: {ومن يتق الله} كأنه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل: أسكنوهن.
(12/213)
---
وقوله تعالى: {من حيث سكنتم} فيه وجهان: أحدهما: أن من للتبعيض، قال الزمخشري: مبعضها محذوف، معناه: أسكنوهن مكاناً من حيث سكنتم، أي: بعض مكان سكناكم كقوله تعالى: {يغضوا من أبصارهم} (النور: 30)
أي: بعض أبصارهم. قال قتادة: إن لم يكن إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه. قال الرازي: وقال الكسائي: من صلة، والمعنى: اسكنوهن حيث سكنتم. والثاني: أنها لابتداء الغاية، قاله الحوفي وأبو البقاء. قال أبو البقاء: والمعنى: تسببوا إلى إسكانهن من الوجه الذي تسكنون أنفسكم، ودل عليه قوله تعالى: {من وجدكم} أي: من وسعكم، أي: ما تطيقونه وفي إعرابه وجهان: أحدهما: أنه عطف بيان لقوله تعالى: {من حيث سكنتم} وإليه ذهب الزمخشري وتبعه البيضاوي. قال ابن عادل: أظهرهما أنه بدل من قوله {من حيث} بتكرار العامل، وإليه ذهب أبو البقاء كأنه قيل: أسكنوهن من وسعكم.(1/4744)
{ولا تضاروهن} أي: حال السكنى في المساكن ولا في غيره {لتضيقوا عليهن} حتى تلجؤهن إلى الخروج {وإن كن} أي: المطلقات {أولات حمل} أي: من الأزواج من طلاق بائن أو رجعي {فأنفقوا عليهن} وإن مضت الأشهر{حتى يضعن حملهن} فيخرجن من العدة، وهذا يدل على اختصاص استحقاق النفقة بالحامل من المعتدات البوائن والأحاديث تؤيده.
(12/214)
---
قال القرطبي: اختلف العلماء في المطلقة ثلاثاً على ثلاثة أقوال: فذهب مالك والشافعي أن لها السكنى ولا نفقة لها، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه أن لها السكنى والنفقة، ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور لا نفقة لها ولا سكنى، لحديث فاطمة بنت قيس قالت: «دخلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي أخو زوجي، فقلت: إن زوجي طلقني وإن هذا يزعم أن ليس لي سكنى ولا نفقة، قال: بل لك السكنى والنفقة، فقال: إن زوجها طلقها ثلاثاً فقال صلى الله عليه وسلم إنما السكنى والنفقة لمن له عليها رجعة» فلما قدمت الكوفة طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك فإن أصحاب عبد الله يقولون: إن لها السكنى والنفقة. وعن الشعبي قال: لقيني الأسود بن يزيد فقال: يا شعبي اتق الله وارجع عن حديث فاطمة بنت قيس، فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة، فقلت: لا أرجع عن شيء. حدثتني فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه لو كان لها سكنى لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم.
وأجيب عن ذلك: بما روت عائشة أنها قالت: كانت فاطمة في مكان وحش فخيف على ناحيتها، وقال سعيد بن المسيب: إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على إحمائها، وقال قتادة وابن أبي ليلى: لا سكن إلا للرجعية لقوله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً} (الطلاق: 1)(1/4745)
وقوله تعالى: {أسكنوهن} راجع لما قبله وهي المطلقة الرجعية {فإن أرضعن لكم} أي: بعد انقضاء علقة النكاح {فآتوهن أجورهن} أي: على ذلك الإرضاع وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم تبن، ويجوز عند الشافعي مطلقاً وقوله تعالى: {وائتمروا} خطاب للأزواج والزوجات، أي: ليأمر بعضكم بعضاً في الإرضاع والأجر فيه وغير ذلك، وليقبل بعضكم أمر بعض.
وقال الكسائي: ائتمروا تشاوروا، وتلا قوله تعالى: {إن الملأ يأتمرون بك} (القصص: 20)
(12/215)
---
وأنشد قول امرىء القيس:
*ويعدو على المرء ما يأتمر
وزادهم رغبة في ذلك بقوله تعالى: {بينكم} أي: إن هذا الخير لا يعدوكم، وأكد ذلك بقوله تعالى: {بمعروف} ونكره سبحانه تخفيفاً على الأمة بالرضى بالمستطاع، وهو يكون مع الأخلاق بالاتصاف، ومع النفس بالخلاف {وإن تعاسرتم} أي: طلب كل منكم ما يعسر على الآخر، كأن طلبت المرأة الأجرة وطلب الزوج إرضاعها مجاناً {فسترضع له} أي: الأب {أخرى} أي: مرضعة غير الأم ويغني الله تعالى عنها، وليس له أن يكرهها على ذلك، نعم إذا لم يقبل ثدي غيرها أو لم يوجد غيرها أجبرت على ذلك بالأجرة، وهذا الحكم لا يختص بالمطلقة بل المنكوحة كذلك.
واختلفوا فيمن يجب عليه رضاع الولد، فقال مالك: رضاع الولد على الزوجة مادامت الزوجية إلا لشرفها وموضعها فعلى الأب رضاعه حينئذٍ في ماله، وقال أبو حنيفة: لا يجب على الأم بحال، وقيل: يجب عليها بكل حال. ولو طلبت الأم أجرة المثل وهناك أجنبية ترضع بدون أجرة المثل، أو متبرعة تخير الأب بينهما ولا يضيق على الأب بدفع الأجرة لأنه صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثماً أو قطيعة رحم. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين بين، والباقون بالفتح.(1/4746)
{لينفق ذو سعة} أي: مال واسع ولم يكلفه تعالى جميع وسعه بل قال تعالى: {من سعته} أي: لينفق الزوج على زوجته وولده الصغير على قدر وسعه إذا كان موسعاً عليه {ومن قدر} أي: ضيق {عليه رزقه} فعلى قدر ذلك فيقدر النفقة بحسب حال المنفق، والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى العادة. قال تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} (البقرة: 233)
(12/216)
---
وقال صلى الله عليه وسلم لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» لكن نفقة الزوجة مقدرة عند الشافعي محدودة فلا اجتهاد للحاكم ولا للمفتي فيها، وتقديرها هو بحسب حال الزوج وحده من يسار وإعسار، ولا اعتبار بحالها فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس، فيلزم الزوج الموسر مدان، والمتوسط مد ونصف، والمعسر مد لظاهر قوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته} فجعل الاعتبار بالزوج في اليسر والعسر، ولأن الاعتبار بحالها يؤدي إلى الخصومة لأن الزوج يدعي أنها تطلب فوق كفايتها وهي تزعم أنها تطلب قدر كفايتها فقدرت قطعاً للخصومة.
وقوله تعالى: {فلينفق} أي: وجوباً على المرضع وغيرها من كل ما أوجبه الله تعالى عليه. {مما آتاه الله} أي: الملك الذي لا ينفد ما عنده، ولو من رأس المال ومتاع البيت {لا يكلف الله} أي: الذي له الملك كله {نفساً} أيّ نفس كانت.
{إلا ما آتاها} أي: أعطاها من المال {سيجعل الله} أي: الملك الذي له الكمال كله فلا خلف لوعده.
{بعد عسر} أي: بعد كل عسر {يسراً} وقد صدق الله وعده فيمن كانوا موجودين بعد نزول الآية ففتح عليهم جميع جزيرة العرب، ثم فارس والروم حتى صاروا أغنى الناس وصدق الآية دائم غير أنه في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ونفعنا بهم آمين لأن إيمانهم أتم. قال القشيري: وانتظار اليسر من الله صفة المتوسطين في الأحوال الذين انحطوا عن درجة الرضا، وارتقوا عن حد اليأس والقنوط، ويعيشون في إفناء الرجال، ويتعللون بحسن المواعيد ا.ه.(1/4747)
ولما ذكر الأحكام والمواعظ والترغيب لمن أطاع حذر من خالف بقوله تعالى:
(12/217)
---
{وكأين} هي كاف الجر دخلت على أيّ بمعنى: كم {من قرية} أي: وكثير من القرى. وقرأ ابن كثير بالألف بعد الكاف وبعد الألف همزة مكسورة وقفاً ووصلاً، وقرأ الباقون في الوصل بهمزة مفتوحة بعد الكاف وبعد الهاء ياء تحتية مكسورة مشددة، وعبر عن أهل القرية بها مبالغة فقال: {عتت} أي: استكبرت وجاوزت الحد في عصيانها وطغيانها فأعرضت عناداً {عن أمر ربها} أي: الذي أحسن إليها ولا يحسن إليها غيره {ورسله} فلم تقبل منهم ما جاؤوا به عن الله تعالى، فإن طاعتهم من طاعته {فحاسبناها} أي: في الآخرة وإن لم تجيء لتحقق وقوعها {حساباً شديداً} أي: بالمناقشة والاستقصاء {وعذبناها عذاباً نكراً} أي: منكراً فظيعاً، وهو عذاب النار، وقيل: العذاب في الدنيا فيكون على حقيقته، أي: جازيناها بالعذاب في الدنيا، وعذبناها عذاباً نكراً في الآخرة، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي: فعذبناها عذاباً نكراً في الدنيا بالجوع والقحط، والسيف، والخسف والمسخ، وسائر المصائب، وحاسبناها حساباً شديداً في الآخرة. وقرأ نافع وابن ذكوان وشعبه بضم الكاف، والباقون بسكونها.
{فذاقت} أي: فتسبب عن ذلك أنها ذاقت {وبال} أي: عقوبة {أمرها} أي: كفرها.
{وكان عاقبة أمرها خسراً} أي: في الدنيا بالأسر وضرب الجزية، وغير ذلك، وفي الآخرة بعذاب النار، فإن من زرع الشوك كما قال القشيري لا يجني الورد، ومن أضاع حق الله تعالى لا يطاع في حظ نفسه، ومن احترف بمخالفة أمر الله تعالى فليصبر على عقوبته.
ثم استأنف الجواب عمن يقول هل لها غير هذا في غير هذه الدار بقوله تعالى:
(12/219)
---(1/4748)
{أعد الله} أي: الملك الأعظم {لهم} بعد الموت وبعد البعث {عذاباً شديداً} وفي ذلك تكرير للوعيد وبيان لما يوجب التقوى المأمور بها {فاتقوا الله} أي: الذي له الأمر كله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {يا أولي الألباب} أي: يا أصحاب العقول الصافية النافذة من الظواهر إلى البواطن، وقوله تعالى: {الذين آمنوا} منصوب بإضمار أعني بياناً للمنادى في قوله تعالى: {يا أولي الألباب} أو يكون عطف بيان للمنادى أو نعتاً له، أي: خلصوا من دائرة الشرك وأوجدوا الإيمان حقيقة {قد أنزل الله} أي: الذي له صفات الكمال {إليكم ذكراً} هو القرآن، وفي نصب.
{رسولاً} أوجه:
أحدها: قال الزجاج والفارسي: إنه منصوب بالمصدر المنون قبله، لأنه ينحل لحرف مصدري وفعل، كأنه قيل: أن ذكر رسولاً، ويكون ذكره الرسول قوله: محمد رسول الله، والمصدر المنون عامل كقوله تعالى {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً} (البلد: 14 ـ 15)
الثاني: جعل نفس الذكر مبالغة فأبدل منه، ويكون محمولاً على المعنى كأنه قال: قد أظهر لكم ذكراً رسولاً، فيكون من باب بدل الشيء من الشيء، وهو هو.
الثالث: أنه بدل منه على حذف مضاف من الأول تقديره: أنزل ذا ذكر رسولاً.
الرابع: أنه بدل منه على حذف مضاف من الثاني أي: ذكراً ذكر رسول.
(12/220)
---(1/4749)
الخامس: أنه منصوب بفعل مقدر، أي: وأرسل رسولاً {يتلو عليكم آيات الله} هي دلائل الملك الأعظم الظاهرة جداً حال كونها {مبينات} أي: لا لبس فيها بوجه. واختلف الناس في رسولاً هل هو النبي صلى الله عليه وسلم أو جبريل؟ الأكثر على الأول واقتصر عليه الجلال المحلي، واقتصر الزمخشري على الثاني، وهو قول الكلبي. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسر الياء بعد الموحدة، والباقون بالفتح {ليخرج الذين أمنوا } أي: أقروا بالشهادتين {وعملوا} تصديقاً لما قالوه بألسنتهم وتحقيقاً لأنه من قلوبهم {الصالحات} أي: ليحصل لهم ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح، أو ليخرج من علم أو قدر أنه مؤمن {من الظلمات} أي: الضلالة {إلى النور} أي: الهدى.
{ومن يؤمن بالله} أي: يجدد في كل وقت على الدوام الإيمان بالملك الأعلى بأن لا يزال في ترق في معارج معارفه {ويعمل} على التجديد المستمر {صالحاً} لله وفي الله فله دوام النعماء، وهو معنى إدخاله الجنة كما قال تعالى: {يدخله} أي: عاجلاً مجازاً بما يفتح الله له من لذات المعارف ويفتح له من الأنس، وآجلاً حقيقة {جنات} أي: بساتين هي في غاية ما يكون من جمع جميع الأشجار وحسن الدار وبين دوام ريها بقوله تعالى: {تجري من تحتها} أي: من تحت غرفها {الأنهار} فهي في غاية الري بحيث أن ساكنها يجري في أي موضع أراد نهراً.
وقرأ نافع وابن عامر ندخله بالنون، والباقون بالياء التحتيه. {خالدين فيها} وأكد معنى الخلود بقوله تعالى: {أبداً} ليفهم الدوام بلا انقضاء. وقوله تعالى: {قد أحسن الله} أي: الملك الأعلى ذو الجلال والإكرام {له} أي: خاصة {رزقاً} أي: عظيماً عجيباً فيه تعجب وتعظم لما رزقوا من الثواب.
(12/221)
---(1/4750)
وقال القشيري: الحسن ما كان على حد الكفاية لا نقصان فيه يتعطل عن أموره بسببه، ولا زيادة تشغله عن الاستمتاع بما رزق لحرصه، كذلك أرزاق القلوب أحسنها أن يكون له من الأحوال ما يستقل بها من غير نقصان ولا زيادة لا يقدر على الاستمرار عليها.
ثم بين كمال قدرته بقوله تعالى: {الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال التي القدرة الشاملة إحداها: {الذي خلق} أي: أوجد وحده من العدم بقدرته على وفق ما دبر بعلمه على هذا المنوال الغريب البديع {سبع سموات} أي: وأنتم تشهدون عظمة ذلك، وتشهدون أنه لا يقدر عليه إلا تام القدرة والعلم الكامل {ومن الأرض مثلهن} أي: سبعاً أما كون السموات سبعاً بعضها فوق بعض فلا خلاف فيه لحديث الإسراء وغيره.
(12/222)
---(1/4751)
وأما الأرضون فقال الجمهور: إنها سبع أرضين طباقاً بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض، وفي كل أرض سكان من خلق الله. وقال الضحاك: إنها سبع أرضين ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات. قال القرطبي: والأول أصح لأن الأخبار دالة عليه كما روى البخاري وغيره روى أبو مروان عن أبيه أن كعباً حلف له بالله الذي فلق البحر لموسى أن صهيباً حدثه «أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر من فيها» وروى مسلم عن سعيد بن زيد قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ظلم قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين» قال البقاعي: رأيت في التعدد حقيقة حديثاً صريحاً لكن لا أدري حاله، ذكره ابن برجان في اسمه تعالى الملك من شرحه الأسماء الحسنى، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما تحت هذه الأرض، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هواء أتدرون ما تحت ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أرض، أتدرون ما تحت ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم حتى عد سبع أرضين» ثم رأيته في الترمذي عن أبي رزين العقيلي ولفظه: «هل تدرون ما الذي تحتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إنها الأرض، ثم قال: أتدرون ما تحت ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إن تحتها أرضاً أخرى خمسمائة سنة حتى عد سبع أرضين، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة» ثم رأيت في الفردوس عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين السماء إلى السماء خمسمائة عام وعرض كل سماء وثخانة كل سماء خمسمائة عام وما بين السماء السابعة وبين الكرسي والعرش مثل ذلك وما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام،(1/4752)
(12/223)
---
والأرضون وعرضهن وثخانتهن مثل ذلك» ا.ه.
قال الماوردي: وعلى أنها سبع أرضين تختص دعوة الإسلام بأهل الأرض العليا، ولا تلزم من في غيرها من الأرضين، وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان: أحدهما أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم، ويستمدون الضياء منها، قال ابن عادل: وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة. الثاني: أنهم لا يشاهدون السماء، وأن الله تعالى خلق لهم ضياء يشاهدونه، قال ابن عادل: وهذا قول من جعل الأرض كروية. وحكى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض تفرق بينها البحار وتظل جميعهم السماء، فعلى هذا إن لم يكن لأحد من أهل الأرض وصول إلى أرض أخرى اختصت دعوة الإسلام بهذه الأرض، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى احتمل أن تلزمهم دعوة الإسلام لإمكان الوصول إليهم، لأن فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه، واحتمل أن لا تلزمهم دعوة الإسلام لأنها لو لزمتهم لكان النص بها وارداً ولكان النبي صلى الله عليه وسلم بها مأموراً.
وقال بعض العلماء: السماء في اللغة عبارة عما علاك، فالأولى بالنسبة إلى السماء الثانية أرض، وكذلك السماء الثانية بالنسبة إلى الثالثة أرض، وكذا البقية بالنسبة إلى ما تحته سماء، وبالنسبة إلى ما فوقه أرض. فعلى هذا تكون السموات السبع وهذه الأرض الواحدة سبع سموات وسبع أرضين {يتنزل} أي: بالتدريج {الأمر} قال مقاتل وغيره: أي: الوحي، وعلى هذا يكون قوله تعالى: {بينهن} إشارة إلى ما بين هذه الأرض العليا التي هي أولاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها، والأكثرون على أن الأمر هو القضاء والقدر فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى {بينهن} إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها، فيجري أمر الله وقضاؤه بينهن، وينفذ حكمه فيهن.(1/4753)
(12/224)
---
وعن قتادة: في كل أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه. وقيل: هو ما يدبر فيهن من عجائب تدبيره. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن نافع بن الأزرق سأله هل تحت الأرض من خلق؟ قال: نعم قال: فما الخلق؟ قال: إما ملائكة أو جن. وقال مجاهد: يتنزل الأمر من السموات السبع إلى الأرضين السبع، وقال الحسن: بين كل سماءين أرض وأمر، وقيل: يتنزل الأمر بينهن بحياة بعض، وموت بعض، وغنى قوم، وفقر قوم. وقيل: ما يدبر فيهن من عجيب تدبيره فينزل المطر ويخرج النبات، ويأتي الليل والنهار، والصيف والشتاء، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيآتها، فينقلهم من حال إلى حال.
قال ابن كيسان: وهذا على اتساع اللغة كما يقال للموت: أمر الله، وللريح والسحاب ونحوها. وقوله تعالى: {لتعلموا} متعلق بمحذوف، أي: أعلمكم بذلك الخلق والإنزال لتعلموا {أن الله} أي: الملك الأعلى الذي له الإحاطة كلها {على كل شيء} أي: من غير هذا العالم يمكن أن يدخل تحت المشيئة {قدير} بالغ القدرة فيأتي بعالم آخر مثل هذا العالم وأبدع منه وأبدع من ذلك إلى مالا نهاية له بالاستدلال بهذا العالم، فإن من قدر على إيجاد ذرة من العدم قدر على إيجاد ما هو دونها ومثلها وفوقها إلى ما لا نهاية له، لأنه لا فرق في ذلك بين قليل وكثير، وجليل وحقير {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} (الملك: 3)
(12/225)
---(1/4754)
قال البقاعي: وإياك أن تصغي إلى من قال: إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان فإنه مذهب فلسفي خبيث، والآية نص في إبطاله، وإن نسبه بعض الملحدين إلى الغزالي، فإني لا أشك أنه مدسوس عليه، وإن مذهبه فلسفي خبيث بشهادة الغزالي كما بينت ذلك في كتابي «دلائل البرهان» على أن في الإمكان أبدع مما كان قال: ومع كونه مذهب الفلاسفة أخذه أكفر المارقين ابن عربي وأودعه في فصوصه، وغير ذلك من كتبه، وأسند في بعضها للغزالي والغزالي بريء منه بشهادة ما وجد من عقائده في الإحياء وغيره انتهى. والبقاعي ممن يقول بكفر ابن عربي، وابن المقري يقول بكفره وكفر طائفته، وقد تقدم الكلام على كلامهم {وأن الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال.
{قد أحاط} لتمام قدرته {بكل شيء} مطلقاً {علماً} فله الخبرة التامة بما يأمر به من الأحكام في العالم بمصالحة ومفاسده، فلا يخرج شيء عن علمه وقدرته فعاملوه معاملة من يعلم أنه رقيب عليه تسلموا في الدنيا وتسعدوا في الآخرة.
تنبيه: علماً منصوب على المصدر المؤكد، لأن أحاط بمعنى علم، وقيل: بمعنى والله أحاط إحاطة علماً. وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الطلاق مات على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث موضوع.
(12/226)
---
سورة التحريم
مكية
وهي اثنتا عشرة آية، ومائتان وأربعون كلمة وألف وستون حرفاً
{بسم الله} الذي له الكمال كله على الدوام {الرحمن} الذي عم عباده بعظيم الإنعام {الرحيم} الذي أتم على خواصه نعمة الإسلام.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى:
(13/1)
---(1/4755)
{يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله} أي الذي لا أمر لأحد معه {لك} فقالت عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند زينب بنت جحش، فشرب عندها عسلاً، قالت: فتواطيت أنا وحفصة أنّ آيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، فدخل على إحداهما فقالت له: ذلك، فقال بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له فنزل {لم تحرم ما أحل الله لك} إلى قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله} لعائشة وحفصة» وعنها أيضاً قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل، فكان إذا صلى العصر دار على نسائه فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالن له فذكرت ذلك لسودة، وقلت لها: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له: يا رسول الله أكلت مغافير، فإنه سيقول لك: لا، فقولي: ما هذه الريح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: جرست نحله العرفط، وسأقول ذلك له وقولي أنت يا صفية ذلك. فلما دخل على سودة قالت سودة: والله الذي لا إله غيره لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت وإنه لعلى الباب فرقاً منك، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت له: يا رسول الله أكلت مغافير، قال: لا، قلت: فما هذه الريح؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل، قالت: جرست نحله العرفط. فلما دخل علي قلت له: مثل ذلك، ثم دخل على صفية فقالت مثل ذلك، فلما دخل على حفصة قالت: يا رسول الله ألا أسقيك منه، قال: لا حاجة لي به، قالت: تقول سودة سبحان الله لقد حرمناه منه، قالت: فقلت لها: اسكتي.
(13/2)
---(1/4756)
ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها النبي صلى الله عليه وسلم حفصة، وفي الأولى زينب. وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه شربه عند سودة، وقيل: إنما هي أم سلمة رواه أسباط عن السدي، وقاله عطاء بن أبي مسلم.
تنبيه: شرح غريب ألفاظ الحديثين وما يتعلق بهما قولها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى بالمد والقصر قاله في «المصباح»، وهو على كل شيء يحلو، وذكر العسل بعدها وإن كان داخلاً في جملة الحلوى تنبيهاً على شرفه ومرتبته، وهو من باب الخاص بعد العام. وقولها: فتواطيت أنا وحفصة هكذا وقع في الرواية، وأصله: فتوطأت بالهمز، أي: اتفقت أنا وحفصة. وقولها: إني لأجد منك ريح مغافير، هو بغين معجمة وفاء بعدها ياء وراء، وهو صمغ حلو كالناطف وله ريح كريهة ينضحه شجر يقال له: العرفط بضم العين المهملة والفاء يكون بالحجاز، وقيل: العرفط نبات له ورق يفرش على الارض له شوك وثمره خبيث الرائحة.
وقال أهل اللغة: العرفط من شجر العضاه، وهو كل شجر له شوك. وقيل رائحته كرائحة النبيذ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منة رائحة كريهة.
قولها: جرست نحله العرفط بالجيم والراء وبالسين المهملتين، ومعناه: أكلت نحله العرفط فصار منه العسل.
(13/3)
---(1/4757)
قال القاضي عياض: والصواب أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش، ذكره النووي في شرح مسلم، وكذا ذكره أيضاً القرطبي. وقال أكثر المفسرين في سبب نزول ذلك: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أبيها فأذن لها، فلما خرجت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها فلما رجعت حفصة وجدت الباب مغلقاً فجلست عند الباب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقاً وحفصة تبكي، فقال صلى الله عليه وسلم ما يبكيك؟ فقالت: إنما أذنت لي من أجل ذلك أدخلت أمتك بيتي ثم وقعت عليها في يومي على فراشي، أما رأيت لي حرمة وحقاً، ما كنت تصنع هذا بإمرأة منهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس هي جاريتي قد أحلها الله لي فهي حرام علي ألتمس بذلك رضاك فلا تخبري بهذا امرأة منهن، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت: ألا أبشرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم عليه أمته مارية، وأن الله قد أراحنا منها، وأخبرت عائشة بما رأت وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضبت عائشة، فلم يزل نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها».
وعن أنس بن مالك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له أمة يطؤها، فلم تزل عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله تعالى {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} الآية» أخرجه النسائي.
فإن قيل: قوله تعالى: {لم تحرم ما أحل الله لك} يوهم أن الخطاب بطريق العتاب، وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم ينافي ذلك لما فيه من التشريف والتعظيم؟.
أجيب: بأنه ليس بطريق العتاب بل بطريق التنبيه على أن ما صدر منه لم يكن على ما ينبغي.
(13/4)
---(1/4758)
فإن قيل: تحريم ما أحل الله غير ممكن، فكيف قال {لما تحرم ما أحل الله لك}؟ أجيب: بأن المراد بهذا التحريم هو الامتناع عن الانتفاع بالأزواج لا اعتقاد كونه حراماً بعدما أحله الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم امتنع من الانتفاع بها مع اعتقاد كونها حلالاً، فإن من اعتقد أن هذا التحريم هو تحريم ما أحل الله فقد كفر، فكيف يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم {تبتغي} أي: تريد إرادة عظيمة من مكارم أخلاقك وحسن صحبتك {مرضاة أزواجك } أي: الأحوال والأمور والمواضع التي يرضين بها، وهن أولى بأن يبتغين رضاك، وكذا جميع الخلق لتتفرغ لما يوحى إليك من ربك لكن ذلك للزوجات آكد {والله} أي: الملك الأعلى {غفور رحيم} أي: محاء ستور لما يشق على خلص عباده مكرم لهم، فقد غفر لك هذا التحريم.
ثم علل وبين ذلك بقوله تعالى: {قد فرض الله} أي: قدر ذو الجلال والإكرام الذي لا شريك له ولا أمر لأحد معه، وعبر بالفرض حثاً على قبول الرخصة إشارة إلى أن ذلك لا يقدح في الورع، ولا يخل بحرمة اسم الله تعالى لأن أهل الهمم العوالي لا يجوزون النقلة من عزيمة إلى رخصة، بل من رخصة إلى عزيمة أو عزيمة إلى مثلها.
ولما كان التخفيف على أمته تعظيماً له صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {لكم} أيتها الأمة التي أنت رأسها {تحلة} أي: تحليل {أيمانكم} بالكفارة المذكورة في سورة المائدة، وقيل: قد شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك: حلل فلان في يمينه إذا استثنى بمعنى استثن في يمينك إذا أطلقتها بأن تقول: إن شاء الله متصلاً بحلفك، وتنويه قبل الفراغ منه.
واختلف أهل العلم في لفظ التحريم، فقال قوم: هو ليس بيمين، فإن قال لزوجته: أنت حرام أو حرّمتك فإن نوى به طلاقاً فهو طلاق، وإن نوى به ظهاراً فهو ظهار، وإن نوى تحريم ذاتها وأطلق فعليه كفارة يمين وإن قال لطعام: حرمته على نفسي فلا شيء عليه، وهذا قول ابن مسعود رضي الله عنه، وإليه ذهب الشافعي.
(13/5)
---(1/4759)
وروى الدارقطني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي علي حراماً، فقال: كذبت ليست عليك بحرام وتلا عليه هذه الآية. وذهب جماعة إلى أنه يمين فإن قال ذلك لزوجته أو جاريته فلا تجب الكفارة ما لم يقربها، كما لو حلف لا يأكله فلا كفارة عليه ما لم يأكله، يروى ذلك عن أبي بكر وعائشة، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة.
وعند أبي حنيفة إن نوى الطلاق بالحرام كان بائناً، وإن قال: كل حلال عليه حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وإلا فعلى ما نوى، نقله الزمخشري. وعن عمر: إذا نوى الطلاق فرجعي، وعن علي: ثلاث، وعن زيد واحدة بائنة.
وعن ابن عباس رصي الله عنهما قال: إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها، وقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. قال مقاتل: فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة رقبة. قال زيد بن أسلم: وعاد إلى مارية، وقال الحسن: لم يكفر عليه السلام لأنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكفارة اليمين في هذه السورة إنما أمر بها الأمة. قال ابن عادل: والأول أصح، وأن المراد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ثم الأمة تقتدي به في ذلك {والله} أي: والحال أن المختص بأوصاف الكمال {مولاكم} أي: يفعل معكم فعل القريب الصديق فهو سيدكم ومتولي أموركم {وهو}أي: وحده {العليم} أي: البالغ العلم بمصالحكم وغيرها إلى ما لا نهاية له. {الحكيم} أي: الذي يضع كل ما يصدر عنه لكم في أتقن محاله بحيث لا يقدر غيره أن يغيره ولا شيئاً منه.
(13/6)
---(1/4760)
والعامل في قوله تعالى: {وإذ} اذكر فهو مفعول به لا ظرف، والمعنى اذكر إذ {أسرّ النبي} أي: الذي شأنه أن يرفعه الله تعالى دائماً فإنه ما ينطق عن الهوى {إلى بعض أزواجه} وأبهمها لم يعينها تشريفاً له صلى الله عليه وسلم ولها وهي حفصة صيانة لهن لأن حرمتهن من حرمته صلى الله عليه وسلم {حديثاً} ليس هو من شأن الرسالة ولو كان من شأنها لعم به ولم يخص به، ولا أسره وذلك هو تحريمه فتاته على نفسه، وقوله لحفصة: لا تخبري بذلك أحداً، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: أسرّ أمر الخلافة بعده فحدثت حفصة، وقال الكلبي: أسرّ إليها إن أباك وأب عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي، وقال ميمون بن مهران: أسر أن أبا بكر خليفتي من بعدي {فلما نبأت} أي: أخبرت {به} عائشة ظناً منها أنه لا حرج عليها في ذلك {وأظهره الله} أي: أطلعه الملك الذي له الإحاطة بكل شيء {عليه} أي: الحديث على لسان جبريل عليه السلام بأنه قد أفشى مناصحة له في إعلامه بما يقع في غيبته ليحذره إن كان شراً ويثبت عليه إن كان خيراً وقيل: أظهر الله الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم من الظهور {عرف} أي: النبي صلى الله عليه وسلم التي أسرّ إليها {بعضه} أي: بعض ما فعلت {وأعرض عن بعض} أي: إعلام بعض تكرماً منه أن يستقصي في العبارات وحياء وحسن عشرة، قال الحسن: ما استقصى كريم قط، وقال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام، وإنما عاتبها على ذكر الإمامة وأعرض عن ذكر الخلافة خوفاً من أن ينتشر في الناس، فربما أثار حسد بعض المنافقين وأورث الحسود للصديق كيداً.
(13/7)
---(1/4761)
وقال بعض المفسرين: إنه أسر إلى حفصة شيئاً فحدثت به غيرها فطلقها مجازاة على بعضه، ولم يؤاخذها بالباقي وهو من قبيل قوله تعالى: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله} (البقرة: 197) أي: يجازيكم عليه، وقيل: المعرّف حديث الإمامة، والمعرض عنه حديث مارية. وروي «أنه قال لها: ويلك ألم أقل لك أكتمي علي، قالت: والذي بعثك بالحق نبياً ما ملكت نفسي فرحاً بالكرامة التي خص الله تعالى بها أباها» {فلما نبأها به} أي: بما فعلت على وجه لم يغادر من ذلك الذي عرفها به شيئاً منه، ولا من عوارضه لتزداد بصيرة.
روي أنها قالت لعائشة سراً فأنا أعلم أنها لا تظهره، قاله الملوي، وهو معنى قوله تعالى: {قالت} أي: ظناً منها أن عائشة أفشت عليها {من أنبأك هذا} أي: من أخبرك أني أفشيت السر {قال نبأني} وحذف المتعلق اختصاراً للفظ وتكسيراً للمعنى بالتعميم إشارة أنه أخبره بجميع ما دار بينها وبين عائشة على أتم ما كان. {العليم} أي: المحيط العلم {الخبير} أي: المطلع على الضمائر والظواهر، فهو أولى أن يحذر فلا يتكلم سراً أو جهراً إلا بما يرضيه.
وقوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله} أي: الملك الأعظم شرط، وفي جوابه وجهان: أحدهما: قوله تعالى: {فقد صغت قلوبكما} والمعنى: إن تتوبا فقد وجد منكما ما يوجب التوبة، وهو ميل قلوبكما عن الواجب في مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حب ما يحب وكراهة ما يكره. وصغت: مالت وزاغت عن الحق، قال القرطبي: وليس قوله: {فقد صغت قلوبكما} جواب الشرط لأن هذا الصغو كان سابقاً فجزاء الشرط محذوف للعلم به أي: إن تتوبا كان خيراً لكما إذ قد صفت قلوبكما. الثاني: أن الجواب محذوف تقديره: فذلك واجب عليكما، أو فتاب الله عليكما، قاله أبو البقاء. ودل على المحذوف {فقد صغت} لأن إصغاء القلب إلى ذلك ذنب. قال بعضهم: وكأنه زعم أن ميل القلب ذنب، وكيف يحسن أن يكون جواباً وقد غفل عن المعنى المصحح لكونه جواباً.
(13/8)
---(1/4762)
تنبيه: قوله تعالى: {قلوبكما} من أفصح الكلام حيث أوقع الجمع موقع المثنى استثقالاً لمجيء تثنيتين لو قيل: قلباكما، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين من اثنين جمعوهما لأنه لا يشكل، والأحسن في هذا الباب الجمع ثم الإفراد ثم التثنية كقوله:
*فتخالسا نفسيهما بتواقد ال ** غيظ الذي من شأنه لم يرفع*
وقال ابن عصفور: لا يجوز الإفراد إلا في ضرورة، كقوله:
*حمامة بطن الواديين ترنمي ** سقاك من الغر الغوادى مطيرها*
وتبعه أبو حيان، وغلط ابن مالك في كونه جعله أحسن من التثنية. قال ابن عادل: وليس بغلط لكراهة توالي تثنيتين مع أمن اللبس، وقوله تعالى {إن تتوبا} فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، والمراد بهذا الخطاب إما المؤمنتان بنتا الشيخين الكريمين عائشة وحفصة حثهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهما كرها ما أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إحباب جاريته وإحباب العسل، وكان صلى الله عليه وسلم يحب العسل والنساء.
وقال ابن زيد: مالت قلوبكما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده، فسرهما ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: قد مالت قلوبكما إلى التوبة.
روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجاً فخرجت معه، فلما رجع وكان ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له فوقفت حتى فرغ، ثم سرت معه بإداوة ثم جاء فسكبت على يديه منها فتوضأ، فلما رجع قلت: يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تلك حفصة وعائشة، قال: فقلت له: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذه منذ سنة فما أستطيع هيبة لك. قال: فلا تفعل ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه فإن كنت أعلمه أخبرتك»، وفي رواية قال: وا عجباً لك يا ابن عباس.
(13/9)
---(1/4763)
قال الزهري: كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه، قال: هما عائشة وحفصة، ثم أخذ يسوق الحديث، قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار وكان منزلي في بني أمية وهم من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم فينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك. وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فصحت على امرأتي فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني قالت: لم تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت لها: أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل، قالت: نعم، فقلت: قد خبت وخسرت أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئاً، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عائشة رضي الله عنها قال عمر: كنا قد تحدثنا أن غسان تنعل الخيل لتغزونا فنزل الأنصاري يوماً نوبته ثم أتاني عشاء فضرب بابي ضرباً شديداً، ففزعت فخرجت إليه فقال: قد حدث اليوم أمر عظيم، قلت: ما هو أجاء غسان؟ قال: لا بل أعظم من ذلك وأهول، طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، فقلت: خابت حفصة وخسرت قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت: أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: لا أدري ها هو ذا معتزل في المشربة فأتيت غلاماً له أسود فقلت: أستأذن لعمر فدخل ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فصمت، ثم انطلقت حتى أتيت المنبر فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست قليلاً ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام، فقلت: أستأذن لعمر فدخل ثم خرج فقال: ذكرتك له فصمت فوليت(1/4764)
(13/10)
---
مدبراً فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل فقد أذن لك فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير وليس بينه وبينه فراش قد أثر الرمال بجنبه متكئاً على وسادة من أدم حشوها ليف، ثم قلت وأنا قائم: يا رسول الله أطلقت نساءك فرفع إلي بصره، وقال: لا، فقلت: الله أكبر قلت وأنا قائم لو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قلت: يا رسول الله لو رأيتني دخلت على حفصة فقلت لها: لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عائشة، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى فجلست حين رأيته تبسم فرفعت بصري في بيته فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاثة، فقلت: يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارساً والروم قد وسع عليهم وأعطوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً، وقال: «أوفي هذا أنت يا ابن الخطاب، إن أولئك قوم عجلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا» فقلت: يا رسول الله استغفر الله لي فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة تسعاً وعشرين ليلة، وكان قال: «ما أنا بداخل عليهن شهراً» من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله تعالى، فلما مضت تسع وعشرون ليلة دخل على عائشة فبدأ بها فقالت له عائشة: يا رسول الله إنك كنت أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً وإنما أصبحت من تسع وعشرين ليلة أعدها عداً، فقال: الشهر تسع وعشرون وكان ذلك الشهر تسع وعشرون ليلة قالت عائشة: ثم أنزل الله التخيير فبدأ بي أول امرأة من نسائه فاخترته، ثم خيرهن فقلن مثلها، وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه، قالت: فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني ذاكر لك أمراً فلا عليك(1/4765)
أن لا تستعجلي
(13/11)
---
حتى تستأمري أبويك، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: إن الله تعالى قال: {يا أيها النبي قل لأزواجك} (الأحزاب: 28) إلى تمام الآيتين فقلت: أوفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة» وفي رواية أن عائشة قالت له: لا تخبر نساءك أني اخترتك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله أرسلني مبلغاً» وفي رواية قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله ما يشق عليك من أمر النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن الله يصدق قولي الذي أقول، ونزلت هذه الآية {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن} (التحريم: 5)
{
وإن تظاهرا عليه} (التحريم: 4)
» الآية. وفي رواية «أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أنه لم يطلق نساءه فأذن له، وإنه قام على باب المسجد ونادى بأعلى صوته لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه».
شرح بعض ألفاظ هذا الحديث:
قوله: فعدلت معه أي: فملت معه، بالأداوة أي: الركوة، والعوالي جمع عالية، وهي أماكن بأعلى أرض المدينة. وقوله: لا يغرنك إن كانت جارتك يريد بها الضرة وهي عائشة، وأوسم منك أي: أكثر حسناً، وقوله: فكنا نتناوب النزول: التناوب هو ما يفعله الإنسان مرة، ويفعله آخر بعده، والمشربة بضم الراء وفتحها الغرفة. وقوله: فإذا هو متكئ على رمال حصير: يقال: رملت الحصير إذا ظفرته ونسجته، والمراد أنه لم يكن على السرير وطاء سوى الحصير. وقوله: ما رأيت فيه مايرد البصر إلا أهبة ثلاث: الأهبة والأهب جمع إهاب، وهو الجلد. وقوله: من شدة موجدته: الموجدة الغضب.
(13/12)
---(1/4766)
وقرأ: {وإن تظاهرا} الكوفيون بتخفيف الظاء، والباقون بتشديدها أي: تتعاونا {عليه} أي: النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكرهه {فإن الله} الملك الأعظم الذي لا كفء له، وقوله تعالى: {هو} يجوز أن يكون فصلاً، وقوله: {مولاه} الخبر، وأن يكون مبتدأ ومولاه خبره، والجملة خبر إن، والمعنى فإن الله وليه وناصره فلا يضره ذلك التظاهر منهما.Y
وقوله تعالى: {وجبريل وصالح المؤمنين} معطوف على محل اسم إن فيكونون ناصريه، ويجوز أن يكون جبريل مبتدأ و ما بعده عطف عليه وظهير خبر الجميع فتختص الولاية بالله.
واختلف في صالح المؤمنين، فقال عكرمة: هو أبو بكر وعمر، وقال المسيب بن شريك: هو أبو بكر. وقال سعيد بن جبير: هو عمر، وعن أسماء بنت عميس: هو علي بن أبي طالب. وقال الطبري: هو خيار المؤمنين. وصالح اسم جنس كقوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر} (العصر: 2) وقال قتادة: هم الأنبياء. وقال ابن زيد: هم الملائكة. وقال السدي: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والأولى أن يشمل هذه الأقوال كلها {والملائكة} أي: كلهم {بعد ذلك} أي: الأمر العظيم الذي تقدم ذكره {ظهير} أي: ظهراء أعوان له في نصره عليكما.
تنبيه: أخبر عن الجمع باسم الجنس إشارة إلى أنهم على كلمة واحدة، ومنهم جبريل عليه السلام فهو مذكور خصوصاً وعموماً ثلاث مرات على القول بأن صالح المؤمنين هم الملائكة إن قلنا بالعموم، وذلك إظهار لشدة محبته وموالاته للنبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأية عكس آية البقرة، وهي قوله تعالى: {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة: 98) فإنه ذكر الخاص بعد العام تشريفاً له، وهنا ذكر العام بعد الخاص. قال ابن عادل: ولم يذكر الناس إلا القسم الأول، وفي جبريل لغات تقدم ذكرها في البقرة.
ولما كان أشد ما على المرأة أن تطلق، ثم إذا طلقت أن يستبدل بها، ثم يكون البدل خيراً منها قال تعالى محذراً لهن:
وإن تظاهرا عليه} (التحريم: 4)
(13/13)
---(1/4767)
» الآية. وفي رواية «أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أنه لم يطلق نساءه فأذن له، وإنه قام على باب المسجد ونادى بأعلى صوته لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه».
شرح بعض ألفاظ هذا الحديث:
قوله: فعدلت معه أي: فملت معه، بالأداوة أي: الركوة، والعوالي جمع عالية، وهي أماكن بأعلى أرض المدينة. وقوله: لا يغرنك إن كانت جارتك يريد بها الضرة وهي عائشة، وأوسم منك أي: أكثر حسناً، وقوله: فكنا نتناوب النزول: التناوب هو ما يفعله الإنسان مرة، ويفعله آخر بعده، والمشربة بضم الراء وفتحها الغرفة. وقوله: فإذا هو متكئ على رمال حصير: يقال: رملت الحصير إذا ظفرته ونسجته، والمراد أنه لم يكن على السرير وطاء سوى الحصير. وقوله: ما رأيت فيه مايرد البصر إلا أهبة ثلاث: الأهبة والأهب جمع إهاب، وهو الجلد. وقوله: من شدة موجدته: الموجدة الغضب.
وقرأ: {وإن تظاهرا} الكوفيون بتخفيف الظاء، والباقون بتشديدها أي: تتعاونا {عليه} أي: النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكرهه {فإن الله} الملك الأعظم الذي لا كفء له، وقوله تعالى: {هو} يجوز أن يكون فصلاً، وقوله: {مولاه} الخبر، وأن يكون مبتدأ ومولاه خبره، والجملة خبر إن، والمعنى فإن الله وليه وناصره فلا يضره ذلك التظاهر منهما.Y
وقوله تعالى: {وجبريل وصالح المؤمنين} معطوف على محل اسم إن فيكونون ناصريه، ويجوز أن يكون جبريل مبتدأ و ما بعده عطف عليه وظهير خبر الجميع فتختص الولاية بالله.
(13/14)
---(1/4768)
واختلف في صالح المؤمنين، فقال عكرمة: هو أبو بكر وعمر، وقال المسيب بن شريك: هو أبو بكر. وقال سعيد بن جبير: هو عمر، وعن أسماء بنت عميس: هو علي بن أبي طالب. وقال الطبري: هو خيار المؤمنين. وصالح اسم جنس كقوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر} (العصر: 2) وقال قتادة: هم الأنبياء. وقال ابن زيد: هم الملائكة. وقال السدي: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والأولى أن يشمل هذه الأقوال كلها {والملائكة} أي: كلهم {بعد ذلك} أي: الأمر العظيم الذي تقدم ذكره {ظهير} أي: ظهراء أعوان له في نصره عليكما.
تنبيه: أخبر عن الجمع باسم الجنس إشارة إلى أنهم على كلمة واحدة، ومنهم جبريل عليه السلام فهو مذكور خصوصاً وعموماً ثلاث مرات على القول بأن صالح المؤمنين هم الملائكة إن قلنا بالعموم، وذلك إظهار لشدة محبته وموالاته للنبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأية عكس آية البقرة، وهي قوله تعالى: {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة: 98) فإنه ذكر الخاص بعد العام تشريفاً له، وهنا ذكر العام بعد الخاص. قال ابن عادل: ولم يذكر الناس إلا القسم الأول، وفي جبريل لغات تقدم ذكرها في البقرة.
ولما كان أشد ما على المرأة أن تطلق، ثم إذا طلقت أن يستبدل بها، ثم يكون البدل خيراً منها قال تعالى محذراً لهن:
(13/15)
---
{عسى ربه} أي: المحسن إليه بجميع أنواع الإحسان التي عرفتموها، وما لم تعرفوه منها أكثر جدير وحقيق ووسط بين عسى وخبرها اهتماماً وتخويفاً قوله تعالى: {إن طلقكن} أي: بنفسه من غير اعتراض عليه جميعكن أو بعضكن.(1/4769)
قيل: كل عسى في القرآن واجب إلا هذه الآية، وقيل: هو واجب ولكن الله تعالى علقه بشرط، وهو التطليق ولم يطلقهن فإن طلقكن شرط معترض بين اسم عسى وخبرها وجوابه محذوف أو متقدم أي: إن طلقكن فعسى ربه وقوله تعالى {أن يبدله} أي: بمجرد طلاقه. وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء وتشديد الدال، والباقون بسكون الموحدة وتخفيف الدال. {أزواجاً خيراً منكن} خبر عسى، والجملة جواب الشرط ولم يقع التبدل لعدم وجود الشرط.
فإن قيل: كيف تكون المبدلات خيراً منهن ولم يكن على وجه الأرض نساء خيراً منهن لأنهن أمهات المؤمنين؟ أجيب: بأنه إذا طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعصيانهن وإيذائهن إياه كان غيرهن من الموصوف بالصفات الآتية مع الطاعة له صلى الله عليه وسلم خيراً، أو أن هذه على سبيل الفرض وهو عام في الدنيا والآخرة، فلا يقتضي وجود من هو خير منهن مطلقاً.
(13/16)
---
وإن قيل: بوجوده في خديجة لما جرب من تحاملها على نفسها في حقه صلى الله عليه وسلم وبلوغها في حبه والأدب معه ظاهراً وباطناً الغاية القصوى، ومريم أحسنت حين كانت من القانتين فذلك في الآخرة، وتعليق تطليق الكل لا يدل على أنه لم يطلق حفصة. فقد روي أنه طلقها ولم يزدها ذلك إلا فضلاً لأن الله تعالى أمره أن يراجعها، لأنها صوامة قوامة.(1/4770)
ثم بين تعالى الخيرية بقوله تعالى: {مسلمات} إلى أخره، وهو إما نعت، أو حال، أو منصوب على الاختصاص. قال سعيد بن جبير: مسلمات يعني مخلصات، وقيل: مسلمات لأمر الله عز وجل وأمر رسول الله خاضعات لله تعالى بالطاعات {مؤمنات} أي: مصدقات بتوحيد الله تعالى، وقيل: مصدقات بما أمرن به ونهين عنه، وقيل: مسلمات مقرات بالإسلام مؤمنات مخلصات {قانتات} أي: مطيعات والقنوت الطاعة، وقيل: داعيات {تائبات} أي: راجعات من الهفوات والزلات سريعاً إن وقع منهن شيء من ذلك، وقيل: راجعات إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تاركات لمحاب أنفسهن {عابدات} أي: كثيرات العبادات لله تعالى، وقال ابن عباس: كل عبادة في القرآن فهو التوحيد {سائحات} قال ابن عباس: صائمات، وقال الحسن: مهاجرات، وقال ابن زيد: وليس في أمة محمد صلى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة، والسياحة الجولان في الأرض، وقال الفراء وغيره: سمي الصائم سائحاً لأن السائح لازاد معه فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد ما يطعمه، فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره، وقيل: ذاهبات في طاعة الله تعالى. من ساح الماء إذا ذهب {ثيبات} جمع ثيب، وهي التي تزوجت ثم بانت بوجه من الوجوه، أو زالت بكارتها بوطء من غير نكاح {وأبكاراً} أي: عذارى جمع بكر، وهي ضد الثيب، وسميت بذلك لأنها على أول حالها التي خلقت بها وقدم الثيبات لأنهن أخبر بالعشرة التي هذا سياقها، ووسط الواو بين الثيبات والأبكار لتنافي الوصفين دون سائر الصفات.
(13/17)
---
فإن قيل: كيف ذكر الثيبات في مقام المدح وهن من جملة ما يقل رغبة الرجال فيهن؟ أجيب: بأنه يمكن أن يكون بعض الثيبات خيراً من كثير من الأبكار لاختصاصهن بالمال والجمال.(1/4771)
ولما بالغ سبحانه في عتاب نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع صيانتهن عن التشبه إكراماً له صلى الله عليه وسلم أتبع ذلك أمر الأمة بالتأسي به في هذه الأخلاق الكاملة فقال تعالى متبعاً لهن بالموعظة الخاصة بموعظة عامة دالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأقرب فالأقرب.
{يا أيها الذين أمنوا} أي: أقروا بذلك {قوا أنفسكم} أي: اجعلوا لها وقاية بالتأسي به صلى الله عليه وسلم وترك المعاصي وفعل الطاعات، وفي أدبه مع الخلق والخالق {وأهليكم} من النساء والأولاد وكل من يدخل في هذا الاسم قوهم {ناراً} بالنصح والتأديب ليكونوا متخلقين بأخلاق أهل النبي صلى الله عليه وسلم كما روى الطبراني عن سعيد بن العاص: «ما نحل والد ولداً أفضل من أدب حسن» وفي الحديث: «رحم الله رجلاً قال: يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعكم معهم في الجنة» وقيل: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من جهل أهله، وقال صلى الله عليه وسلم «رحم الله امرأ قام من الليل فصلى فأيقظ أهله، فإن لم تقم رش على وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل تصلي وأيقظت زوجها، فإن لم يقم رشت على وجهه من الماء» وقال بعض العلماء: لما قال {قوا أنفسكم} دخل فيه الأولاد لأن الولد بعض منه، كما دخلوا في قوله تعالى: {ولا عل أنفسكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم} (النور: 61) وقوله عليه الصلاة والسلام: «إن أحل ما أكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه» فلم يفرد بالذكر أفراد سائر القرابات فيعلمه الحلال والحرام. وقال عليه الصلاة والسلام: «حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه، ويعلمه الكتابة، ويزوجه اذا بلغ».
(13/18)
---(1/4772)
ثم بين تعالى وصف تلك النار بقوله عز وجل: {وقودها} أي: الذي توقد به {الناس} أي: الكفار {والحجارة} كأصنامهم منها، وعن ابن عباس أنها حجارة الكبريت، وهي أشد الأشياء حراً إذا أوقد عليها، والمعنى أنها مفرطة الحرارة تتقد بما ذكر لا كنار الدنيا تتقد بالحطب ونحوه {عليها ملائكة} خزنتها عدتهم تسعة عشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة المدثر {غلاظ} أي: غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا خلقوا من الغضب، وحبب إليهم عذاب الخلق كما حبب لبني أدم أكل الطعام والشراب {شداد} أي: شداد الأبدان، وقيل: غلاظ الأقوال شداد الأفعال يدفع واحد منهم بالدفعة الواحدة سبعين ألفاً في النار، لم يخلق الله فيهم الرحمة، وقيل: في أخذهم أهل النار شداد عليهم، يقال: فلان شديد على فلان، أي: قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب.
وقيل: غلاظ أجسامهم ضخمة شداد، أي: الأقوياء. قال ابن عباس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقال صلى الله عليه وسلم في خزنة جهنم: «ما بين منكبي كل واحد منهم كما بين المشرق والمغرب» {لا يعصون الله} أي: الملك الأعلى في وقت من الأوقات، وقوله تعالى: {ما أمرهم} بدل من الجلالة أي: لا يعصون أمر الله، وقوله تعالى: {ويفعلون ما يؤمرون} تأكيد؛ هذا ما جرى عليه الجلال المحلي. وقال الزمخشري: فإن قلت: أليست الجملتان في معنى واحد؟ قلت: لا فإن معنى الأولى أنهم يقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها، ومعنى الثانية: أنهم يؤدون ما يؤمرون به لا يتثاقلون عنه، ولا يتوانون فيه. وقيل: لا يعصون الله ما أمرهم الله فيما مضى ويفعلون ما يؤمرون فيما يستقبل، وصدر بهذا البيضاوي.
(13/19)
---(1/4773)
فإن قيل: إنه تعالى خاطب المشركين في قوله تعالى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} (البقرة: 24) فجعلها معدة للكافرين فما معنى مخاطبته للمؤمنين بذلك؟ أجيب: بأن الفساق وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار فإنهم مع الكفار في دار واحدة، فقيل للذين آمنوا: {قوا أنفسكم} باجتناب الفسوق مساكنة الذين أعدت لهم هذه الدار الموصوفة، ويجوز أن يأمرهم بالتوقي عن الارتداد والندم على الدخول في الإسلام، وأن يكون خطاباً للذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون.
قال الزمخشري: ويعضد ذلك قوله تعالى على الإثر:
{يا أيها الذين كفروا} أي: بالإخلال بالأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم فأداهم ذلك إلى الإخلال بالأدب مع الله تعالى، وبالأدب مع سائر خلقه {لا تعتذروا} أي: تبالغوا في إظهار العذر هو إيساغ الحيلة في وجه يزيل ما ظهر من التقصير {اليوم} فإنه يوم الجزاء لا يوم الاعتذار، وقد فات زمان الاعتذار وصار الأمر إلى ما صار وهذا النهي لتحقيق اليأس {إنما تجزون} أي: في هذا اليوم {ما كنتم} أي: ما هو لكم كالجبلة والطبع {تعملون} في الدنيا، ونظيره {فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم} (الروم: 57) قال البقاعي: ولا بعد على الله في أن يصور لكل إنسان صورة عمله بحيث لا يشك أنه عمله ثم يجعل تلك الصورة عذابه الذي يجد فيه من الألم ما علم الله تعالى أنه بمقدار استحقاقه.
ولما بين تعالى أن المعذرة لا تنفع في ذلك اليوم أمر بالتوبة في الدنيا بقوله تعالى:
(13/20)
---
{يا أيها الذين آمنوا توبوا} أي: ارجعوا رجوعاً تاماً {إلى الله} أي: الملك الذي لا نظير له {توبة} وقوله: {نصوحاً} صيغة مبالغة أسند النصح إليها مجازاً، وهي من نصح الثوب إذا خاطه فكأن التائب يرقع بالمعصية. وقيل: من قولهم: ناصح، أي: خالص. وقرأ شعبة بضم النون، والباقون بفتحها.(1/4774)
تنبيه: أمرهم بالتوبة وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال وفي كل الأزمان. واختلفوا في معناها، فقال عمر ومعاذ: التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب، كما لا يعود اللبن في الضرع، وقال الحسن: هي أن يكون العبد نادماً على ما مضى مجمعاً على أن لا يعود فيه. وقال الكلبي: أن يستغفر باللسان، ويندم بالقلب، ويمسك بالبدن.
(13/21)
---
وعن حوشب: أن لا يعود ولو حز بالسيف وأحرق بالنار، وعن سماك: أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله تعالى أمام عينيك، وتتبعه نظرك. وعن السدي: لا تصح إلا بنصيحة النفس، ونصيحة المؤمنين لأن من صحت توتبته أحب أن يكون الناس مثله.
وقال سعيد بن المسيب: توبة ينصحون فيها أنفسهم. وقال القرطبي: يجمعها أربع أشياء: الإستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيء الإخوان.
وقال الفقهاء: التوبة التي لا تعلق لحق آدمي فيها لها ثلاثة شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية، وثانيها: أن يندم على ما فعله، وثالثها: أن يعزم على أن لا يعود إليها. فإذا اجتمعت هذه الشروط في التوبة كانت نصوحاً وإن فقد شرط منها لم تصح توبته. وإن كانت تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: هذه الثلاثة المتقدمة، والرابع: أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت المعصية مالاً ونحوه رده إلى مالكه، وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه من نفسه، أو طلب العفو منه، وإن كانت غيبة استحله منها.
(13/22)
---(1/4775)
قال العلماء: التوبة واجبة من كل معصية كبيرة أو صغيرة على الفور، ولا يجوز تأخيرها وتجب من جميع الذنوب، وإن تاب من بعضها صحت توبته عما تاب منه، وبقي عليه الذي لم يتب منه، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة» وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة» وعن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها». وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر».
وعن علي أنه سمع أعرابياً يقول: اللهمّ إني أستغفرك وأتوب إليك فقال: يا هذا إن سرعة الاستغفار بالتوبة توبة الكذابين، قال: وما التوبة؟ قال: يجمعها ستة أشياء: على الماضي من الذنوب الندامة، وللفرائض الإعادة، وردّ المظالم واستحلال الخصوم، وأن تعزم على أن لا تعود، وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما أذبتها في المعصية، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي. وعن حذيفة: بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه. وقوله تعالى: {عسى ربكم} أي: المحسن إليكم {أن يكفر}، أي: يغطى تغطية عظيمة {عنكم سيئاتكم}، أي: ما بدا منكم مما يسوء بالتوبة، إطماع من الله لعباده في قبول التوبة وذلك تفضلاً وتكرماً لا وجوباً عليه، وإن كان التائب على خطر فما ظنك بالمصر ولكن الفضل واسع.
(13/23)
---(1/4776)
ولما ذكر نفع التوبة في دفع المضار ذكر نفعها في جلب المسارّ بقوله تعالى: {ويدخلكم}، أي: يوم الفصل {جنات}أي: بساتين كثيرة الأشجار تستر داخلها {تجري من تحتها} أي: تحت غرفها وأشجارها {الأنهار} فهي لا تزال رياً، وقوله تعالى: {يوم لا يخزي الله} أي: الملك الأعظم {النبي} أي: الذي نبأه الله تعالى بما يوجب له الرفعة التامّة من الأخبار التي هي في غاية العظمة، منصوب بيدخلكم أو بإضمار اذكر، ومعنى يخزي هنا يعذب، أي: لا يعذبه، وقوله تعالى: {والذين آمنوا معه} يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن يكون منسوقاً على النبي، أي: ولا يخزي الذين آمنوا معه. وعلى هذا يكون قوله تعالى: {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم} مستأنفاً أو حالاً، الثاني: أن يكون مبتدأ وخبره {نورهم يسعى} إلى آخره. وقوله تعالى: {يقولون} خبر ثان أو حال.
(13/24)
---(1/4777)
تنبيه: التقييد بالإيمان لا ينفي أن لهم نوراً عن شمائلهم بل لهم نور لكن لا يلتفتون إليه لأنهم إما من السابقين وإما من أهل اليمين فهم يمشون في هاتين الجهتين ويؤتون صحائف أعمالهم منهما، وأما أصحاب الشمال فيعطونها من وراء ظهورهم ومن شمائلهم وهم بما لهم من النور إن قالوا سمع لهم وإن شفعوا شفعوا {ربنا}، أي: أيها المتفضل علينا بهذا النور وبكل خير كنا أو نكون فيه {أتمم لنا نورنا}، أي: الذي مننت به علينا حتى يكون في غاية التمام، قال ابن عباس: يقولون ذلك إذا طفئ نور المنافقين إشفاقاً، وعن الحسن: لله متمه لهم ولكنهم يدعون تقرباً إلى الله كقوله تعالى: {واستغفر لذنبك} (غافر: 55) وهو مغفور له، وقيل: يقوله أدناهم منزلة لأنهم يعطون من النور قدر ما يبصرون مواطئ أقدامهم لأنّ النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه تفضلاً، وقيل: السابقون إلى الجنة يمرّون مثل البرق على الصراط، وبعضهم كالريح وبعضهم حبواً وزحفاً فأولئك الذين يقولون: ربنا أتمم لنا نورنا {واغفر لنا} أي: وامح عنا كل نقص كان يميل بنا إلى أحوال المنافقين عينه وأثره وهذا النور من صور أعمالهم في الدنيا، لأن الآخرة تظهر فيها حقائق الأشياء وتتبع الصور معانيها، وهو شرع الله الذي شرعه وهو الصراط الذي يضرب بين ظهراني جهنم، لأن الفضائل في الدنيا متوسطة بين الرذائل فكل فضيلة يكتنفها رذيلتان إفراط وتفريط فالفضيلة هي الصراط المستقيم والرذيلتان ما كان من جهنم عن يمينه وشماله، فمن كان يمشي في الدنيا على ما أمر به سواء من غير إفراط ولا تفريط كان نوره تاماً ومن أمالته الشهوات طفئ نوره في بعض الأوقات واختطفته كلاليب هي صور الشهوات فتميل به في النار بقدر ميله إليها والمنافق يظهر له نور إقراره بكلمة التوحيد فإذا مشى طفئ لأن إقراره لا حقيقة له {إنك} أي: وحدك {على كل شيء} يمكن دخول المشيئة فيه {قدير} أي: بالغ القدرة.
(13/25)
---(1/4778)
ولما ذكر ما تقدم من لينه صلى الله عليه وسلم لأضعف الناس وحسن أدبه وكرم عشرته لأنه مجبول على الشفقة على عباد الله والرحمة لهم أمره سبحانه بالغلظة والشدة على أعدائه بقوله تعالى:
{يا أيها النبي جاهد الكفار} أي: بكل ما يجهدهم فيكفهم من السيف، وما دونه من المواعظ الحسنة والدعاء إلى الله تعالى ليعرف أن ذلك اللين لأهل الله تعالى إنما هو من تمام عقلك وغزير علمك وفضلك {والمنافقين}، أي: جاهدهم بما يليق بهم من الحجة والسيف إن احتيج إليه إن أبدوا نوع مظاهرة وعرفهم أحوالهم في الآخرة، وإنهم لا نور لهم يجوزون به على الصراط مع المؤمنين، وقال الحسن: وجاهدهم بإقامة الحدود عليهم {واغلظ عليهم}، بالفعل والقول بالتوبيخ والزجر والإبعاد والهجر، فالغلظة عليهم من اللين لله تعالى كما أنّ اللين لأهل الله من خشية الله تعالى. وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها {ومأواهم} أي: في الآخرة {جهنم وبئس المصير}، أي: هي. ولما كان للكفار قرابات بالمسلمين ربما توهم أنها تنفعهم وللمسلين قرابات بالكفار توهم أنها تضرهم ضرب لكل مثلاً، وبدأ بالأول فقال تعالى:
(13/26)
---(1/4779)
تنبيه: التقييد بالإيمان لا ينفي أن لهم نوراً عن شمائلهم بل لهم نور لكن لا يلتفتون إليه لأنهم إما من السابقين وإما من أهل اليمين فهم يمشون في هاتين الجهتين ويؤتون صحائف أعمالهم منهما، وأما أصحاب الشمال فيعطونها من وراء ظهورهم ومن شمائلهم وهم بما لهم من النور إن قالوا سمع لهم وإن شفعوا شفعوا {ربنا}، أي: أيها المتفضل علينا بهذا النور وبكل خير كنا أو نكون فيه {أتمم لنا نورنا}، أي: الذي مننت به علينا حتى يكون في غاية التمام، قال ابن عباس: يقولون ذلك إذا طفئ نور المنافقين إشفاقاً، وعن الحسن: لله متمه لهم ولكنهم يدعون تقرباً إلى الله كقوله تعالى: {واستغفر لذنبك} (غافر: 55) وهو مغفور له، وقيل: يقوله أدناهم منزلة لأنهم يعطون من النور قدر ما يبصرون مواطئ أقدامهم لأنّ النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه تفضلاً، وقيل: السابقون إلى الجنة يمرّون مثل البرق على الصراط، وبعضهم كالريح وبعضهم حبواً وزحفاً فأولئك الذين يقولون: ربنا أتمم لنا نورنا {واغفر لنا} أي: وامح عنا كل نقص كان يميل بنا إلى أحوال المنافقين عينه وأثره وهذا النور من صور أعمالهم في الدنيا، لأن الآخرة تظهر فيها حقائق الأشياء وتتبع الصور معانيها، وهو شرع الله الذي شرعه وهو الصراط الذي يضرب بين ظهراني جهنم، لأن الفضائل في الدنيا متوسطة بين الرذائل فكل فضيلة يكتنفها رذيلتان إفراط وتفريط فالفضيلة هي الصراط المستقيم والرذيلتان ما كان من جهنم عن يمينه وشماله، فمن كان يمشي في الدنيا على ما أمر به سواء من غير إفراط ولا تفريط كان نوره تاماً ومن أمالته الشهوات طفئ نوره في بعض الأوقات واختطفته كلاليب هي صور الشهوات فتميل به في النار بقدر ميله إليها والمنافق يظهر له نور إقراره بكلمة التوحيد فإذا مشى طفئ لأن إقراره لا حقيقة له {إنك} أي: وحدك {على كل شيء} يمكن دخول المشيئة فيه {قدير} أي: بالغ القدرة.
(13/27)
---(1/4780)
ولما ذكر ما تقدم من لينه صلى الله عليه وسلم لأضعف الناس وحسن أدبه وكرم عشرته لأنه مجبول على الشفقة على عباد الله والرحمة لهم أمره سبحانه بالغلظة والشدة على أعدائه بقوله تعالى:
{يا أيها النبي جاهد الكفار} أي: بكل ما يجهدهم فيكفهم من السيف، وما دونه من المواعظ الحسنة والدعاء إلى الله تعالى ليعرف أن ذلك اللين لأهل الله تعالى إنما هو من تمام عقلك وغزير علمك وفضلك {والمنافقين}، أي: جاهدهم بما يليق بهم من الحجة والسيف إن احتيج إليه إن أبدوا نوع مظاهرة وعرفهم أحوالهم في الآخرة، وإنهم لا نور لهم يجوزون به على الصراط مع المؤمنين، وقال الحسن: وجاهدهم بإقامة الحدود عليهم {واغلظ عليهم}، بالفعل والقول بالتوبيخ والزجر والإبعاد والهجر، فالغلظة عليهم من اللين لله تعالى كما أنّ اللين لأهل الله من خشية الله تعالى. وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها {ومأواهم} أي: في الآخرة {جهنم وبئس المصير}، أي: هي. ولما كان للكفار قرابات بالمسلمين ربما توهم أنها تنفعهم وللمسلين قرابات بالكفار توهم أنها تضرهم ضرب لكل مثلاً، وبدأ بالأول فقال تعالى:
{ضرب الله}، أي: الملك الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً {مثلاً} يعلم به من فيه قابلية العلم ويتعظ به من له أهلية الاتعاظ {للذين كفروا}، أي: غطوا الحق على أنفسهم وعلى غيرهم وقوله تعالى: {امرأت نوح} عليه السلام الذي أهلك الله تعالى من كذبه بالغرق {وامرأت لوط} عليه السلام الذي أهلك الله تعالى من كذبه بالحصب والخسف، يجوز أن يكون بدلاً من قوله: {مثلاً} على تقدير حذف المضاف، أي: ضرب الله مثلاً مثل امرأة نوح وامرأة لوط، ويجوز أن يكونا مفعولين، وضرب الله تعالى هذا المثل تنبيهاً على أنه لا يغني أحد عن قريب ولا نسيب في الآخرة إذا فرق بينهما الدين.
(13/28)
---(1/4781)
قال مقاتل: وكان اسم امرأة نوح والهة واسم امرأة لوط والعة، وقال الضحاك: عن عائشة: «إن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن اسم امرأة نوح واعلة واسم امرأة لوط والهة».
تنبيه: رسمت امرأت في الثلاثة وابنت بالتاء المجرورة، فوقف عليهنّ بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، ووقف الباقون بالتاء. وقوله تعالى: {كانتا} أي: مع كونهما كافرتين {تحت عبدين} جملة مستأنفة كأنها مفسرة لضرب المثل، ولم يأت بضميرها فيقال: تحتهما، أي: تحت نوح ولوط لما قصد من تشريفهما بهذه الإضافة الشريفة قال القائل:
*لا تدعنى إلا بيا عبدها ** فإنه أشرف أسمائي*
ودلّ على كثرة عبيده تنبيها على غناه بقوله تعالى: {من عبادنا} ووصفهما بأجل الصفات وهو قوله تعالى: {صالحين} واختلف في معنى قوله تبارك وتعالى: {فخانتاهما} فقال عكرمة والضحاك: بالكفر.
(13/29)
---(1/4782)
وعن ابن عباس: كانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون وإذا آمن به أحد أخبرت الجبابرة من قومه، وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه، وعن ابن عباس ما بغت امرأة نبيّ قط وإنما كانت خيانتهما في الدين وكانتا مشركتين، وقيل: كانتا منافقتين، وقيل: خيانتهما النميمة إذا أوحي إليهما شيء أفشتاه إلى المشركين؛ قاله الضحاك، وقيل: كانت امرأة لوط إذا نزل به ضيف دخنت لتعلم قومها أنه قد نزل به ضيف لما كانوا عليه من إتيان الرجال {فلم} أي: فتسبب عن ذلك أن العبدين الصالحين لم {يغنيا عنهما}، أي: المرأتين بحق النكاح {من الله}، أي: من عذاب الملك الذي له الأمر كله فلا أمر لغيره {شيئاً} أي: من إغناء لأجل خيانتهما {وقيل} أي: للمرأتين ممن أذن له في القول النافذ الذي لا مردّ له {ادخلا النار}، أي: قيل لهما ذلك عند موتهما أو يوم القيامة {مع الداخلين}، أي: سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء، فلم يغن نوح ولوط عن امرأتيهما شيئاً من عذاب الله تعالى وفي هذا المثل تعريض بأمي المؤمنين عائشة وحفصة وما فرط منهما وتحذير لهما على أعلى وجه وأشده وفيه تنبيه على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة وقيل: أن كفار مكة استهزؤا وقالوا: إن محمداً يشفع لنا فبين تعالى أن الشفاعة لا تنفع كفار مكة وإن كانوا أقرباء، كما لا ينفع نوح امرأته ولا لوط امرأته مع قربهما لهما لكفرهما.
ثم شرع تعالى في ضرب المثل الثاني: فقال تعالى:
(13/30)
---(1/4783)
{وضرب الله}، أي: الملك الأعلى الذي له صفات الكمال {مثلاً للذين آمنوا امرأت فرعون} واسمها آسية وهي بنت مزاحم آمنت وعملت صالحاً فلم تضرّها الوصلة بالكافر بالزوجية التي هي من أعظم الوصل، ولا نفعه إيمانها، كل امرئ بما كسب رهين وأثابها ربها تعالى أن جعلها في الآخرة زوجة خير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم في دار كرامته بصبرها على عبادة الله تعالى وهي في حبالة عدوّه وأسقط وصفه بالعبودية دليلاً على تحقيره وعدم رحمته له لأنه من أعدى أعدائه وقوله تعالى: {إذ قالت} ظرف للمثل المحذوف، أي: مثلهم مثلها حين قالت {رب}، أي: أيها المحسن إلي بالهداية وأنا في حبالة هذا الكافر الجبار {ابن لي عندك بيتاً}وبينت مرادها بالعندية فقالت: {في الجنة} أي: دار المقربين وقد أجابها سبحانه بأن جعلها زوجة أكمل خلقه محمد صلى الله عليه وسلم فكانت معه في منزله الذي هو أعلى المنازل {ونجني من فرعون} أي: فلا أكون عنده {وعمله}فلا تسلطه علي بما يضرني عندك في الآخرة فلا أعمل بشيء من عمله وهو شركه، وقال ابن عباس: جماعه {ونجني} أعادت العامل تأكيداً {من القوم الظالمين} أي: الناس الأقوياء العريقين الذين يضعون أعمالهم في غير موضعها، فاستجاب الله تعالى دعاءها وأحسن إليها لأجل محبتها للمحبوب، وهو كليم الله موسى عليه السلام كما يقال:
*صديق صديقي داخل في صداقتي
وذلك أن موسى عليه السلام لما غلب السحرة آمنت به فلما تبين لفرعون إيمانها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة، وفي القصة أن فرعون أمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها فلما أتوها بالصخرة قالت: {رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة} فأبصرته من مرمرة بيضاء فانتزعت روحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه ولم تجد ألماً، وقال الحسن وابن كيسان: رفع الله تعالى امرأة فرعون إلى الجنة فهي فيها تأكل وتشرب.
(13/31)
---(1/4784)
وقوله تعالى: {ومريم ابنت عمران} عطف على امرأة فرعون تسلية للأرامل {التي أحصنت فرجها} أي: عفت عن السوء وجميع مقدماته، كانت كالحصن العظيم المانع من العدو فاستمرت على حالها إلى الممات فزوجها الله تعالى في الجنة جزاء لها بخير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم وقال بعض المفسرين: أراد بالفرج هنا الجيب لقوله تعالى: {فنفخنا}، أي: بمالنا من العظمة بواسطة ملكنا جبريل عليه السلام {فيه}، أي: في جيب درعها. قال البقاعي: أو في فرجها الحقيقي، وعلى هذا فلا حاجة إلى التأويل {من روحنا}، أي: من روح خلقناه بلا تواسط أصل وهو روح عيسى عليه السلام {وصدقت بكلمات ربها}، أي: المحسن إليها واختلف في تلك الكلمات فقال: مقاتل يعني بالكلمات عيسى وأنه نبىّ وعيسى كلمة الله وقال البغوي: يعني الشرائع التي شرعها الله تعالى للعباد بكلماته المنزلة وقيل: هي قول جبريل عليه السلام لها {إنما أنا رسول ربك} (مريم: 19) الآية، وعلى كل قول استحقت أن تسمى لذلك صديقة، وقرأ: {وكتبه} أبو عمرو وحفص بضم الكاف والتاء جمعاً، والباقون بكسر الكاف وفتح التاء وبعدها ألف إفراداً والمراد منه الكثرة فالمراد به الجنس فيكون في معنى كل كتاب أنزله الله تعالى على ولدها أو غيره.
وقوله تعالى: {وكانت من القانتين} يجوز في {مَن} وجهان:
أحدهما: أنها لابتداء الغاية.
والثاني: أنها للتبعيض. وقد ذكرهما الزمخشري فقال: فمن للتبعيض، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية أنها ولدت من القانتين لأنها من أعقاب هارون أخي موسى صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما وعليها وعلى سائر الأنبياء وآلهم أجمعين.
قال الزمخشري: فإن قلت لم قيل: من القانتين على التذكير؟
(13/32)
---(1/4785)
قلت: لأن القنوت صفه تشمل من قنت من القبيلين فغلب ذكوره على إناثه. وقيل: أراد من القوم القانتين، ويجوز أن يرجع هذا إلى أهل بيتها فإنهم كانوا مطيعين لله، والقنوت: الطاعة، وقال عطاء: من المصلين بين المغرب والعشاء. وعن معاذ بن جبل: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة وهي تجود بنفسها: «إذا قدمت على ضرّاتك فأقرئيهنّ منى السلام مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم» وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كمل من نساء العالمين أربع مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» وروى الشيخان عن أبي موسى الأشعري: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة التحريم آتاه الله توبة نصوحاً» حديث موضوع.
سورة الملك
مكية
وتسمى: الواقية والمنجية، وتدعى في التوراة المانعة لأنها تقي وتنجي من عذاب القبر، وعن ابن شهاب أنه كان يسميها المجادلة لأنها تجادل عن صاحبها في القبر. وهي ثلاثون آية وثلاثمائة، وثلاثون كلمة، وألف وثلاثمائة حرف.
{بسم الله} الذي خضعت لكمال عظمته الملوك {الرحمن} الذي عمّ بنعمة الإيجاد كل من في الوجود {الرحيم} الذي خص أولياءه بالنعيم بدار الخلود.
(13/33)
---(1/4786)
{تبارك}، أي: تكبر وتقدس وتعالى وتعاظم وثبت ثباتاً لا مثل له مع اليمن والبركة، وقيل: دام فهو الدائم الذي لا أول لوجوده ولا آخر لدوامه {الذي بيده} أي: بقدرته وتصرفه لا بقدرة غيره {الملك}، أي: له الأمر والنهي وملك السموات في الدنيا والآخرة، وقال ابن عباس: بيده الملك يعز من يشاء ويذل من يشاء ويحيي ويميت ويغني ويفقر ويعطي ويمنع. قال الرازي: وهذه الكلمة تستعمل لتأكيد كونه تعالى ملكاً ومالكاً كما يقال: بيد فلان الأمر والنهي والحل والعقد، وذكر اليد إنما هو تصوير للإحاطة ولتمام القدرة؛ لأنها محلها مع التنزه عن الجارحة وعن كل ما يفهم حاجة أو شبهها {وهو على كل شيء}، أي: من الممكنات {قدير} أي: تام القدرة.
(13/34)
---
تنبيه: احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه لا يؤثر إلا قدرة الله تعالى، وأبطلوا القول بالطبائع كقول الفلاسفة، وأبطلوا القول بالتولدات كقول المعتزلة، وأبطلوا القول بكون العبد موجداً لأفعال نفسه لقوله تعالى: {وهو على كل شيء قدير} ودلت هذه الآية على الوحدانية لأنا لو قدرنا إلهاً ثانياً فإمّا أن يقدر على إيجاد شيء أو لا، فإن لم يقدر على إيجاد شيء لم يكن إلهاً وإن قدر كان مقدور ذلك الإله الثاني شيئاً فيلزم كون ذلك الشيء مقدوراً للإله الأول لقوله: {وهو على كل شيء قدير} فيلزم وقوع مخلوق من خالقين وإنه محال، لأنه إذا كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد يلزم أن يستغني كل واحد منهما عن كل واحد منهما فيكون محتاجاً إليهما وغنياً عنهما وذلك محال. وقرأ: {وهو على كل شيء قدير} {وهو العزيز الغفور} {وهو اللطيف} وما أشبه ذلك أبو عمرو وقالون والكسائي بسكون الهاء والباقون بضمها، وخرج بقولنا من الممكنات أنه تعالى ليس قادراً على نفسه، وأجاب بعضهم بأن هذا عام مخصوص.(1/4787)
ودل على تمام قدرته قوله تعالى: {الذي خلق} أي: قدر وأوجد {الموت والحياة} قيل: خلق الموت في الدنيا والحياة في الآخرة، وقدم الموت على الحياة لأنّ الموت إلى القهر أقرب كما قدم البنات على البنين فقال: {يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور} (الشورى: 49)
(13/35)
---
وقيل: قدمه لأنه أقدم، لأنّ الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموت كالنطف والتراب ونحوه. وقال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله أذل بني آدم بالموت وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء» وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه الفقر والمرض والموت» وقيل: إنما قدم الموت على الحياة لأن من نصب الموت بين عينيه كان أقوى الدواعي إلى العمل، وحكي عن ابن عباس والكلبي ومقاتل أنّ الموت والحياة جسمان، والموت في هيئة كبش لا يمر بشيء ولا يجد ريحه إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاء وهي التي كان جبريل عليه السلام والأنبياء عليهم السلام يركبونها خطوتها مدّ البصر فوق الحمار ودون البغل لا تمر بشيء ولا يجد ريحها إلا حيي ولا تطأ على شيء إلا حيي وهي التي أخذ السامري من أثرها فألقاه على العجل فحيي، حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس.
(13/36)
---(1/4788)
وعن مقاتل: {خلق الموت} يعني: النطفة والعلقة والمضغة، وخلق الحياة يعني: خلق إنساناً فنفخ فيه الروح فصار إنساناً. قال القرطبي: وهذا حسن يدل عليه قوله تعالى: {ليبلوكم} أي: يعاملكم وهو أعلم بكم من أنفسكم معاملة المختبر لإظهار ما عندكم من العمل بالاختبار {أيكم أحسن عملاً} أي: من جهة العمل، أي: عمله أحسن من عمل غيره، وروي عن عمر مرفوعاً: «أحسن عملاً أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله» وقال الفضيل بن عياض: أحسن عملاً أخلصه وأصوبه وقال: العمل لا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، فالخالص إذا كان لله والصواب إذا كان على السنة، وقال الحسن: أيكم أزهد في الدنيا وأترك لها، وقال السدي: أيكم أكثر للموت ذكراً وأحسن استعداداً وأشد خوفاً وحذراً. وقيل: يعاملكم معاملة المختبر، فيبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره وبالحياة ليبين شكره، وقيل: خلق الله تعالى الموت للبعث والجزاء وخلق الله الحياة للابتلاء.
فإن قيل: الابتلاء هو التجربة والامتحان حتى يعلم أنه هل يطيع أو يعصي وذلك في حق الله تعالى العالم بجميع الأشياء محال. أجيب: بأن الابتلاء من الله تعالى هو أن يعامل عبده معاملة تشبه المختبر كما مرّت الإشارة إليه.
{وهو} أي: والحال أنه وحده {العزيز} أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الغفور} أي: الذي مع ذلك يفعل في محو الذنوب عيناً وأثراً فعل المبالغ في ذلك، ويتلقى من أقبل إليه أحسن تلق كما قال تعالى في الحديث القدسي: «ومن أتاني يمشي أتيته هرولة».
(13/37)
---(1/4789)
وقوله تعالى: {الذي خلق}، أي: أبدع على هذا التقدير من غير مثال سبق {سبع سموات} يجوز أن يكون تابعاً للعزيز الغفور نعتاً أو بياناً أو بدلاً، وأن يكون منقطعاً عنه خبر مبتدأ محذوف أو مفعول فعل مقدر. وقوله تعالى: {طباقاً} صفة لسبع وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه جمع طبق نحو جبل وجبال. والثاني: أنه جمع طبقة نحو: رحبة ورحاب، والثالث: أنه مصدر طابق، يقال: طابق مطابقة وطباقاً. ثم إما أن يجعل نفس المصدر مبالغة وإما على حذف مضاف، أي: ذات طباق وإما أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر، أي: طوبقت طباقاً من قولهم: طابق النعل، أي: جعله طبقة فوق طبقة أخرى. وروي عن ابن عباس: طباقاً أي: بعضها فوق بعض، قال البقاعي: بحيث يكون كل جزء منها مطابقاً لجزء من الأخرى ولا يكون جزء منها خارجاً عن ذلك قال: وهي لا تكون كذلك إلا أن تكون الأرض كرة والسماء الدنيا محيطة بها إحاطة قشر البيضة من جميع الجوانب، والثانية: محيطة بالدنيا وهكذا إلى أن يكون العرش محيطاً بالكلّ.
والكرسي الذي هو أقربها بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة فما ظنك بما تحته؟ وكل سماء في التي فوقها بهذه النسبة، وقد قرر أهل الهيئة أنها كذلك وليس في الشرع ما يخالفه بل ظواهره توافقه ولا سيما التشبيه بالحلقة الملقاة في فلاة فسبحان اللطيف الخبير، ولا شك أن من تفكر في هذه العظمة مع ما لطف بنا فيما هيأ فيها لنا من المنافع آثره سبحانه بالحب وأفرده عن كل ضد فانقطع باللجا إليه ولم يعول إلا عليه في كل دفع ونفع وسارع في مرضاته ومحابه في كل خفض ورفع.
تنبيه: دلت هذه الآية على القدرة من وجوه: أحدها: من حيث بقاؤها في جو الهواء معلقة بلا عماد ولا سلسلة. ثانيها: أنّ كلاً منها اختص بحركة خاصة متقدرة بقدر معين من السرعة والبطء إلى جهة معنية. ثالثها: كونها في ذاتها محدثة وكل ذلك يدل على إسنادها إلى قادر تام القدرة.
(13/38)
---(1/4790)
وقوله تعالى: {ما ترى في خلق الرحمن} أي: للسموات ولغيرها خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل مخاطب، وكذا القول في قوله تعالى: {فارجع البصر} {ثم ارجع البصر} {ينقلب إليك البصر} {من تفاوت}، أي: من اعوجاج ولا تناقض ولا تباين بل هي مستقيمة مستوية دالة على خالقها وإن اختلف صورة، وقيل: المراد بذلك السموات خاصة، أي: ما ترى في خلق السموات من عيب وأصله من الفوت وهو: أن يفوت بعضها بعضاً فيقع الخلل لعدم استوائها يدل عليه قول ابن عباس: من تفرّق، وقال السدي: أي من اختلاف وعيب يقول الناظر: لو كان كذا لكان أحسن، وقيل: المراد من التفاوت الفطور لقوله تعالى بعد ذلك: {فارجع البصر هل ترى من فطور} ونظيره قوله تعالى: {وما لها من فروج} (ق: 6) قال القفال: ويحتمل أن يكون المعنى: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت في الدلالة على حكم الصانع وأنه لم يخلقها عبثاً.
تنبيه: دلت هذه الآية على كمال علم الله تعالى، وذلك أن الحس دل على أن هذه السموات السبع أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان وكل فاعل كان فعله محكماً متقناً فلا بدّ وأن يكون عالماً فدلت الآية على كونه تعالى عالماً بالمعلومات فقوله تعالى: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} إشارة إلى كونها محكمة متقنة.
وقرأ: {ما ترى} و{هل ترى} أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة وورش بين بين والباقون بالفتح، وأدغم لام هل في التاء أبو عمرو وهشام وحمزة والكسائي، وقرأ من تفوت حمزة والكسائي بغير ألف بعد الفاء وتشديد الواو والباقون بألف بعد الفاء وتخفيف الواو.
وقوله تعالى: {فارجع البصر} مسبب عن قوله تعالى: {ما ترى} وقوله تعالى: {هل ترى من فطور} جملة يجوز أن تكون معلقة لفعل محذوف يدل عليه فارجع البصر، أي: فارجع البصر فانظر هل ترى، وأن يكون فارجع البصر مضمناً معنى انظر لأنه بمعناه فيكون هو المعلق.
(13/39)
---(1/4791)
والفطور جمع فطر وهو الشق يقال: فطره فانفطر، ومنه فطر ناب البعير كما يقال: شق ومعناه شق اللحم وطلع، قال المفسرون: الفطور: الصدوع والشقوق قال القائل:
*شققت القلب ثم ذرأت فيه ** هواك فليط فالتام الفطور*
{ثم ارجع البصر} وقوله تعالى: {كرتين} نصب على المصدر كمرتين وهو مثنى لا يراد به حقيقته بل التكثير بدليل قوله تعالى: {ينقلب إليك البصر خاسئاً}، أي: صاغراً ذليلاً بعيداً عن إصابة المطلوب كأنه طرد عنه طرداً بالصغار {وهوحسير}، أي: كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة، وهذان الوصفان لا يأتيان بنظرتين ولا ثلاث، وإنما المعنى: كرات، وهذا كقولهم: لبيك وسعديك وحنانيك ودواليك وهذاذيك؛ لا يريدون بهذه التثنية تشفيع الواحد إنما يريدون التكثير، أي: إجابة لك بعد إجابة وإلا لتناقض الغرض، والتثنية تفيد التكثير لقرينة كما يفيده أصلها وهو العطف لقرينة كقوله:
*لوعد قبر وقبر كنت أكرمه*
أي: قبور كثيرة ليتم المدح، وقال ابن عطية: كرتين معناه مرتين ونصبهما على المصدر. وقيل: الأولى: ليرى حسنها واستواءها، والثانية: ليبصر كواكبها في مسيرها وانتهائها وهذا بظاهره يفهم التثنية فقط، وروى البغوي عن كعب أنه قال: السماء الدنيا موج مكفوف، والثانية: مرمرة بيضاء، والثالثة: حديد، والرابعة: صفر أو قال: نحاس، والخامسة: فضة، والسادسة: ذهب، والسابعة: ياقوتة حمراء، وبين السماء السابعة والحجب السبعة صحارى من نور.
(13/40)
---(1/4792)
ثم ذكر تعالى دلالة أخرى بعد تلك الدلالة تدل على تمام قدرته بقوله تعالى: {ولقد زينا} بما لنا من العظمة {السماء الدنيا} أي: القربى لأنها أقرب السموات إلى الأرض وهي التي تشاهدونها {بمصابيح}جمع مصباح وهو السراج أي: بنجوم متقدة عظيمة جداً تفوت الحصر ظاهرة سائرة مضيئة ظاهرة زاهرة وهي الكواكب التي تنوّر الأرض بالليل إنارة السرج التي تنوّرون بها سقوف دوركم، وسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها وزينة لأن الناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح، فكأنه قال: ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح والتزين بها لا يمنع أن تكون مركوزة فيما فوقها من السماوات وهي تتراءى بحسب الشفوف وبما لأجرام السماوات من الصفاء ولتلك المصابيح من شدة الإضاءة.
{وجعلناها} أي: المصابيح بما لنا من العظمة مع كونها زينة وإعلاماً للهداية {رجوماً للشياطين} أي: الذين يحق لهم الطرد من الجن لما لهم من الاحتراق حراسة للسماء التي هي محل تنزل أمرنا بالقضاء والقدر، وإنزال هذا الذكر الحكيم لئلا يفسدوا باستراق السمع فيها على الناس دينهم الحق ويلبسوا عليهم أمرهم بخلط الحق الذي قد ختمنا به الأديان بالباطل.
والرجوم جمع رجم وهو مصدر في الأصل أطلق على المرجوم به كضرب الأمير، ويجوز أن يكون باقياً على مصدرتيه، ويقدر مضاف، أي: ذات رجوم، وجمع المصدر باعتبار أنواعه، والشهاب المرجوم به منفصل من نار الكوكب وهو قارّ في فلكه على حاله كقبس النار يؤخذ منها وهي باقية لا تنقص، وذلك مسوغ لتسميتها بالنجوم فمن لحقه الشهاب منهم قتله أو ضعضع أمره وخبله، وقال أبو علي جواباً لمن قال: كيف تكون زينة وهي رجوم؟: لا تنفي كيفية الرجم أن يؤخذ نار من ضوء الكوكب يرمى بها الشيطان والكوكب في مكانه لا يرجم به، وقيل: الرجوم هنا الظنون والشياطين شياطين الإنس كما قال القائل:
*وما هو عنها بالحديث المرجم*
(13/41)
---(1/4793)
فيكون المعنى: جعلناها ظنوناً ورجوماً بالغيب لشياطين الإنس وهم المنجمون يتكلمون بها رجماً بالغيب في أشياء من عظيم الابتلاء، وعن قتادة: خلقت النجوم لثلاث: زينة للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وتكلف ما لا علم له به وتعدى وظلم.
{وأعتدنا} أي: هيأنا في الآخرة مع هذا الذي في الدنيا بما لنا من العظمة {لهم} أي: للشياطين {عذاب السعير} أي: التي في غاية الاتقاد في الآخرة قال المبرد: سعرت النار فهي مسعورة وسعير، مثل مقتولة وقتيل، وهذه الآية تدل على أن النار مخلوقة الآن لأن قوله تعالى: {وأعتدنا لهم} خبر عن الماضي.
ولما أخبر تعالى عن تهيئة العذاب لهم بالخصوص أخبر عن تهيئته لكل عامل بأعمالهم على وجه اندرجوا هم فيه فقال عز من قائل: {وللذين كفروا} أي: أوقعوا التغطية لما من حقه أن يظهر ويشهر من الإذعان للإله {بربهم} أي: الذي تفرد بإيجادهم والإحسان إليهم فأنكروا إيجاده لهم بعد الموت كفراً بما شاهدوا من اختراعه لهم من العدم {عذاب جهنم} أي: الدركة النارية التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة والغضب {وبئس المصير} أي: هي.
(13/42)
---
{إذا ألقوا} أي: طرح الكفار {فيها} أي: في نار جهنم من أيّ طارح أمرناه بطرحهم كما يطرح الحطب في النار العظيمة {سمعوا لها} أي: جهنم نفسها {شهيقاً} أي: صوتاً هائلاً أشد نكارة من أول صوت الحمار لشدة توقدها وغليانها، قال ابن عباس: الشهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها كشهيق البغلة للشعير أو لأهلها على حذف مضاف كما قال عطاء: الشهيق للكفار، أي: سمعوا من أنفسهم شهيقاً كقوله تعالى: {لهم فيها زفير وشهيق} (هود: 106) قال القرطبي: الشهيق في الصدر، والزفير في الحلق وقد مضى في سورة هود. {وهي تفور} أي: تغلي بهم ومنه قول حسان:
*تركتم قدركم لا شيء فيها ** وقدر القوم حابية تفور*(1/4794)
قال ابن عباس: تغلي بهم كغلي المراجل، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بكسرها.
(13/43)
---
{تكاد تميز} أي: تقرب من أن ينفصل بعضها من بعض كما يقال: يكاد فلان ينشق من غيظه، وفلان غضب فطارت شقة منه في الأرض وشقة في السماء، كناية عن شدة الغضب. وقرأ البزي بتشديد التاء من تميز في الوصل، والسوسي على أصله بإدغام الدال في التاء {من الغيظ} أي: عليهم، وقال سعيد بن جبير: {تكاد تميز من الغيظ} يعني: ينقطع وينفصل بعضها من بعض، وقال ابن عباس: تتمزق من شدة الغيظ على أعداء الله تعالى وذلك كله لغضب سيدها، وتأتي يوم القيامة تقاد إلى المحشر بألف زمام لكل زمام سبعون ألف ملك يقودونها به، وهي من شدة الغيظ تقوى على الملائكة وتحمل على الناس فتقطع الأزمة جميعاً وتحطم أهل المحشر فلا يردها عنهم إلا النبي صلى الله عليه وسلم يقابلها بنوره فترجع مع أن لكل ملك من القوة ما لو أمر أن يقلع الأرض وما عليها من الجبال ويصعد بها في الجو فعل من غير كلفة، وهذا كما أطفأها في الدنيا بنفخه، روى أبو داود عن ابن عمر أنه قال: «انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر صلاته إلى أن قال: ثم نفخ في آخر سجوده فقال: أف أف ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون».v
ولما ذكر تعالى حالها أتبعه حالهم فقال تعالى: {كلما ألقي فيها } أي: في جهنم بدفع الزبانية لهم{فوج} أي: جماعة في غاية الإسراع، والأفواج الجماعات في تفرقة ومنه قوله تعالى: {فتأتون أفواجاً} (النبأ: 18) والمراد هنا بالفوج جماعة من الكفار {سألهم} أي: ذلك الفوج {خزنتها} أي: النار وهم مالك وأعوانه سؤال توبيخ وتقريع {ألم يأتكم} أي: في الدنيا {نذير} أي: رسول يخوفكم هذا اليوم حتى تحذروا. قال الزجاج: وهذا التوبيخ زيادة لهم في العذاب.(1/4795)
{قالوا بلى} قرأه حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح والوقف عليها كما في الوصل {قد جاءنا نذير} أي: محذر بليغ التحذير.
(13/44)
---
تنبيه: في ذلك دليل على جواز الجمع بين حرف الجواب ونفس الجملة المجاب بها إذ لو قالوا: بلى لفهم المعنى، ولكنهم أظهروه تحسراً وزيادة في نقمتهم على تفريطهم في قبول قول النذير وليعطفوا عليه قولهم {فكذبنا} أي: فتسبب عن مجيئه أنا أوقعنا التكذيب بكل ما قاله النذير {وقلنا} أي: زيادة في التكذيب {ما نزل الله} أي: الذي له الكمال كله عليكم ولا على غيركم {من شيء} لا وحياً ولا غيره وما كفانا هذا الفجور حتى قلنا مؤكدين: {إن} أي: ما {أنتم} أي: أيها النذر المذكورون في نذير، المراد به الجنس {إلا في ضلال} أي: بعد عن الطريق {كبير} فبالغنا في التكذيب والسفه بالاستجهال والاستخفاف. وقيل: قوله تعالى: {إن أنتم إلا في ضلال كبير} من كلام الملائكة للكفار حين أخبروا بالتكذيب.
{وقالوا} أي: الكفار زيادة في توبيخ أنفسهم {لو كنا} أي: بما لنا من الغريزة {نسمع} أي: كلام الرسل فنقبله جملة من غير بحث وتفتيش اعتماداً على ما لاح من صدقهم بالمعجزات {أو نعقل} أي: بما أدته إلينا حاسة السمع فنفكر في حكمه ومعانيه تفكر المستبصرين {ما كنا} أي: كونا دائماً {في أصحاب السعير} أي: في عداد من أعدت له النار التي هي في غاية الإيقاد.
تنبيه: في الآية أعظم فضيلة للعقل، روي عن أبي سعيد الخدري أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله فبقدر عقله تكون عبادته أما سمعتم قول الفجار: {لو كنا نسمع أو نعقل}» الآية(1/4796)
{فاعترفوا} أي: بالغوا في الاعتراف حيث لا ينفعهم الاعتراف {بذنبهم} أي: في دار الجزاء كما بالغوا في التكذيب في دار العمل، والذنب لم يجمع لأنه في الأصل مصدر والمراد به تكذيب الرسل {فسحقاً} أي: فبعداً لهم من رحمة الله تعالى وهو دعاء عليهم مستجاب {لأصحاب السعير} أي: الذين قضت عليهم أعمالهم بملازمتها، وقال سعيد بن جبير وأبو صالح: هو واد في جهنم يقال: له السحق، وقرأ الكسائي بضم الحاء والباقون بسكونها.
(13/45)
---
ولما ذكر أصحاب السعير أتبعهم ذكر أضدادهم بقوله تعالى: {إن الذين يخشون} أي: يخافون {ربهم} أي: المحسن إليهم خوفاّ أرق قلوبهم وأرق أعينهم بحيث لا يقر لهم قرار من توقعهم العقوبة كلما ازدادوا طاعة ازدادوا خشية {يؤتون ما آتو وقلوبهم وجلة} (المؤمنون: 60) . {بالغيب} أي: حال كونهم غائبين عن عذابه سبحانه، أو وعيده غائباً عنهم أو وهم غائبون عن أعين الناس فهم مع الناس يتكلمون وقلوبهم تتلظى بنيران الخوف وتتكلم بسيوف الهيبة فيتركون المعصية حيث لا يراهم أحد من الناس ولا يكون لهم هذا إلا برياضة عظيمة، فعلى العاقل أن يطوع نفسه لترجع مطمئنة بأن ترضى بالله رباً لتدخل في رق العبودية، وبالإسلام ديناً ليصير غريقاً فيها، فلا ينازع الملك في ردائه الكبرياء وإزاره العظمة وتاجه الجلال وحلته الجمال، ولا ينازعه فيما يدبره من الشرائع ويظهره من المعارف ويحكم به على عبيده من قضائه وقدره. {لهم مغفرة} أي: عظيمة تأتي على جميع ذنوبهم {وأجر} أي: من فضل الله تعالى {كبير} يكون لهم به من الإكرام ما ينسيهم ما قاسوه في الدنيا من شدائد الإيلام ويصغر في جنبه لذائذ الدنيا العظام.
(13/46)
---(1/4797)
{وأسروا} أي: أيها الخلائق {قولكم} أي: خيراً كان أو شراً {أو اجهروا به} فإنه يعلمه ويجازيكم به، اللفظ لفظ الأمر والمراد به الخير، يعني: إن أخفيتم كلامكم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أو غيره أو جهرتم به فسواء {إنه} أي: ربكم {عليم} أي: بالغ العلم {بذات الصدور} أي: بحقيقتها وكنهها وحالها وجبلتها وما يحدث عنها من الخير والشر وقال ابن عباس: «نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل عليه السلام فقال: بعضهم لبعض أسروا قولكم كي لا يسمع رب محمد». فأسروا قولكم أو اجهروا به يعني: وأسروا قولكم في محمد صلى الله عليه وسلم وقال غيره: إنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال، والمراد أن قولكم وعملكم على أيّ سبيل وجد فالحال واحد في علمه تعالى، فاحذروا من المعاصي سراً كما تحذرون عنها جهراً فإنّ ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم الله تعالى.
(13/47)
---(1/4798)
ولما قال تعالى: {إنه عليم بذات الصدور} ذكر الدليل على أنه عالم فقال تعالى: {ألا يعلم من خلق} أي: من خلق لا بدّ وأن يكون عالماً بما خلقه، لأن الخلق هو الإيجاد والتكوين على سبيل القصد، والقاصد إلى الشيء لابد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك المخلوق كيفية وكمية. والمعنى: ألا يعلم السر من خلق السر، يقول: أنا خلقت السر في القلب أفلا أكون عالماً بما في قلوب العباد، قال أهل المعاني: إن شئت جعلته من أسماء الخالق تعالى ويكون المعنى: ألا يعلم الخالق خلقه، وإن شئت جعلته من أسماء المخلوق والمعنى: ألا يعلم الله من خلقه، ولا بد أن يكون الخالق عالماً بما خلقه وما يخلقه قال ابن المسيب: بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير وقد عصفت الريح فوقع في نفس الرجل أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق فنودي من جانب الغيضة بصوت عظيم ألا يعلم من خلق {وهو} أي: والحال أنه هو {اللطيف} الذي يعلم ما بثه في القلوب {الخبير} أي: البالغ العلم بالظواهر والبواطن فكيف يخفى عليه شيء من الأشياء.
وقال أبو إسحاق الاسفرايني: من أسماء صفات الذات ما هو للعلم منها العليم ومعناه تعميم جميع المعلومات، ومنها الحكيم، ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف، ومنها الشهيد، ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر، ومعناه أن لا يغيب عنه شيء، ومنها الحافظ ويختص بأنه لا ينسى شيئاً، ومنها المحصي ويختص بأنه لا يشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور واشتداد الريح وتساقط الأوراق فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق وقد قال: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}.
(13/48)
---(1/4799)
ولما كان هذا أمراً غامضاً دل عليه بأمر مشاهد أبدعه بلطفه وأتقنه بخبره فقال مستأنفاً: {هو} أي: وحده {الذي جعل لكم الأرض} على سعتها وعظمتها وحزونة كثير منها {ذلولاً} أي: مسخرة لا تمتنع لتتوصلوا إلى منافعكم فيها قابلة للانقياد لما تريدون منها من مشي وزرع حبوب وغرس أشجار وغير ذلك، وقيل: ثبتها بالجبال لئلا تزول بأهلها ولو كانت متمايلة لما كانت منقادة لنا، وقيل: لو كانت مثل الذهب والحديد لكانت تسخن جداً في الصيف وتبرد جداً في الشتاء.
تنبيه: في ذكر هذه الآية بعد الآية المتقدمة تهديد للكفرة كقول السيد لعبده الذي أساء إليه سراً: يا فلان أنا أعرف سرك وعلانيتك فاجلس في هذه الدار التي وهبتها لك، وكل هذا الخبز الذي هيأته لك ولا تأمن مكري وتأديبي، فكأنه تعالى يقول: يا أيها الكفار أنا عالم بسركم وجهركم وضمائركم فخافوني فإن الأرض التي هي قراركم أنا ذللتها لكم ولو شئت خسفت بكم.
(13/49)
---(1/4800)
وقوله تعالى: {فامشوا}، أي: الهوينا مكتسبين وغير مكتسبين إن شئتم من غير صعوبة توجب لكم وثوباً أو حبواً {في مناكبها} مثل لفرط التذلل ومجاوزته الغاية، لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير، وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يترك شيئاً وهذا أمر إباحة وفيه إظهار الامتنان وقيل: خبر بلفظ الأمر، أي: لكي تمشوا في أطرافها ونواحيها وآكامها وجبالها، وقال ابن عباس وبشير بن كعب وقتادة: في مناكبها في جبالها وتذليلها أدل على تذليل غيرها، وليكن مشيكم فيها وتصرفاتكم بذل وإخبات وسكون استصغاراً لأنفسكم وشكراً لمن سخر لكم ذلك، وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها: إن أخبرتيني ما مناكب الأرض فأنت حرة، فقالت: مناكبها جبالها، فقال لها: صرت حرة فأراد أن يتزوجها فسأل أبا الدرداء فقال: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وقال مجاهد: في أطرافها، وعنه أيضاً في طرقها وفجاجها، وهو قول السدي والحسن، وقال الكلبي: في جوانبها، ومنكبا الرجل جانباه.
فائدة: حكى قتادة عن أبي الخلدان: الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ، للسودان اثنا عشر ألف، وللروم ثمانية آلاف، وللفرس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف.
ثم ذكرهم تعالى بأنه سهلها لإخراج البركات بقوله تعالى: {وكلوا} ودل على أن الرزق فوق الكفاية بقوله تعالى: {من رزقه} الذي أودعه لكم فيها، قال الحسن: مما أحل لكم، وقيل: مما خلقه الله لكم رزقاً في الأرض {وإليه} أي: وحده {النشور} وهو إخراج جميع الحيوانات التي أكلتها الأرض وأفسدتها يخرجها سبحانه في الوقت الذي يريده على ما كان كل منها عليه عند الموت كما أخرج تلك الأرزاق، لا فرق بين هذا وذاك غير أنكم لا تتأملون، فيا فوز من شكر ويا هلاك من كفر، فعوّدوا أنفسكم بالخيرات لعلها تنقاد كما قيل:
* ** هي النفس ما عودتها تتعود*
(13/50)
---(1/4801)
ولما كان لم يكن بعد الاستعطاف إلا الإنذار قال تعالى مهدداً للمكذبين: {أأمنتم} قرأ قنبل في الوصل بإبدال الهمزة بعد راء النشور واواً، وسهل الهمزة الثانية نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه، وحققها الباقون، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام والباقون بغير إدخال، وقوله تعالى: {من في السماء} فيه وجوه:
أحدها: من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ، ومنها ينزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه.
والثاني: أن ذلك على حذف مضاف، أي: أأمنتم خالق من في السماء.
والثالث: أن في بمعنى على، أي: على السماء، كقوله: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} (طه: 71) أي: على جذوع النخل وإنما احتاج القائل بهذين الوجهين إلى ذلك لأنه اعتقد أن من واقعة على الباري تعالى شأنه وهو الظاهر وثبت بالدليل القطعي أنه ليس بمتحيز لئلا يلزم التجسيم، ولا حاجة إلى ذلك، فإن من هنا المراد بها الملائكة سكان السماء وهم الذين يتولون الرحمة والنقمة.
