(5/101)
---
فقتلنا وأسرنا وسبينا ثم أتينا الخليج فقال مثل مقالته فأجزنا وما بل الماء حوافر دوابنا والأخبار في ذلك كثيرة.
ولما قال فتاه ذلك كأنه قيل فما قال موسى عليه السلام حينئذٍ؟ {قال} له {ذلك} أي: الأمر العظيم من فقد الحوت {ما كنا نبغ} أي: نريد من هذا الأمر المغيب عنا فإن اللّه تعالى جعله موعداً في لقاء الخضر، وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء وصلا لا وقفاً وابن كثير يثبتها وصلاً ووقفاً والباقون بالحذف {فارتدّا على آثارهما} أي: فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه يقصانها {قصصاً} أي: يتبعان أثرهما إتباعاً أو مقتصين حتى يأتيا الصخرة، قال البقاعي: يدل على أنّ الأرض كانت رملاً لا علم فيها فالظاهر واللّه أعلم أنه مجمع النيل والملح عند دمياط أو رشيد من بلاد مصر ويؤيده نقر العصفور في البحر الذي ركب في سفينته للتعدية كما في الحديث، فإن الطير لا يشرب من الملح ومن المشهور في بلاد رشيد أنّ الأمر كان عندهم وأن عندهم سمكاً ذاهب الشق يقولون: إنه من نسل تلك السمكة واللّه أعلم انتهى. وتقدم عن قتادة أنه ملتقى بحر فارس والروم، وقال محمد بن كعب طنجة، وقال أبيّ بن كعب: إفريقية، وقيل: البحران موسى والخضر لأنهما كانا بحري علم، قال ابن عادل: وليس في اللفظ ما يدل على تعيين هذين البحرين فإن صح في الخبر الصحيح شيء فذاك وإلا فالأولى السكوت عنه انتهى. ثم استمرا يقصان حتى انتهيا إلى موضع فقد الحوت {فوجدا عبداً من عبادنا} مضافاً إلى حضرة عظمتنا قيل: كان ملكاً من الملائكة والصحيح الذي جاء في التواريخ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الخضر واسمه بليا بن ملكان وكنيته أبو العباس، قيل: كان من بني إسرائيل وقيل: من أبناء الملوك الذين تنزهوا وتركوا الدنيا، والخضر لقب سمي بذلك لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء والفروة قطعة نبات مجتمعة يابسة، وقيل: سمي خضراً لأنه كان إذا صلى اخضرّ ما(1/2274)
حوله، روي أن
(5/102)
---
موسى عليه السلام رأى الخضر مسجى موكأ فسلم عليه فقال الخضر: وأني بأرضك السلام، قال: أنا موسى أتيتك تعلمني مما علمت رشداً، وفي رواية لقيه وهو مسجى بثوب مستلقياً على قفاه بعض الثوب تحت رأسه وبعضه تحت رجليه، وفي رواية لقيه وهو يصلي، ويروى لقيه وهو على طنفسة خضراء على كبد البحر، وروي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال: السلام عليك، فقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال موسى: ما عرّفك هذا؟ فقال: الذي بعثك إليّ، وكان الخضر في أيام أفريدون وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى، وقيل: إن موسى سأل ربه أيّ عبادك أحب إليك؟ قال: «الذي يذكرني ولا ينساني»، قال: فأي عبادك أقضى؟ قال: «الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى» فقال: فأي عبادك أعلم؟ قال: «الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى»، فقال: إن كان في عبادك أفضل مني فادللني عليه قال: أعلم منك الخضر، قال: أين أطلبه؟ قال: على ساحل عند الصخرة، قال كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتاً في مكتل فحيث فقدته فهو هناك {آتيناه} بعظمتنا {رحمة من عندنا} أي: وحياً ونبوة وكونه نبياً هو قول الجمهور، وقيل: إنه ليس بنبي. قال البغوي: عند أهل العلم أي: فعندهم أنه وليّ {وعلمناه من لدنا} أي: مما لم يجر على قوانين العادات على أنه ليس بمستغرب عند أهل الاصطفاء {علماً} قذفناه في قلبه بغير واسطة، وأهل التصوّف سموا العلم بطريق المكاشفة العلم اللدني فإذا سعى العبد في الرياضات بتزين الظاهر بالعبادات وتخلي النفس عن العلائق وعن الأخلاق الرذيلة بتحليتها بالأخلاق الجميلة صارت القوى الحسية والخيالية ضعيفة فإذا ضعفت قويت القوى العقلية وأشرقت الأنوار الإلهية في جوهرة العقل وحصلت المعارف وكملت العلوم من غير واسطة سعي وطلب في التفكر والتأمّل وهذا هو المسمى بالعلوم اللدنية، ثم أورد سبحانه وتعالى القصة على(1/2275)
طريق الاستئناف على تقدير
(5/103)
---
سؤال سائل عن كل كلام يرشد إليه ما قبله وذلك أنه من المعلوم أنّ الطالب للشخص إذا لقيه كمله لكن لا يعرف عين ذلك الكلام فقال: لمن؟ كأنه سأل عن ذلك
{قال له موسى} طالباً منه على سبيل التأدّب والتلطف بإظهار ذلك في قالب الاستئذان {هل أتبعك} أي: اتباعاً بليغاً حيث توجهت والاتباع الإتيان بمثل فعل الغير لمجرّد كونه آتياً به وبين أنه لا يطلب منه غير العلم بقوله: {على أن تعلمني} أثبت الياء نافع وأبو عمرو وصلاً لا وقفاً وابن كثير وصلاً ووقفاً والباقون بالحذف وزاد في التعطف بالإشارة إلى أنه لا يطلب جميع ما عنده ليطول عليه الزمان بل جوامع منه يسترشد بها إلى باقيه فقال: {مما علمت} وبناه للمفعول لعلم المتخاطبين لكونهما من المخلصين بأن الفاعل هو اللّه تعالى وللإشارة إلى سهولة كل أمر إلى اللّه تعالى {رشداً} أي: علماً يرشدني إلى الصواب فيما أقصده، وقرأ أبو عمرو بفتح الراء والشين والباقون بضم الراء وسكون الشين.
ولما أتم موسى عليه السلام العبارة عن السؤال.
{قال} له الخضر عليه السلام {إنك} يا موسى {لن تستطيع معي صبراً} نفى عنه استطاعة الصبر معه على وجوه من التأكيد كأنها لا تصح ولا تستقيم وفتح الياء من معي صبراً في المواضع الثلاثة هنا حفص وسكنها الباقون ثم علل عدم الصبر معه واعتذر عنه بقوله:
{وكيف تصبر} يا موسى {على ما لم تحط به خبراً} أي: وكيف تصبر على أمور وأنت نبيّ ظاهرها مناكير والرجل الصالح لا يتمالك أن يصبر إذا رأى ذلك بل يبادر ويأخذ في الإنكار وخبراً مصدر لمعنى لم تحط به أي: لم تخبر حقيقته.
(5/104)
---(1/2276)
{قال} له موسى عليه السلام آتياً بنهاية التواضع لمن هو أعلم منه إرشاداً لما ينبغي في طلب العلم رجاء تسهيل اللّه تعالى له النفع به {ستجدني} فأكد الوعد بالسين ثم أخبر تعالى أنه قوّي تأكيده بالتبرك بذكر الله تعالى لعلمه بصعوبة الأمر على الوجه الذي تقدّم الحق عليه في هذه السورة في قوله تعالى ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء اللّه ليعلم أنه منهاج الأنبياء فقال: {إن شاء اللّه} أي: الذي له صفات الكمال {صابراً} على ما يجوز الصبر عليه ثم زاد التأكيد بقوله: عطفاً بالواو على صابراً لبيان التمكن في كل من الموضعين {ولا أعصي} أي: وغير عاص {لك أمراً} تأمرني به غير مخالف لظاهر أمر اللّه تعالى.
(5/105)
---(1/2277)
تنبيه: دلت هذه الآية الكريمة على أنّ موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر، منها أنه جعل نفسه تبعاً له بقوله: هل أتبعك ومنها أنه استأذن في إثبات هذه التبعية كأنه قال: هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك؟ وهذه مبالغة عظيمة في التواضع، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم «على أن تعلمني» وهذا اقرار منه على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم، ومنها قوله: {مما علمت} وصيغة من للتبعيض وطلب منه تعليم بعض ما علم، وهذا أيضاً اقرار بالتواضع كأنه يقول: لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً لك في العلم بل أطلب منك أن تعطيني جزءاً من أجزاء ما علمت، ومنها أن قوله: مما علمت اعتراف منه بأن اللّه تعالى علمه ذلك العلم، ومنها قوله: {رشداً} طلب منه الإرشاد والهداية، ومنها قوله: {ستجدني إن شاء اللّه صابراً ولا أعصي لك أمراً}، ومنها أنه ثبت بالأخبار أن الخضر عرف أولاً أن موسى صاحب التوراة وهو الرجل الذي كلمه اللّه من غير واسطة وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع، وذلك يدل على كونه عليه السلام آتياً في طلب العلم بأعظم أبواب المبالغة في التواضع وذلك يدل على أن هذا هو اللائق به، لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم التي علم ما فيها من البهجة والسعادة أكثر كان طلبه لها أشدّ، فكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأرشد، وكل ذلك يدل على أنّ الواجب على المتعلم إظهار التواضع بكل الغايات، وأمّا المعلم فإن رأى أن في التغليظ على المتعلم ما يفيد نفعاً وإرشاداً إلى الخير فالواجب عليه ذكره فإنّ السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور وذلك يمنعه من التعلم. وروي أن موسى عليه السلام لما قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً؟ قال له الخضر: كفى بالتوراة علماً وببني إسرائيل شغلاً، فقال له موسى: اللّه أمرني بهذا(1/2278)
(5/106)
---
{قال} له الخضر: {فإن اتبعتني} أي: صحبتني ولم يقل اتبعني ولكن جعل الاختيار إليه إلا أنه شرط عليه شرطاً فقال: {فلا تسألني عن شيء} أقوله أو أفعله {حتى أحدث لك} خاصة {منه ذكراً} أي: حتى أبدأك بوجه صوابه فإني لا أقدم على شيء إلا وهو صواب جائز في نفس الأمر، وإن كان ظاهره غير ذلك فقبل موسى شرطه رعاية لأدب المتعلم من العالم، ولما تشارطا وتراضيا على الشرط تسبب عن ذلك قوله تعالى: {فانطلقا} أي: موسى والخضر عليهما السلام على الساحل فانتهيا إلى موضع احتاجا فيه إلى ركوب السفينة فما زالا يطلبان سفينة يركبان فيها واستمرّا {حتى إذا ركبا في السفينة} التي مرت بهما وأجاب الشرط بقوله: {خرقها} أي: أخذ الخضر فأساً فخرق السفينة بأن قلع لوحاً أو لوحين من ألواحها من جهة البحر لما بلغت اللجة ولم يقترن خرق بالفاء لأنه لم يكن مسبباً عن الركوب، ثم استأنف قوله: {قال} أي: موسى عليه السلام منكراً لذلك لما في ظاهره من الفساد بإتلاف المال المفضي إلى فساد أكبر منه بإهلاك النفوس ناسياً لما عقد على نفسه على أنه لو لم ينسَ لم يترك الإنكار كما فعل عند قتل الغلام لأن مثل ذلك غير داخل في الوعد، لأنّ المستثنى شرعاً كالمستثنى وضعاً {أخرقتها} وبين عذره في الإنكار لما في غاية الخرق من الفظاعة فقال: {لتغرق أهلها} فإن خرقها سبب لدخول الماء فيها المفضي إلى غرق أهلها، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية مفتوحة وفتح الراء ورفع اللام من أهلها والباقون بالتاء الفوقية مضمومة وكسر الراء ونصب لام أهلها، ثم قال له موسى: واللّه {لقد جئت شيئاً أمراً} أي: عظيماً منكراً.
{قال} الخضر: {ألم أقل إنك} يا موسى {لن تستطيع معي صبراً} فذكره بما قال له عند الشرط.
(5/107)
---(1/2279)
{قال} موسى: {لا تؤاخذني} يا خضر {بما نسيت} أي: غفلت عن التسليم لك وترك الإنكار عليك، قال ابن عباس: إنه لم ينس ولكنه من معاريض الكلام أي: وهي التورية بالشيء عن الشيء، وفي المثل: إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب، أي: سعة فكأنه نسي شيئاً آخر وقيل معناه بما تركت من عهدك والنسيان الترك. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كانت الأولى من موسى نسياناً والوسطى شرطاً والثالثة عمداً» {ولا ترهقني من أمري عسراً} أي: لا تكلفني مشقة يقال: أرهقه عسراً وأرهقته عسراً أي: كلفته ذلك، يقول: لا تضيق علي أمري ولا تعسر متابعتك علي ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة وعاملني باليسر ولا تعاملني بالعسر، وعسراً مفعول ثان لترهقني من أرهقه كذا إذا حمله إياه وغشاه به وما في بما نسيت مصدرية أو بمعنى الذي والعائد محذوف. وروي أن الخضر لما خرق السفينة لم يدخلها الماء، وروي أن موسى لما رأى ذلك أخذ ثوبه فحشا به الخرق، وروي أن الخضر أخذ قدحاً من زجاج ورقع به خرق السفينة فإن قيل: قول موسى عليه السلام أخرقتها لتغرق أهلها إن كان صادقاً في هذا دل ذلك على صدور ذنب عظيم من الخضر إن كان نبياً، وإن كان كاذباً دل ذلك على صدور الذنب من موسى وأيضاً فقد التزم موسى أن لا يعترض عليه وجرت العهود المذكورة بذلك ثم إنه خالف تلك العهود وذلك ذنب أجيب: بأن كلاً منهما صادق فيما قال موف بحسب ما عنده، أما موسى عليه السلام فإنه ما خطر له قط أن يعاهد على أن لا ينهى بما يعتقده منكراً، وأما الخضر فإنه عقد على ما في نفس الأمر أنه لا يقدم على منكر.
(5/108)
---(1/2280)
{فانطلقا} بعد نزولهما من السفينة وسلامتهما من الغرق والعطب {حتى إذا لقيا غلاماً} قال ابن عباس: لم يبلغ الحنث {فقتله} حين لقيه كما دلت عليه الفاء العاطفة على الشرط، قال البغوي في القصة: إنهما خرجامن البحر يمشيان فمرّ بغلمان يلعبون فأخذ غلاماً ظريفاً وضيء الوجه فأضجعه ثم ذبحه بالسكين، قال السدي: كان أحسنهم وجهاً كان وجهه يتوقد حسناً، قال البقوي: وروينا أنه أخذ رأسه فاقتلعه بيده، وروى عبد الرزاق هذا الخبر وأشار بيده بأصابعه الثلاثة الإبهام والسبابة والوسطى وقلع رأسه، وروي أنه رضخ رأسه بالحجارة، وقيل: ضرب رأسه بالجدار فقتله وكونه لم يبلغ الحنث هو قول الأكثرين.h
(5/109)
---(1/2281)
وقال الحسن: كان رجلاً، قال شعيب الحياني: وكان اسمه جيسور، وقال الكلبي: كان فتى يقطع الطريق ويأخذ المتاع ويلتجئ إلى أبويه، وقال الضحاك: كان غلاماً يعمل بالفساد ويتأذى منه أبواه، وعن أبيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً». قال الرازي: وليس في القرآن كيف لقياه، هل كان يلعب مع جمع من الغلمان أو كان منفرداً؟ وهل كان مسلماً أوكافراً؟ وهل كان بالغاً أو صغيراً؟ وكان اسم الغلام بالصغير أليق وإن احتمل الكبير إلا أن قوله بغير نفس أليق بالبالغ منه بالصبيّ لأن الصبي لا يقتل وإن قتل، قال البقاعي: إلا أن يكون شرعهم لا يشترط البلوغ، وقال ابن عباس: ولم يكن نبي اللّه يقول: أقتلت نفساً زاكية بغير نفس إلا وهو صبيّ، قال الرازي أيضاً: وكيفية قتله هل قتله بأن حزّ رأسه أو بأن ضرب رأسه بالجدار أو بطريق آخر فليس في القرآن ما يدل على شيء من هذه الأقسام انتهى. ثم أجاب الشرط بقوله مشعراً بأن شروعه في الإنكار في هذه أسرع {قال} موسى: {أقتلت} يا خضر {نفساً زاكية بغير نفس} قتلتها ليكون قتلها لها قوداً، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بألف بعد الزاي وتخفيف الياء التحتية والباقون بغير ألف بعد الزاي وتشديد التحتية، قال الكسائي: الزاكية والزكية لغتان ومعنى هذه الطهارة، وقال أبو عمرو: الزاكية التي لم تذنب والزكية التي اذنبت ثم تابت ثم استأنف قوله: {لقد} أظهر الدال نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم وأدغمها الباقون {جئت} في قتلك إياها {شيئاً} وصرح بالإنكار في قوله: {نكراً} لأن مباشرة الخرق سبب، ولهذا قال بعضهم: النكر أعظم من الأمر في القبح لأن قتل الغلام أعظم من خرق السفينة لأنه يمكن أن لا يحصل الغرق، وأمّا هنا فقد حصل الإتلاف قطعاً، والنكر ما أنكرته العقول ونفرت منه النفوس فهو أبلغ في القبح من الأمر، وقيل: الأمر أعظم لأن خرق(1/2282)
(5/110)
---
السفينة يؤدي إلى إتلاف نفوس كثيرة وهذا القتل ليس إلا إتلاف شخص واحد، وقرأ نافع وابن ذكوان وشعبة برفع الكاف والباقون بكسونها.
ولما كانت هذه ثانية.
{قال} له الخضر: {ألم أقل لك إنك} يا موسى {لن تستطيع معي صبراً} وهذا عين ما ذكره في المسألة الأولى إلا أنه هنا زاد لفظه لك {فإن قيل} لم زادها هنا؟ أجيب: بأنه زادها مكافحة بالعقاب على رفض الوصية ووسماً بقلة الصبر والثبات لما تكرر منه الاشمئزاز والاستكبار ولم يرعو بالتذكير أول مرّة، قال ابن الأثير: المكافحة المدافعة والمضاربة والاشمئزاز من اشمأز الرجل أي: انقبض قلبه، قال البغوي: وفي القصة أن يوشع كان يقول لموسى يا نبيّ اللّه اذكر العهد الذي أنت عليه
{قال} موسى حياءً منه لما أفاق بتذكيره ما حصل من فرط الوجد لأمر اللّه تعالى فذكر أنه ما تبعه إلا بأمر اللّه تعالى {إن سألتك عن شيء بعدها} أي: بعد هذه المرّة وأعلم بشدّة ندمه على الإنكار بقوله: {فلا تصاحبني} أي: لا تتركني أتبعك بل فارقني ثم علل ذلك بقوله: {قد بلغت} وأشار إلى أن ما وقع منه من الإخلال بالشرط من أعظم الخوارق التي اضطر إليها فقال: {من لدني} أي: من قبلي {عذراً} باعتراضي مرّتين واحتمالك لي فيهما، وقد أخبر اللّه بحسن حالك في غزارة عملك فمدحه بهذه الطريقة من حيث أنه احتمله مرّتين أوّلاً وثانياً مع قرب المدّة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رحم اللّه أخي موسى استحيا فقال ذلك، ولو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب» وعن أبيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «رحمة اللّه علينا وعلى موسى ـ وكان إذا ذكر أحداً من الأنبياء بدأ بنفسه ـ لولا أن عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة أي: حياء واشفاق، فقال: إن سألتك إلى آخره»، وقرأ نافع بضم الدال وتخفيف النون، وقرأ شعبة كذلك إلا أنه يشم الدال فتصير ساكنة قريبة من الضم والباقون بضم الدال وتشديد النون.(1/2283)
(5/111)
---
{فانطلقا} أي: موسى والخضر يمشيان لينظر الخضر أمراً ينفذ فيه ما عنده من علمه وورش يغلظ اللام في لفظ انطلقا على أصله بعد قتل الغلام {حتى إذا أتيا أهل قرية}، قال ابن عباس: هي انطاكية، وقال ابن سيرين: هي الأيلة وهي أبعد أرض اللّه من السماء وعبر عنها بالقرية دون المدينة لأنه أدل على الذمّ، وقيل: برقة، وعن أبي هريرة بلدة بالأندلس {استطعما أهلها} أي: طلبا من أهل القرية أن يطعموهما، وفي الحديث أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم {فأبوا أن يضيفوهما} أي: أن ينزلوهما ويطعموهما يقال ضافه إذا كان له ضيفاً وحقيقته مال إليه من ضاف السهم عن الغرض وضيفه وأضافه أنزله وجعله ضيفاً فإن قيل: الاستطعام ليس من عادة الكرام وكيف قدم عليه موسى والخضر وقد حكى اللّه تعالى عن موسى أنه قال عند ورود ماء مدين ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير؟ أجيب: بأن إقدام الجائع على الاستطعام أمر مباح في كل الشرائع بل ربما وجب ذلك عند الخوف من الضرر الشديد فإن قيل: لم قال: حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها ولم يقل استطعماهم؟ أجيب: بأن التكرير قد يكون للتأكيد كقول الشاعر:
*ليت الغراب غداة يبعث دائباً
** كان الغراب مقطع الأوداج»
وعن قتادة شر القرى التي لا تضيف الضيف.
(5/112)
---(1/2284)
فائدة: قال الرازي: وفي كتب الحكايات أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وجاؤوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بحمل من الذهب وقالوا: يا رسول اللّه جئناك بهذا الذهب لتجعل الباء تاء حتى تصير القراءة هكذا فأتوا أن يضيفوهما أي: أتيناهم لأجل الضيافة حتى يندفع عنا هذا اللوم فامتنع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال: «تغيير هذه النقطة يوجب دخول الكذب في كلام اللّه تعالى وذلك يوجب القدح في الإلهية» فعلمنا أن تغيير النقطة الواحدة من القرآن يوجب بطلان الربوبية والعبودية. ولما أبوا أن يضيفوهما انصرفا {فوجدا فيها} أي: القرية ولم يقل فيهم إيذاناً بأن المراد وصف القرية بسوء الطبع {جداراً} أي: حائطاً مائلاً مشرفاً على السقوط ولذا قال: مستعيراً لما لم يعقل صفة من يعقل {يريد أن ينقص} أي: يسقط وهذا من مجاز كلام العرب لأنّ الجدار لا إرادة له وإنما معناه قرب ودنا من السقوط كما تقول العرب داري تنظر إلى دار فلان إذا كانت تقابلها فاستعير الإرادة للمشارفة كما استعير لها الهم والعزم في قوله:
*يريد الرمح صدر أبي براء
** ويعدل عن دماء بني عقيل»
وقول الآخر:
*إنّ دهراً يلف صدري بجمل
** لزمان يهم بالإحسان»
ففي البيت الأوّل دليل على استعارة الإرادة للمشارفة، وفي الثاني دليل على استعارة الهم لها وجمل اسم محبوبته يقول: إن دهراً يجمع بيني وبينها زمان قصده الإحسان لا الإساءة ونظير ذلك من القرآن قوله تعالى: {ولما سكت عن موسى الغضب} (الأعراف، 154)
وقوله تعالى: {أن يقول له كن فيكون} (يس، 82)
(5/113)
---(1/2285)
وقوله تعالى: {قالتا أتينا طائعين} (فصلت، 11)، قال الزمخشري ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام اللّه تعالى ممن لا يعلم كان يجعل الضمير للخضر، وقيل: إن اللّه تعالى خلق للجدار حياة وإرادة كالحيوان {فأقامه} أي: سواه، وفي حديث أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم «فقال الخضر بيده فأقامه»، وقال ابن عباس: هدمه وقعد يبنيه، وقال سعيد بن جبير: مسح الجدار بيده فاستقام وذلك من معجزاته، وقال السدي: بلّ طيناً وجعل يبني الحائط فشق ذلك على موسى عليه السلام فإن قيل: الضيافة من المندوبات فتركها ترك مندوب وذلك غير منكر فكيف يجوز من موسى عليه السلام مع علو منصبه أنه غضب عليهم الغضب الشديد الذي لأجله ترك العهد الذي التزمه في قوله: {إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني} وأيضاً مثل الغضب لأجل ترك الأكل في ليلة واحدة لا يليق بأدون الناس فضلاً عن كليم اللّه تعالى أجيب: بأن تلك الحالة كانت حالة افتقار واضطرار إلى الطعام فلأجل تلك الضرورة نسي موسى عليه السلام ما قاله فلا جرم {قال} موسى: {لو شئت لاتخذت عليه أجراً} أي: لطلبت على عملك أجرة تصرفها في تحصيل المطعوم وتحصيل سائر المهمات، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف التاء بعد اللام وكسر الخاء، وأظهر ابن كثير الذال عند التاء على أصلها، وأدغمها أبو عمرو والباقون بتشديد التاء وفتح الخاء، وأظهر حفص الذال على أصله وأدغمها الباقون.
ولما كان كلام موسى هذا متضمناً للسؤال.
(5/114)
---(1/2286)
{قال} له الخضر: {هذا} أي: هذا الإنكار على ترك الأجر {فراق بيني وبينك} وقيل: إن موسى عليه السلام لما شرط أنه إن سأله بعد ذلك سؤالاً آخر حصل به الفراق حيث قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني، فلما ذكر هذا السؤال فارقه وهذا فراق بيني وبينك أي: هذا الفراق المعهود الموعود فإن قيل: كيف ساغ إضافة بين إلى غير متعدّد؟ أجيب: بأنّ مسوّغ ذلك تكريره بالعطف بالواو، ألا ترى أنك لو اقتصرت على قولك المال بيني لم يكن كلاماً حتى تقول: بيننا أو بيني وبين فلان ثم قال له الخضر: {سأنبئك} أي: سأخبرك يا موسى قبل فراقي لك {بتأويل} أي: بتفسير {ما لم تستطع عليه صبراً} لأن هذه المسائل الثلاثة مشتركة في شيء واحد وهو أن أحكام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مبنية على الظواهر كما قال صلى الله عليه وسلم «نحن نحكم بالظواهر واللّه يتولى السرائر» والخضر ما كانت أموره وأحكامه مبنية على ظواهر الأمور بل كانت مبنية على الأسباب الخفية الواقعة في نفس الأمر، وذلك لأن الظاهر في أموال الناس وفي أرواحهم أنه يحرم التصرّف فيها، والخضر تصرف في أموال الناس وفي أرواحهم في المسألة الأولى وفي الثانية من غير سبب ظاهر يبيح ذلك التصرف لأن الإقدام على خرق السفينة وقتل الإنسان من غير سبب ظاهر يبيح ذلك التصرف محرّم، والإقدام على إقامة ذلك الجدار المائل في المسألة الثالثة تحمل للتعب والمشقة من غير سبب ظاهر، ثم أخذ الخضر في تأويل ذلك مبتدئاً بالمسألة الأولى بقوله:
(5/115)
---(1/2287)
{أما السفينة} أي: التي أحسن إلينا أهلها فخرقتها {فكانت لمساكين} عشرة إخوة خمسة زمني وخمسة {يعملون في البحر} أي: يؤاجرون ويكتسبون، واحتج الشافعي رضي اللّه عنه بهذه الآية على أن حال الفقير أشدّ في الحاجة والضرر من حال المسكين لأن اللّه تعالى سماهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون تلك السفينة {فأردت أن أعيبها} أي: أن أجعلها ذات عيب بأن تفوت منفعتها بذلك ساعة من نهار وتكلف أهلها لوحاً أو لوحين يسدونها بذلك أخف عليهم من أن تفوتهم منفعتها بالكلية كما يعلم من قوله: {وكان وراءهم} أي: أمامهم كقوله تعالى: {ومن ورائهم برزخ} (المؤمنين، 100)
(5/116)
---
وقيل خلفهم، وكان طريقهم في رجوعهم عليه {ملك} كان كافراً واسمه الجلندي، وقال محمد بن إسحاق اسمه سولة بن خليد الأزدي، وقيل: اسمه هدد بن بدد {يأخذ كل سفينة} أي: صالحة وحذف التقييد بذلك للعلم به {غصباً} من أصحابها ولم يكن عند أصحابها علم به فإذا مرّت به تركها لعيبها فإذا جاوزته أصلحوها فانتفعوا بها قيل: سدوها بقارورة وقيل: بالفار فإن قيل: قوله: فأردت أن أعيبها مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب فلم قدّم عليه؟ أجيب: بأن النية به التأخير وإنما قدم للعناية ولأنّ خوف الغصب ليس هو السبب وحده ولكن مع كونها للمساكين، فلما كان كل من الغصب والمسكنة سبب الفعل قدمها على الغصب إشارة إلى أن أقوى السببين الحاملين على فعله الرأفة بالمساكين. ثم شرع في تأويل المسألة الثانية بقوله:(1/2288)
{وأمّا الغلام} الذي قتلته {فكان أبواه مؤمنين} التثنية للتغليب يريد أباه وأمه فغلب المذكر وهو شائع ومثله العمران، قيل: إن ذلك الغلام كان بالغاً وكان يقطع الطريق ويقدم على الأفعال المنكرة، وكان أبواه يحتاجان إلى دفع شر الناس عنه والتعصب له وتكذيب من يرميه بشيء من المنكرات وكان يصير سبباً لوقوعهما في الفسق وربما قاد ذلك الفسق إلى الكفر، وقيل: إنه كان صبياً إلا أنه علم منه أنه لو صار بالغاً لحصلت فيه هذه المفاسد، وفي الحديث أنه طبع كافراً ولو عاش لأرهقهما ذلك كما قال {فخشينا} أي: خفنا، والخشية خوف يشوبه تعظيم {أن يرهقهما} أي: يغشيهما ويلحقهما {طغياناً وكفراً} أي: لمحبتهما له يتبعانه في ذلك فإن قيل: هل يجوز الإقدام على قتل الإنسان بمثل ذلك؟ أجيب: بأنه إذا تأكد ذلك بوحي من اللّه تعالى جاز، وعن ابن عباس أن نجدة الحروري كتب إليه كيف قتله أي: كيف قتل الخضر الغلام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان فكتب إليه: «إن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل».
(5/117)
---
رواه بمعناه مسلم. ولما ذكر ما يلزم على تقدير بقائه من الفساد تسبب عنه قوله:(1/2289)
{فأردنا} أي: بقتله وإراحتهما من شره {أن يبدلهما ربهما} أي: المحسن إليهما بإعطائه وأخذه، قال مطرف: فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ولو بقي كان فيه هلاكهما، فليرض كل امرىء بقضاء اللّه تعالى فإن قضاء الله تعالى للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب ولهذا أبدلهما اللّه تعالى {خيراً منه زكاة} أي: طهارة وبركة من الذنوب والأخلاق الرديئة وصلاحاً وتقوى {وأقرب رحماً} أي: رحمة وعطفاً عليهما، وقيل: هو من الرحم والقرابة، قال قتادة: أي: أوصل للرحم وأبرّ للوالدين، قال الكلبي: أبدلهما اللّه تعالى جارية فتزوجها نبيّ من الأنبياء فولدت له نبياً فهدى اللّه تعالى على يديه أمّة من الأمم، وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: أبدلهما اللّه تعالى جارية ولدت سبعين نبياً، وقال ابن جريج: أبدلهما بغلام مسلم، وقرأ نافع وأبو عمرو أن يبدّلهما بفتح الباء الموحدة وتشديد الدال والباقون بسكون الموحدة وتخفيف الدال، وقرأ ابن عامر رحماً برفع الحاء والباقون بالسكون.
ثم شرع في تأويل المسألة الثالثة بقوله:
(5/118)
---(1/2290)
{وأما الجدار} أي: الذي أشرت بأخذ الأجر عليه {فكان لغلامين} ودل على كونهما دون البلوغ بقوله: {يتيمين} وكان اسم أحدهما أصرم والآخر صريماً. ولما كانت القرية لا تنافي التسمية بالمدينة وكان التعبير بالقرية أولاً أليق عبر بها لأنها مشتقة من معنى الجمع فكان أليق بالذم في ترك الضيافة، ولما كانت المدينة بمعنى محل الإقامة عبر بها فقال: {في المدينة} فكان التعبير بها أليق للإشارة به إلى أن الناس يعملون فيها فينهدم الجدار وهم مقيمون فيأخذون الكنز كما قال، {وكان تحته كنز لهما} فلذلك أقمته احتساباً، واختلف في ذلك الكنز كما قال: {وكان تحته كنز لهما} فلذلك أقمته احتساباً واختلف في ذلك الكنز فعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان ذهباً وفضة» رواه البخاري في تاريخه والترمذي والحاكم وصححه والذم على كنزهما في قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة} (التوبة، 34)
(5/119)
---(1/2291)
لمن لا يؤدي زكاتهما وما يتعلق بهما من الحقوق، وعن سعيد بن جبير قال: كان الكنز صحفاً فيها علم رواه الحاكم وصححه، وعن ابن عباس قال: كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه عجباً لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجباً لمن أيقن بالقدر كيف يغضب عجباً لمن أيقن بالرزق كيف يتعب عجباً لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجباً لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه، وفي الجانب الآخر مكتوب أنا اللّه لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل كل الويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه، قال البغوي: وهذا قول أكثر أهل التفسير وروي أيضاً ذلك مرفوعاً. قال الزجاج: الكنز إذا أطلق ينصرف إلى كنز المال ويجوز عند التقييد أن يقال عنه كنز علم وهذا اللوح كان جامعاً لهما، وقوله: {وكان أبوهما صالحاً} فيه تنبيه على أن سعيه في ذلك كان لصلاحه فيراعى وتراعى ذريته، وكان سياحاً واسمه كاسح، قال ابن عباس: حفظا لصلاح أبيهما وقيل: كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء، قال محمد بن المنكدر: إن اللّه تعالى يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده وعشيرته وأهل دويرات حوله فما يزالون في حفظ اللّه ما دام فيهم، قال سعيد بن المسيب: إني أصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي، وعن الحسن أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما: بم حفظ اللّه الغلامين قال: بصلاح أبيهما، قال: فأبي وجدي خير منه، قال: قد أنبأنا اللّه أنكم قوم خصمون وذكروا أيضاً أن ذلك الأب الصالح كان من الذين تضع الناس الودائع عنده فيردها إليهم {فأراد ربك أن يبلغا} أي: الغلامان {أشدّهما} أي: الحلم وكمال الرأي {ويستخرجا كنزهما} لينتفعا به وينفعا الصالحين.
(5/120)
---(1/2292)
تنبيه: أسند الإرادة في قوله: فأردت أن أعيبها إلى نفسه لأنه المباشر للتعييب، وثانياً في قوله: فأردنا إلى اللّه وإلى نفسه لأنّ التبديل بإهلاك الغلام وإيجاد اللّه تعالى بدله، وثالثاً في قوله: فأراد ربك إلى اللّه وحده لأنه لا مدخل له في بلوغ الغلامين، أولأن الأول في نفسه شرّ والثالث خير والثاني ممتزج، أو لأنه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه، ولما ذكر القتل عبر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيهاً على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية، ولما ذكر رعاية مصالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى اللّه تعالى لأنّ التكفل بصلاح الأبناء لرعاية حق الآباء ليس إلا للّه تعالى أو لاختلاف حال العارف في الالتفات إلى الوسايط فإن قيل: اليتيمان هل أحد منهما عرف حصول ذلك الكنز تحت ذلك الجدار أم لا فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار، وإن كان الثاني فكيف يمكنهم بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز ومعرفته والانتفاع به؟ وأجيب: لعلهما كانا جاهلين به إلا أن وصيهما كان عالماً به ثم إن ذلك الوصي غاب وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السقوط، ولما قرّر الخضر هذه الجوابات قال: رحمة من ربك أي: إنما فعلت هذه الأفعال لغرض أن تظهر رحمة اللّه لأنها بأسرها ترجع إلى حرف واحد وهو تحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى كما تقرّر {وما فعلته} أي: شيئاً من ذلك {عن أمري} أي: عن اجتهادي ورأيي بل بأمر من له الأمر وهو اللّه تعالى.
تنبيه: احتج من ادعى نبوّة الخضر بأمور أحدها قوله تعالى: {آتيناه رحمة من عندنا} والرحمة هي النبوّة، قال تعالى: {وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك} (القصص، 86)
(5/121)
---(1/2293)
والمراد من هذه الرحمة النبوة، قال الرازي: ولقائل أن يقول مسلم: إنّ النبوة رحمة ولكن لا يلزم أن تكون كل رحمة نبوة، الثاني: قوله تعالى: {وعلمناه من لدنا علماً} وهذا يقتضي أن اللّه تعالى علمه بلا واسطة تعليم معلم ولا إرشاد مرشد وكل من علمه اللّه تعالى بلا واسطة البشر وجب أن يكون نبياً يعلم الأمور بالوحي من اللّه تعالى، قال الرازي: وهذا الاستدلال ضعيف لأنّ العلوم الضرورية تحصل ابتداء من اللّه وذلك لا يدل على النبوّة، الثالث: أن موسى عليه السلام قال: {هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت} والنبي لا يتبع غير نبي في التعلم؟ قال الرازي: وهذا أيضاً ضعيف لأن النبي لا يتبع غير نبي في العلوم التي باعتبارها صار نبياً أما غير تلك العلوم فلا، الرابع: أنه أظهر على موسى الترفع حيث قال: وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً، وأما موسى فإنه أظهر له التواضع حيث قال: ولا أعصي لك أمراً، وهذا يدل على أنه كان فوق موسى ومن لا يكون نبياً لا يكون فوق نبي. قال الرازي: وهذا أيضاً ضعيف لأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها، الخامس: قوله وما فعلته عن أمري، وفي المعنى: أني فعلته بوحي من اللّه وهذا يدل على النبوة. قال الرازي: وهذا أيضاً ضعيف ظاهر الحجة، السادس: ما روي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال: السلام عليك، قال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائىل، فقال موسى: من عرّفك هذا؟ قال: الذي بعثك إليّ، وهذا يدل على أنه إنما عرف ذلك بالوحي والوحي لا يكون إلا مع النبوة، قال الرازي: ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات والإلهامات انتهى.
(5/122)
---(1/2294)
وبالجملة فالجمهور على أنه نبي كما مرّ واختلفوا هل هو حيّ أو ميت؟ فقيل: إن الخضر وإلياس حيان يلتقيان كل سنة بالموسم، قال البغوي: وكان سبب حياته فيما يحكى أنه شرب من عين الحياة وذلك أن ذا القرنين دخل الظلمة ليطلب عين الحياة وكان الخضر على مقدّمته فوقع الخضر على العين فنزل فاغتسل وشرب وشكر اللّه تعالى وأخطأ ذو القرنين الطريق، وذهب آخرون إلى أنه ميت لقوله تعالى: {وما جعلنا البشر من قبلك الخلد} (الأنبياء، 34)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما صلى العشاء ليلة: «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» ولو كان الخضر حياً لكان لا يعيش بعده. ولما بيّن لموسى سر تلك القضايا قال له {ذلك} أي: هذا التأويل العظيم {تأويل ما لم تسطع} يا موسى {عليه صبراً} وحذف تاء الاستطاعة هنا تخفيفاً فإنّ استطاع واسطاع بمعنى واحد.
تنبيه: من فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعمله ولا يبادر إلى إنكار ما لا يستحسنه فلعل فيه سراً لا يعرفه وأن يداوم على التعلم ويتذلل للعلماء ويراعي الأحب في المقال، وأن ينبه المجرم على جرمه ويعفو عنه حين يتحقق إصراره ثم يهاجره، روي أن موسى لما أراد أن يفارق الخضر قال له: أوصني؟ قال: لا تطلب العلم لتحدث به واطلبه للعمل به. ولما فرغ من هذه القصة التي حاصلها أنها طواف في الأرض لطلب العلم عقبها بقصة من طاف الأرض لطلب الجهاد وقدم الأول إشارة إلى علوّ درجة العلم لأنه أساس كل سعادة وقوام كل امرئ فقال عاطفاً على {ويجادل الذين كفروا بالباطل} (الكهف، 56)
(5/123)
---(1/2295)
{ويسألونك} أي: اليهود وقيل: مشركو مكة يا أشرف الخلق {عن ذي القرنين} وذكروا في سبب تسميته بذلك وجوهاً، الأول: قال أبو الطفيل سئل علي رضي اللّه عنه عن ذي القرنين أكان نبياً أم ملكاً؟ قال: لم يكن نبياً ولا ملكاً ولكن كان عبداً صالحاً أمر قومه بتقوى اللّه تعالى فضربوه على قرنه الأيمن فمات، ثم بعثه اللّه تعالى فأمرهم بتقوى اللّه تعالى فضربوه على قرنه الأيسر فمات، ثم بعثه اللّه تعالى فسمي ذا القرنين، فيكم مثله يعني نفسه، الثاني: أنه انقرض في وقته قرنان من الناس، الثالث: أنه كان صفحتا رأسه من نحاس، الرابع: كان على رأسه ما يشبه القرنين، الخامس: كان لتاجه قرنان، السادس: أنه طاف قرني الدنيا شرقها وغربها، السابع: كان له قرنان أي: ضفيرتان، الثامن: أنّ اللّه تعالى سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهدي النور من أمامه وتمتدّ الظلمة من ورائه، التاسع: أنه لقب بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشاً لأنه ينطح أقرانه، العاشر: أنه رأى في المنام كأنه صعد الفلك وتعلق بطرفي الشمس وقرنيها أي: جانبيها فسمي بذلك لهذا السبب، الحادي عشر: أنه كان له قرنان تواريهما العمامة، الثاني عشر: أنه دخل النور والظلمة، وذكروا في اسمه أيضاً وجوهاً الأول: اسمه مرزبان اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح، الثاني: اسمه اسكندر بن فيلفوس الرومي اشتهر في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه أقصى المشرق والمغرب وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر وبنى الاسكندرية وسماها باسم نفسه، الثالث: شمر بن عمر بن أفريقيس الحميري وهو الذي بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وافتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال:
*قد كان ذو القرنين قبلي مسلماً
** ملكاً علا في الأرض غير مفند
*بلغ المشارق والمغارب يبتغي
** أسباب ملك من كريم سيد
واختلفوا في نبوّته مع الاتفاق على إيمانه فقال بعضهم: كان نبياً واحتجوا على ذلك بوجوه، الأول: قوله تعالى:
(5/125)
---(1/2296)
{إنا مكنا له في الأرض} وحمل على التمكين في الدنيا والتمكين الكامل في الدين هو النبوّة، الثاني: قوله تعالى: {وآتيناه من كل شيء سبباً} وهذا يدل على أنه تعالى آتاه من النبوّة سبباً، الثالث: قوله تعالى: {يا ذا القرنين إما أن تعذب} الخ والذي يتكلم اللّه معه لا بد أن يكون نبياً ومنهم من قال: إنه كان عبداً صالحاً ملكه اللّه تعالى الأرض وأعطاه اللّه سبحانه وتعالى الملك والحكمة وألبسه الهيبة وقد قالوا: ملك الأرض مؤمنان ذوالقرنين وسليمان وكافران نمروذ وبختنصر ومنهم من قال: إنه كان ملكاً من الملائكة، عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه سمع رجلاً يقول: يا ذا القرنين فقال: اللهم غفراً أما رضيتم أن تتسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة، والأكثر على القول الثاني، ويدل له قول عليّ رضي اللّه تعالى عنه المتقدم.
تنبيه: قد قدّمنا أنّ اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن قصة أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين وعن الروح، والمراد من قوله تعالى: {ويسألونك عن ذي القرنين} هو ذلك السؤال، ثم قال اللّه تعالى: {قل} أي: لهؤلاء المتعنتين {سأتلو} أي: أقص قصاً متتابعاً في مستقبل الزمان أعلمني اللّه تعالى به {عليكم} أي: أيها البعداء، والضمير في قوله تعالى: {منه} لذي القرنين وقيل للّه تعالى {ذكراً} أي: خبراً كافياً لكم في تعرّف أمره جامعاً لمجامع ذكره
{إنا مكنا له في الأرض} أي: مكنا له أمره من التصرّف فيها مكنة يصل بها إلى جميع مسالكها ويظهر بها على سائر ملوكها {وآتيناه} بعظمتنا {من كل شيء} يحتاج إليه في ذلك {سبباً} أي: وصله توصله إليه من العلم والقدرة والآلة
(5/126)
---(1/2297)
{فأتبع سبباً} أي: سلك طريقاً نحو المغرب قال البقاعي: ولعله بدأ به لأن باب التوبة فيه، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمر واتبع في المواضع الثلاثة بتشديد التاء الفوقية ووصل الهمزة قبل الفوقية والباقون بقطع الهمزة وسكون التاء الفوقية واستمرّ متبعاً له
{حتى إذا بلغ} في ذلك السير {مغرب الشمس} أي: موضع غروبها {وجدها تغرب في عين حمئة} أي: ذات حمأة وهي الطين الأسود أي: بلغ موضعاً في الغرب لم يبق بعده شيء من العمران وجد الشمس كأنها تغرب في وهدة مظلمة وغروبها في رأي العين كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغرب في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر وإلا فهي أكبر من الأرض مرّات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض، قال البيضاوي: ولعله بلغ ساحل المحيط فرأى ذلك إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء ولذلك قال: وجدها تغرب ولم يقل كانت تغرب، وقرأ شعبة وحمزة والكسائي وابن عامر بألف بعد الحاء وياء مفتوحة بعد الميم. عن أبي درّ قال: كنت رديف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال: أتدري يا أبا ذرّ أين تغرب هذه؟ قلت: اللّه ورسوله أعلم قال: فإنها تغرب في عين حمئة، وقرأ الباقون بغير ألف بعد الحاء وبعد الميم همزة مفتوحة، واتفق أن ابن عباس كان عند معاوية فقرأ معاوية حامية فقال ابن عباس: حمئة فقال معاوية لعبد الله بن عمر: كيف تقرأ قال: كما يقرأ أمير المؤمنين ثم وجه إلى كعب الأحبار وسأله كيف تجد الشمس تغرب؟ قال: في ماء وطين كذلك نجده في التوراة {ووجد عندها} أي: عند تلك العين على الساحل المتصل بها {قوماً} أي: أمة، قال ابن جريج: مدينة لها اثنا عشر ألف باب لولا ضجيج أهلها لسمعت وجبة الشمس حين تجب أي: تغرب، قيل: كان لباسهم جلود الوحش وطعامهم ما يلفظه البحر كانوا كفاراً فخيره اللّه تعالى بين أن يعذبهم أو يدعوهم إلى الإيمان كما حكى ذلك بقوله تعالى: {قلنا يا ذا
(5/127)(1/2298)
---
القرنين} إما بوّاسطة الملك إن كان نبياً أو بواسطة نبي زمانه إن لم يكن أو باجتهاد في شريعته {إمّا أن تعذب} بالقتل على كفرهم {وإمّا أن تتخذ} أي: بغاية جهدك {فيهم حسناً} بالإرشاد وتعليم الشرائع، وقيل: خيره بين القتل والأسر وسماه حسناً في مقابلة القتل ويؤيد الأوّل قوله {قال أمّا من ظلم} باستمراره على الكفر فإنا نرفق به حتى نيأس منه ثم نقتله وإلى ذلك أشار بقوله: {فسوف نعذبه} بوعد لا خلف فيه بعد طول الدعاء والترفق، وقال قتادة كان يطبخ من كفر في القدور وهو العذاب المنكر {ثم يردّ إلى ربه} في الآخرة {فيعذبه عذاباً نكراً} أي: شديداً جداً في النار وتقدّم في نكراً سكون الكاف وضمها
{وأما من آمن وعمل صالحاً} تصديقاً لما أخبر به من تصديقه {فله} في الدارين {جزاء الحسنى} أي: الجنة، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بفتح الهمزة بعد الزاي منوّنة وتكسر في الوصل لالتقاء الساكنين، قال الفراء: نصبه على التفسير أي: لجهة النسبة، وقيل: منصوب على الحال أي: فله المثوبة الحسنى مجزياً بها، والباقون بضم الهمزة من غير تنوين فالإضافة للبيان، قال المفسرون: والمعنى على قراءة النصب فله الحسنى جزاء كما تقول له هذا الثوب هبة، وعلى قراءة الرفع وجهان، الأول: فله جزاء الفعلة الحسنى والفعلة الحسنى هي الإيمان والعمل الصالح، والثاني: فله جزاء المثوبة الحسنى وإضافة الموصوف إلى الصفة مشهورة كقوله: ولدار الآخرة، وأمال ألف الحسنى حمزة والكسائي محضة وأبو عمرو بين بين وورش بالفتح والإمالة بين بين {وسنقول} بوعد لا خلف فيه بعد اختباره بالأعمال الصالحة {له} أي: لأجله {من أمرنا} أي: ما نأمره به {يسراً} أي: قولاً غير شاق من الصلاة والزكاة والخراج والجهاد وغيرها وهو ما يطيقة ولا يشق عليه مشقة كثيرة
{ثم أتبع} لإرادة طلوع مشرق الشمس {سبباً} من جهة الجنوب يوصله إلى المشرق واستمر فيه لا يمل ولا تغلبه أمة مرّ عليها
(5/128)
---(1/2299)
{حتى إذا بلغ} في مسيره ذلك {مطلع الشمس} أي: الموضع الذي تطلع عليه أولاً من المعمور من الأرض {وجدها تطلع على قوم}، قال الجلال المحلى: هم الزنج وقوله تعالى: {لم نجعل لهم من دونها} أي: الشمس {ستراً} فيه قولان، الأول: أنه لا شيء لهم من سقف ولا جبل يمنع من وقوع شعاع الشمس عليهم لأن أرضهم لا تحمل بنياناً، قال الرازي: ولهم سروب يغيبون فيها عند طلوع الشمس ويظهرون عند غروبها فيكونون عند طلوع الشمس يتعذر عليهم التصرّف في المعاش وعند غروبها يشتغلون بتحصيل مهمات المعاش وأحوالهم بالضدّ من أحوال سائر الخلق، وقال قتادة: يكونون في أسراب لهم حتى إذا زالت الشمس عنهم خرجوا فرعوا كالبهائم، والثاني: أن معناه لا ثياب لهم ويكونون كسائر الحيوانات عراة أبداً وفي كتب الهيئة أن أكثر حال الزنج كذلك وحال كل من سكن البلاد القريبة من خط الاستواء، كذلك قال الكلبي: هم عراة يفرش أحدهم إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، وقال الزمخشري وعن بعضهم قال: خرجت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء القوم فقيل: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم وإذا أحدهم يفرش إحدى أذنيه ويلبس الأخرى، فلما قرب طلوع الشمس سمعت صوتاً كهيئة الصلصلة فغشى عليّ ثم أفقت فلما طلعت الشمس فإذا هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلوني سربالهم فلما ارتفع النهار جعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم، وعن مجاهد من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض وقوله تعالى:
(5/129)
---(1/2300)
{كذلك} فيه وجوه؛ الأول: أن معناه كما بلغ مغرب الشمس كذلك بلغ مطلعها، الثاني: أن أمره كما وصفناه من رفعة المكان وبسطة الملك، قال البغوي: والصحيح أن معناه كما حكم في القوم الذين هم عند غروب الشمس كذلك في القوم الذين هم عند مطلعها {وقد أحطنا بما لديه} أي: عند ذي القرنين من الآلات والجند وغيرهما {خبراً} أي: علماً تعلق بظواهره وخفاياه والمعنى أن كثرة ذلك بلغت مبلغاً لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير
{ثم} إن ذا القرنين لما بلغ المغرب والمشرق {أتبع سبباً} آخر من جهة الشمال في إرادة ناحية السدّ مخرج يأجوج ومأجوج واستمر آخذاً فيه
(5/130)
---
{حتى إذا بلغ} في مسيره ذلك {بين السدّين} أي: بين الجبلين وهما جبلا أرمينية وأذربيجان وقيل: جبلان في أواخر الشمال، وقيل: هذا المكان في منقطع بلاد الترك من ورائهما يأجوج ومأجوج، قال الرازي: والأظهر أن موضع السد في ناحية الشمال سد الاسكندر ما بينهما كما سيأتي، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص بفتح السين والباقون بضمها وهما لغتان معناهما واحد، وقال عكرمة: ما كان من صنع بني آدم فهو السد بالفتح وما كان من صنع اللّه فهو بالضم وقاله أبو عمرو وقيل بالعكس {وجد من دونهما} أي: بقربهما من الجانب الذي هو أدنى منهما إلى الجهة التي أتى منها ذو القرنين {قوماً} أي: أمة من الناس لغتهم في غاية البعد من لغات بقية الناس لبعد بلادهم عن بقية البلاد فهم كذلك {لا يكادون} أي: لا يقربون {يفقهون} أي: يفهمون {قولاً} ممن مع ذي القرنين فهماً جيداً كما يفهم غيرهم لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم، وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر القاف والباقون بفتحهما، وقال ابن عباس: لا يفقهون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم واستشكل بقولهم:
(5/131)
---(1/2301)
{قالوا يا ذا القرنين} وأجيب بأنه تكلم عنهم مترجم ممن هو مجاورهم ويفهم كلامهم {إن يأجوج ومأجوج} وهما اسمان أعجميان لقبيلتين فلم ينصرفا، وقرأ عاصم بهمزة ساكنة بعد الياء والميم والباقون بالألف فيهما وهما لغتان أصلهما من أجيج النار وهو ضوءها وشررها شبهوا به لكثرتهم وشدتهم وهم من أولاد يافث بن نوح عليه السلام ، قال الضحاك: هم جيل من الترك، قال السدي: الترك سرية من يأجوج ومأجوج خرجت فضرب ذو القرنين السدّ فبقيت خارجة فجميع الترك منهم، وعن قتادة أنهم اثنان وعشرون قبيلة بنى ذو القرنين السدّ على إحدى وعشرين قبيلة وبقيت قبيلة واحدة فهم الترك سموا الترك لأنهم تركوا خارجين، قال: أهل التواريخ أولاد نوح عليه السلام ثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أبو العرب والعجم والروم، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة، ويافث أبو الترك والخزر والصقالبة ويأجوج ومأجوج، وقال ابن عباس في رواية عطاء هم عشرة أجزاء وولد آدم كلهم جزء، وروي عن حذيفة مرفوعاً أن يأجوج أمة ومأجوج أمة وكل أمة أربعمائة ألف أمة لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح وهم من ولد آدم يسيرون في خراب الأرض، وقال: هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز شجر بالشام طوله عشرون ومائة ذراع في السماء، وصنف منهم طوله وعرضه سواء عشرون ومائة وهؤلاء لا تقوم لهم الجبال ولا الحديد، وصنف منهم يفرش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية، ومنهم أن ثبت لهم مخالب في أظفارهم وأضراسهم كأضراس السباع، وعن علي رضي اللّه تعالى عنه أنه قال: منهم من طوله شبر ومنهم من هو مفرط في الطول، وقال كعب: هم نادرة في ولد آدم وذلك أن آدم احتلم ذات يوم وامتزجت نطفته بالتراب فخلق اللّه من ذلك الماء يأجوج ومأجوج فهم يتصلون بنا من جهة الأب دون الأم،(1/2302)
(5/132)
---
وذكر وهب بن منبه أن ذا القرنين كان رجلاً من الروم ابن عجوز فلما بلغ كان عبداً صالحاً قال اللّه تعالى: إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها: هاويل والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها: ناويل وأمم في وسط الأرض منهم الجن والأنس ويأجوج ومأجوج، فقال ذو القرنين: بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم، قال اللّه تعالى: إني سأطوقك وأبسط لك لسانك وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يروعنك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحفظك الظلمة من ورائك فانطلق حتى أتي مغرب الشمس فوجد جمعاً وعدداً لا يحصيه إلا اللّه تعالى فكاثرهم بالظلمة حتى جمعهم في مكان واحد فدعاهم إلى اللّه تعالى وإلى عبادته فمنهم من آمن ومنهم من كفر ومنهم من صدّ عنه فعمد إلى الذين تولوا عنه وأدخل عليهم الظلمة فدخلت أجوافهم وبيوتهم فدخلوا في دعوته، فجند من أهل المغرب جنداً عظيماً فانطلق يقودهم والظلمة تسوقهم حتى أتى هاويل فعمل فيهم كعمله في ناسك ثم مضى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس فعمل فيها وجند منها جنوداً كفعله في الأمتين ثم أخذ بناحية الأرض اليسرى فأتى ناويل فعمل فيها كعمله فيما قبلها ثم عمد إلى الأمم التي وسط الأرض فلما كان مما يلي منقطع الترك نحو المشرق قالت له أمة صالحة من الإنس: يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقاً أشباه البهائم أي: وهم يأجوج ومأجوج {مفسدون في الأرض} يفترسون الدواب والوحوش والسباع ويأكلون الحيات والعقارب وكل ذي روح خلقه اللّه في الأرض وليس يزداد خلق كزيادتهم فلا يشك أنهم سيملكون الأرض ويظهرون عليها ويفسدون فيها، وقال الكلبي: فسادهم أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع إلى أرضهم فلا يدعون فيها شيئاً أخضر(1/2303)
إلا أكلوه
(5/133)
---
ولا يابساً إلا احتملوه وأدخلوه أرضهم وقد بالغوا ولقوا منهم أذى شديداً وقتلاً، وقيل: فسادهم أنهم كانوا يأكلون الناس، وقيل: معناه أنهم سيفسدون في الأرض بعد خروجهم {فهل نجعل لك خرجاً} أي: جعلا من المال، وقرأ حمزة والكسائى بفتح الراء وألف بعدها والباقون بسكون الراء ولا ألف بعدها فقيل: هما بمعنى، وقيل: الخرج ما تبرّعت به والخراج ما لزمك {على أن تجعل} في جميع ما {بيننا وبينهم} من الأرض التي يمكن توصلهم إلينا منها بما آتاك اللّه من المكنة {سدّاً} أي: حاجزاً بين هذين الجبلين فلا يصلون إلينا، وقرأ نافع وابن عامر وشعبة برفع السين والباقون بالنصب،
{
قال} لهم ذو القرنين {ما مكّنى فيه ربي} أي: المحسن إليّ مما ترونه من الأموال والرجال والتوصل إلى جميع الممكن للمخلوق {خير} من خراجكم الذي تريدون بذله كما قال سليمان عليه السلام : {فما آتاني اللّه خير مما آتاكم} (النمل، 36)، وقرأ ابن كثير بنون مفتوحة بعد الكاف وبعدها نون مكسورة والباقون بنون واحدة مكسورة مشدّدة {فأعينوني بقوّة} أي: أني لا أريد المال بل أعينوني بأيديكم وقوّتكم وبالآلات التي أتقوّى بها في فعل ذلك فإن ما معي إنما هو للقتال وما يكون من أسبابه لا لمثل هذا {أجعل بينكم} أي: بين ما تحتصون به {وبينهم ردماً} أي: حاجزاً حصيناً موثقاً بعضه فوق بعض من التلاصق والتلاحم وهو أعظم من السد من قولهم ثوب ردم إذا كان رقاعاِ فوق رقاع قالوا: وما تلك القوة؟ قال: فعلة وصناع يحسنون البناء، قالوا: وما تلك الآلات؟ قال:
(5/134)
---(1/2304)
{آتوني} أي: أعطوني {زبر الحديد} أي: قطعة وهو جمع زبرة كغرفة وغرف، قال الخليل: الزبرة من الحديد القطعة الضخمة فأتوه به وبالحطب حفر له الأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينها الحطب والفحم {حتى إذا ساوى} أي: بذلك البناء {بين الصدفين} أي: بين جانبي الجبلين أي: سوى بين طرفي الجبلين سميا بذلك لأنهما يتصادفان أي: يتقابلان من قولهم : صادفت الرجل لاقيته وقابلته، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر برفع الصاد والدال وشعبة برفع الصاد وسكون الدال والباقون بنصب الصاد والدال، ثم وضع المنافخ وأطلق النار في الحطب والفحم و{قال} أي: للعملة {انفخوا} فنفخوا {حتى إذا جعله} أي: الحديد {ناراً} أي: كالنار {قال آتوني} أي: أعطوني {أفرغ عليه قطراً} أي: أصب النحاس المذاب على الحديد المحمى فصبه عليه فدخل في خلال الحديد مكان الحطب لأن النار أكلت الحطب حتى لزم الحديد النحاس فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً، قال الزمخشري: قيل ما بين السدين مائة فرسخ، وروي أن عرضه كان خمسين ذراعاً وارتفاعه مائتي ذراع، وعن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلاً «وفي رواية عن رجل من أهل المدينة قال: يا رسول اللّه قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال: انعته لي قال: كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء» وهذه معجزة عظيمة إن كان نبياً أو كرامة إن لم يكن؛ لأنّ هذه الزبرة الكبيرة إذا نفخ عليها حتى صارت كالنار لم يقدر الحيوان أن يقرب منها والنفخ عليها لا يكون إلا بالقرب منها فكأنه تعالى صرف تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين عليها حتى تمكنوا من العمل فيها.
تنبيه: قطراً هو المتنازع فيه وهذه الآية أشهر أمثلة النحاة في باب التنازع وبها تمسك البصريون على أن أعمال الثاني من العاملين المتوجهين نحو معمول واحد أولى إذ لو كان قطراً مفعول آتوني لأضمر مفعول أفرغ حذراً من الإلباس، ثم قال تعالى:(1/2305)
(5/135)
---
{فما} أي: فتسبب عن ذلك أنه لما أكمل عمل الردم وأحكمه ما {اسطاعوا} أي: يأجوج ومأجوج وغيرهم {أن يظهروه} أي: يعلوا ظهره لعلوّه وملاسته، وقرأ حمزة بتشديد الظاء والباقون بالتخفيف {وما استطاعوا له نقباً} أي: خرقاً لصلابته وسمكه وزيادة التاء هنا تدل على أنّ العلوّ عليه أصعب من نقبه لارتفاعه وصلابته والتحام بعضه ببعض حتى صار سبيكة واحدة من حديد ونحاس في علوّ الجبل فإنهم ولو احتالوا ببناء درج من جانبهم أو وضع تراب حتى ظهروا عليه لم ينفعهم ذلك لأنهم لا حيلة لهم على النزول من الجانب الآخر، ويؤيده أنهم إنما يخرجون في آخر الزمان بنقبه لا بظهورهم عليه ولا ينافي نفي الاستطاعة لنقبه ما رواه الإمام أحمد والترمذي في التفسير وابن ماجه في الفتن «عن أبي رافع عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً فيعودون إليه كأشدّ ما كان حتى إذا بلغت مدّتهم وأراد اللّه تعالى أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء اللّه تعالى فيستثني فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس» الحديث، وفي حديث الصحيحين عن زينب بنت جحش عن النبي صلى الله عليه وسلم فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وحلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وروياه عن أبي هريرة وفيه مثل هذا وعقد تسعين لأن هذا في آخر الزمان، ثم إنه قيل فما قال حين فراغه قيل:
(5/136)
---(1/2306)
{قال هذا} أي: السد يعني الإقدار عليه {رحمة} أي: نعمة {من ربي} أي: المحسن إليّ بإقداري عليه ومنع العادية {فإذا جاء وعد ربي} بقرب قيام الساعة أو بوقت خروجهم {جعله دكاً} أي: مدكوكاً مبسوطاً، روي أنهم يخرجون على الناس فيتبعون المياه ويتحصن الناس في حصونهم منهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع مخضبة بالدماء فيقولون: قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء قسوة وعلواً، فيبعث اللّه تعالى عليهم نغفاً في رقابهم، وفي رواية في آذانهم فيهلكون، قال صلى الله عليه وسلم «فو الذي نفسي بيده إنّ دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم شكراً» أخرجه الترمذي، قوله قسوة وعلواً أي: غلظة وفظاظة وتكبراً، والنغف دود يخرج في أنوف الإبل والغنم، وقوله: وتشكر من لحومهم شكراً يقال: شكرت الشاة شكراً حين امتلأ ضرعها لبناً، والمعنى أنها تمتلئ أجسادها لحماً وتسمن، وعن النواس بن سمعان قال: ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة من النخل فلما رحلنا إليه عرف ذلك فينا فقال: ما شأنكم قلنا: يا رسول اللّه ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال: غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه واللّه خليفتي على كل مسلم وإنه شاب قطط أي: شديد الجعودة، وقيل: حسن الجعودة عينه طافية أي: بارزة، وقيل: مخسوفة كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف إنه خارج من حلة بين الشام والعراق فعاث أي: أفسد يميناً وعاث شمالاً يا عباد اللّه فاثبتوا قلنا: يا رسول اللّه وما مكثه في الأرض قال: أربعون يوماً يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيام كأيامكم قلنا: يا رسول اللّه فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا أقدروا له قدره أي: واليوم الثاني والثالث كذلك، وسكت عن ذلك للعلم به من الأوّل،(1/2307)
(5/138)
---
قلنا: يا رسول اللّه وما إسراعه في الأرض قال: «كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت وتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت درّاً واسعة ضروعها وأملأها خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردّون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمرّ بالخربة فيقول لها: أخرجي كنزك فيتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شاباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك فبينما هو كذلك إذ بعث اللّه المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء في دمشق بين مهرودتين أي: حلتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه حتى يدركه بباب لد قرية بالشام قريبة من الرملة فيقتله ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم اللّه منه فيمسح عن وجوههم ويخبرهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى اللّه تعالى إلى عيسى عليه السلام إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فجوّز عبادي إلى الطور ويبعث يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمرّ أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمرّ آخرهم فيقول: لقد كان بهذه مرّة ماء ويحصر نبي اللّه وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي اللّه عيسى وأصحابه إلى اللّه تعالى فيرسل اللّه تعالى عليهم النغف في رقابهم وهو بالتحريك دود يكون في أنوف الإبل والغنم كما مرّ واحدتها نغفة فيصبحون فرساً أي: قتلى الواحد فريس، ثم يهبط نبي اللّه عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه رممهم ونتنهم فيرغب نبيّ اللّه عيسى وأصحابه إلى اللّه فيرسل اللّه تعالى عليهم طيراً كأعناق البخت فتحملهم حيث شاء اللّه تعالى، ثم يرسل(1/2308)
اللّه تعالى
(5/139)
---
مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة وهي بالتحريك جمعها زلف مصانع الماء، ويجمع على المزالف أيضاً أي: فتصير الأرض كأنها مصنعة من مصانع الماء، وقيل كالمرآة، وقيل الزلفة الروضة، وقيل بالقاف أيضاً ثم يقال للأرض انبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل وهو بتحريك الراء والسين من الإبل والغنم من عشرة إلى خمسة وعشرين حتى أن اللقحة من الأبل لتكفي الفئام من الناس وهو مهموز الجماعة الكثيرة واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث اللّه تعالى عليهم ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيهاتهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة {وكان وعد ربي} الذي وعد به في خروج يأجوج ومأجوج وإحراقهم الأرض وإفسادهم لها قرب قيام الساعة {حقاً} كائناً لا محالة فلذلك أعان تعالى على هدمه هذا آخر حكاية ذي القرنين. وفي القصة أن ذا القرنين دخل الظلمة فلما رجع توفي بشيرزور وذكر بعضهم أنّ عمره كان نيفاً وثلاثين سنة، سبحان من يدوم عزه وبقاؤه، ثم إنه تعالى قال عاطفاً على ما تقديره فقد بان أمر ذي القرنين أيّ بيان وصدق في قوله فإذا جاء وعد ربي فإنه إذا جاء وعدنا جعلناه بقدرتنا التي نؤتيها ليأجوج ومأجوج دكاً فأخرجناهم على الناس بعد خروج الدجال
{
(5/140)
---(1/2309)
وتركنا بعضهم} أي: يأجوج ومأجوج {يومئذٍ} أي: حين يخرجون {يموج} أي: يضطرب {في بعض} كموج البحر أو يموج بعض الخلق في بعض فيضطربون ويختلطون إنسهم وجنهم حيارى ويؤيده {ونفخ في الصور} أي: القرن النفخة الثانية لقوله تعالى: {فجمعناهم} أي: الخلائق في مكان واحد يوم القيامة، قال البقاعي: ويجوز أن تكون هذه الفاء فاء الفصيحة فيكون المراد النفخة الأولى أي: ونفخ فمات الخلائق كلهم فبليت أجسامهم وتفتت عظامهم كما كان من تقدّمهم، ثم نفخ الثانية فجمعناهم من التراب بعد تمزقهم فيه وتفرّقهم في أقطار الأرض بالسيول والرياح وغير ذلك {جمعاً} فأمتناهم دفعة واحدة كلمح البصر وحشرناهم إلى الموقف للحساب ثم للثواب والعقاب،
{وعرضنا} أي: أظهرنا {جهنم يومئذٍ} أي: إذ جمعناهم لذلك {للكافرين عرضاً} ظاهرة لهم بكل ما فيها من الأهوال وهم لا يجدون لهم عنها مصرفاً. ثم وصفهم بما أوجب لهم ذلك بقوله تعالى:
{الذين كانت} كوناً كأنه جبلة لهم {أعينهم} وهو بدل من الكافرين {في غطاء عن ذكري} أي: عن القرآن فهم لا يهتدون به وعما جعلنا على الأرض من زينة دليلاً على الساعة بإفنائه ثم إحيائه وإعادته بعد إبداده {وكانوا} بما جعلناهم عليه {لا يستطيعون سمعاً} أي: لا يقدرون أن يسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما يتلو عليهم بغضاله فلا يؤمنون به. ولما بيّن تعالى أمر الكافرين أنهم أعرضوا عن الذكر وعن استماع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أتبعه بقوله تعالى:
(5/141)
---(1/2310)
{أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي} من الأحياء كالملائكة وعزير والمسيح والأموات كالأصنام {من دوني} وقوله تعالى: {أولياء} أي: أرباباً مفعول ثان ليتخذوا، والمفعول الثاني لحسب محذوف والمعنى أظنوا أنّ الاتخاذ المذكور ينفعهم ولا يغضبني ولا أعاقبهم عليه كلا، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بسكونها وهم على مراتبهم في المدّ. ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري ليس الأمر كذلك حسن جداً قوله تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم {إنا أعتدنا جهنم} التي تقدم أنا عرضناها لهم {للكافرين} أي: هؤلاء وغيرهم {نزلاً} أي: هي معدة لهم كالمنزل المعد للضعيف وهذا على سبيل التهكم ونظيره قوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} (آل عمران، 21)
{س18ش103/ش110 قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِا?خْسَرِينَ أَعْمَا? * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُو?لَا??ـ?ِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا? بِـ?َايَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَآ?ـ?ِهِ? فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَالِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا? وَاتَّخَذُو?ا? ءَايَاتِى وَرُسُلِى هُزُوًا * إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا? وَعَمِلُوا? الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُ? * خَالِدِينَ فِيهَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَ? * قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ? مَدَدًا * قُلْ إِنَّمَآ أَنَا? بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى? إِلَىَّ أَنَّمَآ الهكُمْ اله وَاحِدٌ? فَمَن كَانَ يَرْجُوا? لِقَآءَ رَبِّهِ? فَلْيَعْمَلْ عَمَ? صَالِحًا وَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ? أَحَدَ?ا }
ثم ذكر تعالى ما فيه تنبيه على جهل القوم فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.
(5/142)
---(1/2311)
{قل} لهم {هل ننبئكم} أي: نخبركم وأدغم الكسائي لام هل في النون والباقون بالإظهار {بالأخسرين أعمالاً} أي: الذين أتعبوا أنفسهم في عمل يرجون به فضلاً ونوالاً فنالوا هلاكاً وبواراً، واختلفوا فيهم فقال ابن عباس وسعد بن أبي وقاص: هم اليهود والنصارى وهو قول مجاهد، قال سعد بن أبي وقاص: أما اليهود فكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأما النصارى فكفروا بالجنة فقالوا: لا طعام فيها ولا شراب انتهى. قال البقاعي: وكذا قال اليهود لأن الفريقين أنكروا الحشر الجسماني وخصوه بالروحاني، وقيل: هم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع.
تنبيه: أعمالاً تمييز للأخسرين جمع عمل وإن كان مصدر التنوع أعمالهم، ثم وصفهم تعالى بضدّ ما يدّعونه لأنفسهم من نجاح السعي وإحسان الصنع فقال تعالى: {الذين ضلّ} أي: ضاع وبطل {سعيهم في الحياة الدنيا} لكفرهم.
تنبيه: محل الموصول الجر نعتاً أو بدلاً أو بياناً أو النصب على الذم أو الرفع على الخبر المحذوف فإنه جواب السؤال، ومعنى خسرانهم أنه مثلهم بمن يشتري سلعة يرجو فيها ربحاً فخسر وخاب سعيه كذلك أعمال هؤلاء الذين أتعبوا أنفسهم مع ضلالهم فبطل جدّهم واجتهادهم في الحياة الدنيا {وهم يحسبون} أي: يظنون، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بالكسر {أنهم يحسنون صنعاً} أي: عملاً يجازون عليه لاعتقادهم أنهم على الحق. ثم بيّن تعالى السبب في بطلان سعيهم بقوله تعالى:
(5/143)
---(1/2312)
{أولئك} أي: البعداء البغضاء {الذين كفروا بآيات ربهم} أي: بدلائل توحيده من القرآن وغيره {ولقائه} أي: رؤيته لأنه يقال: لقيت فلاناً أي: رأيته فإن قيل: اللقاء عبارة عن الوصول قال تعالى: فالتقى الماء على أمر قد قدر وذلك في حق اللّه تعالى محال فوجب حملة على لقاء ثواب اللّه تعالى كما قال بعض المفسرين أجيب: بأنّ لفظ اللقاء، وإن كان عبارة عن الوصول إلا أن استعماله في الرؤية مجاز ظاهر مشهور والذي يقول: إن المراد لقاء ثواب اللّه قال: لا يتم إلا بالإضمار وحمل اللفظ على المجاز المتعارف المشهور أولى من حمله على ما يحتاج إلى الإضمار، ثم قال تعالى: {فحبطت} أي: فبسبب جحدهم الدلائل بطلت {أعمالهم} فصارت هباءً منثوراً فلا يثابون عليها، وفي قوله تعالى: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} قولان؛ أحدهما: أنا نزدري بهم وليس لهم عندنا وزن ومقدار، تقول العرب: ما لفلان عندي وزن أي: قدر لخسته، وروى أبو هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند اللّه جناح بعوضة»، وقال: اقرؤوا إن شئتم {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً}»، الثاني: لا نقيم لهم ميزاناً لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين ليتميز مقدار الطاعات ومقدار السيئات، وقال أبو سعيد الخدري: تأتي ناس بأعمالهم يوم القيامة عندهم في التعظيم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئاً فذلك قوله تعالى: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً}.
ولما كان هذا السياق في الدلالة على أنّ لهم جهنم أوضح من الشمس قال تعالى:
(5/144)
---(1/2313)
{ذلك} أي: الأمر العظيم الذي بيّناه من وعيدهم {جزاؤهم} ثم بيّن ذلك الجزاء بقوله تعالى: {جهنم} وصرّح بالسببية بقوله تعالى: {بما كفروا} أي: بما أوقعوا التغطية للدلائل {واتخذوا آياتي} الدالة على واحدانيتنا {ورسلي} المؤيدين بالمعجزات الظاهرات {هزوا} أي: مهزوءاً بهما فلم يكتفوا بالكفر الذي هو طعن في الإلهية حتى ضموا إليه الهزو الذي هو أعظم احتقاراً. ولما بيّن سبحانه وتعالى ما لا حد قسمي أهل الجمع تنفيراً عنهم بيّن ما للآخرين على تقدير الجواب لسؤال يقتضيه الحال ترغيباً في اتباعهم والاقتداء بهم بقوله:
{إن الذين آمنوا} أي: باشروا الإيمان {وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} من الخصال {كانت لهم} أي: في علم اللّه قبل أن يخلقوا البناء أعمالهم على الأساس {جنات} أي: بساتين {الفردوس} أي: أعلى الجنة وأوسطها والإضافة إليه للبيان، روي عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سألتم اللّه تعالى فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة» وقال كعب: ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس فيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وقال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وأرفعها، وقال كعب: الفردوس هو بستان الجنة الذي فيه الأعناب، وقال مجاهد: هو البستان بالرومية، وقال الزجاج: هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية، وقال عكرمة: هي الجنة بلسان الحبش، وقال الضحاك: هي الجنة الملتفة الأشجار {نزلاً} أي: منزلاً كما كان السعير والأغلال لأولئك نزلاً وقوله تعالى:
(5/145)
---(1/2314)
{خالدين فيها} حال مقدرة {لا يبغون} أي: لا يريدون أدنى إرادة {عنها حولاً} أي: تحويلاً إلى غيرها، قال ابن عباس: لا يريدون أن يتحوّلوا عنها كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى. ولما ذكر تعالى في هذه السورة أنواع الدلائل والبيّنات وشرح فيها أقاصيص الأوّلين والآخرين نبه على حال كمال القرآن بقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم.
{قل} يا أشرف الخلق للخلق {لو كان البحر} أي: ماؤه على عظمته عندكم {مداداً} وهو اسم لما يمدّ به الشيء كالحبر للدواة والسليط للسراج {لكلمات} أي: لكتب كلمات {ربي} أي: المحسن إليّ {لنفد} أي: فني مع الضعف فناء لا تدارك له {البحر} لأنه جسم متناه {قبل أن تنفذ} أي: تفنى وتفرغ {كلمات ربي} لأنّ معلوماته تعالى غير متناهية والمتناهي لا يفي البتة بغير المتناهي، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية على التذكير والباقون بالفوقية على التأنيث. ولما لم يكن أحد غيره يقدر على إمداد البحر قال تعالى: {ولو جئنا بمثله} أي: بمثل البحر الموجود {مدداً} أي: زيادة ومعونة ونظيره قوله تعالى: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات اللّه} (لقمان، 27)، واختلف في سبب نزول هذه الآية، فقال البغوي وابن عباس: قالت اليهود: تزعم يا محمد أنا قد أوتينا الحكمة، وفي كتابك {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} (النبوة، 269)، ثم تقول: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً}، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، وقال البيضاوي: وسبب نزولها أن اليهود قالوا: في كتابكم ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وتقرؤون وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً انتهى. وقال في «الكشاف» يعني أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات اللّه، وقيل: لما نزل وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، قالت اليهود: أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. ولما كانوا ربما قالوا: مالك لا تحدّث من(1/2315)
(5/146)
---
هذه الكلمات بكل ما سألنا عنه قال اللّه تعالى:
{قل} يا خير الخلق لهم {إنما أنا بشر} في استبداد القدرة على إيجاد المعدوم والإخبار بالغيب {مثلكم} أي: لا أمر لي ولا قدرة إلا ما يقدرني ربي عليه ولكن {يوحى إليّ} أي: من اللّه تعالى الذي خصني بالرسالة كالوحي إلى الرسل قبلي {أنما إلهكم} الذي يجب أن يعبد {إله واحد} لا ينقسم بمجانسة ولا غيرها قادر على ما يريد، لا منازع له لم يؤخر جواب ما سألتموني عنه من عجز ولا من جهل هذا الذي يعني كل أحد علمه، وأما ما سألتم عنه في أمر الروح والقصتين تعنتا لي فأمر لو جهلتموه ما ضرّكم جهله {فمن} أي: فتسبب عن وحدته المستلزمة لقدرته أنه من {كان يرجو لقاء ربه} أي: يخاف المصير إليه وقيل يأمل رؤية ربه والرجاء يكون بمعنى الخوف والأمل جميعاً قال الشاعر:
*فلا كل ما ترجو من الخير كائن
** ولا كل ما ترجو من الشر واقع
(5/147)
---(1/2316)
فجمع بين المعنيين {فليعمل عملاً} ولو قليلاً {صالحاً} يرتضيه اللّه {ولا يشرك} أي: وليكن ذلك العمل مبنياً على الأساس وهو أن لا يشرك ولو بالرياء {بعبادة ربه أحداً} فإذا عمل ذلك حاز فخار علوم الدنيا والآخرة، روي أن جندب بن زهير قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم إني لأعمل العمل للّه فإذا اطلع عليه سرّني فقال: «إن اللّه لا يقبل ما شورك فيه فنزلت تصديقاً، وروي أنه قال له: لك أجران أجر السر وأجر العلانية» وذلك إذا قصد أن يقتدي به، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الشرك الأصغر قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء» وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول عن اللّه تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء هو للذي عمله»، وعن سعيد بن فضالة قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جمع اللّه تبارك وتعالى الناس ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان يشرك في عمل عمله للّه فليطلب ثوابه منه فإن اللّه تعالى أغنى الشركاء عن الشرك» والآية جامعة لخلاصتي العلم والعمل وهما التوحيد والإخلاص في الطاعة.
(5/148)
---(1/2317)
خاتمة: روي في فضائل سورة الكهف أحاديث كثيرة منها ما رواه الترمذي وغيره من قرأها عند مضجعه كان له نور يتلألأ في مضجعه إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم وإن كان مضجعه بمكة كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ، وروي أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال»، وقال البيضاوي وعنه عليه السلام : «من قرأ سورة الكهف من آخرها كانت له نوراً من قرنه إلى قدمه»، ولكن الذي رواه الإمام أحمد: «من قرأ أول سورة الكهف كانت له نوراً من فرقه إلى قدمه، ومن قرأها كلها كانت له نوراً من الأرض إلى السماء»، وروى البغوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ أوّل سورة الكهف وآخرها كانت له نوراً من قدمه إلى رأسه، ومن قرأها كلها كانت له نوراً من الأرض إلى السماء» فنسأل اللّه تعالى أن ينوّر قلوبنا وأبصارنا وأن يغفر زلاتنا ولا يؤاخذنا بسوء أفعالنا، وأن يفعل ذلك بوالدينا وأولادنا وأقاربنا وأصحابنا ومشايخنا وجميع إخواننا المسلمين وأحبابنا آمين ولا حول ولا قوة إلا باللّه العليّ العظيم وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً إلى يوم الدين.
سورة مريم
عليها السلام مكية
وهي ثمان وتسعون آية، وسبعمائة واثنان وستون كلمة،وثلاثة آلاف وثمانمائة حرف وحرفان
{بسم اللّه} المنزه عن كل شائبة نقص القادر على كل ما يريد {الرحمن} الذي عم نواله سائر مخلوقاته {الرحيم} بسائر خلقه، واختلف في تفسير قوله تعالى:
(5/149)
---(1/2318)
{كهيعص} قال ابن عباس: هو اسم من أسماء اللّه تعالى، وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن، وقيل: هو اسم اللّه الأعظم، وقيل: هو اسم السورة، وقيل: قسم أقسم اللّه به. وعن الكلبي: هو ثناء أثنى اللّه به على نفسه، وعنه معناه كاف لخلقه هاد لعباده يده فوق أيديهم عالم ببريته صادق في وعده.
وعن ابن عباس قال: الكاف من كريم وكبير، والهاء من هاد، والياء من رحيم، والعين من عليم وعظيم، والصاد من صادق، وقيل: إنه من المتشابه الذي استأثر اللّه تعالى بعلمه، وقد تقدّم الكلام على ذلك في أوّل سورة البقرة، وقرأ نافع بإمالة الهاء والياء بين بين وأمالهما محضة شعبة والكسائي وأمال الهاء محضة أبو عمرو وابن عامر وحمزة، وللسوسي في الياء خلاف في الإمالة محضة والفتح والباقون، وهم ابن كثير وحفص بفتحهما بلا خلاف ولجميع القراء في العين المدّ والتوسط، وقوله تعالى:
{ذكر} مبتدأ محذوف الخبر تقديره مما يتلى عليكم أو خبر محذوف المبتدأ تقديره المتلو ذكر أو هذا ذكر {رحمت ربك} وقوله تعالى: {عبده} مفعول رحمة لأنها مصدر بني على التاء لأنها دالة على الوحدة ورسمت بتاء مجرورة، ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ووقف بالتاء على الرسم الباقون وقوله تعالى: {زكريا} بيان له.
تنبيه: اعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة قصص جملة من الأنبياء.
(5/150)
---
الأولى: هذه القصة وهي قصة زكريا فيحتمل أن المراد من قوله تعالى: {رحمة ربك} أنه عني عبده زكريا في كونه رحمة وجهان: أحدهما: أنه يكون رحمة على أمته لأنه هداهم إلى الإيمان والطاعة، والثاني: أن يكون رحمة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأن اللّه تعالى لما شرع له صلى الله عليه وسلم طريقته في الإخلاص والابتهال في جميع الأمور إلى اللّه تعالى صار ذلك لطفاً داعياً له ولأمته إلى تلك الطريقة، فكان زكريا رحمة ويحتمل أن يكون المراد أن هذه السورة فيها ذكر الرحمة التي يرحم بها عبده زكريا(1/2319)
{إذ نادى ربه نداء} مشتملاً على دعاء {خفياً} أي: سراً جوف الليل؛ لأنه أسرع إلى الإجابة وإن كان الجهر والإخفاء عند اللّه سيان، وقيل: أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في زمن الشيخوخة، وقيل: أسره من مواليه الذين خافهم، وقيل: خفت صوته لضعفه وهرمه، كما جاء في صفة الشيخ صوته خفات وسمعه تارات.
فإن قيل: من شرط النداء الجهر فكيف الجمع بين كونه نداء وخفياً؟.
أجيب: بوجهين، الأول: أنه أتى بأقصى ما قدر عليه من رفع الصوت إلا أن صوته كان ضعيفاً لنهاية ضعفه بسبب الكبر فكان نداءً نظراً إلى القصد خفياً نظراً إلى الواقع، الثاني: أنه دعا في الصلاة لأن اللّه تعالى أجابه في الصلاة لقوله تعالى: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن اللّه يبشرك} (آل عمران، 39)
وكون الإجابة في الصلاة يدلّ على كون الدعاء فيها فيكون النداء فيها خفياً.
تنبيه: في ناصب إذ ثلاثة أوجه، أحدها: أنه ذكر ولم يذكر الحوفي غيره، والثاني: رحمة ولم يذكر الجلال المحلى غيره وذكر الوجهين أبو البقاء، والثالث: أنه بدل من زكريا بدل اشتمال لأن الوقت مشتمل عليه ثم كأنه قيل: ما ذلك النداء؟ فقيل:
(5/151)
---
{قال ربّ} بحذف الأداة للدلالة على غاية القرب {إني وهن} أي: ضعف جداً {العظم مني} أي: هذا الجنس الذي هو أقوى ما في بدني ولو جمع لأوهم أنه وهن مجموع عظامه لا جميعها وقوله: {واشتعل الرأس} أي: مني {شيباً} تمييز محوّل عن الفاعل أي: انتشر الشيب في شعره كما ينتشر شعاع النار في الحطب وإني أريد أن أدعوك {ولم أكن بدعائك} أي: بدعائي إياك {رب شقياً} أي: خائباً فيما مضى فلا تخيبني فيما يأتي وإن كان ما أدعو به في غاية البعد في العادة لكنك فعلت مع أبي إبراهيم مثله فهو دعاء وشكر واستعطاف، ثم عطف على قوله: إني وهن قوله:(1/2320)
{وإني خفت الموالي} أي: الذين يلوني في النسب كبني العم أن يسيئوا الخلافة {من ورائي} أي: في بعض الزمان الذي بعدي {وكانت امرأتي عاقراً} لا تلد أصلاً بما دل عليه فعل الكون {فهب لي} أي: فتسبب عن شيخوختي وضعفي وتعويدك لي بالإجابة وخوفي من سوء خلافة أقاربي ويأسي عن الولد عادة بعقم امرأتي وبلوغي من الكبر حدّاً لا حراك بي معه أني أقول لك: يا قادر على كل شيء هب لي {من لدنك} أي: من الأمور المستبطنة المستغربة التي عندك لم تجرها على مناهج العادات والأسباب المطردات {ولياً} أي: ابناً من صلبي
{يرثني} في جميع ما أنا فيه من العلم والنبوّة والعمل {ويرث} زيادة على ذلك {من آل يعقوب} جزءاً مما خصصتهم به من المنح وفضلتهم به من النعم ومحاسن الأخلاق ومعالي الشيم فإن الأنبياء لا يورثون المال، وقيل: يرثني الحبورة أي: العلم بتحبير الكلام وتحسينه فإنه كان حبراً هو بالفتح والكسر وهو أفصح، يقال: للعالم بتحبير الكلام وتحسينه وهو يعقوب بن إسحاق عليهما السلام.
وقيل: يرثني العلم ويرث من آل يعقوب النبوّة ولفظ الإرث يستعمل في المال وفي العلم والنبوّة، أما في المال فلقوله تعالى: {وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم} (الأحزاب، 27)، وأما في النبوة فلقوله تعالى: {وأورثنا بني إسرائيل الكتاب} (غافر، 53)
(5/152)
---
الآية، وقال صلى الله عليه وسلم «العلماء ورثة الأنبياء» ولأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما يورثون العلم وخص اسم يعقوب اقتداء به نفسه إذ قال ليوسف عليه السلام : {ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب} (يوسف، 6)(1/2321)
ولأن إسرائيل قد صار علماً على الأسباط كلهم وكانت قد غلبت عليهم الأحداث، وقرأ أبو عمرو والكسائي بجزم الثاء المثلثة فيهما على أنهما جواب الأمر إذ تقديرهما إن تهب يرث والباقون بالضم فيهما على أنهما صفة واعتراض بأن زكريا دعا اللّه تعالى أن يهبه ولداً يرثه مع أن يحيى قتل قبله فلم يجبه إلى أرثه منه وأجيب: بأن إجابة دعاء الأنبياء غالبة لا لازمة فقد يتخلف لقضاء اللّه تعالى بخلافه كما في دعاء إبراهيم عليه السلام في حق أبيه وكما في دعاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: «وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها»، ولما كان من قضاء اللّه تعالى وقدره أن يوجد يحيى نبياً صالحاً ثم يقتل استجيب دعاء زكريا في إيجاده دون إرثه. ولما ختم دعاءه بقوله: {واجعله رب} أي: أيها المحسن إليّ {رضياً} أي: مرضياً عندك، أجابه اللّه تعالى بقوله تعالى:
(5/153)
---
{يا زكريا إنا نبشرك بغلام} يرث كما سألت {اسمه يحيى} وقرأ حمزة بفتح النون وسكون الباء الموحدة وضم الشين مخففة والباقون بضم النون وفتح الموحدة وكسر الشين مشددة وكذلك في آخر السورة.
تنبيه: يحيى اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة وقيل: منقول من الفعل المضارع كما سموا بيعمر، وإنما تولى تعالى تسميته تشريفاً له قال تعالى: {لم نجعل له من قبل سمياً} (مريم، 65)
أي: مسمى بيحيى، قال قتادة والكلبي: لم يسمّ أحد قبله بيحيى.
(5/154)
---(1/2322)
تنبيه: سمياً مأخوذ من السمّو وفيه دلالة لقول البصريين إن الاسم من السمو، ولو كان من الوسم لقيل وسيماً، وقال سعيد بن جبير وعطاء: لم نجعل له شبهاً ومثلاً كما قال تعالى: {هل تعلم له سمياً} أي: مثلاً والمعنى أنه لم يكن له مثل لأنه لم يعص ولم يهمّ بمعصية قط، وردّ هذا لأن هذا يقتصي تفضيله على الأنبياء قبله كإبراهيم وموسى وليس كذلك، وقيل: لم يكن له ميل إلى أمر النساء لأنه كان سيداً وحصوراً، وعن ابن عباس لم تلد العواقر مثله ولداً، ثم كأنه قيل: فما قال في جواب هذه البشارة العظيمة؟ فقيل:
{قال} عالماً بصدقها طالباً لتأكيدها وللتلذذ بترديدها وهل ذلك من امرأته أو من غيرها؟ وهل إذا كان منها يكونان على حالتهما من الكبر أو غيرها غير طائش ولا عجل؟ {رب} أيها المحسن إليّ بإجابة الدعاء دائماً {أنّى} أي: من أين وكيف وعلى أي: حال {يكون لي غلام} يولد في غاية القوة والنشاط والكمال في الذكورة {وكانت} أي والحال أنه كانت {امرأتي} إذ كانت شابة {عاقراً} غير قابلة للولد وأنا وهي شابان فلم يأتنا ولد لاختلال أحد السبيلين فكيف بها وقد أيست؟ قال الجلال المحلي: بلغت ثماناً وتسعين سنة {وقد بلغت} أنا {من الكبر عتياً} من عتا يبس أي: نهاية السنّ، قال الجلال المحلي: مائة وعشرين سنة وبما تقرر سقط ما قيل لم تعجب زكريا عليه السلام بقوله: أنى يكون لي غلام مع أنه هو الذي طلب الغلام، وقرأ حفص وحمزة والكسائي عتياً وصلياً وجثياً بكسر عين الأوّل وصاد الثاني وجيم الثالث وضم الباقون، وأما بكياً فكسر الباء الموحدة حمزة والكسائي وضمها الباقون، وأصل عتي عتو وكسرت التاء تخفيفاً وقلبت الواو الأولى ياء لمناسبة الكسرة، والثانية ياء لتدغم فيها وإنما استعجب للولد من شيخ فان وعجوز عاقر اعترافاً بأن المؤثر فيه كامل القدرة وأن الوسايط عند المحققين ملغاة ولذلك
(5/155)
---(1/2323)
{قال} أي: اللّه تعالى كما قال الأكثرون لأن زكريا إنما كان يخاطب اللّه ويسأله بقوله: رب إني وهن العظم مني أو الملك المبلغ للبشارة تصديقاً له لقوله تعالى: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن اللّه يبشرك بيحيى} (آل عمران، 39)
وأيضاً فإنه لما قال: وقد بلغت من الكبر عتياً قال: {كذلك} أي: الأمر كذلك فهو خبر مبتدأ محذوف ثم علله بقوله: {قال ربك} أي: الذي عوّدك بالإحسان فدل ذلك على أنه كلام الملك، قال ابن عادل: ويمكن أن يجاب بأنه يحتمل أن يحصل النداآن نداء اللّه تعالى ونداء الملك، ثم ذكر مقول القول فقال: {هو} أي: خلق يحيى منكما على هذه الحالة {عليّ} أي: خاصة {هين} أي: بأن أردّ عليك قوّة الجماع وأفتق رحم امرأتك للعلوق {وقد خلقتك} أي: قدّرتك وصوّرتك وأوجدتك {من قبل ولم} أي: والحال أنك لم {تك شيئاً} بل كنت معدوماً صرفاً وفيه دليل على أنّ المعدوم ليس بشيء ولإظهار اللّه تعالى هذه القدرة العظيمة ألهمه السؤال ليجاب بما يدل عليها، وقرأ حمزة والكسائي بعد القاف بنون بعدها ألف والباقون بعد القاف بتاء مضمومة. ولما تاقت نفسه إلى سرعة المبشر به
{قال رب اجعل لي} على ذلك {آية} أي: علامة تدلني على وقوعه {قال آيتك} على وقوع ذلك {أن لا تكلم الناس} أي: لا تقدر على كلامهم بخلاف ذكر اللّه تعالى {ثلاث ليال} أي: بأيامها كما في آل عمران ثلاثة أيام حال كونك {سوياً} من غير خرس ولا مرض وجعلت الآية الدالة عليه سكوت ثلاثة أيام ولياليهن من غير ذكر اللّه دلالة على اخلاصه وانقطاعه بكليته إلى اللّه تعالى دون غيره
(5/156)
---(1/2324)
{فخرج} عقب إعلام اللّه تعالى له بهذا {على قومه من المحراب} أي: من المسجد وهم ينتظرونه أن يفتح لهم الباب متغيراً لونه فأنكروه وهو منطلق اللسان بذكر اللّه تعالى منحسبه عن كلام الناس فقالوا: مالك يا نبيّ اللّه؟ {فأوحى إليهم} أي: أشار بشفتيه من غير نطق، وقال مجاهد: كتب لهم في الأرض {أن سبحوا} أي: أوجدوا التنزيه والتقديس للّه تعالى بالصلاة وغيرها {بكرة وعشياً} أي: أوائل النهار وأواخره على العادة فعلم بمنعه من كلامهم حملت امرأته بيحيى، قال الجلال المحلي: وبعد ولادته بسنين قال اللّه تعالى له:
{يا يحيى خذ الكتاب} أي: التوراة {بقوة} أي: جدّ ثم إن اللّه تعالى وصفه بصفات الأولى قوله تعالى: {وآتيناه الحكم} قال ابن عباس النبوّة {صبياً} قال الجلال المحلي: تبعاً للبغوي ابن ثلاث سنين أي: أحكم اللّه عقله في صباه واستنبأه وقيل المراد بالحكم الحكمة وفهم التوراة فقرأ التوراة وهو صغير. قال البغوي: وعن بعض السلف من قرأ القرآن قبل أن يبلغ فهو ممن أوتي الحكم صبياً. الصفة الثانية قوله تعالى:
{وحناناً} أي: وآتيناه رحمة وهيبة ووقاراً ورقة قلب ورزقاً وبركة {من لدنّا} أي: من عندنا بلا واسطة تعليم ولا تجربة. الصفة الثالثة قوله تعالى: {وزكاة} أي: وآتيناه طهارة في دينه، قال ابن عباس: يعني بالزكاة الطاعة والإخلاص، وقال قتادة: هي العمل الصالح، وقال الكلبي: يعني صدقة تصدّق اللّه بها على أبويه. الصفة الرابعة قوله تعالى: {وكان} أي: جبلة وطبعاً {تقياً} أي: مخلصاً مطيعاً، روي أنه لم يعمل خطيئة ولم يهمّ بها. الصفة الخامسة قوله تعالى:
{وبراً بوالديه} أي: بارّاً لطيفاً بهما محسناً إليهما لأنه لا عبادة بعد تعظيم اللّه تعالى أعظم من برّ الوالدين يدل عليه قوله تعالى: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إيّاه وبالوالدين إحساناً} (الإسراء، 23)
(5/157)
---(1/2325)
. الصفة السادسة قوله تعالى {ولم يكن جباراً} أي: متكبراً والمراد وصفه بالتواضع ولين الجانب وذلك من صفات المؤمنين قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {واخفض جناحك للمؤمنين} (الحجر، 88)، وقال تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران، 159)
ولأن رأس العبادة معرفة الإنسان نفسه بالذل ومعرفة ربه بالعظمة والكمال ومن عرف نفسه بالذل وعرف ربه بالكمال كيف يليق به التجبر والترفع ولذلك لما تجبر إبليس وتمرد صار مبعداً عن رحمة اللّه تعالى وعن المؤمنين، وقيل: الجبار هو الذي لا يرى لأحد على نفسه حقاً وهو من التعظيم والذهاب بنفسه من أنه لا يلزمه قضاء حق لأحد، وقيل: هو كل من عاقب على غضب نفسه. الصفة السابعة قوله تعالى: {عصياً} أي: عاقاً أو عاصي ربه وهو أبلغ من العاصي كما أن العليم أبلغ من العالم. الصفة الثامنة قوله تعالى:
{وسلام عليه} منا {يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً}. فإن قيل: لم خص هذه الأوقات الثلاثة؟ أجيب: بوجوه:
الأول: قال محمد بن جرير الطبري: وسلام عليه يوم ولد أي: أمان من اللّه تعالى عليه يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم ويوم يموت أي: أمان من اللّه من عذاب القبر، ويوم يبعث أي: ومن عذاب اللّه يوم القيامة.
الثاني: قال ابن عيينة أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن؛ يوم ولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوماً ما شاهدهم قط ويوم يبعث فيرى في محشر عظيم، فأكرم اللّه تعالى يحيى عليه السلام فخصه بالسلام في هذه المواطن.
الثالث: قال عبد اللّه بن نفطوية: وسلام عليه يوم ولد أي: أوّل ما يرى في الدنيا ويوم يموت أي: أول يوم يرى فيه أمر الآخرة، ويوم يبعث حياً أي: أول يوم يرى فيه الجنة والنار وهو يوم القيامة وإنما قال: حياً تنبيهاً على كونه من الشهداء لأنه قتل، وقد قال تعالى {أحياء عند ربهم يرزقون} (آل عمران، 169)
(5/158)
---(1/2326)
فروع: الأول: هذا السلام يمكن أن يكون من اللّه وأن يكون من الملائكة وعلى التقديرين ففيه دلالة على تشريفه لأن الملائكة لا يسلمون إلا عن أمر اللّه تعالى.
الثاني: ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء لقوله تعالى: {سلام على نوح} (الصافات، 79)
{سلام على إبراهيم} (الصافات، 109)
لأنه تعالى قال يوم ولد وليس كذلك سائر الأنبياء.
الثالث: روي أن عيسى عليه السلام قال ليحيى عليه السلام : أنت أفضل مني لأن اللّه تعالى قال: سلام عليه وأنا سلمت على نفسي، قال الرازي: وهذا ليس بقوي لأن سلام عيسى على نفسه يجري مجرى سلام اللّه تعالى على يحيى لأن عيسى معصوم لا يفعل إلا ما أمر اللّه تعالى انتهى ولكن بين السلامين مزية.
تنبيه: هذه القصة قد ذكرت في آل عمران بقوله تعالى: {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً} (آل عمران، 37)
إلى أن قال: {هنالك دعا زكريا ربه قال: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء فنادته الملائكة وهو قائم} (آل عمران، 38)
لأن زكريا عليه السلام لما رأى خرق العادة في حق مريم طمع في حق نفسه فدعا وقد وقعت المخالفة في ذكر ما هنا وهناك في الألفاظ من وجوه، الأول منها: أن اللّه تعالى صرّح في آل عمران بأن المنادي هو الملائكة بقوله تعالى: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب} (آل عمران، 39)
وفي هذه السورة الأكثر على أن المنادي بقوله يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى هو اللّه تعالى وأجيب: بأن اللّه تعالى هو المبشر سواء كان بواسطة أم لا، الثاني: أنه قال تعالى في آل عمران: {أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر} (آل عمران، 40)
(5/159)
---(1/2327)
فذكر أولاً كبر سنه ثم عقر امرأته، وفي هذه السورة قال: {أنّى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً}، وأجيب بأن الواو لا تقتضي الترتيب، الثالث: قال في آل عمران وقد بلغني الكبر، وقال هنا: وقد بلغت من الكبر عتياً وأجيب بأن ما بلغك فقد بلغته، الرابع: قال في آل عمران: {آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً}، وقال هنا: ثلاث ليال سوياً وأجيب بأن الآيتين دلتا على أن المراد ثلاثة أيام بلياليهنّ كما مرّ.
القصة الثانية قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام ولما كانت قصة عيسى عليه السلام أغرب من قصة يحيى لأن خلق الولد من شخصين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من خلق الولد لا من أب البتة وأحسن طرق التعليم والفهم الأخذ من الأقرب فالأقرب مرتقياً إلى الأصعب فالأصعب، أشار إلى ذلك بتغيير السياق فقال عاطفاً على ما تقديره اذكر هذا لهم
(5/160)
---
{واذكر} بلفظ الأمر {في الكتاب} أي: القرآن {مريم} أي: قصتها وهي ابنة عمران خالة يحيى كما في الصحيح من حديث أنس بن مالك بن صعصعة الأنصاري في حديث الإسراء «فلما خلصت فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا خالة» ثم أبدل من مريم بدل اشتمال فقال: {إذ} أي: اذكر ما اتفق لها حين {انتبذت} أي: كلفت نفسها أن اعتزلت وانفردت {من أهلها} حالة {مكاناً شرقياً} أي: شرقي بيت المقدس. وقال الرازي: شرقي دارها، وعن ابن عباس إني لأعلم خلق اللّه تعالى لأي شيء اتخذت النصارى الشرق قبلة لقوله تعالى: {مكاناً شرقياً} فاتخذت ميلاد عيسى قبلة، واقتصر الجلال المحلي على الشرق من الدار وتردّد البيضاوي بينهما فقال: شرقيّ بيت المقدس أو شرقي دارها انتهى، ويحتمل أن يكون شرقي بيت المقدس هو شرقي دارها فلا مخالفة(1/2328)
{فاتخذت} أي: أخذت بقصد وتكلف ودل على قرب المكان بالإتيان بالجارّ فقال: {من دونهم} أي: أدنى مكان من مكانهم {حجاباً} أي: أرسلت ستراً تستتر به لغرض صحيح وليس بمذكور، واختلف المفسرون فيه على وجوه:
أحدها: أنها طلبت الخلوة كيلا تشتغل عن العبادة.
ثانيها: أنها عطشت فخرجت إلى المفازة تستقي.
ثالثها: أنها كانت في منزل زوج أختها زكريا وفيه محراب على حدة تسكنه، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها الباب فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها وثوبها فانفجرت لها الشمس فخرجت فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك كما قال تعالى: {فأرسلنا} لأمر يدل على عظمتنا {إليها روحنا} أي: جبريل عليه السلام ليعلمها بما يريد بها من الكرامة بولادة عيسى عليه السلام من غير أب لئلا يشتبه عليها الأمر فتقتل نفسها غماً {فتمثل لها} أي: تشبح بشين معجمة ثم باء موحدة ثم حاء مهملة وهو روحاني بصورة الجسماني {بشراً سوياً} في خلقه حسن الشكل.
(5/161)
---
رابعها: أنها قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض متحجبة بشيء يسترها، وكانت تتحول من المسجد إلى بيت خالتها إذا حاضت وتعود إليه إذا طهرت فبينما هي في مغتسلها أتاها جبريل بعد لبسها ثيابها متمثلاً بصورة شاب أمرد سوي الخلق تستأنس بكلامه إذ لو أتاها في الصورة الملكية لنفرت منه ولم تقدر على استماع كلامه، قال البيضاوي: ولعله لتهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها أي: مع أمنها الفتنة لعفتها، قال الرازي: وكل هذه الوجوه محتملة وليس في اللفظ ما يدل على ترجيح واحد منها.h
ولما رأت مريم جبريل نحوها(1/2329)
{قالت إني أعوذ} أي: أعتصم {بالرحمن} ربي الذي رحمته عامة لجميع خلقه {منك} أي: أن تقربني وفتح ياء أني نافع وابن كثير وأبو عمرو وسكنها الباقون وهم على مراتبهم في المدّ، ولما تفرست فيه بما أنار اللّه تعالى من بصيرتها وأصفى من سريرتها التقوى قالت {إن كنت تقياً} أي: مؤمناً مطيعاً، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي: إني عائذة منك أو نحو ذلك دل تعوذها من تلك الصورة الحسنة على عفتها وورعها فإن قيل: إنما يستعاذ من الفاجر فكيف قالت: إن كنت تقياً؟ أجيب: بأن هذا كقول القائل إن كنت مؤمناً فلا تظلمني أي: ينبغي أن يكون إيمانك مانعاً لك من الظلم كذلك هنا ينبغي أن تكون تقواك مانعة لك من الفجور وهذا في نهاية الحسن لأنها علمت أنها لا تؤثر الاستعاذة إلا في التقي وهو كقوله تعالى: {وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} (البقرة، 278)
أي: إن شرط الإيمان يوجب هذا لا أن اللّه تعالى يخشى في حال دون حال، وقيل: كان في ذلك الزمان إنسان فاجر يتبع النساء اسمه تقي فظنت مريم أن ذلك الشخص المشاهد هو ذلك فاستعاذت منه، قال الرازي: والأول هو الوجه. ولما علم جبريل عليه السلام خوفها
(5/162)
---(1/2330)
{قال} مجيباً لها بما معناه: إني لست ممن تخشين أن يكون متهماً مؤكداً لأجل استعاذتها {إنما أنا رسول ربك} أي: الذي عذت به فأنا لست متهماً بل متصف بما ذكرت وزيادة الرسالة وعبر باسم الرب المقتضى للإحسان لطفاً بها، ولأن هذه السورة مصدرة بالرحمة ومن أعظم مقاصدها تعداد النعم على خلص عباده وقوله: {ليهب لك} قرأ ورش وأبو عمرو وقالون بخلاف عنه بالياء أي: ليهب اللّه تعالى لك، وقرأ الباقون بالهمز أي: لأهب أنا لك وفي مجازه وجهان، الأول: أن الهبة لما جرت على يده بأن كان هو الذي ينفخ في جيبها بأمر اللّه تعالى جعل نفسه كأنه هو الذي وهب لها وإضافة الفعل إلى من هو سبب مستعمل، قال اللّه تعالى في الأصنام: {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس} (إبراهيم، 36)، الثاني: أن جبريل عليه السلام لما بشرها بذلك كانت البشارة الصادقة جارية مجرى الهبة. ثم بيّن الموهوب بقوله: {غلاماً} أي: ولداً ذكراً في غاية القوة والرجولية ثم وصفه بقوله: {زكياً} أي: نبياً طاهراً من كل ما يدنس البشر نامياً على الخير والبركة
{قالت} مريم {أنّى} أي: من أين وكيف {يكون لي غلام} ألده {ولم يمسسني بشر} بنكاح {ولم أك بغياً} أي: زانية فتعجبت مما بشرها به جبريل عليه السلام لأنها قد عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا من رجل، والعادة عند أهل المعرفة معتبرة في الأمور وإن جوزوا خلاف ذلك في القدرة فليس في قولها هذا دلالة على أنها لم تعلم أنه تعالى قادر على خلق الولد ابتداءً وكيف وقد عرفت أنه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحدّ ولأنها كانت منفردة للعبادة ومن يكون كذلك لا بدّ أن يعرف قدرة اللّه تعالى على ذلك وبما تقرر سقط ما قيل، قولها ولم يمسسني بشر يدخل تحته قولها: ولم أك بغياً ولهذا اقتصر عليه في سورة آل عمران بقولها: {قالت رب أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر} (آل عمران، 47)
(5/163)
---(1/2331)
فلم تذكر البغي، ويجوز أن يقال: إنها أفردت ذكر البغي مع دخوله في الكلام الأول لأنه أعظم ما في بابه فهو نظير قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (البقرة، 238)
وقوله تعالى: {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة، 98)
{قال} لها جبريل عليه السلام الأمر {كذلك} من خلق غلام منك بغير أب. ولما كان لسان الحال قائلاً كيف يكون بغير سبب أجاب جبريل بقوله: {قال ربك هو} أي: المذكور وهو إيجاد الولد على هذه الهيئة {عليّ} وحدي لا يقدر عليه غيري {هيّن} أي: بأن ينفخ بأمري جبريل فيك فتحملي به ولكون ما ذكر في معنى العلة عطف عليه {ولنجعله} بما لنا من العظمة {آية للناس} أي: علامة على كمال قدرتنا على البعث أدل من الآية في يحيى عليه السلام وبه تمام القسمة الرباعية في خلق البشر فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر وحواء من ذكر بلا أثنى وآدم عليه السلام لا من ذكر ولا أنثى وبقية أولاده من ذكر وأنثى معاً {ورحمة منا} على العباد يهتدون به {وكان} ذلك كله {أمراً مقضياً} به في علمي وقوله تعالى:
{فحملته} فيه حذف تقديره فنفخنا فيها فحملته دل على ذلك قوله تعالى في سورة التحريم: {ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا} (الأنبياء، 91)، واختلف في النافخ فقال بعضهم: كان النفخ من اللّه تعالى لهذه الآية ولأنه تعالى قال: {إن مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم} (آل عمران، 59)
ومقتضى التشبيه حصول المشابهة إلا فيما أخرجه الدليل، وفي حق آدم النافخ هو اللّه تعالى قال تعالى: {ونفخت فيه من روحي} (الحجر، 29)
(5/164)
---(1/2332)
فكذا ههنا، وقال بعضهم: النافخ جبريل لأن الظاهر من قول جبريل عليه السلام : {لأهب لك} على أحد القراءتين أنه النافخ، واختلف في كيفية نفخه فقيل: إن جبريل عليه السلام رفع درعها فنفخ في جيبها فحملت حين لبسته، وقيل: مدّ إلى جيب درعها أصابعه ونفخ في الجيب، وقيل: نفخ في كمّ قميصها، وقيل: في فيها، وقيل: نفخ جبريل نفخاً من بعيد فوصل النفخ إليها فحملت بعيسى في الحال، وقيل: نفخ في ذيلها فدخلت النفخة في صدرها فحملت فجاءت أختها امرأة زكريا تزورها فلما التزمتها عرفت أنها حبلى وذكرت مريم حالها فقالت امرأة زكريا: إني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله تعالى: {مصدقاً بكلمة من اللّه} (آل عمران، 39)
وقيل: حملت وهي بنت ثلاث عشرة سنة، وقيل: بنت عشرين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل، قال الرازي: وليس في القرآن ما يدل على شيء من هذه الأقوال المذكورة. ثم عقب بالحمل قوله: {فانتبذت به} أي: فاعتزلت به وهو في بطنها حالة {مكاناً قصياً} أي: بعيداً من أهلها أو من المكان الشرقي، وأشار إلى قرب الولادة من الحمل بفاء التعقيب في قوله:
{فأجاءها} أي: فأتى بها وألجأها {المخاض} وهو تحرك الولد في بطنها للولادة {إلى جذع النخلة} وهو ما برز منها من الأرض ولم يبلغ الأغصان وكأنّ تعريفها لأنه لم يكن في تلك البلاد الباردة غيرها فكانت كالعلم لما فيها من العجب لأن النخل من أقل الأشجار صبراً على البرد ولعلها ألجئت إليها دون غيرها من الأشجار على كثرتها لمناسبة حال النخلة لها لأنها لا تحمل إلا باللقاح من ذكر النخل فحملها بمجرّد هزها أنسب شيء بإتيانها بولد من غير والد فكيف إذا كان ذلك في غير وقته، وكانت يابسة مع مالها فيها من المنافع بالاستناد إليها والاعتماد عليها وكون رطبها خرسة للنفساء وغاية في نفعها وغير ذلك والخرسة بخاء معجمة مضمومة طعام النفساء وهو مراد الجوهري بقوله: طعام الولادة.
(5/165)
---(1/2333)
قال ابن عباس: الحمل والولادة في ساعة واحدة، وقيل: ثلاث ساعات حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها، وقيل: كانت مدته تسعة أشهر كحمل سائر النساء، وقيل: كانت مدة حملها ثمانية أشهر وذلك آية أخرى له لأنه لا يعيش من ولد لثمانية أشهر وولد عيسى لهذه المدّة وعاش، وقيل: ولد لستة أشهر. ولما كان ذلك أمراً صعباً عليها جداً كان كأنه قيل: يا ليت شعري ما كان حالها؟ فقيل: {قالت} لما حصل عندها من خوف العار {يا ليتني مت} وأشارت إلى استغراق الزمان بالموت بمعنى عدم الوجود فقالت من غير جارّ {قبل هذا} أي: الأمر العظيم، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي مت بكسر الميم والباقون بالضم {وكنت نسياً} أي: شيئاً من شأنه أن يطرح وينسى {منسياً} أي: متروكاً بالفعل لا يخطر على بالٍ.
فإن قيل: لم قالت ذلك مع أنها كانت تعلم أن الله تعالى بعث جبريل عليه السلام إليها ووعدها بأن يجعلها وولدها آية للعالمين؟.
أجيب عن ذلك بأجوبة: الأول: أنها تمنت ذلك استحياء من الناس فأنساها الاستحياء بشارة الملائكة بعيسى. الثاني: أنّ عادة الصالحين إذا وقعوا في بلاء أن يقولوا ذلك كما روي عن أبي بكر رضي اللّه عنه أنه نظر إلى طائر على شجرة فقال: طوبى لك يا طائر تقع على الشجر وتأكل من الثمر وددت أني ثمرة ينقرها الطائر، وعن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تبنة من الأرض فقال: يا ليتني هذه التبنة ولم أكن شيئاً، وعن علي رضي اللّه عنه يوم الجمل: ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة، وعن بلال: ليت بلالاً لم تلده أمه فثبت أن هذا الكلام يذكره الصالحون عند اشتداد الأمر عليهم. الثالث: لعلها قالت ذلك لئلا يقع في المعصية من يتكلم فيها وإلا فهي راضية بما بشرت به، وقرأ حفص وحمزة نسياً بفتح النون والباقون بالكسر وقوله تعالى:
(5/166)
---(1/2334)
{فناداها من تحتها} قرأه نافع وحفص وحمزة بكسر من وجر التاء من تحتها والباقون بفتح من ونصب تحتها وأمال ألف ناداها حمزة والكسائى إمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح، وفي المنادي أوجه.
أحدها: أنه عيسى عليه السلام وهو قول الحسن وسعيد بن جبير.
ثانيها: أنه جبريل عليه السلام وأنه كالقابلة للولد.
(5/167)
---
ثالثها: أن المنادي على القراءة بالفتح هو عيسى وعلى القراءة بالكسر هو جبريل وهو مروي عن ابن عيينة وعاصم، قال الرازي: والأول أقرب وصدر به البيضاوي واقتصر الجلال المحلي على الثاني، والمعنى على الأول أن اللّه تعالى أنطقه لها حين ولدته تطييباً لقلبها وإزالة للوحشة عنها حتى تشاهد في أول الأمر ما بشرها به جبريل من علو شأن ذلك الولد، وعلى الثاني أن اللّه تعالى أرسله إليها ليناديها بهذه الكلمات كما أرسل إليها في أوّل الأمر تذكيراً للبشارات المتقدمة والضمير في تحتها للسيدة مريم وعلى تقدير أن يكون المنادي هو عيسى فهو ظاهر، وإن كان جبريل فقيل: إنه كان تحتها يقبل الولد كالقابلة، وقيل: تحتها أسفل من مكانها، وقيل: الضمير فيه للنخلة أي: ناداها من تحتها {أن لا تحزني} يجوز في أن أن تكون مفسرة لتقدمها ما هو بمعنى القول ولا على هذا ناهية وحذف النون للجزم وأن تكون الناصبة و{لا} حينئذٍ نافية وحذف النون للنصب ومحل {أن} إما نصب أو جرّ لأنها على حذف حرف الجر أي: فناداها بكذا {قد جعل ربك} أي: المحسن إليك {تحتك} في هذه الأرض التي لا ماء جار فيها {سرياً} أي: جدولاً من الماء تطيب به نفسك، قال الرازي: اتفق المفسرون إلا الحسن وعبد الرحمن بن زيد أن السري: هو النهر والجدول سمي بذلك لأن الماء يسري فيه، وأما الحسن وابن زيد فإنهما جعلا السري هو عيسى والسري هو النبيل الجليل يقال: فلان من سروات قومه أي: أشرافهم، واحتج من قال: هو النهر بأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن السري فقال: «هو الجدول»(1/2335)
وبقوله تعالى: {فكلي واشربي} فدل على أنه النهر حتى يضاف الماء إلى الرطب فتأكل وتشرب، واحتج من قال: إنه عيسى بأن النهر لا يكون تحتها بل إلى جنبها ولا يجوز أن يجاب عنه بأن المراد أنه جعل النهر تحت أمرها يجري بأمرها ويقف بأمرها كقول فرعون: {وهذه الأنهار تجري من تحتي} (الزخرف، 51)
(5/168)
---
لأن هذا حمل للفظ على مجازه ولو حملناه على عيسى لم يحتج إلى هذا المجاز وأيضاً فإنه موافق لقوله وجعلنا ابن مريم وأمه آية وأجيب: بأن المكان المستوي إذا كان فيه مبدأ معين فكل من كان أقرب منه كان فوق وكل من كان أبعد منه كان تحت.
تنبيه: إذا قيل بأن السري هو النهر ففيه وجهان؛ الأول: قال ابن عباس: إن جبريل ضرب برجله الأرض، وقيل: عيسى فظهر عين ماء عذب وجرى، وقيل: كان هناك ماء جار، قال ابن عادل: والأول أقرب لأن قوله قد جعل ربك تحتك سرياً يدل على الحدوث في ذلك الوقت ولأن اللّه تعالى ذكره تعظيماً لشأنها، وقيل: كان هناك نهر يابس أجرى اللّه فيه الماء وحييت النخلة اليابسة وأورقت وأثمرت وأرطبت، قال أبو عبيدة والفراء: لسري هو النهر مطلقاً، وقال الأخفش: هو النهر الصغير.
{وهزي إليك} أي: أوقعي الهز وهو جذب بتحريك {بجذع النخلة} أي: التي أنت تحتها مع يبسها وكون الوقت ليس وقت حملها {تساقط عليك} من أعلاها {رطباً جنياً} طرياً آية أخرى عظيمة روي أنها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ثمر، وكان الوقت شتاء فهزتها فجعل اللّه تعالى لها رأساً وخوصاً ورطباً، وقرأ حمزة بفتح التاء والسين مخففة وفتح القاف وحفص بضم التاء وفتح السين مخففة وكسر القاف والباقون بفتح التاء وتشديد السين مفتوحة وفتح القاف.
تنبيه: الباء في بجذع زائدة والمعنى هزّي إليك جذع النخلة كما في قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم} (البقرة، 195)
(5/169)
---(1/2336)
قال الفراء: تقول العرب: هزه وهزيه وخذ الخطام وخذ بالخطام وزوجتك فلانة وبفلانة، وقال الأخفش: يجوز أن يكون على معنى هزي إليك رطباً بجذع النخلة أي: على جذعها ورطباً تمييز وجنياً صفته والرطب اسم جنس بخلاف تخم فإنه جمع لتخمة والفرق: أنهم التزموا تذكيره فقالوا: هو الرطب وتأنيث ذلك فقالوا: هي التخم فذكروا الرطب باعتبار الجنس وأنثوا التخم باعتبار الجمعية، قال ابن عادل: وهو فرق لطيف والرطب ما قطع قبل يبسه وجفافه وخص الرطب بالذكر قال الربيع بن خيثم: ما للنفساء عندي خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل وهذه الأفعال الخارقة للعادة كرامات لمريم أو إرهاص لعيسى، وفي ذلك تنبيه على أنّ من قدر أن يثمر النخلة اليابسة في الشتاء قدر أن يحبلها من غير فحل وتطييب لنفسها فلذلك قال:
{فكلي} أي: من الرطب {واشربي} من السري أو كلي من الرطب واشربي من عصيره، {وقرّي عيناً} أي: وطيبي نفسك وارفضي عنها ما أحزنها، وقدّم الأكل على الشرب لأن حاجة النفساء إلى الرطب أشدّ من احتياجها إلى شرب الماء لكثرة ما سال منها من الدم.
فإن قيل: إن مضرة الخوف أشدّ من مضرة الجوع والعطش لأن الخوف ألم الروح والجوع ألم البدن وألم الروح أقوى من ألم البدن، روي أنه أجيعت شاة فقدّم إليها علف وعندها ذئب فبقيت الشاة مدّة مديدة لا تتناول العلف مع جوعها خوفاً من الذئب، ثم كسر رجلها وقدم إليها العلف فتناولت العلف مع ألم البدن فدل ذلك على أن ألم الخوف أشدّ من ألم البدن، وإذا كان كذلك فلم قدّم ضرر الجوع والعطش على دفع ضرر الخوف؟
(5/170)
---(1/2337)
أجيب: بأنّ هذا الخوف كان قليلاً لأنّ بشارة جبريل عليه السلام كانت قد تقدّمت فما كانت تحتاج إلا إلى التذكير مرة أخرى، وقيل: قرّي عيناً بولدك عيسى وقيل: بالنوم فإنّ المهموم لا ينام، وقوله: {فإمّا} فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة {ترينّ} حذفت منه لام الفعل وعينه وألقيت حركتها على الراء وكسرت ياء الضمير لالتقاء الساكنين، {من البشر أحداً} ينكر عليك {فقولي} يا مريم لذلك المنكر جواباً له مع التأكيد تنبيهاً على البراءة لأن البريء يكون ساكناً لاطمئنانه والمرتاب يكثر كلامه وحلفه، {إني نذرت للرحمن} أي: الذي عمت رحمته {صوماً} أي: إمساكاً عن الكلام في شأنه وغيره مع الإناسي بدليل {فلن أكلم اليوم إنسياً} فإنّ كلامي يقبل الردّ والمجادلة، ولكن يتكلم عني المولود الذي كلامه لا يقبل الدفع وأمّا أنا فأنزه نفسي عن مجادلة السفهاء، قالوا: ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافهاً فلا أكلم إلا الملائكة أو الخالق بالتسبيح والتقديس وسائر أنواع الذكر.
وقيل: صياماً لأنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم فعلى هذا كان ذكر الصوم دالاً على الصمت وهذا النوع من النذر كان جائزاً في شرعهم، وهل يجوز مثل هذا النذر في شرعنا؟ قال القفال: لعله يجوز لأنّ الاحتراز عن كلام الآدميين وتجريد الفكر بذكر اللّه تعالى قربة ولعله لا يجوز لما فيه من التضييق وتعذيب النفس كنذر القيام في الشمس، وروي أنه دخل أبو بكر رضي اللّه عنه على امرأة قد نذرت أنها لا تتكلم فقال أبو بكر: إنّ الإسلام قد هدم هذا فتكلمي.
تنبيه: اختلفوا في أنها هل قالت لهم إني نذرت للرحمن صوماً؟ فقال قوم: إنها ما تكلمت معهم بذلك لأنها كانت مأمورة بأنها تأتي بهذا النذر فلو تكلمت معهم بعد ذلك لوقعت في المناقضة ولكنها سكتت وأشارت برأسها وقال آخرون: إنها ما نذرت في الحال بل صبرت حتى أتاها القوم فذكرت لهم أنها نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا بعد هذا الكلام
(5/171)
---(1/2338)
{فأتت} أي: فلما سمعت هذا الكلام اشتدّ قلبها وزال حزنها فأتت {به} أي: عيسى {قومها} وإن كان فيهم قوّة المحاولة لكل ما يريدون إتيانه البرئ الموقن بأنّ الله معه حالة كونها {تحمله} غير مبالية بأحد ولا مستحيية واختلفوا في أنها كيف أتت به؟ فقيل: ولدته ثم حلمته في الحال إلى قومها، وقيل: احتمل يوسف النجار مريم وابنها إلى غار ومكثت فيه أربعين يوماً حتى طهرت من نفاسها ثم حملته إلى قومها فكلمها في الطريق فقال يا أمّاه أبشري فإني عبد الله ومسيحه فلما دخلت على أهلها ومعها الصبيّ بكوا وحزنوا وكانوا أهل بيت صالحين قال الرازي وليس في القرآن ما يدل على التعيين ثم كأنه قيل فلما أتت به قومها ماذا قالوا لها فقيل {قالوا يا مريم} ما هذا الولد؟ لأنّ حالها في إتيانها به أمر عجيب {لقد جئت شيئاً فرياً} أي: عظيماً منكراً فيكون ذلك منهم على وجه الذمّ فهو من أفرى الجلد يقال أفريت الأديم إذا قطعته على جهة الإفساد لا من فريته يقال فريته قطعته على جهة الإصلاح ويدل على أنّ مرادهم الأوّل قولهم بعده
{يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء} أي: زانياً {وما كانت أمّك بغياً} أي: زانية فمن أين لك هذا الولد لأنّ هذا القول ظاهره التوبيخ وفي هارون هذا أربعة أقوال؛
أحدها: أنه رجل صالح من بني إسرائيل ينسب إليه كل من عرف بالصلاح والمراد أنك كنت في الزهد كهارون فكيف صرت هكذا؟ وروي أنّ هارون هذا لما مات تبع جنازته أربعون ألفاً كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل تبركاً باسمه، سوى سائر الناس شبهوها به على معنى إنا ظننا أنك مثله في الصلاح وليس المراد منه الأخوّة في النسب كقوله تعالى: {إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين} (الإسراء، 27)
(5/172)
---(1/2339)
وروى المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت نجران سألوني فقالوا: إنكم تقرؤون يا أخت هارون، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال: «إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم» قال ابن كثير وأخطأ محمد بن كعب القرظي في زعمه أنها أخت موسى وهارون نسباً فإنّ بينهما من الدهور الطويلة ما لا يخفى على من عنده أدنى علم وكأنه غرّه في أوّل التوراة أنّ مريم أخت موسى وهارون ضربت بالدف يوم نجى الله تعالى موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه وجنوده فاعتقد أنّ هذه هي تلك وهذا في غاية البطلان والمخالفة للحديث الصحيح المتقدّم.
الثاني: أنه هارون أخو موسى لأنها كانت من نسله كما يقال التميمي يا أخا تميم وللهمداني يا أخا همدان أي: يا واحداً منهم.
الثالث: أنه كان فاسقاً في بني إسرائيل فنسبت إليه أي: شبهوها به.
الرابع: أنه كان لها أخ من أبيها يسمى هارون من صلحاء بني إسرائيل فعيرت به قال الرازي وهذا هو الأقرب لوجهين؛ الأول: أنّ الأصل في الكلام الحقيقة فيحمل الكلام على أخيها المسمى بهارون الثاني: أنها أضيفت إليه ووصف أبواها بالصلاح فحينئذٍ يصير التوبيخ أشدّ لأن من كان حال أبويه وأخيه بهذا الحال يكون صدور الذنب منه أفحش
(5/173)
---(1/2340)
{فأشارت إليه} أي: لما بالغوا في توبيخها سكتت وأشارت إلى عيسى عليه السلام أنه هو الذي يجيبكم قال ابن مسعود لما لم يكن لها حجة أشارت إليه ليكون كلامه حجة لها وعن السدي لما أشارت إليه غضبوا وقالوا سخريتها بنا أشدّ من زناها ثم {قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا} لم يبلغ سنّ هذا الكلام الذي لا يقوله إلا الأكابر العقلاء بل الأنبياء والتعبير بكان يدل على أنه عند الإشارة إليه لم يحوجهم إلا أن يكلموه بل حين سمع المحاورة ورأى الإشارة بدا منه قول خارق لعادة الرضعاء بل الصبيان روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابة يمينه وقيل: كلمهم ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان
تنبيه: في كان هذه أقوال أحدها: إنها زائدة وهو قول أبي عبيد أي: كيف نكلم من في المهد وصبياً على هذا نصب على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور الواقع صلة.
ثانيها: أنها تامّة بمعنى حدث ووجدوا والتقدير كيف نكلم من وجد صبياً؟ وصبياً حال من الضمير في كان قال الرازي وهذا هو الأقرب.
(5/174)
---(1/2341)
الثالث: أنها بمعنى صار أي: كيف نكلم من صار في المهد صبياً وصبياً على هذا خبرها، فإن قيل: كيف عرفت مريم من حال عيسى أنه يتكلم؟ أجيب: بأنّ جبريل أو عيسى عليه السلام لما ناداها من تحتها أن لا تحزني وأمرها عند رؤية الناس بالسكوت صار ذلك كالتنبيه لها على أنّ المجيب هو عيسى عليه السلام أو لعلها عرفت ذلك بالوحي إلى زكريا أو إليها على سبيل الكرامة واختلفوا في المهد فقيل: هو حجرها لما روي أنها أخذته عليه السلام في خرقة فأتت به قومها فلما رأوها قالوا لها ما قالوا فأشارت إليه وهو في حجرها ولم يكن لها منزل بعد حتى يعد لها المهد وقيل: هو المهد بعينه والمعنى كيف نكلم صبياً سبيله أن ينام في المهد وقال وهب: أتى زكريا مريم عند مناظرتها اليهود فقال لعيسى: انطق بحجتك إن كنت أمرت بها فوصف نفسه بثمان صفات الصفة الأولى:
(5/175)
---
{قال إني عبد الله} أي: الملك الأعظم الذي له صفات الكمال لا أتعبد لغيره وفي ذلك إشارة إلى أنّ عبد الله لا يتخذ إلهاً من دونه ولا يستعبده شيطان ولا هوى.
الصفة الثانية: قوله تعالى {آتاني الكتاب} واختلف في ذلك الكتاب فقال بعضهم هو التوراة لأنّ الألف واللام في الكتاب تنصرف للمعهود والكتاب المعهود لهم هو التوراة وقال أبو مسلم هو الإنجيل لأنّ الألف واللام ههنا للجنس وقال قوم التوراة والإنجيل لأنّ الألف واللام تفيد الاستغراق واقتصر البيضاوي على الأوّل والبقاعي على الثالث وزاد عليه والزبور وغيرها من الصحف.
الصفة الثالثة: قوله {وجعلني نبيا} واختلف في معنى ذلك فقيل معناه سيؤتيني الكتاب ويجعلني نبياً وأتى بلفظ الماضي بجعل المحقق وقوعه كالواقع كما في قوله تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} (النحل، 1)(1/2342)
وقيل: هو إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ كما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم متى كنت نبياً قال كنت وآدم بين الروح والجسد وقال الأكثرون أوتي الإنجيل وهو صغير طفل وكان يعقل عقل الرجال وقال الحسن أُلهم التوراة وهو في بطن أمه. الصفة الرابعة قوله:
{وجعلني مباركاً} بأنواع البركات {أينما} أي في أي مكان {كنت} وذكروا في تفسير المبارك وجوها.
أحدها: أنّ البركة في اللغة هي الثبات وأصله من بروك البعير ومعناه وجعلني ثابتاً على دين الله تعالى مستمرّاً عليه.
(5/176)
---
ثانيها: إنما كان مباركاً لأنه كان يعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى طريق الحق فإن ضلوا فمن قبل أنفسهم لا من قبله، روى الحسن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: سلمت أم عيسى عيسى إلى الكتاب فقالت للمعلم أدفعه إليك على أن لا تضربه فقال له المعلم اكتب فقال: أيّ شيء أكتب؟ فقال: اكتب أبجد، فرفع عيسى عليه السلام رأسه فقال هل تدري ما أبجد؟ فعلاه بالدرّة ليضربه فقال: يا مؤّدب لا تضربني إن كنت لا تدري فاسألني فإنني أعلمك؛ الألف من آلاء الله والباء من بهائه والجيم من جماله والدال من أداء الحق إلى الله تعالى».
ثالثها: البركة الزيادة والعلوّ فكأنه قال: جعلني في جميع الأحوال منجحاً مفلحاً لأني ما دمت أتقي الله في الدنيا أكون مستعلياً على الغير بالحجة فإذا جاء الوقت المعلوم أكرمني الله تعالى بالرفع إلى السماء.
رابعها: مباركاً على الناس من حيث يحصل بسبب دعائه إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وعن قتادة أنّ امرأة رأته وهو يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص فقالت طوبى لبطن حملك وثدي أرضعت به فقال عيسى مجيباً لها طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ولم يكن جباراً شقياً
تنبيه: قوله: أينما كنت يدل على أنّ حاله لم يتغير كما قيل أنه عاد إلى حال الصغر وزوال التكليف.(1/2343)
الصفة الخامسة قوله: {وأوصاني بالصلاة} له طهرة للنفس {والزكاة} طهرة للمال فعلاً في نفسي وأمراً لغيري {ما دمت حيا} ليكون ذلك حجة على من ادّعى أنه إله لأنه لا شبهة في أنّ من يصلي إلى إله ليس بإلاه.
(5/177)
---
فإن قيل: كيف يؤمر بالصلاة والزكاة مع أنه كان طفلاً والقلم مرفوع عن الصغير لقوله صلى الله عليه وسلم «رفع القلم عن ثلاث» الحديث. أجيب بوجهين؛ الأوّل: أنّ ذلك لا يدل على أنه تعالى أوصاه بأدائهما في الحال بل بعد البلوغ فيكون المعنى أوصاني بأدائهما في وقت وجوبهما عليّ وهو وقت البلوغ، الثاني: أنّ عيسى لما انفصل صيره الله بالغاً عاقلاً تامّ الخلقة ويدل عليه قوله تعالى: {إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم} (آل عمران، 59)
فكما أنه تعالى خلقه آدم تاماً كاملاً دفعة فكذا القول في عيس عليه السلام ، قال الرازي: وهذا أقرب إلى ظاهر اللفظ لقوله ما دمت حياً فهذ يفيد أن هذا التكليف متوجه عليه جميع زمان حياته.
فإن قيل: لو كان الأمر كذلك لكان القوم حين رأوه رأوا شخصاً كامل الأعضاء تام الخلقة وصدور الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكون عجباً فكان ينبغي أن لا يتعجبوا.
أجيب: بأنه تعالى جعله مع صغر جثته قويّ التركيب كامل العقل بحيث كان يمكنه أداء الصلاة والزكاة والآية والة على أن تكليفه لم يتغير حين كان في الأرض وحين رفع إلى السماء وحين ينزل.
الصفة السادسة قوله:
{وبرّا} أي: وجعلني بارا ولما كان السياق لبراءة والدته قال: {بوالدتي} أي: التي أكرمها الله تعالى بإحصان الفرج والحمل بي من غير ذكر وفي ذلك إشارة إلى تنزيه أمّه عن الزنا إذ لو كانت زانية لما كان الرسول المعصوم مأموراً بتعظيمها.(1/2344)
الصفة السابعة: قوله: {ولم يجعلني جباراً} متعاظماً {شقياً} أي: عاصياً بأن أفعل فعل الجبارين بغير استحقاق إنما أفعل ذلك بمن يستحق وروي عن عيسى عليه السلام أنه قال قلبي لين وإني ضعيف في نفسي وعن بعض العلماء لا أجد العاق إلا جباراً شقياً ولا أجد سي الملكية إلا مختالاً فخوراً وتلا وما ملكت أيمانكم أنّ الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً الصفة الثامنة: قوله:
(5/178)
---
{والسلام} من الله {عليّ} فلا يقدر أحد على ضرّى {يوم ولدت} فلا يضرني شيطان {ويوم أموت} فلا يضرني أيضاً ومن يولد ويموت فليس بإلاه {ويوم أبعث حياً} يوم القيامة كما تقدم في يحيى عليه السلام وفي ذلك إشارة إلى أنه في البشرية مثله سواء لم يفارقه أصلاً إلا في كونه من غير ذكر وإذا كان جنس السلام عليه كان اتباعه كذلك ولم يبق لأعدائه إلا اللعن، ونظيره قول موسى عليه السلام {والسلام على من اتبع الهدى} (طه، 47)
بمعنى أنّ العذاب على من كذب وتولى
{ذلك} أي: الذي تقدّم نعته بقوله: {إني عبد الله} إلى آخره هو {عيسى بن مريم} لا ما يصفه النصارى بقولهم أنه الله أو ابنه أو إله ثالث فهو تكذيب لهم فيما يصفونه على الوجه الأبلغ والطريق البرهاني حيث جعل الموصوف بأضداد ما يصفونه وفي ذلك تنصيص على أنه ابن هذه المرأة وقوله تعالى: {قول الحق} قرأ عاصم وابن عامر بنصب اللام على أنه مصدر مؤكد والباقون بالرفع على أنه خبر محذوف أي: هو قول الحق الذي لا ريب فيه والإضافة للبيان والضمير للكلام السابق أو لتمام القصة ثم عجب تعالى من ضلالهم فيه بقوله تعالى {الذي فيه يمترون} أي: يشكون شكاً يتكلفونه ويجادلون فيه فتقول اليهود ساحر وتقول النصارى ابن الله مع أنّ أمه امرأة في غاية الوضوح ليس موضعاً للشك أصلاً ثم دل على كونه حقاً في كونه ابناً لأمّه مريم لا غيرها بقوله رداً على من ضلّ
(5/179)
---(1/2345)
{ما كان} أي: ما صح ولا يتأتى ولا يتصوّر في العقول ولا يصح ولا يأتي لأنه من المحال لكونه يلزم منه الحاجة {لله} الغني عن كل شيء {أن يتخذ من ولد} وأكده بمن لأنّ المقام يقتضي النفي العام، ولما كان اتخاذ الولد من النقائص أشار إلى ذلك بالتنزيه العام بقوله تعالى: {سبحانه} أي: تنزه عن كل نقص أي: من احتياج إلى ولد أو غيره ثم علل ذلك بقوله عز وجل {إذا قضى أمراً} أي: أيّ أمر كان أي: أراد أن يحدثه {فإنما يقول له كن} أي: يريده ويعلق قدرته به وقوله تعالى: {فيكون} قرأه ابن عامر بنصب النون بتقدير أن أو على الجواب والباقون بالرفع بتقدير هو وقوله:
{وإنّ الله ربي وربكم} إخبار عن عيسى عليه السلام أنه قال ذلك وقرأ ابن عامر والكوفيون بكسر الهمزة على الاستئناف والباقون بفتحها بتقدير حذف حرف الجرّ متعلق بما بعده والتقدير ولأنّ الله ربي وربكم {فاعبدوه} وحده لتفرده بالإحسان كما أعبده كقوله تعالى: {وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} (الحجر، 18)، والمعنى لوحدانيته أطيعوه وقيل: إنه عطف على الصلاة والتقدير وأوصاني بالصلاة وبأنّ الله وإليه ذهب الفراء {هذا} أي: الذي أمرتكم به {صراط} أي: طريق {مستقيم} أي: يقود إلى الجنة وقرأ قنبل بالسين وخلف بإشمام الصاد والباقون بالصاد الخالصة، واختلف في قوله تعالى:
{فاختلف الأحزاب من بينهم} فقيل هم النصارى واختلافهم في عيسى أهو ابن الله أو إله معه أو ثالث ثلاثة وسموا أحزاباً لأنهم تحزبوا ثلاث فرق في أمر عيسى النسطورية والملكانية واليعقوبية، وقيل: هم اليهود والنصارى فجعله بعضهم ولداً وبعضهم كذاباً، وقيل: هم الكفار الشامل لليهود والنصارى وغيرهم من الذين كانوا في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ابن عادل: وهذا هو الظاهر لأنه لا تخصيص فيه ويؤيده قوله تعالى: {فويل للذين كفروا} أي: شدّة عذاب لهم {من مشهد يوم عظيم} أي: حضور يوم القيامة وأهواله وقوله تعالى:
(5/180)
---(1/2346)
{أسمع بهم وأبصر} أي: بهم، صيغتا تعجب بمعنى ما أسمعهم وما أبصرهم {يوم يأتوننا} في الآخرة لأنّ حالهم في شدّة السمع والبصر جديرة بأن يتعجب منها فيندمون حيث لا ينفعهم الندم ويتمنون المحال من الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا فلا يجابون إلى ذلك بل يسلك بهم في كل ما يؤذيهم ويهلكهم ويرديهم وقوله تعالى: {لكن الظالمون} من إقامة الظاهر مقام المضمر إشعاراً بأنهم ظلموا أنفسهم حيث أغفلوا الاستماع والنظر والأصل ولكنهم {اليوم} أي: في الدنيا {في ضلال مبين} أي: بين بذلك الضلال صموا عن سماع الحق وعموا عن إبصاره أي: اعجب منهم يا مخاطب في سمعهم وإبصارهم في الآخرة بعد أن كانوا في الدنيا صماً وعمياً، وقيل: معناه التهديد بما سيسمعونه وسيبصرون ما يسوءهم ويصدع قلوبهم ثم إنّ الله تعالى أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن ينذر قومه بقوله:
(5/181)
---
{وأنذرهم} أي: خوّفهم {يوم الحسرة} هو يوم القيامة يتحسر فيه المسيء على ترك الإحسان والمحسن على عدم الازدياد من الإحسان لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من أحد يموت إلا ندم قالوا وما ندمه يا رسول الله قال إن كان محسناً ندم أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون نزع» وفي قوله تعالى: {إذ قضى الأمر} وجوه:
أحدها: إذ قضى الأمر ببيان الدلائل وشرح أمر الثواب والعقاب.
ثانيها: إذ قضى الأمر يوم الحسرة بفناء الدنيا وزوال التكليف.(1/2347)
ثالثها: قضى الأمر فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وذبح الموت كما روى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى: {إذ قضي الأمر} فقال: «حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح فيذبح والفريقان ينظران فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرح وأهل النار غماً إلى غم» وقوله تعالى: {وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} جملتان حاليتان وفيهما قولان؛ أحدهما: أنهما حالان من الضمير المستتر في قوله في ضلال مبين أي: استقرّوا في ضلال مبين على هاتين الحالتين السيئتين، والثاني: أنهما حالان من مفعول أنذرهم أي: أنذرهم على هذه الحالة وما بعدها وعلى الأوّل يكون قوله وأنذرهم اعتراضاً والمعنى وهم في غفلة عما يفعل بهم في الآخرة وهم لا يصدّقون بذلك اليوم ولما كان الإرث هو حوز الشيء بعد موت أهله وكان سبحانه وتعالى قد قضى بموت الخلائق أجمعين وأنه تعالى يبقى وحده عبّر عن ذلك بالإرث مقرّراً به مضمون الكلام السابق فقال مؤكداً تكذيباً لقولهم: إنّ الدهر لا يزال هكذا حياة لناس وموت لآخرين
{إنّا نحن} بعظمتنا التي اقتضت ذلك {نرث الأرض} فلا ندع بها شيئاً من عاقل ولا غيره ولما كان العاقل أقوى من غيره صرح به بعد دخوله فقال {ومن عليها} أي: من العقلاء بأن نسلبهم جميع ما في أيديهم {وإلينا} لا إلى غيرنا {يرجعون} فنجازيهم بأعمالهم.
(5/182)
---
القصة الثالثة: قصة إبراهيم عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:
{واذكر في الكتاب إبراهيم} أي: خبره وقرأ هشام إبراهام بألف بعد الهاء والباقون بالياء وإنما أمر الله تعالى نبيه بالذكر لذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان هو ولا قومه ولا أهل بلده مشتغلين بالتعليم ومطالعة الكتب فإذا أخبر عن هذه القصة كما كانت من غير زيادة ولا نقصان كان ذلك إخباراً عن الغيب ومعجزاً باهراً دالاً على نبوّته، وإنما ذكر الاعتبار بقصة إبراهيم عليه السلام لوجوه:(1/2348)
الأوّل: أنّ منكري التوحيد والذين أثبتوا توحيداً ومعبوداً سوى الله تعالى فريقان منهم من أثبت معبوداً غير الله تعالى حياً عاقلاً وهم النصارى، ومنهم من أثبت معبوداً غير الله تعالى جماداً ليس بحيّ ولا عاقل وهم عبدة الأوثان والفريقان وإن اشتركا في الضلال، إلا أنّ ضلال عبدة الأوثان أعظم فلما بين الله تعالى ضلال الفريق الأوّل تكلم في ضلال الفريق الثاني وهم عبدة الأوثان.
الثاني: أنّ إبراهيم عليه السلام كان أبا العرب وكانوا مقرّين بعلوّ شأنه وطهارة دينه على ما قال تعالى أبيكم إبراهيم، وقال تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} (البقرة، 130)
فكأنه تعالى قال للعرب: إن كنتم مقلدين لأبيكم على قولكم: {إنا وجدنا آباءنا على أمة} (الزخرف، 22)
فأشرف آبائكم وأعلاهم قدراً هو إبراهيم عليه السلام فقلدوه في ترك عبادة الأصنام والأوثان، وإن كنتم مستدلين فانظروا في هذه الدلائل التي ذكرها إبراهيم عليه السلام لتعرفوا فساد عبادة الأوثان وبالجملة فاتبعوا إبراهيم إمّا تقليداً وإمّا استدلالاً.
(5/183)
---
الثالث: أنّ كثيراً من الكفار في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون نترك دين آبائنا وأجدادنا فذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام وهو أنه ترك دين أبيه وأبطل قوله بالدليل ورجح متابعة الدليل على متابعة أبيه ثم قال تعالى في صفة إبراهيم {إنه كان} جبلةً وطبعاً {صدّيقاً} أي: بليغ الصدق في نفسه في أقواله وأفعاله أي: كان من أوّل وجوده إلى انتهائه موصوفاً بالصدق والصيانة وسيأتي الكلام على قوله: {بل فعله كبيرهم هذا} (الأنبياء، 63)
{وإني سقيم} (الصافات، 89)
في محله ولما كانت مرتبة النبوّة أرفع من مرتبة الصدّيقية قال تعالى: {نبيا} أي: استنبأه الله تعالى:(1/2349)
إذ لا رفعة أعلى من رفعة من جعله الله واسطة بينه وبين عباده وقوله تعالى {إذ قال} بدل من إبراهيم وما بينهما اعتراض أو متعلق بكان أو بصدّيقاً نبياً أي: كان جامعاً لخصائص الصدّيقين والأنبياء حين قال {لأبيه} آزر هادياً له من تيه الضلال بعبادة الأصنام مستعطفاً له في كل جملة بقوله: {يا أبت} والتاء عوض عن ياء الإضافة ولا يجمع بينهما وقرأ ابن عامر بفتح التاء في الوصل والباقون بكسرها وأمّا الوقف فوقف ابن كثير وابن عامر بالهاء والباقون بالتاء، ثم إنّ الله تعالى حكى عنه أيضاً: أنه تكلم مع أبيه بأربعة أنواع من الكلام النوع الأوّل قوله: {لم تعبد} مريداً بالاستفهام المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل في نصحه له كاشفاً الأمر غاية الكشف بقوله: {ما لا يسمع ولا يبصر} أي: ليس عنده قابلية لشيء من هذين الوصفين ليرى ما أنت فيه من خدمته أو يجيبك إذا ناديته حالاً أو مآلاً {ولا يغني عنك شيئاً} في جلب نفع ودفع ضرّ فوصف الأوثان بصفات ثلاث كل واحدة منها قادحة في الآلهية وبيان ذلك من وجوه:
(5/184)
---
أحدها: أنّ العبادة غاية التعظيم فلا تستحق إلا لمن له غاية الإنعام وهو الإله الذي منه أصول النعم وفروعها على ما تقرّر في تفسير قوله: {وإنّ الله ربي وربكم} (مريم، 36)
وكما أنه لا يجوز الاشتغال بشكر ما لم تكن منعمة وجب أن لا يجوز الاشتغال بعبادتها.
وثانيها: أنها إذا لم تسمع ولا تبصر ولا تميز من يطيعها عمن يعصيها فأيّ فائدة في عبادتها؟ وهذا تنبيه على أنّ الإله يجب أن يكون عالماً بكل المعلومات.
وثالثها: أنّ الدعاء مخ العبادة فإذا لم يسمع الوثن دعاء الداعي فأيّ منفعة في عبادته وإذا لم يبصر تقرّب من يتقرّب إليه فأيّ منفعة في ذلك التقرّب.
ورابعها: أنّ السامع المبصر الضارّ النافع أفضل ممن كان عارياً عن كل ذلك والإنسان موصوف بهذه الصفات فيكون أفضل وأكمل من الوثن فكيف يليق بالأفضل عبودية الأخس.(1/2350)
وخامسها: إن كانت لا تنفع ولا تضر فلا يرجى بها منفعة ولا يخاف من ضررها فأيّ فائدة في عبادتها؟.
وسادسها: إذا كانت لا تحفظ نفسها عن الكسر والإفساد حين جعلها إبراهيم عليه السلام جذاذاً فأي رجاء فيها للغير؟ فكأنه عليه السلام قال: ليست الإلهية إلا لرب يسمع ويبصر ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه، النوع الثاني: قوله:
{يا أبت إني قد جاءني} من المعبود الحق {من العلم ما لم يأتك} منه {فاتّبعني} أي: فتسبب من ذلك أني أقول لك وجوباً عليّ للنهي عن المنكر ونصيحة لمالك عليّ من الحق اجتهد في تبعي {أهدك صراطاً} أي: طريقاً {سوياً} أي: مستقيماً كما أني لو كنت معك في طريق محسوس وأخبرتك أنّ أمامنا مهلكاً لا ينجو منه أحد وأمرتك أن تسلك مكاناً غير ذلك لأطعتني ولو عصيتني فيه عدّك كل أحد غاوياً.
النوع الثالث: قوله:
(5/185)
---
{يا أبت لا تعبد الشيطان} فإنّ الأصنام ليس لها دعوة أصلاً والله تعالى قد حرّم عبادة غيره مطلقاً على لسان كل وليّ فتعين أن يكون الآمر بذلك الشيطان فكأنه هو المعبود بعبادتها في الحقيقة ثم علل هذا النهي بقوله {أنّ الشيطان} البعيد من كل خير المحترق باللعنة {كان للرحمن عصياً} بالقوّة من حين خلق وبالفعل من حين أمره بالسجود لأبيك آدم عليه السلام فأبى فهو عدوّ لله وله والمطيع للعاصي لشيء عاص لذلك الشيء لأنّ صديق العدوّ عدوّ.(1/2351)
فإن قيل: هذا القول يتوقف على إثبات أمور؛ أحدها: إثبات الصانع، وثانيها: إثبات الشيطان، وثالثها: أنّ الشيطان عاص، ورابعها: أنه لما كان عاصياً لم تجز طاعته، وخامسها: أن الاعتقاد الذي كان عليه آزر مستفاد من طاعة الشيطان ومن شأن الدلالة التي تورد على الشخص أن تكون مركبة من مقدّمات معلومة ليسلمها الخصم ولعلّ إبراهيم كان منازعاً في هذه المقدّمات وكيف والمحكي عنه أنه ما كان يثبت إلهاً سوى نمروذ فكيف يسلم وجود الرحمن وإذا لم يسلم وجوده فكيف يسلم أنّ الشيطان عاص للرحمن وبتقدير تسليم ذلك فكيف يسلم الخصم بمجرّد هذا الكلام أنّ مذهبه مقتبس من الشيطان بل لعله يغلب ذلك على خصمه؟ وأجيب: بأنّ الحجة المعوّل عليها في إبطال مذهب آزر هو قوله: {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئاً} وهذا الكلام جرى مجرى التخويف والتحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدلالة فيسقط السؤال. النوع الرابع قوله:
(5/186)
---
{يا أبت إني أخاف} لمحبتي لك وعزتي عليك {أن يمسك عذاب} أي: كائن {من الرحمن} الذي هو مولى كل من تولاه لعصيانك إياه {فتكون} أي: فتسبب عن ذلك أن تكون {للشيطان ولياً} أي: ناصراً وقريناً في النار ولما دعا إبراهيم عليه السلام أباه إلى التوحيد وذكر الدلائل على فساد عبادة الأوثان وأردف تلك الدلائل بالوعظ البليغ وأورد كل ذلك مقروناً بالرفق واللطف قابله أبوه بجواب يضاد ذلك فقابل حجته بالتقليد فإنه لم يذكر في مقابلة حجته إلا أن
n
(5/187)
---(1/2352)
{قال أراغب أنت عن آلهتي} بإضافتها إلى نفسه فقط إشارة إلى مبالغته في تعظيمها والرغبة عن الشيء تركه عمداً فأصر على ادعاء إلهيتها جهلاً وتقليداً وقابل قوله بالرفق يا أبت بالعنف حيث لم يقل يا بنيّ بل قال {يا إبراهيم} وقابل وعظه بالسفاهة حيث هدده بالضرب والشتم بقوله مقسماً {لئن لم تنته} عما أنت عليه {لأرجمنك} أي: لأقتلنك أو لأرجمنك بالحجارة حتى تموت أو تبعد عني أو بالكلام القبيح فاحذرني {واهجرني} أي: بعد عني بالمفارقة من الدار والبلد وهي كهجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أي: تباعد عني {ملياً} أي: دهراً طويلاً لكي لا أراك، وقيل: اهجرني بالقول ولا تخاطبني دهراً طويلاً لأجل ما صدر منك من هذا الكلام وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وتأسية فيما كان يلقى من الأذى ويقاسي من قومه من العناد ومن عمه أبي لهب من الشدائد بأعظم آبائه وأقربهم به شبهاً، فلما سمع إبراهيم عليه السلام كلام أبيه أجاب بأمرين أحدهما أن
{قال} له مقابلاً لما كان منه من طيش الجهل بما يحق لمثله من رزانة العقل والعلم {سلام عليك} توديع ومتاركة أي: سلمت مني لا أصيبك بمكروه ما لم أؤمر فيك بشيء فإنه لم يؤمر بقتاله على كفره كقوله: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} (القصص، 55)
{وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} (الفرقان، 63)
وهذا يدل على جواز متاركة المنصوح إذا ظهر منه اللجاج وعلى أنه يحسن مقابلة الإساءة بالإحسان ويجوز أن يكون دعاء له بالسلامة استمالة، ألا ترى أنه وعده بالاستغفار فيكون سلام برّ ولطف وهو جواب الحليم للسفيه كقوله تعالى: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} (الفرقان، 63)
(5/188)
---(1/2353)
ثم استأنف قوله: {سأستغفر لك ربي} أي: المحسن إليّ بأن أطلب لك منه غفران ذنوبك بأن يوفقك للإسلام {إنه كان بي حفياً} أي: مبالغاً في إكرامي مرّة بعد مرّة وكرّة في إثر كرّة وقد وفىّ بوعده بقوله المذكور في الشعراء: {واغفر لأبي} (الشعراء، 86)
وهذا قبل أن يتبين له أنه عدوّ لله كما ذكره في براءة، وثانيهما: أنه قال له انقياداً لأمر أبيه
{وأعتزلكم} أي: جميعاً بترك بلادكم وأشار إلى أنّ من شرط المعبود أن يكون أهلاً للمناداة في الشدائد بقوله {وما تدعون} أي: تعبدون {من دون الله} الذي له الكمال كله فمن أقبل عليه وحده أصاب ومن أقبل على غيره ولو طرفة عين فقد خاب وخسر {وأدعو} أي: أعبد {ربي} وحده لاستحقاقه ذلك مني ولم يقيد الاعتزال بزمن بل أشار إلى أنهم ما داموا على هذا الدين فهو معتزل لهم ثم دعا لنفسه بما ينبههم به على خسة مسعاهم فقال غير جازم بإجابة دعوته وقبول عبادته إجلالاً لربه وهضماً لنفسه {عسى أن لا أكون بدعاء ربي} المنفرد بالإحسان إليّ {شقياً} أي: كما شقيتم بعبادة الأصنام فإنها لا تجيب دعاءكم ولا تنفعكم ولا تضرّكم ولما رأى من أبيه ومعاشرته ما رأى عزم على غربة مشقة النوى مختاراً للغربة في البلاد على غربة الأضداد فكان كما قال الإمام أبو سليمان الخطابي:
*وما غربة الإنسان في شقة النوى
** ولكنها والله في عدم الشكل
*وإني غريب بين بست وأهلها
** وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
وحقق ما عزم عليه فبين سبحانه وتعالى تحقيق رجائه وإجابة دعائه فقال:
(5/189)
---(1/2354)
{فلما اعتزلهم} أي: بالهجرة إلى الأرض المقدّسة {وما يعبدون من دون الله} لم يضرّه ذلك ديناً ولا دنيا بل نفعه وعوّضه الله أولاداً كما قال تعالى {وهبنا له} كما هو الشأن في كل من ترك شيئاً لله {إسحاق} ولداً له لصلبه من زوجته العاقر العقيم بعد تجاوزها سنّ اليأس وأخذه هو في السنّ إلى حد لا يولد لمثله {ويعقوب} ولداً لإسحاق وخصهما بالذكر للزومهما محل إقامته وقيامهما بعد موته بخلافته فيه وأمّا إسماعيل عليه السلام فكان الله سبحانه وتعالى هو المتولي لتربيته بعد نقله رضيعاً إلى المسجد الحرام وإحيائه تلك المشاعر العظام فأفرده بالذكر جاعلاً له أصلاً برأسه بقوله بعد {واذكر في الكتاب إسماعيل} فترك ذكره مع إسحاق الذي هو أخوه لذلك ثم صرح بما وهب لأولاده جزاءً على هجرته بقوله تعالى: {وكلاً} أي: منهما {جعلنا نبياً} عالي المقدار ويخبر بالأخبار العظيمة كما جعلنا إبراهيم عليه السلام نبياً
{ووهبنا لهم} كلهم {من رحمتنا} أي: شيئاً منها عظيماً من النسل الطاهر والذرّية الطيبة وإجابة الدعاء واللطف في القضاء والبركة في المال والأولاد وغير ذلك من خيري الدنيا والآخرة {وجعلنا لهم لسان صدق علياً} وهو الثناء الحسن وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهو العطية واستجاب الله تعالى دعوته في قوله تعالى: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء، 84)
فصيره قدوة حتى ادعاه أهل الأديان كلهم فقال تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم} (الحج، 87)
وقد اجتمعت فيه خصال لم تجتمع في غيره أوّلها أنه اعتزل عن الخلق على ما قال {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله} فلا جرم بارك الله له في أولاده فقال: {ووهبنا له إسحق ويعقوب وكلا جعلنا نبياً}. ثانيها: أنه تبرأ من أبيه كما قال عز وجل {فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرّأ منه} (التوبة، 114)
(5/190)
---(1/2355)
لا جرم سماه الله أبا المسلمين فقال: ملة أبيكم إبراهيم ثالثها: تلّ ولده للجبين ليذبحه في الله على ما قال تعالى: {وتله للجبين} (الصافات، 103)
لا جرم فداه الله تعالى على ما قال {وفديناه بذبح عظيم} (الصافات، 107)
. رابعها: أسلم نفسه فقال: {أسلمت لرب العالمين} فجعل الله تعالى النار برداً وسلاماً عليه فقال: {يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} (الأنبياء، 69)
خامسها: أشفق على هذه الأمّة فقال: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم} (البقرة، 129)
لا جرم أشركه الله تعالى في الصلوات في قوله: {كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم} سادسها: وفي حق سارة في قوله تعالى: {وإبراهيم الذي وفى} (النجم، 37)
لا جرم جعل موطئ قدميه مباركاً {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} (البقرة، 125)
سابعها: عادى كل الخلق في الله فقال فإنهم عدوّ لي إلا رب العالمين فاتخذه الله خليلاً كما قال: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} (النساء، 125)
ليعلم صحة قولنا ما خير على الله أحداً.
القصة الرابعة قصة موسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى
(5/191)
---(1/2356)
{واذكر في الكتاب} أي: الذي لا كتاب مثله في الكمال {موسى} أي: الذي أنقذ الله به بني إسرائيل من العبودية ثم إنّ الله تعالى وصفه بأمور أحدها قوله تعالى: {إنه كان مخلصاً} قرأه عاصم وحمزة والكسائي بفتح اللام أي: مختاراً اختاره الله تعالى واصطفاه وقيل أخلصه الله تعالى من الدنس والباقون بالكسر أي: أخلص التوحيد لله والعبادة ومتى ورد القرآن بقراءتين فكل منهما ثابت مقطوع به فجعل الله تعالى من صفة موسى عليه السلام كلا الأمرين. ثانيها: قوله تعالى: {وكان رسولاً} إلى بني إسرائيل والقبط {نبياً} ينبئه الله بما يريد من وحيه لينبئ به المرسل إليهم فيرتفع بذلك قدره فلذلك صرح بها بعد دخولها في الرسالة ضمناً إذ كل رسول نبيّ وليس كل نبيّ رسولاً خلافاً للمعتزلة فإنهم زعموا كونهما متلازمين فكل رسول نبيّ وكل نبيّ رسول وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في سورة الحج عند قوله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ} (الحج، 52)
ثالثها: قوله تعالى:
{وناديناه} أي: بما لنا من العظمة {من جانب الطور} هو اسم جبل {الأيمن} أي: الذي يلي يمين موسى حين أقبل من مدين فأنبأناه هناك حين كان متوجهاً إلى مصر بأنه رسولنا ثم واعدناه إليه بعد إغراق آل فرعون فكان لبني إسرائيل به من العجائب في رحمتهم بإنزال الكتاب والإلذاذ بالخطاب من جوف السحاب وفي إماتتهم لما طلبوا الرؤية ثم إحيائهم وغير ذلك ما يجل عن الوصف. رابعها: قوله تعالى {وقرّبناه} بما لنا من العظمة تقريب تشريف حالة كونه {نجياً} نخبره من أمرنا بلا واسطة من النجوى وهي السر والكلام بين اثنين كالسر وقيل قرب مكان أي: مكانا عالياً، عن أبي العالية أنه قرب حتى سمع صرير القلم حيث يكتب التوراة في الألواح وقيل أنجيناه من أعدائه، خامسها: قوله تعالى:
(5/192)
---(1/2357)
{ووهبنا له} أي: هبة تليق بعظمتنا {من رحمتنا} أي: من أجل رحمتنا أو بعض رحمتنا {أخاه} أي: معاضدة أخيه وموازرته لا شخصه وإخوته وذلك إجابة لدعوته {واجعل لي وزيراً من أهلي هارون} (طه: 29، 30)
فإنه كان أسن من موسى
تنبيه: أخاه مفعول أو بدل على تقدير أن تكون من للتبعيض وقوله: {هارون} عطف بيان وقوله {نبياً} حال منه هي المقصودة بالهبة.
القصة الخامسة: قصة إسماعيل عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:
{واذكر في الكتاب إسماعيل} بن إبراهيم عليهما السلام الذين هم معترفون بنبوّته ومفتخرون برسالته وأبوّته فلزم من ذلك فساد تعليلهم إنكار نبوّتك بأنك من البشر ثم إنّ الله تعالى وصف إسماعيل بأمور:
أوّلها: قوله تعالى: {إنه كان} أي: جبلة وطبعاً {صادق الوعد} في حق الله وفي حق غيره لمعونة الله له على ذلك بسبب أنه لا يعد وعداً إلا مقروناً بالاستثناء كما قال لأبيه حين أخبره بأمر ذبحه: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} (الصافات، 102)
وخصه بالمدح به وإن كان الأنبياء كلهم كذلك لقصة الذبح فلا يلزم منه تفضيله مطلقاً وروي عن ابن عباس أنه وعد صاحباً له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة وروي أنّ عيسى عليه السلام قال له رجل انتظرني حتى آتيك فقال عليه السلام نعم وانطلق الرجل ونسي الميعاد فجاء إلى حاجته إلى ذلك المكان وعيسى عليه السلام هناك للميعاد، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه واعد رجلاً ونسي ذلك الرجل فانتظره من الضحى إلى غروب الشمس» وسئل الشعبي عن الرجل يعد ميعاداً إلى أيّ وقت ينتظره؟ قال: فإن واعده نهاراً فكل النهار وإن واعده ليلاً فكل الليل، وسئل إبراهيم بن زيد عن ذلك فقال: إذا واعدته في وقت الصلاة فانتظره إلى وقت صلاة أخرى.
ثانيها: قوله تعالى: {وكان رسولاً نبياً} قد مرّ تفسيره. وثالثها: قوله تعالى:
(5/193)
---(1/2358)
{وكان يأمر أهله بالصلاة} أي: التي هي طهرة البدن وقرّة العين وخير العون على جميع المآرب {والزكاة} أي: التي هي طهرة المال كما أوصى الله تعالى بذلك جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمراد بالأهل قومه، وقيل: أهله جميع أمته كان رسولاً إلى جرهم قاله الأصفهاني وإلى أهل تلك البراري بدين أبيه إبراهيم والمراد بالصلاة قال ابن عباس: يريد التي افترضها الله تعالى عليهم قال البغوي وهي الحنيفية التي افترضت علينا قيل كان يبدأ بأهله في الأمر بالعبادة ليجعلهم قدوة لمن سواهم كما قال تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (الشعراء، 214)
{وأمر أهلك بالصلاة} (طه، 132)
{قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} (التحريم، 6)
وبالزكاة قال ابن عباس إنها طاعة الله والإخلاص فكأنه تأوّله على ما يزكو به الفاعل عند ربه تعالى والظاهر كما قال ابن عادل إنّ الزكاة إذا قرنت بالصلاة أن يراد بها الصدقات الواجبة.
رابعها: قوله تعالى: {وكان عند ربه} بعبادته على حسب ما أمره به {مرضياً} وهذا في نهاية المدح لأنّ المرضي عند الله هو الفائز في كل طاعة بأعلى الدرجات فاقتد أنت به فإنه من أجلّ آبائك لتجمع بين طهارة القول والبدن والمال فتنال رتبة الرضا.
القصة السادسة: قصة إدريس عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:
(5/194)
---
{واذكر في الكتاب} أي: الجامع لكل ما يحتاج إليه حتى ما يحتاج إليه من قصص المتقدّمين والمتأخرين {إدريس} وهو جدّ أبي نوح عليه السلام قيل: سمي إدريس لكثرة دراسته الكتب واسمه أحنوخ بمهملة ونون وآخره خاء معجمة وصفه الله تعالى بأمور أحدها: وثانيها: قوله تعالى: {إنه كان صدّيقاً نبياً} أي: صادقاً في أفعاله وأقواله ومصدّقاً بما آتاه الله من آياته وعلى ألسنة الملائكة، ثالثها: قوله تعالى:
{ورفعناه مكاناً علياً} وفيه قولان:
أحدهما: أنه من رفع المنزلة كقوله تعالى للنبيّ صلى الله عليه وسلم {ورفعنا لك ذكرك} (الإنشراح، 40)
(5/195)
---(1/2359)
فإنّ الله تعالى شرّفه بالنبوّة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة وهو أوّل من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب وأوّل من خاط الثياب ولبسها وكانوا من قبله يلبسون الجلود وأوّل من اتخذ السلاح وقاتل الكفار.
وثانيهما: أنه من رفعة المكان ثم اختلفوا فقال بعضهم: رفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة وهي التي رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم بها ليلة الإسراء وقيل: إلى الجنة وهو حيّ لا يموت وقالوا أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في الأرض الخضر وإلياس واثنان في السماء عيسى وإدريس وقال وهب كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه فعجبت منه الملائكة واشتاق له ملك الموت فاستأذن ربه في زيارته فأذن له فأتاه في صورة بني آدم وكان إدريس يصوم الدهر فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل معه ففعل ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس وقال له الليلة الثالثة: إني أريد أن أعلم من أنت، قال أنا ملك الموت استأذنت ربي أن أصحبك فقال: لي إليك حاجة قال ما هي قال تقبض روحي فأوحى الله تعالى إليه أن اقبض روحه، فقبض روحه وردّها إليه بعد ساعة، فقال له ملك الموت: ما الفائدة في سؤالك قبض الروح؟ قال لأذوق كرب الموت وغمته فأكون أشدّ استعداد له، ثم قال له إدريس: إنّ لي إليك حاجة أخرى، قال: وما هي قال ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنة والنار فأذن الله تعالى له في ذلك فرفعه فلما قرب من النار قال: لي إليك حاجة، قال: وما تريد؟ قال: تسأل مالكاً أن يفتح أبوابها فأردها، ففعل ثم قال: كما أريتني النار فأرني الجنة فذهب به إلى الجنة فاستفتح ففتح أبوابها فأدخله الجنة ثم قال له ملك الموت اخرج لتعود إلى مكانك فتعلق بشجرة وقال ما أخرج منها فبعث الله تعالى ملكاً حكماً بينهما، فقال له الملك: ما لك لا تخرج؟ قال: إنّ الله تعالى قال: {كل نفس ذائقة الموت} (آل عمران، 185)
(5/196)
---(1/2360)
وقد ذقته، وقال:{وإن منكم إلا واردها} (مريم، 71)
وقد وردتها وقال: {وما هم منها بمخرجين} (الحجر، 48)
فلست أخرج فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت بإذني دخل الجنة وبإذني لا يخرج فهو حيّ هناك، وقال آخرون: بل رفع إلى السماء وقبض روحه.
وقال كعب الأحبار: إنّ إدريس سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال يا رب إني مشيت يوماً فكيف يمشي من يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللهمّ خفف عنه من ثقلها وحرها فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرّها ما لا يعرفه فقال: يا رب خففت عني حرّ الشمس فما الذي قضيت فيه؟ فقال تعالى: إنّ عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرّها فأجبته قال يا رب اجعل بيني وبينه خلة، فأذن له حتى أتى إدريس فكان إدريس يسأله فكان مما سأله أن قال له: إني أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت فاشفع لي ليؤخر أجلي فازداد شكراً وعبادة، فقال الملك: لا يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها وأنا مكلمه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس ثم أتى ملك الموت فقال لي حاجة إليك لي صديق من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله فقال ليس ذلك إليّ ولكن إن أحببت أعلمته أجله فيقدّم لنفسه قال نعم فنظر في ديوانه فقال: إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبداً، قال: وكيف ذلك؟ قال: لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس، قال: إني أتيتك وتركته هناك، قال: فانطلق فلا أراك تجده إلا وقد مات فو الله ما بقي من أجل إدريس شيء فرجع الملك فوجده ميتاً. ولما انقضى كشف هذه الأخبار العلية المقدار الجليلة الأسرار شرع سبحانه وتعالى ينسب أهلها بأشرف نسبهم ويذكر المنن بينهم، فقال عز من قائل:
(5/197)
---(1/2361)
{أولئك} أي: العالو الرتبة الشرفاء النسب المذكورون في هذه السورة من لدن زكريا إلى إدريس وهو مبتدأ وقوله {الذين أنعم الله عليهم} بما خصهم به من مزيد القرب إليه وعظيم المنزلة لديه صفة له وقوله تعالى {من النبيين} أي: المصطفين بالنبوّة الذين أنبأهم الله تعالى بدقائق الحكم ورفع محالهم بين الأمم بيان لهم وهو في معنى الصفة وما بعده إلى جملة الشرط صفة للنبيين فقوله: {من ذرية آدم} أي: إدريس لقربه منه لأنه جدّ أبي نوح {وممن حملنا مع نوح} في السفينة أي: إبراهيم ابن ابنه سام {ومن ذرية إبراهيم} أي: إسماعيل وإسحاق ويعقوب {و} من ذرية {إسرائيل} وهو يعقوب أي: موسى وهارون وزكريا ويحيى وكذا عيسى لأنّ مريم من ذريته {وممن هدينا} إلى أقوم الطرق {واجتبينا} للنبوّة والكرامة أي: من جملتهم. وخبر أولئك {إذا تتلى عليهم} من أيّ: تالٍ كان {آيات الرحمن خرّوا سجداً} للمنعم عليهم تقرّباً إليه لما لهم من البصائر النيرة في ذكر نعمه عليهم وإحسانه إليهم {وبكياً} خوفاً منه وشوقاً إليه فكونوا مثلهم
تنبيه: سجداً حال مقدرة قال الزجاج لأنهم وقت الخرور ليسوا سجداً وهو جمع ساجد وبكيا جمع باك وليس بقياس بل قياس جمعه على فعلة كقاض وقضاة ولم يسمع فيه هذا الأصل وأصل بكيا بكوياً قلبت الواو ياء والضمة كسرة، واختلف في هذا السجود فقال بعضهم: إنه الصلاة وقال بعضهم: سجود التلاوة على حسب ما تعبدوا به. قال الرازي: ثم يحتمل أن يكون المراد سجود القرآن ويحتمل أنهم عند الخوف كانوا قد تعبدوا بسجود فيفعلون ذلك لأجل ذكر السجود في الآية انتهى.
(5/198)
---(1/2362)
وروى ابن ماجه وغيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا» وعن صالح المزني قرأت القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: يا صالح هذه القراءة فأين البكاء؟ وعن ابن عباس: إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما غرغرت عين بماء إلا حرّم الله تعالى على النار جسدها» وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن القرآن نزل محزناً فإذا قرأتموه فتحازنوا» وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «لا يلج النار من بكى من خشية الله».
وقال العلماء: يدعو في سجدة التلاوة بما يليق بآيتها فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال: اللهمّ اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المتكبرين عن أمرك، وإذا قرأ سجدة سبحان قال اللهم اجعلني من الباكين إليك الآسفين لك، وإن قرأ هذه قال: اللهمّ اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الباكين عند تلاوة آيات كتابك وقرأ حمزة والكسائي بكيا بكسر الباء والباقون بضمها ولما وصف سبحانه وتعالى هؤلاء الأنبياء بصفة المدح ترغيباً لنا في التأسي بهم ذكر بعدهم من هو بالضدّ منهم فقال:
{فخلف من بعدهم} أي: في بعض الزمان الذي بعد هؤلاء الأصفياء سريعاً {خلف} في غاية الرداءة من أولادهم يقال خلفه إذا عقبه خلف سوء بإسكان اللام والخلف بفتح اللام الصالح كما قالوا وعد في ضمان الخير ووعيد في ضمان الشر وفي الحديث: «في الله خلف من كل هالك» وفي الشعر:
*ذهب الذي يعاش في أكنافهم
** وبقيت في خلف كجلد الأجرب
(5/199)
---(1/2363)
وقال السدي: أراد بهم اليهود ومن لحق بهم وقال قتادة: في {أضاعوا الصلاة} تركوا الصلاة المفروضة، وقال ابن مسعود وإبراهيم: أخروها عن وقتها، وقال سعيد بن المسيب: هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر ولا يصلي العصر حتى تغرب الشمس. {واتبعوا الشهوات} أي: المعاصي قال ابن عباس: هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمور واستحلوا نكاح الأخت من الأب، وقال مجاهد: هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان ينزو بعضهم على بعض في الأسواق والأزقة {فسوف يلقون غياً} وهو كما قال وهب وابن عباس: واد في جهنم بعيد قعره تستعيذ منه أوديتها كما رواه الحاكم وصححه، وقيل: هو الخسران وقيل هو الشر كقول القائل:
h
*فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره
** ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما
على الغيّ متعلق بلائماً وقيل: يلقون جزاء الغي كقوله يلق أثاماً أي: مجازاة الآثام
تنبيه: قوله تعالى: يلقون ليس معناه يرون فقط بل معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية. ولما أخبر تعالى عن هؤلاء بالخيبة فتح لهم باب التوبة وحداهم إلى غسل هذه الحوبة بقوله:
{إلا من تاب} أي: مما هو عليه من الضلال وبادر بالأعمال وحافظ على الصلوات وكف نفسه عن الشهوات {وآمن} بما أخذ عليه به العهد {وعمل} بعد إيمانه تصديقاً له {صالحاً} من الصلوات والزكوات وغيرها {فأولئك} العالو الهمم الطاهرو الشيم {يدخلون الجنة} التي وعد المتقون {ولا يظلمون} من ظالم ما {شيئاً} من أعمالهم. فإن قيل: الاستثناء دل على أنه لا بدّ من التوبة والإيمان والعمل الصالح وليس الأمر كذلك لأنّ من تاب عن كفره ولم يدخل وقت الصلاة أو كانت المرأة حائضاً فإنه لا يجب عليهم الصلاة والزكاة أيضاً غير واجبة وكذلك الصوم فهذا لو مات في ذلك الوقت كان من أهل النجاة مع أنه لم يصدر منه عمل فلم يجز توقف الأجر على العمل الصالح؟ أجيب بأنّ هذه الصورة نادرة والأحكام إنما تناط بالأعمّ الأغلب
(5/200)
---(1/2364)
تنبيه: في هذا الاستثناء وجهان قال ابن عادل أظهرهما: أنه متصل وقال الزجاج: هو منقطع وهذا بناءً منه على أنّ المضيع للصلاة من الكفار ووافق الزجاج الجلال المحلي. ولما ذكر تعالى في التائب أنه يدخل الجنة وصفها بأمور أحدها قوله تعالى:
{جنات عدن} أي: إقامة لا يظعن عنها بوجه من الوجوه وصفها بالدوام على خلاف وصف الجنان في الدنيا التي لا تدوم ثم بيّن تعالى أنها {التي وعد الرحمن عباده} الذين هو أرحم بهم وقوله {بالغيب} فيه وجهان؛ أحدهما: أنّ الباء حالية وفي صاحب الحال احتمالان؛ أحدهما: ضمير الجنة وهو عائد الموصول أي: وعدها وهي غائبة عنهم لا يشاهدونها، والثاني: عباده أي: وهم غائبون عنها لا يرونها إنما آمنوا بها بمجرّد الأخبار منه. والوجه الثاني: أنّ الباء سببية أي: بسبب تصديق الغيب وسبب الإيمان به ولما كان من شأن الوعود الغائبة على ما يتعارفه الناس بينهم احتمال عدم الوقوع بيّن أنّ وعده ليس كذلك بقوله تعالى: {إنه كان} أي: كوناً هو سنة ماضية {وعده مأتياً} أي: مقصوداً بالفعل فلا بدّ من وقوعه فهو كقوله إن كان وعد ربنا لمفعولا ثانيها قوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغواً} وهو فضول الكلام وما لا طائل تحته وفيه تنبيه ظاهر على تجنب اللغو واتقائه حيث نزه الله تعالى عنه الدار الآخرة التي لا تكليف فيها، وقد مدح الله تعالى أقواماً بقوله: {وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً} (الفرقان، 72)
{وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} (القصص، 55)
(5/201)
---(1/2365)
نعوذ بالله من اللغو والجهل والخوض فيما لا يعنينا وقوله تعالى: {إلا سلاما} استثناء منقطع أي: ولكن يسمعون قولاً يسلمون فيه من العيب والنقيصة أو سلاماً من الله أو من الملائكة أو من بعضهم على بعض ويجوز أن يراد باللغو مطلق الكلام قال في القاموس لغا لغواً تكلم، فيكون الاستثناء متصلاً أي: لا يسمعون فيها كلاماً إلا كلاماً يدل على السلامة أو سلاماً من الله أو من الملائكة أو من بعضهم على بعض.