(13/51)
---(1/4802)
والرابع: أنهم خوطبوا بذلك على اعتقادهم فإن القوم كانوا مجسمة مشبهة وأنه في السماء، وأن الرحمة والعذاب نازلان منه، وكانوا يدعونه من جهتها فقيل لهم على حسب اعتقادهم: {أأمنتم من في السماء} أي: من تزعمون أنه في السماء. قال الرازي: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها بإجماع المسلمين، لأنّ ذلك يقتضي إحاطة السماء به من جميع الجوانب فيكون أصغر منها والعرش أكبر من السماء بكثير فيكون حقيراً بالنسبة إلى العرش وهو باطل بالاتفاق، ولأنه تعالى قال: {قل لمن ما في السموات والأرض} (الأنعام: 12) فلو كان فيها لكان مالكاً لنفسه، فالمعنى: أما من في السماء عذابه، وإما إن ذلك بحسب ما كانت العرب تعتقده، وأما من في السماء سلطانه وملكه وقدرته كما قال تعالى: {وهو الله في السموات وفي الأرض} (الأنعام: 3) فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة في مكانين، والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان الله سبحانه وتعظيم قدرته، والمراد الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل عليه السلام.
فائدة: حكى قتادة عن أبي الخلدان: الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ، للسودان اثنا عشر ألف، وللروم ثمانية آلاف، وللفرس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف.
ثم ذكرهم تعالى بأنه سهلها لإخراج البركات بقوله تعالى: {وكلوا} ودل على أن الرزق فوق الكفاية بقوله تعالى: {من رزقه} الذي أودعه لكم فيها، قال الحسن: مما أحل لكم، وقيل: مما خلقه الله لكم رزقاً في الأرض {وإليه} أي: وحده {النشور} وهو إخراج جميع الحيوانات التي أكلتها الأرض وأفسدتها يخرجها سبحانه في الوقت الذي يريده على ما كان كل منها عليه عند الموت كما أخرج تلك الأرزاق، لا فرق بين هذا وذاك غير أنكم لا تتأملون، فيا فوز من شكر ويا هلاك من كفر، فعوّدوا أنفسكم بالخيرات لعلها تنقاد كما قيل:
* ** هي النفس ما عودتها تتعود*
(13/52)
---(1/4803)
ولما كان لم يكن بعد الاستعطاف إلا الإنذار قال تعالى مهدداً للمكذبين: {أأمنتم} قرأ قنبل في الوصل بإبدال الهمزة بعد راء النشور واواً، وسهل الهمزة الثانية نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه، وحققها الباقون، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام والباقون بغير إدخال، وقوله تعالى: {من في السماء} فيه وجوه:
أحدها: من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ، ومنها ينزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه.
والثاني: أن ذلك على حذف مضاف، أي: أأمنتم خالق من في السماء.
والثالث: أن في بمعنى على، أي: على السماء، كقوله: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} (طه: 71) أي: على جذوع النخل وإنما احتاج القائل بهذين الوجهين إلى ذلك لأنه اعتقد أن من واقعة على الباري تعالى شأنه وهو الظاهر وثبت بالدليل القطعي أنه ليس بمتحيز لئلا يلزم التجسيم، ولا حاجة إلى ذلك، فإن من هنا المراد بها الملائكة سكان السماء وهم الذين يتولون الرحمة والنقمة.
(13/53)
---(1/4804)
والرابع: أنهم خوطبوا بذلك على اعتقادهم فإن القوم كانوا مجسمة مشبهة وأنه في السماء، وأن الرحمة والعذاب نازلان منه، وكانوا يدعونه من جهتها فقيل لهم على حسب اعتقادهم: {أأمنتم من في السماء} أي: من تزعمون أنه في السماء. قال الرازي: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها بإجماع المسلمين، لأنّ ذلك يقتضي إحاطة السماء به من جميع الجوانب فيكون أصغر منها والعرش أكبر من السماء بكثير فيكون حقيراً بالنسبة إلى العرش وهو باطل بالاتفاق، ولأنه تعالى قال: {قل لمن ما في السموات والأرض} (الأنعام: 12) فلو كان فيها لكان مالكاً لنفسه، فالمعنى: أما من في السماء عذابه، وإما إن ذلك بحسب ما كانت العرب تعتقده، وأما من في السماء سلطانه وملكه وقدرته كما قال تعالى: {وهو الله في السموات وفي الأرض} (الأنعام: 3) فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة في مكانين، والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان الله سبحانه وتعظيم قدرته، والمراد الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل عليه السلام.
وقوله تعالى: {أن يخسف بكم الأرض} بدل من {من في السماء} بدل اشتمال، وقال القرطبي: يحتمل أن يكون المعنى: أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون، وقرأ: {من في السماء أن} نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية المفتوحة بعد الكسرة ياء في الوصل والباقون بتحقيقهما {فإذا هي} أي: الأرض التي أنتم عليها {تمور} أي: تضطرب وهي تهوي بكم وتجري هابطة في الهواء وتتكفأ إلى حيث شاء سبحانه، قال في «القاموس»: المور الاضطراب والجريان على وجه الأرض والتحرك، وقال الرازي: إن الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها يذهبون، والأرض فوقهم تمور فتقلبهم إلى أسفل السافلين.
(13/54)
---(1/4805)
وقال القرطبي: قال المحققون: أأمنتم من فوق السماء كقوله تعالى: {فسيحوا في الأرض} (التوبة: 2) ، أي: فوقها لا بالمماسة والتحيز بل بالقهر والتدبير والأخبار في هذا صحيحة كثيرة منتشرة مشيرة إلى العلوّ لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل أو معاند، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت ووصفه بالعلوّ والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود، لأنها صفات الأجسام وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء، لأن السماء مهبط الوحي ومنزل القطر ومحل القدس ومعدن المطهرين من الملائكة وإليها ترفع أعمال العباد وفوقها عرشه وجنته، كما جعل الله تعالى الكعبة قبلة للصلاة، ولأنه تعالى خلق الأمكنة وهو غير متحيز وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان ولا مكان له ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان.
وقوله تعالى: {أم أمنتم} أي: أيها المكذبون {من في السماء أن يرسل} بدل من {من في السماء} بدل اشتمال. {عليكم} أي: من السماء {حاصباً} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل، وقيل: ريح فيها حجارة وحصباء كأنها تقلع الحصباء لشدتها وقوتها، وقيل: هي سحاب فيها حجارة {فستعملون} أي: عن قريب بوعد لا يخلف عند معاينة العذاب {كيف نذير} أي: إنذاري البليغ إذا شاهدتم العذاب، وهو بحيث لا يستطاع ولا تتعلق الأطماع بكشف له ولا دفاع. قال البقاعي: وحذف الياء منه ومن نكير إشارة إلى أنه وإن كان خارجاً عن الطوق ليس منتهى مقدوره بل لديه مزيد لا غاية له بوجه ولا تحزير، أي: على قراءة أكثر القراء فقد قرأ ورش بالياء في الوصل فيهما دون الوقف والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً.
{ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير} أي: إنكاري عليهم لما أصبتهم به من العذاب.
(13/55)
---(1/4806)
ولما ذكر تعالى ما تقدم من الوعيد ذكر البرهان على كمال قدرته بقوله تعالى: {أو لم يروا} أجمع القراء على القراءة بالغيب لأن السياق للرد على المكذبين بخلاف ما في النحل وأشار إلى بعد الغاية بحرف النهاية فقال تعالى: {إلى الطير} وهو جمع طائر {فوقهم} أي: في الهواء، وقوله تعالى: {صافات} أي: باسطات أجنحتهن يجوز أن يكون حالاً من الطير وأن يكون حالاً من فوقهم إذا جعلناه حالاً فتكون متداخلة وفوقهم ظرف لصافات على الأول أو ليروا.
وقوله تعالى: {ويقبضن} عطفه الفعل على الاسم لأنه بمعناه، أي: وقابضات فالفعل هنا مؤول بالاسم عكس قوله تعالى: {إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا} (الحديد: 18) فإن الاسم هناك مؤول بالفعل وقال أبو حيان: وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه، ومثله قوله تعالى: {فالمغيرات صبحاً فأثرن} (العاديات، الآيات: 3 ـ 4) عطف الفعل على الاسم لما كان المعنى: فاللاتي أغرن فأثرن، ومثل هذا العطف فصيح وكذا عكسه إلا عند السهيلي فإنه قبيح، وقال الزمخشري: {صافات} باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها؛ لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفاً {ويقبضن} ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن.
فإن قلت: لم قال: {ويقبضن} ولم يقل قابضات؟ قلت: لأن أصل الطيران هو صف الأجنحة، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح، اه.
(13/56)
---(1/4807)
وقال أبو جعفر النحاس: يقال للطائر إذا بسط جناحيه: صاف، وإذا ضمهما فأصابا جنبيه: قابض، لأنه يقبضهما. وقيل: ويقبضن أجنحتهن بعد بسطها إذا أوقفن عن الطيران. {ما يمسكهن} أي: عن الوقوع في حال البسط والقبض {إلا الرحمن} أي: الملك الذي رحمته عامة لكل شيء بأن هيأهن بعد أن أفاض عليهن رحمة الإيجاد على أشكال مختلفة وخصائص مفترقة هيأهن للجري في الهواء. {إنه} أي: الرحمن سبحانه {بكل شيء بصير} أي: بالغ البصر والعلم بظواهر الأشياء وبواطنها فمهما أراد كان. والمعنى: أولم يستدلوا بثبوت الطير في الهواء على قدرتنا أن نفعل بهم ما تقدم وغيره من العذاب.
(13/57)
---
وقوله تعالى: {أمن} مبتدأ، وقوله تعالى: {هذا} خبره، وقوله تعالى: {الذي} بدل من هذا، وقوله تعالى: {هو جند} أي: أعوان {لكم} صلة الذي، وقوله تعالى: {ينصركم} صفة جند {من دون الرحمن} أي: غيره يدفع عنكم عذابه، أي: لا ناصر لكم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: جندٌ لكم، أي: حزب ومنعة لكم ولفظ الجند يوحد ولذلك قال تعالى: {هذا الذي هو جند لكم} وهو استفهام إنكاري، أي: لا جند لكم يدفع عنكم عذاب الله من دون الرحمن، أي: من سوى الرحمن. وقرأ أبو عمرو بسكون الراء، وللدوري اختلاس الضمة أيضاً والباقون بالرفع {إن الكافرون} أي: ما الكافرون {إلا في غرور} أي: من الشيطان يغرّهم بأن لا عذاب ولا حساب.
قال بعض المفسرين: كان الكفار يمتنعون عن الإيمان ويعاندون النبي صلى الله عليه وسلم معتمدين على شيئين: أحدهما: قوتهم بمالهم وعددهم. والثاني: اعتقادهم أن الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات وتدفع عنهم جميع الآفات، فأبطل الله تعالى عليهم الأول بقوله تعالى: {أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم} الآية، ورد عليهم الثاني بقوله تعالى:(1/4808)
{أمن هذا الذي يرزقكم} أي: على سبيل التجدد والاستمرار {إن أمسك رزقه} بإمساك الأسباب التي ينشأ عنها كالمطر، ولو كان الرزق موجوداً وكثيراً وسهل التناول فوضع الأكل في فمه فأمسك الله تعالى عنه قوة الازدراد عجز أهل السموات والأرض عن أن يسوغوه تلك اللقمة، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي: فمن يرزقكم، أي: لا رازق لكم غيره، {بل لجوا} أي: تمادوا سفاهة لا احتياطاً وشجاعة. قال الرازي في «اللوامع»: واللجاج تقحم الأمر مع كثرة الصوارف عنه، {في عتوّ} أي: مظروفين لعناد وتكبر عن الحق وخروج إلى فاحش الفساد {ونفور} أي: تباعد عن الحق، واستولى ذلك عليهم حتى أحاط بهم مع أنه لا قوة لأحد منهم في جلب سارّ ولا دفع ضارّ والداعي إلى ذلك الشهوة والغضب.
(13/58)
---
{أفمن يمشي مكباً} أي: واقعاً {على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً} أي: معتدلاً {على صراط} أي: طريق {مستقيم} وخبر من الثانية محذوف دل عليه خبر الأولى، أي: أهدى، والمثل في المؤمن والكافر، أي: أيهما أهدى، وقيل: المراد بالمكب الأعمى، فإنه يتعسف فينكب وبالسوي البصير. وقيل: المكب هو الذي يحشر على وجهه إلى النار، ومن يمشي سوياً: الذي يحشر على قدميه إلى الجنة، وقال ابن عباس والكلبي رضي الله عنهم: عنى بالذي يمشي مكباً على وجهه أبا جهل، وبالذي يمشي سوياً رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: أبو بكر، وقيل: حمزة، وقيل: عمار بن ياسر، قال عكرمة: وقيل: عامٌّ في الكافر والمؤمن، أي: أن الكافر لا يدري أعلى حق هو أم على باطل، أي: أهذا الكافر أهدى أم المسلم الذي يمشي سوياً معتدلاً يبصر الطريق وهو على صراط مستقيم وهو الإسلام، وقرأ قنبل بالسين وقرأ خلف بالإشمام، أي: بين الصاد والزاي والباقون بالصاد الخالصة.
(13/59)
---(1/4809)
{قل} أي: يا أشرف الخلق وأشفقهم عليهم مذكراً لهم بما رفع عنهم الملك من المفسدات وجمع لهم من المصلحات ليرجعوا إليه، ولا يعولوا في حال من أحوالهم إلا عليه {هو} أي: الذي شرفكم بهذا الذكر وبين لكم هذا البيان {الذي أنشأكم} أي: أوجدكم ودرجكم في مدارج التربية حيث طوركم في الأطوار المختلفة في الرحم، ويسر لكم بعد الخروج اللبن حيث كانت المعدة ضعيفة عن أكثف منه {وجعل لكم السمع} أي: لتسمعوا ما تعقله قلوبكم فيهديكم، ووحده لقلة التفاوت فيه ليظهر سر تصرفه سبحانه في القلوب بغاية المفاوتة مع أنه أعظم الطرق الموصلة للمعاني إليها {والأبصار} لتنظروا صنائعه فتعتبروا وتزدجروا عما يرديكم {والأفئدة} أي: القلوب التي جعلها سبحانه في غاية التوقد بالإدراك لما لا يدركه بقية الحيوان لتتفكروا فتقبلوا على ما يعليكم، وجمعهما لكثرة التفاوت في نور الأبصار وإدراك الأفئدة. {قليلاً ما تشكرون} أي: باستعمالها فيما خلقت لأجله، وما مزيدة والجملة مستأنفة مخبرة بقلة شكرهم جداً على هذه النعم، وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان وأعلاهم في العرفان.
{قل هو} أي: وحده {الذي ذرأكم} أي: خلقكم وبثكم ونشركم وكثركم وأنشأكم بعدما كنتم كالذر أطفالاً ضعفاء {في الأرض} التي تقدم أنه ذللها لكم ورزقكم منها النبات وغيره {وإليه} أي: وحده بعد موتكم {تحشرون} شيئاً فشيئاً إلى البرزخ ودفعة واحدة يوم البعث للحساب فيجازى كلاً بعمله.
{ويقولون} أي: يجددون هذا القول تجديداً مستمراً استهزاء وتكذيباً {متى هذا} وزادوا في الاستهزاء بقولهم {الوعد} أي: يوم القيامة والعذاب الذي توعدوننا به {إن كنتم صادقين} أي: في أنه لابدّ لنا منه وأنكم مقربون عند الله، فلو كان لهم ثبات الصبر لما كانوا طاشوا هذا الطيش بإبراز هذا القول القبيح.
(13/60)
---(1/4810)
ثم إنه تعالى أجاب عن هذا السؤال بقوله عز وجل: {قل} أي: يا أكرم الخلق لهؤلاء البعداء {إنما العلم} أي: علم وقت قيام الساعة ونزول العذاب {عند الله} أي: الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال، فهو الذي يكون عنده وبيده جميع ما يراد منه لا يطلع عليه غيره {وإنما أنا نذير} أي: كامل في أمر النذارة التي يلزم منه البشارة لمن أطاع النذير، لا وظيفة لي عند الملك الأعظم غير ذلك فلا وصول إلى سؤاله عما لا يؤذن لي في السؤال عنه {مبين} أي: بين الإنذار بإقامة الأدلة حتى يصير ذلك كأنه مشاهدة لمن له قبول العلم.
{فلما رأوه} أي: العذاب بعد الحشر {زلفة} أي: ذا قرب عظيم منهم {سيئت} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: اسودّت {وجوه} وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال تعالى: {الذين كفروا} أي: أظهروا السوء وغاية الكراهة في وجوه من أوقع هذا الوصف.
تنبيه: الأصل ساء، أي: أحزن وجوههم العذاب ورؤيته ثم بني للمفعول وساء هنا ليست المرادفة لبئس.
(13/61)
---
وأشم كسرة السين نافع وابن عامر والكسائي والباقون باختلاس الكسرة. وقيل: أي: قال لهم الخزنة تقريعاً وتوبيخاً {هذا الذي كنتم} أي: جبلة وطبعاً {به} أي: بسببه ومن أجله {تدّعون} أي: تتمنون وتسألون وتزعمون أنكم لا تبعثون، وهذه حكاية حال تأتي عبر عنها بطريق المضي لتحقق وقوعها، وقرأ هشام والكسائي بضم القاف والباقون بكسرها.
{قل} أي: يا أكرم الخلق لهؤلاء الذين طال تضجرهم منك وهم يتمنون هلاكك كما قال تعالى: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} (الطور: 30) {أرأيتم} أي: أخبروني خبراً أنتم في الوثوق به على ما هو كالرؤية {إن أهلكني الله} أي: أماتني بعذاب أو غيره الذي له من الجلال والإكرام ما يعصم به وليه ويقصم عدوه.(1/4811)
وقرأ: قل أرأيتم في الموضعين، نافع بتسهيل الهمزة بعد الواو، ولورش أيضاً إبدالها ألفاً وأسقطها الكسائي والباقون بالتحقيق وإذا وقف حمزة سهل الهمزة، وقرأ: {إن أهلكني الله} حمزة بسكون الياء والباقون بفتحها، ومن سكن الياء رقق اللام من الاسم الجليل ومن فتحها فخم {ومن معي} أي: من المؤمنين {أو رحمنا} أي: بالنصر وإظهار الإسلام كما نرجو فأنجانا بذلك من كل سوء ووقانا كل محذور، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص بفتح الياء والباقون بالسكون {فمن يجير الكافرين} أي: العريقين في الكفر بأن يدفع عنهم ما يدفع الجار عن جاره {من عذاب أليم} أي: لا مجير لهم منه.
(13/62)
---
{قل} أي: يا خير الخلق {هو} أي: الله وحده {الرحمن} أي: الشامل الرحمة {آمنا به} أي: أنا ومن معي {وعليه} أي: وحده {توكلنا} أي: لأنه لا شيء في يد غيره وإلا لرحم من يريد عذابه أو عذب من يريد رحمته، فكل ما جرى على أيدي خلقه من رحمة أو نقمة فهو الذي أجراه لأنه الفاعل بالذات المستجمع لما يليق به من الصفات فنحن نرجو خيره ولا نخاف غيره {فستعلمون} أي عند معاينة العذاب عما قليل بوعد لا خلف فيه {من هو في ضلال مبين} أي: بين أنحن أم أنتم، وقرأ الكسائي بعد السين بياء الغيبة نظراً إلى قول الكافرين والباقون بتاء الخطاب إما على الوعيد، وإما على الالتفات من الغيبة المرادة في قراءة الكسائي وهو تهديد لهم.(1/4812)
{قل} أي: يا أعظم خلقنا وأعلمهم بنا {أرأيتم} أي: أخبروني إخباراً لا لبس فيه {إن أصبح ماؤكم} أي: الذي تعدّونه في أيديكم بما نبهت عليه الإضافة {غوراً} أي: غائراً ذاهباً في الأرض لا تناله الدلاء وكان ماؤهم من بئرين بئر زمزم وبئر ميمونة {فمن يأتيكم} على ضعفكم حينئذ وانخلاع قلوبكم واضطراب أفكاركم {بماء معين}، أي: دائم لا ينقطع وظاهر للأعين سهل المأخذ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بماء معين أي: ظاهر تراه العيون فهو مفعول. وقيل: هو من معن الماء، أي: كثر فهو على هذا فعيل، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً أن المعنى: فمن يأتيكم بماء عذب أي: لا يأتيكم به إلا الله فكيف تنكرون أن يبعثكم؟
(13/63)
---
ويستحب أن يقول القارىء عقب معين: الله رب العالمين، كما في الحديث. وتليت هذه الآية عند بعض المتجبرين فقال: تأتي به الفؤوس والمعاول، فذهب ماء عينيه وعمي نعوذ بالله من الجراءة على الله وعلى آياته، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل يوم القيامة فأخرجته من النار وأدخلته الجنة وهي سورة تبارك». وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «إذا وضع الميت في قبره يؤتى من قبل رجليه فيقال: ليس لكم عليه سبيل لأنه قد كان يقوم بسورة الملك ثم يؤتى من قبل رأسه فيقول لسانه ليس لكم عليه سبيل كان يقرأ بي سورة الملك ثم قال: هي المانعة من عذاب الله، وهي في التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب». وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وددت أن تبارك الملك في قلب كل مؤمن». وأما ما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الملك فكأنما أحيا ليلة القدر» فحديث موضوع.(1/4813)
سورة ن وتسمى القلم مكية
في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة رضي الله عنهم: من أولها إلى قوله تعالى: {سنسمه على الخرطوم} مكي، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى: {يعلمون} مدني، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى: {فهم يكتبون} مكي، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى: {من الصالحين} مدني، وباقيها مكي، قاله الماوردي.
وهي اثنتان وخمسون آية، وثلاثمائة كلمة، وألف ومائتان وستة وخمسون حرفاً.
{بسم الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة فهو بكل شيء عليم {الرحمن} الذي عمت نعمة إيجاده لأهل معاده البريء منهم والسقيم {الرحيم} الذي أتم تلك النعمة على من وفقه لطاعته فألزمه صراطه المستقيم. وقوله تعالى:
(13/64)
---
{ن} كقوله تعالى: {ص والقرآن} (ص: 1) وجواب القسم الجملة المنفية بعدها.
واختلفوا في تفسير ذلك، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الحوت الذي على ظهره الأرض وهو قول مجاهد ومقاتل والسدّي والكلبي، وروى أبو طيبان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أول ما خلق الله تعالى القلم فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض، ثم قرأ ابن عباس: {ن} الآية».
(13/65)
---(1/4814)
واختلفوا في اسمه فقال الكلبي ومقاتل: يهموت، وقال الواقدي: ليوثا، وقال كعب: لوثا، وقال علي: تلهوت، وقال الرواة: لما خلق الله تعالى الأرض وفتقها بعث من تحت العرش ملكاً فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين حتى ضبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار فأهبط الله عز وجل من الفردوس ثوراً له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة وجعل قرار قدم الملك على سنامه فلم تستقر قدماه، فأخذ الله تعالى ياقوتة خضراء من أعلى درجة الفردوس غلظها خمسمائة عام ووضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفساً، فإذا تنفس يمتد البحر وإذا ردّ نفسه جزر البحر، فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار، فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سموات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه: فتكن في صخرة ولم يكن للصخرة مستقر، فخلق الله تعالى نوناً وهو الحوت العظيم ووضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال والحوت على البحر، والبحر على متن الريح، والريح على القدرة ثقل الدنيا كلها بما عليها حرفان قال لها الجبار: كوني فكانت.
قال كعب الأحبار: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس إليه فقال له: أتدري ما على ظهرك يا لويثا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك، فهمّ لويثا أن يفعل فبعث الله تعالى دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله تعالى منها، فأذن الله تعالى لها فخرجت، فوالذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن همّ بشيء من ذلك عادت إليه كما كانت.
(13/66)
---(1/4815)
وقال بعضهم: نون آخر حروف الرحمن وهي رواية عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الحسن وقتادة والضحاك: النون: الدواة، وهو مروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال القرطبي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة». ومنه قول الشاعر:
*إذا ما الشوق برح بي إليهم ** ألقت النون بالدمع السجام*
ويكون على هذا أقسم بالدواة والقلم، فإن المنفعة بهما عظيمة بسبب الكتابة، فإن التفاهم يحصل تارة بالنطق وتارة بالكتابة، وقيل: النون: لوح من نور تكتب فيه الملائكة ما يؤمرون به، رواه معاوية بن قرة مرفوعاً، وقيل: النون: هو المداد الذي تكتب به الملائكة. وقال عطاء وأبو العالية: هو افتتاح اسمه تعالى نصير ونور وناصر، وقال محمد بن كعب: أقسم الله تعالى بنصرة المؤمنين.
وقال الزمخشري: هذا الحرف من حروف المعجم، وأما قولهم: هو الدواة فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة من أن يكون جنساً أو علماً، فإن كان جنساً فأين الإعراب والتنوين، وإن كان علماً فأين الإعراب وأيهما كان فلا بد له من موقع في تأليف الكلام. فإن قلت: هو مقسم به وجب إن كان جنساً أن تجره وتنونه ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة كأنه قيل: ودواة {والقلم} وإن كان علماً أن تصرفه وتجره أو لا تصرفه وتفتحه للعملية والتأنيث.
وكذلك التفسير بالحوت إما أن يراد نون من النينان، أو يجعل علماً لليهموت الذي يزعمون والتفسير باللوح من نور أو ذهب والنهر في الجنة نحو ذلك ا.ه.
(13/67)
---(1/4816)
تنبيه: في القلم المقسم به قولان: أحدهما: أن المراد به الجنس وهو واقع على كل قلم يكتب به في السماء والأرض، قال تعالى: {وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} (العلق: 3 ـ 5) ولأنه ينتفع به كما ينتفع بالنطق، قال تعالى: {خلق الإنسان علمه البيان} (الرحمن: 3 ـ 4)، فالقلم يبين كما يبين اللسان في المخاطبة بالكتابة للغائب والحاضر، والثاني: أنه القلم الذي جاء في الخبر عن ابن عباس رضي الله عنهما: أول ما خلق الله تعالى القلم، ثم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو أثر، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة قال: ثم ختم فم القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة، قال: وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض.
وروى مجاهد أول ما خلق الله تعالى القلم فقال: اكتب المقدر، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، وإنما يجري في الناس على أمر قد فرغ منه، قال ابن عادل: قال القاضي: هذا الخبر يجب حمله على المجاز، لأن القلم آلة مخصوصة للكتابة لا يجوز أن يكون حياً عاقلاً فيؤمر وينهى، فإن الجمع بين كونه حيواناً مكلفاً وبين كونه آلة للكتابة محال، بل المراد منه إنه تعالى أجراه بكل ما يكون وهو قوله تعالى: {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} (آل عمران: 47) فإنه ليس هناك أمر ولا تكليف بل هو مجرد نفاذ القدرة في المقدور من غير منازعة ولا مدافعة، اه.
وقوله: فإن الجمع إلى قوله: محال، ممنوع فإن الله تعالى خلق فيه ذلك كما قال تعالى للسموات والأرض: {ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} (فصلت: 11) وقال الزمخشري: أقسم بالقلم تعظيماً له لما في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيطها الوصف.
(13/68)
---(1/4817)
وقيل: القلم المذكور ههنا هو العقل وإنه شيء كالأصل لجميع المخلوقات، قالوا: والدليل عليه أنه روي في الأخبار: أول ما خلق الله تعالى القلم، وفي خبر آخر: «أول ما خلق الله تعالى العقل، فقال الجبار: ما خلقت خلقاً أعجب إليَّ منك وعزتي وجلالي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت، قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس عقلاً أطوعهم لله وأعلمهم بطاعته». وفي خبر آخر: أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وسخنت فارتفع منها دخان وزبد، فخلق من الدخان السموات ومن الزبد الأرض، قالوا: وهذه الأخبار بمجموعها تدل على أن القلم والعقل وتلك الجوهرة التي هي أصل المخلوقات شيء واحد وإلا حصل التناقض، وقال البغوي: القلم هو الذي كتب الله به الذكر وهو قلم من نور طوله ما بين السماء والأرض، ويقال: أول ما خلق الله تعالى القلم ونظر إليه فانشق نصفين ثم قال: اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ بذلك.
وقرأ قالون وابن كثير وأبو عمرو وحفص وحمزة وورش بخلاف عنه بإظهار النون عند الواو هنا والباقون بالإدغام.
{وما يسطرون} أي: الملائكة من الخير والصلاح، وقيل: وما تكتبه الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم، وقيل: ما يكتبون، أي: الناس ويتفاهمون به، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معنى {وما يسطرون}: وما يعملون، وما موصولة أو مصدرية. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون الضمير في يسطرون لهم، كأنه قيل: وأصحاب القلم ومسطوراتهم أو وسطرهم، ويراد بهم كل من يسطر أو الحفظة، وقال البقاعي: وما يسطرون، أي: قلم القدرة وجمعه وأجراه مجرى أولى العلم للتعظيم لأنه فعل أفعالهم أو الأقلام على إرادة الجنس، ويجوز أن يكون الإسناد إلى الكاتبين به لما دل عليهم من ذكره، وأما الملائكة إن كان المراد ما كتب في الكتاب المبين واللوح المحفوظ وغيره مما يكتبونه، وأما كل من يكتب منهم ومن غيرهم.(1/4818)
(13/69)
---
وقوله تعالى: {ما أنت} أي: ياأعلى المتأهلين لخطابنا {بنعمة} أي: بسبب إنعام {ربك} أي: المربي لك بمثل تلك الهمم العالية والسجايا الكاملة بأن خصك بالقرآن الذي هو الجامع لكل علم وحكمة {بمجنون} جواب القسم، وهو نفي، قال الزجاج: أنت هو اسم ما وبمجنون الخبر. وقوله تعالى: {بنعمة ربك} كلام وقع في الوسط، أي: انتفى ذلك الجنون بنعمة ربك كما يقال: أنت بحمد ربك عاقل بل الذي وصفك بهذا هو الحقيق باسم الجنون، وقال البغوي: ما أنت بنعمة ربك بنبوة ربك بمجنون، أي: إنك لا تكون مجنوناً وقد أنعم الله تعالى عليك بالنبوة والحكمة، وقيل: بعصمة ربك، وقيل: هو كما يقال: ما أنت بمجنون والحمد لله، وقيل: معناه ما أنت بمجنون والنعمة لربك كقولهم: سبحانك اللهمّ وبحمدك، أي: والحمد لك.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أنه صلى الله عليه وسلم غاب عن خديجة إلى حراء فطلبته فلم تجده، فإذا به ووجهه متغير امتلأ غباراً، فقالت له: ما لك فذكر جبريل عليه السلام وأنه قال له: {اقرأ باسم ربك} (العلق: 1) فهو أول ما نزل من القرآن قال: ثم نزل بي إلى قرار الأرض فتوضأ وتوضأت ثم صلى وصليت معه ركعتين وقال: هكذا الصلاة يا محمد، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لخديجة فذهبت به خديجة إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها وكان قد خالف دين قومه ودخل في النصرانية، فسألته فقال: أرسلي إلي محمداً فأرسلته، فقال: هل أمرك جبريل عليه السلام أن تدعو أحداً، قال: لا فقال: والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصراً عزيزاً ثم مات قبل دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش فقالوا: إنه مجنون، وأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون وهو خمس آيات من أول هذه السورة.
(13/70)
---(1/4819)
وقال ابن عباس: أول ما نزل قوله تعالى: «سبح اسم ربك الأعلى» (الأعلى: 1) وهذه الآية هي الثانية نقله الرازي، وذكر القرطبي أن المشركين كانوا يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم مجنون به شيطان وهو قولهم: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} (الحجر: 6) فأنزل الله تعالى رداً عليهم وتكذيباً لقولهم: {ما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون} (الطور: 29) ، أي: برحمة ربك والنعمة ههنا الرحمة، وقال عطاء وابن عباس: يريد بنعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة، وقال القرطبي: يحتمل أن النعمة ههنا قسم تقديره ما أنت ونعمة ربك بمجنون لأن الواو والباء من حروف القسم.
وقال الرازي: إنه تعالى وصفه بصفات ثلاث:
الأولى: نفي الجنون عنه، ثم قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها، لأن قوله: {بنعمة ربك} يدل على أن نعم الله تعالى ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة والعقل الكامل والسيرة المرضية والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة، وإذا كانت هذه النعم المحسوسة ظاهرة ووجودها ينافي حصول الجنون فالله تعالى نبه على أن هذه الدقيقة جارية مجرى الدلالة اليقينية على كذبهم في قولهم مجنون.
الصفة الثانية: قوله تعالى: {وإنّ لك} أي: على ما تحملت من أثقال النبوة وعلى صبرك عليهم فيما يرمونك به وهو تسلية له صلى الله عليه وسلم {لأجر}، أي: ثواباً {غير ممنون} أي: مقطوع ولا منقوص في دنيا ولا آخرة، يقال: مان الشيء إذا ضعف. ويقال: مننت الحبل إذا قطعته، وحبل منين إذا كان غير متين، قال لبيد:
* ** عبساً كواسب لا يمنّ طعامها*
(13/71)
---(1/4820)
أي: لا يقطع، يصف كلاباً ضارية. ونظيره قوله تعالى: {غير مجذوذ} (هود: 108) وقال مجاهد ومقاتل والكلبي: غير ممنون، أي: غير محسوب عليك. قال الزمخشري: لأنه ثواب تستحقه على عملك وليس بتفضل ابتداء وإنما تمن الفواضل لا الأجور على الأعمال، انتهى. وهذا قول المعتزلة، فإن الله تعالى لا يجب عليه شيء. وقال الحسن: غير مكدر بالمن. وقال الضحاك رضي الله تعالى عنه: أجراً بغير عمل. واختلفوا في هذا الأجر على أي شيء حصل، فقيل: معناه ما مرّ وقيل: معناه أنّ لك على احتمال هذا الطعن والقول القبيح أجراً عظيماً دائماً، وقيل: إن لك في إظهار النبوة والمعجزات وفي دعاء الخلق إلى الله تعالى، وفي بيان الشرع لهم هذا الأجر الخالص الدائم فلا تمنعنك نسبتهم إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا المهم العظيم، فإن لك بسببه المنزلة العالية.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} استعظم خلقه لفرط احتمال الممضات من قومه وحسن مخالقته ومداراته لهم، قال ابن عباس ومجاهد: على دين عظيم من الأديان ليس دين أحب إلى الله تعالى، ولا أرضى عنده منه، وروى مسلم عن عائشة: «أنّ خُلقه كان القرآن». وقال علي: هو أدب القرآن، وقيل: رفقه بأمته وإكرامه إياهم، وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من الله وينتهي عنه بما نهى الله تعالى عنه، وقيل: إنك على طبع كريم، وقيل: هو الخلق الذي أمر الله تعالى به في قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف: 199)
وقال الماوردي: حقيقة الخلق في اللغة ما يأخذه الإنسان في نفسه من الأدب، سمي خلقاً لأنه يصير كالخلقة فيه، فأما ما طبع عليه من الأدب فهو الخيم، فيكون الخلق الطبع المتكلف والخيم الطبع الغريزي.l
(13/72)
---(1/4821)
قال القرطبي: ما ذكره مسلم في صحيحه عن عائشة أصح الأقوال، وسئلت أيضاً عن خلقه صلى الله عليه وسلم «فقرأت قد أفلح المؤمنون إلى عشر آيات». قال الرازي: وهذا إشارة إلى أن نفسه القدسية الشريفة كانت بالطبع منجذبة إلى عالم الغيب، وإلى كل ما يتعلق به وكانت شديدة التعري عن اللذات البدنية والسعادات الدنيوية بالطبع، ومقتضى الفطرة وقالت: «ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال: لبيك ولذلك قال الله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر».
(13/73)
---(1/4822)
وقال الجنيد: سمي خلقه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه بدليل قوله صلى الله عليه وسلم «إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال». وعن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً، وأحسن الناس خلقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير». وعن أنس بن مالك قال: «خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط وما قال لشيء صنعته: لم صنعته، ولا لشيء تركته: لم تركته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً، ولا مسست خزاً قط ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت مسكاً ولا عنبراً كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن ابن عمر «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: خياركم أحسنكم أخلاقاً». وعن أنس «أن امرأة عرضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة، فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة فقال: يا أم فلان اجلسي في أي سكك المدينة شئت أجلس إليك قال: ففعلت فقعد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قضيت حاجتها». وعن أنس بن مالك قال: «كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت». وعن أنس أيضاً: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صافح رجلاً لم ينزع يده حتى يكون هو الذي يصرف وجهه عن وجهه ولم ير مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له». وعن عائشة قالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى، ولا ضرب خادماً ولا امرأة». وعنها قالت: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم». وعن أنس قال:(1/4823)
(13/74)
---
«كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحك وأمر له بعطاء».
وعنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً وكان لي أخ يقال له: أبو عمير وهو فطيم كان إذا جاءنا قال: يا أبا عمير ما فعل النغير لنغير كان يلعب به». والنغير طائر صغير يشبه العصفور إلا أنه أحمر المنقار. وعن الأسود قال: «سألت عائشة: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل في بيته؟ قالت: كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة توضأ ويخرج إلى الصلاة». والمهنة: الخدمة، وعن عبد الله بن الحرث قال: «ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن أم الدرداء تحدث عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن أثقل شيء يوضع في ميزان المؤمن يوم القيامة خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء». وعن أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: أتدرون أكثر ما يدخل الناس النار؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: فإن أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان الفرج والفم، أتدرون أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق».
وعن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن المؤمن يدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار».
{فستبصر} أي: فستعلم عن قرب بوعد لا خلف فيه علماً أنت في تحققه كالمبصر بالحس الباصر {ويبصرون} أي: يعلم الذين رموك بالبهتان علماً هو كذلك. وقوله تعالى: {بأييكم المفتون} فيه أربعة أوجه:
(13/75)
---(1/4824)
أحدها: أن الباء مزيدة في المبتدأ، والتقدير: أيكم المفتون فزيدت كزيادتها في نحو: بحسبك زيد، وإلى هذا ذهب قتادة، قال ابن عادل: إلا أنه ضعيف من حيث إن الباء لا تزاد في المبتدأ إلا في حسبك فقط.
الثاني: أن الباء بمعنى في فهي ظرفية كقولك: زيد بالبصرة، أي: فيها، والمعنى: في أي فرقة وطائفة منكم المفتون، أي: المجنون أفي فرقة الإسلام، أم في فرقة الكفر؟ وإليه ذهب مجاهد والفراء.
الثالث: أنه على حذف مضاف، أي: بأيكم فتن المفتون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وإليه ذهب الأخفش وتكون الباء سببية.
الرابع: أن المفتون مصدر جاء على مفعول كالمقتول والميسور، والتقدير: بأيكم الفتنة، وقيل: المفتون المعذب من قول العرب فتنت الذهب بالنار إذا أحميته قال تعالى: {يوم هم على النار يفتنون} (الذاريات: 13) ، أي: يعذبون، وقيل: الشيطان لأنه مفتون في دينه وكانوا يقولون: إنه به شيطان وعنوا بالمجنون هذا، فقال تعالى: سيعلمون غدَاً بأيهم الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل.
فائدة: {بأييكم} رسمت ههنا بياءين.
{س68ش7/ش16 إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ? وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا? لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَ تُطِعْ كُلَّ حَsفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّآء? بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍ? بَعْدَ ذَالِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ا?وَّلِينَ * سَنَسِمُهُ? عَلَى الْخُرْطُومِ }
(13/76)
---(1/4825)
{إن ربك} أي: الذي رباك أحسن تربية وفضلك على سائر الخلائق {هو} أي: وحده {أعلم} أي: من كل أحد {بمن ضلّ} أي: حاد {عن سبيله} أي: دينه وسلك غير سبيل القصد وأخطأ موضع الرشد {وهو} أي: وحده {أعلم بالمهتدين} أي: الثابتين على الهدى، وهم أولوا الأحلام والنهى، أي: لذو علم بمعنى عالم.
تنبيه: قوله تعالى: {وهو أعلم} {وهو مكظوم} {وهو مذموم} قرأه قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء، والباقون بضمها وقوله تعالى: {فلا تطع المكذبين} أي: العريقين في التكذيب وهم مشركو مكة، فإنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه فنهاه أن يطيعهم، ينتج التصميم على معاداتهم.
{ودّوا} أي: تمنوا وأحبوا محبة واسعة متجاوزة للحدّ قديماً مع الاستمرار على ذلك {لو} مصدرية {تدهن فيدهنون} قال الضحاك: لو تكفر فيكفرون. وقال الكلبي: لو تلين لهم فيلينون لك. وقال الحسن: لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم. وقال زيد بن أسلم: لو تنافق وترائي فينافقون ويراؤون. وقال ابن قتيبة: أرادوا أن يعبد آلهتهم مدّة ويعبدون الله مدة. وقال ابن العربي: ذكر المفسرون في ذلك نحو عشرة أقوال كلها دعاوى على اللغة، والمعنى وأمثلها: ودّوا لو تكذب فيكذبون، ودّوا لو تكفر فيكفرون. وقال القرطبي: كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى.
تنبيه: في رفع فيدهنون وجهان: أحدهما: أنه عطف على تدهن فيكون داخلاً في حيّز لو، والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: فهم يدهنون. وقال الزمخشري: فإن قلت لم رفع فيدهنون ولم ينصب بإضمار أن وهو جواب التمني، قلت: قد عدل به إلى طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف، أي: فهم يدهنون، كقوله تعالى: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً} (الجن: 13) على معنى: ودّوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ أو ودّوا ادهانك، فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك.
(13/77)
---(1/4826)
واختلفوا في سبب نزول قوله تعالى: {ولا تطع كل حلاف}، أي: كثير الحلف بالباطل فقال مقاتل: يعني الوليد بن المغيرة عرض على النبي صلى الله عليه وسلم مالاً وحلف له أن يعطيه إن رجع عن دينه، وقال ابن عباس: هو أبو جهل بن هشام. وقال عطاء: هو الأخنس بن شريق؛ لأنه حليف ملحق في بني زهرة فلذلك سمة زنيماً، وقال مجاهد: هو الأسود بن عبد يغوث. {مهين}، أي: ضعيف حقير. قيل: هو فعيل من المهانة وهي قلة الرأي والتمييز. وقال ابن عباس: كذاب وهو قريب من الأول، لأن الإنسان إنما يكذب لمهانة نفسه عليه. وقال الحسن وقتادة: هو المكار في الشر، وقال الكلبي: المهين العاجز.
{هماز} أي: كثير العيب للناس في غيبتهم. وقال الحسن: هو الذي يغمز بأخيه في المجلس. وقال ابن زيد: الهماز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم واللماز باللسان. وقيل: الهماز الذي يذكر الناس في وجوههم، واللماز الذي يذكرهم في غيبتهم وقال مقاتل: بالعكس، وقال مرّة: هما سواء، ونحوه عن ابن عباس وقتادة. {مشاء} أي: كثير المشي {بنميم} أي: فتان يلقي النميمة بين الناس ليفسد بينهم فينقل ما قاله الإنسان في آخر، وإذاعة سر لا يريد صاحبه إظهاره على وجه الإفساد البين مبالغ في ذلك.
{مناع} أي: كثير المنع شديده {للخير} أي: كل خير من المال والإيمان وغيرهما من نفسه وغيره من الدين والدنيا، وقال ابن عباس: مناع للخير، أي: الإسلام يمنع ولده وعشيرته من الإسلام وكان له عشرة من الولد يقول: لئن دخل أحد منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبداً. {معتد} أي: ثابت التجاوز للحدود في كل ذلك {أثيم}، أي: مبالغ في ارتكاب ما يوجب الإثم فيترك الطيبات ويأخذ الخبائث يرغب في المعاصي ويتطلبها ويدع الطاعات ويزهد فيها.
(13/78)
---(1/4827)
{عتلّ} العتلّ: الغليظ الجافي. وقال الحسن: هو الفاحش الخلق السيء الخلق. وقال الفراء: هو الشديد الخصومة في الباطل. وقال الكلبي: هو الشديد في كفره، وكل شديد عند العرب عتلّ وأصله من العتل وهو الدفع بالعنف، وقال أبو عبيدة بن عمير: العتل: الأكول الشروب القوي الشديد الذي لا يزن في الميزان شعيرة، يدفع الملك من أولئك سبعين ألفاً دفعة واحدة {بعد ذلك} أي: مع ذلك، يريد مع ما وصفناه به. {زنيم} وهو الدعي الملصق بالقوم وليس منهم، وقال عطاء عن ابن عباس: يريد مع هذا هو دعي في قريش وقال مرّة الهمداني: إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشر سنة، وقيل: الزنيم الذي له زنمة كزنمة الشاة. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: في هذه الآية نعت، فلم يعرف حتى قيل: زنيم فعرف وكانت زنمة في عنقه يعرف بها. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها. وقال مجاهد: زنيم كانت له ستة أصابع في يده في كل إبهام له إصبع زائدة، وقال ابن قتيبة: لا نعلم أن الله تعالى وصف أحداً ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة.
وعن حارثة بن وهب الخزاعي قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف لو يقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر». وفي رواية: «كل جواظ زنيم متكبر». الجواظ: الجموع المنوع، وقيل: الكثير اللحم المختال في مشيته، وقيل: القصير البطين، وقال عكرمة: هو ولد الزنا الملحق في النسب بالقوم، وكان الوليد دعياً في قريش، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده قال الشاعر فيه:
*زنيم ليس يعرف من أبوه ** بغي الأمّ ذو حسب لئيم*
(13/79)
---(1/4828)
قيل: بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت الآية، وهذا لأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الولد كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة ولد زنا ولا ولده ولا ولد ولده». وقال عبد الله بن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أولاد الزنا يحشرون يوم القيامة في صور القردة والخنازير». ولعل المراد به الدخول مع السابقين، وإلا فمن مات مسلماً دخل الجنة، وقالت ميمونة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا فإذا فشى فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمهم الله بعذابه». وقال عكرمة: إذا كثر ولد الزنا قحط المطر. قال القرطبي: ومعظم المفسرين على أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يطعم أهل منى حيساً ثلاثة أيام، وينادي ألا لا يوقدنّ أحد تحت برمة ألا لا يزجين أحد بكراع، ألا من أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة، وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفاً وأكثر، ولا يعطي المسكين درهماً واحداً وقيل: مناع للخير وفيه نزل {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} (فصلت: 6 ـ 7) .
(13/80)
---(1/4829)
ولما كان حطام هذه الدنيا كله عرضاً فانياً وظلاً متقلصاً زائلاً لا يفتخر به ولا يلتفت إليه إلا من كان بهذه الأوصاف، فإذا كان ذلك أكبر همه ومبلغ علمه أثمر له الترفع على الحقوق والتكبر على العباد، قال الله تعالى: {أن} أي: لأجل أن {كان} أي: هذا الموصوف {ذا مال} أي: مذكور بالكثرة {وبنين} أنعمنا عليه بهما، فصار يطاع لأجلهما، فكان بحيث يجب عليه شكرنا بسببهما. {إذا تتلى} أي: تذكر على سبيل المتابعة {عليه} ولو كان ذلك على سبيل الخصوص له {آياتنا} أي: العلامات الدالة دلالة هي في غاية الظهور على الملك الأعلى وعلى ماله من صفات العظمة {قال} أي: مفاجأة من غير تأمل ولا توقف عوضاً عن شكرنا {أساطير} جمع سطور جمع سطر {الأولين} أي: أشياء سطروها ودونوها وفرغوا منها، فحمله دنيء طبعه على تكثره بالمال، فورطه في التكذيب بأعظم ما يمكن سماعه، فجعل الكفر موضع الشكر، ولم يستح من كونه يعرف كذبه كل من سمعه، فأعرض عن الشكر ووضع موضعه الكفر، فكان هذا دليلاً على جميع تلك الصفات السابقة، مع التعليل بالاستناد إلى ما هو عند العاقل أوهى من بيت العنكبوت والاستناد إليه وحده كاف في الاتصاف بالرسوخ في الدناءة.
(13/81)
---(1/4830)
وقرأ ابن عامر وشعبة وحمزة بهمزتين مفتوحتين وابن عامر يسهل الثانية، وشعبة وحمزة بتحقيقهما وهشام على أصله يدخل بينهما ألفاً والباقون بهمزة واحدة مفتوحة. قال القرطبي: فمن قرأ بهمزة مطولة أو بهمزتين محققتين، فهو استفهام والمراد به التوبيخ، ويحسن له أن يقف على {زنيم} ويبتدىء {أن كان} على معنى ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه؟ ويجوز أن يكون التقدير: ألأن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال: أساطير الأولين، ويجوز أن يكون التقدير: ألأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر؟ ودل عليه ما تقدم من الكلام، فصار كالمذكور بعد الاستفهام، ومن قرأ أن كان بغير استفهام فهو مفعول من أجله، والعامل فيه فعل مضمر، والتقدير: يكفر لأن كان ذا مال وبنين، ودل على هذا الفعل {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} ولا يعمل في إذا تتلى ولا قال، لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها؛ لأن إذا تضاف إلى الجمل التي بعدها، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف. وقال: جواب الجزاء ولا يعمل فيما قبل الجزاء إذ حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط، فيصير مقدماً مؤخراً في حال واحد.
ويجوز أن يكون المعنى: لا تطعه لإن كان ذا يسار وعدد. قال ابن الأنباري: ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على زنيم، لأن المعنى: لأن كان ذا مال كان، فأن متعلقة بما قبلها. وقال غيره: يجوز أن تتعلق بقوله تعالى: {مشاء بنميم} والتقدير: يمشي بنميم لإن كان ذا مال وبنين، وأجاز أبو علي أن تتعلق بعتل. ومعنى {أساطير الأولين} أباطيلهم وترهاتهم.
(13/82)
---(1/4831)
{سنسمه} أي: نجعل له سمة، أي: علامة يعرف بها {على الخرطوم} أي: الأنف يعير بها ما عاش، قال ابن عباس: سنسمه سنخطمه بالسيف، قال: وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف، فلم يزل مخطوماً إلى أن مات، والتعبير عن الأنف بهذا للاستهانة والاستخفاف. وقال قتادة: سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها. وقال الكسائي: سنكويه على وجهه وقال أبو العالية ومجاهد: سنسمه على الخرطوم، أي: على أنفه ونسوّد وجهه في الآخرة فيعرف بسواد وجهه قال تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} (آل عمران: 106)
فهي علامة ظاهرة {ونحشر المجرمين يومئذ زرقا} (طه: 102)
وهذه علامة أخرى ظاهرة.
وأفادت هذه الآية علامة ثالثة: وهي الوسم على الأنف بالنار، وهذا كقوله تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم} (الرحمن: 41)
قال القرطبي: والخرطوم الأنف من الإنسان، ومن السباع موضع الشفة، وخراطيم القوم ساداتهم. قال الفراء: وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنه في معنى الوجه، لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل. وقال القرطبي: بين أمره تبياناً واضحاً فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السمة على الخراطيم، وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة، ولا شك أن المبالغة العظيمة في ذمه بقيت على وجه الدهر، ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغ منه، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا ولا في الآخرة كالوسم على الخرطوم. وقيل: ما ابتلاه الله تعالى به في الدنيا في نفسه وأهله وماله من سوء وذل وصغار. وقال النضر بن شميل: المعنى: سنحده على شرب الخمر، والخرطوم الخمر وجمعه خراطيم. قال: الرازي كالزمخشري وهذا تعسف ا. ه. وقيل للخمر: الخرطوم كما قيل لها: السلافة وهي ما سلف من عصير العنب أو لأنها تطير في الخياشيم.
(13/83)
---(1/4832)
تنبيه: الأنف أكرم موضع في الوجه لتقديمه له، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأنفة، وقالوا: الأنف في الأنف وحمى أنفه، وفلان شامخ العرنين، وقالوا في الذليل: جدع أنفه ورغم أنفه، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة، لأن السمة على الوجه شين وإذلال فكيف بها على أكرم موضع منه؟ ولقد وسم العباس أباعره في وجوهها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أكرموا الوجوه فوسمها في جواعرها».
ولما ذكر تعالى في أول الملك أنه خلق الموت والحياة للابتلاء في الأعمال، وختم هنا بعيب من يغتر بالمال والبنين وهو يعلم أن الموت وراءه أعاد ذكر الابتلاء وأكده بقوله تعالى:
{إنا} أي: بما لنا من القهر والعظمة {بلوناهم} أي: عاملنا أهل مكة بما وسعنا عليهم به معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر والباطن، فغرّهم ذلك وظنوا أنهم أحباب، ومن قترنا عليهم من أوليائنا أعداء واستهانوا بهم ونسبوهم لأجل تقللهم من الدنيا إلى السفة والجنون وكان ابتلاؤنا لهم بالقحط الذي دعا عليهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكلوا الجيف {كما بلونا} أي: اختبرنا {أصحاب الجنة} بأن عاملناهم معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر.
(13/84)
---(1/4833)
وحاصله: أنه استخراج ما في البواطن ليعلمه العباد في عالم الشهادة كما يعلم الخالق في عالم الغيب، أو أنه كناية عن الجزاء، وعرف الجنة لأنها كانت شهيرة عندهم وهي بستان عظيم كان دون صنعاء بفرسخين يقال له: الضروان يطؤه أهل الطريق، كان صاحبه ينادي الفقراء وقت الصرام ويترك لهم ما أخطأ المنجل أو ألقته الريح أو بعد عن البساط الذي يبسط تحت النخلة، وكان يجتمع لهم شيء كثير، فلما مات شح بنوه بذلك وقالوا: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر، ونحن ذوو عيال، فحلفوا على أن يجذوها قبل الشمس حتى لا تأتي الفقراء إلا بعد فراغهم، وذلك معنى قوله تعالى: {إذ} أي: حين {أقسموا} ودل على تأكيد القسم بالتأكيد فقال: {ليصرمنها} عبر به عن الجذاذ لدلالته على القطع البائن المستأصل المانع للفقراء من الصريم الذي يعرض على فم الجدي لئلا يرضع، أو من الصرماء للمفازة التي لا ماء بها والناقة القليلة اللبن {مصبحين} داخلين في أول وقت الصباح لئلا تشعر بهم المساكين فلا يعطوهم منها ما كان أبوهم يتصدق به عليهم منها.
{ولا} أي: والحال أنهم لا {يستثنون} في يمينهم، أي: ولا يقولون: إن شاء الله.
فإن قيل: لم سمي استثناء وإنما هو شرط؟ أجيب: بأنه سمي استثناء لأنه إخراج لشيء يكون حكمه غير المذكور أولاً، وكان الأصل فيه إلا أن يشاء الله فألحق به إن شاء الله لرجوعه إليه في اتحاد الحكم.
{فطاف} أي: فتسبب عن فعلهم هذا أن طاف {عليها} أي: جنتهم {طائف} أي: عذاب مهلك محيط وهو نار أحرقتها ليلاً لم تدع منها شيئاً، والطائف غلب في الشر. وقال الفراء: هو الأمر الذي يأتي ليلاً ورد عليه بقوله: {إذا مسهم طائف من الشيطان} وذلك لا يختص بليل ولا نهار، وقوله تعالى: {من ربك} يجوز أن يتعلق بطاف وأن يتعلق بمحذوف صفة لطائف {وهم} أي: والحال أن أصحاب الجنة المقسمين {نائمون} وقت إرسال الطائف.
(13/85)
---(1/4834)
{فأصبحت} أي: فتسبب عن هذا الطائف الذي أرسله القادر الذي لا يغفل ولا ينام على مال من لا يزال أسير العجز والنوم فعلاً أو قوة {كالصريم} أي: كالأشجار التي صرم عنها ثمرها، أو كالليل المظلم الأسود لأنه يقال: الصريم لسواده والصريم أيضاً النهار، وقيل: الصبح لأنه انصرم من الليل، قاله الأخفش.v
وهو من الأضداد. وقيل: كالرماد الأسود ليس بها ثمرة بلغة خزيمة، قاله ابن عباس، لأن ذلك الطائف أتلفها لم يدع فيها شيئاً لأنهم طلبوا الكل فلم يزكوه بما يمنع عنه الطوارق لضدّ ما كان لأبيهم من ثمرة عمله الصالح من الدفع عن ماله والبركة في جميع أحواله. قال القرطبي: والآية دليل على أنّ العزم مما يؤاخذ به الإنسان لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم ونظيره قوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} (الحج: 25)
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه» وهذا محمول على العزم المصمم، أما ما كان يخطر بالبال من غير عزم فلا يؤاخذ به.
{فتنادوا مصبحين} أي: في حال أول دخولهم في الإصباح وقوله تعالى: {أن اغدوا}، أي: بكروا جداً مقبلين ومستولين وقادرين، ويجوز أن تكون أن المفسرة لأنه تقدمها ما هو بمعنى القول {على حرثكم}، أي: محل فائدتكم الذي أصلحتموه وتعبتم فيه فلا يستحقه غيركم، قال مقاتل: لما أصبحوا قال بعضهم لبعض: اغدوا على حرثكم يعني بالحرث الثمار والزروع والأعناب، ولذلك قال: صارمين لأنهم أرادوا قلع الثمار من الأشجار.
(13/86)
---(1/4835)
قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قال: اغدوا إلى حرثكم وما معنى على؟ قلت: لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدواً عليه كما تقول: غدا عليهم العدو. قال الزمخشري: ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال، أي: فأقبلوا على حرثكم. {إن كنتم صارمين} أي: مريدين القطع، وجواب الشرط دل عليه ما قبله، أي: فاغدوا، ويجوز أن تكون أن المصدرية، أي: تنادوا بهذا الكلام.
تنبيه: مقتضى كلام الزمخشري أن غدا متعدّ في الأصل بإلى فاحتاج إلى تأويل فقدره بعلى، قال ابن عادل: وفيه نظر لورود تعديه بعلى في غير موضع كقوله:
* وقد أغدوا على ثبة كرامٍ ** نشاوى واجدين لما نشاء*
وإذا كانوا قد عدوا مرادفه بعلى فليعدوه، وقرأ: أن اغدوا أبو عمرو وعاصم وحمزة في الوصل بكسر النون والباقون بضمها واتفقوا على الابتداء بالهمزة بالضم.
{فانطلقوا} أي: فتسبب عن هذا الحث عقبه كأنهم كانوا متهيئين {وهم} أي: والحال أنهم {يتخافتون} أي: يقولون في حال انطلاقهم قولاً هو في غاية السر، كأنهم ذاهبون إلى سرقة من دار هي في غاية الحراسة من الخفوت وهو الهمود وخفا وخفت وخفد ثلاثتها في معنى الكتم، ومنه الخفدود للخفاش.
ثم فسر ما يتخافتون به بقوله تعالى: {أن لا يدخلنها} وأن لا ههنا مقطوعة كما ترى، وأكدوه لأنه لا يصدق أن أحداً يصل إلى هذه الوقاحة وأن جذاذاً يخلو من سائل {اليوم} أي: في جميع النهار بما دل عليه نزع الخافض لتكروا عليه مراراً وتفتشوه فلا تدعوا به ثمرة واحدة ولا موضعاً يطمع فيه أحد في قصدكم {عليكم} وأنتم بها {مسكين} وهي نهي للمسكين في اللفظ للمبالغة في نهى أنفسهم أن لا يدعوه يدخل عليهم، أي: لا يمكنوه من الدخول حتى يدخل كقولك: لا أرينك ههنا، فقال لهم أوسطهم سناً وخيرهم نفساً وأعدلهم طبعاً بما يدل عليه ما يأتي: لا تقولوا هكذا واصنعوا من الإحسان ما كان يصنع أبوكم، قال البقاعي: وكأنه طواه سبحانه لأنه مع الدلالة عليه بما يأتي لم يؤثر شيئاً.
(13/87)(1/4836)
---
{وغدوا} أي: ساروا إليها غدوة {على حرد} أي: منع للمساكين. قال أبو عبيدة: على حرد، أي: منع من حاردت الإبل حراداً، أي: قل لبنها، والحرود من النوق القليلة الدر، وحاردت السنة قل مطرها وخيرها. وقال الشعبي وسفيان: على حنق وغضب من المساكين، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: على قدرة {قادرين} عند أنفسهم على جنتهم وثمارها لا يحول بينهم وبينها أحد، أي: بدليل عدم استثنائهم، فإن الجزم على الفعل في المستقبل فضلاً عن أن يكون مع الحلف فعل من لا كفء له. وقال الحسن وقتادة: على جد وجهد. وقال القرطبي وعكرمة: على أمر مجتمع.
ودل على قربها من منزلتهم بالفاء فقال تعالى: {فلما رأوها} أي: بعد سير يسير وليس للزرع ولا للثمر بها أثر {قالوا إنا لضالون} عن طريق جنتنا لأنها صارت لسوء حالها من ذلك الطائف بعيدة عن حال ما كانت عليه عند تواعدهم وتغيير نياتهم، فأدهشهم منظرها وحيرهم خبرها، وأكدوا لأن ضلالهم لا يصدق مع قرب عهدهم وكثرة ملابستهم لها وقوة معرفتهم بها.
ولما انجلى ما أدهشهم في الحال قالوا مضربين عن الضلال {بل نحن محرومون} أي: ثابت حرماننا ما كنا فيه من الخير الذي لم نغب عنه إلا سواد الليل، فحرمنا الله تعالى إياه بما عزمنا عليه من حرمان المساكين {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد: 11)
وقرأ الكسائي بإدغام اللام في النون والباقون بالإظهار.
(13/88)
---(1/4837)
{قال: أوسطهم} أي: رأياً وعقلاً وسناً وفضلاً منكراً عليهم {ألم أقل لكم} أي: ما فعلتموه لا ينبغي وإن الله تعالى بالمرصاد لمن غير ما في نفسه وحاد {لولا} أي: هلا ولم لا {تسبحون} أي: تستثنون، فكان استئناؤهم تسبيحاً، قال مجاهد وغيره: وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان يأمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه. قال أبو صالح: كان استثناؤهم سبحان الله، فقال لهم: هلا تسبحون الله، أي: تقولون سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. وقال النحاس: أصل التسبيح التنزيه للّه عز وجل، فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء الله لأن المعنى: تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته. وقال الرازي: التسبيح عبارة عن تنزيهه عن كل سوء، فلو دخل شيء في الوجود على خلاف إرادة الله تعالى لنسب النقص إلى قدرة الله تعالى، فقولك: إن شاء الله يزيل هذا النقص فكان ذلك تسبيحاً، وقيل: المعنى هلا تستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم، قيل: إن القوم لما عزموا على منع الزكاة فاغتروا بالمال والقوة، قال لهم أوسطهم: توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذاب، فلما رأوا العذاب ذكرهم أوسطهم كلامه الأول وقال: {ألم أقل لكم لولا تسبحون} فحينئذ اشتغلوا بالتوبة بأن.
{قالوا} أي: من غير تلعثم بما عاد عليهم من بركة أبيهم {سبحان ربنا} أي: تنزه المحسن إلينا التنزيه الأعظم أن يكون وقع منه فيما فعل بنا ظلم، وأكدوا قباحة فعلهم هضماً لأنفسهم وخضوعاً لربهم وتحقيقاً لتوبتهم بقولهم: {إنا كنا} أي: بما في جبلاتنا من الفساد {ظالمين} أي: مجاوزين الحدود فيما فعلنا من التقاسم على منع المساكين وعلى جذها في الصباح من غير استثناء.
{فأقبل بعضهم} أي: في الحال مبادرة في الخضوع {على بعض يتلاومون} أي: يلوم بعضهم بعضاً يقول هذا لهذا: أنت أشرت علينا بهذا الرأي، ويقول ذلك لهذا: أنت الذي خوفتنا بالفقر. ويقول الثالث لغيره: أنت رغبتني في جمع المال.
(13/90)
---(1/4838)
ثم نادوا على أنفسهم بالويل بأن {قالوا} منادين لما شغلهم قربه منهم وملازمته لهم عن كل شيء {يا ويلنا} أي: هذا وقت حضورك أيها الويل إيانا ومنادمتك لنا، فإنه لا نديم لنا الآن غيرك، والويل الهلاك والإشراف عليه {إنا كنا} أي: جبلة وطبعاً {طاغين} أي: عاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء. وقال ابن كيسان: طاغين نعم الله فلم نشكرها كما شكرها آباؤنا من قبل.
ثم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا {عسى ربنا} أي: الذي أحسن إلينا بتربية هذه الجنة وإهلاك ثمرها الآن تأديباً لنا {أن يبدلنا} من جنتنا شيئاً {خيراً منها} يقيم لنا أمر معايشنا فتنقلب أحوالنا هذه التي نحن فيها من الهموم والبذاذة بسرور ولذاذة، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء الموحدة وتشديد الدال والباقون بسكون الموحدة وتخفيف الدال {إنا إلى ربنا} أي: المحسن إلينا والمربي لنا بالإيجاد، ثم الإبقاء خاصة لا إلى غيره {راغبون} أي: ثابتة رغبتنا ورجاؤنا الخير والإكرام. وقد قيل: إن الله تعالى قبل رجوعهم وأخلف عليهم فأبدلهم جنة يقال لها الحيوان، كان القطف الواحد منها يحمله وحده من كبره البغل، رواه البغوي عن ابن مسعود، وقال أبو خالد اليماني: دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم، وقال الحسن: قول أهل الجنة {إنا إلى ربنا راغبون} لا أدري إيماناً كان ذلك منهم أو على حدّ ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة فتوقف في كونهم مؤمنين، وسئل قتادة عن أصحاب الجنة أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ قال: لقد كلفتني تعباً، والأكثرون يقولون: إنهم تابوا وأخلصوا حكاه القشيري.
ولما كان المقام لترهيب من ركن إلى ماله واحتقر الضعفاء من عباد الله تعالى ولم يجلهم بجلاله طوى ذكر ما أنعم به عليهم وذكر ما يخوفهم، فقال تعالى مرهباً:
(13/91)
---(1/4839)
{كذلك} أي: مثل هذا الذي بلونا به أصحاب الجنة من إهلاك ما كان عند أنفسهم في غاية القدرة عليه والثقة به مع الاستحسان لفعلهم والاستصواب، وهددنا به أهل مكة فلم يبادروا إلى المتاب. {العذاب} أي: الذي نحذرهم منه ونخوفهم به في الدنيا، فإذا تم الأجل الذي قدرناه له أخذناهم به غير مستعجلين ولا مفرطين لأنه لا يعجل إلا ناقص يخاف الفوت {ولعذاب الآخرة} أي: الذي يكون فيها للعصاة {أكبر} أي: من كل ما يتوهمون {لو كانوا} أي: الكفار {يعلمون} أي: لو كان لهم علم بشيء من غرائزهم في وقت من الأوقات لرجعوا عما هم فيه.
ولما ذكر ما لأهل الجمود الذين لا يجوزون الممكنات ذكر تعالى أضدادهم، فقال تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم:
{إن للمتقين} أي: العريقين في صفة التقوى {عند ربهم} أي: المحسن إليهم في موضع دوم أولئك وجنة آمالهم {جنات} جمع جنة وهي لغة: البستان الجامع، وفي عرف الشرع: مكان اجتمع فيه جميع السرور وانتفى عنه جميع الشرور {النعيم} أي: جنات ليس فيها إلا النعيم الخالص لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا.
قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين: إن الله تعالى فضلنا عليكم في الدنيا، فلا بدّ وأن يفضلنا عليكم في الآخرة، فإن لم يحصل التفضيل فلا أقل من المساواة فأجابهم الله تعالى بقوله سبحانه:
{أفنجعل المسلمين} أي: الذين هم عريقون في الانقياد لأوامرنا والصلة لما أمرنا بوصله طلباً لمرضاتنا، فلا اختيار لهم معنا في نفس ولا غيرها لحسن جبلاتهم {كالمجرمين} أي: الراسخين في قطع ما أمرنا به أن يوصل وأنتم لا تقرون بمثل هذا، ففي ذلك إنكار لقول الكفرة، فإنهم كانوا يقولون أيضاً: إن صح أننا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم يفضلونا، بل نكون أحسن حالاً منهم كما نحن عليه في الدنيا.
(13/92)
---(1/4840)
وقوله تعالى: {ما لكم} أي: أيّ شيء يحصل لكم من هذه الأحكام الجائرة البعيدة عن الصواب {كيف تحكمون} أي: أيّ عقل دعاكم إلى هذا الحكم الذي يتضمن التسوية من السيد بين المحسن من عبيده والمسيء مع التفاوت، فيه تعجب من حكمهم واستبعاد له وإشعار بأنه صادر عن اختلال فكر واعوجاج رأي.
{أم} أي: بل الله {لكم كتاب} أي: سماوي معروف أنه من عند الله خاص بكم {فيه} أي: لا في غيره من أساطير الأولين {تدرسون} أي: تقرؤون قراءة أيقنتكم.
{إن لكم} أي: خاصة على وجه التأكيد الذي لا رخصة في تركه {لما تخيرون} أي: ما تختارونه وتشتهونه، وكسرت وكان حقها الفتح لولا اللام لأن ما بعدها هو المدروس، ويجوز أن تكون الجملة حكاية للمدروس وأن تكون استئنافية.
{أم لكم أيمان} أي: عهود ومواثيق {علينا} قد حملتمونا إياها {بالغة} أي: واثقة لأيمان، وقوله تعالى: {إلى يوم القيامة} متعلق بما تعلق به لكم من الاستقرار، أي: ثابتة لكم إلى يوم القيامة، أي: مبالغة، أي: تبلغ إلى ذلك اليوم وتنتهي إليه. وقوله تعالى: {إن لكم لما تحكمون} جواب القسم لأن معنى {أم لكم أيمان علينا} أي: أقسمنا لكم.
(13/93)
---
ولما عجب منهم وتهكم بهم ذيل ذلك بتهكم أعلى منه يكشف عوارهم غاية الكشف فقال تعالى: {سلهم} يا أشرف الرسل {أيهم بذلك} أي: الأمر العظيم الذي يحكمون به لأنفسهم من أنهم يعطون في الآخرة أفضل من المؤمنين {زعيم} أي: كفيل وضامن أو سيد أو رئيس أو متكلم بحق أو باطل التزم في ادعائه صحة ذلك.
{أم لهم شركاء} موافقون لهم في هذا القول يكفلونه لهم فإن كانوا كذلك {فليأتوا بشركائهم} أي: الكافلين لهم به {إن كانوا صادقين} أي: عريقين في هذا الوصف كما يدعونه.
(13/94)
---(1/4841)
وقوله تعالى: {يوم} منصوب بقوله تعالى: {فليأتوا} أي: فليأتوا بشركائهم يوم {يكشف} أي: يحصل الكشف فيه، بني للمفعول لأن المخيف وقوع الكشف الذي هو كناية عن تفاقم الأمر وخروجه عن حدّ الطوق لا كونه من معين، مع أنه من المعلوم أنه لا فاعل هناك غيره سبحانه وتعالى {عن ساق} أي: يشتدّ فيه الأمر غاية الاشتداد، لأنّ من اشتدّ عليه الأمر وجد في فصله شمر عن ساقه لأجله وشمرت حرمه عن سوقهنّ غير محتشمات فهو كناية عن هذا، ولذلك نكره تهويلاً له وتعظيماً، نقل هذا التأويل عن ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما، وعن انكشاف جميع الخلائق وظهور الجلائل فيه والدقائق من الأهوال وغيرها، كما كشفت هذه الآيات جميع الشبه، فتركت السامع لها في مثل ضوء النهار، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار: اذكر فيكون على هذا مفعولاً به وعلى الأول لا يوقف على صادقين.
تنبيه: علم مما تقرر أن كشف الساق كناية عن الشدة، قال الراجز:
*عجبت من نفسي ومن إشفاقها ** ومن طرادي الطير عن أرزاقها*
*في سنة قد كشفت عن ساقها ** حمراء تبرى اللحم عن عراقها*
وقال: الطائي:
*أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ** وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا*
وقال: آخر:
*قد شمرت عن ساقها فشدوا ** وجدّت الحرب بكم فجدّوا*
(13/95)
---(1/4842)
وقال أبو عبيدة: إذا اشتد الأمر أو الحرب قيل: كشف الأمر عن ساقه، والأصل فيه: أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه، فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة، وقال القرطبي: وأما ما روي أن الله تعالى يكشف عن ساقه، فإنه تعالى متعال عن الأعضاء والأبعاض وأن ينكشف ويتغطى، ومعناه: أن يكشف عن العظيم من أمره. وقيل: يكشف عن نوره عز وجل، وروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {عن ساق} قال: «يكشف عن نور عظيم يخرون له سجداً» وروى أبو بردة عن أبي موسى قال: حدثني أبو موسى قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويبقى أهل التوحيد فيقال لهم: ما تنتظرون وقد ذهب الناس فيقولون: إن لنا رباً كنا نعبده في الدنيا ولم نره قال: أو تعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون: نعم فيقال: فكيف تعرفونه ولم تروه؟ قالوا: إنه لا شبيه له فيكشف لهم الحجاب فينظرون الله تعالى فيخرون له سجداً، ويبقى أقوام ظهورهم كصياصي البقر فينظرون إلى الله تعالى فيريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق}».
(13/96)
---(1/4843)
{ويدعون} أي: من داعي الملك الديان {إلى السجود} توبيخاً على تركه الآن وتنديماً وتعنيفاً لا تعبداً وتكليفاً، فيريدونه ليفدوا أنفسهم مما يرون من المخاوف {فلا} أي: فتسبب عن ذلك أنهم لا {يستطيعون} لأنهم غير سالمين لا أعضاء لهم تنقاد به مع شدة معالجتهم لأنفسهم فيقول الله تعالى أي: للساجدين: عبادي ارفعوا رؤوسكم فقد جعلت بدل كل رجل منكم رجلاً من اليهود والنصارى في النار، قال أبو بردة: فحدثت هذا الحديث عبر بن عمر العزيز، فقال لي: والله الذي لا إله إلا هو لقد حدثك أبوك بهذا الحديث، فحلف له ثلاثة أيمان فقال: ما سمعت في أهل التوحيد حديثاً هو أحب إلي من هذا الحديث، وأما غير الساجدين فعن ابن مسعود تعقم أصلابهم، أي: ترد عظامها بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع والخفض، وفي الحديث وتبقى أصلابهم طبقاً واحداً، أي: فقارة واحدة.
وقوله تعالى: {خاشعة} حال من مرفوع يدعون وقوله تعالى: {أبصارهم} فاعل به ونسب الخشوع للأبصار، لأنّ ما في القلب يعرف في العين وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم من السجود ووجوههم أضوأ من الشمس، ووجوه الكافرين والمنافقين سود مظلمة. {ترهقهم} أي: تغشاهم {ذلة} أي: عظمية لأنهم استعملوا الأعضاء التي أعطاهموها الله سبحانه ليتقرّبوا بها إليه في دار العمل في غير طاعته {وقد} أي: والحال أنهم قد {كانوا يدعون إلى السجود} أي: في الدنيا من كل داع يدعو إلينا، وقال إبراهيم التيمي: أي يدعون بالأذان والإقامة فيأبون. وقوله تعالى: {وهم سالمون} أي: معافون أصحاء، حال من مرفوع يدعون الثانية. وقال سعيد بن جبير: كانوا يسمعون حيّ على الفلاح فلا يجبيبون، وقال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات.
(13/97)
---(1/4844)
ولما خوف الكفار بعظمة يوم القيامة زاد في التخويف بما عنده وفي قدرته فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {فذرني} أي: اتركني على أيّ حالة اتفقت {ومن يكذب} أي: يوقع التكذيب لمن يتلو ما جددت إنزاله من كلامي القديم على أيّ حالة كان إيقاعه، وأفرد الضمير نصاً على تهديد كل واحد من المكذبين {بهذا الحديث} أي: القرآن، أي: خل بيني وبينهم لا تشغل قلبك به، فإني أكفيك أمره لأنه لا مانع منه فلا تهتم به أصلاً.
{سنستدرجهم} أي: سنأخذهم بعظمتنا على التدريج لا على غرّة إلى عذاب لا شك فيه {من حيث} أي: من جهات {لا يعلمون} أي: لا يتجدد لهم علم ما في وقت من الأوقات فعذبوا يوم بدر، وقال أبو روق: كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار. وقال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر، وقال الحسن: كم مستدرج بالإحسان إليه، وكم مفتون بالثناء عليه، وكم مغرور بالستر عليه، وقال ابن عباس: سنمكر بهم، وروي أن رجلاً من بني إسرائيل قال: يا رب كم أعصيك وأنت لا تعاقبني فأوحى الله إلى نبي زمانهم أن قل له: كم من عقوبة لي عليك وأنت لا تشعر أن جمود عينيك وقساوة قلبك استدراج مني وعقوبة لو عقلت، والاستدراج ترك المعاجلة، وأصله النقل من حال إلى حال كالتدرج، ومنه قيل: درجات وهي منزلة بعد منزلة واستدرج فلان فلاناً، أي: استخرج ما عنده قليلاً قليلاً، ويقال: درجه إلى كذا واستدرجه معناه: أدناه منه على التدريج فتدرج. ومعنى الآية: إنا لما أنعمنا عليهم اعتقدوا أن ذلك الإنعام تفضيل لهم على المؤمنين وهو في الحقيقة والواقع سبب لهلاكهم.
{وأملي لهم} أي: أمهلهم وأطيل المدة كقوله تعالى: {إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً} (آل عمران: 178)
(13/98)
---(1/4845)
والملاوة المدة من الدهر وأملى الله له، أي: أطال له، والملوان الليل والنهار. وقيل: لا أعاجلهم بالموت. والمعنى واحد، والملا مقصوراً الأرض الواسعة سميت بها لامتدادها {إن كيدي} أي: ستري لأسباب الهلاك عمن أريد إهلاكه وإبدائي ذلك له في ملابس الإحسان {ميتن} أي: قويّ شديد فلا يفوتني أحد، وسمي إحسانه كيداً كما سماه استدارجاً لكونه في صورة الكيد، ووصفه بالمتانة لقوة أثر استحسانه في التسبب للهلاك.
{أم تسألهم} أي: أنت يا أعف الخلق وأعلاهم همماً {أجراً} على تبليغ الرسالة {فهم} أي: فتسبب عن ذلك وتعقب أنهم {من مغرم} أي: غرامة كلفتهم بها {مثقلون} أي: ثقل حمل الغرامات عليهم في بذل المال فثبطهم ذلك عن الإيمان. والمعنى: ليس عليهم كلفة في متابعتك بل يستولون بالإيمان على خزائن الأرض ويصلون إلى جنات النعيم.
{أم عندهم} أي: خاصة {الغيب} أي: علمه عن اللوح المحفوظ أو غيره {فهم} أي: بسبب ذلك {يكتبون} أي: ما يريدون منه ليكونوا قد أطلعوا على أن هذا الذكر ليس من عند الله، أو أنهم لا درك عليهم في التكذيب به فقد علم من هذا أنهم لا شهوة لهم في ذلك عادية ولا شبهة، وإنما كيدهم مجرد خبث طباع وظلمة نفوس وأماني فارغة وأطماع.k
{فاصبر} أي: أوقع الصبر وأوجده على كل ما يقولونه فيك وعلى غير ذلك من كل ما يقع منهم ومن غيرهم من ممر القضاء {لحكم ربك} أي: القضاء الذي قضاه وقدره المحسن إليك الذي أكرمك بما أكرمك به من الرسالة وألزمك بما ألزمك من البلاغ وخذلهم بالتكذيب ومدّ لهم على ذلك في الأجل، وأسبغ عليهم النعم وأخر ما وعدك به من النصر. وقال ابن بحر: فاصبر لنصر ربك، وقيل: إن ذلك منسوخ بآية السيف. وقال قتادة: إن الله تعالى يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ويأمره بالصبر ولا يعجل. {ولا تكن} أي: ولا يكن حالك يا أشرف الخلق في الضجر والعجلة {كصاحب} أي: كحال صاحب {الحوت} وهو يونس عليه السلام.
(13/99)
---(1/4846)
وقوله تعالى: {إذ} منصوب بمضاف محذوف، أي: ولا يكن حالك كحاله أو قصتك حين {نادى} أي: ربه في الظلمات من بطن الحوت وظلمة ما يحيط به من الجثة وظلمة اللجج {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}، ويدل على المحذوف أن الذوات لا ينصبّ عليها النهي إنما ينصب على أحوالها وصفاتها، وقوله تعالى: {وهو مكظوم} جملة حالية من الضمير من نادى والمكظوم الممتلئ حزناً أو غيظاً، ومنه كظم السقاء إذا ملأه، قال ذو الرمة:
*وأنت من حب ميّ مضمر حزناً ** غالي الفؤاد قريح القلب مكظوم*
وقال القرطبي: ومعنى وهو مكظوم، أي: مملوء غماً. وقيل: كرباً فالأول قول ابن عباس ومجاهد، والثاني: قول عطاء وأبي مالك. قال الماوردي: والفرق بينهما أن الغم في القلب والكرب في الأنفاس. وقيل: مكظوم: محبوس، والكظم: الحبس. ومنه قولهم: كظم غيظه، أي: حبس غضبه. والمعنى: لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة فتبلى ببلائه.
ولما تشوف السامع إلى ما كان من أمره بعد هذا الأمر العجيب قال تعالى: {لولا أن تداركه} أي: أدركه إدراكاً عظيماً {نعمة} أي: عظيمة جداً.
تنبيه: حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في تداركه.
{من ربه} أي: الذي أحسن إليه بإرساله وتهذيبه للرسالة والتوبة عليه والرحمة. وقال الضحاك: النعمة هنا النبوة، وقال ابن جبير: عبادته التي سلفت، وقال ابن زيد: نداؤه بقوله:
(13/100)
---(1/4847)
{لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}، وقال ابن بحر: إخراجه من بطن الحوت. وقوله تعالى: {لنبذ} أي: لولا هذه الحالة السنية التي أنعم الله تعالى عليه بها لطرح طرحاً هيناً جداً {بالعراء} أي: الأرض القفراء الواسعة التي لا بناء فيها ولا جبال ولا نبات، البعيدة عن الأنس جواب لولا. وقيل: جوابها مقدر، أي: لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوت {وهو} أي: والحال أنه {مذموم} أي: ملوم على الذنب. وقيل: مبعد من كل خير. وقال الرازي: وهو مذموم على كونه فاعلاً للذنب، قال: والجواب من ثلاثة أوجه: الأول: إن كلمة لولا دالة على أن هذه المذمومية لم تحصل. الثاني: لعل المراد من المذمومية ترك الأفضل، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. الثالث: لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة لقوله تعالى: {فاجتباه} أي: اختاره لرسالته {ربه} والفاء للتعقيب، قيل: إن هذه الآية نزلت بأحد حين حلّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ما حل، فأراد أن يدعو على الذين انهزموا، وقيل: حين أراد أن يدعو على ثقيف.
ثم سبب عن اجتبائه قوله تعالى: {فجعله من الصالحين} أي: الذين رسخوا في رتبة الصلاح فصلحوا في أنفسهم للنبوة والرسالة، وصلح بهم غيرهم فنبذ حينئذ بالعراء وهو محمود. قال ابن عباس: ردّ الله تعالى إليه الوحي وشفعه في نفسه وفي قومه وقبل توبته وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون بسبب صبره، فمن صبر أعظم من صبره كان أعظم أجراً من أجره وأنت كذلك فأنت أشرف العالمين.
تنبيه: استدل أهل السنة على أن فعل العبد خلق لله تعالى بقوله سبحانه: {فجعله من الصالحين} لأن الصلاح إنما حصل بجعل الله تعالى وخلقه، وقال الجبائي: يحتمل أن يكون معنى جعل أنه أخبر بذلك، ويحتمل أن يكون لطف به حتى صلح إذ الجعل يستعمل في اللغة في هذه المعاني، والجواب: أن ذلك مجاز والأصل في الكلام الحقيقة.
(13/101)
---(1/4848)
{وإن} هي المخففة، أي: وإنه {يكاد الذين كفروا} أي: ستروا ما قدروا عليه مما جئت به من الدلائل، وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف.
ولما كانت إن مخففة أتى باللام التي هي عَلَمها فقال: {ليزلقونك بأبصارهم} أي: ينظرون إليك نظراً شديداً يكاد أن يصرعك من قامتك إلى الأرض كما يزلق الإنسان فينطرح لما يتراءى في عيونهم، أو يهلكونك من قولهم: نظر إلي نظراً يكاد يصرعني ويكاد يأكلني، أي: لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعل قال القائل:
*يتقارضون إذا التقوا في موطن ** نظرا يزل مواطئ الأقدام*
وقيل: أرادوا أن يصيبوه بالعين فنظر إليه قوم من قريش، وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حجمه، وقيل: كانت العين في بني إسرائيل فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء فيقول: لم أر كاليوم مثله إلا عانه حتى أن البقرة السمينة أو الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها، ثم يقول: يا جارية خذي المكتل والدرهم، فائتينا من لحم هذه الناقة فما تبرح الناقة حتى تقع للموت فتنحر. وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئاً يومين أو ثلاثة ثم يرفع جانب الخباء فتمر به الإبل أو الغنم، فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه فلا تذهب إلا قليلاً حتى تسقط منها طائفة هالكة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعين فأجابهم، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم أنشد:
*قد كان قومك يحسبونك سيدا ** وأخال أنك سيد معيون*
(13/102)
---(1/4849)
فعصم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية، وذكر الماوردي أن العرب كانت إذا أراد أحدهم أن يصيب أحداً بعين في نفسه أو ماله يجوع ثلاثة أيام ثم يتعرض لنفسه وماله فيقول: تالله ما رأيت أقوى منه ولا أشجع ولا أكبر منه ولا أحسن، فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى أبو نعيم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر». وعن أسماء بنت عميس قالت: يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم قال: «نعم فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين». وقال الحسن: دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية، وقرأ نافع بفتح الياء والباقون بضمها وهما لغتان يقال: زلقه يزلقه زلقاً، وأزلقه يزلقه إزلاقاً.
وقال ابن قتيبة: ليس يريد أنهم يصيبونك بأعينهم كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه، وإنما أراد أنهم ينظرون إليك. {لما سمعوا الذكر} أي: القرآن نظراً شديداً بالعداوة والبغضاء يكاد يسقطك، وقال الزجاج: يعني من شدة عداوتهم يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك {ويقولون} أي: قولاً لا يزالون يجددونه حسداً وبغضاً على أنهم لم يزدهم تمادي الزمان إلا حنقاً {إنه لمجنون} أي: ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن.
فأجابهم الله تعالى بقوله سبحانه: {وما هو} أي: القرآن {إلا ذكر للعالمين} قال ابن عباس: موعظة للمؤمنين، قال الجلال المحلي: الإنس والجن، وظاهره: إخراج الملائكة، وهو ما جرى عليه في شرحه على جمع الجوامع، وظاهر الآية: أنه أرسل لجميع الخلائق، وهو كما قال بعض المتأخرين: الظاهر، ويدل له قول البيضاوي لما جننوه لأجل القرآن بين أنه ذكر عام لا يدركه ولا يتعاطاه إلا من كان أكمل الناس عقلاً وأثبتهم رأياً، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبي عليه الصلاة والسلام: «من قرأ سورة القلم أعطاه الله ثواب الذين حسن الله أخلاقهم» حديث موضوع.
سورة الحاقة
مكية
(13/103)
---(1/4850)
وهي اثنان وخمسون آية وألف وأربعة وستون حرفاً
{بسم الله} أي: الذي له الكمال كله {الرحمن} الذي عم العالمين جوده {الرحيم} الذي خص أهل وده بالوقوف عند حدوده. وقوله تعالى:
{الحاقة} مبتدأ وقوله تعالى:
{ما الحاقة} مبتدأ وخبر، والجملة خبر الأول، والأصل الحاقة ما هي، أي: أي شيء هي تفخيماً لشأنها وتعظيماً لهولها، فوضع الظاهر موضع المضمر لأنه أهول لها. والحاقة الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء التي هي آتية لا ريب فيها، أو التي فيها حواق الأمور من البعث والحساب والثواب والعقاب، أو التي تحق فيها الأمور، أي: تعرف على الحقيقة من قولك: لا أحق هذا، أي: لا أعرف حقيقته، جعل الفعل لها وهو لأهلها، وقيل: سميت القيامة بذلك لأنها أحقت لأقوام الجنة ولأقوام النار. وقوله تعالى:
(13/104)
---
{وما أدراك} أي: أيّ شيء أعلمك {ما الحاقة} زيادة تعظيم لشأنها، فما الأولى مبتدأ وما بعدها خبره، وما الثانية خبرها في محل المفعول الثاني لأدري يعني: إنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها على أنه من العظم والشدة بحيث لا تبلغه دراية أحد ولا وهمه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان عالماً بالقيامة ولكن لا علم له بكنهها وصفتها، فقيل له ذلك تفخيماً لشأنها، كأنك لست تعلمها إذ لم تعاينها. وقال يحيى بن سلام: بلغني أن كل شيء في القرآن {وما أدراك} فقد دراه وعلمه، وكل شيء قال: {وما يدريك} فإنه مما لم يعلمه. وقال سفيان بن عيينة: كل شيء قال فيه: {وما أدراك} فإنه أخبر به، وكل شيء قال فيه: {وما يدريك} فإنه لم يخبر به، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه بالإمالة، وورش بين اللفظين، والباقون بالفتح.(1/4851)
ولما ذكر الساعة وفخمها أتبع ذلك ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم فقال تعالى: {كذبت ثمود} قدمهم لأن بلادهم أقرب إلى قريش وواعظ القرب أكبر وإهلاكهم بالصيحة وهي أشبه بصيحة النفخ في الصورة المبعثرة لما في القبور{وعاد بالقارعة} أي: القيامة سميت بذلك لأنها تقرع قلوب العباد بالمحاقة أو لأنها تقرع الناس بأهوالها يقال: أصابتهم قوارع الدهر، أي: أهواله وشدائده. وقوارع القرآن: الآيات التي يقرؤها الإنسان إذا فزع من الإنس أو الجن نحو: آية الكرسي، كأنه يقرع الشيطان بها. وقال المبرَّد: القارعة مأخوذة من القرعة من رفع قوم وحط آخرين وقوارع القيامة انفطار السماء بانشقاقها، والأرض والجبال بالدك والنسف، والنجوم بالطمس والانكدار، ووضعت موضع الضمير لتدل على معنى القرع في الحاقة زيادة في وصف شدتها، وقيل: عنى بالقارعة العذاب الذي نزل بهم في الدنيا، وكان نبيهم يخوفهم بذلك فيكذبونه.
(13/105)
---
وثمود قوم صالح وكانت منازلهم بالحجر فيما بين الشام والحجاز، قال ابن إسحاق: وهو وادي القرى وكانوا عرباً، وأما عاد فقوم هود وكانت منازلهم بالأحقاف رمل بين عمان إلى حضرموت واليمن كله وكانوا عرباً ذوي بسطة في الخلق.
{فأمّا ثمود فأهلكوا} أي: بأيسر أمر من أوامرنا {بالطاغية} أي: الواقعة التي جاوزت الحدّ في الشدة فرجفت منها القلوب، واختلف فيها فقيل: الرجفة، وعن ابن عباس: الصاعقة، وعن قتادة: بعث الله تعالى عليهم صيحة فأهمدتهم. وقال مجاهد: بالذنوب، وقال الحسن: بالطغيان فهو مصدر كالكاذبة والعاقبة، أي: أهلكوا بطغيانهم وكفرهم قال الزمخشري: وليس بذاك لعدم الطباق بينها وبين قوله تعالى: {بريح صرصر} لكن قال ابن عادل: ويوضحه {كذبت ثمود بطغواها} (الشمس: 11)
أهلكوا بها ولأجلها. قال: والباء سببية على الأقوال كلها إلا على قول قتادة، فإنها فيه للاستعانة كعملت بالقدّوم.(1/4852)
{وأمّا عاد فأهلكوا} أي: بأشق ما يكون عليهم وبأيسر ما يكون علينا {بريح صرصر} أي: شديدة الصوت لها صرصرة، وقيل: هي الباردة من الصرّ كأنها التي كرر فيها البرد وكثر، فهي تحرق بشدة بردها. وقال مجاهد: هي الشديدة السموم {عاتية} أي: مجاوزة للحدّ في شدة عصفها، والعتو استعارة، أو عتت على عاد فما قدروا على ردها بحيلة، من استتار ببناء أو لياذ بجبل أو اختفاء في حفرة، فإنها كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكم، وقيل: عتت على خزانها فخرجت بلا كيل ولا وزن، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما أرسل الله تعالى سفينة من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من مطر إلا بمكيال، إلا يوم عاد ويوم نوح فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه سبيل ثم قرأ {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} (الحاقة: 11)
(13/106)
---
وإن الريح يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل ثم قرأ: {بريح صرصر عاتية}. {سخرها} أرسلها {عليهم} وقال مقاتل رضي الله عنه: سلطها عليهم {سبع ليال} أي: لا تفتر فيها الريح لحظة {وثمانية أيام} كذلك. قال وهب: هي الأيام التي تسميها العرب العجوز ذات برد وريح شديدة قيل: سميت عجوزاً لأنها في عجز الشتاء، وقيل: سميت بذلك لأنّ عجوزاً من قوم عاد دخلت سرباً فتبعتها الريح فقتلتها اليوم الثامن من نزول العذاب وانقطع العذاب {حسوماً} قال مجاهد وقتادة رضي الله عنهما: متتابعة ليس فيها قترة، فعلى هذا هو من حسم الكي، وهو أن يتابع على موضع الداء المكواة حتى يبرأ، ثم قيل لكل شيء يقطع: حاسم وجمعه حسوم مثل شاهد وشهود. وقال الكلبي: حسوماً دائماً، وقال النضر بن شميل: حسمتهم قطعتهم وأهلكتهم، والحسم القطع والمنع ومنه: حسم الداء، وقال عطية: حسوماً شؤماً كأنها حسمت الخير عن أهلها.(1/4853)
تنبيه: في إعراب حسوماً أوجه: أحدها: أن ينتصب نعتاً لما قبله. ثانيها: أن ينتصب على الحال، أي: ذات حسوم. ثالثها: أن ينتصب على المصدر بفعل من لفظها، أي: تحسمهم حسوماً.
واختلفوا في أولها فقال السدي: غداة يوم الأحد، وقال الربيع بن أنس رضي الله عنه: غداة يوم الجمعة، وقال يحيى بن سلام ووهب بن منبه رضي الله عنهم: غداة يوم الأربعاء وهو اليوم النحس المستمر قيل: كان آخر أربعاء في السنة وآخرها يوم الأربعاء. وقال البقاعي: وهي من صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال غروب الأربعاء الآخر وهو آخر الشهر وقد لزم من زيادة عدد الأيام أن الابتداء كان بها قطعاً وإلا لم تكن الليالي سبعاً فتأمل ذلك ا.ه. وهو ظاهر.
(13/107)
---
ولما كان الحاسم المهلك تسبب عنه قوله تعالى مصوراً لحالهم الماضية: {فترى القوم} أي: الذين هم غاية في القدرة على ما يحاولونه {فيها} أي: تلك المدة من الأيام والليالي لم يتأخر أحد منهم عنهم {صرعى} أي: مجندلين على الأرض موتى جمع صريع وهي حال نحو قتيل وقتلى وجريح وجرحى، والضمير فيها للأيام والليالي كما مر أو للبيوت أو للريح قال ابن عادل: والأول أظهر لقربه.
{كأنهم أعجاز} أي: أصول {نخل} قد شاخت وهرمت فهي في غاية العجز {خاوية} أي: متأكلة الأجواف ساقطة من خوى النجم إذا سقط للغروب، ومن خوى المنزل إذا خلا من قطّانه. قالوا: كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم، والوصف بذلك لعظم أجسامهم وتقطيع الريح لهم وقطعها لرؤوسهم وخلوهم من الحياة وتسويدها لهم.(1/4854)
{فهل ترى} أي: أيها المخاطب الخبير بالناس في جميع الأقطار {لهم} أي: خصوصاً. وأغرق في النفي وعبر بالمصدر الملحق بالهاء مبالغة فقال تعالى: {من باقية} فيكون المراد بالباقية البقاء كالطاغية بمعنى الطغيان، أي: من باق، والأحسن أن تكون صفة لفرقة أو لطائفة أو نفس أو بقية أو نحو ذلك. وقيل: فاعلة بمعنى المصدر كالعافية والباقية. قال المفسرون: والمعنى هل ترى لهم أحداً باقياً، قال ابن جريج: كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الله تعالى من الريح، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر، فذلك قوله تعالى: {فهل ترى لهم من باقية}. وقوله تعالى: {فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم} (الأحقاف: 25)
. ونجى الله تعالى صالحاً عليه السلام ومن آمن به من بين ثمود ولم تضرّهم الصاعقة، وهوداً عليه السلام ومن آمن به من عاد ولم يهلك منهم أحد، فدل ذلك دلالة واضحة على أن له تعالى تمام العلم بالجزئيات، كما أن له تمام الإحاطة بالكليات وعلى قدرته واختياره وحكمته، فلا يجعل المسلم كالمجرم ولا المسيء كالمحسن، وجواب هل لم يبق منهم أحد.
(13/108)
---
{وجاء فرعون} أي: الذي ملكناه طائفة من الأرض وتجبر وادعى الإلهية ناسياً نعمتنا وقدرتنا. وقوله تعالى: {ومن قبله} قرأه أبو عمرو والكسائي بكسر القاف وفتح الباء الموحدة، أي: ومن عنده من أتباعه، وقرأه الباقون بفتح القاف وسكون الباء الموحدة على أنه ظرف، أي: ومن تقدمه من الأمم الكافرة {والمؤتفكات} أي: أهلكها وهي قرى قوم لوط، أي: المنقلبات بأهلها حتى صار عاليها سافلها لما حصل لأهلها من الانقلاب {بالخاطئة}، أي: بالفعلات ذات الخطأ الذي يتخطى منها إلى نفس الفعل القبيح من اللواط والصفع والضراط مع الشرك وغير ذلك من أنواع الفسق.
(13/109)
---(1/4855)
ولما كانت الرسل كالفرد الواحد لاتفاقهم وتعاضدهم في الدعاء إلى الله تعالى والحمل على طاعته قال مسبباً عن مجيئهم بذلك موحداً في اللفظ ما هو صالح لكثير بإرادة الجنس: {فعصوا} أي: خالفوا {رسول ربهم} أي: خالفت كل أمة من أرسله المحسن إليها بإبداعها من العدم وإبداعها القوى وترزيقها وبعث رسولها لإرشادها اغتراراً بإحسانه، ولم يجوزوا أن المحسن يقدر على الضر كما قدر على النفع لأنه الضار كما أنه النافع فللتنبيه على مثل ذلك لا يجوز فصل أحد الاسمين عن الآخر، وسبب عن العصيان قوله تعالى: {فأخذهم} أي: ربهم، أخذ قهر وغضب {أخذة} لم تبق من أمة منهم أحداً ممن كذب الرسول فلم يكن كمن ينصر على عدو من المؤمنين لابدّ أن يفوته كثير منهم وإن اجتهد في الطلب، وما ذاك إلا لتمام علمه سبحانه بالجزئيات والكليات وشمول قدرته وتلك الأخذة مع كونها بهذه العظمة من أنها أخذتهم كنفس واحدة جعلها سبحانه {رابية} أي: عالية عليهم زائدة في الشدة على غيرها وعلى عذاب الأمم، يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد. ومنه: الربا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطى، والمعنى أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار، وقيل لأن عقوبة آل فرعون متعلقة بعذاب الآخرة لقوله تعالى: {اغرقوا فأدخلوا ناراً} (نوح: 25)
وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا فتلك العقوبة كانت كأنها تنمو وتربو.
(13/110)
---(1/4856)
ثم ذكر تعالى قصة نوح عليه السلام وهي قوله تعالى: {أنا} أي: على عظمتنا {لما طغى الماء} أي: زاد على الحد حتى علا على أعلى جبل في الأرض بقدر ما يغرق من كان عليه حين أغرقنا قوم نوح عليه السلام به، فلم يطيقوا ضبطه ولا فوره بوجه من الوجوه. وقال صلى الله عليه وسلم «طغى على خزانه من الملائكة غضباً لربه تعالى فلم يقدروا على حبسه». قال المفسرون: زاد على كل شيء خمسمائة ذراع وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «طغى الماء زمن نوح عليه السلام على خزانه فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج، وليس من الماء قطرة تنزل قبله ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم». والمقصود من قصص هذه الأمم وذكر ما حل بهم من العذاب زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول. ثم منّ الله عليهم بأن جعلهم ذرية من نجى من الغرق بقوله تعالى: {حملناكم} أي: في ظهور آبائكم {في الجارية} أي: السفينة التي جعلناها بحكمتنا عريقة في الجريان حتى كأنه لا جارية غيرها على وجه الماء الذي جعلنا من شأنه الإغراق، والمحمول في الجارية إنما هو نوح عليه السلام وأولاده وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك، والجارية من أسماء السفينة ومنه قوله تعالى: {وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام} (الرحمن: 24)
وغلب استعمال الجارية في السفينة كقولهم في بعض الألغاز:
*رأيت جارية في بطن جارية ** في بطنها رجل في بطنها جمل*
(13/111)
---(1/4857)
ونوح عليه السلام أول من صنع السفينة، وإنما صنعها بوحي من الله تعالى وبحفظه له قال: اجعلها كهيئة صدر الطائر ليكون ما يجري في الماء مقارباً لما يجري في الهواء وأغرقنا سوى من كان في تلك السفينة من جميع أهل الأرض من آدمي وغيره {لنجعلها} أي: هذه الفعلة العظيمة وهي إنجاء المؤمنين بحيث لا يهلك منهم بهذا العذاب أحد، وإهلاك الكافرين بحيث لا يشذ منهم أحد، وكذا السفينة التي حملنا فيها نوحاً عليه السلام ومن معه {لكم} أيها الناس {تذكرة} أي: عبرة ودلالة على قدرته تعالى وعظمته ورحمته وقهره فيقودكم ذلك إليه وتقبلوا بقلوبكم عليه.
وقوله تعالى: {وتعيها} عطف منصوب على لنجعلها، أي: ولتحفظ قصة السفينة وغيرها مما تقدم حفظاً ثابتاً مستقراً كأنه محوي في وعاء {أذن} أي: عظيمة النفع {واعية} أي: من شأنها أن تحفظ ما ينبغي حفظه من الأقوال والأفعال الإلهية والأسرار الربانية لنفع عباد الله تعالى كما كان نوح عليه السلام ومن معه وهم قليل سبباً لإدامة النسل والبركة فيه حتى امتلأت منه الأرض، والوعي: الحفظ في النفس، والإيعاء: الحفظ في الوعاء.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل: أذن واعية على التوحيد والتنكير؟ قلت: للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت عقلت عن الله تعالى فهو السواد الأعظم عند الله، وأن ما سواها لا يبالى بهم بالة وإن ملؤوا ما بين الخافقين ا.ه. وقرأ نافع بسكون الذال والباقون بضمها.
(13/112)
---(1/4858)
ولما ذكر تعالى القيامة وهول أمرها بالتعبير بالحاقة وغيرها شرع سبحانه وتعالى في تفاصيل أحوالها وبدأ بذكر مقدماتها بقوله تعالى: {فإذا نفخ} وبنى الفعل للمجهول دلالة على هوان ذلك عليه وأن ما يتأثر عنه لا يتوقف على نافخ معين بل من أقامه لذلك من جنده تأثر عنه ما يريده {في الصور} أي: القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام. قال البقاعي: كأنه عبر عنه به دون القرن مثلاً؛ لأنه يتأثر عنه تارة إعدام الصورة، وتارة إيجادها وردها إلى أشكالها وسعته كما بين السماء والأرض {نفخة واحدة} للفصل بين الخلائق.
قال الزمخشري: فإن قلت: هما نفختان، فلم قيل: واحدة؟ قلت: معناه أنها لا تثنى في وقتها. ثم قال: فإن قلت: فأي النفختين هي؟ قلت: الأولى لأن عندها فساد العالم، وهكذا الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد روي عنه أنها الثانية ا.ه.
قال البقاعي: وظاهر السياق أنها الثانية التي بها البعث وخراب ما ذكر بعد قيامهم أنسب لأنه أهيب وكونها الثانية إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما ا.ه. واقتصر البيضاوي على أنها الأولى والجلال المحلي على أنها الثانية وهو الأنسب كما قاله البقاعي.
ثم إن الزمخشري سأل سؤالاً على أنها النفخة الأولى بقوله: فإن قلت: أما قال بعد: {يومئذ تعرضون} والعرض إنما هو عند النفخة الثانية، قلت: جعل اليوم اسماً للحين الواسع الذي تقع فيه النفختان، والصعقة والنشور والوقوف للحساب، فلذلك قيل: {يومئذ تعرضون} كما تقول: جئتك عام كذا، وإنما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته ا.ه.
(13/113)
---(1/4859)
ولما ذكر التأثير في الأحياء أتبعه التأثير في الجمادات وبدأ منها بالسفليات لملابستها للإنسان فتكون عبرته بها أكثر، فقال تعالى: {وحملت الأرض والجبال} أي: التي بها ثباتها حملتهما الريح أو الملائكة أو القدرة من أماكنهما {فدكتا} أي: مسحت الجملتان الأرض وأوتادها وبسطت ودق بعضها ببعض {دكة واحدة} أي: فصارتا كثيباً مهيلاً بأيسر أمر، فلم يميز شيء منهما عن الآخر بل صارتا في غاية الاستواء، ومنه اندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره، وقال الفراء: لم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة والأرض كالجملة الواحدة، ومثله {أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما} (الأنبياء: 30)
ولم يقل كن وهذا الدك كالزلزلة لقوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} (الزلزلة: 1)
وقوله تعالى: {فيومئذ} منصوب بوقعت وقوله تعالى: {وقعت الواقعة} لابد فيه من تأويل، وهو أن تكون الواقعة صارت علماً بالغلبة على القيامة أو الواقعة العظيمة وإلا فقام القائم لا يجوز إذ لا فائدة فيه، والتنوين في يومئذ للعوض من الجملة تقديره: يوم إذ نفخ في الصور، ونوع تعالى أسماء القيامة بالحاقة والواقعة والقارعة تهويلاً لها.
ولما ذكر تأثير العالم السفلي ذكر العلوي بقوله تعالى: {وانشقت السماء} أي: ذلك الجنس لشدة هول ذلك اليوم، أي: انصدعت وتفطرت، وقيل: انشقت لنزول الملائكة بدليل قوله تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً} (الفرقان: 25)
. {فهي يومئذ واهية} أي: ضعيفة متساقطة خفيفة لا تتماسك كالعهن المنفوش بعدما كانت محكمة يقال: وهي البناء يهي وهياً فهو واه إذا ضعف جداً ويقال: كلام واه، أي: ضعيف وقيل: واهية، أي: متخرّقة مأخوذ من قولهم: وهى السقاء إذا تخرّق ومن أمثالهم:
*خل سبيل من وهى سقاؤه ** ومن هريق بالفلاة ماؤه*
(13/114)
---(1/4860)
أي: من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه، وقرأ أبو عمرو وقالون والكسائي بسكون الهاء والباقون بكسرها {والملك} أي: هذا النوع {على أرجائها} أي: نواحي السماء وأطرافها وحواشي ما لم ينشق منها قال الضحاك: يكونون بها حتى يأمرهم الله تعالى فينزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها، وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: المعنى والملك على حافات الدنيا، أي: ينزلون إلى الأرض ويحرسون أطرافها، وقيل: إذا صارت السماء قطعاً تقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها، والأرجاء في اللغة: النواحي والأقطار بلغة هذيل واحدها رجا مقصور وتثنيته رجوان، مثل عصا وعصوان قال القائل:
*فلا ترمي بي الرجوان إني ** أقل القوم من يعني مكاني*
قال ابن عادل: ورجا هنا يكتب بالألف عكس رحى لأنه من ذوات الواو.