ثالثها: قوله تعالى: {ولهم رزقهم فيها} أي: على ما يتمنونه ويشتهونه على وجه لا بدّ من إتيانه ولا كلفة عليهم فيه ولا منة عليهم به {بكرةً وعشياً} أي: على قدرهما في الدنيا وليس في الجنة نهار ولا ليل بل ضوء ونور أبداً وقيل: إنهم يعرفون النهار برفع الحجب والليل بإرخائها، فإن قيل: المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بأحوال مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرةً وعشياً ليس من الأمور المستعظمة أجيب بوجهين؛ الأوّل: قال الحسن: أراد الله تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا فلذلك ذكر أساور الذهب والفضة ولبس الحرير التي كانت عادة العجم والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرّة وكانت عادة أشراف اليمن ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك الثاني أنّ المراد دوام الرزق تقول أنا عند فلان صباحاً ومساءً وبكرةً وعشياً تريد الدوام ولا تقصد الوقتين المعلومين، وقيل: المراد رفاهية العيش وسعة الرزق أي: لهم رزقهم متى شاؤوا، ولما باينت بهذه الأوصاف دار الباطل أشار إلى علوّ رتبتها وما هو سببها بقوله تعالى:
{تلك الجنة} بأداة البعد لعلو قدرها وعظم أمرها {التي نورث من عبادنا} أي: نعطي عطاء الإرث الذي لا كدّ فيه ولا استرجاع وتبقى له الجنة كما يبقى للوارث مال الموروث وقيل تنقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم فجعل النقل إرثاً قاله الحسن {من كان تقياً} أي: المتقين من عباده.
(5/202)
---(1/2366)
فإن قيل: الفاسق المرتكب للكبائر لم يوصف بذلك الوصف فلا يدخلها؟.
أجيب: بأن الآية تدل على أن الجنة يدخلها المتقي وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها وأيضاً صاحب الكبيرة متق عن الكفر ومن صدق عليه أنه متق عن الكفر فقد صدق عليه أنه متق وإذا كان صاحب الكبيرة يصدق عليه أنه متق وجب أن يدخل الجنة فدلالة الآية على أنّ صاحب الكبيرة يدخلها أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها. واختلف في سبب نزول قول جبريل للنبيّ صلى الله عليه وسلم
(5/203)
---(1/2367)
{وما نتنزل إلا بأمر ربك} فقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا» فنزلت الآية وقال مجاهد: أبطأ الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال لعلى أبطأت قال: قد فعلت، قال: ولم لا أفعل وأنتم لا تتسوّكون ولا تقصون أظفاركم ولا تنقون براجمكم وقال وما نتنزل إلا بأمر ربك فنزلت وقال قتادة والكلبي احتبس جبريل عليه السلام عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح وسبب سؤالهم عن ذلك ما روي «أنّ قريشاً بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهل يجدونه في كتابهم وسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه وقالت اليهود نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمن اليمامة عن ثلاث فلم يعرف فسلوه عنهنّ فإن أخبركم عن خصلتين فاتبعوه فسألوه عن قصة أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فلم يدر كيف يجيب فوعدهم أن يجيبهم غداً ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه أربعين يوماً وقيل خمسة عشر يوماً فشقّ ذلك عليه مشقة عظيمة وقال المشركون ودعه ربه وقلاه فلما نزل جبريل عليه السلام قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم أبطأت حتى ساء ظني واشتقت إليك، قال إني إليك أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فنزلت هذه الآية وأنزل قوله تعالى: {ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} (الكهف، 23)
وسورة الضحى» فإن قيل: قوله: {تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً} كلام الله وقوله: وما نتنزل إلا بأمر ربك كلام غير الله فكيف جاز عطف هذا على ما قبله من غير فصل؟ أجيب: بأنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح كقوله تعالى: {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} (البقرة، 117)
وهذا كلام الله تعالى ثم عطف عليه قوله: {وأنّ الله ربي وربكم فاعبدوه} (مريم، 36)
(5/204)
---(1/2368)
ثم علل جبريل قوله ذلك بقوله: {له ما بين أيدينا} أي: أمامنا من أمور الآخرة {وما خلفنا} أي: من أمور الدنيا {وما بين ذلك} أي: ما يكون من هذا الوقت إلى قيام الساعة أي: له علم ذلك جميعه وقيل: ما بين ذلك ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة وقيل ما بين أيدينا ما بقي من الدنيا وما خلفنا ما مضى منها وما بين ذلك مدّة حياتنا وقيل: ما بين أيدينا بعد أن نموت وما خلفنا قبل أن نخلق وما بين ذلك مدّة الحياة وقيل: ما بين أيدينا الأرض إذا أردنا النزول إليها وما خلفنا السماء وما ينزل منها وما بين ذلك الهواء يريد أنّ ذلك كله لله فلا نقدر على شيء إلا بأمره {وما كان ربك} المحسن إليك {نسياً} بمعنى ناسيا أي: تاركاً لك بتأخير الوحي عنك لقوله تعالى: {ما ودّعك ربك وما قلى} (الضحى، 3)
أي: وما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به وما كان ذلك عن ترك الله تعالى لك وتوديعه إياك ثم استدل على ذلك بقوله:
{رب السموات والأرض وما بينهما} فلا يجوز عليه النسيان إذ لا بدّ أن يمسكهما حالاً بعد حال وإلا لبطل الأمر فيهما وفيمن يتصرّف، والآية دالة على أنّ الله تعالى رب لكل شيء حصل بينهما ففعل العبد مخلوق له تعالى لأنّ فعل العبد حاصل بين السماء والأرض
تنبيه: يجوز في رب أن يكون بدلاً من ربك وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي: هو رب وقوله تعالى {فاعبده واصطبر لعبادته} خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم مرتب على ما تقدّم أي: لما عرفت أنّ ربك لا ينساك فاعبده بالمراقبة الدائمة على ما ينبغي من مثلك واصطبر عليها ولا تتشوش بإبطاء الوحي وهزء الكفار بك.
(5/205)
---(1/2369)
فإن قيل: لم لم يقل واصطبر على عبادته لأنها صلته فكان حقه تعديه بعلى؟ أجيب: بأنه ضمن معنى الثبات لأنّ العبادة ذات تكاليف قلّ من يثبت لها فكأنه قيل اثبت لها مصطبراً كقولك للمحارب اصبر لقرنك ثم علل ذلك بقوله: {هل تعلم له سمياً} قال ابن عباس: هل تعلم له مثلاً أي: نظيراً فيما يقتضي العبادة والذي يقتضيها كون منعماً بأصول النعم وفروعها وهي خلق الأجسام والحياة والعقل وغيرها، فإنه لا يقدر على ذلك أحد سواه سبحانه وتعالى وإذا كان قد أنعم عليك بغاية الإنعام وجب أن تعظمه بغاية التعظيم وهي العبادة.
وقال الكلبي هل تعلم أحداً تسمى الله غيره فإنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن فما أطلقوا لفظ الله تعالى على شيء. ولما أمر تعالى بالعبادة والمصابرة عليها فكأنّ سائلاً سأل وقال هذه العبادة.
لا منفعة فيها في الدنيا وأمّا في الآخرة فقد أنكرها بعضهم فلا بدّ من ذكر الدلالة على القول بالحشر حتى يظهر أنّ الاشتغال بالعبادة يفيد فلهذا حكى الله سبحانه وتعالى قول منكري الحشر فقال تعالى:
{ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حياً} قال الكلبيّ: نزلت في أبيّ بن خلف حين أخذ عظاماً بالية فتتها بيديه ويقول زعم لكم محمد أنا نبعث بعدما نموت وقيل: نزلت في أبي جهل، وقيل: المراد جنس الكفار القائلين بعدم البعث ثم إنّ الله تعالى أقام الدليل على صحة البعث بقوله:
{أولا يذكر الإنسان} أي: المجترئ بهذا الإنكار على ربه {أنّا خلقناه من قبل} أي: من قبل جدله {ولم يك شيئاً} أصلاً وأنا بمقتضى ذلك قادرون على إعادته فلا ينكر ذلك قال بعض العلماء لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار ما قدروا عليه إذ لا شك أن الإعادة ثانياً أهون من الإيجاد أوّلاً. ونظيره قوله تعالى: {قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة} (يس، 79)
وقوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} (الروم، 27)
(5/206)
---(1/2370)
وهو أهون عليه وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بسكون الذال وضم الكاف مخففة والباقون بفتح الذال مشدّدة وكذا الكاف.
فإن قيل: كيف أمر الله الإنسان بالتذكر مع أنّ التذكر هو العلم بما علمه من قبل ثم تخللهما سهو؟ أجيب: بأنّ المراد أولاً يتفكر فيعلم خصوصاً إذا قرئ أولا يذكر مشدّداً، أمّا إذا قرئ مخففاً فالمراد أولاً يعلم ذلك من حال نفسه لأنّ كل أحد يعلم أنه لم يكن حياً في الدنيا ثم صار حياً. ثم إنه تعالى لما قرّر المطلوب بالدليل أردفه بالتهديد من وجوه أوّلها قوله تعالى:
{فوربك} أي: المحسن إليك بالانتقام منهم {لنحشرنهم} بعد البعث {والشياطين} الذين يضلونهم بأن نحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة وفائدة القسم أمران:
أحدهما: أن العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين والثاني: في إقسام الله باسمه مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تفخيم لشأنه ورفع منه كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله تعالى: {فورب السماء والأرض أنه لحق} (الذاريات، 23)
والواو في والشياطين يجوز أن تكون للعطف وبمعنى مع وهو أولى. ثانيها: قوله تعالى {ثم لنحضرنهم} بعد طول الوقوف {حول جهنم} من خارجها ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله تعالى منها وخلصهم فيزدادوا لذلك غبطة إلى غبطتهم وسروراً إلى سرورهم ويشمتوا بأعداء الله وأعدائهم فتزداد مساءتهم وحسرتهم وما يغبطهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم وقوله تعالى {جثياً} حال مقدرة من مفعول لنحضرنهم وهو جمع جاث جمع على فعول نحو قاعد وقعود وجالس وجلوس وأصله جثوو بواوين أو جثوى من جثاً يجثو ويجثى لغتان.
فإن قيل: هذا المعنى حاصل للكل بدليل قوله تعالى: {وترى كل أمّة جاثية} (الجاثية، 28)
(5/207)
---(1/2371)
ولأنّ العادة جارية بأنّ الناس في مواقف مطالبات الملوك يتجاثون على ركبهم لما في ذلك من القلق أو لما يدهمهم من شدّة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم، وإذا كان هذا حاصلاً للكل فكيف يدل على مزيد ذل الكفار؟ أجيب: بأنهم يكونون من وقت الحشر إلى وقت الحضور على هذه الحالة وذلك يوجب مزيد ذلهم وقرأ حفص وحمزة والكسائي جثياً وعتياً وصلياً بكسر أوّلها والباقون بضمه ثالثها: قوله تعالى:
{ثم لننزعنّ} أي: لنأخذن أخذاً بشدّة وعنف {من كل شيعة} أي: فرقة مرتبطة بمذهب واحد {أيهم أشدّ على الرحمن} الذي غمرهم بالإحسان {عتياً} أي: تكبراً مجاوزاً للحدّ والمعنى أنّ الله تعالى يحضرهم أوّلاً حول جهنم ثم يميز البعض من البعض فمن كان أشدّهم تمرّداً في كفره خص بعذاب عظيم لأنّ عذاب الضال المضل يجب أن يكون فوق عذاب من يضل تبعاً لغيره وليس عذاب من يتمرّد ويتجبر كعذاب المقلد ففائدة هذا التمييز التخصيص بشدّة العذاب لا التخصيص بأصل العذاب، ولذلك قال تعالى في جميعهم:
{ثم لنحن أعلم} من كل عالم {بالذين هم} بظواهرهم وبواطنهم {أولى بها} أي: بجهنم {صلياً} أي: دخولاً واحتراقاً فنبدأ بهم ولا يقال أولى إلا مع اشتراكهم وأصله صلوى من صلى بكسر اللام وفتحها
تنبيه: في إعراب أيهم أشدّ أقوال كثيرة أظهرها عند جمهور المعربين وهو مذهب سيبويه أن أيهم موصولة بمعنى الذي وإن حركتها حركة بناء بنيت عند سيبويه لخروجها عن النظائر وأشدّ خبر مبتدأ مضمر والجملة صلة لأيهم وأيهم وصلتها في محل نصب مفعول بها، ولأيّ أحوال أربعة ذكرتها في شرح القطر. ولما كانوا بهذا الإعلام المؤكد بالإقسام من ذي الجلال والإكرام جديرين بإصغاء الأفهام إلى ما توجه إليها من الكلام التفت إلى مقام الخطاب إفهاماً للعموم فقال تعالى:
(5/208)
---(1/2372)
{وإن} أي: وما {منكم} أيها الناس أحد {إلا واردها كان} ذلك الورود {على ربك} الموجد لك المحسن إليك {حتماً مقضياً} أي: حتمه وقضى به لا يتركه والورود موافاة المكان فاختلفوا في معنى الورود هنا. فقال ابن عباس والأكثرون: الورود ههنا هو الدخول والكناية راجعة إلى النار وقالوا يدخلها البرّ والفاجر ثم ينجي الله المتقين فيخرجهم منها ويدل على أنّ الورود هو الدخول قوله تعالى: {يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار} (هود، 98)
وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنّ نافع بن الأزرق مارى ابن عباس في الورود فقال ابن عباس: هو الدخول وقال نافع ليس الورود الدخول، فتلا ابن عباس {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} (الأنبياء، 98)
أدخلها هؤلاء أم لا؟ ثم قال: يا نافع أما والله أنا وأنت سنردها وأنا أرجو أن يخرجني الله منها وما أرى الله يخرجك منها بتكذيبك، ويدل عليه أيضاً قوله تعالى:
(5/209)
---(1/2373)
{ثم ننجي الذين اتقوا} أي: الكفر منها ولا يجوز أن يقول ثم ننجي الذين اتقوا {ونذر الظالمين} بالكفر {فيها جثياً} على الركب ألا والكل واردون والأخبار المروية دالة على هذا القول روي أنّ عبد الله بن رواحة قال أخبر الله تعالى عن الورود ولم يخبر بالصدر فقال صلى الله عليه وسلم «يا ابن رواحة اقرأ ما بعدها ثم ننجي الذين اتقوا» فدلّ على أنّ ابن رواحة فهم من الورود الدخول ولم ينكر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك وعن جابر أنه سأل عن هذه الآية فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الورود الدخول ولا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً حتى أنّ للنار ضجيجاً من بردها» ولأنّ حرارة النار ليست بطبعها فالأجزاء الملاصقة لأبدان الكفار يجعلها الله تعالى محرقة مؤذية والأجزاء الملاصقة لأجزاء المؤمنين يجعلها برداً وسلاماً كما في حق إبراهيم عليه السلام وكما أنّ الملائكة الموكلين بها لا يجدون ألمها وكما في الكوز الواحد من الماء كان يشربه القبطي فيكون دماً ويشربه الإسرائيلي فيكون ماء عذباً.
وعن جابر بن عبد الله أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وقال بعضهم لبعض أليس وعدنا ربنا أن نرد النار فيقال لهم قد وردتموها وهي خامدة» وخامدة بخاء معجمة أي: ساكنة وروي بالجيم أي: باردة ولا بدّ من ذلك في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين.
فإن قيل: فإذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم فما الفائدة في ذلك الدخول؟ أجيب بوجوه؛ أحدها: أنّ ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منها.
ثانيها: أنّ فيه مزيد غم على أهل النار حيث يرون المؤمنين الذين هم أعداؤهم يتخلصون منها وهم يبقون فيها.
ثالثها: أنّ فيه مزيد غم على أهل النار حيث تظهر فضيحتهم عند المؤمنين.
(5/210)
---(1/2374)
رابعها: أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة، وقيل: المراد بالذين يردونها من تقدّم ذكرهم من الكفار فكنى عنهم أوّلاً كناية الغيبةثم خاطب خطاب المشافهة وعلى هذا القول فلا يدخل النار مؤمن واستدل له بقوله تعالى: {إنّ الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها} (الأنبياء: 101، 102)
والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها بقوله تعالى: {وهم من فزع يومئذٍ آمنون} (النمل، 89)
وروي عن مجاهد من حمّ من المؤمنين فقد وردها وفي الخبر الحمى كير من جهنم وهي حظ المؤمن من النار وفي رواية الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء وقوله من فيح جهنم أي: وهجها وحرّها وقال ابن مسعود وإن منكم إلا واردها يعني القيامة والكناية راجعة إليها قال البغوي والأوّل أصح وعليه أهل السنة وروي أنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير وفي رواية من إيمان وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة رجل يخرج من النار حبواً فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة قال فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول وجدتها ملأى فيقول الله: له اذهب فادخل الجنة فإنّ لك مثل الدنيا وعشر أمثالها فيقول له أتسخر بي وأنت الملك فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه» فكان يقال ذلك أدنى أهل الجنة منزلة قوله حتى بدت نواجذه أي: أنيابه وأضراسه وقيل: هي أعلى الأسنان.
(5/211)
---(1/2375)
وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا حمماً ثم تدركهم الرحمة قال فيخرجون فيطرحون على باب الجنة قال فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت الغثاء في حمالة السيل الحمم الفحم والغثاء كل ما جاء به السيل» وقرأ الكسائي ننجي بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم والباقون بفتح النون الثانية وتشديد الجيم ولما أقام تعالى الحجة على مشركي قريش المنكرين للبعث قال تعالى عطفاً على قوله ويقول الإنسان:
(5/212)
---(1/2376)
{وإذا تتلى عليهم} أي: الناس من المؤمنين والكفار من أيّ تال كان {آياتنا} أي: القرآن حال كونها {بينات} أي: واضحات وقيل مرتبات الألفاظ ملخصات المعاني وقيل: ظاهرات الإعجاز {قال الذين كفروا} بآيات ربهم البينة جهلاً منهم ونظراً إلى ظاهر الحياة الدنيا الذي هو مبلغهم من العلم {للذين آمنوا} أي: لأجلّهم أو مواجهة لهم إعراضاً عن الاستدلال بالآيات بالإقبال على هذه الشبهة الواهية وهي المفاخرة بالمكاثرة في الدنيا من قولهم {أي الفريقين} نحن بما لنا من الاتساع أم أنتم بما لكم من خشونة العيش ورثاثة الحال ولو كنتم أنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن من حالنا لأنّ الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في الذل وأعداءه المعرضين عن خدمته في العز والراحة وإنما كان الأمر بالعكس فإنّ الكفار كانوا في النعمة والراحة والاستعلاء والمؤمنين كانوا في ذلك الوقت في الخوف والقلة هذا حاصل شبهتهم والقائل ذلك هو النضر بن الحارث وذووه من قريش للذين آمنوا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان فيهم قشافة وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة وكان المشركون يرجلون شعورهم ويلبسون خير ثيابهم فقالوا للمؤمنين أيّ الفريقين {خير مقاماً} أي: موضع قيام أو إقامة على قراءة ابن كثير بضم الميم والباقون بفتحها ففي كلتا القراءتين يحتمل أن يكون اسم مصدر أو اسم مكان إما من قام ثلاثياً أو من أقام
m
(5/213)
---(1/2377)
تنبيه: قالوا زيد خير من عمرو وشر من بكر ولم يقولوا أخير منه ولا أشرّ منه لأنّ هاتين اللفظتين كثر استعمالهما فحذفت همزتاهما ولم يثبتا إلا في فعل التعجب فقالوا أخير بزيد وأشرر بعمرو وما أخير زيداً وما أشر عمراً، والعلة في إثباتهما في فعلي التعجب أنّ استعمال هذين اللفظين اسماً أكثر من استعمالهما فعلاً فحذفت الهمزة في موضع الكثرة وبقيت على أصلها في موضع القلة {وأحسن ندياً} أي: مجمعاً ومتحدثاً والنديّ المجلس يقال نديّ وناد والجمع الأندية منه {وتأتون في ناديكم المنكر} (العنكبوت، 29)
وقال تعالى: {فليدع ناديه} (العلق، 17)
ويقال ندوت القوم أندوهم إذا جمعتهم في مجلس ومنه دار الندوة وكانت تجمع القوم فجعلوا ذلك الامتحان بالإنعام والإحسان دليلاً على رضا الرحمن مع التكذيب والكفران وغفلوا عن أنّ في ذلك مع التكذيب بالبعث تكذيباً بما يشاهدون منا من القدرة على العقاب بإحلال النقم وسلب النعم ولو شئنا لأهلكناهم وسلبنا جميع ما يفتخرون به.
{وكم أهّلكنا قبلهم} ثم بيّن إبهام كم بقوله: {من قرن} شاهدوا ديارهم ورأوا آثارهم {هم} أي: أهل تلك القرون {أحسن} من هؤلاء {أثاثاً} أي: أمتعة {ورئياً} أي: ومنظراً فلو دلّ حصول نعم الدنيا للإنسان على كونه حبيب الله لوجب أن لا يصل إلى هؤلاء غمّ في الدنيا وقرأ قالون وابن ذكوان بإبدال الهمزة ياء وإدغامها في الياء وقفاً ووصلاً وإذا وقف حمزة أبدل الهمزة ياءً وله فيها الإدغام والإظهار
(5/214)
---(1/2378)
تنبيه: كم مفعول أهلكنا مقدّم واجب التقديم لأنّ له صدر الكلام لأنها إمّا استفهامية أو خبرية وهي محمولة على الاستفهامية أي: كثيراً من القرون أهلكنا ومن قرن تمييز لكم مبين لها وإنما سمى أهل كل عصر قرناً لأنهم يتقدّمون من بعدهم وقول البيضاوي وهم أحسن صفة لكم تبع فيه الزمخشريّ وغيره ورد بأن كم الاستفهامية والخبرية لا توصف ولا يوصف بها فهم أحسن في محل جر صفة لقرن وجمعه نظراً للمعنى لأنّ القرن مشتمل على أفراد كثيرة ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.
{قل} لهؤلاء المبعدين ردّاً عليهم وقطعاً لمعاذيرهم وهتكاً لشبههم هذا الذي افتخرتم به لا يدل على حسن الحال في الآخرة بل على عكس ذلك فقد جرت عادته تعالى أنه {من كان في الضلالة} مثلكم كوناً راسخاً بسط له في الدنيا وطيب عيشه في ظاهر الحال فيها ونعم بأنواع الملاذ وقوله {فليمدد له الرحمن مدّاً} أمر بمعنى الخبر معناً فندعه في طغيانه ونمهله في كفره بالبسط في الآثار والسعة في الديار والطول في الأعمال وإنفاقها فيما يستلذ به من الأوزار ولا يزال يمدّ له استدراجاً {حتى إذا رأوا} أي: كل من كفر بأعينهم {ما يوعدون} من قبل الله {إمّا العذاب} في الدنيا بأيدي المؤمنين وغيرهم أو في البرزخ {وإما الساعة} أي: القيامة التي هم بها مكذبون وعن الاستعداد لها معرضون ولا شيء يشبه أهوالها وخزيها ونكالها {فسيعلمون} إذا رأوا ذلك {من هو شرّ مكاناً} أي: من جهة المكان الذي قوبل به المقام في قولهم خير مقاماً {وأضعف جنداً} أي: أقل ناصراً أهم أم المؤمنون أي: أضعف من جهة الجند أي: الذي أشير به إلى النديّ في قولهم وأحسن ندياً لأنهم في النار والمؤمنون في الجنة فهذا ردّأ عليهم في قولهم أيّ الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً
(5/215)
---(1/2379)
{ويزيد الله الذين اهتدوا} إلى الإيمان {هدى} بما ينزل عليهم من الآيات عوض ما زوى عنهم من الدنيا لكرامتهم عنده مما بسط للضلال لهوانهم عليه وأشار إلى أنّ مثل ما خذل أولئك بالنوال وفّق هؤلاء لمحاسن الأعمال بإقلال الأموال فقال عز من قائل {والباقيات الصالحات} أي: الطاعات والمعارف التي شرحت لها الصدور وأنارت بها القلوب وأوصلت إلى علام الغيوب {خير عند ربك} مما متع به الكفرة والخيرية هنا في مقابلة قولهم أي: الفريقين خير مقاماً وقيل: الباقيات الصالحات هي الصلوات وقيل: التسبيح روى أبو الدرداء قال: «جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأخذ عوداً يابساً وأزال الورق عنه ثم قال: إنّ قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله تحط الخطايا كما يحط ورق هذه الشجرة الريح خذهنّ يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهنّ الباقيات الصالحات وهي من كنوز الجنة» فكان أبو الدرداء يقول: لأعملنّ ذلك ولأكثرنّ عمله حتى إذا رآني الجهال حسبوا أني مجنون. قال الرازي: والقول الأوّل أولى لأنه تعالى إنما وصفها بالباقيات الصالحات من حيث يدوم ثوابها فلا تختص ببعض العبادات فهي بأسرها باقية صالحة نظراً إلى أثرها الذي هو الهداية ثم بيّن تعالى خيريتها بقوله تعالى {ثواباً} أي: من جهة الثواب {وخيرٌ مرداً} أي: من جهة العاقبة يوم الحسرة.
فإن قيل: لا يجوز أن يقال هذا خير إلا والمراد أنه خير من غيره والذي عليه الكفار لا خير فيه أصلاً أجيب بأنّ المراد خير مما ظنه الكفار بقولهم خير مقاماً وأحسن ندياً، وقيل: هو كقولهم الصيف أحرّ من الشتاء بمعنى أنه في حرّه أبلغ منه في برده فالكفرة يردّون إلى فناء وخسارة والمؤمنون إلى ربح وبقاء.
ولما ذكر تعالى الدلائل أوّلاً على صحة البعث ثم أورد شبهة المنكرين وأجاب عنها أورد عليهم الآن ما ذكروه على سبيل الاستهزاء طعناً في القول بالحشر فقال تعالى:
(5/216)
---(1/2380)
{أفرأيت الذي} أي: الذي يعرض عن هذا اليوم ويزيد على ذلك بأن {كفر بآياتنا} الدالات على عظمتنا بالدلالات البينات {وقال} جرأة منه وجهلاً {لأوتينّ} أي: والله لأوتين في الساعة على تقدير قيامها {مالاً وولداً} أي: عظيمين فلم يكفه في جهله تعجيز القادر حتى ضم إليه إقدار العاجز وقرأ حمزة والكسائي وولداً وكذا ولداً في جميع ما في هذه السورة بضم الواو وسكون اللام والباقون بفتح الواو واللام في الجميع يقال ولد وولد كما يقال عرب وعرب وعدم وعدم أما القراءة بفتحتين فواضحة وهو اسم مفرد قائم مقام الجمع وأما قراءة الضم والإسكان فقيل: هي كالتي قبلها في المعنى وقيل: بل هي جمع لولد نحو أسد وأسد وأنشدوا على ذلك
*ولقد رأيت معاشراً ** قد أثمروا مالاً وولداً
وأنشدوا شاهداً على أنّ الولد والولد مترادفان قول الآخر
*فليت فلاناً كان في بطن أمه ** وليت فلاناً كان ولد حماره
ولما كان ما ادعاه لا علم به إلا بأحد أمرين لا علم له بواحد منهما أنكر قوله ذلك بقوله تعالى:
(5/217)
---(1/2381)
{أطلع الغيب} الذي هو غائب عن كل مخلوق فهو في بعد عن الخلق كالعالي الذي لا يمكن أحداً منهم الاطلاع إليه وتفرد به الواحد القهار {أم اتخذ} أي: بغاية جهده {عند الرحمن عهداً} عاهده عليه بأن يؤتيه ما ذكر بطاعة فعلها على وجهها ليقف سبحانه فيه عند قوله وقيل في العهد كلمة الشهادة، وعن قتادة هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول، وعن الكلبي هل عهد الله إليه أن يؤتيه ذلك وعن الحسن رحمه الله تعالى نزلت في الوليد بن المغيرة والمشهور أنها في العاص بن وائل قال خباب بن الأرت كان لي عليه دين فاقتضيته فقال: لا والله حتى تكفر بمحمد فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حياً ولا ميتاً ولا حين تبعث قال: فإني إذا مت بعثت قلت: نعم قال: إذا بعثت جئني وسيكون لي ثمّ مال وولد فأعطيك وقيل: صاغ له خباب حُلياً فاقتضاه الأجر فقال: إنكم تزعمون أنكم تبعثون وأنّ في الجنة ذهباً وفضة وحريراً فأنا أقضيك ثم فإني أوتي مالاً وولداً فأعطيك حينئذٍ ثم إنه سبحانه وتعالى بيّن من حاله ضدّ ما ادعاه فقال تعالى:
{كلا} وهي كلمة ردع وتنبيه على الخطأ أي: هو مخطئ فيما يقول ويتمناه {سنكتب} أي: نحفظ عليه {ما يقول} فنجازيه به في الآخرة وقيل: نأمر الملائكة حتى يكتبوا عليه ما يقول {ونمدّ له من العذاب مدّاً} أي: نزيده بذلك عذاباً فوق عذاب كفره وقيل: نطيل مدّة عذابه
{ونرثه} بموته {ما يقول} أي: ما عنده من المال والولد {ويأتينا} يوم القيامة {فرداً} لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا فضلاً أن يؤتى ثمّ زائداً قال تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى} (الأنعام، 94)
وقيل: فرداً رافضاً لهذا القول منفرداً عنه ولما تكلم سبحانه وتعالى في مسألة الحشر والنشر تكلم الآن في الردّ على عباد الأصنام فقال:
(5/218)
---(1/2382)
{واتخذوا} أي: كفار قريش {من دون الله} أي: الأوثان {آلهة} يعبدونها {ليكونوا لهم عزاً} أي: منفعة بحيث يكونون لهم شفعاء وأنصاراً ينقذونهم من الهلاك ثم أجاب تعالى بقوله تعالى:
{كلا} ردع وإنكار لتعززهم بها {سيكفرون بعبادتهم} أي: تستجحد الآلهة عبادتهم ويقولون ما عبدتمونا كقوله تعالى: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا} (البقرة، 166)
وفي آية أخرى: {ما كانوا إيانا يعبدون} (القصص، 63)
وقيل: أراد بذلك الملائكة لأنهم كانوا يكفرون بعبادتهم ويتبرؤون منهم ويخصمونهم وهو المراد من قوله تعالى: {أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} (سبأ، 40)
وقيل: إنّ الله تعالى يحي الأصنام يوم القيامة حتى يوبخوا عبادهم ويتبرؤوا منهم فيكون ذلك أعظم لحسرتهم ويجوز أن يراد الملائكة والأصنام {ويكونون عليهم ضدّا} أي: أعواناً وأعداءً.
فإن قيل: لم وحده وهو خبر عن جمع؟ أجيب: بأنه إما مصدر في الأصل والمصادر موحدة مذكرة وإما لأنه مفرد في معنى الجمع قال الزمخشري: والضدّ العون وحد توحيد قوله عليه الصلاة والسلام: «وهم يد على من سواهم لاتفاق كلمتهم وأنهم كشيء واحد لفرط تضامّهم وتوافقهم» انتهى. والحديث رواه أبو داوود وغيره والشاهد فيه قوله يد حيث لم يقل أيد. ولما ذكر تعالى ما لهؤلاء الكفار مع آلهتهم في الآخرة ذكر بعده ما لهم مع الشياطين في الدنيا وأنهم يتولونهم وينقادون إليهم فقال تعالى مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم.
(5/219)
---
{ألم تر} أي: تنظر {أنّا أرسلنا} أي: سلطنا {الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً} الأز والهز والاستفزاز أخوات ومعناها التهييج وشدّة الإزعاج أن تغريهم على المعاصي وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات(1/2383)
{فلا تعجل عليهم} أي: تطلب عقوبتهم بأن يهلكوا ويبيدوا حتى تستريح أنت والمسلمون من شرورهم {إنما نعدّ لهم عدّاً} أي: ليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة، ونظيره قوله تعالى: {ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ} (الأحقاف، 35)
(5/220)
---
وعن ابن عباس كان إذا قرأها بكى وقال آخر العدد خروج نفسك آخر العدد دخول قبرك آخر العدد فراق أهلك.
وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأها فقال إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد، وقيل: نعدّ أنفاسهم وأعمالهم فنجازيهم على قليلها وكثيرها، وقيل نعدّ الأوقات إلى وقت الأجل المعين لكل أحد الذي لا يتطرق إليه الزيادة والنقصان. ثم بيّن تعالى ما سيظهر في ذلك اليوم من الفصل بين المتقين والمجرمين في كيفية الحشر فقال:
{يوم} أي: واذكر يوم {نحشر المتقين} بإيمانهم {إلى الرحمن} أي: إلى محل كرامته وقوله تعالى {وفداً} حال أي: وافدين عليه كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين لكرامتهم وإنعامهم والوفد الجماعة الوافدون يقال وفد يفد وفداً ووفوداً ووفادة أي: قدم على سبيل التكرمة فهو في الأصل مصدر ثم أطلق على الأشخاص كالصف، وقال أبو البقاء وفد جمع وافد مثل ركب وراكب وصحب وصاحب وهذا الذي قاله ليس بمذهب سيبويه لأنّ فاعلاً لا يجمع على فعل عند سيبويه وأجازه الأخفش وجرى عليه الجلال المحلي فقال: وفد جمع وافد بمعنى راكب انتهى.
وقال ابن عباس: وفداً ركباناً، وقال أبو هريرة على الإبل وقال عليّ رضي الله تعالى عنه والله ما يحشرون على أرجلهم ولكن فوق نوق رحالها الذهب ونجائب سروجها يواقيت إن هموا بها سارت وإن هموا بها طارت(1/2384)
{ونسوق المجرمين} بكفرهم {إلى جهنم} وقوله تعالى: {ورداً} حال أي: مشاة بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء وقيل: عطاش قد تقطعت أعناقهم من شدّة العطش لأنّ من يرد الماء لا يرد إلا بعطش وحقيقة الورد المسير إلى الماء وقوله تعالى:
(5/221)
---
{لا يملكون الشفاعة} الضمير فيه للعباد المدلول عليهم بذكر المتقين والمجرمين وقيل للمتقين وقيل: للمجرمين وقوله تعالى: {إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً} استثناء متصل على القولين الأوّلين، منقطع على الثالث والمعنى أنّ الشافعين لا يشفعون إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهداً كقوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} (الأنبياء، 28)
ويدخل في ذلك أهل الكبائر من المسلمين إذ كل من اتخذ عند الرحمن عهداً وجب دخوله فيه وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهداً وهو التوحيد فوجب دخوله تحته ويؤيده ما روى عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم: «أيعجز أحدكم أن يتخذ عند كل صباح ومساء عند الله عهداً قالوا: وكيف ذلك قال: يقول كل صباح ومساء: اللهمّ فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأنّ محمداً عبدك ورسولك فلا تكلني إلى نفسي فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهد توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد، فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة» فظهر أنّ المراد من العهد كلمة الشهادة وظهر وجه الدلالة على ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر ولما ردّ سبحانه وتعالى على عبدة الأوثان عاد إلى الردّ على من أثبت له ولداً بقوله تعالى:
{وقالوا اتخذ الرحمن ولداً} أي: قالت اليهود: عزير ابن الله وقالت النصارى: المسيح ابن الله وقالت العرب: الملائكة بنات الله.(1/2385)
{لقد جئتم شيئاً إدّاً} قال ابن عباس أي: منكراً وقال قتادة أي: عظيماً وقال ابن خالويه: الأدّ والإدّ العجب وقيل: العظيم المنكر والإدة الشدّة وأدّني الأمر وأدني أثقلني وعظم عليّ وقرأ:
(5/222)
---
{تكاد السموات} نافع والكسائي بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث وقرأ {يتفطرن منه} أبو عمرو وابن عامر وشعبة وحمزة بعد الياء بنون ساكنة وكسر الطاء مخففاً والباقون بعد الياء بتاء وفتح الطاء مشدّدة يقال انفطر الشيء وتفطر أي: تشقق وقراءة التشديد أبلغ لأنّ التفعل مطاوع فعل والانفعال مطاوع فعل ولأنّ أصل التفعل التكلف {وتنشق الأرض} أي: تنخسف بهم {وتخرّ الجبال هدّاً} أي: تسقط وتنطبق عليهم
{أن} أي: من أجل أن {دعوا للرحمن ولداً} قال ابن عباس وكعب: فزعت السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة واستعرت جهنم حين قالوا اتخذ الله ولداً.
فإن قيل: كيف يؤثر القول في انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال؟ أجيب بوجوه؛ الأوّل: أنّ الله تعالى يقول كدت أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضباً مني على من تفوّه بها لولا حلمي وإني لا أعجل بالعقوبة، الثاني: أن يكون استعظاماً للكلمة وتهويلاً وتصويراً لأثرها في الدين وهدمها لقواعده وأركانه الثالث: أنّ السموات والأرض والجبال تكاد أن تفعل كذلك لو كانت تعقل هذا القول ثم نفى الله تعالى عن نفسه الولد بقوله تعالى:
{وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً} أي: ما يليق به اتخاذ الولد؛ لأنّ ذلك محال أما الولادة المعروفة فلا مقالة في امتناعها وأمّا التبني فإنّ الولد لا بدّ وأن يكون شبيهاً بالوالد ولا شبيه لله تعالى لأنّ اتخاذ الولد إنما يكون لأغراض إمّا من سرور أو استعانة أو ذكر جميل وكل ذلك لا يصح في حق الله تعالى
(5/223)
---(1/2386)
{إن} أي: ما {كل من في السموات والأرض} أي: أنّ كل معبود من الملائكة في السموات والأرض من الناس منهم العزير وعيسى {إلا آتي الرحمن} أي: ملتجئ إلى ربوبيته {عبداً} منقاداً مطيعاً ذليلاً خاضعاً كما يفعل العبيد ومن المفسرين كالجلال المحلي من حمله على يوم القيامة خاصة والأوّل أولى لأنه لا تخصيص في الآية
{لقد أحصاهم} أي: حصرهم وأحاط بهم بحيث لا يخرجون عن حوزه وعلمه وقبضته وقدرته وكلهم تحت تدبيره وقهره {وعدّهم عدّاً} أي: عدّ أشخاصهم وأيامهم وأنفاسهم وأفعالهم فإنّ كل شيء عنده بمقدار لا يخفى عليه شيء من أمورهم.
{وكلهم آتيه} أي: كل واحد منهم يأتيه {يوم القيامة فرداً} أي: وحيداً ليس معه من الدنيا شيء من مال أو نصير يمنعه ولما رد سبحانه وتعالى على أصناف الكفرة وبالغ في شرح أحوالهم في الدنيا والآخرة ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين فقال:
(5/224)
---(1/2387)
{إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّاً} أي: سيحدث لهم في القلوب مودة من غير تعرّض منهم لأسبابها من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك. روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الله عبداً يقول لجبريل أحببت فلاناً فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء قد أحبّ الله فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم توضع له المحبة في الأرض» وإذا أبغض الله العبد قال مالك لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك والسين في سيجعل إما لأنّ السورة مكية وكان المؤمنون حينئذٍ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله تعالى ذلك إذا قوي الإسلام والمعنى سيحدث لهم في القلوب مودة وإمّا أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم الله إلى خلقه بما يظهر من حسناتهم، وروي عن كعب قال مكتوب في التوراة لا محبة لأحدٍ في الأرض حتى يكون ابتداؤها من السماء من الله عز وجل ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض ومصداق ذلك في القرآن قوله سيجعل لهم الرحمن ودّاً وقال أبو مسلم معناه يهب لهم ما يحبون والودّ والمحبة سواء، ولما ذكر سبحانه وتعالى في هذه السورة التوحيد والنبوّة والحشر والردّ على فرق المبطلين بيّن تعالى أنه يسر ذلك بلسان نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:
{فإنما يسرناه} أي: القرآن {بلسانك} أي: العربي أي: لولا أنه تعالى نقل قصصهم إلى اللغة العربية لما تيسر ذلك لك {لتبشر به المتقين} أي: المؤمنين {وتنذر} أي: تخوّف {به قوماً لدّاً} جمع ألد أي: جدل بالباطل وهم كفار مكة ثم إنه تعالى ختم السورة بموعظة عظيمة بليغة فقال تعالى:
(5/225)
---(1/2388)
{وكم} أي: كثيراً {أهكلنا قبلهم من قرن} أي: أمّة من الأمم الماضية بتكذيب الرسل لأنهم إذا تأمّلوا وعلموا أنه لا بدّ من زوال الدنيا وأنه لا بدّ فيها من الموت وخافوا سوء العاقبة في الآخرة كانوا إلى الحذر من المعاصي أقرب. ثم أكد ذلك بقوله تعالى {هل تحس} أي: ترى وقيل: تجد {منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً} أي: صوتاً خفياً لا قال الحسن بادوا جميعاً فلم يبق منهم عين ولا أثر أي: فكما أهلكنا أولئك نهلك هؤلاء.
تنبيه: الركز الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم ومنه ركز الرمح أي: غيبه في الأرض وأخفاه ومنه الركاز وهو المال المدفون لخفائه واستتاره، والحديث الذي ذكره البيضاوي تبعاً للزمخشري وهو «من قرأ سورة مريم أعطى عشر حسنات بعدد من كذب زكريا وصدّق به ويحيى ومريم وعيسى وسائر الأنبياء المذكورين فيها وبعدد من دعا الله في الدنيا ومن لم يدع الله تعالى» حديث موضوع.
سورة طه
مكية
وهي مائة وخمس وثلاثون آية وعدد كلماتها ألف وثلاثمائة وإحدى وأربعون كلمة وعدد حروفها خمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون حرفاً وعن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أعطيت السورة التي ذكرت فيها البقرة من الذكر الأوّل وأعطيت طه ويس والطواسين من ألواح موسى وأعطيت فواتيح القرآن وخواتيم السورة التي ذكرت فيها البقرة من تحت العرش وأعطيت المفصل نافلة».
{بسم الله} الملك الحق المبين {الرحمن} الذي عمّ نعمه على خلقه أجمعين {الرحيم} الذي خص بجنته عباده المؤمنين وقرأ
(5/226)
---
{طه} شعبة وحمزة والكسائي بإمالة الطاء والهاء ووافقهم ورش وأبو عمرو على إمالة الهاء محضة ولم يمل ورش محضة إلا هذه الهاء وقد تقدّم الكلام في الحروف المقطعة في أوّل سورة البقرة وفي هذه ههنا قولان: الصحيح أنها من تلك وقيل: إنها كلمة مفيدة أما على القول الأوّل فقد تقدّم الكلام فيه في أوّل سورة البقرة والذي زادوه هنا أمور:(1/2389)
أحدها: قال الثعالبي: الطاء شجرة طوبى والهاء الهاوية فكأنه أقسم بالجنة والنار.
ثانيها: يحكى عن جعفر الصادق الطاء طهارة أهل البيت والهاء هدايتهم.
ثالثها: قال سعيد بن جبير: هذا افتتاح اسمه الطيب الطاهر الهادي.
رابعها: مطمع الشفاعة للأمة وهادي الخلق إلى الملة.
خامسها: الطاء من الطهارة والهاء من الهداية فكأنه قيل يا طاهراً من الذنوب يا هادياً إلى علام الغيوب.
سادسها: الطاء طول القراءة والهاء هيبتهم في قلوب الكفار قال تعالى: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب} (آل عمران، 151)
(5/227)
---
سابعها: الطاء بتسعة في الحساب والهاء بخمسة تكون أربعة عشر ومعناها يا أيها البدر وأمّا على القول الثاني فقيل: معنى طه يا رجل وهو يروى عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة والكلبي، ثم قال سعيد بن جبير بالنبطية، وقال قتادة بالسريانية وقال عكرمة بالحبشية وقال الكلبي بلغة عك وهو بتشديد الكاف ابن عدنان أخو معد، وحكى الكلبي أنك لو قلت في عك يا رجل لم تجب حتى تقول طه، وقال السدّي: معناه يا فلان وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فؤمر أن يطأ الأرض بقدميه معاً وقال الكلبيّ: لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي بمكة اجتهد في العبادة حتى كان يراوح بين قدميه في الصلاة لطول قيامه وكان يصلي الليل كله فأنزل الله عليه هذه الآية وأمره أن يخفف على نفسه فقال تعالى:(1/2390)
{ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} أي: لتتعب بما فعلت بعد نزوله من طول قيامك بصلاة الليل أي: خفف عن نفسك فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم صلى الليل حتى تورمت قدماه فقال له جبريل عليه السلام ابق على نفسك فإنّ لها عليك حقاً ما أنزلناه لتهلك نفسك بالصلاة وتذيقها المشقة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة وروى أنه كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام وقيل: لما رأى المشركون اجتهاده في العبادة قالوا: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك أي: لتتعنى وتتعب وما أنزل عليك القرآن يا محمد إلا لشقائك فنزلت، وأصل الشقاء في اللغة العناء وقيل: المعنى أنك لا تلام على كفر قومك، كقوله تعالى: {لست عليهم بمسيطر} (الغاشية، 22)
وقوله تعالى: {وما أنت عليهم بوكيل} (الأنعام، 107)
(5/228)
---
أي: أنك لا تؤاخذ بذنبهم وقيل: إنّ هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت مقهوراً تحت ذل الأعداء فكأنه تعالى قال لا تظنّ أنك تبقى أبداً على هذه الحالة بل يعلو أمرك ويظهر قدرك فإنا ما أنزلنا عليك القرآن لتبقى شقياً فيما بينهم بل لتصير معظماً مكرّماً. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة وأبو عمرو بين بين وورش بين اللفظين والفتح عنده ضعيف جدّاً، وكذلك جميع رؤوس آي هذه السورة من ذوات الياء وقوله تعالى:
{إلا تذكرة} استثناء منقطع أي: لكن أنزلناه تذكرة. قال الزمخشري: فإن قلت هل يجوز أن يكون تذكرة بدلاً من محل لتشقى قلت لا لاختلاف الجنسين ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي إلا فيه بمعنى لكن {لمن يخشى} أي: لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار أو لمن علم الله تعالى منه أن يخشى بالتخويف منه، فإنه المنتفع به وقوله تعالى:(1/2391)
{تنزيلاً} بدل من اللفظ بفعله الناصب له {ممن خلق الأرض} أي: من الله الذي خلق الأرض {والسموات العلى} أي: العالية الرفيعة التي لا يقدر على خلقها في عظمها غير الله تعالى والعلي جمع علياً كقولهم كبرى وكبر وصغرى وصغر وقدّم الأرض على السموات لأنها أقرب إلى الجنس وأظهر عنده من السموات ثم أشار إلى وجه إحداث الكائنات وتدبير أمرها بأن قصد العرش وأجرى منه الأحكام والتقادير وأنزل منه الأسباب على ترتيب ومقادير حسبما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته فقال تعالى:
{الرحمن على العرش} وهو سرير الملك {استوى} أي: استواء يليق به فإنه سبحانه وتعالى كان ولا عرش ولا مكان وإذا خلق الله الخلق لا يحتاج إلى مكان فهو بالصفة التي كان لم يزل عليها وتقدّم الكلام على ذلك في سورة الأعراف مستوفي فراجعه، ثم استدل سبحانه وتعالى على كمال قدرته بقوله تعالى:
(5/229)
---
{له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى} فهو مالك لما في السموات من ملك ونجم وغيرهما ومالك لما في الأرض من المعادن والفلوات ومالك لما بينهما من الهواء ومالك لما تحت الثرى وهو التراب الندي والمراد الأرضون السبع لأنها تحته وقال ابن عباس: إنّ الأرضين على ظهر النون والنون على بحر ورأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش والبحر على صخرة خضراء خضرة السماء منها وهي الصخرة التي ذكر الله تعالى في قصة لقمان {فتكن في صخرة} (لقمان، 16)
والصخرة على قرن ثور والثور على الثرى وما تحت الثرى لا يعلمه إلا الله عز وجل وذلك الثور فاتح فاه فإذا جعل الله تعالى البحار بحراً واحداً سالت في جوف ذلك الثور فإذا وقعت في جوفه يبست.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة وورش بين اللفظين وكذا جميع رؤوس أي السورة من ذوات الراء. ولما كانت القدرة تابعة للإرادة وهي لا تنفك عن العلم عقب ذلك بإحاطة علمه تعالى بجليات الأمور وخفياتها على حدّ سواء فقال تعالى:(1/2392)
{وإن تجهر بالقول} أي: تعلن بالقول في ذكر أو دعاء فالله تعالى غنيّ عن الجهر به {فإنه يعلم السر وأخفى} قال الحسن: في السر ما أسرّ الرجل إلى غيره وأخفى من ذلك ما أسرّ في نفسه، وعن ابن عباس السر ما تسر في نفسك وأخفى من السر ما يلقيه الله تعالى في قلبك من بعد ولا تعلم أنك ستحدث به نفسك لأنك تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم ما تسر غداً والله يعلم ما أسررت اليوم وما تسر غداً، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس السر ما أسر ابن آدم في نفسه وأخفى ما خفى عليه مما هو فاعله قبل أن يعلمه، وقال مجاهد السر العمل الذي يسر من الناس وأخفى الوسوسة، وقيل: السرّ هو العزيمة وأخفى ما يخطر على القلب ولم يعزم عليه، وقال زيد بن أسلم: يعلم أسرار العباد وأخفى سره من عباده فلا يعلمه. أحد ولما ذكر صفاته وحّد نفسه فقال تعالى:
(5/230)
---
{الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} التسعة والتسعون الوارد بها الحديث والحسنى تأنيث الأحسن وفضل أسماء الله تعالى على سائر الأسماء في الحسن لدلالتها على معان هي أشرف المعاني وأفضلها.
روي أنّ لله تعالى أربعة آلاف اسم ألف لا يعلمها إلا هو وألف لا يعلمها إلا الله والملائكة وألف لا يعلمها إلا الله والملائكة والأنبياء وأما الألف الرابعة فالمؤمنون يعلمونها فثلاثمائة في التوراة وثلاثمائة في الإنجيل وثلاثمائة في الزبور ومائة في القرآن تسعة وتسعون منها ظاهرة وواحد مكنون من أحصاها دخل الجنة وذكر في لا إله إلا الله فضائل كثيرة أذكر بعضها وأسأل الله تعالى أن يجعلنا ومحبينا من أهلها.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء أستغفر الله ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات».(1/2393)
وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى خلق ملكاً من الملائكة قبل أن يخلق السموات والأرض وهو يقول أشهد أن لا إله إلا الله ماداً بها صوته لا يقطعها ولا يتنفس فيها ولا يتمها فإذا أتمها أمر إسرافيل بالنفخ في الصور وقامت القيامة تعظيماً لله».
وعن أنس قال صلى الله عليه وسلم «مازلت أشفع إلى ربي ويشفعني وأشفع إليه ويشفعني حتى قلت يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله فقال يا محمد ليست لك ولا لأحد وعزتي وجلالي لا أدع أحداً في النار قال لا إله إلا الله».
وقال سفيان الثوري: سألت جعفر بن محمد عن حم عسق فقال الحاء حلمه والميم ملكه والعين عظمته والسين سناؤه والقاف قدرته يقول الله عز وجل بحلمي وملكي وعظمتي وسنائي وقدرتي لا أعذب بالنار من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله.
(5/231)
---
روي عن موسى عليه السلام أنه قال: يا رب علمني شيئاً أذكرك به قال: قل لا إله إلا الله، قال: إنما أردت شيئاً تخصني به قال يا موسى لو أن السموات السبع ومن فوقهنّ في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهنّ لا إله إلا الله، وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة} (إبراهيم، 24)
أنها لا إله إلا الله {إليه يصعد الكلم الطيب} (فاطر، 10)
لا إله إلا الله {وتواصوا بالحق} (العصر، 4)
لا إله إلا الله {قل إنما أعظكم بواحدة} (سبأ، 46)
لا إله إلا الله {وقفوهم إنهم مسؤولون} (الصافات، 24)
عن قول لا إله إلا الله {بل جاء بالحق وصدق المرسلين} (الصافات، 37)
هو لا إله إلا الله {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} (إبراهيم، 27)
هو لا إله إلا الله {ويضل الله الظالمين} (إبراهيم، 27)
عن قول لا إله إلا الله.(1/2394)
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قال في السوق لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له بيتاً في الجنة» قال الرازي وفي النكت ينبغي لأهل لا إله إلا الله أن يخلصوا في أربعة أشياء حتى يكونوا من أهل لا إله إلا الله التصديق والتعظيم والجلالة والحرمة فمن ليس له التصديق فهو منافق ومن ليس له التعظيم فهو مبتدع ومن ليس له الجلالة فهو مراء ومن ليس له الحرمة فهو فاجر وكذاب.
وحكي أنّ بشراً الحافي رأى كاغداً فيه بسم الله الرحمن الرحيم فرفعه وطيبه بالمسك فرأى في النوم كأنه نودي يا بشر طيبت اسمنا فنحن نطيب اسمك في الدنيا والآخرة.
(5/232)
---
وذكر أنّ صياداً كان يصيد السمك وكانت ابنته تطرحها في الماء وتقول إنما وقعت في الشبكة لغفلتها إلهنا تلك الصبية كانت ترحم غفلتها وكانت تلقيها مرة أخرى في البحر ونحن قد اصطادتنا وسوسة الشيطان وأخرجنا من بحر رحمتك فارحمنا بفضلك وخلصنا منه وألقنا في بحار رحمتك مرّة أخرى.
وعن محمد بن كعب القرظي قال: قال موسى: إلهي أي: خلقك أكرم عليك؟ قال: الذي لا يزال لسانه رطباً من ذكري، قال: فأي خلقك أعظم؟ قال: الذي يلتمس إلى علمه علم غيره، قال: فأيّ خلقك أعدل؟ قال: الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس، قال: وأيّ خلقك أعظم جرماً؟ قال: الذي يتهمني وهو الذي يسألني ثم لا يرضى بما قسمت له. إلهنا إنا لانتهمك فإنّا نعلم أنّ كل ما أحسنت به فهو فضل وكل ما لا تفعله فهو عدل فلا تؤاخذنا بسوء أفعالنا وأعمالنا.(1/2395)
وعن الحسن إذا كان يوم القيامة نادى مناد سيعلم الجمع من أولى بالكرم أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون فيتخطون رقاب الناس، ثم يقال: أين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله؟ ثم ينادي منادٍ أين: الحامدون الله كثيراً على كل حال؟ ثم يكون الحساب على من بقي. إلهنا نحن حمدناك وأثنينا عليك بمقدار طاقتنا ومنتهى قدرتنا فاعف عنا بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، ولما عظّم الله تعالى حال القرآن وحال رسوله صلى الله عليه وسلم بما كلفه أتبع ذلك بما يقوي قلب رسوله صلى الله عليه وسلم من ذكر أحوال الأنبياء تقوية لقلبه في الإبلاغ كقوله تعالى: {وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} (هود، 120)
وبدأ بموسى عليه السلام لأنّ فتنته كانت أعظم الفتن ليتسلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ويصبر على حمل المكاره، فقال تعالى:
(5/233)
---
{وهل أتاك حديث موسى} وهذا محتمل لأن يكون هذا أوّل ما أخبر به من أمر موسى فقال: وهل أتاك أي: لم يأتك إلى الآن فتنبه له وهذا قول الكلبي ومحتمل أن يكون قد أتاه ذلك في الزمان المتقدم فكأنه قال: أليس قد أتاك؟ وهذا قول مقاتل والضحاك عن ابن عباس وهذا وإن كان على لفظ الاستفهام الذي لا يجوز على الله تعالى لكن المقصود منه تقرير الخبر في نفسه وهذه الصورة أبلغ في ذلك كقولك لصاحبك هل بلغك عني كذا؟ فيتطلع السامع إلى معرفة ما يومئ إليه ولو كان المقصود هو الاستفهام لكان الجواب يصدر من قبل موسى لا من قبل الله تعالى، وقيل: إن هل بمعنى قد وجرى على ذلك الجلال المحلي تبعاً للبغوي وقوله تعالى:
(5/234)
---(1/2396)
{إذ رأى} يجوز أن يكون منصوباً بالحديث وهو الظاهر ويجوز أن ينصب باذكر مقدراً أي: واذكر إذ رأى {ناراً} وذلك أنّ موسى عليه السلام استأذن شعيباً عليه السلام في الرجوع من مدين إلى مصر لزيارة والدته وأخيه فأذن له فخرج بأهله وماله وكانت أيام شتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام وامرأته حامل في شهرها لا تدري ليلاً تضع أو نهاراً فسار في البرية غير عارف بطرقها فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد.
قيل: كانت ليلة جمعة وأخذت امرأته في الطلق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وجعل يقدح زنده فلا يوري فأبصر ناراً من بعيد عن يسار الطريق من جانب الطور {فقال لأهله امكثوا} أي: أقيموا في مكانكم والخطاب لامرأته وولدها والخادم ويجوز أن يكون للمرأة وحدها خرج على ظاهر لفظ الأهل فإنّ الأهل يقع على الجمع وأيضاً قد يخاطب الواحد بلفظ الجمع تفخيماً وقرأ حمزة بضم الهاء في الوصل والباقون بالكسر {إني آنست} أي: أبصرت {ناراً} والإيناس الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ومنه إنسان العين لأنه يتبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل الجنّ لاستتارهم.
وقيل: إبصار ما يؤنس به ولما وجد منه الإيناس وكان متيقناً حققه لهم بكلمة إني ليوطن أنفسهم. ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع فقال: {لعلي آتيكم منها بقبس} أي: شعلة في رأس فتيلة أو عود أو نحو ذلك وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء في إني ولعلي الآتية والباقون بالسكون إلا ابن عامر ففتح لعلى مع من ذكروهم على مراتبهم في المدّ {أو أجد على النار هدى} أي: هادياً يدلني على الطريق ومعنى الاستعلاء في على النار أنّ أهل النار يستعلون المكان القريب منها كما قال سيبويه في مررت بزيد إنه لصوق بمكان يقرب من زيد أو لأنّ المصطلين بها إذا أحاطوا بها كانوا مشرفين عليها.
(5/235)
---(1/2397)
وقال بعضهم: النار أربعة أقسام نار تأكل ولا تشرب وهي نار الدنيا ونار تشرب ولا تأكل وهي التي في الشجر الأخضر كما قال تعالى: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً} (يس، 80)
ونار تأكل وتشرب وهي نار المعدة ونار لا تأكل ولا تشرب وهي نار موسى عليه السلام .
وقيل أيضاً: النار أربعة؛ أحدها: نار لها نور بلا حرقة وهي نار موسى عليه السلام ، ثانيها: لها حرقة بلا نور وهي نار جهنم أعاذنا الله تعالى منها، ثالثها: لها الحرقة والنور وهي نار الدنيا، رابعها: لا حرقة ولا نور وهي نار الأشجار
تنبيه: إن وصلت هدى ب {فلما} فليس فيها إلا التنوين للجميع وإن وقف عليها فهم على أصولهم في الفتح والإمالة وبين اللفظين
{فلما أتاها} أي: النار قال ابن عباس رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها أطافت بها نار بيضاء تتقد كأضوأ ما يكون فوقف متعجباً من شدّة ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة فلا النار تغير خضرتها ولا كثرة ماء الشجرة يغير ضوء النار قال ابن مسعود كانت الشجرة مثمرة خضراء وقال مقاتل وقتادة والكلبي: كانت من العوسج، وقال وهب: كانت من العليق، وقيل: من العناب قال أكثر المفسرين: إنّ الذي رآه موسى لم يكن ناراً بل كان من نور الرب تعالى وهو قول ابن عباس وعكرمة وغيرهما ذكر بلفظ النار لأنّ موسى عليه السلام حسبه ناراً فلما دنا منها سمع تسبيح الملائكة ورأى نوراً عظيماً قال وهب ظنّ موسى أنها نار أوقدت فأخذ من دقاق الحطب وهو الحشيش اليابس ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده فتأخر عنها وهابها ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها ثم لم يكن بأسرع من خمودها كأنها لم تكن ثم رمى موسى ببصره إلى فروعها فإذا خضرتها ساطعة في السماء وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكلّ عنه الأبصار فلما رأى موسى عليه السلام ذلك وضع يديه على عينيه وألقيت عليه السكينة {نودي يا موسى}.
(5/236)
---(1/2398)
{إني أنا ربك} قال وهب نودي من الشجرة فقيل: يا موسى فأجاب سريعاً ولم يدر من دعاه فقال إني أسمع صوتك ولا أرى مكانك فأين أنت فقال أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك منك فعلم أنّ ذلك لا ينبغي إلا لله تعالى فأيقن به.
وقيل: إنه سمع بكل أجزائه حتى أنّ كل جارحة منه كانت أذناً وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الهمزة من إني على تقدير الباء أي: بأني لأنّ النداء يوصل بها تقول ناديته بكذا وأنشد الفارسي قول الشاعر:
*ناديت باسم ربيعة بن مكدّم
** أنّ المنوه باسمه الموثوق
وجوّز ابن عطية أن تكون بمعنى لأجل وليس بظاهر والباقون بالكسر إمّا على إضمار القول كما هو رأي البصريين أي: فقيل: وإما لأنّ النداء في معنى القول عند الكوفيين وقوله تعالى أنا يجوز أن يكون مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر إن ويجوز أن يكون توكيد للضمير المنصوب ويجوز أن يكون فصلاً.
وروى ابن مسعود مرفوعاً في قوله تعالى: {فاخلع نعليك} إنهما كانا من جلد حمار ميت ويروى غير مدبوغ فأمر بخلعهما صيانة للوادي المقدّس وقال عكرمة ومجاهد: إنما أمر بذلك ليباشر بقدمه تراب الأرض المقدّسة فيناله بركتها ويدل لذلك أنه قال تعالى عقبه: {إنك بالوادي المقدّس} أي: المطهر أو المبارك فخلعهما وألقاهما من وراء الوادي هذا ما قاله أهل التفسير.
وذكر أهل الإشارة في ذلك وجوهاً:
أحدها: أنّ النعل في النوم يعبر بالزوجة وقوله فاخلع نعليك إشارة إلى أنه لا يلتفت بخاطره إلى الزوجة والولد وأن لا يبقى مشغول القلب بأمرهما.
ثانيها: المراد بخلع النعلين ترك الالتفات إلى الدنيا والآخرة كأنه أمره أن يصير مستغرق القلب بالكلية في معرفة الله تعالى فلا يلتفت إلى المخلوقات.
(5/237)
---(1/2399)
ثالثها: أن الإنسان حال الاستدلال على وجود الصانع لا يمكنه أن يتوصل إليه إلا بمقدمتين مثل أن يقول العالم المحسوس محدث وكل ما كان كذلك فله مؤثر ومدبر وصانع فهاتان المقدمتان شبيهتان بالنعلين لأنّ بهما يتوصل العقل إلى المقصود وينتقل من النظر في الخلق إلى معرفة الخالق ثم بعد الوصول إلى معرفة الخالق وجب أن لا يبقى ملتفتاً إلى تلك المقدمتين، فكأنه قيل: لا تكن مشتغل الخاطر بتلك المقدّمتين فإنك وصلت إلى الوادي المقدس الذي هو بحر معرفة الله تعالى: وقوله تعالى: {طوى} بدل أو عطف بيان وقرأه هنا وفي النازعات نافع وابن كثير وأبو عمرو بغير تنوين فهو ممنوع من الصرف باعتبار البقعة مع العلمية وقيل: لأنه معدول عن طاو فهو مثل عمر للعدل عن عامر وقيل: إنه اسم أعجمي ففيه العلمية والعجمة والباقون بالتنوين فهو مصروف باعتبار المكان ففيه العلمية فقط وعند هؤلاء ليس بأعجميّ وقوله تعالى:
{وأنا اخترتك} أي: اصطفيتك للرسالة من قومك قرأ حمزة بتشديد النون من أنا وقرأ اخترناك بنون بعدها ألف بلفظ الجمع والباقون بتاء مضمومة وقوله تعالى: {فاستمع لما يوحى} أي: إليك مني فيه نهاية الهيبة والجلالة كأنه تعالى قال: لقد جاءك أمر عظيم فتأهب له واجعل كل عقلك وخاطرك مصروفاً إليه وفي قوله تعالى وأنا اخترتك نهاية اللطف والرحمة فيحصل له من الأوّل نهاية الرجاء ومن الثاني نهاية الخوف.
تنبيه: يجوز في لام لما أن تتعلق فاستمع وهو أولى وأن تكون مزيدة في المفعول على حد قوله تعالى: {ردف لكم} (النحل، 72)
وجوّز الزمخشريّ أن يكون ذلك من باب التنازع ونازعه أبو حيان بأنه لو كان كذلك لأعاد الضمير مع الثاني فكان يقول فاستمع له لما يوحى، وأجيب عنه بأنّ مراده التعلق المعنوي من حيث الصلاحية وأما تقدير الصناعة فلم يعنه.
وقوله تعالى:
(5/238)
---(1/2400)
{إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} بدل مما يوحى دال على أنه مقصور على تقرير التوحيد الذي هو منتهى العلم والأمر بالعبادة التي هي كمال العمل وفي هذه الآية دلالة على أنّ علم أصول الدين مقدّم على علم الفروع، وأيضاً فالفاء في قوله تعالى فاعبدني تدل على أنّ عبادته إنما لزمت لآلهيته لأن التوحيد من علم الأصول والعبادة من علم الفروع وخص الصلاة بالذكر وأفردها في قوله تعالى {وأقم الصلاة لذكرى} للعلة التي أناط بها إقامتها وهو تذكير المعبود وشغل القلب واللسان بذكره.
وقيل: لذكرى لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها وقيل: لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة أو لذكر صلاتي لما روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها إنّ الله يقول وأقم الصلاة لذكري» وقيل: لأنّ أذكرك بالثناء والمدح واجعل لك عليها لسان صدق علياً وقيل: لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري.
ولما خاطب تعالى موسى عليه السلام بقوله تعالى: {فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} أتبعه بقوله تعالى:
(5/239)
---(1/2401)
{إنّ الساعة آتية} أي: كائنة {أكاد أخفيها} قال أكثر المفسرين معناه أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها غيري من الخلق وكيف أظهرها لكم ذكر تعالى على عادة العرب إذا بالغوا في كتمان الشيء يقول الرجل كتمت سري من نفسي أي: أخفيته غاية الإخفاء والله تعالى لا يخفى عليه شيء والمعنى في إخفائها التهويل والتخويف لأنهم إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة كانوا على حذر منها كل وقت وكذلك المعنى في إخفاء وقت الموت لأنّ الله تعالى وعد قبول التوبة فإذا عرف وقت موته وانقضاء أجله اشتغل بالمعاصي إلى أن يقرب ذلك الوقت فيتوب ويصلح العمل فيتخلص من عقاب المعاصي بتعريف وقت موته فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل المعصية فإذا لم يعلم وقت موته لا يزال على قدم الخوف والوجل فيترك المعاصي أو يتوب منها في كل وقت خوف معاجلة الأجل. وقال أبو مسلم: أكاد بمعنى أريد وهو كقوله تعالى: {كذلك كدنا ليوسف} (يوسف، 76)
ومن أمثالهم المتداولة لا أفعل ذلك ولا أكاد أي: لا أريد أن أفعله وقال الحسن: إن أكاد من الله واجب فمعنى قوله تعالى: أكاد أخفيها أي: أنا أخفيها عن الخلق كقوله تعالى: {عسى أن يكون قريباً} (الإسراء، 51)
أي: هو قريب وقيل: أكاد صلة في الكلام والمعنى أنّ الساعة آتية أخفيها. قال زيد الخيل:
*سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه
** فما أن يكاد قرنه يتنفس
أي فما أن يتنفس قرنه وقوله تعالى: {لتجزى كل نفس بما تسعى} أي: تعمل من خير أو شرّ متعلق بآتية، واختلف في المخاطب بقوله تعالى:
{فلا يصدّنك} أي: يصرفنك {عنها من لا يؤمن بها} فقيل: وهو الأقرب كما قاله الرازي أنه موسى عليه السلام لأنّ الكلام أجمع خطاب له، وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم واختلف أيضاً في عود هذين الضميرين على وجهين:
(5/240)
---(1/2402)
أحدهما: قال أبو مسلم لا يصدّنك: عنها أي: عن الصلاة التي أمرتك بها من لا يؤمن بها أي: بالساعة فالضمير الأوّل عائد إلى الصلاة والثاني إلى الساعة ومثل هذا جائز في اللغة فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليردّ السامع إلى كل خبر حقه.
ثانيهما: قال ابن عباس: فلا يصدنك عن الساعة أي: عن الإيمان بها من لا يؤمن بها فالضميران عائدان إلى يوم القيامة وهذا أولى لأن الضمير يعود إلى أقرب المذكورات وههنا الأقرب هو الساعة وما قاله أبو مسلم إنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة ههنا.
تنبيه: المقصود من ذلك نهى موسى عليه السلام عن التكذيب بالبعث ولكن ظاهر اللفظ يقتضي نهي من لم يؤمن عن صدّ موسى وفيه وجهان:
أحدهما: أنّ صدّ الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على حمله على المسبب.
الثاني: أنّ صدّ الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين فذكر المسبب ليدل على السبب كقولهم لا أرينك ههنا المراد نهي المخاطب عن حضوره له لا أن يراه هو فالرؤية مسببة عن الحضور كما أنّ صدّ الكافر مسبب عن الرخاوة والضعف في الدين فقيل: لا تكن رخواً بل كن شديداً صلباً حتى لا يلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه {واتبع هواه} أي: ميل نفسه إلى اللذات المحبوبة المخدجة لقصر نظره عن غيرها وخالف أمر الله {فتردى} أي: فتهلك إن انصددت عنها وما في قوله تعالى:
(5/241)
---
{وما تلك بيمينك} مبتدأ استفهامية وتلك خبره وبيمينك حال من معنى الإشارة وقوله تعالى: {يا موسى} تكرير لأنه ذكره قبل في قوله تعالى: {نودي يا موسى} وبعد في مواضع كألقها يا موسى لزيادة الاستئناس والتنبيه.
فإن قيل: السؤال إنما يكون لطلب العلم وهو على الله تعالى محال فما الفائدة في ذلك؟(1/2403)
أجيب: بأنّ في ذلك فوائد؛ الأولى: توقيفه على أنها عصا حتى إذا قلبها حية علم أنها معجزة عظيمة وهذا على عادة العرب يقول الرجل لغيره هل تعرف هذا؟ وهو لا يشك أنه يعرفه ويريد أن يضم إقراره بلسانه إلى معرفته بقلبه. الثانية: أن يقرّر عنده أنها خشبة حتى إذا قلبها ثعباناً لا يخافها. الثالثة: أنه تعالى لما أراه تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء وأسمعه كلام نفسه ثم أورد عليه التكليف الشاق وذكر له المعاد وختم ذلك بالتهديد العظيم فتحير موسى عليه السلام ودهش فقيل له وما تلك بيمينك يا موسى؟ وتكلم معه بكلام البشر إزالةً لتلك الدهشة والحيرة.
فإن قيل: هذا خطاب من الله تعالى لموسى بلا واسطة ولم يحصل ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم أجيب: بالمنع فقد خاطبه في قوله تعالى: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} (النجم، 10)
(5/242)
---
إلا أنّ الذي ذكره مع موسى عليه السلام أفشاه إلى الخلق والذي ذكره مع محمد صلى الله عليه وسلم كان سراً لم يؤهل له أحد من الخلق وأيضاً إن كان موسى تكلم معه فأمة محمد يخاطبون الله تعالى في كل يوم مراراً على ما قاله صلى الله عليه وسلم «المصلي يناجي ربه والرب يتكلم مع آحاد أمة محمد يوم القيامة بالتسليم والتكريم لقوله تعالى: {سلام قولاً من رب رحيم} (يس، 58)(1/2404)
تنبيه: قوله تعالى: وما تلك إشارة إلى العصا وقوله تعالى بيمينك إشارة إلى اليد وفي هذا نكت ذكرها الرازي رحمه الله تعالى الأولى: أنه تعالى لما أشار إليهما جعل كل واحدة منهما معجزة قاهرة وبرهاناً ساطعاً ونقله من حدّ الجمادية إلى مقام الكرامة، فإذا صار الجماد بالنظر الواحد حيواناً صار الجسم الكثيف نورانياً لطيفاً ثم إنه تعالى ينظر كل يوم ثلاثمائة وستين مرّة إلى قلب العبد فأيّ عجب لو انقلب قلبه من موت العصيان إلى السعادة بالطاعة ونور المعرفة. ثانيها: أنّ بالنظر الأول الواحد صار الجماد ثعباناً فبلغ سحر النفس الأمارة بالسوء. ثالثها: أن العصا كانت في يمين موسى عليه السلام فبسبب بركته انقلبت ثعباناً فبلع سحر السحرة فأيّ عجب لو صار القلب ثعباناً وبرهاناً وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن فإذا حصلت ليد موسى عليه السلام هذه المنزلة فأي عجب لو انقلب قلب المؤمن بسبب أصبعي الرحمن من ظلمة المعصية إلى نور العبودية.
ولما سأل تعالى موسى عليه السلام عن ذلك أجاب بأربعة أشياء ثلاثة على التفصيل وواحد على الإجمال أوّلها:
(5/243)
---
{قال هي عصاي} وقد تم الجواب بذلك إلا أنه عليه السلام ذكر الوجوه الأخر لأنه كان يحب المكالمة مع ربه فجعل ذلك كالوسيلة إلى تحصيل هذا الغرض. ثانيها: قوله: {أتوكأ} أي: أعتمد {عليها} إذا مشيت وإذا عييت وإذا وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة. ثالثها: قوله: {وأهش} أي: أخبط ورق الشجر {بها} ليسقط {على غنمي} لتأكله فبدأ عليه السلام أولاً بمصالح نفسه في قوله أتوكأ عليها ثم بمصالح رعيته في قوله: أهش بها على غنمي وكذلك في القيامة يقول نفسي نفسي ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يشتغل في الدنيا إلا بإصلاح أمر الأمّة {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} (الأنفال، 33)
(5/244)
---(1/2405)
«اللهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون» فلا جرم يوم القيامة يبدأ أيضاً بأمّته فيقول: أمّتي أمّتي رابعها قوله {ولي فيها مآرب} جمع مأربة بتثلث الراء حوائج ومنافع {أخرى} كحمل الزاد والسقي وطرد الهوام وإنما أجمل في المآرب رجاء أن يسأله ربه عن تلك المآرب فيسمع كلام الله تعالى مرّة أخرى ويطول أمر المكالمة بسبب ذلك وقيل: انقطع لسانه بالهيبة فاجمل وقيل: اسم العصا نبعة وقيل: في المآرب كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناء بالمحجن وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أداوته من القوس والكنانة والحلاب وغيرها وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل والزندين بفتح الزاي تثنية زند وزندة والزند العود الأعلى الذي تقدح به النار والزندة السفلى فيها ثقب فإذا اجتمعا قيل: زندان ولم نقل زندتان وإذا قصر رشاؤه وصله بها وكان يقاتل بها السباع عن غنمه وقيل: كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً ويكونان شمعتين بالليل وإذا ظهر عدوّ حاربت عنه وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب وكانت تقيه الهوام وروي عن ابن عباس أنها كانت تماشيه وتحدّثه ولما ذكر موسى هذه الجوابات لربه
{قال} له {ألقها} أي: أنبذها {يا موسى} {فألقاها فإذا هي حية} أي: ثعبان عظيم {تسعى} أي: تمشي على بطنها سريعاً وهنا نكت خفية.
إحداها: أنه عليه السلام لما قال ولي فيها مآرب أخرى أراد الله تعالى أن يعرفه أنّ فيها مآرب لا يفطن لها ولا يعرفها وأنها أعظم من سائرها وأربى.
(5/245)
---(1/2406)
ثانيها: كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا فالرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب، فقال أوّلاً: فاخلع نعليك إشارة إلى ترك الهرب، ثم قال: ألقها وهو إشارة إلى ترك الطلب، كأنه تعالى قال: إنك ما دمت في مقام الهرب والطلب كنت مشتغلاً بنفسك طالباً لحظك فلا تكن خالصاً لمعرفتي، فكن تاركاً للهرب والطلب تكن خالصاً لي.
ثالثها: أنّ موسى عليه السلام مع علوّ درجته وكمال صفته لما وصل إلى الحضرة ولم يكن معه إلا النعلان والعصا أمره بإلقائها حتى أمكنه الوصول إلى الحضرة فأنت في ألف وقر من المعاصي فكيف يمكنك الوصول إلى جنابه؟ فإن قيل: كيف قال هنا حية وفي موضع آخر جان وهي الحية الخفيفة الصغيرة وقال في موضع آخر ثعبان وهو أكبر ما يكون من الحيات؟ أجيب: بأنّ الحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير وأمّا الثعبان والجان فبينهما تناف لأنّ الثعبان العظيم من الحيات كما مرّو الجان الدقيق وفي ذلك وجهان؛ أحدهما: أنها كانت وقت انقلابها حية صغيرة دقيقة ثم تورمت وتزايد جلدها حتى صارت ثعباناً فأريد بالجان أوّل حالها وبالثعبان مآلها. الثاني: أنها كانت في شخص الثعبان وسرعة حركة الجانّ لقوله تعالى: {فلما رآها تهتز كأنها جانّ} (النمل، 10)
قال وهب: لما ألقى العصا على وجه الأرض نظر إليها فإذا هي حية تسعى صفراء من أعظم ما يكون من الحيات تمشي بسرعة لها عرف كعرف الفرس وكان بين لحييها أربعون ذراعاً صارت شعبتاها شدقين لها والمحجن عنقاً وعرفاً يهتز وعيناها تتقدان كالنار تمر بالصخرة العظيمة مثل الخلفة من الإبل فتلتقمها وتقصف الشجرة العظيمة بأنيابها ويسمع لأنيابها صريفاً عظيماً فلما عاين ذلك موسى ولى مدبراً وهرب ثم نودي يا موسى ارجع حيث كنت فرجع وهو شديد الخوف
(5/246)
---(1/2407)
{قال} تعالى له {خذها} أي: بيمينك {ولا تخف} وكان على موسى مدرعة من صوف قد خلها بعيدان فلما قال تعالى له خذها لف طرف المدرعة على يده فأمره الله أن يكشف يده، وذكر بعضهم أنه لما لف كم المدرعة على يده قال له الملك أرأيت إن أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئاً قال: لا ولكنني ضعيف ومن ضعف خلقت وكشف عن يده ثم وضعها في فم الحية فإذا هي عصا كما كانت ويده في شعبتيها في الموضع الذي كان يضعها إذا توكأ عليها كما قال تعالى: {سنعيدها سيرتها الأولى} وقد أظهر الله تعالى في هذه العصا معجزات لموسى عليه السلام منها انقلاب العصا حية ومنها وضع يده في فمها من غير ضرر ومنها انقلابها خشبة مع الأمارات التي تقدّمت
تنبيه: في نصب سيرتها أوجه:
أحدها: أن تكون منصوبة على الظرف أي: في سيرتها أي: طريقتها:
ثانيها: على البدل من هاء سنعيدها بدل اشتمال لأنّ السيرة الصفة أي: سنعيدها صفتها وشكلها.
ثالثها: على إسقاط الخافض أي: إلى سيرتها وقيل غير ذلك. فإن قيل: لما نودي يا موسى وخص بتلك الكرامات العظيمة وعلم أنه مبعوث من عند الله تعالى إلى الخلق فلماذا خاف؟ أجيب عن ذلك بأوجه أحدها: أنّ ذلك الخوف كان من نفرة الطبع لأنه عليه السلام ما شاهد مثل ذلك قط وهذا معلوم بدلائل العقول ثانيها: إنما خافها لأنه عليه السلام عرف ما لقي آدم عليه السلام منها. ثالثها: أنّ مجرد قوله ولا تخف لا يدل على حصول الخوف كقوله تعالى: {ولا تطع الكافرين} (الأحزاب، 1)
لا يدل على وجود تلك الطاعة لكن قوله: {فلما رآها تهتز كأنها جانّ ولى مدبراً} (النمل، 10)
يدل عليه ولكن ذلك الخوف إنما ظهر ليظهر الفرق بينه وبين أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم فما أظهر الرغبة في الجنة ولا النفرة عن النار وقوله تعالى:
(5/247)
---(1/2408)
{واضمم يدك} أي: اليمنى {إلى جناحك} أي: جنبك الأيسر تحت العضد في الإبط {تخرج بيضاء} أي: نيرة مشرقة تضيء كشعاع الشمس تعشى البصر لا بدّ فيه من حذف والتقدير واضمم يدك تنضم وأخرجها تخرج فحذف من الأوّل والثاني وأبقى مقابليهما ليدلا على ذلك إيجازاً واختصاراً وإنما احتيج إلى هذا لأنه لا يترتب على مجرد الضم الخروج وبيضاء حال من فاعل تخرج وقوله تعالى: {من غير سوء} متعلق بتخرج وروي عن ابن عباس إلى جناحك إلى صدرك والأّول أولى كما قال الرازي لأنه يقال لكل ناحيتين جناحان كجناحي العسكر لطرفيه وجناحا الإنسان جانباه والأصل المستعار منه جناحا الطائر سميا بذلك لأنه يجنحهما أي: يميلهما عند الطيران وجناحا الإنسان عضداه فعضداه يشبهان جناحي الطير، ولأنه قال: تخرج بيضاء ولو كان المراد بالجناح الصدر لم يكن لقوله تخرج معنى والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة. والبرص أبغض شيء إلى العرب ولهم عنه نفرة عظيمة وإسماعهم لاسمه مجاجة فكان جديراً بأن يكنى عنه ولا ترى أحسن ولا أظرف ولا أخف للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه.
يروى أنّ موسى عليه السلام كان شديد الأدمة فكان إذا أدخل يده اليمنى في جيبه فأدخلها في إبطه الأيسر وأخرجها فكانت تبرق مثل البرق وقيل مثل الشمس من غير مرض ثم إذا أردّها عادت إلى لونها الأوّل من غير نور وقوله تعالى: {آية أخرى} أي: معجزة ثابتة حال من ضمير تخرج كبيضاء وقوله تعالى:
(5/248)
---(1/2409)
{لنريك} متعلق بما دل عليه آية أي: دللنا بها لنريك وقوله تعالى: {من آياتنا الكبرى} أي: العظمى على رسالتك متعلق بمحذوف على أنه حال من الكبرى والكبرى مفعول ثان لنريك والتقدير لنريك الكبرى حال كونها من آياتنا أي: بعض آياتنا واختلف أيّ الآيتين أعظم في الإعجاز فقال الحسن: اليد لأنه تعالى قال: لنريك من آياتنا الكبرى والذي عليه الأكثر أنّ العصا أعظم إذ ليس في اليد إلا تغير اللون وأمّا العصا ففيها تغير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة وابتلاع الحجر والشجر ثم إعادتها عصا بعد ذلك فقد وقع التغير في كل هذه الأمور فكانت العصا أعظم وأما قوله تعالى: {لنريك من آياتنا الكبرى} فقد ثبت أنه عائد إلى الكلام وأنه غير مختص باليد، فإن قيل: لم لم يقل تعالى من آياتنا الكبر؟ أجيب: بأنّ ذلك ذكر لرؤوس الآي وقيل فيه إضمار معناه لنريك من آياتنا الآية الكبرى وهذا التقدير يقوّي قول القائل بأنّ اليد أعظم آية. ولما أظهر سبحانه وتعالى لموسى هذه الآيات عقبها بأمره بالذهاب إلى فرعون بقوله تعالى:
(5/249)
---(1/2410)
{اذهب} أي: رسولاً {إلى فرعون} وبيّن تعالى العلة في ذلك بقوله تعالى: {إنه طغى} أي: جاوز الحد في كفره إلى أن ادّعى الإلهية ولهذا خصه الله تعالى بالذكر مع أنه عليه السلام مبعوث إلى الكل قال وهب: قال الله تعالى لموسى عليه السلام اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي وإنّ معك يدي ونصري وإني ألبسك جبة من سلطاني تستكمل بها القوّة في أمرك أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرّته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي، أقسم بعزتي لولا الحجة التي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ولكن هان عليّ وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي وقل له قولاً لينا لا يغترّ بلباس الدنيا فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي في كلام طويل قال فسكت موسى عليه السلام سبعة أيام لا يتكلم ثم جاءه ملك فقال أجب ربك فيما أمرك فعند ذلك
{قال رب اشرح لي صدري} أي: وسعه لتحمل الرسالة، قال ابن عباس: يريد حتى لا أخاف غيرك والسبب في هذا السؤال ما حكى الله تعالى عنه في موضع آخر بقوله: {قال ربّ إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني} (الشعراء: 12، 13)
(5/250)
---
وذلك أنّ موسى عليه السلام كان يخاف فرعون اللعين خوفاً شديداً لشدّة شوكته وكثرة جنوده وكان يضيق صدراً بما كلف من مقاومة فرعون وحده فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه حتى يعلم أنّ أحداً لا يقدر على مضرته إلا بإذن الله تعالى وإذا علم ذلك لم يخف فرعون وشدّة شوكته وكثرة جنوده، وقيل: اشرح لي صدري بالفهم عنك ما أنزلت عليّ من الوحي(1/2411)
{ويسر} أي: سهّل {لي أمري} أي: ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون وذلك لأنّ كل ما يصدر من العبد من الأفعال والأقوال والحركات والسكنات فالله تعالى هو الميسر له، فإن قيل: قوله لي في اشرح لي صدري ويسر لي أمري ما جدواه والأمر مستتم مستتب بدونه؟ أجيب: بأنه قد أبهم الكلام أوّلاً فقال اشرح لي ويسر لي فعلم أن ثم مشروحاً وميسراً ثم بيّن ورفع الإبهام بذكرهما فكان آكد لطلب الشرح لصدره والتيسير لأمره من أن يقول: اشرح صدري ويسر أمري على الإيضاح الساذج لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل
{واحلل عقدة من لساني} قال ابن عباس كان في لسانه عليه السلام رته وذلك أنّ موسى عليه السلام كان في حجر فرعون ذات يوم في صغره فلطم فرعون لطمة وأخذ بلحيته فقال فرعون لآسية امرأته إنّ هذا عدوّي وأراد أن يقتله فقالت له آسية: إنه صبي لا يعقل ولا يميز وفي رواية أنّ أمّ موسى لما فطمته ردّته إلى فرعون فنشأ موسى في حجر فرعون وامرأته يربيانه واتخذاه ولداً فبينما هو ذات يوم يلعب بين يدي فرعون وبيده قضيب يلعب به إذ رفع القضيب فضرب به رأس فرعون فغضب فرعون وتطير بضربه وهمّ بقتله فقالت آسية: أيها الملك إنه صغير لا يعقل جربه إن شئت فجاءت بطشتين في أحدهما جمر وفي الآخر جوهر فأراد أن يأخذ الجوهر فأخذ جبريل يد موسى عليه السلام فوضعها على النار فأخذ جمرة فوضعها في فيه فاحترق لسانه وصارت عليه عقدة.
(5/251)
---
وقيل: قربا إليه تمرة وجمرة فأخذ الجمرة فجعلها في فيه فاحترق لسانه، ويروى أنّ يده احترقت وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ ولما دعاه قال إلى أي: رب تدعوني قال إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها وعن بعضهم أنها لم تبرأ يده لئلا يدخلها مع فرعون في قصعة واحدة فتنعقد بينهما حرمة المؤاكلة.(1/2412)
وقيل: كان ذلك التعقد خلقة فسأل الله تعالى إزالته واختلفوا في أنه لم طلب حل تلك العقدة؟ فقيل: لئلا يقع خلل في أداء الوحي وقيل لئلا يستخف بكلامه فينفروا عنه ولا يلتفتوا إليه وقيل: لإظهار المعجزة كما أنّ حبس لسان زكريا عليه السلام عن الكلام كان معجزاً في حقه فكذا إطلاق لسان موسى معجز في حقه واختلفوا في زوال العقدة بكمالها فقيل: بقي بعضها لقوله: {وأخي هارون هو أفصح مني لساناً} (القصص، 34)
وقول فرعون ولا يكاد يبين وكان في لسان الحسين بن عليّ رضى الله تعالى عنهما رته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ورثها من عمه موسى» وقال الحسن: زالت بالكلية لقوله تعالى: {قد أوتيت سؤلك يا موسى} (طه، 36)
وضعف هذا الرازي بأنه عليه السلام لم يقل واحلل العقد من لساني بل قال واحلل عقدة من لساني فإذا حل عقدة واحدة فقد آتاه الله سؤله قال والحق أنه انحل أكثر العقد وبقي منها شيء وقال الزمخشري وفي تنكير العقدة ولم يقل واحلل عقدة لساني أنه طلب حل بعضها إرادة أن يفهم عنه فهماً جيداً أي: ولذا قال:
{يفقهوا} أي: يفهموا {قولي} عند تبليغ الرسالة ولم يطلب الفصاحة الكاملة ومن لساني صفة للعقدة كأنه قيل: عقدة من عقد لساني
تنبيه: استدل على أنّ في النطق فضيلة عظيمة بوجوه: أوّلها: قوله تعالى: {خلق الإنسان علمه البيان} (الرحمن، 3)
فماهية الإنسان هي الحيوان الناطق. ثانيها: اتفاق العقلاء على تعظيم أمر اللسان قال زهير:
*لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
** فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
(5/252)
---(1/2413)
وقالوا ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مرسلة أي: لو ذهب النطق اللساني لم يبق من الإنسان إلا القدر الحاصل في البهائم، وقالوا: المرء بأصغريه قلبه ولسانه، وقالوا المرء مخبوء تحت لسانه. ثالثها: أنّ في مناظرة آدم عليه السلام مع الملائكة ما ظهرت الفضيلة إلا بالنطق حيث قال: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض} (البقرة: 33)
ولما رأى موسى عليه السلام أنّ التعاون على الدين والتظاهر عليه مع مخالصة الودّ وزوال التهمة قربة عظيمة في الدعاء إلى الله تعالى طلب المعاونة على ذلك بقوله:
{واجعل لي وزيراً} أي: معيناً على الرسالة ولذلك قال عيسى بن مريم عليه السلام : {من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله} (آل عمران، 52)
وقال محمد صلى الله عليه وسلم «إنّ لي في السماء وزيرين وفي الأرض وزيرين فاللذان في السماء جبريل وميكائيل واللذان في الأرض أبو بكر وعمر» وقال صلى الله عليه وسلم «إذا أراد الله تعالى بملك خيراً قيض له وزيراً صالحاً إن نسي ذكره وإن نوى خيراً أعانه وإن أراد شرّاً كفه» وقال أنوشروان: لا يستغني أجود السيوف عن الصقل ولا أكرم الدواب عن السوط ولا أعلم الملوك عن الوزير. ولما كان التعاون على الدين منقبة عظيمة أراد أن لا تحصل هذه الدرجة إلا لأهله فقال: {من أهلي} أي: أقاربي وقوله:
{هارون} قال الجلال المحلي: مفعول ثان وقوله: {أخي} عطف بيان وذكر غيره أعاريب غير ذلك لا حاجة لنا بذكرها.
تنبيه: الوزير مشتق من الوزر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنه، أو من الوزر لأنّ الملك يعتصم برأيه ويلجئ إليه أموره، أو من الموازرة وهي المعاونة. قال الرازي: وكان هارون مخصوصاً بأمور منها الفصاحة لقول موسى: {هو أفصح مني لساناً} (القصص، 34)
ومنها الرفق لقول هارون: {يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} (طه، 94)
(5/253)
---(1/2414)
أنه كان أكبر سناً منه وقال ابن عادل كان أكبر سناً من موسى بأربع سنين وكان أفصح لساناً منه وأجمل وأوسم أبيض اللون وكان موس آدم اللون أقنى جعدا.
ولما طلب موسى عليه السلام من الله تعالى أن يجعل هارون وزيراً له طلب منه أن يشد أزراره بقوله: {اشدد به أزري} أي: أقوّي به ظهري
{وأشركه في أمري} أي: في النبوّة والرسالة، وقرأ ابن عامر بسكون الياء من أخي وهمزة مفتوحة من أشدد وهو على مرتبته في المدّ وهمزة مضمومة من أشركه وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من أخي وهمزة وصل من اشدد وأشركه بهمزة مفتوحة والباقون بسكون الياء من أخي وهمزة وصل من أشدد وفتح الهمزة من أشركه ثم إنه تعالى حكى عنه ما لأجله دعا بهذا الدعاء فقال:
{كي نسبحك} تسبيحاً {كثيراً} قال الكلبي: نصلي لك كثيراً نحمدك ونثني عليك والتسبيح تنزيه الله تعالى في ذاته وصفاته عما لا يليق به.
{ونذكرك} ذكراً {كثيراً} أي: نصفك بصفات الكمال والجلال والكبرياء وجوّز أبو البقاء أن يكون كثيراً نعتاً لزمان محذوف أي: زماناً كثيراً.
{إنك كنت بنا بصيراً} أي: عالماً بأنّا لا نريد بهذه الطاعات إلا وجهك ورضاك أو بصيراً بأنّ الاستعانة بهذه الأشياء لأجل حاجتي في النبوّة إليها أو بصيراً بوجوه مصالحنا فأعطنا ما هو الأصلح لنا. ولما سأل موسى عليه السلام ربه تلك الأمور المتقدّمة وكان من المعلوم أنّ قيامه بما كلف به لا يتم إلا بإجابته إليها لا جرم
{قال} الله تعالى: {قد أوتيت سؤلك يا موسى} أي: أعطيت جميع ما سألته منا عليك لما فيه من وجوه المصالح
(5/254)
---(1/2415)
{ولقد مننا عليك مرّة أخرى} أي: أنعمنا عليك في وقت آخر وفي ذلك تنبيه على أمور أحدها: كأنه تعالى قال: إني راعيت مصلحتك قبل سؤالك فكيف لا أعطيك مرادك بعد السؤال ثانيها: إني كنت ربيتك فلو منعتك الآن كان ذلك ردّاً بعد القبول وإساءة بعد الإحسان فكيف يليق بكرمي ثالثها: إنّا أعطيناك في الأزمنة السالفة كل ما احتجت إليه ورقيناك الدرجة العالية وهي منصب النبوّة فكيف يليق بمثل هذه التربية المنع عن المطلوب فإن قيل: لم ذكر تلك النعم بلفظ المنة مع أنّ هذه اللفظة مؤذية والمقام مقام تلطف؟ أجيب: بأنه إنما ذكر ذلك ليعرف موسى عليه السلام أنّ هذه النعم التي وصل إليها ما كان مستحقاً لشيء منها بل إنما خصه الله تعالى بها لمحض فضله وإحسانه، فإن قيل: لم قال مرّة أخرى مع أنه تعالى ذكر منناً كثيرة؟ أجيب: بأنه لم يعن بمرّة أخرى واحدة من المنن لأنّ ذلك قد يقال في القليل والكثير، ثم بيّن تلك المنة وهي ثمانية أولها قوله تعالى:
(5/255)
---
{إذ أوحينا إلى أمّك} وحياً لا على وجه النبوّة إذ المرأة لا تصلح للقضاء ولا للإمامة ولا تلي عند أكثر العلماء تزويج نفسها فكيف تصلح للنبوّة ويدل على ذلك قوله تعالى: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحى إليهم} (النحل، 43)
والوحي جاء لا بمعنى النبوّة في القرآن كثيراً قال تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل} (النحل، 68)
{وإذا أوحيت إلى الحواريين} (المائدة، 111)
ثم اختلفوا في المراد بهذا الوحي على وجوه:
أحدها: أنه رؤيا رأتها أمّ موسى وكان تأويلها وضع موسى في التابوت وقذفه في البحر وأنّ الله تعالى يردّه عليها.
ثانيها: أنه عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة.
(5/256)
---(1/2416)
ثالثها: المراد خطور البال وغلبته على القلب، فإن قيل: هذه الوجوه الثلاثة يعترض عليها بأنّ الإلقاء في البحر قريب من الإهلاك وهو مساوٍ للخوف الحاصل من القتل المعتاد من فرعون فكيف يجوز الإقدام على أحدهما لأجل الصيانة عن الثاني؟ أجيب: بأنها لعلها عرفت بالاستقراء صدق رؤياها فكان الإلقاء في البحر إلى السلامة أغلب على ظنها من وقوع الولد في يد فرعون.
رابعها: لعله أوحى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزمان كشعيب عليه السلام أو غيره ثم إنّ ذلك النبيّ عرفها إمّا مشافهة أو مراسلة واعترض على هذا بأنّ الأمر لو كان كذلك لما لحقها الخوف. وأجيب: بأنّ ذلك الخوف كان من لوازم البشرية كما أنّ موسى عليه السلام كان يخاف فرعون مع أنّ الله تعالى كان أمره بالذهاب إليه مراراً.
خامسها: لعل بعض الأنبياء المتقدّمين كإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام أخبروا بذلك الخبر وانتهى ذلك الخبر إلى أمّه.
سادسها: لعلّ الله تعالى بعث إليها ملكاً لا على وجه النبوّة كما بعث إلى مريم في قوله: {فتمثل لها بشراً سوياً} (مريم، 17)
وأمّا قوله تعالى: {ما يوحى} فمعناه ما لا يعلم إلا بالوحي أو ما ينبغي أن يوحى ولا يخلّ به لعظم شأنه وفرط الاهتمام ويبدل منه
{أن اقذفيه} أي: ألقيه {في التابوت} أي: ألهمناها أن اجعليه في التابوت {فاقذفيه} أي: موسى بالتابوت {في اليمّ} أي: نهر النيل {فليلقه اليمّ بالساحل} أي: شاطئه والأمر بمعنى الخبر والضمائر كلها لموسى فالمقذوف في البحر والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت حتى لا تفرّق الضمائر فيتنافر النظم الذي هو أمّ إعجاز القرآن والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر
(5/257)
---(1/2417)
تنبيه: اليمّ البحر والمراد به هنا نيل مصر في قول الجميع واليمّ اسم يقع على النهر والبحر العظيم قال الكسائي والساحل فاعل بمعنى مفعول سمي بذلك لأن الماء يسحله أي: يحسره إذا علاه وقوله تعالى: {يأخذه عدوّ لي وعدوّ له} أي: فرعون جواب فليلقه وتكرير عدوّ للمبالغة أو لأنّ الأوّل باعتبار الواقع والثاني باعتبار المتوقع أي: سيصير عدوّاً له بعد ذلك فإنه لم يكن في ذلك الوقت بحيث يعادى، روي أنها اتخذت تابوتاً قال مقاتل: إنّ الذي صنع التابوت حزقيل مؤمن آل فرعون وجعلت في التابوت قطناً محلوجاً فوضعته فيه وجصصته وقيرته ثم ألقته في اليمّ وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير فبينما هو جالس على رأس بركة مع آسية بنت مزاحم إذا بتابوت يجري به الماء فأمر فرعون الغلمان والجواري بإخراجه فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبيّ أصبح الناس وجهاً فأحبه عدوّ الله حباً شديداً لا يتمالك أن يصبر عنه كما قال تعالى: {وألقيت عليك محبة مني} وهذه هي المنة الثانية قال الزمخشري: مني لا يخلو إمّا أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب، وإمّا أن يتعلق بمحذوف وهو صفة لمحبة أي محبة خالصة أو واقعة مني قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها فلذلك أحبك فرعون وآسية حتى قالت قرّة عين لي ولك لا تقتلوه. روي أنه كان على وجهه مسحة جمال وفي عينه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من يراه وهو كقوله تعالى: {سيجعل لهم الرحمن ودّاً} (مريم، 96)
المنة الثالثة قوله تعالى {ولتصنع على عيني} أي: تربى على رعايتي وحفظي لك فأنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به ويقول للصانع اصنع هذا على عيني أنظر إليك لئلا تخالف به عن مرادي وبغيتي.
(5/258)
---(1/2418)
تنبيه: ولتصنع معطوف على علة مضمرة مثل ليتلطف بك ولتصنع أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلل مثل فعلت ذلك، وقرأ بفتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو وسكنها الباقون. المنة الرابعة قوله تعالى:
{إذ تمشي أختك} والعامل في إذ ألقيت أو تصنع ويجوز أن يكون بدلاً من إذ أوحينا واستشكل بأنّ الوقتين مختلفان متباعدان وأجيب: بأنه يصح مع اتساع الوقت كما يصح أن يقول لك الرجل لقيت فلاناً سنة كذا فتقول وأنا لقيته إذ ذاك وربما لقيه هو في أوّلها وأنت في آخرها {فتقول هل أدلكم على من يكفله} يروى أنّ أخته واسمها مريم جاءت متعرفة خبره فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة فقالت لهم ذلك فقالوا نعم فجاءت بالأمّ فقبل ثديها فذلك قوله تعالى: {فرجعناك إلى أمّك كي تقرّ عينها} بلقائك ورؤيتك {ولا تحزن} أي: هي بفراقك أو أنت بفراقها وفقد إشفاقها ويروى أن آسية استوهبته من فرعون وتبنته وهي التي أشفقت عليه وطلبت له المراضع.
المنة الخامسة: قوله تعالى: {وقتلت نفساً} قال ابن عباس: هو الرجل القبطي الذي قتله خطأً بأن وكزه حين استغاثه الإسرائيلي إليه قال الكسائي: كان عمره إذ ذاك اثنتي عشرة سنة {فنجيناك من الغمّ} أي: من غم قتله خوفاً من اقتصاص فرعون كما قال تعالى في آية: {فأصبح في المدينة خائفاً يترقب} (القصص، 18)
بالمهاجرة إلى مدين.
المنة السادسة: قوله تعالى: {وفتناك فتوناً} قال ابن عباس: اختبرناك اختباراً وقيل: ابتليناك ابتلاءً، قال ابن عباس: الفتون وقوعه في محنة بعد محنة وخلصه الله تعالى منها أوّلها أنّ أمّه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ثم إلقاؤه في البحر في التابوت ثم منعه الرضاع إلا من ثدي أمّه ثم أخذه بلحية فرعون حتى همّ بقتله ثم تناوله الجمرة بدل الجوهرة ثم قتله القبطي وخروجه إلى مدين خائفاً.
(5/259)
---(1/2419)
فإن قيل: إنه تعالى عدد أنواع مننه على موسى في هذا المقام فكيف يليق بهذا الموضع وفتناك فتونا؟
أجيب: بجوابين الأوّل: فتناك أي: خلصناك تخليصاً من قولهم فتنت الذهب إذا أردت تخليصه من الفضة أو نحوها. الثاني: أنّ الفتنة تشديد المحنة يقال فتن فلان عن دينه إذا اشتدّت عليه المحنة حتى رجع عن دينه قال تعالى: {فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} (العنكبوت، 10)
وقال تعالى: {ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين} (العنكبوت: 2، 3)
ولما كان التشديد في المحنة يوجب كثرة الثواب عده الله تعالى من جملة النعم وتقدّم تفسير ابن عباس وهو قريب من ذلك، فإن قيل: هل يصح إطلاق الفتان على الله تعالى اشتقاقاً من قوله تعالى: وفتناك فتونا؟ أجيب: بأنه لا يصح لأنه صفة ذم في العرف وأسماء الله تعالى توقيفية لا سيما فيما يوهم ما لا ينبغي.
المنة السابعة: قوله تعالى: {فلبثت سنين في أهل مدين} والتقدير وفتناك فخرجت خائفاً إلى أهل مدين فلبثت سنين فيهم عند شعيب عليه السلام وتزوّجت بابنته وهي إمّا عشر أو ثمان لقوله: {على أن تأجرني ثمان حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك} (القصص، 27)
وقال وهب: لبث موسى عند شعيب عليه السلام ثماناً وعشرين سنة منها عشر سنين مهر امرأته فإنه قضى أوفى الأجلين والآية دالة على أنه لبث عشر سنين وليس فيها ما ينفي الزيادة على العشر كما قاله الرازي وإن قال ابن عادل يرده قوله تعالى: {فلما قضى موسى الأجل} (القصص، 29)
(5/260)
---(1/2420)
أي: الأجل المشروط عليه في تزويجه وسار بأهله ومدين بلدة شعيب على ثمان مراحل من مصر {ثم جئت على قدر} أي: على القدر الذي قدّرت أنك تجي فيه لأن أكلمك وأستنبئك غير مستقدم وقته المعين ولا مستأخر وقال عبد الرحمن بن كيسان على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحي فيه للأنبياء وهذا قول أكثر المفسرين أي: على الموعد الذي وعد الله وقدّر أنه يوحي إليه بالرسالة وهو أربعون سنة وكرّر تعالى قوله: {يا موسى} عقب ما هو غاية الحكاية للتنبيه على ذلك. المنة الثامنة: قوله تعالى:
{واصطنعتك} أي: اخترتك {لنفسي} لأصرّفك في أوامري لئلا تشتغل إلا بما أمرتك به وهو إقامة حجتي وتبليغ رسالتي وأن تكون في حركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لغيرك ثم بيّن تعالى ماله اصطنعه وهو الإبلاغ والأداء بقوله تعالى:
{اذهب أنت وأخوك بآياتي} أي: بمعجزاتي وقال ابن عباس: الآيات التسع التي بعث بها موسى وقيل: إنها العصا واليد لأنهما اللذان جرى ذكرهما في هذا الموضع ولم يذكر أنه عليه السلام أوتي قبل مجيئه إلى فرعون ولا بعد مجيئه حتى لقي فرعون فالتمس منه آية غير هاتين الآيتين قال تعالى حكاية عن فرعون: {إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين} (الأعراف: 106، 107، 108)
وقال تعالى: {فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه} (القصص، 32)
فإن قيل: كيف أطلق لفظ الجمع على الاثنين؟ أجيب: بأنّ العصا كانت آيات انقلابها حيواناً ثم إنها في أوّل الأمر كانت صغيرة لقوله تعالى: تهتز كأنها جانّ ثم كانت تعظم وهذه آية أخرى ثم كانت تصير ثعباناً وهذه آية أخرى ثم إنه عليه السلام كان يدخل يده في فمها فما كانت تضرّه فهذه آية أخرى ثم كانت تنقلب خشبة فهذه آية أخرى وكذلك اليد فإنّ بياضها آية وشعاعها آية أخرى ثم زوالها بعد ذلك آية أخرى فدل ذلك على أنها كانت آيات كثيرة.
(5/261)
---(1/2421)
وقيل: الآيات العصا واليد وحلّ عقدة لسانه وقيل: معناه أمدّكما بآياتي وأظهر على أيديكما من الآيات ما تنزاح به العلل من فرعون وقومه {ولاتنيا} أي: لا تفترا ولا تقصرا {في ذكري} أي: بتسبيح وغيره فإنّ من ذكر جلال الله استخف غيره فلا يخاف أحداً وتقوى روحه بذلك الذكر فلا تضعف في مقصوده، ومن ذكر الله لا بدّ وأن يكون ذاكر إحسانه، وذاكر إحسانه لا يفتر في أداء أوامره وقيل: لاتنيا في ذكرى عند فرعون بأن تذكرا لفرعون وقومه أنّ الله لا يرضى منهم الكفر وتذكرا لهم أمر الثواب والعقاب والترغيب والترهيب وقيل: المراد بالذكر تبليغ الرسالة
{اذهبا إلى فرعون إنه طغى} أي: بادّعاء الربوبية
تنبيه: ذكر الله تعالى المذهوب إليه هنا وهو فرعون وحذفه في قوله اذهب أنت وأخوك بآياتي اختصاراً في الكلام وقال القفال فيه وجهان؛ أحدهما: أنّ قوله اذهب أنت وأخوك بآياتي يحتمل أن يكون كل واحد منهما مأموراً بالذهاب على الانفراد فقيل مرّة أخرى اذهبا لتعرفا أنّ المراد منه أن يشتغلا بذلك جميعاً لا أن ينفرد به أحدهما دون الآخر والثاني: أنّ قوله اذهب أنت وأخوك بآياتي أمر بالذهاب إلى كل الناس من بني إسرائيل وقوم فرعون ثم إن قوله تعالى: اذهبا إلى فرعون أمر بالذهاب إلى فرعون وحده واستبعد هذا بل الذهابان متوجهان لشيء واحد وقد حذف من كل من الذهابين ما أثبته في الآخر وقيل: إنه حذف المذهوب إليه من الأوّل وأثبته في الثاني، وحذف المذهوب به وهو بآياتي من الثاني وأثبته في الأوّل.
{فقولا له قولاً ليناً} أي: مثل {هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى} (النازعات: 18، 19)
(5/262)
---(1/2422)
فإنه دعوة في صورة عرض ومشورة، فإن قيل: لم أمر الله تعالى باللين مع الكافر الجاحد؟ أجيب: بأنّ عادة الجبار إذا أغلظ عليه في الوعظ يزداد عتوّاً وتكبراً فأمر باللين حذراً من أن تحمله الحماقة على أن يسطو عليهما واحتراماً لما له من حق التربية وقيل: كنياه وكان له ثلاث كنى أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرّة وقيل: عداه شباباً لا هرم بعده وملكاً لا يزول إلا بالموت وأن تبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته وإذا مات دخل الجنة فأعجبه ذلك وكان لا يقطع أمراً دون هامان وكان غائباً فلما قدم أخبره بالذي دعاه إليه موسى وقال أردت أن أقبل منه فقال له هامان كنت أرى أنّ لك عقلاً ورأياً أنت رب تريد أن تكون مربوباً وأنت تعبد تريد أن تعبد فغلبه على رأيه وقوله تعالى: {لعله يتذكر أو يخشى} متعلق باذهبا أو قولا أي: باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه فهو يجتهد بطوقه ويسعى بأقصى وسعه، قال الزمخشري: ولا يستقيم أن يراد ذلك في حق الله تعالى إذ هو عالم بعواقب الأمور، وعن سيبويه كل ما ورد في القرآن من لعل وعسى فهو من الله واجب بمعنى أنه يستحيل بقاء معناه في حق الله تعالى وقال الفرّاء: إن لعلّ بمعنى كي فتفيد العلية كما تقول اعمل لعلك تأخذ أجرتك.
(5/263)
---(1/2423)
فائدة: قرأ رجل عند يحيى بن معاذ {فقولا له قولاً لينا} فبكى يحيى وقال إلهي هذا برك بمن يقول أنا الإله فكيف برك بمن يقول أنت الإله فإن قيل: ما الفائدة في إرسالهما والمبالغة عليهما في الاجتهاد مع علمه تعالى بأنه لا يؤمن؟ أجيب: بأنّ ذلك الإلزام الحجة وقطع المعذرة وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات والتذكر للمتحقق والخشية للمتوهم ولذلك قدّم الأوّل أي: إن لم يتحقق صدقكما ولم يتذكر فلا أقل من أن يتوهمه فيخشى. ويروى عن كعب أنه قال: والذي يحلف به كعب إنه لمكتوب في التوراة فقولا له قولاً ليناً وسأقسي قلبه فلا يؤمن ولقد تذكر فرعون وخشي حين لم تنفعه الذكرى والخشية، وذلك حين ألجمه الغرق قال: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين} (يونس، 90)
ثم إنّ موسى وهارون.
{قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط} أي: يعجل {علينا} بالعقوبة {أو أن يطغى} أي: يتجاوز الحد في الإساءة علينا، فإن قيل: لما تكرّر الأمر من الله تعالى بالذهاب، فعدم الذهاب والتعلل بالخوف هل يدل على معصية؟ أجيب: بأنّ الأمر ليس على الفور فسقط السؤال وهذا من أقوى الدلائل على أنّ الأمر لا يقتضي الفور، فإن قيل: قوله تعالى: قالا ربنا يدل على أنّ المتكلم موسى وهارون ولم يكن هارون هناك حاضراً؟ أجيب: بأنّ الكلام كان مع موسى إلا أنه كان متبوع هارون فجعل الخطاب معه خطاباً مع هارون وكلام هارون على سبيل التقدير في تلك الحالة وإن كان موسى وحده إلا أنه تعالى أضافه إليهما كما في قوله تعالى: {وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها} (البقرة، 72)
وقوله: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل} (المنافقون، 8)
روي أنّ القائل عبد الله بن أبيّ وحده، فإن قيل: إنّ موسى عليه السلام قال: {رب اشرح لي صدري} (طه، 25)
فأجابه الله تعالى بقوله: {قد أوتيت سؤلك يا موسى} (طه، 36)
وهذا يدل على أنه تعالى قد شرح صدره ويسر له ذلك الأمر.u
(5/264)
---(1/2424)
فكيف قال بعده إنا نخاف فإنّ حصول الخوف يمنع من حصول شرح الصدر؟ أجيب: بأنّ شرح الصدر عبارة عن تقويته على ضبط تلك الأوامر والنواهي وحفظ تلك الشرائع على وجه لا يتطرق إليها السهو والتحريف وذلك شيء آخر غير الخوف
{قال} الله تعالى لهما {لا تخافا إنني معكما} حافظكما وناصركما {أسمع وأرى} أي: ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل، فأفعل ما يوجبه حفظي ونصري، وقال ابن عباس: أسمع دعاءكما فأجيبه وأرى ما يراد بكما فأمنع فلست بغافل عنكما فلا تهتما، وقال القفال: قوله تعالى: {أسمع وأرى} يحتمل أن يكون مقابلاً لقوله تعالى {يفرط علينا أو أن يطغى}؛ يفرط علينا بأن لا يسمع منا أو أن يطغى بأن يقتلنا، قال تعالى: إنني معكما أسمع كلامكما فأسخره للاستماع منكما، وأرى أفعاله فلا أتركه حتى يفعل بكما ما تكرهانه ثم إنه سبحانه وتعالى أعاد ذلك التكليف فقال:
(5/265)
---
{فأتياه} لأنه سبحانه وتعالى قال في المرّة الأولى: {اذهبا إلى فرعون} (طه، 43)
وفي الثانية قال: {اذهب أنت وأخوك} (طه، 42)
وفي الثالثة قال: {اذهب إلى فرعون} (طه، 24)(1/2425)
وفي الرابعة قال ههنا: فأتياه، فإن قيل: إنه تعالى أمرهما في الثانية بأن يقولا له قولاً ليناً، وههنا أمرهما بقوله تعالى: {فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل} أي: إلى الشام {ولا تعذبهم} أي: خل عنهم من استعمالك إياهم في أشغالك الشاقة كالحفر والبناء وحمل الثقيل وقطع الصخور وكان فرعون يستعملهم في ذلك مع قتل الأولاد وفي هذا تغليظ من وجوه؛ الأول: قوله: إنا رسولا ربك، وهذا يقتضي انقياده لهما والتزامه لطاعتهما وذلك يعظم على الملك المتبوع. الثاني: قولهما: فأرسل معنا بني إسرائيل فيه إدخال النقص على ملكه لأنه كان محتاجاً إليهم فيما يريده من الأعمال أيضاً. الثالث: قولهما: ولا تعذبهم. الرابع: قولهما {قد جئناك بآية من ربك} فما الفائدة في التليين أوّلاً والتغليظ ثانياً؟ أجيب: بأنّ الإنسان إذا ظهر لجاجه فلا بدّ له من التغليظ حيث لم ينفع التليين.
فإن قيل: أليس الأولى أن يقول إنا رسولا ربك قد جئناك بآية فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم لأن ذكر المعجز مقروناً بالدعاء للرسالة أولى من تأخيره عنه؟.
أجيب: بأنّ هذا أولى لأنهما ذكرا مجموع الدعاوي ثم استدلا على ذلك المجموع بالمعجز وقولهما: قد جئناك بآية من ربك قال الزمخشري: هذه الجملة جارية من الجملة الأولى وهي أنا رسولا ربك مجرى البيان والتفسير لأنّ دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتهما التي هي مجيء الآية.
(5/266)
---
فإن قيل: إنّ الله تعالى قد أعطاهما آيتين هما العصا واليد ثم قال تعالى: {اذهب أنت وأخوك بآياتي}، وذلك يدل على ثلاث آيات وقالا هنا قد جئناك بآية من ربك وذلك يدل على أنها كانت واحدة فكيف الجمع؟ أجاب القفال: بأنّ معنى الآية الإشارة إلى جنس الآيات كأنهما قالا قد جئناك ببينات من عند الله ثم يجوز أن يكون ذلك حجة واحدة أو حججاً كثيرة وتقدّم الجواب عن التثنية والجمع وأنّ في العصا واليد آيات.(1/2426)
وقوله تعالى: {والسلام على من اتبع الهدى} يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى كأنه تعالى قال: فقولا إنا رسولا ربك وقولا له والسلام على من اتبع الهدى ويحتمل أن يكون كلام الله قد تمّ عند قوله قد جئناك بآية من ربك، وقوله تعالى بعد ذلك والسلام على من اتبع الهدى وعد من قبلهما لمن آمن وصدّق بالسلامة له من عقوبات الله في الدنيا والآخرة أو أنّ سلام الملائكة وخزنة الجنة على المهتدين، وقال بعضهم: إن على بمعنى اللام أي: والسلام لمن اتبع الهدى كقوله تعالى: {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} (فصلت، 46)
وقال تعالى في موضع آخر: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} (الإسراء، 7)
نا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب ما جئنا به {وتولى} أعرض عنه، قال البيضاوي: ولعل تغيير النظم والتصريح بالوعيد والتوكيد فيه لأنّ التهديد في أوّل الأمر أهم وأنجع وبالواقع أليق. ولما أتياه وقالا: إنا رسولا ربك وبلغاه ما أمرا به
{قال} لهما {فمن ربكما يا موسى} إنما نادى موسى وحده بعد مخاطبته لهما معاً إما لأنّ موسى هو الأصل في الرسالة وهارون تبع وردء ووزير وإما لأن فرعون كان لخبثه يعلم الرتة التي كانت في لسان موسى عليه الصلاة والسلام ويعلم فصاحة أخيه بدليل قوله: {هو أفصح مني لساناً} (القصص، 34)
(5/267)
---
فأراد أن يفحمه ويدل عليه قول فرعون ولا يكاد يبين وإمّا لأنه حذف المعطوف للعلم به أي: يا موسى وهارون قاله أبو البقاء، ثم إنّ فرعون لم يشتغل مع موسى بالبطش والإيذاء لما دعاه إلى الله تعالى مع أنه كان شديد القوّة عظيم الغلبة كثير العسكر بل خرج معه في المناظرة لأنه لو أذاه لنسب إلى الجهل والسفاهة فاستنكف من ذلك وشرع في المناظرة وذلك يدل على أنّ السفاهة من غير حجة لم يرضه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدّعي الإسلام والعلم(1/2427)
تنبيه: قال ههنا {فمن ربكما يا موسى} وقال في سورة الشعراء: {وما ربّ العالمين} (الشعراء، 23)
وهو سؤال عن الماهية فهما سؤالان مختلفان والواقعة واحدة قال ابن عادل والأقرب أن يقال سؤال من كان مقدّماً على سؤال ما لأنه كان يقول: إني أنا الله والرب فقال: فمن ربكما فلما أقام موسى الدلالة على الوجود وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه في هذا المقام لظهوره وجلائه عدل إلى طلب الماهية لأنّ العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر.
فإن قيل: لم قال فمن ربكما ولم يقل فمن إلهكما؟ أجيب: بأنه أثبت نفسه رباً في قوله: {ألم نربك فينا وليداً} (الشعراء، 18)
فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال أنا ربك فلم تدع رباً آخر وهذا يشبه كلام نمروذ حين قال له إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال له نمروذ أنا أحيي وأميت فلم تكن الإماتة التي ذكرها إبراهيم هي الإماتة مع الإحياء التي عارضه نمروذ بها إلا فيّ اللفظ فكذا ههنا لما ادّعى موسى ربوبية الله تعالى ذكر فرعون هذا الكلام أي: أنا الرب الذي ربيتك ومعلوم أنّ الربوبية التي ادعاها موسى عليه السلام غير الربوبية في المعنى وأنه لا مشاركة بينهما، ثم كأنه قيل: فما أجاب به موسى فقيل:
(5/268)
---(1/2428)
{قال} مستدلاً على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات {ربنا الذي أعطى كل شيء} أي: من الأنواع {خلقه} أي: صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار والأذن الشكل الذي يوافق الإسماع وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناء عنه أو أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة حيث جعل الحصان والحجرة زوجين والبعير والناقة كذلك والرجل والمرأة كذلك فلم يزاوج منهما شيئاً غير جنسه وما هو على خلاف خلقه {ثم هدى} أي: ثم عرّف الله تعالى الحيوان الكائن من المخلوق كيف يرتفق بما أعطي وكيف يتوصل إليه. قال الزمخشريّ: ولله در هذا الجواب ما أحضره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظره بين الأنصاف وكان طالباً للحق ولما خاف فرعون أن يزيد موسى في إظهار تلك الحجة فيظهر للناس صدقه
{قال} لموسى {فما بال} أي: حال {القرون} أي: الأمم {الأولى} كقوم نوح وهود ولوط وصالح في عبادتهم الأوثان فإنها كانت تعبد الأوثان وتنكر البعث فمن شقي منهم ومن سعد أراد أن يصرفه عن ذلك الكلام ويشغله بهذه الحكايات فلم يلتفت إليه فلذلك
{قال علمها عند ربي} استأثر به لا يعلمه إلا هو وما أنا إلا عبد مثلكم لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب وعلم أحوال هذه القرون مثبت عند ربي {في كتاب} هو اللوح المحفوظ ويجوز أن يكون ذلك تمثيلاً لتمكنه في علمه تعالى بما استحفظه العالم وقيده بالكتابة ويؤيده قوله {لا يضلّ ربي ولا ينسى} والضلال أن يخطئ الشيء في مكانه فلم يتهد إليه، والنسيان أن يذهب عنه بحيث لا يخطر بباله، وهما محالان على علام الغيوب بخلاف العبد الذليل والبشر الضئيل أي: لا يضل تعالى ولا ينسى كما تضلّ أنت وتنسى يا مدّعي الربوبية بالجهل والوقاحة ثم عاد إلى تتميم كلامه الأوّل وإبراز الدلائل الظاهرة على الوحدانية فقال
(5/269)
---(1/2429)
{الذي جعل لكم} في جملة الخلق {الأرض مهداً} أي: فراشاً
تنبيه: هذا الموصول في محل رفع صفة لربي وخبره محذوف تقديره هو، أو منصوب على المدح. وقرأ عاصم وحمزة هنا وفي سورة الزخرف مهداً بفتح الميم وسكون الهاء أي: مهدها مهداً أو تتمهدونها فهي لهم كالمهاد وهو ما يمهد للصبيّ، وقرأ الباقون بكسر الميم وفتح الهاء وألف بعدها وهو اسم ما يمهد كالفراش أو جمع مهد {وسلك} أي: سهل {لكم فيها سبلاً} أي: طرقاً بين الجبال والأودية والبراري تسلكونها من أرض إلى أرض لتبلغوا منافعها {وأنزل من السماء ماءً} أي: مطراً وعدل بقوله {فأخرجنا به} عن لفظ الغيبة إلى صيغة التكلم على الحكاية لكلام الله تعالى تنبيهاً على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال قدرته والحكمة وإيذاناً بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لمشيئته وعلى هذا نظائره كقوله تعالى: {ألم تر أنّ الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها} (فاطر، 27)
{أم من خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق} (النحل، 60)
{أزواجاً} أي: أصنافاً سميت بذلك لأنها مزدوجة مقترنة بعضها مع بعض وقوله تعالى {من نبات} بيان وصفة لا زواجاً وكذلك {شتى} وهو جمع شتيت من شت الأمر تفرّق نحو مرضى جمع مريض وجرحى جمع جريح فألفه للتأنيث أي: أزواجاً متفرّقة ويجوز أن يكون صفة للنبات فإنه من حيث إنه مصدر في الأصل يستوي فيه الواحد والجمع أي: أنها مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم فلذلك قال تعالى:
(5/270)
---(1/2430)
{كلوا وارعوا أنعامكم} والأنعام جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم يقال رعت الأنعام ورعيتها والأمر للإباحة وتذكير النعمة والجملة حال من ضمير أخرجنا أي: مبيحين لكم الأكل ورعي الأنعام أي: وبقية الحيوانات {إنّ في ذلك} أي: فيما ذكرت من هذه النعم {لآيات} أي: لعبراً {لأولي النهى} أي: أصحاب العقول جمع نهية كغرفة وغرف سمي به العقل لأنه ينهي صاحبه عن ارتكاب القبائح. ولما ذكر سبحانه وتعالى منافع الأرض والسماء بيّن أنها غير مطلوبة لذاتها بل هي مطلوبة لكونها وسائل إلى منافع الآخرة فقال:
{منها} أي: الأرض {خلقناكم} فإن قيل: إنما خلقنا من النطفة على ما بيّن في سائر الآيات؟ أجيب: بأوجه.
أحدها: أنه لما خلق أصلنا آدم عليه السلام من تراب كما قال تعالى: {كمثل آدم خلقه من تراب} (آل عمران، 59)
حسن إطلاق ذلك علينا.
ثانيها: أن تولد الإنسان إنما هو من النطفة ودم الطمث وهما متولدان من الأغذية والغذاء إمّا حيواني أو نباتي، والحيواني ينتهي إلى النباتي والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء والتراب فصح أنه تعالى خلقنا منها وذلك لا ينافي كوننا مخلوقين من النطفة.
ثالثها: روى ابن مسعود أنّ ملك الأرحام يأتي إلى الرحم حين يكتب أجل المولود ورزقه والأرض التي يدفن فيها فإنه يأخذ من تراب تلك البقعة وينثره على النطفة ثم يدخلها في الرحم وأخرج ابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: إنّ الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذرّه على النطفة فيخلق من التراب ومن النطفة {وفيها نعيدكم} أي: مقبورين بعد الموت {ومنها نخرجكم} أي: عند البعث {تارة} أي: مرّة {أخرى} أي: بتألف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب ونردّهم كما كانوا أحياء ونخرجهم إلى المحشر يوم يخرجون من الأجداث سراعاً ولما كان المقام لتعظيم القدرة عطف عليه قوله تعالى:
(5/271)
---(1/2431)
{ولقد أريناه} أي: أبصرناه {آياتنا كلها} أي: التسع المختصة بموسى عليه السلام وهي العصا واليد وفلق البحر والحجر والجراد والقمل والضفادع والدم ونتق الجبل {فكذب} بها وزعم أنها سحر {وأبى} أن يسلم، فإن قيل: قوله تعالى: كلها يفيد العموم والله تعالى ما أراه جميع الآيات فإنّ من جملة الآيات ما أظهرها على أيدي الأنبياء قبل موسى عليه السلام وبعده؟ أجيب: بأنّ لفظ الكل وإن كان للعموم قد يستعمل في الخصوص مع القرينة كما يقال: دخلت السوق فاشتريت كل شيء أو يقال: إنّ موسى عليه السلام أراه آياته وعدّد عليه آيات غيره من الأنبياء فكذب فرعون بالكل أو يقال تكذيب بعض المعجزات يقتضي تكذيب الكل فحكى سبحانه وتعالى ذلك على الوجه الذي يلزم ثم كأنه قيل: كيف صنع في تكذيبه وإبائه فقيل:
(5/272)
---
{قال} حين علم حقيقة ما جاء به موسى وظهوره وخاف أن يتبعه الناس ويتركوه ووهن في نفسه وهناً عظيماً {أجئتنا لتخرجنا من أرضنا} أي: الأرض التي نحن مالكوها ويكون لك الملك فيها فصارت فرائصه ترعد خوفاً مما جاء به موسى لعلمه وإيقانه أنه على الحق وأنّ المحق لو أراد قود الجبال لانقادت له وإن مثله لا يخذل ولا يذل ناصره وأنه غالبه على ملكه لا محالة ثم خيل لأتباعه أن ذلك سحر بقوله {بسحرك يا موسى} فكان ذلك مع ما ألفوه من عادتهم في الضلال صارفاً لهم عن اتباع ما رأوه من البيان ثم أظهر لهم أنه يعارضه بمثل ما أتى به بقوله:(1/2432)
{فلنأتينك بسحر مثله} أي: مثل سحرك يعارضه {فاجعل بيننا وبينك موعداً} أي: من الزمان والمكان {لا نخلفه} أي: لا نجعله خلفنا {نحن ولا أنت} أي: لا نجاوزه ولما كان كل من الزمان والمكان لا ينفك عن الآخر قال: {مكاناً} وآثر ذلك المكان لأجل وصفه بقوله {سوى} أي: عدلاً وقال ابن عباس نصفا تستوي مسافة الفريقين إليه فانظر إلى هذا الكلام الذي زوّقه ونمقه وصنعه بما وقف به قومه عن السعادة واستمرّ يقودهم بعناده حتى أوردهم البحر فأغرقهم ثم في غمرات النار أحرقهم، وقيل: معنى سوى أي: سوى هذا المكان، وقرأ شعبة وابن عامر وحمزة والكسائي بضم السين والباقون بكسرها وأمال شعبة وحمزة والكسائي في الوقف محضة والباقون بالفتح، وقيل: المراد بالموعد الوعد لأنّ الإخلاف لا يلائم الزمان والمكان أي: بل الوعد هو الذي يصح وصفه بالخلف وعدمه وإلى هذا نحا جماعة مختارين له. وردّ عليهم بقوله:
{قال موعدكم يوم الزينة} فإنه لا يطابقه.
(5/273)
---
تنبيه: يحتمل أنّ قوله: قال موعدكم يوم الزينة أن يكون من قول فرعون فبين الوقت وأن يكون من قول موسى عليه السلام وهذا أظهر كما قال الرازي لوجوه؛ الأوّل: أنه جواب لقول فرعون: {فاجعل بيننا وبينك موعداً} الثاني: وهو أن تعيين يوم الزينة يقتضي إطلاع الكل على ما سيقع فتعيينه إنما يليق بالمحق الذي يعرف أنّ اليد له لا المبطل الذي يعرف أنه ليس معه إلا التلبيس. ثالثها: أن قوله: موعدكم خطاب للجمع فلو جعلناه من فرعون لموسى وهارون لزم إمّا أن نحمله على التعظيم أو أن أقل الجمع اثنان فالأوّل لا يليق بحال فرعون معهما والثاني غير جائز، فإذا جعلناه من موسى عليه السلام استقام الكلام واختلف في يوم الزينة فقال مجاهد وقتادة: النيروز، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: هو يوم عاشوراء، وقيل: كان يوم عيد لهم يتزينون فيه ويجتمعون في كل سنة، وقيل: يوم كانوا يتخذون فيه سوقاً ويتزينون ذلك اليوم.(1/2433)
وبنى قوله: {وأن يحشروا} للمفعول؛ لأن القصد الجمع لا كونه من معين {الناس} أي: يجتمعوا {ضحى} أي: وقت الضحوة، فيكون أظهر لما يعمل، وأجلى، فلا يأتي الليل إلا وقد قضي الأمر، وعرف المحق من المبطل، ويكثر التحديث بذلك في كل بدو وحضر، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر.
(5/274)
---
{فتولى} أي: أعرض {فرعون} عن موسى إلى تهيئة ما يريد من الكيد بعد توليه عن الانقياد لأمر الله تعالى {فجمع كيده} أي: مكره وحيلته وخداعه الذي دبره على موسى عليه السلام بجميع من يحصل بهم الكيد، وهم السحرة حشرهم من كل فج، وكان أهل مصر أسحر أهل الأرض وأكثرهم ساحراً، وكانوا في ذلك الزمان أشد اعتناءً بالسحر، وأمهر ما كانوا وأكثر {ثم أتى} للميعاد الذي وقع القرار عليه بمن حشره من السحرة والجنود ومن تبعهم من الناس مع توفر الدواعي على الإتيان للعيد، والنظر إلى تلك المغالبة التي لم يكن مثلها، ولما تشوق السامع إلى ما كان من موسى عليه السلام عند ذلك استأنف تعالى الخبر عنه بقوله تعالى:
{قال لهم} أي: لأهل الكيد والعناد، وهم السحرة وغيرهم {موسى} حين رأى اجتماعهم ناصحاً لهم {ويلكم} يا أيها الناس الذين خلقكم الله تعالى لعبادته {لا تفتروا} أي: لا تتعمدوا {على الله كذباً} بإشراك أحد معه {فيسحتكم} قال مقاتل: يهلككم، وقال قتادة: يستأصلكم {بعذاب} من عنده، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الياء، وكسر الحاء من الإسحات، وهو لغة نجد وتميم، والباقون بفتحهما، والسحت لغة الحجاز {وقد خاب من افترى} كما خاب فرعون، فإنه افترى واحتال ليبقى الملك له، فلم ينفعه.(1/2434)
{فتنازعوا} أي: تجاذب السحرة {أمرهم بينهم} لما سمعوا هذا الكلام علماً منهم أنه لا يقدر أن يواجه فرعون بمثله في جمع جنوده وأتباعه، ثم يسلم منه إلا من الله تعالى معه {وأسروَّا النجوى} قال الكلبي: قالوا سراً: إن غلبنا موسى اتبعناه، وقال محمد بن إسحاق: لما قال لهم موسى: لا تفتروا على الله كذباً، قال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر، وبالغوا في إخفاء ذلك، فإن النجوى الإسرار لئلا يظهر فرعون وأتباعه على ذلك، فكأنه قيل: ما قالوا حين انتهى تنازعهم؟ فقيل:
(5/275)
---
{قالوا} أي السحرة: {إن هذان لساحران} أي: موسى وهارون، وقرأ ابن كثير وحفص بسكون النون من إن، وشدَّدها الباقون، وقرأ أبو عمرو بالياء بعد الذال، والباقون بالألف على لغة من يجعل ألف المثنى لازماً في كل حال، قال أبو حيان: وهي لغة لطوائف من العرب بني الحارث بن كعب، وبعض كنانة وخثعم وزيد وبني النضر وبني الجهيم ومراد وعذرة، وقال شاعرهم:
تزوّد مني بين أذناه ضربة
يريد أذنيه، وقال آخر:
*إن أباها وأبا أباها ** قد بلغا في المجد غايتاها*(1/2435)
وقيل: تقدير الآية أنه هذان، فحذف الهاء، وذهب جماعة إلى أن حرف أن ههنا بمعنى نعم، أي: نعم هذان، روي أن أعرابياً سأل ابن الزبير شيئاً، فحرمه، فقال: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال ابن الزبير: إنَّ وصاحبها، أي: نعم، وشدَّد ابن كثير النون، فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام، وتزويره خوفاً من غلبتهما، وتثبيطاً للناس عن اتباع موسى وهارون {يريدان} أي بما يقولان من دعوى الرسالة وغيرها {أن يخرجاكم} أيها الناس {من أرضكم} هذه التي ألفتموها، وهي وطنكم خلفاً عن سلف {بسحرهما} الذي أظهراه لكم وغيره. ولما كان كل حزب بما لديهم فرحين قالوا: {ويذهبا بطريقتكم المثلى} مؤنث الأمثل، وهو الأفضل، أي: بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب بإظهار مذهبه، وإعلاء دينه لقوله تعالى: {إني أخاف أن يبدل دينكم} (غافر، 26)، وقيل: أراد أهل طريقتكم، وهم بنو إسرائيل، فإنهم كانوا أرباب علم فيما بينهم لقول موسى: {أرسل معنا بني إسرائيل} (الشعراء، 17)، وقيل: الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم من حيث إنهم قدوة لغيرهم.
{فأجمعوا كيدكم} أي: من السحر وغيره، فلا تدعوا منه شيئاً إلا جئتم به، وقرأ أبو عمرو بهمزة الوصل بين الفاء والجيم، وفتح الميم، والباقون بهمزة مقطوعة وكسر الميم {ثم ائتوا} أي: للقاء موسى وهارون {صفاً} أي مصطفين؛ لأنه أهيب في صدور الرائين.
(5/276)
---
تنبيه: اختلفوا في عدد السحرة، فقال الكلبي: كانوا اثنين وسبعين ساحراً؛ اثنان من القبط، وسبعون من بني إسرائيل، وقال عكرمة: كانوا تسعمائة؛ ثلاثمائة من الفرس، وثلاثمائة من الروم، وثلاثمائة من الاسكندرية، وقال وهب: خمسة عشرة ألفاً، وقال السدي: بضعة وثلاثون ألفاً، وقال القاسم بن سلام: كانوا سبعين ألفاً، وقيل: اثني عشر ألفاً مع كل منهم على كل قول حبل وعصا، وأقبلوا عليه إقبالة واحدة، وظاهر القرآن لا يدل على شيء من هذه الأقوال.r(1/2436)
ولما كان التقدير: فمن أتى كذلك فقد استعلى عطف عليه قوله: {وقد أفلح اليوم} في هذا الجمع الذي ما اجتمع مثله قط {من استعلى} أي: فاز بالمطلوب من غلب، فلما أتى السحرة موسى.
(5/277)
---
{قالوا} له متأدبين؛ لأنّ لين القول مع الخصم إن لم ينفع لم يضر؛ بل نفعهم قال بعضهم: ولذلك رزقهم الله تعالى الإيمان ببركته {يا موسى إما أن تلقي} أي: ما معك مما تناظرنا به أولاً {وإما أن نكون} نحن {أوّل من ألقى} ما معه
(5/278)
---
{قال} لهم موسى عليه السلام مقابلاً لأدبهم بأحسن منه، ولأنه فهم أن مرادهم الابتداء، وليكون هو الآخر، فتكون له العاقبة بتسليط معجزته على سحرهم، فلا يكون بعدها شك لا ألقي أنا أولاً {بل ألقوا} أنتم أولاً، فانتهزوا الفرصة؛ لأن ذلك كان مرادهم بما أفهموه من تغيير السياق والتصريح بالأول، فألقوا ما معهم من الحبال والعصي {فإذا حبالهم وعصيّهم} أي: التي ألقوها قد فاجأت أنه {يخيل إليه} تخييلاً مبتدأً {من سحرهم} أي: الذي قد فاقوا به أهل الأرض {أنها} لشدة اضطرابها {تسعى} فإن قيل: كيف يجوز أن يقول موسى عليه السلام : بل ألقوا فيأمرهم بما هو سحر أجيب: بأن ذلك الأمر كان مشروطاً، والتقدير: ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين؛ كما في قوله تعالى: {فأتوا بسورة من مثله}، أي: إن كنتم صادقين، وفي القصة أنهم لما ألقوا الحبال والعصي أخذوا أعين الناس، فرأى موسى والقوم كأن الأرض امتلأت حيات، وكانت قد أخذت ميلاً من كل جانب، ورأوا أنها تسعى، وقيل: لطخوها بالزئبق، فلما وقعت عليها الشمس اضطربت، فخيل إليهم أنها تتحرك، وقرأ ابن ذكوان تخيل بالتاء الفوقية على التأنيث، والباقون بالياء على إسناده إلى ضمير الحبال(1/2437)
{فأوجس} أي: أحس {في نفسه خيفة موسى} عليه الصلاة والسلام فإن قيل: كيف استشعر الخوف، وقد عرض عليه المعجزات الباهرات كالعصا واليد، ثم إن الله تعالى قال له بعد ذلك: إنني معكما أسمع وأرى فكيف وقع الخوف في قلبه؟ أجيب بأوجه أحدها: أنه خاف من جهة أن سحرهم من جنس معجزته أن يلتبس أمره على الناس، فلا يؤمنوا به، الثاني: أنه خوف طبع البشرية مثل ما خاف من عصاه أول ما رآها كذلك، الثالث: لعله كان مأموراً أن لا يفعل شيئاً إلا بالوحي، فلما تأخَّر نزول الوحي عليه في ذلك الوقت خاف أن لا ينزل عليه الوحي في ذلك الجمع، فيبقى الخجل؛ ثم إنه أزال ذلك الخوف بقوله تعالى:
(5/279)
---(1/2438)
{قلنا لا تخف} من شيء من أمرهم ولا غيره، ثم علل ذلك بقوله تعالى، وأكده أنواعاً من التأكيد لاقتضاء الحال إنكار أن يغلب أحد ما أظهروا من سحرهم لعظمه {إنك أنت} خاصة {الأعلى} أي الغالب غلبة ظاهرة لا شبهة فيها {وألقِ ما في يمينك} أبهمه، ولم يقل: عصاك تحقيراً لها؛ أي: لا تبال بكثرة حبالهم، وعصيهم، وألقِ العويد الذي في يدك، أو تعظيماً لها أي: لا تحتفل بكثرة هذه الأجرام وعظمها، فإن في يمينك ما هو أعظم منها أي: العصا، وهي التي قلنا لك أول ما شرَّفناك بالمناجاة: {وما تلك بيمينك يا موسى} (ظه، 17)، ثم أريناك منها ما أريناك {تلقف} أي: تبتلع بقوة واجتهاد مع سرعة لا تكاد تدرك {ما صنعوا} أي: فعلوه بعد تدرّب كثير وممارسة طويلة، فلما ألقاها صارت أعظم حية من حياتهم، ثم أخذت تزداد عظماً حتى ملأت الوادي، ثم صعدت حتى علقت ذنبها بطرف الثنية، ثم هبطت وأكلت كل ما عملوه في الميلين والناس ينظرون إليها لا يحسبون إلا أنه سحر، ثم أقبلت نحو فرعون لتبتلعه فاتحة فاها نحو ثمانين ذراعاً، فصاح بموسى، فأخذها، فإذا هي عصا كما كانت، ونظرت السحرة، فإذا هي لم تدع من حبالهم، وعصيهم شيئاً إلا أكلته، وعرفوا أنه ليس بسحر، وأصل تلقف تتلقف حذفت إحدى التاءين، وتاء المضارعة تحتمل التأنيث على إسناد الفعل إلى العصا، والخطاب على إسناد الفعل إلى السبب، وقرأ ابن ذكوان برفع الفاء على الحال أو الاستئناف، والباقون بسكونها، وحفص بسكون اللام وتخفيف القاف على أنه من لقفته بمعنى تلقفته {إنما} أي: الذي {صنعوا} أي: زوَّروا وافتعلوا وهالك أمره {كيد ساحر} أي: كيد سحري لا حقيقة له ولا ثبات، وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين، وسكون الحاء بمعنى ذي سحر، أو بتسمية الساحر سحراً على المبالغة، أو بإضافة الكيد إلى السحر للبيان كقولهم: علم فقه، والباقون بفتح السين وكسر الحاء وألف بينهما.
(5/280)
---(1/2439)
فإن قيل: لم وحد الساحر ولم يجمع؟ أجيب بأن القصد من هذا الكلام معنى الجنسية لا معنى العدد، فلو جمع خيل أن المقصود هو العدد؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {ولا يفلح الساحر} أي هذا الجنس {حيث أتى} أي: كيفما سار، وقال ابن عباس: لا يسعد حيث كان، وقيل: معناه حيث احتال، فإنه إنما يفعل ما لا حقيقة له.
فإن قيل: لم نكر أولاً، ثم عرف ثانياً أجيب بأنه قال: هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر لا فائدة فيه، ولا شك أن الكلام على هذا الوجه أبلغ، ثم أنه امتثل ما أمره به ربه من إلقاء العصا، فكان ما وعده به سبحانه من تلقفها لما صنعوا من غير أن يظهر عليها زيادة في ثخن ولا في غيره مع أن حبالهم وعصيهم كانت شيئاً كثيراً، فعلم كل من رأى ذلك حقيته، وبطلان ما فعل السحرة، فبادر السحرة منهم إلى الخضوع لأمر الله تعالى ساجدين مبادرة من كأنه ألقاه ملق على وجهه، ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر مكرهم واجتهادهم في معارضة موسى عليه السلام ، وحذف ذكر الإلقاء، وما سببه من التلقف؛ لأن مقصود السورة القدرة على تليين القلوب القاسية.
(5/281)
---(1/2440)
{فألقي السحرة} أي: فألقاهم ما رأوا من أمر الله تعالى بغاية السرعة، وبأيسر أمر {سجداً} على وجوههم لله تعالى توبة مما صنعوا وإغباناً لفرعون بسجودهم، وتعظيماً لما رأوا، وذلك لأنهم كانوا في الطبقة العليا من علم السحر، فلما رأوا فعل موسى عليه السلام خارجاً عن صناعتهم عرفوا أنه ليس من السحر البتة، ويقال: قال رئيسهم: كنا نغلب الناس بالسحر، وكانت الآلات تبقى علينا، فلو كان هذا سحراً، فأين الذي ألقيناه، فاستدلوا بتغيير أحوال الأجسام على الصانع القادر، وبظهورها على يد موسى عليه السلام على كونه رسولاً صادقاً من عند الله لا جرم تابوا وآمنوا، وأتوا بما هو النهاية في الخضوع وهو السجود؛ قال الأصبهاني: سبحان الله ما أعظم شأنهم ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين، فكأن قائلاً قال هذا فعلهم، فماذا قالوا؟ فقيل: {قالوا: آمنا برب هارون وموسى} ولم يقولوا: آمنا برب العالمين؛ لأن فرعون ادّعى الربوبية في قوله: {أنا ربكم الأعلى} (النازعات، 24)
والإلهية في قوله: {ما علمت لكم من إله غيري} (القصص، 38)، فلو أنهم قالوا ذلك لكان فرعون يقول: إنهم آمنوا بي لا بغيري، فلقطع هذه التهمة اختاروا هذه العبارة، والدليل على ذلك أنهم لم يقتصروا على موسى بل قدّموا هارون لأن فرعون ربى موسى في صغره، فلو اقتصروا على موسى أو قدّموا ذكره فربما توهم أن المراد فرعون، وذكر هارون على الاستتباع وقيل: قدموه لكبر سنه، أو لرويّ الآية، فسبحان الله ما أعظم أمرهم كانوا أول النهار سحرة يقرون لفرعون بالربوبية، وآخره شهداء بررة روي أنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار، ورأوا ثواب أهلها، وعن عكرمة لما خرّوا سجداً أراهم الله تعالى في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة، فكأنه قيل: ما قال لهم فرعون حينئذٍ؟ فقيل:
(5/282)
---(1/2441)
{قال} لهم: {آمنتم} أي: بالله {له} أي: مصدِّقين أو متبعين لموسى {قبل أن آذن لكم} في ذلك، قال ذلك إيهاماً بأنه سيأذن فيه ليقف الناس عن المبادرة إلى الاتباع بين خوف العقوبة ورجاء الإذن، ثم استأنف قوله معلماً مخيلاً لاتباعه صداً لهم عن الاقتداء بالسحرة {إنه} أي: موسى {لكبيركم} أي: معلمكم {الذي علمكم السحر} أي: فلم تتبعوه لظهور الحق بل لإرادتهم شيئاً من المكر وافقتموه عليه قبل حضوركم في هذا الموطن، وهذا على عادته في تخييل أتباعه بما يوقفهم عن اتباع الحق. ولما خيلهم شرع يزيدهم حيرة بتهديد السحرة، فقال مقسماً {فلأقطعن} أي: بسبب ما فعلتم {أيديكم} على سبيل التوزيع {وأرجلكم} أي: من كل رجل يداً ورجلاً، وقوله: {من خلاف} حال يعني مختلفة، أي: الأيدي اليمنى والأرجل اليسرى {ولأصلبنكم} وعبر عن الاستعلاء بالظرف إشارة إلى تمكينهم في المصلوب عليه تمكين المظروف في ظرفه، فقال: {في جذوع النخل} تشنيعاً لقتلكم وردعاً لأمثالكم {ولتعلمن أينا} يريد نفسه لعنه الله وموسى عليه السلام بدليل قوله: آمنتم له، واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله؛ كقوله: يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، وفيه تبجح باقتداره وقهره، وما ألفه وضري به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، وتوضيع لموسى عليه السلام ، واستضعاف له مع الهزء به؛ لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء.
(5/283)
---(1/2442)
وقيل: يريد رب موسى الذي آمنوا به {أشد عذاباً وأبقى} أي: أدوم على مخالفته فإن قيل: إن فرعون مع قرب عهده بمشاهدة انقلاب العصا حية، وقصدها له وآل الأمر أن استغاث بموسى من شرها، وعجزه عن دفعها كيف يعقل أن يهدد السحرة ويبالغ في وعيدهم إلى هذا الحد، ويستهزىء بموسي في قوله: أينا أشد عذاباً وأبقى؟ أجيب: بأنه كان في أشد الخوف في قلبه إلا أنه يظهر الجلادة والوقاحة تمشية لناموسه وترويجاً لأمره، قال الرازي: ومن استقرىء أحوال العالم علم أن الفاجر قد يفعل أمثال هذه الأشياء، ومما يدل على معاندته قوله: إنه لكبيركم الذي علمكم السحر لأنه كان يعلم أن موسى ما خالطهم البتة، وما لقيهم، وكان يعلم من سحرته أستاذ كل واحد من هو، وكيف حصل ذلك العلم، ثم إنه كان يقول مع ذلك هذه الأشياء، ثم كأنه قيل فما قالوا له؟ فقيل:
{قالوا} له: {لن نؤثرك} أي: نختارك {على ما جاءنا} على لسان موسى {من البينات} التي عايناها، وعلمنا أنه لا يقدر أحد على مضادتها. ولما بدؤوا بما يدل على الخالق من الفعل ترقوا إلى ذكره بعد معرفته بفعله إشارة إلى علوِّ قدره، فقالوا: {والذي} أي: ولا نؤثرك بالإتباع على الذي فطرنا أي: ابتدأ خلقنا إشارة إلى شمول ربوبية الله تعالى لهم وله ولجميع الناس، وتنبيهاً على عجز فرعون عند من استخفه، وفي جميع أقوالهم هذه من تعظيم الله تعالى عبارة وإشارة وتحقير فرعون أمر عظيم.
(5/284)
---(1/2443)
تنبيه: قد علم مما تقرر أن والذي معطوف على ما وإنما أخروا ذكر الباري تعالى؛ لأنه من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، وقيل: الواو قسم والموصول مقسم به وجواب القسم محذوف، أي: وحق الذي فطرنا لا نؤثرك على الحق، ولما تسبب عن ذلك أنهم لا يبالون به، وعلموا أن ما يفعله بهم هو بإذن الله تعالى قالوا له: {فاقض} أي: فاصنع في حكمك الذي تمضيه {ما أنت قاض} أي: فاقض الذي أنت قاضيه، ثم عللوا ذلك بقولهم: {إنما تقضي} أي: تصنع بنا ما تريد إن قدّرك الله عليه {هذه الحياة الدنيا} النصب على الاتساع أي: إنما حكمك فيها على الجسد خاصة، فهي ساعة تعقبها راحة، ونحن لا نخاف إلا ممن يحكم على الروح، وإن فني الجسد فذاك هو العذاب الشديد الدائم، ثم عللوا تعظيم الله تعالى، واستهانتهم بفرعون بقولهم:
{إنا آمنا بربنا} أي: المحسن إلينا طول أعمارنا مع إساءتنا بالكفر وغيره {ليغفر لنا} من غير نفع يلحقه بالفعل، أو ضرر يدركه بالترك {خطايانا} التي قابلنا بها إحسانه، ثم خصوا بعد العموم فقالوا: {وما أكرهتنا عليه} وبينوا ذلك بقولهم: {من السحر} لنعارض المعجزة، فإنه كان الأكمل لنا عصيانك فيه؛ لأن الله تعالى أحق بأن يتقى.
فإن قيل: كيف قالوا ذلك وقد جاؤوا مختارين يحلفون بعزة فرعون آن لهم الغلبة؟ أجيب: بأنه قد روي أن رؤوساء السحرة كانوا اثنين وسبعين اثنان من القبط والباقون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على تعلم السحر، وروي أنهم رأوا موسى عليه السلام نائماً، وعصاه تحرسه، فقالوا لفرعون: إن الساحر إذا نام بطل سحره، فهذا لا نقدر على معارضته، فأبى عليهم، وأكرههم على المعارضة.
(5/285)
---(1/2444)
وقيل: إنَّ الملوك في ذلك الزمان كانوا يأخذون البعض من رعيتهم، ويكلفونه تعلم السحر، فإذا شاخ بعثوا إليه أحداثاً ليعلمهم ليكون في كل وقت من يحسنه. ولما كان التقدير فربنا أهل التقوى وأهل المغفرة عطفوا عليه مستحضرين لكماله {والله} أي: الجامع لصفات الكمال {خير} جزاء منك فيما وعدتنا به {وأبقى} ثواباً وعقاباً قال أبو حيان: والظاهر أن الله تعالى سلمهم من فرعون، ويؤيده قوله تعالى: {ومن اتبعكما الغالبون} (القصص، 35)، وقال الرازي: ليس في القرآن أنَّ فرعون فعل بأولئك القوم المؤمنين ما أوعدهم، ولم يثبت في الأخبار، وقال البقاعي: سيأتي في آخر الحديد ما هو صريح في نجاتهم، ثم عللوا هذا الحكم بقولهم:
{إنه} أي: الأمر والشأن {من يأت ربه} أي: الذي رباه وأحسن إليه بأن أوجده وجعل له جميع ما يصلحه {مجرماً} بأن يموت على كفره {فإن له جهنم} دار الإهانة {لا يموت فيها} فيستريح من عذابها بخلاف عذابك، فإن آخره الموت وإن طال {ولا يحيى} فيها حياة مهنأة، وبها يندفع ما قيل: إن الجسم الحيِّ لا بد أن يبقى إمَّا حياً أو ميِّتاً، فخلوه عن الوصفين محال، وقال بعضهم: إن لنا حالة ثالثة، وهي كحالة المذبوح قبل أن يهدأ، فلا هو حي لأنه قد ذبح ذبحاً لا تبقى الحياة معه، ولا هو ميت؛ لأن الروح لم تفارقه بعد، فهي حالة ثالثة
{ومن يأته} أي: ربه الذي قد أوجده ورباه {مؤمناً} أي: مصدقاً به {قد} ضم إلى تصديق الإيمان أنه {عمل} أي: في الدنيا الصالحات أي: التي أمر بها، فكان صادق الإيمان مستلزماً لصالح الأعمال {فأولئك} أي: العالوا الرتبة {لهم الدرجات العلى} جمع علياء مؤنث أعلى التي لا نسبة لدرجاتك التي أوعدتناها إليها، ثم بينوها بقولهم:
(5/286)
---(1/2445)
{جنات عدن} أي: أعدت للإقامة وهيئت فيها أسبابها {تجري من تحتها الأنهار} أي: من تحت غرفها وأسرتها وأرضها، فلا يراد موضع منها؛ لأن يجري فيه نهر الأجرى، وقولهم: {خالدين فيها} حال والعامل فيها معنى الإشارة أو الاستقرار {وذلك جزاء} كل {من تزكى} أي: تطهر من أدناس الكفر.
تنبيه: هذه الآيات الثلاث وهي من قوله أنه من يأت ربه مجرماً إلى هنا يحتمل أن تكون من كلام السحرة كما تقرر، وأن تكون ابتداء كلام من الله تعالى، وقوله تعالى:
عطف على قوله: {ولقد أريناه آياتنا} (طه، 56)
وفيه دليل على أن موسى عليه السلام كثر مستجيبوه، فأراد الله تعالى تمييزهم من طبقة فرعون وخلاصهم، فأوحى إليه أن يسري بهم ليلاً، والسري اسم لسير الليل، والإسراء مثله، والحكمة في السري بهم لئلا يشاهدهم العدو فيمنعهم عن مرادهم، أو ليكون ذلك عائقاً لفرعون عن طلبه وتتبعه، أو ليكون إذا تقارب العسكر أن لا يرى عسكر موسى عليه الصلاة والسلام عسكر فرعون لعنه الله فلا يهابونهم.
(5/287)
---(1/2446)
وقرأ نافع وابن كثير بكسر النون وهمزة وصل بعدها من سرى، والباقون بسكون النون، وهمزة قطع بعدها من أسرى لغتان أي أسر ببني إسرائيل من أرض مصر التي لينت قلب فرعون لهم حتى أذن لهم في مسيرهم بعد أن كان قد أبى أن يطلقهم، أو يكف عنهم العذاب فأقصد بهم ناحية بحر القلزم {فاضرب} أي: اجعل {لهم} بالضرب بعصاك {طريقاً في البحر} والمراد بالطريق الجنس، فإنه كان لكل سبط طريق، وقوله {يبساً} صفة لطريق وصف به لما يؤول إليه؛ لأنه لم يكن يبساً إلا بعد أن مرت عليه الصبا، فجففته كما روي، وقيل في الأصل مصدر وصف به مبالغة، وقيل: جمع يابس كخادم وخدم وصف به الواحد مبالغة، فلما امتثل ما أمر به، وأيبس الله تعالى له الأرض، وأراد المرور بها قال الله تعالى له: {لا تخاف دركاً} أي: أن يدركك فرعون {ولا تخشى} غرقاً وقرأ حمزة بجزم الفاء ولا ألف بينها وبين الخاء على أن يكون نهياً مستأنفاً، والباقون برفع الفاء، وألف بينهما وبين الخاء على أنه مستأنف، فلا محل له من الإعراب، أو أنه في محل نصب على الحال من فاعل اضرب، أي: اضرب غير خائف
{فاتبعهم فرعون بجنوده} أي: وهو معهم على كثرتهم وعلوّهم، وعزتهم، فكانوا كالتابع الذي لا معنى له بدون متبوعه، والمتبوع بنو إسرائيل، وذلك أن موسى خرج بهم أول الليل، فأخبر فرعون بذلك، فقص أثرهم، والمعنى: فأتبعهم فرعون نفسه ومعه جنوده، فحذف المفعول الثاني، وقيل: إن الباء زائدة {فغشيهم} أي: فرعون وقومه {من اليم} أي: البحر {ما غشيهم} أي: أمر لا تحتمل العقول وصفه، فأهلكهم، وقطع دابرهم، ولم يبق منهم أحداً وما شاك أحداً من عبادنا المستضعفين شوكة
{وأضل فرعون قومه} أي: بدعائهم إلى عبادته {وما هدى} أي: ما أرشدهم، وهذا تكذيب لفرعون وتهكم به في قوله: {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} (غافر، 29)
(5/288)
---(1/2447)
تنبيه: لا بأس بذكر شيء من هذه القصة، فنقول: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما أمر الله تعالى موسى أن يقطع بقومه البحر، وكان بنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحلي والدوابّ لعيد يخرجون إليه، فخرج بهم ليلاً، وكان يوسف عليه الصلاة والسلام عهد إليهم عند موته أن يخرجوا بعظامه معهم من مصر، فلم يعرفوا مكانها حتى دلتهم عجوز على موضع العظم، فأخذوه، وقال موسى عليه السلام للعجوز: احتكمي، أي: انظري لك شيئاً اطلبيه، فقالت: أكون معك في الجنة، فلما خرجوا تبعهم فرعون وعلى مقدمته ألف ألف وخمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب، فلما انتهى موسى إلى البحر قال: هنا أمرت، فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر، فضربه، فانفلق، فقال لهم موسى: ادخلوا فيه، فقالوا: كيف وهي رطبة؟ فدعا ربه فهبت عليها الصبا، فجفت، فقالوا: نخاف الغرق في بعضنا، فجعل بينهم كوى يرى بعضم بعضاً، ثم دخلوا حتى جاوزوا البحر، وأقبل فرعون إلى تلك الطرق، فقال له قومه: إن موسى قد سحر البحر كما ترى، وكان على فرس حصان، فأقبل جبريل عليه السلام على فرس أنثى في ثلاثة وثلاثين من الملائكة، فسار جبريل بين يدي فرعون، فأبصر الحصان الفرس، فاقتحم بفرعون على أثرها، فصاحت الملائكة في الناس: الحقوا حتى إذا لحق آخرهم، وكاد أوّلهم أن يخرج التقى البحر عليهم، فغرقوا، فرجع بنو إسرائيل حتى ينظروا إليهم، وقالوا: يا موسى ادع الله يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم، فلفظهم البحر إلى الساحل، وأصابوا من سلاحهم، وذكر ابن عباس أن جبريل قال: يا محمد لو رأيتني وأنا أدس في في فرعون الماء والطين مخافة أن يتوب، فهذا معنى قوله تعالى: فغشيهم من اليم ما غشيهم، ولما أنعم الله تعالى على قوم موسى عليه السلام بأنواع النعم ذكر أولادهم تلك النعم، فناداهم بقوله تعالى:
(5/289)
---(1/2448)
{يا بني إسرائيل} والمنادى من وجد من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخوطبوا بما أنعم به على أجدادهم زمن موسى عليه السلام ، ولا شك أن إزالة الضرر يجب تقديمها على إيصال المنفعة، وإيصال المنفعة الدينية أعظم من إيصال المنفعة الدنيوية، فلهذا بدأ تعالى بإزالة الضرر بقوله: {قد أنجيناكم من عدوكم}، فإنّ فرعون كان ينزل بهم من أنواع الظلم كثيراً من القتل والإذلال والخراج والأعمال الشاقة، ثم ثنى بذكر المنفعة الدينية بقوله تعالى: {وواعدناكم جانب الطور الأيمن} أي: الذي على أيمانكم في توجهكم هذا الذي وجوهكم فيه إلى بيت أبيكم إبراهيم عليه السلام ، وهو جانبه الذي يلي البحر، وناحية مكة واليمن، ووجه المنفعة فيه أنه أنزل في ذلك القرب عليهم كتاباً فيه بيان دينهم، وشرح شريعتهم.
ثم ثلث بذكر المنفعة الدنيوية بقوله: {ونزلنا عليكم} بعد إنزال هذا الكتاب في هذه المواعدة لإنعاش أرواحكم {المنِّ} أي: الترنجبين {والسلوى} أي: الطير السماني بتخفيف الميم والقصر، وقوله تعالى:
v
(5/290)
---(1/2449)
{كلوا من طيبات ما رزقناكم} أمر إباحة أن فسر الطيب باللذيذ؛ لأن المن والسلوى من لذائذ الأطعمة، وإن فسر بالحلال؛ لأن الله تعالى أنزله إليهم، ولم تمسه يد الآدميين، فهو أمر إيجاب، وقرأ حمزة والكسائي قد أنجيناكم ووعدناكم ما رزقناكم بتاء مضمومة بعد التحتية من أنجينا، وبعد الدال من وعدنا، وبعد القاف من رزقنا، ولا ألف في الثلاثة، والباقون بالنون، وألف بعدها في الثلاثة، وأسقط أبو عمرو الألف قبل العين من وعدنا، وأثبتها الباقون، ثم زجرهم عن العصيان بقوله تعالى: {ولا تطغوا فيه} أي: فيما رزقناكم بالإخلال بشكره، والتعدي بما حد الله لكم فيه من السرف والبطر والمنع عن المستحقين، وقرأ الكسائي {فيحل} بضم الحاء، أي: ينزل، والباقون بكسرها، أي: يجب {عليكم غضبي} أي: عقوبتي {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} أي: هلك، وقيل: شقي، وقيل: وقع في الهاوية، وقرأ الكسائي بضم اللام الأولى، وكسرها الباقون، ولما كان الإنسان محل الزلل، وإن اجتهد رجاه واستعطفه بقوله سبحانه:
{وإني لغفار} أي: ستار بإسبال ذيل العفو {لمن تاب} أي: رجع عن ذنوبه من الشرك، وما يقاربه {وآمن} بكل ما يجب الإيمان به {وعمل صالحاً} تصديقاً لإيمانه {ثم اهتدى} باستمراره على ذلك إلى موته.
فائدة: اعلم أنه تعالى وصف نفسه بكونه غافراً وغفوراً وغفاراً، وبأن له غفراناً ومغفرة، وعبر عنه بلفظ الماضي والمستقبل والأمر، أمَّا وصف كونه غافراً، فقوله تعالى {غافر الذنب} (غافر، 3)
(5/291)
---(1/2450)
وأما كونه غفوراً، فقوله تعالى: {وربك الغفور} (الكهف، 58)، وأما كونه غفاراً، فقوله تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن}، وأما الغفران، فقوله تعالى: {غفرانك ربنا} (البقرة، 285)، وأما المغفرة، فقوله تعالى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس} (الرعد، 6)، وأما صيغة الماضي فقوله تعالى في حق داوود عليه السلام : {فغفرنا له} (ص، 25)، وأما صيغة المستقبل فقوله تعالى: {يغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء، 48)، وقوله تعالى في حق نبينا صلى الله عليه وسلم {ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر} (الفتح، 2)، وأما لفظ الاستغفار، فقوله تعالى: {استغفروا ربكم} (هود، 3)، {ويستغفرون لمن في الأرض} (الشورى، 5)
{ويستغفرون للذين آمنوا} (غافر، 7)
وههنا نكتة لطيفة وهي أن العبد له أسماء ثلاثة؛ الظالم والظلوم والظلام إذا كثر منه الظلم، ولله تعالى في مقابلة كل واحد من هذه الأسماء اسم، فكأنه تعالى قال: إن كنت ظالماً فأنا غافر، وإن كنت ظلوماً فأنا غفور، وإن كنت ظلاماً فأنا غفار، فيجب على كل من ارتكب معصية كبيرة أو صغيرة أن يتوب منها لهذه الآية، ودلت على أن العمل الصالح غير داخل في الإيمان؛ لأنه تعالى عطف العمل الصالح على الإيمان والمعطوف غاير المعطوف عليه. ولما أمر تعالى موسى عليه السلام بحضور الميقات مع قوم مخصوصين قال المفسرون: هم السبعون الذين اختارهم الله تعالى من جملة بني إسرائيل ليذهبوا معه إلى الطور ليأخذوا التوراة، فسار بهم موسى، ثم عجل موسى عليه السلام من بينهم شوقاً إلى ربه وخلف السبعين، وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل، فقال تعالى له:
(5/292)
---
أي: لمجيء ميعاد أخذ التوراة {يا موسى}(1/2451)
{قال} مجيباً لربه تعالى: {هم أولاء} أي: بالقرب مني يأتون {على أثري} أي: ماشين على آثار مشي قبل أن ينطمس، وما تقدمتهم إلا بخطاً يسيرة لا يعتد بها عادة، وليس بيني وبينهم إلا مسافة قريبة يتقدم بها الرفقة بعضهم على بعض {وعجلت إليك رب لترضى} أي: لتزداد عني رضاً، فإن المسارعة إلى امتثال أمرك والوفاء بعهدك يوجب مرضاتك.
تنبيه: في الآية سؤالات:
الأول: قوله تعالى: وما أعجلك استفهام، وهو على الله تعالى وأجيب عنه: بأنه كان في صورة الاستفهام، ولا مانع منه.
(5/293)
---
الثاني: أن موسى عليه السلام لا يخلو إما أن يكون ممنوعاً من ذلك التقدم، أو لم يكن، فإن كان الأول كان التقدم معصية، وإن لم يكن فلا إنكار، وأجيب عنه: بأنه عليه السلام لعله ما وجد نصاً في ذلك، فاجتهد، فأخطأ في اجتهاده، فاستوجب العتاب.
الثالث: قوله: وعجلت، والعجلة مذمومة، أجيب عنه بأنها ممدوحة في الدين قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} (آل عمران، 133)
الرابع: قوله لترضى يدل على أنه إنما فعل ذلك ليحصل الرضا، وإذا لم يكن راضياً عنه، وجب أن يكون ساخطاً عليه، وذلك لا يليق بحال الأنبياء عليهم السلام، أجيب عنه: بأن المراد تحصيل دوام الرضا، أو زيادته كما مرَّ.
الخامس: قوله إليك يقتضي كون الله تعالى في جهة لأن إلى لانتهاء الغاية، وأجيب عنه: بأنا اتفقنا على أن الله تعالى لم يكن في الجبل، فالمراد مكان وعدك.
السادس: قوله تعالى: ما أعجلك عن قومك سؤال عن سبب العجلة، فكان جوابه اللائق به أن يقول: طلب زيادة رضاك، أو التشوق إلى كلامك، وأما قوله: هم أولاء على أثري، فغير منطبق عليه كما ترى؛ أجيب عنه بأن سؤال الله تعالى يتضمن شيئين؛ أحدهما: إنكار نفس العجلة، والثاني: السؤال عن سببب التقدم، فأجاب عن السؤال عن العجلة؛ لأنها أهم، فقال: وعجلت إليك رب لترضى(1/2452)
{قال} تعالى: {فإنا} أي: تسبب عن عجلتك عنهم أنا {قد فتنا} أي: ابتلينا {قومك من بعدك} أي: بعد فراقك لهم بعبادة العجل، وهم الذين خلفهم مع هارون، وكانوا ستمائة ألف، وما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفاً {وأضلهم السامري} باتخاذ العجل والدعاء إلى عبادته، فأطاعه بعضهم، وامتنع بعضهم، والسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لهم السامرة، وقيل: كان علجاً من أهل كرمان وقع إلى مصر، وقيل: كان من قوم يعبدون البقر جبران لبني إسرائيل، ولم يكن منهم، واسمه موسى بن ظفر، وكان منافقاً
(5/294)
---
{فرجع موسى} لما أخبره ربه بذلك {إلى قومه} بعدما استوفى الأربعين ذا القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، وأخذ التوراة {غضبان} عليهم {أسفاً} أي: حزينا بما فعلوا {قال} أي: لقومه لما رجع إليهم مستعطفاً لهم: {يا قوم} وأنكر عليهم بقوله: {ألم يعدكم ربكم} أي: الذي أحسن إليكم {وعداً حسناً} أي: بأنه ينزل عليكم كتاباً حافظاً، ويكفر عنكم خطاياكم، وينصركم على أعدائكم إلى غير ذلك من إكرامه، ولما جرت العادة بأنّ طول الزمان ناقض للعزائم مغير للعهود كما قال أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري:
*لا أنسينك طال الزمان بنا
** وكم حبيب تمادى عهده فنسى
قال لهم: {أفطال عليكم العهد} أي: زمن لطف الله تعالى بكم، فتغيرتم عما فارقتكم عليه كما تغير أهل الرذائل والانحلال في العزائم لضعف العقول وقلة التدبر {أم أردتم} أي: بالنقض مع قرب العهد، وذكر الميثاق {أن يحل}
أي يجب {عليكم} بسبب عبادة العجل {غضب من ربكم} المحسن إليكم، أي: وكلا الامرين لم يكن أما الأول فواضح، وأما الثاني: فلا يظن بأحد إرادته، والحاصل أنه يقول: فعلتم ما لا يفعله عاقل {فأخلفتم} أي: فتسبب عن فعلكم ذلك أن أخلفتم {موعدي} أي: وعدكم إياي بالثبات على الإيمان بالله، والقيام على ما أمركم به، ولما تشوق السامع إلى جوابهم استأنف ذكره، فقال:(1/2453)
{قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا} أي: بأن ملكنا أمرنا إذ لو خلينا، وأمرنا ولم يسوِّل لنا السامري لما أخلفناه، واختلف في هذا المجيب على وجهين.
(5/295)
---
الأول: هم الذين لم يعبدوا العجل، فكأنهم قالوا: ما أخلفنا موعدك بملكنا أي: بأمر كنا نملكه، وقد يضيف الرجل فعل قرينه إلى نفسه كقوله تعالى: {وإذ فرقنا بكم البحر} (البقرة، 50)، {وإذ قتلتم نفساً} (البقرة، 72)، وإن كان الفاعل لذلك آباءهم لا هم، فكأنهم قالوا: الشبهة قويت على عبدة العجل، فلم نقدر على منعهم عنه، ولم نقدر أيضاً على مفارقتهم لأنا خفنا أن يصير ذلك سبباً لوقوع النفرة، وزيادة الفتنة.(1/2454)
الثاني: أن هذا قول عبدة العجل، والمراد أن غيرنا أوقع الشبهة في قلوبنا، وفاعل السبب فاعل المسبب، فمخلف الوعد هو الذي أوقع الشبهة، فإنه كان كالمالك لنا فإن قيل: كيف كان رجوع قريب من ستمائة ألف إنسان من العقلاء المكلفين عن الدين الحق دفعة واحدة إلى عبادة عجل يعرف فسادها بالضرورة؟ أجيب: بأنَّ هذا غير ممتنع في حق البله من الناس وقرأ عاصم ونافع بفتح الميم، وحمزة والكسائي بضمها، والباقون بكسرها، وثلاثتها في الأصل لغات في مصدر ملكت الشيء، ثم إن القوم فسروا الضرر الحامل لهم على ذلك الفعل، فقالوا: {ولكنا حملنا} قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص بضم الحاء وكسر الميم مشددة، وأبو عمرو، وشعبة وحمزة والكسائي بفتح الحاء والميم مخففة {أوزاراً} أي: أثقالاً {من زينة القوم} أي: حلي قوم فرعون استعارها منهم بنو إسرائيل بسبب عرس، وقيل: استعاروها لعيد كان لهم، ثم لم يردوها عند الخروج مخافة أن يعلموا به، وقيل: هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد إغراقهم، فأخذوه، قال البيضاوي: ولعلهم سموها أوزاراً لأنها آثام فإن الغنائم لم تكن تحل بعد، ولأنهم كانوا مستأمنين، وليس للمستأمن أن يأخذ من مال الحربي {فقذفناها} أي: في النار {فكذلك ألقى السامري} أي: ما كان معه إما من المال أو من أثر الرسول، روي أن موسى عليه السلام لما وعده ربه أن يكلمه استخلف على قومه أخاه هارون، وأجلهم ثلاثين يوماً، وذهب فصامها ليلها ونهارها، ثم كره أن يكلم
(5/296)
---(1/2455)
ربه، وريح فمه متغير، فمضغ شيئاً من نبات الأرض، فقال له ربه: أوما علمت أن ريح الصائم أطيب من ريح المسك، ارجع فصم عشراً، وقيل: إنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة، وحسبوها أربعين بأيامها، وقالوا: قد كملت العدة، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم وقال: إنكم خرجتم من مصر، ولقوم فرعون عندكم عوار، فاحفروا حفرة وألقوها فيها، ثم أوقدوا عليها ناراً، فلا يكون لنا ولا لهم، وكان السامري قد رأى أثراً، فقبض منه قبضة، فمر بهارون فقال له: يا سامري ألا تلقي ما في يدك، فقال: هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، ولا ألقيها على شيء إلا أن تدعوا الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد، فألقاها ودعا له هارون فقال: أريد أن يكون عجلاً، فاجتمع ما في الحفرة وصار عجلاً، فهذا معنى قوله تعالى:
{فأخرج لهم عجلاً جسداً} من ذلك الحلي المذاب به جوف ليس فيه روح {له خوار} أي: صوت يسمع؛ قال ابن عباس: لا والله ما كان له صوت قط، وإنما كان الريح يدخل في دبره، فيخرج من فيه، فكان ذلك الصوت من ذلك، وقيل: إنه صاغه، ووضع التراب بعد صوغه في فمه {فقالوا}: أي السامري: ومن افتتن به أول ما رأوه مشيرين إلى العجل {هذا إلهكم وإله موسى فنسي} أي: فنسيه موسى، وذهب يطلبه عند الطور، أو فنسي السامري، أي: ترك ما كان عليه من الإيمان
{أفلا يرون} أي: قالوا ذلك فتسبب عن قولهم علمهم عن روية {أن} أي: أنه {لا يرجع إليهم قولاً} والإله لا يكون أبكم {ولا يملك لهم ضراً} فيخافوه كما كانوا يخافون فرعون، فيقولون ذلك خوفاً من ضرره {ولا نفعاً} فيقولون ذلك رجاءً له
(5/297)
---(1/2456)
{ولقد قال لهم هارون من قبل} أي: قبل رجوع موسى مستعطفاً لهم {يا قوم إنما فتنتم} أي: وقع اختياركم فاختبرتم في صحة إيمانكم وصدقكم فيه، وثباتكم عليه {به} أي: بهذا العجل في إخراجه لكم على هذه الهيئة الخارقة للعادة، وأكد لأجل إنكارهم، فقال: {وإن ربكم} أي: الذي أخرجكم من العدم، ورباكم بالإحسان {الرحمن} وحده الذي فضله عامّ ونعمه شاملة، فليس على بر ولا فاجر نعمة إلا وهي منه تعالى قبل أن يوجد العجل، وهو كذلك بعده، ومن رحمته قبول التوبة، فخافوا نزع نعمه بمعصيته، وأرجوا إسباغها بطاعته {فاتبعوني} بغاية جهدكم في الرجوع إليه {وأطيعوا أمري} أي: في الثبات على الدين
{قالوا لن نبرح عليه} أي: العجل {عاكفين} أي: مقيمين {حتى يرجع إلينا موسى} فدافعهم فهموا به، وكان معظمهم قد ضل فلم يكن معه من يقوى بهم، فخاف أن يجاهد بهم الكفار، فلا يفيد ذلك شيئاً مع أن موسى لم يأمره بجهاد من ضل، وإنما قال له: {وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}، فرأى من الإصلاح اعتزالهم إلى أن يأتي.
(5/298)
---(1/2457)
تنبيه: إنما قال هارون ذلك شفقة على نفسه وعلى الخلق؛ أما شفقته على نفسه، فلأنه كان مأموراً من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان مأموراً من عند أخيه بقوله: {اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} (الأعراف، 142)، فلو لم يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان مخالفاً لأمر الله تعالى، ولأمر موسى، وذلك لا يجوز. أوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم، ومائتي ألف من شرارهم، فقال: يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وقال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أصبح وهمه غير الله فليس من الله في شيء، ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين، فليس منهم» وعن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد» وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: «خرجت أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أبو بكر وعمر عنده، فجاء صغير يبكي، فقال لعمر: ضم الصبي إليك، فإنه ضال، فأخذه عمر، وإذا أم الصبي تولول كاشفة عن رأسها جزعاً على ابنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أدرك المرأة ، فنادها، فجاءت، وأخذت ولدها، وجعلت تبكي والصبي في حجرها، فالتفتت، فرأت النبي صلى الله عليه وسلم فاستحيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: أترون هذه رحيمة بولدها؟ قالوا: يا رسول الله كفى بهذه رحمة، فقال: والذي نفسي بيده إن الله أرحم بالمؤمنين من هذه بولدها» ولقد سلك هارون في موعظته أحسن الوجوه؛ لأنه زجرهم عن الباطل أولاً بقوله: إنما فتنتم به، ثم دعاهم إلى معرفة الله ثانياً بقوله: وإن ربكم الرحمن، ثم دعاهم ثالثاً إلى النبوة بقوله: فاتبعوني، ثم دعاهم رابعاً بقوله: وأطيعوا أمري، وهذا هو الترتيب الجيد؛ لأنه لا بد قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق، وهو إزالة الشبهات، ثم معرفة(1/2458)
(5/299)
---
الله تعالى، فإنها هي الأصل، ثم النبوة، ثم الشريعة، فثبت أن هذا الترتيب أحسن الوجوه؛ لأنه زجرهم عن الباطل أولاً، ولما ذكر الله تعالى ما قال هارون تشوقت النفس إلى علم ما قال موسى فقيل:
{قال يا هارون} أنت نبي الله، وأخي ووزيري وخليفتي، فأنت أولى الناس بأن ألومه، وأحقهم بأن أعاتبه {ما منعك إذ} أي: حين {رأيتهم ضلوا} عن طريق الهدى واتبعوا سبيل الردى
{أن لا تتبعني} في سيرتي من الأخذ على يد الظالم طوعاً أو كرهاً.