فإن قيل: الملائكة يموتون في الصعقة الأولى لقوله تعالى: {فصعق من في السموات ومن في الأرض} (الزمر: 68)
. فكيف يقال لهم: إنهم يقفون على أرجاء السماء؟ أجيب: من وجهين: الأول: إنهم يقفون لحظة على أرجاء السماء ثم يموتون، والثاني: المراد الذين استثنوا في قوله تعالى: {إلا من شاء الله} (الزمر: 68)
. وقيل: إن الناس إذا رأوا جهنم هالهم أمرها فيندّوا كما تندو الإبل فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلا رأوا الملائكة فيرجعوا من حيث جاؤوا. وقيل: على أرجائها ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النار من السوق إليها. وفي أهل الجنة من التحية والكرامة، وهذا كله يرجع إلى قول ابن جبير رضي الله عنه ويدل عليه قوله تعالى: {ونزل الملائكة تنزيلا} (الفرقان: 25)
(13/115)
---(1/4861)
قال الزمخشري: فإن قلت ما الفرق بين قوله: {والملك} وبين أن يقال: والملائكة؟ قلت: الملك أعمّ من الملائكة ألا ترى أنّ قولك: ما من ملك إلا وهو شاهد أعمّ من قولك: ما من ملائكة ا.ه. قال أبو حيان: ولا يظهر أن الملك أعم من الملائكة لأن المفرد المحلى بالألف واللام قصاراه أن يكون مراداً به الجمع المحلى ولذلك صح الاستثناء منه، ثم قال: ولأن قوله: {على أرجائها} يدل على الجمع، لأن الواحد لا يمكن أن يكون على أرجائها في وقت واحد بل في أوقات، والمراد والله أعلم أن الملائكة على أرجائها لا أنه ملك واحد ينتقل على أرجائها في أوقات.
ولما كان الملك يظهر في يوم العرض سرير ملكه ومحل عزه قال تعالى: {ويحمل عرش ربك} أي: المحسن إليك بكل ما تريد لا سيما في ذلك اليوم بما يقع من رفعتك على سائر الخلق، والضمير في قوله تعالى: {فوقهم يومئذ} أي: في يوم وقعت الواقعة يجوز أن يعود على الملك لأنه بمعنى الجمع كما تقدم، وأن يعود على الحاملين في قوله تعالى: {ثمانية}، وقيل: يعود على جميع العالم، أي: إن الملائكة تحمل عرش الله تعالى فوق العالم كله.
واختلف في هذه الثمانية فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، وقال ابن زيد: هم ثمانية أملاك، وعن الحسن رضي الله عنه: الله أعلم كم هم أثمانية أم ثمانية آلاف أم ثمانية صفوف، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن حملة العرش اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أمدّهم الله تعالى بأربعة أخرى فكانوا ثمانية على صورة الأوعال». وفي رواية: ثمانية أوعال من أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء، وفي حديث آخر: «لكل ملك منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر، وكل وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس».
(13/116)
---(1/4862)
فإن قيل: إذا لم يكن فيهم صورة الوعل فكيف سموا أوعالاً؟ أجيب: بأن وجه الثور إذا كانت له قرون أشبه الوعل. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش: إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام». أخرحه أبو داود بإسناد صحيح، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: حملة العرش ما بين أخمص أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام، ومن كعبه إلى ركبته خمسمائة، ومن ترقوته إلى موضع القرط مسيرة خمسمائة عام، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: الذين يحملون العرش ما بين سوق أحدهم إلى مؤخر عينه خمسمائة عام. وفي الخبر أن فوق السماء السابعة ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء وفوق ظهورهن العرش، وفي حديث مرفوع أن حملة العرش ثمانية أملاك على صورة الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاماً للطائر المسرع، وروي أن أرجلهن في الأرض السابعة، وإضافة العرش إلى الله تعالى كإضافة البيت إليه وليس البيت للسكنى فكذلك العرش ليس للجلوس تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، فإنه الخالق للعرش ولحملة العرش ولا تحيط به جهة وهو العلي العظيم.
وعن شهر بن حوشب قال حملة العرش ثمانية: أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، وأربعة منهم يقولون: سبحانك اللهمّ وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك.
ولما بلغ تعالى النهاية في تحذير العباد من يوم التناد وكان لهم حالتان عامة وخاصة، فالعامة العرض والخاصة التقسيم إلى محسن ومسيء زاده عظماً بقوله تعالى: {يومئذ} أي: إذ كان جميع ما تقدم {تعرضون} على الله للحساب كما يعرض السلطان الجند لينظر في أمرهم ليختار منهم المصلح للتقريب والإكرام، والمفسد للإبعاد والتعذيب، عبر بالعرض عن الحساب الذي هو جزؤه، والمحسن لا يكون له غير ذلك والمسيء يناقش.
(13/117)
---(1/4863)
{لا تخفى منكم} أي: في ذلك اليوم على أحد بوجه من الوجوه، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية؛ لأن التأنيث مجازي والباقون بالتاء وهو ظاهر، {خافية} أي: من السرائر التي كان من حقها أن تخفى في دار الدنيا، فإنه عالم بكل شيء من أعمالكم. ونظيرة قوله تعالى: {لا يخفى على الله منهم شيء} (غافر: 16)
. قال الرازي: والعرض للمبالغة في التهديد يعني تعرضون على من لا تخفى عليه خافية، قال القرطبي: هذا هو العرض على الله تعالى ودليله {وعرضوا على ربك صفاً} (الكهف: 48)
وليس ذلك عرضاً ليعلم ما لم يكن عالماً به، بل ذلك العرض عبارة عن المحاسبة والمساءلة وتقرير الأعمال عليهم للمجازاة قال صلى الله عليه وسلم «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله».
(13/118)
---
قال تعالى: {فأما من أوتي كتابه بيمينه} أي: الذي أثبتت فيه أعماله {فيقول} لما رأى من سعادته تبجعاً بحاله وإظهاراً لنعمة ربه؛ لأن الإنسان مطبوع على أن يظهر ما آتاه الله تعالى من خير تكميلاً للذته قيل: إنه تكتب سيئاته في باطن صحيفته وحسناته في ظاهرها فيقرأ الباطن ويقرأ الناس الظاهر، فإذا أنهاه قيل له: قد غفرها الله تعالى اقلب الصحيفة، فحينئذ يكون قوله: {هاؤم اقرؤوا} أي: خذوا اقرؤوا {كتابيه} يقول ذلك ثقة بالإسلام وسروراً بنجاته؛ لأن اليمين عند العرب من دلائل الفرح قال الشاعر:
*إذا ما راية رفعت لمجد ** تلقاها عرابة باليمين*(1/4864)
قال ابن عباس رضي الله عنهما: أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وله شعاع كشعاع الشمس قيل: فأين أبو بكر؟ قال: هيهات زفته الملائكة إلى الجنة، وقال ابن زيد: معنى هاؤم: تعالوا، فيتعدى بإلى. وقال مقاتل: هلمّ، وقال غيره: خذوا، ومنه الحديث في الربا «إلا هاء وهاء»، أي: يقول كل لصاحبه: خذ، وهذا هو المشهور، ولذلك فسرت به الآية الكريمة. وقيل: هي كلمة وضعت لإجابة الداعي عند الفرح والنشاط، وفي الحديث «أنه صلى الله عليه وسلم ناداه أعرابي بصوت عال فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم هاؤم بصولة صوته». وقيل: معناها اقصروا وزعم هؤلاء أنها مركبة من ها التنبيه وأموا أمر من الأمّ وهو القصد فصيّره التخفيف والاستعمال إلى هاؤم، وقيل: الميم ضمير جماعة الذكور وزعم العتبي أن الهمزة بدل من الكاف، قال ابن عادل: فإن عنى أنها تحل محلها فصحيح، وإن عني البدل الصناعي فليس بصحيح.
(13/119)
---
تنبيه: كتابيه منصوب بهاؤم عند الكوفيين، وعند البصريين باقرؤوا لأنه أقرب العاملين، والأصل: كتابي فأدخل الهاء لتتبين صحة الياء والهاء في {كتابيه} و {حسابيه} و {سلطانيه} و {ماليه} للسكت وكان حقها أن تحذف وصلاً وتثبت وقفاً، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف أو وصل بنية الوقف في كتابيه وحسابيه اتفاقاً، فأثبت الهاء وكذا في {ماليه} (الحاقة: 28)
و {سلطانيه} (الحاقة: 29)
و {ماهيه} (القارعة: 10)
في القارعة عند القراء كلهم إلا حمزة، فإنه حذف الهاء من هذه الكلم الثلاثة وصلاً وأثبتها وقفاً؛ لأنها في الوقف محتاج إليها لتحصين حركة الموقوف عليه، وفي الوصل مستغنى عنها.
فإن قيل: فلم لم يفعل ذلك في {كتابيه} و {حسابيه}؟ أجيب: بأنه جمع بين اللغتين.(1/4865)
{إني ظننت} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: أيقنت وعلمت. وقيل: ظننت بأن يؤاخذني الله بسيئاتي فقد تفضل عليّ بعفوه ولم يؤاخذني بها. وقال الضحاك: كل ظن من المؤمن في القرآن فهو يقين ومن الكافر فهو شك. وقال مجاهد رضي الله عنه: ظن الآخرة يقين وظن الدنيا شك. وقال الحسن رضي الله عنه في هذه الآية: إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وإن المنافق أساء بربه الظن فأساء العمل.
{أني ملاق}، أي: ثابت لي ثباتاً لا ينفك أني ألقى {حسابيه}، أي: في الآخرة ولم ينكر البعث يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب لأنه تيقن أن الله تعالى يحاسبه فعمل للآخرة فحقق الله تعالى رجاءه وأمن خوفه فعلم الآن أنه لا يناقش الحساب، وإنما حسابه بالعرض وهو الحساب اليسير فضلاً من الله تعالى ونعمة.
{فهو في عيشة} أي: حالة من العيش، وقوله تعالى: {راضية} فيه ثلاثة أوجه:
(13/120)
---
أحدها: أنه على النسب، أي: ذات رضا نحو لابن وتامر لصاحب اللبن والتمر، أي: ثابت لها الرضا ودائم لها؛ لأنها في غاية الحسن والكمال، والعرب لا تعبر عن أكبر السعادات بأكثر من العيشة لراضية بمعنى أن أهلها راضون بها، والمعتبر في كمال اللذة الرضا.
الثاني: أنه على إظهار جعل العيشة راضية لمحلها وحصولها في مستحقها، وأنه لو كان للعيشة عقل لرضيت لنفسها بحالتها.
الثالث: قال أبو عبيدة والفراء: إن هذا مما جاء فيه فاعل بمعنى: مفعول نحو: ماء دافق بمعنى: مدفوق، كما جاء مفعول بمعنى: فاعل كما في قوله تعالى: {حجاباً مستوراً} (الإسراى: 45)، أي: ساتراً وقال صلى الله عليه وسلم «إنهم يعيشون فلا يموتون أبداً ويصحون فلا يمرضون أبداً وينعمون فلا يرون بأساً أبداً ويشبون فلا يهرمون أبداً». {في جنة} أي: بساتين جامعة لجميع ما يراد منها {عالية} أي: مرتفعة في المكان والمكانة والأبنية والدرجات والأشجار وكل اعتبار.(1/4866)
وقوله تعالى: {قطوفها} جمع كثرة لقطف بالكسر وهو فعل بمعنى مفعول كالذبح وهو ما يجنيه الجاني من الثمار، وأما القطف بالفتح فالمصدر، والقطاف بالفتح والكسر وقت القطف {دانية}، أي: قريبة المأخذ سهلة التناول جداً للراكب والقائم والقاعد والمضطجع كل ذلك على حدّ سواء دائماً من غير انقطاع لا كلفة على أحد في تناوله شيئاً من ذلك.
(13/121)
---
وقوله تعالى: {كلوا واشربوا} على إضمار القول، أي: يقال لهم ذلك وجمع الضمير للمعنى؛ لأن قوله تعالى: {فأما من أوتي كتابه}. يتضمن معنى الجمع وهذا أمر امتنان لا أمر تكليف، {هنيئاً} أي: أكلاً طيباً لذيذاً شهياً مع البعد عن كل أذى وسلامة العاقبة بكل اعتبار ولا فضلة هناك من بول ولا غائط ولا بصاق ولا مخاط ولا قرف ولا وهن ولا صداع ولا ثقل، والباء في قوله تعالى: {بما أسلفتم} سببية وما مصدرية أو اسمية، أي: بما قدّمتم من الأعمال الصالحة {في الأيام الخالية} أي: الماضية في الدنيا التي انقضت وذهبت واسترحتم من تعبها وعن مجاهد رضي الله عنه: أيام الصيام، أي: كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله تعالى. وروي: يقول الله تعالى: يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة وغارت أعينكم، وخمصت بطونكم فكونوا اليوم في نعيمكم وكلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية.(1/4867)
ولما كانت العادة جارية بأن أهل العرض ينقسمون إلى مقبول ومردود وذكر سبحانه المقبول بإدنائه تشويقاً إلى حاله، وتغبيطاً بعاقبته وحسن حاله أتبعه المردود تنفيراً عن أعماله بما ذكر من قبائح أحواله فقال تعالى: {وأما من أوتي كتابه} أي: صحيفة حسابه {بشماله فيقول} أي: لما يرى من سوء عاقبته التي كشف له عنها الغطاء حتى لم يشك فيها لما رأى من قبائحه التي قدمها {يا ليتني} تمنياً للمحال {لم أوت} أي: من أي مؤت ما. {كتابيه} أي: هذا الذي ذكرني خبائث أعمالي وعرفني جزاءها. {ولم} أي: ويا ليتني لم {أدر ما} حقيقة {حسابيه} من ذكر العمل وذكر جزائه، بل استمريت جاهلاً لذلك كما كنت في الدنيا.
(13/122)
---
ثم يتمنى الموت ويقول: {يا ليتها} أي: الموتة الأولى وإن لم تكن مذكورة إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة {كانت القاضية} أي: القاطعة لحياتي بأن لا أبعث بعدها، ولم ألق ما وصلت إليه. قال قتادة رضي الله عنه: يتمنى الموت ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت، وشر من الموت ما يطلب منه الموت، قال الشاعر:
*وشر من الموت الذي إن لقيته ** تمنيت منه الموت والموت أعظم*
والمعنى: يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت علي. وقوله: {ما أغنى عني ماليه} يجوز أن يكون نفياً تأسفاً على فوات ما كان يرجو من نفعه، والمفعول على هذا التقدير محذوف للتعميم ويجوز أن يكون استفهام توبيخ لنفسه حيث سولت له ما أثر له كل سوء وكل محال، أي: أيّ شيء أغنى ما كان لي من اليسار الذي منعت منه حق الفقراء وتعظمت به على عباد الله تعالى.
{هلك عني سلطانيه} أي: ملكي وتسلطي على الناس، وبقيت فقيراً ذليلاً. وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن هذه الآية نزلت في الأسود بن عبد الأشد، وعن فناخسرة الملقب بالعضد، إنه لما قال:
*عضد الدولة وابن ركنها ** ملك الأملاك غلاب القدر*(1/4868)
لم يفلح بعده وجنّ، فكان لا ينطق لسانه إلا بهذه الآية، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ضلت عني حجتي، ومعناه: بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا، وذكر الضحاك أن الآية الأولى في أخي الأسود عبد الله بن عبد الأسد المخزومي.
ولما كان كأنه قيل: هذا ما قال فما يقال له؟ أجيب: بأنه يقال للزبانية على رؤوس الأشهاد {خذوه} أي: أيتها الزبانية الذين كان يستهزئ بهم عند سماع ذكرهم {فغلوه} أي: اجمعوا يديه إلى عنقه ورجليه إلى وراء قفاه إلى ناصيته.
(13/123)
---
{ثم الجحيم} أي: النار العظمى التي تحجم على من يريد دفاعها ويحجم عنها من رآها، لأنها في غاية الحمو والتوقد والتغيظ والتشدد {صلوه} أي: بالغوا في تصليته إياها وكرروها بغمسة في النار كالشاة المصلية مرة بعد أخرى؛ لأنه كان يتعاظم على الناس فناسب أن يصلى أعظم النيران، وعبر أيضاً بأداة التراخي لعلو رتبة مدخولها فقال مؤذناً بعدم الخلاص، وتقديم المفعول يفيد الاختصاص عند بعضهم ولذلك قال الزمخشري: ثم لا يصلوه إلا الجحيم. قال أبو حيان: وليس ما قاله مذهباً لسيبويه ولا لحذاق النجاة، اه.
لكن كلام النحاة لا يأبى ما قاله.
{ثم في سلسلة} أي: عظيمة جداً، وقوله تعالى: {ذرعها سبعون ذراعاً} يحتمل أن يكون هذا العدد حقيقة وعلى هذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: سبعون ذراعاً بذراع الملك، فتدخل في دبره وتخرج من منخره، وقيل: تدخل من فيه وتخرج من دبره. وقال نوف البكالي: سبعون ذراعاً كل ذراع سبعون باعاً كل باع أبعد مما بينك وبين مكة وكان في رحبة الكوفة. وقال سفيان: كل ذراع سبعون ذراعاً. وقال الحسن رضي الله عنه: الله أعلم أيّ ذراع هو، ويحتمل أن يكون مبالغة كما قال تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة} (التوبة: 80)
يريد مرات كثيرة؛ لأنها إذا طالت كان الإرهاق أشد.
(13/124)
---(1/4869)
والذي يدل على هذا ما رواه الترمذي ـ وقال: إسناده حسن ـ عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن رصاصة مثل هذه وأشار إلى مثل الجمجمة أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها وقعرها». وعن كعب رضي الله عنه أنه قال: «لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها». أجارنا الله تعالى ومحبينا منها وجميع المسلمين، فأشار سبحانه إلى ضيقها على ما تحيط به من بدنه بتعبيره بالسلك فقال تعالى: {فاسلكوه} أي: أدخلوه بحيث يكون كأنه السلك، أي: الحبل الذي يدخل في ثقب الخرزة بعسر لضيق ذلك الثقب إما بإحاطتها بعنقه أو بجميع بدنه بأنه تلف، قال الزمخشري: والمعنى في تقديم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية، أي: لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم، ومعنى ثم الدلالة على تفاوت ما بين الغل والتصلية وما بينهما وبين السلك في السلسلة لا على تراخى المدة ا.ه.
ولما ذكر سبحانه على الإجمال عقابه أتبعه أسبابه فقال تعالى:
(13/125)
---
{إنه كان} أي: جبلة وطبعاً وأن أظهر شيئاً يلبس به على الضعفاء ويدلس على الأغبياء {لا يؤمن} أي: الآن ولا في مستقبل الزمان {بالله} أي: الملك الأعلى الذي يعلم السر وأخفى {العظيم} أي: الكامل العظم، وهذا تعليل على طريق الاستئناف وهو أبلغ كأنه قيل: ماله يعذب هذا العذاب الشديد؟ أجيب بذلك وفي قوله تعالى: {ولا يحض} أي: يحث {على} بذل {طعام المسكين} دليلان قويان على عظم الجرم في حرمان المسكين: أحدهما: عطفه على الكفر وجعله قرينة له. والثاني: ذكر الحض دون الفعل ليعلم أن تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل، وما أحسن قول القائل:
*إذا نزل الأضياف كان عذوّرا ** على الحيّ حتى تستقل مراجله*
(13/126)
---(1/4870)
يريد حضهم على القرى واستعجالهم، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين، وكان يقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع نصفها الثاني بالطعام. وقيل: هو منع الكفار وقولهم: {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} (يس: 47)
والمعنى على بذل طعام المسكين.
ولما وصفه سبحانه بأقبح العقائد وأشنع الرذائل تسبب عنه قوله تعالى: {فليس له اليوم ههنا} أي: في مجمع القيامة كله {حميم} أي: صديق خالص يحميه من العذاب، لأنهم كلهم له أعداء كما أنه كان لا يرق على الضعفاء لما هم فيه من الإقلال من حطام الأموال {ولا طعام إلا من غسلين} أي: غسالة أهل النار وصديدهم وقيحهم، فعلين من الغسل {لا يأكله إلا الخاطئون} أي: أصحاب الخطايا، من خطئ الرجل: إذا تعمد الذنب وهم المشركون، لا من الخطأ المضاد للصواب، وهذا الطعام يغسل ما في بطونهم من الأعيان والمعاني التي بها قوام صاحبها وهي بمنزلة ما كانوا يشحون من أموالهم التي أبطنوها وادّخروها في خزائنهم واستأثروا بها على الضعفاء.
{فلا أقسم} أي: لا يقع مني إقسام {بما تبصرون} من المخلوقات {وما لا تبصرون} منها، أي: بكل الموجودات واجبها وجائزها؛ معقولها ومحسوسها، لأنها لا تخرج عن قسمين مبصر وغير مبصر، وقيل: الدنيا والآخرة والأجسام والأرواح والإنس والجنّ والخلق والخالق والنعم الظاهرة والباطنة، لأنّ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى إقسام وإن كنت أقسم في غير هذا الموضع بما شئت، ولو قيل بهذا في الواقعة لكان حسناً، وقيل: لا زائدة وجرى على ذلك الجلال المحلي.
(13/127)
---(1/4871)
{إنه} أي: القرآن {لقول} أي: تلاوة {رسول} أي: أنا أرسلته به وعني أخذه وليس فيه شيء من تلقاء نفسه إنما هو كله رسالة واضحة جداً أنا شاهد بها بما له من الإعجاز الذي يشهد أنه كلامي {كريم} أي: على الله تعالى فهو في غاية الكرم الذي هو البعد من مساوئ الأخلاق بإظهار معاليها لشرف النفس وشرف الآباء وهو محمد صلى الله عليه وسلم وكرم الشيء اجتماع الكمالات فيه اللائقة به. وقيل: هو جبريل عليه السلام، قاله الحسن والكلبي رضي الله عنهما لقوله تعالى: {رسول كريم ذي قوة} (التكوير: 19 ـ 20)
واستدل للأول بقوله تعالى: {وما هو بقول شاعر} أي: يأتي بكلام مقفى موزون بقصد الوزن.
قال مقاتل رضي الله عنه: سبب نزول هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم ساحر، وقال أبو جهل: شاعر، وقال عقبة: كاهن، فردّ الله تعالى عليهم بذلك.
فإن قيل: كيف يكون كلاماً لله تعالى ولجبريل عليه السلام ولمحمد صلى الله عليه وسلم أجيب: بأن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة، فالله سبحانه وتعالى أظهره في اللوح المحفوظ وجبريل عليه السلام بلغه للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بلغه للأمّة.
{قليلاً ما تؤمنون} منصوب نعتاً لمصدر أو زمان محذوف، أي: إيماناً قليلاً أو زماناً قليلاً والناصب يؤمنون وما مزيدة للتأكيد، وقال ابن عطية: ونصب قليلاً بفعل مضمر يدل عليه يؤمنون وما يحتمل أن تكون نافية فينتفي إيمانهم البتة، ويحتمل أن تكون مصدرية وتتصف بالقلة فهو الإيمان اللغوي لا الشرعي، لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئاً وهو إخلاصهم بالوحدانية عند الاضطرار، وإفرادهم الخالق بالخلق والربوبية.
(13/128)
---(1/4872)
{ولا بقول كاهن} وهو المنجم الذي يخبر عن الأشياء وأغلبها ليس له صحة، وقوله تعالى: {قليلاً ما تذكرون} يأتي فيه ما تقدم في {قليلاً ما تؤمنون} وقال البغوي: أراد بالقليل نفي إسلامهم أصلاً كقولك لمن لا يزورك: قلما تأتينا وأنت تريد ما تأتينا أصلاً، وقرأ: {قليلاً ما يؤمنون} {قليلاً ما يذكرون} ابن كثير وابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان بالياء التحتية فيهما، والباقون بالفوقية، وخفف الذال حمزة والكسائي وحفص وشددها الباقون.
وقوله تعالى: {تنزيل} خبر لمبتدأ مضمر، أي: هو تنزيل على وجه التنجيم، قال البقاعي: وأشار إلى الرسالة إلى جميع الخلق من أهل السموات والأرض بقوله تعالى: {من رب العالمين} أي: موجدهم ومدبرهم بالإحسان إليهم بما يفهم كل منهم من هذا الذكر الذي رباهم به ورتب سبحانه نظمه على وجه سهل على كل منهم يكفي في هدايته ا.ه. وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أرسل للملائكة وهو الذي ينبغي وإن لم يكونوا مكلفين تشريفاً لهم زيادة في شرفه بإرساله صلى الله عليه وسلم إليهم.
{ولو تقوّل}، أي: كلف نفسه أن يقول مرة من الدهر كذباً {علينا} أي: على ما لنا من العظمة {بعض الأقاويل} أي: التي لم نقلها أو قلناها ولم نأذن له فيها قال الزمخشري: التقوّل افتعال القول لأن فيه تكلفاً من المفتعل وسمى الأقوال المنقولة أقاويل تصغيراً لها وتحقيراً، كقولك: الأعاجيب والأضاحيك، كأنها جمع أفعولة من القول. والمعنى: لو نسب إلينا قولاً لم نقله أو لم نأذن له في قوله: {لأخذنا} أي: لنلنا {منه} أي: عقاباً {باليمين} أي: بالقوة والقدرة.
تنبيه: الباء على أصلها غير مزيدة، والمعنى: لأخذناه بقوة منا، فالباء حالية والحال من الفاعل وتكون منه في حكم الزائدة، واليمين هنا مجاز عن القوة والغلبة، فإن قوة كل شيء في ميامنه، وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهم، ومنه قول الشماخ:
*إذا ما راية رفعت لمجد ** تلقاها عرابة باليمين*
(13/129)(1/4873)
---
وقال أبو جعفر الطبري: هذا الكلام خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب، ويجوز أن تكون الباء مزيدة، والمعنى: لأخذنا منه يمينه، والمراد باليمين الجارحة كما يفعل بالمقتول صبراً يؤخذ بيمينه ويضرب بالسيف في جيده مواجهة وهو أشد عليه، وقال الحسن رضي الله عنه: لقطعنا يده اليمنى. وقال الزمخشري: المعنى: ولو ادعى علينا شيئاً لم نقله لقتلناه صبراً كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معاجلة بالسخط والانتقام، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول، وهو أن يؤخذ بيده فتضرب رقبته وخص اليمين عن اليسار، لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذه بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف أخذ بيمينه ا.ه. وقال نفطويه: المعنى لقبضنا بيمينه عن التصرف، وقال السّدي ومقاتل رضي الله عنهما: المعنى انتقمنا منه بالحق واليمين على هذا بمعنى الحق كقوله تعالى: {إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} (الصافات: 28)، أي: من قبل الحق.
{ثم لقطعنا} أي: بما لنا من العظمة قطعاً يتلاشى عنده كل قطع {منه الوتين} أي: نياط القلب وهو يتصل من الرأس إذا انقطع مات صاحبه، قال أبو زيد: وجمعه الوتن وثلاثة أوتنة والموتون الذي قطع وتينه. وقال الكلبي: هو عرق بين العلباء والحلقوم وهما علباوان بينهما العرق والعلباء عصب العنق، وقيل: عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر، وقال مجاهد رضي الله عنه: هو حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع، فإذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه.
(13/130)
---(1/4874)
وقال محمد بن كعب رضي الله عنه: إنه القلب ومراقه وما يليه، وقال عكرمة رضي الله عنه: إن الوتين إذا قطع، لا إن جاع عرف ولا إن شبع عرف، وقيل: الوتين من مجمع الوركين إلى مجمع الصدر بين الترقوتين، ثم تنقسم منه سائر العروق إلى سائر الجسد، ولا يمكن في العادة الحياة بعد قطعه. وقال ابن قتيبة: لم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد أنه لو كذب لأمتناه، فكان كمن قطع وتينه. ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم «ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري». والأبهر: عرق متصل بالقلب، فإذا انقطع مات صاحبه فكأنه قال: هذا أوان يقتلني السم وحينئذ صرت كمن انقطع أبهره {فما منكم} أي: أيها الناس، وأغرق في النفي فقال: {من أحد عنه} أي: القتل {حاجزين} أي: لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم أي: لا تقدرون أن تحجزوا عنه القاتل وتحولوا بينه وبينه.
تنبيه: {من أحد} اسم ما ومن زائدة لتأكيد النفي، ومنكم حال من أحد وعنه حاجزين خبر ما وجمع لأن أحداً في سياق النفي بمعنى الجمع وضمير عنه للقتل أو النبي كما مرّ {وإنه} أي: القرآن {لتذكرة للمتقين} أي: لأنهم المنتفعون به لإقبالهم عليه إقبال مستفيد {وإنا} أي: بمالنا من العظمة {لنعلم} أي: علماً عظيماً محيطاً {أن منكم} أي: أيها الناس {مكذبين} بالقرآن ومصدقين، فأنزلنا الكتب وأرسلنا الرسل لنظهر منكم إلى عالم الشهادة ما كنا نعلم في الأزل غيباً من تكذيب وتصديق فتستحقون بذلك الثواب والعقاب، فلذلك وجب في الحكمة أن نعيد الخلق إلى ما كانوا عليه من أجسامهم قبل الموت لنحكم بينهم فنجازي كلاً بما يليق به إظهاراً للعدل.
(13/131)
---(1/4875)
{وإنه} أي: القرآن {لحسرة} أي: ندامة {على الكافرين} أي: إذا رأوا ثواب المصدقين وعقاب المكذبين به {وإنه} أي: القرآن أو الجزاء يوم الجزاء {لحق اليقين} أي: الأمر الثابت الذي لا يقبل الشك فهو يقين مؤكد بالحق من إضافة الصفة إلى الموصوف وهو فوق علم اليقين. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين.
{فسبح} أي: أوقع التنزيه الكامل عن كل شائبة نقص {باسم} أي: بسبب عملك بصفات {ربك} أي: الموجد والمربي لك والمحسن إليك بأنواع الإحسان {العظيم} أي: الذي ملأت الأقطار كلها عظمته وزادت على ذلك بما شاءه سبحانه مما لا تسعه العقول، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: فصلّ لربك العظيم. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الحاقة حاسبه الله حساباً يسيراً» حديث موضوع.
سورة المعارج
مكية
وهي أربع وأربعون آية، ومائتانوست عشرة كلمة، وألف وأحد وستون حرفاً
{بسم الله}، أي: الذي تنقطع الأعناق والآمال دون عليائه {الرحمن} الذي لا مطمع لأحد في حصر أوصافه {الرحيم} الذي اصطفى من عباده من وفقه فكان من أوليائه.
(13/132)
---
{سأل سائل} أي: دعا داع {بعذاب واقع} فضمن سأل معنى دعا، فلذلك عدى تعديته، وقيل: الباء بمعنى عن كقوله تعالى: {فاسأل به خبيراً} (الفرقان: 59)، أي: عنه، أي: سأل سائل عن عذاب واقع، والأول أولى لأن التجوز في الفعل أولى منه في الحرف لقوتّه.(1/4876)
واختلف في هذا الداعي فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو النضر بن الحارث حيث قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزل سؤاله وقتل يوم بدر صبراً هو وعتبة بن أبي معيط لم يقتل صبراً غيرهما، وقيل: هو الحارث بن النعمان، وذلك «أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عليّ: من كنت مولاه فعليّ مولاه ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالإبطح، ثم قال: يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه وأن نصلي خمساً ونزكي أموالنا فقبلناه منك، وأن نصوم شهر رمضان في عام فقبلناه منك وأن نحج فقبلناه منك ثم لم ترض حتى فضلت ابن عمك علينا، أفهذا شيء منك أم من الله تعالى؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «والذي لا إله إلا هو ما هو إلا من الله» فولى الحارث وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فوالله ما وصل إلى ناقته حتى رماه الله تعالى بحجر فوقع على دماغه فخرج من دبره فقتله فنزلت.
وقال الربيع: هو أبو جهل، وقيل: إنه قول جماعة من كفار قريش، وقيل: هو نوح عليه السلام سأل العذاب على الكافرين، وقيل: هو نبينا صلى الله عليه وسلم استعجل بعذاب الكافرين ويدل عليه قوله تعالى بعد ذلك {فاصبر صبراً جميلاً} أي: لا تستعجل فإنه قريب، وقرأ نافع وابن عامر بغير همز بعد السين، والباقون بهمزة مفتوحة بعد السين.
(13/133)
---
تنبيه: ما تقدم من الوجهين في كون سأل ضمن أو أن الباء بمعنى عن هو على القراءة بالهمز، وأما على عدمه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لغة في السؤال يقال: سأل يسأل كخاف يخاف وعين الكلمة واو، قال الزمخشري: وهي من لغة قريش.(1/4877)
والثاني: أنه من السيل ومعناه اندفع عليهم واد بعذاب، وقيل: سال واد من أودية جهنم وقوله تعالى: {للكافرين} فيه أوجه: أحدها: أنه يتعلق بسأل مضمناً معنى دعا كما مر، أي: دعا لهم بعذاب واقع. الثاني: أنه يتعلق بواقع واللام للعلة، أي: نازل لأجلهم. الثالث: أن يتعلق بمحذوف صفة ثانية للعذاب، أي: كائن للكافرين. الرابع: أن يكون جواباً للسائل فيكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هو للكافرين. الخامس: أن تكون اللام بمعنى على، أي: واقع على الكافرين.
{ليس له} أي: بوجه من الوجوه ولا حيلة من الحيل {دافع} يردّه.
وقوله تعالى: {من الله} أي: الملك الأعلى الذي لا كفء له يجوز أن يتعلق بدافع بمعنى ليس له دافع من جهته إذا جاء وقته لتعلق إرادته به وأن يتعلق بواقع، وبه بدأ الزمخشري، أي: واقع من عنده {ذي المعارج} أي: المصاعد وهي الدرجات التي يصعد فيها الكلم الطيب والعمل الصالح أو يترقى فيها المؤمنون في سلوكهم أو في دار ثوابهم، أو مراتب الملائكة أو السموات، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: ذي السموات، سماها معارج الملائكة لأن الملائكة يعرجون فيها فوصف نفسه بذلك، أو ذي العلوّ والدرجات الفواضل والنعم، لأنها تصل إلى الناس على مراتب مختلفة، قاله ابن عباس وقتادة رضي الله عنهم، فالمعارج مراتب إنعامه على الخلق. وقيل: ذي العظمة والعلا، وقيل: المعارج الغرف، أي: إنه ذو الغرف، أي: جعل لأوليائه الجنة غرفاً.
(13/134)
---
وقرأ: {تعرج الملائكة} الكسائي بالياء التحتية، والباقون بالتاء الفوقية، وأدغم جيم المعارج في تاء تعرج هنا السوسي، واستضعف بعضهم ذلك من حيث إن مخرج الجيم بعيد من مخرج التاء. وأجيب عن ذلك بأن الإدغام يكون لمجرد الصفات وإن لم يتقاربا في المخرج والجيم تشارك التاء في الاستفال والانفتاح والشدة والجملة من تعرج مستأنفة.(1/4878)
وقوله تعالى: {والروح} من عطف الخاص على العام إن أريد بالروح جبريل عليه السلام كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما لقوله تعالى: {نزل به الروح الأمين} (الشعراء: 193)
أو ملك آخر من جنسهم عظيم الخلقة: وقال أبو صالح: إنه خلق من خلق الله كهيئة الناس وليس بالناس. وقال قبيصة بن ذؤيب: إنه روح الميت حين يقبض، {إليه} أي: مهبط أمره من السماء. وقيل: هو كقول إبراهيم عليه السلام: {إني ذاهب إلى ربي} (الصافات: 99)، أي: إلى الموضع الذي أمرني به، وقيل: إلى عرشه، وعلق بالعروج أو بواقع قوله تعالى: {في يوم} أي: من أيامكم، وبين عظمه بقوله تعالى: {كان} أي: كوناً هو في غاية الثبات {مقداره} أي: لو كان الصاعد فيه آدمياً {خمسين ألف سنة} أي: من سني الدنيا وذلك أن تصعد من منتهى أمر الله تعالى من أسفل الأرض السابعة، روي عن مجاهد رضي الله عنه أن مقدار هذا خمسين ألف سنة. وقال محمد بن إسحاق: لو سار بنو آدم من الدنيا إلى موضع العرش ساروا خمسين ألف سنة. وقال عكرمة وقتادة رضي الله عنهما: هو يوم القيامة وأراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا، ليس يعني به أن مقدار طوله هكذا دون غيره؛ لأن يوم القيامة ليس له أول وليس له آخر لأنه يوم ممدود، ولو كان له آخر لكان منقطعاً.
(13/135)
---
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يوم القيامة يكون على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: «قيل: لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا».(1/4879)
وقيل: معناه لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله تعالى لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة قال عطاء رضي الله عنه: ويفرغ الله تعالى في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، وقيل: فيه خمسون موطناً على الكافر، كل موطن ألف سنة وما ورد ذلك على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر.
وروي عن الكلبي أنه قال: يقول الله تعالى: لو وليت حساب ذلك الملائكةُ والإنس والجن وطوقتهم محاسبتهم لم يفرغوا منه في خمسين ألف سنة وأنا أفرغ منه في ساعة من النهار. وقال بيان: هو يوم القيامة فيه خمسون موطناً كل موطن ألف سنة، وفيه تقديم وتأخير كأنه قال: ليس له دافع من الله ذي المعارج في يوم مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه.
فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في سورة السجدة: {في يوم كان مقداره ألف سنة} (السجدة: 5)
؟ أجيب: بأنه يحتمل أن من أسفل العالم إلى أعلى العرش خمسين ألف سنة، ومن أعلى سماء الدنيا إلى الأرض ألف سنة لأن عرض كل سماء خمسمائة وما بين أسفل إلى قرار الأرض خمسمائة، فقوله في يوم من أيام الدنيا وهو مقدار ألف سنة لو صعدوا فيه إلى سماء الدنيا، ومقدار خمسين ألف سنة لو صعدوا إلى أعلى العرش.
وقوله تعالى: {فاصبر صبراً جميلاً} متعلق كما قال الرازي: بسأل سائل، لأن استعجالهم بالعذاب كان على وجه الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالصبر، والمعنى: جاء العذاب لقرب وقوعه فاصبر على أذى قومك، والصبر الجميل: هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله تعالى.g
(13/136)
---
وقيل: أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدري من هو، وقال ابن زيد والكلبي رضي الله عنهم: هذه الآية منسوخة بالأمر بالقتال.(1/4880)
{إنهم} أي: الكفار {يرونه} أي: ذلك اليوم الطويل أو عذابه {بعيداً} أي: زمن وقوعه لأنهم يرونه غير ممكن، أو يفعلون أفعال من يستبعده {ونراه} أي: لما لنا من العظمة التي قضت بوجوده وهو علينا هين {قريباً} سواء أريد بذلك قرب الزمان أو قرب المكان فهو هين على قدرتنا وهو آت لا محالة، وكل آت قريب، والقريب والبعيد عندنا على حدٍ سواء، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بين بين، والباقون بالفتح.
وقوله تعالى: {يوم تكون السماء} متعلق بمحذوف، أي: يقع فيه من الأهوال {كالمهل} أي: كدردي الزيت، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: كالفضة البيضاء في تلونها {وتكون الجبال} أي: التي هي أشد الأرض وأثقل ما فيها {كالعهن} أي: كالصوف في الخفة والطيران بالريح. وقيل: أول ما تتفرق الجبال تصير رملاً ثم عهناً منفوشاً ثم هباء منثوراً منبثاً.
{ولا يسأل} أي: من شدة الأهوال {حميم حميماً} أي: قريب في غاية القرب والصداقة قريباً مثله عن شيء من الأشياء لفرط الشواغل ولأنه قد كشفت لهم أنه لا تغني نفس عن نفس شيئاً وأنه قد تقطعت الأسباب وتلاشت الأنساب وعلم أنه لا عز إلا بالتقوى.
(13/137)
---
{يبصرونهم} أي: يبصرهم بهم مبصر فلا يخفى أحد على أحد وإن بعد مكانه {يودّ المجرم} أي: يتمنى الكافر أو هذا النوع سواء كان كافراً أم مسلماً عاصياً علم أنه يعذب بعصيانه {لو} بمعنى أن {يفتدى} أي: يفدي نفسه {من عذاب يومئذ} أي: يوم إذ كانت هذه المخاوف. وقرأ نافع والكسائي بفتح الميم والباقون بكسرها، {ببنيه} أي: بأقرب الناس إليه وأعلقهم بقلبه لشدة ما يرى.(1/4881)
ولما ذكر ألصق الناس بالفؤاد وأعز من يلزمه نصره والذب عنه أتبعه ما يليه في الرتبة والمودة بقوله تعالى: {وصاحبته} أي: زوجه التي يلزمه الذب عنها لا سيما عند العرب من أقبح العار ولكونه دائماً معها. ولما ذكر الصاحبة لما لها من تمام الوصلة أتبعها الشقيق الذي هو عليه شفيق بقوله تعالى: {وأخيه} أي: الذي له به النصرة على من يريد، قال الشاعر:
*أخاك أخاك إن من لا أخا له ** كنازل الهيجاء بغير سلاح*
ولما كان من بقي من الأقارب بعد ذلك متقاربين في الرتبة ذكر أقربهم بقوله تعالى: {وفصيلته} أي: عشيرته الذين هم أقرب من فصل عنه، وقال ثعلب: الفصيلة الآباء الأدنون، وقال أبو عبيدة رضي الله عنه: الفخذ، وقال مجاهد وابن زيد رضي الله عنهم: عشيرته الأقربون، {التي تؤويه} أي: تضمه إليها عند الشدائد وتحميه لأنه أقرب الناس إليها وأعزهم عليها.
ولما خصص عمم بقوله تعالى: {ومن في الأرض} أي: من الثقلين وغيرهم سواء كان فيهم صديق لا صبر عنه ولا بدّ في كل حال منه أم لا، ثم أكد ذلك بقوله تعالى: {جميعاً} وقوله تعالى: {ثم ينجيه} أي: ذلك الافتداء عطف على يفتدى، وقوله تعالى: {كلا} ردّ وردع وزجر لما يودّه، وقال القرطبي: وإنها تكون بمعنى حقاً وبمعنى لا وهي هنا تحتمل الأمرين فإذا كانت بمعنى حقاً كان تمام الكلام ينجيه، وإذا كانت بمعنى لا كان تمام الكلام عليها إذ ليس من عذاب الله افتداء.
(13/138)
---(1/4882)
ولما كان الإضمار قبل الذكر لتعظيم ذلك المضمر أشار إلى أنه مستحضر في الذهن لا يغيب قال تعالى: {إنها} أي: النار وإن لم يجر لها ذكر لدلالة لفظ عذاب عليها، وقيل: الضمير للقصة. وقيل: مبهم يفسره قوله تعالى: {لظى} أي: ذات اللهب الخالص المتناهي في الحرّ اسم لجهنم تتلظى، أي: تتوقد فتأكل بسببه بعضها بعضاً إن لم تجد ما تأكله وتأكل كل ما وجدته كائناً ما كان، وقوله تعالى: {نزاعة للشوى} جمع شواة وهي جلدة الرأس، أي: شديدة النزع لجلود الرؤوس. وقال في «القاموس»: اليدان والرجلان والأطراف ومخ الرأس وما كان غير مقتل ا.ه. وقرأ حفص بالنصب على الاختصاص والحال المؤكدة والمستقلة على أن لظى متلظية، والباقون بالرفع على أنها خبر إن.
{تدعو من أدبر وتولى} عن الإيمان، تقول: إليّ يا مشرك، إليّ يا فاسق ونحو هذا، ثم تلتقطهم التقاط الطير للحب.
ولما كانت الدنيا والآخرة ضرتين، فكان الإقبال على أحدهما دالاً على الإعراض عن الأخرى قال تعالى دالاً على إدباره بقلبه: {وجمع} أي: كل ما كان منسوباً إلى الدنيا {فأوعى} أي: جعل ما جمعه في وعاء وكنزه حرصاً وطول أمل ولم يعط حق الله تعالى منه فكان همه الإعطاء لا إبطاء ما وجب من الحق إقبالاً على الدنيا وإعراضاً عن الآخرة، وقرأ: {لظى} و {للشوى} و {تولى} {فأوعى} حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش وأبو عمرو بين بين، والفتح عن ورش قليل والباقون بالفتح.
(13/139)
---
{إن الإنسان} أي: الجنس عبر به لما له من الأنس بنفسه والرؤية لمحاسنها والنسيان لربه ولدينه {خلق هلوعاً} أي: جبل جبلة هو فيها بليغ الهلع وهو أفحش الجزع مع شدة الحرص وقلة الصبر والشح على المال والسرعة فيما لا ينبغي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إنه الحريص على ما لا يحل له.(1/4883)
وروي عنه أن تفسيره ما بعده وهو قوله تعالى: {إذا مسه} أي: أدنى مس {الشر} أي: هذا الجنس، وهو ما تطاير شرره من الضرر {جزوعاً} أي: عظيم الجزع وهو ضد الصبر بحيث يكاد صاحبه ينقدّ نصفين ويتفتت {وإذا مسه} كذلك {الخير} هذا الجنس وهو ما يلائمه فيجمعه من السعة في المال وغيره من أنواع الرزق {منوعاً} أي: مبالغاً في الإمساك عما يلزمه من الحقوق للانهماك في حب العاجل وقصور النظر عليه وقوفاً مع المحسوس لغلبة الجمود والبلادة، وهذا الوصف ضد الإيمان لأنه نصفان شكر وصبر.
(13/140)
---
فإن قيل: حاصل هذا الكلام أنه نفور عن المضارّ طالب للراحة، وهذا هو اللائق بالعقل فلم ذمه الله تعالى عليه؟ أجيب: بأنه إنما ذمه عليه لقصور نظره على الأمور العاجلة، والواجب عليه أن يكون شاكراً راضياً في كل حال.
وقوله تعالى: {إلا المصلين} استثناء للموصوفين بالصفات الآتية من المطبوعين على الأحوال المذكورة قبل مضادّة تلك الصفات لها من حيث إنها دالة على الاستغراق في طاعة الحق، والإشفاق على الخلق، والإيمان بالجزاء، والخوف من العقوبة، وكسر الشهوة، وإيثار العاجل على الآجل، وتلك ناشئة عن الانهماك في حب العاجل وقصور النظر عليها {الذين هم} أي: بكلية ضمائرهم وظواهرهم {على صلاتهم} أي: التي هي معظم دينهم وهي النافعة لهم لا لغيرهم بما أفادته الإضافة، والمراد الجنس الشامل لجميع الأنواع إلا أن معظم المقصود الفرض، ولذلك عبر بالاسم الدال على الثبات في قوله تعالى: {دائمون} أي: لا فتور لهم عنها ولا انفكاك لهم منها، وقال عقبة بن عامر: هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا يميناً ولا شمالاً، والدائم: الساكن، ومنه نهي عن البول في الماء الدائم، أي: الساكن. وقال ابن جريج والحسن: هم الذين يكثرون فعل التطوع منها.
فإن قيل: كيف قال تعالى: {على صلاتهم دائمون} وقال تعالى في موضع آخر: {على صلواتهم يحافظون} (الأنعام: 92)(1/4884)
؟ أجيب: بأن دوامهم عليها أن لا يتركوها في وقت، ومحافظتهم عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها حتى تأتي على أكمل الوجوه من المحافظة على شرائطها، والإتيان بها في الجماعة وفي المساجد الشريفة، وفي تفريغ القلب عن الوسواس والرياء والسمعة، وأن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، وأن يكون حاضر القلب فاهماً للأذكار، مطلعاً على حكم الصلاة متعلق القلب بدخول أوقات الصلاة.
(13/141)
---
ولما ذكر تعالى زكاة الروح أتبعه زكاة عديلها، فقال تعالى مبينا للرسوخ في الوصف بالعطف بالواو: {والذين في أموالهم} التي منّ الله سبحانه بها عليهم {حق معلوم} أي: من الزكوات وجميع النفقات الواجبة. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من أدى زكاة ماله فلا جناح عليه أن لا يتصدق {للسائل} أي: الذي يسأل {والمحروم} أي: الذي لا يسأل، فيحسب غنياً فيحرم فهو يتلظى بناره في ليله ونهاره، ولا مفزع له بعد ربه المالك لعلانيته وسره إلا إلى إفاضة مدامعه بذلة وانكسار، وهذا من الله تعالى حث على تفقد أرباب الضرورات ممن لا كسب له ومن افتقر بعد الغنى، وقد كان للسلف الصالح في هذا قصب السبق، حكي عن زين العابدين أنه لما مات وجد في ظهره آثار سواد كأنها السيور، فعجبوا منها فقال بعد موته نسوة أرامل: كان شخص يأتي إلينا ليلاً بقرب الماء على ظهره وأجربة الدقيق ففقدناه واحتجنا، فعلموا أنه هو وأن تلك السيور من ذلك، وحكي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما أن شخصاً رآه ماشياً في زمن خلافته في الليل فتبعه، فجاء إلى بيت نسوة أرامل فقال: أعندكن ماء وإلا املأ لكنّ، فأعطينه جرة فأخذها وذهب فملأها على كتفه وأتى بها إليهنّ. والحكايات عنهم في هذا كثيرة.(1/4885)
{والذين يصدّقون} أي: يوقعون التصديق لمن يخبرهم ويجدّدونه كل وقت {بيوم الدين} أي: الجزاء الذي ما مثله يوم وهو يوم القيامة الذي يقع الحساب فيه على النقير والقمطير والتصديق به حق التصديق الاستعداد له بالأعمال الصالحة، فالذين يعلمون لذلك اليوم هم العمال، وأما المصدّقون بمجرّد الأقوال فلهم الوبال وإن أنفقوا أمثال الجبال.
(13/142)
---
{والذين هم} أي: بجميع ضمائرهم وظواهرهم {من عذاب ربهم} أي: المحسن إليهم لا من عذاب غيره فإن المحسن أولى بأن يخشى ولو من قطع إحسانه {مشفقون} أي: خائفون في هذه الدار خوفاً عظيماً هو في غاية الثبات من أن يعذبهم في الآخرة أو في الدنيا أو فيهما، فهم لذلك لا يفعلون إلا ما يرضيه سبحانه.
{إن عذاب ربهم} أي: الذي هم مغمورون بإحسانه وهم عارفون بأنه قادر على الانتقام ولو بقطع الإحسان {غير مأمون} أي: لا ينبغي لأحد أن يأمنه بل يجوز أن يحل به وإن بالغ في الطاعة؛ لأن الملك مالك وهو تام الملك، له أن يفعل ما شاء، ومن جوز وقوع العذاب أبعد عن موجباته غاية الإبعاد ولم يزل مترجحاً بين الخوف والرجاء.
{والذين هم} أي: ببواطنهم الغالبة على ظواهرهم {لفروجهم} أي: سواء أكانوا ذكوراً أم إناثاً {حافظون} أي: حفظاً ثابتاً دائماً عن كل ما نهى الله تعالى عنه {إلا على أزواجهم} أي: من الحرائر بعقد النكاح، وقدمهنّ لشرفهنّ وشرف الولد بهنّ، ثم أتبعه قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانهم} أي: من السراري التي هي محل الحرث والنسل واللاتي هن أقل عقلاً من الرجال، ولهذا عبر بما التي هي في الأغلب لغير العقلاء، وفي ذلك إشارة إلى اتساع النطاق في احتمالهن.(1/4886)
{فإنهم} أي: بسبب إقبالهم بالفروج عليهن وإزالة الحجاب من أجل ذلك {غير ملومين} أي: في الاستمتاع بهن من لائم ما، كما نبه عليه البناء للمفعول، فهم يصحبونهن للتعفف وصون النفس وابتغاء الولد للتعاون على طاعة الله تعالى، واكتفى في مدحهم بنفي اللوم لإقباله عن تحصيل ما له من المرام.
(13/143)
---
{فمن ابتغى} أي: طلب وعبر بصيغة الافتعال لأن ذلك لا يقع إلا عن إقبال عظيم من النفس واجتهاد في الطلب. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح. {وراء ذلك} أي: شيئاً من هذا خارجاً عن هذا الأمر الذي أحله الله تعالى له، والذي هو أعلى المراتب في أمر النكاح وقضاء اللذة وأحسنها وأجملها {فأولئك} أي: الذين هم في الحضيض من الدناءة وغاية البعد عن مواطن الرحمة {هم} أي: بضمائرهم وظواهرهم {العادون} أي: المختصون بالخروج عن الحدّ المأذون فيه. {والذين هم لأماناتهم} أي: من كل ما ائتمنهم الله تعالى عليه من حقه وحق غيره، وقرأ ابن كثير بغير ألف بعد النون على التوحيد، والباقون بالألف على الجمع {وعهدهم} أي: ما كان من الأمانات بربط وتوثيق {راعون} أي: حافظون لها معترفون بها على وجه نافع غير ضار.(1/4887)
{والذين هم} أي: بغاية ما يكون من توجه القلوب {بشهادتهم} التي شهدوا بها أو يستشهدون بها بطلب أو غيره، وتقديم المعمول إشارة إلى أنهم في فرط قيامهم بها ومراعاتهم لها كأنهم لا شاغل لهم سواها {قائمون} أي: يتحملونها ويؤدّونها على غاية التمام والحسن أداء من هو متهيىء لها واقف في انتظارها، وقرأ حفص بألف بعد الدال على الجمع اعتباراً بتعدد الأنواع والباقون بغير ألف على التوحيد إذ المراد الجنس. قال الواحديّ: والإفراد أولى لأنه مصدر فيفرد كما تفرد المصادر وإنّ أضيف إلى الجمع كصوت الحمير. قال أكثر المفسرين: يقومون بالشهادة على من كانت عليه من قريب وبعيد، يقومون بها عند الحكام ولا يكتمونها. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بشهادتهم أنّ الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله.
(13/144)
---
{والذين هم على صلاتهم} أي: من الفرض والنفل {يحافظون} أي: يبالغون في حفظها ويجددونه حتى كأنهم يبادرونها الحفظ ويسابقونها فيه فيحفظونها لتحفظهم ويسابقون غيرهم في حفظها، وتقدم أنّ المداومة غير المحافظة، فدوامهم عليها محافظتهم على أوقاتها وشروطها وأركانها ومستحباتها في ظواهرها وبواطنها من الخشوع والمراقبة وغير ذلك من خلال الإحسان التي إذا فعلوها كانت ناهية لفاعلها {إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} (العنكبوت: 45)
فتحمل على جميع هذه الأوامر وتبعد عن أضدادها، فالدوام يرجع إلى نفس الصلاة والمحافظة إلى أحوالها ذكره القرطبي.(1/4888)
ولما ذكر تعالى خلالهم أتبعه ما أعطاهم، فقال عز من قائل مستأنفاً أو منتجاً من غير فاء إشارة إلى أن رحمته هي التي أوصلتهم إلى ذلك من غير سبب منهم في الحقيقة: {أولئك} أي: الذين في غاية العلوّ لما لهم من الأوصاف العالية {في جنات} أي: في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فواضح، وأما في الدنيا فلأنهم لما جاهدوا فيه بإتعاب أنفسهم في هذه الأوصاف حتى تخلقوا بها أعطاهم بمباشرتها لذاذات من أنس القرب وحلاوة المناجاة لا يساويها شيء أصلاً، والجنة محل اجتمع فيه جميع الراحات والمستلذات والسرور وانتفى عنه جميع المكروهات والشرور، وضدها النار. وزادهم على ذلك بقوله تعالى: {مكرمون} معبراً باسم المفعول إشارة إلى عموم الإكرام من الخالق والخلق الناطق وغيره، لأنه سبحانه قضى بأن يعلي مقدارهم فيكرمهم بأنواع الكرامات فيتلقاهم بالبشرى حين الموت وفي قبورهم ومن حين قيامهم من قبورهم إلى دخولهم إلى قصورهم هذا حال المؤمنين.
وأما حال الكافرين فقال الله تعالى في حقهم:
(13/145)
---(1/4889)
{فما للذين كفروا} وقف أبو عمرو على الألف بعد الميم والكسائي يقف على الألف وعلى اللام، ووقف الباقون على اللام، وأما الابتداء فالجميع يبتدؤون أوّل الكلمة أي: أيّ شيء من السعادات للذين ستروا مرائي عقولهم عن الإقرار بمضمون هذا الكلام الذي هو أوضح من الشمس حال كونهم {قبلك} أي: نحوك أيها الرسول الكريم وفيما أقبل عليك {مهطعين} أي: مسرعين مع مد الأعناق وإدامة النظر إليك في غاية العجب من مقالك، هيئة من يسعى إلى أمر لا حياة له بدونه {عن} أي: متجاوزين إليك مكاناً عن جهة {اليمين} أي: منك حيث يتيمنون به {وعن الشمال} أي: منك وإن كانوا يتشاءمون به، وقوله تعالى: {عزين} حال من الذين كفروا، وقيل: من الضمير في مهطعين فتكون حالاً متداخلة، أي: جماعات جماعات وحلقاً حلقاً متفرقين فرقاً شتى أفواجاً لا يتمهلون ليأتوا جميعاً. جمع عزة وأصلها عزوة لأنّ كل فرقة تعتزي إلى غير ما تعتزي إليه الأخرى فهم متفرقون قال الكميت:
*ونحن وجندل باغ تركنا ** كتائب جندل شتى عزينا*
وجمع عزة جمع سلامة شذوذاً.
(13/146)
---
وقيل: كان المستهزؤون خمسة أرهط روي أنّ المشركين كانوا يجتمعون حول النبيّ صلى الله عليه وسلم يستمعون كلامه ويستهزؤون به ويكذبونه ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فندخلها قبلهم، فردّ الله تعالى عليهم بقوله عز من قائل: {أيطمع} أي: هؤلاء البعداء البغضاء، وعبر بالطمع إشارة إلى أنهم بلغوا الغاية في السفه لكونهم طلبوا أعز الأشياء من غير سبب تعاطوه له.
ولما كان إتيانهم على هيئة التفرق من غير انتظار جماعة لجماعة قال تعالى: {كل امرئ منهم} أي: على انفراده {أن يدخل} أي: وهو كافر من غير إيمان يزكيه كما يدخل المسلم، فيستوي المسيء والمحسن {جنة نعيم} أي: لا شيء فيها عير النعيم.(1/4890)
وقوله تعالى: {كلا} ردع لهم عن طمعهم ودخولهم الجنة، أي: لا يكون ما طمعوا فيه أصلاً؛ لأنّ ذلك ثمن فارغ لا سبب له بما دل عليه التعبير بالطمع دون الرجاء. ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إنا خلقناهم} أي: بالقدرة التي لا يقدر أحد أن يقاومها {مما يعلمون} أي: أنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة كما خلق سائر جنسهم، فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة، وإنما تستوجب بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى. وقيل: كانوا يستهزؤون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم فقال تعالى: {إنا خلقناهم ممايعلمون} أي: من القذر وهو منصبهم الذي لا منصب أوضع منه ولذلك أبهم وأخفى إشعاراً بأنه منصب يستحيا من ذكره، فلا يليق بهم هذا التكبر ويدعون التقدم ويقولون: ندخل الجنة قبلهم.
قال قتادة في هذه الآية إنما خلقت يا ابن آدم من قذر، فاتّقِ الله. وروي أنّ مطرّق بن عبد الله بن الشخير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خز وجبة خز، فقال له: يا عبد الله ما هذه المشية التي يبغضها الله تعالى؟ فقال له: أتعرفني؟ قال: نعم، أوّلك نطفة مزرة وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة فمضى المهلب وترك مشيته.
(13/147)
---
فائدة: قال ابن عربي في «الفتوحات»: خلق الله الناس على أربعة أقسام: قسم لا من ذكر ولا من أنثى وهو آدم عليه السلام، وقسم من ذكر فقط وهو حوّاء، وقسم من أنثى فقط وهو عيسى عليه السلام، وقسم من ذكر وأنثى وهو بقية الناس.(1/4891)
{فلا} زيدت فيه لا {أقسم برب} أي: سيد ومبدع ومدبر {المشارق} أي: التي تشرق الشمس والقمر والكواكب السيارة، كل يوم في موضع منها على المنهاج الذي دبره والطريق والقانون الذي أتقنه وسخره ستة أشهر صاعدة وستة أشهر هابطة {والمغارب} كذلك وهي التي ينشأ عنها الليل والنهار والفصول الأربعة، فكان بها صلاح العالم بمعرفة الحساب وإصلاح المآكل والمشارب وغير ذلك من المآرب، فيوجد كل من الملوين بعد أن لم يكن والنبات من النجم والشجر كذلك عادة مستمرة دالة على أنه تعالى قادر على الإيجاد والإعدام لكل ما يريده من غير كلفة ما. كما قال تعالى: {إنا} أي: على ما لنا من العظيمة {لقادرون}.
{على أن نبدل} أي: تبديلاً عظيماً بما لنا من الجلالة عوضاً عنهم {خيراً منهم} أي: بالخلق أو بتحويل الوصف فيكونون أشدّ بطشاً في الدنيا وأكثر أموالاً وأولاداً وأعلى قدراً وأكثر حشماً وجاهاً وخدماً، فيكونون عندك على قلب واحد في سماع قولك وتوقيرك وتعظيمك والسعي في كل ما يشرح صدرك بدل ما يعمل هؤلاء من الهزء والتصفيق والصفير وكل ما يضيق به صدرك، وقد فعل ذلك سبحانه بالمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان بالسعة في الرزق بأخذ أموال الجبارين من كسرى وقيصر والتمكين في الأرض حتى كانوا ملوك الدنيا مع العمل بما يوجب لهم ملك الآخرة، ففرجوا الكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلوا في مرضاته الأنفس والأموال {وما نحن بمسبوقين} أي: لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر نريده بوجه من الوجوه.
(13/148)
---(1/4892)
{فذرهم} أي: اتركهم ولو على أسوأ أحوالهم {يخوضوا} أي: في باطلهم من مقالهم وفعالهم {ويلعبوا} أي: يفعلوا في دنياهم فعل اللاعب الذي لا فائدة لفعله إلا ضياع الزمان واشتغل أنت بما أمرت به {حتى يلاقوا} أي: يلقوا {يومهم الذي يوعدون} وهو يوم كشف الغطاء الذي أوّل مجيئه عند الغرغرة، وتناهيه النفخة الثانية، ودخول كل من الفريقين في داره ومحل استقراره، وهذه الآية منسوخة بآية السيف كما قاله البقاعيّ وابن عادل.h
وقوله تعالى: {يوم يخرجون} يجوز أن يكون بدلاً من يومهم أو منصوباً بإضمار أعني {من الأجداث} أي: القبور التي صاروا بتغييبهم فيها تحت وقع الحوافر والخف، فهم بحيث لا يدفعون شيئاً يفعل بهم بل هم كلحم في فم ماضغ، فإنّ الجدث: القبر والجدثة صوت الحافر والخف ومضغ اللحم.
وقوله تعالى: {سراعاً} أي: نحو صوت الداعي ذاهبين إلى المحشر، حال من فاعل يخرجون جمع سريع كظراف في ظريف، وقرأ قوله تعالى: {كأنهم إلى نصب} ابن عامر وحفص بضم النون والصاد، والباقون بفتح النون وإسكان الصاد على أنه مصدر بمعنى المفعول كما تقول هذا نصب عيني وضرب الأمير، والنصب كل ما نصب فعبد من دون الله {يوفضون} أي: يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصابهم. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إلى نصب، أي: إلى غاية وهي التي ينتصب إليها بصرك، وقال الكلبي: هو شيء منصوب علم أو راية. وقال الحسن: كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى لا يلوي أوّلهم على آخرهم.
(13/149)
---(1/4893)
وقوله تعالى: {خاشعة} حال إما من فاعل يوفضون وهو أقرب، أو من فاعل يخرجون وفيه بعد منه، وفيه تعدد الحال لذي حال واحدة وفيه الخلاف المشهور. وقوله تعالى: {أبصارهم} فاعل، والمعنى ذليلة خاضعة لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله تعالى {ترهقهم} أي: تغشاهم فتعمهم وتحمل عليهم، فتكلفهم كل عسر وضيق على وجه الإسراع عليهم {ذلة} أي: ضد ما كانوا عليه في الدنيا؛ لأن من تعزز في الدنيا على الحق ذل في الآخرة، ومن ذل للحق في الدنيا عز في الآخرة.
{ذلك} أي: الأمر الذي هو في غاية ما يكون من علوّ الرتبة في العظمة {اليوم الذي كانوا يوعدون} أي: يوعدون في الدنيا أنّ لهم فيه العذاب، وأخرج الخبر بلفظ الماضي؛ لأنّ ما وعد الله تعالى به فهو حق كائن لا محالة، وهذا هو العذاب الذي سألوا عنه أوّل السورة، فقد رجع آخرها على أوّلها.
وما قاله البيضاويّ تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة سأل سائل أعطاه الله تعالى ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون». حديث موضوع.
سورة نوح
عليه السلام مكية
وهي سبع وعشرون آية، ومائتان وأربعوعشرون كلمة، وتسعمائة وتسعة وعشرون حرفاً
{بسم الله} ذي الجلال والإكرام {الرحمن} الذي عمّ بما أفاضه من ظاهر الإنعام {الرحيم} الذي حفظ أولياءه من الابتداء إلى الختام.
ولما ختمت سأل بالإنذار للكفار وكانوا عباد أوثان بعذاب الدنيا والآخرة أتبعها أعظم عذاب كان في الدنيا على تكذيب الرسل بقصة نوح عليه السلام فقال تعالى:
(13/150)
---(1/4894)
{إنا} أي: بما لنا من العظمة البالغة {أرسلنا نوحاً إلى قومه} أي: الذين كانوا في غاية القوّة على القيام بما يحاولونه وهم بصدد أن يجيبوه ويكرموه لما بينهم من القرب بالنسب واللسان، وكانوا جميع أهل الأرض من الآدميين، روى قتادة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول نبي أرسل نوح عليه السلام» وأرسل إلى جميع أهل الأرض ولذلك لما كفروا أغرق الله تعالى أهل الأرض جميعاً، وهو نوح بن لمك بن متوشلح بن أخنوخ، وهو إدريس بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السلام. قال وهب: وكل مؤمنون أرسل إلى قومه وهو ابن خمسين سنة. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وهو ابن أربعين سنة. وقال عبد الله بن شداد: بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة.
(13/151)
---
ويجوز في قوله تعالى: {أن أنذر} أي: حذر تحذيراً عظيماً {قومك} أي: الاستمرار على الكفر أن تكون أن مفسرة فلا يكون لها من الإعراب لأن في الإرسال معنى الأمر فلا حاجة إلى إضمار، ويجوز أن تكون المصدرية أي: أرسلناه بالإنذار. قال الزمخشري: والمعنى أرسلناه بأن قلنا له أنذر قومك أي: أرسلناه بالأمر بالإنذار ا.ه. وهذا الذي قدره جواب عن سؤال وهو أنّ قولهم إنّ أن المصدرية يجوز أن توصل بالأمر مشكل؛ لأنه ينسبك منها ومما بعدها مصدر وحينئذ فتفوت الدلالة على الأمر ألا ترى أنك إذا قدرت كتبت إليه بأن قم: كتبت إليه القيام تفوت الدلالة على الأمر حال التصريح بالمصدر فينبغي أن يقدر كما قاله الزمخشري أي: كتبت إليه بأن قلت له: قم، أي: كتبت إليه بالأمر بالقيام.
(13/152)
---(1/4895)
وقال القرطبي: أي بأن أنذر قومك {من قبل أن يأتيهم} أي: على ما هم عليه من الأعمال الخبيثة {عذاب أليم} أي: عذاب الآخرة أو الطوفان {قال} أي: نوح عليه السلام {يا قوم} فاستعطفهم بتذكيرهم أنه أحدهم يهمه ما يهمهم {إني لكم نذير} أي: مبالغ في إنذاركم {مبين} أي: أمري بين في نفسه بحيث إنه صار في شدة وضوحه كأنه مظهر لما يتضمنه مناد بذلك للقريب والبعيد والفطن والغبي، ويجوز في قوله تعالى: {أن اعبدوا الله} أي: الملك الأعظم الذي له جميع الكمال، أن تكون أن تفسيرية لنذير، وأن تكون مصدرية والكلام فيها كما تقدّم في أختها. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة في الوصل بكسر النون والباقون بالضم، والمعنى وحدوا الله {واتقوه} أي: اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية تمنعكم من عذابه بالانتهاء عن كل ما يكرهه فلا تتحركوا حركة ولا تسكنوا سكنة إلا في طاعته، وهذا هو العمل الواقي من كل سوء {وأطيعون} أي: لأعرفكم ما تقصر عنه عقولكم من صفات معبودكم ودينكم ودنياكم ومعادكم، وأدلكم على اجتلاب آداب تهديكم واجتناب شبه ترديكم، ففي طاعتي فلأحكم برضا الملك عنكم. وقوله: {يغفر لكم} جواب الأمر، وفي من في قوله: {من ذنوبكم} أوجه أحدها: أنها تبعيضية، الثاني: أنها لابتداء الغاية، الثالث: أنها مزيدة. قال ابن عطية: وهو مذهب كوفي، وردّ بأنّ مذهبهم ليس ذلك لأنهم يشترطون تنكير مجرورها ولا يشترطون غيره، والأخفش لا يشترط شيئاً، فالقول بزيادتها هنا ماش على قوله لا على قولهم، قاله القرطبيّ، وقيل: لا يصح كونها زائدة لأنّ من لا تزاد في الموجب وإنما هي هنا للتبعيض وهو بعض الذنوب وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين.
(13/153)
---(1/4896)
{ويؤخركم} أي: بلا عذاب تأخيراً ينفعكم {إلى أجل مسمى} أي: قد سماه الله تعالى وعلمه قبل إيجادكم فلا يزاد فيه ولا ينقص منه فيكون موتكم على العادة أو يأخذكم جميعاً، فالأمور كلها قد قدرت وفرغ من ضبطها لإحاطة العلم والقدرة فلا يزاد فيها ولا ينقص ليعلم أنّ الإرسال إنما هو مظهر لما قدره في الأزل، ولا يظن أنه قالب للأعيان بتغيير ما سبق به القضاء من الطاعة والعصيان، وقرأ: ويوخركم ولا يوخر ورش بإبدال الهمزة واواً وقفاً ووصلاً، وحمزة في الوقف دون الوصل، والباقون بالهمز.
{إنّ أجل الله} أي: الذي له الكمال كله فلا رادّ لأمره {إذا جاء لا يؤخر} أي: إذا جاء الموت لا يؤخر بعذاب كان أو بغير عذاب، وأضاف الأجل إليه سبحانه لأنه الذي أثبته، وقد يضاف إلى القوم كقوله تعالى: {إذا جاء أجلهم} (يونس: 49)
لأنه مضروب لهم. {لو كنتم تعلمون} أي: لو كنتم من أهل العلم والنظر لعلمتم ذلك ولكنهم لانهماكهم في حبّ الدنيا كأنهم شاكّون في الموت.
ولما كان عليه السلام أطول الأنبياء عمراً وكان قد طال نصحه لهم ولم يزدادوا إلا طغياناً وكفراً {قال} منادياً لمن أرسله لأنه تحقق أن لا قريب منه غيره: {رب} أي: يا سيدي وخالقي {إني دعوت} أي: أوقعت الدعاء إلى الله بالحكمة والمواعظة الحسنة {قومي} أي: الذين هم جديرون بإجابتي لمعرفتهم بي وقربهم مني، وفيهم قوّة المحاولة لما يريدون {ليلاً ونهاراً} أي: دائماً متصلاً لا أفتر عن ذلك. وقيل: معناه سراً وجهراً. {فلم يزدهم دعائي} أي: شيئاً من أحوالهم التي كانوا عليها {إلا فراراً} أي: بعداً وإعراضاً عن الإيمان كأنهم حمر مستنفرة استثناء مفرغ وهو مفعول ثان، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون الياء، والباقون بفتحها وهم على مراتبهم في المد.
(13/154)
---(1/4897)
{وإني كلما} أي: على تكرار الأوقات وتعاقب الساعات {دعوتهم} أي: إلى الإقبال إليك بالإيمان بك والإخلاص لك {لتغفر لهم} أي: ليؤمنوا فتمحو ما فرطوا فيه في حقك فأفرطوا لأجله في التجاوز في الحد محواً بالغاً، فلا يبقى لشيء من ذلك عين و لا أثر حتى لا تعاقبهم عليه ولا تعاتبهم {جعلوا أصابعهم } كراهة منهم واحتقاراً للداعي {في آذانهم} حقيقة لئلا يسمعوا الدعاء، إشارة إلى أنا لا نريد أن نسمع ذلك منك، فإن أبيت إلا الدعاء فإنا لا نسمع لسد أسماعنا ودل على الإفراط في كراهة الدعاء بما ترجم عنه قوله: {واستغشوا ثيابهم } أي: أوجدوا التغطية لرؤوسهم بثيابهم لئلا يبصروه كراهة للنظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله تعالى، وهكذا حال النصحاء مع من ينصحونه دائماً. {وأصروا} أي: أكبوا على الكفر وعلى المعاصي من أصر الحمار على العانة، وهي القطيع من الوحش إذا صر أذنيه وأقبل عليها يكدمها ويطردها {واستكبروا} أي: أوجدوا الكبر طالبين له راغبين فيه وأكد ذلك بقوله: {استكباراً} تنبيهاً على أن فعلهم منابذ للحكمة، وقد أفادت هذه الآيات بالصريح في غير موضع أنهم عصوا نوحاً عليه السلام وخالفوه مخالفة لا أقبح منها ظاهراً بتعطيل الأسماع والأبصار وباطناً بالإصرار والاستكبار.
{ثم إني دعوتهم جهاراً} أي: معلناً بالدعاء، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بأعلى صوتي.
{ثم إني أعلنت لهم} أي: كررت لهم الدعاء معلناً، وقرأ نافع وابن كثير بفتح الياء والباقون بسكونها {وأسررت لهم إسراراً} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يريد الرجل بعد الرجل، أكلمه سراً بيني وبينه، أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك.
لأنه مضروب لهم. {لو كنتم تعلمون} أي: لو كنتم من أهل العلم والنظر لعلمتم ذلك ولكنهم لانهماكهم في حبّ الدنيا كأنهم شاكّون في الموت.
(13/155)
---(1/4898)
ولما كان عليه السلام أطول الأنبياء عمراً وكان قد طال نصحه لهم ولم يزدادوا إلا طغياناً وكفراً {قال} منادياً لمن أرسله لأنه تحقق أن لا قريب منه غيره: {رب} أي: يا سيدي وخالقي {إني دعوت} أي: أوقعت الدعاء إلى الله بالحكمة والمواعظة الحسنة {قومي} أي: الذين هم جديرون بإجابتي لمعرفتهم بي وقربهم مني، وفيهم قوّة المحاولة لما يريدون {ليلاً ونهاراً} أي: دائماً متصلاً لا أفتر عن ذلك. وقيل: معناه سراً وجهراً. {فلم يزدهم دعائي} أي: شيئاً من أحوالهم التي كانوا عليها {إلا فراراً} أي: بعداً وإعراضاً عن الإيمان كأنهم حمر مستنفرة استثناء مفرغ وهو مفعول ثان، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون الياء، والباقون بفتحها وهم على مراتبهم في المد.
(13/156)
---(1/4899)
{وإني كلما} أي: على تكرار الأوقات وتعاقب الساعات {دعوتهم} أي: إلى الإقبال إليك بالإيمان بك والإخلاص لك {لتغفر لهم} أي: ليؤمنوا فتمحو ما فرطوا فيه في حقك فأفرطوا لأجله في التجاوز في الحد محواً بالغاً، فلا يبقى لشيء من ذلك عين و لا أثر حتى لا تعاقبهم عليه ولا تعاتبهم {جعلوا أصابعهم } كراهة منهم واحتقاراً للداعي {في آذانهم} حقيقة لئلا يسمعوا الدعاء، إشارة إلى أنا لا نريد أن نسمع ذلك منك، فإن أبيت إلا الدعاء فإنا لا نسمع لسد أسماعنا ودل على الإفراط في كراهة الدعاء بما ترجم عنه قوله: {واستغشوا ثيابهم } أي: أوجدوا التغطية لرؤوسهم بثيابهم لئلا يبصروه كراهة للنظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله تعالى، وهكذا حال النصحاء مع من ينصحونه دائماً. {وأصروا} أي: أكبوا على الكفر وعلى المعاصي من أصر الحمار على العانة، وهي القطيع من الوحش إذا صر أذنيه وأقبل عليها يكدمها ويطردها {واستكبروا} أي: أوجدوا الكبر طالبين له راغبين فيه وأكد ذلك بقوله: {استكباراً} تنبيهاً على أن فعلهم منابذ للحكمة، وقد أفادت هذه الآيات بالصريح في غير موضع أنهم عصوا نوحاً عليه السلام وخالفوه مخالفة لا أقبح منها ظاهراً بتعطيل الأسماع والأبصار وباطناً بالإصرار والاستكبار.
{ثم إني دعوتهم جهاراً} أي: معلناً بالدعاء، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بأعلى صوتي.
{ثم إني أعلنت لهم} أي: كررت لهم الدعاء معلناً، وقرأ نافع وابن كثير بفتح الياء والباقون بسكونها {وأسررت لهم إسراراً} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يريد الرجل بعد الرجل، أكلمه سراً بيني وبينه، أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك.
(13/157)
---
{فقلت} أي: في دعائي لهم {استغفروا ربكم} أي: اطلبوا من المحسن إليكم المبدع لكم المدبر لأموركم أن يمحو ذنوبكم أعيانها وآثارها بأن تؤمنوا بالله وتتقوه {إنه كان} أي: أزلاً وأبداً ودائماً سرمداً {غفاراً} أي: متصفاً بصفة الستر على من رجع إليه.(1/4900)
{يرسل السماء} أي: المظلة لأن المطر منها، ويجوز أن يراد السحاب والمطر {عليكم مدراراً}.
(13/158)
---
{ويمددكم بأموال وبنين} أي: ويكثر أموالكم وأولادكم، وذلك أن قوم نوح عليه السلام لما كذبوه زماناً طويلاً حبس الله تعالى عنهم المطر وعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فهلكت أموالهم ومواشيهم، فقال لهم نوح: استغفروا ربكم من الشرك، أي: استدعوه المغفرة بالتوحيد {يرسل السماء عليكم مدراراً}. روى الشعبي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما خرج يستسقي بالناس فلم يزد على الاستغفار، فلما نزل قيل: يا أمير المؤمنين ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت الغيث بمخاريج السماء التي بها يستنزل القطر، ثم قرأ هذه الآية، شبه الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطىء. وعن الحسن أن رجلاً شكا إليه الجدب، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبواباً ويسألون أنواعاً، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا الآية. وقال القشيري: من وقعت له حاجة إلى الله تعالى فلن يصل إلى مراده إلا بتقديم الاستغفار. وقال: إن عمل قوم نوح كان بضد ذلك، كلما ازداد نوح عليه السلام في الضمان ووجوه الخير والإحسان ازدادوا في الكفر والنسيان.
{ويجعل لكم} أي: في الدارين {جنات} أي: بساتين عظيمة وأعاد العامل للتأكيد، فقال {ويجعل لكم أنهاراً} أي: يخصكم بذلك عمن لم يفعل ذلك، فإن من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً. وقال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} (الأعراف: 96)
وقال تعالى: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} وقال تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً} (الجن: 16)
(13/159)
---(1/4901)
{ما لكم لاترجون الله} أي: الملك الذي له الأمر كله {وقاراً} أي: ما لكم لا تأملون له توقيراً، أي: تعظيماً، والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب. ولله بيان للموقر ولو تأخر لكان صلة الوقار، فإنّ بالمعرفة تزكو الأعمال وتصلح الأقوال، إنما سبق أبو بكر رضي الله عنه بشيء وقر في صدره، وإنما يصح تعظيمه سبحانه بأن لا ترى لك عليه حقاً ولا تنازع له اختياراً، وتعظم أمره ونهيه بعدم المعارضة.
{وقد} أي: والحال أنه قد أحسن إليكم مرّة بعد مرّة بما لا يقدر عليه غيره، فدل ذلك على تمام قدرته ثم لم يقطع إحسانه عنكم، فاستحق أن تؤمنوا به لأنه {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 60)
ورجاء لدوام إحسانه وخوفاً من قطعه لأنه {خلقكم} أي: أوجدكم من العدم مقدّرين {أطواراً} أي: تارات عناصر أولاً ثم مركبات تغذي الحيوانات، ثم أخلاطاً ثم نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم عظاماً ولحوماً وأعصاباً ودماء، ثم خلقاً آخر تاماً ناطقاً ذكراناً وإناثاً إلى غير ذلك من الأمور الدالة على قدرته على كل مقدور، ومن قدر على هذا ابتداء كان على الإعادة أعظم قدرة.
{ألم تروا} أي: أيها القوم {كيف خلق الله} أي: الذي له العلم التامّ والقدرة البالغة والعظمة الكاملة {سبع سموات} هنّ في غاية العلو والسعة والإحكام والزينة {طباقاً} أي: متطابقة بعضها فوق بعض، وكل واحدة في التي تليها محيطة بها ما لها من فروج، ولا يكون تمام المطابقة كذلك إلا بالإحاطة من كل جانب.
(13/160)
---(1/4902)
{وجعل القمر} أي: الذي ترونه {فيهنّ نوراً} أي: لامعاً منتشراً كاشفاً للمرئيات، أحد وجهيه يضيء لأهل الأرض؛ والثاني لأهل السماوات. قال الحسن: يعني في السماء الدنيا، كما تقول: أتيت بني فلان، وإنما أتيت بعضهم وفلان متوار في دور بني فلان، وهو في دار واحدة، وبدأ به لقربه وسرعة حركته وقطعه جميع البروج في كل شهر وغيبوبته في بعض الليالي، ثم ظهوره وذلك أعجب في القدرة.
ولما كان نوره مستفاداً من نور الشمس قال تعالى: {وجعل} أي: فيها {الشمس} أي: في السماء الرابعة {سراجاً} أي: نوراً عظيماً كاشفاً لظلمة الليل عن وجه الأرض وهي في السماء الرابعة كما مرّ. وقيل: في الخامسة، وقيل: في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابعة. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن عمر: أنّ الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماء وأقفيتهما إلى الأرض، وجعلهما سبحانه آية على رؤية عباده المؤمنين له في الجنة.
{والله} أي: الملك الأعظم الذي له الأمر كله {أنبتكم} أي: بخلق أبيكم آدم عليه السلام {من الأرض} أي: كما ينبت، وعبر بذلك تذكيراً لنا بما كان من خلق أبينا آدم عليه السلام لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض {نباتاً} أي: أنشأكم منها إنشاء، فاستعير الإنبات له لأنه أدل على الحدوث والتكوّن، وأصله أنبتكم فنبتم نباتاً فاختصر اكتفاء بالدلالة الالتزامية.
{ثم يعيدكم} على التدريج {فيها} أي: الأرض بالموت والإقبار وإن طالت الآجال {ويخرجكم} أي: منها بالإعادة، وأكد بالمصدر الجاري على الفعل إشارة إلى شدّة العناية به وتحتم وقوعه لإنكارهم له فقال تعالى: {إخراجاً} أي: غريباً ليس هو كما تعلمون بل تكونون به في غاية ما يكون من الحياة الباقية تلابس أرواحكم بها أجسامكم ملابسة لا انفكاك بعدها لا حكماً عن الآخر.
(13/161)
---(1/4903)
{والله} أي: المستجمع لجميع الجلال والإكرام {جعل لكم} أي: نعمة عليكم اهتماماً بأمركم {الأرض بساطاً} أي: سهل عليكم التصرّف فيها والتقلب عليها سهولة التصرّف في البساط.
ثم علل ذلك بقوله تعالى: {لتسلكوا} أي: متخذين {منها} أي: الأرض مجددين ذلك {سبلاً} أي: طرقاً واضحة مسلوكة بكثرة {فجاجاً} أي: ذوات اتساع لتتوصلوا إلى البلاد الشاسعة براً وبحراً، فيعم الانتفاع بجميع البقاع فالذي قدر على إحداثكم وأقدركم على التصرّف في أصلكم مع ضعفكم قادر على إخراجكم من أجداثكم التي لم تزل طوع أمره ومحل عظمته وقهره.
ولما أكثروا مع نوح عليه السلام الجدال ونسبوه إلى الضلال وقابلوه بأشنع الأقوال والأفعال.
{قال نوح} أي: بعد رفقه بهم ولينه لهم: {رب} أي: أيها المحسن إليّ المدبر لي المتولي لجميع أمري {إنهم} أي: قومي الذين دعوتهم إليك مع صبري عليهم ألف سنة إلا خمسين عاماً {عصوني} أي: فيما أمرتهم به ودعوتهم إليه، فأبوا أن يجيبوا دعوتي وشردوا عني أشدّ شراد، وخالفوني أقبح مخالفة.
(13/162)
---
{واتبعوا} أي: بغاية جهدهم نظراً إلى المظنون العاجل {من} أي: رؤساءهم البطرين بأموالهم المغترين بولدانهم، وفسرهم بقوله تعالى: {لم يزده} أي: شيئاً من الأشياء {ماله} أي: كثرته {وولده} كذلك {إلا خساراً} أي: بالبعد من الله تعالى في الدنيا والآخرة، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح الواوين واللام، والباقون بضم الواو الثانية وإسكان اللام.
{ومكروا} أي: هؤلاء الرؤساء في تنفير الناس عني {مكراً} وزاده تأكيداً بصيغة هي النهاية في المبالغة بقوله: {كباراً} فإنه أبلغ من كبار المخفف الأبلغ من كبير، واختلفوا في معنى مكرهم فقال ابن عباس: قالوا قولاً عظيماً. وقال الضحاك: افتروا على الله تعالى وكذبوا رسله. وقيل: منع الرؤساء أتباعهم عن الإيمان بنوح عليه السلام، فلم يدعوا أحداً منهم بذلك المكر يتبعه وحرشوهم على قتله.(1/4904)
{وقالوا} أي: لهم {لا تذرن} أي: تتركن {آلهتكم} أي: عبادتها على حالة من الحالات لا قبيحة ولا حسنة، وأضافوها إليهم تحبيباً فيها ثم خصوا بالتسمية زيادة في الحث وتصريحاً بالمقصود، فقالوا مكرّرين اليمين والعامل تأكيداً: {ولا تذرنّ ودًّا} قرأ نافع بضم الواو والباقون بفتحها، وأنشدوا بالوجهين قول الشاعر:
*حيال وودّ من هداك لقيته ** وحرض بأعلى ذي فضالة مسجد*
وقال القرطبي: قال الليث: وَدًّا بفتح الواو: صنم كان لقوم نوح، ووُدًّا بالضم: صنم لقريش وبه سمي عمرو بن وُد. وفي الصحاح والوَدّ بالفتح: الوتد في لغة أهل نجد، كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال ا.ه. ثم أعادوا النفي تأكيداً فقالوا: {ولا سواعاً} وأكدوا هذا التأكيد وأبلغوا فيه فقالوا: {ولا يغوث}. ولما بلغ التأكيد نهايته وعلم أنّ القصد النهي عن كل فرد فرد لا عن المجموع تركوا التأكيد في قولهم: {ويعوق ونسرا} للعلم بإرادته.
(13/163)
---
واختلف المفسرون في هذه الأسماء فقال ابن عباس وغيره: هي أصنام وصور كان قوم نوح يعبدونها ثم عبدتها العرب، وهذا قول الجمهور، وقيل: إنها للعرب لم يعبدها غيرهم، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم فلذلك خصوها بالذكر بعد قولهم: {لا تذرنّ آلهتكم} وقال عروة بن الزبير: اشتكى آدم عليه السلام وعنده بنوه ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكان ودّ أكبرهم وأبرّهم به.(1/4905)
قال محمد بن كعب: كان لآدم عليه السلام خمسة بنين: ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكانوا عباداً، فمات رجل منهم فحزنوا عليه فقال الشيطان: أنا أصوّر لكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه، قالوا: افعل، فصوّره في المسجد من صفر ورصاص، ثم مات آخر فصوّره حتى ماتوا كلهم وصوّرهم وتناقصت الأشياء كما تناقصت اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين، فقال لهم الشيطان: ما لكم لا تعبدون شيئاً؟ قالوا: وما نعبد؟ قال: آلهتكم وآلهة آبائكم، ألا ترون أنها في مصلاكم فعبدوها من دون الله تعالى حتى بعث الله نوحاً عليه السلام، فقالوا: {لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ ودًّا ولا سواعاً} الآية.
(13/164)
---
وقال محمد بن كعب أيضاً ومحمد بن قيس: بل كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح عليهما السلام، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا زين لهم إبليس أن يصوّروا صورهم ليتذكروا بها اجتهادهم وليتسلوا بالنظر إليها فصوّروهم، فلما ماتوا جاء آخرون فقالوا: ليت شعري ما هذه الصور التي كان يعبدها آباؤنا، فجاءهم الشيطان فقال: كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر فعبدوها فابتدئ عبادة الأوثان من ذلك الوقت، وبهذا المعنى فسر ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة: «أنّ أمّ حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة تسمى مارية فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ أولئك كانوا إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوّروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة».v(1/4906)
وروي عن ابن عباس أنّ نوحاً عليه السلام كان يحرس جسد آدم عليه السلام على جبل الهند فيمنع الكافرين أن يطوفوا بقبره، فقال لهم الشيطان: إنّ هؤلاء يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم وإنما هو جسد وأنا أصوّر لكم مثله تطوفون به، فصوّر لهم هذه الأصنام الخمسة وحملهم على عبادتها، فلما كان أيام الطوفان دفنها الطين والتراب والماء فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب، وكان للعرب أصنام أخر، فاللات كانت لقديد وإساف ونائلة، وهبل كانت لأهل مكة، وكان إساف حيال الحجر الأسود، ونائلة حيال الركن اليماني، وكان هبل في جوف الكعبة.
(13/165)
---
وقال الماوردي: أما ودّ فهو أوّل صنم معبود فسمي ودًّا لودّهم له وكان بعد قوم نوح لكليب بدومة الجندل في قول ابن عباس وعطاء، وأمّا سواع فكان لهذيل بساحل البحر في قولهم. وقال الرازي: وسواع لهمدان وأمّا يغوث فكان لغطيف من مراد بالجرف من سبأ في قول قتادة. وقال المهدوي: لمراد ثم لغطفان. وقال أبو عثمان الهندي: رأيت يغوث وكان من رصاص، وكانوا يحملونه على جمل أجرد ويسيرونه معهم ولا ينيخونه حتى يبرك بنفسه فإذا برك نزلوا، وقالوا: قد رضي لكم المنزل، وأمّا يعوق فكان لهمدان، وقيل: لمراد، وأمّا نسر فكان لذي الكلاع من حمير في قول قتادة ومقاتل.
وقال الواقدي: كان ود على صورة رجل وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر من الطير. قال البقاعي: ولا يعارض هذا أنهم صور لناس صالحين لأنّ تصويرهم لهم يمكن أن يكون منتزعاً من معانيهم، فكان ودّ للكامل في الرجولية، وكان سواع امرأة كاملة في العبادة، وكان يغوث شجاعاً، وكان يعوق سابقاً قوياً، وكان نسر عظيماً طويل العمر ا.ه.(1/4907)
ولما ذكرهم مكرهم وما أظهروا من قولهم عطف عليه ما توقع السامع من أمرهم فقال تعالى: {وقد أضلوا} أي: الرؤساء أو الأصنام وجمعهم جمع العقلاء معاملة لهم معاملة العقلاء كقوله: {رب إنهنّ أضللن} (إبراهيم: 36)
{كثيراً} من عبادك الذين خلقتهم على الفطرة السليمة من أهل زمانهم وممن أتى بعدهم، فإنهم أوّل من سنّ هذه السنة السيئة، فعليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. وقول نوح عليه السلام: {ولا تزد الظالمين} أي: الراسخين في الوصف الموجب للنار {إلا ضلالاً} أي: طبعاً على قلوبهم حتى يعموا عن الحق.
(13/166)
---(1/4908)
عطف على قد أضلوا دعاء عليهم بعدما أعلمه الله تعالى أنهم لا يؤمنون بقوله تعالى: {إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن}، وكذلك دعا موسى وهارون عليهما السلام في الشدّ على قلوب فرعون وملئه لئلا يؤمنوا في حال ينفعهم فيه وما في قوله تعالى: {مما خطيئاتهم} أي: من أجل خطيئاتهم مزيدة للتأكيد والتفخيم، وقرأ أبو عمرو بفتح الطاء وبعدها ألف وبعد الألف ياء وبعد الياء ألف وضم الهاء على وزن قضاياهم، والباقون بكسر الطاء وبعدها ياء تحتية ساكنة، وبعد الياء همزة مفتوحة بعدها ألف وبعد الألف تاء فوقية مكسورة وكسر الهاء على وزن قضياتهم {أغرقوا} أي: بالطوفان طاف عليهم جميع الأرض السهل والجبل فلم يبق منهم أحد، وكذا الكلام فيما تسبب عنه وتعقبه في قوله: {فأدخلوا} في الآخرة التي أوّلها البرزخ يعرضون فيه على النار بكرة وعشياً {ناراً} أي: عظيمة جداً أخفها ما يكون من مباديها في البرزخ. قال الملوي: عذبوا في الدنيا بالغرق وفي الآخرة بالحرق. وقال الضحاك: في حالة واحدة كانوا يغرقون من جانب ويحترقون في الماء من جانب بقدرة الله تعالى {فلم يجدوا لهم} أي: عندما أناخ الله بهم سطوته، وأحل بهم نقمته {من دون الله} أي: الملك الأعظم الذي تضمحل المراتب تحت رتبة عظمته وتذل لعزه وجليل سطوته {أنصاراً} تنصرهم على من أراد بهم ذلك ليمنعوه مما أراده سبحانه من إغراقهم من غير أن يتخلف منهم أحد على كثرتهم وقوّتهم لكونهم أعداءه وإنجاء نبيه عليه السلام ومن آمن معه على ضعفهم وقلتهم لم يفقد منهم أحد لكونهم أولياءه كما أنه لم يسلم ممن أراد إغراقهم أحد على كثرتهم وقوّتهم. قال البقاعي: فمن قال عن عوج ما تقوله القصّاص فهو ضلال أشدّ ضلال، قال: وقائل ذلك هو ابن عربي صاحب الفصوص الذي لم يرد بتصنيفه إلا هدم الشريعة، وزاد في الحط عليه وعلى ابن الفارض وعلى الحلاج وعلى من شابههم، وأمر هؤلاء إلى الله تعالى، فإنه العالم بحقائق الأمور وما تخفي(1/4909)
(13/167)
---
الصدور.
{وقال نوح} وأسقط الأداة كما هو عادة أهل الحضرة فقال: {رب لا تذر} أي: لا تترك {على الأرض} أي: كلها {من الكافرين} أي: الراسخين في الكفر {دياراً} أي: أحداً يدور فيها وهو من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي فيعال من الدور أو الدار لا فعال وإلا لكان دواراً. قال قتادة: دعا عليهم بعد أن أوحى الله تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فأجاب الله تعالى دعوته وأغرق أمّته وهذا كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «اللهمّ منزل الكتاب وهازم الأحزاب اهزمهم وزلزلهم». وقيل: سبب دعائه أنّ رجلاً من قومه حمل ولداً صغيراً على كتفه فمرّ بنوح عليه السلام فقال: احذر هذا فإنه يضلك، فقال: يا أبت أنزلني فأنزله فرماه فشجه فحينئذ غضب ودعا عليهم.
فإن قيل: ما فعل صبيانهم حين أغرقوا؟ أجيب: بأنهم أغرقوا معهم لا على وجه العقاب ولكن كما يموتون بالأنواع من أسباب الموت وكم منهم من يموت بالغرق والحرق وكان ذلك زيادة في عذاب الآباء والأمّهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى».
(13/168)
---
وعن الحسن أنه سئل عن ذلك؟ فقال: علم الله تعالى براءتهم فأهلكهم بغير عذاب. وقال محمد بن كعب ومقاتل: إنما قال هذا حين أخرج الله تعالى كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم وأعقم أرحام أمّهاتهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة، وقيل: بسبعين سنة فأخبر الله تعالى نوحاً عليه السلام أنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمناً كما قال تعالى: {أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} (هود: 36)
فحينئذ دعا عليهم فأجاب الله تعالى دعاءه فأهلكهم كلهم، ولم يكن فيهم صبيّ وقت العذاب لأنّ الله تعالى قال: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم} (الفرقان: 37)(1/4910)
ولم يوجد التكذيب من الأطفال. وقال ابن عربي: دعا نوح عليه السلام على الكافرين أجمعين، ودعا النبيّ صلى الله عليه وسلم على من تحزب على المؤمنين وكفى بهذا أصلاً في الدعاء على الكافرين في الجملة، وأمّا كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه، لأنّ مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة وإنما خص النبيّ صلى الله عليه وسلم عتبة وشيبة وأصحابه لعلمه بما لهم وما كشف الله له من الغطاء عن حالهم.
ولما كان الرسل عليهم السلام لا يقولون ولا يفعلون إلا ما كان فيه مصلحة الدين علل دعاءه بقوله: {إنك} أي: يا رب {إن تذرهم} أي: تتركهم على أيّ حالة كانت في إبقائهم سالمين على وجه الأرض ولو كانت حالة دنيئة {يضلوا عبادك} أي: الذين آمنوا بك وبي والذين يولدون على الفطرة السليمة {ولا يلدوا} أي: إن قدرت بقاءهم {إلا فاجراً} أي: مارقاً عن كل ما ينبغي الاعتصام به {كفاراً} أي: بليغ الستر لما يجب إظهاره من آيات الله.
(13/169)
---
فإن قيل: بم علم أنّ أولادهم يكفرون وكيف وصفهم بالكفر عند الولادة؟ أجيب: بأنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فعرف طباعهم وأحوالهم، وكان الرجل ينطلق بابنه إليه ويقول: احذر من هذا فإنه كذاب، وإنّ أبي حذرنيه، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك، وقد أخبر الله تعالى: {أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن}. ومعنى: {ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً}: لم يلدوا إلا من سيفجر ويكفر فوصفهم بما يصيرون إليه كقوله صلى الله عليه وسلم «من قتل قتيلاً فله سلبه».(1/4911)
ولما دعا على أعداء الله تعالى دعا لأوليائه وبدأ بنفسه فقال مسقط الأداة على عادة أهل الخصوص: {ربّ} أي: أيها المحسن إليّ باتباع من اتبعني وتجنب من تجنبني {اغفر لي} أي: فإنه لا يسعني ـ وإن كنت معصوماً ـ إلا حلمك وعفوك ومغفرتك، {ولوالديّ} وكانا مؤمنين يريد أبويه اسم أبيه لمك بن متوشلخ، وأمّه شمخا بنت أنوش. وعن ابن عباس: لم يكفر لنوح عليه السلام أب فيما بينه وبين آدم عليه السلام، وقيل: هما آدم وحوّاء وأعاد الجار إظهاراً للاهتمام فقال: {ولمن دخل بيتي} أي: منزلي، وقيل: مسجدي، وقيل: سفينتي {مؤمناً} أي: مصدّقاً بالله تعالى فمؤمناً حال، وعن ابن عباس: أي: دخل في ديني.
فإن قيل: على هذا يصير قوله: {مؤمناً} تكراراً؟ أجيب: بأنّ من دخل في دينه ظاهراً قد يكون مؤمناً وقد لا يكون، فالمعنى ولمن دخل دخولاً مع تصديق القلب. {وللمؤمنين والمؤمنات} خص نفسه أوّلاً بالدعاء، ثم من يتصل به لأنهم أولى وأحق بدعائه، ثم عمم المؤمنين والمؤمنات إلى يوم القيامة، قاله الضحاك. وقال الكلبي: من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: من قومه والأوّل أولى وأظهر.
(13/170)
---
ثم ختم الكلام مرّة أخرى بالدعاء على الكافرين فقال: {ولا تزد الظالمين} أي: العريقين في الظلم في حال من الأحوال {إلا تباراً} أي: هلاكاً مدمراً والمراد بالظالمين الكافرون، فهي عامة في كل كافر ومشرك. وقيل: أراد مشركي قومه. وتباراً مفعول ثان والاستثناء مفرغ. وقيل: الهلاك الخسران.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح عليه السلام» حديث موضوع.
سورة الجن
وتسمى سورة قل أوحي مكية
وهي ثمان وعشرون آية، ومائتان وخمسوثمانون كلمة، وثمانمائة وسبعون حرفاً
{بسم الله} المحيط بالكمال {الرحمن} الذي عمّ برحمته الناس بالإرسال {الرحيم} الذي خص من بين أهل الدعوة من شاء بمحاسن الأعمال.(1/4912)
ولما كان نوح عليه السلام أوّل رسول أرسله الله تعالى إلى المخالفين من أهل الأرض، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فهو آخر رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض وغيرهم ناسب ذكره بعد نوح، فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
(13/171)
---
{قل} أي: يا أشرف الرسل للناس {أوحي إليّ} وقال ابن عباس: قل يا محمد لأمّتك: أوحي إليّ على لسان جبريل {أنه استمع نفر من الجنّ} والنفر الجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة قال البغوي: وكانوا تسعة من جنّ نصيبين، وقيل: كانوا سبعة وفي هذه العبارة دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم ولا قرأ عليهم، وإنما اتفق حضورهم عند قراءته ففي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: «انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب فقالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمرّ النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو وأصحابه بنخلة قاصدين سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء». وهل هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف أو غيره؟ قال أبو حيان: المشهور أنه هو. وقيل: غيره، والجنّ الذين أتوه جنّ نصيبين والذين أتوه بنخلة جنّ نينوى، والسورة التي استمعوها قال عكرمة العلق، وقيل: الرحمن، ولم يذكر هنا ولا في الأحقاف أنه رآهم.
(13/173)
---(1/4913)
وعن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أتلو القرآن على الجنّ، فمن يذهب؟ فسكتوا ثم قال الثانية، فسكتوا ثم قال الثالثة، فقلت: أنا أذهب معك يا رسول الله. قال: فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب بن أبي ذئب خط عليّ خطاً فقال: لا تجاوزه ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل كأنهم رجال الزط ـ قال ابن الأثير في النهاية: الزط قوم من السودان والهنود، وكأنّ وجوههم المكاكي، يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها حتى غشوه ـ فغاب عن بصري فقمت فأومأ إليّ بيده أن اجلس ثم تلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع ولصقوا بالأرض حتى صرت لا أراهم». وفي رواية أخرى «قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أنت؟ قال: أنا نبي. قالوا: فمن يشهد لك على ذلك، فقال: هذه الشجرة تعالي يا شجرة، فجاءت تجرّ عروقها، لها قعاقع حتى انتصبت بين يديه، فقال: على ماذا تشهدين فيّ؟ قالت: أشهد أنك رسول الله، قال: اذهبي، فرجعت كما جاءت حتى صارت كما كانت. قال ابن مسعود: فلما عاد إليّ قال: أردت أن تأتيني قلت: نعم يا رسول الله. قال: ما كان ذلك لك هؤلاء الجنّ أتوا يستمعون القرآن ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزوّدتهم العظم والبعر فلا يستطيبن ـ أي يستنجي ـ أحدكم بعظم ولا بعر» وفي رواية: «أنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد ثم استيقظ، فقال: هل من وضوء؟ قال: لا إلا أنّ معي إداوة نبيذ فقال: هل هو إلا تمر وماء فتوضأ منه».
قال الرازي: وطريق الجمع بين رواية ابن عباس ورواية ابن مسعود من وجوه:
أحدها: لعل ما ذكره ابن عباس وقع أوّلاً، فأوحى الله تعالى إليه بهذه السورة، ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك كما روي عن ابن مسعود أي فالواقعة متعدّدة.
ثانيها: أنها واقعة واحدة إلا أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم ولا عرف ماذا قالوا ولا أيّ شيء فعلوا، فالله تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وكذا وفعلوا كذا وكذا.(1/4914)
(13/174)
---
ثالثها: أنها كانت واحدة وأنه صلى الله عليه وسلم رآهم وسمع كلامهم وهم آمنوا به ثم رجعوا إلى قومهم قالوا لهم على سبيل الحكاية {إنا سمعنا قرآناً عجباً} وكان كذا وكذا فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ما قالوه لقومهم.
قال ابن عربي: ابن مسعود أعرف من ابن عباس لأنه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة. وقال القرطبي: إنّ الجنّ أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم دفعتين إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود، والثانية: بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس. وقال البيهقي: الذي حكاه ابن مسعود إنما هو في أوّل ما سمعت الجنّ قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلمت بحاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه ابن عباس، ثم أتاه داعي الجنّ مرّة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه ابن مسعود.
وقال القشيري: لما رجم إبليس بالشهب فرّق إبليس جنوده لعلم ذلك فأتى سبعة منهم بطن نخلة فاستمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا، ثم أتوا قومهم فقالوا: {إنا سمعنا قرآناً عجباً} يعني ولم يرجعوا إلى إبليس لما علموه من كذبه وسفاهته، وجاؤوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في سبعين من قومه فأسلموا فذلك قوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً} (الأحقاف: 29)
الآيات.
{فقالوا} أي: فتسبب عن استماعهم أن قالوا {إنا سمعنا} أي: حين تعمدنا الإصغاء وألقينا إليه أفهامنا {قرآنا} أي: كلاماً هو في غاية الانتظام في نفسه والجمع لجميع ما يحتاج إليه، وقرأ ابن كثير بالنقل وقفاً ووصلاً وحمزة في الوقف دون الوصل والباقون بغير نقل وقفاً ووصلاً. ثم وصفوا القرآن بالمصدر مبالغة في أمره فقالوا: {عجباً} أي: بديعاً خارجاً عن عادة أمثاله من جميع الكتب الإلهية فضلاً عن جميع الناس في جلالة النظم وإعجاز التركيب.
(13/175)
---(1/4915)
{يهدي} أي: يبين غاية البيان {إلى الرشد} أي: الحق والصواب {فآمنا} أي: كل من استمع منا لم يتخلف منا أحد ولا توقف بعد الاستماع {به} أي: القرآن أي فاهتدينا به وصدّقنا أنه من عند الله.
{ولن نشرك بربنا أحداً} أي: لا نرجع إلى إبليس ولا نطيعه ولا نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك، وهذا يدل على أنّ أولئك الجنّ كانوا مشركين. قال الرازي: واعلم أنّ قوله تعالى: {قل} أمر لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يظهر لأصحابه ما أوحي إليه في واقعة الجنّ وفيه فوائد: أحدها: أن يعرفوا بذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الجنّ كما بعث إلى الإنس. ثانيها: أن تعلم قريش أنّ الجنّ مع تمرّدهم لما سمعوا القرآن وعرفوا إعجازه آمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ثالثها: أن يعلم القوم أنّ الجنّ مكلفون كالإنس. رابعها: أن يعلم أنّ الجنّ يستمعون كلاماً تفهمه من لغتنا. خامسها: أن يظهر المؤمن منهم بدعوى غيره من الجنّ إلى الإيمان، وفي هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس.