(5/300)
---
تنبيه: لا مزيدة للتأكيد؛ لأن النافي إذا زيد في كلام كان نافياً لضد مضمونه فيفيد إثباتاً للمضمون ونفياً لضده، فيكون ذلك في غاية التأكيد، وأثبت الياء بعد النون ابن كثير وقفاً ووصلاً، وأثبتها نافع، وأبو عمرو وصلاً لا وقفاً، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً {أفعصيت} أي: فتكبرت عن اتباعي، فتسبب عن ذلك أنك عصيت {أمري} وأخذ بلحيته وبرأسه يجره إليه غضباً لله تعالى، فكأنه قيل: ما قال له؟ فقال:
{قال} مجيباً له مستعطفاً بذكر أول وطن ضمهما بعد نفخ الروح مع ما له من الرقة والشفقة {يا ابن أمّ} فذكره بها خاصة وإن كان شقيقه؛ لأنها يسوءها ما يسوءه، وهي أرق من الأب، وقرأ نافع وابن كثير، وأبو عمرو وحفص بفتح الميم، وكسرها ابن عامر وشعبة وحمزة والكسائي {لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} أي: بشعرهما. ثم علل ذلك بقوله: {إني خشيت أن تقول} إذا شددت عليهم حتى يصل الأمر إلى القتال {فرقت بين بني إسرائيل} يفعلك هذا الذي لم يجسد شيئاً لقلة من كان معك وضعفك عن ردهم {ولم ترقب قولي} {اخلفني في قومي، وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} (الأعراف، 142)، ولم تقل: وارددهم، ولو أدى الأمر إلى السيف، ولما فرغ من نصيحة أقرب الناس إليه، وأحقهم بنصيحته وحفظه على الهدى إذ كان رأس الهداة تشوف السامع إلى ما كان من غيره، فاستأنف تعالى ذكره بقوله:(1/2459)
{قال} أي موسى عليه السلام لرأس أهل الضلال معرضاً عن أخيه بعد قبول عذره جاعلاً ما نسب إليه سبباً لسؤاله عن الحامل له عليه {فما خطبك}؟ أي: أمرك هذا العجب العظيم الذي حملك على ما صنعت، وأخبرني ربي أنك أضللتهم به {يا سامري}
(5/301)
---
{قال} السامري: مجيباً له {بصرت} من البصر والبصيرة {بما لم يبصروا به} أي: رأيت ما لم ير بنو إسرائيل، وعرفت ما لم يعرفوا، وقال ابن عباس: علمت ما لم يعلموا، ومنه قولهم: رجل بصير، أي: عالم قاله أبو عبيدة وأراد أنه رأى جبريل عليه السلام ، فأخذ من موضع حافر دابته قبضة من تراب كما قال: {فقبضت} أي: فكان ذلك سبباً؛ لأن قبضت {قبضة} أي: مرة من القبض أطلقها على المقبوض تشبيهاً للمفعول بالمصدر {من أثر} فرس ذلك {الرسول} أي: المعهود {فنبذتها} أي: في الحلي الملقى في النار، أو في العجل {وكذلك} أي: وكما سولت لي نفسي أخذ أثره {سوَّلت} أي: حسنت وزينت {لي نفسي} نبذها في الحلي، فنبذتها، وكان منها ما كان، ولم يدعني إلى ذلك داع، ولا حملني عليه حامل غير التسويل.(1/2460)
تنبيه: كون المراد بالرسول جبريل عليه السلام هو ما عليه عامة المفسرين، وأراد بأثره التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته لما رآه يوم فلق البحر، وعن علي رضي الله تعالى عنه أن جبريل عليه السلام لما نزل ليذهب بموسى إلى الطور أبصره السامري من بين الناس، واختلفوا في أنه كيف اختص السامري برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته من بين الناس، فقال ابن عباس في رواية الكلبي: إنما عرفه لأنه رباه في صغره، وحفظه من القتل حين أمر فرعون بذبح أولاد بني إسرائيل، فكانت المرأة إذا ولدت طرحت ولدها حيث لا يشعر به آل فرعون، فتأخذ الملائكة الولدان ويربونهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس، فكان السامري ممن أخذه جبريل عليه السلام ، وجعل كف نفسه في فيه، وارتضع منه العسل واللبن، فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه، فلما رآه عرفه؛ قال ابن جريح: فعلى هذا قوله: بصرت بما لم يبصروا به يعني: رأيت ما لم يروه.
(5/302)
---
ومن فسر الإبصار بالعلم، فهو صحيح، ويكون المعنى: علمت أن تراب فرس جبريل عليه السلام له خاصية الإحياء؛ قال أبو مسلم ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون، فههنا وجه آخر، وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: إن فلاناً يقفوا أثر فلان، ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه، والتقدير أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في العجل، قال: بصرت بما لم يبصروا به؛ أي: عرفت أن الذي أنت عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول؛ أي: شيئاً من دينك، فقذفته؛ أي: طرحته، فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة، وإنما أورد لفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له ما يقول الأمير في كذا، أو بماذا يأمر الأمير، وأما ادعاؤه أن موسى رسول مع جحده وكفره.(1/2461)
فعلى مذهب من حكى الله فيه قوله: يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون، وإن لم يؤمنوا بالإنزال قال الرازي: وهذا القول الذي ذكره أبو مسلم ليس فيه إلا أنه مخالف للمفسرين، ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه:
أحدها: أنَّ جبريل عليه السلام ليس معهود باسم الرسول، ولم يجرِ له فيما تقدم ذكر حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه، فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل كأنه تكليف بعلم الغيب.
وثانيها: أنه لا بد فيه من الإضمار، وهو قبضة من أثر حافر دابة الرسول، والإضمار خلاف الأصل.r
(5/303)
---
وثالثها: أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل ومعرفته، وكيف عرف أن تراب حافر فرسه له هذا الأثر، والذي ذكروه من أن جبريل هو الذي رباه فبعيد؛ لأن السامري إن عرف أنه جبريل حال كمال عقله عرف قطعاً أن موسى نبّي صادق، فكيف يحاول الإضلال، وإن كان ما عرفه حال البلوغ، فأنى ينفعه كون جبريل مر بباله حال الطفولية في حصول تلك المعرفة، ثم إن موسى عليه السلام لما سمع من السامري ما ذكر
(5/304)
---(1/2462)
{قال} له {فاذهب} أي: فتسبب عن فعلك أن أقول لك: اذهب من بيننا، وحيث ذهبت {فإن لك في الحياة} أي: ما دمت حياً {أن تقول} لكل من رأيته {لا مساس} أي: لا تمسني ولا أمسك، فلا تقدر أن تنفك عن ذلك، فكان يهيم في البرية مع الوحوش والسباع، وإذا مس أحداً أو مسه أحد حما جميعاً عاقبه الله تعالى بذلك، وكان إذا لقي أحداً يقول لا مساس؛ أي: لا تقربني ولا تمسني، وقال ابن عباس لا مساس لك ولولدك حتى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك، وإذا مس أحد من غيرهم أحداً منهم حما جميعاً في ذلك الوقت {وإن لك} بعد الممات {موعداً} للثواب إن تبت، والعقاب إن أبيت {لن تخلقه} قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر اللام أي: لن تغيب عنه، والباقون بفتحها أي: بل تبعث إليه، فلا انفكاك لك عنه كما أنك في الحياة لا تقدر أن تنفك عن النفرة من الناس، فاختر لنفسك ما يحلو. ولما ذكر ما للإله الحق من القدرة التامة في الدارين أتبعه عجز العجل، فقال: {وانظر إلى إلهك} أي: بزعمك {الذي ظلت} أي: دمت في مدة يسيرة جداً بما أشار إليه تخفيف التضعيف، فإن أصله ظللت بلامين أولاهما مكسورة حذفت تخفيفاً {عليه عاكفاً} أي: مقيماً تعبده {لنحرّقنّه} أي: بالنار وبالمبرد قال البقاعي: كما سلف عن نص التوراة، وكان معنى ذلك أنه أحماه حتى لان، فهان على المبارد انتهى، {ثم لننسفنه} أي: لنذرينه إذا صار سحالة {في اليمّ} أي: في البحر الذي أغرق الله تعالى فيه آل فرعون، ثم يجمع الله تعالى سحالته التي هي من حليهم، فيحميها في نار جهنم، ويكويهم بها، ويجعلها من أشد العذاب عليهم، وأكد الفعل إظهاراً لعظمة الله تعالى الذي أمره بذلك، وتحقيقاً للصدق في الوعد، فقال: {نسفاً} قال الجلال المحلي، وفعل موسى عليه السلام بعد ذبحه ما ذكره انتهى، وعلى هذا لا يصح أن يبرد بالمبرد؛ قال الرازي: ويمكن أن يقال صار لحماً ودماً، وذبح ثم بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها، ولما أراهم بطلان ما هم(1/2463)
(5/305)
---
عليه بالعيان أخبرهم بالحق على وجه الحصر، فقال:
{إنما إلهكم الله} أي: الجامع لصفات الكمال، ثم كشف المراد من ذلك، وحققه بقوله: {الذي لا إله إلا هو} أي: لا يصلح لهذا المنصب أحد غيره؛ لأنه {وسع كل شيء} وقوله: {علماً} تمييز محمول على الفاعل، أي: أحاط علمه بكل شيء، فكل شيء إليه مفتقر، وهو غني عن كل شيء، وأما العجل الذي عبدوه، فلا يصلح للإلهية بوجه، ولا في عبادته شيء من حق، ولما شرح الله تعالى قصة موسى عليه السلام مع فرعون أولاً، ثم مع السامري ثانياً على هذا الأسلوب الأعظم والسبيل الأقوم كان كأنه قيل: هل يعاد شيء من القصص على هذا الأسلوب البديع، والمثال الرفيع، فقيل: نعم
{كذلك} أي: مثل هذا القص العالي في هذا النظم العزيز الغالي كقصة موسى ومن ذكر معه {نقص عليك من أنباء} أي: أخبار {ما قد سبق} من الأمم زيادة في علمك وإجلالاً لمقدارك، وتسلية لقلبك، وإذهاباً لحزنك بما اتفق للرسل من قبلك، وتكثيراً لبيناتك، وزيادة في معجزاتك، وليعتبر السامع ويزداد المستبصر في دينه بصيرة، وتتأكد الحجة على من عاند وكابر {وقد أتيناك} أي: أعطيناك تشريفاً لك وتعظيماً لقدرك {من لدنا} أي: من عندنا {ذكراً} أي: كتاباً هو القرآن وفي تسمية القرآن بالذكر وجوه أحدها: أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم، وثانيها: أنه يذكر فيه أنواع آلاء الله ونعمائه، وفيه التذكير والموعظة، وثالثها: فيه الذكر والشرف لك ولقومك كما قال الله تعالى: وإنه لذكر لك ولقومك، وسمى الله تعالى كل كتاب أنزله ذكراً فقال: {فاسألوا أهل الذكر}، والتنتكير فيه للتعظيم، فإنه مشتمل على أسرار كتب الله تعالى المنزلة
{من أعرض عنه} فلم يؤمن به {فإنه يحمل يوم القيامة وزراً} أي: حملاً ثقيلاً من الإثم
(5/306)
---(1/2464)
{خالدين فيه} أي: في عذاب الوزر {وساء} أي: وبئس {لهم} أي: ذلك الحمل {يوم القيامة} وقوله: {حملاً} تمييز مفسر للضمير في ساء، والمخصوص بالذم محذوف تقديره وزرهم، واللام للبيان، ومن أقبل عليه كان مذكراً له بكل ما يريد من العلوم النافعة ويبدل من يوم القيامة
{يوم ينفخ في الصور} أي: القرن النفخة الثانية، وقرأ أبو عمرو بنونين الأولى مفتوحة، وضم الفاء على إسناد الفعل إلى الآمر به تعظيماً له، أو إلى النافخ، والباقون بياء مضمومة، وفتح الفاء {ونحشر المجرمين} أي: الكافرين {يومئذٍ زرقاً} أي: عيونهم مع سواد وجوههم؛ لأن زرقة العيون أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب؛ لأن الروم أعداؤهم، وهم زرق العيون، ولذلك قالوا في صفة العدو: أسود الكبد، أصهب السبال، أزرق العين، وقيل: المراد العمى؛ لأن حدقة من يذهب نور بصره تزرق، وقيل: عطاشاً حال كونهم
{يتخافتون} أي: يخفضون أصواتهم {بينهم} لما يملأ صدورهم من الرعب والهول، والخفت خفض الصوت وإخفاؤه {إن} أي: يقول بعضهم لبعض ما {لبثتم} أي: مكثتم {إلا عشراً} أي: من الليالي بأيامها في الدنيا، وقيل: في القبور وقيل: بين النفختين، وهو مقدار أربعين سنة؛ قالوا: ذلك إما استقصاراً لمدة الراحة في جنب ما بدا لهم من المخاوف؛ لأن أيام السرور قصار، وإما لأنها ذهبت عنهم، وانقضت، والذاهب وإن طالت مدته قصيرة بالانتهاء، ومنه توقيع عبد الله بن المعتز أطال الله تعالى بقاءك كفى بالانتهاء قصراً، وإما لاستطالتهم الآخرة، فإنه يستقصر إليها عمر الدنيا، ويتقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة كما قال تعالى: {كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين} (المؤمنين: 112، 113)، وإما غلطاً ودهشة قال الله تعالى:
(5/307)
---(1/2465)
{نحن أعلم} أي: من كل أحد {بما يقولون} في ذلك اليوم أي: ليس كما قالوا: {إذ يقول أمثلهم} أي: أعدلهم {طريقة} أي: رأياً أو عملاً في الدنيا فيما يحسبون {أن} أي: ما {لبثتم إلا يوماً} أي: مبدأ الآحاد لا مبدأ العقود كما قال تعالى في آية أخرى: {يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون} (الروم، 55)، فلا يزالون في إفك وصرف عن الحق في الدارين؛ لأن الإنسان يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، ولما وصف سبحانه وتعالى أمر يوم القيامة حكى سؤال من لا يؤمن بالحشر فقال تعالى:
(5/308)
---
{ويسئلونك} يا أشرف الخلق {عن الجبال} كيف تكون يوم القيامة؟ قال الضحاك: نزلت في مشركي مكة قالوا: يا محمد كيف تكون الجبال يوم القيامة، وكان سؤالهم على سبيل الاستهزاء، ولما كان مقصودهم من هذا السؤال الطعن في الحشر والنشر، فلا جرم أمره الله تعالى بالجواب مقروناً بحرف التعقيب بقوله: {فقل} لهم {ينسفها ربي نسفاً}؛ لأن تأخير البيان في هذه المسألة الأصولية غير جائز، وأما المسائل الفروعية فجائز فلذلك ذكر هناك في نحو قوله تعالى: {يسألونك ماذا ينفقون قل العفو} (البقرة، 219)، وقوله تعالى: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير} (البقرة، 220)
بغير حرف التعقيب والنسف التذرية، وقيل: القلع الذي يقلعها من أصلها ويجعلها هباءً منثوراً؛ قال الخليل: ينسفها يذهبها ويطيرها، وفي ضمير(1/2466)
{فيذرها} قولان أحدهما: أنه ضمير الأرض أضمرت للدلالة عليها كقوله تعالى: {ما ترك على ظهرها من دابة} (فاطر، 45)، والثاني: ضمير الجبال، وذلك على حذف مضاف أي: فيذر مراكزها ومقارها، ويذر يجوز أن يكون بمعنى يخليها، فيكون {قاعاً} حالاً وأن يكون بمعنى يترك التصييريه، فيتعدى لاثنين فقاعاً ثانيهما، والقاع هو المكان المستوي، وقيل: الأرض التي لا بناء فيها، ولا نبات، وفي قوله تعالى: {صفصفاً} قولان أحدهما: الأرض الملساء، والثاني: المستوية، والقاع والصفصف قريبان من الترادف، وجمع القاع أقوع وأقواع وقيعان
{لا ترى فيها} أي: الأرض أو مواضع الجبال {عوجاً} أي: انخفاضاً {ولا أمتاً} أي: ارتفاعاً بوجه من الوجوه، وعبر هنا في العوج بالكسر، وهو للمعاني، ولم يعبر بالفتح الذي توصف به الأعيان، فإن الأرض أو مواضع الجبال أعيان لا معان نفياً للاعوجاج على أبلغ وجه بمعنى أنك لو جمعت أهل الخبرة بتسوية الأرض لاتفقوا على الحكم باستوائها، ثم لو جمعت أهل الهندسة فحكموا بمقاييسهم العلمية فيها لحكموا بمثل ذلك.
(5/309)
---(1/2467)
{يومئذٍ} أي: يوم إذ نسفت الجبال {يتبعون} أي: الناس بعد القيام من القبور بغاية جهدهم {الداعي} أي: إلى المحشر، وهو إسرافيل يضع الصور على فيه ويقف على صخرة بيت المقدس ويقول: أيتها العظام البالية، والجلود الممزقة واللحوم المتفرقة هلموا إلى عرض الرحمن {لا عوج له} أي: الداعي في شيء من قصدهم إليه؛ لأنه ليس في الأرض ما يحوجهم إلى التعويج، ولا يمنع الصوت من النفوذ على السواء، وقيل: لا عوج لدعائه، وهو من المقلوب، أي: لا عوج له عن دعاء الداعي لا يزيغون عنه يميناً ولا شمالاً، ولا يقدرون عليه، بل يتبعونه سراعاً {وخشعت الأصوات} أي: سكنت وذلت وتطامنت لخشوع أهلها {للرحمن} الذي عمت نعمه، فيرجى كرمه، وتخشى نقمه {فلا} أي: فتسبب عن خشوعها أنك لا {تسمع إلا همساً} أخفى ما يكون من الأصوات، وقيل: أخفى شيء من أصوات الأقدام في نقلها إلى المحشر كصوت أخفاف الإبل في مشيها.
{يومئذٍ} أي: إذا كان ما تقدم {لا تنفع الشفاعة} أحداً {إلا من أذن له الرحمن} أن يشفع له {ورضي له قولاً} ولو الإيمان المجرد قال ابن عباس: يعني قال: لا إله إلا الله، فهذا يدل على أنه لا يشفع لغير المؤمن، ولما نفى أن تنفع شفاعة بغير إذنه علل ذلك كما سلف في آية الكرسي بقوله:
{يعلم ما بين أيديهم} أي: الخلائق من أمور الآخرة {وما خلفهم} من أمور الدنيا، وقيل: ما بين أيديهم ما قدموا وما خلفهم ما خلفوا من الأعمال {ولا يحيطون به علماً} أي: لا يحيط علمهم بمعلوماته، وقيل: الضمير إلى ما أي: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وهم لا يعلمونه، وقيل: راجع إلى الله تعالى أي: ولا يحيطون بالله علماً، ولما ذكر خشوع الأصوات أتبعه خضوع ذويها، فقال:
(5/310)
---(1/2468)
{وعنت الوجوه} أي: ذلت وخضعت في ذلك اليوم، ويصير الملك والقهر لله تعالى دون غيره، وخص الوجوه بالذكر مع أن المراد الأشخاص لشرف الوجوه، ولأنها أول ما يظهر فيها الذل {للحي} الذي هو مطلع على الدقائق والجلائل {القيوم} الذي لا يغفل عن التدبير ومجازاة كل نفس بما كسبت؛ روى ابن أسامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اطلبوا اسم الله الأعظم في هذه السور الثلاث: البقرة وآل عمران، وطه»، قال الرازي: فوجدنا المشترك في السور الثلاث: الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم {وقد خاب} أي: خسر خسارة ظاهرة {من حمل ظلماً} قال ابن عباس: خسر من أشرك بالله، والظلم الشرك. ولما شرح الله تعالى أحوال القيامة ختم الكلام فيها بشرح أحوال المؤمنين، فقال:
{ومن يعمل من الصالحات} أي: التي أمره الله تعالى بها بحسب طاقته؛ لأنه لن يقدر الله أحد حق قدره، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه {وهو مؤمن} ليكون بناؤها على الأساس كما في قوله تعالى: {ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات} (ظه، 75)
{فلا يخاف ظلماً} أي: بزيادة في سيئاته {ولا هضماً} أي: بنقص من حسناته؛ قاله ابن عباس، وقيل: لا يؤاخذ بذنب لم يعمله، ولا تبطل حسنة عملها، وعبّر تعالى بالفاء إشارة إلى قبول الأعمال وجعلها سبباً لذلك الحال، وأما غير المؤمن، فلو عمل أمثال الجبال لم يكن لها وزن، وقوله تعالى:
(5/311)
---(1/2469)
{وكذلك} معطوف على قوله تعالى: {وكذلك نقص}، أي: ومثل إنزال ما ذكر {أنزلناه} أي: القرآن {قرآناً} جامعاً لجميع المعاني المقصودة، ثم وصفه تعالى بأمرين؛ أحدهما: قوله تعالى {عربياً} أي: بلسان العرب ليفهموه، ويقفوا على إعجازه وحسن نظمه وخروجه عن كلام البشر، الثاني: قوله تعالى: {وصرّفنا فيه من الوعيد} أي: كرّرناه، وفصلناه، ويدخل تحت الوعيد بيان الفرائض والمحارم؛ لأن الوعد بهما يتعلق بتكريره وتصريفه يقتضي بيان الأحكام، فلذلك قال تعالى: {لعلهم يتقون} أي: يجتنبون الشرك والمحارم، وترك الواجبات، فتصير التقوى لهم ملكة {أو يحدث لهم ذكراً} أي: عظة واعتباراً حين يسمعونها، فيثبطهم عنها، ولهذه النكتة أسند التقوى إليهم، والأحداث إلى القرآن.
(5/312)
---(1/2470)
{فتعالى الله} في ذاته وصفاته عن مماثلة المخلوقين لا يماثل كلامه كلامهم كما لا تماثل ذاته وصفاته ذاتهم وصفاتهم {الملك} الذي لا يعجزه شيء، فلا ملك في الحقيقة غيره {الحق} أي: الثابت الملك، فلا زوال لكونه ملكاً في زمن ما، ولعظمة ملكه وحقية ذاته وصفاته صرف خلقه على ما هم عليه من الأمور المتباينة، ولما شرح الله تعالى كيفية نفع القرآن للمكلفين، وبيّن أنه سبحانه وتعالى متعالٍ عن كل ما لا ينبغي موصوف بالإحسان والرحمة، ومن كان كذلك صان رسوله عن السهو والنسيان في أمر الوحي، فلذلك قال تعالى: {ولا تعجل بالقرآن} أي: بقراءته {من قبل أن يقضى إليك وحيه} من الملك النازل به إليك من حضرتنا كما أنا لم نعجل بإنزاله عليك جملة بل رتلناه لك ترتيلاً، ونزلناه إليك تنزيلاً مفصلاً تفصيلاً، وموصلاً توصيلاً، فاستمع له ملقياً جميع تأملك إليه، ولا تساوقه بالقراءة، فإذا فرغ فاقرأه، فإنا نجمعه في قلبك، ولا نكلفك المساوقة بتلاوته {وقل رب} أيها المحسن إليّ بإفاضة العلوم عليّ {زدني علماً} أي: سل الله زيادة العلم بدل الاستعجال، فإن ما أوحي إليك تناله لا محالة؛ روى الترمذي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً، والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار» وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم زدني علماً ويقيناً، ولما قال تعالى: {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق} (طه، 99)
ذكره هذه القصة إنجازاً للوعد، فقال تعالى:
(5/313)
---
{ولقد عهدنا} بما لنا من العظمة {إلى آدم} أبي البشر أي: وصيناه أن لا يأكل من الشجرة، وإنما عطفها على قوله تعالى: {وصرفنا فيه من الوعيد} (طه، 113)(1/2471)
للدلالة على أن أساس بني آدم على العصيان، وعرقهم راسخ بالنسيان {من قبل} أي: في زمن من الأزمان الماضية قبل هؤلاء الذين تقدّم في هذه السورة ذكر نسيانهم وإعراضهم {فنسي} عهدنا، وأكل منها {ولم نجد له عزماً} أي: تصميم رأي وثبات على الأمر؛ إذ لو كان ذا عزيمة وتصلب لم يزله الشيطان، ولم يستطع تغريره؛ قال البيضاوي: ولعل ذلك كان في بدء أمره قبل أن يجرب الأمور ويذوق أريها وشريها انتهى، والأري العسل، والشري: الحنظل؛ قال البغوي: قال أبو أمامة الباهلي: لو وزن حلم آدم بحلم ولده لرجح حلمه، وقد قال الله تعالى: {ولم نجد له عزماً}، وقال البيضاوي: وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه»، وقد قال تعالى: ولم نجد له عزماً ، قال ابن الأثير: والحلم بالكسرة الأناة والتثبت في الأمور.
فإن قيل: ما المراد بالنسيان أجيب بأنه يجوز أن يراد بالنسيان الذي هو نقيض الذكر، وإنه لم يعنِ بالوصية العناية الصادقة، ولم يستوثق منها بقصد القلب عليها، وضبط النفس حتى تولد من ذلك النسيان، ولم يكن النسيان في ذلك الوقت مرفوعاً عن الإنسان بل كان يؤاخذ به، وإنما رفع عنا، وكان الحسن يقول: ما عصى أحد قط إلا بنسيان، وإن يراد الترك وأنه ترك ما أوصي به من الاحتراز عن الشجرة وأكل ثمرتها، وقيل: نسي عقوبة الله تعالى، وظن أنه نهي تنزيه.
(5/315)
---(1/2472)
تنبيه: هذا هو المرّة الخامسة من قصة آدم في القرآن أولها في البقرة، ثم في الأعراف، ثم في الحجر، ثم في الكهف، ثم ههنا، وقوله تعالى: {وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس} تقدَّم الكلام على ذلك مفصلاً في سورة البقرة، وقوله تعالى: {أبى} جملة مستأنفة؛ لأنها جواب سؤال مقدر؛ أي: ما منعه من السجود؟ فأجيب بأنه أبى، ومفعول الإباء يجوز أن يكون مراداً، وقد صرح به في الآية الأخرى في قوله تعالى: {أبى أن يكون من الساجدين} (الحجر، 31)، وحسن حذفه هنا كون العامل رأس فاصلة، ويجوز أن لا يراد أصلاً، وأنَّ المعنى أنه من أهل الإباء والعصيان من غير نظر إلى متعلق الإباء ما هو
(5/316)
---(1/2473)
{فقلنا} بسبب امتناعه بعد أن حلمنا عليه ولم نعاجله بالعقوبة {يا آدم إنَّ هذا} الشيطان الذي تكبر عليك {عدوّ لك ولزوجك} حوَّاء بالمدّ لأنها منك، وسبب تلك العداوة من وجوه؛ الأول: أن إبليس كان حسوداً، فلما رأى آثار نعم الله في حق آدم حسده، فصار عدواً له، الثاني: أن آدم عليه السلام كان شاباً عالماً لقوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} (البقرة، 30)، وإبليس كان شيخاً جاهلاً؛ لأنه أثبت فضيلته بفضيلة أصله، وذلك جهل، والشيخ الجاهل أبداً يكون عدواً للشاب العالم، الثالث: أن إبليس مخلوق من النار، وآدم مخلوق من الماء والتراب، فبين أصليهما عداوة، فثبتت تلك العداوة فإن قيل: لمَ قال تعالى: {فلا يخرجنكما من الجنة} مع أن المخرج لهما منها هو الله تعالى؟ أجيب بأنه لما كان هو الذي فعل بوسوسته ما ترتب عليه الخروج صح ذلك فإن قيل: لمَ قال تعالى: {فتشقى} أي: فتتعب وتنصب في الدنيا، ولم يقل: فتشقيا؟ أجيب بوجهين؛ أحدهما: أن في ضمن شقاء الرجل وهو قيّم أهله وأميرهم شقاءهم كما أن في ضمن سعادته سعادتهم، فاختص الكلام بإسناده إليه دونها مع المحافظة على كونه رأس فاصلة، وعن سفيان بن عيينة قال: لم يقل فتشقيا؛ لأنها داخلة معه، فوقع المعنى عليهما جميعاً وعلى أولادهما جميعاً كقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} (الطلاق، 1)، و{يا أيها النبي لم تحرِّم ما أحل الله لك قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} (التحريم، 1)، فدخلوا في المعنى معه، وإنما كلم النبي وحده، الثاني: أريد بالشقاء التعب في طلب القوت، وذلك على الرجل دون المرأة؛ لأن الرجل هو الساعي على زوجته، روي أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه ويحتاج بعد الحرث إلى الحصد والطحن والخبز وغير ذلك مما يحتاج إليه، وعن الحسن قال: عنى به شقاء الدنيا، فلا تلقى ابن آدم إلا شقياً ناصباً أي: ولو أراد شقاوة الآخرة ما دخل الجنة بعد ذلك، ولما كان(1/2474)
(5/317)
---
الشبع والريّ والكسوة والمكن هي الأمور التي يدور عليها كفاف الناس ذكر الله تعالى حصول هذه الأشياء في الجنة من غير حاجة إلى الكسب والطلب، وذكرها بلفظ النفي لأضدادها بقوله تعالى:
{إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى}
{وإنك لا تظمأ} أي: تعطش {فيها ولا تضحى} أي: لا يحصل لك حر شمس الضحى لانتفاء الشمس في الجنة بل أهلها في ظل ممدود وهذه الأشياء كأنها تفسير للشقاء المذكور في قوله تعالى: فتشقى
{فوسوس} أي: فتعقب تحذيرنا هذا من غير بعد في زمان أن وسوس {إليه الشيطان} المحترق المطرود وهو إبليس أي: أنهى إليه الوسوسة، وأما وسوس له، فمعناه لأجله، فلذلك عدي تارة باللام في قوله تعالى: {فوسوس لهما} (الأعراف، 20)، وتارة بإلى، ثم بيّن تعالى تلك الوسوسة ما هي بقوله تعالى: {قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد} أي: على الشجرة التي إن أكلت منها بقيت مخلداً {وملك لا يبلى} أي: لا يبيد ولا يفنى، قال الرازي: واقعة آدم عجيبة، وذلك لأن الله تعالى رغبه في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله تعالى: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى}، ورغبة إبليس أيضاً في دوام الراحة بقوله تعالى: هل أدلك على شجرة الخلد وفي انتظام المعيشة بقوله، وملك لا يبلى، فكان الشيء الذي رغب الله تعالى فيه آدم هو الذي رغبه إبليس فيه إلا أن الله تعالى وقف ذلك الأمر على الاحتراس عن تلك الشجرة، وإبليس وقفه على الإقدام عليها، ثم إن آدم عليه السلام مع كمال عقله وعلمه بأن الله مولاه وناصره ومربيه وعلمه بأن إبليس عدوّه حيث امتنع من السجود له وعرض نفسه للعنة بسبب عداوته كيف قبل في الواقعة الواحدة، والمقصود الواحد قول إبليس مع علمه بعداوته له، وأعرض عن قول الله تعالى مع علمه بأنه الناصر له والمربي، ومن تأمل هذا الباب طال تعجبه، وعرف آخر الأمر أن هذه القصة كالتنبيه على أنه لا دافع لقضاء(1/2475)
الله، ولا
(5/318)
---
مانع له منه، وأن الدليل وإن كان في غاية الظهور ونهاية القوة، فإنه لا يحصل النفع به إلا إذا قضى الله ذلك وقدَّره انتهى.w
ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احتج آدم وموسى عند ربهما، فحج آدم موسى، قال موسى أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض، فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها بيان كل شيء، وقرّبك نجياً فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني؛ قال موسى: بأربعين عاماً قال آدم: فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى قال: نعم، قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتب الله عليَّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى»، وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة قال: وعرشه على الماء، وقال: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس»، ثم كأن إبليس قال لآدم بلسان الحال أو المقال مشيراً إلى الشجرة التي نهي عنها ما بينك وبين الملك الدائم إلا أن تأكل منها
(5/319)
---(1/2476)
{فأكلا} أي: فتسبب عن قوله وتعقب أن أكل {منها} هو وزوجته متبعين لقوله ناسين ما عهد إليهما لأمر قدّره الله في الأزل {فبدت لها سوآتهما} قال ابن عباس عرياً من النور الذي كان الله ألبسهما حتى بدت فروجهما، وإنما جمع سوآتهما كما قال: صغت قلوبكما، أي: فظهر لكل منهما قبله وقبل الآخر ودبره، وسمى كل منهما سوأة؛ لأن انكشافه يسوء صاحبه {وطفقا يخصفان} أي: أخذا يلزقان {عليهما من ورق الجنة} ليستترا به، قال ابن عادل: وهو ورق التين {وعصى آدم} بالأكل من الشجرة، وإن كان إنما فعل المنهي نسياناً لأن عظم مقامه وعلو رتبته يقتضيان له مزيد الاعتناء، ودوام المراقبة {ربه} المحسن إليه بما لم ينله أحد من بنيه من تصويره له بيده، وإسجاد ملائكته له، ومعاداة من عاداه {فغوى} أي: فعل ما لم يكن له فعله، وقيل: أخطأ طريق الحق، وقيل: حيث طلب الخلد بأكل ما نهى عنه، فخاب، ولم ينل مراده وصار من العز إلى الذل، ومن الراحة إلى التعب؛ قال ابن قتيبة: يجوز أن يقال: عصى آدم، ولا يجوز أن يقال: آدم عاص؛ لأنه إنما يقال: عاص لمن اعتاد فعل المعصية كالرجل يخيط ثوبه، فيقال: خاط ثوبه، ولا يقال: هو خياط حتى يعاوده ويعتاده.
(5/320)
---(1/2477)
تنبيه: تمسك بعضهم بقوله تعالى: وعصى آدم ربه فغوى في صدور الكبيرة عنه من وجهين؛ الأول: أن العاصي اسم للذم، فلا ينطلق إلا على صاحب الكبيرة لقوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها} (الجن، 23)، ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فعل فعلاً يعاقب عليه، الثاني: أن الغواية والضلالة اسمان مترادفان، والغي ضد الرشاد، ومثل هذا لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه، وأجيب: بأن المعصية مخالفة الأمر، والأمر قد يكون بالواجب وقد يكون بالمندوب، فإنك تقول: أمرته فعصاني، وأمرته بشرب الدواء فعصاني، وإذا كان كذلك لم يمتنع إطلاق اسم العصيان على آدم بكونه للمندوب، وإن كان وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز، وأجاب أبو مسلم الأصبهاني بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف، وكذا القول في غوى؛ قال الرازي: والأولى عندي في هذا الباب أن يقال: هذه الواقعة كانت قبل النبوَّة، وقد تقدم شرح ذلك في البقرة، وقيل: بل أكل من الشجرة متأولاً، وهو لا يعلم أنَّ الشجرة التي نهى الله عنها شجرة مخصوصة لا على الجنس، ولهذا قيل: إنما كانت التوبة من ترك التحفظ لا من المخالفة، فهو كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين أي: يرونها بالإضافة إلى علو أحوالهم كالسيئات
{ثم اجتباه ربه} أي: اختاره واصطفاه {فتاب عليه} أي: قبل توبته، وأعاد عليه بالعفو والمغفرة {وهدى} أي: هداه لرشده حتى رجع إلى الندم والاستغفار، ولما كانت دار الملوك لا تحتمل مثل ذلك وإن كان قد هيأه بالاجتباء لها قال على طريق الاستئناف.
(5/321)
---(1/2478)
{قال} الرب سبحانه وتعالى: الذي انتهكت حرمة داره {اهبطا} أي: آدم وحواء بما اشتملتما عليه من ذريتكما {منها} أي: الجنة {جميعاً} وقيل: الخطاب لآدم ومعه ذريته، ولإبليس، فقوله تعالى: {بعضكم لبعض عدوٌّ} يكون على التفسير الأول بعض الذرية لبعض عدوٌّ من ظلم بعضهم لبعض، وعلى الثاني آدم وذريته، وإبليس وذريته، وقوله تعالى: {فإما} فيه إدغام نون أن الشرطية في ما المزيدة {يأتينكم مني هدى} أي: كتاب ورسول {فمن اتبع هداي} الذي أسعفته به من أوامر الكتاب والرسول {فلا يضل} أي: بعد ذلك عن طريق السداد في الدنيا {ولا يشقى} في الآخرة؛ قال ابن عباس: من قرأ القرآن، واتبع ما فيه هداه الله تعالى من الضلالة، ووقاه الله تعالى يوم القيامة سوء الحساب، وذلك أن الله تعالى يقول: فمن اتبع هداي، فلا يضل ولا يشقى، ولما وعد تعالى من اتبع الهدى أتبعه بوعيد من أعرض فقال تعالى:
(5/322)
---(1/2479)
{ومن أعرض عن ذكري} أي: عن القرآن، فلم يؤمن به ولم يتبعه {فإن له معيشة ضنكاً} والضنك أصله الضيق والشدة، وهو مصدر، فكأنه قال: له معيشة ذات ضنك، واختلف في ذلك، فقال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن مسعود: المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر، وروى أبو هريرة أنَّ عذاب القبر للكافر، قال: قال صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده ليسلط عليه في قبره تسعة وتسعون تنيناً هل تدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية لكل حية تسعة رؤوس يخدشونه ويلسعونه، وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون»، وقال الحسن وقتادة والكلبي: هو الضيق في الآخرة في جهنم، فإنّ طعامهم الضريع والزقوم، وشرابهم الحميم والغسلين، فلا يموتون فيها ولا يحيون، وقال ابن عباس: المعيشة الضنك هي أن يضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها، وعن عطاء: المعيشة الضنك هي معيشة الكافر؛ لأنه غير موقن بالثواب والعقاب، وروي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عقوبة المعصية ثلاثة؛ ضيق المعيشة والعسر في الشدة، وأن لا يتوصل إلى قوته إلا بمعصية الله»، وذلك أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله تعالى، وعلى قسمته، فهو ينفق ما رزقه الله تعالى بسماح وسهولة، فيعيش عيشاً رفيعاً كما قال الله تعالى: {فلنحيينه حياة طيبة} (النحل، 97)، والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الانفاق فعيشه ضنك، وحاله مظلمة، قال صلى الله عليه وسلم «لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لابتغى إليه ثانياً، ولو كان له واديان لابتغى لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» متفق عليه. قال بعض الصوفية: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته، وتشوش عليه رزقه، وقال تعالى: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً} (نوح: 10، 11)
(5/323)
---(1/2480)
الآية، وقال تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً} (الجن، 16)
. ثم ذكر حال المعرض في الآخرة بقوله تعالى: {ونحشره يوم القيامة أعمى} قال ابن عباس: إذا خرج من القبر خرج بصيراً، فإذا سيق إلى المحشر عمي، ولعله جمع بذلك بين هذا وبين قوله تعالى: {أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا} (مريم، 38)، وقال عكرمة: عمي عليه كل شيء إلا جهنم، وفي لفظ قال: لا يبصر إلا النار، وعن مجاهد المراد بالعمى عدم الحجة، ويؤيد الأول قوله تعالى:
{قال رب لم حشرتني أعمى} في هذا اليوم؟ {وقد كنت بصيراً} أي: في الدنيا، أو في أول هذا اليوم، فكأنه قيل: بما أجيب؟ فقيل:
{قال} له ربه {كذلك} أي: مثل ذلك فعلت، ثم فسره، فقال: {أتتك آياتنا} واضحة نيرة {فنسيتها} فعميت عنها، وتركتها غير منظور إليها {وكذلك} أي: ومثل تركك إياها {اليوم تنسى} أي: تترك في العمى والعذاب
{وكذلك} أي: ومثل هذا الجزاء الشديد {نجزي من أسرف} في متابعة هواه، فتكبر عن متابعة أوامرنا {ولم يؤمن} بل كذب {بآيات ربه} وخالفها {ولعذاب الآخرة أشدّ} مما نعذبهم به في الدنيا والقبر لعظمه {وأبقى} فإنه غير منقطع. ولما بيّن الله تعالى أنَّ من أعرض عن ذكره كيف يحشر يوم القيامة اتبعه بما يعتبر به المكلف من الأفعال الواقعة في الدنيا ممن كذب الرسل، فقال:
(5/324)
---(1/2481)
أي: يبين بياناً يقود إلى المقصود {لهم} أي: هؤلاء الذين أرسلت إليهم أعظم رسلي، وفاعل يهد مضمون قوله: {كم أهلكنا} وقال أبو البقاء: الفاعل ما دل عليه أهلكنا أي: إهلاكنا، والجملة مفسرة له، وقال الزمخشري: فاعل لم يهد الجملة بعده يريد: ألم يهدلهم هذا بمعناه ومضمونه، ونظيره قوله تعالى: {وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين} (الصافات: 78، 79)، أي: تركنا عليه هذا الكلام، ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول انتهى. وكم خبرية مفعول أهلكنا {قبلهم من القرون} أي: بتكذيبهم لرسلنا حال كونهم {يمشون} أي: هؤلاء العرب من أهل مكة وغيرهم {في مساكنهم} أي: في سفرهم إلى الشام، ويشاهدون آثار هلاكهم {إن في ذلك} أي: الإهلاك العظيم الشأن المتوالي في كل أمة {لآيات} عظيمات بينات {لأولي النهى} أي: لذوي العقول الناهية عن التغافل والتعامي. ولما هددهم بإهلاك الماضين ذكر سبب التأخير عنهم بقوله تعالى:
(5/326)
---(1/2482)
{ولولا كلمة} أي: عظيمة قاضية نافذة {سبقت} أي: في أزل الآزال {من ربك} الذي عودك بالإحسان بتأخير العذاب عنهم إلى الآخرة فإنه يعامل بالحلم والأناة {لكان} أي: العذاب {لزاماً} أي: لازماً أعظم لزوم لهم في الدنيا مثل ما نزل بعاد وثمود، ولكن نمدُّ لهم لنرد من شئنا منهم، ونخرج من أصلاب بعضهم من يؤمن، وإنما فعلنا ذلك إكراماً لك ورحمة لأمتك، فيكثر أتباعك، فيعملوا الخيرات، فيكون ذلك زيادة في شرفك، وإلى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم «وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً»، وفي رفع قوله تعالى {وأجل مسمى} وجهان؛ أظهرهما: عطفه على كلمة أي، ولولا أجل مسمى لكان العذاب لازماً لهم، وهذا ما صدَّر به البيضاوي، والثاني: أنه معطوف على الضمير المستتر في كان، وقام الفصل بخبرها مقام التأكيد، واقتصر الجلال المحلي على هذا، وجوَّزه الزمخشري والبيضاوي، وفي هذا الأجل المسمى قولان؛ أحدهما: ولولا أجل مسمى في الدنيا لذلك العذاب، وهو يوم بدر، والثاني: ولولا أجل مسمى في الآخرة لذلك العذاب، وهذا كما قال الرازي أقرب قال أهل السنة تعالى بحكم المالكية أن يخص من شاء بفضله، ومن شاء بعذابه من غير علة إذ لو كان فعله لعلة لكانت تلك العلة إما قديمة، فيلزم قدم الفعل، وإما حادثة، فيلزم افتقارها إلى علة أخرى، ويلزم التسلسل، ثم إنه تعالى لما أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه لا يهلك أحداً قبل استيفاء أجله أمره بالصبر، فقال:
(5/327)
---(1/2483)
{فاصبر على ما يقولون} لك من الاستهزاء وغيره، وهذا كان أول الأمر، ثم نسخ بآية القتال {وسبح} أي: صل، وقوله تعالى: {بحمد ربك} حال أي: وأنت حامد لربك على أنه وفقك لذلك، وأعانك عليه {قبل طلوع الشمس} صلاة الصبح {وقبل غروبها} صلاة العصر {ومن أناء الليل} أي: ساعاته {فسبح} أي: صل المغرب والعشاء، وقوله تعالى: {وأطراف النهار} معطوف على محل من آناء المنصوب أي: صل الظهر؛ لأن وقتها يدخل بزوال الشمس، فهو طرف النصف الأول، وطرف النصف الثاني قال ابن عباس: دخلت الصلوات الخمس في ذلك، وقيل: المراد الصلوات الخمس والنوافل؛ لأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها، فالليل والنهار داخلان في هاتين العبارتين.
وأوقات الصلوات الواجبة دخلت فيهما، فبقي قوله: ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار للنوافل، وقال أبو مسلم: لا يبعد حمل التسبيح على التنزيه والإجلال، والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات.
فإن قيل: النهار له طرفان، فكيف قال: وأطراف النهار، ولم يقل: طرفي النهار أجيب بوجهين أظهرهما: أنه إنما جمع لأنه يلزم في كل نهار ويعود، والثاني: أن أقل الجمع اثنان، وقرأ قوله تعالى {لعلك ترضى} أبو بكر والكسائي بضم التاء أي: ترضى بما تنال من الثواب كقوله تعالى: {وكان عند ربه مرضياً} (مريم، 55)، وقرأ الباقون بفتحها أي: ترضى بما تنال من الشفاعة قال تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} (الضحى، 5)، وقال تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} (الإسراء، س79)، والمعنى: على القراءتين لا يختلف؛ لأن الله تعالى إذا أرضاه، فقد رضيه، وإذا رضيه، فقد أرضاه، ولما كانت النفس ميالة إلى الدنيا مرهونة بالحاضر من فاني العطايا، وكان تخليها عن ذلك هو الموصل إلى حريتها المؤذن بعلو همتها قال تعالى مؤكداً إيذاناً بصعوبة ذلك:
(5/328)
---(1/2484)
{ولا تمدن} مؤكداً له بالنون الثقيلة {عينيك} أي: لا تطول نظرهما بعد النظرة الأولى المعفو عنها {إلى ما متعنا به} في هذه الحياة الفانية {أزواجاً} أي: أصنافاً {منهم} أي: الكفرة استحساناً له وتمنياً أن يكون لك مثله والإمتاع الإلذاذ بما يدرك من المناظر الحسنة، ويسمع من الأصوات المطربة ويشم من الروائح الطيبة وغير ذلك من الملابس والمناكح، وقوله تعالى: {زهرة الحياة الدنيا} أي: زينتها وبهجتها منصوب بمحذوف دل عليه متعنا، أو به على تضمنه معنى أعطينا، فأزواجاً مفعول أول، وزهرة هو الثاني، وذكر ابن عادل غير هذين الوجهين سبعة أوجه لا حاجة لنا بذكرها، ثم علل تعالى تمتعهم بقوله تعالى: {لنفتنهم فيه} أي: لنفعل بهم فعل المختبر، فيكون سبب عذابهم في الدنيا بالعيش الضنك لما مضى، وفي الآخرة بالعذاب الأليم، فصورته تغرّ من لم يتأمل معناه حق التأمل، فما أنت فيه خير مما هم فيه {ورزق ربك} في الجنة {خير} مما أوتوه في الدنيا {وأبقى} أي: أدوم أو ما رزقته من نعمة الإسلام والنبوّة، أو لأنّ أموالهم الغالب عليها الغصب والسرقة والحرمة من بعض الوجوه، والحلال خير وأبقى، قال الزمخشري: لأن الله تعالى لا ينسب إلى نفسه إلا ما حل وطاب دون ما حرم وخبث، والحرام لا يسمى زرقاً انتهى، وهذا جار على مذهبه المخالف لأهل السنة من أن الحرام لا يسمى زرقاً، وقال أبو مسلم الذي نهى عنه بقوله: ولا تمدَّن عينيك ليس هو النظر بل هو الأسف أي: لا تأسف على ما فاتك مما نالوه من حظ الدنيا، وقال أبو رافع: نزلت هذه الآية في ضيق نزل بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فبعثني إلى يهودي يبيع أو يستلف إلى مدة، فقال: والله لا أفعل إلا برهن، فأخبرته بقوله فقال صلى الله عليه وسلم «إني لأمين في السماء وإني لأمين في الأرض احمل إليه درعي الحديد» فنزل قوله: ولا تمدن عينيك، وقال صلى الله عليه وسلم «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم(1/2485)
(5/329)
---
وأعمالكم»، وقال أبو الدرداء: الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له، وعن الحسن لولا حمق الناس لخربت الدنيا، وعن عيسى ابن مريم عليه السلام : لا تتخذوا الدنيا داراً، فتتخذكم لها عبيداً. ولما أمر الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بتزكية النفس أمره بأن يأمر أهله بالصلاة بقوله عز وجل:
{وأمر أهلك بالصلاة} أي: أمر أهل بيتك والتابعين لك من أمتك بالصلاة كما كان أبوك إسماعيل عليه السلام يدعوهم إلى كل خير إذ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وليتعاونوا على الاستعانة على خصاصتهم، ولا يهتموا بأمر المعيشة، ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة، وكان صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يذهب إلى فاطمة وعلي رضي الله عنهما كل صباح ويقول: الصلاة {واصطبر} أي: داوم {عليها لا نسألك} أي: نكلفك {رزقاً} لنفسك ولا لغيرك {نحن نرزقك} وغيرك كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد إن يطعمون إن الله هو الرازق ذو القوة المتين} (الذاريات، 58)
ففرِّغ بالك لأمور الآخرة، وفي معناه قول الناس: من كان في عمل الله كان الله في عمله.
(5/330)
---(1/2486)
وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب أهله ضرٌّ أمرهم بالصلاة، وتلا هذه الآية، وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلطان قرأ: ولا تمدن عينيك الآية، ثم ينادي الصلاة الصلاة رحمكم الله وعن بكر بن عبد الله المزني كان إذا أصاب أهله خصاصة قال: قوموا فصلوا بهذا أمر الله رسوله، ثم يتلو هذه الآية: {والعاقبة} أي: الجميلة المحمودة {للتقوى} أي: لأهل التقوى قال ابن عباس: الذين صدقوك واتبعوك واتقوني، ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر: {والعاقبة للمتقين} (الأعراف، 128)، ولا معونة على الرزق وغيره بشيء يوازي الصلاة، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر أي بالباء الموحدة أي: إذا أحزنه فزع إلى الصلاة قال ثابت: وكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى: تفرغ لعبادتي املأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك»، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به هموم أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك» وعن زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة همه جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة»، ثم إنه تعالى بعد هذه الوصية حكى عنهم شبهاً بقوله تعالى:
(5/331)
---(1/2487)
{وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه} فكأنه من لوازم قوله تعالى: {فاصبر على مايقولون} وهو قولهم لولا أي: هلا يأتينا بآية، وقال في موضع آخر: لو ما تأتينا بآية كما أرسل الأوّلون، ثم أجاب الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {أولم تأتهم بينة} أي: بيان {ما في الصحف الأولى} من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية المشتمل عليه القرآن أنباء الأمم الماضية وإهلاكهم بتكذب الرسل فما يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآيات كحال أولئك، وقرأ نافع وأبوعمرو وحفص بالفوقية على التأنيث، والباقون بالتحتية على التذكير
{ولو أنّا أهلكناهم} معاملة لهم في عصيانهم {بعذاب من قبله} أي: هذا القرآن المذكور في الآية الماضية وما قاربها، وفي قوله تعالى: {ولا تعجل بالقرآن} (طه، 114)
وفي مثنى السورة في: {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} (طه، 2)
أو من قبل محمد صلى الله عليه وسلم {لقالوا} أي: يوم القيامة {ربنا} يا من هو متصف بالإحسان إلينا {لولا} أي: هلا ولم لا {أرسلت إلينا رسولاً} يأمرنا بطاعتك {فنتبع} أي: فيتسبب عنه أن نتبع آياتك التي تنجينا بها {من قبل أن نذل} بالعذاب هذا الذل {ونخزى} بالمعاصي التي عملناها على جهل، فلأجل ذاك أرسلناك إليهم، وأقمنا بك الحجة عليهم، ولما علم بهذا أنّ إيمانهم كالممتنع، وجدالهم لا ينقطع بل إن جاءهم الهدى طعنوا فيه، وإن عذبوا قبله تظلموا كان كأنه قيل: فما الذي أفعل معهم؟ فقيل:
(5/332)
---(1/2488)
{قل} لهم {كل} أي: كل مني ومنكم {متربص} أي: منتظر ما يؤول إليه أمري وأمركم {فتربصوا} فأنتم كالبهائم ليس لكم تأمل {فستعلمون} أي: عما قريب بوعد لا خلف فيه، وهو يوم القيامة {من أصحاب الصراط} أي: الطريق {السويّ} أي: المستقيم {ومن اهتدى} أي: من الضلال، فحصل على جميع ما ينفعه واجتنب جميع ما يضره أنحن أم أنتم؟ قال ابن عادل: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله عز وجل قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأمّة ينزل عليها هذا، وطوبى لألسن تتكلم بهذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا»، وعن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إلا يس وطه» انتهى، ولم يذكر لذلك سنداً، وأما ما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ طه أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار» فحديث موضوع.
سورة الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام مكية
قال الرازي بإجماع: وهي مائة وإحدى أو ثنتا عشرة آية وألف ومائة وستون كلمة وأربعة آلاف وثمان وتسعون حرفاً
{بسم الله} الحكم العدل الذي تمت قدرته وعمّ أمره {الرحمن} الذي ساوى بين خلقه في رحمة إيجاده {الرحيم} الذي نجى من شاء من عباده في معاده قال أبو جعفر بن الزبير في برهانه لما تقدم قوله تعالى: {ولا تمدن عينيك} (الحجر، 88)
إلى قوله: {فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى} (طه، 135)
قال تعالى:
(5/333)
---(1/2489)
{اقترب} أي: قرب {للناس حسابهم} أي: في يوم القيامة أي: فلا تمدن عينيك إلى ذلك فإني جعلته فتنة، وأشار بصيغة الافتعال إلى مزيد القرب؛ لأنه لا أمة بعد هذه ينتظر أمرها، وأخر الفاعل تهويلاً لتذهب النفس في تعيينه كل مذهب فإن قيل: كيف وصف ذلك اليوم بالاقتراب وقد عدت دون هذا القول أكثر من تسعمائة عام أجيب بأنه مقترب عند الله، والدليل عليه قوله تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} (الحج، 47)
ولأن كل آت، وإن طالت أوقات استقباله وترقبه قريب وإنما البعيد هو الذي وجد وانقرض قال الشاعر:
*فلا زال ما تهواه أقرب من غد
** ولا زال ماتخشاه أبعد من أمس
(5/334)
---
ولأنّ ما بقي من الدنيا أقصر وأقل مما سلف منها بدليل انبعاث خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه الموعود ببعثه في آخر الزمان، وقال: «بعثت أنا والساعة كهاتين»، وأشار بإصبعيه وقال صلى الله عليه وسلم «ختمت النبوة بي» كل ذلك لأجل أن الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي، وعن ابن عباس أن المراد بالناس المشركون وهو من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم، وهو ما يتلوه من صفات المشركين، وهو قوله تعالى: {وهم} أي: والحال أنهم {في غفلة} أي: عن الحساب {معرضون} عن التأهب لهذا اليوم لا يتفكرون في عاقبتهم، ولا يتفطنون لما يرجع إليه خاتمة أمرهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء المحسن والمسيء، وأيضاً إن هذه الآية نزلت في كفار مكة، ولما أخبر تعالى عن غفلتهم وإعراضهم دلّ على ذلك بقوله:(1/2490)
{ما يأتيهم} وأغرق في النفي بقوله: {من ذكر} أي: وحي ينبههم عن سنة الغفلة والجهالة، وقوله تعالى: {من ربهم} صفة ذكر أوصلة ليأتيهم {محدث} إنزاله أي: ما يحدث الله تعالى من تنزيل شيء من القرآن يذكرهم ويعظهم به، وبهذا سقط احتجاج المعتزلة بأن القرآن حادث لهذه الآية، وقيل: معناه أن الله تعالى يحدث الأمر بعد الأمر، فينزل الآية بعد الآية والسورة بعد السورة في وقت الحاجة لبيان الأحكام وغيرها من الأمور والوقائع، وقيل: الذكر المحدث ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وبيّنه من السنن والمواعظ سوى ما في القرآن، وإضافه إليه؛ لأن الله تعالى قال: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (النجم: 3، 4)
{إلا استمعوه} أي: قصدوا إسماعه وهو أجد الجد وأحق الحق {وهم} أي: والحال أنهم {يلعبون} أي: يفعلون فعل اللاعبين بالاستهزاء والسخرية لتناهي غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور، والتفكر في العواقب
{لاهية} أي: غافلة معرضة {قلوبهم} عن ذكر الله.
(5/335)
---(1/2491)
تنبيه قوله تعالى: وهم يلعبون لاهية قلوبهم حالان مترادفتان، أو متداخلتان، ولما ذكر تعالى ما يظهرونه في حالة الاستماع من اللهو واللعب ذكر ما يخفونه بقوله تعالى عطفاً على استمعوه: {وأسروا} أي: الناس المحدّث عنهم {النجوى} أي: بالغوا في إسرار كلامهم، وقوله تعالى: {الذين ظلموا} بدل من واو وأسروا للإيماء بأنهم ظالمون فيما أسروا به أومبتدأ والجملة المتقدمة خبره، والمعنى: وهؤلاء أسروا النجوى، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم، وقيل: جاء على لغة من قال: أكلوني البراغيث وقيل: منصوب المحل على الذم، ثم بيّن تعالى ما تناجوا به بقوله تعالى: {هل} أي: فقالوا في تناجيهم هذا، معجبين من ادعائه النبوّة مع مماثلته لهم في البشرية هل {هذا} الذي أتاكم بهذا الذكر {إلا بشر مثلكم} أي: في خلقه وأخلاقه من الأكل والشرب، والحياة والممات، فكيف يختص عنكم بالرسالة ما هذا الذي جاءكم به مما لا تقدرون على مثله إلا سحر لا حقيقة له، فحينئذٍ تسبب عن هذا الإنكار قولهم: {أفتأتون السحر وأنتم} أي: والحال أنكم {تبصرون} بأعينكم أنه بشر مثلكم، فكأنهم استدلوا بكونه بشراً على كذبه في ادعاء النبوة و الرسالة لاعتقادهم أن الرسول لا يكون إلا ملكاً، واستلزموا منه أن ما جاء به من الخوارق كالقرآن سحر، فأنكروا حضوره.
فإن قيل: لم أسروا هذا الحديث وبالغوا في إخفائه أجيب: بأن ذلك كان يشبه التشاور فيما بينهم، والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره، وعادة المتشاورين في خطب أن لا يشركوا أعداءهم في مشورتهم، و يجتهدوا في طي سرهم عنهم ما أمكن واستطيع.
(5/336)
---(1/2492)
ومنه قول الناس: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، قال البقاعي: فيالله العجب من قوم رأوا ما أعجزهم، فلم يجوزوا أن يكون ذلك عن الرحمن الداعي إلى الفوز بالجنان، وجزموا أنه من الشيطان الداعي إلى الهوان باصطلاء النيران والعجب أيضاً أنهم أنكروا الاختصاص بالرسالة مع مشاهدتهم بما يخص الله تعالى به بعض الناس عن بعض من الذكاء والفطنة، وحسن الخلائق والأخلاق والقوة والصحة، وطول العمر وسعة الرزق ونحو ذلك انتهى، ولا عجب فإنها عقول أضلها باريها، ثم كأنه قيل: فإذا يقال لهؤلاء فقال:
{قال} لهم: {ربي} المحسن إلي {يعلم القول} سواء كان سراً أم جهراً كائناً {في السماء والأرض} على حد سواء؛ لأنه لا مسافه بينه وبين شيء من ذلك {وهو السميع العليم}، فلا يخفى عليه ما يسرون ولا ما يضمرون.
فإن قيل: هلا قيل يعلم السر لقوله تعالى: {وأسروا النجوى} (طه، 62)
أجيب بأن القول عام يشمل السر والجهر، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة، فكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول: يعلم السر كما أن قوله: يعلم السر آكد من أن يقول يعلم سرهم.
فإن قيل: لم ترك هذا الآكد في سوره الفرقان في قوله تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض} (الفرقان، 6)، ولم يقل: يعلم القول كما هنا؟ أجيب: بأنه ليس بواجب أن يأتي بالآكد في كل موضع، ولكن يجيء بالوكيد تارة وبالآكد تارة أخرى، كما يجيء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتن الكلام افتتاناً، ويجمع الغاية وما دونها، على أن أسلوب تلك الآية خلاف أسلوب هذه من قبل أنه قدم ههنا أنهم أسروا النجوى، فكأنه أراد أن يقول: إنّ ربي يعلم ما أسروه، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة، وثم قصد وصف ذاته بأنه أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض، فهو كقوله تعالى: {علام الغيوب} (المائدة، 109)
(5/337)
---(1/2493)
{عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة} (سبأ، 3)، وقرأ حفص وحمزة والكسائي قال بصيغة الماضي بالإخبار عن الرسول والباقون قل بصيغة الأمر، ثم إنه تعالى بيّن أنّ المشركين اقتسموا القول في النبي صلى الله عليه وسلم وفيما يقوله بقوله تعالى:
{بل قالوا} أي: قال بعضهم هذا الذي قال لكم: {أضغاث أحلام} أي: أخلاط أحلام رآها في النوم، وقال بعضهم: {بل افتراه} أي: اختلقه من عند نفسه، ونسبه إلى الله تعالى، وقال بعضهم: {بل هو} أي: النبي صلى الله عليه وسلم {شاعر} فما جاءكم به شعر، والشاعر يخيل ما لا حقيقة له لغيره، أو أنهم كلهم أضربوا عن قولهم: هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام، ثم إلى أنه كلام مفترى من عنده، ثم إلى أنه قول شاعر، وهكذا المبطل متحير رجاع غير ثابت على قول واحد؛ قال الزمخشري: ويجوز أن يكون تنزيلاً من الله تعالى لأقوالهم في درج الفساد، وأن قولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني، وكذا الرابع أفسد من الثالث، ثم إنهم لما قدحوا في أعظم المعجزات طلبوا آية غيره، فقالوا: {فليأتنا} دليلاً على رسالته {بآية كما} أي: مثل ما {أرسل الأولون} بالآيات كتسبيح الجبال وتسخير الريح وتفجير الماء، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص وصحة التشبيه من حيث إن الإرسال يتضمن الإتيان بالآية قال الله تعالى مجيباً لهم:
{ما آمنت قبلهم} أي: قبل مشركي مكة {من قرية} أي: من أهل قرية أتتهم الآيات {أهلكناها} باقتراح الآيات لما جاءتهم {أفهم يؤمنون} أي: لو جئتهم بها وهم أغنى منهم، وفيه دليل على أن عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم إذ لو أتى به لم يؤمنوا، واستوجبوا عذاب الاستئصال كمن قبلهم، ولما بيّن تعالى بطلان ما اقترحوا به في رسوله صلى الله عليه وسلم بكونه بشراً قال تعالى عاطفاً على آمنت مجيباً عن قولهم: {هل هذا إلا بشر مثلكم}
(5/338)
---(1/2494)
{وما أرسلنا قبلك} أي: في جميع الزمان الذي تقدّم زمانك في جميع طوائف البشر {إلا رجالاً} أي: لم نرسل الملائكة إلى الأولين إنما أرسلنا رجالاً {نوحي إليهم} مثلك ثم إنه تعالى أمر المشركين أن يسألوا أهل الكتاب بقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر} وإنما أحالهم على هؤلاء لأنهم كانوا لا ينكرون أن الرسل كانوا بشراً، وإن أنكروا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: المراد بالذكر القرآن، أي: فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن، وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين، ولا همزة بعدها، وكذا يفعل حمزة في الوقف، والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها، ثم نبّه تعالى على أنهم غير محتاجين فيه إلى السؤال بما قد كان بلغهم على الإجمال من أحوال موسى وعيسى وإبراهيم وإسماعيل وغيرهم عليهم السلام بقوله تعالى معبراً بأداة الشك محركاً لهم على المعالي {إن كنتم} أي: بجبلاتكم {لا تعلمون} أي: لا أهلية لكم في اقتناص علم بل كنتم أهل تقليد محض، وتبع صرف، ولما بيّن تعالى أنه صلى الله عليه وسلم على سنة من مضى من الرسل في كونه رجلاً بيّن أنه على سنتهم في جميع الأوصاف التي حكم بها على البشر في العيش والموت، فنبه على الأول بقوله تعالى:
{وما جعلناهم} أي: الذين اخترنا بعثتهم إلى الناس ليأمروهم بأوامرنا {جسداً} أي: ذوي جسد ولحم ودم متصفين بأنهم {لا يأكلون الطعام} بل جعلناهم أجساداً يأكلون ويشربون، وليس ذلك بمانع من إرسالهم.
(5/339)
---(1/2495)
فائدة: قال ابن فارس في المجمل وفي كتاب الخليل: إن الجسد لا يقال لغير الإنسان، وتوحيد الجسد لإرادة الجنس كأنه قيل: ذوي ضرب من الأجساد، أو على حذف المضاف، أي: ذوي جسد كما مر، أو تأويل الضمير لكل واحد، وهو جسم ذو لون، قال البيضاوي: ولذلك أي: ولكون الجسد جسماً ذا اللون لا يطلق على الماء والهواء، وهو في الماء مبني على أنه لا لون له، وإنما يتلون بلون ظرفه أو مقاله؛ لأنه جسم شفاف؛ لكن قال الإمام الرازي: بل له لون ويرى، ومع ذلك لا يحجب عن رؤية ما وراءه، ثم نبه على الثاني بقوله تعالى: {وما كانوا خالدين} أي: بأجسادهم، بل ماتوا كما مات الناس قبلهم وبعدهم، وإنما امتازوا عن الناس بما يأتيهم عن الله تعالى ورسولكم صلى الله عليه وسلم ليس بخالد، فتربصوا كما أشار إليه ختم طه، فإنه متربص بكم، وأنتم عاصون الملك الذي اقترب حسابه لخلقه وهو مطيع له
{ثم صدقناهم الوعد} أي: الذي وعدناهم بإهلاكهم، وهذا مثل قوله تعالى: {واختار موسى قومه} (الأعراف، 155)
في حذف الجار والأصل في الوعد، ومن قومه ومنه صدقوهم القتال، وصدقني سنّ بكره والأصل في هذا المثل أن أعرابياً عرض بعيراً للبيع، فقال له المشتري: ما سنه؟ قال: بكر، فاتفق أنه ند، فقال صاحبه هدع هدع، وهذه اللفظة مما يسكن بها صغار الإبل لا الكبار، فقال المشتري: صدقني سنّ بكره، وأعرض، فصار مثلاً.
تنبيه: أشار تعالى بأداة التراخي إلى أنهم طال بلاؤهم بهم، وصبرهم عليهم، ثم أحل بهم سطوته، وأراهم عظمته {فأنجيناهم} أي: الرسل {ومن نشاء} وهم المؤمنون أو من في إبقائه حكمة كمن سيؤمن هو أو واحد من ذريته، ولذلك حميت به العرب من عذاب الاستئصال، {وأهلكنا المسرفين} أي: المشركين؛ لأن المشرك مسرف على نفسه
(5/340)
---(1/2496)
{لقد أنزلنا إليكم} يا معشر قريش {كتاباً} أي: القرآن {فيه ذكركم} أي: شرفكم ووصيتكم كما قال تعالى: وإنه لذكر لك ولقومك، أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء وحسن الذكر كحسن الجوار والوفاء بالعهد ودق الحديث وأداء الأمانة والسخاء وما أشبه ذلك، وقيل: فيه ذكر ما تحتاجون إليه من أمر دينكم، أو لأنه نزل بلغتكم، وقيل: فيه تذكرة لكم لتحذروا، فيكون الذكر بمعنى الوعد والوعيد {أفلا تعقلون} فتؤمنوا به، وفي ذلك حث على التدبر؛ لأن الخوف من لوازم العقل
{وكم قصمنا} أي: أهلكنا {من قرية} أي: أهلها بغضب شديد؛ لأن القصم أفظع الكسر، وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء بخلاف الفصم، وقوله تعالى: {كانت ظالمة} أي: كافرة صفة لأهلها وصفت بها لما أقيمت مقامها، ثم بيّن الغنى عنها بقوله تعالى: {وأنشأنا بعدها} أي: بعد إهلاك أهلها {قوماً آخرين} مكانهم، ثم بيّن حالها عند إحلال البأس بها بقوله تعالى:
(5/341)
---
{فلما أحسوا} أي: أدرك أهلها بحواسهم {بأسنا} أي: عذابنا {إذا هم منا} أي: القرية {يركضون} هاربين منها مسرعين راكضين دوابهم لما أدركتهم مقدّمة العذاب والركض ضربة الدابة بالرجل، ومنه اركض برجلك، أو مشبهين بهم من فرط إسراعهم بعد تجبرهم على الرسل، وقولهم لهم: لنخرجنكم من أرضنا، أو لتعودن في ملتنا، فناداهم لسان الحال تقريعاً وتشنيعاً لحالهم(1/2497)
{لا تركضوا} أو المقال والقائل ملك أو من ثم من المؤمنين {وارجعوا} إلى قريتكم {إلى ما أترفتم} أي: تمتعتم {فيه} من التنعم والتلذذ والإتراف إبطار النعمة والترفه، ولما كان أعظم ما يؤسف عليه بعد العيش الناعم المسكن قال: {ومساكنكم} أي: التي كنتم تفتخرون بها على الضعفاء بما أوسعتم من فنائها، وعليتم من بنائها، وحسنتم من مشاهدها {لعلكم تسألون} وفي هذا تهكم بهم وتوبيخ أي: ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غداً عما يجري عليكم، وينزل بأموالكم ومساكنكم، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، أو ارجعوا، واجلسوا كما كنتم في مجالسكم وترتبوا في مراتبكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم ومن تملكون أمره، وينفذ فيه أمركم ونهيكم، فيقولوا لكم بم تأمرون وماذا ترسمون، أو شيئاً من دنياكم على العادة، أو تسألون في الإيمان كما كنتم تسألون، فتأبوا بما عندكم من الأنفة والحمية والعظمة، أو في المهمات كما تكون الرؤساء في مقاعدهم العلية، ومراتبهم السنية، فيجيبون سائلهم بما شاؤوا، ولما كان كأنه قيل: بم أجابوا هذا القائل؟ قيل:
(5/342)
---(1/2498)
{قالوا} حين لا نفع لقولهم عند نزول البأس {يا ويلنا} إشارة إلى أنه حل بهم؛ لأنه ينادي بيا القريب ترفقاً به كما يقول الشخص لمن يضربه: يا سيدي كأنه يستغيث به ليكف عنه، وذلك غباوة منهم، وعمى عن الذي أحله بهم؛ لأنهم كالبهائم لا ينظرون إلا السبب الأقرب، ثم عللوا حلوله بهم تأكيداً لترفقهم بقولهم: {إنا كنا} جبلة وطبعاً {ظالمين} حيث كذبنا الرسل، وعصينا أمر ربنا، فاعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف لفوات محله، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه القرية حَضور بفتح الحاء وبالضاد المعجمة، وهي وسحول قريتان قريبتان من اليمن تنسب إليهما الثياب، وفي الحديث: «كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبين سحوليين»، وروي حضوريين بعث الله لهم نبياً، فقتلوه، فسلط الله تعالى عليهم بختنصر كما سلطه الله على أهل بيت المقدس، فاستأصلهم، وروي أنه لما أخذتهم السيوف نادى منادٍ من السماء: يا لثأرات الأنبياء، وهي بفتح اللام، وبمثلثة وهمزة ساكنة أي: يا لأهل ثأراتهم أي: الطالبة بدمهم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فندموا وقالوا ذلك
{فما} أي: فتسبب عن إحلالنا بهم ذلك البأس أنه ما {زالت تلك} الدعوى البعيدة عن الخير والسلامة، وهي قولهم: يا ويلنا {دعواهم} يرددونها لا دعوى لهم غيرها؛ لأن الويل ملازم لهم غير منفك عنهم، وترفقهم له غير نافعهم {حتى جعلناهم حصيداً} كالزرع المحصود بالمناجل بأن قتلوا بالسيف،
(5/343)
---(1/2499)
تنبيه: حصيد على وزن فعيل بمعنى مفعول، ولذلك لم يجمع؛ لأنه يستوي فيه الجمع وغيره {خامدين} أي: ميتين كخمود النار إذا طفئت وصارت رماداً فإن قيل: كيف ينصب جعل ثلاثة مفاعيل أجيب بأنَّ حكم الاثنين الأخيرين حكم الواحد؛ لأن معنى قولك: جعلته حلواً حامضاً جعلته جامعاً للطعمين، وكذلك معنى جعلناهم جامعين لمماثلة الحصد والخمود أو خامدين صفة لحصيداً أو حال من ضميره، ثم نبههم سبحانه وتعالى على النظر في خلق السموات وما بينهما ليعتبروا، فقال تعالى:
{وما خلقنا السماء} على علوِّها وإحكامها {والأرض} على عظمها واتساعها {وما بينهما} مما دبرناه لتمام المنافع من أصناف البدائع وغرائب الصنائع {لاعبين} أي: عابثين كما تسوّي الجبابرة سقوفهم وفرشهم، وسائر زخارفهم للهو واللعب، وإنما خلقناها مشحونة بضروب البدائع تبصرة للنظار، وتذكيراً لذوي الاعتبار، وتسبيباً لما ينتظم به أمر العباد في المعاش والمعاد، ولما نفى عنه اللعب أتبعه دليله، فقال عز وجل:
{لو أردنا} أي: بما لنا من العظمة {أن نتخذ لهواً} أي: ما يتلهى به ويلعب، وقيل: هو الولد بلغة اليمن، وقيل: الزوجة والمراد الرد على النصارى {لاتخذناه من لدنا} أي: من عندنا مما يليق أن ينسب لحضرتنا من الحور العين والملائكة بما لنا تمام القدرة، وكمال العظمة {إن كنا فاعلين} ذلك لكنا لم نفعله؛ لأنه لا يليق بجنابنا، فلم نرده، وقوله تعالى:
(5/344)
---(1/2500)
{بل نقذف} أي: نرمي {بالحق} أي: الإيمان {على الباطل} أي: الكفر إضراب عن اتخاذ اللهو وتنزيه لذاته عن اللعب بل شأننا أن نرمي بالحق الذي من جملة الجد على الباطل الذي من عداد اللهو {فيدمغه} أي: يذهبه، واستعار لدحض الباطل بالحق القذف والدمغ تصويراً لإبطاله به، وإهداره ومحقه، فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة، ووجه استعارة القذف والدمغ لما ذكر أن أصل استعمالهما في الأجسام، ثم استعير القذف لدحض الباطل بالحق والدمغ لإذهاب الباطل، فالمستعار منه حسيّ، والمستعار له عقليّ {فإذا هو} في الحال {زاهق} أي: ذاهب، والزهوق ذهاب الروح، وذكره لترشيح المجاز من إطلاق القذف على دحض الباطل، ثم عطف على ما أفادته إذا قوله تعالى: {ولكم} أي: وإذا لكم أيها المبطلون {الويل} أي: العذاب الشديد {مما تصفون} الله تعالى به بما تهوى أنفسكم كالزوجة والولد
تنبيه: ما إمّا مصدرية أو موصولة أو موصوفة، ولما حكى الله تعالى كلام الطاعنين في النبوات، وأجاب عنها بأن أغراضهم من تلك المطاعن التمرد، وعدم الانقياد بيّن بقوله تعالى:
(5/345)
---
{وله من في السموات} أي: الأجرام العالية، وهي ما تحت العرش، وجمع السماء هنا لاقتضاء تفخيم الملك ذلك، ولما كانت عقولهم لا تدرك تعدّد الأرض وحدها، فقال: {والأرض} أي: له ذلك خلقاً وملكاً أنه منزه عن طاعتهم؛ لأنه هو المالك لجميع المحدثات والمخلوقات، وعبر بمن تغليباً للعقلاء، وقوله تعالى: {ومن عنده} أي: وهم الملائكة بإجماع الأمة، ولأن الله تعالى وصفهم بأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وهذا لا يليق بالبشر، مبتدأ خبره {لا يستكبرون عن عبادته} بنوع كبر طلباً ولا إيجاداً، وخصهم بالذكر لكرامتهم عليه تنزيلاً لهم منزلة المقرّبين عند الملك.(1/2501)
تنبيه: هذه العندية للشرف والرتبة لا عندية المكان والجهة، فكأنه تعالى قال: الملائكة مع كمال شرفهم وعلو مراتبهم، ونهاية جلالتهم لا يستكبرون عن عبادته، فكيف يليق بالبشر الضعيف التمرد عن طاعته {و} مع ذلك أيضاً {لا يستحسرون} أي: لا يعيون، وإنما جيء بالاستحسار الذي هو أبلغ من الحسور تنبيهاً على أن عبادتهم من ثقلها ودوامها حقيقة بأن يستحسر منها ولا يستحسرون، ولا يطلبون أن ينقطعوا عنها، فأنتج ذلك قوله تعالى:
H
{يسبحون} أي: ينزهون المستحق للتنزيه بأنواع التنزيه من الأقوال والأفعال {الليل والنهار} أي: جميع آنائهما دائماً {لا يفترون} أي: عن ذلك وقتاً من الأوقات، فهو منهم كالنفس منا لا يشغلنا عنه شاغل، ولما كانوا عند هذا البيان جديرين بأن يبادروا إلى التوحيد، فلم يفعلوا كانوا حقيقين بعد الإعراض عنهم بالتوبيخ والتهكم والتعنيف، فقال تعالى:
(5/347)
---
{أم اتخذوا} أي: بل اتخذوا، فأم بمعنى بل للانتقال والهمزة لإنكار اتخاذهم {آلهة من الأرض} ومعنى نسبتها إلى الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض؛ لأن الآلهة على ضربين؛ أرضية وسماوية، ومن ذلك حديث الأمة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «أين ربك؟ فأشارت إلى السماء، فقال: إنها مؤمنة»؛ لأنه فهم منها أن مرادها نفي الآلهة الأرضية التي هي الأصنام لا إثبات أن السماء مكان الله تعالى، ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض؛ لأنها إما أن تنحت من بعض الحجارة أو تعمل من بعض جواهر الأرض {هم ينشرون} أي: يحيون الموتى لا يقدرون على ذلك، وهم وإن لم يصرّحوا بذلك لزم من ادعائهم لها آلهة أنهم يقدرون على ذلك، فإنّ من لوازمها الاقتدار على جميع الممكنات، فالمراد به تجهيلهم والتهكم بهم، وللمبالغة في ذلك زيد الضمير الموهم لاختصاص الانتشار بهم، ثم إنه سبحانه وتعالى أقام البرهان القطعي على نفي إله غيره ببرهان التمانع، وهو أشدّ برهان لأهل الكلام، فقال:(1/2502)
{لو كان فيهما} أي: السموات والأرض أي: في تدبيرهما {آلهة إلا الله} أي: غير الله تعالى {لفسدتا} أي: لخرجتا عن نظامهما المشاهد لوجود التمانع بينهم على وفق العادة عند تعدّد الحاكم، وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق كان والله أعز عليّ من دم ناظري، ولكن لا يجتمع فحلان في شول، وهذا ظاهر.
(5/348)
---
وأما طريقة التمانع فقال المتكلمون: القول بوجود إلهين مفضٍ إلى المحال لأنّا لو فرضنا وجود إلهين، فلا بدّ أن يكون كل واحد منهما قادراً على كل المقدورات، ولو كان كذلك لكان كل واحد منهما قادراً على تحريك زيد وتسكينه، ولو فرضنا أنّ أحدهما أراد تحريكه والآخر أراد تسكينه، فإمّا أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدّين، أو لا يقع واحد منهما، وهو محال؛ لأنّ المانع من وجود مراد كل واحد منهما مراد الآخر، فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس، أو يقع مراد أحدهما دون الآخر، وذلك أيضاً محال؛ لأنّ الذي وقع مراده يكون قادراً، والذي لم يقع مراده يكون عاجزاً، والعجز نقص، وهو على الإله محال، فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات، وإذا وقفت على حقيقة هذه الدلالة عرفت أنّ جميع ما في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات دليل على أنّ وحدانية الله تعالى والدلائل السمعية على الوحدانية كثيرة في القرآن، ولما أفاد هذا الدليل أنه لا يجوز أن يكون المدبر للسموات والأرض إلا واحداً، وأن ذلك الواحد لا يكون إلا الله تعالى قال: {فسبحان الله} أي: فتسبب عن ذلك تنزه المتصف بصفات الكمال {ربّ} أي: خالق {العرش} أي: الكرسي المحيط بجميع الأجسام الذي هو محل التدابير، ومنشأ التقادير {عما يصفون} أي: الكفار الله به من الشريك له وغيره، ثم بيّن تعالى ذلك بقوله عز وجل:
(5/349)
---(1/2503)
{لا يسأل} أي: من سائل ما {عما يفعل} لعظمته وقوّة سلطانه، وإذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم وعما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم تهيباً وإجلالاً مع جواز الخطأ والزلل، وأنواع الفساد عليهم كان ملك الملوك ورب الأرباب خالقهم ورازقهم أولى بأن لا يسأل عن أفعاله مع ما علم واستقر في العقول من أن ما يفعله كله مفعول بدواعي الحكمة، ولا يجوز عليه تعالى الخطأ {وهم يسألون} لأنهم مملوكون مستعبدون خطاؤون، فما أخلقهم بأن يقال لهم: لم فعلتم؟ في كل شيء فعلوه، ولما قام الدليل ووضح السبيل واضمحلّ كل قال وقيل، وانمحقت الأباطيل كرّر تعالى:
(5/350)
---(1/2504)
{أم اتخذوا من دونه آلهة} كرّره استفظاعاً لشأنهم واستعظاماً لكفرهم، وإظهاراً لجهلهم، ولما كان جوابهم: اتخذنا ولا نرجع، أمر الله تعالى نبيه بجوابهم فقال: {قل هاتوا برهانكم} على ما ادّعيتموه من عقل أو نقل كما أتيت أنا ببرهان النقل المؤيد بالعقل، ولما كان تعالى لا يؤاخذ بمخالفة العقل ما لم ينضمّ إليه دليل النقل أتبعه قوله مشيراً إلى ما بعث الله تعالى به الرسل من الكتب {هذا ذكر} أي: موعظة وشرف {من معي} ممن آمن بي وهو القرآن الذي عجزتم عن معارضته {وذكر} أي: وهذا ذكر {من قبلي} من الأمم الماضية وهو التوراة والإنجيل، وغيرهما من الكتب السماوية، فانظروا هل تجدون فيها إلا الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك، ولما كانوا لا يجدون شبهة لهم فضلاً عن حجة ذمّهم الله تعالى على جهلهم بمواضع الحق فقال تعالى: {بل أكثرهم} أي: هؤلاء المدّعون {لا يعلمون الحق} فلا يميزون بينه وبين الباطل بل أكثرهم جهلة، والجهل أصل الشرّ والفساد {فهم} أي: فتسبب عن جهلهم ما افتتحنا به السورة من أنهم {معرضون} عن التوحيد واتباع الرسل، ولما كان الإرسال بالفعل غير مستغرق للزمان المتقدّم كما أنّ الرسالة لا يقوم بها كل واحد، فكذلك الإرسال لا يصلح له كل زمن أثبت الجار في قوله تعالى:
{وما أرسلنا من قبلك} وأغرق في النفي فقال: {من رسول} في شيع الأوّلين {إلا نوحي إليه} من عندنا {أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وهذا مقرّر لما سبقه من آي التوحيد، وقال تعالى: إلا أنا، ولم يقل: نحن لئلا يجعلوا ذلك وسيلة إلى ما ادّعوه من تعدّد الآلهة، ولذلك قال: فاعبدون بالإفراد، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بالنون وكسر الحاء، والباقون بالياء وفتح الحاء، ولما بيّن سبحانه وتعالى بالدلائل الباهرة كونه منزهاً عن الشريك والضدّ والندّ أردف ذلك ببراءته عن اتخاذ الولد بقوله:
(5/351)
---(1/2505)
{وقالوا اتخذ} أي: تكلف كما يتكلف من لا يكون له ولد {الرحمن} أي: الذي كل موجود من فيض نعمه {ولداً} نزل في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وقيل: نزل ذلك في اليهود حيث قالوا: إنه تعالى صاهر الجن، فكانت منهم الملائكة كما حكى الله تعالى عنهم قولهم، وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً، ثم إنه سبحانه وتعالى نزه نفسه عن ذلك بقوله تعالى: {سبحانه} أي: تنزه عن أن يكون له ولد، فإنّ ذلك يقتضي المجانسة بينه وبين الولد، ولا تصح مجانسة النعمة للمنعم الحقيقي {بل} أي: الذين جعلوهم له ولداً وهم الملائكة {عباد} من عباده أنعم عليهم بالإيجاد كما أنعم على غيرهم لا أولاد، فإنّ العبودية تنافي الولدية {مكرمون} بالعصمة من الزلل ولذلك فسر الإكرام بقوله تعالى:
{لا يسبقونه} أي: لا يسبقون إذنه {بالقول} أي: لا يقولون شيئاً حتى يقوله كما هو شأن العبيد المؤدّبين {وهم بأمره} إذا أمرهم {يعملون} لا بغيره لأنهم في غاية المراقبة له تعالى، فجمعوا في الطاعة بين القول والفعل، وذلك غاية الطاعة، ثم علل إخباره بذلك بعلمه بما هذا المخبر به مندرج فيه بقوله تعالى:
(5/352)
---(1/2506)
{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} أي: ما عملوا وما هم عاملون لا تخفى عليه تعالى خافية مما قدّموا وأخروا، ثم صرح تعالى بلازم الجملة الأولى، فقال: {ولا يشفعون} أي: لا في الدنيا، ولا في الآخرة {إلا لمن ارتضى} فلا تطمعوا في شفاعتهم لكم بغير رضاه تعالى؛ قال ابن عباس والضحاك: إلا لمن ارتضى أي: لمن قال: لا إله إلا الله، فسقط بذلك قول المعتزلة: إنّ الشفاعة في الآخرة لا تكون لأهل الكبائر، ثم صرّح بلازم الجملة الثانية فقال: {وهم من خشيته} أي: لا من غيرها {مشفقون} أي: خائفون، وأصل الخشية خوف مع تعظيم، ولذلك خص بها العلماء والإشفاق خوف مع اعتناء، فإن عدّى بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، وإن عدى بعلى فبالعكس، ولما نفى تعالى الشريك مطلقاً، ثم مقيداً بالولدية أتبعه التهديد على ادّعائه بتعذيب المتبوع الموجب لتعذيب التابع بقوله تعالى:
{ومن يقل منهم} أي: من الخلائق حتى العباد المكرمين الذين وصف كرامتهم وقرب منزلتهم عنده، وأثنى عليهم {إنى إله من دونه} أي: الله أي غيره، والذي قال ذلك كما قال الجلال المحلي هو إبليس دعا إلى عبادة نفسه، وأمر بطاعتها {فذلك} أي: اللعين الذي لا يصلح للتقريب أصلاً {نجزيه جهنم} لظلمه {كذلك} أي: مثل هذا الجزاء الفظيع جدّاً {نجزي الظالمين} أي: المشركين، ثم إنه سبحانه وتعالى شرع الآن في الدلائل الدّالة على وجود الصانع، فذكر منها ستة أنواع؛ النوع الأوّل: قوله تعالى:
(5/353)
---(1/2507)
{أولم ير} أي: يعلم {الذين كفروا} علماً هو كالمشاهدة {أن السموات والأرض كانتا} ولم يقل: كنَّ؛ لأنّ المراد جماعة السموات وجماعة الأرض {رتقاً} قال ابن عباس والضحاك: كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين زبدة واحدة {ففتقناهما} أي: فصلنا بينهما بالهواء، والرتق في اللغة السد، والفتق الشق، قال كعب: خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض، ثم خلق ريحاً توسطتهما، ففتحهما بها، وقال مجاهد والسدّي: كانت السموات رتقاً طبقة، ففتقها، فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرض كانت رتقاً طبقة، ففتقها، فجعلها سبع أرضين، وقال عكرمة وعطية: كانت السموات رتقاً لا تمطر، والأرض رتقاً لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات، فيكون المراد بالسموات سماء الدنيا، وجمعها باعتبار الآفاق أو السموات بأسرها على أن لها مدخلاً في الأمطار، وإنما قال تعالى: رتقاً على التوحيد، وهو نعت للسموات والأرض لأنه مصدر، والكفرة وإن لم يعلموا ذلك، فهم متمكنون من العلم بالنظر، أو باستفسار من العلماء، أو مطالعة الكتب، وقرأ ابن كثير ألم بغير واو بين الهمزة ولم، والباقون بالواو بين الهمزة واللام.