تنبيهات:
أحدها: اختلف العلماء في أصل الجنّ فروي عن الحس البصري أنّ الجنّ ولد إبليس والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثواب والعقاب، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء كافراً فهو شيطان. وروى الضحاك عن ابن عباس أنّ الجنّ هم ولد الجان وليسوا شياطين ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. وروي أنّ ذلك النفر كانوا يهوداً. وذكر الحسن أنّ منهم يهوداً ونصارى ومجوساً ومشركين.
ثانيها: اختلفوا في دخول الجنّ الجنة على حسب الاختلاف في أصلهم، فمن زعم أنهم من الجانّ لا من ذرية إبليس قال: يدخلون الجنة بإيمانهم، ومن قال إنهم من ذرّية إبليس فلهم فيهم قولان: أحدهما وهو قول الحسن: يدخلونها. والثاني وهو رواية مجاهد: لا يدخلونها.
(13/176)
---(1/4916)
ثالثها: قال القرطبي: قد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجنّ، وقالوا: إنهم بسائط ولا يصح طعامهم اجتراء على الله تعالى والقرآن والسنة يردّان عليهم، وليس في المخلوقات بسيط بل مركب مزدوج، إنما الواحد الواحد سبحانه وغيره مركب ليس بواحد، وليس بممتنع أن يراهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورهم كما يرى الملائكة، وأكثر ما يتصوّرون لنا في صور الحيات.
ثم عطفوا على قولهم إنا سمعنا {وأنه} أي: الشأن العظيم قال الجنّ {تعالى} أي: انتهى في العلوّ إلى حدّ لا يستطاع {جدّ} أي: عظمة وسلطان وكمال غنى {ربنا} يقال: جدّ الرجل إذا عظم ومنه قول أنس كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا أي عظم قدره. وقال السدي: جدّ ربنا أي أمر ربنا. وقال الحسن: غني ربنا. ومنه قيل: الحظ جدّ، ورجل مجدود، أي: محظوظ. وفي الحديث: «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ». قال أبو عبيد والخليل: أي ذا الغنى منك الغنى إنما تنفعه الطاعة. وقال ابن عباس: قدرة ربنا. وقال الضحاك: فعله. وقال القرطبي: آلاؤه ونعماؤه على خلقه. وقال الأخفش: علا ملكُ ربنا، والأولى جميع هذه المعاني، وقرأ {وأنه تعالى جدّ ربنا} وما بعده إلى قوله تعالى: {وأنا منا المسلمون} وهي اثنا عشر موضعاً ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بفتح الهمزة في الجميع والباقون بالكسر.
(13/177)
---(1/4917)
ولما وصفوه بهذا التعالي الأعظم المستلزم للغنى المطلق والتنزه عن كل شائبة نقص بينوه بنفي ما ينافيه من قولهم إبطالاً للباطل {ما اتخذ صاحبة} أي: زوجة؛ لأن الصاحبة لا بدّ وأن تكون من نوع صاحبها، ومن له نوع فهو مركب تركيباً عقلياً من صفة مشتركة وصفة مميزة {ولا ولداً} لأنّ الولد لا بدّ وأن يكون جزءاً منفصلاً عن والده ومن له أجزاء فهو مركب تركيباً حسياً، ومن المقطوع به أنّ ذلك لا يكون إلا لمحتاج وأن الله تعالى متعال عن ذلك من تركيب حسي أو عقلي. قال القشيري: ويجوز إطلاق لفظ الجدّ في حق الله تعالى إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن، غير أنه لفظ موهم فتجنبه أولى. أي: لأنه قيل إنهم عنوا بذلك الجدّ الذي هو أبو الأب ويكون ذلك من قول الجنّ. قال ابن جعفر الصادق: ليس لله تعالى جدّ وإنما قاله الجنّ للجهالة فلم يؤاخذوا به. وقال القرطبي: معنى الآية {وأنه تعالى جدّ ربنا} أن يتخذ ولداً أو صاحبة للاستئناس بهما أو الحاجة إليهما، والرب تعالى عن ذلك كما تعالى عن الأنداد والنظراء.
{وأنه} أي: وقالوا: إنّ الشأن هذا على قراءة الكسر وآمنا بأنه على قراءة الفتح. {كان يقول} أي: قولاً هو في عراقته في الكذب بمنزلة الجبلة {سفيهنا} هو للجنس، فيتناول إبليس رأس الجنس تناولاً أوّلياً وكل من تبعه ممن لم يعرف الله تعالى، لأنّ ثمرة العقل العلم، وثمرة العلم معرفة الله تعالى، فمن لم يعرفه فهو الذي يقول {على الله} الذي له صفات الكمال المنافية لقول هذا السفيه {شططاً} أي: كذباً وعدواناً، وهو وصفه بالشريك والولد.t
والشطط والإشطاط الغلوّ في الكفر. وقال أبو مالك: هو الجور. وقال الكلبي: هو الكذب، وأصله: البعد فعبر به عن الجور لبعده عن العدل، وعن الكذب لبعده عن الصدق.
(13/178)
---(1/4918)
{وأنا} أي: يا معشر المسلمين من الجنّ {ظننا} أي: حسبنا لسلامة فطرتنا {أن} أي: أنه وزادوا في التأكيد فقالوا {لن تقول} وبدؤوا بأفضل الجنسين فقالوا {الإنس} وأتبعوهم قرناءهم، فقالوا {والجنّ على الله} أي: الملك الأعلى الذي بيده النفع والضرّ {كذباً} أي: قولاً هو لعراقته في مخالفة الواقع نفس الكذب، وإنما كنا نظنهم صادقين في قولهم إنّ لله صاحبة وولداً حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق قيل انقطع الإخبار عن الجنّ ههنا.
{وأنه} أي: الشان {كان رجال} أي: ذوو قوة وبأس {من الإنس} أي: النوع الظاهر في عالم الحس {يعوذون} أي: يلتجئون ويعتصمون خوفاً على أنفسهم وما معهم إذا نزلوا وادياً {برجال من الجنّ} أي: القبيل المستتر عن الأبصار، وذلك أنّ القوم منهم كانوا إذا نزلوا وادياً أو غيره من القفر تعبث بهم الجنّ في بعض الأحيان؛ لأنه لا مانع لهم منهم من ذكر الله ولا دين صحيح ولا كتاب من الله تعالى صريح، فحملهم ذلك على أن يستجيروا بعظمائهم، فكان الرجل يقول عند نزوله: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فيبيت في أمن وفي جوار منهم حتى يصبح فلا يرى إلا خيراً، وربما هدوه إلى الطريق وردوا عليه ضالته، قال مقاتل: كان أوّل من تعوذ بالجنّ قوم من أهل اليمن من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله تعالى وتركوهم.
(13/179)
---(1/4919)
وقال كرم بن أبي السائب الأنصاري: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أوّل ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف النهار جاء ذئب فأخذ حملاً من الغنم فوثب الراعي وقال: يا عامر الوادي جارك فنادى منادٍ لا نراه يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة، فكان ذلك فتنة للإنس باعتقادهم في الجن غير ما هم عليه، فتبعوهم في الضلال وفتنة للجن بأن يغتروا بأنفسهم ويقولوا سدنا الإنس والجن فيَضلوا ويُضلوا ولذلك سبب عنه قوله تعالى: {فزادوهم} أي: الإنس والجن باستعاذتهم {رهقاً} أي: ضيقاً وشدّة وغشياناً، فجاءهم فيه من أحوال الضلال التي يلزم منها الضيق والشدّة وقال مجاهد: الرهق: الإثم وغشيان المحارم ورجل رهق إذا كان كذلك. ومنه قوله تعالى: {وترهقهم ذلة} (يونس: 27)
وقال الأعشى:
*لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ** هل يشتفي عاشق ما لم يصب رهقا*
يعني إثماً، وقال مجاهد أيضاً: زادوهم أي: أنّ الإنس زادوا الجن طغياناً بهذا التعوّذ حتى قالت الجن: سدنا الإنس والجن، وقيل: لا ينطلق لفظ الرجال على الجنّ، فالمعنى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس من شرّ الجن، فكان الرجل مثلاً يقول: أعوذ بحذيفة بن بدر من جنّ هذا الوادي. قال القشيري: وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرجل على الجن.
تنبيه: قوله تعالى: {من الإنس} صفة لرجال وكذا قوله {من الجنّ}.
{وأنهم}، أي: الإنس {ظنوا} والظنّ قد يصيب وقد يخطئ وهو أكثر {كما ظننتم} أي: أيها الجنّ ويجوز العكس {أن} مخففة أي: أنه {لن يبعث الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة {أحداً} أي: بعد موته لما لبس به إبليس عليهم حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن، أو أحداً من الرسل يزيل به عماية الجهل، وقد ظهر بالقرآن أن هذا الظنّ كاذب، وأنه لا بدّ من البعث في الأمرين.
(13/180)
---(1/4920)
قال الجن: {وأنا لمسنا السماء} أي: زمن استراق السمع منها. قال الكلبي: السماء الدنيا أي: التمسنا أخبارها على ما كان من عادتنا من استماع ما تغوي به الإنس، واللمس المس فاستعير للطلب؛ لأن الماس طالب متعرّف، والمعنى طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها {فوجدناها} في وجد وجهان:
أظهرهما أنها متعدية لواحد لأنّ معناها أصبنا وصادفنا، وعلى هذا فالجملة من قولهم {ملئت} في موضع نصب على الحال على إضمار قد.
والثاني: أنها متعدّية لاثنين فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني ويكون {حرساً} منصوباً على التمييز، نحو: امتلأ الإناء ماء، والحرس اسم جمع لحارس نحو: خدم لخادم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع ويجمع تكسيراً على أحراس، والحارس الحافظ الرقيب، والمصدر الحراسة و {شديداً} صفة لحرس على اللفظ، ولو جاء على المعنى لقيل شداداً بالجمع لأن المعنى ملئت ملائكة شداداً كقولك: السلف الصالح، يعني الصالحين. قال القرطبيّ: ويجوز أن يكون حرساً مصدراً على معنى حرست حراسة شديدة {وشهباً} جمع شهاب ككتاب وكتب وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم المانع لهم عن استراق السمع.
{وأنا كنا} أي: فيما مضى {نقعد منها} أي: السماء {مقاعد} أي: كثيرة قد علمناها لا حرس فيها صالحة {للسمع} أي: أن نسمع منها بعض ما تتكلم به الملائكة مما أمروا بتدبيره، وقد جاء في الخبر أنّ صفة قعودهم هو أن يكون الواحد منهم فوق الآخر حتى يصلوا إلى السماء، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان فيزيدُنَّ معها الكذب. {فمن يستمع الآن} أي: في هذا الوقت وفيما يستقبل لا أنهم أرادوا وقت قولهم فقط {يجد له} أي: لأجله {شهاباً} أي: شعلة من نار ساطعة تحرقه {رصداً} أي: أرصد به ليرمى به.
(13/181)
---(1/4921)
تنبيه: اختلفوا هل كانت الشياطين تقذف قبل البعث أو ذلك أمر حدث بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم فقال قوم: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام خمسمائة عام، وإنما كان من أجل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعث منعوا من السموات كلها وحرست بالملائكة والشهب، وقال عبد الله بن عمر: لما كان اليوم الذي نبئ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين ورموا بالشهب، قال الزمخشري: والصحيح أنه كان قبل البعث وقد جاء شعره في أهل الجاهلية، قال بشر بن أبي حازم:
*والعير يرهقها الغبار وجحشها ** ينقض خلفها انقضاض الكوكب*
ولكنّ الشياطين كانت تسترق السمع في بعض الأحوال، فلما بعث صلى الله عليه وسلم كثر الرجم وازداد زيادة ظاهرة حتى تنبه لها الإنس والجنّ ومنع الاستراق أصلاً.
وعن معمر قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أرأيت قوله تعالى: {وأنا كنا نقعد منها مقاعد}؟ قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وروى الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار، فقال: «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية»؟ فقالوا: كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم. فقال صلى الله عليه وسلم «إنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمراً في السماء سبح حملة العرش ثم سبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء، فتسأل أهل السماء حملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم وتخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى أهل هذه السماء». وهذا يدل على أنّ هذه الشهب كانت موجودة قال ابن عادل: وهذا قول الأكثرين.
(13/182)
---(1/4922)
فإن قيل: كيف تتعرّض الجنّ لاحتراق أنفسها بسبب سماع خبر بعد أن صار ذلك معلوماً لهم؟ أجيب: بأنَّ الله تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة. قال القرطبي: والرصد قيل من الملائكة أي ورصداً من الملائكة، والرصد الحافظ للشيء والجمع أرصاد، وقيل: الرصد هو الشهاب، أي: شهاب قد أرصد له ليرجم به فهو فعل بمعنى مفعول.
واختلف فيمن قال {وأنا لا ندري} أي: بوجه من الوجوه {أشر أريد} أي: بعدم استراق السمع {بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم} أي: المحسن إليهم المدبر لهم {رشداً} أي: خيراً فقال ابن زيد: معنى الآية أن إبليس قال: لا ندري هل أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عقاباً أو يرسل إليهم رسولاً. وقيل: هو من قول الجنّ فيما بينهم قبل أن يستمعوا قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم أي: لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، فإنهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذَّب من الأمم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا فالشر والرشد على هذا الكفر والإيمان، وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي. وقيل: قالوا لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين أي: لما آمنوا أشفقوا أن لا يؤمن كثير من أهل الأرض، فقالوا: إنا لا ندري أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون.
(13/183)
---(1/4923)
قال الجنّ {وأنا منا الصالحون} أي: العريقون في صفة الصلاح، قال الجلال المحلي بعد استماع القرآن {ومنا دون ذلك} أي: قوم غير صالحين {كنا} أي: كوناً هو كالجبلة {طرائق قدداً} أي: جماعات متفرّقين وأصنافاً مختلفة، قال سعيد بن المسيب: معنى الآية كنا مسلمين ويهوداً ونصارى ومجوساً، وقال الحسن والسدّي: الجنّ أمثالكم فمنهم قدرية ومرجئة ورافضة وخوارج وشيعة وسنية. وقال ابن كيسان: شيعاً وفرقاً لكل فرقة هوى كأهواء الناس. وقال سعيد بن جبير: ألواناً شتى. وقال أبو عبيدة: أصنافاً وقيل: منا الصالحون ومنا المؤمنون، لم يتناهوا في الصلاح.
قال القرطبي: والأوّل أحسن لأنه كان في الجنّ من آمن بموسى وعيسى، وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: {إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه} وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة.
تنبيه: القدد جمع قدة والمراد بها الطريقة وأصلها السيرة، يقال: قدة فلان حسنة، أي: سيرته وهو من قدّ السير، أي: قطعه، فاستعير للسيرة المعتدلة. قال الشاعر:
*القابض الباسط الهادي بطلعته ** في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد*
وقال لبيد يرثي أخاه:
*لم تبلغ العين كل نهمتها ** يوم تمشي الجياد بالقدد*
والقد بالكسر سير يقد من جلد غير مدبوغ، ويقال: ما له قد ولا قحف، فالقد إناء من جلد والقحف إناء من خشب.
{وأنا ظننا أن لن نعجز الله} أي: وإنا علمنا وتيقنا بالتفكر والاستدلال في آيات الله أنا في قبضة الملك وسلطانه لن نفوته بهرب ولا غيره لما له من الإحاطة بكل شيء علماً وقدرة لأنه واحد لا مثل له.
(13/184)
---(1/4924)
تنبيه: أطلقوا الظنّ على العلم إشارة إلى أنّ العاقل ينبغي له أن يتجنب ما يتخيله ضاراً ولو بأدنى أنواع التخيل، فكيف إذا تيقن. وقولهم {في الأرض} حال، وكذلك هرباً في قولهم {ولن نعجزه} أي: بوجه من الوجوه {هرباً} فإنه مصدر في موضع الحال تقديره لا نفوته كائنين في الأرض أو هاربين منها إلى السماء، فليس لنا مهرب إلا في قبضته فأين أم إلى أين المهرب.
{وأنا لما سمعنا} أي: من النبيّ صلى الله عليه وسلم {الهدى} أي: القرآن الذي له من العراقة التامة في صفة البيان والدعاء إلى الخير ما سوّغ أن يطلق عليه نفس الهدى {آمنا به} وبالله وصدقنا محمداً صلى الله عليه وسلم على رسالته وكان صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الإنس والجنّ. قال الحسن: بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن ولم يبعث الله تعالى قط رسولاً من الجن ولا من أهل البادية ولا من النساء، وذلك لقوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى} (يوسف: 109)
وفي الصحيح: «وبُعثت إلى الأحمر والأسود» أي الإنس والجنّ، وفي إرساله إلى الملائكة خلاف قدّمنا الكلام عليه.
{فمن يؤمن بربه} أي: المحسن إليه منا ومن غيرنا {فلا} أي: فهو خاصة لا {يخاف بخساً ولا رهقاً} قال ابن عباس: لا يخاف أن ينقص من حسناته ولا أن يزاد في سيئاته لأن البخس النقصان والرهق العدوان وغشيان المحارم.
(13/185)
---
{وأنا منا} أي: الجن {المسلمون} أي: المخلصون في صفة الإسلام {ومنا القاسطون} أي: الجائرون أي: وإنا بعد سماع القرآن مختلفون فمنا من أسلم ومنا من كفر، والقاسط الجائر لأنه عدل عن الحق، والمقسط العادل إلى الحق، قسط إذا جار، وأقسط إذا عدل فقسط الثلاثي بمعنى جار، وأقسط الرباعي بمعنى عدل.(1/4925)
وعن سعيد بن جبير: أنّ الحجاج قال له حين أراد قتله: ما تقول فيّ؟ قال: قاسط عادل. فقال القوم: ما أحسن ما قال، حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل. فقال الحجاج: يا جهلة إنما سماني ظالماً مشركاً وتلا لهم قوله تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً}. {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} (الأنعام: 1)
{فمن أسلم} أي: أوقع الإسلام كله بأن أسلم ظاهره وباطنه من الجن وغيرهم {فأولئك} أي: العالو الرتبة {تحرّوا} أي: توخوا وقصدوا مجتهدين {رشداً} أي: صواباً عظيماً وسداداً كان لما عندهم من النقائص شارداً عنهم، فعالجوا أنفسهم حتى ملكوه فجعلوه لهم منزلاً.
{وأما القاسطون} أي: العريقون في صفة الجور عن الصواب من الإنس والجن، فأولئك أهملوا أنفسهم فلم يتحرّوا لها فضلوا فأبعدوا عن الطريق القويم فوقعوا في المهالك التي لا منجى منها. {فكانوا لجهنم} أي: النار البعيدة القعر التي تلقاهم بالتجهم والكراهة والعبوسة {حطباً} أي: توقد بهم النار فهي في اتقاد ما داموا أحياء، مادامت تتقدّ لا يموتون فيستريحون ولا يحيون فينتعشون.
تنبيه: قوله تعالى: {فكانوا}، أي: في علم الله عز وجلّ. فإن قيل: لم ذكروا عقاب القاسطين ولم يذكروا ثواب المسلمين؟ أجيب: بأنهم في مقام الترهيب فذكروا ما يحذر وطووا ما يحب للعلم به لأنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً بل لا بد أن يزيد عليه تسعة أضعافه وعنده المزيد أو أنهم ذكروه بقولهم {تحرّوا رشداً} أي: تحرّوا رشداً عظيماً لا يعلم كنهه إلا الله تعالى، ومثل هذا لا يتحقق إلا في الثواب.
(13/186)
---
فإن قيل: إنّ الجنّ مخلوقون من النار فكيف يكونون حطباً للنار؟ أجيب: بأنهم وإن خلقوا منها لكنهم يغيرون عن تلك الكيفية فيصيرون لحماً ودماً هكذا قيل وهذا آخر كلام الجن.(1/4926)
وأن في قوله تعالى: {وأن} هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي: وأنهم وهو معطوف على أنه استمع أي وأوحي إلي أنّ الشأن العظيم. {لو استقاموا على الطريقة} أي: طريقة الإسلام {لأسقيناهم} أي: لجعلنا لهم بما لنا من العظمة {ماء غدقاً} أي: لو آمن هؤلاء الكفار لَوَسّعنا عليهم في الدنيا ولبسطنا لهم في الرزق. وضرب الماء الغدق مثلاً، لأنّ الخير والرزق كله في المطر، كما قال تعالى {ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم} (الأعراف: 96)
الآية. وقال تعالى: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} (المائدة: 66)
الآية. وقال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} (الطلاق: 2)
الآية. وقال تعالى: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً} إلى قوله: {ويمددكم بأموال وبنين} (نوح: 10 ـ 12)
الآية.
{لنفتنهم} أي: نعاملهم معاملة المختبر بما لنا من العظمة {فيه} أي: في ذلك الماء الذي تكون عنده أنواع النعم لينكشف حال الشاكر والكافر.
قال الرازي: وهذا بعدما حبس عنهم المطر سنين ا.ه. قال الجلال المحلي: سبع سنين. وقال عمر رضي الله تعالى عنه: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة. وقال الحسن وغيره: كانوا سامعين مطيعين، ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر ففتنوا بها فوثبوا بإمامهم فقتلوه يعني عثمان رضي الله تعالى عنه. قال البقاعي: ويجوز أن يكون مستعاراً للعلم وأنواع المعارف الناشئة عن العبادات التي هي للنفوس كالنفوس للأبدان، وتكون الفتنة بمعنى التخليص من الهموم والرذائل في الدنيا والنعم في الآخرة من فتنت الذهب، إذا: خلصته من غشه.
(13/187)
---(1/4927)
{ومن يعرض} أي: إعراضاً مستمراً إلى الموت {عن ذكر ربه} أي: مجاوزاً عن عبادة المحسن إليه المربي له الذي لا إحسان عنده من غيره. وقيل: المراد بالذكر القرآن، وقيل: الوحي. وقيل: الموعظة. {نسلكه} أي: ندخله {عذاباً} يكون مظروفاً فيه كالخيط في ثقب الخرزة في غاية الضيق {صعداً} أي: شاقاً شديداً يعلوه ويغلبه ويصعد عليه، ويكون كل يوم أعلى مما قبله جزاء وفاقاً. وقال ابن عباس: هو جبل في جهنم. قال الخدري: كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت. وعن ابن عباس: أنّ المعنى مشقة من العذاب، لأنّ الصعد في اللغة هو المشقة، تقول: تصعدني الأمر إذا شق عليك، ومنه قول عمر: ما تصعدني شيء ما تصعدني في خطبة النكاح، يريد ما شق علي وما غلبني والمشي في الصعود يشق.
وقال عكرمة: هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم. وقال الكلبي: يكلف الوليد بن المغيرة أن يصعد جبلاً في النار من صخرة ملساء يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها ولا يبلغ في أربعين سنة، فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف أيضاً الصعود فذاك دأبه أبداً وهو قوله تعالى: {سأرهقه صعوداً} (المدثر: 17)
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالياء التحتية على الغيبة لإعادة الضمير على الله تعالى والباقون بالنون على الالتفات وهذا كما في قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} (الإسراء: 10)
ثم قال: {باركنا حوله لنريه من آياتنا} (الإسراء: 1)
واتفقوا على فتح الهمزة في قوله تعالى:
(13/188)
---(1/4928)
{وأن} أي: وأوحي إليَّ أنّ {المساجد لله} أي: مختصة بالملك الأعظم والمساجد قيل جمع مسجد بالكسر وهو موضع السجود، وقال الحسن: أراد بها كل البقاع لأنّ الأرض جعلت كلها مسجداً للنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «أينما كنتم فصلوا وأينما صليتم فهو مسجد». وقيل: إنه جمع مسجد بالفتح مراداً به الأعضاء الواردة في الحديث: الجبهة والأنف والركبتان واليدان والقدمان وهو قول سعيد بن المسيب، وابن حبيب.
والمعنى: أنّ هذه الأعضاء أنعم الله تعالى بها عليك فلا تسجد لغيره فتجحد نعمة الله. قال عطاء: مساجدك أعضاؤك التي أمرت بالسجود عليها لا تذللها لغير خالقها، قال صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم» وذكر الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم «إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب». قال ابن الأثير: الآراب الأعضاء. وهذا القول اختاره ابن الأنباري. وقيل: بل جمع مسجد وهو مصدر بمعنى السجود ويكون الجمع لاختلاف الأنواع. وقال القرطبي: المراد بها البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة قال سعيد بن جبير: قالت الجنّ: كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت {وأنّ المساجد لله} أي: بنيت لذكر الله تعالى وطاعته. وقال ابن عباس: المساجد هنا مكة التي هي القبلة وسميت مكة مساجد لأنّ كل أحد يسجد إليها.
قال القرطبي: والقول بأنها البيوت المبنية للعبادة أظهر الأقوال إن شاء الله تعالى وهو مروي عن ابن عباس، وإضافة المساجد إلى الله تعالى إضافة تشريف وتكريم وخص منها المسجد العتيق بالذكر فقال تعالى {وطهر بيتي} (الحج: 26)
(13/189)
---(1/4929)
وهي وإن كانت لله ملكاً وتشريفاً قد تنسب إلى غيره تعريفاً قال صلى الله عليه وسلم «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» وفي رواية: «إن صلاة فيه خير من مائة صلاة في مسجدي هذا». قال القرطبي: وهذا حديث صحيح. وفي حديث سَابَق صلى الله عليه وسلم بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، ويقال مسجد فلان لأنه حبسه ولا خلاف بين الأمّة في تحبيس المساجد والقناطر والمقابر وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك.
{فلا تدعوا} أي: فلا تعبدوا أيها المخلوقون {مع الله} الذي له جميع العظمة {أحداً} وهذا توبيخ للمشركين في دعواهم مع الله تعالى غيره في المسجد الحرام، وقال مجاهد: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فأمر الله تعالى نبيه والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها يقول: فلا تشركوا فيها صنماً أو غيره مما يعبد، وقيل: المعنى أفردوا المساجد لذكر الله تعالى ولا تجعلوا لغير الله تعالى فيها نصيباً وفي الصحيح: «من نشد ضالة في المسجد فقولوا: لا ردّها الله عليك، فإنّ المساجد لم تبن لهذا» وقال الحسن: من السنة إذا دخل رجل المسجد أن يقول لا إله إلا الله؛ لأنّ قوله تعالى: {فلا تدعوا مع الله أحداً} في ضمنه أمر بذكر الله تعالى ودعائه، وروى الضحاك عن ابن عباس «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى، وقال: {وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} اللهمّ عبدك وزائرك وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور، فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار، فإذا خرج من المسجد قدّم رجله اليسرى، وقال: اللهمّ صب عليّ الخير صباً ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبداً ولا تجعل معيشتي كدّاً واجعل لي في الأرض جدّاً» أي: غنى.
(13/190)
---(1/4930)
وقرأ {وأنه} نافع وشعبة بكسر الهمزة على الاستئناف والباقون بالفتح أي وأوحي إليّ أنه {لما قام عبد الله} أي: عبد الملك الأعلى الذي له الجلال كله والجمال، فلا موجود يدانيه بل كل موجود من فائض فضله وعبد الله هو محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن.
فإن قيل: هلا قيل رسول الله أو النبي؟ أجيب: بأنّ تقديره وأوحي، فلما كان واقعاً في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلل أو لأنّ المعنى أنّ عبادة عبد الله ليست بأمر مستبعد عن العقل ولا مستنكر حتى تكونوا عليه لبداً، ومعنى {يدعوه} أي: يعبده وقال ابن جريج: يدعوه أي قام إليهم داعياً إلى الله تعالى، فهو في موضع الحال أي موحداً له {كادوا} أي: قرب الجنّ المستمعون لقراءته {يكونون عليه} أي: على عبد الله {لبداً} أي: متراكمين بعضهم على بعض من شدّة ازدحامهم حرصاً على سماع القرآن وقيل: كادوا يركبونه حرصاً قاله الضحاك. وقال ابن عباس: رغبة في سماع القرآن وروي عن مكحول أنّ الجنّ بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة وكانوا سبعين ألفاً، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر، وعن ابن عباس أيضاً أنّ هذا من قول الجن لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع والسجود.
وقال الحسن وقتادة وابن زيد: يعني لما قام عبد الله محمد بالدعوة تلبدت الإنس والجنّ على هذا الأمر ليبطلوه فأبى الله تعالى إلا أن ينصره ويتم نوره، واختار الطبري أن يكون كادت العرب يجتمعون على النبيّ صلى الله عليه وسلم ويتظاهرون على إطفاء النور الذي جاء به، وقرأ هشام بضم اللام والباقون بكسرها، فالأولى جمع لبدة بضم اللام نحو غرفة وغرف. وقيل: بل هو اسم مفرد صفة من الصفات، وعليه قوله تعالى: {مالاً لبداً} (البلد: 6)
(13/191)
---(1/4931)
وأمّا الثانية فجمع لبدة بالكسر نحو قربة وقرب واللبدة واللبدة الشيء الملبد أي المتراكب بعضه على بعض ومنه لبدة الأسد كقول زهير:
*لدى أسد شاكي السلاح مقذف ** له لبد أظفاره لم تقلم*
ومنه اللبد لتلبد بعضه فوق بعض.
ولما قال كفار قريش للنبيّ صلى الله عليه وسلم إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك {قال} صلى الله عليه وسلم مجيباً لهم {إنما أدعو ربي} أي: الذي أوجدني ورباني ولا نعمة عندي إلا منه وحده لا أدعو غيره حتى تعجبوا مني {ولا أشرك به} أي: الآن ولا في مستقبل الزمان بوجه من الوجوه {أحداً} من ودّ وسواع ويغوث ويعوق وغيرها من الصامت والناطق، وقرأ عاصم وحمزة قل بصيغة الأمر التفاتاً، أي: قل يا محمد والباقون قال بصيغة الماضي والخبر إخباراً عن عبد الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم قال الجحدري: وهو في المصحف كذلك وقد تقدّم لذلك نظائر في {قل سبحان ربي} (الإسراء: 93)
في آخر الإسراء وكذا في أوّل الأنبياء وآخرها وآخر المؤمنين.
{قل} أي: يا أشرف الخلق لهؤلاء الذين خالفوك {إني لا أملك لكم} أي: الآن ولا بعده بنفسي من غير إقدار الله تعالى لي {ضراً ولا رشداً} أي: لا أقدر أن أدفع عنكم ضراً ولا أسوق إليكم خيراً، وقيل: لا أملك لكم ضراً أي كفراً ولا رشداً أي هدى؛ لأنه لا يؤثر شيء من الأشياء إلا الله تعالى، وإنما عليّ البلاغ. وقيل: الضر الموت والرشد الحياة.
{قل} أي: لهؤلاء {إني} وزاد في التأكيد لأنّ ذلك في غاية الاستقرار في النفوس فقال: {لن يجيرني} أي: فيدفع عني ما يدفع المجير عن جاره {من الله} أي: الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه {أحد} أي: كائن من كان إن أرادني سبحانه بسوء {ولن أجد} أي: أصلاً {من دونه} أي: الله تعالى {ملتحداً} أي: معدلاً وموضع ميل وركون ومدخلاً وملتجأ وحيلة وإن اجتهدت كل الجهد، والملتحد الملجأ وأصله المدخل من اللحد وقيل: محيصاً ومعدلاً.
(13/192)
---(1/4932)
وقوله: {إلا بلاغاً} فيه أوجه أحدها:
أنه استثناء منقطع أي لكن إن بلغت عن الله رحمني لأنّ البلاغ عن الله لا يكون داخلاً تحت قوله {ولن أجد من دونه ملتحداً} لأنه لا يكون من دون الله بل يكون من الله تعالى وبإعانته وتوفيقه.
الثاني: أنه متصل وتأويله أنّ الاستجارة مستعارة من البلاغ إذ هو سببها وسبب رحمته تعالى والمعنى: لن أجد شيئاً أميل إليه واعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني، وإذا كان متصلاً جاز نصبه من وجهين:
أرجحهما أن يكون بدلاً من {ملتحداً}؛ لأنّ الكلام غير موجب وهو اختيار الزجاج.
الثاني: أنه منصوب على الاستثناء.
لثالث: أنه مستثنى من قوله لا أملك، فإنّ التبليغ إرشاد وانتفاع وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة.
وقوله: {من الله} أي: الذي أحاط بكلّ شيء قدرة وعلماً فيه وجهان أحدهما: أنّ من بمعنى عن لأن بلغ يتعدّى بها ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «ألا بلغوا عني». والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة لبلاغاً. قال الزمخشري: من ليست بصلة للتبليغ، وإنما هي بمنزلة من في قوله تعالى: {براءة من الله} (التوبة: 1)
بمعنى بلاغاً كائناً من الله. وقوله {ورسالاته} فيه وجهان: أحدهما أنه منصوب نسقاً على بلاغاً كأنه قيل لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات ولم يقل الزمخشري غيره. والثاني أنه مجرور نسقاً على الجلالة، أي: إلا بلاغاً عن الله تعالى وعن رسالاته، كذا قدره أبو حيان وجعله هو الظاهر. ويجوز فيه جعل من بمعنى عن، والتجوّز في الحروف مذهب كوفي ومع ذلك فغير منقاس عندهم.
(13/193)
---(1/4933)
{ومن يعص الله} أي: الذي له العظمة كلها {ورسوله} الذي ختم به النبوّة والرسالة، فجعل رسالته محيطة بجميع الملل في التوحيد وغيره على سبيل الحجر {فإن له} أي: خاصة {نار جهنم} أي: التي تلقاه بالعبوسة والغيظ، وقوله تعالى: {خالدين فيها أبداً} حال مقدّرة من الهاء في له. والمعنى: مقدّر خلودهم والعامل الاستقرار الذي تعلق به هذا الجار وحمل على معنى من فعل ذلك، فوحد أوّلاً للفظ وجمع للمعنى. وأكد بقوله تعالى: {فيها} ردًّا على من يدعي الانقطاع. قال البقاعي: وأمّا من يدعي أنها لا تحرق وأنّ عذابها عذوبة فليس أحد أجنّ منه إلا من تابعه على ضلاله وغيه ومحاله، وليس لهم دواء إلا السيف في الدنيا والعذاب في الآخرة بما سموه عذوبة وهم صائرون إليه وموقوفون عليه.
وحتى في قوله تعالى: {حتى إذا رأوا} ابتدائية فيها معنى الغاية لمقدر قبلها أي لا يزالون على كفرهم إلى أن يروا {ما يوعدون} من العذاب في الآخرة أو في الدنيا كوقعة بدر {فسيعلمون} أي: في ذلك اليوم بوعد لا خلف فيه {من أضعف ناصراً} أي: من جهة الناصر أنا وإن كنت في هذا الوقت وحيداً مستضعفاً أو هم {وأقل عدداً} وإن كانوا الآن بحيث لا يحصيهم عدداً إلا الله تعالى، فيالله ما أعظم كلام الرسل حيث يستضعفون أنفسهم ويذكرون قوّتهم من جهة مولاهم الذي بيده الملك، وله جنود السموات والأرض بخلاف الجبابرة، فإنهم لا كلام لهم إلا في تعظيم أنفسهم وازدراء غيرهم.
قال مقاتل: لما سمعوا قوله تعالى: {حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً} قال النضر بن الحارث: متى يكون هذا الذي توّعدنا به، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
(13/194)
---(1/4934)
{قل} أي: لهؤلاء في جوابهم بإتيانهم العذاب وسألوا استهزاء عن وقت وقوعه {إن} أي: ما {أدري} بوجه من الوجوه {أقريب ما توعدون} أي: فيكون الآن أو قريباً من هذا الأوان بحيث يتوقع عن قرب، وقوله {أم يجعل} أي: أم بعيد يجعل {له} أي: لهذا الوعد {ربي} أي: المحسن إليّ إن قدمه أو أخره {أمداً} أي: أجلاً مضروباً فلا يتوقع دون ذلك الأمد فهو في كل حال متوقع، فكونوا على غاية الحذر لأنه لا بدّ من وقوعه لا كلام فيه، وإنما الكلام في تعيين وقته وليس إليّ.
فإن قيل: أليس إنه صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» فكان عالماً بقرب وقوع القيامة فكيف قال ههنا لا أدري أقريب أم بعيد؟ أجيب: بأنّ المراد بقرب وقوعه هو أنّ ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى، فهذا القدر من القرب معلوم، فأمّا معرفة مقدار القرب المرتب وعدم ذلك فغير معلوم.
تنبيه: أقريب خبر مقدّم وما توعدون مبتدأ مؤخر، ويجوز أن يكون قريب مبتدأ لاعتماده على الاستفهام، وما توعدون فاعل به، أي: أقريب الذي توعدون نحو: أقائم أبواك، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بسكونها. وقوله تعالى: {عالم الغيب} بدل من ربي أو بيان أو خبر مبتدأ مضمر، أي: هو عالم الغيب كله وهو ما لم يبرز إلى عالم الشهادة فهو مختص بعلمه سبحانه فلذلك سبب عنه قوله تعالى: {فلا يظهر} أي: بوجه من الوجوه في وقت من الأوقات. {على غيبه} الذي غيبه عن غيره فهو مختص به {أحداً} لعزة علم الغيب ولأنه خاصة الملك. {إلا من ارتضى} وقوله تعالى: {من رسول} تبيين لمن ارتضى، أي: إلا من يصطفيه لرسالته ونبوّته فيظهره على ما يشاء من الغيب، وتارة يكون ذلك الرسول ملكاً، وتارة يكون بشراً، وتارة يظهره على ذلك بواسطة ملك، وتارة بغير واسطة كموسى عليه السلام في أوقات المناجاة، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج في العالم الأعلى في حضرة قاب قوسين أو أدنى.
(13/195)
---(1/4935)
وقال القرطبي: المعنى {فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول} فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه لأنّ الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإخبار عن بعض المغيبات كما ورد في التنزيل في قوله تعالى: {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} (آل عمران: 49)
وقال الزمخشري: في هذه الآية إبطال الكرامات لأنّ الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله تعالى الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وفيها إبطال الكهانة والتنجيم لأنّ أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط ا.ه. وإنكار الكرامات مذهب المعتزلة.
وأمّا مذهب أهل السنة فيثبتونها، فإنه يجوز أن يلهم الله تعالى بعض أوليائه وقوع بعض الوقائع في المستقبل فيخبر به وهو من إطلاع الله إياه على ذلك، ويدل على صحة ذلك ما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد كان فيمن قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن يكونوا أنبياء وإن يكن في أمّتي أحد فإنه عمر» أخرجه البخاري. قال ابن وهب: تفسير محدثون ملهمون ولمسلم عن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمّتي منهم أحد، فإنّ عمر بن الخطاب منهم» ففي هذا إثبات كرامات الأولياء.
(13/196)
---(1/4936)
فإن قيل: لو جازت الكرامة للولي لما تميزت معجزة النبي من غيرها وانسدّ الطريق إلى معرفة الرسول من غيره؟ أجيب: بأنّ معجزة النبي أمرخارق للعادة مع عدم المعارضة مقترن بالتحدّي، ولا يجوز للولي أن يدّعي خرقاً للعادة مع التحدّي إذ لو ادعاه الولي لكفر من ساعته فبان الفرق بين المعجزة والكرامة. وأمّا الكهانة وما ضاهاها فقال القرطبي: إنّ العلماء قالوا لما تمدّح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأعلمهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوّتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه ومن يضرب بالحصا وينظر في الكواكب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه.
قال بعض العلماء: وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان مختلفي الأحوال والرتب، فيهم الملك والسوقة والعالم والجاهل والغني والفقير والكبير والصغير مع اختلاف طوالعهم وتباين مواليدهم ودرجات نجومهم، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة، فإن قال قائل: إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه فيكون على مقتضى ذلك أنّ هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم، وما يقتضيه طالعه المخصوص به، فلا فائدة إذاً في عمل المواليد ولا دلالة فيها على شقي وسعيد ولم يبق إلا معاندة القرآن الكريم، ولقد أحسن القائل:
*حكم المنجم إن طالع مولدي ** يقضي علي بميتة الغرق*
*قل للمنجم صبحة الطوفان هل ** ولد الجميع بكوكب الغرق*
(13/197)
---(1/4937)
وقيل لعلي رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج: تلقهم والقمر في العقرب، فقال: فأين قمرهم وكان ذلك في آخر السنة. فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها وما فيها من المبالغة في الردّ على من يقول بالنجم. وقال له مسافر بن عون: يا أمير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة وسر بعد ثلاث ساعات تمضين من النهار. فقال له عليّ: ولم؟ قال له: إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظهرت وظفرت وأصبت ما طلبت، فقال عليّ: ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا من بعده، ثم قال: فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون اتخذ من دون الله ندّاً أو ضدّاً، اللهمّ لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك، ثم قال للمتكلم: نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها، ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر إنما المنجم كالكافر، والكافر في النار، والمنجم كالساحر والساحر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم أو تعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان. ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها فلقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان الثابتة في صحيح مسلم ثم قال: «لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال: إنما كان ذلك بتنجيمي، وما لمحمد منجم وما لنا بعده، وقد فتح الله تعالى علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان، ثم قال: يا أيها الناس توكلوا على الله وثقوا به فإنه يكفي عمن سواه».
(13/198)
---(1/4938)
{فإنه} أي: الله سبحانه يظهر ذلك الرسول على ما يريد من ذلك الغيب، وذلك أنه إذا أراد إظهاره عليه {يسلك} أي: يدخل إدخال السلك في الجوهرة في تقوّمه ونفوذه من غير أدنى تعويج إلى غير المراد {من بين يديه} أي: الجهة التي يعلمها ذلك الرسول {ومن خلفه} أي: الجهة التي تغيب عن علمه، فصار ذلك كناية عن كل جهة. قال البقاعي: ويمكن أن يكون ذكر الجهتين دلالة على الكل، وخصهما لأنّ العدو متى أعريت واحدة منهما أتى منها، ومتى حفظتا لم يأت من غيرهما لأنه يصير بين الأوّلين والآخرين {رصداً} أي: حرساً من جنوده يحرسونه ويحفظونه من الشياطين أن يسترقوا السمع من الملائكة ويحفظونه من الجنّ أن يسمعوا الوحي فيلقوه إلى الكهنة قبل الرسول، فيطردونهم عنه ويعصمونه من وساوسهم حتى يبلغ ما يوحى إليه.
وقال مقاتل وغيره: كان الله إذا بعث رسولاً أتاه إبليس في صورة ملك بخبر، فبعث الله تعالى من بين يديه ومن خلفه رصداً من الملائكة يحرسونه ويطردون الشياطين، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان فاحذره، وإذا جاءه ملك قالوا له: هذا رسول ربك. وعن الضحاك: ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك.
{ليعلم} أي: الله علم ظهور كقوله تعالى: {حتى نعلم المجاهدين} (محمد: 31)
{أن} مخففة من الثقيلة، أي أنه {قد أبلغوا} أي: الرسل {رسالات ربهم} وحد أوّلاً على اللفظ في قوله تعالى {من بين يديه ومن خلفه} ثم جمع على المعنى كقوله تعالى: {فأنّ له نار جهنم خالدين فيها} (التوبة: 63)، والمعنى ليبلغوا رسالات ربهم كما هي محروسة من الزيادة والنقصان. وقيل: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن جبريل قد بلغ رسالات ربه. وقيل: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أنّ الرسل قد بلغوا رسالات ربهم.
(13/199)
---(1/4939)
{وأحاط بما لديهم} أي: بما عند الرسل من الحكم والشرائع لا يفوته منها شيء ولا ينسى منها حرفاً، فهو مهيمن عليها حافظ لها {وأحصى} أي: الله سبحانه وتعالى {كل شيء} أي: من القطر والرمل وورق الأشجار وزبد البحر وغير ذلك {عدداً} ولو على أقل المقادير الذرّ فيما لم يزل وفيما لا يزال فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه؟ وقال ابن جبير رضي الله عنه: ليعلم الرسل أنّ ربهم قد أحاط بما لديهم فيبلغوا رسالاته.
تنبيه: هذه الآية تدل على أنه تعالى عالم بالجزئيات وبجميع الموجودات.
و {عدداً} يجوز أن يكون تمييزاً منقولاً من المفعول به، والأصل أحصى عدد كل شيء كقوله تعالى: {وفجرنا الأرض عيوناً} (القمر: 12)
أي: عيون الأرض، وأن يكون منصوباً على الحال، أي: وضبط كل شيء معدوداً محصوراً وأن يكون مصدراً في معنى الإحصاء.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الجنّ كان له بعدد كل جني صدّق محمداً وكذب به عتق رقبة» حديث موضوع.
سورة المزمل
مكية
في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إلا آيتين منها {واصبر على ما يقولون} والتي تليها ذكره الماوردي، وقال الثعلبي: {إن ربك يعلم أنك تقوم} إلى آخر السورة فإنه نزل بالمدينة.
وهي تسع عشرة أو عشرون آية، ومائتان وخمس وثمانون كلمة، وثمانمائة وثمانية وثلاثون حرفاً.
{بسم الله} الذي من توكل عليه كفاه في جميع الأحوال {الرحمن} الذي عمّ بنعمة الإيجاد المهتدي والضال {الرحيم} الذي خص حزبه بالسداد في الأفعال والأقوال. وقوله تعالى:
(13/200)
---(1/4940)
{يا أيها المزمّل} أصله: المتزمل فأدغمت التاء في الزاي، يقال: ازمّل يتزمّل تزمّلاً، فإذا أريد الإدغام اجتلبت همزة الوصل، وهذا الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وفيه ثلاثة أقوال: الأول: قال عكرمة: يا أيها المزمّل بالنبوّة والملتزم للرسالة، وعنه: يا أيها الذي ازمل هذا الأمر، أي: حمله ثم فتر. والثاني: قال ابن عباس رضي الله عنهما: يا أيها المزمّل بالقرآن. والثالث: قال قتادة رضي الله عنه: يا أيها المزمّل بثيابه. قال النخعي: كان متزملاً بقطيفة عائشة بمرط طوله أربعة عشر ذراعاً قالت عائشة رضي الله عنها: «كان نصفه عليّ وأنا نائمة ونصفه على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلي والله ما كان خزاً ولا قزاً ولا مرعزى ولا إبريسماً ولا صوفاً كان سداه شعراً ولحمته وبراً». ذكره الثعلبي، ولحمة الثوب بفتح اللام وضمها والفتح أفصح ولحمة النسب كذلك والضم أفصح ولحمة البازي بالضم لا غير لأنها كاللقمة.
قال القرطبي: وهذا القول من عائشة رضي الله عنها يدل على أنّ السورة مدنية، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يبن بها إلا بالمدينة، والقول بأنها مكية لا يصح. وقال الضحاك: تزمل لمنامه وقيل: بلغه من المشركين قول سوء فيه فاشتدّ عليه فتزمل وتدثر، فنزلت
{يا أيها المزمّل} و{يا أيها المدثر} (المدثر: 1)
(13/201)
---(1/4941)
وقيل: كان هذا في ابتداء ما أوحي إليه «فإنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه الوحي في غار حراء رجع إلى خديجة رضي الله عنها زوجته يرجف فؤاده، فقال: زملوني زملوني لقد خشيت على نفسي» أي: أن يكون هذا مبادئ شعر أو كهانة، وكل ذلك من الشيطان أو أن يكون الذي ظهر له بالوحي ليس الملك، وكان صلى الله عليه وسلم يبغض الشعر والكهانة غاية البغضة، فقالت له، وكانت وزيرة صدق رضي الله تعالى عنها: كلا والله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق». ونحو هذا من الكمال الذي يثبت. وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان نائماً في الليل متزملاً في قطيفة، فنبه ونودي بما يهجن تلك الحالة التي كان عليها من التزمل في قطيفته، فقيل له {يا أيها المزمّل} {قم الليل} أي: الذي هو وقت الخلوة والخفية والستر، فصل لنا في كل ليلة من هذا الجنس، وقف بين يدينا بالمناجاة والأنس بما أنزل عليك من كلامنا، فإنا نريد إظهارك وإعلاء قدرك في البرّ والبحر والسرّ والجهر، وقيام الليل في الشرع معناه الصلاة فلذا لم يقيده وهي جامعة لأنواع الأعمال الظاهرة والباطنة وهي عمادها فذكرها دال على ما عداها.
m
ولما كان للبدن حظ في الراحة قال تعالى مستثنياً من الليل {إلا قليلاً} أي: من كل ليلة، فإن الاشتغال بالنوم فعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن ألا ترى إلى قول ذي الرمة:
*وكائن تخطت ناقتي من مفازة ** ومن نائم عن نيلها متزمل*
يريد الكسلان المتقاعس الذي لا ينهض في معاظم الأمور وكفايات الخطوب ولا يحمل نفسه المشاق والمتاعب ونحوه.
*سهداً إذا ما نام ليل الهوجل*
ومن أمثالهم:
*أوردها سعد وسعد مشتمل ** ما هكذا تورد يا سعد الإبل*
(13/202)
---(1/4942)
فذمه بالاشتمال بكسائه وجعل ذلك خلاف الجلد والكيس، وأمر بأن يختار على الهجود التجهد، وعلى التزمل التشمر والتخفف للعبادة والمجاهدة في الله لا جرم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تشمر لذلك مع أصحابه حق التشمر وأقبلوا على إحياء ليلهم ورفضوا له الرقاد والدعة، وتجاهدوا فيه حتى انتفخت أقدامهم واصفرّت ألوانهم وظهرت السيما في وجوههم وتراقى أمرهم إلى حدّ رحمهم له ربهم فخفف عنهم، وقال الكلبي: إنما تزمّل صلى الله عليه وسلم بثيابه ليتهيأ للصلاة وهو اختيار الفرّاء فهو على هذا ليس بتهجين بل هو ثناء عليه وتحسين لحاله التي كان عليها وأمر بأن يدوم على ذلك ويواظب عليه، وعن عكرمة رضي الله عنه أنّ المعنى يا أيها الذي زمل أمراً عظيماً أي حمله، والزمل الحمل.
قال البغوي: قال الحكماء: كان هذا الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم في أوّل الوحي قبل تبليغ الرسالة، ثم خوطب بعد بالنبيّ والرسول، وقال السيهلي: ليس المزمل من أسماء النبيّ صلى الله عليه وسلم كما ذهب إليه بعض الناس، وعدّوه في أسمائه صلى الله عليه وسلم وإنما المزمل اسم مشتق من حاله التي كان عليها حين الخطاب، وكذلك المدّثر.
وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان:
إحداهما: الملاطفة فإنّ العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ حين غاضب فاطمة رضي الله تعالى عنهما فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب، فقال له: قم أبا تراب» إشعاراً له بأنه غير عاتب عليه وملاطفة له، وكذلك «قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة: قم يا نومان» وكان نائماً ملاطفة له وإشعاراً بترك العتب والتأنيب، فقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم {يا أيها المزمل قم} فيه تأنيس له وملاطفة ليستشعر أنه غير عاتب عليه.
(13/203)
---(1/4943)
والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد ليله أن يتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى فيه؛ لأنّ الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة، والليل مدّة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. قال القرطبي: واختلف هل كان قيامه فرضاً أو نفلاً؟ والدلائل تقوّي أنّ قيامه كان فرضاً؛ لأنّ المندوب لا يقع على بعض الليل دون بعض، لأنّ قيامه ليس مخصوصاً بوقت دون وقت.
واختلف هل كان فرضاً على النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده؟ أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء؟ أو عليه وعلى أمته؟ على ثلاثة أقوال: الأوّل قول سعيد بن جبير رضي الله عنه لتوجه الخطاب إليه. الثاني: قول ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان قيام الليل فريضة على النبيّ صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله. والثالث: قول عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أيضاً أنه كان فرضاً عليه وعلى أمته لما روى مسلم أنّ هشام بن عامر قال لعائشة رضي الله عنها: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «ألست تقرأ يا أيها المزمل، فقلت: بلى. فقالت: فإنّ الله عز وجل افترض قيام الليل في أوّل هذه السورة، فقام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً وأمسك الله عز وجل خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء حتى أنزل الله عز وجلّ في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوّعاً بعد فريضة» وقيل: عسر عليهم تمييز القدر الواجب، فقاموا الليل كله، وشق عليهم فنسخ بقوله تعالى آخرها: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} وكان بين الوجوب ونسخه سنة، وقيل: نسخ التقدير بمكة وبقي التهجد حتى نسخ بالمدينة.
(13/204)
---(1/4944)
وروى وكيع ويعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {يا أيها المزمل} كانوا يقومون نحواً من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها وكان بين نزول أوّلها وآخرها نحواً من سنة. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: مكث النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه عشر سنين يقومون الليل، فنزلت بعد عشر سنين {إنّ ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل} فخفف الله تعالى عنهم. وقيل: كان قيام الليل واجباً ثم نسخ بالصلوات الخمس.
والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم بعث يوم الإثنين في رمضان وهو ابن أربعين سنة، وقيل: ثلاث وأربعين وآمنت به خديجة رضي الله عنها ثم بعدها قيل: عليّ رضي الله عنه وهو ابن تسع سنين، وقيل: ابن عشر. وقيل: أبو بكر، وقيل: زيد بن حارثة، ثم أمر بتبليغ قومه بعد ثلاث من مبعثه، فأوّل ما فرض عليه صلى الله عليه وسلم بعد الإنذار والدعاء إلى التوحيد من قيام الليل ما ذكر في أوّل السورة، ثم نسخ بما في آخرها ثم نسخ بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء إلى بيت المقدس بمكة بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر ليلة سبع وعشرين من رجب، هذا ما ذكره النووي في روضته.
(13/205)
---(1/4945)
وقال في فتاويه: بعد النبوة بخمس أو ست وجعل الليلة من ربيع الأول وخالفهما في شرح مسلم وجزم بأنها من ربيع الآخر وقلد فيها القاضي عياضاً، والذي عليه الأكثر ما في الروضة واستمرّ يصلي إلى بيت المقدس مدّة إقامته بمكة وبعد الهجرة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر، ثم أمر باستقبال الكعبة، ثم فرض الصوم بعد الهجرة بسنتين تقريباً وفرضت الزكاة بعد الصوم، وقيل: قبله، وفي السنة الثانية قيل: في نصف شعبان. وقيل: في رجب حوّلت القبلة، وفيها فرضت صدقة الفطر، وفيها ابتدأ صلى الله عليه وسلم صلاة عيد الفطر ثم عيد الأضحى، ثم فرض الحج سنة ست وقيل: سنة خمس ولم يحج صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلا حجة الوداع، واعتمر أربعاً وتوفيّ صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة من الهجرة.
فائدة: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم معصومون قبل النبوة من الكفر وفي المعاصي خلاف وبعدها من الكبائر وكذا من الصغائر ولو سهواً عند المحققين.
(13/206)
---(1/4946)
وقوله تعالى {نصفه} بدل من قليلاً وقلته بالنظر إلى الكل {أو انقص منه} أي: من النصف {قليلاً} أي: الثلث {أو زد عليه} أي: على النصف إلى الثلثين، وأو للتخيير فكان صلى الله عليه وسلم مخيراً بين هذه المقادير الثلاثة، وكان صلى الله عليه وسلم يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب وكذا بعض أصحابه، واشتدّ ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم وقد تقدّم أنّ ذلك نسخ بإيجاب الصلوات الخمس، فصار قيام الليل تطوعاً فينبغي للمتعبد المواظبة عليه خصوصاً في الوقت الذي يبارك الله تعالى بالتجلي فيه، فإنه صح أنه ينزل سبحانه عن أن تشبه ذاته شيئاً أو نزوله نزول غيره، بل هو كناية عن فتح باب السماء الذي هو كناية عن وقت استجابة الدعاء حتى يبقى ثلث الليل، وفي رواية حتى يبقى شطر الليل الآخر إلى سماء الدنيا، فيقول سبحانه هل من سائل فأعطيه هل من تائب فأتوب عليه هل من كذا هل من كذا حتى يطلع الفجر.
ولما أمر بالقيام وقدّر وقته وعينه أمر بهيئة التلاوة التي هي روح الصلاة على وجه عامّ، فقال تعالى: {ورتل القرآن} أي: اقرأه على ترسل وتؤدة وتبيين حروفه وإشباع حركاته بحيث يتمكن السامع من عدّها ويجيء المتلو منه شبيهاً بالثغر المرتل وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان وأن لا يهذه هذاً ولا يسرده سرداً، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: شرّ السير الحقحقة، وشرّ القراءة الهذرمة، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ولا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذّ الشعر ولكن قفوا عند عجائبه وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة.
وقوله تعالى: {ترتيلاً} تأكيد في الأمر به وأنه لا بدّ منه للقارئ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: اقرأ على هينتك ثلاث آيات أو أربعاً أو خمساً، وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قام حتى أصبح بآية» والآية {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} (المائدة: 118)
(13/207)(1/4947)
---
وسئلت عائشة رضي الله عنها عن قراءته صلى الله عليه وسلم فقالت: «لا كسردكم هذا لو أراد السامع أن يعد حروفها لعدها». وسئل أنس رضي الله عنه كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت مدًّا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمدّ بسم الله ويمدّ الرحمن ويمدّ الرحيم». وجاء رجل إلى ابن مسعود رضي الله عنه، فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال: هذاً كهذ الشعر، لقد عرفت النظائر التي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرن بينهنّ فذكر عشرين سورة من المفصل كل سورتين في ركعة.
وروى الحسن رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم «مرّ برجل يقرأ آية ويبكي فقال ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجلّ: {ورتل القرآن ترتيلاً} هذا الترتيل». وروى أبو داود عن عبد الرحمن بن عوف قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم يؤتى بقارئ القرآن يوم القيامة، فيوقف في أوّل درج الجنة، ويقال له اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها». وندب إصغاء إليه وبكاء عند القراءة وتحسين صوت بها وتعوذ بها جهراً وإعادته لفصل طويل وجلوس لها واستقبال وتدبر وتخشع. وكرهت بفم نجس. وجازت بحمام. وهي نظراً في المصحف أفضل منها على ظهر قلب، نعم إن زاد خشوعه وحضور قلبه في القراءة عن ظهر قلب فهي أفضل في حقه. وهي أفضل من ذكر لم يخص بمحل، وحرم توسد مصحف. وندب كتبه وإيضاحه ونقطة وشكله، ويحرم كتبه بنجس ومسه بنجس غير معفوّ عنه، وتحرم القراءة بالشواذ وهي ما نقل آحاداً وبعكس الآي وكره العكس في السور إلا في تعليم.
وندب ختم القرآن أوّل نهار وأوّل ليل وختمه في الصلاة أفضل من ختمه خارجها، وندب صيام يوم الختم إلا أن يصادف يوماً نهى الشرع عن صيامه، وندب الدعاء بعده وحضوره. والشروع بعده في ختمة أخرى. وندب كثرة تلاوته. ونسيانه كبيرة وكذا نسيان شيء منه ويحرم تفسيره بلا علم.
(13/208)
---(1/4948)
{إنا} أي: بما لنا من العظمة {سنلقي} أي: بوعد لا خلف فيه {عليك قولاً} أي: قرآناً، واختلف في معنى قوله تعالى {ثقيلاً} فقال قتادة رضي الله عنه: ثقيل والله فرائضه وحدوده. وقال مجاهد رضي الله عنه: حلاله وحرامه. وقال محمد بن كعب رضي الله عنه: ثقيلاً على المنافقين لأنه يهتك أسرارهم ويبطل أديانهم. وقيل: على الكفار لما فيه من الاحتجاج عليهم والبيان لضلالهم وسب آلهتهم.
قال السدّي رضي الله عنه: ثقيلاً بمعنى كريم مأخوذ من قولهم: فلان ثقل عليّ، أي: كرم عليّ. وقال الفراء: ثقيلاً، أي رزيناً. وقال الحسن بن الفضل: ثقيلاً أي لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ونفس مزينة بالتوحيد. وقال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك كما ثقل في الدنيا ثقل في الميزان يوم القيامة. وقيل: ثقيل أي ثابت كثبوت الثقيل في محله. ومعناه: إنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبداً.
وقيل: {ثقيلاً} بمعنى: أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ومعانيه بالكلية فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته، والفقهاء بحثوا في أحكامه، وكذا أهل اللغة والنحو وأرباب المعاني، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه بفوائد ما وصل إليها المتقدّمون، فعلمنا أنّ الإنسان الواحد لا يقوى على الاستقلال بحمله، فصار كالجبل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله.
(13/209)
---(1/4949)
والأولى أن تحمل هذه المعاني كلها فيه. وقيل: المراد هو الوحي كما جاء في الخبر «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها أي: صدرها على الأرض فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرّى عنه». وعن الحارث بن هشام أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أحياناً يأتيني في مثل صلصلة الجرس، وهذا أشدّ عليّ فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصد عرقاً، أي: يجري عرقه كما يجري الدم من الفاصد. وقوله فينفصم عني أي: ينفصل عني ويفارقني، وقد وعيت أي: حفظت ما قال. وقال القشيري: القول الثقيل هو قول لا إله إلا الله لأنه ورد في الخبر: «لا إله إلا الله خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان». وقال الزمخشري:هذه الآية اعتراض ثم قال: وأراد بهذا الاعتراض أنّ ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الثقيلة الصعبة التي ورد بها القرآن لأنّ الليل وقت السبات والراحة والهدوء، فلا بدّ لمن أحياه من مضارّة لطبعه ومجاهدة لنفسه ا.ه. فالاعتراض من حيث المعنى لا من حيث الصناعة، وذلك أنّ قوله تعالى:
(13/210)
---
{إنّ ناشئة الليل} أي: القيام بعد النوم {هي أشدّ وطأ} أي: موافقة السمع للقلب على تفهم القرآن هي أشدّ مطابق لقوله: {قم الليل} فكأنه شابه الاعتراض من حيث دخوله بين هذين المناسبين، والمعنى: سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل قولاً ثقيلاً يثقل حمله؛ لأنّ الليل للمنام، فمن أمر بقيام أكثره لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل مشقة شديدة على النفس ومجاهدة الشيطان، فهو أمر ثقيل على العبد.(1/4950)
ولما كان التهجد يجمع القول والفعل وبين ما في الفعل لأنه أشق فكان بتقديم الترغيب بالمدحة أحق أتبعه القول فقال: {وأقوم قيلاً} أي: وأعظم سداداً من جهة القيل في فهمه ووقعه في القلوب لحضور القلب، لأنّ الأصوات هادية والدنيا ساكتة فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه، وقال قتادة ومجاهد رضي الله عنهم: أصوب للقراءة وأثبت للقول لأنه زمان التفهم لرياقة الليل بهدوء الأصوات وتجلي الرب سبحانه بحصول البركات وأخلص من الرياء، فبين الله تعالى بهذه الآية فضل صلاة الليل على صلاة النهار وأنّ الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن أعظم للأجر وأجلب للثواب.
كان عليّ بن الحسين رضي الله عنه يصلي بين المغرب والعشاء ويقول: هو ناشئة الليل. وقال عطاء وعكرمة رضي الله عنهم: هو بدء الليل. وقال في الصحاح: ناشئة الليل أوّل ساعاته، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هي الليل كله لأنه ينشأ بعد النهار وهو اختيار مالك، قال ابن عربي: وهو الذي يعطيه اللفظ وتقتضيه اللغة، وقالت عائشة وابن عباس أيضاً ومجاهد رضي الله عنهم: إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم ومن قام قبل النوم فما قام ناشئة. وقال يمان بن كيسان: هو القيام من آخر الليل.
(13/211)
---
وأما قوله تعالى: {أشدّ وطأ} أي: أثقل على المصلي من ساعات النهار، لأنّ الليل وقت منام وراحة فإذا قام إلى صلاة الليل فقد تحمل المشقة العظيمة، هذا على قراءة كسر الواو وفتح الطاء، وبعدها ألف ممدودة وهمزة منوّنة، وهي قراءة أبي عمرو وابن عامر، وقرأ الباقون بفتح الواو وسكون الطاء وبعدها همزة منونة فهي مصدر وطأت وطأ ومواطأة أي: وافقت على الأمر من الوفاق تقول: فلان يواطئ اسمه اسمي، أي: يوافقه، فالمعنى أشدّ موافقة بين القلب والبصر والسمع واللسان لانقطاع الأصوات والحركات قاله مجاهد وغيره قال تعالى: {ليواطئوا عدّة ما حرّم الله} (التوبة: 37)(1/4951)
أي: ليوافقوا ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «اللهمّ اشدد وطأتك على مضر» وقيل: أشدّ مهاداً للتصرّف في الفكر والتدبر. وقيل: أشدّ ثباتاً من النهار، فإنّ الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله، فيكون ذلك أثبت للعمل، والوطء الثبات تقول: وطأت الأرض بقدمي وفي الجملة عبادة الليل أشدّ نشاطاً وأتم إخلاصاً وأكثر بركة وأبلغ في الثواب.
{إنّ لك} أي: أيها المتهجد أو يا أكرم الخلق إن كان الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم {في النهار} الذي هو محل السعي في مصالح الدنيا {سبحاً طويلاً} أي: تصرّفاً وتقلباً وإقبالاً وإدباراً في حوائجك وأشغالك، والسبح: مصدر سبح استعير للتصرف في الحوائج من السباحة في الماء وهي البعد فيه. وقال القرطبي: السبح الجري والدوران. ومنه السباحة في الماء لتقلبه بيديه ورجليه، وفرس سابح شديد الجري. وقيل: السبح الفراغ، أي: إنّ لك فراغاً لحاجات النهار. وعن ابن عباس رضي الله عنهما {سبحاً طويلاً} يعني فراغاً طويلاً لنومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك. وقيل: إن فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه.
(13/212)
---
{واذكر اسم ربك} أي: المحسن إليك والموجد والمدبر لك بكل ما يكون ذكراً من اسم وصفة وثناء وخضوع وتسبيح وتحميد وصلاة وقراءة ودعاء وإقبال على علم شرعي وأدب مرعي، ودُم على ذلك في ليلك ونهارك واحرص عليه، فإذا عظمت الاسم بالذكر فقد عظمت المسمى بالتوحيد والإخلاص، وذلك عون لك على مصالح الدارين، أما الآخرة فواضح وأما الدنيا فقد أرشد النبيّ صلى الله عليه وسلم أعز الخلق عليه فاطمة ابنته رضي الله تعالى عنها لما سألته خادماً يقيها التعب إلى التسبيح والتحميد والتكبير عند النوم.
{وتبتل} أي: اجتهد في قطع نفسك عن كل شاغل والإخلاص في جميع أعمالها بالتدريج قليلاً قليلاً منتهياً {إليه} ولا تزل على ذلك حتى يصير ذلك لك خلقاً فتكون نفسك كأنها منقطعة بغير قاطع.(1/4952)
وقوله تعالى: {تبتيلاً} مصدر تبتل جيء به رعاية للفواصل وهو ملزوم التبتيل، قال الزمخشري: فإن قلت كيف قيل تبتيلاً؟ مكان تبتلاً قلت: لأنّ معنى تبتل بتل نفسه فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل ا.ه.
(13/213)
---
والتبتيل الانقطاع ومنه امرأة بتول، أي: منقطعة عن النكاح، وفي الحديث أنه نهى عن التبتل وقال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة ـ أي: مؤن النكاح ـ فليتزوج» والمراد به في الآية الكريمة الانقطاع إلى عبادة الله تعالى كما مرّت الإشارة إليه دون ترك النكاح. والتبتل في الأصل: الانقطاع عن الناس والجماعات، وقيل: إن أصله عند العرب التفرّد قاله ابن عرفة، وقال ابن العربي: هذا فيما مضى، وأما اليوم فقد مرجت عهود الناس، وخفت أماناتهم واستولى الحرام على الحطام، فالعزلة خير من الخلطة، والعزبة أفضل من التأهل، ولكن معنى الآية: وانقطع عن الأوثان والأصنام وعن عبادة غير الله تعالى. وكذلك قال مجاهد رضي الله عنه: معناه أخلص له العبادة ولم يرد التبتيل، فصار التبتل مأموراً به في القرآن منهياً عنه في السنة ومتعلق الأمر غير متعلق النهي فلا يتناقضان، وإنما بعث لتبيين ما أنزل إليهم، فالتبتل المأمور به الانقطاع إلى الله تعالى بإخلاص العبادة كما قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (البينة: 5)
والتبتل المنهي عنه هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر يفرّ بدينه من الفتن.
ولما كان الواجب على كل أحد شكر المنعم بين سبحانه الذي أنعم بسكن الليل الذي أمرنا بالتهجد فيه ومنتشر النهار الذي أمر بالسبح فيه، فقال تعالى: {رب المشرق} أي: موجد محل الأنوار التي بها ينمحي هذا الليل الذي أنت قائم فيه، ويضيء بها الصباح، وعند الصباح يحمد القوم السرى، قال العلامة تقي الدين بن دقيق العيد:(1/4953)
*كم ليلة فيك وصلنا السرى ** لا نعرف الغمض ولا نستريح*
*واختلف الأصحاب ماذا الذي ** يزيل من شكواهم أو يريح*
*فقيل تعريسهم ساعة ** وقلت بل ذكراك وهو الصحيح*
(13/214)
---
{والمغرب} أي: الذي يكون عند الليل الذي هو موضع السكون ومحل الخلوات ولذيذ المناجاة، فلا تغرب شمس ولاقمر ولا نجم إلا بتقديره {لاإله} أي: لا معبود بحق {إلا هو} أي: ربك الذي دلت تربيته لك على مجامع العظمة وأبهى صفات الكمال والتنزه عن كل شائبة نقص، وقرأ {رب} ابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الباء على البدل من ربك، وعن ابن عباس رضي الله عنهما على القسم بإضمار حرف القسم، كقولك: الله لأفعلن، وجوابه: لاإله إلا هو، كما تقول: لا أحد في الدار إلا زيد، والباقون برفعها على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره لا إله إلا هو {فاتخذه} أي: خذه بجميع جهدك وذلك بإفرادك إياه بكونه {وكيلاً}أي على كل من خالفك بأن تفوض جميع أمورك إليه، فإنه يكفيكها كلها، فإنه المنفرد بالقدرة عليها، ولاشيء في يد غيره فلا تهتم بشيء أصلاً.
قال البقاعي: وليس ذلك بأن يترك الإنسان كل عمل، فإن ذلك طمع فارغ، بل بالإجمال في طلب كل ما ندب الإنسان إلى طلبه ليكون متوكلاً في السبب لا من دون سبب، فإنه يكون حينئذ كمن يطلب الولد من غير زوجة وهو مخالف لحكمة هذه الدار المبنية على الأسباب، ولو لم يكن في إفراده بالوكالة إلا أنه يفارق الوكلاء بالعظمة والشرف والرفق من جميع الوجوه، فإن وكيلك من الناس دونك وأنت تتوقع أن يكلمك كثيراً في مصالحك وربك أعظم العظماء وهو يأمرك بأن تكلمه كثيراً في مصالحك وتسأله طويلاً، ووكيلك من الناس إذا حصل مالك سألك الأجرة وهو سبحانه يوفر مالك ويعطيك الأجر، ووكيلك من الناس ينفق عليك من مالك وهو سبحانه يرزقك وينفق عليك من ماله.(1/4954)
ومن تمسك بهذه الآية عاش حرًّا كريماً ومات خالصاً شريفاً ولقي الله تعالى عبداً صافياً مختاراً تقياً، ومن شرط الموحد أن يتوجه إلى الواحد ويقبل عليه ويبذل له نفسه ويفوّض إليه أمره ويترك التدبير ويثق به ويركن إليه ويتذلل لربوبيته ويتواضع لعظمته.
(13/215)
---
{واصبر على ما يقولون} أي: المخالفون المفهومون من الوكالة من الأذى والسب والاستهزاء، ولا تجزع من قولهم ولا تمتنع من دعواهم وفوّض أمرهم إليّ، فإني إذا كنت وكيلاً لك أقوم بإصلاح أمرك أحسن من قيامك بأمور نفسك {واهجرهم} أي: أعرض عنهم {هجراً جميلاً} أي: لا تتعرّض لهم ولا تشتغل بمكافأتهم، فإنّ ذلك ترك للدعاء إلى الله تعالى، وكان هذا قبل الأمر بالقتال، فإنه صلى الله عليه وسلم منع في أوّل الإسلام من قتال الكفار وأمر هو وأصحابه بالصبر على أذاهم بقوله تعالى: {لتبلونّ في أموالكم} (آل عمران: 186)
الآية، ثم أمر به إذا ابتدؤوا بقوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} (البقرة: 190)
ثم أبيح له ابتداؤه في غير الأشهر الحرم، ثم أمر به مطلقاً من غير تقييد بشرط ولا زمان بقوله تعالى: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} (البقرة: 191)
(13/216)
---
{وذرني} أي: اتركني {والمكذبين} أي: لا تحتاج إلى الظفر بمرادك ومشتهاك إلا أن تخلي بيني وبينهم بأن تكل أمرهم إليّ وتستكفينيه، فإن فيّ ما يفرغ بالك، ويجلي همك وليس ثمّ منع حتى تطلب إليه أن تذره وإياه إلا ترك الاستكفاء والتفويض، كأنه إذا لم يكل إليه أمره فكأنه منعه منه فإذا وكله إليه فقد أزال المنع وتركه وإياه وفيه دليل على الوثوق بأنه يتمكن من الوفاء بأقصى ما تدور حوله أمنية المخاطب وبما يزيد عليه.(1/4955)
واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال مقاتل: نزلت في المطعمين يوم بدر، وهم عشرة فلم يكن إلا يسيراً حتى قتلوا ببدر. وقال يحيى بن سلام: إنهم بنو المغيرة. وقال سعيد بن جبير: أخبرت أنهم اثنا عشر رجلاً، وقال البغوي: نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين.
وقوله تعالى: {أولي النعمة} نعت للمكذبين أي أصحاب التنعم والترفه.
فائدة: النعمة بالفتح التنعم وبالكسر الإنعام وبالضم المسرّة.
{ومهلهم} أي: اتركهم برفق وتأنّ وتدريج ولا تهتم بشأنهم. وقوله تعالى: {قليلاً} نعت لمصدر، أي: تمهيلاً قليلاً أو لظرف زمان محذوف أي زماناً قليلاً فقتلوا بعد يسير ببدر.
وقوله تعالى: {إنّ لدينا أنكالاً} جمع نكل بالكسر وهو القيد الثقيل الذي لا ينفك أبداً وقال الكلبي: أغلالاً من حديد {وجحيماً} أي: ناراً حامية جدًّا شديدة الاتقاد مما كانوا يتقيدون به من تبريد الشراب والتنعم برقيق اللباس وتكلف أنواع الراحة.
{وطعاماً ذا غصة} أي: يغص به في الحلق وهو الزقوم أو الضريع أو الغسلين أو الشوك من نار لا يخرج ولا ينزل {وعذاباً أليماً} أي: مؤلماً. ومعنى الآية: أنّ لدينا في الآخرة ما يضادّ تنعمهم في الدنيا وهي هذه الأمور الأربعة: النكال والجحيم والطعام الذي يغص به والعذاب الأليم، والمراد به سائر أنواع العذاب، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فصعق.
(13/217)
---
وعن الحسن أنه أمسى صائماً فأتي بطعام فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعه ووضع عنده الليلة الثانية فعرضت له فقال: ارفعه، وكذلك الليلة الثالثة فأخبر ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فجاؤوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق.(1/4956)
وقوله تعالى: {يوم ترجف} منصوب بالاستقرار المتعلق به لدينا والرجفة الزلزلة والزعزعة الشديدة فتزلزل {الأرض} أي: كلها {والجبال} أي: التي هي أشدّها {وكانت} أي: وتكون {الجبال} التي هي مراسي الأرض وأوتادها وعبر عن شدّة الاختلاط والتلاشي بالتوحيد، فقال تعالى: {كثيباً} أي: رملاً مجتمعاً، من كثب الشيء إذا جمعه، كأنه فعيل بمعنى مفعول في أصله، ومنه الكثبة من اللبن {مهيلاً} قال ابن عباس: رملاً سائلاً يتناثر. وقال الكلبي: هو الذي إذا أخذت منه شيئاً تبعك ما بعده. قال القرطبي: وأصله مهيول وهو مفعول من قولك هلت عليه التراب أهيله إهالة وهيلاً إذا صببته، يقال: مهيل ومهيول، ومكيل ومكيول ومعين ومعيون. قال الشاعر:
*قد كان قومك يحسبونك سيداً ** وأخال أنك سيد معيون*
وقال عليه الصلاة والسلام حين شكوا إليه الجدوبة: «أتكيلون أم تهيلون»؟ قالوا: نهيل. قال: «كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه».
وأصل مهيل مهيول استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى الهاء فالتقى ساكنان، فسيبويه وأتباعه حذفوا الواو، وكانت أولى بالحذف لأنها زائدة، وإن كانت القاعدة أنّ ما يحذف لالتقاء الساكنين الأوّل، ثم كسروا الهاء لتصح الياء، ووزنه حينئذ مفعل، والكسائي ومن تبعه حذفوا الياء لأنّ القاعدة حذف الأوّل كما مرّ.
(13/218)
---(1/4957)
ولما خوّف تعالى المكذبين أولي النعمة بأهوال يوم القيامة خوّفهم بعد ذلك بأهوال الدنيا فقال تعالى: {إنا} أي: بما لنا من العظمة {أرسلنا إليكم} يا أهل مكة شرفاً لكم خاصة وإلى كل من بلغته الدعوة عامّة {رسولاً} أي: عظيماً جدًّا، وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمامهم وأجلهم وأفضلهم قدراً {شاهداً عليكم} أي: بما تصنعون ليؤدّي الشهادة عند طلبها منه يوم ننزع من كل أمّة شهيداً وهو يوم القيامة {كما أرسلنا} أي: بما لنا من العظمة {إلى فرعون} أي: ملك مصر {رسولاً} وهو موسى عليه الصلاة والسلام، وهذا تهديد لأهل مكة بالأخذ الوبيل. قال مقاتل: وإنما ذكر موسى وفرعون دون سائر الرسل لأنّ أهل مكة ازدروا محمداً صلى الله عليه وسلم واستخفوا به لأنه ولد فيهم، كما أنّ فرعون ازدرى بموسى عليه السلام لأنه رباه ونشأ فيما بينهم، كما قال تعالى حكاية عن فرعون: {ألم نربك فينا وليداً} (الشعراء: 18)
وذكر الرازي السؤال والجواب. قال ابن عادل: وهو ليس بالقوي لأنّ إبراهيم عليه السلام ولد ونشأ فيما بين قوم نمروذ وكان آزر وزير نمروذ على ما ذكره المفسرون، وكذا القول في هود ونوح وصالح ولوط لقوله تعالى في قصة كل واحد منهم لفظة {أخاهم} لأنه من القبيلة التي بعث إليها انتهى. وقد يقال: الجامع بين محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام التربية، فإنّ أبا طالب تربى عنده النبيّ صلى الله عليه وسلم وموسى عليه السلام تربى عند فرعون ولم يكن ذلك لغيرهما.
{فعصى فرعون الرسول} إنما عرفه لتقدم ذكره، وهذه أل العهدية والعرب إذا قدمت اسماً ثم أتوا به ثانياً أتوا به معرفاً بأل أو أتوا بضميره لئلا يلتبس بغيره نحو: رأيت رجلاً فأكرمت الرجل أو فأكرمته، ولو قلت فأكرمت رجلاً لتوهم أنه غير الأوّل. وقال المهدوي: ودخلت الألف واللام في الرسول لتقدّم ذكره ولذا اختير في أوّل الكتب سلام عليكم وفي آخرها السلام عليكم.
(13/219)
---(1/4958)
ثم تسبب عن عصيانه قوله تعالى: {فأخذناه} أي: فرعون بما لنا من العظمة، وبين أنه أخذ قهر وغضب بقوله تعالى: {أخذاً وبيلاً} أي: ثقيلاً شديداً، وضرب وبيل وعذاب وبيل، أي: شديد قاله ابن عباس ومجاهد، ومنه مطر وابل، أي: شديد قاله الأخفش. وقال الزجاج: أي: ثقيلاً غليظاً ومنه قيل للمطر وابل، وقيل: مهلكاً. والمعنى: عاقبناه عقوبة غليظة، وفي ذلك تخويف لأهل مكة.
ثم خوّفهم بيوم القيامة فقال تعالى: {فكيف تتقون إن كفرتم} أي: توجدون الوقاية التي تقي أنفسكم إذا كفرتم في الدنيا، والمعنى: لا سبيل لكم إلى التقوى إذا رأيتم القيامة. وقيل: معناه: فكيف تتقون العذاب يوم القيامة إذا كفرتم في الدنيا. وقوله تعالى: {يوماً} مفعول تتقون أي: عذابه أي: بأي حصن تتحصنون من عذاب الله يوم {يجعل الولدان} وقوله تعالى {شيباً} جمع أشيب، والأصل في الشين الضم وكسرت لمجانسة الياء، ويقال في اليوم الشديد: يوم يشيب نواصي الأطفال، وهو مجاز، ويجوز أن يراد في الآية الحقيقة والمعنى: يصيرون شيوخاً شمطاً من هول ذلك اليوم وشدّته وذلك حين يقال لآدم عليه السلام قم: فابعث بعث النار من ذريتك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك ـ وفي رواية والخير بين يديك ـ فينادى بصوت إنّ الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال: يا رب وما بعث النار. قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد {وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد} (الحج: 2)
(13/220)
---(1/4959)
فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم، قالوا: يا رسول الله أينا ذلك الرجل؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أبشروا، فإنّ من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحد، ثم قال: أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وفي رواية كالرقة في ذراع الحمار ـ وهي بفتح الراء وسكون القاف الأثر الذي في بطن عضد الحمار ـ وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبر القوم، ثم قال: فثلث أهل الجنة فكبروا، ثم قال: شطر أهل الجنة فكبروا» وفي هذا إشارة إلى الاعتناء بهم لأنّ إعطاء الإنسان مرّة بعد مرّة دليل على الاعتناء به ودوام ملاحظته، وفي هذا أيضاً حملهم على تجديد شكر الله تعالى وحمده على إنعامه عليهم وهو تكبيرهم لهذه البشارة العظيمة.
ثم وصف هول ذلك اليوم بقوله تعالى: {السماء منفطر} أي: ذات انفطار أي: انشقاق {به} أي: بسبب ذلك اليوم لشدّته فالباء سببية، وجوّز الزمخشري أن تكون للاستعانة فإنه قال: والباء في به مثلها في قولك فطرت العود بالقدوم فانفطر به. وقال القرطبي: معنى به أي: فيه أي: في ذلك اليوم. وقيل: به أي: بالأمر أي: السماء منفطر بما يجعل الولدان شيباً، وقيل: منفطر بالله أي: بأمره.
تنبيه: إنما لم تؤنث الصفة لوجوه، منها: قال أبو عمرو بن العلاء: لأنها بمعنى السقف تقول هذا سماء البيت قال تعالى: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً} (الأنبياء: 32)
. ومنها أنها على النسبة أي: ذات انفطار، نحو امرأة مرضع وحائض أي: ذات إرضاع وذات حيض. ومنها أنها تذكر وتؤنث أنشد الفراء:
*فلو رفع السماء إليه قوماً ** لحقنا بالسماء وبالسحاب
ومنها: أنه اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء فيقال: سماءة واسم الجنس يذكر ويؤنث ولهذا قال أبو علي الفارسي: هو كقوله تعالى {منتشر} (القمر: 7)
و {أعجاز نخل منعقر} (القمر: 20)
(13/221)
---(1/4960)
يعني: فجاء على أحد الجائزين، أو لأنّ تأنيثها ليس بحقيقي وما كان كذلك جاز تذكيره. قال الشاعر:
*................... والمها ** بالإثمد الحبرى مكحول*
والضمير في قوله تعالى: {كان وعده مفعولاً} يجوز أن يكون لله وإن لم يجر له ذكر للعلم به فيكون المصدر مضافاً لفاعله، ويجوز أن يكون لليوم فيكون مضافاً لمفعوله والفاعل وهو الله تعالى مقدّر. قال المفسرون: كان وعده بالقيامة والحساب والجزاء مفعولاً كائناً لا شك فيه ولا خلف. وقال مقاتل: كان وعده بأن يظهر دينه على الدين كله.
{إن هذه} أي: الآيات الناطقة بالوعيد الشديد أو السورة {تذكرة} أي: تذكير عظيم هو أهل لأن يتعظ به، ويعتبر به المعتبر ولاسيما ما ذكر فيها لأهل الكفر من العذاب.
ولما كان سبحانه قد جعل للإنسان عقلاً يدرك به الحسن والقبيح واختياراً يتمكن به من اتباع ما يريد فلم يبق له مانع من جهة اختيار الأصلح والأحسن إلا قهر المشيئة التي لا اطلاع له عليها ولا حيلة له فيها سبب عن ذلك قوله تعالى: {فمن شاء اتخذ} أي: بغاية جهده {إلى ربه} أي: المحسن إليه خاصة لا إلى غيره {سبيلاً} أي: طريقاً إلى رضاه ورحمته فليرغب فقد أمكن له؛ لأنه أظهر له الحجج والدلائل. قيل: نسخت بآية السيف، وكذلك قوله تعالى: {فمن شاء ذكره} (المدثر: 55)
قال الثعلبي: والأشبه أنه غير منسوخ.
(13/222)
---(1/4961)
{إنّ ربك} أي: المدبر لأمرك على ما يكون إحساناً إليك ورفقاً بك {يعلم أنك تقوم} أي: في الصلاة كما أمرت به أوّل السورة {أدنى} أي: زماناً أقل والأدنى مشترك بين الأقرب والأدون الأنزل رتبة؛ لأنّ كلاً منهما يلزم عنه قلة المسافة. {من ثلثي الليل} وقرأ {ونصفه وثلثه} ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي بنصب الفاء بعد الصاد ونصب المثلثة بعد اللام ورفع الهاء فيهما عطف على أدنى والباقون بكسر الفاء والمثلثة وكسر الهاء فيهما عطف على ضمير تقوم وقيامه كذلك مطابق لما وقع التخيير فيه أوّل السورة من قيام النصف بتمامه، أو الناقص منه وهو الثلث، أو الزائد عليه وهو الثلثان، أو الأقل من الأقل من النصف وهو الربع.
(13/223)
---
وقوله تعالى: {وطائفة من الذين معك} عطف على ضمير تقوم، وجاز من غير تأكيد للفصل وقيام طائفة من أصحابه كذلك للتأسي به، ومنهم من كان لا يدري كم يصلي من الليل وكم بقي منه، فكان يقوم الليل كله احتياطاً فقاموا حتى انتفخت أقدامهم سنة وأكثر، فخفف عنهم بقوله تعالى: {والله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {يقدّر} أي: تقديراً عظيماً هو في غاية التحرير {الليل والنهار} أي: هو العالم بمقادير الليل والنهار، فيعلم القدر الذي تقومون من الليل والذي تنامون منه.
{علم أن} مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي: أنه {لن تحصوه} أي: الليل لتقوموا فيما يجب القيام فيه إلا بقيام جميعه، وذلك يشق عليكم {فتاب عليكم} أي: رجع بكم إلى التخفيف بالترخص لكم في ترك القيام المقدّر أوّل السورة.
وقوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر} أي: سهل {من القرآن} فيه قولان:(1/4962)
أحدهما أن المراد بهذه القراءة القراءة في الصلاة، وذلك أنّ القراءة أحد أجزاء الصلاة فأطلق اسم الجزء على الكل، والمعنى: فصلوا ما تيسر عليكم، قال الحسن: يعني في صلاة المغرب والعشاء. قال قيس بن أبي حازم: صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أوّل ركعة بالحمد وأوّل آية من البقرة ثم ركع، ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة ثم ركع، فلما انصرف أقبل علينا، فقال: إنّ الله تعالى يقول: {فاقرؤوا ما تيسر منه}.
قال القشيري: والمشهور أنّ نسخ قيام الليل كان في حق الأمة، وبقيت الفريضة في حق النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: بل نسخ بالكلية، فلا تجب صلاة الليل أصلاً، وإذا ثبت أنّ القيام ليس فرضاً فقوله تعالى {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} معناه: اقرؤوا إن تيسر عليكم ذلك وصلوا إن شئتم.
(13/224)
---
والقول الثاني: أنّ المراد بقوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} دراسته وتحصيل حفظه وأن لا يعرض للنسيان سواء كان في صلاة أم غيرها، قال كعب: من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين. وقال سعيد: خمسين آية. قال القرطبي: قول كعب أصح لقوله صلى الله عليه وسلم «من قام بعشر آيات من القرآن لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين» خرجه أبو داود والطيالسي. وروى أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ خمسين آية في يوم أو في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية لم يحاجه القرآن يوم القيامة، ومن قرأ خمسمائة آية كتب له قنطار من الأجر» فقوله من المقنطرين أي: أعطي قنطاراً من الأجر. وجاء في الحديث «أنه ألف ومائتا أوقية، والأوقية خير مما بين السماء والأرض».
(13/225)
---(1/4963)
وقال أبو عبيدة: القناطير واحدها قنطار، ولا تجد العرب تعرف وزنه ولا واحد للقنطار من لفظه. وقال ثعلب: المعوّل عليه عند العرب أنه أربعة آلاف دينار، فإذا قالوا: قناطير مقنطرة، فهي اثنا عشر ألف دينار. وقيل: إنّ القنطار ملء جلد ثور ذهباً. وقيل: ثمانون ألفاً. وقيل: هو جملة كثيرة مجهولة من المال نقله ابن الأثير. قال القرطبي: والقول الثاني أصح حملاً للخطاب على ظاهر اللفظ والقول الأوّل مجاز؛ لأنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله، وإذا كان ذلك على قيام لا في قدر القراءة فلا دليل فيه على أنّ الفاتحة لا تتعين في الصلاة، بل هي متعينة في كل ركعة لخبر الصحيحين: «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» ولخبر «لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» رواه ابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما، ولفعله صلى الله عليه وسلم كما في مسلم مع خبر البخاري «صلوا كما رأيتموني أصلي» ويحمل قوله تعالى {فاقرؤوا ما تيسر منه} مع خبر «ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن» على الفاتحة أو على العاجز عنها جمعاً بين الأدلة.
(13/226)
---(1/4964)
ولما كان هذا نسخاً لما كان واجباً من قيام الليل أوّل السورة لعلمه سبحانه بعدم إحصائه فسر ذلك العلم المجمل بعلم مفصل بياناً لحكمة أخرى للنسخ، فقال تعالى: {علم أن} مخففة من الثقيلة أي: أنه {سيكون} أي: بتقدير لا بدّ منه {منكم مرضى} جمع مريض وهذه السورة من أوّل ما نزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم ففي ذلك إشارة بأنّ أهل الإسلام يكثرون جدًّا {وآخرون} غير المرضى {يضربون} أي: يوقعون الضرب {في الأرض} أي: يسافرون لأنّ الماشي يجد ويضرب برجله في الأرض {يبتغون} أي: يطلبون طلباً شديداً {من فضل الله} أي: بعض ما أوجده الملك الأعظم لعباده بالتجارة وغيرها {وآخرون} أي: منكم أيها المسلمون {يقاتلون} أي: يطلبون ويوقعون قتل أعداء الله تعالى، ولذلك بينه بقوله تعالى {في سبيل الله} أي: الملك الأعظم، وكل من الفرق الثلاث يشق عليهم ما ذكر في قيام الليل، وسوّى سبحانه في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين للمال الحلال لنفقته على نفسه وعياله والإحسان فكان هذا دليلاً على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله، قال صلى الله عليه وسلم «ما من جالب يجلب طعاماً من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله}.
وقال ابن مسعود: أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء وقرأ {وآخرون} الآية. وقال ابن عمر: ما خلق الله تعالى موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إليّ من الموت بين شعبتي رجل ابتغى من فضل الله ضارباً في الأرض، وقال طاووس: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وأعاد قوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر منه} أي: من القرآن للتأكيد.
(13/227)
---(1/4965)
{وأقيموا الصلاة} أي: المكتوبة وهي خمس بجميع الأمور التي تقوم بها من أركانها وشروطها وأبعاضها وهيئاتها {وآتوا الزكاة} أي: زكاة أموالكم. وقال عكرمة وقتادة: صدقة الفطر لأنّ زكاة الأموال وجبت بعد ذلك. وقيل: صدقة التطوع. وقيل: كل فعل خير وقال ابن عباس: طاعة الله تعالى والإخلاص.
{وأقرضوا الله} أي: الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال التي منها الغنى المطلق من أبدانكم وأموالكم في أوقات صحتكم ويساركم {قرضاً حسناً} من نوافل الخيرات كلها برغبة تامّة وعلى هيئة جميلة في ابتدائه وانتهائه. وقال زيد بن أسلم: القرض الحسن النفقة على الأهل. وقيل: صلة الرحم وقرى الضيف. وقال عمر بن الخطاب: هو النفقة في سبيل الله.
{وما تقدّموا لأنفسكم} أي: خاصة سلفاً لأجل ما بعد الموت حيث لا تقدرون على الأعمال {من خير} أي خير كان من عبادات البدن والمال {تجدوه} أي: محفوظاً لكم {عند الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {هو} أي: لا غيره {خيراً} أي: لكم وجاز ضمير الفصل بين غير معرفتين؛ لأن أفعل منه كالمعرفة ولذلك يمتنع دخول أداة التعريف عليها. والمعنى: هو خير من الذي تدخرونه إلى الوصية عند الموت، قاله ابن عباس. وقال الزجاج: خيراً لكم من متاع الدنيا. وروى البغوي بسنده عن عبد الله أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟ قالوا: يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وراثه.
قال: اعلموا ما تقولون قالوا: ما نعلم إلا ذاك يا رسول الله. قال: إنما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر».
{وأعظم أجراً} قال أبو هريرة: يعني الجنة ويحتمل أن يكون أعظم أجراً لإعطائه بالجنة أجراً.
(13/228)
---(1/4966)
ولما كان الإنسان إذا عمل ما يمدح عليه ولا سيما إذا كان المادح له ربه ربما أدركه الإعجاب بين له أنه لا يقدر بوجه على أن يقدر الله تعالى حق قدره فلا يزال مقصراً فلا يسعه إلا العفو، فقال عز من قائل: {واستغفروا الله} أي: اطلبوا وأوجدوا ستر الملك الأعظم الذي لا تحيطون بمعرفته، فكيف بأداء حق خدمته لتقصيركم عيناً وأثراً بفعل ما يرضيه واجتناب ما يسخطه.
{إنّ الله} أي: الملك الأعظم {غفور} أي: بالغ الستر لأعيان الذنوب وآثارها حتى لا يكون عنها عقاب ولا عتاب {رحيم} أي: بالغ الإكرام بعد الستر إفضالاً وإحساناً وتشريفاً وامتناناً.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة المزمّل دفع الله عنه العسر في الدنيا والآخرة» حديث موضوع.
سورة المدثر
مكية
وهي خمس أو ست وخمسون آية،ومائتان وخمس وخمسون كلمة، وألف وعشرة أحرف
{بسم الله} الملك الواحد القهار {الرحمن} الذي عمّ برحمته الأبرار والفجار {الرحيم} الذي خص أصفياءه بما يوصلهم إلى دار القرار.
ولما ختمت المزمّل بالبشارة لأرباب البصارة بعد ما بدئت بالاجتهاد في الخدمة المهيء للقيام بأعباء الدعوة افتتحت هذه بمحط حكمة الرسالة وهي النذارة فقال تعالى:
{س74ش1/ش7 يَا?أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ }
{يا أيها المدثر} روي عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أوّل ما نزل من القرآن قال: {يا أيها المدثر}. قلت يقولون {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (العلق: 1)
(13/229)
---(1/4967)
قال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ذلك الذي قلت، فقال لي جابر: لا أحدثك إلا مثل ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاورت بحراء شهراً فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت عن خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا عليّ ماءً بارداً»، قال: فنزل {يا أيها المدثر} الآية، وذلك قبل أن تفرض الصلاة، وفي رواية «فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي وذكر نحوه»، وفيه: فإذا قاعد على عرش في الهواء ـ يعني جبريل عليه السلام ـ فأخذتني رجفة شديدة» وعن جابر من رواية الزهري عن أبي سلمة عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدّث عن فترة الوحي، فقال لي في حديثه: «فبينما أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاء لي بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض فَجُئِثْتُ منه رعباً، فقلت: زملوني زملوني فدثروني، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها المدثر} إلى قوله: {فاهجر} وفي رواية: «فَجُئِثْتُ منه حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي» وذكره ثم حمي الوحي وتتابع.
فإن قيل: إنّ هذا الحديث دال على أنّ سورة المدثر أوّل ما نزل، ويعارضه حديث عائشة المخرج في الصحيحين في بدء الوحي وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وفيه: «فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} حتى بلغ {ما لم يعلم} (العلق: 1 ـ 5)
(13/230)
---(1/4968)
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده» الحديث؟ أجيب: بأنّ الذي عليه العلماء أنّ أوّل ما نزل من القرآن على الإطلاق {اقرأ باسم ربك الذي خلق} كما صرّح به في حديث عائشة. ومن قال: إنّ سورة المدثر أوّل ما نزل من القرآن فضعيف، وإنما كان نزولها بعد فترة الوحي كما صرّح به في رواية الزهريّ عن أبي سلمة عن جابر، ويدل عليه ما في الحديث وهو يحدّث عن فترة الوحي إلى أن قال: «وأنزل الله تعالى {يا أيها المدثر}»، ويدل عليه قوله أيضاً: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء».
وحاصله: أنّ أوّل ما نزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة {اقرأ باسم ربك} وأنّ أوّل ما نزل بعد فترة الوحي سورة المدثر، وبهذا يحصل الجمع بين الحديثين.
قوله: «فإذا هو قاعد على عرش بين السماء والأرض» يريد به السرير الذي يجلس عليه. وقوله: «يحدّث عن فترة الوحي» أي: عن احتباسه وعدم تتابعه وتواليه في النزول وقوله: «فَجُئِثْتُ منه» روي بجيم مضمومة ثم همزة مكسورة ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم تاء الضمير، وروي بثاءين مثلثتين بعد الجيم ومعناها فرعبت منه وفزعت، وقوله: «حمي الوحي وتتابع» أي: كثر نزوله وازداد بعد فترته من قولهم: حميت الشمس والنار إذا ازداد حرّها. وقوله: «وصبوا عليّ ماءً بارداً» فيه أنه ينبغي لمن فزع أن يصبّ عليه الماء ليسكن فزعه.
وأصل المدّثر المتدثر وهو الذي يتدثر في ثيابه ليستدفئ بها، وأجمعوا على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سمي مدّثراً لوجوه:
أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم «دثروني».
وثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم كان نائماً متدثراً بثيابه فجاءه جبريل عليه السلام وأيقظه صلى الله عليه وسلم وقال: {يا أيها المدثر قم فأنذر} أي: حذر الناس من العذاب إن لم يؤمنوا، والمعنى: قم من مضجعك واترك التدثر بالثياب، واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله عز وجل له.
(13/231)
---(1/4969)
وثالثها: أنّ الوليد بن المغيرة وأبا جهل وأبا لهب والنضر بن الحارث اجتمعوا وقالوا: إنّ وفود العرب يجتمعون في أيام الحج وهم يسألون عن أمر محمد وقد اختلفتم في الإخبار عنه، فمن قائل هو مجنون وقائل ساحر وقائل كاهن، وتعلم العرب أنّ هذا كله لا يجتمع في رجل واحد فيستدلون باختلاف الأجوبة على أنها أجوبة باطلة سموا محمداً باسم واحد تجتمعون عليه وتسميه العرب به، فقام رجل منهم فقال: إنه شاعر، فلما سمع صلى الله عليه وسلم ذلك اشتدّ عليه ورجع إلى بيته محزوناً فتدثر بقطيفة فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر}.
وقيل: إنه ليس المراد التدثر بالثياب وعلى هذا ففيه وجوه أيضاً:
أحدها: قال عكرمة: المعنى: يا أيها المدّثر بالنبوّة والرسالة من قولهم ألبسه الله لباس التقوى وزينه برداء العلم. قال ابن العربي: وهذا مجاز بعيد لأنه لم يكن نبياً بعد أي: على القول بأنها أوّل سورة نزلت وأمّا على أنها نزلت بعد فترة الوحي فليس ببعيد.
وثانيها: أنّ المدّثر بالثوب يكون كالمختفي فيه، وهو صلى الله عليه وسلم كان في جبل حراء كالمختفي من الناس فكأنه قال: يا أيها المدّثر بدثار الاختفاء قم بهذا الأمر واخرج من زاوية الخمول، واشتغل بإنذار الخلق والدعوة إلى معرفة الحق.
وثالثها: أنه تعالى جعله رحمة للعالمين فكأنه قيل له: يا أيها المدّثر بأثواب العلم العظيم والخلق الكريم والرحمة الكاملة قم فأنذر عذاب ربك، وعلى كلا القولين في ندائه ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله وعبر عنه بصفته ولم يقل: يا محمد.
(13/232)
---(1/4970)
{وربك} أي: خاصة {فكبر} أي: عظمه عما يقول عبدة الأوثان وصفه بأنه أكبر من أن تكون له صاحبة أو ولد، وفي الحديث أنهم قالوا بم تفتتح الصلاة؟ فنزل {وربك فكبر} أي: صفه بأنه أكبر. قال ابن العربي: وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة، فإنه يرادفه تكبير التقديس والتنزيه بخلع الأنداد والأصنام دونه ولا يتخذ ولياً غيره ولا يعبد سواه.
وروي أنّ أبا سفيان قال يوم أحد: اعل هبل وهو اسم صنم كان لهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا الله أعلى وأجل، وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع في تكبير العبادات كلها أذاناً وصلاة وذكراً يقول: الله أكبر، وحمل عليه لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم الوارد على الإطلاق مواردها منها قوله: «تحريمها التكبير وتحليلها التسليم»، والشرع يقتضي بعرفه ما يقتضي بعزمه. ومن موارده أوقات الإهلال بالله تعالى تخليصاً له من الشرك وإعلاماً باسمه بالنسك وإفراداً لما شرع من أمره بالنسك، والمنقول عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في التكبير في الصلاة هو لفظ الله أكبر.
وقال المفسرون: لما نزل قوله تعالى {وربك فكبر} قام النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: «الله أكبر» فكبرت خديجة رضي الله تعالى عنها وفرحت وعلمت أنه وحي من الله تعالى» ذكره القشيري، وقال مقاتل: هو أن يقال الله أكبر وقيل: المراد منه التكبير في الصلاة، واستشكل ذلك على القول بأنها أوّل سورة نزلت، فإنّ الصلاة لم تكن فرضت. وأجيب: بأنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان له صلوات تطوّع فأمر أن يكبر فيها.
تنبيه: دخلت الفاء في قوله تعالى {فكبر} وفيما بعده لإفادة معنى الشرط كأنه قيل: وما يكن فكبر ربك أو للدلالة على أنّ المقصود الأوّل من الأمر بالقيام أن يكبر ربه عن الشرك والتشبيه، فإنّ أوّل ما يجب معرفة الصانع، وأوّل ما يجب بعد العلم بوجوده تنزيهه والقوم كانوا مقرّين به.
(13/233)
---(1/4971)
{وثيابك فطهر} أي: من النجاسات لأنّ طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة لا تصح إلا بها وهي الأولى والأحبّ في غير الصلاة، وقبيح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثاً. قال الرازي: إذا حملنا التطهير على حقيقته ففي الآية ثلاث احتمالات:
الأوّل: قال الشافعي: المقصود من الآية الإعلام بأنّ الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس.
وثانيها: روي أنهم ألقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاء شاة فشق عليه، فرجع إلى بيته حزيناً وتدثر في ثيابه صلى الله عليه وسلم فقيل: {يا أيها المدّثر قم فأنذر} ولا تمنعك تلك الشناعة عن الإنذار {وربك فكبر} على أن لا يتنقم منهم {وثيابك فطهر} عن تلك النجاسات والقاذورات.
وثالثها: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان المشركون لا يصونون ثيابهم عن النجاسات، فأمره الله تعالى أن يصون ثيابه عنها.
وقيل: هو أمر بتقصيرها ومخالفة العرب في تطويلهم الثياب وجرهم الذيول، وذلك مما لا يؤمن معه إصابة النجاسة. قال صلى الله عليه وسلم «إزار المؤمن إلى أنصاف ساقيه ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من ذلك ففي النار» فجعل صلى الله عليه وسلم الغاية في لباس الإزار الكعب وتوعد على ما تحته بالنار، فما بالُ رجال يرسلون أذيالهم ويطيلون ثيابهم، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم وهذه حالة الكبر وقال صلى الله عليه وسلم «لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خيلاء» وفي رواية «من جرّ إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة». قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله إنّ أحد شقي إزاري يسترخي إلا أني أتعاهد ذلك منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لست ممن يصنعه خيلاء».
(13/234)
---(1/4972)
وقيل: هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال، ويستهجن من العادات. يقال فلان طاهر الثياب وطاهر الجيب والذيل إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق، وفلان دنس الثياب للغادر وذلك لأنّ الثوب يلابس الإنسان ويشتمل عليه فكني به عنه ألا ترى إلى قولهم: أعجبني زيد ثوبه كما تقول: أعجبني زيد عقله وخلقه، ويقولون: المجد في ثوبه والكرم تحت حلته، ولأنّ الغالب أنّ من طهر باطنه ونقاه عني بتطهير الظاهر وتنقيته، وأبى إلا اجتناب الخبيث وإيثار الطهر في كل شيء. وقال عكرمة: سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله تعالى: {وثيابك فطهر} فقال: لا تلبسها على معصية ولا على غدر ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي:
*وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ** لبست ولا من عنده أتقنع*
والعرب تقول في وصف الرجل بالصدق والوفاء طاهر الثياب، ويقولون لمن غدر إنه لدنس الثياب. وقال أبيّ بن كعب: لا تلبسها على غدر ولا على ظلم ولا على إثم البسها وأنت برّ طاهر. وقال الحسن والقرطبي: وخلقك فحسن. وقال سعيد بن جبير: وقلبك وبيتك فطهر. وقال مجاهد وابن زيد: وعملك فأصلح. وروى منصور عن أبي رزين قال: يقول: وعملك أصلح. قال: وإذا كان الرجل خبيث العمل قالوا: إنّ فلاناً نجس الثياب. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات عليهما يعني عمله الصالح والطالح» ذكره الماوردي. وقيل: المراد بالثياب الأهل أي: طهرهم من الخطايا بالموعظة والتأديب والعرب تسمي الأهل ثوباً ولباساً وإزاراً. قال تعالى: {هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ} (البقرة: 187)
وقيل: المراد به الدين أي: ودينك فطهر جاء في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: «رأيت الناس وعليهم ثياب منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك ورأيت عمر بن الخطاب وعليه إزار يجرّه قالوا: يا رسول الله، فما أولت ذلك؟ قال: الدين».
(13/235)
---(1/4973)
وقوله تعالى: {والرجز} فسره النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأوثان {فاهجر} أي: دم على هجره. وقيل: الزاي فيه منقلبة من السين والعرب تعاقب بين السين والزاي لقرب مخرجيهما دليل هذا التأويل قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} (الحج: 30)
وروي عن ابن عباس أنّ معناه: اترك المآثم، وقرأ حفص بضم الراء والباقون بكسرها، وهما لغتان ومعناهما واحد، وقال أبو العالية: الرجز بضم الراء الصنم وبالكسر النجاسة والمعصية، وقال الضحاك: يعني الشرك. وقال الكلبي: يعني العذاب. قال البغويّ: ومجاز الآية اهجر ما أوجب لك العذاب من الأعمال.
وقوله تعالى: {ولا تمنن تستكثر} مرفوع منصوب المحل على الحال أي: لا تعط مستكثراً رائياً لما تعطيه كثيراً واجعله خالصاً لله تعالى ولا تطلب عوضاً أصلاً، ومعنى تستكثر أي: طالباً للكثرة كارهاً أن ينقص المال بسبب العطاء، فيكون الاستكثار هنا عبارة عن طلب العوض كيف كان ليكون عطاؤه صلى الله عليه وسلم خالياً عن انتظار العوض والتفات النفس إليه. وقيل: لا تعط شيئاً طالباً للكثير نهى عن الاستقرار وهو أن يهب شيئاً وهو يطمع أن يعوض من الموهوب له أكثر من الموهوب وهذا جائز ومنه الحديث: «المستكثر يثاب من هبته» وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون نهياً خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر الآية؛ لأنّ الله تعالى اختار له أشرف الآداب وأحسن الأخلاق والثاني: أنه نهي تنزيه لا تحريم له ولأمّته. وقيل: إنه تعالى لما أمره بأربعة أشياء: إنذار القوم وتكبير الرب وتطهير الثياب وهجر الرجز.
(13/236)
---(1/4974)
ثم قال: {ولا تمنن تستكثر} أي: لا تمنن على ربك بهذه الأعمال الشاقة كالمستكثر لما تفعله {ولربك فاصبر} أي: على الأوامر والنواهي متقرّباً بذلك إليه غير ممتن به عليه. وقال الحسن: بحسناتك تستكثرها. وقال ابن عباس: ولا تعط عطية ملتمساً بها أفضل منها. وقيل: لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين والوحي مستكثراً بذلك الإنعام، فإنك إنما فعلت ذلك بأمر الله تبارك وتعالى فلا منة لك به عليهم.
ولهذا قال تعالى: {ولربك فاصبر} وقيل: لا تمنن عليهم بنبوّتك لتستكثر أي: لا تأخذ منهم أجراً على ذلك تستكثر به مالك، وقال مجاهد والربيع: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير فإنه مما أنعم الله تعالى به عليك. وقال ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من نفسك إنما عملك منة من الله تعالى عليك إذ جعل لك الله تعالى سبيلاً إلى عبادته. وقال زيد بن أسلم: إذا أعطيت عطية فأعطها لربك لا تقل: دعوت فلم يستجب لي. وقيل: لا تفعل الخير لترائي به الناس.
ولما ذكر تعالى ما يتعلق بإرشاد النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر بعده وعيد الأشقياء بقوله تعالى:
{س74ش8/ش17 فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ * فَذَالِكَ يَوْمَـ?ـ?ِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ * ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ? مَا? مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ? تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَ?? إِنَّهُ? كَانَ ?يَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ? صَعُودًا }
{فإذا نقر} أي: نفخ {في الناقور} أي: في الصور وهو القرن النفخة الثانية فاعول من النقر أي: من التصويت وأصله القرع الذي هو سبب الصوت والفاء للسببية كأنه قال تعالى: اصبر على زمان صعب تلقى فيه عاقبة صبرك وأعداؤك عاقبة ضرهم.
(13/237)
---(1/4975)
وإذا ظرف لما دل عليه قوله تعالى: {فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين} لأنّ معناه: عسر الأمر على الكافرين وذلك إشارة إلى وقت النقر وهو مبتدأ خبره يوم عسير ويومئذ بدل أو ظرف لخبره إذ التقدير فذلك الوقت وقوع يوم عسير وقرأ على الكافرين وأصحاب النار أبو عمرو والدوري عن الكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين اللفظين والباقون بالفتح.
ولما كان العسر قد يطلق على الشيء وفيه يسر من بعض الجهات أو يعالج فيرجع يسيراً بين أنه ليس كذلك بقوله تعالى: {غير يسير} فجمع فيه بين إثبات الشيء ونفي ضدّه تحقيقاً لأمره ودفعاً للمجاز عنه، وتقييده بالكافرين يشعر بيسره على المؤمنين فإنهم لا يناقشون الحساب ويحشرون بيض الوجوه ثقال الموازين. قال الرازي: ويحتمل أنه عسير على المؤمنين والكافرين إلا أنه على الكافرين أشد.
تنبيه: قال الحليمي: سمي الصور باسمين فإن كان هو الذي ينفخ فيه النفختان فإنّ نفخة الإصعاق بخلاف نفخة الإحياء.
وجاء في الأخبار أنّ في الصور ثقباً بعدد الأرواح كلها وأنها تجمع في تلك الثقب في النفخة الثانية فتخرج عند النفخ من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزعت منه فيعود الجسد حياً بإذن الله تعالى.
{ذرني} أي: اتركني على أي حالة اتفقت {ومن خلقت} معطوف على المفعول أو مفعول معه.
(13/238)
---(1/4976)
وقوله تعالى: {وحيداً} فيه أوجه: أحدها: أنه حال من الياء في ذرني أي: ذرني وحدي معه فأنا أكفيك في الانتقام منه، الثاني: أنه حال من التاء في خلقت أي: خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد فأنا أهلكه، الثالث: أنه حال من عائد المحذوف أي: خلقته وحيداً، فوحيداً على هذا حال من ضمير المفعول المحذوف أي: خلقته في بطن أمّه وحيداً لا مال له ولا ولد، ثم أعطيته بعد ذلك ما أعطيته، قاله مجاهد. الرابع: أن ينتصب على الذم لأنه يقال: إنّ وحيداً كان لقباً للوليد بن المغيرة المخزومي ومعنى وحيداً: ذليلاً قيل: إنه كان يزعم أنه وحيد في فضله وماله وليس في ذلك ما يقتضي صدق مقالته لأنّ هذا اللقب له شهرة به، وقد يلقب الإنسان بما لا يتصف به وإذا كان لقباً تعين نصبه على الذم. قال ابن عباس: كان الوليد يقول: أنا الوحيد بن الوحيد ليس لي في العرب نظير ولا لأبي المغيرة نظير.
قال الرازي: وردّ هذا القول بعضهم بأنه تعالى لا يصدقه في دعواه تلك بأنه وحيد لا نظير له ذكره الواحدي وهو ضعيف من وجوه ثلاثة: لأنه قد يكون الوحيد علماً فيزول السؤال لأنّ اسم العلم لا يفيد في المسمى صفة بل هو قائم مقام الإشارة. الثاني: أن يكون ذلك بحسب ظنه واعتقاده كقوله عز وجل {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان: 49)
. الثالث: أنه وحيد في كفره وعناده وخبثه لأن لفظ الوحيد ليس فيه أنه وحيد في العلو والشرف. الرابع: قال أبو سعيد: الوحيد الذي لا أب له كما تقدم في الزنيم.
(13/239)
---(1/4977)
{وجعلت له} أي: بأسباب أوجدتها أنا وحدي لا بحول منه ولا قوة بدليل أن غيره أقوى منه بدناً وقلباً وأوسع فكراً وعقلاً وهو دونه في ذلك {مالاً ممدوداً} أي: مالاً واسعاً كثيراً. قال ابن عباس: هو ما كان للوليد بمكة والطائف من الإبل و البقر والغنم والحجور والجنان والعبيد والجواري، واختلفوا في مبلغه فقال مجاهد وسعيد بن جبير: ألف دينار. وقال قتادة: ستة آلاف دينار. وقال سفيان الثوري: مرة أربعة آلاف دينار ومرة ألف ألف دينار وقال ابن عباس: تسعة آلاف مثقال فضة وقال الرازي: الممدود هو الذي يكون له مدد يأتي منه الجزء بعد الجزء دائماً ولذلك فسره عمر غلة شهر بشهر. وقال النعمان: الممدود بالزيادة كالزروع والضروع وأنواع التجارات وقال مقاتل: كان له بستان بالطائف لاتنقطع ثماره شتاء ولا صيفاً.
{وبنين} أي: وجعلت له بنين {شهوداً} أي: حضوراً معه لغناهم عن الأسفار بكثرة المال وانتشار الخدم وقوة الأعوان وهم مع حضورهم في الذروة من الحضور بتمام العقل وقوة الحذق، فهم في غاية المعرفة ومع ذلك فهم أعيان المجالس وصدور المحافل كأنه لا شاهد به غيرهم. قال مجاهد وقتادة: كانوا عشرة. وقال السدي والضحاك: كانوا اثني عشر رجلاً، وعن الضحاك سبعة ولدوا بمكة وخمسة بالطائف. وقال مقاتل: كانوا سبعة ولعله اقتصر على من ولد بمكة وعلى كل قول أسلم منهم ثلاثة خالد الذي منّ الله تعالى على المسلمين بإسلامه فكان سيف الله وسيف رسوله صلى الله عليه وسلم وهشام وعمارة.
{ومهدت} أي: بسطت {له} العيش والعمر والولد، والتمهيد عند العرب التوطئة والتهيئة ومنه مهد الصبي. وقال ابن عباس: أي: وسعت له ما بين اليمن إلى الشام وعن مجاهد أنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش فلم يرع هذه النعمة العظيمة.l
وقوله تعالى {تمهيداً} تأكيد.
(13/240)
---(1/4978)
{ثم} أي: بعد الأمر العظيم الذي ارتكبه من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم {يطمع} أي: بغير سبب يدلي به مما جعلناه سبب المزيد من الشكر {أن أزيد} أي: فيما آتيته في دنياه أو في آخرته وهو يكذب رسولنا صلى الله عليه وسلم وقال الحسن: ثم يطمع أن أحله الجنة.
وكان الوليد يقول: إن كان محمد صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي، فقال الله تعالى ردًّا عليه وتكذيباً له {كلا} أي: وعزتنا وجلالنا لا تكون له زيادة على ذلك أصلاً، وأمّا النقصان فسيرى إن استمرّ على تكذيبه فليرتدع عن هذا الطمع ولينزجر وليرتجع، فإنه حمق محض وزخرف بحت وغرور صرف، قالوا: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك فقيراً.
تنبيه: كلا قطع للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة فيكون متصلاً بالكلام الأوّل وقيل: كلا بمعنى حقاً.
ويبتدأ بقوله تعالى {إنه} أي: هذا الموصوف {كان} أي: بخلق كأنه جبلة له وطبع لا يقدر على الانفكاك عنه {لآياتنا} على ما لها من العظمة خاصة لكونها هادية إلى الوحدانية لا إلى غيرها من الشبه القائدة إلى الشرك {عنيداً} قال قتادة: أي: جاحداً. وقال مقاتل: معرضاً. وقال مجاهد: إنه المجانب للحق. وجمع العنيد عند، مثل رغيف ورغف والعنيد بمعنى المعاند، والعناد كما قال الملوي من كبر في النفس ويبس في الطبع وشراسة في الأخلاق أو خبل في العقل، وقد جمع ذلك كله إبليس لعنه الله تعالى لأنه خلق من نار وهي من طبعها اليبوسة وعدم الطواعية.
تنبيه: في الآية إشارة إلى أنّ الوليد كان معانداً في أمور كثيرة منها أنه كان يعاند في دلائل التوحيد وصحة النبوّة وصحة البعث، ومنها أنّ كفره كان عناداً لأنه كان يعرف هذه الأشياء بقلبه وينكرها بلسانه. وكفر العناد أفحش أنواع الكفر، ومنها أنّ قوله تعالى كان يدل على أنّ هذه حرفته من قديم الزمان.
(13/241)
---(1/4979)
{سأرهقه} أي: أكلفه {صعوداً} أي: مشقة من العذاب لا راحة له فيها. وروى الترمذي عن أبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنه جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي» وفي رواية أنه «كلما وضع يده في معالجة الصعود ذابت فإذا رفعها عادت وكذا رجله» وقال الكلبي: إنه صخرة ملساء في النار يكلف أن يصعدها يجذب من أمامه بسلاسل الحديد ويضرب من خلفه بمقامع الحديد فيصعدها في أربعين عاماً فإذا بلغ ذروتها أسقط إلى أسفلها ثم يكلف أن يصعدها فذلك دأبه أبداً.
{س74ش18/ش30 إِنَّهُ? فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَاذَآ إِs سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَاذَآ إِs قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَآ أَدْرَ?ـاكَ مَا سَقَرُ * تُبْقِى وَ تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ }
أي: هذا العنيد {فكر} أي: ردّد فكره وأداره تابعاً لهواه لأجل الوقوع على شيء يطعن به في القرآن أو النبيّ صلى الله عليه وسلم {وقدّر} أي: أوقع تقدير الأمور التي يطعن بها وقاسها في نفسه لعلمه أنها أقرب إلى القبول وذلك أنّ الله تعالى لما أنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم {حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} إلى قوله تعالى: {المصير} (غافر: 2 ـ 3)
(13/242)
---(1/4980)
قام النبيّ صلى الله عليه وسلم في المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبيّ صلى الله عليه وسلم لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر وإنّ أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش: صبأ والله الوليد، والله لتصبأنّ قريش كلهم. فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزيناً، فقال له الوليد: ما لي أراك حزيناً يا ابن أخي؟ قال: وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد وأنك داخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة تسأل من فضل طعامهم فغضب الوليد وقال: ألم تعلم أني من أكثرهم مالاً وولداً، وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل، ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال لهم: تزعمون أنّ محمداً مجنون فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا: اللهمّ لا، قال: تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه قط تكهن؟ فقالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعراً قط؟ قالوا: اللهمّ لا. قال: تزعمون أنه كذاب فهل جرّبتم عليه شيئاً من الكذب؟ قالوا: اللهمّ لا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين قبل النبوّة من صدقه، فقالت قريش للوليد: فما هو؟ فتفكر في نفسه وقدّر ما أسرّ».
قال الله تعالى: {فقتل} أي: هلك وطرد ولعن في دنياه هذه {كيف قدر} أي: على أي: كيفية أوقع تقديره هذا.
{ثم قتل} أي: هلك ولعن هذا العنيد هلاكاً ولعناً هو في غاية العظمة فيما بعد الموت في البرزخ والقيامة. {كيف قدر} فثم للدلالة على أنّ الثانية أبلغ من الأولى ونحوه قوله:
*ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي*
(13/243)
---(1/4981)
ومعنى قول القائل قتله الله ما أشجعه وأخزاه الله ما أشعره للإشعار بأنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد، ويدعو عليه حاسده بذلك. وأما ثم المتوسطة بين الأفعال التي بعدها فهي للدلالة على أنه تأنى في التأمل وتمهل وكان بين الأفعال المتناسقة تراخ وتباعد.
وقوله تعالى: {ثم نظر} عطف على فكر وقدر والدعاء اعتراض بينهما والنظر إما في وجوه قومه وإما فيما يقدح به في القرآن.
{ثم عبس }أي: قبض وجهه وكلحه ونظر مع تقبض جلد وما بين العينين بكراهة شديدة كالمهتم للتفكر في شيء وهو لا يجد فيه فرجاً لأنه ضاقت عليه الحيل لكونه لم يجد فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مطعناً. وقيل: عبس وجهه في وجوه المؤمنين، وذلك أنه لما قال لقريش: إن محمداً ساحر مرّ على جماعة من المسلمين، فدعوه إلى الإسلام فعبس في وجوههم. وقيل: عبس على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه {وبسر} أي: زاد في القبض والكدح، يقال: وجه باسر، أي: منقبض أسود كالح متغير اللون قاله قتادة.
{ثم } أي: بعد هذا التروي العظيم {أدبر} أي: عما أداه إليه فكره من الإيمان بسلامة المنظور فيه وعلوّه عن المطاعن فحاد عن وجوه الأفكار إلى أقفيتها {واستكبر} أي: أوجد الكبر عن الاعتراف بالحق إيجاد من هو في غاية الرغبة فيه.
{فقال}أي: عقب ما جرّه إليه طبعه الخبيث من إيقاع الكبر على هذا الوجه لكونه رآه نافعاً لهم في الدنيا {إن} أي: ما {هذا} أي: الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم {إلا سحر} أي: أمور تخييلية لا حقائق لها وهي لدقتها بحيث تخفى أسبابها، أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وماله وولده ومواليه، فما هو إلا سحر {يؤثر} أي: من شأنه أن ينقله السامع عن غيره، فهو ينقله من مسيلمة وأهل بابل كما قال:
(13/244)
---(1/4982)
{إن} أي: ما {هو} أي: القرآن {إلا قول البشر} أي: ليس فيه شيء عن الله تعالى فلا يغتر أحد به ولا يعرج عليه فارتج النادي فرحاً، ثم تفرّقوا معجبين بقوله متعجبين منه قيل: وهذا شبيه بما قال بعضهم:
*لو قيل كم خمس وخمس لاغتدى ** يوماً وليلته يعدّ ويحسب*
*ويقول معضلة عجيب أمرها ** ولئن فهمت لها لأمري أعجب*
*خمس وخمس ستة أو سبعة ** قولان قالهما الخليل وثعلب
** *
فكان قوله هذا سبب هلاكه فكان كما قال بعضهم:
*احفظ لسانك أيها الإنسان ** لا يلدغنك إنه ثعبان*
*كم في المقابر من قتيل لسانه ** كانت تهاب لقاءه الشجعان*
وقوله تعالى: {سأصليه} أي: أدخله {سقر} أي: جهنم بوعد لا بدّ منه عن قريب بدل من {سأرهقه صعوداً}.
وقوله تعالى: {وما أدراك ما سقر} تعظيم لشأنها.
وقوله تعالى: {لا تبقي ولا تذر} بيان لذلك أو حال من سقر، والعامل فيها معنى التعظيم، والمعنى: لا تبقي شيئاً يلقى فيها إلا أهلكته، فإذا أهلكته لم تذره هالكاً حتى يعاد أو لا تبقي على شيء ولا تدعه من الهلاك، بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة، وسميت سقر من سقرته الشمس إذا أذابته، ولا تنصرف للتعريف والتأنيث. قال ابن عباس: سقر اسم للطبقة السادسة، فإنّ درك النار سبعة جهنم ولظى والحطمة والسعير والجحيم وسقر والهاوية.
{لوّاحة} من لوح الهجير قال:
*تقول ما لاحك يا مسافر ** يا ابنة عمي لاحني الهواجر
{للبشر} أي: محرقة لظاهر الجلد فتدعه أشدّ سواداً من الليل قال تعالى: {تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون} (المؤمنون: 104)
والبشر أعالي البشرة وهو جمع بشرة وجمع البشر أبشار. وعن الحسن: تلوح للناس كقوله تعالى: {ثم لترونها عين اليقين} (التكاثر: 7)
وقيل: اللوح شدة العطش يقال: لاحه العطش ولوحه، أي: غيره. وقال الأخفش: والمعنى: أنها معطشة للبشر، أي: لأهلها وأنشد:
*سقتني على لوح من الماء شربة ** سقاها من الله الرهام النواديا*
(13/245)
---(1/4983)
يعني باللوح شدّة العطش والرّهام جمع رهمة بالكسر وهي المطرة الضعيفة، وأرهمت السحابة أتت بالرهام.
{عليها تسعة عشر} أي: من الملائكة وهم خزنتها مالك ومعه ثمانية عشر، وقيل: التسعة عشر نقباء. وقال أكثر المفسرين: تسعة عشر ملكاً بأعيانهم. وقيل: تسعة عشر ألف ملك. قال ابن جريج: نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم خزنة جهنم فقال: «أعينهم كالبرق الخاطف وأنيابهم كالصياصي، وأشعارهم تمس أقدامهم يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، نزعت منهم الرحمة، يدفع أحدهم سبعين ألفاً فيرميهم حيث أراد من جهنم». قال عمرو بن دينار: إنّ واحداً منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر. قال ابن الأثير: الصياصي قرون البقر.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت هذه الآية قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمّهاتكم أسمع ابن أبي كبشة يخبر أنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم ـ يعني الشجعان ـ أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من خزنة جهنم؟ فقال أبو الأشد بن كلدة بن خلف الجمحي: أنا أكفيكم منهم سبعة عشر، عشرة على ظهري وسبعة على بطني فاكفوني أنتم اثنين. وروي أنه قال: أنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وسبعة بمنكبي الأيسر في النار، ونمضي فندخل الجنة، فأنزل الله عز وجل:
(13/246)
---
{وما جعلنا} أي: لنا من العظمة وإن خفي وجه العظمة فيه على من عمي قلبه {أصحاب النار} أي: خزنتها {إلا ملائكة} أي: لم نجعلهم رجالاً فتغالبوهم وإنما جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنسي الفريقين من الجنّ والإنس فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرحمة والرأفة ولأنهم أشدّ بأساً وأقوى بطشاً فقوّتهم أعظم من قوّة الإنس والجنّ ولذلك جعل الرسول إلى البشر من جنسهم ليكون له رأفة ورحمة بهم.(1/4984)
فإن قيل: ثبت في الأخبار أنّ الملائكة مخلوقون من النور فكيف تطيق المكث في النار؟ أجيب: بأنّ الله تعالى قادر على كل الممكنات فكما أنه لا استبعاد في أنه يبقى الحي في مثل ذلك العذاب الشديد أبد الآباد ولا يموت، فكذا لا استبعاد في إبقاء الملائكة هناك من غير ألم.
{وما جعلنا} أي: بما لنا من العظمة {عدّتهم} أي: مذكورة ومحصورة {إلا فتنة} أي: بلية {للذين كفروا} وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ضلالة وفتنة مفعول ثان على حذف مضاف أي: إلا سبب فتنة وللذين صفة الفتنة وليست فتنة مفعولاً له. وقول البيضاوي وما جعلنا عددهم إلا العدد الذي اقتضى فتنتهم وهو التسعة عشر تبعاً للزمخشري، قال أبو حيان: إنه تحريف لكتاب الله إذ زعم أنّ معنى إلا فتنة للذين كفروا إلا تسعة عشر وهذا لا يذهب إليه عاقل ولا من له أدنى ذكاء.
(13/247)
---
وقال الرازي: إنما صار هذا العدد سبباً لفتنة الكفار من وجهين: الأوّل: أنّ الكفار يستهزئون ويقولون لم لا يكونون عشرين، وما المقتضي لتخصيص هذا العدد. والثاني: أن الكفار يقولون هذا العدد القليل كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر العالم من الجنّ والإنس من أوّل ما خلق الله إلى قيام الساعة؟
وأجيب: عن الأوّل بأنّ هذا السؤال لازم على كل عدد يفرض، وعن الثاني بأنه لا يبعد أن الله تعالى يرزق ذلك العدد القليل قوّة تفي بذلك، فقد اقتلع جبريل عليه السلام مدائن قوم لوط على أحد جناحيه ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء صياح ديكتهم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها، وأيضاً فأحوال القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا ولا للعقل فيها مجال. وذكر أرباب المعاني في تقرير هذا العدد وجهين:(1/4985)
أحدهما: ما قاله أرباب الحكمة إنّ سبب فساد النفس الإنسانية في قوّتها النظرية والعملية هو القوى الحيوانية والطبيعية، فالقوى الحيوانية هي الخمسة الظاهرة والخمسة الباطنة والشهوة والغضب فهذه اثنا عشر، وأما القوى الطبيعية فهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة، فالمجموع تسعة عشر فلما كانت هذه منشآت لا جرم كان عدد الزبانية هكذا.
ثانيهما: أنّ أبواب جهنم سبعة فستة منها للكفار وواحد للفساق، ثم إن الكفار يدخلون النار لأمور ثلاثة: ترك الاعتقاد وترك الإقرار وترك العمل فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة فالمجموع ثمانية عشر، وأما باب الفساق فليس هناك إلا ترك العمل فالمجموع تسعة عشر مشغولة بغير العبادة فلا جرم صار عدد الزبانية تسعة عشر.
(13/248)
---
وقوله تعالى: {ليستيقن الذين} متعلق بجعلنا لا بفتنة. وقيل: بفعل مضمر أي: فعلنا ذلك ليستيقن الذين {أوتوا الكتاب} أي: أعطوا التوراة والإنجيل، فإنه مكتوب فيهما إنه تسعة عشر، فذلك موافقة لما عندهم {ويزداد الذين آمنوا} أي: من أهل الكتاب {إيماناً} أي: تصديقاً لموافقة النبيّ صلى الله عليه وسلم لما في كتبهم {ولا يرتاب} أي: يشك {الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون} في عددهم.
فإن قيل: قد أثبت الاستيقان لأهل الكتاب وزيادة الإيمان للمؤمنين فما فائدة {ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون}؟ أجيب: بأنّ الإنسان إذا اجتهد في أمر غامض دقيق الحجة كثير الشبه، فحصل له اليقين فربما غفل عن مقدّمة من مقدّمات ذلك الدليل الدقيق فيعود الشك فإثبات اليقين في بعض الأحوال لا ينافي طريان الارتياب بعد ذلك، ففائدة هذه الجملة نفي ذلك الشك، وإنه حصل لهم يقين جازم لا يحصل عقبه شك البتة.(1/4986)
{وليقول الذين في قلوبهم مرض} أي شك ونفاق وإن قل ونزول هذه السورة قبل وجود المنافقين فهو علم من أعلام النبوّة فإنه إخبار بمكة عما سيكون بالمدينة بعد الهجرة ولا ينكر جعل الله تعالى بعض الأمور علة إصلاح ناس وفساد آخرين؛ لأنه لا يسأل عما يفعل على أن العلة قد تكون مقصودة لشيء بالقصد الأوّل ثم يترتب عليها شيء آخر يكون قصده بالقصد الثاني تقول خرجت من البلد لمخافة الشر ومخافة الشر لا يتعلق بها الغرض.
{والكافرون} أي: ويقول الراسخون في الكفر الجازمون بالتكذيب الساترون لما دلت عليه الأدلة من الحق {ماذا} أي: أي شيء {أراد الله} أي: الملك الذي له جميع العظمة {بهذا} أي: العدد القليل في جنب عظمته {مثلاً} قال الجلال المحلي: سموه لغرابته بذلك، وأعرب حالاً. وقال الليث: المثل الحديث ومنه {مثل الجنة التي وعد المتقون} (الرعد: 35)
(13/249)
---
أي: حديثها والخبر عنها. وقال الرازي: إنما سموه مثلاً لأنه لما كان هذا العدد عدداً عجيباً ظنّ القوم أنه ربما لم يكن مراد الله تعالى منه ما أشعر به ظاهره، بل جعله مثلاً لشيء آخر وتنبيهاً على مقصود آخر لا جرم سموه مثلاً على سبيل الاستعارة لأنهم لما استغربوه ظنوا أنه ضرب مثلاً لغيره، ومثلاً تمييز أو حال وتسمية هذا مثلاً على سبيل الاستعارة لغرابته.(1/4987)
ولما كان التقدير أراد بهذا إضلال من ضل وهو لا يبالي وهداية من اهتدى وهو لا يبالي كان كأنه قيل: هل يفعل مثل ذلك في غير هذا فقال تعالى: {كذلك} أي: مثل هذا المذكور من الإضلال والهداية {يضل الله} أي: الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز {من يشاء} بأي كلام شاء، كإضلال الله تعالى أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم {ويهدي} بقدرته التامّة {من يشاء} بنفس ذلك الكلام أو بغيره كهداية أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الآية تدل على مذهب أهل السنة لأنه تعالى قال في أوّل الآية {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا} الخ، ثم قال تعالى: {كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء}.
{وما يعلم جنود ربك} أي: المحسن إليك بأنواع الإحسان المدبر لأمرك {إلا هو} أي: الله سبحانه وتعالى. قال مقاتل رضي الله عنه: وهذا جواب لأبي جهل حيث قال: ما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر. وقال مجاهد رضي الله عنه: {وما يعلم جنود ربك} يعني: من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار، ولا يعلم عدتهم إلا الله تعالى.
(13/250)
---
والمعنى: أن تسعة عشر هم خزنة النار ولهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى، ولو أراد لجعل الخزنة أكثر من ذلك، فقد روي أنّ البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا تعود لهم نوبة أخرى. وروي أنّ الأرض في السماء كحلقة ملقاة في فلاة، وكل سماء في التي فوقها كذلك، وورد في الخبر: أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع ـ وفي رواية موضع قدم ـ إلا وفيه ملك قائم يصلي ـ وفي رواية ساجد ـ وإنما خص هذا العدد لحكم لا يعلمها إلا هو.(1/4988)
ثم رجع إلى ذكر سقر فقال تعالى: {وما هي} أي: النار التي هي من أعظم جنوده {إلا ذكرى للبشر} أي: ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله وأنه سبحانه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار، وللبشر مفعول بذكرى واللام فيه مزيدة، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة. وقرأ ورش بين بين، والباقون بالفتح. وقوله تعالى:
{س74ش32/ش47 كَs وَالْقَمَرِ * وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ * إِنَّهَا ?حْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ * كُلُّ نَفْس? بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ? * إِ? أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِى جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ * قَالُوا? لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَآ?ـ?ِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى? أَتَـ?ـانَا الْيَقِينُ }
{كلا} ردع لمن أنكرها أو إنكار لأن يتذكروا بها قاله البيضاوي. وقال البغويّ: هذا قسم يقول حقاً. وقال الجلال المحلي: استفتاح بمعنى إلا {والقمر} أي: الذي هو آية الليل الهادية من ضل بظلامه.
(13/251)
---
{والليل إذ أدبر} أي: مضى فانقلب راجعاً من حيث جاء فانكشف ظلامه، وقرأ نافع وحمزة وحفص بسكون الذال المعجمة والدال المهملة بعدها وهمزة قطع مفتوحة بين المعجمة والمهملة الساكنين، والباقون بفتح الذال المعجمة وبعدها ألف وفتح المهملة بعد الألف، فالقراءة الأولى إذ أدبر والثانية إذا دبر وكلاهما لغة. يقال: دبر الليل وأدبر إذا ولى مدبراً ذاهباً. قال أبو عمرو: ودبر لغة قريش، وقال قطرب: دبر أي: أقبل، تقول العرب دبرني فلان أي: جاء خلفي فالليل يأتي خلف النهار.
وقوله تعالى: {والصبح إذا أسفر} أي: أضاء وتبين.(1/4989)
وقوله تعالى: {إنها لإحدى الكبر} جواب للقسم أو تعليل لكلا، والقسم معترض للتوكيد، والكبر جمع الكبرى جعلت ألف التأنيث كتائها، فلما جمعت فعلة على فعل جمعت فعلى عليها. ونظير ذلك القواصع في جمع القاصعاء كأنها جمع فاعلة، أي: لإحدى البلايا والدواهي الكبر. ومعنى كونها إحداهنّ أنها من بينهنّ واحدة في العظم لا نظير لها، كما تقول: هو أحد الرجال وهي إحدى النساء.
وقوله تعالى: {نذيراً} تمييز من إحدى على معنى أنها لإحدى الدواهي إنذاراً كما تقول هي إحدى النساء عفافاً وقيل: هي حال وقيل: هو متصل بأوّل السورة أي: قم نذيراً {للبشر} قال الزمخشري: وهو من بدع التفاسير.
وقوله تعالى: {لمن شاء} أي: بإرادته {منكم} بدل من البشر {أن يتقدّم} أي: إلى الخير أو إلى الجنة بالإيمان {أو يتأخر} أي: إلى الشر أو النار بالكفر.
{كل نفس} أي: ذكر أو أنثى على العموم {بما كسبت} أي: خاصة لا ما كسب غيرها {رهينة} أي: مرهونة مأخوذة وليست بتأنيث رهين في قوله تعالى: {كل امرئ بما كسب رهين} (الطور: 21)
لتأنيث النفس لأنه لو قصدت الصفة لقيل: رهين، لأنّ فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم، كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهن.h
ومنه بيت الحماسة:
(13/252)
---
*أبعد الذي بالنعف تعف كويكب ** رهينة رمس ذي تراب وجندل*
كأنه قال: والمعنى كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك.(1/4990)
{إلا أصحاب اليمين} وهم المؤمنون فإنهم فكوا رقابهم بإيمانهم وبما أحسنوا من أعمالهم وقيل: هم الملائكة، وروي عن علي أنهم أطفال المسلمين. وقال مقاتل رضي الله عنه: هم أهل الجنة الذين كانوا على يمين آدم يوم الميثاق حين قال لهم الله: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وعنه أيضاً: هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم. وقال الحسن رضي الله عنه: هم المسلمون الخالصون. وقال القاسم: كل نفس مأخوذة بكسبها بخير أو شر إلا من اعتمد على الفضل، فكل من اعتمد على الكسب فهو رهين به، ومن اعتمد على الفضل فهو غير مأخوذ.
ولما أخرجهم من حكم الارتهان الذي أطلق على الإهلاك لأنه سببه استأنف بيان حالهم فقال تعالى: {في جنات} أي: بساتين في غاية العظم لأنهم أطلقوا أنفسهم وفكوا رقابهم فلم يرتهنوا {يتساءلون} أي: فيما بينهم يسأل بعضهم بعضاً أو يسألون غيرهم.
{عن المجرمين} أي: عن أحوالهم ويقولون لهم بعد إخراج الموحدين من النار:
{ما} محتملة للاستفهام والتعجب والتوبيخ {سلككم} أي: أدخلكم أيها المجرمون إدخالاً هو في غاية الضيق حتى كأنكم السلك في الثقب، وقرأ السوسي بإدغام الكاف في الكاف والباقون بالإظهار {في سقر}.
فأجابوا بأن {قالوا لم نك من المصلين} أي: صلاة يعتدّ بها فكان هذا تنبيهاً على أنّ رسوخ القدم في الصلاة مانع من مثل حالهم وعلى أنهم معاقبون على فروع الشريعة وإن كانت لا تصلح منهم، فلو فعلوها قبل الإيمان لم يعتدّ بها وعلى أنّ الصلاة أعظم الأعمال وأنّ الحسنات بها تقدّم على غيرها.
{ولم نك نطعم المسكين} أي: نعطيه ما يجب علينا إعطاؤه له.
(13/253)
---(1/4991)
{وكنا نخوض} أي: نوجد الكلام الذي هو في غير مواقعه ولا علم لنا به إيجاد المشي من الخائض في ماء غمر {مع الخائضين} بحيث صار لنا هذا وصفاً راسخاً، فنقول في القرآن: إنه سحر، وإنه شعر، وإنه كهانة، وغير هذا من الأباطيل لا نتورّع عن شيء من ذلك ولا نقف مع عقل ولا نرجع إلى صحيح نقل، فليأخذ الذين يبادرون إلى الكلام في كل ما يسألون عنه من أنواع العلم من غير تثبت منزلتهم من هنا.
{وكنا نكذب} أي: بحيث صار ذلك وصفاً ثابتاً {بيوم الدين} أي: بيوم البعث والجزاء.
{حتى أتانا اليقين} أي: الموت أو مقدّماته الذي قطعنا عن دار العمل. قال الله تعالى {حتى يأتيك اليقين} (الحجر: 99)
فإن قيل: لم أخر التكذيب وهو أخس الخصال الأربع؟ أجيب: بأنهم بعد اتصافهم بتلك الأمور الثلاثة كانوا مكذبين بيوم الدين، والغرض تعظيم الذنب كقوله تعالى: {كان من الذين آمنوا}. ولما أقرّوا على أنفسهم بما أوجب العذاب الدائم فكانوا ممن فسد مزاجه فتعذر علاجه سبب عنه قوله تعالى:
{س74ش48/ش56 فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَة? * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِى?ٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً * كَs? بَل s يَخَافُونَ ا?خِرَةَ * كَ? إِنَّهُ? تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ? * وَمَا يَذْكُرُونَ إِ? أَن يَشَآءَ اللَّهُ? هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ }
{فما تنفعهم} أي: في حال اتصافهم بهذه الصفات {شفاعة الشافعين} أي: لا شفاعة لهم فلا انتفاع بها، وليس المراد أن ثم شفاعة غير نافعة. كقوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} (الأنبياء: 28)
(13/254)
---(1/4992)
وهذه الآية تدل على صحة الشفاعة للمذنبين من المؤمنين بمفهمومها؛ لأنّ تخصيص هؤلاء بأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدل على أن غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: يشفع نبيكم عليه الصلاة والسلام رابع أربعة جبرائيل ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى ثم نبيكم صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين ثم الملائكة ثم النبيون ثم الصدّيقون ثم الشهداء، ويبقى قوم في جهنم يقال لهم {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين} إلى قوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين}. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: فهؤلاء الذين في جهنم.
{فما لهم عن التذكرة معرضين} أي: فما لأهل مكة قد أعرضوا وولوا عن القرآن قال مقاتل رضي الله عنه: معرضين عن القرآن من وجهين: أحدهما: الجحود والإنكار، والثاني: ترك العمل بما فيه، وقيل: المراد بالتذكرة العظة بالقرآن وغيره من المواعظ ومعرضين حال من الضمير في الجار الواقع خبراً عن ما الاستفهامية، ومثل هذه الحال تسمى حالاً لازمة، وعن التذكرة متعلق به، أي: أيّ شيء حصل لهم في إعراضهم عن الاتعاظ.
{كأنهم} في إعراضهم عن التذكرة من شدة النفر {حمر} أي: من حمر الوحش وهي أشد الأشياء نفاراً، ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل بسرعة السير بالحمر في عدوها إذا وردت ماء فأحست بما يريبها {مستنفرة}أي: موجدة للنفار بغاية الرغبة حتى كأنها تطلبه من أنفسها لأنه شأنها وطبعها، وقرأ ابن عامر ونافع بفتح الفاء على أنه اسم مفعول أي: نفرها القناص والباقون بكسرها بمعنى نافرة.
(13/255)
---(1/4993)
{فرّت من قسورة} قال مجاهد رضي الله عنه: هي جماعة الرماة الذين يتصيدونها لا واحد له من لفظه، وهي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: هو القناص، وعن زيد بن أسلم: فريق من رجال أقوياء. وكل ضخم شديد عند العرب قسور وقسورة، وعن أبي المتوكل هي لغط القوم وأصواتهم. وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: حبال الصيادين. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: هي الأسد، وهو قول عطاء والكلبي، وذلك أن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت، كذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن هربوا، وعن عكرمة رضي الله عنه ظلمة الليل ويقال لسواد الليل قسورة، وفي تشبيههم بالحمر مذمّة ظاهرة وتهجين لحالهم بين كما في قوله تعالى {كمثل الحمار يحمل أسفاراً} (الجمعة: 5)
شهادة عليهم بالبله وقلة العقل.
ولما كان الجواب قطعاً لا شيء لهم في إعراضهم هذا أضرب عنه بقوله تعالى: {بل يريد} أي: على دعواهم في زعمهم {كل امرئ منهم} أي: المعرضين من ادّعائة الكمال في المروءة {أن يؤتى} أي: من السماء {صحفاً} أي: قراطيس مكتوبة {منشرة} أي: مفتوحة، وذلك أنّ أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه: من ربّ العالمين إلى فلان بن فلان ونؤمر فيه باتباعك ونظيره {لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه} (الإسراء: 93)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما كانوا يقولون: إن كان محمد صادقاً ليصبح عند رأس كل واحد منا صحيفة فيها براءته من النار. وقال الكلبي رضي الله عنه: إن المشركين قالوا: يا محمد بلغنا أنّ الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوباً عند رأسه ذنبه وكفارته فائتنا بمثل ذلك. وقالوا: إذا كانت ذنوب الإنسان تكتب عليه، فما لنا لا نرى ذلك. قال البغوي: والصحف جمع الصحيفة ومنشرة منشورة.
(13/256)
---(1/4994)
قال الله تعالى: {كلا} أي: لا يؤتون الصحف. وقيل: حقاً قال البغوي: وكل ما ورد عليك منه فهذا وجهه. قال ابن عادل: والأول أجود لأنه ردّ لقولهم. ثم بين تعالى سبب إعراضهم بقوله تعالى: {بل لا يخافون} أي: في زمن من الأزمان {الآخرة} فهذا هو السبب في إعراضهم.
وقوله تعالى: {كلا}استفتاح قاله الجلال المحلي. وقال البيضاوي: ردع عن إعراضهم. وقال البغوي وتبعه ابن عادل: حقاً {إنه} أي: القرآن {تذكرة} أي: عظيمة توجب إيجاباً عظيماً اتباعه وعدم الانفكاك عنه بوجه، فليس لأحد أن يقول: أنا مغرور لم أجد مذكراً ولا معرّفاً فإنّ عنده أعظم مذكر وأشرف معرّف.
{فمن شاء} أي: أن يذكره {ذكره} أي: اتعظ به وجعله نصب عينيه وعلم معناه وتخلق به فمن فعل ذلك سهل عليه لفظه وبعض معانيه فإنه كالبحر الفرات فمن شاء اغترف.
{وما يذكرون} أي: في وقت من الأوقات {إلا أن يشاء الله} أي: الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه ذكرهم أو مشيئتهم كقوله تعالى: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} (الإنسان: 30)
وهو تصريح بأنّ فعل العبد بمشيئة الله تعالى. وقرأ نافع بتاء الخطاب وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب والباقون بياء الغيبة حملاً على ما تقدم من قوله تعالى: {كل امرئ}.
(13/257)
---(1/4995)
{هو} أي: الله سبحانه وتعالى وحده {أهل التقوى} أي: أن يتقيه عباده ويحذروا غضبه بكل ما تصل قدرهم إليه لما له من الجلال والعظمة والقهر. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة وأبو عمرو بين بين، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين {وأهل المغفرة} أي: وحقيق أن يطلب غفرانه للذنوب لا سيما إذا اتقاه المذنب؛ لأنّ له الجمال واللطف وهو القادر ولا قدرة لغيره فلا ينفعه شيء ولا يضرّه روى الترمذي وأحمد والحاكم عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} يقول الله تعالى: «أنا أهل أن أتقى فمن اتقى أن يشرك بي غيري فأنا أهل أن أغفر له» ووقف الكسائي على {أهل المغفرة} بالإمالة على أصله وورش بترقيق الراء وقفاً ووصلاً على أصله.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة المدثر أعطاه الله تعالى عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وكذب به» حديث موضوع.
سورة القيامة
مكية
وهي تسع وثلاثون آية، ومائة وسبع وتسعون كلمة،وستمائة واثنان وخمسون حرفاً
{بسم الله} الذي له الجلال والكمال {الرحمن} الذي عمّ بنعمة الإيجاد أهل الهدى والضلال {الرحيم} الذي سدد أهل العناية في الأفعال والأقوال.
واختلف في لا في قوله تعالى:
(13/258)
---
{لا أقسم} على أوجه:
أحدها: أنها نافية لكلام المشركين المنكرين للبعث أي: ليس الأمر كما زعموا ثم ابتدأ أقسم {بيوم القيامة} قال القرطبي: إن القرآن جاء بالردّ على الذين أنكروا البعث والجنة والنار، فجاء الإقسام بالردّ عليهم كقولك: لا والله لا أفعل فلا ردّ لكلام قد مضى كقولك: لا والله إن القيامة لحق كأنك أكذبت قوماً أنكروه.
الثاني: أنها مزيدة مثلها في {لئلا يعلم أهل الكتاب} (الحديد: 29)(1/4996)
واعترضوا هذا بأنها إنما تزاد في وسط الكلام لا في أوّله. وأجيب: بأنّ القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض يدل على ذلك أنه قد يجيء ذكر الشيء في سورة ويذكر جوابه في سورة أخرى كقوله تعالى: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} (الحجر: 6)
وجوابه في سورة أخرى {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} (القلم: 2)
وإذا كان كذلك كان أوّل هذه السورة جارياً مجرى الوسط، وردّ هذا بأنّ القرآن في حكم السورة الواحدة في عدم التناقض لا أن تقرن سورة بما بعدها، فذلك غير جائز.
الثالث: قال الزمخشري: إدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم، قال امرؤ القيس:
*لا وأبيك ابنة العامريّ ** لا يدّعي القوم أني أفر*
(13/259)
---
وفائدتها: توكيد القسم، ثم قال الزمخشري بعد أن ذكر وجه الزيادة والاعتراض: والجواب كما تقدّم والوجه أن يقال: هي للنفي، والمعنى في ذلك: أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له يدل عليه قوله تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} (الجمعة: 75 ـ 76)
فكأنه بإدخال حرف النفي يقول: إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام، يعني أنه يستأهل فوق ذلك. قال بعضهم: قول الزمخشري: والوجه أن يقال إلى آخره تقرير لقوله: إدخال لا النافية فيه على فعل القسم مستفيض إلى آخره. وحاصل كلامه يرجع إلى أنها نافية وأنّ النفي متسلط على فعل القسم بالمعنى الذي شرحه، وليس فيه نفع لفظاً ولا معنى، وقرأ ابن كثير بخلاف عن البزي بغير ألف بعد اللام والهمزة مضمومة والباقون بالألف ويعبر عن قراءة ابن كثير بالقصر وعن قراءة الباقين بالمدّ.(1/4997)
ولا خلاف في قوله تعالى: {ولا أقسم بالنفس اللوامّة} في المدّ والكلام في لا المتقدّمة وجرى الجلال المحلي على أنها زائدة في الموضعين. واختلف في النفس اللوامّة فقيل: هي نفس المؤمن الذي لا تراه يلوم إلا نفسه تقول: ما أردت بكذا ولا تراه يعاتب إلا نفسه. وقال الحسن رضي الله عنه: هي والله نفس المؤمن ما ترى المؤمن إلا يلوم نفسه ما أردت بكلامي ما أردت بأكلي ما أردت بحديثي، والفاجر لا يحاسب نفسه. وقال مجاهد رضي الله عنه: هي التي تلوم على ما فات، فتلوم نفسها على الشرّ لم فعلته، وعلى الخير لم لا تستكثر منه، وقيل: تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها. وقيل: المراد آدم عليه السلام لم يزل لائماً نفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة. وقيل: هي الملومة فتكون صفة ذمّ وهو قول من نفى أن تكون قسماً، وعلى الأوّل صفة مدح فيكون القسم بها سائغاً. وقال مقاتل رضي الله عنه: هي نفس الكافر يلوم نفسه تحسراً في الآخرة على ما فرّط في جنب الله تعالى.
(13/260)
---
وجواب القسم محذوف أي: لتبعثنّ دل عليه قوله تعالى: {أيحسب الإنسان} أي: هذا النوع الذي جبل على الأنس بنفسه والنظر في عطفية وأسند الفعل إلى النوع كله؛ لأنّ أكثرهم كذلك لغلبة الحظوظ على العقل إلا من عصم الله تعالى، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها {ألن} أي: أنا لا {نجمع} أي: على ما لنا من العظمة {عظامه} أي: التي هي قالب بدنه فنعيدها كما كانت بعد تمزقها وتفتتها للبعث والحساب.(1/4998)
وقيل: نزلت في عدي بن ربيعة حليف بني زهرة خال الأخنس بن شريق الثقفي وذلك أن عدياً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد حدّثني عن القيامة متى تقوم؟ وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن بك، أَوَ يجمع الله العظام بعد تفرّقها ورجوعها رميماً ورفاتاً مختلطاً بالتراب وبعد ما نسفتها الرياح وطيرتها في أباعد الأرض ولهذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمّ اكفني جاري السوء عدي بن ربيعة والأخنس بن شريق» وقيل: نزلت في عدوّ الله أبي جهل أنكر البعث بعد الموت وذكر العظام، والمراد نفسه كلها لأنّ العظام قالب الخلق.
تنبيه: ألن هنا موصولة وليس بين الهمزة واللام نون في الرسم كما ترى.
(13/261)
---
وقوله تعالى: {بلى} إيجاب لما بعد النفي المنسحب عليه الاستفهام وهو وقف حسن، ثم يبتدئ بقوله تعالى: {قادرين} وقيل: المعنى: بل نجمعها قادرين مع جمعها {على أن نسوي بنانه} أي: أصابعه وسلامياته وهي عظامه الصغار التي في يده، خصها بالذكر لأنها أطرافه وآخر ما يتم به خلقه أي: نجمع بعضها على بعض على ما كانت عليه قبل الموت لأنا قدرنا على تفصيل عظامه وتفتيتها، فنقدر على جمعها وتوصيلها، وقدرنا على جمع صغار العظام فنحن على جمع كبارها أقدر، وقال ابن عباس وأكثر المفسرين: على أن نسوي بنانه أي: نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخف البعير أو كحافر الحمار أو كظلف الخنزير، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئاً، ولكنا فرّقنا أصابعه حتى يفعل بها ما شاء. وقيل: نقدر أن نصير الإنسان في هيئة البهائم فكيف في صورته التي كان عليها وهو كقوله تعالى: {وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون} (الواقعة: 60 ـ 61)(1/4999)
وقوله تعالى: {بل يريد الإنسان} عطف على أيحسب فيجوز أن يكون استفهاماً وأن يكون جواباً لجواز أن يكون الإضراب عن المستفهم وعن الاستفهام {ليفجر أمامه} أي: ليدوم على فجوره فيما يستقبله من زمان لا يبرح عنه ولا يتوب، هذا قول مجاهد رضي الله عنه. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: يقدّم الذنب ويؤخر التوبة، فيقول: سوف أتوب سوف أعمل حتى يأتيه الموت على أشرّ أحواله وأسوأ أعماله. وقال الضحاك رضي الله عنه: هو الأجل يقول: أعيش فأصيب من الدنيا كذا وكذا ولا يذكر الموت. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يكذب بما أمامه من البعث والحساب، وأصل الفجور الميل وسمي الكافر والفاسق فاجراً لميله عن الحق.
{يسأل} أي: سؤال استهزاء أو استبعاد {أيان} أي: أي وقت يكون {يوم القيامة}.
(13/262)
---
ولما كان الجواب يوم يكون كذا وكذا عدل عنه إلى ما سبب عن استبعاده لأنه أهول فقال تعالى {فإذا برق البصر} أي: شخص ووقف لما يرى مما كان يكذب به هذا على قراءة نافع بفتح الراء وأما على قراءة كسرها فالمعنى: تحير ودهش مما يرى وقيل: هما لغتان في التحير والدهشة.
{وخسف القمر} أي: أظلم وذهب ضوءه، وقد اشتهر أنّ الخسوف للقمر والكسوف للشمس. وقيل: يكونان فيهما، يقال: خسفت الشمس وكسفت، وخسف القمر وكسف. وقيل: الكسوف أوّله والخسوف آخره.(1/5000)
ولم تلحق علامة التأنيث في قوله تعالى {وجمع الشمس والقمر} لأنّ التأنيث مجازي، وقيل: لتغليب التذكير، وردّ لأنه لا يقال: قام هند وزيد عند الجمهور من العرب. وقال الكسائي: حمل على جمع النيران. وقال الفرّاء: لم يقل جمعت لأنّ المعنى: جمع بينهما قال الفرّاء والزجاج: جمع بينهما في ذهاب ضوئهما فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه. وقال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم: قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكوّرين مظلمين مقرّنين كأنهما ثوران عقيران في النار، وقال عطاء بن يسار رضي الله عنه: يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى، وقيل: يجمعان في نار جهنم لأنهما قد عبدا من دون الله تعالى ولا تكون النار عذاباً لهما، لأنهما جماد، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكفار وحسرتهم.
(13/263)
---
وقوله تعالى: {يقول الإنسان} أي: لشدّة روعه جرياً مع طبعه جواب إذا من قوله تعالى {فإذا برق البصر}. {يومئذ} أي: إذا كانت هذه الأشياء، وقوله تعالى: {أين المفرّ} منصوب المحل بالقول والمفرّ مصدر بمعنى الفرار. قال الماوردي: ويحتمل وجهين: أحدهما: أين المفرّ من الله تعالى استحياء منه. والثاني: أين المفرّ من جهنم حذراً منها. ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين: أحدهما: أن يكون من الكافر خاصة في عرصة القيامة دون المؤمن لثقة المؤمن ببشرى ربه تعالى. والثاني: أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها. وقيل: أبو جهل خاصة.(1/5001)
وقوله تعالى: {كلا} ردع عن طلب المفرّ {لا وزر} أي: لا ملجأ ولا حصن استعير من الجبل. قال السدّي: كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصنوا في الجبال، فقال الله تعالى لهم: لا وزر يعصمكم مني يومئذ واشتقاقه من الوزر وهو الثقل {إلى ربك} أي: المحسن إليك بأنواع الإحسان لا إلى شيء غيره {يومئذ} أي: إذ كانت هذه الأمور {المستقر} أي: استقرار الخلق كلهم ناطقهم وصامتهم ومكان قرارهم وزمانه إلى حكمه سبحانه ومشيئته ظاهراً وباطناً لا حكم لغيره بوجه من الوجوه في ظاهر ولا باطن كما هو في الدنيا. وقال ابن مسعود: المصير والمرجع، قال الله تعالى {إلى ربك الرجعى} (العلق: 8)
و {إليه المصير} (المائدة: 18)
وقال السدّي: المنتهى، نظيره {وإنّ إلى ربك المنتهى} (النجم: 42)
(13/264)
---
{ينبأ} أي: يخبر تخبيراً عظيماً {الإنسان يومئذ} أي: إذا كان الزلزال الأكبر {بما قدّم} قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهم: بما قدّم قبل موته من عمل صالح وسيء {وأخر} بعد موته من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها. وقال ابن عطية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بما قدّم من المعصية وأخر من الطاعة، وقال قتادة: بما قدم من طاعة الله وأخر من حق الله فضيعه. وقال مجاهد: بأوّل عمله وآخره. وقال عطاء: بما قدم في أوّل عمره وما أخر في آخر عمره. وقال يزيد بن أسلم: بما قدّم من أموال نفسه وما أخر خلفة للورثة، والأولى أن يقال ينبأ بجميع ذلك إذ لا منافاة بين هذه الأقوال.
{بل الإنسان} أي: كل واحد من هذا النوع {على نفسه} أي: خاصة {بصيرة} أي: حجة بينة على أعماله والهاء للمبالغة يعني: أنه في غاية المعرفة بأحوال نفسه، فيشهد عليه بعمله سمعه وبصره وجوارحه قال الله تعالى: {كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} (الإسراء: 14)
.k
قال البغوي: ويحتمل أن يكون معناه: بل للإنسان على نفسه يعني جوارحه، فحذف حرف الجر كقوله تعالى: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم} (البقرة: 33)(1/5002)
أي: لأولادكم، ويجوز أن يكون نعتاً لاسم مؤنث أي: بل الإنسان على نفسه عين بصيرة.
{ولو ألقى} أي: ذكر بغاية السرعة ذلك الإنسان من غير تلعثم دلالة على غاية الصدق والاهتمام والتملق. وقوله تعالى: {معاذيره} جمع معذرة على غير قياس قاله الجلال المحلي. أي: لو جاء بكل معذرة ما قبلت منه. وقال الزمخشريّ: المعاذير ليس بجمع معذرة، وإنما هو اسم جمع لها ونحوه المناكير في المنكر ا.ه. قال أبو حيان: وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع وإنما هو من أبنية جموع التكسير ا.ه. وقيل: معاذير جمع معذار وهو الستر، والمعنى: ولو أرخى ستوره والمعاذير الستور بلغة اليمن قاله الضحاك. وحكى الماورديّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: {ولو ألقى معاذيره} أي: ولو تجرّد من ثيابه.
(13/265)
---
ولما كان صلى الله عليه وسلم إذا لقن الوحي نازع جبريل عليه السلام القراءة ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ وخوفاً من أن ينفلت منه أمره الله تعالى بأن ينصت له ملقياً إليه بقلبه وسمعه حتى يقضي الله تعالى وحيه ثم يعقبه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه بقوله تعالى:
{لا تحرك به} أي: بالقرآن {لسانك} ما دام جبريل عليه السلام يقرؤه {لتعجل به} أي: لتأخذه على عجلة مخافة أن ينفلت منك، فإنّ هذه العجلة وإن كانت من الكمالات بالنسبة إليك وإلى إخوانك من الأنبياء عليهم السلام كما قال موسى عليه السلام: {وعجلت إليك ربّ لترضى} (طه: 84)
نقل صلى الله عليه وسلم من مقام كامل إلى أكمل منه.
ثم علل النهي عن العجلة بقوله تعالى: {إنّ علينا} أي: بما لنا من العظمة لا على أحد سوانا {جمعه} أي: في صدرك حتى تثبته وتحفظه {وقرآنه} أي: قراءتك إياه يعني جريانه على لسانك.
(13/266)
---(1/5003)
{فإذا قرأناه} عليك بقراءة جبريل عليه السلام {فاتبع} أي: بغاية جهدك بإلقاء سمعك وإحضار قلبك {قرآنه} أي: قراءته مجموعة على حسب ما أداه رسولنا وجمعناه لك في صدرك، وكرر تلاوته حتى يصير لك به ملكة عظيمة، ويصير لك خلقاً، فيكون قائدك إلى كل خير. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي كان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه، وكان يعرف منه فأنزل الله تعالى الآية التي في لا أقسم بيوم القيامة {لا تحرّك به لسانك}الآية، فكان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل عليه السلام أطرق. فإذا ذهب قرأه كما وعده الله تعالى» قال سعيد بن جبير: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فأنا أحركهما لك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما فأنزل الله عز وجل الآية.
{ثم إن علينا} أي: بما لنا من العظمة {بيانه} أي: بيان ألفاظه ومعانيه لك سواء أسمعته من جبريل عليه السلام على مثل صلصلة الجرس أم بكلام الناس المعتاد بالصوت والحروف، ولغيرك على لسانك وعلى ألسنة العلماء من أمّتك، والآية مشيرة إلى ترك مطلق العجلة؛ لأنه إذا نهى عنها في أعظم الأشياء وأهمها كان غيره بطريق الأولى، والمناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنّ تلك تضمنت الإعراض عن آيات الله تعالى، وهذه تضمنت المبادرة إليها بحفظها.
وقوله تعالى: {كلا} استفتاح بمعنى: ألا. وقال الزمخشري: ردع للنبيّ صلى الله عليه وسلم عن عادة العجلة، وقال جماعة من المفسرين: حقاً، والأوّل جرى عليه الجلال المحلي وهو أظهر. {بل يحبون} متجدّدة على تجدد الزمان {العاجلة} بدليل أنهم يقبلون غاية الإقبال عليها وحبها أوجب لهم ارتكاب ما يعلمون قبحه، فإنّ الآخرة والأولى ضرتان من تقرب من أحدهما لا بدّ من تباعده عن الأخرى، فإن حبك للشيء يعمي ويصم.
(13/267)
---(1/5004)
{ويذرون} أي: يتركون على أي وجه كان ولو أنه غير مستحسن {الآخرة} لأنهم يبغضونها لارتكابهم ما يضرّهم فيها وجمع الضمير وإن كان مبنى الخطاب مع الإنسان للمعنى. وقرأ {يحبون} و{يذرون} ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بياء الغيبة فيهما حملاً على لفظ الإنسان المذكور أوّلاً؛ لأنّ المراد به الجنس، لأنّ الإنسان بمعنى الناس والباقون بتاء الخطاب فيهما إما خطاباً لكفار قريش أي: تحبون يا كفار قريش العاجلة أي: الدار الدنيا والجاه فيها وتتركون الآخرة والعمل لها، وإما التفاتاً عن الإخبار عن الجنس المتقدّم والإقبال عليه بالخطاب.
ولما ذكر تعالى الآخرة التي أعرضوا عنها ذكر ما يكون فيها بياناً لجهلهم وسفههم وقلة عقولهم وترهيباً لمن أدبر عنها وترغيباً لمن أقبل عليها لطفاً بهم ورحمة لهم فقال تعالى: {وجوه} أي: من المحشورين وهم جميع الخلائق {يومئذ} أي: إذ تقوم الساعة {ناضرة} من النضرة بالضاد وهي النعمة والرفاهية أي: هي بهية مشرقة عليها أثر النعمة بحيث يدل ذلك على نعمة أصحابها.
{إلى ربها} أي: المحسن إليها خاصة باعتبار أن عد النظر إلى غيره كلا نظر {ناظرة} أي: دائماً هم محدقون أبصارهم لا غفلة لهم عن ذلك، فإذا رفع الحجاب عنهم أبصروه بأعينهم بدليل التعدّي بإلى، وذلك النظر جهرة من غير اكتتام ولا تضامّ ولا زحام كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهم، وأكثر المفسرين، وجميع أهل السنة، وروي عن النبيّ عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة من وجوه كثيرة بحيث اشتهر غاية الشهرة، وتكون الرؤية كما مثلت في الأحاديث كما يرى القمر ليلة البدر أي: كل من يريد رؤيته من بيته يراه مجلياً له، هذا وجه الشبه، لا أنه في جهة ولا في حالة لها شبيه تعالى الله الكريم عن التشبيه.
(13/268)
---(1/5005)
فمن تلك الأحاديث ما روي عن جرير بن عبد الله قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال صلى الله عليه وسلم إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها}» (طه: 130)
وفي كتاب النسائي عن وهب قال: «ينكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم شيئاً أحبّ إليهم من النظر ولا أقر لأعينهم».
وعن جابر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجلى ربنا عز وجل حتى ننظر إلى وجهه فيخرون له سجداً فيقول تعالى: ارفعوا رؤوسكم، فليس هذا يوم عبادة».
وقدم الجارّ الدال على الاختصاص إشارة إلى أنّ هذا النظر مباين للنظر إلى غيره، فلا يعد ذلك نظراً بالنسبة إليه وعبر بالوجوه عن أصحابها؛ لأنها أدل ما يكون على السرور، وليكون ذكرها أصرح في أنّ المراد بالنظر حقيقته.
روى مسلم في قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (يونس: 26)
كان ابن عمر يقول: أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم تلا هذه الآية.
وأنكر الرؤية المعتزلة، واحتجوا بقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} (الأنعام: 103)
ويقولون: النظر المقرون بإلى ليس اسماً للرؤية بل لمقدّمة الرؤية وهي تقليب الحدقة نحو المرئيّ التماساً لرؤيته ونظر العين بالنسبة إلى الرؤية كنظر القلب بالنسبة إلى المعرفة وكالإصغاء بالنسبة إلى السمع، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} (الأعراف: 198)
فأثبت النظر حال عدم الرؤية، فتكون الرؤية غاية النظر وأنّ النظر يحصل والرؤية غير حاصلة. قالوا: ويمكن أن يكون معنى قوله تعالى: {ناظرة} منتظرة كقولك أنا أنظر إليك في حاجتي.
(13/269)
---(1/5006)
وأجيب عن استدلالهم بقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} بأن لا تدركه بالإحاطة والجهة فلا يكون ذلك مانعاً للرؤية على هذا الوجه وعن بقية استدلالهم بما ذكروه بجوابين:
أحدهما: أن نقول: النظر هو الرؤية لقول موسى عليه السلام {أرني أنظر إليك} (الأعراف: 143)
فلو كان المراد تقليب الحدقة نحو المرئي لاقتضت الآية إثبات الجهة والمكان، ولأنه أخر النظر عن الإراءة فلا يكون تقليب الحدقة.
الجواب الثاني: سلمنا ما ذكرتموه من أنّ النظر تقليب الحدقة تعذر حمله على الحقيقة فيجب حمله على الرؤية إطلاقاً لاسم السبب على المسبب وهو أولى من حمله على الانتظار لعدم الملازمة؛ لأن تقليب الحدقة كالسبب للرؤية، ولا تعلق بينه وبين الانتظار.
وأمّا قولهم بحمله على الانتظار فأجيب عنه أيضاً بأن الذي هو بمعنى الانتظار في القرآن غير مقرون بإلى، كقوله تعالى: {انظرونا نقتبس من نوركم هل ينظرون إلا أن} (الحديد: 13)
والذي ندعيه أن النظر المقرون بإلى ليس إلا بمعنى الرؤية؛ لأنّ وروده بمعنى الرؤية ظاهرة فلا يكون بمعنى الانتظار دفعاً للاشتراك.
ولما ذكر تعالى أهل النعمة أتبعه أضدادهم من أهل النقمة فقال سبحانه وتعالى:
{ووجوه يومئذ} أي: في ذلك اليوم بعينه {باسرة} أي: شديدة العبوس والكلوح والتكره لما هي فيه من الغم كأنها قد غرقت فيه. وقال السدي: {باسرة} متغيرة.
(13/270)
---
{تظن} أي: يتوقع أربابها بما ترى من المخايل {أن يفعل بها} أي: بهم فإنه إذا أصيب الوجه الذي هو أشرف ما في الجملة كان ما عداه أولى {فاقرة} وهي الداهية العظيمة، قال أبو عبيدة: سميت بذلك لأنها تكسر فقار الظهر يقال: فقرته الفاقرة أي: كسرت فقار ظهره ومنه سمي الفقير لانكسار فقاره من القل. وقال قتادة: الفاقرة الشر، وقال السدي: الهلاك. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: دخول النار. وقال الكلبي: هي أن تحجب عن رؤية الربّ عز وجل.(1/5007)
وقوله تعالى: {كلا} ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري، وزاد الزمخشري كأنه قيل: ارتدعوا عن ذلك وتنبهوا إلى ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم وتنقلبون إلى الآجلة التي تبقوا فيها مخلدين {إذا بلغت} النفس {التراقي} وأضمر النفس وإن لم يجر لها ذكر؛ لأنّ الكلام الذي وقعت فيه يدل عليها كما قال حاتم:
*أماويّ ما يغني الثراء عن الفنى ** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر*
وتقول العرب: أرسلت، يريدون جاء المطر، ولا تكاد تسمعهم يذكرون السماء. والتراقي: جمع ترقوة وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال، ولكل إنسان ترقوتان. قال البقاعي: ولعله جمع المثنى إشارة إلى شدة انتشارها بغاية الجهد لما فيه من الكرب لاجتماعها من أقاصي البدن إلى هناك ا.ه. وهذا كناية عن الإشفاء على الموت ذكرهم صعوبة الموت وهو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي ودنا زهوقها.
{وقيل} أي: قال حاضر وصاحبها وهو المحتضر بعضهم لبعض {من راق} أي: أيكم يرقيه مما به ليحصل له الشفاء. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو من كلام ملائكة الموت، أي: أيكم يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، فالأول اسم فاعل من رقى يرقى بمعنى الرقية بالفتح في الماضي والكسر في المضارع. والثاني: الذي بمعنى الصعود بالكسر في الماضي والفتح في المضارع.
(13/271)
---(1/5008)
{وظن} أي: أيقن المحتضر لما لاح له من أنوار الآخرة، وقيل: القائل من راق من أهله {أنه} أي: الشأن العظيم الذي هو فيه {الفراق} لما كان أي: فيه من محبوب العاجلة الذي هو الفراق الأعظم الذي لا فراق مثله، ففي الخبر إن العبد ليعالج كرب الموت وسكراته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول: السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة، وسمي اليقين هنا بالظن لأنّ الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه، فإنه يطمع في الحياة لشدّة حبه لهذه الحياة العاجلة ولا ينقطع رجاؤه عنها، أو أنّ المراد الظن الغالب إذ لا يحصل يقين الموت مع رجاء الحياة. وقيل: سماه بالظن تهكماً قال الرازي: وهذه الآية تدل على أن الروح جوهر قائم بنفسه باق بعد موت البدن لأنه تعالى سمى الموت فراقاً، والفراق إنما يكون إذا كانت الروح باقية، فإنّ الفراق والوصال صفة والصفة تستدعي وجود الموصوف.
{والتفت الساق بالساق} أي: اجتمعت إحداهما بالأخرى إذ الالتفاف الاجتماع، قال تعالى: {جئنا بكم لفيفاً} (الإسراء: 104)
ومعنى الكلام اتصلت شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن وغيرهما. وقال الشعبي: التفت ساق الإنسان عند الموت من شدة الكرب. قال قتادة: أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب برجله على الأخرى، وقال سعيد بن المسيب: هما ساقا الإنسان إذا التفتا في الكفن. وقال زيد بن أسلم: التفت ساق الكفن بساق الميت. وقال الضحاك: الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه. وقال السدي: لا يخرج من كرب إلا جاءه أشد منه، وأول الأقوال كما قال النحاس: أحسنها، والعرب لا تذكر الساق إلا في الشدائد والمحن العظام، ومنه قولهم قامت الحرب على ساق، قال أهل المعاني: لأنّ الإنسان إذا دهمته شدة شمر لها عن ساقيه، فقيل للأمر الشديد: ساق. قال الجعدي:
*أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ** وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا*
(13/272)
---(1/5009)
ولما صور وقت تأسفه على الدنيا وإعراضه عنها ذكر غاية ذلك، فقال تعالى مفرداً النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخطاب إشارة إلى أنه لا يفهم هذا حق فهمه غيره {إلى ربك} أي: المحسن إليك بجميع ما أنت فيه {يومئذ} أي: إذ وقع هذا الأمر {المساق} أي: السوق إلى حكمه تعالى فقد انقطعت عنه أحكام الدنيا فإما أن تسوقه الملائكة إلى سعادة وإمّا إلى شقاوة.
والضمير في قوله تعالى: {فلا صدّق} راجع للإنسان المذكور في {أيحسب الإنسان} أي: فلا صدّق النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما أخبره به بما كان يعمل من الأعمال الخبيثة ولا في ماله بالإنفاق في وجوه الخير التي ندب إليها واجبة كانت أو مندوبة. وحذف المعمول لأنه أبلغ في التعميم.
{ولا صلى} أي: ما أمر به من فرض وغيره فلا تمسك بحبل الخالق ولا وصل حبل الخلائق، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لم يصدق بالرسالة ولا صلى، أي: دعا لربه عز وجلّ وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم وقال قتادة: فلا صدق بكتاب الله تعالى ولا صلى لله جل ذكره.
{ولكن} أي: فعل ضد ما أمر به بأن {كذب} أي: بما أتاه به النبيّ صلى الله عليه وسلم من قرآن وغيره {وتولى} أي: أعرض عنه وهذا الاستدراك واضح إذ لا يلزم من نفي التصديق والصلاة التكذيب والتولي. وقال القرطبي: معناه: كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان. وقيل: نزلت في أبي جهل.
{ثم ذهب} أي: هذا الإنسان أو أبو جهل {إلى أهله} غير متفكر في عاقبة ما فعل من التكذيب حالة كونه {يتمطى} أي: يتبختر افتخاراً بتكذيبه وإعراضه وعدم مبالاته بذلك وأصله يتمطط أي: يتمدد لأن المتبختر يمد خطاه، وإنما أبدلت الطاء الثانية ياء كراهة اجتماع الأمثال، وقيل: هو من المطا وهو الظهر لأنه يلويه تبختراً في مشيته.
وقوله تعالى: {أولى لك} فيه التفات من الغيبة والكلمة اسم فعل واللام للتبيين أي: وليك ما تكره {فأولى} أي: فهو أولى بك من غيرك.
(13/273)
---(1/5010)
وقوله تعالى: {ثم أولى لك فأولى} تأكيد وقيل: هذه الكلمة تقولها العرب لمن قاربه المكروه، وأصلها من الولي وهو القرب. قال الله تعالى: {قاتلوا الذين يلونكم} (التوبة: 123)
وقال قتادة: ذكر لنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية «أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء، وقال له: {أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى} فقال أبو جهل: أتوعدني يا محمد فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً، وإني والله لأعز من مشى بين جبليها». فلما كان يوم بدر صرعه الله شر مصرع وقتله أسوأ قتلة، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لكل أمة فرعون، وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل».
{أيحسب} أي: يجوّز لقلة عقله {الإنسان} أي: الذي هو عبد مربوب ضعيف عاجز محتاج بما يرى من نفسه وأبناء جنسه {أن يترك} أي: يكون تركه بالكلية {سدى} أي: هملاً لاغياً لا يكلف ولا يجازى ولا يعرض على الملك الأعظم الذي خلقه فيسأله عن شكره فيما أسدى إليه، فإنّ ذلك مناف للحكمة فإنها تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن المساوئ والجزاء على كل منهما، وأكثر الظالمين والمظلومين يموتون من غير جزاء فاقتضت الحكمة أنه لا بدّ من البعث للجزاء.
{ألم يك} أي: الإنسان {نطفة} أي: شيئاً يسيراً {من منيَ} أي: ماء من صلب الرجل وترائب المرأة {يمنى} أي: تصب في الرحم سبب الله تعالى للإنسان المعالجة في إخراجها بما ركب فيه من الشهوة، وجعل له من الزوج التي يسرها لقضاء وطره حتى إنّ وقت صبها في الرحم تصب منه بغير اختياره حتى كأنه لا فعل له فيها أصلاً.
(13/274)
---(1/5011)
فإن قيل: ما فائدة {يمنى} بعد قوله تعالى: {من منيَ}؟ أجيب: بأن فيه إشارة إلى حقارة حاله كأنه قيل: إنه مخلوق من المني الذي يجري على مجرى النجاسة فلا يليق بمثل هذا أن يتمرد عن طاعة الله تعالى إلا أنه عبر عن هذا المعنى على سبيل الرمز كما في قوله تعالى في عيسى عليه السلام وأمه مريم {كانا يأكلان الطعام} (المائدة: 75)
والمراد منه قضاء الحاجة.
{ثم كان} أي: كوناً محكماً {علقة} أي: دماً أحمر غليظاً شديد الحمرة والغلظ {فخلق} أي: قدر سبحانه عقب ذلك لحمه وعظامه وعصبه وغير ذلك من جواهره وأعراضه {فسوى} أي: عدّل من ذلك خلقاً آخر غاية التعديل شخصاً مستقلاً.
{فجعل} أي: بسبب النطفة {منه} أي: من المنيّ الذي صار علقة، أي: قطعة دم ثم مضغة أي: قطعة لحم {الزوجين} أي: النوعين {الذكر والأنثى} يجتمعان تارة وينفرد كل منهما عن الآخر تارة. قال القرطبيّ: وقد احتج بهذه الآية من رأى إسقاط الخنثى، وأجيب بأن هذه الآية وقرينتها خرجت مخرج الغالب أو أنه في نفس الأمر ذكر أو أنثى.
{أليس ذلك} أي: الخالق المسوي الإله الأعظم الذي قدر على تمييز ما يصلح من ذلك للذكر وما يصلح منه للأنثى {بقادر على أن يحيي الموتى} أي: أن يعيد هذه الأجسام كهيئتها للبعث بعد البلى. «روي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: سبحانك اللهم بلى» رواه أبو داود والحاكم، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من قرأ سبح اسم ربك الأعلى إماماً كان أو غيره فليقل سبحان ربي الأعلى ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة إلى آخرها فليقل سبحانك اللهم بلى إماماً كان أو غيره. وروى البغوي بسنده من طريق أبي داود عن أعرابيَ عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها {أليس الله بأحكم الحاكمين} (التين: 8)
(13/275)
---(1/5012)
فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة فانتهى إلى {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} فليقل: بلى، ومن قرأ والمرسلات فبلغ {فبأي حديث بعده يؤمنون} (المرسلات: 50)
فليقل: آمنا بالله». وروي أنّ رجلاً كان يصلي فوق بيته فكان إذا قرأ {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} قال: سبحانك اللهم بلى، فسألوه عن ذلك فقال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة القيامة شهدت له أنا وجبريل يوم القيامة أن كان مؤمناً» حديث موضوع.
سورة الإنسان
وتسمى هل أتى والأمشاج والدهر مكية أو مدينة وهي إحدى وثلاثون آية، ومائتان وأربعون كلمة، وألف وأربعة وخمسون حرفاً
واختلف فيها هل هي مكية أو مدينة فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومقاتل والكلبي: مكية وجرى عليه البيضاوي والزمخشري. وقال الجمهور: مدنية، وقال الجلال المحلي: مكية أومدنية ولم يجزم بشيء. وقال الحسن وعكرمة: هي مدنية إلا آية وهي قوله تعالى: {فاصبر لحكم ربك ولاتطع منهم آثماً أو كفوراً} (الإنسان: 24)
وقيل: فيها مكّي من قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً} (الإنسان: 23)
إلى آخر السورة وما تقدمه مدنيّ.
{بسم الله} الذي له الأسماء الحسنى {الرحمن} الذي عم بنعمه الذكر والأنثى. {الرحيم} الذي خص منهم من شاء لمقام الأسنى.
ولما تم الاستدلال على البعث والقدرة عليه تلاه بهذا الاستفهام وهو قوله تعالى:
{هل أتى} قال الزمخشري: بمعنى قد في الاستفهام خاصة والأصل أهل بدليل قول الشاعر:
(13/276)
---
*سائل فوارس يربوع بسدتنا ** أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم*(1/5013)
فالمعنى: أقد أتى على التقرير والتقريب جميعاً أي: أتى {على الإنسان} قبل زمان قريب {حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} أي: كان شيئاً منسياً غير مذكور نطفة في الأصلاب اه. فقوله على التقرير يعني المفهوم من الاستفهام، وقوله: والتقريب يعني المفهوم من قد التي وقع موقعها هل، ومعنى قوله في الاستفهام خاصة أن هل لا تكون بمعنى قد إلا ومعها استفهام لفظاً كالبيت المتقدم أو تقديراً كالآية الكريمة، ولو قلت: هل جاء زيد بمعنى قد جاء من غير استفهام لم يجز. وغيره جعلها بمعنى قد من غير هذا القيد، وجرى عليه الجلال المحلي. واعترض على الزمخشري بأنه لم يذكر غير كونها بمعنى قد. وبقي قيد آخر وهو أن يقول في الجمل الفعلية لأنها متى دخلت على جملة اسمية استحال كونها بمعنى قد؛ لأن قد مختصة بالأفعال وأجيب عنه بأن هذا لا يحتاج إليه؛ لأنه تقرّر أن قد لا تباشر الأسماء.
واختلف في المراد من الإنسان، فقال قتادة وعكرمة والشعبيّ: هو آدم عليه السلام مرّت عليه أربعون سنة قبل أن تنفخ فيه الروح وهو ملقى بين مكة والطائف. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية الضحاك أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ثم من حمأ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة ثم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ثم نفخ فيه الروح. وحكى الماوردي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ الحين المذكور هنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره. وقال الحسن: خلق الله كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دوابّ البرّ والبحر في الأيام الست التي خلق الله تعالى فيها السموات والأرض وآخرها خلق آدم عليه السلام فهو قوله تعالى: {لم يكن شيئاً مذكوراً}.
(13/277)
---(1/5014)
روي أنّ أبا بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية قال: ليتها تمت فلا نبتلى أي: ليت هذه المدّة التي أتت على آدم عليه السلام {لم يكن شيئاً مذكوراً} تمت على ذلك فلا يلد ولا تبتلى أولاده. وسمع عمر رجلاً يقرأ {لم يكن شيئاً مذكوراً} قال عمر: ليتها تمت يقول: ليته بقي ما كان، هذا وهما ضجيعاه صلى الله عليه وسلم ولكن بقدر القرب يكون الخوف.
فإن قيل: إنّ الطين والصلصال والحمأ المسنون قبل نفخ الروح فيه ما كان إنساناً والآية تقتضي أنه مضى على الإنسان حال كونه إنساناً حين من الدهر مع أنه في ذلك الحين ما كان شيئاً مذكوراً؟ أجيب: بأن الطين والصلصال إذا كان مصوراً بصورة الإنسان ويكون محكوماً عليه بأنه سينفخ فيه الروح ويصير إنساناً صح تسميته بأنه إنسان.
روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {لم يكن شيئاً مذكوراً} لا في السماء ولا في الأرض بل كان جسداً مصوّراً تراباً وطيناً لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به، ثم نفخ الروح فصار مذكوراً. قال ابن سلام: لم يكن شيئاً لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ولم يخلق بعده حيواناً.
وقال الزمخشريّ وتبعه جماعة من المفسرين: إنّ المراد بالإنسان جنس بني آدم بدليل قوله تعالى: {إنا خلقنا الإنسان} أي: بعد خلق آدم عليه السلام {من نطفة} أي: مادّة هي شيء يسير جداً من الرجل والمرأة وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة، كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه:
*ما لي أراك تكرهين الجنة ** هل أنت إلا نطفة في شنه*
(13/278)
---(1/5015)
وعلى هذا فالمراد بالحين المدة التي هو فيها في بطن أمه {لم يكن شيئاً مذكوراً} إذ كان علقة ومضغة؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له وقوله تعالى: {أمشاج} أي: أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة المختلطين الممتزجين نعت لنطفة ووقع الجمع نعتاً لمفرد لأنه في معنى الجمع كقوله {رفرف خضر} أو جعل كل جزء من النطفة نطفة فوصفت بالجمع، وقال الزمخشريّ: {نطفة أمشاج} كبرمة أعشار وبرد أكياش، وهي ألفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد، ويقال أيضاً: نطفة مشج قال الشماخ:
*طوت أحشاء مرتجة لوقت ** على مشج سلالته مهين*
ولا يصح أمشاج أن يكون تكسيراً له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما اه. فقد منع أن يكون أمشاجاً جمع مشج بالكسر. قال أبو حيان: وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أنّ أفعالاً لا يكون مفرداً، وأجاب بعضهم بأن الزمخشري إنما قال يوصف به المفرد ولم يجعل أفعالاً مفرداً فكأنه جعل كل قطعة من البرمة برمة وكل قطعة من البرد برداً فوصفهما بالجمع، والمعنى: من نطفة قد امتزج فيها الماءان وكل منهما مختلف الأجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام والخواص يجمع من الأخلاط وهي العناصر الأربعة: ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا كان الشبه له.
(13/279)
---(1/5016)
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد فما كان من عصب وعظم وقوّة فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة، قال القرطبيّ: وقد روي هذا مرفوعاً ذكره البزار وعن قتادة: أمشاج ألوان وأطوار، يريد أنها تكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم خلقاً آخر. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: هي عروق النطفة. وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وصفراء، والغرض من هذا التنبيه على أنّ الإنسان محدَث فلا بد له من محدث قادر على تصويره وقد صوّره على صور مختلفة فمنها صغير وكبير وطويل وقصير ومستدير وعريض.
ولما كان الإنسان محتاجاً إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه جعل بين العظام مفاصل ثم أوصلها بأوتار وعروق ولحم، ودوّر الرأس وشق في جانبيه السمع، وفي مقدمه البصر والأنف والفم، وشق في البدن سائر المنافذ، ثم مد اليدين والرجلين وقسم رؤوسها بالأصابع وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة، فسبحان من خلق تلك الأشياء من نطفة سخيفة {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} (القيامة: 40)
وقوله تعالى: {نبتليه} يجوز فيه وجهان: أحدهما: أنه حال من فاعل خلقنا أي: خلقناه حال كوننا مبتلين له، والثاني: أنه حال من الإنسان وصح ذلك لأنّ في الجملة ضميرين كل منهما يعود على ذي الحال، ثم هذه الحال يجوز أن تكون مقارنة إن كان المعنى: نبتليه نصرّفه في بطن أمّه نطفة ثم علقة، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأن تكون مقدرة إن كان المعنى: نبتليه نختبره بالتكليف لأنه وقت خلقه غير مكلف، وفيما يختبره به وجهان: أحدهما: قال الكلبي: تختبره بالخير والشرّ. والثاني: قال الحسن: نختبر شكره في السرّاء وصبره في الضرّاء. وقيل: نبتليه نكلفه بالعمل بعد الخلق. قال مقاتل رضي الله عنه: وقيل: نكلفه ليكون مأموراً بالطاعة ومنهياً عن المعاصي.
(13/280)
---(1/5017)
{فجعلناه} أي: بما لنا من العظمة بسبب ذلك {سميعاً بصيراً} أي: عظيم السمع والبصر والبصيرة ليتمكن من مشاهدة الدلائل ببصره وسماع الآيات بسمعه ومعرفة الحجج ببصيرته، فيصح تكليفه وابتلاؤه فقدّم العلة الغائية لأنها متقدّمة في الاستحضار على التابع لها المصحح لورودها، وقدّم السمع لأنه أنفع في المخاطبات، ولأنّ الآيات المسموعة أبين من الآيات المرئية، وخصهما بالذكر لأنهما أنفع الحواس، ولأنّ البصر يفهم البصيرة وهي تتضمن الجميع، وقال بعضهم: في الكلام تقديم وتأخير، والأصل إنا جعلناه سميعاً بصيراً نبتليه، أي: جعلنا له ذلك للابتلاء. وقيل: المراد بالسميع المطيع كقولك سمعاً وطاعة وبالبصير العالم يقال: لفلان بصر في هذا الأمر.
{إنا} أي: بما لنا من العظمة {هديناه السبيل} أي: بينا له وعرّفناه طريق الهدى والضلال والخير والشرّ ببعثة الرسل، وقال مجاهد رضي الله عنه: بينا له السبيل إلى السعادة والشقاوة. وقال السدّي رضي الله عنه: السبيل هنا خروجه من الرحم. وقيل: منافعه ومضارّه التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله. قال الرازي: والآية تدل على أنّ العقل متأخر عن الحواس. قال: وهو كذلك.
وقوله تعالى: {إمّا شاكراً} أي: لإنعام ربه عليه {وإمّا كفوراً} أي: بليغ الكفر بالإعراض والتكذيب نصب على الحال وفيه وجهان: أحدهما: أنه حال من مفعول هديناه أي: هديناه مبيناً له كلتا حالتيه، والثاني: أنه حال من السبيل على المجاز. قال الزمخشري: ويجوز أن يكونا حالين من السبيل أي: عرّفناه السبيل إمّا سبيلاً شاكراً وإمّا سبيلاً كفوراً كقوله تعالى: {وهديناه النجدين} (البلد: 10)
(13/281)
---(1/5018)
فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً، وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» الحديث، وعن جابر رضي الله عنه: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه إمّا شاكراً وإمّا كفوراً».
ولما قسمهم إلى قسمين ذكر جزاء كل فريق فقال تعالى:
{إنا} أي: على ما لنا من العظمة {أعتدنا} أي: هيأنا وأحضرنا بشدّة وغلظة {للكافرين} أي: العريقين في الكفر خاصة وقدم الأسهل في العذاب فالأسهل فقال تعالى: {سلاسلا} جمع سلسلة أي: يقادون ويوثقون بها {وأغلالاً} أي: في أعناقهم تشد فيها السلاسل فتجمع أيديهم إلى أعناقهم {وسعيراً} أي: ناراً حامية جداً شديدة الاتقاد.
(13/282)
---
وقرأ نافع وهشام وشعبة والكسائي سلاسلاً وصلاً بالتنوين والباقون بغير تنوين وأما الوقف على الثانية فوقف عليها بغير ألف قنبل وحمزة، ووقف البزي وابن ذكوان وحفص بغير ألف وبالألف، ووقف الباقون بالألف ولا وقف على الأولى والرسم بالألف. أمّا من نوّن سلاسل فوجه بأوجه منها أنه قصد بذلك التناسب لأنّ ما قبله وما بعده منوّن منصوب. ومنها أن الكسائي وغيره من أهل الكوفة حكوا عن بعض العرب أنهم يصرفون جميع ما لا ينصرف إلا أفضل منك. وقال الأخفش: سمعنا من العرب من يصرف كل ما لا ينصرف لأنّ الأصل في الأسماء الصرف وترك الصرف لعارض فيها. وروي عن بعضهم أنه يقول: رأيت عمراً بالألف يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأيضاً هذا الجمع قد جمع وإن كان قليلاً، قالوا صواحب وصواحبات. وفي الحديث: «إنكن صواحبات يوسف» ومنها أنه مرسوم في الإمام أي: مصحف الحجاز والكوفة بالألف، رواه أبو عبيدة ورواه قالون عن نافع، وروى بعضهم ذلك عن مصاحف البصرة أيضاً.(1/5019)
وقال الزمخشري: فيه وجهان: أحدهما: أن يكون هذا التنوين بدلاً من حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف، والثاني: أن يكون صاحب هذه القراءة ممن ضرى برواية الشعر ومرّن لسانه على صرف غير المنصرف ا.ه. قال بعض المفسرين: وفي هذه العبارة فظاظة وغلظة لا سيما على مشايخ الإسلام وأئمة العلماء الأعلام، وأما من لم ينوّنه فوجهه ظاهر لأنه على صيغة منتهى الجموع وقولهم: قد جمع نحو صواحبات لا يقدح لأنّ المحذور جمع التكسير، وهذا جمع تصحيح، وأما من لم يقف بالألف فواضح.
(13/283)
---
ولما أوجز في جزاء الكافر أتبعه جزاء الشاكر وأطنب تأكيداً للترتيب فقال تعالى: {إنّ الأبرار} جمع برّ كأرباب جمع رب أو بار كأشهاد جمع شاهد، وفي الصحاح وجمع البار البررة وهم الصادقون في أيمانهم المطيعون لربهم الذين سمت همتهم عن المستحقرات فظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة، وروى ابن عمر رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما سماهم الله تعالى الأبرار؛ لأنهم برّوا الآباء والأبناء كما أن لوالديك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حق». وقال الحسن رضي الله عنه: البرّ الذي لا يؤذي الذرّ. وقال قتادة رضي الله عنه: الأبرار الذين يؤدّون حق الله ويوفون بالنذر. وفي الحديث «الأبرار الذين لا يؤذون أحداً».
{يشربون من كأس} هو إناء شرب الخمر وهي فيه والمراد من خمر تسمية للحالّ باسم المحل ومن للتبعيض {كان مزاجها} أي: ما تمزج به {كافوراً} لبرده وعذوبته وطيب عرفه، وذكر فعل الكون يدل على أنّ له شأناً في المزج عظيماً يكون فيه كأنه من نفس الجبلة لا كما يعهد، والكافور نبت معروف وكان اشتقاقه من الكفر وهو الستر لأنه يغطي الأشياء برائحته والكافور أيضاً كمام الشجر الذي هو ثمرتها، والكافر البحر، والكافر الليل، والكافر الساتر لنعم الله تعالى، والكافر الزارع لتوريته الحب في الأرض، قال الشاعر:
*وكافر مات على كفره ** وجنة الفردوس للكافر*(1/5020)
والكفارة تغطية الإثم في اليمين الفاجرة والنذور الكاذبة بالمغفرة، والكافور: ماء جوف الشجر مكفور فيغرزونه بالحديد فيخرج إلى ظاهر الشجر فيضربه الهواء فيجمد وينعقد كالصمغ الجامد على الأشجار.
فإن قيل: مزج الكافور بالمشروب لا يكون لذيذاً فما السبب في ذكره؟ أجيب: بأوجه:
أحدها: قال ابن عباس رضي الله عنهما: الكافور اسم عين في الجنة يقال لها عين الكافور، أي: يمازجها ماء هذه العين التي تسمى كافوراً في بياض الكافور ورائحته وبرده ولكن لا يكون فيه طعمه ولا مضرّته.
(13/284)
---
ثانيها: أنّ رائحة الكافور عرض، والعرض لا يكون إلا في جسم فخلق الله تعالى تلك الرائحة في جرم ذلك الشراب، فسمي ذلك الجسم كافوراً وإن كان طعمه طيباً فيكون الكافور ريحها لا طعمها.
ثالثها: أنّ الله تعالى يخلق الكافور في الجنة مع طعم طيب لذيذ ويسلب عنه ما فيه من المضرّة، ثم إنه تعالى يمزجه بذلك الشراب كما أنه تعالى يسلب عن جميع المأكولات والمشروبات ما معها في الدنيا من المضارّ وقال سعيد عن قتادة رضي الله عنهم: يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك. وقيل: يخلق فيها رائحة الكافور وبياضه فكأنها مزجت بالكافور.
وقوله تعالى: {عيناً} في نصبه أوجه: أحدها: أنه بدل من {كافوراً} لأنّ ماءها في بياض الكافور وفي رائحته وبرده واقتصر على هذا الجلال المحلي.
الثاني: أنه بدل من محل {من كأس} قاله مكي ولم يقدّر حذف مضاف، وقدّر الزمخشري على هذا الوجه حذف مضاف، قال: كأنه قيل: يشربون خمراً خمر عين. الثالث: أنه نصب على الاختصاص قاله الزمخشري. الرابع: أنه بإضمار أعني قاله القرطبي، وقيل: غير ذلك.
{يشرب بها} قال الجلال المحلي: منها. وقال البقاعي: أي: بمزاجها. وقال الزمخشري: بها الخمر، قال: كما تقول شربت الماء بالعسل والأوّل أوضح. {عباد الله} أي: أولياؤه.(1/5021)
فإن قيل: الكفار عباد الله وهم لا يشربون منها بالاتفاق؟ أجيب: بأنّ لفظ عباد الله مختص بأهل الإيمان ولكن يشكل بقوله تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} (الزمر: 7)
فإنه يصير تقدير الآية ولا يرضى لعبادة المؤمنين الكفر مع أنه سبحانه لا يرضى الكفر للكافر ولا لغيره، وقد يجاب بأنّ هذا أكثري لا كلي، أو يقال: حيث أضيف العباد أو العبد إلى اسم الله الظاهر سواء كان بلفظ الجلالة أم لا فالمراد به المؤمن، وإن أضيف إلى ضميره تعالى فيكون بحسب المقام، فتارة يختص بالمؤمن كقوله تعالى: {إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان} (الحجر: 42)
(13/285)
---
وتارة يعمّ كقوله تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} وقوله تعالى: {نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم} (الحجر: 49)
{يفجرونها} أي: يجرونها حيث شاؤوا من منازلهم وإن علت {تفجيراً} سهلاً لا يمتنع عليهم.
{س76ش7/ش13 يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ? مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ? مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَ شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَـ?ـاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَالِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّـ?ـاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَ?ـاهُم بِمَا صَبَرُوا? جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُّتَّكِـ?ِينَ فِيهَا عَلَى ا?رَآ?ـ?ِكِ? يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَ زَمْهَرِيرًا }(1/5022)
ولما ذكر جزاءهم ذكر وصفهم الذي يستحقون عليه ذلك بقوله تعالى: {يوفون بالنذر} وهذا يجوز أن يكون مستأنفاً ويجوز أن يكون خبراً لكان مضمرة. قال الفراء: التقدير: كانوا يوفون بالنذر في الدنيا وكانوا يخافون. وقال الزمخشري: يوفون جواب من عسى يقول: ما لهم يرزقون ذلك. قال أبو حيان: واستعمل عسى صلة لمن وهو لا يجوز، وأتى بالمضارع بعد عسى غير مقرون بأن وهو قليل أو في الشعر، والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأنّ من وفّى بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله تعالى كان بما أوجبه الله تعالى عليه أوفى، وقال الكلبي:
{يوفون بالنذر} أي: يتممون العهود لقوله تعالى: {وأفوا بعهد الله} (النمل: 91)
{أوفوا بالعقود} (المائدة: 1)
(13/286)
---
أمروا بالوفاء بها لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان. قال القرطبي: والنذر حقيقة ما أوجبه المكلف على نفسه من شيء يفعله، وإن شئت قلت في حدّه: هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه».(1/5023)
ولما دل وفاؤهم على سلامة طباعهم قال تعالى عاطفاً دلالة على جمعهم للأمرين المتعاطفين، فهم يفعلون الوفاء لا لأجل شيءٍ بل لكرم الطبع. {ويخافون} أي: مع فعلهم للواجبات {يوماً} قال ابن عبد السلام: شرّ يوم أو أهوال يوم {كان} أي: كوناً هو في جبلته {شرّه} أي: ما فيه من الشدائد {مستطيراً} أي: فاشياً منتشراً غاية الانتشار من استطار الحريق والفجر وهو أبلغ من طار. وقال قتادة رضي الله عنه: كان شرّه فاشياً في السموات فانشقت وتناثرت الكواكب وكوّرت الشمس والقمر وفزعت الملائكة ونسفت الجبال وغارت المياه وتكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء، وفي ذلك إشعار بحسن عقيدتهم وإحسانهم واجتنابهم عن المعاصي فإن الخوف أدل دليل على عمارة الباطن، قالوا: ما فارق الخوف قلباً إلا خرب، ومن خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل.
فإن قيل: لم قال تعالى: {كان شرّه} ولم يقل سيكون؟ أجيب: بأنه كقوله تعالى: {أتى أمر الله} (النحل: 1)
فبما قيل في ذاك يقال هنا.
{ويطعمون الطعام} أي: على حسب ما يتيسر لهم من عال ودون، وقوله تعالى: {على حبه} حال إما من الطعام أي: كائنين على حبهم إياه فهو في غاية المكنة منهم والاستعلاء على قلوبهم لقلته وشهوتهم له وحاجتهم إليه، كما قال تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} (آل عمران: 92)
(13/287)
---
ليفهم أنهم للفضل أشدّ بذلاً، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حق الصحابة رضي الله عنهم: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» لقلة الموجود إذ ذاك وكثرته بعد، وإما من الفاعل والضمير في حبه لله أي: على حب الله وعلى التقديرين فهو مصدر مضاف للمفعول. وقال الفضيل بن عياض: على حب إطعام الطعام.(1/5024)
{مسكيناً} أي: محتاجاً احتياجاً يسيراً فصاحب الاحتياج الكثير أولى {ويتيماً} أي: صغيراً لا أب له {وأسيراً} أي: في أيدي الكفار. وخص هؤلاء بالذكر لأنّ المسكين عاجز عن الاكتساب بنفسه عما يكفيه، واليتيم مات من يكتسب له وبقي عاجزاً عن الكسب لصغره، والأسير لا يتمكن لنفسه نصراً ولا حيلة.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير رضي الله عنهم: الأسير المحبوس فيدخل في ذلك المملوك والمسجون والكافر الذي في أيدي المسلمين، وقد نقل في غزوة بدر أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان يؤثر أسيره على نفسه بالخبز، وكان الخبز إذ ذاك عزيزاً حتى كان ذلك الأسير يعجب من مكارمهم حتى كان ذلك مما دعاه إلى الإسلام، وذلك لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما دفعهم إليهم قال: «استوصوا بهم خيراً». وقيل: الأسير المملوك، وقيل: المرأة لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «اتقوا الله في النساء فإنهنّ عندكم عوان» أي: أسرى.
وقوله تعالى: {إنما نطعمكم} على إضمار القول أي: يقولون بلسان المقال أو الحال: إنما نطعمكم أيها المحتاجون {لوجه الله} أي: لذات الملك الذي استجمع الجلال والإكرام لكونه أمرنا بذلك، وعبر بالوجه لأنّ الوجه يستحى منه ويرجى ويخشى عند رؤيته {لا نريد منكم} لأجل ذلك {جزاء} أي: لنا من أعراض الدنيا {ولا شكوراً} أي: لشي من قول ولا فعل، روي أنّ عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل المبعوث ما قالوا، فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصاً عند الله تعالى.
(13/288)
---(1/5025)
ثم عللوا قولهم هذا على وجه التأكيد بقولهم {إنا نخاف من ربنا} أي: الخالق لنا المحسن إلينا {يوماً} أي: أهوال يوم هو في غاية العظمة وبينوا عظمته بقولهم {عبوساً} قال ابن عباس رضي الله عنهما: ووصف اليوم بالعبوس مجاز على طريقين أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء كقولك: نهارك صائم روي أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران، وأن يشبه في شدّته وضرره بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل.
{قمطريراً} قال ابن عباس رضي الله عنهما: طويلاً. وقال مجاهد وقتادة رضي الله عنهم: القمطرير الذي يقبض الوجوه والجباه بالتعبس. وقال الكلبي: العبوس الذي لا انبساط فيه والقمطرير الشديد وقال الأخفش: القمطرير أشدّ ما يكون من الأيام وأطوله في البلاد يقال يوم قمطرير وقماطير إذا كان شديداً كريهاً.
ولما كان فعلهم هذا خالصاً لله تعالى سبب عنه جزاءهم فقال تعالى: {فوقاهم الله} أي: الملك الأعظم بسبب خوفهم {شر ذلك اليوم} أي: العظيم ولا بدّ لهم من نعيم ظاهر وباطن ومسكن يقيمون فيه وملبس وقد أشار إلى الأوّل بقوله تعالى: {ولقاهم} أي: أعطاهم {نضرة} أي: حسناً دائماً في وجوههم، وأشار إلى الثاني بقوله تعالى: {وسروراً} أي: في قلوبهم دائماً في مقابلة خوفهم في الدنيا.
(13/289)
---(1/5026)
وأشار إلى الثالث بقوله تعالى: {وجزاهم بما صبروا} أي: بسبب ما أوجدوا من الصبر على العبادة من لزوم الطاعة واجتناب المعصية ومنع أنفسهم الشهوات وبذل المحبوبات {جنة} أي: ادخلوا بستاناً جامعاً يأكلون منه ما يشتهون جزاء على ما كانوا يطعمون وإن كان غيرهم يشاركهم في ذلك دونهم في الجزاء وأشار إلى الرابع بقوله تعالى: {وحريراً} أي: ألبسوه أي: هو في غاية العظمة وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري عن ابن عباس أنّ الحسن والحسين رضي الله عنهما مرضا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما صوم ثلاثة أيام إن برئا فشفيا وما معهما شيء، فاستقرض عليّ من شمعون اليهودي الخيبري ثلاثة آصع من شعير وطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياماً، فلما أمسوا وضعوا الطعام بين أيديهم فوقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك زاد في الكشاف فلما أصبحوا أخذ عليّ رضي الله تعالى عنه بيد الحسن والحسين فأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبريل عليه السلام وقال:خذها يا محمد ـ أي: السورة ـ هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة حديث موضوع.
(13/290)
---(1/5027)
ثم بين حالهم فيها بقوله تعالى {متكئين فيها} أي: الجنة. واختلفوا في إعراب متكئين، فقال الجلال المحلي: حال من مرفوع ادخلوها المقدر. وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون حالاً من المفعول في جزاهم وأن يكون صفة، واعترض عليه في كونه صفة بأنه لا يجوز عند البصريين لأنه كان يلزم الضمير، فيقال: متكئين هم فيها لجريان الصفة على غير من هي له وقيل: إنه من فاعل صبروا، واعترض أنّ الصبر كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة، وأجيب بأنه يصح أن يكون حالاً مقدرة لأنّ مآلهم بسبب صبرهم إلى هذه الحالة.
ثم أشار إلى زيادة راحتهم بقوله تعالى: {على الأرائك} أي: السرر في الحجال ولا تكون أريكة إلا مع وجود الحجلة وقيل: الأرائك الفرش على السرر. وقوله تعالى: {لا يرون فيها} أي: الجنة حال ثانية على الخلاف المتقدم في الأولى، ومن جوّز أن تكون الأولى صفة جوّزه في الثانية. وقيل: إنها حال من الضمير المرفوع المستكن في متكئين فتكون حالاً متداخلة. {شمساً} أي: حرًّا {ولا} يرون فيها {زمهريراً} أي: برداً شديداً فالآية من الاحتباك دل نفي الشمس أوّلاً على نفي القمر ودل نفي الزمهرير الذي هو سبب البرد ثانياً على نفي الحرّ الذي سببه الشمس، فأفاد هذا أنّ الجنة غنية عن النيرين، لأنها نيرة بذاتها وأهلها غير محتاجين إلى معرفة زمان إذ لا تكليف فيها بوجه وأنها ظليلة معتدلة دائماً بخلاف الدنيا، فإنّ فيها الحاجة إلى ذلك، والحرّ والبرد فيها من فيح جهنم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اشتكت النار إلى ربها قالت: يا رب أكل بعضي بعضاً فجعل لها نفسين نفساً في الشتاء ونفساً في الصيف فشدة ما تجدونه من البرد من زمهريرها وشدة ما تجدونه من الحرّ من سمومها» وقيل: الزمهرير القمر بلغة طيء، وأنشدوا:
*وليلة ظلامها قد اعتكر ** قطعتها والزمهرير ما زهر*
ويروى ما ظهر.
(13/291)
---(1/5028)
{ودانية} أي: قريبة مع الارتفاع {عليهم ظلالها} أي: شجرها من غير أن يحصل منها ما يزيل الاعتدال. واختلف في نصب دانية، فقال البغوي: عطف على متكئين. وقال الجلال المحلي: عطف على محل لا يرون وذكره البغوي بعد الأوّل بصيغة قيل، قال البيضاوي: أو عطف على جنة أي: وجنة أخرى دانية لأنهم وعدوا جنتين لقوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمن: 46)
. فإن قيل: إن الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس، والجنة لا شمس فيها فكيف يحصل الظل؟ أجيب: بأنّ أشجار الجنة تكون بحيث لو كان هناك شمس لكانت تلك الأشجار مظلة منها، وإن كان لا شمس ولا قمر كما أن أمشاطهم الذهب والفضة وإن كان لا وسخ ولا شعث.
{وذللت قطوفها} جمع قطف بالكسر وهو العنقود واسم للثمار المقطوفة أي: المجنية {تذليلاً} أي: سهل تناولها تسهيلاً عظيماً لا يردّ اليد عنها بعد ولا شوك لكل من يريد أخذها على أي حالة كانت من اتكاء وغيره، فإن كانوا قعوداً أو مضطجعين تدلت إليهم، وإن كانوا قياماً وكانت على الأرض ارتفعت إليهم، وقال البراء: ذللت لهم فهم يتناولون منها كيف شاؤوا، فمن أكل قائماً لم يؤذه ومن أكل جالساً لم يؤذه ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه، وهذا جزاؤهم على ما كانوا يذللون أنفسهم لأمر الله تعالى.
(13/292)
---
ولما وصف تعالى طعامهم ولباسهم وسكنهم وصف شرابهم بقوله تعالى: {ويطاف} أي: من أي طائف كان لكثرة الخدم {عليهم بآنية} جمع إناء كسقاء وأسقية وجمع الآنية أوان وهي ظروف للمياه ومعنى يطاف أي: يدور على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشرب. ثم بين تلك الآنية بقوله تعالى: {من فضة} قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء أي: الذي في الجنة أشرف وأعلى ولم ينف الآنية الذهبية بل المعنى: يسقون في الأواني الفضة وقد يسقون في الأواني الذهب كما قال تعالى: {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل: 81)
أي: والبرد فنبه بذكر أحدهما على الآخر.(1/5029)
ولما جمع الآنية خص فقال تعالى {وأكواب} جمع كوب، وهو كوز لا عروة له فيسهل الشرب منه من كل موضع فلا يحتاج عند التناول إلى إدارة {كانت} أي: تلك الأكواب كوناً هو من جبلتها {قوارير} أي: كانت بصفة القوارير من الصفاء والرقة والشفوف والإشراق، جمع قارورة وهي ما أقرّ فيه الشراب ونحوه من كل إناء رقيق صاف. وقيل: هو خاص بالزجاج.