النوع الثاني من الدلائل: قوله تعالى: {وجعلنا} أي: خلقنا بما اقتضته عظمتنا {من الماء} الماء هو الدافق وغيره {كل شيء حي} مجازاً في النبات وحقيقة في الحيوان فإن قيل: قد خلق الله تعالى بعض ما هو حي من غير الماء كآدم وعيسى والملائكة؟ أجيب: بأن هذا خرج مخرج الأغلب والأكثر، أي: أن أكثر ما خلق الله خلق من الماء وبقاؤه بالماء، وقيل: المراد بالماء ما نزل من السماء أو نبع من الأرض {أفلا يؤمنون} مع ظهور هذه الآيات الواضحات بتوحيدي، النوع الثالث من الدلائل: قوله تعالى:
(5/355)
---(1/2508)
{وجعلنا في الأرض رواسي} أي: جبالاً ثوابت كراهة {أن تميد} أي: تتحرك {بهم} قيل: إن الأرض بسطت على الماء، فكانت تتحرك كما تتحرك السفينة في الماء، فأرساها الله وأثبتها بالجبال، النوع الرابع من الدلائل: قوله تعالى: {وجعلنا فيها} أي: في الرواسي {فجاجاً} أي: مسالك واسعة سهلة، ثم أبدل منها {سبلاً} أي: مذللة للسلوك، ولولا ذلك لتعسر أو تعذر الوصول إلى بعض البلاد {لعلهم يهتدون} إلى منافعهم من ديارهم وغيرها، وإلى ما فيها من دلائل الوحدانية، النوع الخامس من الدلائل: قوله تعالى:
{وجعلنا السماء} وأفردها مع إرادة الجنس؛ لأن أكثر الناس لا يشاهدون منها إلا السماء الدنيا، ولأن الحفظ للشيء الواحد أتقن {سقفاً} أي: للأرض كالسقف للبيت {محفوظاً} أي: عن السقوط بالقدرة، وعن الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم بالمشيئة، وعن الشياطين بالشهب {وهم} أي: أكثر الناس {عن آياتها} أي: من الكواكب الكبار والصغار، والرياح والأمطار وغير ذلك من الدلائل التي تفوت الانحصار الدالة على قدرتنا على كل ما نريد من البعث وغيره، وعلى عظمتنا بالتفرد بالإلهية وغير ذلك من أوصاف الكمال من الجلال والجمال {معرضون} لا يتفكرون فيما فيها من السير والتدبير وغير ذلك، فيعلمون أنّ خالقها لا شريك له، النوع السادس من الدلائل: قوله تعالى:
(5/356)
---(1/2509)
{وهو} أي: لا غيره {الذي خلق الليل والنهار} ثم أتبعهما أعظم آيتهما بقوله تعالى: {والشمس} التي هي أعظم آية النهار {والقمر} الذي هو أعظم آية الليل {كل} أي: من الشمس والقمر، وتابعه وهو النجوم {في فلك} أي: مستدير كالطاحونة في السماء {يسبحون} أي: يسيرون بسرعة كالسابح في الماء، وللتشبيه به أتى بضمير جمع من يعقل والمراد بالفلك الجنس كقولك: كساهم الأمير حلة، وقلدهم سيفاً، أي: كل واحد منهم، أو كساهم وقلدهم هذين الجنسين، فاكتفى بما يدل على الجنس اختصاراً، ولأن الغرض الدلالة على الجنس، ونزل لما قال الكفار: إن محمداً سيموت:
{وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد} أي: البقاء في الدنيا {أفإن} أي: أيتمنون موتك، فإن {مت فهم الخالدون} فيها لا والله ليسوا بخالدين، فالجملة الأخيرة هي محل الاستفهام الإنكاري، وفي معنى ذلك قول فروة بن مسيك الصحابي:
*وقل للشامتين بنا أفيقوا
** سيلقى الشامتون كما لقينا
وقرأ نافع وحفص والكسائي بكسر الميم والباقون بضمها، ثم بيّن تعالى أن أحداً لا يبقى في هذه الدنيا بقوله تعالى:
(5/357)
---(1/2510)
{كل نفس ذائقة الموت} أي: ذائقة مرارة الموت، أي: مرارة مفارقة روحها جسدها، فلا يفرح أحد، ولا يحزن لموت أحد بل يشتغل بما يهمه، وإليه الإشارة بقوله: {ونبلوكم} أي: نعاملكم معاملة المبتلي المختبر ليظهر في عالم الشهادة الشاكر والصابر، والمؤمن والكافر كما هو عندنا في عالم الغيب بأن نخالطكم {بالشر}، وهو المضارّ الدنيوية من الفقر والألم، وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين {والخير} وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور، والتمكن من المرادات، وقوله تعالى: {فتنة} مفعول له أي: لننظر أتصبرون وتشكرون أم لا كما يفتن الذهب إذا أريد تصفيته بالنار عما يخالطه من الغش، فبين تعالى أنّ العبد مع التكليف يتردد بين هاتين الحالتين لكي يشكر على المنح ويصبر على المحن، فيعظم ثوابه إذا قام بما يلزم {وإلينا} بعد الموت لا إلى غيرنا {ترجعون} فنجازيكم بما فعلتم، ثم عطف تعالى على قوله: {وأسرّوا النجوى} قوله تعالى:
{وإذا رآك} أي: وأنت أشرف الخلق {الذين كفروا إن} أي: ما {يتخذونك} أي: حال الرؤية {إلا هزواً} أي: مهزواً به يقولون إنكاراً واستصغاراً {أهذا الذي يذكر آلهتكم} أي: بسوء، والذكر يكون بالخير والشر، فإذا دلت القرينة على أحدهما أطلق عليه وذكر العدوّ لا يكون إلا بسوء {وهم} أي: والحال أنهم {بذكر الرحمن} أي: إذا ذكر لهم الرحمن {هم كافرون} وذلك أنهم كانوا يقولون: لا نعرف الرحمن إلا مسيلمة، وهم الثانية للتأكيد، ونزل في استعجالهم العذاب
(5/358)
---(1/2511)
{خلق الإنسان من عجل} كأنه خلق منه لفرط استعجاله وقلة ثباته، والعرب تقول للذي يكثر منه الشيء: خلقت منه كقولك: خلق زيد من الكرم، فجعل ما طبع عليه بمنزلة المطبوع هو منه مبالغة في لزومه له، ولذلك قيل: إنه على القلب أي: خلق العجل من الإنسان، ومن عجلته مبادرته إلى الكفر، واستعجال الوعد، وقال سعيد بن جبير والسدّي: لما دخل الروح في رأس آدم وعينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل الروح في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلاً إلى ثمار الجنة، فوقع، فقيل: خلق الإنسان من عجل، والمراد بالإنسان آدم وأورث أولاده العجلة، وقال قوم: معناه خلق الإنسان يعني آدم عليه السلام من تعجيل في خلق الله تعالى إياه لأن خلقه كان بعد خلق كل شيء في آخر النهار يوم الجمعة، فأسرع في خلقه قبل مغيب الشمس، قال مجاهد: فلما أحيا الروح رأسه قال: يارب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس وقيل بسرعة وتعجيل على غير ترتيب خلق سائر الآدميين من النطفة ثم العلقة ثم المضغة وغيرها، وقال قوم: من عجل أي: من طين قال الشاعر:
*والنبع في الصخرة الصماء منبته
** والنخل ينبت بين الماء والعجل
ثم قال تعالى مهدداً للمكذبين: {سأريكم آياتي} أي: مواعيدي بالعذاب {فلا تستعجلون} أي: تطلبون أن أوجد العجلة بالعذاب، أو غيره فإني منزه عن العجلة التي هي من جملة نقائصكم؛ لأنها إرادة الشيء قبل أوانه فإن قيل: لم نهاهم عن الاستعجال مع قوله: خلق الإنسان من عجل وقوله تعالى: {وكان الإنسان عجولاً}، أليس هذا من تكليف ما لا يطاق؟ أجيب: بأن هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة، وقد أراهم بعض آياته وهو القتل ببدر.
(5/359)
---(1/2512)
{ويقولون} في استهزائهم {متى هذا الوعد} أي: بإتيان الآيات من الساعة ومقدّماتها وغيرها {إن كنتم} فيما توعدون به {صادقين} أي: عريقين في هذا الوصف يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا هو الاستعجال المذموم المذكور على سبيل الاستهزاء، ثم بيّن تعالى أنهم يقولون ذلك لجهلهم بقوله تعالى:
{لو يعلم الذين كفروا} وذكر المفعول به بقوله تعالى: {حين} أي: وقت {لا يكفون} أي: لا يدفعون {عن وجوههم} التي هي أشرف أعضائهم {النار} استسلاماً وعجزاً {ولا عن ظهورهم} التي هي أشدّ أجسامهم السياطَ {ولا هم ينصرون} أي: لا يمنعون من العذاب في القيامة وجواب لو محذوف و المعنى: لو علموا لما أقاموا على كفرهم ولما استعجلوا العذاب، ولا قالوا: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين.
{بل تأتيهم} أي: القيامة {بغتة} أي: فجأة {فتبهتهم} أي: تحيرهم، يقال: فلان مبهوت أي: متحير {فلا يستطيعون ردّها} أي: لا يطلبون طوع ذلك لهم في ذلك الوقت ليأسهم منه {ولا هم ينظرون} أي: يمهلون لتوبة أو معذرة، ولما كان التقدير حاق بهم هذا باستهزائهم بك أتبعه ما يدل على أنّ الرسل في ذلك شرع واحد تسلية له صلى الله عليه وسلم فقال عاطفاً على وإذا رآك:
{ولقد استهزئ برسل من قبلك} أي: كثيرين فلك بهم أسوة، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة في الوصل بكسر الدال والباقون بالضم وإذا وقف حمزة أبدل الهمزة ياء ساكنة {فحاق} أي: نزل {بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} وهو العذاب فكذا يحيق بمن استهزأ بك، ولما أعلم الله تعالى أن الكفار في الآخرة لا يكفون عن وجهوهم النار ولا عن ظهورهم بسائر ما وصفهم به. أتبعه بأنهم في الدنيا أيضاً لولا أنّ الله تعالى يحرسهم ويحفظهم لما بقوا في السلامة، فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم
(5/360)
---(1/2513)
{قل} يا أشرف المرسلين للمستهزئين {من يكلؤكم} أي: يحفظكم {بالليل والنهار من الرحمن} أي: من عذابه إن نزل بكم أي: لا أحد يفعل ذلك {بل هم عن ذكر ربهم} أي: القرآن {معرضون} لا يتفكرون فيه ولا يخطرونه ببالهم فضلاً أن يخافوا بأسه.
{أم} فيها معنى الهمزة للإنكار أي: الله {لهم آلهة} {موصوفة بأنها تمنعهم} مما يسوءهم {من دوننا} ليس لهم ذلك ثم وصف آلهتهم بالضعف فقال تعالى: {لا يستطيعون} أي: الآلهة {نصر أنفسهم} فكيف ينصرون عابديهم {ولا هم} أي: الكفار {منّا} أي: من عذابنا {يصحبون} أي: يجارون يقال: صحبك الله أي: حفظك وأجارك.
{بل متعنا هؤلاء} أي: الكفار على حقارتهم {وآباءهم} من قبلهم بالنعم استدراجاً {حتى طال عليهم العمر} أي: امتدّت بهم أيام الدنيا بالروح والطمأنينة فحسبوا أن لا يزالوا على ذلك لا يغلبون ولا ينزع عنهم ثوب أمنتهم واستمتاعهم فاغتروا بذلك وذلك طمع فارغ وأمل كاذب، وغلظ ورش اللام بخلاف عنه {أفلا يرون} أي: يعلمون علماً هو في وضوحه مثل الرؤية بالبصر {أنّا نأت الأرض} أي: أرض الكفرة {ننقصها من أطرافها} بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها بقتل بعض ورّد بعض عن دينه إلى الإسلام فهم في نقص وأولياؤنا في زيادة {أفهم الغالبون} أي: مع مشاهدتهم لذلك أم أولياؤنا. ولما كرّر سبحانه وتعالى في القرآن الأدلة وبالغ في التنبيه عليها على ما تقدم أتبعه بقوله تعالى:
(5/361)
---(1/2514)
{قل} يا أشرف الخلق لهؤلاء المشركين {إنما أنذركم} أي: أخوّفكم {بالوحي} أي: بالقرآن الذي هو كلام ربكم فلا تظنوا أنه من قبل نفسي {ولا يسمع الصم الدعاء} أي: ممن يدعوهم {إذا ما ينذرون} أي: يخوّفون فهم لترك العمل بما سمعوه كالصم فإن قيل: الصم لا يسمعون دعاء البشر كما لا يسمعون دعاء المنذر، فكيف قيل: إذا ما ينذزون؟ أجيب: بأنه وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامّهم وسدّهم أسماعهم إذا أنذروا، أي: هم على هذه الصفة من الجراءة والجسارة وعلى التصامّ عن آيات الإنذار، وقرأ ابن عامر ولا تسمع بالتاء الفوقية مضمومة وكسر الميم ونصب ميم الصم على الخطاب النبوي والباقون بالياء التحتية وفتح الميم ورفع ميم الصم وفي الدعاء، وإذا همزتان مختلفتان من كلمتين؛ الأولى مفتوحة، والثانية مكسورة قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والياء والباقون بتحقيق الهمزتين، وهذا في حال الوصل، فإن وقف على الهمزة الأولى فالجميع يبتدئون الثانية بالتحقيق، ويقف حمزة وهشام بإبدال الهمزة ألفاً مع المدّ والتوسط والقصر.
{ولئن مستهم} أي: أصابتهم {نفحة} أي: دفعة خفيفة وفي ذلك مبالغات ذكر المس و ما في النفحة من معنى القلة فإنّ أصل النفح هبوب رائحة الشيء والتاء الدالة على المرّة {من عذاب ربك} المحسن إليك بنصرك عليهم من الذي ينذرون به {ليقولنّ} وقد أذهلهم أمرها {يا ويلنا} الذي لا نرى بحضرتنا الآن غيره {إنّا كنّا ظالمين} دعوا على أنفسهم بالويل بعد ما أقرّوا بالظلم، ثم ذكر تعالى بعض ما يفعل في حساب الساعة من العدل، فقال عاطفاً على قوله تعالى: {بل تأتيهم بغتة}:
(5/363)
---(1/2515)
{ونضع الموازين القسط} أي: ذوات العدل {ليوم القيامة} أي: فيه وإنما جمع الموازين لكثرة من توزن أعمالهم ويجوز أن يرجع إلى الوزنات وقيل: وضع الموازين تمثيلاً لإرصاد الحساب السويّ والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والصحيح الذي عليه أئمة السلف أن الله تعالى يضع ميزاناً حقيقة توزن به أعمال العباد وعن الحسن هو الميزان له كفتان ولسان، ويروى أنّ داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان، فأراه كل كفة ما بين المشرق والمغرب، فغشي عليه ثم أفاق فقال: إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات، قال: يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة فإن قيل: كيف توزن الأعمال مع أنها أعراض؟ أجيب: بأن فيه طريقين؛ أحدهما أن توزن صحائف الأعمال فتوضع صحائف الحسنات في كفة وصحائف السيئات في كفة و الثاني أن توضع في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة فإن قيل: هذه الآية يناقضها قوله تعالى في الكفار: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} (الكهف، 105)
(5/364)
---(1/2516)
أجيب: بأن المراد منه أنا لا نكرمهم ولا نعظمهم {فلا تظلم نفس شيئاً} أي: من نقص حسنة أو زيادة سيئة {وإن كان} أي: العمل {مثقال} أي: وزن {حبة من خردل} أو أصغر منه وإنما مثل به لأنه غاية عندنا في القلة، وقرأ نافع برفع اللام على أنّ كان تامّة والباقون بالنصب وكذا في لقمان {أتينابها} أي: بوزنها ولما كان حساب الخلائق كلهم في كل ما صدرمنهم أمراً باهراً للعقل حقره عند عظمته فقال: {وكفى بنا} أي: بما لنا من العظمة {حاسبين} أي: محصين في كل شيء، فلا يكون في الحساب أحد مثلنا، ففيه توعد من جهة أن معناه أن لا يروج عليه شيء من خداع، ولا يقبل غلطاً ولا يضل ولا ينسى إلى غير ذلك من كل ما يلزم منه نوع لبس وشوب منقص ووعد من جهة أنه مطلع على حسن قصد وإن دق وخفي. ولما تكلم سبحانه وتعالى في دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد شرع في قصص الأنبياء عليهم السلام تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما يناله من قومه وتقوية لقلبه على أداء الرسالة والصبر على كل عارض وذكر منها عشراً: القصة الأولى: قصة موسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:
{ولقد آتينا موسى وهرون} أي: أخاه الذي سأل ربه أن يشدّ أزره به {الفرقان} أي: التوراة الفارقة بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام {وضياء} بهاء لا ظلام معه أي: ليستضاء بها في ظلمات الحيرة والجهل وقرأ قنبل بعد الضاد بهمزة مفتوحة ممدودة والباقون بياء بعدها ألف {وذكراً} أي: عظة {للمتقين} أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع وقيل الفرقان النصر وقيل فلق البحر ويراد بالضياء على هذين التوراة، ثم بيّن المتقين بوصفهم بقوله تعالى:
(5/365)
---(1/2517)
{الذين يخشون} أي: يخافون خوفاً عظيماً {ربهم} أي: المحسن إليهم بعد الإيجاد بالتربية وأنواع الإحسان {بالغيب} عن الناس أي: في الخلاء عنهم أو بالغيب قبل أن يكشف لهم الحجاب في الجنة {وهم من الساعة} التي توضع فيها الموازين وقد أعرض عنها الجاهلون مع كونها أعظم حامل على كل خير ومباعد عن كل ضير {مشفقون} أي: خائفون لأنهم لقيامها متحققون ولنصب الموازين فيها عالمون، ولما ذكر تعالى فرقان موسى عليه السلام وكان العرب يشاهدون تمسك اليهود به حثهم على كتابهم هو أشرف منه بقوله تعالى:
{وهذا} أي: القرآن وأشار إليه بأداة القرب إيماء إلى سهولة تناوله عليهم {ذكر} أي: موعظة {مبارك} أي: كثير خيره {أنزلناه} على أشرف الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {أفأنتم له منكرون} أي: جاحدون استفهام توبيخ، القصة الثانية: قصة إبراهيم عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:
{ولقد أتينا} بما لنا من العظمة {إبراهيم رشده} أي: صلاحه وهداه {من قبل} أي: من قبل موسى وهارون ومحمد صلى الله وسلم عليهم وقيل: من قبل استنبائه أو بلوغه حيث قال: إني وجهّت وجهي {وكنّا به} ظاهراً وباطناً {عالمين} بأنه أهل لما آتيناه لأنه جبلة خير جامع لمحاسن الأوصاف ومكارم الأخلاق والخصال يدوم على الرشد ويترقى فيه إلى أعلى درجاته لما طبعناه عليه، وفي ذلك إشارة إلى أنه فعله تعالى باختيار وحكمة وأنه عالم بالجزئيات.
(5/366)
---(1/2518)
وتعليق {إذ قال} أي: إبراهيم {لأبيه وقومه} بعالمين إشارة إلى أن قوله لما كان بإذن منا ورضا لنا نصرناه وهو وحده على قومه كلهم، ولو لم يكن يرضينا لمنعناه منه بنصر قومه عليه وتمكين النار منه، ثم ذكر مقول القول في قوله: منكراً عليهم محقراً لأصنامهم {ما هذه التماثيل} أي: الصور التي صنعتموها مماثلين بها ما فيه روح الله جاعلين لها ما لا يكون إلا لمن لا مثل له وهي الأصنام {التي أنتم لها} أي: لأجلها وحدها مع كثرة ما يشابهها وما هو أفضل منها {عاكفون} أي: مقيمون على عبادتها فإن قيل: هلا قال عليها عاكفون، كقوله تعالى: يعكفون على أصنام لهم؟ أجيب: بأن اللام للاختصاص لا للتعدية، ولو قصد التعدية لعدّاه بصلته التي هي على، ثم إنه تعالى ذكر جوابهم له بما لزم الاستفهام عن السؤال بأنهم
{قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} فاقتدينا بهم لا حجة لنا غير ذلك فانظر ما أقبح التقليد وما أعظم كيد الشيطان للمقلدين حتى استدرجهم إلى أن قلدوا آباءهم في عبادة التماثيل وعفروا لها جباههم وهم معتقدون أنهم على شيء وجادّون في نصرة مذهبهم ومجادلون أهل الحق عن باطلهم وكفى أهل التقليد مسبة أن عبدة الأصنام منهم والتقليد إن جاز فإنما يجوز لمن علم في الجملة أنه على حق.
ولذا {قال} إبراهيم عليه السلام {لقد كنتم} وأكده بقوله: {أنتم} لأجل صحة العطف لأن الضمير المرفوع المتصل حكمه حكم جزء الفعل والعطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع ونحوه: {اسكن أنت وزوجك الجنة} (البقرة، 35)، {وآباؤكم} أي: من قبلكم {في ضلال مبين} فبين أن المقلدين والمقلدين جميعاً منخرطون في سلك ضلال لا يخفى على من به أدنى مسكة لاستناد الفريقين إلى غير دليل بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع لاستبعادهم أن يكون ماهم عليه ضلالاً بقوا متعجبين من تضليله إياهم.
(5/367)
---(1/2519)
فلذا {قالوا} ظناً منهم أنه لم يقل لهم ذلك على ظاهره {أجئتنا} في هذا الكلام {بالحق} الذي يطابقه الواقع {أم أنت من اللاعبين} أي: تقوله على وجه المزاح والملاعبة لا على وجه الجد.
{قال} عليه السلام بانياً على ما تقديره ليس كلامي لعباً بل هو جد وهذه التماثيل ليست أرباباً {بل ربكم} أي: الذي يستحق منكم اختصاصه بالعبادة {رب السموات والأرض} أي: مدبرهنّ القائم بمصالحهنّ {الذي فطرهنّ} أي: خلقهنّ على غير مثال سبق وأنتم وتماثيلكم بما فيهما من مصنوعاته أنتم تشهدون بذلك إذا رجعتم إلى عقولكم مجرّدة عن الهوى وقيل: الضمير في فطرهنّ للتماثيل قال الزمخشري: وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم {وأنا على ذلكم} أي: الأمر البين من أنه ربكم وحده فلا تجوز عبادة غيره {من الشاهدين} أي: الذين يقدرون على إقامة الدليل على ما يشهدون به لم يشهدوا إلا على ما هو عندهم مثل الشمس لا كما فعلتم أنتم حين اضطرّكم السؤال إلى الضلال، ولما أقام البرهان على إثبات الإله الحق أتبعه البرهان على إبطال الباطل بقوله:
(5/368)
---(1/2520)
{وتاللّه} وهو قسم والأصل في القسم الباء الموحدة والواو بدل منها والتاء بدل من الواو وفيها مع كونها بدلاً زيادة على التأكيد التعجب {لأكيدن أصنامهم} أي: لأجتهدنّ في كسرها والتأكيد وما في التاء من التعجب من تسهيل الكيد على يده وتأتيه لأنّ ذلك كان أمراً مقنوطاً منه لصعوبته وتعذره ولعمري إنّ مثله صعب متعذر في كل زمان خصوصاً في زمن نمروذ مع عتّوه واستكباره وقوّة سلطانه وتهالكه على نصرة دينه، ولكن إذا الله سنى عقد شيء تيسراً، ولما كان عزمه على إيقاع الكيد في جميع الزمان الذي يقع فيه توليهم في أي جزء تيسر له منه أسقط الجار فقال: {بعد أن تولّوا مدبرين} أي: بعد أن تدبروا منطلقين إلى عيدكم قال مجاهد وقتادة: إنما قال إبراهيم هذا سراً من قومه ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد فأفشاه عليه وقال: إنا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم، وقال السدّي: كان لهم في كل سنة مجمع عيد فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم له: يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فخرج معهم إبراهيم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال: إني سقيم أشتكي برجلي فلما مضوا نادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس تالله لأكيدن أصنامكم فسمعوها منه ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة وهي في بهو عظيم مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه والأصنام بعضها إلى جنب بعض كل صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو وإذا هم قد جعلوا طعاماً فوضعوه بين يدي الآلهة، وقالوا: إذا رجعنا وقد بركت الأصنام الآلهة عليه أكلنا منه فلما نظر إبراهيم إليهم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء: ألا تأكلون؟ فلما لم يجيبوه قال لهم مالكم لا تنطقون، فراغ عليهم ضرباً باليمين وجعل يكسرهن بفأس في يده حتى لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس في عنقه ثم خرج، فذلك قوله عز وجل:
(5/369)
---(1/2521)
{فجعلهم جذاذاً} أي: فتاتاً وقرأ الكسائي بكسر الجيم والباقون بضمها {إلا كبيراً لهم} فإنه لم يكسره ووضع الفأس في عنقه وقيل ربطه بيده وكانت اثنين وسبعين صنماً بعضها من ذهب وبعضها من فضة وبعضها من حديد ورصاص وخشب وحجر وكان الصنم الكبير من الذهب مكللاً بالجواهر في عينيه ياقوتتان تتقدان {لعلهم} أي: هؤلاء الضلال {إليه} أي: إبراهيم {يرجعون} عند إلزامه بالسؤال فتقوم عليهم الحجة فلما عادوا إلى أصنامهم فوجدوها على تلك الحال {قالوا من فعل هذا} الفعل الفاحش {بآلهتنا إنه لمن الظالمين} حيث وضع الإهانة في غير موضعها فإنّ الآلهة حقها الإكرام لا الإهانة والانتقام
(5/370)
---
{قالوا} أي: الذين سمعوا قول إبراهيم وتاالله لأكيدنّ أصنامكم {سمعنا فتى} أي: شاباً من الشباب {يذكرهم} أي: يعيبهم ويسبهم {يقال له إبراهيم} أي: هو الذي نظنّ أنه صنع هذا، فلما بلغ ذلك نمروذ الجبار وأشراف قومه
{قالوا فأتوا به} إلى بيت الأصنام {على أعين الناس} أي: جهرة والناس ينظرون إليه نظر الإخفاء معه حتى كأنه ماش على أبصارهم متمكن منها تمكن الراكب على المركوب {لعلهم يشهدون} عليه بأنه الذي فعل بالآلهة هذا الفعل كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، وقيل معناه: لعلهم يحضرون عذابه وما يصنع به، فلما أتوا به
{قالوا} منكرين عليه {أأنت فعلت هذا} الفعل الفاحش {بآلهتنا يا إبراهيم}.
تنبيه: هنا همزتان مفتوحتان من كلمة فالقرّاء الجميع على تحقيق الأولى، وأمّا الثانية فيسهلها نافع وابن كثير وأبو عمرو، وهشام بخلاف عنه وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو والباقون بتحقيقهما وعدم الإدخال بينهما.
(5/371)
---(1/2522)
ثم {قال} إبراهيم متهكماً بهم وملزماً بالحجة {بل فعله كبيرهم} غيرة أن يعبد معه من هو دونه وتقييده بقوله: {هذا} إشارة إلى الذي تركه من غير كسر، ولما أخبرهم ولم يكن أحد رآه حتى يشهد على فعله وكانوا قد أحلوهم بعبادتهم ووضع الطعام لهم محل من يعقل تسبب عنه أمرهم بسؤالهم فقال: {فاسألوهم} أي: عن الفاعل ليخبروكم به وقوله: {إن كانوا ينطقون} أي: على زعمكم أنهم آلهة يضرّون وينفعون فيه تقديم جواب الشرط أي: فإن قدروا على النطق أمكنت عنهم القدرة وإلا فلا، فأراهم عجزهم عن النطق وفي ضمنه أنا فعلت ذلك. روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتين منهن في ذات الله قوله إني سقيم وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله لسارة: هذه أختي»، وقال في حديث الشفاعة، ويذكر كذباته أي: إنه لم يتكلم بكلمات صورتها صورة الكذب وإن كان حقاً في الباطن إلا هذه الكلمات، وقيل في قوله: إن سقيم أي: سأسقم، وقيل سقيم القلب أي: مغتم بضلالتكم، وقوله لسارة هذه أختي أي: في الدين وقوله بل فعله كبيرهم هذا؛ روي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله بل فعله ويقول: معناه بل فعله من فعله، وقوله: كبيرهم هذا مبتدأ وخبر قال البغوي: وهذه التأويلات لنفي الكذب، والأولى هو الأول للحديث فيه، ويجوز أن يكون الله تعالى قد أذن له في ذلك لقصد الصلاح وتوبيخهم والاحتجاج عليهم كما أذن ليوسف عليه السلام حتى نادى مناديه فقال: {أيتها العير إنكم لسارقون} (يوسف، 70)
ولم يكونوا سرقوا، وقال الرازي: الحديث محمول على المعاريض، فإن فيها مندوحة عن الكذب، أي: تسمية المعاريض كذباً لما أشبهت صورتها صورته، وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين وترك الهمزة، وكذا يفعل حمزة في الوقف والباقون بسكون السين وبعدها همزة مفتوحة، وقيل: الوقف على بل فعله، ثم يبتدىء بقوله: كبيرهم هذا.
(5/372)
---(1/2523)
ولما اضطرّهم الدليل أن يحققوا أنهم على محض الباطل {فرجعوا إلى أنفسهم} بالتفكر {فقالوا} أي: بعضهم لبعض {إنكم أنتم الظالمون} لكونكم وضعتم العبادة في غير موضعها إلا إبراهيم، فإنه أصاب بإهانتها.
{ثم نكسوا على رؤوسهم} أي: انقلبوا غير مستحبين مما يلزمهم من الإقرار بالسفه إلى المجادلة له بعدما استقاموا بالمراجعة من قولهم نكس المريض إذا عاد إلى حاله الأول، شبّه عودهم إلى الباطل بصورة جعل أسفل الشيء مستعلياً على أعلاه، ثم إنهم قالوا في مجادلتهم عن شركائهم والله {لقد علمت} يا إبراهيم {ما هؤلاء} لا صحيحهم ولا جريحهم {ينطقون} أي: فكيف تأمرنا بسؤالهم؟ ولما تسبب عن قولهم هذا إقرارهم بأنهم لا فائدة فيهم اتجه لإبراهيم عليه السلام الحجة عليهم.
{قال} منكراً عليهم موبخاً لهم {أفتعبدون من دون الله} أي: بدله {ما لا ينفعكم شيئاً} من رزق وغيره لترجوه {ولا يضرّكم} شيئاً إذا لم تعبدوه لتخافوه.
{أفٍ} أي: تباً وقبحاً {لكم ولما تعبدون من دون الله} أي: غيره، وقرأ نافع وحفص بتنوين الفاء مكسورة وابن كثير وابن عامر بفتح الفاء من غير تنوين والباقون بكسر الفاء من غير تنوين، ولما تسبب عن فعلهم هذا وضوح أنه لا يقربه عاقل، أنكر عليهم ووبخهم بقوله: {أفلا تعقلون} قبح صنيعكم وأنتم شيوخ قد مرّت بكم الدهور وحنكتكم التجارب ولما دحضت حجتهم وبان عجزهم، وظهر الحق واندفع الباطل
(5/373)
---(1/2524)
{قالوا} عادلين إلى العناد، واستعمال القوّة الحسية {حرّقوه} بالنار لتكونوا قد فعلتم فيه فعلاً أعظم مما فعل بآلهتكم {وانصروا آلهتكم} التي جعلها جذاذاً {إن كنتم فاعلين} نصرتها قال ابن عمر: إنّ الذي قال هذا رجل من الأكراد قيل: اسمه هيتون، فخسف الله تعالى به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، وقيل: قاله نمروذ بن كوش بن حام بن نوح عليه السلام ، وروي أنّ نمروذ وقومه حين هموا بإحراقه حبسوه في بيت، ثم بنوا عليه بيتاً كالحظيرة بقرية يقال لها كوثى، ثم جمعوا له أصلاب الحطب من أصناف الخشب مدّة شهر حتى كان الرجل يمرض، فيقول: لئن عوفيت لأجمعنّ حطباً لإبراهيم، وكانت المرأة تغزل وتشتري بغزلها الحطب احتساباً في دينها، وكان الرجل يوصي بشراء الحطب وإلقائه فيه، فلما جمعوا ما أرادوا وأشعلوا في كل ناحية من الحطب ناراً، فاشتعلت النار، واشتدت حتى كان الطير يمرّ بها، فيحترق من شدّة وهجها وحرّها، وأوقدوا عليه سبعة أيام، فلما أرادوا أن يلقوا إبراهيم لم يعلموا كيف يلقوه، فجاءهم إبليس عليه اللعنة، فعلّمهم عمل المنجنيق فعملوا ثم عمدوا إلى إبراهيم فقيدوه ورفعوه على رأس البنيان ووضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً، فصاحت السماء والأرض، ومن فيهما من الملائكة وجميع الخلق إلا الثقلين صيحة واحدة ربنا خليلك يلقى في النار وليس في أرضك من يعبدك غيره فأذن لنا في نصرته، فقال عز وجل: إنه خليلي وليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري، فإن استغاث بأحد منكم أو دعاه فلينصره، فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع أحداً غيري فأنا أعلم به وأنا وليه، فخلوا بيني وبينه، فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه، فقال: إن أردت أخمدت النار وأتاه خازن الرياح، فقال: إن شئت طيرت النار في الهواء، فقال إبراهيم عليه السلام : لا حاجة لي إليكم حسبي الله ونعم الوكيل، وروي عن كعب الأحبار أن إبراهيم قال حين أوثقوه ليلقوه في النار لا(1/2525)
(5/374)
---
إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك، ثم رموا به في المنجنيق إلى النار، فاستقبله جبريل، فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، فقال جبريل: فاسأل ربك، فقال إبراهيم عليه السلام : حسبي من سؤالي علمه بحالي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} (آل عمران، 173)
قالها إبراهيم عليه السلام : حين ألقي في النار وقالها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس: {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم} (آل عمران، 173)
؛ قال كعب الأحبار جعل كل شيء يطفىء النار عنه إلا الوزغ، فإنه كان ينفخ في النار، وعن أمّ شريك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الأوزاغ، وقال: «كان ينفخ على إبراهيم»، ولما أراد الله تعالى الذي له القوّة جميعاً سلامته منها قال تعالى:
(5/375)
---(1/2526)
{قلنا يا نار كوني} بإرادتنا التي لا يتخلف عنها مراد {برداً} قال ابن عباس: لو لم يقل: {وسلاماً} لمات إبراهيم من بردها، وفي الآثار أنه لم يبق يومئذٍ نار في الأرض إلا طفئت، فلم ينتفع في ذلك اليوم بنار في العالم، ولو لم يقل تعالى: {على إبراهيم} لبقيت ذات برد أبداً، والمعنى كوني ذات برد وسلام على إبراهيم، فبولغ في ذلك حتى كان ذاتها برد وسلام، والمراد: ابردي فيسلم منك إبراهيم أو ابردي برداً غير ضارّ، قال السدّي: فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم فأقعدوه على الأرض، فإذا بعين ماء عذب وورد أحمر، ونرجس قال كعب: ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه، قالوا: وكان إبراهيم في ذلك الموضع سبعة أيام قال المنهال ابن عمرو قال إبراهيم: ما كنت أياماً قط أنعم مني في الأيام التي كنت في النار، وقال ابن يسار وبعث الله تعالى ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد فيها إلى جنب إبراهيم يؤنسه قال وبعث الله تعالى جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وطنفسة، فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدّثه، وقال جبريل: يا إبراهيم إنّ ربك يقول: أما علمت أنّ النار لا تضر أحبابي، ثم نظر نمروذ وأشرف على النار من صرح له، فرآه جالساً في روضة والملك قاعد إلى جنبه وما حوله نار تحرق الحطب فناداه يا إبراهيم بإلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم، قال: هل تخشى إن قمت فيها أن تضرك قال: لا، قال: قم فاخرج منها، فقام إبراهيم يمشي فيها حتى خرج منها، فلما خرج إليه قال له: من الرجل الذي رأيته معك في مثل صورتك قاعداً إلى جنبك قال: ذاك ملك الظل أرسله إليّ ربي ليؤنسني فيها، فقال نمروذ: إني مقرب إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده إني ذابح له أربعة آلاف بقرة قال: إذاً لا يقبل الله منك ما كنت على دينك حتى تفارقه إلى ديني، فقال: لا أستطيع ترك ملكي، ولكن(1/2527)
(5/376)
---
أذبحها له فذبحها له نمروذ، ثم كف عن إبراهيم ومنعه الله تعالى منه وكان إبراهيم إذ ذاك ابن ست عشرة سنة واختاروا المعاقبة بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه، ولذلك جاء في الحديث: «لا يعذب بالنار إلا خالقها»، وقيل: إنّ الله تعالى نزع عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر والإحراق، وأبقاها على الإضاءة والإشراق والاشتعال كما كانت والله على كل شيء قدير، فدفع عن إبراهيم حرّها كما يدفع ذلك عن خزنة جهنم.g
{وأرادوا به كيداً} أي: مكراً في إضراره بالنار، وبعد خروجه منها {فجعلناهم} أي: بما لنا من الجلال {الأخسرين} أي: أخسر من كل خاسر عاد سعيهم برهاناً قاطعاً على أنهم على الباطل، وإبراهيم على الحق، وموجباً لزيادة درجته واستحقاقهم أشدّ العذاب، وقد أرسل الله تعالى على نمروذ، وعلى قومه البعوض فأكلت لحومهم، وشربت دماءهم ودخلت في دماغه بعوضة، فأهلكته.
فائدة: وقع مثل هذه القصة لبعض أتباع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أبو مسلم الخولانيّ طلبه الأسود العنسي لما ادّعى النبوّة فقال له: اشهد أني رسول الله، قال: ما أسمع، قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، فأمر بنار، فألقي فيها، ثم وجده قائماً يصلي فيها، وقد صارت عليه برداً وسلاماً، وقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر رضي الله عنهم، وقال عمر: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله.
(5/377)
---(1/2528)
{ونجيناه ولوطاً} من نمروذ وقومه من أرض العراق {إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} وهي الشام بارك الله فيها بالخصب وكثرة الأشجار والثمار والأنهار، ومنها بعث أكثر الأنبياء قال أبيّ بن كعب بارك الله فيها وسماها مباركة؛ لأن ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس أي: يهبط من السماء إلى الصخرة ثم يتفرّق في الأرض قاله أبو العالية، وعن قتادة أنّ عمر رضي الله تعالى عنه قال لكعب الأحبار ألا تتحول إلى المدينة فيها مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبره، فقال كعب: إني وجدت في كتاب الله المنزل يا أمير المؤمنين إن الشام كنز الله في أرضه، وبها كنزه من عباده، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم؛ قال محمد بن إسحاق استجاب لإبراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله عز وجل به من جعل النار عليه برداً وسلاماً على خوف من نمروذ وملئهم، وآمن به لوط، وكان ابن أخيه وهو لوط بن هاران بن تارح وهاران هو أخو إبراهيم، وكان لهما أخ ثالث يقال له ناحور بن تارح، وآمنت به أيضاً سارة وهي بنت عمه، وهي سارة بنت هاران الأكبر عمّ إبراهيم، فخرج من كوثى وهي بضم الكاف ومثلثة قال ابن الأثير هي كوثن العراق وهي سرّة السواد، وبها ولد إبراهيم الخليل عليه السلام ، وخرج مهاجراً إلى ربه ومعه لوط وسارة كما قال تعالى: {فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي} فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه حتى نزل حران، فمكث بها ما شاء الله، ثم خرج منها مهاجراً حتى قدم مصر، ثم خرج من مصر إلى الشام، فنزل السبع من أرض فلسطين، وهي برية الشام، ونزل لوط بالمؤتفكة، وهي على مسيرة يوم وليلة من السبع فبعثه الله تعالى نبياً إلى أهلها وما قرب منها فذلك قوله تعالى: {ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} (الأنبياء، 71)(1/2529)
(5/379)
---
أي: كما أنجيناك أنت يا أشرف الخلق ويا أفضل أولاده، وصديقك أبا بكر رضي الله تعالى عنه إلى طيبة التي شرفناها بك وبثثنا من أنوارها في أرجاء الأرض وأقطارها ما لم نبث مثله قط وباركنا فيها للعالمين بالخلفاء الراشدين وغيرهم من العلماء والصالحين الذين انبثت خيراتهم العملية والعلمية والمالية في جميع الأقطار، ولما ولد لإبراهيم عليه السلام في حال شيخوخته وعجز امرأته مع كونها عقيماً، وكان ذلك دالاً على الاقتدار على البعث الذي السياق كله له قال تعالى:
{ووهبنا له} دالاً على ذلك بنون العظمة {إسحاق} أي: من شبه العدم وترك شرح حاله لتقدّمه أي: فكان ذلك دليلاً على اقتدارنا على ما نريد لا سيما من إعادة الخلق في يوم الحساب، ثم إنه قد يظن أنه لتولده بين شيخٍ فانٍ وعجوز عقيم كان على حالة من الضعف لا يولد لمثله معها نفى ذلك بقوله تعالى: {ويعقوب نافلة} أي: ولداً لإسحاق زيادة على ما دعا به إبراهيم عليهما السلام، ثم نمى سبحانه وتعالى أولاد يعقوب، وهو إسرائيل وذرّياتهم إلى أن ساموا النجوم عدّة وباروا الجبال شدّة {وكلاً} من هؤلاء الأربعة وهم إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب وعظم رتبتهم بقوله تعالى: {جعلنا صالحين} أي: مهيئين لطاعتهم لله تعالى لكل ما يرونه أو يرادون له، أو يراد منهم، ثم لما ذكر أنه تعالى أعطاهم رتبة الصلاح في أنفسهم ذكر أنه تعالى أعطاهم رتبة لإصلاح لغيرهم، فقال تعالى معظماً لإمامتهم:
(5/380)
---(1/2530)
{وجعلناهم أئمة} أي: أعلاماً ومقاصد يقتدى بهم في الدين لما آتيناهم من العلم والنبوّة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية المكسورة بين الهمزة والياء، ويجوز إبدالها عندهم ياء خالصة ولا يدخلون بينهما شيئاً وقرأ هشام بتحقيق الهمزتين وإدخال ألف بينهما بخلاف عنه في الإدخال وعدمه، والباقون بتحقيق الهمزتين من غير إدخال بلا خلاف {يهدون} أي: يدعون إلينا من وفقناه للهداية {بأمرنا} أي: بإذننا {وأوحينا إليهم} أيضاً {فعل} أي: أن يفعلوا {الخيرات} ليحثوهم عليها، فيتم كمالهم بانضمام العلم إلى العمل، قال البقاعي: ولعله تعالى عبّر بالفعل دلالة على أنهم امتثلوا كل ما يوحي إليهم، وقال الزمخشري: أصله أن تفعل الخيرات، ثم فعلا الخيرات، ثم فعل الخيرات، وكذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة انتهى. وقوله تعالى: {وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} من عطف الخاص على العام تعظيماً لشأنهما؛ لأن الصلاة تقرب العبد إلى الحق تعالى، والزكاة إحسان إلى الخلق، قال الزجاج: الإضافة في الصلاة عوض عن تاء التأنيث يعني: فيكون من الغالب لا من القليل {وكانوا لنا} دائماً جبلة وطبيعة {عابدين} أي: موحدين مخلصين في العبادة ولذلك قدَّم الصلة، القصة الثالثة: قصة لوط عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:
(5/381)
---(1/2531)
{ولوطاً} أي: وآتينا لوطاً أو واذكر لوطاً، ثم استأنف قوله تعالى: {آتيناه حكماً} أي: نبوّة وعملاً محكماً بالعلم، وقيل: فصلاً بين الخصوم {وعلماً} مزيناً بالعمل مما ينبغي علمه للأنبياء {ونجيناه من القرية} أي: قرية سدوم {التي كانت} قبل إنجائنا له منها {تعمل} أي: أهلها الأعمال {الخبائث} من اللواط والرمي بالبندق واللعب بالطيور والتضارط في أنديتهم وغير ذلك وإنما وصف القرية بصفةأهلها وأسندها إليها على حذف المضاف وأقامته مقامه ويدل عليه {إنهم كانوا} أي: بما جبلوا عليه {قوم سوء} أي: ذوي قدرة على الشرّ بانهماكهم في الأعمال السيئة {فاسقين} أي: خارجين من كل خير
{وأدخلناه} دونهم {في رحمتنا} أي: في الأحوال السنية والأقوال العلية والأفعال الزكية التي هي سببب للرحمة العظمى ومسببة عنها ثم علل ذلك بقوله تعالى {إنه من الصالحين} أي: الذين سبقت لهم منا الحسنى أي: لما جبلناه عليه من الخير. القصة الرابعة: قصة نوح عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:
{ونوحاً} أي: واذكر نوحاً{إذ} أي: حين {نادى} أي: دعا الله تعالى على قومه بالهلاك بقوله: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} (نوح، 26)
ونحوه من الدعاء {من قبل} أي: من قبل لوط ومن تقدّمه {فاستجبنا} أي: أردنا الإجابة وأوجدناها بعظمتنا {له} في ذلك النداء، ثم تسبب عن ذلك قوله تعالى: {فنجيناه وأهله} أي: الذين دام ثباتهم على الإيمان وهم من كان معه في السفينة {من الكرب العظيم} أي: من أذى قومه ومن الغرق والكرب الغمّ الشديد قاله السدّي وقال أبو حيان الكرب أقصى الغمّ والأخذ بالنفس وهو هنا الغرق عبّر عنه بأوّل أحوال مأخذ الغريق.
(5/382)
---(1/2532)
{ونصرناه} أي: منعناه {من القوم} أي: المتصفين بالقوّة {الذين كذبوا بآياتنا} من أن يصلوا إليه بسوء، وقيل: من بمعنى على {أنهم كانوا قوم سوء} أي: لا عمل لهم إلا ما يسوء {فأغرقناهم أجمعين} لاجتماع الأمرين تكذيب الحق والانهماك في الشر لم يجتمعا في قوم إلا وأهلكهم الله تعالى.
القصة الخامسة: قصة داود وسليمان عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى:
{وداود وسليمان} ابنه أي: اذكرهما واذكر شأنهما {إذ} أي: حين {يحكمان في الحرث} الذي أنبت الزرع وهو من إطلاق اسم السبب على المسبب كالسماء على المطر والنبت، قال ابن عباس: وأكثر المفسرين كان ذلك كرماً قد تدلت عناقيده، وقال قتادة: كان زرعاً قال ابن الخازن وهو أشبه للعرف {إذ نفشت} أي: انتشرت ليلاً بغير راع {فيه غنم القوم} فرعته، قال قتادة: النفش في الليل والعمل في النهار {وكنا لحكمهم} أي: الحكمين والمتحاكمين إليهما {شاهدين} أي: كان ذلك بعلمنا ومرأى منّا لا يخفى علينا علمه، وقال الفرّاء: جمع الاثنين فقال لحكمهم ويريد داود وسليمان؛ لأن الاثنين جمع وهو مثل قوله تعالى: {فإن كان له أخوة فلأمه السدس} (النساء، 110)
(5/383)
---(1/2533)
وهو يريد أخوين، قال ابن عباس وقتادة وذلك أن رجلين دخلا على داود عليه السلام أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الزرع: إنّ هذا انفلتت غنمه ليلاً، فوقعت في حرثي، فأفسدته، فلم تبق منه شيئاً، فأعطاه داود رقاب الغنم بالحرث فخرجا فمرّا على سليمان عليه السلام فقال: كيف قضى بينكما، فأخبراه، فقال سليمان وهو ابن إحدى عشر سنة: لو وليت أمرهما لقضيت بغير هذا، وروي أنه قال: غير هذا أرفق بالفريقين، فأخبر بذلك داود، فدعاه فقال: كيف تقضي، ويروى أنه قال بحق النبوة والأبوّة إلا ما أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين، قال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بدرّها ونسلها وصوفها، ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه، فإذا صار الحرث كهيئته دفع إلى أهله وأخذ صاحب الغنم غنمه، فقال داود: القضاء ما قضيت. كما قال تعالى:
{ففهمناها} أي: الحكومة {سليمان} أي: علمناه القضية وألهمناها له.
تنبيه: يجوز أن تكون حكومتهما بوحي إلا أنّ حكومة داود نسخت بحكومة سليمان، ويجوز أن تكون باجتهاد إلا أن اجتهاد سليمان أشبه بالصواب فإن قيل: ما وجه كل واحدة من الحكومتين؟ أجيب: بأنّ وجه حكومة داود أنّ الضرر وقع بالغنم فسلمت بجنايتها إلى المجني عليه.
كما قال أبو حنيفة في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه، وعند الشافعي يبيعه في ذلك، أو يفديه، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث.
ووجه حكومة سليمان: أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان، مثاله ما قال أصحاب الشافعي فيمن غصب عبداً وأبق من يده أنه يضمن بالقيمة، فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد، فإذا ظهر ترادَّا.
(5/384)
---(1/2534)
فإن قيل: لو وقعت هذه الواقعة في شريعتنا ما حكمها؟ أجيب: بأن أبا حنيفة وأصحابه لا يرون فيها ضماناً بالليل أو بالنهار إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد لقوله صلى الله عليه وسلم «جرح العجماء جبار»، أي: هدر رواه الشيخان وغيرهما، والشافعي وأصحابه يوجبون الضمان بالليل إذ المعتاد ضبط الدواب ليلاً، ولذلك قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم لما دخلت ناقة البراء حائطاً وأفسدته، فقال على: «أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل الماشية حفظها بالليل»، ولما كان ذلك ربما أوهم شيئاً في أمر داود، نفاه بقوله تعالى: {وكلاً} أي: منهما {آتينا حكماً} أي: نبوّة وعملاً مؤسساً على حكمة العلم {وعلماً} مؤيداً بصالح العمل، وعن الحسن لولا هذه الآية لرأيت القضاة قد هلكوا، ولكنه تعالى أثنى على سليمان عليه السلام لصوابه، وعلى داود باجتهاده انتهى، وهذا على الرأي الثاني، وعليه أكثر المفسرين، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا حكم الحاكم فاجتهد، فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ، فله أجر»، وهل كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد لا بعينه؟ رأيان أظهرهما الثاني، وإن كان مخالفاً لمفهوم الآية إذ لو كان كل مجتهد مصيباً لم يكن للتقسيم في الحديث معنى وقوله صلى الله عليه وسلم وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر لم يرد به أنه يؤجر على الخطأ بل يؤجر على اجتهاده في طلب الحق؛ لأنّ اجتهاده عبادة، والإثم في الخطأ عنه موضوع.
(5/385)
---(1/2535)
فائدة: من أحكام داود وسليمان عليهما السلام ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كانت امرأتان معهما ابناهما، فجاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكما إلى داود فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى» أخرجاه في الصحيحين، ثم إنه تعالى ذكر لداود وسليمان بعض معجزات، فمن بعض معجزات الأوّل ما ذكره بقوله تعالى: {وسخرنا مع داود الجبال} مع صلابتها وعظمها {يسبحن} معه أي: يقدّسن الله تعالى، ولو شئنا لجعلنا الحرث والغنم تكلمه بصواب الحكم، وقال ابن عباس: كان يفهم تسبيح الحجر والشجر، وقوله تعالى: {والطير} عطف على الجبال أو مفعول معه، وقال: وهب كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذا الطير، وقال قتادة: يسبحن أي: يصلين معه إذا صلى، وقيل: كان داود إذا فتر يسمعه الله تعالى تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه، وقيل: يسبحن بلسان الحال، وقيل: يسبح من رآها تسير معه بتسيير الله تعالى، فلما جبلت على التسبيح وصفت به {وكنا غافلين} أي: من شأننا الفعل لأمثال هذه الأفاعيل، ولكل شيء نريده، فلا تستكثروا علينا أمراً، وإن كان عندكم عجباً، وقد اتفق نحو هذا لغير واحد من هذه الأمة. كان مطرف بن عبد الله بن الشخير إذا دخل بيته سبحت معه أبنيته، وأمّا النبيّ صلى الله عليه وسلم فكان الطعام يسبح بحضرته والحصى وغيره
(5/386)
---(1/2536)
{وعلمناه صنعة لبوس} أي: صنعة الدروع التي تلبس في الحرب؛ قال قتادة: أوّل من صنع هذه الدروع وسردها واتخذها حلقاً داود، وكانت من قبل صفائح، وقد ألان الله تعالى لداود الحديد فكان يعمل منه بغير نار كأنه طين؛ قال البغوي: وهو أي: اللبوس في اللغة: اسم لكل ما يلبس ويستعمل في الأسلحة كلها وهو بمعنى الملبوس كالحلوب والركوب، وقوله تعالى: {لكم} متعلق بعلم أو صفة للبوس، وقوله تعالى: {لتحصنكم من بأسكم} بدل منه بدل اشتمال بإعادة الجار ومرجع الضمير يختلف باختلاف القراءات، فقرأ شعبة بالنون فالضمير لله تعالى، وقرأ ابن عامر وحفص بالتاء على التأنيث، فالضمير للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع، وقرأ الباقون بالياء التحتية، فالضمير لداود أو للبوس، وقوله تعالى: {فهل أنتم شاكرون} أي: لنا على ذلك أمر أخرجه في صورة الاستفهام للمبالغة أو التقريع، ومن بعض معجزات الثاني ما ذكره بقوله:
{ولسليمان} أي: وسخر لسليمان {الريح} قال البغوي: وهو هواء يتحرّك وهو جسم لطيف يمتنع بلطفه من القبض عليه، ويظهر للحس بحركته والريح تذكر وتؤنث {عاصفة} أي: شديدة الهبوب فإن قيل: قد قال تعالى في موضع آخر تجري بأمره رخاء، والرخاء اللين؟ أجيب: بأنها كانت تحت أمره إن أراد أن تشتدّ اشتدّت، وإن أراد أن تلين لانت، وقيل: كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم، فإذا مرّت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة على ما قال تعالى: {غدوها شهر ورواحها شهر} (سبأ، 12)
(5/387)
---
وقوله تعالى: {تجري بأمره} أي: بمشيئته حال ثانية أو بدل من الأوّل أو حال من ضميرها {إلى الأرض التي باركنا فيها} أي: الشام، وذلك أنها كانت تجري بسليمان وأصحابه إلى حيث شاء سليمان، ثم يعود إلى منزله بالشام.(1/2537)
قال وهب بن منبه: كان سليمان عليه السلام إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام إليه الجنّ والإنس حتى يجلس على سريره، وكان امرأً غزاء قلما يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا أتاه حتى يذله، فكان إذا أراد الغزو أمر بعسكره فضرب له بخشب ثم نصب له على الخشب ثم حمل عليه الناس والدواب وآلة الحرب فإذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته حتى إذا استقلت به أمر الرخاء فمرت به شهراً في روحته، وشهراً في غدوته إلى حيث أراد، وكانت تمر بعسكره الريح الرخاء بالمزرعة، فما تحركها ولا تثير تراباً، ولا تؤذي طائراً.
وقال مقاتل: نسجت الشياطين لسليمان بساطاً فرسخاً في فرسخ ذهباً في إبريسم، وكان يوضع له منبر من الذهب في وسطه البساط، فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة تقعد الأنبياء عليهم السلام على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجنّ والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح، ومن الرواح إلى الغروب.
وقال سعيد بن جبير: كان يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي تجلس الإنس ما يليه، ثم تليهم الجنّ، ثم تظلهم الطير، ثم تحملهم الريح، وقال الحسن لما شغلت الخيل نبيّ الله سليمان حتى فاتته صلاة العصر غضب لله فعقر الخيل، فأبدله الله مكانها خيراً منها، وأسرع وهي الريح تجري بأمره كيف يشاء، فكان يغدو من إيلياء فيقيل بإصطخر، ثم يروح منها، فيكون رواحها ببابل.
(5/388)
---(1/2538)
وقال ابن زيد: كان له مركب من خشب، وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت تركب معه فيه الجنّ والإنس تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك الركن، فإذا ارتفعت أتت الريح الرخاء، فسارت به وبهم يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر، ولا يدري القوم إلا وقد أظلهم معه الجيوش {وكنا} أي: أزلاً وأبداً بإحاطة العظمة {بكل شيء} أي: من هذا وغيره من أمره وغيره {عالمين} ومن علمنا أنّ ذلك لا يزيدهم إلا تواضعاً، وكما سخرنا الريح له سخرناها للنبيّ صلى الله عليه وسلم ليالي الأحزاب قال حذيفة رضي الله عنه حتى كانت تقذفهم بالحجارة ما تجاوز عسكرهم، فهزمهم الله تعالى بها، وردّوا بغيظهم لم ينالوا خيراً وأعطي صلى الله عليه وسلم أعمّ مما أعطي جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد أعطي صلى الله عليه وسلم التصرف في العالم العلوي الذي جعل الله تعالى منه الفيض على العالم السفلي بالاحتراق لطباقه بالإسراء تارة وبإمساك المطر لما دعا بسبع كسبع يوسف عليه السلام وبإرساله أخرى كما في أحاديث كثيرة، وأتى مع ذلك بمفاتيح خزائن الأرض كلها، فردّها صلى الله عليه وسلم.
{ومن} أي: وسخرنا لسليمان من {الشياطين} الذين هم أكثر شيء تمرداً وعتواً {من يغوصون له} أي: يدخلون في البحر، فيخرجون منه الجواهر وغيرها من المنافع وذلك بأن أكثفنا أجسامهم مع لطافتها لتقبل الغوص في الماء معجزة في معجزة، وقد خنق نبينا صلى الله عليه وسلم العفريت الذي جاءه بشهاب من نار، وأسر جماعة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم عفاريت أتوا إلى تمر الصدقة، وأمكنهم الله تعالى منهم {ويعملون عملاً دون ذلك} أي: سوى الغوص كبناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة كقوله تعالى: {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل} (سبأ، 13)
(5/389)
---(1/2539)
الآية {وكنا لهم حافظين} أي: حتى لا يخرجوا عن أمره، وقال الزجاج: معناه: حفظناهم من أن يفسدوا ما عملوا، وكان من عادة الشياطين إذا عملوا عملاً بالنهار، وفرغوا منه قبل الليل أفسدوه وخربوه، وفي القصة أن سليمان كان إذا بعث شيطاناً مع إنسان ليعمل له عملاً قال له: إذا فرغ من عمله قبل الليل فأشغله بعمل آخر لئلا يفسد ما عمل ويخربه.
القصة السادسة: قصة أيوب عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:
{س21ش83 وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ?? أَنِّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }
{وأيوب} أي: واذكر أيوب ويبدل منه {إذ نادى ربه} قال وهب بن منبه: كان أيوب عليه السلام رجلاً من الروم وهو أيوب بن أموص بن رزاح بن روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، وكانت أمّه من ولد لوط بن هاران، وكان الله تعالى قد اصطفاه ونبأه وبسط عليه الدنيا.
وكانت له الثنية من أرض البلقاء من أعمال حوران من أرض الشام كلها سهلها وجبلها، وكان له فيها من أصناف المال كله من الإبل والبقر والغنم، والخيل والحمير ما لا يكون لرجل أفضل منه في العدّة والكثرة.u
وكان له خمسمائة فدّان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وعبد وولد ومال، ويحمل آلة كل فدّان أتان لكل أتان من الولد اثنان أو ثلاث أو أربع أو خمس وفوق ذلك.
وكان الله تعالى قد أعطاه أهلاً وولداً من رجال ونساء، وكان برّاً تقياً رحيماً بالمساكين يطعمهم ويكفل الأيتام والأرامل، ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل، وكان شاكراً لأنعم الله مؤدياً لحق الله تعالى قد امتنع من عدو الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من الغرّة والغفلة والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا.
(5/390)
---(1/2540)
وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به وصدقوه رجل من اليمن يقال له اليفن، ورجلان من بلده يقال لأحدهما بلدد، والآخر صابر، وكانوا كهولاً، وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السموات، وكان يقف فيهنّ حيثما أراد حتى رفع الله تعالى عيسى عليه السلام ، فحجب من أربع، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم عن السموات كلها إلا من استرق السمع، فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب عليه السلام ، وذلك حين ذكره الله تعالى وأثنى عليه، فأدركه البغي والحسد، فصعد سريعاً حتى وقف من السماء موقفاً كان يقفه، فقال: إلهي نظرت في أمر عبدك أيوب، فوجدته عبداً أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك، ولو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما هو عليه من شكرك وعبادتك، ولخرج من طاعتك؛ قال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ماله، فانقض عدو الله إبليس حتى وقع على الأرض، ثم جمع عفاريت الجنّ ومردة الشياطين وقال لهم: ماذا عندكم من القوّة، فإني قد سلطت على مال أيوب وهي المصيبة الفادحة، والفتنة التي لا تصبر عليها الرجال، فقال عفريت من الشياطين: أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من نار، وأحرقت كل شيء آتى عليه؛ قال إبليس: فأت الإبل ورعاتها، فأتى الإبل، وقد وضعت رؤوسها ورعت في مراعيها، فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار لا يدنو منها أحد إلا احترق، فأحرق الإبل ورعاتها حتى أتى على آخرها.
(5/391)
---(1/2541)
ثم جاء عدو الله إبليس في صورة قبيحة على قعود إلى أيوب، فوجده قائماً يصلي فقال: يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك، فأحرقتها ومن فيها غيري، فقال أيوب: الحمد لله الذي أعطانيها، وهو أخذها وإنها مال الله أعارنيها، وهو أولى بها إذا شاء تركها، وإذا شاء نزعها، وقديماً كنت وطنت نفسي ومالي على الفناء؛ قال إبليس: فإن الله ربك أرسل عليها ناراً من السماء، فاحترقت، فتركت الناس مبهوتين يتعجبون منها؛ منهم من يقول: ما كان أيوب يعبد شيئاً وما كان أيوب إلا في غرور، ومنهم من يقول: لو كان إله أيوب يقدر على أن يصنع شيئاً لمنع وليه، ومنهم من يقول: بل هو الذي فعل ليشمت به عدوّه ويفجع صديقه، فقال أيوب: الحمد لله حين أعطاني، وحين نزع مني عرياناً خرجت من بطن أمي، وعرياناً أعود في التراب، وعرياناً أحشر إلى الله عز وجل ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعطاك الله وتجزع حين قبض الله على عاريته الله أولى بك وبما أعطاك، ولو علم الله تعالى فيك أيها العبد خيراً لنقل روحك مع تلك الأرواح، وصرت شهيداً، ولكنه علم منك شرّاً، فأخرجك فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئاً ذليلاً، فقال لهم: ماذا عندكم من القوّة فإني لم أكلم قلبه؟ قال عفريت: عندي من القوّة ما إذا شئت صحت صيحة لا يسمعها ذو روح إلا خرجت روحه؛ قال إبليس: فأت الغنم ورعاتها، فانطلق حتى توسطها، ثم صاح صيحة فتجثمت أمواتاً من عند آخرها، وماتت رعاتها.
ثم جاء إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاة إلى أيوب وهو يصلي فقال له مثل القول الأول، فردّ عليه أيوب مثل الردّ الأوّل، ثم رجع إبليس إلى أصحابه فقال: ماذا عندكم من القوّة، فإني لم أكلم قلب أيوب، فقال عفريت: عندي من القوّة ما إذا شئت تحولت ريحاً عاصفاً تنسف كل شيء تأتي عليه، قال: فأتِ الفدادين والحرث، فانطلق حين شرع الفدادون في الحرث والزرع، فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصف فنسفت كل شيء من ذلك حتى كأنه لم يكن.
(5/392)
---(1/2542)
ثم جاء إبليس متمثلاً بقهرمان الحرث إلى أيوب وهو قائم يصلي، فقال له مثل قوله الأوّل، فردّ عليه أيوب مثل ردّه الأوّل، وجعل إبليس يهلك أمواله مالاً مالاً حتى مرّ على آخره كلما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمد الله تعالى، وأحسن الثناء عليه ورضي عنه بالقضاء، ووطن نفسه بالصبر على البلاء حتى لم يبق له مال، فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله ولم ينجح منه بشيء صعد سريعاً حتى وقف في الموقف الذي يقف فيه وقال: إلهي إنّ أيوب يرى أنك ما متعته بولده، فأنت تعطيه المال، فهل أنت مسلطي على ولده، فإنها المصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال.
قال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ولده، فانقض عدوّ الله إبليس حتى جاء بني أيوب وهم في قصرهم، فلم يزل يزلزله بهم حتى تداعى من قواعده وجعل جدره يضرب بعضها بعضاً، ويرميهم بالخشب والحجارة حتى مثل بهم كل مثلة ورفع القصر فقلبه، فصاروا منكبين وانطلق إلى أيوب متمثلاً بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه، فأخبره وقال: لو رأيت بنيك كيف عذبوا وقلبوا فكانوا منكبين على رؤوسهم تسيل دماؤهم، ولو رأيت كيف شقت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم لقطع قلبك، فلم يزل يقول: هذا أو نحوه حتى رق قلب أيوب وبكى، وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه وقال: ليت أمّي لم تلدني، فاغتنم إبليس ذلك، فصعد سريعاً بالذي كان من جزع أيوب مسروراً به، ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر واستغفر، فصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته، فسبقت توبته إلى الله عزّ وجلّ، وهو أعلم، فوقف إبليس خاسئاً ذليلاً.
(5/393)
---(1/2543)
وقال: إلهي إنما هوّن على أيوب المال والولد إنه يرى أنك ما متعته بنفسه، فإنك تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده، فقال الله عزّ وجلّ: انطلق فقد سلطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه ولا على عقله، وكان الله عز وجل أعلم به لم يسلطه عليه إلا رحمة لأيوب ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين وذكرى للعالمين في كل بلاء نزل بهم ليتأسوا به في الصبر ورجاء الثواب، فانقض عدوّ الله سريعاً فوجد أيوب في مصلاه ساجداً، فعجل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قبل وجهه، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها سائر جسده، فخرج من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم، ووقعت فيه حكة، فحك بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها، ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة، فلم يزل يحكها حتى بقل لحمه، وتقطع وتغير وأنتن، وأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة، وجعلوا له عريشاً فرفضه خلق الله كلهم غير امرأته، وهي رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، فكانت تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه، ولما رأى الثلاثة من أصحابه وهم اليفن وبلدد وصابر ما ابتلاه الله تعالى به اتهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه، فلما طال به البلاء انطلقوا إليه، فبكتوه ولاموه، وقالوا له: تب إلى الله تعالى من الذنب الذي عوقبت عليه، قال وحضره معهم فتى حديث السنّ قد آمن به وصدّقه فقال لهم: إنكم تكلمتم أيها الكهول، وأنتم أحق بالكلام مني لأسنانكم، ولكنكم تركتم من القول أحسن من الذي قلتم، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم، وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم؛ ألم تعلموا أنه أيوب نبي الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض إلى يومكم هذا، ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه قد سخط(1/2544)
(5/394)
---
شيئاً من أمره منذ ما آتاه الله ما آتاه إلى يومكم هذا ولا أنه نزع شيئاً منه من الكرامة التي أكرمه بها، ولا أنّ أيوب قال على الله غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله تعالى يبتلي المؤمنين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وليس بلاؤه لأولئك على سخطه عليهم، ولا لهوانه لهم، ولكنها كرامة وخبرة لهم، ولو كان أيوب ليس من الله بهذه المنزلة إلا أنه أخ آخيتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل بالحكيم أن يعذل أخاه عند البلاء ولا يعيره بالمصيبة، ولا يعيبه بما لا يعلم وهو مكروب حزين، ولكنه يرحمه ويبكي معه، ويستغفر له، ويحزن لحزنه ويدله على أرشد أمره، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا، فالله الله أيها الكهول، فقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم، ويكسر قلوبكم، ألم تعلموا أنّ لله عباداً أسكتتهم خشيته من غير عيّ، ولا بكم، وإنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الألباء العالمون بالله، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم، واقشعرّت جلودهم، وانكسرت قلوبهم، وطاشت عقولهم إعظاماً لله وإجلالاً له، فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعدّون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأبرار براء، ومع المقصرين المفرطين، وإنهم لأكياس أقوياء.
(5/395)
---(1/2545)
فقال أيوب: إنّ الله سبحانه وتعالى يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فمتى ثبتت في القلب يظهرها الله تعالى على اللسان، وليست تكون الحكمة من قبل السن والشيبة، ولا طول التجربة، وإذا جعل الله العبد حكيماً في الصبا لم تسقط منزلته عند الحكماء، وهم يرون عليه من الله تعالى نور الكرامة، ثم أعرض عنهم أيوب عليه السلام يعني الثلاثة وقال: أتيتموني غضاباً رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم قبل أن تضربوا، فكيف بي لو قلت تصدقوا عليَّ بأموالكم لعل الله أن يخلصني، أو قربوا قرباناً لعل الله أن يتقبله ويرضى عني، وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم، وظننتم أنكم عوضتم بإحسانكم، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم، ثم صدقتم لوجدتم لكم عيوباً قد سترها الله تعالى بالعافية التي ألبسكم، وقد كنتم فيما خلا توقرونني وأنا مسموع كلامي معروف حقي منتصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام، وأنتم كنتم أشد عليّ من مصيبتي، ثم أعرض عنهم أيوب وأقبل على ربه مستعيناً به مستغفراً متضرّعاً إليه.
(5/396)
---(1/2546)
فقال: يا رب لأيّ شيء خلقتني ليتني إذ كرهتني لم تخلقني يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت، فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتني، فألحقتني بآبائي، فالموت كان أجمل بي؛ ألم أكن للغريب داراً وللمسلمين قراراً، ولليتيم ولياً، وللأرملة قيماً؛ إلهي أنا عبدك إن أحسنت إليّ فالمنّ لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي؛ جعلتني للبلاء غرضاً وللفتنة نصباً، وقد وقع بي بلاء لو سلطته على جبل ضعف عن حمله، فكيف يحمله ضعفي، فإن قضاءك هو الذي أذلني، وإنّ سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي، فأدلي بعذري، وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عني، فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه، فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظنّ أصحابه أنه عذاب.
(5/397)
---(1/2547)
ثم نودي: يا أيوب إنّ الله تعالى يقول: ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريباً، قم فأدل بعذرك وتكلم بحجتك، وخاصم عن نفسك، واشدد أزرك، وقم مقام جبار يخاصم جباراً إن استطعت، فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي؛ لقد منتك نفسك يا أيوب أمراً ما بلغ مثله قوتك أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها؟ هل كنت معي تمدّ بأطرافها؟ هل أنت علمت بأي مقدار قدرتها أم على أي: شيء وضعت أكنافها؟ أبطاعتك حمل الماء الأرض أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء؟ أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفاً في الهواء لا تعلق بسبب من فوقها، ولا يقلها دعم من تحتها؟ هل تبلغ من حكمتك أن تجري نورها أو تسير نجومها، أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها؟ أين أنت مني يوم أنبعت الأنهار، وسكرت البحار؟ أبسلطانك حبست أمواج البحار على حدودها أم قدرتك فتحت الأرحام حتى بلغت مدتها؟ أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال؟ هل تدري على أيّ شيء أرسيتها، أم بأيّ مثقال وزنتها؟ أم هل لك من ذراع تطيق حملها؟ أم هل تدري أين الماء الذي أنزلت من السماء؟ أم هل تدري من أيّ شيء أنشىء السحاب؟ أم هل تدري أين خزانة الثلج؟ أم أين جبال البرد؟ أم أين خزانة الليل بالنهار، وخزانة النهار بالليل؟ وأين خزانة الريح؟ وبأي لغة تتكلم الأشجار؟ من جعل العقول في أجواف الرجال؟ ومن شق الأسماع والأبصار؟ ومن دانت الملائكة لملكه، وقهر الجبارين بجبروته، وقسم الأرزاق بحكمته؟ في كلام كثير يدل على كمال قدرته ذكرها لأيوب.
(5/398)
---(1/2548)
فقال أيوب عليه الصلاة والسلام: كلّ شأنيّ وكلّ لساني وكل عقلي ورأيي وضعفت قوّتي عن هذا الأمر الذي تعرض لي يا إلهي، قد علمت أن كل الذي ذكرت صنع يدك، وتدبير حكمتك، وأعظم من ذلك وأعجب لو شئت عملت، لا يعجز عنك شيء، ولا تخفى عليك خافية؛ أذلني البلاء يا إلهي، فتكلمت فكان البلاء هو الذي أنطقني، فليت الأرض انشقت بي فذهبت فيها، ولم أتكلم بشيء يسخط ربي وليتني مت بغمي في أشدّ بلائي قبل ذلك، إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني وسكت حين سكت لترحمني كلمة زلت مني فلم أعد قد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني، وألصقت بالتراب خدي أعوذ بك اليوم منك وأستجير بك من جهد البلاء، فأجرني، وأستغيث بك من عقابك فأغثني، وأستعين بك على أمري فأعني، وأتوكل عليك فاكفني، وأعتصم بك فاعصمني، وأستغفرك فاغفر لي فلن أعود لشيء تكرهه مني.
قال الله تعالى: يا أيوب نفذ فيك علمي وسبقت رحمتي غضبي، فقد غفرت لك.
(5/399)
---(1/2549)
فقال أيوب: {أني} قد {مسّني الضّرّ} بتسليطك الشيطان عليَّ في بدني وأهلي ومالي، وقد طمع الآن في ديني وذلك أنه زين لامرأة أيوب أن تأمره أن يذبح لصنم فإنه يبرأ ثم يتوب، ففطن لذلك، وحلف ليضربنها إن برأ مائة جلدة، وقال وهب: لبث أيوب في البلاء ثلاث سنين، وروي عن أنس يرفعه «أنّ أيوب لبث ببلائه ثمان عشرة سنة»، وقال كعب سبع سنين، وقال الحسن: مكث أيوب مطروحاً على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وشهراً يختلفون في الدواء ولا يقربه أحد غير امرأته رحمة صبرت معه تحمد الله معه إذا حمد وأيوب مع ذلك لا يفتر عن ذكر الله تعالى والصبر على بلائه، فلما غلب أيوب إبليس ولم يستطع منه شيئاً اعترض امرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال على مركب ليس من مراكب الناس له عظم وبهاء وكمال، فقال لها: أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى؛ قالت: نعم، قال: هل تعرفيني قالت: لا فقال لها أنا إله الأرض، وأنا الذي صنعت بصاحبك لأنه أطاع إله السماء، وتركني فأغضبني، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كل ما كان من مال وولد، وأراها إياهم ببطن الوادي الذي لقيها فيه؛ قال وهب: وقد سمعت أنه إنما قال لها: لو أن صاحبك أكل طعاماً ولم يسم عليه لعوفي مما به من البلاء، وفي بعض الكتب أن إبليس قال لها: اسجدي لي سجدة حتى أرد عليك المال والأولاد وأعافي زوجك فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها، وما أراها قال: لقد أتاك عدوّ الله ليفتنك عن دينك، ثم أقسم أن الله عافاه ليضربنها مائة جلدة، وعند ذلك قال: مسني الضرّ من طمع إبليس في سجود حرمتي ودعائه إياها وإياي إلى الكفر {وأنت} أي: والحال أنت {أرحم الراحمين} فافعل بي ما يفعل الرحمن بالمضرور، وهذا تعريض بسؤال الرحمة حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة، ولم يصرّح فكان ذلك ألطف في السؤال، فهو أجدر بالنوال.
(5/400)
---(1/2550)
ويحكى أنّ عجوزاً تعرّضت لسليمان بن عبد الملك فقالت: يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتي على العصا، فقال لها: ألطفت في السؤال لا جرم لأردّنّها تثب وثب الفهود، وملأ بيتها حباً، ثم إنّ الله تعالى رحم رحمة امرأة أيوب بصبرها معه على البلاء وخفف عليها، وأراد أن يبر يمين أيوب فأمره أن يأخذ ضغثاً يشتمل على مائة عود صغار، فيضربها به ضربة واحدة كما قال الله تعالى في آية أخرى: {وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث} (ص، 44)
وروي أنّ إبليس اتخذ تابوتاً وجعل فيه أدوية وجلس على طريق امرأة أيوب يداوي الناس فمرت به امرأة أيوب، فقالت: إنّ لي مريضاً أفتداويه قال: نعم ولا أريد شيئاً إلا أن يقول إذا شفيته: أنت شفيتني، فذكرت ذلك لأيوب فقال: هو إبليس قد خدعك وحلف إن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة جلدة، وقال وهب وغيره: كانت امرأة أيوب تعمل للناس وتجيئه بقوته، فلما طال عليه البلاء سئمها الناس فلا يستعملها أحد، فالتمست له يوماً من الأيام ما تطعمه فما وجدت شيئاً، فجزت قرناً من رأسها فباعته برغيف فأتته به، فقال لها: أين قرنك، فأخبرته فحينئذٍ قال: مسني الضرّ، وقال قوم: إنما قال ذلك حين قصد الدود إلى قلبه ولسانه، فخشي أن يمتنع عن الذكر والفكر، وقال حبيب بن أبي ثابت: لم يدع الله تعالى بالكشف حتى ظهرت له ثلاثة أشياء.
أحدها: قدم عليه صديقان حين بلغهما خبره، فجاءا إليه ولم تبق إلا عيناه، ورأيا أمراً عظيماً فقالا: لو كان عند الله لك منزلة ما أصابك هذا.
والثاني: أنّ امرأته طلبت طعاماً.
فلم تجد ما تطعمه، فباعت ذؤابتها، وحملت إليه طعاماً.
(5/401)
---(1/2551)
والثالث: قول إبليس إني أداويه على أن يقول: أنت شفيتني، وقيل: إن إبليس وسوس إليه أن امرأته زنت، فقطعت ذؤابتها فحينئذٍ عيل صبره، وحلف ليضربنها مائة جلدة، وقيل معناه مسني الضرّ من شماتة الأعداء، وقيل: قال ذلك حين وقعت دودة من فخذه فردّها إلى موضعها، وقال: كلي جعلني الله طعامك، فعضته عضة زاد ألمها على جميع ما قاسى من عض الديدان فإن قيل: إن الله تعالى سماه صابراً، وقد أظهر الشكوى والجزع بقوله: أني مسني الضرّ، ومسني الشيطان بنصب؟ أجيب: بأن هذا ليس بشكاية إنما هو دعاء بدليل قوله تعالى:
{س21ش84/ش86 فَاسْتَجَبْنَا لَهُ? فَكَشَفْنَا مَا بِهِ? مِن ضُرٍّ? وَءَاتَيْنَاهُ أَهْلَهُ? وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ? كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِى رَحْمَتِنَآ? إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ }
{فاستجبنا له} والجزع إنما هو الشكوى إلى الخلق، وأما الشكوى إلى الله تعالى، فلا يكون جزعاً، ولا ترك صبر، كما قال يعقوب عليه السلام : {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} (يوسف، 86)
وقال سفيان بن عيينة من أظهر الشكوى إلى الناس وهو راض بقضاء الله تعالى لا يكون ذلك جزعاً، كما روي «أن جبريل عليه السلام دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تجدك، قال: أجدني مغموماً أجدني مكروباً»، وقال صلى الله عليه وسلم «لعائشة رضي الله تعالى عنها حين قالت: وارأساه، بل أنا وارأساه» وروي أن امرأة أيوب قالت له يوماً: لو دعوت الله فقال لها: كم كانت مدّة الرخاء، فقالت: ثمانين سنة، فقال: أستحي من الله أن أدعوه وما بلغت مدّة بلائي مدّة رخائي، ثم تسبب عن الإجابة قوله تعالى: {فكشفنا} أي: بما لنا من العظمة {ما به من ضرّ} بأن أمرناه أن يركض برجله فتنبع له عين من ماء كما قال تعالى: {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} (ص، 42)
(5/402)
---(1/2552)
فركض برجله، فانفجرت له عين ماء فدخل فيها فاغتسل، فأذهب الله تعالى كل ما كان به من البلاء بظاهره، ثم مشى أربعين خطوة، فأمره أن يضرب برجله الأرض مرّة أخرى، ففعل، فنبع عين ماء بارد، فأمره فشرب منها فذهب كل داء كان بباطنه، فصار كأصح ما يكون من الرجال وأجملهم، فأقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه، فلم تجده، فقامت كالوالهة، ثم جاءت إليه وهي لا تعرفه، فقالت: يا عبد الله هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان ههنا؟ قال: نعم وما لي لا أعرفه، فتبسم وقال: أنا هو، فعرفته بضحكه، فاعتنقته قال ابن عباس: فوالذي نفس عبد الله بيده ما فارقته من عناقه حتى ردّ لهما كل ما كان لهما كما قال تعالى: {وآتيناه أهله} أي: أولاده الذكور والإناث بأن أحيوا له وكل من الصنفين ثلاث أو سبع {ومثلهم معهم} أي: من زوجته رحمة، وزيد في شبابها هذا ما دل عليه أكثر المفسرين، وقيل: آتاه الله تعالى المثل من نسل ماله وولده الذي رده إليه، أي: فولد له من ولده نوافل، وقال: وهب كان له سبع بنات، وثلاثة بنين، وروى الضحاك عن ابن عباس رد إلى امرأته شبابها، فولدت له ستة وعشرين ذكراً، وقال قوم: آتى الله تعالى أيوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا، فأمّا الذين هلكوا فإنهم لم يردّوا عليه في الدنيا، وقال عكرمة: قيل لأيوب: إنّ أهلك لك في الآخرة، وإن شئت عجلناهم لك في الدنيا، وإن شئت كانوا لك في الآخرة، وآتيناك مثلهم في الدنيا، فعلى هذا يكون معنى الآية: وآتيناه أهله في الآخرة ومثلهم معهم في الدنيا، فقال: يكونون لي في الآخرة، وأوتي مثلهم في الدنيا، وروي عن أنس يرفعه «كان لأيوب أندران؛ أندر للقمح، وأندر للشعير، فبعث الله تعالى سحابتين، فأفرغت إحداهما على أندر القمح الذهب، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاض» وروي أن الله تعالى بعث إليه ملكاً فقال: إن ربك يقرئك السلام بصبرك فاخرج إلى أندرك فخرج إليه فأرسل عليه جراداً من ذهب قيل: إنه لما اغتسل(1/2553)
(5/403)
---
وخرج الدود منه جعل الله تعالى لها أجنحة، فطارت فجعلها الله تعالى جراداً من ذهب، وأمطرت عليه، فطارت واحدة فاتبعها وردّها إلى أندره، فقال له الملك: أما يكفيك ما في أندرك، فقال: هذا بركة من بركات ربي، ولا أشبع من بركته، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بينما أيوب يغتسل عرياناً خرَّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك»، وقوله تعالى: {رحمة} مفعول له: أي: نعمة عظيمةوفخمها بقوله تعالى: {من عندنا} بحيث لا يشك من ينظر ذلك أنا ما فعلناه إلا رحمة منا له، وإنّ غيرنا لا يقدر على ذلك {وذكرى} أي: عظمة عظيمة {للعابدين} أي: كلهم ليتأسوا به، فيصبروا إذا ابتلوا ولا يظنوا أنّ ذلك إنما نزل بهم لهوانهم، ويشكروا فيثابوا كما أثيب، وقيل: لرحمتنا العابدين فإنا نذكرهم بالإحسان ولا ننساهم.l
القصة السابعة: قصة إسماعيل وإدريس وذي الكفل المذكورة في قوله تعالى:
{وإسماعيل} أي: واذكر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام الذي سخرنا له من الماء بواسطة الروح الأمين ما عاش به صغيراً بعدما كان هالكاً لا محالة، ثم جعلناه طعام طعم وشفاء سقم دائماً وصناه وهو كبير من الذبح حين رأى أبوه في المنام أنه يذبحه ورؤيا الأنبياء وحي، {وفديناه بذبح عظيم} (الصافات، 107)
(5/404)
---(1/2554)
{و} اذكر {إدريس} أي: ابن شيث بن آدم عليهم السلام الذي أحييناه بعد موته ورفعناه مكاناً عليا وهو أوّل نبيّ بعث من بني آدم عليهم السلام وتقدّمت قصته في سورة مريم {و} اذكر {ذا الكفل} سمي بذلك قال عطاء: لأن نبياً من أنبياء بني إسرائيل أوحى الله تعالى إليه أني أريد أن أقبض روحك، فاعرض ملكك على بني إسرائيل، فمن تكفل لك أن يصلي بالليل لا يفتر ويصوم بالنهار لا يفطر، ويقضي بين الناس ولا يغضب فادفع ملكك إليه، ففعل ذلك، فقام شاب فقال: أنا أتكفل لك بهذا، فتكفل ووفى به، فشكر الله له، ونبأه فسمي ذا الكفل، وقال مجاهد لما كبر إليسع قال: لو أني استخلفت رجلاً من الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل قال: فجمع الناس، فقال: من يقبل مني ثلاثاً أستخلفه يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب، فقام رجل فقال: أنا، فاستخلفه، فأتاه إبليس في صورة شيخ ضعيف حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام بالليل والنهار إلا تلك النومة، فدق الباب فقال: من هذا؟ فقال: شيخ كبير مظلوم، فقام ففتح الباب فقال: إنّ بيني وبين قومي خصومة، وإنهم ظلموني، وفعلوا ما فعلوا، وجعل يطوّل حتى ذهبت القائلة، فقال: إذا رحت فأتني فإني آخذ حقك، فانطلق وراح فكان في مجلسه ينظر هل يرى الشيخ، فلم يره فقام يتبعه فلم يجده، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينظره، فلم يره.
(5/405)
---(1/2555)
فلما رجع إلى القائلة، وأخذ مضجعه أتاه، فدق الباب، فقال من أنت؟ فقال: الشيخ المظلوم، ففتح له وقال: ألم أقل لك إذا قعدت فأتني، فقال: إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا: نحن نعطيك حقك، وإذا قمت جحدوني قال: فانطلق فإذا جلست فأتني وفاتته القائلة، فلما جلس جعل ينظر فلا يراه، وشق عليه النعاس فلما كان اليوم الثالث قال لبعض أهله: لا تدعوا هذا الرجل يقرب من هذا الباب حتى أنام، فإنه قد شق عليّ النعاس، فلما كانت تلك الساعة جاء، فلم يأذن له الرجل فلما أعياه نظر، فرأى كوّة في البيت فتسور منها فإذا هو في البيت يدق عليه الباب من داخل فاستيقظ فقال: يا فلان ألم آمرك قال: أما من قبلي فلم تؤت فانظر من أين أتيت فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه وإذا بالرجل معه في البيت، فقال: أتنام والخصوم ببابك، فقال: أعدوّ الله قال: نعم أعييتني ففعلت ما ترى لأغضبك، فعصمك الله تعالى، فسمي ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به، وقيل إن إبليس جاءه وقال: إن لي غريماً يظلمني، فأحب أن تقوم معي وتستوفي حقي منه، فانطلق معه حتى إذا كان في السوق خلاه وذهب وروي أنه اعتذر إليه وقال صاحبي هرب وقيل: إن ذا الكفل رجل كفل أن يصلي كل ليلة مائة ركعة إلى أن يقبضه الله تعالى، فوفى به واختلفوا في أنه هل كان نبياً؟ فقال الحسن: كان نبياً، وعن ابن عباس أنه إلياس، وقيل: هو زكريا، وقيل: هو يوشع بن نون، وقال أبو موسى: لم يكن نبياً، ولكن كان عبداً صالحاً، ولما قرن الله تعالى بين هؤلاء الثلاثة استأنف مدحهم بقوله تعالى {كلٌ} أي: كل واحد منهم {من الصابرين} على ما ابتليناه به فآتيناهم ثواب الصابرين
(5/406)
---(1/2556)
{وأدخلناهم في رحمتنا} أي: فعلنا بهم من الإحسان ما يفعله الراحم بمن يرحمه على وجه عمهم من جميع جهاتهم، فكان ظرفاً لهم، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إنهم من الصالحين} أي: لكل ما يرضاه تعالى منهم يعني أنهم جبلوا جبلة خير، فعملوا على مقتضى ذلك فكانوا من الكاملين في الصلاح وهم الأنبياء لأنّ صلاحهم معصوم عن كدر الفساد.
القصة الثامنة: قصة يونس عليه الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى:
(5/407)
---
{وذا النون} أي: واذكر صاحب الحوت وهو يونس بن متى ويبدل منه {إذ ذهب مغاضباً} واختلفوا في معنى ذلك، فقال الضحاك: مغاضباً لقومه، وهو رواية العوفي وغيره عن ابن عباس قال: كان قوم يونس يسكنون فلسطين، فغزاهم ملك فسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف، فأوحى الله تعالى إلى شعيب النبيّ عليه السلام أن سر إلى حزقيل الملك وقل له يوجه نبياً قوياً إلى هؤلاء فإني ألقي في قلوبهم الرعب حتى يرسلوا معه بني إسرائيل فقال له الملك فمن ترى؟ وكان في مملكته خمسة أنبياء فقال يونس: فإنه قويّ أمين، فدعا الملك يونس وأمره أن يخرج فقال يونس: هل أمرك الله بإخراجي قال: لا قال: فهل سماني لك، قال: لا، قال: فههنا أنبياء غيري أقوياء فألحوا عليه، فخرج من بينهم مغاضباً للنبيّ والملك ولقومه، فأتى بحر الروم فركبه، وقال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وجماعة ذهب عن قومه مغاضباً لربه إذا كشف عن قومه العذاب بعد ما وعدهم به وكره أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم واستحيا منهم، ولم يعلم السبب الذي رفع به العذاب عنهم،و كان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده وأن يسمى كذاباً لا كراهية الحكم لله تعالى.
وفي بعض الأخبار أنه كان من عادة قومه أن يقتلوا من جرب عليه الكذب، فخشي أن يقتلوه لما لم يأتهم العذاب للميعاد، فغضب والمغاضبة ههنا من المفاعلة التي تكون من واحد كالمنافرة والمعاقبة، فمعنى قوله مغاضباً أي: غضباناً.