(13/293)
---
ولما كان رأس آية وكان التعبير بالقوارير ربما أفهم أنها من الزجاج، وكان في الزجاج من النقص سرعة الانكسار لإفراط الصلابة، قال تعالى معيد للفظ أوّل الآية الثانية تأكيداً للاتصاف بالصالح من أوصاف الزجاج وبياناً لنوعها: {قوارير من فضة} أي: قد جمعت صفتي الجوهرين المتباينين صفاء الزجاج وشفوفه وبريقه، وبياض الفضة وشرفها ولينها، وقال الكلبي: إن الله تعالى جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم، وإنّ أرض الجنة من فضة فجعل منها قوارير يشربون منها. وقرأ نافع وشعبة والكسائي وصلاً بالتنوين فيهما ووافقهم ابن كثير في الأول دون الثاني، والباقون بغير تنوين، وأما الوقف فمن نون وقف بالألف، ومن لم ينون وقف بغير ألف إلا هشاماً، فإنه وقف على الثاني بالألف وفي الوصل لم ينون فالقراءات حينئذ على خمس مراتب: إحداها: تنوينهما معاً، والوقف عليهما بالألف. الثانية: مقابله وهو عدم تنوينهما وعدم الوقف عليهما بالألف، الثالثة: عدم تنوينهما والوقف عليهما بالألف، الرابعة: تنوين الأول دون الثاني والوقف على الأول بالألف وعلى الثاني بدونها. الخامسة: عدم تنويهما معاً والوقف على الأول بالألف، وعلى الثاني بدونها. وأما من نوّنهما فلما مرّ في تنوين سلاسل؛ لأنهما صيغة منتهى الجموع ذاك على مفاعل وذا على مفاعيل، والوقف بالألف التي هي بدل التنوين، فأما عدم تنوينهما وعدم الوقف بالألف فظاهر، وأما من نوّن الأول دون الثاني فإنه ناسب بين الأول وبين رؤوس الأي، ولم يناسب بين الثاني وبين الأوّل، والوجه في وقفه(1/5030)
على الأوّل بالألف وعلى الثاني بغير ألف ظاهر، وأما من لم ينوّنهما ووقف على الأوّل بألف وعلى الثاني بدونها فلأنّ الأوّل رأس آية فناسب بينه وبين رؤوس الأي في الوقف بالألف وفرق بينه وبين الثاني لأنه ليس برأس آية، وأما من لم ينوّنهما ووقف عليهما بالألف، فإنه ناسب بين الأول وبين رؤوس الأي وناسب بين الثاني وبين الأول.
(13/294)
---
وقال الزمخشري: وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق؛ لأنها فاصلة وفي الثاني لإتباعه الأوّل يعني: أنهم يأتون بالتنوين بدلاً من حرف الإطلاق الذي للترنم، كقوله:
*يا صاح ما هاج العيون الذرفن*
وقوله تعالى {قدّروها تقديراً} صفة لقوارير من فضة وفي الواو في قدّروها وجهان: أحدهما: أنه للمطاف عليهم، ومعنى تقديرهم لها أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على تقادير وأشكال على حسب شهواتهم فجاءت كما قدّروا. والثاني: أنه للطائفين بها دل عليه قوله تعالى: {ويطاف عليهم} (الإنسان: 15)
على أنهم قدّروا شرابها على قدر الري وهو ألذ للشارب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنه ولا يعجز، وعن مجاهد رضي الله عنه لا تغيض ولا تفيض وعن ابن عباس رضي الله عنهما قدّروها على ملء الكف حتى لا تؤذيهم بثقل أو بإفراط صغر، وجوّز أبو البقاء أن تكون الجملة مستأنفة.
{ويسقون} أي: ممن أرادوه من خدمهم الذين لا يحصون كثرة {فيها} أي: في الجنة أو تلك الأكواب {كأساً} أي: خمراً في إناء {كان مزاجها} أي: ما تمزج به على غاية الإحكام {زنجبيلاً} أي: غاية اللذة، وكانت العرب تلتذ بالشراب الممزوج به لهضمه وتطييبه الطعم، والزنجبيل: نبت معروف، وسمي الكأس بذلك لوجود طعم الزنجبيل فيها قال الأعشى:
*كأن القرنفل والزنجبي ** ل باتابفيها وأريا مشورا*
وقال المسيب بن علس:
*وكأن طعم الزنجبيل به ** إذ اذقته وسلافة الخمر*
(13/295)
---(1/5031)
وقوله تعالى: {عيناً فيها} أي: الجنة بدل من زنجبيلاً وكون الزنجبيل عيناً فيه خرق للعوائد؛ لأنّ الزنجبيل عندنا شجر يحتاج في تناوله إلى علاج، فبين أنه هناك عين لا يحتاج في صيرورته زنجبيلاً إلى أن تحيله الأرض بتخميره فيها حتى يصير شجراً ليتحوّل عن طعم الماء إلى طعم الزنجبيل {تسمى} أي: تلك العين لسهولة إساغتها ولذة طعمها وسموّ وصفها {سلسبيلاً} والمعنى: أن ماء تلك العين كالزنجبيل الذي تلتذ به العرب سهل المساغ في الحلق، فليس هو كزنجبيل الدنيا يلذع في الحلق فتصعب إساغته. والسلسبيل والسلسل والسلسال ما كان من الشراب غاية في السلاسة زيدت فيه الباء زيادة في المبالغة في هذا المعنى، وقال مقاتل وابن حبان رضي الله عنهما: سميت سلسبيلاً لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان. قال البغوي: وشراب الجنة في برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك من غير لذع. وقال مقاتل رضي الله عنه: يشربها المقربون صرفاً وتمزج لسائر أهل الجنة.
ولما ذكر تعالى المطوف به لأنه الغاية المقصودة وصف الطائف لما في طوافه من العظمة المشهودة بقوله تعالى.
(13/296)
---
{ويطوف عليهم} أي: بالشراب وغيره من الملاذ والمحاب {ولدان} أي: غلمان هم في سن من هو دون البلوغ؛ لأنّ الفقهاء قالوا:
الناس غلمان وصبيان وأطفال وذراري إلى البلوغ ثم هم بعد البلوغ شبان وفتيان إلى الثلاثين، ثم هم بعدها كهول إلى الأربعين ثم بعدها شيوخ واستنبط بعضهم ذلك من القرآن في حق بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال الله تعالى في حق يحيى: {وآتيناه الحكم صبياً} (مريم: 12)
وفي حق عيسى: {يكلم الناس في المهد وكهلاً} (آل عمران: 46)
وعن إبراهيم: {قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم} (الأنبياء: 60)
وعن يعقوب: {إنّ له اباً شيخاً كبيراً} (يوسف: 78)(1/5032)
. وقالوا: وأقل أهل الجنة من يخدمه ألف غلام، ويعطى في الجنة قدر الدنيا عشر مرّات. وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها.
ثم وصف تعالى تلك الغلمان بقوله تعالى: {مخلدون} أي: قد حكم من لا يرد حكمه بأن يكونوا كذلك دائماً من غير علة ولا ارتفاع عن ذلك الحدّ مع أنهم مزينون بالحلي وهو الحلق والأساور والقرط والملابس الحسنة.
(13/297)
---
{إذا رأيتهم} أي: يا أعلى الخلق وأنت أثبت الناس نظراً أو أيها الرائي الشامل لكل راء في أي حالة رأيتهم فيها {حسبتهم} أي: من بياضهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في الخدمة {لؤلؤاً منثوراً} أي: من سلكه أو من صدفه وهو أحسن منه في غير ذلك، قال بعض المفسرين: هم غلمان ينشئهم الله تعالى لخدمة المؤمنين. وقال بعضهم: أطفال المؤمنين لأنهم ماتوا على الفطرة. وقال ابن برجان: وأرى والله أعلم أنهم من علم الله تعالى إيمانه من أولاد الكفار، وتكون خدماً لأهل الجنة كما كانوا لنا في الدنيا سبياً وخداماً. وأما أولاد المؤمنين فيلحقون بآبائهم سناً وملكاً سروراً لهم. ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم في ابنه إبراهيم عليه السلام: «إن له لظئراً تتم رضاعه في الجنة» فإنه يدل على انتقال شأنه فيما هنالك وكتنقله في الأحوال في الدنيا، ولا دليل على خصوصيته بذلك. وقرأ السوسي وشعبة بإبدال الهمزة الأولى الساكنة وقفاً ووصلاً، وإذا وقف حمزة أبدل الأولى والثانية.
ولما ذكر المخدوم والخدم ذكر المكان بقوله تعالى: {وإذا رأيت} أي: وجدت منك الرؤية {ثم} أي: هناك في أي مكان كان في الجنة، وأي شيء كان فيها. وقوله تعالى {رأيت} جواب إذا أي: رأيت {نعيماً} أي: ليس فيه كدر بوجه من الوجوه ولا يقدر على وصفه واصف. {وملكاً كبيراً} أي: لم يخطر على باله مما هو فيه من السعة وكثرة الموجود والعظمة.(1/5033)
قال سفيان الثوري: بلغنا أن المُلْك الكبير تسليم الملائكة عليهم. وقيل: كون التيجان على رؤوسهم كما تكون على رؤوس الملوك، وقال الحكيم الترمذي: هو ملك التكوين إذا أرادوا شيئاً، قالوا له: كن فيكون. وفي الخبر: إنّ الملك الكبير هو أنّ أدناهم منزلة أي: وما فيهم دنيء الذي في ملكه مسيرة ألف عام ويرى أقصاه كما يرى أدناه وإن أعظمهم منزلة من ينظر إلى وجه ربه سبحانه وتعالى كل يوم. أي: قدر يوم من أيام الدنيا مرّتين.
(13/298)
---
ولما ذكر الدار وساكنيها من مخدوم وخدم ذكر لباسهم بقوله تعالى: {عاليهم} أي: فوقهم {ثياب سندس} هو ما رق من الحرير {خضر وإستبرق} وهو ما غلظ من الديباج فهو البطائن، والسندس الظهائر، وقرأ نافع وحمزة {عاليهم} بسكون الياء بعد اللام وكسر الهاء والباقون بفتح الياء وضم الهاء؛ لأنّ الياء لما سكنت كسرت الهاء ولما تحرّكت ضمت الهاء، فأما قراءة نافع وحمزة ففيها أوجه: أظهرها: أن يكون خبراً مقدّماً، وثياب مبتدأ مؤخر.
وأمّا قراءة الباقين ففيها أيضاً أوجه: أظهرها: أن يكون خبراً مقدّماً وثياب مبتدأ مؤخراً. كأنه قال: فوقهم ثياب. قال أبو البقاء: لأنّ عاليهم بمعنى فوقهم، والضمير المتصل به للمطوف عليهم أو للخادم والمخدوم جميعاً وإن كانت تتفاوت بتفاوت الرتب. وقرأ نافع وحفص خضر وإستبرق برفعهما، وقرأ حمزة والكسائي بخفضهما. وقرأ أبو عمرو وابن عامر برفع خضر وجرّ إستبرق، وقرأ ابن كثير وشعبة بجرّ خضر ورفع إستبرق.(1/5034)
وحاصل القراءات في ذلك أربع مراتب: الأولى: رفعهما، الثانية: خفضهما، الثالثة: رفع الأوّل وخفض الثاني، الرابعة: عكس ذلك. فأمّا القراءة الأولى: فإنّ رفع خضر على النعت لثياب ورفع إستبرق نسق على الثياب، ولكن على حذف مضاف أي: وثياب إستبرق، وأمّا القراءة الثانية: فيكون جرّ خضر على النعت لسندس. ثم استشكل على هذا وصف المفرد بالجمع، فقال مكي: هو اسم جمع، وقيل: هو جمع سندسة كتمر وتمرة، ووصف اسم الجنس بالجمع صحيح قال تعالى: {وينشىء السحاب الثقال} (الرعد: 12)، {وأعجاز نخل منقعر} (القمر: 20)، {ومن الشجر الأخضر} (يس: 80)
(13/299)
---
وإذا كانوا قد وصفوا المحلى لكونه مراداً به الجنس بالجمع في قولهم: أهلك الناس الدينار الحمر والدرهم البيض وفي التنزيل {أو الطفل الذين} فلأن يوجد ذلك في أسماء الجموع أو أسماء الأجناس الفارق بينها وبين واحدها تاء التأنيث بطريق الأولى، وجرّ إستبرق نسقاً على سندس لأنّ المعنى: ثياب من سندس وثياب من إستبرق، وأمّا القراءة الثالثة: فرفع خضر نعتاً لثياب وجرّ إستبرق نسقاً على سندس أي: ثياب خضر من سندس ومن إستبرق، فعلى هذا يكون الإستبرق أيضاً أخضر، وأمّا القراءة الرابعة: فجرّ خضر على أنه نعت لسندس ورفع إستبرق على النسق على ثياب بحذف مضاف أي: وثياب إستبرق.
ثم أخبر تعالى عن تحليتهم بقوله سبحانه {وحلوا} أي: المخدوم والخادم {أساور من فضة} وإن كانت تتفاوت بتفاوت الرتب وهي بالغة من الأعضاء ما يبلغه التحجيل في الوضوء كما قال صلى الله عليه وسلم «الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» فلذلك كان أبو هريرة يرفع إلى المنكبين وإلى الساقين.
تنبيه: قال هنا: {أساور من فضة} وفي سورة فاطر: {يحلون فيها من أساور من ذهب} (فاطر: 33)
وفي سورة الحج: {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤ} (الحج: 23)(1/5035)
فقيل: حلي الرجال الفضة وحلي النساء الذهب. وقيل: تارة يلبسون الذهب وتارة يلبسون الفضة. وقيل: يجمع في يدي أحدهم سواران من ذهب، وسواران من فضة، وسواران من لؤلؤ لتجتمع لهما محاسن الجنة قاله سعيد بن المسيب. وقيل: يعطى كل أحد ما يرغب فيه وتميل نفسه إليه. وقيل: أسورة الفضة إنما تكون للولدان وأسورة الذهب للنساء. وقيل: هذا للنساء والصبيان. وقيل: هذا يكون بحسب الأوقات والأعمال.
{وسقاهم ربهم} أي: الموجد لهم المحسن إليهم المدبر لمصالحهم {شراباً طهوراً} أي: ليس هو كشراب الدنيا سواء أكان من الخمر أم من الماء أم من غيرهما فهو بالغ الطهارة.
(13/300)
---
وقال عليّ رضي الله عنه: إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من ساقها عينان فيشربون من إحداهما فتجري عليهم نضرة النعيم فلا تتغير أبشارهم ولا تشعث شعورهم أبداً، ثم يشربون من الأخرى فيخرج ما في بطونهم من الأذى ثم تستقبلهم خزنة الجنة فيقولون لهم سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقال النخعي وأبو قلابة: هو إذا شربوه بعد أكلهم طهرهم وصار ما أكلوه وشربوه رشح مسك وضمرت بطونهم. وقال مقاتل: هو من عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة، من شرب منها نزع الله تعالى ما كان في قلبه من غش وغل وحسد وما كان في جوفه من أذى، وعلى هذا فيكون فعول للمبالغة. وقال الرازي: قوله تعالى {طهوراً} في تفسيره احتمالات: أحدها: لا يكون نجساً كخمر الدنيا، وثانيها: المبالغة في البعد عن الأمور المستقذرة لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأرجل الدنسة ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها.
وثالثها: أنه لا يؤول إلى النجاسة لأنها ترشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك، وعلى هذين الوجهين يكون الطهور مطهراً لأنه يطهر بواطنهم من الأخلاق الذميمة والأشياء المؤذية.
(13/301)
---(1/5036)
فإن قيل: هل هذا نوع آخر غير ما ذكر قبل ذلك من أنهم يشربون من الكافور والزنجبيل والسلسبيل أم لا؟ أجيب: بأنه نوع آخر لوجوه: أولها: رفع. ثانيها: أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه بقوله تعالى: {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} وذلك يدل على فضل هذا دون غيره، ثالثها: ما روي أنه تقدّم إليهم الأطعمة والأشربة، فإذا فرغوا منها أتوا بالشراب الطهور فيشربون فيطهر ذلك بطونهم ويفيض عرقاً من جلودهم مثل ريح المسك، وهذا يدل على أنّ ذلك الشراب مغاير لتلك الأشربة، ولأنّ هذا الشراب يهضم سائر الأشربة، ثم إنّ له مع هذا الهضم تأثيراً عجيباً وهو أنه يجعل سائر الأطعمة والأشربة عرقاً يفوح منه ريح كريح المسك ويطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الخسيسة والركون إلى ما سوى الحق فيتجرّد لمطالعة جلاله متلذذاً بلقائه باقياً ببقائه وهو منتهى درجات الصدّيقين وكل ذلك يدل على المغايرة.
وقوله تعالى: {إنّ} على إضمار القول أي: ويقال لهم إنّ {هذا كان لكم جزاء} أي: على أعمالكم التي كنتم تجاهدون فيها أنفسكم عن هواها إلى ما يرضي ربكم والإشارة إلى ما تقدّم من عطاء الله تعالى لهم {وكان} أي: على وجه الثبات {سعيكم مشكوراً} أي: لا نضيع شيئاً منه ونجازي بأكثر منه أضعافاً مضاعفة.
ولما بين تعالى بهذا القرآن العظيم الوعد والوعيد ذكر سبحانه أنه من عنده وليس هو بسحر ولا كهانة ولا شعر بقوله تعالى: {إنا نحن} أي: على ما لنا من العظمة التي لا نهاية لها لا غيرنا {نزلنا عليك} وأنت أعظم الخلق إنزالاً استعلى حتى صار المنزَّل خلُقُاً لك {القرآن} أي: الجامع لكل هدى {تنزيلاً} قال ابن عباس: متفرّقاً آية بعد آية ولم ينزل جملة واحدة.
(13/302)
---(1/5037)
قال الرازي: والمقصود من هذه الآية تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم وشرح صدره فيما نسبوه إليه صلى الله عليه وسلم من كهانة وسحر، فذكر تعالى أنّ ذلك وحي من الله تعالى فكأنه تعالى يقول: إن كان هؤلاء الكفار يقولون: إنّ ذلك كهانة فأنا الله الملك الحق أقول على سبيل التأكيد: إنّ ذلك وحي حق وتنزيل صدق من عندي. وفي ذلك فائدتان، الأولى: إزالة الوحشة الحاصلة بسبب طعن الكفار، لأنّ الله تعالى عظمه وصدّقه. الثانية: تقويته على تحمل مشاق التكليف، فكأنه تعالى يقول له: إني ما نزلت القرآن عليك متفرّقاً إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين، وقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال.
{فاصبر لحكم ربك} أي: المحسن إليك. قال ابن عباس: اصبر على أذى المشركين ثم نسخ بآية القتال. وقيل: اصبر لما يحكم عليك به من الطاعات أو انتظر حكم الله إذ وعدك بالنصر عليهم ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة {ولا تطع منهم} أي: الكفرة الذين هم ضد الشاكرين {آثماً} أي: داعياً إلى إثم سواء كان مجرّداً عن مطلق الكفر أو مصاحباً له {أو كفوراً} أي: مبالغاً في الكفر وداعياً إليه وإن كان كبيراً وعظيماً في الدنيا، فإنّ الحق أكبر من كل كبير. وقال قتادة: أراد بالآثم والكفور أبا جهل، وذلك أنه لما فرضت الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم نهاه أبو جهل عنها وقال: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأنّ على عنقه.
وقال مقاتل: أراد بالآثم عتبة بن ربيعة وبالكفور الوليد بن المغيرة، وكانا أتيا النبيّ صلى الله عليه وسلم يعرضان عليه الأموال والتزويج على أن يترك ذكر النبوّة عرض عليه عتبة ابنته وكانت من أجمل النساء، وعرض عليه الوليد أن يعطيه من الأموال حتى يرضى ويترك ما هو عليه، فقرأ عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات من أوّل حم السجدة إلى قوله تعالى: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} (فصلت: 13)
(13/303)
---(1/5038)
فانصرفا عنه. وقال أحدهما: ظننت أنّ الكعبة ستقع عليّ.
فإن قيل: كانوا كلهم كفرة فما معنى القسمة في قوله: {آثماً أو كفوراً} أجيب: بأنّ معناه: ولا تطع منهم راكباً لما هو إثم داعياً لك إليه أو فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه؛ لأنهم إمّا أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر أو غير إثم ولا كفر، فنهي أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث.
ثم قال فإن قيل: معنى أو: ولا تطع أحدهما فهلا جيء بالواو ليكون نهياً عن إطاعتهما جميعاً؟ أجيب: بأنه لو قال: ولا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما وإذا قيل: ولا تطع أحدهما علم أنّ الناهي عن طاعة أحدهما أنهى عن طاعتهما جميعاً كما إذا نهى أن يقول لأبويه: أف علم أنه نهى عن ضربهما بطريق الأولى.
فإن قيل: إنه صلى الله عليه وسلم ما كان يطيع أحداً منهم فما فائدة هذا النهي؟ أجيب: بأنّ المقصود بيان أنّ الناس محتاجون إلى التنبيه والإرشاد لأجل ما تركب فيهم من الشهوة الداعية إلى النساء وأنّ الواحد لو استغنى عن توفيق الله تعالى وإرشاده لكان أحق الناس به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم دائماً أبداً، ومتى ظهر لك ذلك عرفت أنّ كل مسلم لا بدّ له من الرغبة إلى الله تعالى والتضرّع إليه أن يصونه عن الشهوات.
{واذكر} أي: في الصلاة {اسم ربك} أي: المحسن إليك بكل جميل {بكرة} أي: الفجر {وأصيلاً} أي: الظهر والعصر.
(13/304)
---(1/5039)
{ومن الليل} أي: بعضه والباقي للراحة بالنوم {فاسجد له} أي: المغرب والعشاء {وسبحه ليلاً طويلاً} أي: صل التطوّع فيه كما تقدّم من ثلثيه أو نصفه أو ثلثه أو اذكره بلسانك بكرة عند قيامك من منامك الذي هو الموتة الصغرى وتذكرك أنه يحيي الموتى ويحشرهم جميعاً وأصيلاً أي: عند انقراض نهارك وتذكرك انقراض دنياك وطي هذا العالم لأجل يوم الفصل، وفي ذكر الوقتين إشارة إلى دوام الذكر وذكر اسمه لازم لذكره والذي عليه أكثر المفسرين. الأوّل قال ابن عباس وسفيان: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة لأنّ الصلاة أفضل الأعمال البدنية لأنها أعظم الذكر لأنها ذكر اللسان والجنان والأركان فوظفت فيها أركان لسانية وحركات وسكنات على هيئات مخصوصة من عادتها أن لا تفعل إلا بين يدي الملوك.
ولما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعظيم والأمر والنهي عدل سبحانه إلى شرح أحوال الكفار والمتمردّين فقال تعالى: {إنّ هؤلاء} أي: الذين يغفلون عن الله من الكفار والمتمردّين {يحبون} أي: محبة تجدّد عندهم زيادتها في كل وقت {العاجلة} لقصور نظرهم وجمودهم على المحسوسات التي الإقبال عليها منشأ البلادة والقصور ومعدن الأمراض للقلوب التي في الصدور، ومن تعاطى أسباب الأمراض مرض وسمي كفوراً، ومن تعاطى ضدّ ذلك شفي وسمي شاكراً.
(13/305)
---
{ويذرون} أي: ويتركون {وراءهم} أي: قدّامهم على وجه الإحاطة بهم وهم عنه معرضون كما يعرض الإنسان عما وراءه أو خلف ظهورهم لا يعبؤون به وقوله تعالى: {يوماً} مفعول يذرون لا ظرف وقوله تعالى: {ثقيلاً} وصف له استعير له الثقل لشدّته وهو له من الشيء الثقيل الباهظ لحامله ونحوه ثقلت في السموات والأرض.(1/5040)
{نحن خلقناهم} أي: بما لنا من العظمة لا غيرنا {وشددنا} أي: قوّينا {أسرهم} أي: توصيل عظامهم بعضها ببعض وتوثيق عظامهم بالأعصاب بعد أن كانوا نطفاً أمشاجاً في غاية الضعف. وأصل الأسر الربط والتوثيق، ومنه أسر الرجل إذا وثق بالقدّ وهو الإسار، وفرس مأسور الخلق {وإذا شئنا} أي: بما لنا من العظمة أن نبدّل ما نشاء من صفاتهم أو ذواتهم {بدّلنا أمثالهم} أي: جئنا بأمثالهم بدلاً منهم إمّا بأن نهلكهم ونأتي ببدلهم ممن يطيع، وإمّا بتغيير صفاتهم كما شوهد في بعض الأوقات من المسخ وغيره، وقوله تعالى: {تبديلاً} تأكيد. قال الجلال المحلي: ووقعت إذا موقع إن، نحو {إن يشأ يذهبكم} (النساء: 133)
لأنه تعالى لم يشأ ذلك وإذاً لما يقع. وفي ذلك رد لقول الزمخشري: وحقه أن يجيء بإن لا بإذا كقوله: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم} (محمد: 38)
{إن يشأ يذهبكم} (النساء: 133)
{إن هذه} أي: السورة أو الآيات القريبة {تذكرة} أي: عظة للخلق فإنّ في تصفحها تنبيهات للغافلين، وفي تدبرها وتذكرها فوائد جمة للطالبين السالكين ممن ألقى سمعه وأحضر قلبه وكانت نفسه مقبلة على ما ألقى إليه سمعه {فمن شاء} أي: بأن اجتهد في وصوله إلى ربه {اتخذ} أي: أخذ بجهده في مجاهدة نفسه ومغالبة هواه {إلى ربه} أي: المحسن إليه الذي ينبغي له أن يحبه بجميع جوارحه وقلبه ويجتهد في القرب منه {سبيلاً} أي: طريقاً واضحاً سهلاً واسعاً بأفعال الطاعة التي أمر بها لأنا بينا الأمور غاية البيان وكشفنا اللبس وأزلنا جميع موانع الفهم، فلم يبق مانع من استطراق الطريق غير مشيئتنا.
(13/306)
---(1/5041)
{وما تشاؤون} أي: في وقت من الأوقات شيئاً من الأشياء. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالياء التحتية على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب. وإذا وقف حمزة سهل الهمزة مع المدّ والقصر، وله أيضاً إبدالها واواً مع المدّ والقصر {إلا} وقت {أن يشاء الله} أي: الملك الأعلى الذي له الأمر كله والملك كله على حسب ما يريد ويقدر وقد صح بهذا ما قال الأشعري وسائر أهل السنة من أن للعبد مشيئة تسمى كسباً لا تؤثر إلا بمشيئة الله تعالى، وانتفى مذهب القدرية الذين يقولون: إنا نخلق أفعالنا، ومذهب الجبرية القائلين: لا فعل لنا أصلاً، ومثل الملوي ذلك بمن يريد قطع بطيخة فحدّد سكينة وهيأها وأوجد فيها أسباب القطع وأزال عنها موانعه، ثم وضعها على البطيخة فهي لا تقطع دون أن يتحامل عليها التحامل المعروف لذلك، ولو وضع عليها ما لا يصلح للقطع كحطبة مثلاً لم تقطع ولو تحامل، فالعبد كالسكين خلقه الله تعالى وهيأه بما أعطاه من القدرة للفعل، فمن قال: أنا أخلق فعلي مستقلاً به فهو كمن قال: السكين تقطع بمجرّد وضعها من غير تحامل، ومن قال: الفاعل هو الله من غير نظر إلى العبد أصلاً كان كمن قال: هو يقطع البطيخة بتحامل يده أو قصبة ملساء من غير سكين، والذي يقول: إنه باشر بقدرته المهيأة لفعل يخلقه الله تعالى لها في ذلك الفعل، كمن قال: إنّ السكين قطعت بالتحامل عليها بهذا أجرى الله سبحانه وتعالى عادته في الناس ولو شاء غير ذلك فعل، ولا يخفى أنّ هذا هو الحق الذي لا مرية فيه.
(13/307)
---(1/5042)
ثم علل ذلك بإحاطته بمشيئتهم بقوله تعالى {إنّ الله} أي: المحيط علماً وقدرة {كان} أي: أزلاً وأبداً {عليماً} أي: بما يستأهل كل أحد {حكيماً} أي: بالغ الحكمة فهو يمنع منعاً محكماً من أن يشاء غيره ما لم يأذن فيه فمن علم في جبلته خيراً أعانه عليه، ومن علم منه الشرّ ساقه إليه وحمله عليه وهو معنى قوله تعالى: {يدخل من يشاء} أي: ممن علمه من أهل السعادة {في رحمته} أي: جنته وهم المؤمنون. وقوله تعالى {والظالمين} أي: الكافرين منصوب بفعل يفسره قوله تعالى: {أعدّ لهم} مثل أوعد وكافأ ليطابق الجمل المعطوف عليها {عذاباً أليماً} أي: مؤلماً فهم فيه خالدون أبد الآبدين.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جنة وحريراً» حديث موضوع.
سورة المرسلات عرفاً
مكية
في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها وهي قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} فمدنية.
وقال ابن مسعود: «نزلت والمرسلات عرفاً على النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ ونحن معه نسير حتى أوينا إلى غار منى فنزلت، فبينما نحن نتلقاها منه وإن فاه رطب بها إذ وثبت حية فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيتم شرّها كما وقيت شرّكم» ا.ه. والغار المذكور مشهور في منى وقد زرته ولله الحمد، وعن كريب مولى ابن عباس قال: قرأت سورة والمرسلات عرفاً فسمعتني أمّ الفضل امرأة العباس فبكت. وقالت: والله يا بني لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب.
وهي خمسون آية وإحدى وثمانون كلمة وثمانمائة وستة عشر حرفاً.
{بسم الله} الملك الحق المبين {الرحمن} المنعم على الخلق أجمعين {الرحيم} الذي خص بكرامته عباده المؤمنين.
(13/308)
---(1/5043)
{والمرسلات عرفاً} أي: الرياح متتابعة كعرف الفرس يتلو بعضها بعضاً ونصبها على الحال، هذا ما عليه الجمهور من أنها الرياح قال تعالى: {وأرسلنا الرياح} (الحجر: 22)
وقال تعالى: {ويرسل الرياح} (الأعراف: 57)
. وروى مسروق عن عبد الله قال: هي الملائكة أرسلت بالعرف من أمر الله تعالى ونهيه والخير والوحي، وهو قول أبي هريرة ومقاتل والكلبي، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم الأنبياء عليهم السلام أرسلوا بلا إله إلا الله. وقال أبو صالح: هم الرسل ترسل بما يعرفون به من المعجزات. وقيل: المراد السحاب لما فيها من نعمة ونقمة عارفة بما أرسلت إليه ومن أرسلت إليه.
{فالعاصفات} أي: الرياح الشديدة {عصفاً} أي: عظيماً بما لها من النتائج الصالحة، وقيل: الملائكة شبهت لسرعة جريها في أمر الله تعالى بالرياح، وقيل: الملائكة تعصف بروح الكافر يقال: عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه، وناقة عصوف أي: تعصف بركابها فتمضي كأنها ريح في السرعة، وعصفت الحرب بالقوم أي: ذهبت بهم. وقيل: يحتمل أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخسوف.
{والناشرات ونشراً} أي: الرياح اللينة تنشر المطر. وقال الحسن: هي الرياح التي يرسلها الله تعالى بين يدي رحمته، وقيل: الأمطار لأنها تنشر النبات بمعنى تحييه. وروي عن السدي أنها الملائكة تنشر كتب الله تعالى. وروى الضحاك أنها الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد.
(13/309)
---
تنبيه: إنما قال الله تعالى {والناشرات} بالواو لأنه استئناف قسم آخر.
{فالفارقات فرقاً} أي: الرياح تفرق السحاب وتبدده قاله مجاهد، وعن ابن عباس هي الملائكة تفرّق الأقوات والأرزاق والآجال، وقيل: هم الرسل فرّقوا بين ما أمر الله تعالى به وما نهى عنه أي: بينوا ذلك، وقيل: آيات القرآن تفرّق بين الحق والباطل والحلال والحرام.(1/5044)
{فالملقيات ذكراً} أي: الملائكة تنزل بالوحي إلى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وقيل: هو جبريل عليه السلام وحده سمي باسم الجمع تعظيماً.
فإن قيل: ما المناسبة على هذا بين الرياح والملائكة في القسم؟ أجيب: بأنّ الملائكة روحانيون، فهم بسبب لطافتهم وسرعة حركاتهم كالرياح.
وقيل: المراد به الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل عليهم، وذكراً مفعول به ناصبه الملقيات.
{عذراً أو نذراً} مصدران من عذر إذا محا الإساءة، ومن أنذر إذا خوّف على فعل كالكفر والشكر. ويجوز أن يكون جمع عذير بمعنى المعذور، وجمع نذير بمعنى الإنذار، وبمعنى العاذر والمنذر. ونصبهما إمّا على البدل من ذكراً على الوجهين الأوّلين أو على المفعول له، وإمّا على الوجه الثالث، فعلى الحال بمعنى عاذرين أو منذرين. وقرأ {أو نذراً} نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة بضم الذال والباقون بسكونها.
وقوله تعالى: {إنما توعدون لواقع} جواب القسم، ومعناه أنّ الذي توعدونه من مجيء القيامة كائن لا محالة، وقال الكلبي: المراد أنّ كل ما توعدون به من الخير والشرّ لواقع.
ثم بين وقت وقوعه فقال تعالى: {فإذا النجوم} أي: على كثرتها {طمست} أي: محي نورها أو ذهب نورها ومحقت ذواتها، وهو موافق لقوله تعالى: {انتثرت} (الإنفطار: 20)
و {انكدرت} (التكوير: 2)
قال الزمخشري: ويجوز أن يمحق نورها ثم تنتثر ممحوقة النور.
{وإذا السماء} أي: على عظمها {فرجت} أي: فتحت وشققت فكانت أبواباً، والفرج الشق ونظيره {إذا السماء انشقت} (الانشقاق: 1)
(13/310)
---
{وإذا الجبال} أي: على صلابتها {نسفت} أي: ذهب بها كلها بسرعة من نسفت الشيء: إذا اختطفته، أو نسفت كالحب إذا نسف بالمنسف، ونحوه {وبست الجبال بساً} (الواقعة: 5)
{وكانت الجبال كثيباً مهيلاً} (المزمل: 14)(1/5045)
{وإذا الرسل} أي: الذين أنذروا الناس ذلك اليوم فكُذبوا {أقتت} قال مجاهد والزجاج: المراد بهذا التأقيت تبيين الوقت الذي فيه يحضرون للشهادة على أممهم، أي: جمعت لميقات يومٍ معلومٍ وهو يوم القيامة، والوقت الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه، فالمعنى: جعل لها وقت أجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم كقوله تعالى: {يوم يجمع الله الرسل} (المائدة: 109)
. وقرأ أبو عمرو بواو مضمومة والباقون بهمزة مضمومة وهما لغتان، والعرب تعاقب بين الواو والهمزة كقولهم: وكدت وأكدت.
وقوله تعالى: {لأي يوم} أي: عظيم متعلق بقوله تعالى: {أجلت} وهذه الجملة معمولة لقول مضمر أي: يقال لأي يوم أجلت، وهذا القول المضمر يجوز أن يكون جواباً لإذا وأن يكون حالاً من مرفوع.
{أقتت} أي: مقولاً فيها لأي يوم أجلت أي: أخرت، وهذا تعظيم لذلك اليوم وتعجيب له وقوله تعالى: {ليوم الفصل} بيان ليوم التأجيل. وقيل: اللام بمعنى إلى، ذكره مكي. قال ابن عباس: يوم فصل الرحمن بين الخلائق كقوله تعالى: {إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين} (الدخان: 40)
ثم أتبع هذا التعظيم تعظيماً آخر بقوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الفصل} أي: ومن أين تعلم كنهه ولم تر مثله في شدّته ومهابته، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين بين والباقون بالفتح.
(13/311)
---(1/5046)
ثم أتبعه تهويلاً ثالثاً بقوله تعالى: {ويل يومئذ} أي: إذ يكون يوم الفصل {للمكذبين} أي: بذلك، قال القرطبي: ويل عذاب وخزي لمن كذب بالله تعالى وبرسله وكتبه وبيوم الفصل، وهو وعيد وكرّره في هذه السورة عند كل آية كأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم، فإنّ لكل مكذب بشيء عذاباً سوى عذاب تكذيبه بشيء آخر، ورب شيء كذب به هو أعظم جرماً من تكذيبه لغيره؛ لأنه أقبح في تعظيمه وأعظم في الردّ على الله تعالى، وإنما يقسم له من الويل على قدر ذلك وعلى قدر وفاقه، وهو قوله تعالى: {جزاء وفاقاً} (النبأ: 26)
. وقيل: كرره لمعنى تكرار التخويف والوعيد، وروي عن النعمان بن بشير قال: ويل واد في جهنم فيه ألوان العذاب، وقاله ابن عباس وغيره، وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «عرضت عليّ جهنم فلم أر فيها وادياً أعظم من الويل»، وروي أيضاً أنه مجمع ما يسيل من قيح أهل النار وصديدهم، وإنما يسيل الشيء فيما سفل من الأرض، وقد علم العباد في الدنيا أنّ شرّ المواضع ما استنقع فيها مياه الأدناس والأقذار والغسالات والجيف وماء الحمامات، فذكر أنّ الوادي مستنقع صديد أهل الكفر والشرك ليعلم العاقل أنه لا شيء أقذر منه قذارة ولا أنتن منه نتناً.
تنبيه: ويل مبتدأ، وسوّغ الابتداء به الدعاء، ويومئذ ظرف للويل وللمكذبين خبره. وقال الزمخشري: فإن قلت كيف وقع النكرة مبتدأ؟ قلت: هو في أصله مصدر منصوب ساد مسدّ فعله لكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ونحوه {سلام عليكم} (الرعد: 24)
واعترض بأنّ الذي ذكره ليس من المسوّغات التي ذكرها النحويون، وإنما المسوغ كونه دعاء وفائدة العدول إلى الرفع ما ذكره.
(13/312)
---(1/5047)
{ألم نهلك} أي: بما لنا من العظمة {الأوّلين} من لدن آدم عليه السلام إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم كقوم نوح وعاد وثمود بتكذيبهم أي: أهلكناهم {ثم نتبعهم الآخرين} أي: ممن كذبوا ككفار مكة فنهلكهم كما أهلكنا الأوّلين ونسلك بهم سبيلهم؛ لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم.
{كذلك} أي: مثل ذلك الفعل الشنيع {نفعل بالمجرمين} أي: بكل من أجرم فيما يستقبل إمّا بالسيف وإمّا بالهلاك.d
{ويل يومئذ} أي: إذ يوجد ذلك الفعل {للمكذبين} أي: بآيات الله وأنبيائه، قال البيضاوي: فليس تكراراً وكذا إن أطلق التكذيب أو علق في الموضعين بواحد لأنّ الويل الأوّل بعذاب الآخرة، وهذا للإهلاك في الدنيا مع أنّ التكرير للتوكيد حسن شائع في كلام العرب.
(13/313)
---
{ألم نخلقكم} أي: أيها المكذبون بما لنا من العظمة التي لا تغيرها عظمة {من ماء مهين} أي: ضعيف حقير وهو المني، وهذا نوع آخر من تخويف الكفار وهو من وجهين: الأوّل: أنه تعالى ذكرهم عظيم إنعامه عليهم وكل ما كان نعمه عليه أكثر كان جنايته في حقه أقبح وأفحش. الثاني: أنه تعالى ذكرهم أنه قادر على الابتداء، والقادر على الابتداء قادر على الإعادة، فكما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة لا جرم قال تعالى في حقهم: {ويل يومئذ للمكذبين} وهذه الآية نظير قوله تعالى: {ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين} (السجدة: 8)
. وقرأ كل القراء بإدغام القاف في الكاف وإبقاء الصفة ولهم أيضاً إدغام الصفة مع الحذف.
{فجعلناه} أي: بما لنا من القدرة والعظمة بالإنزال للماء في الرحم {في قرار} أي: مكان {مكين} أي: حريز وهو الرحم.
{إلى قدر معلوم} أي: وهو وقت الولادة، كقوله تعالى: {إن الله عنده علم الساعة} إلى قوله: {ويعلم ما في الأرحام} (لقمان: 34)(1/5048)
{فقدرنا} أي: ذلك دون غيرنا {فنعم القادرون} نحن، وقرأ نافع والكسائي بتشديد الدال فيصح على هذه القراءة أن يكون المعنى: فقدّرناه والباقون بالتخفيف، وقال عليّ كرم الله وجهه: ولا يبعد أن يكون المعنى في التخفيف والتشديد واحداً؛ لأنّ العرب تقول: قدر وقدرعليه الموت.
{ويل يومئذ} أي: إذ كان ذلك {للمكذبين} أي: بقدرتنا على ذلك أو على الإعادة.
وقوله تعالى: {ألم نجعل} أي: نصير بما شئنا بما لنا من العظمة {الأرض كفاتاً} مصدر كفت بمعنى ضم وعاء ضامّة.
(13/314)
---
{أحياء} أي: على ظهرها في الدور وغيرها {وأمواتاً} أي: في بطنها في القبور وغيرها. وقيل: الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض أي: الأرض منقسمة إلى حيّ وهو الذي ينبت، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت، وقيل: كفاتاً جمع كافت كصيام وقيام جمع صائم وقائم، وقال الخليل: تقليب الشيء ظهراً لبطن أو بطناً لظهر ويقال انكفت القوم إلى منازلهم، أي: انقلبوا، فمعنى الكفات أنهم يتصرّفون على ظهرها وينقلبون إليها فيدفعون فيها.
{وجعلنا} أي: بما لنا من القدرة التامّة {فيها} أي: الأرض {رواسي} أي: جبالاً لولاها لمادت بأهلها، ومن العجائب مراسيها من فوقها خلافاً لمراسي السفن {شامخات} أي: مرتفعات جمع شامخ وهو المرتفع جدّاً، ومنه شمخ بأنفه إذا تكبر، جعل كناية عن ذلك كثنى العطف وصعر الخدّ، كما قال لقمان لابنه: {ولا تصعر خدّك للناس} (لقمان: 18)
{وأسقيناكم} أي: بما لنا من العظمة {ماء} أي: من الأنهار والعيون والغدران والآبار وغير ذلك {فراتاً} أي: عذباً تشربون منه ودوابكم وتسقون منه زرعكم، وهذه الأمور أعجب من البعث، روي في الأرض من الجنة سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة.
{ويل يومئذ} أي: إذ تقوم الساعة {للمكذبين} أي: بأمثال هذه النعم.(1/5049)
وقوله تعالى: {انطلقوا} على إرادة القول، أي: يقال للمكذبين يوم القيامة: انطلقوا. {إلى ما كنتم به تكذبون} من العذاب يعني: النار فقد شاهدتموها عياناً.
{انطلقوا إلى ظل} أي: ظل دخان جهنم لقوله تعالى: {وظل من يحموم} (الواقعة: 43)
(13/315)
---
. {ذي ثلاث شعب} أي: تشعب لعظمه كما يرى الدخان العظيم يتفرّق ذوائب. وقيل: يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق ويتشعب من دخانها ثلاث شعب فتظللهم حتى يفرغ حسابهم والمؤمنون في ظل العرش، وقيل: إن الشعب الثلاث: هي الضريع والزقوم والغسلين؛ لأنها أوصاف النار وقوله تعالى: {لا ظليل} أي: كنين يظلهم من حرّ ذلك اليوم تهكم بهم وردّ لما يوهم لفظ الظل. {ولا يغني} أي: ولا يردّ عنهم شيئاً {من اللهب} أي: لهب النار، فليس كالظل الذي يقي حرّ الشمس، وهذا تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين. واللهب ما يعلو على النار إذا اضطربت من أحمر وأصفر وأخضر.
{إنها} أي: النار {ترمي} أي: من شدّة الاشتعال {بشرر} وهو ما تطاير من النار {كالقصر} أي: كل شررة كالقصر من البناء في عظمه وارتفاعه. قال ابن مسعود: يعني الحصون، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {ترمي بشرر كالقصر} قيل: هي الخشب العظام المقطعة، قال: وكنا نعمد إلى الخشبة فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه ندّخرها للشتاء فكنا نسميها القصر. وقال سعيد بن جبير والضحاك: هي أصول النخل والشجر العظام واحدتها قصرة مثل جمرة وجمر.
وقوله تعالى: {كأنه} أي: الشرر {جمالات} قرأه حمزة والكسائي وحفص بغير ألف بعد اللام على التوحيد والباقون بالألف على الجمع، جمع جمالة وهي التي قرأ بها أوّلاً وهي جمع جمل مثل حجارة وحجر. وقوله تعالى: {صفر} جمع أصفر أي: في هيئتها ولونها. وفي الحديث «شرار النار أصفر كالقير» والعرب تسمي سود الإبل صفراً لشوب سوادها بصفرة، فقيل: صفر في الآية بمعنى سود لما ذكروا في شعر عمران بن حطان الخارجي:(1/5050)
*دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم ** بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى*
(13/316)
---
قال الترمذيّ: وهذا القول ضعيف ومحال في اللغة أن يكون من يشوبه شيء قليل، فينسب كله إلى ذلك الشائب، فالعجب ممن قد قال هذا. وقد قال الله تعالى: {جمالات صفر} فلا نسلم من هذا شيئاً في اللغة. وقيل: شبه الشرر بالجمالات لسرعة سيرها، وقيل: لمتابعة بعضها بعضاً.
{ويل يومئذ} أي: إذ يكون ذلك {للمكذبين} أي: بهذه الأمور العظام.
{هذا} أي: يوم القيامة {يوم لا ينطقون} أي: بشيء من فرط الدهشة والحيرة، وهذا نوع آخر من أنواع تخويف الكفار بين أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما أتوا به من القبائح وهذا في بعض المواقف، فإنّ يوم القيامة يوم طويل ذو مواطن ومواقيت ينطقون في وقت ولا ينطقون في وقت، ولذلك ورد الأمر أن في القرآن الكريم ففي بعضها يختصمون ويتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا ينطقون.
وروى عكرمة أنّ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سأله ابن الأزرق عن قوله تعالى: {هذا يوم لا ينطقون} و{لا تسمع إلا همساً} (طه: 108)
و {أقبل بعضهم على بعض يتساءلون} (الصافات: 27)
(13/317)
---
فقال: إنّ الله تعالى يقول: {وإنّ يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} (الحج: 47)
فإنّ لكل مقدار من هذه الأيام لوناً من هذه الألوان. وقال الحسن: فيه إضمار أي: هذا يوم لا ينطقون فيه بحجة نافعة، فجعل نطقهم كلا نطق لأنه لا ينفع ولا يسمع، ومن نطق بما لا ينفع فكأنه ما نطق كما يقال لمن تكلم بكلام لا يفيد: ما قلت شيئاً. وقيل: إنّ هذا وقت جوابهم {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} (المؤمنون: 108)
{ولا يؤذن لهم} أي: في العذر وقوله تعالى: {فيعتذرون} عطف على يؤذن من غير تسبب عنه فهو داخل في حيز النفي أي: لا إذن فلا اعتذار.
{ويل يومئذ} أي: إذ كان هذا الموقف {للمكذبين} أي: الذين لا تقبل منهم معذرة.(1/5051)
{هذا يوم الفصل} وهذا نوع آخر من أنواع تهديد الكفار وتخويفهم أي: يقال لهم هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق فيتبين المحق من المبطل {جمعناكم} أيها المكذبون من هذه الأمّة بما لنا من العظمة {والأوّلين} من المكذبين قبلكم فتحاسبون وتعذبون جميعاً. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: جمع الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم والذين كذبوا النبيين من قبل.
وقوله تعالى: {فإن كان لكم كيد} أي: حيلة في دفع العذاب عنكم {فكيدون} أي: فاحتالوا لأنفسكم وقاوون، ولن تجدوا ذلك تقريع لهم على كيدهم لدين الله تعالى وذويه وتسجيل عليهم بالعجب، وقيل: إنّ ذلك من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم فيكون كقول هود عليه السلام {فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون} (هود: 55)
{ويل يومئذ} أي: إذ يقال لهم هذا الكلام فيكون زيادة في عذابهم {للمكذبين} أي: الراسخين في التكذيب في ذلك.
(13/318)
---
ثم ذكر ضد المكذبين بقوله تعالى: {إنّ المتقين} أي: الذين اتقوا الشرك لأنهم في مقابلة المكذبين {في ظلال} أي: تكاثف أشجار إذ لا شمس يظل من حرّها {وعيون} أي: من ماء وعسل ولبن وخمر كما قال تعالى: {فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} (محمد: 15)
. وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص بضم العين والباقون بكسرها.
{وفواكه مما يشتهون} في هذا إعلام بأن المأكل والمشرب في الجنة بحسب شهواتهم بخلاف الدنيا فبحسب ما يجد الناس في الأغلب.
وقوله تعالى: {كلوا واشربوا} في موضع الحال من ضمير المتقين في الظرف الذي هو في ظلال أي: هم مستقرّون في ظلال مقولاً لهم ذلك.
وقوله تعالى: {هنيئاً} حال أي: متهنئين {بما} أي: بسبب ما {كنتم تعملون} من طاعات الله تعالى.(1/5052)
{إنا} أي: بما لنا من العظمة {كذلك} أي: كما جزينا المتقين هذا الجزاء العظيم {نجزي المحسنين} أي: نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأعمالهم في الدنيا.
{ويل يومئذ} أي: إذ يكون هذا النعيم للمتقين المحسنين {للمكذبين} أي: يمحض لهم العذاب المخلد ضدّ النعيم المؤبد.
(13/319)
---
وقوله تعالى: {كلوا وتمتعوا} خطاب للكفار في الدنيا {قليلاً} أي: من الزمان وغايته إلى الموت وهو زمان قليل لأنه زائل مع قصر مدّته في زمن الآخرة وفي هذا تهديد لهم، ويجوز أن يكون ذلك خطاباً لهم في الآخرة إيذاناً بأنهم كانوا في الدنيا أحقاء بأن يقال لهم، وكانوا من أهله تذكيراً بحالهم السمجة بما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم والملك الخالد، وهذا ما جرى عليه الزمخشري أوّلاً وذكر الأول ثانياً، واقتصر الجلال المحلي على ما ذكرته أولاً وهو أولى. قال بعض العلماء: التمتع بالدنيا من أفعال الكافرين، والسعي لها من أفعال الظالمين، والاطمئنان إليها من أفعال الكاذبين، والسكون فيها على حد الإذن، والأخذ منها على قدر الحاجة من أفعال عوام المؤمنين، والإعراض عنها من أفعال الزاهدين، وأهل الحقيقة أجل خطراً من أن يؤثر فيهم حب الدنيا وبغضها وجمعها وتركها.
ثم علل ذلك مؤكداً بقوله تعالى لأنهم ينكرون وصفهم بذلك: {إنكم مجرمون} ففيه دلالة على أنّ كل مجرم يتمتع أياماً قلائل، ثم البقاء في الهلاك أبداً.
{ويل يومئذ} أي: إذ تعذبون بإجرامكم {للمكذبين} حيث عرّضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل.
(13/320)
---(1/5053)
{وإذا قيل لهم} أي: لهؤلاء المجرمين من أي: قائل كان {اركعوا} أي: صلوا الصلاة التي فيها الركوع كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما وأطلقوه عليها تسمية لها باسم جزئها، وخص هذا الجزء لأنه يقال على الخضوع والطاعة ولأنه خاص بصلاة المسلمين {لا يركعون} أي: لا يصلون، قال الرازي: وهذا ظاهر لأنّ الركوع من أركانها، فبين تعالى أنّ هؤلاء الكفار من صفتهم أنهم إذا دعوا إلى الصلاة لا يصلون ويجوز أن يكون اركعوا بمعنى اخشعوا وتواضعوا لله بقبول وحيه واتباع دينه، واطرحوا هذا الاستكبار لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ويصرون على استكبارهم، وأن يكون بمعنى اركعوا في الصلاة إذ روي أنها نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة فقالوا: لا نجبي فإنها مسبة علينا فقال صلى الله عليه وسلم «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود». قال في القاموس: جبى تجبية وضع يديه على ركبتيه أو على الأرض أو انكب على وجهه، والتجبية أن تقوم قيام الراكع. واستدل بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وأنهم حال كفرهم يستحقون الذم والعقاب بترك الصلاة؛ لأنّ الله تعالى ذمهم حال كفرهم، وعلى أنّ الأمر للوجوب لأنّ الله تعالى ذمهم بمجرّد ترك المأمور به، وهو يدل على أنّ الأمر للوجوب.
فإن قيل: إنما ذمهم لكفرهم. أجيب بأنه تعالى ذمهم على كفرهم من وجوه إلا أنه تعالى إنما ذمهم في هذه الآية لتركهم المأمور به.
وقرأ هشام والكسائي بضم القاف والباقون بكسرها.
{ويل يومئذ} أي: إذ يكون الفصل {للمكذبين} أي: بما أمروا به.
(13/321)
---(1/5054)
قال الرازي: إنه تعالى لما بالغ في زجر الكفار من أول هذه السورة إلى آخرها بهذه الوجوه العشرة المذكورة وحث على التمسك بالنظر والاستدلال والانقياد للدين الحق ختم السورة بالتعجب من الكفار، وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل القطعية مع تجليها ووضوحها {فبأي حديث بعده} أي: القرآن {يؤمنون} أي: لا يمكن إيمانهم بغيره من كتب الله تعالى بعد تكذيبهم به لاشتماله على الإعجاز الذي لم يشتمل عليه غيره، واستدل بعض المعتزلة بهذه الآية على أنّ القرآن حادث لأن الله تعالى وصفه بأنه حديث والحديث ضد القديم والضدان لا يجتمعان، فإذا كان حديثاً وجب أن لا يكون قديماً. وأجيب: بأن المراد منه هذه الألفاظ ولا نزاع في أنها محدثة.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة والمرسلات كتب الله تعالى له أنه ليس من المشركين» حديث موضوع.
سورة عم يتساءلون
وتسمى سورة النبأ مكية وهي أربعون أو إحدى وأربعون آية ومائةوثلاثة وسبعون كلمة وسبعمائة وسبعون حرفاً
{بسم الله} الذي له الملك كله {الرحمن} الذي عم الوجود بفضله {الرحيم} الذي تمحضت أولياؤه جنته. وقوله تعالى:
(13/322)
---
{عم} أصله عن ما على أنه حرف جر دخل على ما الاستفهامية وأدغمت النون في الميم وحذفت ألف ما، كقوله فيم واستعمال الأصل قليل. ومنه قول حسان:
*على ما قام يشتمني لئيم ** كخنزير تمرّغ في رماد*(1/5055)
ومعنى هذا الاستفهام تفخيم الشأن كأنه قال عن أي شيء {يتساءلون}، ونحوه قولك: زيد ما زيد جعلته لانقطاع قرينه وعدم نظيره كأنه شيء خفي عليك، فأنت تسأل عن جنسه وتفحص عن جوهره كما تقول: ما الغول، وما العنقاء تريد أي شيء هو من الأشياء هذا أصله، ثم جرد للعبارة عن التفخيم حتى وقع في كلام من لا تخفى عليه خافية، ولذا لما وقف البزي ألحق الميم هاء السكت بخلاف عنه، والضمير في يتساءلون لأهل مكة، كانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم. وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى التوحيد وأخبرهم بالبعث بعد الموت وتلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون بينهم فيقولون: ماذا جاء به محمد، ويسألون الرسول والمؤمنين عنه استهزاء، وقيل: الضمير للمسلمين والكافرين جميعاً وكانوا جميعاً يتساءلون عنه، أما المسلم فليزداد خشية واستعداداً، وأما الكافر فليزداد استهزاء.
ثم ذكر أن تساؤلهم عماذا؟ فقال تعالى: {عن النبأ العظيم} قال مجاهد والأكثرون: هو القرآن، دليله قوله تعالى: {قل هو نبأ عظيم} (ص: 67)
وقال قتادة: هو البعث.
فإن قيل: إذا كان الضمير يرجع للكافر، فكيف يكون قوله تعالى: {الذي هم} أي: بضمائرهم مع ادعائهم أنها أقوى الضمائر {فيه مختلفون} مع أنّ الكفار كانوا متفقين على إنكار البعث؟ أجيب: بأنا لا نسلم اتفاقهم على ذلك بل كان فيهم من يثبت المعاد الروحاني وهم جمهور النصارى، وأما المعاد الجسماني فمنهم من يقطع القول بإنكاره ومنهم من يشك، وأما إذا كان المتساءل عنه القرآن فقد اختلفوا فيه كثيراً وقيل: المتساءل عنه نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
وقوله تعالى: {كلا} ردع للمتسائلين هزؤاً، {سيعلمون} ما يحل بهم على إنكارهم له.
(13/323)
---(1/5056)
وقوله تعالى: {ثم كلا سيعلمون} تأكيد وجيء فيه بثم للإيذان بأن الوعيد الثاني أشدّ من الأول. وقال الضحاك: الأولى للكفار والثانية للمؤمنين، أي: سيعلم الكافرون عاقبة تكذيبهم وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم.
ثم أومأ تعالى إلى القدرة على البعث بقوله تعالى: {ألم نجعل} أي: بما لنا من العظمة {الأرض مهاداً} أي: فراشاً كالمهد للصبيّ وهو ما يمهد له فينوّم عليه تسمية للممهود بالمصدر كضرب الأمير.
{والجبال} أي: التي تعرفون شدّتها وعظمها. {أوتاداً} أي: تثبت بها الأرض كما تثبت الخيام بالأوتاد، والاستفهام للتقرير، فيستدل بذلك على قدرته على جميع الممكنات. وإذا ثبت ذلك ثبت القول بصحة البعث، وإنه قادر على تخريب الدنيا بسماواتها وكواكبها وأرضها وعلى إيجاد عالم الآخرة.
تنبيه: مهاداً مفعول ثان لأنّ الجعل بمعنى التصيير، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق فتكون حالاً مقدّرة.
{وخلقناكم} أي: بما دل على ذلك من مظاهر العظمة {أزواجاً} أي: أصنافاً ذكوراً وإناثاً وقيل: ألواناً.
{وجعلنا} أي: بما لنا من العظمة {نومكم سباتاً} أي: راحة لأبدانكم. قال الزجاج: السبات أن ينقطع عن الحركة والروح فيه. وقيل: معناه جلعنا نومكم قطعاً لأعمالكم وقيل: المسبوت الميت من السبت وهو القطع لأنه مقطوع عن الحركة والنوم أحد التوفيتين.
وقوله تعالى: {وجعلنا} أي: بما لنا من العظمة {الليل} أي: بعد ذهاب الضياء حتى كأنه لم يكن {لباساً} فيه استعارة أي: يستركم عن العيون بظلمته كما إذا أردتم هرباً من عدوّ أو بياتاً له أو إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه من كثير من الأمور. قال الشاعر:
*وكم لظلام الليل عندي من يد ** تخبر أنّ المانوية تكذب*
(13/324)
---(1/5057)
ولما جعل النوم موتاً جعل اليقظة معاشاً فقال تعالى: {وجعلنا} أي: بما لنا من القدرة التامّة {النهار} أي: الذي آيته الشمس {معاشاً} أي: حياة تبعثون فيه عن نومكم، أو وقت معاش تتقلبون فيه في حوائجكم ومكاسبكم لتحصيل ما تعيشون به فمعاشاً على هذا اسم زمان.
{وبنينا} بما لنا من الملك التامّ {فوقكم سبعاً} أي: سبع سماوات وقوله تعالى: {شداداً} جمع شديدة أي: قوية محكمة لا يؤثر فيها مرور الزمان لا فطور فيها ولا فروج. ونظيره قوله تعالى: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً} (الأنبياء: 32)
{وجعلنا} أي: بما لنا من العظمة مما لا يقدر عليه غيرنا {سراجاً} أي: منيراً متلألئاً {وهاجاً} أي: وقاداً وهي الشمس.
{وأنزلنا} أي: بما لنا من كمال الأوصاف {من المعصرات} أي: السحاب إذا أعصرت أي: شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر، كقولك: أجز الزرع أي: حان أن يجز، وأعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض.
وعن الحسن وقتادة: هي السماوات، وتأويله أنّ الماء ينزل من السماء إلى السحاب فكأنّ السموات عصرن. وقيل: من الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب. وقيل: الرياح ذوات الأعاصير، وإنما جعلت مبدأ للإنزال لأنها تنشىء السحاب وتدرّ أخلافه. {ماء ثجاجاً} أي: منصباً بكثرة يقال: ثجه وثج بنفسه. وفي الحديث: «أفضل الحج العج والثج» أي: رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدي، وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مثجاً يسيل غرباً، يعني: يثج الكلام ثجاً في خطبته.
{لنخرج} أي: بعظمتنا التي ربطنا بها المسببات بالأسباب {به} أي: بذلك الماء {حباً} أي: نجماً ذا حب مما يتقوّت به كالحنطة والشعير والأرز {ونباتاً} أي: ما يعتلف به كالتبن والحشيش، كما قال تعالى: {كلوا وارعوا أنعامكم} (طه: 54)
{والحب ذو العصف والريحان} (الرحمن: 12)
{وجنات} أي: بساتين تجمع أنواع الأشجار والنبات المقتات وغيره {ألفافاً} أي: ملتفة بالشجر جمع لفيف كشريف وأشراف.t
(13/325)
---(1/5058)
وقيل: هو جمع الجمع، يقال: جنة لفاء وجمعها لف بضم اللام وجمع الجمع ألفاف. وقيل: لا واحد له كالأوزاع والأخياف. وقيل: الواحد لف. قال صحاب الإقليد أنشدني الحسن بن علي الطوسي:
*جنة لف وعيش مغدق ** وندامى كلهم بيض زهر*
وقال الزمخشري: ولو قيل: هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان قولاً وجيهاً.
{إن يوم الفصل} أي: بين الخلائق {كان} أي: في علم الله تعالى وفي حكمه كوناً لا بدّ منه {ميقاتاً} أي: وقتاً للثواب والعقاب، أو وقتاً توقت به الدنيا وتنتهي عنده مع ما فيها من الخلائق.
وقوله تعالى: {يوم ينفخ في الصور} أي: القرن بدل من يوم الفصل أو بيان له، والنافخ إسرافيل عليه السلام أو من أذن الله تعالى له في ذلك {فتأتون} أي: بعد القيام من القبور إلى الموقف {أفواجاً} أي: جماعات مختلفة.
(13/326)
---
وعن معاذ أنه سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ثم أرسل عينيه باكياً، وقال: تحشر عشرة أصناف من أمّتي، بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عمياً، وبعضهم صماً بكماً، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم، يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتناً من الجيف، وبعضهم ملبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم.(1/5059)
ثم فسر هؤلاء بقوله: فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس يعني: النمام، وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت، وأما المنكبون على وجوههم فأكلة الربا، واما العمي فالذين يجورون في الحكم، وأما الصم البكم فالمعجبون بأعمالهم، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم فعلهم، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران، وأما المصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان، وأما الذين أشدّ نتناً من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ويمنعون حق الله تعالى في أموالهم، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء» ا.ه. وقد تكلم في صحة هذا الحديث نعوذ بالله تعالى من هؤلاء ونسأله التوفيق لنا ولأحبابنا، فإنه كريم جواد لا يردّ من سأله.
{وفتحت السماء} أي: شققت لنزول الملائكة {فكانت أبواباً} فإن قيل: هذه الآية تقتضي أنّ السماء بجملتها تصير أبواباً؟ أجيب: بوجوه أوّلها: أنّ تلك الأبواب لما كثرت صارت كأنها ليست إلا أبواباً مفتحة، كقوله تعالى: {وفجرنا الأرض عيوناً} (القمر: 12)
(13/327)
---
كأنّ كلها عيون تتفجر. ثانيها: أنه على حذف مضاف، أي: فكانت ذات أبواب. ثالثها: أن الضمير في قوله تعالى: {فكانت أبواباً} يعود إلى مضمر، والتقدير فكانت تلك المواضع المفتوحة أبواباً، وقيل: الأبواب الطرق والمسالك أي: تكشط فينفتح مكانها وتصير طرقاً لا يسدها شيء، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف التاء بعد الفاء والباقون بتشديدها.
{وسيرت الجبال} أي: ذهب بها عن أماكنها {فكانت سراباً} أي: لا شيء كما أنّ السراب كذلك يظنه الرائي ماء وليس بماء، قال الرازي: إنّ الله تعالى ذكر أحوال الجبال بوجوه مختلفة ويمكن الجمع بينها بأن نقول أول أحوالها الاندكاك وهو قوله تعالى: {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة} (الحاقة: 14)(1/5060)
والحالة الثانية: أن تصير كالعهن المنفوش وهو قوله تعالى: {وتكون الجبال كالعهن المنفوش} (القارعة: 5)
والحالة الثالثة: أن تصير كالهباء وهو قوله تعالى: {وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثاً} (الواقعة: 5 ـ 6)
الحالة الرابعة: أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدّمة قارة في مواضعها فترسل عليها الرياح فتنسفها عن وجه الأرض، فتطيرها في الهواء وهو قوله تعالى: {ويسئلونك عن الجبال قل ينسفها ربي نسفاً} (طه: 105)
الحالة الخامسة: أن تصير سراباً أي: لا شيء كما يرى السراب من بعد. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائيّ بإدغام تاء التأنيث في السين والباقون بالإظهار.
(13/328)
---
{إنّ جهنم} أي: النار التي تلقى أصحابها متجهمة لهم بغاية ما يكرهون {كانت مرصاداً} أي: ترصد الكفار أو موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفار أو خزنة الجنة المؤمنين ليحرسوهم من فيحها في مرورهم عليها، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ على جسر جهنم سبع محابس يسأل العبد عند أوّلها عن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصلاة، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع فيسأل عن الصوم، فإن جاء به تاماً جاز إلى الخامس فيسأل عن الحج فإن جاء به تاماً جاز إلى السادس فيسأل عن العمرة، فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع فيسأل عن المظالم، فإن خرج منها وإلا فيقال: انظروا إن كان له تطوّع أكملوا أعماله، فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة.
وأما الكافر فهو مستمرّ فيها كما قال تعالى: {للطاغين} أي: الكافرين {مآبا} أي: مرجعاً يرجعون إليه.
وقرأ حمزة {لابثين فيها} بغير ألف بين اللام والباء الموحدة والباقون بألف وهما لغتان والأولى أبلغ قاله البيضاوي.
(13/329)
---(1/5061)
وقوله تعالى: {أحقاباً} جمع حقب والحقب الواحد ثمانون سنة، كل سنة اثنا عشر شهراً كل شهر ثلاثون يوماً كل يوم ألف سنة، روي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال مجاهد: الأحقاب ثلاثة وأربعون حقباً. وقال الحسن: إنّ الله تعالى لم يجعل لأهل النار مدّة بل قال: {لابثين فيها أحقاباً} فوالله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل آخر إلى الأبد، فليس للأحقاب عدّة إلا الخلود، روي عن عبد الله أنه قال: لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا و لو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا. وقال مقاتل بن حبان: الحقب الواحد سبعة عشر ألف سنة. قال: وهذه الآية منسوخة نسختها {فلن نزيدكم إلا عذاباً} يعني: أنّ العدد قد ارتفع والخلود قد دخل وعلى تقدير عدم النسخ فهو من قبيل المفهوم فلا يعارض المنطوق الدال على خلود الكفار، ويجوز أن يراد {لابثين فيها أحقاباً}.
{لا يذقون} أي: غير ذائقين {فيها} أي: النار {برداً ولا شراباً} {إلا حميماً وغساقاً} ثم يبدّلون بعد الأحقاب غير الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب، ويجوز أن يكون جمع حقب من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره، وحقب فلان إذا أخطأ الرزق فهو حقب وجمعه أحقاب فيتنصب حالاً عنهم يعني: لابثين فيها حقبين جهدين، وقوله تعالى: {لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً} تفسير له والاستثناء منقطع يعني: لا يذوقون فيها برداً. قال عطاء والحسن: أي: راحة وروحاً، أي: ينفس عنهم حرّ النار ولا شراباً يسكن من عطشهم ولكن يذوقون فيها حميماً أي: ماء حارًّا غاية الحرارة وغساقاً وهو ما يسيل من صديد أهل النار فإنهم يذوقونه وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ البرد النوم ومثله، قال الكسائي وأبو عبيدة: تقول العرب منع البرد البرد أي: أذهب البرد النوم، قال الشاعر:
*فلو شئت حرمت النساء سواكم ** وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا*
(13/330)
---(1/5062)
وقرأ حمزة والكسائيّ وجعفر بتشديد السين والباقون بتخفيفها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الغساق الزمهرير يحرقهم ببرده.
جوزوا بذلك {جزاء وفاقاً} أي: موافقاً لعملهم قال مقاتل: وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الكفر ولا عذاب أعظم من النار.
وقوله تعالى: {إنهم كانوا لا يرجون حساباً} بيان لما وافقه هذا الجزاء أي: لا يخافون أن يحاسبوا. والمعنى: أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا أنهم يحاسبون.
{وكذبوا بآياتنا} أي: بما جاءت به الأنبياء عليهم السلام، وقيل: القرآن وقرأ {كذاباً} غير الكسائيّ بالتشديد أي: تكذيباً، قال الفراء: وهي لغة يمانية فصيحة يقولون في مصدر التفعيل فعال. وقال الزمخشري: وفعال في باب فعل كله فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره، وسمعني بعضهم أفسر آية فقال: لقد فسرتها فساراً ما سمع بمثله. وقرأ الكسائيّ بالتخفيف مصدر كذب بدليل قول الشاعر:
*فصدقته وكذبته ** والمرء ينفعه كذابه*
قال الزمخشري: وهو مثل قوله: {أنبتكم من الأرض نباتاً} (نوح: 17)
يعني: وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً، أو تنصبه بكذبوا لأنه يتضمن معنى كذبوا؛ لأنه كل مكذب بالحق كاذب، وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة، أو كذبوا بها مكاذبين لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب فعل من يغالب في أمر فبلغ فيه أقصى جهده.
{وكل شيء} أي: من الأعمال وغيرها {أحصيناه} أي: ضبطناه، وقوله تعالى: {كتاباً} فيه وجهان أحدهما: أنه مصدر في موضع إحصاء والإحصاء والكتب يتشاركان في معنى الضبط، ثانيهما: أن يكون حالاً بمعنى مكتوباً في اللوح المحفوظ كقوله تعالى: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} (يس: 12)
(13/331)
---(1/5063)
. وقيل: أراد ما تكتبه الملائكة الموكلون بالعباد بأمر الله تعالى إياهم بالكتابة لقوله تعالى: {وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين} (الإنفطار: 10 ـ 11)
والجملة اعتراض.
وقوله تعالى: {فذوقوا فلن نزيدكم} أي: شيئاً من الأشياء في وقت من الأوقات {إلا عذاباً} تسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات، قال الرازي: وفي هذه الآية مبالغات منها لن للتأكيد ومنها الالتفات، ومنها إعادة قوله تعالى: {فذوقوا} بعد ذكر العذاب، قال أبو بردة: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أشدّ آية في القرآن؟ فقال صلى الله عليه وسلم «قوله تعالى: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً}» أي: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب و{كلما خبت زدناهم سعيراً}.
ولما ذكر تعالى ما للكافرين أتبعه بذكر ما للمؤمنين فقال تعالى:
{إنّ للمتقين مفازاً} أي: مكان فوز في الجنة.
وقوله تعالى: {حدائق} أي: بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة بدل من مفازاً بدل الإشمال أو البعض أو بيان له وقوله تعالى: {وأعناباً} أي: كروماً عطف على مفازاً.
(13/332)
---
{وكواعب} أي: جواري تكعب ثديهنّ جمع كاعب {أتراباً} أي: على سنّ واحد جمع ترب بكسر التاء وسكون الراء وقيل: الأتراب اللدات.
{وكأساً دهاقاً} أي: خمراً مالئة محالها وفي القتال {وأنهار من خمر} والدهاق المترعة ودهق الحوض ملأه حتى قال: قطني، وقال ابن عباس: مترعة مملوءة. وقال عكرمة: صافية.
{لا يسمعون فيها} أي: الجنة في وقت ما عند شرب الخمر وغيره من الأحوال {لغواً} أي: لغطاً يستحق أن يلغى بأن يكون ليس له معنى، وقوله تعالى: {ولا كذاباً} قرأه بالتخفيف الكسائي وبالتشديد الباقون، أي: تكذيباً من واحد لغيره بخلاف ما يقع في الدنيا عند شرب الخمر.(1/5064)
{جزاء من ربك} أي: المحسن إليك بما أعطاك جزاهم بذلك جزاء. وقوله تعالى: {عطاء} بدل من جزاء وهو اسم مصدر وجعله الزمخشري منصوباً بجزاء نصب المفعول به، وردّه أبو حيان بأنه جعل جزاء مصدراً مؤكداً لمضمون الجملة التي هي {إنّ للمتقين} قال: والمصدر المؤكد لا يعمل لأنه لا ينحل لحرف مصدري والفعل ولا نعلم في ذلك خلافاً {حساباً} أي: كافياً وافياً يقال: أحسبت فلاناً أي: أعطيته ما يكفيه حتى قال حسبي. وقال ابن قتيبة أي: عطاء كثيراً، وقيل: جزاء بقدر أعمالهم.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن} برفع رب والرحمن وابن عامر وعاصم بخفضهما والآخران بخفض الأول ورفع الثاني.
أما رفعهما فمن أوجه: أحدها: أن يكون رب خبر مبتدأ مضمر أي: هو رب والرحمن كذلك، أو مبتدأ خبره لا يملكون، ثانيها: أن يجعل رب مبتدأ والرحمن خبره، ولا يملكون خبراً ثانياً أو مستأنفاً، ثالثها: أن يكون ربّ مبتدأ والرحمن نعته، ولا يملكون خبر رب. رابعها: أن يكون رب مبتدأ والرحمن مبتدأ ثانٍ ولا يملكون خبره، والجملة خبر الأوّل، وحصل الربط بتكرير المبتدأ بمعناه وهو رأي الأخفش، ويجوز أن يكون لا يملكون حالاً وتكون لازمة.
(13/333)
---
وأما جرّهما فعلى البيان والنعت أو يجعل رب السموات تابعاً للأوّل والرحمن تابعاً للثاني، وأما جرّ الأوّل فعلى التبعية للأوّل. ورفع الثاني، فعلى الابتداء والخبر الجملة الفعلية وهي لا يملكون أي: الخلق. {منه} أي: من الله تعالى {خطاباً} والضمير في لا يملكون لأهل السموات والأرض أي: ليس في أيديهم ما يخاطب به الله، ويأمر به في أمر الثواب والعقاب خطاب واحد يتصرفون فيه تصرّف الملاك، فيزيدون فيه أو ينقصون منه أولا يملكون أن يخاطبوا بشيء من نقص العذاب أو زيادة في الثواب إلا أن يهب لهم ذلك ويأذن لهم فيه.(1/5065)
وقوله تعالى: {يوم} متعلق بلا يملكون أو لا يتكلمون {يقوم الروح والملائكة} وقوله تعالى: {صفاً} حال أي: مصطفين، والروح أعظم خلقاً من الملائكة وأشرف منهم وأقرب من رب العالمين، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هو ملك عظيم ما خلق الله تعالى بعد العرش خلقاً أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفاً وقامت الملائكة كلهم صفاً واحداً، فيكون عظم خلقه مثلهم، وقال الشعبي: هو جبريل عليه السلام، وقيل: ملك موكل على الأرواح.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: الروح ملك أعظم من السموات ومن الجبال ومن الملائكة وهو في السماء الرابعة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق من كل تسبيحة ملك يجيء يوم القيامة صفاً وحده.
(13/334)
---
وقال مجاهد وقتادة رضي الله عنهم: الروح خلق على صورة بني آدم وليسوا بناس يقومون صفاً والملائكة صفاً هؤلاء جند وهؤلاء جند. وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خلق على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا معه واحد منهم، وقال الحسن رضي الله عنه: هو بنو آدم ورواه قتادة عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال: هذا ما كان يكتمه ابن عباس، وقيل: هو جند من جنود الله تعالى ليسوا ملائكة، لهم رؤوس وأيد وأرجل يأكلون الطعام. وقيل: أرواح بني آدم، وقال زيد بن أسلم: هو القرآن، وقرأ {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} (الشورى: 52)
وإذا كان هؤلاء {لا يتكلمون} وهم من أفضل الخلق وأشرفهم وأكثرهم طاعة وأقربهم منه تعالى لا يملكون التكلم، فما ظنك بمن عداهم من أهل السموات والأرض، ويجوز رجوع الضمير للخلق أجمعين.(1/5066)
{إلا من أذن له} أي: في الكلام إذناً خاصاً {الرحمن} أي: الملك الذي لا تكون النعمة إلا منه {وقال} قولاً {صواباً} في الدنيا أي: حقاً من المؤمنين والملائكة وهما شريطتان: أن يكون المتكلم مأذوناً له في الكلام، وأن يتكلم بالصواب فلا يشفع لغير مرتضى. لقوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} (الأنبياء: 28)
وقيل: القول الصواب لا إله إلا الله.
{ذلك} أي: المشار إليه لبعد مكانته وعظم رتبته وعلوّ منزلته {اليوم الحق} أي: الكائن لا محالة وهو يوم القيامة {فمن شاء اتخذ إلى ربه} أي: المحسن إليه {مآباً} أي: مرجعاً وسبيلاً لطاعته ليسلم من العذاب في ذلك اليوم، فإنّ الله تعالى جعل لهم قوة واختياراً، ولكن لا يقدر أحد منهم على مشيئة شيء إلا بمشيئة الله تعالى.
(13/335)
---
{إنّا} أي: على ما لنا من العظمة {أنذرناكم} أي: يا كفار مكة {عذاباً قريباً} أي: عذاب يوم القيامة الآتي وكل آت قريب، وقوله تعالى: {يوم} ظرف لعذاباً بصفته {ينظر المرء} أي: كل امرئ سواء كان مؤمناً أو كافراً نظراً لا مرية فيه {ما} أي: الذي {قدمت يداه} أي: كسبه في الدنيا من خير وشرّ، وقال الحسن رضي الله عنه: أراد بالمرء المؤمن أي: يجد لنفسه عملاً، وأما الكافر فلا يجد لنفسه عملاً فيتمنى أن يكون تراباً، ولأنه تعالى قال: {ويقول الكافر} فعلم أنه أراد بالمرء المؤمن وقيل: هو الكافر لقوله تعالى: {إنا أنذرناكم} فيكون الكافر ظاهراً وضع موضع الضمير لزيادة الذمّ. ومعنى {ما قدّمت يداه} من الشرّ كقوله تعالى: {ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق، ذلك بما قدمت يداك} (الحج: 9 ـ 10)
وما يجوز أن تكون استفهامية منصوبة بقدّمت أي: ينظر أي شيء قدّمت يداه أو موصولة منصوبة بينظر يقال: نظرته بمعنى نظرت إليه والراجع إلى الصلة محذوف.(1/5067)
وقال مقاتل رضي الله عنه: نزل قوله تعالى: {يوم ينظر المرء ما قدّمت يداه} في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، و {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} في أخية الأسود بن عبد الأسد وقال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: الكافر هنا إبليس، وذلك أنه عاب آدم عليه السلام بأنه خلق من تراب وافتخر بأنه خلق من نار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه من الثواب والراحة ورأى ما هو فيه من الشدّة والعذاب تمنى أنه كان بمكان آدم فيقول {يا ليتني كنت تراباً}. قال: ورأيته في بعض التفاسير.
(13/336)
---
قال البغويّ: قال أبو هريرة رضي الله عنه فيقول التراب: لا ولا كرامة لكل من جعلك مثلي. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يحشر الخلق كلهم من دابة وطائر وإنسان ثم يقال للبهائم والطير: كونوا تراباً، فعند ذلك يقول الكافر {يا ليتني كنت تراباً} أي: فلا أعذب وقيل: معنى {يا ليتني كنت تراباً} أي: لم أبعث. وقال أبو الزناد: إذا قضي بين الناس وأمر بأهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجنّ: عودوا تراباً فيعودون تراباً فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم: {يا ليتني كنت تراباً}، وقال ليث بن أبي سليم مؤمنو الجنّ يعودون تراباً. وقال عمر بن عبد العزيز ومجاهد وغيرهما: مؤمنو الجنّ حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها، والذي عليه الأكثر أنهم مكلفون مثابون ومعاقبون كبني آدم، وقيل: يحشر الله تعالى الحيوان غير مكلف حتى يقتص للجماء من القرناء ثم يردّه تراباً فيودّ الكافر حاله.
وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة عمّ سقاه الله تعالى برد الشراب يوم القيامة» حديث موضوع.
سورة النازعات
مكية
وهي خمس أو ست وأربعون آية ومائةوسبعون كلمة وسبعمائة وثلاثون حرفاً(1/5068)
{بسم الله} الذي أحاط علمه بالكائنات {الرحمن} الذي أنعم على سائر الموجودات {الرحيم} الذي خص أولياءه بالجنات
(13/337)
---
{والنازعات} أي: الملائكة تنزع أرواح الكفار {غرقاً} أي: تنزع أرواحهم من أجسادهم بشدّة كما يغرق النازع في القوس ليبلغ بها غاية المدّ بعدما نزعها، حتى إذا كادت تخرج ردّها إلى جسده فهذا عملهم بالكفار. وقال عليّ وابن مسعود رضي الله عنهما: يريد نفس الكفار ينزعها ملك الموت من أجسادهم من تحت كل شعرة ومن تحت الأظافير وأصول القدمين نزعاً كالسفود ينزع من الصوف الرطب، ثم يغرقها أي: يرجعها إلى أجسادهم ثم ينزعها، فهذا عمله في الكفار.
وقال السدّي رضي الله عنه: والنازعات هي النفوس حين تغرق في الصدور، وقال مجاهد رضي الله عنه: هي الموت ينزع النفوس. وقال الحسن وقتادة رضي الله عنهم: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق تطلع ثم تغيب. وقال عطاء وعكرمة رضي الله عنهم: هي النفوس، وقيل: الغزاة.
تنبيه: غرقاً يجوز أن يكون مصدراً على حذف الزوائد بمعنى إغراقاً، وانتصابه بما قبله لملاقاته في المعنى، وأن يكون على الحال أي: ذوات إغراق.g
يقال: أغرق في الشيء يغرق فيه إذا أوغل وبلغ أقصى غايته.
{والناشطات نشطاً} أي: الملائكة تنشط أرواح المؤمنين أي: تسلها برفق فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير إذا حل عنه.
(13/338)
---(1/5069)
وفي الحديث: «كأنما نشط من عقال». وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «هي أنفس المؤمنين تنشط للخروج عند الموت لما ترى من الكرامة؛ لأنّ الجنة تعرض عليهم قبل الموت». وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: «هي الملائكة تنشط أرواح الكفار مما بين الجلد والأظفار حتى تخرجها من أفواههم بالكد والغم» والنشط الجذب والنزع، يقال: نشط الدنو نشطاً انتزعها». وقال السدّي رضي الله عنه: هي النفس تنشط من بين القدمين، أي: تجذب، وقال قتادة رضي الله عنه: هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق، أي: تذهب. يقال: نشط من بلد إلى بلد إذا خرج في سرعة، ويقال حمار ناشط ينشط من بلد إلى بلد. وقال الجوهري: يعني النجوم تنشط من برج إلى برج، كالثور الناشط من بلد إلى بلد.
{والسابحات سبحاً} أي: الملائكة تسبح من السماء بأمره أي: ينزلون من السماء مسرعين كالفرس الجواد. يقال له: سابح إذا أسرع في جريه، وقال عليّ رضي الله عنه: هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين. قال الكلبي: كالذي يسبح في الماء، فأحياناً ينغمس وأحياناً يرتفع يسلونها سلاً رفيقاً بسهولة، ثم يدعونها حتى تستريح. وعن مجاهد رضي الله عنه: السابحات الموت يسبح في نفوس بني آدم. وقال قتادة والحسن رضي الله عنهم: هي النجوم تسبح في أفلاكها، وكذا الشمس والقمر، قال تعالى: {كل في فلك يسبحون} (الأنبياء: 33)
. وقال عطاء: هي السفن في الماء. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أرواح المؤمنين تسبح شوقاً إلى لقاء الله تعالى ورحمته حتى تخرج، وقيل: هي خيل الغزاة، قال عنترة:
*والخيل تعلم حين تس ** بح في حياض الموت سبحا*
(13/339)
---(1/5070)
{فالسابقات سبقاً} أي: الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، وقال مجاهد رضي الله عنه: هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها شوقاً إلى لقاء الله تعالى وكرامته، وقد عاينت السرور. وقال قتادة رضي الله عنه: هي النجوم يسبق بعضها بعضاً في السير. وقال عطاء: هي الخيل التي تسبق في الجهاد، وقيل: هي ما يسبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة أو نار. قال الجرجاني: ذكر السابقات بالفاء لأنها مسببة عن الذي قبلها، أي: واللاتي يسبحن فيسبقن.
قال الواحدي: وهذا غير مطرد في قوله تعالى: {فالمدبرات أمراً} أي: الملائكة تدبر أمر الدنيا، أي: تنزل بتدبيره. قال الرازي: ويمكن الجواب بأنها لما أمرت سبحت فسبقت فدبرت ما أمرت بتدبيره، فتكون هذه أفعالاً يتصل بعضها ببعض، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المدبرات هي الملائكة وكلوا بأمور عرّفهم الله تعالى العمل بها.
قال عبد الرحمن بن سابط: يدبر الأمر في الدنيا أربعة من الملائكة: جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل عليهم السلام، فأما جبريل فوكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فوكل بالقطر والنبات، وأما ملك الموت فوكل بقبض الأرواح، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم، وليس في الملائكة أقرب منه وبينه وبين العرش خمسمائة عام. وقيل: هي الكواكب السبع، حكي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
وفي تدبيرها بالأمور وجهان: أحدهما تدبير طلوعها وأفولها، والثاني في تدبير ما قضى الله تعالى فيها من تقليب الأحوال أقسم سبحانه وتعالى بهذه الأمور على قيام الساعة والبعث، وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه، ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، وأما العباد فلا يصح لهم أن يقسموا بغير الله تعالى وصفاته.
(13/340)
---(1/5071)
وقوله تعالى: {يوم ترجف} أي: تضطرب اضطراباً كثيراً مزعجاً {الراجفة} أي: الصيحة منصوب بالجواب، أي: لتبعثنّ يا كفار مكة {يوم ترجف الراجفة} وهي النفخة الأولى بها يرجف كل شيء، أي: يتزلزل ويتحرّك لها كل شيء، ويموت منها جميع الخلائق فوصفت بما يحدث منها. {تتبعها الرادفة} أي: الصيحة التابعة لها وهي النفخة الثانية، ردفت الأولى وبينهما أربعون سنة، والجملة حال من الراجفة واليوم واسع للنفختين وغيرهما، فصح ظرفيته للبعث الواقع عقيب الثانية. وقال قتادة رضي الله عنه: هما صيحتان فالأولى تميت كل شيء والأخرى تحيي كل شيء بإذن الله سبحانه وتعالى، وقال عطاء: الراجفة القيامة والرادفة البعث. روي عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام وقال: يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه».
{قلوب يومئذ} أي: إذ قام الخلائق بالصيحة التابعة للأولى {واجفة} أي: خائفة قلقة مضطربة من الوجيف وهو صفة القلوب، وقال مجاهد رضي الله عنه: وجلة. وقال السدّي: زائلة عن أماكنها، نظيره {إذ القلوب لدى الحناجر} (غافر: 18)
{أبصارها} أي: أبصار أصحابها، فهو من الاستخدام {خاشعة} أي: ذليلة من الخوف، ولذا أضافها إلى القلوب، كقوله تعالى: {خاشعين من الذل} (الشورى: 45)
{يقولون} أي: أرباب القلوب والأبصار في الدنيا استهزاء وإنكاراً للبعث {أئنا لمردودون} أي: بعد الموت {في الحافرة} أي: في الحياة التي كنا فيها قبل الموت، وهي حالتنا الأولى، فنصير أحياء بعد الموت كما كنا، تقول العرب: رجع فلان في حافرته، أي: رجع من حيث جاء، والحافرة عندهم اسم لابتداء الشيء وأوّل الشيء. وقال بعضهم: الحافرة وجه الأرض التي تحفر فيها قبورهم، سميت حافرة بمعنى المحفورة. كقوله تعالى: {عيشة راضية} (الحاقة: 21)
(13/341)
---(1/5072)
أي: مرضية، وقيل: سميت حافرة لأنها مستقرّ الحوافر، أي: إنا لمردودون إلى الأرض فنبعث خلقاً جديداً نمشي عليها، وقال ابن زيد: الحافرة النار.
{أئذا كنا} أي: كوناً صار جبلة لنا. {عظاماً نخرة} أي: بالية متفتتة نحيى بعد ذلك، وقرأ: أئنا وإذا نافع وابن عامر والكسائي بالاستفهام في الأوّل والخبر في الثاني، والباقون بالاستفهام فيهما، وسهل نافع وابن كثير وأبو عمرو والباقون بالتحقيق، وأدخل بين الهمزتين قالون وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه ألفاً والباقون بغير إدخال.
وقرأ نخرة حمزة وشعبة والكسائي بالألف بعد النون والباقون بغير ألف، وهما لغتان، مثل: الطمع والطامع، والحذر والحاذر، معناهما البالية، وفرق قوم بينهما فقالوا: النخرة البالية، والنخرة المجوّفة التي تمر فيها الريح فتنخر أي: تصوّت.
{قالوا} أي: المنكرون للبعث {تلك} أي: رجعتنا العجيبة إلى الحياة {إذاً} أي: إن صحت {كرّة} أي: رجعة {خاسرة} أي: ذات خسران أو خسار أصحابها، والمعنى: إن صحت فنحن إذاً خاسرون بتكذيبنا وهو استهزاء منهم. وعن الحسن رضي الله عنه أن خاسرة بمعنى كاذبة، أي: ليست كائنة.
قال الله تعالى: {فإنما هي} أي: الرادفة التي يتبعها البعث {زجرة} أي: صيحة بانتهار تتضمن الأمر بالقيام والسوق إلى المحشر والمنع من التخلف {واحدة} عبر بالزجرة لأنه أشدّ من النهي، لأنها صيحة لا يتخلف عنها القيام أصلاً فكان كأنه بلسان قال عن تلك الصيحة: أيها الأجساد البالية انتهي عن الرقاد وقومي إلى الميعاد بما حكمنا به من المعاد، فقد انتهى زمن الحصاد، وآن أوان الاجتناء لما قدّم من الزاد، فيا خسارة من ليس له زاد.
(13/342)
---(1/5073)
{فإذا هم} أي: فتسبب عن تلك النفخة وهي الثانية أن كل الخلائق {بالساهرة} أي: صاروا على وجه الأرض بعدما كانوا في جوفها. والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة، قال بعض أهل اللغة: تراهم سموها ساهرة لأنّ فيها نوم الحيوان وسهرهم. قال سفيان رضي الله عنه: هي أرض الشام، وقال قتادة رضي الله عنه: هي جهنم.
فإن قيل: بم يتعلق {فإنما هي زجرة واحدة}؟ أجيب: بأنه متعلق بمحذوف معناه لا تستصعبوها {فإنما هي زجرة واحدة} يعني: لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على الله تعالى، فإنها سهلة هينة في قدرته تعالى.
وقال الزمخشري: الساهرة الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك، لأنّ السراب يجري فيها من قولهم: عين ساهرة أي: جارية الماء وفي ضدها نائمة. قال الأشعث بن قيس:
*وساهرة يضحى السراب مجللاً ** لأقطارها قد جبتها متلثما*
أو لأنّ سالكها لا ينام خوف الهلكة. وقال الراغب: هي وجه الأرض. وقيل: أرض القيامة، وحقيقتها التي يكثر الوطء بها كأنها سهرت من ذلك، والأسهران عرقان في الأنف، والساهور غلاف القمر الذي يدخل فيه عند كسوفه. وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الساهرة أرض من فضة لم يعص الله عليها قط جعلها حينئذ، وقيل: الساهرة اسم للأرض السابعة يأتي بها الله تعالى فيحاسب عليها الخلائق، وذلك حين تبدّل الأرض غير الأرض وقال وهب بن منبه: جبل بيت المقدس. وقال عثمان بن أبي العاتكة: إنه اسم مكان من الأرض بعينه بالشأم، وهو الصقع الذي بين جبل أريحاء وجبل حسان يمدّه الله تعالى كيف شاء.
ثم إنّ الله تعالى سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
(13/343)
---(1/5074)
{هل أتاك} يا أشرف الخلق {حديث موسى} أي: أليس قد أتاك حديثه، فيسليك على تكذيب قومك ويهدّدهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من هو أعظم منهم، فإنه كان أقوى أهل الأرض بما كان له من كثرة الجنود فلما أصرّ على التكذيب ولم يرجع ولا أفاده التأديب أغرقناه وآله، ولم نبقِ منهم أحداً، وقد كانوا لا يحصون عدداً بحيث قيل: إنّ طليعته كانت على عدد بني إسرائيل ستمائة ألف فكيف بقومك الضعاف.
وقوله تعالى: {إذ} أي: حين {ناداه} منصوب بحديث لا بأتاك {ربه} أي: المحسن إليه بالرسالة وغيرها {بالواد المقدّس} أي: المطهر غاية الطهر بتشريف الله تعالى له بإنزال النبوّة المفيضة للبركات. وقوله تعالى: {طوى} اسم الوادي وهو الذي طوي فيه الشرّ عن بني إسرائيل، ومن أراد الله تعالى من خلقه ونشر فيه بركات النبوّة على جميع أهل الأرض المسلم بإسلامه وغيره برفع عذاب الاستئصال عنه، فإن العلماء قالوا: إنّ عذاب الاستئصال ارتفع حين أنزلت التوراة، وهو واد بالطور بين إيلة ومصر، وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو بغير تنوين في الوصل والباقون بالتنوين.
وقوله تعالى: {اذهب إلى فرعون} أي: ملك مصر الذي كان يستعبد بني إسرائيل على إرادة القول {إنه طغى} أي: تجاوز الحدّ في الكفر وعلا وتكبر.
وقال الرازي: لم يبين أنه طغى في أي شيء، فقيل: تكبر على الله تعالى وكفر به، وقيل: تكبر على الخلق واستعبدهم.{{
(13/344)
---
وروي عن الحسن رضي الله عنه قال: كان فرعون علجاً من همدان، وقال مجاهد رضي الله عنه: كان من أهل إصطخر. وعن الحسن أيضاً: كان من أصبهان يقال له: ذو الظفر طوله أربعة أشبار.(1/5075)
وقوله تعالى: {فقل} أي: له {هل لك} أي: هل لك سبيل {إلى أن تزكى} أي: تتطهر من الكفر والطغيان. قال ابن عباس رضي الله عنهما: بأن تشهد أن لا إله إلا الله. وقال أبو البقاء: لما كان المعنى أدعوك جاء بإلى، وقال غيره: يقال هل لك في كذا، وهل لك إلى كذا كما تقول: هل ترغب فيه وهل ترغب إليه. وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الزاي، والأصل تتزكى والباقون بتخفيفها.
{وأهديك إلى ربك} أي: وأنبهك على معرفة المحسن إليه {فتخشى} لأنّ الخشية لا تكون إلا بالمعرفة قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28)
أي: العلماء به، وذكر الخشية لأنها ملاك الأمر من خشي الله تعالى أتى منه كل خير، ومن أمن اجترأ على كل شرّ. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل» بدأ بمخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا، وأردفه الكلام الرفيق ليستدعيه للتلطف في القول ويستنزله بالمداراة من علوه كما أمر بذلك في قوله تعالى: {فقولا له قولاً ليناً} (طه: 25)
الآية. وقال الرازي: سائر الآيات تدل على أنه تعالى لما نادى موسى عليه السلام ذكر له أشياء كثيرة {نودي إني أنا ربك} إلى قوله تعالى: {لنريك من آياتنا الكبرى اذهب إلى فرعون إنه طغى} (طه: 12 ـ 24)
فدل قوله تعالى: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} أنه من جملة ما ناداه به لا كل ما ناداه به، وأيضاً فليس الغرض أنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى فرعون فقط، بل إلى كل من كان في الطور إلا أنه خصه بالذكر لأنّ دعوته جارية مجرى كل القوم.
والفاء في قوله تعالى: {فأراه} عاطفة على محذوف يعني: فذهب فأراه {الآية الكبرى} كقوله تعالى: {اضرب بعصاك الحجر فانفجرت} (البقرة: 60)
(13/345)
---
أي: فضرب فانفجرت.(1/5076)
واختلفوا في الآية الكبرى أي: العلامة العظمى وهي المعجزة. فقال عطاء وابن عباس رضي الله عنهم: هي العصا. وقال مقاتل والكلبي رضي الله عنهما: هي اليد البيضاء تبرق كالشمس، والأوّل أولى لأنه ليس في اليد إلا انقلاب لونها، وهذا حاصل في العصا لأنها لما انقلبت حية لا بدّ وأن يتغير اللون الأوّل، فإذن كل ما في اليد فهو حاصل في العصا، وأمور أخر وهي الحياة في الجرم الجمادي وتزايد أجزائه، وحصول القدرة الكبيرة والقوّة الشديدة وابتلاعها أشياء كثيرة وزوال الحياة والقدرة عنها، وذهاب تلك الأجزاء التي عظمت، وزوال ذلك اللون والشكل اللذين صارت العصا بهما حية، وكل واحد من هذه الوجوه كان معجزاً مستقلاً في نفسه، فعلمنا أنّ الآية الكبرى هي العصا. وقال مجاهد رضي الله عنه: هي مجموع العصا واليد، وقيل: فلق البحر، وقيل: جميع آياته التسع.
{فكذب} أي: فتسبب عن رؤيته ذلك أن كذب موسى عليه السلام {وعصى} الله تعالى بعد ظهور الآية وتحقيق الأمر، وقيل: كذب بالقول وعصى بالتمرّد والتجبر.
{ثم أدبر} أي: تولى وأعرض عن الإيمان بعد المهل والأناة إعراضاً عظيماً بالتمادي على أعظم ما كان فيه من الطغيان بعد خطوب جليلة ومشاهد طويلة، حال كونه {يسعى} أي: يعمل بالفساد في الأرض، أو أنه لما رأى الثعبان أدبر مرعوباً يسعى أي: يسرع في مشيته. قال الحسن رضي الله عنه: كان رجلاً طياشاً خفيفاً، وتولى عن موسى عليه السلام يسعى ويجتهد في مكايدته، أو أريد: ثم أقبل يسعى كما تقول: أقبل فلان يفعل كذا بمعنى أنشأ يفعل، فوضع أدبر موضع أقبل لئلا يوصف بالإقبال.
(13/346)
---(1/5077)
{فحشر} أي: فتسبب عن إدباره أنه جمع السحرة للمعارضة وجنوده للقتال {فنادى} حينئذ بأعلى صوته. قال حمزة الكرماني: قال له موسى عليه السلام: إنّ ربي أرسلني إليك لئن آمنت بربك تكون أربعمائة سنة في النعيم والسرور، ثم تموت فتدخل الجنة فقال: حتى أستشير هامان فاستشاره، فقال: أتصير عبداً بعدما كنت رباً، فعند ذلك جمع بعث الشرط وجمع السحرة والجنود.
فلما اجتمعوا قام عدوّ الله على سريره {فقال أنا ربكم الأعلى} أي: لا رب فوقي، وقيل: أراد أنّ الأصنام أرباب وأنا ربها وربكم، وقيل: أمر منادياً فنادى في الناس بذلك، وقيل: قام فيهم خطيباً فقال ذلك.
{فأخذه الله} أي: أهلكه بالغرق الملك الأعظم الذي لا كفء له {نكال} أي: عقوبة {الآخرة} أي: هذه الكلمة وهي قوله {أنا ربكم الأعلى}. {والأولى} وهي قوله: {ما علمت لكم من إله غيري} (القصص: 38)
. قال ابن عباس رضي الله عنهما: وكان بين الكلمتين أربعون سنة، والمعنى: أمهله في الأولى ثم أخذه في الآخرة فعذبه بكلمتيه. وقال الحسن رضي الله عنه: {نكال الآخرة والأولى} هو أن أغرقه في الدنيا وعذبه في الآخرة. وعن قتادة رضي الله عنه: الآخرة هي قوله: {أنا ربكم الأعلى} والأولى تكذيبه لموسى عليه السلام.
ثم إنه تعالى ختم هذه القصة بقوله تعالى: {إنّ في ذلك} أي: الأمر العظيم الذي فعله فرعون والذي فعل به حين كذب وعصى {لعبرة} أي: لعظة {لمن يخشى} أي: لمن يخاف الله تعالى لأنّ الخشية أساس الخير كما مرّت الإشارة إليه.
ثم خاطب تعالى منكري البعث بقوله تعالى:
(13/347)
---(1/5078)
{أأنتم} أي: أيها الأحياء مع كونكم خلقاً ضعيفاً {أشدّ خلقاً} أي: أخلقكم بعد الموت أشدّ في تقديركم {أم السماء} أي: فمن قدر على خلق السماء على عظمها من السعة والكبر والعلوّ والمنافع قدر على الإعادة، وهذا كقوله تعالى: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} (غافر: 57)، والمقصود من الآية الاستدلال على منكري البعث، ونظيره قوله تعالى: {أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} (يس: 81)
ومعنى الكلام التقريع والتوبيخ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، والباقون بتحقيقهما، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام، والباقون بغير إدخال.{{
(13/348)
---
وقوله تعالى: {بناها} بيان لكيفية خلقه إياها فالوقف على السماء والابتداء بما بعدها وقوله تعالى: {رفع سمكها} جملة مفسرة لكيفية البناء، والسمك الارتفاع أي: جعل مقدارها في سمت العلوّ مديداً رفيعاً مسيرة خمسمائة عام {فسوّاها} أي: فعدلها مستوية ملساء ليس فيها تفاوت ولا فطور، أو فتممها بما علم أنها تتم به وأصلحها من قولك: سوّى فلان أمر فلان.
{وأغطش} أي: أظلم {ليلها} أي: جعله مظلماً بغياب شمسها فأخفى ضياءها بامتداد ظل الأرض على كل ما كانت الشمس ظهرت عليه، فصار لا يهتدي معه إلى ما كان في حال الضياء، وأضاف الليل إلى السماء لأنّ الليل يكون بغروب الشمس والشمس تضاف إلى السماء. ويقال: نجوم الليل، لأنّ ظهورها بالليل.
وقوله تعالى: {وأخرج ضحاها} فيه حذف، أي: ضحى شمسها، أو أضاف الليل والضحى لها للملابسة التي بينها وبينهما لأنّ الليل ظلها والشمس هي السراج المثقب في جوّها، وإنما عبر عن النهار بالضحى؛ لأنّ الضحى أكمل أجزاء النهار بالنور والضوء.(1/5079)
{والأرض بعد ذلك} أي: بعد المذكور كله {دحاها} أي: بسطها ومهدها للسكنى وبقية المنافع، وكانت مخلوقة قبل السماء من غير دحو فلا معارضة بينها وبين آية فصلت؛ لأنه خلق الأرض أولاً غير مدحوة ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض. قال ابن عباس رضي الله عنهما: خلق الله تعالى الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء فسوّاها سبع سموات ثم دحا الأرض بعد ذلك. وقيل: معناه والأرض مع ذلك دحاها كقوله تعالى: {عتلّ بعد ذلك} (القلم: 13)
أي: مع ذلك، ومنه قولهم: أنت أحمق، وأنت بعد هذا سيء الخلق.
وقيل: بعد بمعنى قبل كقوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر} (الأنبياء: 105)
أي: من قبل، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: خلق الله تعالى الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت.
(13/349)
---
{أخرج منها} أي: الأرض {ماءها} أي: بتفجير عيونها، وإضافتها إليها دليل على أنه مودوع فيها {ومرعاها} أي: النبات الذي يرعى مما يأكله الناس والأنعام من العشب والشجر والثمر والحب حتى النار والملح، لأنّ النار من العيدان قال تعالى: {أفرأيتم النار التي تورون} (الواقعة: 71)
الآية، والملح من الماء، واستعير الرعي للإنسان كما استعير الرتع في قوله تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام: {يرتع ويلعب} (يوسف: 12)
والمرعى في الأصل موضع الرعي.
تنبيه: أخرج حال بإضمار قد أي: مخرجاً، وإضمار قد هو قول الجمهور وخالف الكوفيون والأخفش.
{والجبال أرساها} أي: أثبتها على وجه الأرض لتسكن، ونظيره قوله تعالى: {والجبال أوتاداً} (النبأ: 7)
وقوله تعالى: {متاعاً} مفعول له لمقدّر، أي: فعل ذلك منفعة أو مصدر لعامل مقدّر أي: متعكم تمتيعاً.g
{لكم} وقوله تعالى: {ولأنعامكم} جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم، وذكر الأنعام لكثرة الانتفاع بها.(1/5080)
{فإذا جاءت الطامة الكبرى} أي: الداهية التي تطم على الدواهي أي: تعلو وتغلب، وفي أمثالهم: جرى الوادي فطم على القرى، قال ابن عباس: وهي النفخة الثانية التي يكون معها البعث. وقال الضحاك: هي القيامة سميت بذلك لأنها تطم على كل شيء فتغمره. وقال القاسم بن الوليد الهمداني: هي الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار.
وقوله تعالى: {يوم يتذكر} أي: تذكراً عظيماً {الإنسان} أي: الخلق الآنس بنفسه الغافل عما خلق له بدل من إذا {ما سعى} في الدنيا من خير أو شرّ، يعني: إذا رأى أعماله مدوّنة في كتابه تذكرها، وكان قد نسيها كقوله تعالى: {أحصاه الله ونسوه} (المجادلة: 6)
وما في {ما سعى} موصولة أو مصدرية.
(13/350)
---
{وبرّزت الجحيم} أي: أظهرت النار المحرقة إظهاراً بيناً مكشوفاً {لمن يرى} أي: لكل راء، كقولهم: قد تبين الصبح لذي عينين، يريدون لكل من له بصر، وهو مثل في الأمر المنكشف الذي لا يخفى على أحد،لكن الناجي لا ينصرف بصره إليها فلا يراها، كما قال تعالى: {لا يسمعون حسيسها} (الأنبياء: 102)
وجواب إذا قوله: {فأمّا من طغى} أي: تجاوز الحد في العدوان حتى كفر بربه {وآثر} أي: قدّم واختار {الحياة الدنيا} أي: انهمك فيها ولم يستعدّ للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس {فإنّ الجحيم} أي: النار الشديدة التوقد العظيمة {هي} أي: خاصة {المأوى} أي: مأواه كما تقول للرجل: غض الطرف، تريد طرفك، وليست الألف واللام بدلاً عن الإضافة، ولكن لما علم أنّ الطاغي هو صاحب المأوى، وأنه لا يغض الرجل طرف غيره تركت الإضافة.
تنبيه: {هي} يجوز أن تكون فصلاً أو مبتدأ.
{وأمّا من خاف مقام ربه} أي: قيامه بين يديه لعلمه بالمبدأ وبالمعاد، وقال مجاهد: خوفه في الدنيا من الله تعالى عند مواقعة الذنب فيقلع عنه نظيره {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمن: 46)(1/5081)
{ونهى النفس} أي: الأمارة بالسوء {عن الهوى} وهو اتباع الشهوات وزجرها عنها وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخير.