(5/408)
---(1/2557)
وقال الحسن: إنما غاضب ربه من أجل أنه أمره بالمسير إلى قوم لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه، فسأل ربه أن ينظره ليذهب، فقيل له: إن الأمر أسرع من ذلك حتى سأله أن ينظره إلى أن يأخذ نعلاً يلبسها، فلم ينظره، وكان في خلقه ضيق، فذهب مغاضباً، وعن ابن عباس قال: أتى جبريل يونس فقال: انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم، قال التمس دابة قال: الأمر أعجل من ذلك، فغضب فانطلق إلى السفينة وقال وهب: إنّ يونس كان عبداً صالحاً، وكان في خلقه ضيق، فلما حمل عليه أثقال النبوّة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل، فقذفها بين يديه وخرج هارباً، فلذلك أخرجه الله تعالى من أولي العزم، فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} (الأحقاف، 35)، وقال: {ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم} (القلم، 48)
{فظن أن لن نقدر عليه} أي: لن نقضي عليه بالعقوبة قاله مجاهد وقتادة والضحاك، وقال عطاء وكثير من العلماء معناه، فظن أن لن نضيق عليه الحبس من قوله تعالى: {الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر} (الرعد، 26)
وعن ابن عباس أنه دخل على معاوية فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك، قال: وما هي يا معاوية؟ فقرأ هذه الآية فقال: أويظن نبيّ الله أن لن يقدر عليه، قال هذا من القدر الذي معناه الضيق لا من القدرة، وقال ابن زيد: هو استفهام معناه أفظن أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه {فنادى} أي: فاقتضت حكمتنا أن عاتبناه حتى يستسلم، فألقى نفسه في البحر، فالتقمه الحوت، فمكث فيه أربعين من بين يوم وليلة، وقال عطاء: سبعة أيام.
(5/409)
---(1/2558)
وقيل: إن الحوت ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة، وقيل: بلغ به تخوم الأرض السابعة، ومنعناه أن يكون له طعاماً، فنادى {في الظلمات} ظلمة الليل وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت وقيل: في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله تعالى: {ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات} (البقرة، 17)
وقوله: {يخرجهم من النور إلى الظلمات} (البقرة، 257)، وقيل: ابتلع حوته حوت أكبر منه فجعل في ظلمتي بطن الحوتين، وظلمة البحر {أن لا إله إلا أنت} ولما نزهه عن الشريك عمم فقال تعالى: {سبحانك} أي: تنزهت عن كل نقص فلا يقدر على الإنجاء مما أنا فيه إلا أنت، ثم أفصح بطلب الخلاص بقوله ناسباً إلى نفسه من النقص ما نزه الله عن مثله {إني كنت من الظالمين} أي: في خروجي من بين قومي قبل الإذن فاعف عني كما هي سيرة القادرين. روي عن أبي هريرة مرفوعاً «أوحى الله تعالى إلى الحوت أن خذه، ولا تخدش له لحماً، ولا تكسر له عظماً، فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه في البحر، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حساً فقال في نفسه: ما هذا، فأوحى الله تعالى إليه أنّ هذا تسبيح دواب البحر؛ قال: فسبح هو في بطن الحوت فسمع الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة، وفي رواية صوتاً معروفاً من مكان مجهول، فقال ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت، فقالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال نعم فشفعوا فيه عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال تعالى فنبذناه بالعراء وهو سقيم» فذلك قوله تعالى:
{فاستجبنا له} أي: أجبناه {ونجيناه من الغم} أي: من تلك الظلمات بتلك الكلمات {وكذلك} أي: وكما نجيناه {ننجي المؤمنين} من كربهم إذا استغاثوا بنا داعين قال الرازي في اللوامع: وشرط كل من يلتجىء إلى الله أن يبدأ بالتوحيد ثم بعده بالتسبيح والثناء، ثم بالاعتراف والاستغفار والاعتذار، وهذا شرط كل داع1.ه.
(5/410)
---(1/2559)
وعن النبي صلى الله عليه وسلم «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له»، وعن الحسن ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم، وقرأ ابن عامر وأبو بكر بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم على أنّ أصله ننجي، فحذفت النون الثانية كما حذفت التاء الثانية في تظاهرون، وهي إن كانت فاء فحذفها أوقع من حذف حرف المضارعة الذي لمعنى وقيل: هو ماض مجهول أسند إلى ضمير المصدر وهو النجاء، وقرأ الباقون بنونين الثانية مخفاة عند الجيم.
تنبيه: اختلفوا في متى كانت رسالة يونس عليه الصلاة والسلام فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس كانت بعد أن أخرجه الله تعالى من بطن الحوت بدليل قوله تعالى في سورة والصافات: {فنبذناه بالعراء} (الصافات، 145)، ثم ذكر بعده: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} (الصافات، 147)، وقال آخرون: إنها كانت من قبل بدليل قوله تعالى: {وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون، فساهم فكان من المدحضين، فالتقمه الحوت وهو مليم، فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} (الصافات، 144)
القصة التاسعة: قصة زكريا عليه الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى:
{وزكريا} أي: واذكر زكريا ويبدل منه {إذ نادى ربه} نداء الحبيب القريب فقال: {رب} بإسقاط أداة البعد {لا تذرني فرداً} أي: وحيداً من غير ولد ذكر يرث ما آتيتني من الحكمة {وأنت} أي: والحال أنك {خير الوارثين} أي: الباقي بعد فناء خلقك، وكثيراً ما تمنح إرث بعض عبيدك عبيداً آخرين، فأنت الحقيق بأن تفعل في إرثي من العلم والحكمة ما أحب، فتهبني ولداً تمنّ عليَّ به
(5/411)
---(1/2560)
{فاستجبنا له} بعظمتنا وإن كان في حدّ من السن لا حراك به معه، وزوجه في حال من العقم لا يرجى معه حبلها فكيف وقد جاوزت سن اليأس، ولذلك عبر بما يدل على العظمة، فقال تعالى: {ووهبنا له يحيى} ولداً وارثاً نبياً حكيماً عظيماً {وأصلحنا له} خاصة من بين أهل ذلك الزمان {زوجه} أي: جعلناها صالحة لكل خير خالصة له، فأصلحناها للولادة بعد عقمها، وأصلحناها لزكريا بعد أن كانت سريعة الغضب سيئة الخلق، فأصلحناها له ورزقناها حسن الخلق {إنهم} أي: الأنبياء الذين سماهم في هذه السورة وقيل: زكريا وزوجه ويحيى {كانوا} أي: جبلة وطبعاً {يسارعون في الخيرات} أي: الطاعات يبالغون في الإسراع بها مبالغة من يسابق آخر، ودل على عظيم أفعالهم بقوله تعالى: {ويدعوننا} مستحضرين لجلالنا وعظمتنا وكمالنا {رغباً} أي: طمعاً في رحمتنا {ورهباً} أي: خوفاً من عذابنا {وكانوا} أي: جبلة وطبعاً {لنا} خاصة {خاشعين} أي: خائفين خوفاً عظيماً يحملهم على الخضوع والانكسار، قال مجاهد: الخشوع هو الخوف اللازم للقلب، وقيل: متواضعين، وسئل الأعمش عن هذه الآية فقال: أما إني سألت إبراهيم فقال: ألا تدري؟ قلت: أفدني، قال: بينه وبين الله إذا أرخى ستره عليه وأغلق بابه فلير الله منه خيراً لعلك ترى أنه يأكل خشناً ويلبس خشناً ويطأطىء رأسه.
القصة العاشرة: قصة مريم وابنها عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى:
{والتي} أي: واذكر مريم التي {أحصنت فرجها} أي: حفظته من الحلال والحرام حفظاً يحق له أن يذكر ويتحدّث به كما قال تعالى حكاية عنها، {ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً} (مريم، 20)
(5/412)
---(1/2561)
؛ لأنّ ذلك غاية في العفة والصيانة والتخلي عن الملاذ إلى الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة مع ما جمعت مع ذلك من الأمانة والاجتهاد في متانة الديانة والصحيح أنها ليست بنبية {فنفخنا فيها من روحنا} أي: أمرنا جبريل حتى نفخ في جيب درعها فأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها، وأضاف الروح إليه تعالى تشريفاً لعيسى عليه السلام كبيت الله وناقة الله.
ثم بيّن تعالى ما خص مريم وعيسى من الآيات فقال تعالى: {وجعلناها وابنها} أي: قصتهما أو حالهما، ولذلك وحد قوله تعالى: {آية للعالمين} من الجنّ والإنس والملائكة، وإنّ تأمّل حالهما تحقق كمال قدرة الله تعالى فإن قيل: هلا قال تعالى آيتين كما قال تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين} (الإسراء، 12)
أجيب: بما تقدّم وبأن الآية كانت فيهما واحدة وهي أنها أتت به من غير فحل.
وههنا آخر القصص. ولما دل ما مضى من قصص هؤلاء الأنبياء عليهم السلام أنهم كلهم متفقون على التوحيد الذي هو أصل الدين قال تعالى:
{إن هذه} أي: ملة الإسلام {أمّتكم} أي: دينكم أيها المخاطبون أي: يجب أن تكونوا عليها حال كونها {أمة} قال البغوي وأصل الأمّة الجماعة التي هي على مقصد واحدأ. ه فجعل الشريعة أمّة لاجتماع أهلها على مقصد واحدأ. ه ثم أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله تعالى: {واحدة} فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان {وأنا ربكم} أي: المحسن إليكم لا غيري في كل زمان فإني لا أتغير على طول الدهر، ولا يشغلني شأن عن شأن {فاعبدون} دون غيري فإنه لا كفء لي، ثم إنّ بعضهم خالف الأمر بالاجتماع كما أخبر الله تعالى
{وتقطعوا} أي: بعض المخاطبين {أمرهم بينهم} أي: تفرقوا أمر دينهم متخالفين فيه وهم طوائف اليهود والنصارى؛ قال الكلبي: فرّقوا دينهم بينهم يلعن بعضهم بعضاً ويتبرأ بعضهم من بعض.
(5/413)
---(1/2562)
تنبيه: الأصل وتقطعتم إلا أنّ الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه إلى آخرين، ويقبح عليهم فعلهم عندهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله تعالى، والمعنى: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً كما يتوزع الجماعة الشيء ويقتسمونه بينهم، فيصير لهذا نصيب، ولذاك نصيب تمثيلاً لاختلافهم فيه وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً شتى، ثم توعدهم بقوله تعالى: {كلٌ} أي: من هذه الفرق وإن بالغ في التمرّد {إلينا} يوم القيامة {راجعون} فنحكم بينهم فيتسبب عن ذلك أنّا نجازيهم إقامة للعدل، فنعطي كلاً من المحق التابع لأصفيائنا والمبطل المائل إلى الشياطين أعدائنا ما يستحقه، وذلك هو معنى قوله تعالى فارقاً بين المحسن والمسيء تحقيقاً للعدل وتشويقاً إلى الفضل
{فمن يعمل} أي: منهم الآن {من الصالحات وهو} أي: والحال أنه {مؤمن} أي: يأتي بعمله على الأساس الصحيح {فلا كفران} أي: لا جحود {لسعيه} بل يشكر ويثاب عليه.
(5/414)
---
تنبيه: قوله تعالى: فلا كفران نفى الجنس ليكون أبلغ من أن يقول: فلا نكفر سعيه {وإنّا له} أي: لسعيه {كاتبون} أي: مثبتون في صحيفة عمله وما أثبتناه فهو غير ضائع فلا يفقد منه شيئاً قل أو جل، ومن المعلوم أنّ قسيمه وهو من يعمل من السيئات وهو كافر، فلا نقيم له وزناً، ومن يعمل منها وهو مؤمن فهو تحت مشيئتنا قال البقاعيّ: ولعله حذف هذين القسمين ترغيباً في الإيمان، ولما كان هذا غير صريح في أنَّ هذا الرجوع بعد الموت بيّنه بقوله تعالى:
{وحرام} أي: ممنوع {على قرية} أي: أهلها {أهلكناها} أي: بالموت {أنهم لا يرجعون} أي: إلينا بأن يذهبوا تحت التراب باطلاً من غير إحباس بل إلينا بموتهم راجعون فحبسناهم في البرزخ منعمين أو معذبين نعيماً أو عذاباً دون النعيم والعذاب الأكبر.
(5/415)
---(1/2563)
تنبيه: ما قدّرناه في الآية هو ما جرى عليه البقاعيّ والذي قدّره الزمخشري أنَّ معنى أهلكناها عزمنا على إهلاكها، أو قدّرنا إهلاكها، ومعنى الرجوع الرجوع من الكفر إلى الإسلام والإنابة، فتكون لا مزيدة والذي قدّره الجلال المحلي أنّ لا زائدة أي: يمتنع رجوعهم إلى الدنيا فيكون الإهلاك بالموت، وهذا قريب مما قاله ابن عباس فإنه قال: وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك، فجعل لا زائدة قال البغويّ وقال آخرون: الحرام بمعنى الواجب، فعلى هذا يكون لا ثابتاً ومعناه واجب على أهل قرية أهلكناهم أي: حكمنا بهلاكهم أن لا تتقبل أعمالهم لأنهم لا يرجعون أي: لا يتوبون والدليل على هذا المعنى أنه تعالى قال في الآية التي قبلها: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه} أي: يتقبل عمله، ثم ذكر هذه الآية عقبه وبين أنّ الكافر لايتقبل عمله انتهى والذي قدّره البيضاوي قريب مما قدّره الزمخشري وكل هذه التقادير صحيحة؛ لكن الأوّل أظهر، وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بكسر الحاء وسكون الراء والباقون بفتح الحاء والراء وألف بعد الراء قال البغوي: وهما لغتان مثل حل وحلال، وقوله تعالى:
(5/416)
---(1/2564)
{حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج} متعلق كما قال الزمخشري بحرام وحتى غاية له؛ لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة وهي حتى التي يحكى بعدها الكلام أي: فهي الابتدائية لا الجارّة ولا العاطفة والمحكي هو الجملة الشرطية، وقرأ ابن عامر بتشديد التاء بعد الفاء والباقون بالتخفيف ويأجوج ومأجوج اسمان أعجميان اسم لقبيلتين من جنس الإنس ويقدر قبله مضاف أي: سدّهما، وذلك قرب الساعة يقال الناس عشرة أجزاء؛ تسعة منها يأجوج ومأجوج، وقرأهما عاصم بهمزة ساكنة والباقون بالألف، ثم عبّر عن كثرتهم التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى بقوله تعالى: {وهم} أي: والحال أنهم {من كل حدب} أي: نشز عال من الأرض {ينسلون} أي: يسرعون من النسلان، وهو تقارب الخطا مع السرعة كمشي الذئب، وفي العبارة إيماء إلى أنّ الأرض كرة، وقيل: الضمير راجع إلى الناس المسوقين إلى المحشر. روي عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: «اطلع النبيّ صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر الساعة فقال صلى الله عليه وسلم ما تتذاكرون؟ قلنا: نتذاكر الساعة، قال: إنها لن تقوم الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكر الدجال والدخان والدابة وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام ، ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم»
{واقترب الوعد الحق} أي: يوم القيامة؛ قال حذيفة: لو أنّ رجلاً اقتنى فلواً بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} قال الكلبيّ: شخصت أبصار الكفار فلا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم.
(5/417)
---(1/2565)
تنبيه: فإذا هي إذا للمفاجأة وهي تقع في المجازاة سادّة مسدّ الفاء كقوله تعالى: {إذا هم يقنطون} (الروم، 36)، فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط، فيتأكد، ولو قيل: إذا هي شاخصة أو فهي شاخصة كان سديداً، قال سيبويه: والضمير للقصة بمعنى فإذا القصة شاخصة يعني القصة أنّ أبصار الذين كفروا تشخص عند ذلك، وقال الزمخشري: هي ضمير مبهم توضحه الأبصار، وتفسره كما فسر الذين ظلموا وأسروا النجوى وقولهم: {يا ويلنا} أي: هلاكنا متعلق بمحذوف تقديره: يقولون يا ويلنا، ويقولون في موضع الحال من الذين كفروا ويا للتنبيه {قد كنا} أي: في الدنيا {في غفلة من هذا} أي: اليوم حيث كذبنا وقلنا: إنه غير كائن، ثم أضربوا عن الغفلة فقالوا: {بل كنا ظالمين} أنفسنا بعدم اعتقاده واضعين الشيء في غير موضعه حيث أعرضنا عن تأمّل دلائله، والنظر في مخايله، وكذبنا الرسل وعبدنا الأوثان، وقوله تعالى:
d
{إنكم} خطاب لأهل مكة، وأكده لإنكارهم مضمون الخبر {وما تعبدون من دون الله} أي: غيره من الأوثان {حصب جهنم} أي: وقودها، وهو ما يرمى به إليها وتهيج به من حصبه يحصبه إذا رماه بالحصب والحصب في لغة أهل اليمن الحطب، وقال عكرمة: هو الحطب بالحبشية قال الضحاك: يعني يرمون بهم في النار كما يرمى بالحصب، وقوله تعالى: {أنتم لها واردون} أي: داخلون استئناف أو بدل من حصب جهنم، واللام معوضة من على للاختصاص والدلالة على أنّ ورودهم لأجلها
(5/418)
---(1/2566)
{لو كان هؤلاء} أي: الأوثان {آلهة} أي: كما زعمتم {ما وردوها} أي: ما دخل الأوثان وعابدوها النار، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية ياءً خالصة في الوصل بعد تحقيق الأولى، والباقون بتحقيقهما {وكل} أي: من العابدين والمعبودين {فيها} أي: في جهنم {خالدون} لا انفكاك لهم عنها بل يحمى بكل منهم فيها على الآخر فإن قيل: لم قرنوا بآلهتهم؟ أجيب: بأنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غم وحسرة حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم والنظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب؛ لأنهم قدروا أنهم يستشفعون في الآخرة وينتفعون بشفاعتهم، فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدروا لم يكن شيء أبغض إليهم منهم.
فإن قيل: إذا عنيت بما تعبدون الأوثان فما معنى قوله تعالى:
(5/419)
---(1/2567)
{لهم فيها زفير} أي: تنفس عظيم على غاية من الشدّة والمد تكاد تخرج معه النفس؟ أجيب: بأنهم إذا كانوا هم وأوثانهم في قرن واحد جاز أن يقال لهم: زفير، وإن لم يكن الزافرون إلا هم دون الأوثان للتغليب ولعدم الإلباس {وهم فيها لا يسمعون} شيئاً لشدّة غليانها، وقال ابن مسعود في هذه الآية: إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى عليها مسامير من نار فلا يسمعون شيئاً، ولا يرى أحد منهم أنّ أحداً يعذب في النار غيره، وروي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً فجلس إليهم، فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليهم إنكم وما تعبدون من دون الله الآية، فأقبل عبد الله بن الزبعري السلمي، فرآهم يتهامسون فقال: فيم خوضكم، فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله: أما والله لو وجدته لخصمته، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ابن الزبعري: أأنت قلت ذلك؟ قال: نعم، قال: قد خصمتك ورب الكعبة أليس اليهود عبدوا عزيراً والنصارى عبدوا المسيح، وبنو مليح عبدوا الملائكة، فقال صلى الله عليه وسلم بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك، فأنزل الله تعالى:
(5/420)
---(1/2568)
{إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} أي: الحكم بالموعدة البالغة في الحسن في الأزل، ومنهم من ذكر سواء أضل بأحد منهم الكفار فأطروه أم لا {أولئك} أي: العالو الرتبة {عنها} أي: جهنم {مبعدون} برحمة الله تعالى لأنهم أحسنوا في العبادة واتقوا، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وفي رواية ابن عباس «أن ابن الزبعرى لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك سكت ولم يجب، فضحك القوم، فنزل قوله تعالى: {ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدّون وقالوا: أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون}، ونزل في عيسى والملائكة أن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية، وقد أسلم ابن الزبعري بعد ذلك رضي الله تعالى عنه، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم وادّعى جماعة أنّ المراد من الآية الأصنام؛ لأنّ الله تعالى قال: وما تعبدون من دون الله، ولو أراد الملائكة والناس لقال: ومن تعبدون، يروى أن علياً رضي الله تعالى عنه قرأ هذه الآية ثم قال: أنا منهم، وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وابن الجراح، ثم أقيمت الصلاة فقام يجرّ رداءه وهو يقول:
(5/421)
---
{لا يسمعون حسيسها} أي: حركتها البالغة وصوتها الشديد، فكيف بما دونه؛ لأنّ الحس مطلق الصوت أو الصوت الخفي كما قاله البغوي، فإذا زادت حروفه زاد معناه، فذكر ذلك بدلاً من مبعدون أو حال من ضميره للمبالغة في إبعادهم عنها {وهم} أي: الذين سبقت لهم منا الحسنى {في ما اشتهت أنفسهم} في الجنة كما قال تعالى: {وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين} (الزخرف، 71)
والشهوة طلب النفس اللذة {خالدون} أي: دائماً أبداً في غاية التنعم وتقديم الظرف للاختصاص والاهتمام به.
فائدة: في هنا مقطوعة من ما ولما كان معنى ذلك أن سرورهم ليس له زوال أكده بقوله تعالى:
(5/422)
---(1/2569)
{لا يحزنهم الفزع الأكبر} قال الحسن: هو حين يؤمر بالعبد إلى النار، وقال ابن عباس: هو النفخة الأخيرة لقوله تعالى: {ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض} (النمل، 78)، وقال ابن جريج: هو حين يذبح الموت وينادى: يا أهل النار خلود بلا موت، وقال سعيد بن جبير هو أن تنطبق جهنم، وذلك بعد أن يخرج الله تعالى منها من يريد أن يخرجه {وتتلقاهم} أي: تستقبلهم {الملائكة} قال البغوي: على أبواب الجنة يهنونهم، وقال الجلال المحلي: عند خروجهم من القبور، ولا مانع أنها تستقبلهم في الحالين ويقولون لهم: {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} أي: هذا وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم به في الدنيا فأبشروا فيه بجميع ما يسركم، ولما كانت هذه الأفعال على غاية من الأهوال تتشوّف بها النفس إلى معرفة اليوم الذي تكون فيه قال تعالى:
{يوم} أي: تكون هذه الأشياء يوم {نطوي السماء} طياً، فتكون كأنها لم تكن ثم صوّر طيها بما يعرفونه، فقال مشبهاً للمصدر الذي دل عليه الفعل {كطيّ السجلّ}، واختلف في السجلّ فقال بعضهم: هو الكاتب الذي له العلوّ والقدرة على مكتوبه {للكتاب} أي: القرطاس الذي يكتبه ويرسله إلى أحد، وقال السدّي: هو ملك يكتب أعمال العباد، وقيل: كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم والكتاب على هذه الأقوال اسم للصحيفة المكتوب فيها، وقال ابن عباس ومجاهد والأكثرون: السجل الصحيفة والمعنى كطيّ الصحيفة على مكتوبها، والطي هو الدرج، وهو ضدّ النشر، وإنما وقع هذا الاختلاف؛ لأن السجل يطلق على الكتاب وعلى الكاتب قاله في القاموس، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الكاف والتاء على الجمع، والباقون بكسر الكاف وفتح التاء، وبين الكاف والتاء ألف على الإفراد، فقراءة الإفراد لمقابلة لفظ السماء والجمع للدلالة على أن المراد الجنس، فجميع السموات تطوى.
(5/423)
---(1/2570)
روي عن ابن عباس أنه قال: يطوي الله تعالى السموات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة يطوي ذلك كله بيمينه أي بقدرته، حتى يكون ذلك بمنزلة خردلة، وروي عن ابن عباس أنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: «أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً أي: غير مختونين» {كما بدأنا أوّل خلق نعيده} أي: كما بدأناهم في بطون أمهاتهم عراة غرلاً غير مختونين نعيدهم يوم القيامة؛ نظيره قوله تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرّة} (الأنعام، 94)
{وعداً} وأكد ذلك بقوله تعالى {علينا} وزاده بقوله تعالى: {إنّا كنّا} أي: أزلاً وأبداً على حالة لا تحول {فاعلين} أي: شأننا أن نفعل ما نريد لا كلفة علينا في شيء من ذلك، ثم إنه تعالى حقق ذلك بقوله تعالى:
{ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر} قال سعيد بن جبير ومجاهد الزبور جميع كتب الله تعالى المنزلة والذكر أمّ الكتاب الذي عنده، ومعناه من بعدما كتب ذكره في اللوح المحفوظ، وقال ابن عباس والضحاك: الزبور والتوراة والذكر الكتب المنزلة من بعد التوراة، وقال الشعبي: الزبور كتاب داود الذكر التوراة، وقيل: الزبور كتاب داود عليه السلام ، والذكر القرآن، وبعد بمعنى قبل كقوله تعالى: {وكان وراءهم ملك} (الكهف، 79)
أي: أمامهم، وقوله تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها} (النازعات، 30)
أي: قبله، وقرأ حمزة بضم الزاي والباقون بفتحها {أن الأرض} أي: أرض الجنة {يرثها عبادي} وحقق ذلك ما أفادته إضافتهم إليه بقوله تعالى: {الصالحون} أي: المتحققون بأخلاق أهل الذكر، المقبلون على ربهم الموحدون له، المشفقون من الساعة، الراهبون من سطوته، الراغبون في رحمته، الخاشعون له، فهذا عام في كل صالح، وقال مجاهد: يعني أمّة محمد صلى الله عليه وسلم دليله قوله تعالى: {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنة حيث نشاء} (الزمر، 74)(1/2571)
(5/424)
---
وقال ابن عباس: أراد أنّ أراضي الكفار يفتحها المسلمون، وهذا حكم من الله تعالى بإظهار الدين وإعزاز المسلمين، وقيل: أراد بالأرض الأرض المقدسة، وقيل: أراد جنس الأرض الشامل لبقاع أرض الدنيا كلها ولأرض المحشر والجنة وغير ذلك مما يعلمه الله تعالى، وجرى على هذا البقاعي في تفسيره، وقرأ حمزة بسكون الياء، والباقون بفتحها
{إنّ في هذا} أي: القرآن كما قاله البغوي {لبلاغاً} أي: وصولاً إلى البغية، فإن من اتبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجو من الثواب، وقيل: بلاغاً أي: كفاية يقال في هذا الشيء بلاغ وبلغة أي: كفاية، والقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر، وقال الرازي: هذا إشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة {لقوم عابدين} أي: عاملين به، وقال ابن عباس: عالمين، قال الرازي: والأولى أنهم الجامعون بين أمرين؛ لأن العلم كالشجرة، والعمل كالثمر والشجر بدون الثمر غير مفيد، والثمر بدون الشجر غير كائن، وقال كعب الأحبار هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم أهل الصلوات الخمس، وشهر رمضان، ولما كان هذا مشيراً إلى إرشادهم فكان التقدير فما أرسلناك إلا لإسعادهم عطف عليه قوله تعالى:
(5/425)
---(1/2572)
{وما أرسلناك} أي: على حالة من الأحوال {إلا} على حال كونك {رحمة للعالمين} كلهم أهل السموات وأهل الأرض من الجنّ والإنس وغيرهم طائعهم بالثواب وعاصيهم بتأخير العقاب الذي كنا نستأصل الأمم به، فنحن نمهلهم ونترفق بهم إظهاراً لشرفك، وإعلاء لقدرك، ثم نردّ كثيراً منهم إلى دينك ونجعلهم من أكابر أنصارك وأعاظم أعوانك بعد طول ارتكابهم الضلال، وارتباكهم في إشراك المحال، ومن أعظم ما يظهر فيه هذا الشرف في عموم الرحمة وقت الشفاعة العظمى يوم يجمع الله تعالى الأوّلين والآخرين، وتقوم الملائكة صفوفاً والثقلان وسطهم ، ويموج بعضهم في بعض من شدّة ما هم فيه يطلبون من يشفع لهم فيقصدون أكابر الأنبياء نبياً نبياً عليهم الصلاة والسلام، فيحيل بعضهم على بعض وكل منهم يقول: لست لها حتى ىأتوه صلى الله عليه وسلم فيقول: «أنا لها»، ويقوم معه لواء الحمد، فيشفعه الله تعالى، وهو المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، فهو صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق أجمعين، ولما أورد تعالى على الكفار الحجج في أن لا إله سواه وبيّن أنه أرسل رسوله رحمة للعالمين أتبع ذلك بأمره صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
(5/426)
---(1/2573)
{قل إنما يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد} أي: ما يوحى إلي في أمر الإله إلا وحدانيته وما إلهكم إلا إله واحد لم يوح إلي فيما تدّعون من الشركة غير ذلك فالأوّل من قصر الصفة على الموصوف، والثاني: من قصر الموصوف على الصفة والمخاطب بهما من يعتقد الشركة فهو قصر قلب، وقال الزمخشري: إنما لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم كقولك: إنما زيد قائم، وإنما يقوم زيد، وقد اجتمع المثالان في هذه الآية؛ لأن إنما يوحي إلي مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد وإنما إلهكم إله واحد بمنزلة إنما زيد قائم، وفائدة اجتماعهما الدلالة على أنّ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصور على استئثار الله تعالى بالوحدانية انتهى. ولما كان الوحي الوارد على هذه السنن موجباً أن يخلصوا التوحيد لله تعالى قال صلى الله عليه وسلم {فهل أنتم مسلمون} أي: منقادون لما يوحى إلي من وحدانية الإله، والاستفهام بمعنى الأمر أي: أسلموا
{فإن تولوا} أي: لم يقبلوا ما دعوتهم إليه {فقل} أي: لهم {آذنتكم} أي: أعلمتكم بالحرب كرجل بينه وبين أعدائه هدنة فأحس منهم بغدرة، فنبذ إليهم العهد وأشهر النبذ وأشاعه وآذنهم جميعاً بذلك، وقوله: {على سواء} حال من الفاعل والمفعول أي: مستوين في الإعلام به لم أطوه عن أحد منكم ولا أستبدّ به دونكم لتتأهبوا {وإن} أي: وما {أدري أقريب} جدّاً بحيث يكون قربه على ما يتعارفونه {أم بعيد ما توعدون} من غلب المسلمين عليكم أو عذاب الله أو القيامة المشتملة عليه، وإنّ ذلك كائن لا محالة ولا بدّ أن يلحقكم بذلك الذلة والصغار، وإن كنت لا أدري متى يكون ذلك؛ لأنّ الله تعالى لم يعلمني علمه، ولم يطلعني عليه، وإنما يعلمه الله تعالى
(5/427)
---(1/2574)
{إنه} تعالى {يعلم الجهر من القول} أي: مما يجهرون به من العظائم وغير ذلك، ونبه تعالى على ذلك فإنّ من أحوال الجهر أن ترتفع الأصوات جداً بحيث تختلط ولا يميز بينها ولا يعرف كثير من حاضريها ما قاله أكثر القائلين، فأعلم سبحانه وتعالى أنه لا يشغله صوت عن آخر، ولا يفوته شيء من ذلك ولو كثر {ويعلم ما تكتمون} مما تضمرونه في صدوركم من الأحقاد للمسلمين، ونظير ذلك قوله تعالى في أول السورة: {قل ربي يعلم القول في السماء والأرض} (الأنبياء، 4)
ومن لازم ذلك من المجازاة عليه بما يحق لكم من تعجيل وتأجيل فستعلمون كيف تخيب ظنونكم ويتحقق ما أقول فتنطقون حينئذٍ بأني صادق ولست بساحر ولا شاعر ولا كاهن، فهو من أبلغ التهديد، فإنه لا أبلغ من التهديد بالعلم، ولما كان الإمهال قد يكون نعمة وقد يكون نقمة قال:
{وإن} أي: وما {أدري} أن يكون تأخير عذابكم نعمة لكم كما تظنون أم لا {لعله} أي: تأخير العذاب {فتنة} أي: اختبار {لكم} ليظهر ما يعلمه منكم من السر لغيره لأنّ حالكم حال من يتوقع منه ذلك {ومتاع} لكم تتمتعون به {إلى حين} أي: بلوغ مدّة آجالكم التي ضربها لكم في الأزل، ثم يأخذكم بغتة وأنتم لا تشعرون، ولما كان لله أن يفعل ما يشاء من عدل وفضل، وكان من العدل جواز تعذيب الله تعالى الطائع وتنعيم المؤمن العاصي ، وكان صلى الله عليه وسلم قد بلغ الغاية في البيان لهم، وهم قد بلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه أمر الله تعالى أن يفوّض الأمر إليه تسلية له بقوله تعالى:
(5/428)
---(1/2575)
{قل رب} أيها المحسن إليّ {احكم} أي: أنجز الحكم بيني وبين قومي {بالحق} أي: بالأمر الذي يحق لكل منا من نصر وخذلان، وقرأ حفص بفتح القاف وألف بعدها، وفتح اللام بصيغة الماضي على حكاية رسول الله صلى الله عليه وسلم والباقون بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر فإن قيل: كيف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احكم بالحق والله تعالى لا يحكم إلا بالحق؟ أجيب: بأن الحق ههنا بمعنى العذاب، فكأنه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر، نظيره قوله: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} (الأعراف، 89)، وقال أهل المعاني: معناه رب احكم بحكمك الحق فحذف الحكم وأقيم الحق مقامه، والله تعالى يحكم بالحق طلب أم لم يطلب، ومعنى الطلب ظهور الرغبة من الطالب في حكمه الحق {وربنا} أي: المحسن إلينا أجمعين {الرحمن} أي: العام الرحمة لنا ولكم بإدرارها علينا، ولولا عموم رحمته لأهلكنا أجمعين، وإن كنا نحن أطعناه لأنّا لا نقدره حقّ قدره، {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} (فاطر، 45)
{المستعان} أي: المطلوب منه العون {على ما تصفون} من كذبكم على الله تعالى في قولكم: اتخذ الله ولداً، وعليّ في قولكم ساحر، وعلى القرآن في قولكم شعر قال الرازي: روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في حروبه، ولم يذكر له سنداً، وأما ما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ اقترب حاسبه الله حساباً يسيراً، وصافحه وسلم عليه كل نبيّ ذكر اسمه في القرآن»، فحديث موضوع والله تعالى أعلم بالصواب.
سورة الحج
مكية
إلا {ومن الناس من يعبد الله على حرف} الآيتين وإلا {هذان خصمان} الست آيات فمدنيات، وهي ثمان، وقيل: خمس أو ست أو سبع وسبعون آية.
(5/429)
---(1/2576)
{بسم الله} أي: الذي اقتضت عظمته خضوع كل شيء {الرحمن} الذي عمّ برحمته كل موجود {الرحيم} الذي خص بفضله من شاء من عباده. ولما ختمت السورة التي قبل هذه بالترهيب من الفزع الأكبر وطي السماء وإتيان ما يوعدون، وكان أعظم ذلك يوم الدين افتتحت هذه السورة بالأمر بالتقوى المنجية من هول ذلك اليوم بقوله تعالى:
(5/430)
---
{يا أيها الناس} أي: الذين تقدّم أوّل تلك أنه اقترب لهم حسابهم إن أريد أنّ ذلك عام وإلا فهم وغيرهم {اتقوا} أي: احذروا عقاب {ربكم} أي: المحسن إليكم بأنواع الإحسان بأن تجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية الطاعات، ولما أمرهم بالتقوى علل ذلك مرهباً لهم بقوله تعالى: {إنّ زلزلة الساعة} أي: حركتها الشديدة للأشياء على الإسناد المجازي، فتكون الزلزلة مصدراً مضافاً إلى فاعله، ويصح أن يكون إلى المفعول فيه على طريق الاتساع في الظرف وإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى: {بل مكر الليل والنهار} (سبأ، 33)، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} (الزلزلة، 1)
واختلف في وقتها، فعن الحسن أنها تكون يوم القيامة، وعن علقمة والشعبي عند طلوع الشمس من مغربها الذي هو أقرب للساعة {شيء عظيم} أي: أمر كبير وخطر جليل وحادث هائل لا تحتمل العقول وصفه وهذا للزلزلة نفسها، فكيف بجميع ما يحدث في ذلك اليوم الذي لا بدّ لكم من الحشر فيه إلى الله تعالى ليجازيكم على ما كان منكم لا ينسى منه نقير ولا قطمير
{يوم ترونها} أي: الزلزلة أو الساعة، أو كل مرضعة أضمرها قبل الذكر تهويلاً للأمر، وترويعاً للنفس {تذهل} بسبب ذلك {كل مرضعة} أي: بالفعل أي: تنسى وتغفل حائرة مدهوشة، والعامل في يوم تذهل.(1/2577)
فإن قيل: لم قال تعالى: {مرضعة}، ولم يقل: مرضع؟ أجيب: بأن المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها للطفل والمرضع التي شأنها أن ترضع، وإن لم تباشر الإرضاع في حال وضعها، فقال: مرضعة ليدل على أنّ ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت ثديها تنزعه من فيه لما يلحقها من الدهشة {عما أرضعت} عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته، وهو الطفل، فما إمّا مصدرية أو موصولة {وتضع كل ذات حمل حملها} أي: تسقطه قبل التمام رعباً وفزعاً.
(5/431)
---
تنبيه: هذا ظاهر على القول الثاني وهو قول علقمة والشعبيّ على أنّ ذلك يكون عند طلوع الشمس من مغربها، وأمّا على القول الأوّل وهو قول الحسن على أنّ ذلك يوم القيامة كيف يكون ذلك؟ فقيل: هو تصوير لهولها، قاله البيضاوي، وقال البقاعي في المرضعة: هي من ماتت مع ابنها رضيعاً، وفي ذات الحمل: من ماتت حاملاً، فإنّ كل أحد يقوم على ما مات عليه، وهذا أولى فإني في حال كتابتي في هذا المحل حضر عندي سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني نفعنا الله تعالى ببركته، فذكرت له هذين القولين، فانشرح صدره لترجيح هذا الثاني، وذلك يوم تاسوعاء من شهر الله المحرّم سنة ست وخمسين وتسعمائة، وعن الحسن تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام.
(5/432)
---(1/2578)
ويؤيد أنّ هذه الزلزلة تكون بعد البعث ما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك ـ زاد في رواية والخير في يديك ـ فينادى بصوت إنّ الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار؛ قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذٍ تضع الحوامل حملها،ويشيب الوليد وساق بقية الآية»، وهي {وترى الناس سكارى} أي: لما هم فيه من الدهشة والحيرة، ثم بيّن الله تعالى أنّ ذلك ليس بسكر حقيقة بقوله تعالى: {وما هم بسكارى} أي: من الشراب، ولما نفى أن يكونوا سكارى من الشراب أثبت ما أوجب لهم تلك الحالة بقوله: {ولكنّ عذاب الله} ذي العزة والجبروت {شديد} فهو الذي أوجب أن يظن بهم السكر؛ لأنّ هوله أذهب عقولهم وطيّر تمييزهم، تم الحديث عند آخر الآية، «فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم زاد في رواية قالوا: يا رسول الله أيّنا ذلك الواحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون، ومنكم واحد، ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، وفي رواية كالرقمة في ذراع الحمار، وإني أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبّرنا، ثم قال: ثلث أهل الجنة، فكبّرنا، ثم قال: شطر أهل الجنة فكبّرنا»، وفي رواية: «إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة».
(5/433)
---(1/2579)
روى عمران بن حصين رضي الله عنه أن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلاً، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحثوا المطيّ حتى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فلم نرَ أكثر باكياً من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب، ولم يضربوا الخيام وقت النزول ولم يطبخوا قدراً، وكانوا ما بين حزين وباك ومفكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال ذلك يوم يقول الله لآدم: قم فابعث بعث النار ـ وذلك نحو حديث أبي سعيد وزاد فيه ـ ثم قال: «يدخل من أمّتي سبعون ألفاً الجنة بغير حساب» قال عمر: سبعون ألفاً؟ قال: «نعم ومع كل واحد سبعون ألفاً».
وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وسكون الكاف فيهما، والباقون بضم السين وفتح الكاف وبعد الكاف ألف، وأمال الألف بعد الراء أبو عمرو وحمزة والكسائي محضة، وورش بين بين، والباقون بالفتح. ونزل في النضر بن الحرث، وكان كثير الجدل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، وكان ينكر البعث وإحياء من صار تراباً
{ومن الناس} أي: المذبذبين {من} لا يسعى في إعلاء نفسه وتهذيبها، فيكذب فيؤبق بسوء عمله؛ لأنه {يجادل في الله} أي: في قدرته على ذلك اليوم، وفي غير ذلك بعد أن جاءه العلم بها اجتراء على سلطانه العظيم {بغير علم} بل بالباطل الذي هو جهل صرف فيترك اتباع الهداة {ويتبع} بغاية جهده في جداله {كل شيطان} محترق بالسوء مبعد باللعن {مريد} أي: متجرّد للفساد ولا شغل له غيره؛ قال البيضاوي: وأصله العري أي: عن الساتر
(5/434)
---(1/2580)
{كتب} أي: قدّر وقضي على سبيل الحتم الذي لا بدّ منه تعبيراً باللازم عن الملزوم {عليه} أي: على ذلك الشيطان {أنه} أي: الشأن {من تولاه} أي: فعل معه فعل الولي مع وليه باتباعه والإقبال على ما يزينه {فإنه يضله} بما يبغض إليه من الطاعات، فيخطىء سبيل الخير {ويهديه} أي: بما يزين له من الشهوات الحاملة على الزلات {إلى عذاب السعير} أي: النار، ثم ألزم الحجة منكري البعث بقوله تعالى:
{يا أيها الناس} أي: كافة ويجوز أن يراد به المنكر فقط {إن كنتم في ريب} أي: شك وتهمة وحاجة إلى البيان {من البعث} وهو قيام الأجسام بأرواحها كما كانت قبل مماتها فتفكروا في خلقتكم الأولى لتعلموا أنّ القادر على خلقكم أوّلاً قادر على خلقكم ثانياً، ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر مراتب الخلقة الأولى أموراً سبعة:
المرتبة الأولى: قوله تعالى: {فإنّا خلقناكم} بقدرتنا التي لا يتعاظمها شيء {من تراب} لم يسبق له اتصاف بالحياة، وفي الخلق من تراب وجهان؛ أحدهما: أنا خلقنا أصلكم وهو آدم عليه الصلاة والسلام من تراب كما قال تعالى: {كمثل آدم خلقه من تراب} (آل عمران، 59)، الثاني: من الأغذية والأغذية إمّا حيوانية وإما نباتية وغذاء الحيوان ينتهي إلى النبات قطعاً للتسلسل والنبات إنما يتولد من الأرض والماء، فصح قوله تعالى: {إنا خلقناكم من تراب}.
المرتبة الثانية: قوله تعالى: {ثم من نطفة} وحالها أبعد شيء عن حال التراب فإنها بيضاء سائلة لزجة صافية كما قال تعالى: {من ماء دافق} وأصلها الماء القليل؛ قاله البغوي، وأصل النطف الصب؛ قاله البيضاوي.
المرتبة الثالثة: قوله تعالى: {ثم من علقة} أي: قطعة دم حمراء جامدة ليس فيها أهلية للسيلان، ولا شك أن بين الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة.
(5/435)
---(1/2581)
المرتبة الرابعة: قوله تعالى: {ثم من مضغة} أي: قطعة لحم صغيرة وهي في الأصل قدر ما يمضغ {مخلقة} أي: مسوّاة لا نقص فيها ولا عيب يقال: خلق السواك والعود سوّاه وملسه من قولهم صخرة خلقاء إذا كانت ملساء {وغير مخلقة} أي: وغير مسوّاة، فكأنّ الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة وأملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم، هذا قول قتادة والضحاك، وقال مجاهد: المخلقة الولد الذي يخرج حياً وغير المخلقة السقط، وقال قوم: المخلقة المصوّرة وغير المخلقة غير المصوّرة، وهو الذي يبقى لحماً من غير تخطيط وتشكيل، واحتجوا بما روى علقمة عن عبد الله بن مسعود موقوفاً عليه قال: إن النطفة إذا استقرّت في الرحم أخذها ملك بكفه، وقال: أي رب مخلقة أو غير مخلقة، فإن قال: غير مخلقة قذفها في الرحم دماً، ولم تكن نسمة، وإن قال: مخلقة قال الملك: أي رب ذكر أم أنثى، وشقيّ أم سعيد، ما الأجل ما العمل ما الرزق بأي أرض تموت؟ فيقال له: اذهب إلى أمّ الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك فيذهب فيجدها في أمّ الكتاب فينسخها، فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفتها، والذي أخرجاه في الصحيحين عنه قال: حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوماً نطفه، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً يكتب رزقه وأجله وعمله وشقيّ أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» فكأنه تعالى يقول: إنما نقلناكم من حال إلى حال، ومن خلقه إلى خلقة {لنبيّن لكم} بهذا التدريج(1/2582)
(5/436)
---
قدرتنا وحكمتنا، وإنّ من قدر على خلق البشر من التراب والماء أوّلاً، ثم من نطفة ثانياً، ولا تناسب بين التراب والماء وقدر على أن يجعل النطفة علقة وبينهما تباين ظاهر، ثم يجعل العلقة مضغة والمضغة عظاماً قدر على إعادة ما أبدأه بل هو أدخل في القدرة من تلك وأهون في القياس، وورود الفعل غير معدّى إلى المبين إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يحيط به الوصف ولا يكتنهه الذكر {ونقرّ في الأرحام} أي: من ذلك الذي خلقناه {ما نشاء} إتمامه {إلى أجل مسمى} هو وقت الوضع وأدناه بعد ستة أشهر وأقصاه آخر أربع سنين بحسب قوّة الأرحام وضعفها، وقوّة المخلقات وضعفها وكثرة تغذيه من الدماء، وقلته إلى غير ذلك من أحوال وشؤون لا يعلمها إلا باريها جلت قدرته وتعالت عظمته، وما لم نشأ إقراره مجته الأرحام وأسقطته دون التمام، أو تحرقه فيضمحل.
المرتبة الخامسة: قوله تعالى: {ثم نخرجكم طفلاً} وهو معطوف على نبين، ومعناه خلقناكم مدرّجين هذا التدريج لغرضين أحدهما: أن نبين قدرتنا، والثاني: أن نقرّ في الأرحام من نقرّ حتى تولدوا في حال الطفولية من صغر الجثة وضعف البدن والسمع والبصر، وجميع الحواس لئلا تهلكوا أمهاتكم بكبر أجرامكم وعظم أجسامكم.
المرتبة السادسة: قوله تعالى: {ثم} أي: نمدّ أجلكم {لتبلغوا} بهذا الانتقال في أسنان الأجسام من الرضاع إلى المراهقة إلى البلوغ إلى الكهولة {أشدكم} أي: الكمال والقوّة، وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين جمع شدّة كالأنعم جمع نعمة كأنه شدّة في الأمور.
(5/437)
---(1/2583)
المرتبة السابعة: قوله تعالى: {ومنكم من يتوفى} أي: عند بلوغ الأشدّ أو قبله {ومنكم من يردّ} بالشيخوخة وبناه للمجهول إشارة إلى سهولته عليه لاستبعاده لولا تكرار المشاهدة عند الناظر لتلك القوّة والنشاط وحسن التواصل بين أعضائه والارتباط {إلى أرذل} أي: أخس {العمر} وهو سنّ الهرم فتنقص جميع قواه {لكيلا يعلم من بعد علم} كان أوتيه {شيئاً} أي: ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما علمه وينكر من عرفه حتى يسأل عنه من ساعته يقول لك: من هذا؟ فتقول: فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه.
(5/438)
---(1/2584)
فإن قيل: هذه الحالة لا تحصل للمؤمنين لقوله تعالى: {ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أجيب: بأن معنى قوله تعالى: {ثم رددناه أسفل سافلين} هو دلالة على الذمّ، فالمراد به ما يجري مجرى العقوبة، ولذلك قال تعالى: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لكن قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر إلى هذه الحالة، وقد علم بعود الإنسان في ذهاب العلم وصغر الجسم إلى نحو ما كان عليه في ابتداء الخلق قطعاً أن الذي أعاده إلى ذلك قادر على إعادته بعد الممات، ولما تم هذا الدليل على الساعة بحكم المقدّمات وأصح النتائج، وكان أوّل الإيجاد فيه غير مشاهد ذكر الله تعالى دليلاً آخر على البعث مشاهداً بقوله: {وترى الأرض هامدة} أي: يابسة ساكنة سكون الميت {فإذا أنزلنا} أي: بما لنا من القدرة {عليها الماء اهتزت} أي: تحركت وتأهلت لإخراج النبات {وربت} أي: ارتفعت، وذلك أوّل ما يظهر منها للعين، وزادت ونمت بما يخرج منها من النبات الناشىء عن التراب والماء، وقوله تعالى: {وأنبتت} مجاز؛ لأنّ الله تعالى هو المنبت وأضيف إلى الأرض توسعاً أي: أنبتت بتقديرنا لا أنها المنبتة {من كل زوج} أي: صنف {بهيج} أي: حسن نضير من أشتات النبات في اختلاف ألوانها وطعومها وروائحها وأشكالها ومنافعها ومقاديرها، قال الجلال المحلي: من زائدة، ولم أرَ من ذكر ذلك من المفسرين.
تنبيه: في الآية إشارة إلى أنّ النبات كما يتوجه من نقص إلى كمال، فكذلك الإنسان المؤمن يترقى من نقص إلى كمال، ففي المعاد يصل إلى كماله الذي أعدّ له من البقاء والغنى والعلم والصفاء والخلود في دار السلام مبرأ عن عوارض هذا العالم، ولما قرّر سبحانه هذين الدليلين رتب عليهما ما هو المطلوب والنتيجة، وذكر أموراً خمسة أحدها قوله تعالى:
(5/439)
---(1/2585)
{ذلك} أي: المذكور من بدء الخلق إلى آخر إحياء الأرض {بأنّ} أي: بسبب أن تعلموا أنّ {الله} أي: الجامع لأوصاف الكمال {هو} أي: وحده {الحق} أي: الثابت الدائم وما سواه فان، ثانيها قوله تعالى: {وأنه يحيي الموتى} أي: قادر على ذلك وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة، ثالثها: قوله تعالى: {وأنه على كل شيء} من الخلق وغيره {قدير} {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} (يس، 82)، رابعها: قوله تعالى: {وأن الساعة} التي تقدّم ذكرها وتقدّم التحذير منها وهي حشر الخلائق كلهم {آتية لا ريب} أي: لا شك {فيها} أي: بوجه من الوجوه مما دلّ عليها مما لا سبيل إلى إنكاره بقول من لا مرد لقوله، وهو حكيم لا يخلف ميعاده، ولا يسوغ بوجه أن يترك عباده بغير حساب، خامسها: قوله تعالى: {وأنّ الله يبعث} بالإحياء {من في القبور} بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف، وقد وعد الساعة والبعث، فلا بدّ أن يفي بما وعد ونزل في أبي جهل بن هشام كما قاله ابن عباس:
(5/440)
---
{ومن الناس من يجادل} أي: بغاية جهده {في الله} أي: في قدرته وما يجمعه هذا الاسم الشريف من صفاته بعد هذا البيان الذي لا مثل له ولا خفاء فيه {بغير علم} أتاه عن الله تعالى على لسان أحد من أصفيائه أعمّ من أن يكون كتاباً أو غيره {ولا هدى} أرشده إليه أعمّ من كونه بضرورة أو استدلال {ولا كتاب منير} له نور منه صح لديه أنه من الله تعالى، ومن المعلوم أنه بانتفاء هذه الثلاثة لا يكون جداله إلا بالباطل، وقيل: قوله تعالى: {ومن الناس} كرّر كما كرّرت سائر الأقاصيص، وقيل: الأوّل في المقلدين، وهذا في المقلدين، وقوله تعالى:
{ثاني عطفة} حال أي: لاوي عنقه تكبراً عن الإيمان كما قال تعالى: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً} (لقمان، 7)
والعطف في الأصل الجانب عن يمين أو شمال، وقوله تعالى: {ليضلّ عن سبيل الله} علة للجدال، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بضمها.(1/2586)
فإن قيل: على قراءة الضمّ ما كان غرضه في جداله الضلال لغيره عن سبيل الله، فكيف علل به وما كان على قراءة الفتح مهتدياً حتى إذا جادل خرج بالجدال عن الهدى إلى الضلال؟ أجيب عن الأوّل: بأن جداله لما أدّى إلى الضلال جعل كأنه غرضه، وعن الثاني: بأنّ الهدى لما كان معرّضاً له فتركه وأعرض عنه وأقبل على الجدال الباطل جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال. ولما ذكر فعله وثمرته ذكر ما أعدّ له عليه في الدنيا بقوله تعالى: {له في الدنيا خزي} أي: إهانة وذل وإن طال زمن استدراجه بتنعيمه حق على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه، وما أعدّ له عليه في الآخرة بقوله تعالى: {ونذيقه يوم القيامة} الذي يجمع فيه الخلائق بالإحياء بعد الموت {عذاب الحريق} أي: الإحراق بالنار، وعن الحسن قال: بلغني أن أحدهم يحرق في اليوم سبعين ألف مرّة ويقال له حقيقة أو مجازاً.
(5/441)
---
{ذلك} أي: العذاب العظيم {بما قدمت يداك} أي: بعملك، ولكن جرت عادة العرب أن تضيف الأعمال إلى اليد؛ لأنها آلة أكثر العمل وإضافة ما يؤدي إليهما أنكى {وأنّ} أي: وبسبب أنّ {الله ليس بظلام} أي: بذي ظلم ما {للعبيد} وإنما هو مجاز لهم على أعمالهم أو أن المبالغة لكثرة العبيد. ونزل في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم، فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت بها فرسه مهراً وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله قال هذا دين حسن وقد أصبت به خيراً، واطمأن به، وإن كان الأمر بخلافه قال: ما أصبت إلا شرّاً، فينقلب عن دينه(1/2587)
{ومن الناس من يعبد الله} أي: يعمل على سبيل الاستمرار والتجدّد بما أمر الله به من طاعته {على حرف} فهو مزلزل كزلزلة من يكون على حرف شفير أو جبل أو غيره لا استقرار له، وكالذي على طرف من العسكر، فإن رأى غنيمة استمرّ، وإن توهم خوفاً طار وفرّ، وذلك معنى قوله تعالى: {فإن أصابه خير} أي: من الدنيا {اطمأنّ به} أي: بسببه وثبت على ما هو عليه {وإن أصابته فتنة} أي: محنة وسقم في نفسه وماله {انقلب على وجهه} أي: رجع إلى الكفر، وعن أبي سعيد الخدريّ: «أن رجلاً من اليهود أسلم فأصابته مصائب فتشاءم بالإسلام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقلني، فقال: إن الإسلام لا يقال، فنزلت» ولما كان انقلابه هذا مفسدة لدنياه ولآخرته قال تعالى: {خسر الدنيا} بفوات ما أمّله منها ويكون ذلك سبب التقتير عليه قال تعالى: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل،وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وروي إنّ الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيب}.
{والآخرة} بالكفر، ثم عظم مصيبته بقوله تعالى: {ذلك} أي: الأمر العظيم {هو} أي: لا غيره. {الخسران المبين} أي: البين إذ لا خسران مثله ثم بين هذا الخسران الذي ردّه إلى ما كان فيه قبل الإيمان الحرفيّ بقوله تعالى:
(5/442)
---
{ يدعو } أي: يعبد حقيقة أو مجازاً {من دون اللَّه} أي: غير من الصنم {ما لا يضرّه} إن لم يعبده {وما لا ينفعه} إن عبده {ذلك} أي: الدعاء {هو الضلال البعيد} عن الحق والرشاد استعير الضلال البعيد من ضلال من أبعد في التيه ضالاً فطالت وبعدت مسافة ضلاله.
(5/443)
---(1/2588)
ولما كان الإحسان جالباً للإنسان لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها بَيَّن أن ما قيل في جلب النفع إنما هو على سبيل الفرض، فقال تعالى: {يدعو لمن} أي: من {ضرّه} بكونه معبوداً، لأنه يوجب القتل والخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة {أقر من نفعه} الذي يتوقع منه بعبادته، وهو الشفاعة والتوسل بها إلى الله تعالى.
تنبيه: علم مما تقرّر أنّ اللام في لمن مزيدة كما قال الجلال المحلي، {فإن قيل}: الضرر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين وهذا متناقض.
(أجيب) بأنّ المعنى إذا حصل ذهب هذا الوهم وذلك أنّ الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جماداً لا يملك ضرّاً ولا نفعاً فيه بجهله وضلاله أنه ينتفع به حين يستشفع به ثم يوم القيامة يقوم هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله الرؤساء وهم الذين كانوا يفزعون إليهم بدليل قوله تعالى: {لبئس المولى} أي: الناصر هو {ولبئس العشير} أي: الصاحب هو قال الرازيّ وهذا الوصف بالرؤساء أليق لأنّ ذلك لا يكاد يستعمل في الأوثان فبين تعالى أنهم يعدلون عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام وإلى طاعة الرؤساء.
ولما بين سبحانه وتعالى حال الكفار عقبه بحال المؤمنين بقوله تعالى: {إنّ الله} أي: الجامع لجميع صفات الكمال المنزه عن جميع شوائب النقص {يُدخل الذين آمنوا} بالله ورسله {وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} من الفروض والنوافل الخالصة الشاهدة بثباتهم في الإيمان {جنات تجري من تحتها} أي: في أيّ مكان من أرضها {الأنهار}.
(5/444)
---(1/2589)
ولما بين سبحانه وتعالى حال الفريقين قال تعالى {إن الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {يفعل ما يريد} من إكرام من يطيعه وإهانة من بعصيه لا دافع له ولا مانع وقوله تعالى: {من كان يظنّ أن لن بنصره الله في الدنيا والآخرة} فيه اختصار والمعنى أنّ الله ناصر رسوله في الدنيا والآخر فمن كان يظنّ خلاف ذلك ويتوقعه من غيظه فالضمير راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن قيل لم يجرل ه ذكر في هذه الآية {أجيب} بأنّ فيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله تعالى: {إن الله يُدخل الذين آمنوا} والإيمان لا يتم إلا بالله ورسوله، وقيل: الضمير راجع إلى من في أوّل الآية لأنه المذكور ومن حق الكناية أن ترجع إلى المذكور إذا أمكن ذلك، وعلى هذا المراد بالنصر الرزق. قال أبو عبيدة: وقف علينا سائل من بني بكر فقال: من ينصرني نصره الله؟ أي: من يعطني أعطاه الله فكأنه قال من كان يظنّ أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة {فليمدد بسبب} أي: بحبل {إلى السماء} أي: سقف بيته يشدّ بينه وبين عنقه {ثم ليقطع} أي: ليختنق به بأن يقطع نفسه من الأرض كما في الصحاح. وقيل: فليمدد حبلاً إلى سماء الذنيا ثم ليصعد عليه فيجتهد في دفع نصر النبي صلى الله عليه وسلم على الأوّل، أو يحصل رزقه على الثاني، وقرأ ورش وأبو عمرو وابن عامر بكسر اللام والباقون بسكونها {فلينظر} ببصره وبصيرته {هل يُذهبنّ} وإن اجتهد {كيده} في عدم نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته أو أنّ ذلك لا يغلب القسمة فإنّ الأرزاق بيد الله لا تنال إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى وهذا كما يقال لمن أدبر عنه أمر فجزع: اضرب برأسك الجدار إن لم ترض هذا، مت غيظاً ونحو ذلك، والحاصل: إن لم يصبر طوعاً صبر كرهاً واختلف في سبب نزول هذه الآية على القولالأوّل فذكروا فيها وجوهاً.
أحدها: كان قوم من المسلمين لشدّة غيظهم على الكفار يستبطؤن ما وعد الله رسوله من النصر فنزلت.
(5/445)
---(1/2590)
ثانيها: قال مقاتل: نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا: نخاف أنّ الله لا ينصر محمداً فينقطع الذي بيننا وبين حلفائهنا من اليهود فلا يميروننا.
ثالثها: أنّ حساده وأعداءه كثيرة وكانوا يتوقعون أن لا ينصره وأن لا يعينه على أعدائه فمتى شاهدوا أن الله نصره غاظهم ذلك {وكذلك} أي: ومثل ما أنزلنا هذه الآيات لبيان حكمها وإظهار أسرارها {أنزلناه} أي: القرآن الباقي وقوله تعالى: {آيات بينات} أي: معجزاً نظمها كما كان معجزاً حكمها حال وقوله تعالى: {وأنّ الله} أي: الموصوف بالإكرام كما هو موصوف على محل أنزلناه.
(5/446)
---(1/2591)
ولما قال تعالى: {وأنّ الله يهدي من يريد} أنبعه ببيان من يهديه ومن لا يهديه، وبدأ بالقسم الأوّل بقوله: {إن الذين آمنوا} بالله ورسوله وعبر بالفعل ليشمل الإقرار باللسان الذي هو أدنى وجوه الإيمان ثم شرع في القسم الثاني بقوله تعالى: {والذين هادوا} أي: انتحلوا دين اليهودية {والصابئين} وهم فرقة من النصارى سميت بذلك قيل: لنسبتها إلى صابي عم نوح عليه السلام ، وقيل: لخروجهم عن دين إلى دين لآخر، وإطلاق الصابئة على هذا هو المشهور وتارة يوافقونهم في أصول دينهم فتحل مناكحتهم وتارة يخالفونهم فلا تحل مناكحتهم وتطلق أيضاً على قوم أقدم من النصارى يعبدون الكواكب السبعة ويضيفون الآثار إليها وينفون الصانع المختار فهؤلاء لا تحل مناكحتهم وقد أفتى الإصطخري والمحاملي بقتلهم لما استفتى القاهر الفقهاء فيهم فبذلوا له أموالاً كثيرة فتركهم والبلاء قديم وقرأ نافع بالياء التحتية بعد الباء والباقون بهمزة مكسورة بعد الباء الموحدة {والنصارى} أي: الذين انتحلوا دين النصرانية {والمجوس} قال قتادة: هم عبدة الشمس والقمر والنيران قال: {والذين اشركوا} هم عبدة الأوثان قال مقاتل: الأديان كلها ستة واحد للرحمن وهو الإسلام، وخمسة للشيطان وقيل: خمسة، أربعة للشيطان، وواحد للرحمن بجعل الصابئين مع النصارى لأنهم فرع منهم كما مر على المشهور وقد تقدّم الكلام على هذه الآية في سورة البقرة {إنّ الله} الذي هو أحكم الحاكمين {يفصل بينهم يوم القيامة} بإدخال المؤمنين الجنة وغيرهم النار وأدخلت إنَّ على كل واحد من جزأى الجملة لزيادة التأكيد ونحوه قول جرير:
u
*إنّ الخليفة إنّ اللَّه سربله
** سربال ملك به ترجى الخواتيم
(5/447)
---(1/2592)
ثم ذلك بقوله تعالى: {إن الله} أي: الجامع لجميع صفات الكمال {على كل شيء} من الأشياء كلها {شهيد} أي: عالم به علم مشاهدة {ألم تر} أي تعلم {أن الله يسجد له} أي: يخضع منقاداً لأمره سبحانه مسخراً لما يريد منه تسخير من هو في غاية الإجتهاد في العبادة والإخلاص فيها {من في السموات ومَنْ في الأرض} إن خصصت بذلك العاقل أفهم خضوع غيره من باب أولى وإن أدخلت غير العاقل فبالتغليب ثم أتبعه بأشرف ما ذكر مما لا يعقل لأنّ كلاً منهما عبد من دون الله أو عبد شيء منه فقال تعالى: {والشمس والقمر والنجوم} من الأجرام العلوية فعبد الشمس حمير، والقمر كنانة، والدبران تميم، والشعري لخم، والثريا طيىء، وعطارد أسد، قاله أبو حيان، روى عن عمرو بن دينار قال: سمعت رجلاً يطوف بالبيت ويبكي فإذا هو طاووس فقال أعجبت من بكائي؟ قلت: نعم. قال: ورب الكعبة إن هذا القمر ليبكي من خشية الله ولا ذنب له.
(5/448)
---(1/2593)
ثم أتبع ذلك أعلى الذوات السفلية فقال {والجبال} أي: التي قد نختت منها الأصنام {والشجر} أي: التي عبد بعضها {والدوابّ} أي: التي عبد منها البقر، كل هذه الأشياء تنقاد لأمر الله ولا تأبى عن تدبيره {وكثير من الناس} وهم المؤمنون بزيادة الخضوع سجد سجوداً هو منه عبادة مشروعة فحق له الثواب {وكثير} أي: من الناس {حق عليه العذاب} وهم الكافرون؛ لأنهم أَبَو، السجود المتوقف على الإيمان {ومَن يُهن الله} أي: يُشْقِهِ {فما له من مكرم} أي: مسعد، لأنه لا قدرة لغيره أصلاً {إنّ الله} أي: الملك الأعظم {يفعل ما يشاء} من الإكرام والإهانة، لا مانع له من ذلك، نقل عن عليّ رضي الله تعالى عنه أنه قيل له: إنّ رجلاً يتكلم في المشيئة فقال له عليّ يا عبد الله خلقك الله لما يشاء أو لما شئت؟ قال بل لما يشاء. قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء. قال: فيشفيك إذا شاء أو ءذا شئت؟ قال: بل إذا شاء. قال: فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء؟ قال: بل حيث يشاء قال: والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف.
ولما بين تعالى أنّ الله قسمان منهم من يسجد لله ومنهم من حق عليه العذاب ذكر كيفية اختصامهم بقوله تعالى:
(5/449)
---(1/2594)
{هذان خصمان} أي: المؤمنون خصم والكفار الخمسة خصم وهو يطلق على الواحد والجماعة وقرأ ابن كثير بتشديد النون والباقون بالتخفيف {اختصموا} أي: أوقعوا الخصومة بغاية الجهد {في ربهم} أي: دينه، وروى عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذرّ يقسم قسماً إن هذه الآية {هذان خصمان اختصموا في ربهم} نزلت في الذين برزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيد بن الحارث وعتبة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة أخرجاه في الصحيحن وعن ابن عباس قال لما بارز عليّ وحمزة وعبيدة عتبة وشيبة والوليد قالوا لهم: تكلموا نعرفكم. قال أنا عليّ وهذا حمزة وهذا عببيدة فقالوا: أكفاء كرام فقال عليّ أدعوكم إلى الله وءلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال عتبة هلم للمبارزة فبارز عليّ شيبة فلم يلبث أن قتله بارز حمزة عتبة فقتله وبارز عبيدة الوليد فصعق عليه فأتى عليّ فقتله فنزلت وعن قتادة نزلت الآية في المسلمين وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم قال المسلمون كتابنا يقضي على الكتب كلها ونبينا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء فنحن أولى بالله منكم، وعن ابن عباس أنها نزلت كذلك لكن قال أهل الكتاب: نحن أولى بالله وأقدم بين يديكم كتاباً، ونبينا قبل نبيكم وقال المسلمون: نحن أحق بالله منكم آمنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنكم تعرفون نبينا وكتابنا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً، فهذه خصومتهم في ربهم، وقيل: المؤمنون والكافرون من أيّ ملة كانوا فالمؤمنون خصم والكفار خصم، وقيل: الخصمان الجنة والنار لما روي عن أبي هريرة أنه قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم فقال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من(1/2595)
(5/451)
---
عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها» وعن عكرمة فقالت النار خلقني الله لعقوبته وقال الجنة خلقني الله لرحمته وهذا القول بعيد عن لاسياق لأنّ الله تعالى ذكر جزاء الخصمين بقوله تعالى: {فالذين كفروا} وهو الفصل بينهم المعني بقوله تعالى: {إنّ الله يفصل بينهم يوم القيامة} {قطعت} أي: قدّرت {لهم} على تقادير جثثهم {ثبات من نار} أي: نيران تحيط بهم إحاطة الثياب سابغة عليهم كما كانوا يسبلون الثياب في الدنيا تفاخراً وتكبراً وعن إبراهيم التيمي أنه قال: سبحان من قطع من النار ثياباً. وعن سعيد بن جبير قال: قطعت من نحاس وليس من الآنية شيء إذا حمى أشدّ حرارة منه. وقال في قوله: {يصبّ} أي: ادخلوها {من فوق رؤوسهم الحميم} قال ابن النحاس يذاب على رؤوسهم ولكن المشهور أنه الماء الحار وعن ابن عباس: لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها، والجملة حال من الضمير في لهم، أو خبر ثان وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم وقرأ حمزة والكسائي بضم الهاء والميم والباقون بكسر الهاء وضم الميم هذا في الوصل، فإن وقف على رؤوسهم فالجميع بكسر الهاء وسكون الميم وحمزة على أصله في الوقف على رؤوسهم بتسهيل الهمزة {يصهر} أي: يذاب {به} من شدّة حرارته {ما في بطونهم} من شحم وغيره {والجلود} فيكون أثره في الباطن والظاهر سواء وقال ابن عباس يسقون ماء إذا دخل بطونهم أذابها والجلود مع البطون {ولهم مقامع} جمع مقمعة بكسر ثم فتح وهو عمود حديد وقيل: سوط يضرب به الوجه والرأس ليردّ المضروب عن مراده ردّا عنيفاً ثم نفي المجاز بقوله تعالى: {من حديد} أي: يقمعون بها روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو أنّ مقمعاً من حديد وضع في الأرض فاجتمع الثقلان ما أقلوه من الأرض ولو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان {كلما أرادوا أن يخرجوا منها} أي: من تلك الثياب أو من النار {من غمّ} أي: كلما حاولوا الخروج من النار(1/2596)
لما يلحقهم
(5/452)
---
من الغم والكرب الذي يأخذ بأنفسهم {أعيدوا فيها} أي: ردّوا إليها بالمقامع، وعن الحسن أنهم يضربون بلهب النار فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهو وافيها سبعين خريفاً، وعن الفضيل بن عياض قال: والله ما طمعوا في الخروج لأنّ الأرجل مقيدة والأيدي موثقة ولكن يرفعهم لهبها وتردّهم مقامعها وعن الحسن قال كان عمر يقول أكثروا ذكر النار فإنّ حرّها شديد، وقعرها بعيد، وإنّ مقامعها من حديد {و} قيل لهم {ذوقوا عذاب الحريق} أي: البالغ نهاية الإحراق.
ولما ذكر تعالى مالاً حد الخصمين وهم الكافرون أتبعه ما للآخر وهم المؤمنون، وغير الأسلوب فيه حيث لم يقل والذين آمنوا عطفاً على الذين كفروا وأسند الإدخال فيه إلى الله تعالى وأكده بأنّ احماداً لحال المؤمنين وتعظيماً لشأنهم فقال {إن الله} أي الذي له الأمر كله {يدخل الذين آمنوا} بالله ورسوله {وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} من الفروض والنوافل الخالصة الشاهدة بثباتهم في الإيمان {جنات تجري} أي: دائماً {من تحتها الأنهار} أي: المياه الواسعة أينما أردت من أرضها جري لك نهر في مقابلة ما يجري من فوق رؤوس أهل النار، عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم «قال إنّ في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعده» أخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح {يحلون فيها} من حليت المرأة إذا لبست الحلي في مقابلة ما يزال من بواطن الكفرة وظواهرهم وقوله تعالى {من أساور} صفة مفعول محذوف أي: حلياً من أساور ومن زائدة أو تبعيضية وأساور جمع أسورة وهي جمع سوار.
(5/453)
---(1/2597)
ولما كان المقصود الحث على التقوى المعلية إلى الإنعام بالفضل شوّق إليه بأعلى ما يعرف من الحلية فقال {من ذهب} وقوله تعالى: {ولؤلؤ} معطوف على أساور لا على ذهب لأنه لم يعهد السوار منه إلا أن يراد المرصعة وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ عليهم التيجان أدنى لؤلؤة منها لتضىء ما بين المشرق والمغرب» أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب وقرأ نافع وعاصم بنصب الهمزة الثانية مع التنوين عطفاً على محل أساور أو إضمار الناصب مثل ويؤتون والباقون بالخفض مع التنوين وأبدل الهمزة الأولى الساكنة حرف مدّ السوسي وأبو بكر هذا حالة الوصل، وأمّا الوقف فحمزة يبدل الأولى واواً وكذا الثانية تبدل واواً له أيضاً فيها الرَّوْم وقوله تعالى: {ولباسهم فيها حرير} وهو الإبريسم المحرم لبسه على الرجال المكلفين في الدنيا في مقابلة ثياب الكفار كما كان لبسا الكفار في الدنيا حريراً ولباس المؤمنين دون ذلك، وقد ورد في الصحيحين عن عبد الله ابن الزبير عن عمر رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال «لا تلبسوا الحرير فإنّ من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة»
(5/454)
---(1/2598)
قال ابن كثير قال عبد الله بن الزبير ومن لم يلبس الحرير في الآخرة لم يدخل الجنة قال الله تعالى: {ولباسهم فيها حرير} انتهى وفي الصحيحين أيضاً عن عمر رضي الله عنه أن أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة» قال البقاعي: فيوشك المتشبه بالكفار في لباسهم أن يلحقه الله بهم فلا يموت ملسماً اه والأولى أن يحمل ذلك على أنه لا يلبسه مع السابقين فإنّ من مات على الإسلام لا بدّ من دخوله الجنة أو على من استحله من الرجال المكلفين {وهدوا} أي: في الدنيا {إلى الطيب من القول} قال ابن عباس: هو شهادة أن لا إله إلا الله وقيل هو لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله، وقال السدي: هو القرآن. وقال عطاء: هو قول أهل الجنة الحمد لله الذي صدقنا وعده {وهدوا إلى صراط الحميد} أي طريق الله المحمود ودينه فكان فعلهم حسناً كما كان قولهم حسناً فدخلوا الجنة التي هي أشرف دار عند خير جار، وحلوا فيها أشرف الحلي كما تحلوا في الدنيا بأشرف الطرائق عكس الكفار فإنهم آثروا الفاني لحضوره وأعرضوا عن الباقي مع شرفه لغياته فدخلوا ناراً كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ثم ذكر تعالى بعد ما فصل بين الفريقين حرمة البيت وعظم جرممن صدّ عنه فقال تعالى: {إن الذين كفروا} أي: أوقعوا هذا الفعل الخبيث وصح عطف {ويصدون} وإن كان مضارعاً على الماضي لأنّ المضارع قد لا يلاحظ منه زمان معين م حال أو استقبال بل يكون المقصود منه الدلالة على مجرّد الاستمرار كما يقال: فلا يحسن إلى الفقراء لا يراد حال ولا استقبال وإنما يراد استمرار وجود الإحسان منه فالصدود منهم مستمرّ دائم للناس {عن سبيل الله} أي: عن طاعته باقتسامهم طرق مكة يقول بعضهم لمن يمرّ به خرج فينا ساحر وآخر يقول شاعر وآخر يقول كاهن فلا تسمعوا منه فإنه يريد أن يردكم عن دينكم حتى قال من أسلم لم يزالوا بي حتى جعلت في أذني الكُرسف مخافة أن أسمع(1/2599)
(5/455)
---
شيئاً من كلامهم وكانوا يؤذون من أسلم إلى غير ذلك من أعمالهم {و} يصدّون عن {المسجد الحرام} أن تقام شعائره من الطواف بالبيت، والصلاة، والحج، والاعتمار ممن هو أهل ذلك من أوليائنا، ثم وصفه بما يبين شديد ظلمهم في الصدّ عنه بقوله تعالى: {الذين جعلناه} بما لنا من العظمة {للناس} أي: كلهم ثم بين جعله لهم بقوله تعالى: {سواء العاكف} أي: المقيم {فيه والباد} أي: الطارىء من البادية وهو الجائي إليه من غربة، وقال بعضهم: يدخل في العاكف الغريب إذا جاءه للتعبد وإن لم يكن من أهله قال الزمخشري: وقد استشهد بهذا أصحاب أبي حنيفة قائلين إنّ المراد بالمسجد الحرام مكة على امتناع جواز بيع دور مكة وإجارتها انتهى. وأيضاً هو مذهب ابن عمر وعمر ابن عبد العزيز وإسحاق الحنطي المعروف بابن راهويه قال البيضاويّ وهو مع ضعفه معارض بقوله تعالى: {الذين أخرجوا من ديارهم} الآية. وشرى عمر داراً ليسجن فيها من غير نكير انتهى ووجه الرازي الضعيف بقوله: لأن العاكف قد يراد به الملازم للمسجد المعتكف فيه على الدوام أو في الأكثر فلا يلزم ما ذكر ويحتمل أن يراد بالعاكف المجاور للمسجد المتمكن في كل وقت من الأوقات من التعبد فيه فلا وجه لصرف الكلام عن ظاهره مع هذه الاحتمالات انتهى واستدل أيضاً للجواز بقوله صلى الله عليه وسلم لما قال له أسامة بن زيد «يا رسول الله أتنزل غداً بدارك بمكة فقال وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور» وكان عقيل ورث أبا طالب دون علي وجعفر لأنهما كانا مسلمين ولا يورث إلا ما كان الميت مالكاً له قال الروياني: ويكره بيعها وإجارتها للخروج من الخلاف ونازعه النووي في مجموعه وقال: إنه خلاف الأولى لأنه لم يرد فيه نهي مقصود والأوّل كما قال الزركشيّ هو المنصوص بل اعترض على النوويّ فإنه صرّح بكراه بيع المصحف والشطرنج ولم يرد في ذلك نهي مقصود.
(5/456)
---(1/2600)
تنبيه: محل الخلاف بين العلة في بيع نفس الأرض أمّا البناء فهو مملوك يجوز بيعه بلا خلاف أي: إذا لم يكن من أجزاء أرضها قيل: إن إسحاق الحنطيّ ناظر الشافعيّ رضي الله تعالى عنه بمكة في بيع دور مكة فاستدلّ الشافعي بما مرّ واستدلّ هو على المنع بقوله حدّثني بعض التابعين بأنها لا تباع فقال له الشافعيّ: لو قام غيرك مقامك لأمرت بفرك أذنيه، أقول لك: قال الله ورسوله تقول: حدّثني بعض التابعين وقال الرازي فقال إسحاق: فلما علمت أن الحجة لزمتني تركت قولي. وقرأ حفص سواء بالنصب على أنه ثاني مفعولي جعلناه أي: جعلناه مستوياً العاكف فيه والباد، والباقون بالرفع على أن الجملة مفعول ثان لجعلناه، ويكون للناس حالاً من الهاء ويصح أن يكون حالاً من المستكنّ في للناس بجعله مفعولاً ثانياً لجعلنا وقرأ ورش وأبو عمرو البادي بإثبات الياء بعد الدال وصلاً لا وقفاً وأثبتها ابن كثير وقفاً ووصلاً وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً {ومن يرد فيه} أي: المسجد الحرام {بإلحاد بظلم} أي: بميل إلى الظلم والإلحاد العدول عن القصد وأصله إلحاداً لحافر وقيل: الإلحاد فيه هو الشرك وعبادة غير الله، وقيل: هو كل شيء منهيّ عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم، وقيل: هو دخول الحرم بغير إحرام أو ارتكاب شيء من محظورات الإحرام من قتل صيد أو قطع شجر، وقال ابن عباس: هو أن تقتل فيه من لا يقتلك، أو تظلم فيه من لا يظلمك. وقال مجاهد: هو تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات. وقال سعيد بن جبير: احتكار الطعام بمكة بدليل ما روى يعلى بن أمية أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ احتكار الطعام في الحرم إلحاد وعن عطاء قول الرجل في المبايعة لا والله بلى والله وعن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل فقيل له فقال كنا نحدّث أنّ من الإلحاد فيه أن يقول الرجل: لا والله وبلى والله.
(5/457)
---(1/2601)
تنبيه: قوله: بإلحاد بظلم حالان مترادفان ومفعول يرد متروك ليتناول كل متناول كأنه قال: ومن يرد فيه مراداً أمّا عادلاً عن القصد ظالماً {نذقه من عذاب أليم} أي: مؤلم أي: بعضه وخبر إنّ محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره إنّ الذين كفروا ويصدّون عن سبيل الله والمسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم، فكل من ارتكب فيه ذنباً فهو كذلك فينبغي لمن كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهمّ به ويقصده.
ولما ذكر تعالى الفريقين وجزاء كل وختمه بذكر البيت أتبعه التذكير به فقال تعالى:
(5/458)
---(1/2602)
{وإذ} أي: واذكر إذ {بوأنا لإبراهيم مكان البيت} أي: جعلنا له مكان البيت مبوّأ أي: مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة، فإنّ البيت رفع إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء فأعلم الله إبراهيم عليه السلام مكانه بريح أرسلها يقال لها: الخجوج كشفت ما حوله فبناه على أسِّهِ القديم، وقيل: بعث الله تعالى له سحابة بقدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها رأس يتكلم يا إبراهيم ابن علي دوري فبني عليه، وعن عطاء بن أبي رباح قال: لما أهبط الله آدم عليه السلام كان رجلاه في الأرض ورأسه في السماء يسمع تسبيح أهل السماء ودعاءهم وأنس إليهم فهابت الملائكة منه حتى شكت إلى الله تعالى في دعائها، وقيل في صلاتها فأخفضه الله تعالى إلى الأرض، فلما فقدما كان يسمع منهم استوحش وقيل: أوّل من بني البيت إبراهيم لما روى وورد في الصحيحين عن بي ذر قال: «قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أولاً؟ قال المسجد الحرام، قلت: ثم أيّ؟ قال: بيت المقدس قلت كم بينهما قال أربعون سنة» ثم فسر التبوئة بقوله تعالى: {أن لا تشرك بي شيئاً} فابتدأ بأُسِّ العبادة ورأسها وعطف على النهي قوله تعالى: {وطهر بيتي} أي: عن كل ما لا يليق به من الأوثان والأقذار وطواف عريان به كما كان العرب تفعل {للطائفين} أي: الذين يطوفون بالبيت فإن قيل كيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسير للتبوئة؟ (أجيب) بأنّ التبوئة لما كانت مقصودة من أجل العبادة فكأنه قيل تعبدنا إبراهيم قلنا له لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفتين، وقال ابن عباس للطائفين بالبيت من غير أهله {والقائمين} أي: المقيمين {والركوع السجود} أي: المصلين من الكل وقال غيره القائمين هم المصلون لأنّ المصلي لا بدّ أن يكون في صلاته جامعاً بين القيام والركوع والسجود، قال البيضاويّ: ولعله عبر عن الصلاة بأركانها للدلالة على أنّ كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك كيف وقد اجتمعت {وأذن في الناس} أي: أعلمهم وناد(1/2603)
(5/459)
---
فيهم {بالحج} وهو قصد البيت على سبيل التكرار للعبادة المخصوصة بالمشاعر المنصوصة، وفي المأمور بذلك قولان أحدهما وعليه أكثر المفسرين أنه إبراهيم عليه السلام ، قالوا: لما فرغ من بناء البيت قال الله تعالى له أذن في الناس بالحج. قال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال: عليك الأذان وعليّ البلاغ فصعد إبراهيم الصفا وفي رواية أخرى أبا قبيس وفي أخرى على المقام قال إبراهيم: كيف أقول قال جبريل قل لبيك اللهمّ لبيك فهو أوّل من لبى وفي رواية أخرى صعد على الصفا فقال: يا أيها الناس إنّ الله كتب عليكم حج هذا البيت العتيق، فسمعه ما بين السماء والأرض فما بقي شيء سمع صوته إلا أقبل يلبي يقول لبيك اللهمّ لبيك، وفي رواية أخرى: إنّ الله يدعوكم إلى حج بيته الحرام ليثيبكم به الجنة ويجيركم من الناس فأجابه يومئذ من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء وكل من وصل إليه صوته من حجر، أو شجر، أو آنية، أو تراب قال مجاهد فما حج إنسان ولا يحج أحد حتى تقوم الساعة إلا وقد أسمعه ذلك النداء فمن أجاب مرّة حج مرّة، ومن أجاب مرّتين أو أكثر فيحج مرّتين أو أكثر بذلك المقدار، وفي رواية فنادى على جبل أبي قبيس يا أيها الناس إنّ ربكم بنى بيتاً وأوجب الحج عليكم إليه فأجيبوا ربكم والتفت بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً فأجابه كل من كتب له أن يحج من أصلاب الرجل وأرحام الأمّهات لبيك اللهمّ لبيك، وعن ابن عباس قال لما أمر الله إبراهيم بالأذان تواضعت له الجبال وخفضت وارتفعت له القرى، القول الثاني أنّ المأمور بذلك هو النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم وهو قول الحسن واختاره أكثر المعتزلة واحتجوا عليه بأنّ ما جاء في القرآن وأمكن حمله على أنّ محمد صلى الله عليه وسلم هو المخاطب به فهو أولى لأنّ قوله تعالى: {وإذ بوأنا} تقديره واذكر يا محمد إذ بوّأنا فهو في حكم المذكور، فإذا قال تعالى: وأذن فإليه يرجع الخطاب أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع،(1/2604)
روي عن أبي
(5/460)
---
هريرة قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا» وجواب الأمر {يأتوك} أي يأتوا بيتك الذي بنيته لذلك مجيبين لصوتك بإذننا سامعين طائعين مجنبين خاشعين من أقطار الأرض كما يجيبون صوت الداعي من قبلنا إذا دعاهم بعد الموت بمثل ذلك {رجالاً} أي: مشاة على أرجلهم جمع راجل كقائم وقيام {و} ركباناً {على كل ضامر} أي: بعير مهزول وهو يطلق على الذكر والأنثى.
تنبيه على كل ضامر حال معطوف على حال كأنه قال رجلاً وركباناً وقوله تعالى: {يأتين} صفة لكل ضامر لأنه في معنى الجمع {من كل فج} أي: طريق واسع بين جبلين {عميق} أي بعيد روى سعيد بن جبير بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة من حسنات الحرم قيل يا رسول الله وما حسنات الحرم قال كل حسنة بمائة ألف حسنة» وفي هذا دلالة على أنّ المشي أفضل من الركوب وفي ذلك خلاف بين الأئمة محله كتب الفقه.
(5/461)
---(1/2605)
ولما كان الإنسان ميالاً إلى الفوائد متشوفاً إلى جميل العوائد علل الإتيان بما يرغبه مبيحاً من فضله ما يقصده من أمر المعاش بقوله تعالى: {ليشهدوا} أي: ليحضروا حضوراً تاماً {منافع لهم} واختلف في تلك المنافع فبعضهم حملها على منافع الدنيا وهي أن يتجروا في أيام الحج وبعضهم حملها على منافع الآخرة وهي العفو والمغفرة وبعضهم حملها على الأمرين جميعاً وهو كما قال الرازي أولى فيأتون لتلك المنافع يتنقلون من مشعر من مشاعر الحج إلى مشعر، ومن مشهد إلى مشهد، مجموعين بالدعوة، خاشعين بالهيبة، خائفين من السطوة، راجين للمغفرة، ثم يتفرّقون إلى منازلهم ومواطنهم ويتوجهون إلى مساكنهم كالسائرين إلى مواقف الحشر يوم البعث والنشر، المتفرقين إلى داري النعيم والجحيم، فيا أيها المصدقون بأنّ خليلنا إبراهيم عليه السلام نادى بالحج فأجابه بقدرتنا كرامة له من أراد الله تعالى حجه على بعد أقطارهم وتناي دارهم ممن كان موجوداً في ذلك الزمان وممن كان في ظهور الآباء والأمّهات الأقربين والأبعدين صدّقوا أنّ الداعي من قبلنا بالنفح في الصور يجيبه كل من كان على ظهرها ممن حفظنا له جسده أو سلطنا عليه الأرض فمزقناه حتى صار تراباً وما بين ذلك لأنّ الكل علينا يسير، قال الزمخشريّ: وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه كان يفاضل بين العبادات كلها قبل أن يحج فلما حج فضل الحج على العبادات كلها لما شاهد من تلك الخصائص.
ولما كانت المنافع لا تطيب ولا تثمر إلا بالتقوى وكان الحامل على التقوى ذكر الله تعالى قال تعالى: {ويذكروا اسم الله} أي: الجامع لجميع الكمالات بالتكبير وغيره عند الذبح وغيره وقيل كنى بالذكر عن الذبح لأنّ ذبح المسلمين لا ينفك عنه تنبيهاً على أنّ المقصود مما يتقرّب به إلى الله تعالى أن يذكر اسمه.