{فإنّ الجنة} أي: البستان لكل ما يشتهى {هي} أي: خاصة {المأوى} أي: ليس له سواها مأوى، وحاصل الجواب أنّ العاصي في النار والطائع في الجنة. قال الرازي: هذان الوصفان مضادان للوصفين المتقدّمين فقوله تعالى: {فأما من خاف مقام ربه} ضد قوله تعالى: {فأما من طغى}. {ونهى النفس عن الهوى} ضد قوله تعالى: {وآثر الحياة الدنيا} فكما دخل في ذينك الوصفين جميع القبائح دخل في هذين الوصفين جميع الطاعات. وقال عبد الله بن مسعود: أنتم في زمان يقود الحق الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق، فتعوّذوا بالله من ذلك الزمان.
(13/351)
---
تنبيه: اختلف في سبب نزول هاتين الآيتين، فقيل: نزلتا في مصعب بن عمير وأخيه. روى الضحاك عن ابن عباس قال: {أمّا من طغى} فهو أخو مصعب بن عمير أسر يوم بدر وأخذته الأنصار فقالوا: من أنت، قال: أنا أخو مصعب بن عمير فلم يشدّوه في الوثاق وأكرموه وبيتوه عندهم فلما أصبحوا حدّثوا مصعب بن عمير حديثه، فقال: ما هو لي بأخ شدّوا أسيركم، فإنّ أمّه أكثر أهل البطحاء حلياً ومالاً، فأوثقوه حتى تبعث أمّه فداءه، {وأمّا من خاف مقام ربه} فمصعب بن عمير وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه، والمشاقص جمع مشقص وهو السهم العريض، فلما رآه صلى الله عليه وسلم متشحطاً في دمه قال صلى الله عليه وسلم «عند الله أحتسبك» وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإنّ شراك نعله من ذهب» وعن ابن عباس أيضاً: نزلت في رجلين أبي جهل بن هشام ومصعب بن عمير. وقال السدي: نزلت الآية الثانية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وقال الكلبي: هما عامّتان.(1/5082)
ولما سمع المشركون أخبار القيامة ووصفها بالأوصاف الهائلة مثل الطامّة الكبرى والصاخة والقارعة وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً متى تكون الساعة؟ نزل: {يسئلونك} يا أشرف الخلق {عن الساعة} أي: البعث الآخر لكثرة ما تتوعدهم به من أمرها {أيان مرساها} أي: في أي وقت إرساؤها، أي: إقامتها أرادوا متى يقيمها الله تعالى ويثبتها ويكوّنها، أو أيان منتهاها ومستقرّها، كما أنّ مرسى السفينة مستقرّها حيث تنتهي إليه.
فأجابهم الله تعالى بقوله سبحانه: {فيم} أي: في أي شيء {أنت من ذكراها} أي: من أن تذكر وقتها لهم وتعلهم به.
(13/352)
---
تنبيه: {فيم} خبر مقدّم و{أنت} مبتدأ مؤخر و {من ذكراها} متعلق بما تعلق به الخبر، والمعنى: أنت في أي شيء من ذكراها، أي: ما أنت من ذكراها لهم وتبيين وقتها في شيء. وعن عائشة رضي الله عنها «لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت» فهو على هذا تعجب من كثرة ذكره لها، كأنه قيل: في أيّ شغل واهتمام أنت من ذكراها والسؤال عنها، والمعنى: أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها.
{إلى ربك} أي: المحسن إليك بأنواع النعم {منتهاها} أي: منتهى علمها لم يؤت علمها أحداً من خلقه كقوله تعالى: {إنما علمها عند ربي} (الأعراف: 187)
وقوله تعالى: {إنّ الله عنده علم الساعة} (لقمان: 34)
قال القرطبي: ويجوز أن يكون إنكاراً على المشركين في مسألتهم، أي: فيم أنت من ذلك حتى يسألونك، بيانه: ولست ممن يعلمه. روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: الوقف على قوله تعالى: {فيم} وهو خبر مبتدأ مضمر أي: فيم هذا السؤال، ثم يبتدأ بقوله تعالى: {أنت من ذكراها} أي: أرسلناك وأنت خاتم الأنبياء وآخر الرسل المبعوث في فم الساعة ذكر من ذكراها وعلامة من علاماتها فكفاهم بذلك دليلاً على دنوّها ومشارفتها ووجوب الاستعداد لها، ولا معنى لسؤالهم عنها.(1/5083)
{إنما أنت} أي: يا أشرف الرسل {منذر} أي: إنما بعثت لإنذار {من يخشاها} أي: لتخويف من يخاف هولها، وهو لا يناسب تعيين الوقت وتخصيص من يخشى؛ لأنه المنتفع به، أي: إنما ينفع إنذارك من يخافها وإن كنت منذر الكل مكلف.
(13/353)
---
{كأنهم} قال البغوي: يعني: كفار قريش {يوم يرونها} أي: يعلمون قيام الساعة علماً هو كالرؤية ويرون ما يحدث فيها بعد سماع الصيحة وقيامهم من القبور مع علمهم بما مرّ من زمانهم وما أتى فيه {لم يلبثوا} أي: في الدنيا أو في القبور {إلا عشية} أي: من الزوال إلى غروب الشمس {أو ضحاها} أو ضحى عشية من العشايا وهو البكرة إلى الزوال، والعشية بعد ذلك أضيف إليها الضحى؛ لأنها من النهار، والإضافة تحصل بأدنى ملابسة، وهي هنا كونهما من نهار واحد، فالمراد ساعة من نهار من أوّله أو آخره لم يستكملوا نهاراً تامّاً، ولم يجمعوا بين طرفيه، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع».
فإن قيل: هلا قال: إلا عشية أو ضحى، وما فائدة الإضافة؟ أجيب: بأنّ ذلك للدلالة على أنّ مدة لبثهم كأنها لم تبلغ يوماً كاملاً، ولكن ساعة منه عشيته أو ضحاه، فلما ترك اليوم أضافه على عشيته فهو كقوله تعالى: {لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} (الأحقاف: 35)
وحسن الإضافة وقوع الكلمة فاصلة.
تنبيه: قرأ {حديث موسى}، {طوى}، {طغى}، {تزكى}، {فتخشى}، {وعصى}، {يسعى}، {فنادى}، {الأعلى}، {والأولى}، {يخشى}، {ما سعى}، {طغى}، {الدنيا}، {المأوى}، {عن الهوى}، {المأوى}، حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش وأبو عمرو بين وبين، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين. وقرأ {فأراه الآية الكبرى}، {الطامّة الكبرى} {لمن يرى}، {من ذكراها}، أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين اللفظين والباقون بالفتح في الجميع.(1/5084)
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة والنازعات كان ممن حبسه الله تعالى في القبر والقيامة حتى يدخل الجنة قدر صلاة مكتوبة» حديث موضوع.
سورة عبس
مكية وتسمى سورة السفرة
وهي اثنان وأربعون آية ومائة وثلاثون كلمة وثلاثمائة وثلاثون حرفاً
(13/354)
---
{بسم الله} الواحد القهار {الرحمن} الذي عمّ بإنعامه الأبرار والفجار {الرحيم} الذي خص أولياءه برحمته في دار القرار.
{عبس} أي: كلح وجهه النبي صلى الله عليه وسلم {وتولى} أي: أعرض بوجهه لأجل {أن جاءه الأعمى} وهو ابن أمّ مكتوم وأم مكتوم أمّ ابيه واسمها عاتكة بنت عامر بن مخزوم، واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤيّ، وذلك أنه جاءه وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية ابن خلف، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم أولئك الأشراف الذين كان يخاطبهم فيتأيد بهم الإسلام ويسلم بإسلامهم أتباعهم، فتعلو كلمة الله تعالى، فقال: يا رسول الله، أقرئني وعلمني مما علمك الله تعالى وكرّر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد: إنما اتبعه العميان والعبيد والسفلة فعبس وجهه وأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فأنزل الله تعالى هذه الآيات فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: «مرحباً بمن عاتبني فيه ربي»، ويبسط له رداءه ويقول له: «هل لك حاجة؟» واستخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين غزاهما. قال أنس بن مالك: رأيته يوم القادسية راكباً وعليه درع وله راية سوداء.{{
(13/355)
---(1/5085)
{وما يدريك} أي: أيّ شيء يجعلك دارياً بحاله {لعله} أي: الأعمى {يزكى} فيه إدغام التاء في الأصل في الزاي، أي: يتطهر من الذنوب بما يسمع منك وفي ذلك إيماء بأنّ إعراضه كان لتزكية غيره.
{أو يذكر} فيه إدغام التاء في الذال أي: يتعظ وتسبب عن تزكيته وتذكره قوله تعالى: {فتنفعه الذكرى} أي: العظمة المسموعة منك، وقرأ عاصم بنصب العين والباقون برفعها، فمن رفع فهو نسق على قوله تعالى: {أو يذكر} ومن نصب فعلى جواب الترجي كقوله تعالى في غافر: {فأطلع إلى إله موسى} (غافر: 37)
. وقال ابن عطية في جواب التمني لأن قوله تعالى: {أو يذكر} في حكم قوله تعالى: {لعله يزكى}.
واعترض عليه أبو حيان: بأنّ هذا ليس تمنياً وإنما هو ترجٍ. وأجيب عنه: بأنه إنما يريد التمني المفهوم وقت الذكرى.
وقرأ الذكرى أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بين اللفظين، والباقون بالفتح وقيل: الضمير في لعله للكافر يعني: أنك طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو يذكر فتقرّبه الذكرى إلى قبول الحق وما يدريك أنّ ما طمعت فيه كائن.
{أما من استغنى} أي: بالمال، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: استغنى عن الله وعن الإيمان بما له من المال.
{فأنت له} أي: دون الأعمى {تصدّى} أي: تتعرّض له بالإقبال عليه والمصادّة المعارضة وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الصاد بإدغام التاء الثانية في الأصل فيها والباقون بالتخفيف.
{وما} أي: فعلت ذلك والحال أنه ما {عليك} أي: وليس عليك بأس {ألا يزكى} أي: في أن لا يتزكى بالإسلام حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض عمن أسلم إن عليك إلا البلاغ.
{وأما من جاءك} حال كونه {يسعى} أي: يسرع في طلب الخير وهو ابن أمّ مكتوم {وهو} أي: والحال أنه {يخشى} أي: الله أو الكفار في أذاهم على الإتيان إليك. وقيل: جاء وليس معه قائد فهو يخشى الكبوة، وقرأ قالون وأبو عمرو والسدّي بسكون الهاء والباقون بضمها.
(13/356)
---(1/5086)
{فأنت عنه تلهى} فيه حذف التاء الآخرة في الأصل، أي: تتشاغل، وقرأ {وتولى}، {الأعمى}، {يزكى}، {من استغنى}، {تصدّى}، {يزكى}، {يسعى}، {يخشى}، {تلهى} حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش وأبو عمرو بين بين، والفتح عن ورش قليل والباقون بالفتح.
وقوله تعالى: {كلا} ردع من العاتب عليه وعن معاودة مثله. فإن قيل: ما فعله ابن أمّ مكتوم كان يستحق عليه التأديب والزجر، فكيف عاتب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على تأديبه، لأنه وإن كان أعمى فقد سمع مخاطبته صلى الله عليه وسلم لأولئك الكفار، وكان بسماعه يعرف شدّة اهتمام النبيّ صلى الله عليه وسلم بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلامه صلى الله عليه وسلم لغرض نفسه قبل تمام كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم معصية عظيمة، وأيضاً فإنّ الأهمّ يقدّم على المهمّ، وكان قد أسلم وتعلم ما يحتاج من أمر الدين، وأما أولئك الكفار فلم يكونوا أسلموا، وكان إسلامهم سبباً لإسلام غيرهم، فكان كلام ابن أمّ مكتوم كالسبب في قطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل، وذلك يحرم أيضاً. فإنّ الله تعالى ذمّ الذين ينادونه من وراء الحجرات بمجرّد ندائهم، فهذا النداء الذي هو كالصارف للكفار عن الإيمان أولى أن يكون ذنباً، وأيضاً فمع هذا الاعتناء كيف لقب بالأعمى، وأيضاً فالنبيّ صلى الله عليه وسلم له أن يؤدّب أصحابه بما يراه مصلحة، والتعبيس من ذلك القبيل؟
أجيب: بأنّ ما فعله ابن أمّ مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالماً بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم مشغولاً بغيره وأنه يرجو إسلامهم، ولكنه لم يعلم بذلك. وأيضاً الله سبحانه وتعالى إنما عاتبه على ذلك حتى لا تنكسر قلوب الضعفاء، أو ليعلم أنّ المؤمن الفقير خير من الغنيّ الكافر.
(13/357)
---(1/5087)
وقال ابن زيد: إنما عبس النبيّ صلى الله عليه وسلم لابن أمّ مكتوم وأعرض عنه لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه فدفعه ابن أمّ مكتوم وأبى إلا أن يتكلم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فكان في هذا نوع جفاء منه، ومع هذا نزل في حقه ذلك، وأما ذكره بلفظ الأعمى فليس للتحقير بل كان بسبب عماه يستحق أن يزيده تعطفاً وترؤفاً وتقريباً وترحيباً، ولقد تأدب الناس بأدب الله تعالى في هذا تأدباً حسناً، فقد روي عن سفيان الثوري رضي الله عنه: أنّ الفقراء كانوا بمجلسه أمراء، وأما كونه صلى الله عليه وسلم كان مأذوناً له في تأديب أصحابه فلأنّ تقديمهم ربما يوهم ترجيح تقديم الأغنياء على الفقراء فلهذا السبب عوتب.
قال الحسن رضي الله عنه: لما تلا جبريل عليه السلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الآيات عاد وجهه كأنما نسف فيه الرماد ينتظر ما يحكم الله تعالى عليه فلما قال: {كلا} سرّي عنه أي: لا تفعل مثل ذلك، وقد بينا نحن أنّ ذلك محمول على ترك الأولى. ثم قال الله تعالى: {إنها} أي: هذه السورة. وقال مقاتل رضي الله عنه: آيات القرآن. وقيل: القرآن، وأنثه لتأنيث خبره وهو قوله تعالى: {تذكرة} أي: عظة للخلق يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها.
{فمن شاء ذكره} أي: كان حافظاً له غير ناس، وذكر الضمير لأنّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ.
ثم إنّ الله تعالى أخبر عن جلالة ذلك عنده فقال سبحانه {في صحف} أي: منتسخة من اللوح المحفوظ، وقيل: هي كتب الأنبياء عليهم السلام، دليله قوله تعالى: {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} (الأعلى، الآيتان: 18 ـ 19)
. {مكرمة} أي: عند الله تعالى.
{مرفوعة} أي: في السماء السابعة أو مرفوعة المقدار {مطهرة} أي: منزهة عن أيدي الشياطين لا يمسها إلا أيدي ملائكة كرام مطهرين.
(13/358)
---(1/5088)
كما قال تعالى: {بأيدي سفرة} أي: كتبة ينسخونها من اللوح المحفوظ وهم الملائكة الكرام الكاتبون واحدهم سافر يقال: سفرت، أي: كتبت، ومنه قيل للكتاب: سفر وجمعه أسفار. وقيل: هم الرسل من الملائكة واحدهم سفير وهو الرسول، وسفير القوم هو الذي يسعى بينهم بالصلح، وسفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم.
ثم أثنى تعالى عليهم بقوله سبحانه: {كرام} أي: على الله تعالى وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في كرام قال: مكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إلا إذا خلا بزوجته أو برز لغائط وقيل: يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم. وقوله: {بررة} جمع بارّ كساحر وسحرة وفاجر وفجرة، والبارّ هو الصادق المطيع. ومنه برّ فلان في يمينه أي: صدق، وفلان يبر خالقه أي: يطيعه. فمعنى بررة مطيعين صادقين لله تعالى في أعمالهم.
ولما ذكر تعالى ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين عجب عباده المؤمنين من ذلك فقال سبحانه.
{قتل الإنسان} أي: لعن الكافر، وقوله تعالى: {ما أكفره} استفهام توبيخ، أي: ما أشدّ تغطيته للحق وجحده له وعناده فيه لإنكاره البعث وإشراكه بربه وغير ذلك مما حمله على الكفر.
وقوله تعالى: {من أي شيء خلقه} استفهام تقرير.{{
(13/359)
---
ثم بينه بقوله تعالى: {من نطفة} أي: ماء يسير جدّاً لا من غيره. {خلقه} أي: أوجده مقدّراً على ما هو عليه من التخطيط {فقدّره} أي: علقة ثم مضغة إلى آخر خلقه فكأنه قيل: وأي سبب في هذا الترفع مع أنّ أوّله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين الوقتين حامل عذرة، فإنّ خلقة الإنسان تصلح أن يستدل بها على وجود الصانع؛ لأنه يستدل بها على أحوال البعث والحشر. قيل: نزلت في عتبة بن أبي لهب والظاهر العموم.(1/5089)
فإن قيل: الدعاء على الإنسان إنما يليق بالعاجز فالقادر على الكل كيف يليق به ذلك، والتعجب أيضاً إنما يليق بالجاهل بسبب الشيء، فالعالم به كيف يليق به ذلك؟ أجيب: بأنّ ذلك ورد على أسلوب كلام العرب لبيان استحقاقهم لأعظم العقاب حيث أتوا بأعظم القبائح. كقولهم إذا تعجبوا من شيء: قاتله الله ما أحسنه، وأخزاه الله ما أظلمه، والمعنى: اعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرنا بعد هذا.
وقيل: الاستفهام استفهام تحقير له فذكر أوّل مراتبه وهو قوله تعالى: {من نطفة خلقه} ولا شك أنّ النطفة شيء حقير مهين، ومن كان أصله ذلك كيف يتكبر وقوله تعالى: {فقدّره} أي: أطواراً وقيل: سوّاه كقوله تعالى: {ثم سوّاك رجلاً} (الكهف: 37)
أو قدّر كل عضو في الكيفية والكمية بالقدر اللائق لمصلحته كقوله تعالى: {وخلق كل شيء فقدّره تقديراً} (الفرقان: 2)
ثم ذكر المرتبة الوسطى بقوله تعالى: {ثم} بعد انتهاء المدّة {السبيل} أي: طريق خروجه من بطن أمّه {يسره} أي: سهل له أمره في خروجه بأن فتح له الرحم وألهمه الخروج منه، ولا شك أنّ خروجه من أضيق المسالك من أعجب العجائب يقال: إنه كان رأسه في بطن أمّه من فوق ورجلاه من تحت، فإذا جاء وقت الخروج انقلب فمن الذي أعطاه ذلك الإلهام المراد، ومنه قوله تعالى: {وهديناه النجدين} (البلد: 10)
أي: التمييز بين الخير والشرّ.
(13/360)
---
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سبيل الشقاء والسعادة. وقال ابن زيد: سبيل الإسلام. قال أبو بكر بن طاهر: يسر على كل أحد ما خلقه له وقدر عليه لقوله صلى الله عليه وسلم «كل ميسر لما خلق له». ثم ذكر المرتبة الأخيرة بقوله تعالى: {ثم أماته} وأشار إلى إيجاب المبادرة بالتجهيز بالفاء المعقبة في قوله تعالى: {فأقبره} أي: جعله في قبر يستره إكراماً له، ولم يجعله ممن يلقى على وجه الأرض تأكله الطير وغيرها.(1/5090)
{ثم إذا شاء أنشره} أي: أحياه بعد موته للبعث، ومفعول شاء محذوف أي: شاء إنشاره وأنشره جواب إذا، وقرأ قالون وأبو عمرو البزي بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر، وسهل الثانية ورش وقنبل ولهما أيضاً إبدالها ألفاً والباقون بتحقيقهما.
وقوله تعالى: {كلا} ردع للإنسان عما هو عليه، وقيل: معناها حقاً. قال الأوّل الزمخشري وتبعه البيضاوي، وقال الثاني الجلال المحلي. {لما يقض} أي: يفعل {ما أمره} به ربه من الإيمان وترك التكبر. وقيل: لم يوف بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم عليه السلام. وقيل: المعنى: إن ذلك الإنسان الكافر لم يقض ما أمره به من التأمّل في دلائل الله تعالى والتدبر في عجائب خلقه.
ولما كانت عادة الله تعالى جارية في القرآن أنه كلما ذكر دلائل الإنسان ذكر عقبها دلائل الآفاق بدأ من ذلك بما يحتاج إليه الإنسان بقوله تعالى: {فلينظر الإنسان} أي: يوقع النظر التامّ بكل شيء يقدر على النظر به من بصره وبصيرته {إلى طعامه} أي: الذي هو قوام حياته كيف هيأ له أسباب المعاش ليستعدّ بها للمعاد.
قال الحسن ومجاهد: فلينظر إلى طعامه إلى مدخله ومخرجه. وروي عن الضحاك أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا ضحاك، ما طعامك؟» قلت: يا رسول الله، اللحم واللبن، قال: «فشرابك ماذا؟» قلت: الماء قد علمته، قال: «فإن الله تعالى ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلاً للدنيا».
(13/361)
---
وروي عن ابن عمر أنّ الرجل يدخل الخلاء فينظر ما يخرج منه فيأتيه الملك فيقول انظر إلى ما تحليت به إلام صار.(1/5091)
وقرأ {أنا صببنا} أي: بما لنا من العظمة {الماء} عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمزة على أنه بدل اشتمال بمعنى أنّ صب الماء سبب في إخراج الطعام فهو مشتمل عليه بهذا التقدير، أو أنه تقدير لام العلة، أي: فلينظر لأنا ثم حذف الخافض، وقال البغوي: أنا بالفتح على تكرير الخافض مجازه فلينظر إلى أنا وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف تعديداً لنعمه تعالى عليه، وقوله تعالى{صباً} تأكيد، والمراد بالماء المطر.
ولما كان الإنسان محتاجاً إلى جميع ما في الوجود ولو نقص منه شيء اختل أمره وبدأ أولاً بالسماوي لأنه أشرف وبالماء الذي هو حياة كل شيء تنبيهاً له على ابتداء خلقه. ثنى بالأرض التي هي كالأنثى بالنسبة إلى السماء فقال تعالى {ثم} أي: بعد مهلة من إنزال الماء {شققنا} أي: بما لنا من العظمة {الأرض} أي: بالنبات الذي هو في غاية الضعف عن شق أضعف الأشياء فكيف بالأرض اليابسة، وقوله تعالى {شقاً} تأكيد.
ثم سبب عن الشق ما هو كالتفسير له فقال تعالى: {فأنبتنا} أي: بما لنا من القدرة التامة {فيها} أي: بسبب الشق{حباً} أي: قمحاً وشعيراً وسلتاً وسائر ما يحصد ويدخر، وقدّم ذلك لأنه كالأصل في التغذية {وعنباً} وذكره بعد الحب لأنه غذاء من وجه وفاكهة من وجه {وقضباً} قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الرطب لأنه يقتضب من النخل، أي: يقطع ورجحه بعضهم لذكره بعد العنب لأنهما يقترنان كثيراً، وقيل: القت الرطب، وقيل: كل ما يقضب من البقول لبني آدم، و قيل: هو الرطبة والمقضاب أرضه، سمي بمصدر قضبه إذا قطعه لأنه يقضب مرة بعد أخرى. وقال الحسن: القضب العلف للدواب.
(13/362)
---
{وزيتوناً} وهو ما يعصر منه الزيت يكون فيه حرافة وغضاضة فيه إصلاح المزاج. وقوله تعالى: {ونخلاً} جمع نخلة، وكل من هذه الأشجار مخالف للآخر في الشكل والحمل وغير ذلك مع المرافقة في الأرض والسقي.(1/5092)
وقوله تعالى {وحدائق غلباً} جمع أغلب وغلباء كحمر في أحمر وحمراء، أي: بساتين كثيرة الأشجار. والأصل في الوصف بالغلب الرقاب، يقال: رجل أغلب وامرأة غلباء غليظا الرقبة فاستعير. قال عمرو بن معد يكرب:
*يمشي بها غلب الرجال كأنهم ** بزل كسين من الكحيل جلالا*
وقال مجاهد ومقاتل: الغلب الملتفة الشجر بعضه في بعض. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الطوال. وقيل: غلاظ الأشجار.
{وفاكهة} وهي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار كالتين والخوخ، قال النووي في منهاجه: ويدخل في فاكهة رطب وعنب ورمّان وأترج ورطب ويابس أي: كالتمر والزبيب، قال: قلت: وليمون ونبق وبطيخ ولب فستق وبندق وغيرها في الأصح. {وأباً} وهو ما تأكله الدواب لأنه يؤب أي: يؤمّ وينتجع إليه. وقال عكرمة: الفاكهة ما يأكله الناس، والأب ما تأكله الدواب، وقيل: التبن. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الأب فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى ما لا علم لي به. وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية فقال: كل هذا عرفنا فما الأب؟ ثم رفض عصا كانت بيده، ثم قال: هذا لعمر الله التكلف وما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدري ما الأبّ، ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه.
(13/363)
---(1/5093)
فإن قيل: هذا يشبه النهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته؟ أجيب: بأنه لم يذهب إلى ذلك ولكن القوم كانت أكثر همتهم عاكفة على العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم الذي لا يعمل به تكلفاً عندهم، فأراد أنّ الآية مسوقة عندهم في الامتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره، وقد علم من فحوى الآية أنّ الأب بعض ما أنبته الله تعالى للإنسان متاعاً له أو لإنعامه، فعليك بما هو أهمّ من النهوض بالشكر لله تعالى على ما بين لك، ولم يشكل مما عدّد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له، واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك من مشكلات القرآن.
{متاعاً} أي: العشب، أي: منفعة أو تمتيعاً كما تقدّم في السورة قبلها {لكم} أي: الفاكهة {ولأنعامكم} وتقدّم أيضاً في السورة التي قبلها معرفة الأنعام والحكمة في الاقتصار عليها.
ولما ذكر تعالى هذه الأشياء وكان المقصود منها ثلاثة: أوّلها: الدلائل الدالة على التوحيد، وثانيها: الدلائل الدالة على القدرة والمعاد. وثالثها: أنّ هذا الإله الذي أحسن إلى عبيده بهذه الأنواع العظيمة من الإحسان لا يليق بالعاقل أن يتمرّد على طاعته وأن يتكبر على عبيده أتبع ذلك بما يكون كالمؤكد لهذه الأغراض وهو شرح أحوال القيامة، فإن الإنسان إذا سمعها خاف فيدعوه ذلك الخوف إلى التأمّل في الدلائل والإيمان بها والإعراض عن الكفر، ويدعوه أيضاً إلى ترك التكبر على الناس وإلى إظهار التواضع فقال تعالى:
(13/364)
---
{فإذا جاءت} أي: كانت ووجدت لأنّ كل ما هو كائن لاقيك وجاء إليك {الصاخة} أي: صيحة القيامة وهي النفخة الثانية التي تصخ الأذن، أي: تصمها لشدّة وقعتها. مأخوذة من صخه بالحجر أي: صكه به. وقال الزمخشري: صخ لحديثه مثل أصاخ فوصفت النفخة بالصاخة مجازاً، لأنّ الناس يصخون لها. وقال ابن العربي: الصاخة التي تورث الصمم وإنها لمسمعة، وهذا من بديع الفصاحة كقوله:(1/5094)
*أصمني سرّهم أيام فرقتهم ** وهل سمعتم بسرّ يورث الصمما*
وجواب {إذا} محذوف دل عليه قوله تعالى: {فإذا جاءت الصاخة} أي: اشتغل كل واحد بنفسه.
وقوله تعالى: {يوم يفرّ المرء} بدل من إذا {من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته} أي: زوجته {وبنيه} لاشتغاله بما هو مدفوع إليه، ولعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئاً كقوله تعالى: {يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً} (الدخان: 41){{
(13/365)
---
فيفرّ المرء من هؤلاء الذين كان يفرّ إليهم في دار الدنيا ويستجير بهم لكثرة ما يشغله. وبدأ بالأخ لأنه أدناهم رتبة في الحب والذب، ثم بالأمّ لأنها كانت مشاركة له في الإلف ويلزم من حمايتها أكثر مما يلزم للأخ، وهو لها آلف وعليها أحنّ وعليها أرق وأعطف، ثم بالأب لأنه أعظم منها في الإلف لأنه أقرب منها في النوع، وللولد عليه من المعاطفة ما له من مزيد النفع أكثر ممن قبله، ثم بالصاحبة لأنّ الزوجة التي هي أهل لأن تصحب ألصق بالفؤاد وأعرق في الوداد، وكان الإنسان أذب عنها عند الشدائد، ثم بالولد لأنّ له من المحبة والمعاطفة بالسرور والمشاورة في الأمر ما ليس لغيره، ولذلك يضيع عليه رزقه وعمره.
فقدّم أدناهم مرتبة في الحب والذب، فأدناهم على سبيل الترقي وأخر الأوجب في ذلك فالأوجب بخلاف ما في سورة سأل فكأنه قيل: يفرّ المرء من أخيه بل من أمّه بل من أبيه بل من صاحبته بل من بنيه، وقيل: يفرّ منهم حذراً من مطالبتهم بالتبعات. يقول الأخ: لم تواسني بمالك، والأبوان: قصرت في برّنا، والصاحبة: أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت، والبنون: لم تعلمنا ولم ترشدنا، وقيل: أوّل من يفرّ من أخيه هابيل، ومن أبويه إبراهيم عليه السلام، ومن صاحبته نوح ولوط، ومن ابنه نوح.
(13/366)
---(1/5095)
ولما ذكر الفرار أتبعه سببه فقال تعالى: {لكل امرئ} وإن كان أعظم الناس مروءة {منهم يومئذ} أي: إذ تكون هذه الدواهي العظام والشدائد والآلام.{شأن} أي: أمر عظيم. وقوله تعالى: {يغنيه} حال، أي: يشغله عن شأن غيره. وعن سودة رضي الله تعالى عنها زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يبعث الناس حفاة عراة غرلاً ـ أي: بالقلفة ـ قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان» فقلت: يا رسول الله واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟ فقال صلى الله عليه وسلم «قد شغل الناس {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه}». وقال قتيبة: يغنيه أي: يصرفه عن قرابته، ومنه يقال: أغن عني وجهك أي: اصرفه. وقال أهل المعاني: يغنيه أي: ذلك الهمّ الذي حصل له قد ملأ صدره، فلم يبق فيه متسع لهم آخر، فصار شبيهاً بالغنى في أنه ملك شيئاً كثيراً.
ولما ذكر تعالى حال القيامة في الهول بين أنّ المكلفين على قسمين: سعداء وأشقياء فوصف سبحانه السعيد بقوله تعالى: {وجوه يومئذ} أي: إذ كان ما تقدّم من الفرار وغيره {مسفرة} أي: مضيئة متهللة من أسفر الصبح إذا أضاء. وعن ابن عباس: من قيام الليل لما روي في الحديث «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهارِ». وعن الضحاك من آثار الوضوء. وقيل: من طول ما اغبرّت في سبيل الله تعالى.
{ضاحكة} أي: مسرورة فرحة. قال الكلبيّ: يعني بالفراغ من الحساب {مستبشرة} أي: بما آتاها الله تعالى من الكرامة.
ثم وصف الشقيّ بقوله تعالى: {ووجوه يومئذ} أي: إذ وجد ما ذكر. {عليها غبرة} أي: غبار.
{ترهقها} أي: تعلوها {قترة} أي: سواد كالدخان ولا يرى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه كما يرى في وجوه الزنوج إذا اغبرّت.
{أولئك} أي: البعداء البغضاء الذين يصنع بهم هذا {هم} أي: خاصة {الكفرة الفجرة} جمع الكافر والفاجر وهو الكاذب والمفتري على الله تعالى فجمع تعالى إلى سواد وجوههم الغبرة كما جمعوا الفجور إلى الكفر.
(13/367)
---(1/5096)
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة عبس وتولى جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر» حديث موضوع، وكان من حق البيضاوي أن لا يعبر بقال بل بعن كالزمخشري أو نحوها، ويأتي مثله في نظائره.
سورة التكوير
مكية
وهي تسع وعشرون آية ومائة وأربع كلماتوأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفاً
{بسم الله} الذي أحاط علمه بالكائنات {الرحمن} الذي عمّ وجوده سائر البريات {الرحيم} الذي خص حزبه بنعيم الجنات.
واختلف في معنى قوله تعالى: {إذا الشمس} أي: التي هي أعظم آيات السماء الظاهرة وأوضحها للحس {كوّرت} فقال ابن عباس: أظلمت. وقال قتادة: ذهب ضوءها. وقال سعيد بن جبير: غوّرت. وقال مجاهد: اضمحلت. وقال الزجاج: لفت كما تلف العمامة، يقال: كرت العمامة على رأسي أكوّرها كوراً، وكورتها تكويراً إذا لففتها، وأصل التكوير جمع بعض الشيء إلى بعض، فمعناه أنّ الشمس يجمع بعضها إلى بعض، ثم تلف، فإذا فعل بها ذلك ذهب ضوءها. قال ابن عباس: يكوّر الله تعالى الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر، ثم يبعث عليها ريحاً دبوراً فتضرمها فتصير ناراً. وعن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الشمس والقمر يكوّران يوم القيامة».
تنبيه: ارتفاع الشمس على الفاعلية ورافعها فعل مضمر يفسره كوّرت؛ لأن إذا تطلب الفعل لما فيها من معنى الشرط.
{وإذا النجوم} أي: كلها كبارها وصغارها {انكدرت} أي: انقضت وتساقطت على الأرض.
قال تعالى: {وإذا الكواكب انتثرت} والأصل في الانكدار الانصباب.
قال العجاج في مدحه لعمرو بن معديكرب:{{
(13/368)
---
*إذا الكرام ابتدروا الباع ابتدر ** تقضي البازي إذا البازي كسر
*أبصر خربان فضاء فانكدر*
أي: فانقض وسقط، والخربان جمع خرب وهو ذكر الحبارى، والباع يستعمل في الكرم، يقال: فلان كريم الباع؛ والمعنى: أنّ الكرام إذا ابتدروا فعل المكرمات بدرهم عمرو، أي: أسرع كانقضاض البازي.(1/5097)
وروي عن ابن عباس أنّ النجوم قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور بأيدي الملائكة عليهم السلام، فإذا مات من في السموات ومن في الأرض تساقطت تلك الكواكب من أيدي الملائكة، لأنه مات من كان يمسكها.
{وإذا الجبال} التي هي في العالم السفلي كالنجوم في العالم العلوي، وهي أصلب ما في الأرض. {سيرت} أي: ذهب بها عن وجه الأرض فصارت هباء منبثاً، وصارت الأرض قاعاً صفصفاً.
{وإذا العشار} أي: النوق الحوامل جمع عشراء كالنفاس جمع نفساء، وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة، وهي أنفس ما يكون عند أهلها. روي أنه صلى الله عليه وسلم «مرّ في أصحابه بعشار من النوق فغض بصره، فقيل له: هذه أنفس أموالنا فلم لا تنظر إليها؟ فقال: قد نهاني الله عن ذلك ثم تلا: {ولا تمدّنّ عينيك} (الحجر: 88)
الآية».
{عطلت} أي: تركت مسيبة مهملة بلا راع، أو عطلها أهلها عن الحلب والصر لاشتغالهم بأنفسهم، أو السحاب عطلت عن المطر والعرب تشبه السحاب بالحامل، والأوّل على وجه المثل لأنّ في القيامة لا تكون ناقة عشراء، والمعنى: أنّ يوم القيامة بحالة لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه.
(13/369)
---
{وإذا الوحوش} أي: دواب الأرض التي لا تأنس بأحد التي تظن أنها لا عبرة بها ولا التفات إليها فما ظنك بغيرها {حشرت} أي: جمعت بعد البعث ليقتص لبعضها من بعض ثم تصير تراباً. قال قتادة: يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص. وقيل: إذا قضي بينها ردّت تراباً فلا يبقى منه إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاووس ونحوه. وعن ابن عباس حشرها موتها، يقال إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم: حشرتهم السنة.(1/5098)
وقرأ {وإذا البحار سجرت} أي: على كثرتها ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الجيم والباقون بتشديدها. قال ابن عباس: أوقدت فصارت ناراً تضطرم. وقال مجاهد: فجر بعضها في بعض العذب والملح، فصارت البحار كلها بحراً واحداً. وقال القشيري: يرفع الله تعالى الحاجز الذي ذكره، فإذا رفع ذلك البزرخ تفجرت مياه البحار فعمت الأرض كلها وصارت بحراً واحداً. وروى أبو العالية عن أبيّ بن كعب قال: ست آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم؛ إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على الأرض فتحرّكت واضطربت وفزعت الجنّ إلى الإنس والإنس إلى الجنّ، واختلطت الدواب والطير والوحش، وماج بعضهم في بعض فذلك قوله تعالى: {وإذا الوحوش حشرت} أي: اختلطت {وإذا البحار سجرت} قال الجنّ للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحر، فإذا هو نار تتأجج.قال: فبينما هم كذلك إذ تصدّعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى، وإلى السماء السابعة العليا، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم. وعن ابن عباس قال: هي اثنتا عشرة خصلة ستة في الدنيا وستة في الآخرة، وهي ما ذكر من بعد.
(13/370)
---
{وإذا النفوس} أي: من كل ذي نفس من الناس وغيرهم {زوّجت} أي: قرنت بأجسادها، وروي أنّ عمر سئل عن هذه الآية، فقال: يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار. وقال الحسن وقتادة: ألحق كل امرىء بشيعته، اليهود باليهود والنصارى بالنصارى. وقال عطاء: زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرنت نفوس الشياطين بالكافرين.(1/5099)
{وإذا الموؤدة} أي: الجارية المدفونة حية. كان الرجل في الجاهلية إذ ولد له بنت، فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمّها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئراً في الصحراء فيذهب بها إلى البئر، فيقول لها: انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي بالأرض.
وقال ابن عباس: كانت الحامل إذا قربت ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإذا ولدت ولداً حبسته. وكانوا يفعلون ذلك لخوف لحوق العار بهم من أجلهنّ، أو الخوف من الإملاق، كما قال تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} (الأنعام: 151)
وكانوا يقولون: إنّ الملائكة بنات الله فألحقوا البنات به فهو أحق بهنّ، وكان صعصعة بن ناجية ممن منع الوأد وفيه افتخر الفرزدق في قوله:
*ومنا الذي منع الوائدات ** وأحيا الوئيد فلم توءد*
{سئلت بأيّ} أي: بسبب أيّ {ذنب} يا أيها الجاهلون {قتلت} أي: استحقت به عندكم القتل، وهي لم تباشر سوءاً لكونها لم تصل إلى حدّ التكليف.
فإن قيل: ما معنى سؤالها عن ذنبها الذي قتلت به، وهلا سئل الوائد عن موجب قتله لها؟ أجيب: بأن سؤالها وجوابها تبكيت لقاتلها نحو التبكيت في قوله تعالى لعيسى عليه السلام: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} (المائدة: 116)
(13/371)
---(1/5100)
. وروي أنّ قيس بن عاصم «جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني وأدت ثمان بنات كنّ لي في الجاهلية. فقال صلى الله عليه وسلم أعتق عن كل واحدة منهنّ رقبة. قال: يا رسول الله، إني صاحب إبل؟ فقال له صلى الله عليه وسلم أهد عن كل واحدة منهنّ بدنة إن شئت». وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ المرأة التي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلقاً ولدها بيدها ملطخاً بدمائه فيقول: يا رب هذه أمّي وهذه قتلتني».
{وإذا الصحف نشرت} أي: فتحت بعد أن كانت مطوية، والمراد صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها أعمال العباد من خير وشر تطوى بالموت، وتنشر في القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها فيقول: {ما لهذا الكتاب لا يغادر صغير ولا كبيرة إلا أحصاها} (الكهف: 49)
. وروي عن عمر أنه كان إذا قرأها قال: إليك يساق الأمر يا ابن آدم. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر الناس حفاة عراة» فقالت أمّ سلمة: كيف بالنساء؟ فقال: «شغل الناس يا أمّ سلمة». قالت: وما يشغلهم، قال: «نشر الصحف فيها مثاقيل الذر، ومثاقيل الخردل». وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بتخفيف الشين والباقون بتشديدها على تكرير النشر للمبالغة في تقريع العاصي وتبشير المطيع وقيل لتكرير ذلك من الإنسان.{{
(13/372)
---
{وإذا السماء} أي: هذا الجنس كله أفرده لأنه يعلم بالقدرة على بعضه القدرة على الباقي. {كشطت} أي: نزعت عن أماكنها كما ينزع الجلد عن الشاة والغطاء عن الشيء. قال القرطبي: يقال: كشطت البعير كشطاً نزعت جلده ولا يقال سلخت لأنّ العرب لا تقول في البعير إلا كشطته أو جلدته، والمعنى: أزيلت عما فوقها. وقال القرطبي: طويت.(1/5101)
{وإذا الجحيم} أي: النار الشديدة التأجج {سعرت} أي: أججت فأضرمت للكفار وزيد في إحمائها يقال سعرت الناء وأسعرتها. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أوقد على النار ألف سنة حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودّت فهي سوداء مظلمة» واحتج بهذه الآية من قال: النار مخلوقة الآن لأنه يدل على أنّ سعيرها معلق بيوم القيامة. وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بتشديد العين والباقون بتخفيفها.
{وإذا الجنة} أي: البستان ذو الأشجار الملتفة والرياض المعجبة {أزلفت} أي: قرّبت لأهلها ليدخلوها. قال الحسن: إنهم يقربون منها لا أنها تزول عن موضعها. وقال عبد الله بن زيد: زينت والزلفى في كلام العرب القربة.
وقوله تعالى: {علمت نفس} جواب إذا أوّل السورة وما عطف عليها، أي: علمت كل نفس من النفوس وقت هذه المذكورات وهو يوم القيامة، فالتنكير فيه مثله في تمرة خير من جرادة، ودلالة هذا السياق للهول على ذلك يوجب اليقين فيه {ما} أي: كل شيء {أحضرت} من خير وشر.
روي عن ابن عباس وعمر أنهما قرأا فلما بلغا {علمت نفس ما أحضرت} قالا: لهذا أجريت القصة. قال الرازي: ومعلوم أنّ العمل لا يمكن إحضاره فالمراد إذن ما أحضرته في صحائفها، أو ما أحضرته عند المحاسبة وعند الميزان من آثار تلك الأعمال. وعن ابن مسعود: أنّ قارئاً قرأها عنده، فلما بلغ {علمت نفس ما أحضرت} قال: واقطع ظهراه.
(13/373)
---
{فلا أقسم} لا مزيدة، أي: أقسم {بالخنس الجوار الكنس} هي النجوم الخمسة زحل والمشتري والمرّيخ والزهرة وعطارد تخنس بضم النون، أي: ترجع في مجراها وراءها بينا نرى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعاً إلى أوّله، وتكنس بكسر النون تدخل في كناسها، أي: تغيب في المواضع التي تغيب فيها فخنوسها رجوعها، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس. وقيل: هي جميع الكواكب تخنس بالنهار فتغيب عن العيون وتكنس بالليل، أي: تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها.(1/5102)
{والليل} أي: الذي هو محل ظهور النجوم وزوال خنوسها وذهاب كنوسها {إذا عسعس} قال البغوي: قال الحسن: أقبل بظلامه. وقال آخرون: أدبر، تقول العرب عسعس الليل وسعسع إذا أدبر، ولم يبق منه إلا القليل.
{والصبح إذا تنفس} أي: امتدّ حتى يصير نهاراً بيناً، يقال للنهار إذا زاد تنفس، ومعنى التنفس: خروج النسيم من الجوف، وفي كيفية المجاز قولان: الأوّل: أنه إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم، فجعل ذلك نفساً له على المجاز، فقيل: تنفس الصبح. الثاني: أنه شبه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي حبس بحيث لا يتحرّك، فإذا تنفس وجد راحة فهنا لما طلع الصبح فكأنه تخلص من ذلك الحزن، فعبر عنه بالتنفس.
وقوله تعالى: {إنه} أي: القرآن {لقول رسول كريم} هو المقسم عليه، والمعنى: أنه لقول رسول عن الله تعالى كريم على الله تعالى، أي: انتفت عنه وجوه المذامّ كلها، وثبت له وجوه المحامد كلها، وهو جبريل عليه السلام. وأضاف الكلام إليه لأنه قاله عن الله عز وجلّ.
{ذي قوّة} أي: شديد القوى. روى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: من قوّته قلعه مدائن قوم لوط بقوادم جناحه فرفعها إلى السماء ثم قلبها، وأبصر إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب الأرض المقدّسة فنفخه بجناحه نفخة ألقاه إلى أقصى جبل بالهند، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين، ويهبط من السماء إلى الأرض ويصعد في أسرع من الطرف.
(13/374)
---
{عند ذي العرش} أي: الملك الأعلى المحيط عرشه بجميع الأكوان الذي لا عند في الحقيقة إلا له، وهو الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {مكين} أي: ذي مكانة متعلق به عند، أي: ذي منزلة ومكانة ليس عندية جهة بل عندية إكرام وتشريف كقوله تعالى: «أنا عند المنكسرة قلوبهم» وقيل: قويّ في أداء طاعة الله تعالى وترك الإخلال بها.(1/5103)
{مطاع ثمّ} أي: في السموات. قال الحسن: فرض الله تعالى على أهل السموات طاعة جبريل عليه السلام كما فرض على أهل الأرض طاعة محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس: «من طاعة جبريل عليه السلام الملائكة أنه لما أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم قال جبريل عليه السلام لرضوان خازن الجنان: افتح له ففتح فدخلها فرأى ما فيها». {أمين} أي: بليغ الأمانة على الوحي الذي يجيء به. وقيل: الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم فالمعنى حينئذ: ذي قوة على تبليغ الوحي {مطاع} أي: يطيعه من أطاع الله تعالى.
{وما صاحبكم} أي: الذي طالت صحبته لكم، وأنتم تعلمون أنه في غاية الكمال حتى إنه ليس له وصف عندكم إلا الأمين، وهو محمد صلى الله عليه وسلم وهذا عطف على أنه إلى آخر المقسم عليه.
وأغرق في النفي فقال تعالى: {بمجنون} أي: كما زعمتم يتهم في قوله: {بل جاء بالحق وصدّق المرسلين} (الصافات: 37)
فما القرآن الذي يتلوه عليكم قول مجنون، ولا قول متوسط في العقل بل قول أعقل العقلاء وأكمل الكمل.{{
(13/375)
---
تنبيه: استدلّ بذلك بعضهم على فضل جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم حيث عدّ فضائل جبريل عليه السلام واقتصر على نفي الجنون عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو كما قال البيضاوي: ضعيف؛ إذ المقصود منه نفي قولهم إنما يعلمه بشر، وقولهم افترى على الله كذباً، وقولهم أم به جنة لا تعديد فضله والموازنة بينهما.
{ولقد رآه} أي: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على صورته التي خلق عليها، وله ستمائة جناح. {بالأفق المبين} أي: البين، وهو الأفق الأعلى الذي عند سدرة المنتهى حيث لا يكون لبس أصلاً، ولا يكون للشيطان على ذلك المكان سبيل فعرفه حق المعرفة. وقال مجاهد وقتادة: بالأفق الأعلى من ناحية المشرق.(1/5104)
وعن ابن عباس «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: «إني أحب أن أراك على صورتك التي تكون فيها في السماء» قال: لن تقوى على ذلك، قال: «بلى». قال: فأين تشاء أن أتخيل لك، قال: «بالأبطح». قال: لا يسعني، قال: «فبمنى». قال: لا تسعني. قال: «فبعرفات». قال ذلك بالحري أن يسعني، فواعده فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم للوقت، فإذا هو بجبريل قد أقبل من جبل عرفات بخشخشة وكلكلة قد ملأ ما بين المشرق والمغرب، ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فلما رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم خرّ مغشياً عليه، قال: فتحوّل جبريل عن صورته فضمه إلى صدره، وقال: يا محمد لا تخف فكيف لو رأيت إسرافيل، ورأسه تحت العرش ورجلاه في التخوم السابعة، وإنّ العرش لعلى كاهله، وإنه ليتضاءل أحياناً من مخافة الله تعالى حتى يصير مثل الوصع ـ يعني: العصفور ـ حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته. وقيل: إنّ محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل بالأفق المبين، وهو قول ابن مسعود وقد مرّ ذلك في سورة النجم.
(13/376)
---
{وما} أي: وسمعه ورآه والحال أنه ما {هو} أي: محمد صلى الله عليه وسلم {على الغيب} أي: ما غاب من الوحي وخبر السماء، ورؤية جبريل وغير ذلك مما أخبر به. وقرأ {بنين} ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء المشالة من الظنة، وهي التهمة، أي: فليس بمتهم، والباقون بالضاد موافقة للمرسوم من الضن وهو البخل، أي: فليس ببخيل بالوحي فيزوي بعضه، أو يسأل تعليمه فلا يعلمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلواناً وهو في مصحف عبد الله بالظاء، وفي مصحف أبيّ بالضاد، وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما.(1/5105)
قال الزمخشري: وإتقان الفصل بين الضاد والظاء واجب، ومعرفة مخرجيهما مما لا بدّ منه للقارئ، فإنّ أكثر العجم لا يفرقون بين الحرفين وإن فرقوا ففرقاً غير صواب، وبينهما بون بعيد، فإنّ مخرج الضاد من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره، وكان عمر بن الخطاب أضبط يعمل بكلتا يديه، وكان يخرج الضاد من جانبي لسانه، وهي أحد الأحرف الشجرية أخت الجيم والشين. وأمّا الظاء فمخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا، وهي أحد الأحرف الذولقية أخت الذال والثاء، ولو استوى الحرفان لما ثبتت في هذه الكلمة قراءتان اثنتان، واختلاف بين جبلين من جبال العلم والقراءة، ولما اختلف المعنى والاشتقاق والتركيب.
فإن قلت: فإن وضع المصلي أحد الحرفين مكان صاحبه، قلت: هو كوضع الذال مكان الجيم والثاء مكان السين لأنّ التفاوت بين الضاد والظاء كالتفاوت بين أخواتهما اه. كلامه بحروفه.
(13/377)
---
{وما هو} أي: القرآن الذي من جملة معجزاته الإخبار بالمغيبات. وأغرق في النفي بالتأكيد بالباء فقال تعالى: {بقول شيطان} أي: مسترق للسمع فيوحيه إليه كما يوحيه إلى بعض الكهنة {رجيم} أي: مرجوم مطرود بعيد من الرحمة، وذلك أنّ قريشاً كانوا يقولون: إنّ هذا القرآن يجيء به شيطان فيلقيه على لسانه، يريدون بالشيطان الأبيض الذي كان يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه، فنفى الله تعالى ذلك.
وقوله تعالى: {فأين} منصوب بقوله تعالى: {تذهبون} لأنه ظرف مبهم، وقال أبو البقاء: أي إلى أين فحذف الجار، أي: فأيّ طريق تسلكون في إنكاركم القرآن وإعراضكم عنه، وفي هذا استضلال لهم فيما يسلكون من أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم والقرآن كقولك لتارك الجادّة أين تذهب.
{إن} أي: ما {هو} أي: القرآن الذي آتاكم به الرسول {إلا ذكر} أي: عظة وشرف {للعالمين} من إنس وجنّ وملك.(1/5106)
وقوله تعالى: {لمن شاء منكم} بدل من العالمين بإعادة الجار {أن يستقيم} باتباع الحق. قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، وهذا هو القدر وهو رأس القدرية فنزل {وما تشاؤون} الاستقامة على الحق {إلا أن يشاء الله} أي: إلا وقت أن يشاء الملك الأعظم الذي بيده كل شيء مشيئتكم الاستقامة عليه {رب العالمين} أي: مالك الخلق. وفي هذا إعلام أنّ أحداً لا يعمل خيراً إلا بتوفيق الله تعالى، ولا شراً إلا بخذلانه. ونقل البغوي في أوّل السورة بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن ينظر في يوم القيامة فليقرأ {إذا الشمس كوّرت}».
وأمّا قول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة التكوير أعاذه الله أن يفضحه حسن تنشر صحيفته». فحديث موضوع.
سورة الانفطار
مكية
وهي تسع عشرة آية وثمانون كلمة وثلاثمائة وسبعة وعشرون حرفاً
(13/378)
---
{بسم الله} الذي خلق كل شيء فقدّره تقديراً {الرحمن} الذي دبر الكائنات تدبيراً {الرحيم} الذي أرسل رسوله للخلق نذيراً.
{إذا السماء} أي: على شدّة إحكامها واتساقها وارتفاعها {انفطرت} أي: انشقت لنزول الملائكة كقوله تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام} (الفرقان: 25)
{وإذا الكواكب} أي: النجوم الصغار والكبار كلها الغراء الزاهرة المتوقدة توقد النار المرصعة ترصيع المسامير {انتثرت} أي: تساقطت متفرّقة؛ لأنّ عند انتقاض تركيب السماء تنتثر النجوم على الأرض.
{وإذا البحار} المتفرّقة في الأرض وهي ضابطة لها أتم ضبط لنفع العباد على كثرتها {فجرت} أي: فتح بعضها في بعض فاختلط العذب بالملح وزال البرزخ الذي بينها فصارت البحار بحراً واحداً وروي أنّ الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار فتصير مستوية. وهو معنى التسجير عند الحسن في قوله تعالى: {وإذا البحار سجرت} (التكوير: 60)
وقال هنا: فجرت بغت.(1/5107)
{وإذا القبور} أي: مع ذلك كله {بعثرت} أي: قلبت، يقال: بعثره وبحثره بالعين والحاء. قال الزمخشري: وهما مركبان من البعث والبحث مع راء مضمومة إليهما، أي: فهما بمعنى، والمعنى: قلب أعلاها أسفلها وقلب باطنها ظاهرها، وخرج ما فيها من الموتى أحياء، وقيل: التبعثر إخراج ما في بطنها من الذهب والفضة، ثم تخرج الموتى بعد ذلك، وجواب إذا أوّل السورة وما عطف عليه.{{
(13/379)
---
{علمت نفس} أي: كل نفس وقت هذه المذكورات، وهو يوم القيامة {ما قدّمت} من عمل {وأخرت} أي: جميع ما عملت من خير أو شر أو غيرهما. فإن قيل: أي وقت من القيامة يحصل هذا العلم. قال الرازي: أمّا العلم الإجمالي فيحصل في أوّل زمان الحشر؛ لأنّ المطيع يرى آثار السعادة، والعاصي يرى آثار الشقاوة في أوّل الأمر، وأمّا العلم التفصيلي، فإنما يحصل عند قراءة الكتب والمحاسبة.
وقوله تعالى: {يا أيها الإنسان} أي: البشر الآنس بنفسه الناسي لما يعنيه خطاب لمنكري البعث. وروى عطاء عن ابن عباس: أنها نزلت في الوليد بن المغيرة. وقال الكلبي ومقاتل: نزلت في أبي الشريق ضرب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعاقبه الله تعالى في أوّل أمره. وقيل: تتناول جميع العصاة لأنّ الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. {ما غرّك بربك} أي: ما خدعك وسوّل لك الباطل حتى تركت ما أوجب عليك المحسن إليك وأتيت بالمحرّمات {الكريم} أي: الذي له الكمال كله المقتضي لأن لا يهمل الظالم ولا يسوى بين المحسن والمسيء، هذا إذا حملنا الإنسان على جميع العصاة، فإن حملناه على الكافر وهو ظاهر الآية فالمعنى: ما الذي دعاك إلى الكفر وإنكار الحشر والنشر.(1/5108)
فإن قيل: كونه كريماً يقتضي أن يغترّ الإنسان بكرمه لأنه جواد مطلق، والجواد الكريم يستوي عنده طاعة المطيع وعصيان المذنب، وهذا يوجب الاغترار كما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه صيح بغلام له مرّات فلم يلبه، فنظر فإذا هو بالباب فقال له: لم لا تجيبني؟ فقال: لثقتي بحلمك وأمني عقوبتك، فاستحسن جوابه وأعتقه.
(13/380)
---
وقالوا أيضاً: من كرم ساء أدب غلمانه. وإذا ثبت أنّ كرمه يقتضي الاغترار به فكيف جعله ههنا مانعاً من الاغترار؟ أجيب: بأنّ حق الإنسان أن لا يغتر بكرم الله تعالى عليه حيث خلقه حياً، وتفضل عليه فهو من كرمه لا يعاجل بالعقوبة بسطاً في مدّة التوبة، وتأخيراً للجزاء إلى أن يجمع الناس للجزاء فالحاصل أنّ تأخير العقوبة لأجل الكرم، وذلك لا يقتضي الاغترار بهذا التفضيل فإنه منكر خارج عن حدّ الحكمة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تلاها: «غرّه جهله». وقال عمر: غرّه حمقه وجهله. وقال الحسن: غرّه والله شيطانه الخبيث، أي: زين له المعاصي. وقال له: افعل ما شئت فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به أوّلاً، وهو متفضل عليك آخراً حتى ورّطه.
وقيل للفضيل بن عياض: إن أقامك الله يوم القيامة وقال لك: {ما غرّك بربك الكريم} ماذا تقول له؟قال: أقول غرّني ستورك المرخاة، وهذا على سبيل الاعتراف بالخطأ في الاغترار بالستر وليس باعتذار كما يظنه الطماع، ويظنّ به قصاص الحشوية ويروون عن أئمتهم أنما قال {بربك الكريم} دون سائر صفاته ليلقن عبده الجواب حتى يقول: غرّني كرم الكريم. وقال مقاتل: غرّه عفو الله حيث لم يعاقبه أوّل مرّة. وقال السدي: غرّه رفق الله تعالى به. وقال قتادة: سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان. وقال ابن مسعود: ما منكم من أحد إلا سيخلو الله تعالى به يوم القيامة فيقول: ما غرّك بي يا ابن آدم؟ ماذا عملت فيما علمت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟(1/5109)
{الذي خلقك} أي: أوجدك من العدم مهيأ بتقدير الأعضاء {فسوّاك} عقب تلك الأطوار بتصوير الأعضاء والمنافع بالفعل {فعدلك} أي: جعل كل شيء من ذلك سليماً مودعاً فيه قوّة المنافع التي خلقه الله تعالى لها.
(13/381)
---
تنبيه: قوله تعالى: {الذي} يحتمل الإتباع على البدل والبيان والنعت والقطع إلى الرفع والنصب. واعلم أنه سبحانه وتعالى لما وصف نفسه بالكرم ذكر هذه الأمور الثلاثة كالدلالة على تحقيق ذلك الكرم فقوله سبحانه {الذي خلقك} أي: بعد أن لم تكن لا شك أنه كرم لأنه وجود، والوجود خير من العدم، والحياة خير من الموت. كما قال تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم} (البقرة: 28)
وقوله تعالى: {فسوّاك} أي: جعلك مستوي الخلقة سالم الأعضاء غاية في الكرم كما قال تعالى: {أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سوّاك رجلاً} (الكهف: 37)
أي: معتدل الخلق والأعضاء. وقال ذو النون المصري: أي: سخر لك المكوّنات أجمع، وما جعلك مسخراً لشيء منها، ثم أنطق لسانك بالذكر وقلبك بالعقل وروحك بالمعرفة ومدّك بالإيمان وشرفك بالأمر والنهي، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلاً. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الدال والباقون بالتشديد، بمعنى جعلك متناسب الأطراف فلم يجعل إحدى يديك أو رجليك أطول، ولا إحدى عينيك أوسع فهو من التعديل. وهو كقوله تعالى: {بلى قادرين على أن نسوّي بنانه} (القيامة: 4)
. وقال عطاء عن ابن عباس: جعلك قائماً معتدلاً حسن الصورة لا كالبهيمة المنحنية. وقال أبو علي الفارسي: عدلك خلقك في أحسن تقويم مستوياً على جميع الحيوان والنبات، وواصلاً في الكمال إلى ما لم يصل إليه شيء من أجسام هذا العالم. وأمّا قراءة التخفيف فتحتمل هذا أي: عدل بعض أعضائك ببعض ويحتمل أن يكون من العدول، أي: صرفك إلى ما شاء من الهيئات والأشكال. ونقل القفال عن بعضهم: أنهما لغتان بمعنى واحد.
(13/382)
---(1/5110)
{في أيّ صورة} أي: من الصور التي تعرفها والتي لا تعرفها من الدواب والطيور وغير ذلك من الحيوان وغيره، وما في قوله تعالى: {ما شاء} مزيدة، وفي أيّ متعلق بركب في قوله تعالى {ركبك} أي: ركبك في أي صورة اقتضتها مشيئته وحكمته من الصور المختلفة في الحسن والقبح والطول والقصر والذكورة والأنوثة، والشبه ببعض الأقارب وخلاف الشبه. فإن قيل: هلا عطفت هذه الجملة كما عطف ما قبلها؟ أجيب: بأنها بيان لعدلك ويجوز أن تتعلق بمحذوف، أي: ركبك حاصلاً في بعض الصور، ومحله النصب على الحال إن علق بمحذوف، ويجوز أن يتعلق بعدلك ويكون في أي معنى التعجب، أي: فعدلك في صورة عجيبة: ثم قال: {ما شاء ركبك} من التراكيب يعني: تركيباً حسناً.
وقوله تعالى: {كلا} ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى والتعلق به، وهو موجب الشكر والطاعة إلى عكسهما الذي هو الكفر والمعصية. وقوله تعالى: {بل تكذبون} أي: يا كفار مكة {بالدين} إضراب إلى ما هو السبب الأصلي في اغترارهم والمراد بالدين الجزاء على الأعمال والإسلام.
{وإنّ} أي: والحال أنّ {عليكم} أي: ممن أقمناهم من جندنا من الملائكة {لحافظين} أي: على أعمالكم بحيث لا يخفى عليهم منها جليل ولا حقير.
{كراماً} أي: على الله تعالى {كاتبين} أي: لهذه الأعمال في الصحف كما تكتب الشهود منكم العهود ليقع الجزاء على غاية التحرير.
تنبيه: هذا الخطاب وإن كان خطاب مشافهة إلا أنّ الأمّة أجمعت على عموم هذا الخطاب في حق المكلفين، وقوله تعالى: {حافظين} جمع يحتمل أن يكونوا حافظين لجميع بني آدم من غير أن يختص واحد من الملائكة بواحد من بني آدم، ويحتمل أن يكون الموكل بكل واحد منهم غير الموكل بالآخر، ويحتمل أن يكون الموكل بكل واحد منهم جمعاً من الملائكة، كما قيل: اثنان بالليل واثنان بالنهار، أو كما قيل: إنهم خمسة.
(13/383)
---(1/5111)
واختلفوا في الكفار هل عليهم حفظة. فقيل: لا لأنّ أمرهم ظاهر وعملهم واحد، قال تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم} (الرحمن: 41)
وقيل: عليهم حفظة وهو ظاهر قوله تعالى: {بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين} وقوله تعالى: {وأمّا من أوتي كتابه بشماله} (الحاقة: 25)
وقوله تعالى: {وأمّا من أوتي كتابه وراء ظهره} (الانشقاق: 10)
فأخبر أنّ لهم كتاباً وأنّ عليهم حفظة.
فإن قيل فأي شيء يكتب الذي عن يمينه ولا حسنة له؟ أجيب: بأنّ الذي عن شماله يكتب بإذن صاحبه ويكون صاحبه شاهداً على ذلك وإن لم يكتب. وفي هذه الآية دلالة على أنّ الشاهد لا يشهد إلا بعد العلم لوصف الملائكة بكونهم حافظين كراماً كاتبين.
{يعلمون} أي: على التجدد والاستمرار {ما تفعلون} فدل على أنهم يكونون عالمين بها حتى إنهم يكتبونها، فإذا كتبوها يكونون عالمين عند أداء الشهادة، وفي تعظيم الكتبة تعظيم لأمر الجزاء، فإنه عند الله من جلائل الأمور، ولولا ذلك لما وكل بضبط ما يحاسب عليه وفيه إنذار وتهويل للعصاة، ولطف بالمؤمنين. وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال: ما أشدها من آية على الغافلين.
ولما وصف تعالى الكرام الكاتبين لأعمال العباد ذكر أحوال العاملين، وقسمهم قسمين، وبدأ بقسم أهل السعادة.
فقال تعالى: {إنّ الأبرار} أي: المؤمنين الصادقين في إيمانهم بأداء فرائض الله تعالى واجتناب معاصيه {لفي نعيم} أي: محيط بهم أبد الآبدين، وهو نعيم الجنة الذي لا نهاية له.{{
(13/384)
---
ثم ذكر قسم أهل الشقاوة بقوله تعالى: {وإنّ الفجار} الذي من شأنهم الخروج عما ينبغي الاستقرار فيه من رضا الله تعالى إلى سخطه، وهم الكفار {لفي جحيم} أي: نار محرقة تتوقد غاية التوقد فهم فيها أبد الآبدين.
{يصلونها} أي: يدخلونها ويقاسون حرّها {يوم الدين} أي: يوم الجزاء وهو يوم القيامة.(1/5112)
{وما هم عنها} أي: الجحيم {بغائبين} أي: مخرجين، ويجوز أن يراد يصلون النار يوم الدين وما يغيبون عنها قبل ذلك في قبورهم. وقيل: أخبر الله تعالى في هذه السورة أنّ لابن آدم ثلاث حالات حالة الحياة التي يحفظ فيها عمله، وحالة الآخرة التي يجازى فيها، وحالة البرزخ وهو قوله تعالى: {وما هم عنها بغائبين}.
وروي أن سليمان بن عبد الملك قال لأبي حازم المدني: ليت شعري ما لنا عند الله، قال: اعرض عملك على كتاب الله تعالى، فإنك تعلم ما لك عند الله تعالى، قال: فأين أجد ذلك في كتاب الله؟ قال: عند قوله تعالى: {إنّ الأبرار لفي نعيم} الآية.k
قال سليمان: فأين رحمة الله تعالى؟ قال: قريب من المحسنين.
ثم عظم سبحانه وتعالى ذلك اليوم فقال: {وما أدراك} أي: وما أعلمك وإن اجتهدت في تطلب الدراية به {ما يوم الدين} أي: أيّ شيء هو في طوله وهوله وفظاعته وزلزاله.
ثم كرره تعجباً لشأنه فقال تعالى: {ثم ما أدراك} أي: كذلك {ما يوم الدين} أي: إنّ يوم الدين الذي بحيث لا تدرك دراية دار كنهه في الهول والشدّة، وكيفما تصوّرته فهو فوق ذلك وعلى أضعافه. والتكرير لزيادة التهويل.
ثم أجمل تعالى القول في وصفه فقال سبحانه: {يوم لا تملك} أي: بوجه من الوجوه في وقت ما {نفس} أي: أيّ نفس كانت {لنفس شيئاً} أي: قل أوجل، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع يوم على أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: هو يوم. وجوّز الزمخشري أن يكون بدلاً مما قبله، يعني: يوم الدين، والباقون بالفتح بإضمار أعني أو اذكر.
(13/385)
---
{والأمر} أي: كله {يومئذ} أي: إذ كان البعث للجزاء {لله} أي: ملك الملوك لا أمر لغيره فيه فلا يملك الله تعالى في ذلك اليوم أحداً شيئاً كما ملكهم في الدنيا.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة انفطرت كتب الله له بعدد كل قطرة من السماء حسنة وبعدد كل قبر حسنة». حديث موضوع.
سورة المطففين
مدنية(1/5113)
في قول الحسن وعكرمة ومقاتل.
قال مقاتل: وهي أوّل سورة نزلت بالمدينة، وقال ابن عباس وقتادة: مدنية إلا ثمان آيات وهي قوله تعالى: {إن الذين أجرموا} إلى آخرها فهو مكيّ. وقال الكلبي وجابر بن زيد نزلت بين مكة والمدينة، ولعل هذا هو سبب الاختلاف وقال ابن مسعود والضحاك: مكية.
وهي ست وثلاثون آية وتسع وتسعون كلمة وسبعمائة وثمانون حرفاً.
{بسم الله} الذي توكل عليه كفاه {الرحمن} الذي عمّ جوده الأبرار والعصاة {الرحيم} الذي خص أهل طاعته بهداه.
{ويل} مبتدأ، وسوغ الابتداء به كونه دعاء، وهو إمّا كلمة عذاب أو هلاك ثابت عظيم في كل حال من أحوال الدنيا والآخرة، أو واد في جهنم. وقوله تعالى: {للمطففين} خبره، والتطفيف البخس في الكيل والوزن؛ لأنّ ما يبخس شيء طفيف حقير. قال الزجاج: وإنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان: مطفف لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف.{{
(13/386)
---
وروى ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، وكانوا من أبخس الناس كيلاً فنزلت فأحسنوا الكيل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم وقال: «خمس بخمس» قيل: يا رسول الله ما خمس؟ قال: «ما نقض قوم العهد إلا سلط الله تعالى عليهم عدوّهم، ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر». وقال: السدي: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وبها رجل يعرف بأبي جهينة، ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فنزلت.(1/5114)
وقيل: كان أهل المدينة تجاراً يطففون، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة فنزلت. وعن عليّ أنه مرّ برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال له: أقم الوزن بالقسط، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت كأنه أمر بالتسوية أوّلاً ليعتادها ويفصل الواجب من النفل. وعن ابن عباس: إنكم معشر الأعاجم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم المكيال والميزان، وخص الأعاجم لأنهم يجمعون الكيل والوزن جميعاً وكانا مفرّقين في الحرمين، كان أهل مكة يزنون وأهل المدينة يكيلون. وعن ابن عمر أنه كان يمرّ بالبائع فيقول: اتق الله وأوف الكيل، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى إنّ العرق يلجمهم إلى أنصاف آذانهم. وعن عكرمة أشهد أنّ كل كيال ووزان في النار فقيل له: إن ابنك كيال أو وزان فقال: أشهد أنه في النار. وعن أبيّ: لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن الموازين.
(13/387)
---
ثم بين تعالى المطففين من هم بقوله تعالى: {الذين إذا اكتالوا} أي: عالجوا الكيل {على الناس} أي: كائنين من كانوا لا يخافون شيئاً، ولا يراعون أحداً بل صارت الخيانة والوقاحة لهم ديدناً {يستوفون} أي: إذا كالوا منهم وأبدل على مكان من للدلالة على أن اكتيالهم من الناس اكتيال يضرهم ويتحامل فيه عليهم، ويجوز أن يتعلق على بيستوفون ويقدّم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية، أي: يستوفون على الناس خاصة، وأمّا أنفسهم فيستوفون لها. وقال الفراء: من وعلى يتعاقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه، فإذا قال: اكتلت عليك فكأنه قال: أخذت ما عليك، وإذا قال: اكتلت منك فكقوله: استوفيت منك.
{وإذا كالوهم} أي: كالوا للناس أي: حقهم، أي: مالهم من الحق {أو وزنوهم} أي: وزنوا لهم فحذف الجار وأوصل الفعل، كما قال القائل:
*ولقد جنيتك أكمؤاً وعساقلاً ** ولقد نهيتك عن بنات الأوبر*(1/5115)
وقال آخر: والحريص بصيدك لا الجواد. بمعنى جنيت لك ويصيد لك ويقال: وزنتك حقك، وكلتك طعامك، أي: وزنت لك وكلت لك، ونصحتك ونصحت لك، وكسبتك وكسبت لك والأكمؤ جمع كمأة، والعساقل ضرب منها، وأصله: عساقيل لأنّ واحدها عسقول كعصفور فحذفت الياء للضرورة، وبنات أوبر ضرب من الكمأة رديء.
{يخسرون} جواب إذا، وهو يتعدى بالهمزة. يقال: خسر الرجل وأخسرته أنا مفعوله محذوف، أي: يخسرون الناس متاعهم. وقيل: يخسرون أي: ينقصون بلغة فارس أي: ينقصون الكيل أو الوزن.
وقوله تعالى: {ألا يظنّ أولئك} أي: الأخساء البعداء الأراذل {أنهم مبعوثون ليوم} أي: لأجله أو فيه، وزاد التهويل بقوله تعالى: {عظيم} إنكاراً وتعجيباً من حالهم في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخميناً أنهم مبعوثون ومحاسبون على مقدار الذرة والخردلة. وقيل: الظنّ بمعنى اليقين. وقوله تعالى:
(13/388)
---(1/5116)
{يوم} يجوز نصبه بمبعوثون، أو بإضمار أعني، أو بدل من محل يوم فناصبه يبعثون {يقوم الناس} أي: من قبورهم {لرب العالمين} أي: الخلائق لأجل أمره وجزائه وحسابه. وعن ابن عمر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يوم يقول الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه». وعن المقداد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد. حتى تكون قيد ميل أو اثنين ـ قال سليم: لا أدري أي: الميلين يعني: مسافة الأرض أو الميل الذي تكتحل به العين ـ قال: فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق بقدر أعمالهم فمنهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه على حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يشير بيده إلى فيه يقول: ألجمه إلجاماً». وعن قتادة: أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك. وعن الفضيل: بخس الميزان سواد الوجوه يوم القيامة. وعن عبد الملك بن مروان أنّ أعرابياً قال له: سمعت ما قال الله في المطففين أراد بذلك أنّ المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم، الذي سمعت به فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن، وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظنّ ووصف اليوم بالعظم وقيام الناس فيه لله تعالى خاضعين، ووصفه ذاته برب العالمين بيان بليغ لعظم الذنب، وتفاقم الإثم في التطفيف وفيما كان في مثل حاله من الحيف، وترك القيام بالقسط والعمل على السوية، والعدل في كل أخذ وإعطاء بل في كل قول وعمل.
(13/389)
---(1/5117)
وعن ابن عمر أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله تعالى: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} بكى نحيباً وامتنع من قراءة ما بعده. وعن بعض المفسرين أنّ لفظ التطفيف يتناول التطفيف في الوزن والكيل. وفي إظهار العيب وإخفائه وفي طلب الإنصاف والانتصاف، ويقال: من لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه فليس بمنصف، والمعاشرة والصحبة في هذه المادّة، والذي يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة، ومن طلب حق نفسه من الناس ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلبه.
وقوله تعالى: {كلا} ردع، أي: ليس الأمر على ما هم عليه فليرتدعوا، وههنا تم الكلام. وقال الحسن: كلا ابتداء متصل بما بعده على معنى حقاً، وجرى الجلال المحلي وأكثر المفسرين على الأوّل.
{إنّ كتاب الفجار} أي: كتب أعمال الكفار وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف. واختلف في معنى قوله سبحانه وتعالى: {لفي سجين} فقيل: هو كتاب جامع، وهو ديوان الشر دوّن الله تعالى فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجنّ والإنس، وقيل: هو مكان تحت الأرض السابعة وهو محل إبليس وجنوده. وقال عبد الله بن عمر: سجين في الأرض السابعة السفلى فيها أرواح الكفار.{{
(13/390)
---
وعن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سجين أسفل سبع أرضين وعليون في السماء السابعة تحت العرش». وقال الكلبي: هو صخرة تحت الأرض السابعة خضراء خضرة السموات منها يجعل كتاب الفجار فيها. وقال وهب: هي آخر سلطان إبليس. وعن كعب الأحبار: أنّ روح الفاجر يعني: الكافر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها، ثم هبط بها إلى الأرض فتأبى الأرض أن تقبلها فتدخل تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجين، وهو موضع جند إبليس وذلك استهانة بها، ويشهدها الشياطين المدحورون كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقرّبون. وقال عكرمة: لفي سجين، أي: في خسار وضلال.
{وما أدراك} أي: جعلك دارياً وإن اجتهدت في ذلك.(1/5118)
{ما سجين} وقال الزجاج: أي: ليس لك ذلك ما كنت تعلمه أنت ولا قومك.
وقوله تعالى: {كتاب مرقوم} ليس تفسيراً لسجين بل هو بيان للكتاب المذكور في قوله تعالى: {إن كتاب الفجار} أي: هو كتاب مرقوم، أي: مسطور بين الكتابة مكتوب فيه أعمالهم مثبت عليهم كالرقم في الثوب لا ينسى ولا يمحى حتى يجازون به، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه. وقيل: الرقم الختم بلغة حمير، واقتصر على هذا الجلال المحلي. وقال قتادة: رقم عليه بشرّ كأنه علم بعلامة يعرف بها أنه كافر. والمعنى: أنّ ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان، وسمي سجيناً فعيلاً من السجن وهو الحبس والتضييق في جهنم، أو لأنه مطروح تحت الأرض كما مرّ.
فإن قيل: سجين هل هو اسم أو صفة؟ أجيب: بأنه اسم علم منقول من وصف كحاتم، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف.
{ويل} أي: أعظم الهلاك {يومئذ} أي: إذ تقوم الناس لما تقدّم {للمكذبين} أي: بذلك أو بالحق. وقوله تعالى:
{الذين يكذبون بيوم} أي: بسبب الإخبار بيوم {الدين} أي: الجزاء الذي هو سر الوجود بدل أو بيان للمكذبين، ثم أخبر عن صفة من يكذب بيوم الدين بثلاث صفات ذكر أولها بقوله تعالى:
(13/391)
---
{وما} أي: والحال أنه ما {يكذب به} أي: بذلك اليوم {إلا كل معتد} أي: متجاوز عن النظر غال في التقليد، حتى استقصر قدرة الله تعالى وعلمه، فاستحال منه الإعادة. ثم ذكر الصفة الثانية بقوله تعالى: {أثيم} أي: منهمك في الشهوات المحرجة بحيث اشتغل عما وراءها وحملته على الإنكار لما عداها. ثم ذكر الصفة الثالثة بقوله تعالى:
{إذا تتلى عليه آياتنا} أي: القرآن {قال أساطير الأوّلين} أي: الحكايات سطرت قديماً جمع أسطور بالضم، وذلك لفرط جهله وإعراضه عن الحق فلا تنفعه شواهد النقل كما لا تنفعه دلائل العقل، وهذا عام في كل موصوف بذلك، وقال الكلبي: هو الوليد بن المغيرة. وقيل: هو النضر بن الحارث. وقوله تعالى:(1/5119)
{كلا} ردع وزجر، أي: ليس هو أساطير الأوّلين، وقال الحسن: معناها حقاً كما مرّ. {بل ران} أي: غلب وأحاط وغطى تغطية الغيم السماء {على قلوبهم} أي: كل من قال هذا القول {ما كانوا يكسبون} أي: كما يركب الصدأ من إصرارهم على الكبائر وتسويف التوبة حتى طبع على قلوبهم فلا تقبل الخير ولا تميل إليه. روى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المؤمن إذا أذنب ذنباً نكتت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها وإذا زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلكم الران الذي ذكره الله تعالى في كتابه المبين». وقال أبو معاذ: الران أن يسودّ القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع على القلب وهو أشدّ من الران، والأقفال أشدّ من الطبع، وهو أن يقفل على القلب، قال تعالى: {أم على قلوب أقفالها} (محمد: 24)
وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب ويغشى فيموت القلب.
(13/392)
---
قال صلى الله عليه وسلم «إياكم والمحقرات من الذنوب فإنّ الذنب على الذنب يوقد على صاحبه جحيماً ضخمة». وعن الحسن: الذنب بعد الذنب يسود القلب. يقال: ران عليه الذنب وغان عليه ربنا وغينا والغين الغيم، ويقال: ران فيه النوم: رسخ فيه، ورانت به الخمرة ذهبت به. وقرأ حمزة وشعبة والكسائي بالإمالة: محضة، والباقون بالفتح وسكت حفص على اللام وقفة لطيفة من غير قطع والباقون بغير سكت.
وقوله تعالى: {كلا} ردع عن الكسب الرائن على قلوبهم، وقيل: بمعنى حقاً كما مرّ {إنهم عن ربهم} أي: المحسن إليهم {يومئذ لمحجوبون} أي: فلا يرونه بخلاف المؤمنين فإنهم يرونه كما ثبت لك في الأحاديث الصحيحة. وقال الحسن: لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا. وسئل مالك عن هذه الآية فقال: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه.(1/5120)
وفي قوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} دلالة على أنّ أولياء الله يرون الله تعالى، ومن نفى الرؤية كالزمخشري جعله تمثيلاً للاستخفاف بهم وإهانتهم؛ لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء والمكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأذناب المهانون عندهم. وعن ابن عباس وقتادة: محجوبون عن رحمته. وعن ابن كيسان: عن كرامته.
{ثم إنهم} أي: بعد ما شاء الله تعالى من إمهالهم {لصالوا الجحيم} أي: لداخلوا النار المحرقة.
{ثم يقال} أي: تقول لهم الخزنة {هذا} أي: العذاب {الذي كنتم به تكذبون} أي: في دار الدنيا.
(13/393)
---(1/5121)
وقوله تعالى: {كلا} ردع عن التكذيب، وقيل: معناها حقاً كما مرّ. وقال البيضاوي: تكرير للأوّل ليعقب بوعد الأبرار كما عقب بوعيد الفجار إشعار بأنّ التطفيف فجور والإيفاء برّ، وردع عن التكذيب {إنّ كتاب الأبرار} أي: كتب أعمال المؤمنين الصادقين في إيمانهم {لفي عليين} وعليون علم لديوان الخير الذي دوّن فيه كل ما عملته صلحاء الثقلين، منقول من جمع فعيل من العلو كسجين من السجن، سمي بذلك إمّا لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة، وإمّا لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون تكريماً له وتعظيماً. وروي «أنّ الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقبلونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم إنكم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه أخلص عمله فاجعلوه في عليين، وقد غفرت له وإنها لتصعد بعمل العبد فيزكونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم أنتم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على قلبه، وإنه لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين». وعن البراء مرفوعاً: «عليين في السماء السابعة تحت العرش». وقال ابن عباس: هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش، أعمالهم مكتوبة فيها. وقال كعب وقتادة: هو قائمة العرش اليمنى. وقال عطاء عن ابن عباس: هو الجنة. وقال الضحاك: سدرة المنتهى. وقال بعض أهل المعاني علو بعد علو وشرف بعد شرف، ولذلك جمعت بالياء والنون. قال الفراء: هو اسم موضع على صيغة الجمع لا واحد له من لفظه مثل عشرين وثلاثين.
{وما أدراك} أي: جعلك دارياً وإن بالغت في الفحص {ما عليون} أي: ما كتاب عليين هو {كتاب} أي: عظيم {مرقوم} أي: فيه أنّ فلاناً أمن من النار رقماً، يا له من رقم ما أبهاه وأجمله.
{يشهده المقرّبون} يحضرونه فيشهدون على ما فيه يوم القيامة، أو يحفظونه.
ولما عظم كتابهم عظم منزلتهم بقوله تعالى:
(13/395)
---(1/5122)
{إنّ الأبرار لفي نعيم} أي: في الجنة ثم بين ذلك النعيم بأمور ثلاثة: أوّلها: قوله تعالى:
{على الأرائك} أي: الأسرة في الحجال، ولا يسمى أريكة إلا إذا كان كذلك، والحجال بكسر الحاء جمع حجلة، وهي بيت يزين بالثياب والستور والأسرة، قاله الجوهري. {ينظرون} أي: إلى ما شاؤوا مدّ أعينهم إليه من مناظر الجنة، وإلى ما أولاهم الله تعالى من النعمة والكرامة، وإلى أعدائهم يعذبون في النار، وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدراك. وقال الرازي: ينظرون إلى ربهم بدليل قوله تعالى:
{تعرف} أي: أيها الناظر إليهم {في وجوههم} عند رؤيتهم {نضرة النعيم} أي: بهجته وحسنه ورونقه كما ترى في وجوه الأغنياء وأهل الترفه، أو الخطاب إمّا للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو لكل ناظر، وقال الحسن: النضرة في الوجه والسرور في القلب وهذا هو الأمر الثاني. وأمّا الثالث فهو قوله تعالى:
{يسقون من رحيق} أي: خمر صافية طيبة وقال مقاتل: الخمر البيضاء. وقال الرازي: لعله الخمر الموصوف بقوله تعالى: {لا فيها غول} (الصافات: 47)
{مختوم} أي: ختم ومنع من أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه الأبرار. وقال القفال: يحتمل أن يكون ختم عليه تكريماً له بالصيانة على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان، وهناك خمر أخرى تجري انهاراً لقوله تعالى: {وأنهار من خمره لذة للشاربين} (محمد: 15)
إلا أنّ هذا المختوم أشرف من الجاري.
{ختامه مسك} أي: آخر شربه يفوح منه مسك، فالمختوم الذي له ختام، أي: آخر شربه، وختم كل شيء الفراغ منه. وقال قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك. وقال ابن زيد: ختامه عند الله مسك. وقيل: طينه مسك. وقيل: تختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك مكان الطينة.
(13/396)
---(1/5123)
{وفي ذلك} أي: الأمر العظيم البعيد التناول، وهو العيش والنعيم أو الشراب الذي هذا وصفه {فليتنافس} أي: فليرغب غاية الرغبة بجميع الجهد والاختيار {المتنافسون} أي: الذين من شأنهم المنافسة، وهو أن يطلب كل منهم أن يكون ذلك المتنافس فيه لنفسه خاصة دون غيره؛ لأنه نفيس جداً، والنفيس هو الذي تحرص عليه نفوس الناس وتتغالى فيه، والمنافسة في مثل هذا بكثرة الأعمال الصالحة والنيات الخالصة.
وقال مجاهد: فليعمل العاملون نظيره قوله تعالى: {لمثل هذا فليعمل العاملون} (الصافات: 61)
وقال مقاتل بن سليمان: فليسارع المتسارعون. وقال عطاء: فليستبق المستبقون. وقال الزمخشري: فليرتقب المرتقبون. والمعنى: واحد. وأصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس ويريده كل أحد لنفسه، وينفس فيه على غيره أي: يضنّ.
{ومزاجه} أي: ما يمزج به ذلك الرحيق {من تسنيم} وهو علم لعين بعينها سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه؛ لأنها تأتيهم من فوق على ما روي أنها تجري في الهواء مسنمة فتصب في أواني أهل الجنة على مقدار الحاجة، فإذا امتلأت أمسكت.
وقوله تعالى: {عيناً} نصب على المدح، وقال الزجاج: نصب على الحال. {يشرب بها} أي: بسببها على طريقة المزج منها {المقرّبون} وضمن يشرب معنى يلتذ، فهم يشربونها صرفاً، وتمزج سائر أهل الجنة.
(13/397)
---
{إنّ الذين أجرموا} أي: قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وهم رؤوساء قريش. {كانوا من الذين آمنوا} وهم فقراء الصحابة عمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين {يضحكون} أي: استهزاء بهم.
{وإذا مرّوا} أي: المؤمنون {بهم} أي: بالذين أجرموا {يتغامزون} أي: يشير المجرمون إلى المؤمنين بالجفن والحاجب استهزاء بهم. وقيل: يغمز بعضهم بعضاً ويشيرون بأعينهم.x(1/5124)
قيل: جاء عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين فسخروا منه المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع وضحكوا منه، فنزلت قبل أن يصل عليّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم
{وإذا انقلبوا} أي: رجع الذين أجرموا برغبتهم في الرجوع وإقبالهم عليه من غير تكرّه {إلى أهلهم} أي: منازلهم التي هي عامرة بجماعتهم. وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم، وأبو عمرو بكسر الهاء، والباقون بكسر الهاء وضم الميم {انقلبوا} حالة كونهم {فاكهين} أي: متلذذين بما كان من مكنتهم ورفعتهم التي أوصلتهم إلى الاستسخار بغيرهم، قال ابن برجان: روي عنه عليه الصلاة والسلام: «إن الدين بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ» «يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر» وفي أخرى: «يكون المؤمن فيهم أذل من الأمة» وفي أخرى: «العالم فيهم أنتن من جيفة حمار فالله المستعان». وقرأ حفص بغير ألف بين الفاء والكاف والباقون بالألف، قيل هما بمعنى، وقيل: فكهين فرحين وفاكهين ناعمين. وقيل: فاكهين أصحاب فاكهة ومزاح.
{وإذا رأوهم} أي: رأى المجرمون المؤمنين {قالوا} أي: المجرمون {إنّ هؤلاء} أي: المؤمنين {لضالون} أي: لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم يرون أنهم على شيء، وهم على ضلال في تركهم التنعيم الحاضر بسبب شيء لا يدرى هل له وجود أم لا؟
(13/398)
---
قال الله تعالى: {وما} أي: والحال أنهم ما {أرسلوا} أي: الكفار {عليهم} أي: على المؤمنين {حافظين} أي: موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم ويهيمنون على أعمالهم، ويشهدون برشدهم وضلالهم، وهذا تهكّم بهم. وقيل: هو من جملة قول الكفار، وأنهم إذا رأوا المسلمين قالوا: إنّ هؤلاء لضالون، وأنهم لم يرسلوا عليهم حافظين، إنكار لصدّهم إياهم عن الشرك ودعائهم إلى الإسلام، وجدّهم في ذلك.(1/5125)
وقوله تعالى: {فاليوم} منصوب بيضحكون، ولا يضر تقديمه على المبتدأ؛ لأنه لو تقدّم العامل هنا لجاز؛ إذ لا لبس بخلاف: زيد قام في الدار لا يجوز في الدار زيد قام، ومعنى فاليوم أي: في الآخرة {الذين آمنوا} ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان {من الكفار يضحكون} وفي سبب هذا الضحك وجوه منها:
أنّ الكفار كانوا يضحكون على المؤمنين في الدينا بسبب ما هم فيه من الضر والبؤس، وفي الآخرة يضحك المؤمنون على الكافرين بسبب ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر، ومن ألوان العذاب بعد النعيم والترفه.
ومنها أنهم علموا أنهم كانوا في الدنيا على غير شيء، وأنهم باعوا الباقي بالفاني.
ومنها أنهم يرون أنفسهم قد فازوا بالنعيم المقيم ونالوا بالتعب اليسير راحة الأبد.
ومنها: قال أبو صالح: يقال لأهل النار وهم فيها: اخرجوا وتفتح لهم أبوابها فإذا رأوها وقد فتحت أبوابها أقبلوا إليها يريدون الخروج والمؤمنون ينظرون إليهم، فإذا انتهوا إلى أبوابها غُلِّقت دونهم، يفعل ذلك بهم مراراً فذلك سبب الضحك.
ومنها: أنهم إذا دخلوا الجنة وأجلسوا على الأرائك ينظرون إلى الكفار كما قال تعالى: {على الأرائك} أي: الأسرة العالية {ينظرون} إليهم كيف يعذبون في النار ويرفعون أصواتهم بالويل والثبور ويلعن بعضهم بعضاً.
(13/399)
---
تنبيه: ينظرون حال من يضحكون، أي: يضحكون ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان. وقال كعب: بين الجنة والنار كوى، إذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوّ له كان في الدنيا اطلع عليه من تلك الكوى كما قال تعالى: {فاطلع فرآه في سواء الجحيم} (الصافات: 55)
فإذا اطلعوا من الجنة على أعدائهم وهم يعذبون في النار ضحكوا.
قال الله تعالى: {هل ثوّب الكفار} أي: هل جوزوا {ما كانوا يفعلون} أي: جزاء استهزائهم بالمؤمنين، ومعنى الاستفهام ههنا: التقرير، وثوّبه وأثابه بمعنى واحد إذا جازاه. قال أوس:
*سأجزيك أو يجزيك عني مثوّب(1/5126)
** وحسبك أن يثنى عليك وتحمدى
وقرأ الكسائي وهشام بإدغام اللام في الثاء والباقون بالإظهار. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة المطففين سقاه الله تعالى من الرحيق المختوم يوم القيامة». حديث موضوع.
سورة الانشقاق
مكية
وهي ثلاث أو خمس وعشرون آية ومائةوسبع كلمات وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفاً
{بسم الله} الذي شقق الأرض بالنبات {الرحمن} الذي عمّ جوده أهل الأرض والسموات {الرحيم} الذي خص أهل طاعته بالجنات.
وقوله تعالى: {إذا السماء} أي: على ما لها من الأحكام والعظمة {انشقت} كقوله تعالى: {إذا الشمس كوّرت} (التكوير: 1){{
(13/400)
---
في إضمار الفعل وعدمه، وفي إذا هذه احتمالان: أحدهما: أن تكون شرطية، والثاني: أن تكون غير شرطية. فعلى الأوّل في جوابها أوجه: أحدها: أنه محذوف ليذهب المقدر كل مذهب، أو اكتفاء بما علم في مثلها من سورتي التكوير والانفطار، وهو قوله تعالى: {علمت نفس} (الإنفطار: 5، وسورة التكوير: 14)
والثاني: جوابها ما دل عليه {فملاقيه} الثالث: أنه {يا أيها الإنسان} على حذف الفاء وعلى كونها غير شرطية فهي مبتدأ، وخبرها إذا الثانية والواو مزيدة، تقديره: وقت انشقاق السماء وقت مدّ الأرض، أي: يقع الأمران في وقت. قاله الأخفش. وقيل: إنه منصوب مفعولاً به بإضمار اذكر انشقاقها بالغمام، وهو من علامات القيامة كقوله تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام} (الفرقان: 25)
وعن عليّ تنشق من المجرّة. قال ابن الأثير: المجرّة هي البياض المعترض في السماء والسراب من جانبها.
{وأذنت} أي: سمعت وأطاعت في الانشقاق {لربها} أي: لتأثير قدرته حين أراد انشقاقها انقياد المطواع الذي ورد عليه الأمر من جهة المطاع، فأنصت له وأذعن ولم يأب ولم يمتنع، كقوله: {أتينا طائعين} (فصلت: 110)
{وحقت} أي: حق لها أن تسمع وتطيع بأن تنقاد ولا تمتنع. يقال: حق بكذا فهو محقوق وحقيق.(1/5127)
{وإذا الأرض} أي: على ما لها من الصلابة {مدّت} أي: زيد في سعتها كمدّ الأديم ولم يبق عليها بناء ولا جبل، كما قال تعالى: {قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمّتا} (طه: 106 ـ 107)
وعن ابن عباس مدّت مدّ الأديم العكاظيّ لأنّ الأديم إذا مدّ زال كل انثناء فيه وأمت واستوى.
{وألقت} أي: أخرجت {ما فيها} من الكنوز والموتى كقوله تعالى: {وأخرجت الأرض أثقالها} (الزلزلة: 21)
. {وتخلت} أي: خلت منها حتى لم يبق في بطنها شيء، وذلك يؤذن بعظم الأمر كما تلقي الحامل ما في بطنها عند الشدّة، ووصفت الأرض بذلك توسعاً وإلا فالتحقيق أنّ الله تعالى هو المخرج لتلك الأشياء من الأرض.
(13/401)
---
وقوله تعالى: {وأذنت لربها وحقت} تقدّم تفسيره، وهذا ليس بتكرار لأنّ الأول في السماء وهذا في الأرض، وتقدّم جواب إذا. ومن جملة ما قيل فيه: وما عطف عليه أنه محذوف دل عليه ما بعده، تقديره: لقي الإنسان عمله وذلك كله يوم القيامة. واختلف في الإنسان في قوله تعالى:
{يا أيها الإنسان} أي: الآنس بنفسه الناسي لأمر ربه {إنك كادح} فقيل: المراد جنس الإنسان كقولك: يا أيها الرجل، فكأنه خطاب خص به أحد من الناس. قال القفال: وهو أبلغ من العموم؛ لأنه قائم مقام التنصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين بخلاف اللفظ العامّ. وقيل: المراد منه رجل بعينه، فقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى: إنك كادح في إبلاغ رسالات الله تعالى وإرشاد عباده وتحمل الضرر من الكفار، فأبشر فإنك تلقى الله تعالى بهذا العمل. وقال ابن عباس: هو أبيّ بن خلف وكدحه هو جدّه واجتهاده في طلب الدنيا، وإيذاء النبيّ صلى الله عليه وسلم والإصرار على الكفر. والكدح: جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها من كدح جلده إذا خدشه.(1/5128)
ومعنى كادح {إلى ربك} أي: جاهد إلى لقائه وهو الموت، أي: هذا الكدح يستمرّ إلى هذا الزمن وقال القفال: تقديره إنك كادح في دنياك. {كدحاً} تصير إلى ربك. وقوله تعالى: {فملاقيه} يجوز أن يكون عطفاً على كادح، والسبب فيه ظاهر، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي: فأنت ملاقيه، وقيل: جواب إذا، والضمير في ملاقيه إمّا للرب أي: ملاقي حكمه لا مفر لك منه، وإمّا للكدح إلا أنّ الكدح عمل وهو عرض لا يبقى، فملاقاته ممتنعة، فالمراد جزاء كدحك من خير أو شرّ. وقال الرازي: المراد ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال، ويؤكد هذا قوله تعالى بعده:
{فأمّا من أوتي كتابه} أي: كتاب عمله الذي كتبته الملائكة. {بيمينه} أي: من أمامه وهو المؤمن المطيع.
(13/402)
---
{فسوف يحاسب} أي: يقع حسابه بوعد لا خلف فيه، وإن طال الأمد لإظهار الجبروت والكبرياء والقهر. {حساباً يسيراً} هو عرض عمله عليه كما فسر في حديث الصحيحين وفيه: «من نوقش الحساب هلك» وفي رواية: «من حوسب عذب». وقالت عائشة: «أليس يقول الله تعالى: {فسوف يحاسب حساباً يسيراً} فقال: إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب عذب»وإنما حوسب حساباً سهلاً لأنه كان يحاسب نفسه فلا تقع له المخالفة إلا ذهولاً، فلأجل ذلك تعرض أعماله فيقبل حسنها ويعفى عن سيئها.
{وينقلب} أي: يرجع بنفسه من غير مزعج برغبة وقبول {إلى أهله} أي: الذين أهله بهم في الجنة من الحور العين والآدميات والذريات إذا كانوا مؤمنين {مسروراً} أي: قد أوتي جنة وحريراً، فإنه كان في الدنيا في أهله مشفقاً من العرض على الله يحاسب نفسه حساباً عسيراً مع ما هو فيه من نكد الأهل وضيق العيش.
{س84ش10/ش15 وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ? وَرَآءَ ظَهْرِهِ? * فَسَوْفَ يَدْعُوا? ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ? كَانَ فِى? أَهْلِهِ? مَسْرُورًا * إِنَّهُ? ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ * بَلَى? إِنَّ رَبَّهُ? كَانَ بِهِ? بَصِيرًا }(1/5129)
{وأمّا من أوتي كتابه وراء ظهره} وهو الكافر تغل يمناه إلى عنقه، وتجعل يسراه وراء ظهره فيأخذ بها كتابه.
{فسوف يدعو} أي: بوعد لا خلف في وقوعه {ثبوراً} يقول: يا ثبوراه، والثبور: الهلاك، كقوله تعالى: {دعوا هنالك ثبوراً} (الفرقان: 13)
{ويصلى سعيراً} أي: يدخل النار الشديدة. وقرأ أبو عمرو وعاصم بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام، والباقون بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، وإذا فتح ورش غلظ اللام، وإذا أمال رقق والباقون بالفتح.
(13/403)
---
{إنه كان} أي: بما هو له كالجبلة {في أهله} أي: عشيرته في الدنيا {مسروراً} قال القفال: أي: منعماً مستريحاً من التعب بأداء العبادات واحتمال مشقة الفرائض من الصلاة والجهاد مقدماً على المعاصي آمناً من الحساب والثواب والعقاب لا يخاف الله تعالى، ولا يرجوه فأبدله الله تعالى بذلك السرور غماً باقياً لا ينقطع.
وقيل: إنّ قوله تعالى: {إنه كان في أهله مسروراً} كقوله تعالى: {وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين} (المطففين: 31)
أي: متنعمين في الدنيا معجبين بما هم عليه من الكفر بالله تعالى والتكذيب بالبعث، ويضحكون ممن آمن بالله تعالى، وصدّق بالحساب كما قال صلى الله عليه وسلم «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر». {إنه ظنّ} أي: لضعف نظره {أن} مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي: أنه {لن يحور} أي: لن يرجع إلى الله تعالى تكذيباً بالمعاد. يقال: لا يحور ولا يحول، أي: لا يرجع ولا يتغير. قال لبيد:
*وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
** يحور رماداً بعد إذ هو ساطع
وعن ابن عباس: ما كنت أدري ما معنى يحور حتى سمعت أعرابية تقول لبنية لها: حوري، أي: ارجعي.(1/5130)
وقوله تعالى: {بلى} إيجاب لما بعد النفي في لن يحور، أي: بلى ليحورنّ. {إنّ ربه} أي: الذي ابتدأ إنشاؤه ورباه {كان} أي: أزلاً وأبداً {به بصيراً} أي: من يوم خلقه إلى يوم بعثه، أو بأعماله لا ينساها. وقال عطاء: بصيراً بما سبق عليه في أمّ الكتاب من الشقاوة.
واختلفوا في الشفق في قوله تعالى:
(13/404)
---
{فلا أقسم بالشفق} فقال مجاهد: هو النهار كله. وقال عكرمة: ما بقي من النهار. وقال ابن عباس وأكثر المفسرين: هو الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس. وقال قوم: هو البياض الذي يعقب تلك الحمرة.
تنبيه: سمي بذلك لرقته، ومنه الشفقة على الإنسان رقة القلب عليه واللام في لا أقسم مزيدة للتأكيد.
{والليل} أي: الذي يغلبه ويذهبه {وما وسق} أي: ما جمع وضم يقال وسقه فاتسق واستوسق قال الشاعر:
*مستوسقات لو يجدن سائقاً*
ونظيره في وقوع افتعل واستفعل مطاوعين اتسع واستوسع، ومعناه: وما جمعه وستره وآوى إليه من الدواب وغيرها.
{والقمر} أي: الذي هو آيته {إذا اتسق} أي: إذا اجتمع واستوى ليلة أربع عشرة. وقال قتادة: استدار وهو افتعل من الوسق.
تنبيه: قد اختلف العلماء في القسم بهذه الأشياء هل هو قسم بها أو بخالقها؟ فذهب المتكلمون.إلى أنّ القسم واقع بربها وإن كان محذوفاً؛ لأنّ ذلك معلوم من حيث ورود الحظر بأن يقسم بغير الله تعالى أو بصفة من صفاته، وقد مرّ أنّ ذلك يكره في حق الإنسان، فإنّ الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه وجواب القسم.{{
(13/405)
---(1/5131)
{لتركبنّ} أي: أيها الناس، أصله تركبون حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال والواو لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بفتح الباء الموحدة على خطاب الإنسان، والباقون بضمها على خطاب الجمع، وهو معنى الإنسان إذ المراد به الجنس أي: لتركبنّ أيها الإنسان {طبقاً} مجاوزاً {عن طبق} أي: حالاً بعد حال. قال عكرمة: رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم شيخ. وعن ابن عباس: الموت ثم البعث ثم العرض. وعن عطاء: مرّة فقيراً ومرّة غنياً. وقال أبو عبيدة: لتركبن سنن من كان قبلكم وأحوالهم لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟».
وقوله تعالى: {فما لهم} أي: الكفار {لا يؤمنون} استفهام إنكار، أي: أيّ مانع لهم من الإيمان، أو أي حجة في تركه بعد وجود براهينه.
{و} ما لهم {إذا قرئ} أي: من أي: قارئ قراءة مشروعة {عليهم القرآن} أي: الجامع لكل ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم الفارق بين كل ملتبس {لا يسجدون} أي: لا يخضعون بأن يؤمنوا به لإعجازه، أو لا يصلون، قاله مقاتل، أو لا يسجدون لتلاوته لما روى أنه صلى الله عليه وسلم «قرأ {واسجد واقترب} (العلق: 19)
فسجد ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق رؤوسهم فنزلت». وعن أبي هريرة قال: «سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في {اقرأ باسم ربك} و{إذا السماء انشقت}». وعن نافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ {إذا السماء انشقت} فسجد فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. وليس في ذلك دلالة على وجوبها فهي مندوبة. وعن الحسن: هي واجبة. واحتج أبو حنيفة على وجوب السجود بأنه تعالى ذمّ من سمعه ولم يسجد. وعن ابن عباس: ليس في المفصل سجدة، وما روى أبو هريرة يخالفه. وعن أنس: صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان فسجدوا.
(13/406)(1/5132)
---
{بل الذين كفروا يكذبون} أي: بالقرآن والبعث.
{والله أعلم بما يوعون} أي: بما يجمعون في صدورهم ويضمرون من الكفر والحسد والبغي والبغضاء، أو بما يجمعون في صحفهم من الكفر والتكذيب وأعمال السوء، ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذاب.
وقوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} أي: مؤلم استهزاء بهم، أو أنّ البشارة بمعنى الإخبار، أي: أخبرهم.
وقوله تعالى: {إلا} استثناء منقطع، أي: لكن {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} تحقيقاً لإيمانهم {لهم أجر غير ممنون} أي: غير مقطوع ولا منقوص ولا ممنون به عليهم. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ {إذا السماء انشقت} أعاذه الله تعالى أن يعطيه كتابه وراء ظهره» حديث موضوع.
سورة البروج
مكية
وهي اثنتان وعشرون آية ومائة وتسع كلماتوأربعمائة وثمانية وخمسون حرفاً
{بسم الله} الذي أحاط علمه بالكائنات {الرحمن} الذي عمّ جوده سائر المخلوقات {الرحيم} الذي خص أهل السعادة بالجنات.
(13/407)
---
وقوله تعالى: {والسماء} أي: العالية غاية العلوّ، المحكمة غاية الإحكام {ذات البروج} قسم أقسم الله تعالى به، وتقدّم الكلام على ذلك مراراً، وفي البروج أقوال: فقال مجاهد: هي البروج الاثنا عشر، شبهت بالقصور؛ لأنها تنزلها السيارات. وقال الحسن: هي النجوم، وقيل: هي منازل القمر. وقال عكرمة: هي قصور في السماء. وقيل: عظام الكواكب سميت بروجاً لظهورها. وقيل: أبواب السماء. وقوله تعالى:
{واليوم الموعود} قسم آخر وهو يوم القيامة. قال ابن عباس: وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه.
واختلفوا في قوله سبحانه وتعالى:(1/5133)
{وشاهد ومشهود} فقال أبو هريرة وابن عباس: الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة. وروى مرفوعاً: «اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة. والشاهد يوم الجمعة» خرّجه الترمذي في جامعه. قال القشيري: فيوم الجمعة يشهد على عامله بما عمل فيه. قال القرطبي: وكذا سائر الأيام والليالي لما روى أبو نعيم الحافظ عن معاوية أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من يوم يأتي على العبد إلا ينادى فيه يا ابن آدم أنا خلق جديد، وأنا فيما تعمل عليك شاهد، فاعمل فيّ خيراً أشهد لك به غداً فإني إذا مضيت لم ترني أبداً، ويقول الليل مثل ذلك» حديث غريب. وحكى القشيري عن عمر أنّ الشاهد يوم الأضحى. وقال ابن المسيب: الشاهد يوم التروية، والمشهود يوم عرفة. وروي عن علي: الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر. وقال مقاتل: أعضاء الإنسان هي الشاهد لقوله تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم} (النور: 24)
الآية. وقال الحسين بن الفضل: الشاهد هذه الأمة والمشهود سائر الأمم لقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً} (البقرة: 143)
الآية. وقيل: الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {إنا أرسلناك شاهداً} (الأحزاب: 45)
وقيل: آدم. وقيل: الحفظة الشاهد والمشهود أولاد آدم، وقيل: غير ذلك وكل ذلك صحيح.
(13/408)
---(1/5134)
واختلف في جواب القسم فقال الجلال المحلي: جواب القسم محذوف صدره أي: لقد {قتل} أي: لعن {أصحاب الأخدود} وقال الزمخشري: محذوف ويدل عليه قوله: {قتل أصحاب الأخدود} وكأنه قيل: أقسم بهذه الأشياء أنهم ملعونون يعني: كفار قريش كما لعن أصحاب الأخدود، فإنّ السورة وردت لتثبيت المؤمنين على أذاهم وتذكيرهم بما جرى على من قبلهم. واستظهر هذا البيضاوي. والأخدود: هو الشق المستطيل في الأرض كالنهر، وجمعه أخاديد، واختلف فيهم فعن صهيب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً، وكان في طريقه إذا سلك إليه راهب فقعد إليه، وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب فقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه وإذا رجع قعد إلى الراهب وسمع كلامه، فإذا أتى أهله ضربوه فشكا إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر،. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم الراهب أفضل أم الساحر فأخذ حجراً ثم قال: اللهمّ إن كان أمر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى تمضي الناس فرماها فقتلها فمضى الناس فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي: بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبلى فإن ابتليت فلا تدل عليّ فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس الملك وكان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال: هذا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله فإن آمنت به دعوت الله تعالى فشفاك فآمن بالله فشفاه الله تعالى، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من ردّ عليك بصرك؟ قال: ربي.h
(13/409)
---(1/5135)
قال: ربك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام فقال له الملك: أي: بنيّ قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، قال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقال: ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل: له: ارجع عن دينك فأبى ففعل به كالراهب، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه وقال: اذهبوا إلى جبل كذا فاصعدوا به، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهمّ اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور وتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال: اللهمّ اكفنيهم بما شئت فانكفأت السفينة بهم فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس وقل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ووضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده على صدغه موضع السهم فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام ثلاثاً، فأتى الملك فقيل: له: أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس، فأمر بالأخدود بأفواه السكك فحدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها. أو قيل له: اقتحم، قال: ففعلوا حتى جاءت امرأة معها(1/5136)
(13/410)
---
صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال الصبي: يا أمّاه اصبري فإنك على الحق فاقتحمت». قال البغوي: هذا حديث صحيح. وقيل: إنّ الصبي قال لها: قعي ولا تقاعسي. وقيل: ما هي إلا غميضة فصبرت. وذكر محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه أنّ رجلاً كان قد بقي على دين عيسى، فوقع على نجران فأجابوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنود من حمير، وخيرهم بين النار واليهودية، فأبوا عليه فخدّ الأخاديد وأحرق اثني عشر ألفاً في الأخاديد. وقيل: سبعين ألفاً. ثم غلب أرياط على اليمن فخرج ذو نواس هارباً واقتحم البحر بفرسه فغرق. قال الكلبي: وذو نواس قتل عبد الله بن التامر رضي الله عنه.
وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر أن خربة احترقت في زمن عمر فوجدوا عبد الله بن التامر واضعاً يده على ضربة في رأسه، إذا أميطت يده عنها أنبعت دماً وإذا تركت ارتدّت مكانها، وفي يده خاتم من حديد فيه: ربي الله. فبلغ ذلك عمر فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه.
(13/411)
---(1/5137)
وعن ابن عباس قال: كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شرحبيل في الفترة قبل أن يولد النبيّ صلى الله عليه وسلم بسبعين سنة، وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر، وكان أبوه سلمه إلى معلم يعلمه السحر فكره ذلك الغلام، ولم يجد بدّاً من طاعة أبيه فجعل يختلف إلى المعلم، وكان في طريقه راهب حسن الصوت فأعجبه ذلك، وذكر قريباً من معنى حديث صهيب إلى أن قال الغلام للملك: إنك لا تقدر على قتلي إلا أن تفعل ما أقول. قال: فكيف أقتلك؟ قال: تجمع أهل مملكتك وأنت على سريرك فترميني بسهم على اسم إلهي، ففعل الملك فقتله فقال الناس: لا إله إلا إله، عبد الله بن التامر لا دين إلا دينه، فغضب الملك وأغلق باب المدينة، وأخذ أفواه السكك وأخدّ أخدوداً وملأه ناراً ثم عرضهم رجلاً رجلاً، فمن رجع عن الإسلام تركه، ومن قال: ديني دين عبد الله بن تامر ألقاه في الأخدود وأحرقه، وكان في مملكته امرأة فأسلمت فيمن أسلم ولها أولاد ثلاثة: أحدهم رضيع فقال لها الملك: ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار فأبت، فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار، ثم قال لها: ارجعي فأبت فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمت المرأة بالرجوع فقال لها الصبي: يا أمّاه لا ترجعي عن الإسلام فإنك على الحق ولا بأس عليك فألقى الصبي في النار، وألقيت أمّه على أثره.
(13/412)
---(1/5138)
وعن علي أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال: هم أهل كتاب، وكانوا متمسكين بكتابهم، وكانت الخمر قد أحلت لهم، فتناولها بعض ملوكهم فسكر فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج، فقالت له: المخرج أن تخطب الناس فتقول: يا أيها الناس إنّ الله تعالى أحل لكم نكاح الأخوات، ثم تخطبهم بعد ذلك: أنّ الله تعالى حرّمه. فخطب فلم يقبلوا منه فقالت: ابسط فيهم السوط فلم يقبلوا، فأمرت بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها، فهم الذين أرادهم الله تعالى بقوله: {أصحاب الأخدود} وعن مقاتل: كانت الأخاديد ثلاثة: واحدة بنجران باليمن، وأخرى بالشام، وأخرى بفارس حرقوا بالنار، أما التي بالشام فهو أبطاموس الرومي، وأما التي بفارس فبختنصر، وأما التي بأرض العرب فهو يوسف ذو نواس. فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله تعالى فيهما قرآناً، وأنزل في التي كانت بنجران. وذلك أنّ رجلاً مسلماً ممن يقرأ الإنجيل أجر نفسه في عمل وجعل يقرأ الانجيل فرأت بنت المستأجر النور يضيء من قراءة الإنجيل فذكرت ذلك لأبيها فرمقه فرآه فسأله فلم يخبره، فلم يزل به حتى أخبره بالدين وبالإسلام فتابعه هو وسبعة وثمانون إنساناً ما بين رجل وامرأة، وهذا بعد ما رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، فسمع ذلك يوسف ذو نواس فخدّ لهم في الأرض، وأوقد فيها فعرضهم على الكفر، فمن أبى أن يكفر قذفه في النار، ومن رجع عن دين عيسى لم يقذفه، وأنّ امرأة جاءت ومعها صغير لا يتكلم فلما قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت عن النار، فضُربت حتى تقدّمت فلم تزل كذلك ثلاث مرّات، فلما كانت في الثالثة ذهبت ترجع فقال لها ابنها يا أمّاه إني أرى أمامك ناراً لا تُطفأ، فلما سمعت ذلك قذفا جميعاً أنفسهما في النار فجعلها الله وابنها في الجنة. فقذف في النار في يوم واحد سبعة وسبعون إنساناً فذلك قوله تعالى: {قتل أصحاب الأخدود}.
(13/413)
---(1/5139)
وقوله تعالى: {النار} بدل اشتمال من الأخدود. وقوله تعالى: {ذات الوقود} وصف لها بأنها نار عظيمة لها، ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس،واللام في الوقود للجنس.
وقوله تعالى: {إذ هم عليها قعود} ظرف لقتل أي: لعنوا حين أحرقوا بالنار قاعدين حولها، ومعنى عليها على ما يدنوا منها من حافات الأخدود كقوله:
*وبات على النار الندى والمحلق*
وكما تقول: مررت عليه تريد مستعلياً المكان الذي يدنو منه، فكانوا يقعدون حولها على الكراسي. وقال القرطبي: عليها. قوله وقال القرطبي عليها كذا في جميع النسخ وفيه سقط فراجعه.
{وهم على ما يفعلون بالمؤمنين} بالله من تعذيبهم بالإلقاء في النار إن لم يرجعوا عن إيمانهم {شهود} أي: يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنه لم يقصر فيما أمر به أو شهود بمعنى حضور، إذ روي أنّ الله تعالى أنجى المؤمنين الملقين في النار بقبض أرواحهم قبل وقوعهم فيها وخرجت النار إلى القاعدين فأحرقتهم.قال الرازي: يمكن أن يكون المراد بأصحاب الأخدود القاتلين، ويمكن أن يكون المراد بهم المقتولين. والمشهور أن المقتولين هم المؤمنون. وروي أن المقتولين هم الجبابرة. روي أنهم لما ألقوا المؤمنين في النار عادت النار على الكفرة فأحرقتهم، ونجّى الله المؤمنين منها سالمين وإلى هذا القول ذهب الربيع بن أنس والواحدي. وتأوّلوا قوله تعالى: {فلهم عذاب جهنم} أي: في الآخرة {ولهم عذاب الحريق} أي: في الدنيا.
فإن فسر أصحاب الأخدود بالقاتلين فيكون قوله تعالى: {قتل أصحاب الأخدود} دعاء عليهم كقوله تعالى: {قتل الإنسان ما أكفره} (عبس: 17)
(13/414)
---(1/5140)
وإن فسر بالمقتولين كان المعنى: أنّ المؤمنين قتلوا بالنار فيكون ذلك خبراً لا دعاءً. والمقصود من هذه الآية: تثبيت قلوب المؤمنين وإخبارهم بما كان يلقاه من قبلهم من الشدائد. وذكر لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلقون من أذى الكفار ليتأسوا بهذا الغلام في صبره على الأذى والصلب، وبذل نفسه في إظهار دعوته ودخول الناس في الدين مع صغر سنه، وكذلك صبر الراهب على التمسك بالحق حتى نشر بالمنشار، وكذلك أكثر الناس لما آمنوا بالله تعالى.
{وما نقموا} أي: وما أنكروا وكرهوا {منهم} من الخلات وكان ذنباً ونقصاً {إلا أن يؤمنوا} أي: يجدّدوا الإيمان مستمرّين عليه {بالله} أي: الذي له الكمال كله {العزيز} في ملكه الذي يغلب من أراد ولا يغلبه شيء. {الحميد} أي: المحيط بجميع صفات الكمال، فهو يثيب من أطاعه أعظم ثواب وينتقم ممن عصاه بأشدّ العذاب. وهذا استثناء على طريقة قول القائل:
*ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم
** بهن فلول من قراع الكتائب*
أي: من ضرابها، والكتائب بالتاء المثناة: جمع كتيبة وهي الجيش، وقال ابن الرقيات:
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
ونظيره قوله تعالى: {هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله} (المائدة: 59)
ولما ذكر تعالى الأوصاف التي يستحق بها أن يؤمن به ويعبد،وهو كونه عزيزاً غالباً قادراً يخشى عقابه، حميداً منعماً يجب الحمد على نعمه، ويرجى ثوابه قرر ذلك بقوله تعالى:
{الذي له} أي: خاصة {ملك السموات والأرض} أي: على جهة العموم مطلقاً، فكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له تقديراً، لأنّ ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغيّ، وإنّ الناقمين أهلٌ لانتقام الله تعالى منهم بعذاب لا يعدله عذاب. {والله} الملك الأعظم الذي له الإحاطة الكاملة {على كل شيء شهيد} فلا يغيب عنه شيء، وهذا لأنّ الله علم ما فعلوا وهو مجازيهم عليه.
(13/415)
---(1/5141)
ولما ذكر قصة اأصحاب الأخدود أتبعها ما يتفرّع من أحكام الثواب والعقاب فقال تعالى:
{إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} أي: أحرقوهم بالنار، يقال: فتنت الشيء إذا أحرقته، والعرب تقول: فتن فلان الدرهم والدينار إذا أدخله الكور لينظر جودته. ونظيره {يوم هم على النار يفتنون} (الذاريات: 7)
. قال الرازي: ويحتمل أن يكون المراد: كلُّ مَنْ فَعَلَ ذلك. قال: وهذا أولى لأنّ اللفظ عامّ والحكم عامٌّ، والتخصيص ترك للظاهر من غير دليل.
ولما كانت التوبة مقبولة قبل الغرغرة ولو طال الزمان عبر سبحانه بأداة التراخي فقال تعالى: {ثم لم يتوبوا} أي: عن كفرهم وعما فعلوا.
{فلهم عذاب جهنم} أي: بكفرهم {ولهم عذاب الحريق} أي: عذاب إحراقهم المؤمنين في الآخرة، وقيل: في الدنيا فأحرقتهم كما تقدّم، ومفهوم الآية أنهم لو تابوا لخرجوا من هذا الوعيد، وذلك يدل على أنّ الله تعالى يقبل التوبة من القاتل المتعمد خلاف ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما. ولما ذكر سبحانه وعيد المجرمين ذكر ما أعدّ للمؤمنين بقوله تعالى:
{إن الذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان من المقذوفين في النار وغيرهم من كل طائفة في كل زمان {وعملوا الصالحات} تحقيقاً لإيمانهم {لهم جنات} أي: بساتين تفضلاً منه تعالى {تجري من تحتها} أي: تحت غرفها وأسرّتها وجميع أماكنها {الأنهار} يتلذذون ببردها في نظير ذلك الحرّ الذي صبروا عليه في الدنيا، ويزول عنهم برؤية ذلك مع خضرة الجنان جميع المضارّ والأحزان.
{ذلك} أي: الأمر العالي الدرجة العظيم البركة {الفوز} أي: الظفر بجميع المطالب {الكبير} وهو رضا الله تعالى لا دخول الجنة.
وقال تعالى: {ذلك الفوز} ولم يقل تلك، لأنّ ذلك إشارة إلى إخبار الله تعالى بحصول الجنان وتلك إشارة إلى الجنة الواحدة، وإخبار الله تعالى عن ذلك يدل على كونه راضياً.
(13/416)
---(1/5142)
{إنّ بطش ربك} أي: أخذ المحسن إليك المربي لك المدبر لأمرك الجبابرة والظلمة {لشديد} كقوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخذه أليم شديد} (هود: 102)
قال المبردّ:{إنّ بطش ربك } جواب القسم، والبطش هو الأخذ بعنف فإذا وصف بالشدّة فقد تضاعف. ولما كان هذا البطش لا يتأتى إلا لكامل القدرة دل على كمال قدرته واختصاصه بذلك بقوله تعالى مؤكداً لما له من الإنكار:
{إنه هو} أي: وحده {يبدئ} أي: يوجد ابتداء أيّ خلق أراد إلى أيّ هيئة أراد {ويعيد} أي: ذلك المخلوق عند البعث. وروى عكرمة قال: عجب الكفار من إحياء الله تعالى الأموات أي: فنزلت.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يبدئ لهم عذاب الحريق في الدنيا ثم يعيده عليهم في الآخرة، وهذا اختيار الطبري. وقيل: يبدئ البطش ويعيده فيبطش بهم في الدنيا والآخرة، أو دل باقتداره على الإبداء والإعادة على شدّة بطشه، أو أوعد الكفرة بأن يعيدهم كما بدأهم ليبطش لهم؛ إذ لم يشكروا نعمة الإبداء وكذبوا بالإعادة.
{وهو} أي: وحده {الغفور} أي: الستور لعباده المؤمنين. وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بضمها.
وقوله تعالى: {الودود} مبالغة في الود. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو المتودّد لعباده بالمغفرة، وعن المبرد: هو الذي لا ولد له. وأنشد:
*وأركب في الودّ عريانة
** ذلول الجماع لقاحاً ودودا*{{
(13/417)
---
أي: لا ولد لها تحنّ إليه. وقيل: هو فعول بمعنى مفعول كالركوب والحلوب بمعنى المركوب والمحلوب. وقيل: يغفر ويودّ أن يغفر.(1/5143)
{ذو العرش} ومالكه، أي: ذو الملك والسلطان كما يقال فلان على سرير ملكه، وإن لم يكن على سرير، ويقال: ثلّ عرشه، أي: ذهب سلطانه، أو السرير الدال على اختصاص الملك بالملك، وانفراده بالتدبير والسيادة والسياسة الذي به قوام الأمور، وقرأ {المجيد} حمزة والكسائي بجرّ الدال على أنه نعت للعرش أو لربك في قوله تعالى: {إن بطش ربك} قال مكي: وقيل: لا يجوز أن يكون نعتاً للعرش لأنه من صفات الله تعالى اه. وهذا ممنوع لأنّ مجد العرش علوّه وعظمه كما قاله الزمخشري. وقد وصف العرش بالكريم في آخر المؤمنين. وقرأ الباقون برفع الدال على أنه خبر بعد خبر. وقيل: هو نعت لذو، واستدل بعضهم على تعدّد الخبر بهذه الآية، ومن منع قال لأنها في معنى خبر واحد، أي: جامع بين هذه الأوصاف الشريفة، أو كل منها خبر لمبتدأ مضمر، والمجد: هو النهاية في الكرم والفضل، والله سبحانه موصوف بذلك وتقدّم وصف عرشه بذلك.
{فعالٌ} أي: على سبيل التكرار والمبالغة {لما يريد} قال القفال: أي: يفعل ما يريد على ما يراه لا يعترض عليه أحد، ولا يغلبه غالب فيدخل أولياءه الجنة لا يمنعه مانع، ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر، ويمهل العصاة على ما يشاء إلى أن يجازيهم، ويعاجل بعضهم بالعقوبة إذا شاء، فهو يفعل ما يريد.
وعن أبي اليسر: دخل ناس من الصحابة على أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه يعودونه فقالوا: ألا نأتيك بطبيب؟ قال: قد رآني. قالوا: فماذا قال لك؟ قال: إني فعال لما أريد. وقال الزمخشري: فعال خبر مبتدأ محذوف، وإنما قال فعال لأنّ ما يريد ويفعل في غاية الكثرة. وقال الطبري: رفع فعال وهو نكرة محضة على وجه الإتباع لإعراب الغفور الودود.
(13/418)
---
تنبيه: دلت هذه الآية أنّ جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. قال بعضهم: ودلت على أنّ الله تعالى لا يجب عليه شيء لأنها دالة على أنه يفعل ما يريد.(1/5144)
{هل} أي: قد {أتاك} أي: يا أشرف الرسل {حديث} أي: خبر {الجنود} أي: الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم وقوله تعالى: {فرعون وثمود} يجوز أن يكون بدلاً من الجنود، واستشكل كونه بدلاً؛ لأنه لم يكن مطابقاً للمبدل منه في الجمعية. وأجيب: بأنه على حذف مضاف، أي: جنود فرعون وأنّ المراد فرعون وقومه، واستغنى بذكره عن ذكرهم لأنهم أتباعه، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار أعني لأنه لما لم يطابق ما قبله وجب قطعه.
والمعنى: إنك قد عرفت ما فعل الله تعالى بهم حين كذبوا رسلهم كيف هلكوا بكفرهم فقومك إن لم يؤمنوا بك فعل بهم كما فعل بهؤلاء، فاصبر كما صبر الأنبياء قبلك على أممهم.
{بل الذين كفروا} أي: من هؤلاء الذين لا يؤمنون بك {في تكذيب} لك لا يرعوون عنه، ومعنى الإضراب: أنّ حالهم أعجب من حال هؤلاء فإنهم سمعوا قصتهم ورأوا آثار هلاكهم وكذبوا أشدّ من تكذيبهم، وإنما خص فرعون وثمود لأنّ ثمود في بلاد العرب وقصتهم عندهم مشهورة، وإن كانوا من المتقدّمين، وأمر فرعون كان مشهوراً عند أهل الكتاب وغيرهم، وكان من المتأخرين في الهلاك فدل بهما على أمثالهما.
وقوله تعالى: {والله} أي: والحال أن الملك الذي له الكمال كله {من ورائهم محيط} وفيه وجوه:
أحدها: أن المراد وصف اقتداره عليهم وأنهم في قبضته وحصره، كالمحاط إذا أحيط به من ورائه ينسدّ عليه مسلكه فلا يجد مهرباً، يقول الله تعالى: فهم كذا في قبضتي وأنا قادر على إهلاكهم ومعاجلتهم بالعذاب على تكذيبهم إياك فلا تجزع من تكذيبهم، إياك فليسوا يفوتونني إذا أردت الانتقام منهم.
ثانيها: أن يكون المراد من هذه الإحاطة قرب هلاكهم كقوله تعالى: {وظنوا أنهم أحيط بهم} (يونس: 22)
فهو عبارة عن مشارفة الهلاك.
(13/419)
---
ثالثها: أنه تعالى محيط بأعمالهم، أي: عالم بها فيجازيهم عليها.(1/5145)
{بل هو} أي: هذا القرآن الذي كذبوا به، وهو لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه {قرآن} أي: جامع لكل منفعة جليلة بالغ الذروة العليا في كل شرف {مجيد} أي: شريف وحيد في اللفظ والمعنى، وليس كما زعم المشركون أنه شعر وكهانة.
{في لوح} هو في الهواء فوق السماء السابعة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده، دينه الإسلام، ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله عز وجل وصدّق بوعيده واتبع رسله أدخله الجنة، قال: واللوح لوح من درّة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وحافتاه الدرّ والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، وقلمه نور وكلامه نور، معقود بالعرش وأصله في حجر ملك.
وقرأ {محفوظ} بالرفع نافع على أنه نعت لقرآن، والباقون بالجرّ على أنه نعت للوح. وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش وقال البغوي: هو أمّ الكتاب، ومنه تنسخ الكتب محفوظ من الشياطين ومن الزيادة فيه والنقصان. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة البروج أعطاه الله تعالى بعدد كل يوم جمعة وكل يوم عرفة يكون في الدنيا عشر حسنات» حديث موضوع.
سورة الطارق
مكية
وهي سبع عشرة آية واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وإحدى وسبعون حرفاً
{بسم الله} مالك الخلق أجمعين {الرحمن} الذي عمّ جوده المؤمنين والكافرين {الرحيم} الذي خص رحمته بعباده المؤمنين.
(13/420)
---
وقوله تعالى: {والسماء والطارق} قسم أقسم الله تعالى به، وقد أكثر الله تعالى في كتابه العزيز ذكر السماء والشمس والقمر؛ لأنّ أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها ومغاربها عجيبة. ولما كان الطارق يطلق على غير النجم أبهمه أوّلاً، ثم عظم القسم به بقوله تعالى:(1/5146)
{وما أدراك} أي: أعلمك يا أشرف خلقنا، وإن حاولت معرفة ذلك وبالغت في الفحص عنه {ما الطارق} وهذا مبتدأ وخبر في محل المفعول الثاني لأدري، وما بعد ما الأولى خبرها، وفيه تعظيم لشأن الطارق. وأصله كل آت ليلاً ومنه النجوم لطلوعها ليلاً. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وشعبة وابن ذكوان بخلافٍ عنه بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين اللفظين والباقون بالفتح.k
ثم فسر الطارق بقوله تعالى:{{
(13/421)
---
{النجم الثاقب} أي: المضيء لثقبه الظلام بضوئه فينفذ فيه كما قيل: دُرِّيّ لأنه يدرؤه، أي: يدفعه، والمراد جنس النجوم أو جنس الشهب التي يرجم بها. وقال محمد بن الحسين: هو زحل. وقال ابن زيد: هو الثريا. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الجدي. وقال عليّ: هو نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها، ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة فهو طارق حين ينزل وحين يرجع.
وفي الصحاح: الطارق النجم الذي يقال له: كوكب الصبح. قال الماوردي: وأصل الطرق الدق، ومنه سميت المطرقة، وسمي النجم طارقاً لأنه يطرق الجني أي: يقتله. روي أنّ أبا طالب أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بخبز ولبن فبينما هو جالس يأكل إذا انحط نجم فامتلأت الأرض نوراً ففزع أبو طالب، وقال: أيّ شيء هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هذا نجم رمي به وإنه آية من آيات الله تعالى» فعجب أبو طالب فنزلت السورة. وقال مجاهد: الثاقب المتوهج، وجواب القسم.(1/5147)
{إن كل نفس} أي: من الأنفس مطلقاً لا سيما نفوس الناس {لما عليها} أي: بخصوصها {حافظ} وقرأ ابن عامر وعاصم بتشديد الميم والباقون بتخفيفها تكون مزيدة، وإن مخففة من الثقيلة واسمها محذوف، أي: أنه واللام فارقة وعلى تشديدها فإن نافية، ولما بمعنى إلا. والحافظ: هو المهيمن الرقيب وهو الله تعالى، {وكان الله على كل شيء رقيباً} (الأحزاب: 52)، {وكان الله على كل شيء مقيتاً} (النساء: 85)، أو ملك يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خير وشرّ. وروى الزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكاً يذبون عنه كما يذب أحدكم عن قصعة العسل الذباب ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين اختطفته الشياطين. ولما ذكر تعالى أن على كل نفس حافظاً أتبعه بوصية الإنسان بالنظر في حاله فقال تعالى:
(13/422)
---
{فلينظر الإنسان} أي: الآنس بنفسه الناظر في عطفه نظر اعتبار في أمره ونشأته الأولى حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، ولا يملي على حافظه إلا ما يسرّه في عاقبته. وقوله تعالى: {مم خلق} استفهام، أي: من أيّ شيء، وجوابه.
{خلق} أي: الإنسان على أيسر وجه وأسهله بعد خلق أبيه آدم عليه السلام من تراب وأمّه حوّاء رضي الله تعالى عنها من ضلعه. {من ماء دافق} أي: مدفوق، فاعل بمعنى مفعول كقوله تعالى: {عيشة راضية} (الحاقة: 21)
أو دافق على النسب، أي: ذي دفق أو اندفاق. وقال ابن عطية: يصح أن يكون الماء دافقاً؛ لأنّ بعضه يدفق بعضاً أي: يدفعه فمنه دافق ومنه مدفوق، والدفق الصب أي: مصبوب في الرحم، ولم يقل تعالى من ماءين فإنه من ماء الرجل وماء المرأة، لأنّ الولد مخلوق منهما لامتزاجهما في الرحم فصارا كالماء الواحد، واتحادهما حين ابتدئ في خلقه.(1/5148)
{يخرج من بين الصلب} أي: للرجل وهو عظام الظهر {والترائب} أي: للمرأة جمع تريبة وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة، وعن عكرمة: الترائب ما بين ثدييها، وقيل: الترائب التراقي، وقيل: أضلاع الرجل التي أسفل الصدر. وحكى الزجاج: أن الترائب أربعة أضلاع من يمنة الصدر وأربعة أضلاع من يسرة الصدر. وقال ابن عادل جاء في الحديث: «أنّ الولد يخلق من ماء الرجل يخرج من صلبه العظم والعصب، ومن ماء المرأة يخرج من ترائبها اللحم والدم. وحكى القرطبي: إنّ ماء الرجل ينزل من الدماغ ثم يجتمع في الانثيين، وهذا لا يعارضه قوله تعالى: {من بين الصلب والترائب} لأنه ينزل من الدماغ ثم يجتمع في الانثين قال المهدودي: ومن جعل يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة لضمير للإنسان.
والضمير في قوله تعالى:
(13/423)
---
{إنه} للخالق المدلول عليه بخلق لأنه معلوم أن لا خالق سواه سبحانه وتعالى وفي الضمير في قوله تعالى: {على رجعه} وجهان أحدهما: أنه ضمير الإنسان أي: بعثه بعد موته {لقادر} وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، والثاني: أنه ضمير الماء، أي: رجع المنيّ في الإحليل أو الصلب وهذا قول مجاهد. وعن الضحاك أنّ المعنى: إنه على ردَّ الإنسان في الكبر إلى الشباب ومن الشباب إلى الكبر. وقال ابن زيد: إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج؛ لقادر. وقال الماوردي: يحتمل أنه قادر على أن يعيده إلى الدنيا بعد بعثه إلى الآخرة؛ لأنّ الكفار يسئلون فيها الرجعة.
وقوله تعالى: {يوم} منصوب برجعه ومن يجعل الضمير في رجعه للماء وفسره برجعه إلى مخرجه من الصلب والترائب، أو الإحليل وحاله الأولى نصب الظرف بمضمر، أي: واذكر يوم. {تبلى} تختبر وتكشف، {السرائر} أي: ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرهما وما أخفى الأعمال وذلك يوم القيامة وبلاؤها تعرفها وتصفحها والتمييز بين ما طاب منها وما خبث. وعن الحسن أنه سمع رجلاً ينشد:
*سيبقى لها في مضمر القلب والحشا(1/5149)
** سريرة ودّ يوم تبلى السرائر*
فقال: ما أغفله عما في والسماء والطارق. وقال عطاء بن رباح: إن السرائر فرائض الأعمال كالصوم والصلاة والوضوء والغسل من الجنابة، فإنها سرائر بين الله تعالى وبين العبد، ولو شاء العبد لقال: صمت ولم يصم، وصليت، ولم يصل واغتسلت ولم يغتسل فيختبر حتى يظهر من أداها ممن ضيعها. وقال ابن عمر: يبدي الله تعال كل سرّ فيكون زيناً في وجوه، وشيناً في وجوه. يعني: فمن أدّاها كان وجهه مشرقاً، ومن لم يؤدها كان وجهه أغبر.
{فما له} أي: لهذا الإنسان المنكر للبعث الذي أخرجت سرائره. وأعرق في النفي والتعميم فقال تعالى:{من قوة} أي: منعة في نفسه يمتنع بها {ولا ناصر} أي: ينصره من عذاب الله تعالى فيدفعه عنه. ثم ذكر تعالى قسماً آخر فقال تعالى:
(13/424)
---
{والسماء} أي: التي تقدّم الإقسام بها، وَصَفَها بما يؤكد العلم بالبعث فقال تعالى: {ذات الرجع} أي: التي ترجع بالدوران إلى الموضع الذي تتحرك عنه فترجع الأحوال التي كانت، وتصرّمت من الليل والنهار والشمس والقمر والكواكب، والفصول من الشتاء وما فيه من برد ومطر، والصيف وما فيه من حرّ وصفاء وسكون، وغير ذلك. وقيل: ذات النفع. وقيل: ذات الملائكة لرجوعهم فيهم بأعمال العبادة. وقيل: ذات المطر لعوده كل حين، أو لما قيل: من أن السحاب تحمل الماء من البحار، ثم ترجعه إلى الأرض، وعلى هذا يجوز أن يراد بالسماء السحاب.
{والأرض} أي: مسكنكم الذي أنتم ملابسوه ومعاينوه كل وقت. {ذات الصدع} أي: تنصدع عن النبات والشجر والثمار والأنهار والعيون، نظيره: قوله تعالى: {ثم شققنا شقاً} (عبس: 26)(1/5150)
الآية والصدع بمعنى الشق لأنه يصدع الأرض فتنصدع، به فكأنما قال تعالى: والأرض ذات النبات. وقال مجاهد: ذات الطرق التي تصدعها المشاة، وقيل: ذات الحرث لأنه يصدعها، وقيل: ذات الأموات لإصداعهم عنها للنشور. قال الرازي: واعلم أنه تعالى كما جعل كيفية خلقة الحيوان دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد، ذكر في هذا القسم كيفية خلقة النبات فقوله تعالى: {والسماء ذات الرجع} كالأب، وقوله تعالى: {والأرض ذات الصدع} كالأمّ وكلاهما من النعم العظام، لأنّ نعم الدنيا موقوفةٌ على ما ينزل من السماء مكرّراً، وعلى ما ينبت من الأرض كذلك.
ثم أردف هذا القسم بالمقسم عليه وهو قوله تعالى:
{إنه لقول فصل} وفي هذا الضمير قولان أحدهما: ما قاله القفال: وهو أن المعنى: أنّ ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم يوم تبلى السرائر قول فصل وحق. والثاني: أنه عائد على القرآن، أي: القرآن فاصل بين الحق والباطل كما قيل له: فرقان. قال الرازي: والأوّل أولى؛ لأنّ عود الضمير إلى المذكور السالف أولى انتهى. وأكثر المفسرين على الثاني.
(13/425)
---
والفصل: الحكم الذي ينفصل به الحق من الباطل، ومنه فصل الخصومات وهو قطعها بالحكم الجزم. ويقال: هذا قول فصل قاطع للشرّ والنزاع معناه جدّ؛ لقوله تعالى:
{وما هو} أي: في باطنه ولا ظاهره {بالهزل} أي: باللعب والباطل بل هو جدّ كله لا هوادة فيه: ومن حقه وقد وصفه الله تعالى بذلك أن يكون مهيباً في الصدور، معظماً في القلوب، يترفع به قارئه وسامعه أن يلم بهزل أو يتفكه بمزاح، وأن يلقي ذهنه إلى أنّ جبار السموات والأرض يخاطبه فيأمره وينهاه، ويعده ويوعده حتى إن لم يستفزه الخوف، ولم تتبالغ فيه الخشية، فأدنى أمره أن يكون جاداً غير هازل، فقد نفى الله تعالى عن المشركين ذلك في قوله تعالى: {وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون} (النجم: 61)
{والغوا فيه} (فصلت: 26)(1/5151)
هذا على عود الضمير للقرآن، وعلى جعله للأوّل فيكون الشخص خائفاً وجلاً من ذلك الذي تبلى فيه السرائر.
{إنهم} أي: الكفار أعداء الله تعالى {يكيدون كيداً} أي: يمكرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. واختلف في ذلك الكيد، فقيل: إلقاء الشبهات كقولهم {إن هي إلا حياتنا الدنيا} (الأنعام: 29)
{من يحيي العظام وهي رميم} (يس: 78)
{أجعل الآلهة إلهاً واحداً} (ص: 5)
وما أشبه ذلك وقيل: قصدهم قتله لقوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} (الأنفال: 30)
الآية. وأما قوله تعالى:
{وأكيد} أي: أنا بإتمام اقتداري {كيداً} فاختلف فيه أيضاً، فقيل: معناه أجازيهم جزاء كيدهم، وقيل: هو ما أوقع الله تعالى بهم يوم بدر من القتل والأسر، وقيل: استدراجهم من حيث لا يعلمون، وقيل: كيد الله تعالى لهم بنصره وإعلاء درجته تسمية لأحد المتقابلين باسم الآخر لقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: 40)
. وقول الشاعر:
*ألا لا يجهلن أحد علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا*
وكقوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} (التوبة: 67)
{يخادعون الله وهو خادعهم} (النساء: 142)
(13/426)
---(1/5152)
ولما كان هذا معلماً بأنهم عدم لا اعتبار بهم، قال تعالى مسبباً عنه تهديداً لهم {فمهل الكافرين} أي: فمهل يا أشرف الخلق هؤلاء البعداء، ولا تستعجل بالانتقام ولا بالدعاء عليهم بإهلاكهم فإنا لا نعجل لأنّ العجلة وهي إيقاع الشيء في غير وقته الأليق به نقص. وقوله تعالى: {أمهلهم} تأكيد حسنه مخالفة اللفظ، أي: أنظرهم {رويداً} أي: قليلاً، وهو مصدر مؤكد لمعنى العامل مصغر، روداً و أرواداً على الترخيم، وقد أخذهم الله تعالى ببدر ونسخ الإمهال بالأمر بالجهاد والقتال.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الطارق أعطاه الله تعالى بعدد كل نجم في السماء عشر حسنات» حديث موضوع.
سورة الأعلى مكية
في قول الجمهور وقال الضحاك مدنية، قال النووي: وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحيها لكثرة مااشتملت عليه من العلوم والخبرات، وهي تسع عشرة آية واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وأربعة وثمانون حرفاً.
{بسم الله} عالم الغيب فلا تخفى عليه خافية {الرحمن} الذي عمّ جوده كل أنس وجنّ وملك ودابة {الرحيم} الذي خص أولياءه بمعرفتهم إحسانه.
(13/427)
---
واختلف في قوله سبحانه وتعالى: {سبح اسم ربك} فالأكثرون على أن المعنى: نزه ربك المحسن إليك بعد إيجادك على صفة الكمال عما لا يليق به، فاسم زائد، كقول لبيد:
* ** إلى الحول ثم اسم السلام عليكما*(1/5153)
وقيل: عَظِّمْ ربك {الأعلى} والاسم زائد كما مرّ، قصد به تعظيم المسمى، وذكر الطبري أن المعنى: نزه اسم ربك الأعلى عن أن تسمي به أحداً سواه. وقيل: نزه تسمية ربك وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاشع معظم لذكره وقال الرازي: معنى {سبح اسم ربك الأعلى} أي: نزِّهْهُ عن كل ما لا يليق به في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه. أما في ذاته فأن تعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض، وأما في صفاته فأن تعتقد أنها ليست محدثة ولا متناهيةٌ ولا ناقصة، وأما في أفعاله فأن تعتقد أنه سبحانه مالك مطلق لا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور، وأما في أسمائه فأن لا تذكره سبحانه إلا بالأسماء التي لا توهم نقصاً بوجهٍ من الوجوه، سواءٌ ورد الإذن فيها أم لم يرد، وأما في أحكامه سبحانه فأن تعلم أنه ما كلفنا لنفع يعود إليه بل لمحض المالكية. قال البغوي: ويحتج بهذا من يجعل الاسم والمسمى واحد، لأنّ أحداً لا يقول سبحان الله. و سبحان اسم ربنا إنما يقول: سبحان الله وسبحان ربنا. فكان معنى: {سبح اسم ربك} اه. وكون الاسم عين المسمى أو غيره قد ذكرتها في مقدّمتي على البسملة والحمدلة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: سبح أي: صل بأمر ربك. وذهب جماعة من الصحابة والتابعين على أنّ المراد قل: سبحان ربي الأعلى، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ {سبح اسم ربك الأعلى} فقال: «سبحان ربي الأعلى». وعن عقبة بن عامر «أنه لما نزلت {فسبح باسم ربك العظيم} (الواقعة: 74)
(13/428)
---
قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجعلوها في ركوعكم». ولما نزل {سبح اسم ربك الأعلى }قال: اجعلوها في سجودكم». وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك. وروي «أنّ أوّل من قال سبحان ربي الأعلى ميكائيل».
ولما أمر تعالى بالتسبيح فكان سائلاً قال: الاشتغال بالتسبيح إنما يكون بعد المعرفة فما الدليل على وجود الرب تعالى؟(1/5154)
فقال تعالى: {الذي خلق} أي: أوجد من العدم فله صفة الإيجاد لكل ما أراده لا يعسر عليه شيء {فسوّى} أي: مخلوقه. وقال الرازي: يحتمل أن يريد الناس خاصة، ويحتمل أن يريد الحيوان، ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه تعالى، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوهاً: أحدها: اعتدال قامته وحسن خلقه، كما قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} (التين: 4)
وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه بقوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} (المؤمنون: 14)
. ثانيها: كل حيوان مستعدّ لنوع واحد من الأعمال فقط، أمّا الإنسان فإنه خلق بحيث يمكنه أن يأتي بجميع الأعمال بواسطة الآلات. ثالثها: أنه تعالى هيأه للتكليف والقيام بأداء العبادات. وقال بعضهم: خلق في أصلاب الآباء وسوّى في أرحام الأمّهات.
ومن حمله على جميع الحيوانات فمعناه: أنه أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه من الآلات والأعضاء، ومن حمله على جميع المخلوقات كان المراد من التسوية: هو أنه تعالى قادرٌ على كل الممكنات، عالمٌ بجميع المعلومات، يخلق ما أراد على وفق إرادته موصوفاً بالأحكام والإتقان، مبرّأٌ عن النقص والاضطراب.
(13/429)
---
وقرأ {والذي قدر} الكسائي بتخفيف الدال والباقون بالتشديد قال البغوي: وهما بمعنى واحد، أي: أوقع تقديره في أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها وغير ذلك من أحوالها، فجعل البطش لليد، والمشي للرجل، والسمع للأذن، والبصر للعين ونحو ذلك {فهدى} قال مجاهد: هدى الإنسان لسبيل الخير والشرّ والسعادة والشقاوة وهدى الأنعام لمراعيها. وقال مقاتل والكلبي: في قوله تعالى: {فهدى} عرّف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى، كما قال تعالى في سورة طه: {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} (طه: 50)(1/5155)
أي: الذكر للأنثى. وقال عطاء: جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها له. وقيل: قدّر أقواتهم وأرزاقهم وهداهم لمعاشهم إن كانوا أناساً، ولمراعيهم إن كانوا وحوشاً. وقال السدّي: قدّر مدّة الجنين في الرحم ثم هداه إلى الخروج من الرحم، ومن ذلك هدايات الإنسان إلى مصالحه من أغذيته وأدويته وأمور دنياه ودينه، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض إلى معايشها ومصالحها.
يقال: إن الأفعى إذا أتى عليها ألف سنة عميت، وقد ألهمها الله تعالى أن تمسح عينيها بورق الرازيانج الغض فيردّ إليها بصرها، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام فتطوي تلك المسافة على طولها وعماها حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحك بها عينيها فترجع باصرة بإذن الله تعالى.
وقيل: {فهدى} أي: دلهم بأفعاله على توحيده، وكونه عالماً قادراً، والاستدلال بالخلق والهداية معتمد الأنبياء، قال إبراهيم عليه السلام {الذي خلقني فهو يهدين} (الشعراء: 78)
وقال موسى عليه السلام لفرعون: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} (طه: 50)
ولما ذكر سبحانه ما يختص بالناس اتبعه ما يختص بالحيوان فقال تعالى:
{والذي أخرج المرعى} أي: أنبت ما ترعاه الدواب. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المرعى الكلأ الأخضر.
(13/430)
---
{فجعله} أي: بعد أطوار من زمن إخراجه بعد خضرته {غثاء} أي: جافاً هشيماً {أحوى} أي: أسود يابساً. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون أحوى حالاً من المرعى أي: أخرجه أحوى أي: أسود من شدّة الخضرة والري فجعله غثاء بعد حويه. وقال ابن زيد: هذا مثل ضربه الله تعالى للكفار ولذهاب الدنيا بعد نضارتها.(1/5156)
وقوله تعالى: {سنقرؤك فلا تنسى} بشارة من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بإعطاء آية بينة، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي وهو أمّي لا يكتب ولا يقرأ فيحفظه ولا ينساه، فهو نفيٌ أخبر الله تعالى أنّ نبيه صلى الله عليه وسلم لا ينسى. وقيل: نهيٌ، والألف مزيدة للفاصلة كقوله تعالى: {السبيلا} (الأحزاب: 67)
أي: فلا تفعله كرامةً، وتكريره لئلا ينساه، ومنعه مكي لأنه لا ينهى عما ليس باختياره. وأجيب: بأنّ هذا غير لازم؛ إذ المعنى: النهي عن تعاطي أسباب النسيان وهو شائع. قال الرزاي: وهذه الآية تدل على المعجزة من وجهين.
الأوّل: أنه كان رجلاً أمّياً فحفظه لهذا الكتاب المطوّل من غير دراسة ولا تكرار خارق للعادة فيكون معجزاً.
الثاني: أنّ هذه السورة من أول ما نزل بمكة، فهذا إخبار عن أمر عجيب مخالف للعادة سيقع في المستقبل، وقد وقع فكان هذا إخباراً، فيكون معجزاً.
وفي المشيئة في قوله تعالى: {إلا ما شاء الله} أي: المَلِك الذي له الأمر كله وجوه: أحدها: التبرّك بهذه الكلمة كقوله تعالى:
{ولا تقولنّ لشيءٍ إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} (الكهف: 23 ـ 24)
(13/431)
---
فكأنه تعالى يقول: إني عالم بجميع المعلومات، وعالم بعواقب الأمور على التفصيل، ومع ذلك لا أخبر بوقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة، فأنت وأمّتك يا أشرف الخلق أولى بها. ثانيها: قال الفرّاء: إنه تعالى ما شاء أن ينسى محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ إلا أن المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى يصيره ناسياً لذلك لقدر عليه كقوله تعالى: {ولئن شئنا لنذهبنّ بالذي أوحينا إليك} (الإسراء: 86)
ثم إنا نقطع أنه تعالى ما شاء ذلك. ونظيره قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} (الزمر: 65)(1/5157)
مع أنه صلى الله عليه وسلم ما أشرك البتة ففائدة هذا الاستثناء أنّ الله تعالى يعرفه قدرته حتى يعلم أنّ عدم النسيان من فضل الله تعالى وإحسانه لا من قوّته.
ثالثها: أنّ الله تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوّز صلى الله عليه وسلم في كل ما ينزل عليه من الوحي أن يكون ذلك هو المستثنى، فلا جرمٌ بالغ في التثبت والتحفظ في جميع المواضع، فكان المقصود من ذكر الاستثناء بقاؤه صلى الله عليه وسلم على التيقظ في جميع الأحوال.
رابعها: أن ينساه بنسخ تلاوته وحكمه، وكان صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة مع قراءة جبريل عليه السلام خوف النسيان فكأنه قيل له: لا تعجل بها إنك لا تنسى ولا تتعب نفسك بالجهر بها.
{إنه} أي: الذي مهما شاء كان {يعلم الجهر} أي: القول والفعل {وما يخفى} أي: منهما، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما في قلبك ونفسك. وقال محمد بن حاتم يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها. وقيل: الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك، وما يخفى ما نسخ من صدرك.
وقوله تعالى: {ونيسرك لليسرى} عطف على سنقرؤك، فهو داخل في حيز التنفيس، وما بينهما من الجملة اعتراض. قال الضحاك: واليسرى هي الشريعة اليسرى وهي الحنيفية السهلة.v
وقال ابن مسعود: اليسرى الجنة، أي: نيسرك إلى العمل المؤدّي إلى الجنة، وقيل: اليسرى الطريقة اليسرى، وهي أعمال الخير والأمر في قوله تعالى:
(13/432)
---
{فذكر} للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي: فذكر بالقرآن {إن نفعت الذكرى} أي: الموعظة، وإن شرطية، وفيه استبعاد لتذكرهم. ومنه قول القائل:
*لقد أسمعت لو ناديت حياً ** ولكن لا حياة لمن تنادي*(1/5158)
ولأنه صلى الله عليه وسلم قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم، وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلا عتوّاً وطغياناً، وكان صلى الله عليه وسلم يتلظى حسرة وتلهفاً ويزداد جهداً في تذكيرهم، وحرصاً عليه فقيل: إن نفعت الذكرى وذلك بعد إلزام الحجة بتكرير التذكير. وقيل: إن بمعنى إذ كقوله تعالى: {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران: 139)
وقيل: بعده شيء محذوف تقديره إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع. كقوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل: 81)
أي: البرد وقاله الفراء والنحاس. وقيل: إن بمعنى ما لا بمعنى الشرط لأنّ الذكرى باقية بكل حال.
ثم بين تعالى من تنفعه الذكرى بقوله سبحانه.
{سيذكر} أي: بوعد لا خلف فيه {من يخشى} أي: يخاف الله تعالى فهي كآية {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} (ق: 45)
وإن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يجب عليه تذكيرهم نفعتهم الذكرى أم لم تنفعهم. وقال ابن عباس: نزلت في ابن أمّ مكتوم. وقيل: في عثمان بن عفان. قال الماوردي: وقد تذكر من يرجوه إلا أن تذكر الخاشع أبلغ فلذلك علقها بالخشية دون الرجاء. وقال القشيري: المعنى: عمم أنت بالتذكير والوعظ وإن كان الوعظ إنما ينفع من يخشى، ولكن يحصل لك ثواب الدعاء. فإن قيل: التذكير إنما يكون بشيء قد علم، وهؤلاء لم يزالوا كفاراً معاندين أجيب: بأنّ ذلك لظهوره وقوّة دليله، كأنه معلوم لكنه يزول بسبب التقليد والفساد.
تنبيه: السين في قوله تعالى: {سيذكر} يحتمل أن تكون بمعنى سوف، وسوف من الله تعالى واجب كقوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} ويحتمل أن يكون المعنى: أنّ من خشي فإنه يتذكر وإن كان بعد حين بما يستعمله من التدبر والنظر.
(13/433)
---
ولما بين تعالى من ينتفع بالذكرى بين من لا ينتفع بها بقوله تعالى:
{ويتجنبها} أي: الذكرى أن يتركها جانباً لا يلتفت إليها {الأشقى}.(1/5159)
{الذي يصلى النار} وهو الكافر. فإن قيل: الأشقى يستدعي وجود شقي فكيف قال هذا القسم؟ أجيب: بأنّ لفظ الأشقى من غير مشاركة كقوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرّاً وأحسن مقيلاً} (الفرقان: 24)، وقوله تعالى: {وهو أهون عليه} (الروم: 27)
. قال الرازي: الفرق ثلاثة العارف والمتوقف والمعاند، فالسعيد هو العارف، والمتوقف له بعض الشقاوة، والأشقى هو المعاند. وقال الزمخشري: الأشقى هو الكافر؛ لأنه أشقى من الفاسق، أو الذي هو أشقى الكفرة؛ لتوغله في معاداة النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعقبة بن ربيعة.
واختلف في قوله تعالى: {الكبرى} أي: العظمى على وجوه: أحدها: قال الحسن: هي نار جهنم، والصغرى نار الدنيا. ثانيها: أنّ في الآخرة نيراناً ودركات متفاضلة، فكما أنّ الكافر أشقى العصاة فكذلك يصلى أعظم النيران. ثالثها: أنّ النار الكبرى هي النار السفلى فهي نصيب الكفار، كما قال تعالى: {إنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار} (النساء: 145)
. فإن قيل: قوله تعالى:
{ثم لا يموت فيها ولا يحيى} يقتضي أن ثم حالة غير الحياة والموت، وذلك غير معقول. أجيب: عن ذلك بوجهين: أحدهما: لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه كما قال تعالى: {لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} (فاطر: 36)
وهذا جاء على مذهب العرب يقولون للمبتلى بالبلاء الشديد لا هو حيّ ولا هو ميت. ثانيهما: أنّ نفس أحدهم في النار في حلقة لا تخرج فيموت، ولا ترجع إلى موضعها فيحيا.
تنبيه: قوله تعالى: ثم للتراخي بين الرتب في الشدّة.
ولما ذكر تعالى وعيد من أعرض عن النظر في دلائل الله تعالى أتبعه بالوعد لضدّه فقال تعالى:
(13/434)
---(1/5160)
{قد أفلح} أي: فاز بكل مراد {من تزكى} أي: تطهر من الكفر بالإيمان؛ لما روي عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من تزكى وشهد أي لا إله إلا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله». وقيل: تطهر للصلاة وأدّى الزكاة.
{وذكر اسم ربه} أي: بقلبه ولسانه مكبراً {فصلى} أي: الصلوات الخمس. قال الزمخشري: وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح وعلى أنها ليست من الصلاة؛ لأنّ الصلاة معطوفة عليها. وقال قتادة: تزكى: عَمِلَ صالحاً. وعن عطاء نزلت في صدقة الفطر. قال ابن سيرين: قد أفلح من تزكى، قال: خرج فصلى بعد ما أدّى زكاة الفطر وصلى صلاة العيد. قال بعضهم: لا أدري ما وجه هذا التأويل فإنّ هذه السورة مكية ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر. وأجاب البغوي: بأنه يجوز أن يكون النزول سابقاً على الحكم كقوله تعالى: {وأنت حل بهذا البلد} (البلد: 2)
والسورة مكية وظهر أثر الحل يوم الفتح قال صلى الله عليه وسلم «أحلت لي ساعة من نهار». وقيل: المراد زكاة الأعمال لا زكاة الأموال، أي: زكى أعماله من الرياء والتقصير. وروي عن عطاء أنه قال: إنّ هذه الآية نزلت في عثمان، وذلك أنه كان بالمدينة منافق له نخلة مائلة إلى دار رجل من الأنصار، إذا هبت الريح تساقط منها بسر ورطب في دار الأنصاري فيأكل هو وعياله من ذلك، فخاصمه المنافق، فذكر الأنصاري ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فأرسل خلف المنافق وهو لا يعلم نفاقه فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «إنّ أخاك الأنصاري ذكر أنّ بسرك ورطبك يقع في منزله فيأكل هو وعياله منه فهل لك أن أعطيك نخلة في الجنة بدلها؟ قال: أبيع عاجلاً بآجل لا أفعل» فذكروا أنّ عثمان قد أعطاه حائطاً من نخل بدل نخلته. ويقول فيه: {قد أفلح من تزكى} وفي المنافق {ويتجنبها الأشقى} وقال الضحاك: نزلت في أبي بكر
(13/435)
---(1/5161)
وقرأ {بل تؤثرون الحياة الدنيا} أبو عمرو بياء الغيبة، والباقون بتاء الخطاب، ومعناه على القراءة الأولى: بل تؤثرون الأشقون، وعلى القراءة الثانية: بل تؤثرون أيها المسلمون الاستكثار من الدنيا بالعز الحاضر مع أنها شرٌّ وفانية اشتغالاً بها لأجل حضورها كالحيوانات التي هي مقيدة بالمحسوسات على الاستكثار من الثواب.
{والآخرة}، أي: والحال أنّ الدار التي هي غاية القصد المبرأة عن العيب المنزهة عن الخروج عن الحكمة {خير}، أي: من الدنيا {وأبقى} لأنها تشتمل على السعادة الجسمانية، والروحانية، ليست كذلك فالآخرة خير من الدنيا ولأنّ الدنيا لذاتها مخلوطة بالآلام والآخرة ليست كذلك، ولأنّ الدنيا فانية والأخرة باقية، والباقي خير من الفاني.
وعن عمر: ما الدنيا في الآخرة إلا كنفجة أرنب. وعن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية فقال: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ قلنا: لا. قال: لأنّ الدنيا أحضرت، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها، وأنّ الآخرة نعتت لنا وزويت عنا فأحببنا العاجل وتركنا الآجل.
والإشارة في قوله تعالى: {إنّ هذا لفي الصحف الأولى} إلى قوله {قد أفلح من تزكى} إلى قوله {خير وأبقى}، أي: هذا الكلام وارد في تلك الصحف. وقيل: إلى ما في السورة كلها، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس. وقال الضحاك: إنّ هذا القرآن لفي الصحف الأولى ولم يرد أنّ هذه الألفاظ بعينها في تلك الصحف، وإنما معناه أنّ معنى هذا الكلام في تلك الصحف.
ثم بين تلك الصحف وهي المنزلة قبل القرآن بقوله تعالى:
(13/436)
---(1/5162)
{صحف إبراهيم} وقدمه لأنّ صحفه أقرب إلى الوعظ كما نطق به حديث أبي ذر {وموسى} وختم به لأنّ الغالب على كتابة الأحكام والمواعظ فيه قليلة، ومنها الزواجر البليغة كاللعن لمن خالف أوامر التوراة التي أعظمها البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وروي عن أبيّ بن كعب «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كم أنزل الله تعال من كتاب؟ فقال: مائة وأربعة كتب، منها على آدم عشر صحف وعلى شيث خمسون صحيفة، وعلى اخنوخ وهو إدريس ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان». وقيل: في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه. عارفاً بزمانه، مقبلاً على شأنه. وعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما ب{سبح اسم ربك الأعلى} و{قل يا أيها الكافرون} وفي الوتر ب{قل هو الله أحد} و{قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس}».
وقرأ الأعلى، فسوى، المرعى، أحوى، فلا تنسى، وما يخفى، من يخشى، الأشقى، ولا يحيى، من تزكى، فصلى، الدنيا، وأبقى، الأولى، وموسى حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش وأبو عمرو بين بين، والفتح عن ورش قليل، أمّا الأعلى الذي، والأشقى الذي إذا وقف عليهما فالإمالة، وإن وصلا فلا إمالة والباقون بالفتح. وقرأ: الذكرى، الكبرى، أبو عمرو والكسائي بالإمالة محضة. وقرأ ورش بين اللفظين والباقون بالفتح، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الأعلى أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله الله تعالى على إبراهيم وموسى ومحمد عليهم السلام». حديث موضوع.
سورة الغاشية
مكية بالإجماع
وهي ست وعشرون آية واثنان وتسعون كلمةوثلاثمائة وإحدى وثمانون حرفاً
{بسم الله} علام الغيوب {الرحمن} كاشف الكروب {الرحيم} الذي خص أولياءه بالعفو عن الذنوب.
(13/437)
---(1/5163)
وقوله سبحانه وتعالى: {هل أتاك حديث الغاشية} فيه وجهان: أحدهما: أنّ هل بمعنى قد، أي: قد جاءك يا أشرف الخلق حديث الغاشية، كقوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} (الإنسان: 1)
. قال قطرب: والثاني: أنه استفهام على حاله، وتسميه أهل البيان التشويق، والمعنى: إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك وهو معنى قول الكلبي، والغاشية: الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها وهي القيامة من قوله: {يوم يغشاهم العذاب} (العنكبوت: 55)
وقيل: هي النار من قوله تعالى: {وتغشى وجوههم النار} (إبراهيم: 50)
{ومن فوقهم غواش} (الأعراف: 41)
. وقيل: المراد النفخة الثانية للبعث لأنها تغشى الخلق. وقيل: الغاشية أهل النار يغشونها ويقتحمون فيها.
{وجوه}، أي: كثيرة جدّاً كائنة {يومئذ}، أي: يوم إذ غشيت {خاشعة}، أي: ذليلة من الخجل والفضيحة والخوف من العذاب، والمراد بالوجوه في الموضعين: أصحابها.{{
(13/438)
---
{عاملة ناصبة}، أي: ذات نصب وتعب. قال سعيد بن جبير عن قتادة: تكبرت في الدنيا عن طاعة الله تعالى فأعملها الله تعالى وأنصبها في النار بجرّ السلاسل الثقال وحمل الأغلال، والوقوف حفاة عراة في العَرَصَات في يوم كان مقداره ألف سنة. وقال ابن مسعود: تخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل. وقال الحسن: لم تعمل لله في الدنيا ولم تنصب له فأعملها وأنصبها في جهنم. وقال ابن عباس: هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله تعالى على الكفر، مثل عبدة الأوثان والرهبان وغيرهم لا يقبل الله تعالى منهم إلا ما كان خالصاً له. وعن علي أنهم الخوارج الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» الحديث.(1/5164)
وقرأ {تصلى} أبو عمرو وشعبة بضم التاء الفوقية على ما لم يسم فاعله، والباقون بفتحها على تسمية الفاعل، والضمير على كلتا القراءتين للوجوه. والمعنى: تدخل {ناراً حاميةً}، أي: شديدة الحرّ قد أحميت وأوقدت مدّة طويلة، ومنه حمى النار بالكسر، أي: اشتدّ حرّه. وحكى الكسائي اشتدّ حمى الشمس وحموها بمعنى. قال صلى الله عليه وسلم «أوقد عليها ألف سنة حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسوّدت فهي سوداء مظلمة». وقيل: المصلى عند العرب أن يحفروا حفيراً فيجمعون فيه جمراً كثيراً، ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه، فأمّا ما شوي فوق الجمر أو على المقلى أو في التنور فلا يسمى مصلياً.
ولما بين تعالى مكانهم ذكر شرابهم فقال تعالى: {تسقى من عين آنية}، أي: شديدة الحرارة كقوله تعالى: {بين حميم آن} (الرحمن: 44)
متناه في الحرارة. روي أنه لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لأذابتها.
(13/439)
---(1/5165)
ولما ذكر تعالى شرابهم أتبعه بذكر طعامهم فقال تعالى: {ليس لهم طعام إلا من ضريع} قال مجاهد: هو نبت ذو شوك لاطىء بالأرض تسميه قريش الشبرق، فإذا هاج سموه الضريع، وهو أخبث طعام وأبشعه. قال الكلبي: لا تقربه دابة إذا يبس. وقال ابن زيد: أمّا في الدنيا فإنّ الضريع الشوك اليابس الذي ليس له ورق، وهو في الآخرة شوك من نار. وجاء في الحديث عن ابن عباس يرفعه: «الضريع شيء في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة، وأشد حرّاً من النار» قال أبو الدرداء والحسن: «إنّ الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بالضريع ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء فيستسقون فيعطشهم ألف سنة، ثم يسقون من عين آنية لا هنيئة ولا مريئة، فلما أدنوه من وجوههم سلخ جلود وجوههم وشواها فإذا وصل بطونهم قطعها فذلك قوله تعالى: {وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم} (محمد: 15)
. قال بعض المفسرين: فلما نزلت هذه الآية قال المشركون: إنّ إبلنا لتسمن على الضريع، وكذبوا في ذلك فإنّ الإبل إنما ترعاه ما دام رطباً ويسمى شبرقاً فإذا يبس لا يأكله شيء. قال أبو ذؤيب يصف حماراً:
*رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ** وصار ضريعاً بان عنه النحائص*
والنحوص: من الأتن التي لا لبن لها.
ولما قالوا ذلك أنزل الله تعالى تكذيباً لهم: {لا يسمن ولا يغني}، أي: يكفي كفاية مبتدأة {من جوع} فلا يحفظ الصحة ولا يمنع الهزال فنفى السمن والشبع عنه، وعلى تقدير أن يصدقوا فيكون المعنى: أنّ طعامكم من ضريع ليس من جنس ضريعكم إنما هو ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع. فإن قيل: كيف قيل: {ليس لهم طعام إلا من ضريع} وفي الحاقة: {ولا طعام إلا من غسلين} (الحاقة: 36)
؟ أجيب: بأنّ العذاب ألوان والمعذبون طبقات، فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع لكل باب منهم جزء مقسوم.
(13/440)
---(1/5166)
ولما ذكر تعالى وعيد الكفار أتبعه بشرح أحوال المؤمنين فقال تعالى: {وجوه يومئذٍ}، أي: يوم تغشى الناس ووصفها بصفات الأولى قوله تعالى: {ناعمة}، أي: ذات بهجة وحسن كقوله تعالى: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} (المطففين: 24)
أو متنعمة. قال مقاتل: في نعمة وكرامة. الصفة الثانية: قوله تعالى:
{لسعيها}، أي: في الدنيا بالأعمال الصالحة {راضيةٌ}، أي: في الآخرة بثواب سعيها حين رأت ما أدّاهم إليه من الكرامة الصفة الثالثة قوله تعالى:
{في جنة} ثم توصف الجنة بصفات الأولى قوله تعالى: {عالية}، أي: علية المحل والقدر، والصفة الثانية: قوله تعالى:
{لا يسمع فيها لاغية} قرأ بالتاء الفوقية نافع مضمومة لاغية بالرفع، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء التحتية مضمومة لاغية بالرفع لقيامها مقام الفاعل، والباقون بالتاء الفوقية مفتوحة لاغية بالنصب فيجوز أن تكون التاء للخطاب، أي: لا تسمع أنت وأن تكون للتأنيث، أي: لا تسمع الوجوه واللغو. وقال ابن عباس: الكذب والبهتان والكفر بالله تعالى. وقال قتادة: لا با طل ولا إثم. وقال الحسن: هو الشتم. وقال الفراء: الحلف الكاذب، والأولى كما قيل: لا يسمع في كلامهم كلمة ذات لغو، وإنما يتكلمون بالحكمة وحمد الله تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم وهذا أحسن الأقوال قاله القفال. وقال الكلبي: لا يسمع في الجنة حالف بيمين لا برّة ولا فاجرة.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: {فيها}، أي: الجنة {عين جارية} قال الزمخشري: يريد عيوناً في غاية الكثرة كقوله تعالى: {علمت نفس} (التكوير: 14)
وقال القفال: فيها عين شراب جارية على وجه الأرض في غير أخدود، وتجري لهم كما أرادوا.
الصفة الرابعة: قوله تعالى: {فيها سرر مرفوعة}، أي: عالية في الهواء. قال ابن عباس: ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة في السماء ما لم يجيء أهلها، فإذا أرادوا أن يجلسوا عليها تواضعت ثم ترتفع على مواضعها.
(13/441)
---(1/5167)
الصفة الخامسة قوله تعالى: {وأكواب موضوعة} جمع كوب، وهي الكيزان التي لا عرى لها. قال قتادة: فهي دون الإبريق.
وفي قوله تعالى: {موضوعة} وجوه أحدها: أنها معدّة لأهلها كالرجل يلتمس من الرجل شيئاً فيقول هو ههنا موضوع بمعنى معدّ. ثانيها: موضوعة على حافات العين الجارية كلما أرادوا الشرب وجدوها مملوءة من الشراب. ثالثها: موضوعة بين أيديهم لاستحسانهم إياها بسبب كونها من ذهب أو فضة أو من جواهر وتلذذهم بالشرب فيها رابعها: أن يكون المراد موضوعة عن حدّ الكبر، أي: هي أوساط بين الكبر والصغر كقوله {قدّروها تقديراً} (الإنسان: 16)
الصفة السادسة: قوله تعالى:
{ونمارق} وهي الوسائد، واحدها: نمرقة بضم النون والراء وكسرهما لغتان أشهرهما الأولى وهي وسادة صغيرة قالت:
*نحن بنات طارق
** نمشي على النمارق*
{مصفوفة} أي: واحدة على جنب واحدة أخرى قال الشاعر:
*كهولاً وشباناً حساناً وجوههم ** لهم سرر مصفوفة ونمارق*
الصفة السابعة: قوله تعالى: {وزرابيّ} وهي جمع زربية بفتح الزاي وكسرها لغتان مشهورتان وهي بسط عراض فاخرة. وقال ابن عباس: الطنافس التي لها خمل، أي: وبر رقيق. واختلف في قوله تعالى: {مبثوثة} فقال قتادة: مبسوطة. وقال عكرمة: بعضها فوق بعض. وقال الفراء: كثيرة. وقال القتيبي: مفرّقة في المجالس. قال القرطبي: وهذا أصح فهي كثيرة متفرّقة ومنه قوله تعالى: {وبث فيها من كل دابة} (البقرة: 164)
(13/442)
---
ولما ذكر تعالى أمر الدارين تعجب الكفار من ذلك فكذبوه وأنكروه فذكرهم الله تعالى صنعه وقدرته بقوله تعالى:
{أفلا ينظرون}، أي: المنكرون لقدرته سبحانه وتعالى على الجنة، وما ذكر فيها، والنار وما ذكر فيها، أي: نظر اعتبار. {إلى الإبل} ونبه على أنه عجيب خلقها مما ينبغي أن تتوفر الدعاوي على الاستفهام والسؤال عنه بأداة الاستفهام، فقال تعالى:(1/5168)
{كيف خلقت}، أي: خلقاً عجيباً دالاً على كمال قدرته وحسن تدبيره، حيث خلقها للنهوض بالأثقال وجرّها إلى البلاد النائية فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر، ثم تنهض بما حملت وسخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمتها لا تعارض ضعيفاً ولا تنازع صغيراً وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار. وعن بعض الحكماء أنه حدّث عن البعير وبديع خلقه وقد نشأ في بلاد لا إبل بها فتفكر، ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق وحين أراد بها أن تكون سفائن البرّ صبرها على احتمال العطش، حتى إنّ ظماءها لتصبر على عشر فصاعداً ليتأتى لها قطع البراري والمفاوز مع ما لها من منافع أخر، ولذلك خصت بالذكر لبيان الآيات المثبتة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعاً، ولأنها أعجب ما عند العرب من هذا النوع لأنها ترعى كل شيء نابت في البراري والمفاوز مما لا ترعاه سائر البهائم.
وعن سعيد بن جبير قال: لقيت شريحاً القاضي فقلت له: أين تريد؟ قال: أريد الكناسة، قلت: وما تصنع بها؟ قال: أنظر إلى الإبل كيف خلقت.
تنبيه: الإبل اسم جمع واحده بعير وناقة وجمل ولا واحد لها من لفظها. وقال المبرد: الإبل هنا القطع العظيمة من السحاب. قال الثعلبي: ولم أجد لذلك أصلاً في كتب الأئمة.m
(13/443)
---
وقال الماوردي: وفي الإبل وجهان: أظهرهما: أنها الإبل، والثاني: أنها السحاب فإن كان المراد بها السحاب فلما فيها من الآيات والدلالات الدالة على قدرته والمنافع العامّة لجميع خلقه، وإن كان المراد بها الإبل فلأنّ الإبل أجمع للمنافع من سائر الحيوانات لأنّ ضروب الحيوان أربعة حلوبة وركوبة وأكولة وحمولة والإبل تجمع هذه الخلال الأربع، فكانت النعمة بها أعم وظهور القدرة فيها أتم وقيل للحسن: الفيل أعظم من الأعجوبة فقال العرب: بعيدة العهد بالفيل ثم هو لا يؤكل لحمه ولا يركب ولا يحلب درّه.(1/5169)
{وإلى السماء} التي هي من جملة مخلوقاتنا {كيف رفعت}، أي: رفعاً بعيداً بلا إمساك وبغير عمد على ما لها من السعة والكبر والثقل والإحكام، وما فيها من الكواكب والغرائب والعجائب.
{وإلى الجبال}، أي: الشامخة وهي أشد الأرض {كيف نصبت} نصباً ثابتاً فهي راسية لا تميل ولا تزول كما قال تعالى: {وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم} (الأنبياء: 31)
{وإلى الأرض}، أي: على سعتها {كيف سطحت} سطحاً بتمهيد وتوطئة فهي مهاد للتقلب عليها. واستدلّ بعضهم بذلك على أنّ الأرض ليست بكرة. قال الرزاي: وهو ضعيف لأنّ الكرة إذا كانت في غاية العظمة تكون كل قطعة منها كالسطح. فإن قيل: كيف حسن ذكر الإبل مع السماء والجبال والأرض ولا مناسبة؟ أجيب: بأنّ من فسرها بالسحاب فالمناسبة ظاهرة، وذلك على طريق التشبيه والمجاز، ومن فسرها بالإبل فالمناسبة بينها وبين السماء والأرض والجبال من وجهين:
(13/444)
---
أحدهما: أنّ القرآن نزل على العرب وكانوا يسافرون كثيراً ويسيرون عليها في أوديتهم وبواديهم مستوحشين ومنفردين عن الناس، والإنسان إذا انفرد أقبل على التفكر في الأشياء لأنه ليس معه من يحادثه وليس هناك ما يشغل به سمعه وبصره، فلا بدّ من أن يجعل دأبه التفكر فإذا تفكر في تلك الحال فأوّل ما يقع بصره على البعير الذي هو راكبه فيرى منظراً عجيباً، وإن نظر إلى فوق لم ير غير السماء وإن نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال، وإن نظر إلى تحت لم ير غير الأرض فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والانفراد حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النظر.(1/5170)
ثانيهما: أنّ جميع المخلوقات دالة على الصانع جلت قدرته إلا أنها قسمان منها ما للشهوة فيه حظ كالوجه الحسن والبساتين النزهة والذهب والفضة، فهذه مع دلالتها على الصانع قد يمنع استسحانها عن كمال النظر فيها ومنها ما لا حظ فيه للشهوة كهذه الأشياء فأمر بالنظر فيها؛ إذ لا مانع من إكمال النظر فيها. وقال عطاء عن ابن عباس: كأن الله تعالى يقول هل يقدر أحد أن يخلق مثل الإبل، أو يرفع مثل السماء، أو ينصب مثل الجبال، أو يسطح مثل الأرض غيري.
ولما بين تعالى الدلائل على صحة التوحيد والمعاد قال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم
{فذكر}، أي: بنعم الله تعالى ودلائل توحيده وعظهم بذلك وخوّفهم يا أشرف الخلق {إنما أنت مذكر} فلا عليك أن لا ينظروا ولم يذكروا أو ما عليك إلا البلاغ كما قال تعالى: {إن عليك إلا البلاغ} (الشورى: 48)
{لست عليهم بمسيطر}، أي: بمسلط فتقتلهم وتكرههم على الإيمان كقوله تعالى: {وما أنت عليهم بجبار} (ق: 50)
وهذا قبل الأمر بالجهاد. وقرأ هشام بالسين وقرأ حمزة بخلاف عن خلف بإشمام الصاد كالزاي، والباقون بالصاد الخالصة.
وقوله تعالى: {إلا من تولى} استثناء منقطع، أي: لكن من تولى عن الإيمان {وكفر}، أي: بالقرآن.
(13/445)
---
{فيعذبه الله}، أي: الذي له الكمال كله بسبب تكبره عن الحق ومخالفته لأمرك {العذاب الأكبر}، أي: عذاب الآخرة لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر. وقيل: استثناء متصل فإنّ جهاد الكفار وقتلهم تسليط فكأنه أوعدهم بالجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة وقيل: هو استثناء من قوله تعالى: {فذكر} إلا من انقطع طمعك من إيمانه، وتولى فاستحق العذاب الأكبر وما بينهما اعتراض.
{إن إلينا}، أي: خاصة بما لنا من العظمة {إيابهم}، أي: رجوعهم بعد البعث.(1/5171)
{ثم إنّ علينا}، أي: خاصة بما لنا من القدرة والتنزه عن نقص العيب والجور وكل نقص لا على غيرنا {حسابهم}، أي: جزاءهم فلا نتركه أبداً، وفي هذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه كان يشق عليه تكذيبهم.
فإن قيل: ما معنى تقديم الظرف؟ أجيب: بأنّ معناه التشديد في الوعيد، وإنّ إيابهم إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام، وإنّ حسابهم ليس إلا عليه وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ الغاشية حاسبه الله حساباً يسيراً» حديث موضوع.
سورة الفجر
مكية
وقيل: مدنية وهي تسع وعشرون آية وقيل: ثلاثون آية ومائةوتسع وثلاثون كلمة وخمسمائة وسبعة وتسعون حرفاً
{بسم الله} الملك المعبود {الرحمن} الذي عمّ خلقه بالكرم والجود {الرحيم} الذي سدّد أهل عنايته بفضله فهو الحليم الودود.
(13/446)
---
وقوله تعالى: {والفجر}، أي: فجر كل يوم قسم كما أقسم بالصبح في قوله تعالى: {والصبح إذا أسفر} (المدثر: 34)
{والصبح إذا تنفس} (التكوير: 18)
وقال قتادة: هو فجر أوّل يوم من المحرّم تتفجر منه السنة. وقال الضحاك: فجر ذي الحجة، وقيل: ذلك على مضاف محذوف، أي: وصلاة الفجر. وقيل: ورب الفجر وتقدّم أنّ الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته، واختلف في قوله تعالى:
{وليال عشر} فقال مجاهد وقتادة: هو عشر ذي الحجة. وقال الضحاك: هو العشر الأوّل من رمضان. وعن ابن عباس: أنه العشر الأخير من رمضان. وعن يمان بن رباب هو العشر الأوّل من المحرّم التي عاشرها يوم عاشوراء، ولصومه فضل عظيم. فإن قيل: لم ذكر الليالي من بين ما أقسم به؟ أجيب: بأنّ ذلك للتعظيم.
{والشفع}، أي: الزوج {والوتر}، أي: الفرد، وقيل: الشفع الخلق كلهم قال الله تعالى: {وخلقناكم أزواجاً} (النبأ: 8)(1/5172)
والوتر هو الله تعالى. قاله أبو سعيد الخدري. وقال مجاهد ومسروق: الشفع الخلق كله، قال الله تعالى: {ومن كل شيء خلقنا زوجين} (الذاريات: 49)
الكفر والإيمان، والهدى والضلال، والسعادة والشقاوة، والليل والنهار، والسماء والأرض، والبر والبحر، والشمس والقمر، والجنّ والإنس، والوتر هو الله تعالى {قل هو الله أحد} (الإخلاص: 1)
(13/447)
---
. وقال قتادة: هما الصلوات منها شفع ومنها وتر. روى ذلك عن عمران بن حصين مرفوعاً وعن ابن عباس الشفع صلاة الغداة والوتر صلاة المغرب. وقال الحسين بن الفضل: الشفع درجات الجنة لأنها ثمان، والوتر دركات النار لأنها سبع دركات. سئل أبو بكر الوراق عن الشفع والوتر فقال: الشفع تضاد أوصاف المخلوقين من العز والذل، والقدرة والعجز، والقوّة والضعف، والعلم والجهل، والبصر والعمى. والوتر انفراد صفات الله سبحانه وتعالى عز بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوّة بلا ضعف، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت. وعن عكرمة الوتر يوم عرفة والشفع يوم النحر، واختاره النحاس وقال هو الذي صح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيوم عرفة وتر لأنه تاسعها ويوم النحر شفع لأنه عاشرها. وقال ابن الزبير: الشفع الحادي عشر والثاني عشر من أيام منى، والوتر الثالث عشر. وقال الضحاك: الشفع عشر ذي الحجة والوتر أيام منى الثلاثة. وقيل: الشفع والوتر آدم عليه السلام كان وتراً فشفع بزوجته حوّاء، حكاه القشيريّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقرأ حمزة والكسائيّ بكسر الواو والباقون بفتحها وهما لغتان الفتح لغة قريش ومن والاها والكسر لغة تميم.
وقوله تعالى: {والليل إذا يسر} قسم خامس بعدما أقسم بالليالي العشر على الخصوص أقسم به على العموم، ومعنى يسر سار وذهب كما قال الله تعالى: {والليل إذا أدبر} (المدثر: 33)(1/5173)
. وقال قتادة: إذا جاء وأقبل وقيل: معنى يسر، أي: يسري فيه كما يقال: ليل نائم ونهار صائم، ومنه قوله تعالى: {بل مكر الليل والنهار} (سبأ: 33)
(13/448)
---
وقرأ نافع وأبو عمرو بإثبات الياء بعد الراء وصلاً لا وقفاً، وأثبتها ابن كثير في الحالين، وحذفها الباقون في الحالين لسقوطها في خط المصحف الكريم وإثباتها هو الأصل لأنها لام فعل مضارع مرفوع، ومن فرق بين حالتي الوقف والوصل فلأنّ الوقف محل استراحة وسئل الأخفش عن العلة في سقوط الياء فقال: الليل لا يسري ولكن يسري فيه فهو مصروف فلما صرفه تجنبه حظه من الإعراب كقوله تعالى: {وما كانت أمك بغياً} (مريم: 28)
ولم يقل بغية، لأنه صرفه عن باغية وهذه الأسماء كلها مجرورة بالقسم والجواب محذوف تقديره: لتعذبن يا كفار مكة بدليل قوله تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد} إلى قوله تعالى: {فصبّ عليهم ربك سوط عذاب إنّ ربك لبالمرصاد} وما بينهما اعتراض.
وقوله تعالى: {هل في ذلك}، أي: القسم والمقسم به {قسم}، أي: حلف أو محلوف {لذي حجر} استفهام معناه التقرير، كقولك: ألم أنعم عليك إذا كنت قد أنعمت أو المراد منه التأكيد لما أقسم عليه كمن ذكر حجة بالغة، ثم قال: هل فيما ذكرته حجة والمعنى: إنّ من كان ذا لب علم أنّ ما أقسم الله تعالى به هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه والحجر العقل لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي كما يسمى عقلاً ونهية لأنه يعقل وينهى وحصاه من الإحصاء وهو الضبط. وقال الفراء: يقال إنه لذو حجر إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها.
(13/449)
---(1/5174)
وقوله تعالى: {ألم تر} خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولكن المراد به العموم والمراد بالرؤية العلم، أي: ألم تعلم يا أشرف رسلنا {كيف فعل ربك}، أي: المحسن إليك بأنواع النعم {بعاد} {إرم} وهو ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، ثم إنهم جعلوا لفظ عاد اسماً للقبيلة كما يقال لبني هاشم: هاشم، ولبني تميم: تميم، ثم قيل: للأوّلين منهم عاد الأولى، وإرم تسمية لهم باسم جدهم ولمن بعدهم عاد الأخيرة. فإرم في قوله تعالى: {عاد إرم} عطف بيان لعاد وإيذان بأنهم عاد الأولى القديمة وقيل: إرم بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها. وقوله تعالى: {ذات}، أي: صاحبة {العماد} فينظر فيه إن كانت صفة للقبيلة فالمعنى: أنهم كانوا بدويين أهل عمد وطوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة. وقيل: ذات البناء الرفيع وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى: أنها ذات أساطين وروي أنه كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال: أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله تعالى عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها فحمل ما قدر عليه مما ثم وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها جل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل.
(13/450)
---(1/5175)
وقوله تعالى: {التي لم يخلق مثلها في البلاد} صفة أخرى لإرم فإن كانت للقبيلة فلم تخلق مثل عاد في البلاد عظم أجرام وقوّة. قال الزمخشري: كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع، وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها فيقلبها على الحي فيهلكهم. وروي عن مالك أنه كانت تمرّ بهم مائة سنة لا يرون فيها جنازة. وإن كانت للبلدة فلم يخلق مثل مدينة شداد في جميع بلاد الدنيا، والمقصود من هذه الحكاية زجر الكفار فإنّ الله تعالى بين أنه أهلكهم بما كفروا وكذبوا الرسل مع الذي اختصوا به من هذه الوجوه، فلأن تكونوا مثل ذلك أيها الكفار إذا أقمتم على كفركم مع ضعفكم أولى وقد ذكركم الله تعالى ثلاث قصص هذه القصة الأولى.
وأما الثانية: فهي في قوله تعالى: {وثمودا الذين جابوا}، أي: قطعوا {الصخر} جمع صخرة وهي الحجر واتخذوها بيوتاً كقوله تعالى: {وتنحتون من الجبال بيوتاً} (الشعراء: 149)
. {بالواد}، أي: وادي القرى، قيل: أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة. وقيل: سبعة آلاف مدينة كلها من الحجارة.
تنبيه: أثبت الياء ورش وابن كثير وصلاً، وأثبتها وقفاً ابن كثير بخلاف عن قنبل.
{س89ش10/ش14 وَفِرْعَوْنَ ذِى ا?وْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا? فِى الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا? فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }
وأما القصة الثالثة: فهي في قوله تعالى: {وفرعون}، أي: وفعل بفرعون {ذي الأوتاد} واختلف في تسميته بذلك على وجهين:
أحدهما: أنه سمي بذلك عل كثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا.
(13/451)
---(1/5176)
والثاني: أنه كان يتد أربعة أوتاد يشدّ إليها يدي ورجلي من يعذبه وعن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنّ فرعون إنما سمي ذا الأوتاد لأنه كانت امرأة وهي امرأة خازنه حزقيل، وكان مؤمناً كتم إيمانه مائة سنة وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون فبينما هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذا سقط المشط من يدها فقالت: تعس من كفر بالله، فقالت بنت فرعون: وهل لك إله غير أبي؟ فقال: إلهي وإله أبيك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فقامت فدخلت على أبيها وهي تبكي، قال: ما يبكيك؟ فقالت: الماشطة امرأة خازنك تزعم أنّ إلهك وإلهها وإله السموات والأرض واحد لا شريك له، فأرسل إليها فسألها عن ذلك، فقالت: صدقت. فقال لها: ويحك اكفري بإلهك وأقرّي بأني إلهك، قالت: لا أفعل فمدّها بين أربعة أوتاد ثم أرسل عليها الحيات والعقارب، وقال لها: اكفري بالله وإلا عذبتك بهذا العذاب شهرين فقالت له: لو عذبتني سبعين شهراً ما كفرت بالله، وكان لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على فيها، وقال لها: اكفري بالله وإلا ذبحت الصغرى على فيك وكانت رضيعة فقالت: لو ذبحت من في الأرض على فيّ ما كفرت بالله عز وجل، فأتى بابنتها فلما اضجعت على صدرها وأراد ذبحها جزعت المرأة فانطق الله تعالى لسان ابنتها فتكلمت، وهي من الأربعة الذين تكلموا أطفالاً وقالت: يا أمّاه لا تجزعي فإن الله تعالى قد بنى لك بيتاً في الجنة فاصبري فإنك تفضين إلى رحمة الله تعالى وكرامته، فذبحت فلم تلبث أن ماتت فاسكنها الله تعالى الجنة قال: وبعث في طلب زوجها حزقيل: فلم يقدروا عليه، فقيل: لفرعون: إنه قد زوى في موضع كذا في جبل كذا فبعث رجلين في طلبه فانتهيا إليه وهو يصلي ويليه صفوف من الوحوش خلفه يصلون خلفه، فلما رأيا ذلك انصرفا فقال حزقيل: اللهم أنت تعلم أني كتمت إيماني مائة سنة ولم يظهر عليّ أحد فأيما هذين الرجلين أظهر عليّ فعجل في عقوبته في الدنيا واجعل مصيره في الآخرة(1/5177)
(13/452)
---
إلى النار، فانصرف الرجلان إلى فرعون فأما أحدهما فاعتبر وآمن، وأما الآخر فأخبر فرعون بالقصة على رؤوس الملأ فقال له فرعون: وهل معك غيرك؟ قال: نعم فلان فدعى به، فقال: حق ما يقول هذا؟ قال: لا ما رأيت كما قال شيئاً فأعطاه فرعون فأجزل وأما الآخر فقتله ثم صلبه. قال: وكان فرعون قد تزوّج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم فرأت ما صنع فرعون بالماشطة فقالت: وكيف يسعني أن أصبر على ما يأتي من فرعون وأنا مسلمة وهو كافر، فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريباً منها، فقالت: يا فرعون أنت أشر الخلق وأخبثه عمدت على الماشطة فقتلتها، فقال: لعل بك الجنون الذي كان بها؟ قالت: ما بي من جنون، وإن إلهي وإلهها وإلهك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فمزق ما عليها وضربها وأرسل على أبويها فدعاهما فقال لهما: ألا تريان أنّ الجنون الذي كان بالماشطة أصابها. قالت: أعوذ بالله من ذلك إني أشهد أن ربي وربك ورب السموات والأرض واحد لا شريك له، فقال أبوها: يا آسية ألست من خير نساء العماليق وزوجك إله العماليق، قالت: أعوذ بالله من ذلك إن كان ما يقول حقاً فقولا له أن يتوّجني تاجاً تكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله، فقال لهما فرعون: أخرجاها عني فمدّها بين أربعة أوتاد يعذبها ففتح الله لها باباً إلى الجنة ليهون عليها ما يصنع بها فرعون فعند ذلك قالت: {رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله} (التحريم: 11)
فقبض الله تعالى روحها وأدخلها الجنة. وروي عن أبي هريرة أنّ فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد وجعل على صدرها رحاً واستقبل بها عين الشمس فرفعت رأسها إلى السماء، وقالت: {رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة} ففرج الله تعالى عن بيتها في الجنة فرأته.
(13/453)
---(1/5178)
وقوله تعالى: {الذين طغوا}، أي: تجبروا {في البلاد} في محل نصب على الذم، ويجوز أن يكون مرفوعاً على هم الذين طغوا في البلاد، أو مجروراً على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون فالضمير يرجع لعاد وثمود وفرعون وقيل: يرجع إلى فرعون خاصة.
{فأكثروا}، أي: طغاتهم {فيها الفساد}، أي: بالقتل والكفر والمعاصي قال القفال: وبالجملة فالفساد ضد الصلاح يتناول جميع أقسام البر، فالفساد يتناول جميع أقسام الإثم فمن عمل بغير أمر الله تعالى وحكم في عباده بالظلم فهو مفسد.
{فصب}، أي: أنزل إنزالاً هو في غاية القوة {عليهم}، أي: في الدنيا {ربك}، أي: المحسن إليك بكل جميل {سوط}، أي: نوع {عذاب} وقال قتادة: يعني ألواناً من العذاب صبه عليهم، وقال أهل المعاني هذا على الاستعارة لأن السوط عندهم غاية العذاب. وقال الفراء: هي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب، وأصل ذلك أنّ السوط هو عذابهم الذي يعذبون به فجرى إلى كلّ عذاب إذا كان فيه غاية العذاب. وقال الزجاج: جعل سوطهم الذي ضربهم به العذاب.
وعن الحسن أنه كان إذا أتى على هذه الآية قال: إنّ الله تعالى عنده أسواط كثيرة فأخذهم بسوط منها. وقال قتادة: كل شيء عذب الله تعالى به فهو سوط، وشبه بصب السوط الذي يتواتر على المضروب فيهلكه.
{إنّ ربك}، أي: المحسن إليك بالرسالة {لبالمرصاد}، أي: يرصد أعمال العباد لا يفوته منها شيء ليجازيهم عليها والمرصاد المكان الذي يترقب فيه الرصد، مفعال من رصده كالميقات من وقته، وهذا مثل لإرصاد العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه. وعن بعض العرب أنه قيل: له: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد. وعن عمرو بن عبيد أنه قرأ هذه السورة عند المنصور حتى بلغ هذه فقال: {إنّ ربك لبالمرصاد} يا أبا جعفر عرّض له في هذا النداء بأنه بعض من توعده بذلك من الجبابرة. قال الزمخشري: فلله دره، أي: أسد فراس كان بين ثوبيه يدق الظلمة بإنكاره ويقصع أهل الأهواء والبدع باحتجاجه.
(13/454)
---(1/5179)
وقوله تعالى: {فأما الإنسان} متصل بقوله تعالى: {إنّ ربك لبالمرصاد} فكأنه قيل: إنّ الله تعالى يريد من الإنسان الطاعة والسعي للعاقبة، وهو لا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها {إذا ما ابتلاه}، أي: اختبره بالنعمة {ربه}، أي: الذي أبدعه وأحسن إليه بما يحفظ وجوده ليظهر شكره أو كفره {فأكرمه}، أي: جعله عزيزاً بين الناس وأعطاه ما يكرمونه به من الجاه والمال {ونعمه}، أي: جعله متلذذاً مترفهاً بما وسع الله تعالى عليه.
وقوله تعالى: {فيقول}، أي: سروراً بذلك افتخاراً {ربي أكرمن}، أي: فضلني بما أعطاني خبر المبتدأ الذي هو الإنسان، ودخول الفاء لما في أمّا من معنى الشرط، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير، كأنه قيل: فأما الإنسان فقائل ربي أكرمن وقت الابتداء بالأنعام فيظن أنّ ذلك عن استحقاق فيرتفع به.
وكذا قوله تعالى: {وأما إذا ما ابتلاه فقدر}، أي: ضيق {عليه رزقه} التقدير وأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه، أي: بالفقر ليوازي قسيمه {فيقول}، أي: الإنسان بسبب الضيق {ربي أهانن} فيهتم لذلك ويضيق به ذرعاً ويكون أكبر همه، وهذا في حق الكافر لقصور نظره وسوء فكره فيرى الكرامة والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقلته.Y{{
(13/455)
---
وقال الكلبي ومقاتل: نزلت في أمية بن خلف الجمحي الكافر. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: في عتبة بن ربيعة. وقيل: أبي بن خلف. فإن قيل: كيف سمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقتيره ابتلاء؟ أجيب: بأن كل واحد منهما اختبار للعبد، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر، وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع فالحكمة فيهما واحدة، ونحوه قوله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} (الأنبياء: 35)(1/5180)
. فإن قيل: هلا قال فأهانه وقدر عليه رزقه كما قال فأكرمه ونعمه؟ أجيب: بأن البسط إكرام من الله تعالى لعبده بإنعامه عليه متفضلاً من غير سابقة، وأما التقتير فليس بإهانة له لأنّ الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة ولكن تركاً للكرامة، وقد يكون المولى مكرماً ومهيناً وغير مكرم ولا مهين. وإذا أهدى لك زيد هدية قلت: أكرمني بالهدية، ولا تقول أهانني ولا أكرمني إذا لم يهد إليك. فإن قيل: قد قال تعالى فأكرمه فصحح إكرامه وأثبته ثم أنكر قوله: {ربي أكرمن} وذمّه عليه كما أنكر قوله: {أهانن} وذمه عليه؟ أجيب: بوجهين:
أحدهما: إنما أنكر قوله: {ربي أكرمن} وذمه عليه لأنه قاله على قصد خلاف ما صححه الله تعالى عليه وأثبته، وهو قصده على أن الله تعالى أعطاه ما أعطاه إكراماً مستحقاً ومستوجباً على عادة افتخارهم وجلالة أقدارهم عندهم كقوله: {إنما أوتيته على علم عندي} (القصص:78)
وإنما أعطاه الله تعالى على وجه التفضل من غير استحباب منه له، ولا سابقة مما لا يعتد الله تعالى إلا به، وهو التقوى دون الأنساب والأحساب التي كانوا يفتخرون بها ويرون استحقاق الكرامة من أجلها.
(13/456)
---(1/5181)
ثانيهما: أن ينساق الإنكار والذم إلى قوله: {ربي أهانن} يعني أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله وإكرامه، وإذا لم يتفضل عليه يسمى ترك التفضل هواناً وليس بهوان. قال الزمخشري: ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله تعالى: {فأكرمه} وقرأ {ما ابتلاه} في الموضعين حمزة بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح، وقرأ {ربي أكرمن} {ربي أهانن} نافع بإثبات الياء فيهما وصلاً لا وقفاً، وقرأ البزي بإثباتها فيهما وقفاً ووصلاً، وعن أبي عمرو فيهما في الوصل الإثبات والحذف عنه في الوصل أعدل، والباقون بالحذف وقفاً ووصلاً. وقرأ ابن عامر {فقدّر عليه رزقه} بتشديد الدال والباقون بتخفيفها، وهما لغتان معناهما ضيق. وقيل: قدر بمعنى قتر وقدر أعطاه ما يكفيه.
ثم ردّ الله تعالى على من ظن أنّ سعة الرزق إكرام وأنّ الفقر إهانة بقوله تعالى:
{كلا}، أي: ليس الإكرام بالغنى والإهانة بالفقر إنما هما بالإطاعة والمعصية، وكفار مكة لا ينتبهون لذلك {بل} لهم فعل أشر من هذا القول وهو أنهم {لا يكرمون اليتيم}، أي: لا يحسنون إليه مع غناهم، أو لا يعطونه حقه من الميراث. قال مقاتل: كان قدامة بن مظعون يتيماً في حجر أمية بن خلف فكان يدفعه فنزلت:
{ولا يحضون}، أي: يحثون حثاً عظيماً {على طعام}، أي: إطعام {المسكين} فيكون اسم مصدر بمعنى الإطعام، ويجوز أن يكون على حذف مضاف، أي: على بذل أو على إعطاء، وفي إضافته إليه إشارة إلى أنه شريك للغنيّ في ماله بقدر الزكاة.
{ويأكلون} على سبيل التجدد والاستمرار {التراث}، أي: الميراث والتاء في التراث بدل من واو لأنه من الوراثة.
{أكلاً لماً}، أي: ذا لم واللمّ الجمع الشديد. يقال: لممت الشيء لماً، أي: جمعته جمعاً. قال الحطيئة:
*إذا كان لما يتبع الذم ربه ** فلا قدس الرحمن تلك الطواحنا*
(13/457)
---(1/5182)
والجمع بين الحلال والحرام فإنهم كانوا يورثون النساء والصبيان ويأكلون انصباءهم ويأكلون ما جمعه المورث من حلال وحرام عالمين بذلك، فيلمون في الأكل بين حلاله وحرامه ويجوز أن يذمّ الوارث الذي ظفر بالمال مهلاً مهلاً من غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلاً واسعاً جامعاً بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه كما يفعل البطالون.
ولما دل على حب الدنيا بأمر خارجي دل عليه في الإنسان فقال تعالى:
{ويحبون}، أي: على سبيل الاستمرار {المال}، أي: هذا النوع من، أي: شيء كان وأكد بالمصدر والوصف فقال تعالى {حباً جماً}، أي: كثيراً شديداً مع الحرص والشره ومنع الحقوق. وقوله تعالى:
{كلا} ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم. ثم أخبر تعالى عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم فقال عز من قائل: {إذا دكت الأرض}، أي: حصل دكها ورجها وزلزلتها لتسويتها فتكون كالأديم الممدود بشدّة المط لا عوج فيها بوجه {دكاً دكاً}، أي: مرّة بعد مرّة، وكسر كل شيء على ظهرها من جبل وبناء وشجر فلم يبق على ظهرها شيء وينعدم.
{وجاء ربك} قال الحسن: أمره وقضاؤه {والملك}، أي: الملائكة. وقوله تعالى: {صفاً صفاً} حال، أي: مصطفين، أي: ذوي صفوف كثيرة فتنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس.{{
(13/458)
---
{وجيء}، أي: بأسهل أمر {يومئذ}، أي: إذ وقع ما ذكر {بجهنم}، أي: النار التي تتجهم من يصلاها كقوله تعالى: {وبرزت الجحيم} (النازعات: 36)(1/5183)
ويروى «أنها لما نزلت تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه فأخبروا علياً فجاء فاحتضنه من خلفه وقبل ما بين عاتقيه، ثم قال: يا نبيّ الله بأبي أنت وأمي ما الذي حدث اليوم وما الذي غيرك فتلا عليه الآية. فقال له علي: كيف يجاء بها؟ قال: يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع، ثم تعرض لي جهنم فتقول: ما لك ولي يا محمد إنّ الله تعالى قد حرم لحمك علي فلا يبقى أحد إلا قال: نفسي نفسي إلا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: رب أمّتي أمّتي». وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: تقاد جهنم بسبعين ألف زمام كل زمام بيد ألف ملك لها تغيظ وزفير حتى تنصب على يسار العرش.
وقوله تعالى: {يومئذ}، أي: يوم يجاء بجهنم بدل من إذ وجوابها {يتذكر الإنسان}، أي: يتذكر الكافر ما فرط أو يتعظ لأنه يعلم قبح معاصيه فيندم عليها {وأنى له الذكرى}، أي: ومن أين له منفعة الذكرى. قال الزمخشري: لا بد من حذف مضاف وإلا فبين {يتذكر} وبين {وأنى له الذكرى} تناف وتناقض.
تنبيه: أنى خبر مقدّم والذكرى مبتدأ مؤخر وله متعلق بما تعلق به الظرف. وقرأ {وأنى} حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، وقرأ الدوري عن أبي عمرو بالإمالة بين بين والباقون بالفتح. وقرأ {الذكرى} أبو عمرو وحمزة والكسائيّ بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين بين، والباقون بالفتح.
{يقول}، أي: يقول مع تذكره {يا} للتنبيه {ليتني قدّمت لحياتي}، أي: في حياتي فاللام بمعنى في، أو قدّمت الإيمان والخير لحياة لا موت فيها، أو وقت حياتي في الدنيا.
(13/459)
---(1/5184)
{فيومئذ}، أي: يوم يقول الإنسان ذلك وقرأ {لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد} الكسائي بفتح الذال والثاء على البناء للمفعول، والباقون بكسرهما على البناء للفاعل فأمّا قراءة الكسائي فضمير عذابه ووثاقه للكافر، والمعنى: لا يعذب أحد مثل تعذيبه ولا يوثق مثل إيثاقه، وأما على قراءة الباقين فالضمير فيهما لله تعالى إلى غيره، أو الزبانية المتولين العذاب بأمر الله تعالى.
ولما وصف الله تعالى حال من اطمأن إلى الدنيا وصف حال من اطمأن إلى معرفته وعبوديته وسلم أمره إليه فقال تعالى:
{يا أيتها النفس المطمئنة} قال الحسن، أي: المؤمنة الموقنة. وقال مجاهد: الراضية بقضاء الله تعالى. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بثواب الله تعالى. وقال ابن كيسان: المخلصة. وقال ابن زيد: التي بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث ويوم الجمع، ويقال لها: عند الموت.
{ارجعي إلى ربك}، أي: إلى أمره وإرادته وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: على صاحبك وجسدك. وقال الحسن: إلى ثواب ربك. {راضية}، أي: بما أوتيته {مرضية}، أي: عند الله تعالى بعملك، أي: جامعة بين الوصفين لأنه لا يلزم من أحدهما الآخر، وهما حالان. قال القفال: هذا وإن كان أمراً في الظاهرة فهو خبر في المعنى، والتقدير: أنّ النفس إذا كانت مطمئنة رجعت إلى الله تعالى في القيامة بسبب هذا الأمر.
{فادخلي في}، أي: في جملة {عبادي}، أي: الصالحين والوافدين عليّ الذين هم أهل الإضافة إليّ، أو في أجساد عبادي التي خرجت في الدنيا منها.
(13/460)
---(1/5185)
{وادخلي جنتي}، أي: معهم، هي جنة عدن وهي أعلى الجنان ويجيء الأمر بمعنى الخبر كثيراً في كلامهم كقولهم إذا لم تستح فاصنع ما شئت. وقال سعيد بن زيد: «قرأ رجل عند النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الاية فقال أبو بكر: ما أحسن هذا يا رسول الله فقال له: إنّ الملك سيقوله لك يا أبا بكر». وقال سعيد بن جبير: مات ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالطائف فجاء طائر لم ير على خلقه طائر قط فدخل نعشه لم ير خارجاً منه فلما دفن تليت هذه الاية على شفير القبر لا يدرى من تلاها {يا أيتها النفس} الآية. وروى الضحاك أنها نزلت في عثمان حين وقف بئر رومة وقيل: في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال: اللهمّ إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك، فحوّل الله تعالى وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوّله. وقيل: نزلت في حمزة بن عبد المطلب. قال الزمخشري: والظاهر العموم. وقول البيضاوي تبعاً له أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الفجر في الليالي العشر غفر له ومن قرأها في سائر الأيام كانت له نوراً يوم القيامة» حديث موضوع.
سورة البلد
مكية
وهي عشرون آية واثنان وثمانون كلمة وثلاثمائة وعشرون حرفاً
{بسم الله} الملك الذي لا راد لأمره {الرحمن} الذي عم سائر خلقه بفضله {الرحيم} الذي خص أهل طاعته بجنته.
واختلف في لا في قوله تعالى: {لا أقسم} فقال الأخفش: إنها مزيدة، أي: أقسم كما تقدّم في قوله تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة} (القيامة: 1)
وقد أقسم به سبحانه وتعالى. قال الشاعر:{{
(13/461)
---
*تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ** وكاد صميم القلب لا يتقطع*
أي: يتقطع، ودخل حرف لا صلة، وكقوله تعالى: {ما منعك أن لا تسجد} (الأعراف: 12)(1/5186)
وقد قال تعالى في ص: {ما منعك أن تسجد} وأجاز الأخفش أيضاً أن تكون بمعنى إلا. وقيل: هي نفي صحيح، والمعنى: لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه، حكاه مكي. وأجمعوا على أن المراد بالبلد في قوله تعالى: {بهذا البلد}، أي: الحرام وهو مكة، وفضلها معروف فإنه تعالى جعلها حرماً آمناً. وقال تعالى: {ومن دخله كان آمناً} (آل عمران: 97)
وجعل مسجده قبلة لأهل المشرق والمغرب. فقال تعالى: {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} (البقرة: 144)
وأمر الناس بحج البيت فقال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع} (آل عمران: 97)
وقال تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً} (البقرة: 125)
وقال تعالى: {وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت} (الحج: و26)
وقال تعالى: {وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} (الحج: 27)
وشرف مقام إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى{واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} (البقرة: 125)
وحرم صيده وجعل البيت المعمور بإزائه، ودحيت الأرض من تحته، فهذه الفضائل وأكثر منها إنما اجتمعت في مكة لا جرم أقسم الله تعالى بها.
{وأنت}، أي: يا أشرف الخلق {حل}، أي: حلال لك ما لم يحل لغيرك من قتل من تريد ممن يدعي أنه لا قدرة لأحد عليه {بهذا البلد} بأن يحل لك فتقاتل فيه.
(13/462)
---(1/5187)
وقد أنجز الله له هذا الوعد يوم الفتح وأحلها له، وما فتحت على أحد قبله ولا أحلت له فأحل ما شاء وحرم ما شاء قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، ومقيس بن صبابة وغيرهما، وحرم دار أبي سفيان ثم قال: «إنّ الله حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار فلا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشدها. فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا، فقال صلى الله عليه وسلم إلا الإذخر». ونظير {وأنت حل} في معنى الاستقبال قوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} (الزمر: 30)
ومثله واسع في كلام العرب، تقول لمن تعده الإكرام والحباء لأنت مكرم محبوّ، وهو في كلام الله تعالى واسع لأنّ الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة، وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال وأنّ تفسيره بالحال محال أنّ السورة بالاتفاق مكية، وأين الهجرة من وقت نزولها، فما بال الفتح والجملة اعتراض بين المقسم به وما عطف عليه.
واختلف في قوله تعالى: {ووالد وما ولد} فقال الزمخشري: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ولده أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه، وحرم أبيه إبراهيم، ومنشأ أبيه إسماعيل وبمن ولده وبه. وقال البغويّ: هما آدم وذريّته، وقيل: كلُّ والد وولده. فإن قيل: هلا قيل: ومن ولد؟ أجيب: بأنّ فيه ما في قوله تعالى: {والله أعلم بما وضعت} (آل عمران: 36)
(13/463)
---(1/5188)
أي: بأي شيء وضعت يعني، أي: بأي شيء وضعت يعني موضوعاً عجيب الشأن، أو أن ما بمعنى من. والذي عليه أكثر المفسرين هما آدم وذريّته؛ لأنهم أعجب ما خلق الله تعالى على وجه الأرض لما فيهم من البيان والنطق والتدبير واستخراج العلوم، وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى والأنصار لدينه، وأمر الملائكة بالسجود لآدم وعلمه الأسماء كلها. ولقد قال الله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} (الإسراء: 70)
وقيل: هما آدم والصالحون من ذريته، وأما الطالحون فكأنهم بهائم كما قال تعالى: {إن هم كالأنعام بل هم إلا أضلّ} (الفرقان: 44)
{صم بكم عمي فهم لا يرجعون} (البقرة: 18)
والمقسم عليه قوله تعالى:
{لقد خلقنا الإنسان}، أي: الجنس {في كبد} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أي: شدّة ونصب، وعنه أيضاً في شدّة من حمله وولادته ورضاعه ونبت أسنانه وسائر أحواله. وعن عكرمة منتصباً في بطن أمّه، والكبد الاستواء والاستقامة، فهذا امتنان عليه في الحقيقة، ولم يخلق الله تعالى دابة في بطنها أمّها إلا منكبة على وجهها إلا ابن آدم فإنه منتصب انتصاباً.
وقال ابن كيسان: منتصباً في بطن أمه فإذا أراد الله تعالى أن يخرجه من بطن أمه قلب رأسه إلى رجلي أمه. وقال الحسن: يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وقال يمان: لم يخلق الله تعالى خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم، وهو مع ذلك أضعف الخلق.
(13/464)
---(1/5189)
قال بعض العلماء أوّل ما يكابد قطع سرته ثم إذا قمط قماطاً وشدّ رباطاً، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته ضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، ثم يكابد الفطام الذي هو أشدّ من اللطام، ثم يكابد الختان والأوجاع، ثم المعلم وصولته، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج، وشغل الأولاد والخدم، وشغل المسكن والجيران، ثم الكبر والهرم، وضعف الركب والقدم، في مصائب يكثر تعدادها من صداع الرأس ووجع الأضراس، ورمد العين، وهمّ الدين، ووجع السنّ، وألم الأذن، ويكابد محناً في المال والنفس من الضرب والحبس، ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي فيه شدّة، ثم يكابد بعد ذلك مشقة الموت، ثم بعده سؤال الملك وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث والعرض على الله تعالى إلى أن يستقرّ به القرار، إما في الجنة وإما في النار، فدل هذا على أنّ له خالقاً دبره وقضى عليه بهذه الأحوال، ولو كان الأمر إليه ما أختار هذه الشدائد فليتمثل أمر خالقه. وقال ابن زيد: المراد بالإنسان هنا آدم عليه السلام.
وقوله تعالى: {في كبد}، أي: في وسط السماء. وقال مقاتل: في كبد، أي: في قوّة نزلت في أبي الأشدين، واسمه أسيد بن كلدة بن جمح، وكان شديداً قوياً، يضع الأديم العكاظي تحت قدميه فيقول: من أزالني عنه فله كذا وكذا، فيجذبه عشرة فيتمزق الأديم من تحت قدميه، ولا تزول قدماه ويبقى موضع قدميه، وكان من أعداء النبيّ صلى الله عليه وسلم وفيه نزل.
(13/465)
---(1/5190)