(5/462)
---(1/2606)
واختلف في الأيام المعلومات في قوله تعالى {في أيام معلومات} فالذي عليه أكثر المفسرين وهو اختيار الشافعيّ وأبي حنيفة أنه عشر ذي الحجة واحتجوا بأنها معلومة عند الناس بحرصهم على علمّها من أجل أنّ وقت الحج في آخرها ثم للمنافع أوقات من العشر معروفة كيوم عرفة، والمشعر الحرام، ولتلك الذبائح وقت منها وهو يوم النحر وعن ابن عباس أنها أيام التشريق وقيل يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق وقيل يوم النحر إلى آخر أيام التشريق واستدلّ لهذا بقوله تعالى {على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} وهي الإبل والبقر والغنم من الهدايا والضحايا أي: يذكروا اسم الله تعالى عند نحرها ونحر الضحيا والهدايا يكون في هذه الأيام وتقدّم الكلام على الأيام المعدودات في سورة البقرة عند قوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} (البقرة: 203) وقوله تعالى {فكلوا منها} أي: لحومها أمر إباحة، وذلك أنّ الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئاً فأمر الله تعالى بمخالفتهم، واتفق العلماء على أنّ الهدي إذا كان تطوّعاً يجوز للمهتدي أن يأكل منه، وكذلك أضحية التطوّع لما روى عن جابر بن عبد الله في قصة حجة الوداع «فأتى عليّ ببدن من اليمن وساق رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فنحر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بدنة ونحر عليّ ما غبر أي ما بقي وأشركه في بدنه ثم أمر من كل بدنة ببضعة أي بقطعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها» أخرجه مسلم واختلفوا في الهدي الواجب بالشرع مثل دم التمتع والقرآن والدم الواجب بإفساد الحج وفوته وجزاء الصيد هل يجوز للمهدي أن يأكل شيئاً منه؟ قال الشافعي رضيّ الله عنه لا يأكل منه شيئاً وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر وقال ابن عمر رضي الله عنهما لا يأكل من جزاء الصيد والنذر ويأكل مما سوى ذلك وبه قال أحمد وإسحاق وقال مالك يأكل من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه إلا من فدية الأذى وجزاء(1/2607)
(5/463)
---
الصيد والنذر، وعن أصحاب أبي حنيفة أنه يأكل من كل من دم التمتع والقرآن ولا يأكل من واجب سواهما وقوله تعالى: {وأطعموا البائس} أي: الذي أصابه بؤس أي: شدّة {الفقير} أي: المحتاج أمر إيجاب وقد قيل به في الأوّل {ثم ليقضوا تفثهم} أي: يزيلوا أوساخهم وشعثهم كقص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد عند الإحلال {وليوفوا نذورهم} من الهدايا والضحايا {وليطوّفوا} طواف الإفاضة الذي به تمام التحلل {بالبيت العتيق} أي القديم لأنه أوّل بيت وضع للناس وقال ابن عباس سمي عتيقاً لأنّ الله تعالى أعتقه من تسلط الجبابرة فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى منه فإن قيل: قد تسلط عليه الحجاج فلم يمنع أجيب بأنه ما قصد التسلط على البيت وإنما تحصن به ابن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه ولما قصد التسلط عليه أبرهة فعل به ما فعل، وقيل لأنّ الله تعالى أعتقه من الغرق فإنه رفع في أيام الطوفان، وقال مجاهد لأنه لم يملك قط وقيل بيت كريم أي: العتيق بمعنى الكريم، من قولهم عتاق الخيل والطير، والطواف ينقسم إلى ثلاثة هذا ويدخل وقته بعد الوقوف وهذا لا يجبر تركه بدم لأنه ركن الثاني: طواف الوداع ووقته عند إرادة السفر من مكة وهو واجب يجبر تركه بدم، الثالث: طواف القدوم وهو مستحب للحاج والحلال إذا قدم مكة روت عائشة رضي الله تعالى عنها «أنّ أوّل شيء بدأ به حين قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثم طاف ثم لم تكن عمرة ثم حج» أبو بكر وعمر مثله وقرأ ابن ذكران وليوفوا وليطوفوا بكسر اللام فيهما والباقون بإسكانها وفتح أبو بكر الواو ومن وليوفوا وشدّد الفاء وقوله تعالى: {ذلك} خبر مبتدأ مقدر أي: الأمر أو الشأن ذلك المذكور كما تقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال هذا فقد كان كذا {ومن يعظم} أي بغاية جهده {حرمات الله} ذي الجلال والإكرام كلها وهي ما لا يحلّ انتهاكه من مناسك الحج(1/2608)
وغيرها وقيل:
(5/464)
---
الحرمات هنا مناسك الحج وتعظيمها إقامتها وإتمامها، وعن زيد بن أسلم الحرمات خمس الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمحرم حتى يحلّ {فهو} أي: التعظيم الحامل له على امتثال الأمر فيها على وجه واجتناب المنهي عنه كالذبح بذكر اسم غير الله والطواف عرياناً {خير} كائن {له عند ربه} أي: الذي أسدى إليه كل ما هو فيه من النعم في الآخرة ومن انتهكها فهو شر عليه عند ربه ثم إنه تعالى بين أحكام الحج بقوله تعالى: {وأحلت لكم الأنعام} أي: أكلها بعد الذبح وهي الإبل والبقر والغنم {إلا ما يتلى} أي: على سبيل التحذير مستمرّاً {عليكم} تحريمه في قوله تعالى {حرّمت عليكم الميتة} (المائدة: 3) الآية فالاستثناء منقطع ويجوز أن يكون متصلاً والتحريم لما عرض من الموت ونحوه فحافظوا على حدوده وإياكم أن تحرّموا مما أحلّ شيئاًكتحريم عبدة الأوثان البحيرة والسائبة وغير ذلك وأن تحلوا مما حرم الله شيئاً كإحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك.
(5/465)
---(1/2609)
ولما فهم من ذلك حلّ السوائب وما معها وتحريم المذبوح للأنصاب وكان سبب ذلك كله الأوثان تسبب عنه قوله تعالى {فاجتنبوا} أي: بغاية الجهد اقتداء بأبيكم إبراهيم عليه السلام الذي تقدّم الإيصاء له بمثل ذلك عند جعل البيت له مباءة {الرجس} أي: القذر الذي من حقه أنّ يجتنب من غير أمر ثم بينه وميزه بقوله تعالى: {من الأوثان} أي: الذي هو الأوثان كما تجتنب الأنجاس فهو بيان للرجس وتمييز له، كقولك عندي عشرون من الدراهم وسمى الأوثان رجساً وكذا الخمر والميسر والأزلام على طريق التشبيه يعني أنكم كما تنفرون بطباعكم من الرجس وتجتنبونه فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء مثل تلك النفرة، ونبه على هذا المعنى بقوله تعالى {رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} (المائدة: 90) جعل العلة في اجتنابه أنه رجس والرجس مجتنب وقوله تعالى {واجتنبوا قول الزور} تعميم بعد تخصيص فإنّ عبادة الأوثان رأس الزور لأنّ المشرك زاعم أنّ الوثن تحق له العبادة كأنه قال فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله لا تقربوا منه شيئاً لتماديه في القبح والسماجة وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان، والزور من الزور والإزورار وهو الانحراف كما أنّ الإفك من أفكه إذا صرفه فإن الكذب منحرف مصروف عن الواقع وقيل: قول الزور قولهم: هذا حلال وهذا حرام. وما أشبه ذلك من افترائهم وقيل: هو قول المشركين في تلبيتهم لبيك لا شريك له إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. وقيل: هو شهادة الزور لما روى أبو داود والترمذي «أنّه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح فلما سلم قام قائماً مستقبل الناس بوجهه الكريم وقال عدلت شهادة الزور الإشراك بالله قالها ثلاثاً وتلا هذه الآية» وقوله تعالى {حنفاء } أي: مسلمين عادلين عن كل دين سوى دينه {غير مشركين به} تأكيد لما قبله وهما حالان من الواو {ومن يشرك} أي: يوقع شيئاً من الشرك {با} الذي له العظمة كلها بشيء من الأشياء في وقت من(1/2610)
(5/466)
---
الأوقات {فكأنما خر} أي: سقط {من السماء} لعلوّ ما كان فيه من أوج التوحيد وسفول ما انحط إليه من حضيض الإشراك {فتخطفه الطير} أي: تأخذه بسرعة وهو نازل في الهواء قبل أن يصل إلى الأرض {أو تهوي به الريح} أي: حيث لم يجد في الهواء ما يهلكه {في مكان} من الأرض {سحيق} بعيد فهو لا يرجى خلاصه.
تنبيه قال الزمخشري يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال من أشرك بالله تعالى فقد أهلك نفسه هلاكاً ليس بعده هلاك بأن صوّر حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته الطير فتفرّق مزعاً في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوّه بالسماء والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة اه قوله يطوح به الباء مزيدة للتأكيد قال الجوهري: طوّحه أي توّهه وذهب به ههنا وههنا وقرأ نافع بفتح الخاء وتشديد الطاء والباقون بإسكان الخاء وتخفيف الطاء ثم عظم ما تقدّم من التوحيد وما هو مسبب عنه بالإشارة بأداة البعد فقال تعالى:
(5/467)
---(1/2611)
{ذلك} أي: الأمر العظيم الكبير فمن راعاه فاز ومن حاد عنه خاب، ثم عطف عليه ما هو أعمّ من هذا القدر فقال تعالى: {ومن يعظم شعائر الله} جمع شعيرة وهي البدن التي تهدي للحرم لأنها من معالي الحج بأن يختار عظام الأجرام حساناً سماناً غالية الأثمان ويترك المكاس في شرائها فقد كانوا يغالون في ثلاث، ويكرهون المكاس فيهنّ الهدي والأضحية والرقبة، وروى ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما «أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلثمائة دينار فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب» وكان ابن عمر يسوق البدن مجللة بالقباطي فيتصدّق بلحومها وجلالها ويعتقد أن طاعة الله في التقرّب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لا بدّ أن يقام به ويسارع فيه {فإنها} أي: تعظيمها ناشىء {من تقوى القلوب} فمن للابتداء فإن جعلت تبعيضية فلا بدّ من حذف تقديره: فإنّ تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لا بدّمن راجع من الجزاء إلى من ليرتبط به وإنما ذكرت القلوب لأنها مراكز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء وسميت تلك البدن شعائر لإشعارها بما يعرف به أنهار هدي كطعن حديدة بسنامها قال البقاعي: ولعله مأخوذ من الشعر لأنها إذا جرحت قطع شيء من شعرها أو أزيل عن محل الجرح فيكون من الإزالة {لكم فيها} أي: البدن {منافع} كركوبها والحمل عليها بما لا يضرها وعن إبراهيم: من احتاج إلى ظهرها ركب ومن احتاج إلى لبنها شرب وقال أصحاب الرأي: لا يركبها إلا إذا اضطرّ إليها {إلى أجل مسمى} وهو وقت نحرها {ثم محلها} أي: مكان حلّ نحرها {إلى البيت العتيق} أي: عنده والمراد الحرم جميعه وقيل المراد بالشعائر المناسك ومشاهد الحج وبالمنافع الأجر والثواب في قضاء المناسك إلى انقضاء آجالها وبحملها إلى محل الناس من إحرامهم إلى البيت يطوفون به طواف الزيارة {ولكل(1/2612)
(5/469)
---
أمّة} أي: جماعة مؤمنة سلفت قبلكم {جعلنا منسكاً} أي: متعبداً وقرباناً يتقرّبون به إلى الله تعالى، وقرأ حمزة والكسائي منسكاً هنا وفي آخر السورة بكسر السين في الموضعين فيكون بمعنى الموضع والباقون بفتحها مصدر بمعنى النسك {ليذكروا اسم الله} أي: الملك لا على وحده على ذبائحهم وقرابتهم لأنه الرازق لهم وحده فيقولون عند النحر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهمّ منك وإليك ثم علل الذكر بالنعمة تنبيها على التفكر فيها فقال تعالى: {على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} فوجب شكره لذلك عليهم، وفيه تنبيه على أن القربان يجب أن يكون من الأنعام {فإلهكم} أي: الذي شرع هذه المناسك كلها {إله واحد} وإن اختلفت فروع شرائعه، ونسخ بعضها بعضاً، وإذا كان واحداً وجب اختصاصه بالعبادة فلذا قال تعالى: {فله} وحده {أسلموا} أي: انقادوا بجميع طواهركم وبواطنكم في كل ما أمر به أو نهى عنه {وبشر المخبتين} أي: المطيعين المتواضعين من الخبث، وهو المطمئن من الأرض وقيل: هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا.
ثم بين علاماتهم بقوله تعالى: {الذين إذا ذكر الله} أي: الذي له الجلال والجمال {وجلت} أي: خافت خوفاً مزعجاً {قلوبهم} فيظهر عليها الخشوع والتواضع لله تعالى {والصابرين} الذين صار الصبر عادتهم {على ما أصابهم} من الكلف والمصائب ولماكان ذلك قد يشغل عن الصلاة قال تعالى {والمقيمي الصلاة} في أوقاتها والمحافظة عليها، وإن حصل لهم من المشاق بأفعال الحج وغيره ما عسى أن يحصل، ولذلك عبر بالوصف دون الفعل إشارة إلى أنه لا يقيمها على الوجه المشروع مع تلك المشاق والشواغل إلا راسخ في حبها فهم لما تمكن حبها في قلوبهم والخوف من الغفلة عنها كأنهم دائماً في صلاة {ومما رزقناهم ينفقون} في وجوه الخير من الهدايا التي يغالون في أثمانها وغير ذلك إحساناً إلى خلق الله تعالى.
(5/470)
---(1/2613)
ولما قدّم تعالى الحث على التقرّب بالأنعام كلها وكانت الإبل أعظمها خلقاً وأجلها في أنفسهم أمراً خصها بالذكر فقال تعالى: {والبدن} أي: الإبل المعروفة جمع بدنة كخشب وخشبة وانتصابه بفعل يفسره {جعلناها لكم من شعائر الله} أي: من أعلام دينه التي شرعها الله تعالى وقيل لأنها تُشْعَر وهي أن تطعن بحديدة في سنامها ليعلم بذلك أنها هدي {لكم فيها خير} أي: نفع في الدنيا وثواب في العقبى كما قال ابن عباس دنياً وأخرى، وروى الترمذيّ وحسنه عن عائشة رضي الله تعالى عنه «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من هراقة الدم وأنه ليؤتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها وإنّ الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع إلى الأرض فطيبوا بها نفساً» وروى الدارقطني في السنن عن ابن عباس قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد» وعن بعض السلف أنه لم يملك إلا تسعة دنانير فاشترى بها بدنة فقيل له في ذلك فقال سمعت ربي يقول {لكم فيها خير} {فاذكروا اسم الله عليها} أي: على ذبحها بالتكبير حال كونها {صواف} أي قائمة على ثلاث معقولة اليد اليسرى لأنّ البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث {فإذا وجبت جنوبها} أي: سقطت سقوطاً بردت به بزوال أرواحها فلا حركة لها أصلاً، من وجب الحائط وجبة سقط، ووجبت الشمس وجبة غربت، قال ابن كثير وقد جاء في حديث مرفوع ولا تعجلوا النفوس أن تزهق وقوله تعالى {فكلوا منها} أي: إذا كانت تطوّعاً أمر إباحة دفعاً لما قد يظنّ أنه يحرم الأكل منها للأمر بتقريبها لله تعالى: {وأطعموا القانع} أي المتعرّض للسؤال بخشوع وانكسار {والمعتر} أي: السائل وقيل بالعكس وهو قول الشاعيّ رحمه الله تعالى قال في كتاب اختلاف الحديث القانع هو السائل، والمعتر هو الزائر، وقيل: القانع هو الجالس في بيته المتعفف الذي يقنع بما يعطى ولا يسأل ولا يتعرّض،(1/2614)
(5/471)
---
والمعتر المعترّض وقيل القانع هو المسكين والمعتر الذي ليس بمسكين، ولا تكون له ذبيحة فيجيء إلى القوم فيتعرّض لهم لأجل لحمهم {كذلك} أي مثل هذا التسخير العظيم الذي وصفناه من نحرها قياماً {سخرناها} بعظمتنا التي لولاها ما كان ذلك {لكم} وذللناها ليلاً ونهاراً مع عظمها وقوّتها تأخذونها منقادة فتعقلونها وتحبسونها ولو شئنا لجعلناها وحشية لم تطق ولم تكن بأعجز من بعض الوحش التي هي أصغر منها جرماً وأقل قوّة {لعلكم تشكرون} إنعامنا عليكم لتعرفوا أنّ ما ذللها لكم إلا الله تعالى، فيكون حالكم حال من يرجو شكره فتوقعوا لشكر بأن لا تحرّموا منها إلا ما حرّم عليكم ولا تحلوا منها إلا ما أحلّ، وتهدوا منها ما حث على إهدائه وتتصرفوا بحسب ما أمركم.
ولما حث تعالى على التقرّب بها مذكوراً اسمه عليها قال تعالى: {لن ينال الله} الذي له صفات الكمال {لحومها} المأكولة {ولا دماؤها} المهراقة أي: لا يرفعان إليه {ولكن يناله التقوى منكم} أي: يرفع إليه منكم العمل الصالح الخالص له مع الإيمان، كما قال تعالى: {والعمل الصالح يرفعه} (فاطر: 10) أي: يقبله وقيل: كان أهل الجاهلية إذ انحروا البدن نضحوا الدماء حول البيت ولطخوه بالدم فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت.
ثم كرّر سبحانه وتعالى التنبيه على عظيم تسخيرها منبهاً على ما أوجب عليهم به بقوله تعالى: {كذلك} أي: التسخير العظيم {سخرها لكم} بعظمته وغناه عنكم {لتكبروا الله على ما هداكم} أي: أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه، كأن تقولوا الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا، فاختصر الكلام بأن ضمن التكبير معنى الشكر وعدّي تعديته.
(5/472)
---(1/2615)
ثم وعد من امتثل الأمر بقوله تعالى: {وبشر المحسنين} أي: المخلصين فيما يفعلونه ويذرونه كما قال تعالى من قبل {وبشر المخبتين} والمحسن هو الذي يفعل الحسن من الأعمال ويتمسك به فيصير مخبتاً إلى نفسه بتوفير الثواب عليه، وقال ابن عباس: الموحدين. وقوله تعالى:
(5/473)
---
{إنّ الله} أي: الذي لا كفء له {يدفع عن الذين آمنوا} وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وسكون الدال وفتح الفاء والباقون بضم الياء وفتح الدال وبعدها ألف وكسر الفاء أي: يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه ولم يذكر الله تعالى ما يدفعه عنهم حتى يكون أعظم وأفخم وأعمّ وإن كان في الحقيقة أنه يدفع بأس المشركين فلذلك قال تعالى بعده {إنّ الله} أي: الذي له صفات الكمال {لا يحب} أي: لا يكرم كما يفعل المحب {كل حوّان} في أمانته {كفور} لنعمته وهم المشركون، قال ابن عباس: خانوا الله فجعلوا معه شريكاً وكفروا نعمه، فنبه بذلك على أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذه صفته وقال مقاتل: يدفع عن الذين آمنوا بمكة حين أمر المؤمنين بالكف عن كفار مكة قبل الهجرة حين آذوهم فاستأذنوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في قتلهم سرّاً فنهاهم عن ذلك ثم أذن الله تعالى لهم قتالهم بقوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون} أي: المشركين والمأذون فيه وهو في القتال محذوف لدلالة يقاتلون عليه {بأنهم} أي بسبب أنهم {ظلموا} فكانوا يأتونه صلى الله عليه وسلم بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزلت وهي أوّل آية نزلت في القتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية وقيل نزلت في قوم بأعيانهم مهاجرين من مكة إلى المدينة فاعترضهم مشركو مكة فأذن الله لهم في قتال الكفار الذي منعوهم من الهجرة بأنهم ظلموا واعتدوا عليهم بالإيذاء وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم بضم الهمزة والباقون بفتحها.
(5/474)
---(1/2616)
ولماكان التقدير فإنّ الله أراد إظهار دينه بهم عطف عليه قوله تعالى: {وإنّ الله} أي: الذي هو الملك الأعلى {على نصرهم لقدير} وفي ذلك وعد من الله بنصر المؤمنين ثم وصفهم بقوله تعالى: {الذين أخرجوا من ديارهم} إلى الشعب والحبشة والمدينة {بغير حق} أوجب ذلك ما أخرجوا {إلا أن يقولوا} أي: بقولهم {ربنا الله} وهذا القول حق والإخراج به إخراج بغير حق ونظير ذلك قوله تعالى: {هل تنقمون منا إلا أن آمنا با} (المائدة: 59) .
(5/475)
---(1/2617)
تنبيه: الذين أخرجوا مجرور نعت للذين يقاتلون، أو بدل منه، أو منصوب على المدح، أو مرفوع خبر مبتدأ محذوف {ولولا دفع الله} أي: المحيط بكل شيء علماً {الناس بعضهم ببعض} أي: بتسليط المسلمين منهم على الكافرين بالمجاهدة لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمانهم وعلى متعبداتهم كما قال تعالى: {لهدّمت} أي: خربت {صوامع} وهي: معابد صغار للرهبان مرتفعة {وبيع} كنائس للنصارى {وصلوات} أي: كنائس لليهود وسميت بها لأنها يصلى فيها، وقيل: هي كلمة معربة أصلها بالعبرانية صلوتا {ومساجد} للمسلمين {يذكر فيها} أي: هذه المواضع المذكورة {اسم اللَّه} العليّ العظيم {كثيراً} وتنقطع العبادات بخرابها، وقيل: الضمير يرجع للمساجد فقط تشريفاً لها بأن ذكر الله يحصل فيها كثيراً فإن قيل لم قدم الصوامع والبيع في الذكر على المساجد أجيب بأنها أقدم في الوجود وقيل: أخرها في الذكر كما في قوله تعالى ومنهم سابق بالخيرات ولأنّ الذكر آخر العمل فلما كان نبينا صلى الله عليه وسلم خير الرسل وأمتنا خير الأمم لا جرم كانوا آخرهم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم «نحن الآخرون والسابقون» وقيل: أخرها لتكون بعيدة عن الهدم قريبة من الذكر وقرأ نافع دفاع بكسر الدال وفتح الفاء وألف بعدها والباقون بفتح الدال وسكون الفاء وقرى نافع وابن كثير لهدمت بتخفيف الدال والباقون بتشديدها وأظهر التاء عند الصاد نافع وابن كثير وعاصم وأدغمها الباقون {ولينصرن الله} أي: الملك الأعظم {من ينصره} أي: ينصر دينه وأولياءه كائناً من كان منهم أو من غيرهم وقد أنجز الله تعالى وعده بأن سلطا المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم وأورثهم أرضهم وديارهم {إنّ الله} أي: الذي لا كفء له {لقويّ} أي: على ما يريد {عزيز} أي: منيع في سلطانه وقدرته وقوله تعالى: {الذين إن مكناهم} أي: بما لنا من القدرة {في الأرض} بإعلائهم على ضدّهم {أقاموا الصلاة} أي: التي هي(1/2618)
(5/476)
---
عماد الدين الدالة على المراقبة والإعراض عن تحصيل الفاني {وآتوا الزكاة} أي المؤذنة بالزهد في الحاصل منه المؤذن بعمل النفس للرحيل {وأمروا بالمعروف} أي: الذي أمر الله تعالى ورسوله به {ونهوا عن المنكر} أي: الذي نهى الله ورسوله عنه وصف للذين هاجروا وهو إخبار من الله تعالى بظهر الغيب عما ستكون عليه سيرة المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم، وعن عثمان رضي الله تعالى عنه هذا والله ثناء قبل بلاء يريد أن الله تعالى أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا.
تنبيه: في ذلك دليل على صحة خلافة الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين إذ لم يستجمع ذلك غيرهم من المهاجرين وإذا ثبت ذلك وجب أن يكونوا على الحق ولا يجوز حمل الآية على أمير المؤمنين عليّ وحده لأنّ الآية دالة على الجمع، وعن الحسن هم أمّة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: الذين منصوب بدل من قوله تعالى من ينصره {و} أي: الملك الأعلى {عاقبة الأمور} أي: آخر أمور الخلق ومصيرها إليه في الآخرة فلا يكون لأحد فيها أمر حتى أنه لا ينطق أحد إلا بإذن منه.
(5/477)
---(1/2619)
ولما بين سبحانه وتعالى فيما تقدّم إخراج الكفار للمؤمنين من ديارهم بغير حق وأذن في مقاتلتهم وضمن لرسوله صلى الله عليه وسلم النصرة وبين أنّ الله عاقبة الأمور أردفه بما يرجي مجرى التسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم في الصبر على ما هم عليه من أذيته وأذية المؤمنين بالتكذيب وغيره فقال تعالى: {وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم} أي: قبل قومك {قوم نوح} وتأنيث قوم باعتبارالمعنى وتحقير المكذبين في قدرته وإن كانوا من أشدّ الناس {وعاد} أي: ذوو الأبدان الشداد قوم هود {وثمود} ولو الأبنية الطوال في السهول والجبال قوم صالح {وقوم إبراهيم} التجبرون المتكبرون {وقوم لوط} الأنجاس بما لم يسبقهم إليه أحد من الناس {وأصحاب مدين} أرباب الأموال المجموعة من خزائن الضلال فأنت يا أشرف الخلق لست بأوحديّ في التكذيب، فإنّ هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومك.
ولما كان موسى عليه السلام قد أتى من الآيات المرئية ثم المسموعة بما لم يأت بمثله أحدهن تقدّمه فكان تكذيبه في غاية البعد غير سبحانه وتعالى الأسلوب تنبيها على ذلك وعلى أنّ الذين أطبقوا على تكذيبه القبط وأمّا قومه فما كذبه منهم إلا أناس يسير فقال تعالى: {وكذب موسى} وفي ذلك أيضاً تعظيم للتأسية وتفخيم للتسلية {فأمليت للكافرين} أي: أمهلتهم بتأخير العقاب عنهم إلى الوقت الذي ضربته لهم وعبر عن طول الإملاء بأداة التراخي لزيادة التأسية فقال تعالى {ثم أخذتهم} أخذ عزيز مقتدر.
ثم نبه سبحانه وتعالى بالاستفهام في قوله تعالى: {فكيف كان نكير} أي: إنكاري لأفعالهم على أنه كان في أخذهم عبر وعجائب وأهوال وغرائب حيث أيد لهم بالنعمة محنة، وبالحياة هلاكاً، وبالعمارة خراباً، والاستفهام للتقرير أي: وهو واقع موقعه فليحذر هؤلاء الذين أتبتهم بأعذم ما أتى به رسول قومه مثل ذلك فإن لم يؤمنوا بك فعلت بهم كما فعلت بهؤلاء وإنكانوا أمكن الناس فلا يحزنك أمرهم.
(5/478)
---(1/2620)
تنبيه: أثبت ورش الياء بعد الراء من نكير في الوصل وحذفها الباقون وقفاً وصلاً {وكأين} أي: وكن {من قرية} وقيل: معنى كأين رُبَّ، وقوله تعالى: {أهلكتها} قرأه أبو عمرو بعد الكاف بتاء فوقية مضمومة والباقون بعد الكاف بنون وبعدها ألف والمراد أهلها بدليل قوله تعالى {وهي} أي والحال أنها {ظالمة} أي أهلها بكفرهم ويحتمل أن يكون المراد أهلاك نفس القرية فيدخل تحت هلاكها هلاك من فيها لأنّ العذاب النازل إذا بلغ أن يهلك القرية فتصير منهدمة جعل هالكاً لمن فيها وإن كان الأوّل أقرب {فهي} أي: فتسبب عن إهلاكها أنها {خاوية} أي: منهدمة ساقطة أي: جدرانها {على عروشها} أي: سقوفها إذ كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظله أو كرم فهو عرش والخاوي الساقط من خوى إذا سقط أو الخالي من خوى المنزل إذا خلا من أهله وخوى بطن الحامل.
تنبيه: قوله: {على عروشها} لا يخلو من أن يتعلق بخاوية، فيكون المعنى إنها ساقطة على عروشها أي: سقوفها، أي: تقصفت الأخشاب أوّلاً من كثرة الأمطار وغير ذلك من الأشرار، فسقطت ثم سقط عليها الجدران، فسقطت فوق السقوف أو خالية مع بقاء عروشها وسلامتها وإما أن يكون خبراً بعد خبر كأنه قيل: هي خاوية وهي على عروشها، أي: قائمة مظلة على عروشها على معنى أن السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان مائلة فهي مشرفة على السقوف الساقطة، وقوله: {فهي خاوية} جملة معطوفة على {أهلكتها} لا على {وهي ظالمة}، فإنها حال كما قدّرته، والإهلاك ليس حال خرابها، فلا محل لها إن نصبت كأين بمقدّر يفسره أهلكتها لأنها معطوفة على جملة أهلكتها كما مرّ، وهي مفسرة لا محل لها، وإن رفعت كأين بالابتداء فمحلها رفع خبراً ثانياً لكأين والخبر الأوّل أهلكتها {و} كم من {بئر معطلة} أي: متروكة بموت أهلها {وقصر مشيد} أي: رفيع خال بموت أهله.
(5/479)
---(1/2621)
تنبيه: علم مما قدّرته أن بئر معطوف على قرية، وهو يقوي على أنّ عروشها بمعنى مع أوجه، وروي أنّ هذه بئر نزل عليها صالح عليه السلام مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب وهي بحضرموت، وإنما سميت بذلك؛ لأنّ صالحاً حين حضرها مات، وثم بلدة عند البئر اسمها حاضوراء بناها قوم صالح وأمّروا عليهم جهلس بن جلاس وأقاموا بها زماناً، ثم كفروا وعبدوا صنماً فأرسل الله تعالى إليهم حنظلة بن صفوان عليه السلام نبياً فقتلوه، فأهلكهم الله تعالى وعطل بئرهم، وخرب قصورهم، وقوله تعالى:
(5/480)
---
{أفلم يسيروا} أي: كفار مكة {في الأرض} يحتمل أنهم لم يسافروا فحثوا على السفر ليروا مصارع من أهلكهم الله تعالى بكفرهم ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا، وإن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولكن لم يعتبروا، فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا {فتكون} أي: فتسبب عن سيرهم أن تكون {لهم قلوب} واعية {يعقلون بها} ما رأوه بأبصارهم مما نزل بالمكذبين قبلهم {أو} أي: أو يكون لهم إن كانوا عمي الأبصار كما دل عليه جعل هذا قسيماً {آذان يسمعون بها} أخبارهم بالإهلاك وخراب الديار فيعتبروا {فإنها} أي: القصة {لا تعمى الأبصار} ويجوز أن يكون الضمير مبهماً يفسره الأبصار وفي تعمى راجع إليه، والمعنى أنّ أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى فيها، وإنما العمى لقلوبهم كما قال تعالى: {ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} ولا يعتد بعمى الأبصار، فإنه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب.(1/2622)
فإن قيل: فأي فائدة في ذكر الصدور؟ أجيب: بأن الذي قد تعورف واعتقد أنّ العمى على الحقيقة للبصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها واستعماله في القلب استعارة وتمثيل، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا التصوير إلى زيادة تبيين وفضل تعريف ليتقرّر أنّ مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، كما تقول: ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك، فقولك: الذي بين فكيك تقرير لما ادّعيته للسانه وتثبيت؛ لأن محل المضاء هو لا غير، فكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهواً مني ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمداً. قيل: لما نزل قوله تعالى: {ومن كان في هذه أعمى} فهو في الآخرة أعمى؛ قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى، أفأكون في الآخرة أعمى، فنزلت:
(5/481)
---
{ويستعجلونك بالعذاب} الذي توعدتهم به تكذيباً واستهزاء {و} الحال أنه {لن يخلف الله} أي: الذي لا كفء له {وعده} لامتناع الخلف فيه وفي خبره سبحانه وتعالى فيصيبهم ما وعدهم به، ولو من بعد حين لكنه تعالى حليم لا يعجل بالعقوبة، وقد أنجزه يوم بدر {وإنّ يوماً عند ربك} أي: المحسن إليك بتأخير العذاب عنهم إكراماً لك من أيام الآخرة بالعذاب {كألف سنة مما تعدّون} في الدنيا وطول أيامه حقيقة أو من حيث أنّ أيام الشدائد مستطالة، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب
{وكأين من قرية أمليت لها} أي: أمهلتها كما أمهلتكم {وهي ظالمة} كظلمكم بالاستعجال وغيره {ثم أخذتها} أي: بالعذاب والمراد أهلها {وإليّ المصير} أي: المرجع فينقطع كل حكم دون حكمي ففيه وعيد وتهديد.
فإن قيل: لم قال: {فكأين من قرية أهلكناها} (الحج، 45)(1/2623)
بالفاء، وقال هنا بالواو؟ أجيب: بأنّ الأولى وقعت بدلاً عن قوله تعالى: {فكيف كان نكير}، وأما هذه فحكمها حكم ما تقدّم من الجملتين المعطوفتين بالواو أعني قوله تعالى: ولن يخلف الله وعده وإنّ يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون،ولما كان الاستعجال لا يطلب من الرسول وإنما يطلب من المرسل، أمره الله تعالى بأن يديم لهم التخويف والإنذار بقوله تعالى:
{قل} أي: لهم ولا يصدَّنك عن دعائهم ما أخبرناك به من عملهم {يا أيها الناس} أي: جميعاً من قومك وغيرهم {إنما أنا لكم نذير مبين} أي: بين الإنذار والاقتصار على الإنذار مع عموم الخطاب، وذكر الفريقين لأنّ صدر الكلام وسياقه للمشركين، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم بقوله:
(5/482)
---
{فالذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان {وعملوا} أي: تصديقاً لدعواهم تلك {الصالحات لهم مغفرة} أي: لما فرط منهم {ورزق} أي: في الدنيا بالغنائم وغيرها، وفي الآخرة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {كريم} أي: لا خسة فيه ولا دناءة بانقطاع ولا غيره زيادة في غيظهم، ولما كان في سياق الإنذار قال معبراً بالماضي زيادة في التخويف
{والذين سعوا} أي: أوقعوا السعي ولو مرّة واحدة {في آياتنا} أي: القرآن بإبطالها {معجزين} من اتبع النبيّ صلى الله عليه وسلم أي: ينسبونهم إلى العجز ويثبطونهم عن الإيمان أو مقدّرين عجزنا عنهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديد الجيم بعد العين على أنها حال مقدّرة والباقون بألف بعد العين وتخفيف الجيم أي: مسابقين مشاقين للساعين فيها بالتثبيط {أولئك} البعداء البغضاء {أصحاب الجحيم} أي: النار استحقاقاً بما سعوا فيسكنهم فيها ليعلموا أنهم هم العاجزون، ولما لاح من ذلك أنّ الشيطان ألقى شبهاً يفاخرون فيها بجدالهم في دين الله الذي أمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بإظهاره وتقريره وإشهاره عطف عليه تسلية له صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:
(5/483)
---(1/2624)
{وما أرسلنا} أي: بعظمتنا {من قبلك} ثم أكد الاستغراق بقوله تعالى: {من رسول} وهو نبيّ أمر بالتبليغ {ولا نبيّ} وهو من لم يؤمر بالتبليغ وهذا هو المشهور، فمعنى أرسلنا أوحينا، فالنبي أعم من الرسول، ويدل عليه ما رواه الإمام أحمد من أنه صلى الله عليه وسلم «سئل عن الأنبياء فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، قيل: فكم الرسل، فقال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً».
(5/484)
---
وقيل: كما هو ظاهر الآية الرسول من جمع إلى المعجزة كتاباً منزلاً عليه، والنبيّ غير الرسول من لا كتاب له، وقيل: يمكن حمل الآية عليه أيضاً، والرسول من يأتيه الكتاب، والنبيّ يقال له ولمن يوحى إليه في المنام {إلا إذا تمنّى} أي: تلا على الناس ما أمره الله تعالى به أو حدّثهم به، واشتهى في نفسه أن يقبلوه حرصاً منه على إيمانهم شفقة عليهم {ألقى الشيطان} من التشبيه والتخييلات {في أمنيته} أي: فيما تلاه أو حدث به واشتهى أن يقبل ما يتلقفه منه أولياؤه فيجادلون به أهل الطاعة ليضلوهم، وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم، {وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوّاً شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً} (الأنعام، 112)(1/2625)
كما يفعل هؤلاء فيما يفترقون به في وجه الشريعة أصولاً وفروعاً من قولهم في القرآن شعر وسحر وكهانة، وقولهم: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} (الأنعام، 148)، وقولهم: إنّ ما قتله الله تعالى بالموت حتف أنفه أولى بالأكل مما ذبح، وقولهم: نحن أهل الله وسكان حرمه، ولا نخرج من الحرم فنقف في الحج بالمشعر الحرام، وتقف الناس بعرفة، ونحن نطوف في ثيابنا وكذا من ولدناه، وأمّا غيرنا فلا يطوف إلا عارياً ذكراً كان أو أنثى إلا أن يعطيه أحدنا ما يلبسه، ونحو ذلك مما يريدون أن يطفئوا به نور الله تعالى، وكذا تأويلات الباطنية والاتحادية، وأنظارهم التي ألحدوا فيها يضل الله تعالى بها من يشاء، ثم يمحوها ممن أراد من عباده، وما أراد من أمره {فينسخ} أي: فيتسبب عن إلقائه أنه ينسخ {الله} أي: المحيط بكل شيء علماً وقدرة {ما يلقي الشيطان} فيبطله بإيضاح أمره {ثم يحكم الله آياته} أي: ثم يجعلها جلية فيما يريد منها وأدل دليل على أنّ هذا هو المراد من الافتتاح بالمتأخرة في الآيات الختام بقوله عطفاً على ما تقديره فالله على ما يشاء قدير {والله عليم} بأحوال خلقه {حكيم} فيما يفعله بهم. وقيل:
(5/485)
---(1/2626)
إنه صلى الله عليه وسلم حدث نفسه بزوال المسكنة فنزلت، وقال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسريين لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم لما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيهم من الله ما يقارب بينه وبين قومه، وذلك لحرصه على إيمانهم، فجلس ذات يوم في نادٍ من أندية قريش كثير أهله، وأحب يومئذٍ أن يأتيه من الله تعالى شيء لم ينفروا عنه وتمنى ذلك فأنزل الله تعالى سورة والنجم إذا هوى، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وسوس إليه الشيطان حتى سبق لسانه سهواً إلى أن قال: تلك الغرانيق العلى، وإنّ شفاعتهنّ لترتجى ففرح به المشركون، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءة السورة كلها، وسجد في آخرها، وسجد المسلمون لسجوده وجميع من في المسجد من المشركين، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد سوى الوليد بن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص، فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها على جبهتهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود، وتفرّقت قريش وقد سرهم ما سمعوا، وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا تشفع بأحسن الذكر وقالوا: قد عرفنا أنّ الله تعالى يحيي ويميت ويرزق، ولكن هذه آلهتنا تشفع لنا عنده، فإذا جعل لهم محمداً نصيباً فنحن معه، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال: يا محمد ماذا صنعت لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً وخاف من الله تعالى خوفاً شديداً، فأنزل الله تعالى هذه الآية تعزية له وكان به رحيماً، وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود قريش، وقيل: قد أسلمت أهل مكة، فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا: هم أحبّ إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا يتحدّثون به من إسلام(1/2627)
(5/486)
---
أهل مكة كان باطلاً، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار مستخفياً، فلما نزلت هذه الآية قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله تعالى، فغيّر ذلك. قال الرازي: هذه رواية عامّة المفسرين الظاهرية أما أهل التحقيق فقد قالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة، واحتجوا على البطلان بالقرآن والسنة والمعقول.
أمّا القرآن فبوجوه أحدها: قوله تعالى: {ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين} (الحاقة: 44، 45، 46)
ثانيها: قوله تعالى: {قل ما يكون لي أن أبدّله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي} (يونس، 15)، ثالثها: قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى} (النجم، 3)
وأمّا السنة فمنها ما روي عن محمد بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة، فقال: هذا من وضع الزنادقة وصنف فيه كتاباً، وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، فقد روى البخاري في صحيحه: «أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وسجد فيها، وسجد المسلمون والكفار والإنس والجن»، وليس فيه حديث الغرانيق.(1/2628)
وأما المعقول فمن وجوه: أحدها: أنّ من جوّز على النبيّ صلى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان فقد كفر؛ لأنّ من المعلوم بالضرورة أن النبيّ كان معظم سعيه في نفي الأوثان، ثانيها: قوله تعالى: {فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ثم يحكم الله آياته} (الحج، 52)، وإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول صلى الله عليه وسلم أقوى من نسخ هذه الآيات التي تبقى الشبهة معها فإذا أراد الله تعالى إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآناً، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلاً أولى، ثالثها: وهو أقوى الوجوه لو جوّزنا ذلك ارتفع الإيقان عن شرعه ولجوّزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك فيبطل قوله تعالى: {بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} (المائدة، 67)، فإنه لا فرق في العقل بين النقصان من الوحي وبين الزيادة فيه.
(5/487)
---
وزاد الرازي أدلة أخرى على ذلك ثم قال: وقد عرفنا أنّ هذه القصة موضوعة أكثر ما في الباب أنّ جمعاً من المفسرين ذكروها وخبر الواحد لا يعارض الدلائل العقلية والنقلية المتواترة، انتهى. وهذا هو الذي يطمئن إليه القلب وإن أطنب ابن حجر العسقلاني في صحتها، ثم قال: وحينئذٍ فيتعين تأويل ما وقع فيها مما ينكر، وهو قوله: ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق إلخ، انتهى.
وعلى القول بها قد سلك العلماء في ذلك مسالك أحسنها أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يرتل القرآن فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات، ونطق بتلك الكلمات محاكياً نغمته بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله وأشاعها، وقال البيضاوي: بعد أن ذكر بعض هذه القصة وهو مردود عند المحققين، وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه، انتهى.l(1/2629)
قال ابن الأثير: والغرانيق هنا الأصنام، وهي في الأصل للذكور من طير الماء واحدها غرنوق وغرنيق سمي به لبياضه قال: وكانوا يزعمون أنّ الأصنام تقرّبهم من الله وتشفع لهم فشبهت بالطيور التى تعلو إلى السماء وترتفع، وقيل: تمنى أي: قرأ، كقول حسان في حق عثمان بن عفان:
*تمنى كتاب الله أوّل ليلة
** تمنى داود الزبور على رسل
أي: على تأن وتمهل. ولما ذكر سبحانه وتعالى ما حكم به من تمكين الشيطان من هذا الإلقاء ذكر العلة في ذلك بقوله تعالى:
(5/488)
---
{ليجعل ما يلقي الشيطان} أي: في المتلو أو المحدّث به من تلك الشبهة في قلوب أوليائه على التفسير الأوّل، وعلى الثاني وغيره يؤوّل بما يناسبه {فتنة} أي: اختباراً وامتحاناً {للذين في قلوبهم مرض} أي: شك ونفاق {والقاسية} أي: الجافية {قلوبهم} عن قول الحق وهم المشركون {وإنّ الظالمين} أي: الواضعين لأقوالهم وأفعالهم في غير مواضعها كفعل من هو في الظلام {لفي شقاق} أي: خلاف لكونهم في شق غير شق حزب الله بمعاجزتهم في الآيات بتلك الشبهة التي تلقوها من الشيطان، وجادلوا بها أولياء الرحمن {بعيد} عن الصواب {لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون} (الأنعام، 113)، وعلى ثبوت ذكر القصة وجرى عليه الجلال المحلي؛ قال: إنهم في خلاف طويل مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حيث جرى على لسانه ذكر آلهتهم بما يرضيهم، ثم أبطل ذلك.(1/2630)
{وليعلم الذين أوتوا العلم} بإتقان حججه وإحكام براهينه وضعف شبه المعاجزين {أنه} أي: الشيء الذي تلوته أو تحدثت به {الحق} أي: الثابت الذي لا يمكن زواله {من ربك} أي: المحسن إليك بتعليمك إياه {فيؤمنوا به} لما ظهر لهم من صحته بما ظهر من ضعف تلك الشبهة {فتخبت} أي: تطمئن وتخضع {له قلوبهم} وتسكن به نفوسهم {وإنّ الله} بجلاله وعظمته {لهادي الذين آمنوا} في جميع ما يلقيه أولياء الشيطان {إلى صراط مستقيم} أي: قويم، وهو الإسلام يصلون به إلى معرفة بطلانه حتى لا تلحقهم حيرة، ولا تعتريهم شبهة، فيوصلهم ذلك إلى سعادة الدارين
(5/489)
---
{ولا يزال الذين كفروا} أي: وجد منهم الكفر وطبعوا عليه {في مرية} أي: شك {منه} قال ابن جريج: أي: من القرآن، وقيل: مما ألقى الشيطان على رسول الله صلى الله عليه وسلم قولون: فما باله ذكرها بخير ثم ارتدّ عنها، وقيل: من الدين وهو الصراط المستقيم {حتى تأتيهم الساعة} أي: القيامة، وقيل: أشراطها، وقيل: الموت {بغتة} أي: فجأة {أو يأتيهم عذاب يوم عقيم} قال عكرمة والضحاك: لا ليل بعده وهو يوم القيامة، والأكثرون على أنه يوم بدر، وسمي عقيماً لأنه لم يكن في ذلك اليوم للكفار خير كالريح العقيم التي لا تأتي بخير، وقيل: لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه، ويقوي التفسير الأوّل قوله تعالى:
{الملك يومئذٍ} أي: يوم القيامة {لله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال وحده، ولما كان كأنه قيل: ما معنى اختصاصه به، وكل الأيام له قيل: {يحكم بينهم} أي: المؤمنين والكافرين بالأمر الفصل الذي لا حكم فيه ظاهراً ولا باطناً لغيره كما ترونه الآن بل يمشي فيه الأمر على أتم شيء من العدل {فالذين آمنوا وعملوا} أي: وصدّقوا دعواهم الإيمان بأن عملوا {الصالحات} وهي ما أمرهم الله به {في جنات النعيم} فضلاً منه ورحمة لهم بما رحمهم الله تعالى من توفيقهم للأعمال الصالحات(1/2631)
{والذين كفروا} أي: ستروا ما أعطيناهم من المعرفة بالأدلة على وحدانيتنا {وكذبوا بآياتنا} أي: ساعين بما أعطيناهم من الفهم في تعجيزها بالمجادلة بما يوحي إليهم أولياؤهم من الشياطين من الشبه {فأولئك} أي: البعداء عن أسباب الكرم {لهم عذاب مهين} أي: شديد بسبب ما سعوا في إهانة آياتنا مريدين إعزاز أنفسهم بمغالبتنا والتكبر عن آياتنا.
(5/490)
---
فإن قيل: لم أدخل الفاء في خبر الثاني دون الأوّل؟ أجيب: بأن في ذلك تنبيهاً على أنّ إثابة المؤمنين بالجنان تفضل من الله تعالى، وأن عقاب الكافرين مسبب عن أعمالهم، ولذلك قال: {لهم عذاب} ولم يقل: هم في عذاب، ولما كان المؤمنون في حصر مع الكفار رغبهم الله في الهجرة بقوله تعالى:
{والذين هاجروا في سبيل الله} أي: فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله وطلب مرضاته من مكة إلى المدينة {ثم قتلوا} في الجهاد بعد الهجرة، وقرأ ابن عامر بتشديد التاء والباقون بالتخفيف، وألحق به مطلق الموت فضلاً منه بقوله تعالى: {أو ماتوا} أي: من غير قتل {ليرزقنّهم الله} أي: الجامع لصفات الكمال {رزقاً حسناً} هو رزق الجنة من حين تفارق أرواحهم أشباحهم؛ لأنهم أحياء عند ربهم {وإنّ الله} أي: الملك الأعلى القادر على الإحياء كما قدر على الإماتة {لهو خير الرازقين} فإنه يرزق بغير حساب يرزق الخلق عامة البارّ منهم والفاجر.
فإن قيل: الرازق في الحقيقة هو الله تعالى لا رازق للخلق غيره فكيف قال: {لهو خير الرازقين}؟ أجيب: بأنّ غير الله يسمى رازقاً على المجاز كقولهم: رزق السلطان الجيش أي: أعطاهم أرزاقهم، وإن كان الرازق في الحقيقة هو الله تعالى، ولما كان الرزق لا يتم إلا بحسن الدار وكان ذلك من أفضل الرزق قال تعالى دالاً على ختام التي قبل:(1/2632)
{ليدخلنّهم مدخلاً يرضونه} هو الجنة يكرمون فيه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ولا ينالهم فيها مكروه، وقيل: هو خيمة في الجنة من درّة بيضاء لها سبعون ألف مصراع، وقرأ نافع بفتح الميم أي: دخولاً، أو مكان دخول، والباقون بالضم أي: إدخالاً أو مكان إدخال {وإنّ الله} أي: الذي عمت رحمته وتمت عظمته {لعليم} أي: بمقاصدهم وما عملوا مما يرضيه وغيره {حليم} عما قصروا فيه من طاعته وما فرّطوا في جنبه تعالى، فلا يعاجل أحداً بالعقوبة.
(5/491)
---
روي أنّ طوائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبيّ الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين
(5/492)
---
{ذلك} أي: الأمر المقرّر من صفات الله تعالى الذي قصصناه عليك {ومن عاقب} أي: جازى من المؤمنين {بمثل ما عوقب به} ظلماً من المشركين أي: قاتلهم كما قاتلوه في الشهر الحرام {ثم بغي عليه} أي: ظلم بإخراجه من منزله، قال مقاتل: نزلت في قوم من المشركين أتوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من محرم، فقال بعضهم لبعض: إنّ أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام، فاحملوا عليهم فناشدهم المسلمون وكرهوا قتالهم وسألوهم أن يكفوا عن القتال لأجل الشهر الحرام، فأبى المشركون، فقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم، وثبت المسلمون لهم فنصرهم الله تعالى عليهم فذلك قوله تعالى: {لينصرنّه الله} أي: الذي لا كفء له {إنّ الله} أي: الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً {لعفو} عن المؤمنين {غفور} لهم.
فإن قيل: لم سمى ابتداءً فعلهم عقوبة مع أن العقاب من العقب وهو منتف في الابتداء؟ أجيب: بأنه أطلق عليه ذلك للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى، 40)
{يخادعون الله وهو خادعهم} (النساء، 142)، وكما في قوله: كما تدين تدان.(1/2633)
فإن قيل: كيف طابق ذكر العفو الغفور في هذا الموضع مع أنّ ذلك الفعل جائز للمؤمنين؛ لأنهم مظلومون؟ أجيب: بأن المنتصر لما اتبع هواه في الانتقام، وأعرض عما ندب الله تعالى له بقوله تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} (الشورى، 43)
وبقوله تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} (الشورى، 40)
(5/493)
---
وبقوله تعالى: {وأن تعفو أقرب للتقوى} (البقرة، 237)، فكان في إعراضه عما ندب إليه نوع إساءة أدب فكأنه تعالى قال: عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها له، فإني أنا الذي أذنت له فيها، وفي ذكر العفو تنبيه على أنه تعالى قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضدّه
{ذلك} أي: النصر {بأنّ الله} أي: المتصف بجميع صفات الكمال {يولج} أي: يدخل لأجل مصالح العباد المسيء والمحسن {الليل في النهار} فيمحو ظلامه بضيائه، ولو شاء الله تعالى مؤاخذة الناس لجعله سرمداً فتعطلت مصالح النهار {ويولج النهار في الليل} فينسخ ضياءه بظلامه ولولا ذلك لتعطلت مصالح الليل، أو بأنّ يدخل كلاً منهما في الآخر فيزيد به وذلك من أثر قدرته التي بها النصر {وأنّ الله} بجلاله وعظمته {سميع} لكل ما يقال {بصير} لكل ما يفعل، دائم الاتصاف بذلك، فهو غير محتاج إلى سكون الليل ليسمع، ولا لضياء النهار ليبصر؛ لأنه سبحانه وتعالى منزه عن الأغراض، ولما وصف تعالى نفسه بما ليس لغيره علله بقوله تعالى:(1/2634)
{ذلك} أي: الاتصاف بتمام القدرة وشمول العلم {بأنّ الله} أي: القادر على كل ما أراد {هو} وحده {الحق} أي: الثابت الواجب الوجود {وأنّ ما يدعون} أي: يعبد المشركون {من دونه} وهو الأصنام {هو الباطل} الزائل، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة بالتاء على الخطاب للمشركين، والباقون بالياء على الغيبة، وأنّ هذه مقطوعة من ما في الرسم {وأنّ الله} لكونه هو الحق الذي لا كفء له {هو} وحده {العليّ} أي: العالي على كل شيء بقدرته {الكبير} وكل ما سواه سافل حقير تحت قهره وأمره، ثم إنه سبحانه وتعالى استدل على كمال قدرته بأمور ستة:
الأول: قوله تعالى:
(5/494)
---(1/2635)
{ألم ترَ} أي: أيها المخاطب {أنّ الله} أي: المحيط قدرة وعلماً {أنزل من السماء ماءً} أي: مطراً بأنّ يرسل رياحاً فتثير سحاباً، فيمطر على الأرض الماء {فتصبح الأرض} أي: بعد أنّ كانت مسودّة يابسة ميتة جامدة {مخضرة} حية يانعة مهتزة نامية بما فيه رزق العباد وعمارة البلاد فإن قيل: لم قال تعالى: {فتصبح}، ولم يقل: فأصبحت؟ أجيب: بأنّ ذلك لنكتة وهي إفادة بقاء المطر زماناً بعد زمان كما تقول: أنعم عليّ فلان عام كذا فأروح وأغدو شاكراً له، ولو قلت: فرحت وغدوت شاكراً له لم يقع ذلك الموقع. فإن قيل: لم رفع ولم ينصب جواباً للاستفهام؟ أجيب: بأنه لو نصب لأعطى عكس ما هو الغرض؛ لأنّ معناه أنبتت الأخضر فينقلب بالنصب إلى نفي الأخضر، ووجه ذلك: بأنّ النصب بتقدير أنّ وهو علم للاستقبال فيجعل الفعل مترقباً والرفع جزم بإثباته مثاله أنّ تقول لصاحبك: ألم ترَ أني أنعمت عليك فتشكر، فإن نصبته فأنت ناف لشكره شاك في تفريطه فيه، وإن رفعته فأنت مثبت لشكره، وهذا وأمثاله مما يجب أنّ يتنبه له من اتسم بالعلم في علم الإعراب، وتوقير أهله {إن الله} أي: الذي له تمام النعم وكمال العلم {لطيف} بعباده في إخراج النبات بالماء {خبير} أي: بمصالح الخلق ومنافعهم، فإنه مطلع على السرائر، وإن دقت فلا يستبعد عليه إحياء من أراد بعد موته، وقال ابن عباس: لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط.
الأمر الثاني: قوله تعالى:
{له ما في السموات} أي: التي أنزل منها الماء {وما في الأرض} أي: التي استقر فيها ملكاً وخلقاً {وإنّ الله} أي: الذي له الإحاطة التامة {لهو} أي: وحده {الغني} في ذاته عن كل شيء {الحميد} أي: المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله.
الأمر الثالث: قوله تعالى:
(5/495)
---(1/2636)
{ألم ترَ} أي: أيها المخاطب {أنّ الله} ذا الجلال والإكرام {سخر لكم} فضلاً منه {ما في الأرض} كله من مسالكها وفجاجها، وما فيها من حيوان وجماد وزرع وثمار، فلولا تسخيره تعالى الإبل والبقر مع قوتهما حتى ذللهما للضعيف من الناس لما انتفع بهما أحد منهم.
الأمر الرابع: قوله تعالى: {والفلك} أي: وسخر لكم الفلك أي: السفن، ثم بيّن تسخيرها بقوله: {تجري في البحر} العجاج المتلاطم بالأمواج بريح طيبة للركوب والحمل {بأمره} أي: بإذنه.
الأمر الخامس: قوله تعالى: {ويمسك السماء} أي: كراهة {أنّ تقع على الأرض} التي تحتها مع علوها وعظمها وكونها بغير عمد فتهلكوا {إلا بإذنه} أي: بمشيئته، فيقع ذلك يوم القيامة حين يريد طي هذا العالم وإيجاد عالم البقاء {إن الله} أي: الذي له الخلق والأمر {بالناس} أي: على ظلمهم {لرؤوف} أي: بما يحفظ من سرائرهم {رحيم} أي: حيث هيأ لهم أسباب الاستدلال وفتح لهم أبواب المنافع، ودفع عنهم أبواب المضار.
{وهو} أي: وحده {الذي أحياكم} أي: عن الجمادية بعد أنّ أوجدكم من العدم {ثم يميتكم} أي: عند انقضاء آجالكم ليكون الموت واعظاً لأولي البصائر منكم {ثم يحييكم} أي: يوم البعث للثواب والعقاب وإظهار العدل في الجزاء {إن الإنسان} أي: المشرك {لكفور} أي: لبليغ الكفر حيث لم يشكر على هذه النعم المحيطة به فيوحد الله تعالى، وقال ابن عباس: هو الأسود بن عبد الأسد، وأبو جهل، والعاص بن وائل، وأبيّ بن خلف، قال الرازي: والأولى تعميمه في كل المنكرين.
(5/496)
---(1/2637)
{لكل أمة} أي: في كل زمان {جعلنا منسكاً} قال ابن عباس: شريعة يتعبدن بها {هم ناسكوه} أي: عاملون بها، وروي عنه أنه قال: عيداً، وقال مجاهد وقتادة: موضع قربان يذبحون فيه، وقيل: موضع عبادة، وقرأ حمزة والكسائي: منسكاً، بكسر السين، والباقون بفتحها {فلا ينازعنك في الأمر} أي: أمر الذبائح، نزلت في بديل بن ورقاء، وبشر بن سفيان، ويزيد بن خنيس قالوا لأصحاب النبيّ: صلى الله عليه وسلم ما لكم تأكلون مما تقتلون، ولا تأكلون مما قتله الله تعالى؟ يعنون الميتة، وقال الزجاج: هو نهي له صلى الله عليه وسلم عن منازعتهم كما تقول: لا يضاربنك فلان أي: فلا تضاربه، وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إلا بين اثنين معناه لا تنازعهم أنت {وادع} أي: أوقع الدعوة لجميع الخلق {إلى ربك} المحسن إليك أي: إلى دينه، ثم علل ذلك بقوله: {إنك} مؤكداً له بحسب ما عندهم من الإنكار {لعلى هدى} أي: دين واضح {مستقيم} هو دين الإسلام.
{وإن جادلوك} أي: في أمر الدين بعد أنّ ظهر الحق ولزمت الحجة {فقل الله} أي: الملك المحيط بالعز والعلم {أعلم بما تعملون} من المجادلة الباطلة وغيرها، فيجازيكم عليه وهذا وعيد فيه رفق، وكان ذلك قبل الأمر بالقتال، ولما أمر الله تعالى بالإعراض عنهم، وكان ذلك شديداً على النفس لتشوقها إلى النصرة رجاه في ذلك بقوله تعالى مستأنفاً تحذيراً لهم:
{الله} أي: الذي لا كفء له {يحكم بينكم} أي: بينك مع اتباعك وبينهم {يوم القيامة} الذي هو يوم التغابن {فيما كنتم فيه تختلفون} من أمر الدين ومن نصر ذلك اليوم لم يبال بما حلّ به، فهو كقوله: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} (الشعراء، 227)
؛ قال البغوي: والاختلاف ذهاب كل واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر.
(5/497)
---(1/2638)
{ألم تعلم أنّ الله} بجلال عزه وعظيم سلطانه {يعلم ما في السماء والأرض} فلا يخفى عليه شيء {إن ذلك} أي: ما ذكر {في كتاب} كتب فيه كل شيء حكم بوقوعه قبل وقوعه، وكتب جزاؤه وهو اللوح المحفوظ {إن ذلك} أي: علم ما ذكر {على الله} وحده {يسير} أي: سهل؛ لأنّ علمه مقتضى ذاته المتعلق بكل المعلومات على السواء.
{ويعبدون} أي: المشركون على سبيل التجدّد والاستمرار {من دون الله} أي: من أدنى رتبة من رتبه الذي قامت جميع الدلائل على احتوائه على جميع صفات الكمال وتنزيهه عن شوائب النقص {ما لم ينزل به سلطاناً} أي: حجة واحدة من الحجج وهو الأصنام {وما ليس لهم به علم} حصل لهم من ضرورة العقل واستدلاله بالحجة {وما للظالمين} أي: الذين وضعوا التعبد في غير موضعه لارتكابهم لهذا الأمر العظيم الخطر، وأكد النفي واستغرق المنفي بإثبات الجار، فقال تعالى: {من نصير} أي: ينصرهم من الله لا مما أشركوه به ولا من غيره فيدفع عنهم عذابه أو يقرّر مذهبهم.
(5/498)
---(1/2639)
{وإذا تتلى} أي: على سبيل التحذير والمبالغة من أيّ تال كان {عليهم آياتنا} أي: من القرآن حال كونها {بينات} لا خفاء فيها عند من له بصيرة في شيء مما دعت إليه من الأصول والفروع {تعرف في وجوه الذين كفروا} أي: تلبسوا بالكفر {المنكر} أي: الإنكار الذي هو منكر في نفسه، فيظهر أثره في وجوههم من الكراهة والعبوس لما حصل لهم من الغيظ، ثم بيّن ما لاح في وجوههم بقوله تعالى: {يكادون يسطون} أي: يوقعون السطوة بالبطش والعنف {بالذين يتلون عليهم آياتنا} أي: الدالة على أسمائنا الحسنى وصفاتنا العليا القاضية بوحدانيتنا مع كونها بينات في غاية الوضوح في أنها كلامنا لما فيها من الحكم والبلاغة التي عجزوا عنها، ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أنّ يقابلهم بالوعيد بقوله تعالى: {قل أفأنبئكم} أي: أفأخبركم خبراً عظيماً {بشر من ذلكم} بأكره إليكم من القرآن المتلوّ عليكم، وقوله تعالى: {النار} كأنه جواب سائل قال: ما هو؟ فقيل: النار، أي: هو النار، ويجوز أنّ تكون مبتدأ خبره {وعدها الله الذين كفروا} جزاء لهم فبئس الموعد هي {وبئس المصير} أي: النار، ولما بين تعالى أنه لا حجة لعابد غيره اتبعه بأنّ الحجة قائمة على أنّ ذلك الغير في غاية الحقارة، فقال تعالى منادياً أهل العقل منبهاً تنبيهاً عاماً:
(5/499)
---
{يا أيها الناس ضرب مثل} حاصله أنّ من عبدتموه من الأصنام أحقر منكم {فاستمعوا} أي: أنصتوا {له} وتدبروه، ثم فسره بقوله تعالى: {إن الذين تدعون} أي: تعبدون وتدعونهم في حوائجكم وتجعلونهم آلهة {من دون الله} أي: الملك الأعلى من هذه الأصنام التي أنتم بها مغترّون {لن يخلقوا ذباباً} أي: لا قدرة لهم على ذلك في زمن من الأزمان على حال من الأحوال مع صغره فكيف بما هو أكبر منه {ولو اجتمعوا} أي: الذين زعمتموهم شركاء {له} أي: الخلق فهم في هذا أمثالكم.
(5/500)
---(1/2640)
تنبيه: {محل ولو اجتمعوا له} النصب على الحال كأنه قال تعالى: يستحيل أنّ يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم لخلقه وتعاونهم عليه، وهذا من أبلغ ما أنزل الله تعالى في تجهيل قريش واستركاك عقولهم، والشهادة على أنّ الشيطان قد خدعهم بخداعه حيث وصفوا بالإلهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها والإحاطة بالمعلومات عن آخرها صوراً وتماثيل يستحيل منها أنّ تقدر على أقل ما خلقه الله تعالى وأذله وأصغره وأحقره، ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء قدرتهم أنّ هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئاً فاجتمعوا على أنّ يستخلصوه منه لم يقدروا كما قال تعالى: {وإن يسلبهم الذباب} أي: الذي تقدّم أنهم لا قدرة لهم على خلقه، وهو غاية في الحقارة {شيئاً} أي: من الأشياء جل أو قل {لا يستنقذوه منه} لعجزهم، فكيف يجعلونهم شركاء لله؟ هذا أمر مستغرب عبر عنه بضرب مثل.
تنبيه: الذباب مفرد وجمعه القليل: أذبة، والكثير: ذبان مثل غراب وأغربة وغربان، وعن ابن عباس أنهم كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ورؤوسها بالعسل، ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. وعن ابن زيد: كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلىء، وأنواع الجواهر ويطيبونها بألوان الطيب فربما يسقط شيء منها فيأخذه طائر أو ذباب فلا تقدر الآلهة على استرداده منه {ضعف الطالب} قال الضحاك: هو العابد {والمطلوب} المعبود، وقال ابن عباس: الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب الذي على الصنم، والمطلوب هو الصنم، وقيل: على العكس الطالب الصنم، والمطلوب الذباب، أي: لو طلب الصنم أنّ يخلق الذباب لعجز عنه، ولما أنتج هذا جهلهم بالله عز وجل عبّر عنه بقوله تعالى:
(6/1)
---(1/2641)
{ما قدروا الله} أي: الذي له الكمال كله {حق قدره} أي: ما عظموه حق تعظيمه، وما عرفوه حق معرفته ولا وصفوه حق صفته حيث أشركوا به ما لا يمتنع عن الذباب ولا ينتصف منه {إنّ الله} أي: الجامع لصفات الكمال {لقويّ} على خلق الممكنات بأسرها {عزيز} أي: لا يغلبه شيء وآلهتهم التي يعبدونها عاجزة عن أقلها مقهورة من أذلها؛ قال الكلبي في هذه الآية وفي نظيرها في سورة الإنعام أنها نزلت في جماعة من اليهود مالك بن الصيف، وكعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وغيرهم حيث قالوا: إنّ الله تعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض وأجناس خلقها استلقى واستراح ووضع إحدى رجليه على الأخرى فنزلت هذه الآية تكذيباً لهم، ونزل قوله تعالى: {وما مسنا من لغوب} (ق، 38)
؛ قال الرازي: واعلم أنّ منشأ هذه الشبهة هو القول بالتشبيه فيجب تنزيه ذات الله تعالى عن مشابهة سائر الذوات خلاف ما يقوله المشبهة، وتنزيه صفاته عن مشابهة سائر الصفات خلاف ما يقوله الكرامية، وتنزيه أفعاله عن مشابهة سائر الأفعال أعني عن الغرض والدواعي واستحقاق المدح والذم خلاف ما يقوله المعتزلة، قال أبو القاسم الأنصاري رحمه الله تعالى: فهو سبحانه وتعالى خير النعت عزيز الوصف، فالأوهام لا تصوّره والأفكار لا تقدره، والعقول لا تمثله والأزمنة لا تدركه والجهات لا تحويه ولا تحدّه، صمديّ الذات سرمديّ الصفات.v
ولما ذكر سبحانه وتعالى ما يتعلق بالإلهيات ذكر ما يتعلق بالنبوّات بقوله تعالى:
{الله} أي: الملك الأعلى {يصطفي} أي: يختار ويختص {من الملائكة رسلاً} كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم الصلاة والسلام {ومن الناس} كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم نزلت حين قال المشركون: {أأنزل عليه الذكر من بيننا} (ص، 8)
فأخبر تعالى أنّ الاختيار إليه يختار من يشاء من خلقه {إنّ الله} أي: الذي له الجلال والجمال {سميع} لمقالتهم {بصير} بمن يتخذه رسولاً.
(6/2)
---(1/2642)
{يعلم ما بين أيديهم} أي: الرسل {وما خلفهم} أي: علمه محيط بما هم مطلعون عليه، وبما غاب عنهم، فلا يفعلون شيئاً إلا بإذنه {وإلى الله} أي: وحده تعالى {ترجع} بغاية السهولة {الأمور} يوم يتجلى لفصل القضاء فيكون أمره ظاهراً لا خفاء فيه، ولا يصدر شيء من الأشياء إلا على وجه العدل الظاهر لكل أحد، ولا يكون لأحد التفات إلى غيره، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون بضم التاء وفتح الجيم، ولما أثبت سبحانه وتعالى أنّ الملك والأمر له وحده خاطب المقبلين على دينه وهم الخلص من الناس بقوله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا} أي: تلبسوا بالإيمان {اركعوا} تصديقاً لإيمانكم {واسجدوا} أي: صلوا الصلاة التي شرعتها لكم فإنها رأس العبادة ليكون دليلاً على صدقكم في الإقرار بالإيمان.
(6/3)
---(1/2643)
تنبيه: إنما خص هذين الركنين في التعبير عن الصلاة لأنهما لمخالفتهما الهيئات المعتادة هما الدالان على الخضوع، فحسن التعبير بهما، وذكر عن ابن عباس أنّ الناس كانوا في أوّل الإسلام يركعون ولا يسجدون، وقيل: كان الناس أوّل ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود حتى نزلت هذه الآية، ولما خص أفضل العبادة عمم بقوله تعالى: {واعبدوا} أي: بأنواع العبادة {ربكم} أي: المحسن إليكم بكل نعمة دينية ودنيوية، ولما ذكر عموم العبادة أتبعها ما قد يكون أعم منها مما صورته صورتها، أو قد يكون بلا نية، فقال: {وافعلوا الخير} أي: كله من القرب كصلة الأرحام وعيادة المريض ونحو ذلك من معالي الأخلاق بنية وبغير نية حتى يكون لكم ذلك عادة فيخف عليكم عمله لله تعالى؛ قال أبو حيان: بدأ تعالى بخاص وهو الصلاة، ثم بعام وهو: واعبدوا ربكم، ثم بأعمّ وهو: وافعلوا الخير {لعلكم تفلحون} أي: افعلوا هذا كله وأنتم راجون الفلاح وهو الفوز بالبقاء في الجنة طامعون فيه غر مستيقنين، ولا تتكلوا على أعمالكم، وقال الإمام أبو القاسم الأنصاريّ: لعل كلمة ترج تشعر بأنّ الإنسان قلما يخلو في أداء فريضة من تقصير، وليس هو على يقين من أنّ الذي أتى به مقبول عند الله والعواقب مستورة وكلٌ ميسر لما خلق له.
(6/4)
---(1/2644)
تنبيه: اختلف في سجود التلاوة عند قراءة هذه الآية فذهب قوم إلى أنه يسجد عندها، وهو قول عمر وعليّ وابن عمر وابن مسعود وابن عباس، وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود وقول البيضاوي ولقوله صلى الله عليه وسلم «فضلت سورة الحج بسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرأهما» حديث ضعيف رواه الترمذي وضعفه، وذهب قوم إلى أنه لا يسجد وهو قول سفيان الثوري، وقول أبي حنيفة وأصحابه؛ لأنهم يقولون: قرن السجود بالركوع في ذلك، فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة، ولما كان الجهاد أساس العبادة وهو مع كونه حقيقة في جهاد الكفار صالح لأنّ يعم كل أمر بمعروف ونهي عن منكر بالمال والنفس بالقول والفعل، بالسيف وغيره وكل جهاد في تهذيب النفس وإخلاص العمل ختم به فقال تعالى:
{وجاهدوا في الله} أي: لله ومن أجله أعداء دينه الظاهرة كأهل الزيغ والباطنة كالهوى والنفس، وقول البيضاوي: وعنه عليه الصلاة والسلام أنه رجع من غزوة تبوك فقال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». حديث رواه البيهقي وضعف إسناده، وقال غيره: لا أصل له، قيل: أراد بالأصغر جهاد الكفار وبالأكبر جهاد النفس {حق جهاده} أي: باستفراغ الطاقة في كل ما أمر به من جهاد العدوّ والنفس على الوجه الذي أمر به من الحج والغزو وغيرهما.
(6/5)
---(1/2645)
فإن قيل: ما وجه هذه الإضافة، وكان القياس في حق الجهاد في الله أو حق جهادكم في الله، كما قال تعالى: {وجاهدوا في الله}؟ أجيب: بأنّ الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص، فلما كان الجهاد مختصاً بالله من حيث أنه مفعول لأجله صحت إضافته إليه، وعن مجاهد عن الكلبي أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن، 16)، ولما أمر الله تعالى بهذه الأوامر أتبعها ببعض ما يجب به شكره وهو كالتعليل لما قبله فقال تعالى: {هو اجتباكم} أي: اختاركم لدينه ولنصرته، وجعل الرسالة فيكم والرسول منكم وجعله أشرف الرسل، ودينه أشرف الأديان، وكتابه أعظم الكتب، وجعلكم لكونكم أتباعه خير الأمم {وما جعل عليكم في الدين} أي: الذي اختاره لكم {من حرج} أي: من ضيق وشدّة وهو أنّ المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله تعالى له منه مخرجاً بعضها بالتوبة وبعضها بردّ المظالم والقصاص، وبعضها بأنواع الكفارات من الأمراض والمصائب وغير ذلك، فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من الذنوب ومن العقاب لمن وفقه الله تعالى وسهله عند الضرورات كالقصر والتيمم وأكل الميتة والفطر للمريض والمسافر، وغير ذلك؛ قال صلى الله عليه وسلم «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» رواه البخاري، وعن ابن عباس أنه قال: الحرج ما كان على بني إسرائيل من الآصار التي كانت عليهم وضعها الله تعالى عن هذه الأمة، وقوله تعالى: {ملة أبيكم} نصب بنزع الخافض وهو الكاف أو على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبله بحذف المضاف أي: وسع دينكم توسعة ملة أبيكم أو على الإغراء أي: اتبعوا ملة أبيكم، أو على الاختصاص أي: أعني بالدين ملة أبيكم كقولك: الحمد لله الحميد، وقوله تعالى: {إبراهيم} عطف بيان.
(6/6)
---(1/2646)
فإن قيل: لم كان إبراهيم أباً للأمة كلها؟ أجيب: بأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أباً لأمّته؛ لأنّ أمّة الرسول في حكم أولاده. واختلف في عود ضمير {هو} على قولين أحدهما أنه يعود على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنّ لكل نبيّ دعوة مستجابة، ودعوة إبراهيم عليه السلام : {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} ، فاستجاب الله تعالى له فجعلها محمداً صلى الله عليه وسلم وأمّته، والثاني: أنه يعود على الله تعالى في قوله تعالى: {هو اجتباكم}، وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال إن الله تعالى {سمّاكم المسلمين من قبل} أي: في كل الكتب المنزلة التي نزلت قبل إنزال هذا لقرآن {وفي هذا} أي: وسماكم في هذا القرآن الذي أنرل عليكم من بعد إنزال تلك الكتب، وهذا القول كما قال الرازي: أقرب لأنه تعالى قال: {ليكون الرسول شهيداً عليكم} أي: يوم القيامة أنه بلغكم {وتكونوا شهداء على الناس} أي: أنّ رسلهم بلغتهم، فبيّن أنه تعالى سمّاهم بذلك لهذا الغرض، وهذا لا يليق إلا بالله تعالى، وإنما كانوا شهداء على الناس لسائر الأنبياء؛ لأنهم لم يفرقوا بين أحد منهم وعلموا أنّ أخبارهم من كتابهم على لسان نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك صحت شهادتهم وقبلها الحكم العدل وعن كعب أعطيت هذا الأمة ثلاثاً لم يعطهن إلا الأنبياء: جعلهم شهداء على الناس وما جعل عليهم في الدين من حرج، وقال تعالى: {ادعوني أستجب لكم}، وعن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال: لم يذكر الله بالإيمان والإسلام غير هذه الأمّة ذكرها بهما وكرّرهما جميعاً، ولم يسمع بأمة ذكرت بالإسلام والإيمان غيرها وعن مكحول أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «تسمى الله عز وجل باسمين سمى بهما أمّتي؛ هو السلام وسمى أمتي المسلمين، وهو المؤمن وسمى أمتي المؤمنين».
(6/7)
---(1/2647)
تنبيه: في الآية دليل على أنّ شهادة غير المسلم ليست مقبولة، ولما ندبهم تعالى ليكونوا خير الأمم تسببب عن ذلك قوله تعالى: {فأقيموا الصلاة} التي هي أركان قلوبكم وصلة ما بينكم وبين ربكم أي: داوموا عليها {وآتوا الزكاة} التي هي طهرة أبدانكم، وصلة بينكم وبين إخوانكم {واعتصموا بالله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال في جميع ما أمركم به من المناسك التي تقدمت وغيرها، ثم علل تعالى أهليته بقوله تعالى: {هو} أي: وحده {مولاكم} أي: المتولي لجميع أموركم فهو ينصركم على كل من يعاديكم بحيث أنّ تتمكنوا من إظهار هذا الدين من مناسك الحج وغيرها، ثم علل الأمر بالاعتصام وتوحده بالولاية بقوله تعالى: {فنعم المولى} أي: هو {ونعم النصير} أي: الناصر لكم لأنه تعالى إذا تولى أحداً كفاه كل ما أهمه وإذا نصر أحد أعلاه عن كل من خاصمه «ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببت الحديث إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، وهذا نتيجة التقوى، وما قبله من أفعال الطاعة دليلها فقد انطبق آخر السورة على أوّلها ورد مقطعها على مطلعها، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي» حديث موضوع.
سورة المؤمنين
مكية
وهي مائة وثمان أو تسع عشرة آية،وألف وثمانمائة وأربعون كلمة، وأربعة آلاف وثمانمائة حرف
(6/8)
---(1/2648)
{بسم الله} الذي له الأمر كله {الرحمن} الذي عم إنعامه {الرحيم} الذي خص من أراد بالإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دويّ كدويّ النحل، فأنزل عليه يوماً فمكث ساعة حتى سرّي عنه، فاسقبل القبلة ورفع يديه فقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم أرضنا وارض عنا، ثم قال: لقد أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة»، ثم قرأ:
{قد أفلح المؤمنون} حتى ختم العشرة آيات، قال ابن عباس: قد سعد المصدّقون بالتوحيد وبقوا في الجنة، وقيل: الفلاح البقاء والنجاة، روى هذا الحديث الترمذي وغيره وأنكره النسائي وغيره.
(6/9)
---
تنبيه: قال الزمخشري قد نقيضة لما هي تثبت المتوقع ولما تنفيه، ولا شك أنّ المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم، فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه. فإن قيل: ما المؤمن؟ أجيب: بأنه في اللغة هو المصدق وأما في الشريعة فقد اختلف فيه على قولين: أحدهما: أنّ كل من نطق بالشهادتين مواطئاً قلبه لسانه، فهو مؤمن والآخر أنه صفة مدح لا يستحقها إلا البر التقي دون الفاسق، ثم إنه تعالى حكم بحصول الفلاح لمن كان مستجمعاً لصفات سبعة:
الصفة الأولى: كونهم مؤمنين.
الصفة الثانية: المذكورة في قوله تعالى:
(6/10)
---(1/2649)
{الذين هم} أي: بضمائرهم وظواهرهم {في صلاتهم خاشعون} قال ابن عباس: مخبتون أذلاء، وقيل: خائفون، وقيل: متواضعون، وعن قتادة: الخشوع إلزام موضع السجود، روى الحاكم ـ وقال: صحيح على شرط الشيخين : «أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي رافعاً بصره إلى السماء، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره إلى نحو مسجده» أي: موضع سجوده وكان الرجل إذا قام إلى الصلاة هاب الرحمن أنّ يشدّ بصره إلى شيء أو يحدّث بشيء من شأنّ الدنيا، وقيل: هو جمع الهمة لها والإعراض عما سواها، ومن الخشوع أنّ يستعمل الأدب فيتوقى كف الثوب والعبث بجسده وثيابه والتشبيك والالتفات والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم والسدل والفرقعة والاختصار، وتقليب الحصى؛ روى الترمذي لكن بسند ضعيف: «أنه صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال: لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه»، ونظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى وهو يقول: اللهم زوّجني الحور العين فقال: بئس الخاطب أنت تخطب وأنت تعبث، وعنه أنه قال: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع، وعن معاذ بن جبل: من عرف من على يمينه وشماله وهو في الصلاة فلا صلاة له، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها»، وقال صلى الله عليه وسلم «كم من قائم حظه من قيامه التعب والنصب» وقال: «من لم تنهه الصلاة عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً».
فينبغي للشخص أنّ يحتاط في صلاته ليوقعها على التمام، فإنّ بعض العلماء اختار عدم الإمامة، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف إن تركت الفاتحة أنّ يعاتبني الشافعيّ وإن قرأتها أنّ يعاتبني أبو حنيفة فاخترت عدم الإمامة طلباً للخلاص من هذا الخلاف. فإن قيل: لم أضيفت الصلاة إليهم؟ أجيب: بأنّ الصلاة وصلة بين الله وبين عباده والمصلي هو المنتفع بها وحده، وهي عدّته وذخيرته فهي صلاته، وأما الله تعالى فهو غنيّ متعالٍ عن الحاجة إليها والانتفاع بها.(1/2650)
(6/11)
---
الصفة الثالثة المذكورة في قوله تعالى:
{والذين هم} أي: بضمائرهم التي تتبعها ظواهرهم {عن اللغو} قال ابن عباس: عن الشرك {معرضون} أي: تاركون، وقال الحسن: عن المعاصي، وقال الزجاج: هو كل باطل ولهو وما لا يحمد من القول والفعل، وقيل: هو كل ما لا يعني الشخص من قول أو فعل وهو ما يستحق أنّ يسقط ويلغى، فمدحهم الله تعالى بأنهم معرضون عن هذا اللغو والإعراض عنه هو بأنّ لا يفعله ولا يرضى به ولا يخالط من يأتيه كما قال تعالى: {وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً} أي: إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه.
الصفة الرابعة المذكورة في قوله تعالى:
{والذين هم للزكاة فاعلون} أي: مؤدون.
تنبيه: الزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى فالعين هو القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب إلى المستحق والمعنى فعل المزكي الذي هو التزكية، وهو المراد هنا؛ لأنه ما من مصدر إلا ويعبر عن معناه بالفعل، ويقال لمحدثه: فاعل، تقول للضارب: فاعل الضرب، وللقاتل: فاعل القتل، وللمزكي: فاعل التزكية، ويجوز أنّ يراد بالزكاة العين ويقدر مضاف محذوف وهو الأداء، وقيل: الزكاة هنا هي العمل الصالح؛ لأنّ هذه السورة مكية وإنما فرضت الزكاة بالمدينة سنة اثنتين من الهجرة قال البقاعي: والظاهر أنّ التي فرضت بالمدينة هي ذات النصب، وأنّ أصل الزكاة كان واجباً بمكة كما قال تعالى في سورة الأنعام: {وآتوا حقه يوم حصاده} (الأنعام، 141)
انتهى.
الصفة الخامسة المذكورة في قوله تعالى:
{والذين هم لفروجهم} في الجماع ومقدّماته {حافظون} أي: دائماً لا يتبعونها شهوتها، والفرج اسم لسوأة الرجل والمرأة، وحفظه التعفف عن الحرام، ثم استثنى من ذلك قوله تعالى:
(6/12)
---(1/2651)
{إلا على أزواجهم} اللاتي استحقوا أبضاعهنّ بعقد النكاح، ولعلوّ الذكر عبر بعلى ونظيره كان زياد على البصرة أي: والياً عليها، ومنه قولهم: فلانة تحت فلان، ومن ثم سميت المرأة فراشاً، وقيل: على بمعنى من، وجرى على ذلك البغوي {أو ما ملكت إيمانهم} رقابه من الإماء. فإن قيل: هلا قال تعالى: أو من ملكت؟ أجيب: بأنه إنما عبر بما لقرب الإماء مما لا يعقل لنقصهن عن الحرائر الناقصات عن الذكر ولأنه اجتمع فيها وصفان: أحدهما: الأنوثة وهي مظنة نقصان العقل والأخرى: كونها بحيث تباع وتشترى كسائر السلع، قال البغوي: والآية في الرجال خاصة؛ لأنّ المرأة لا يجوز لها أنّ تستمتع بفرج مملوكها {فإنهم غير ملومين} على ذلك إذا كان على وجه أذن فيه الشرع دون الإتيان في غير المأتي، وفي حال الحيض أو النفاس أو نحو ذلك كوطء الأمة قبل الاستبراء، فإنه حرام ومن فعله فإنه ملوم.
{فمن ابتغى} أي: طلب متعدياً {وراء ذلك} العظيم المنفعة الذي وقع استثناؤه بزنا أو لواط أو استمناء بيد أو بهمية أو غيرها {فأولئك} المبعدون من الفلاح {هم العادون} أي: المبالغون في تعدّي الحدود، عن سعيد بن جبير قال: عذب الله تعالى أمّة كانوا يعبثون بمذاكيرهم، أي: في أيديهم، وقيل: يحشرون وأيديهم حبالى.
الصفة السادسة: المذكورة في قوله تعالى:
{والذين هم لأماناتهم} أي: في الفروج وغيرها سواء كانت بينهم وبين الله كالصلاة والصيام، أو بينهم وبين الخلق كالودائع والبضائع، أو في المعاني الباطنة كالإخلاص والصدق {وعهدهم راعون} أي: حافظون بالقيام والرعاية والإصلاح، والعهد ما عقده الشخص على نفسه فيما يقربه إلى ربه، ويقع أيضاً على ما أمر الله تعالى به كقوله تعالى: {الذين قالوا إن الله عهد إلينا} (آل عمران، 183)
(6/13)
---(1/2652)
تنبيه: سمي الشىء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهداً، ومنه قوله تعالى: {إنّ الله يأمركم أنّ تؤدّوا الأمانات إلى أهلها} (النساء، 58)، وقال تعالى: {وتخونوا أماناتكم} (الأنفال، 37)، وإنما تؤدّى العيون لا المعاني ويخان المؤتمن عليه لا الأمانة في نفسها. وقرأ ابن كثير: لأمانتهم بغير ألف بين النون والتاء على الإفراد لا من الإلباس أو لأنها في الأصل مصدر، والباقون بالألف على الجمع.
الصفة السابعة المذكورة في قوله تعالى:
{والذين هم على صلواتهم} التي وصفوا بالخشوع فيها {يحافظون} أي: يواظبون عليها ولا يتركون شيئاً من مفروضاتها ولا مسنوناتها يجتهدون في كمالاتها جهدهم، ويؤدّونها في أوقاتها.
فإن قيل: كيف كرّر الصلاة أولاً وآخراً؟ أجيب: بأنهما ذكران مختلفان فليس بمكرر وصفوا أولاً بالخشوع في صلاتهم وآخر بالمحافظة عليها وذلك أنّ لا يسهوا عنها ويؤدوها في أوقاتها، ويقيموا أركانها ويوطنوا أنفسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أنّ تتم به أوصافها، وأيضاً فقد وحدت أولاً ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أيّ صلاة كانت وجمعت آخراً على غير قراءة حمزة والكسائي، فإنّ غيرهما قرأ بالجمع، وأمّا هما فقرأا بالإفراد لتفاد المحافظة على أعدادها وهي الصلوات الخمس والسنن المرتبة مع كل صلاة، وصلاة الجمعة وصلاة الجنازة والعيدين والكسوفين والاستسقاء، والوتر والضحى وصلاة التسبيح، وصلاة الحاجة، وغيرها من النوافل، ولما ذكر تعالى مجموع هذه الصفات العظيمة فخم جزاءهم فقال تعالى:
(6/14)
---(1/2653)
{أولئك} أي: البالغون من الإحسان أعلى مكان {هم الوارثون} أي: المستحقون لهذا الوصف، فيرثون منازل أهل الجنة في الجنة روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما منكم من أحد إلا وله منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله» وقال مجاهد: لكل واحد منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار، فأمّا المؤمن فيبني منزله الذي له في الجنة ويهدم منزله الذي له في النار، وأما الكافر فيهدم منزله الذي في الجنة ويبني منزله الذي له في النار»، وقال بعض المفسرين: معنى الوراثة هو أنّ يؤول أمرهم إلى الجنة وينالوها كما يؤول أمر الميراث إلى الوارث.
(6/15)
---(1/2654)
{الذين يرثون الفردوس} وهو أعلى الجنة، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون عرش الرحمن، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» اللهمّ بجاه محمد صلى الله عليه وسلم أنّ تجعلنا ووالدينا وأحبابنا من أهله {هم فيها خالدون} أي: لا يخرجون منها ولا يموتون وأنث الفردوس بقوله تعالى: {فيها}، على تأنيث الجنة، وهو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر، روي «أنّ الله تعالى بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل خلالها المسك الإذفر ـ وفي رواية: ولبنة من مسك مذرى ـ وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان»، وروي «أنّ الله تعالى خلق ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده، ثم قال: وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث»، والمراد أنّ الله تعالى لم يكل ذلك إلى غيره من ملك من الملائكة، والجنة مخلوقة الآن؛ قال تعالى: {أعدت للمتقين} (آل عمران، 133)، ولما أمر سبحانه وتعالى بالعبادات في هذه الآيات والاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفة الله تعالى عقبها بذكر ما يدل على وجوده واتصافه بصفات الجلال والوحدانية فذكر من الدلائل أنواعاً:
الأول: الاستدلال بتقليب الإنسان في أدوار الخلقة وأدوار الفطرة، وهي تسع مراتب.
الأولى: قوله تعالى:
(6/16)
---
{ولقد خلقنا الإنسان} أي: آدم {من سلالة} هي من سللت الشيء من الشيء أي: استخرجته منه، وهو خلاصته، وقال ابن عباس: السلالة صفرة الماء، وقوله تعالى: {من طين} متعلق بسلالة، وقيل: المراد بالإنسان هذا النوع؛ والسلالة قال مجاهد: من بني آدم، وقال عكرمة: هو الماء يسيل من الظهر، والعرب تسمي النطفة سلالة، والولد سليلاً وسلالة؛ لأنهما مسلولان منه.
المرتبة الثانية: قوله تعالى:(1/2655)
{ثم جعلناه} أي: نسله، فحذف المضاف {نطفة} أي: منياً من الصلب والترائب بأنّ خلقناه منها {في قرار مكين} أي: مستقر حصين هو الرحم.
تنبيه: مكين في الأصل صفة للمستقر في الرحم وصف به المحل للمبالغة كما عبّر عنه بالقرار.
المرتبة الثالثة: قوله تعالى:
{ثم} أي: بعد تراخ في الزمان، وعلوّ في المرتبة والعظمة {خلقنا} أي: بما لنا من العظمة {النطفة} أي: البيضاء جداً {علقة} حمراء دماً غليظاً.
(6/17)
---
شديد الحمرة جامداً غليظاً، المرتبة الرابعة: قوله تعالى: {فخلقنا} أي: بما لنا من القوة والقدرة العظيمة {العلقة مضغة} أي: قطعة لحم قدر ما يمضغ لا شكل فيها ولا تخطيط.
المرتبة الخامسة: قوله تعالى: {فخلقنا المضغة} أي: بتقليبها بما شئنا لها من الحرارة والأمور اللطيفة الغامضة {عظاما} من رأس ورجلين وما بينهما.
المرتبة السادسة: قوله تعالى: {فكسونا} بما لنا من قوة الاختراع تلك {العظام لحماً} بما ولدنا منها ترجيعاً لحالها قبل كونها عظاماً فسترنا تلك العظام، وقويناها وشددناها بالروابط والأعصاب. وقرأ ابن عامر وأبو بكر: عظاماً، والعظام بفتح العين وإسكان الظاء من غير ألف على التوحيد اكتفاء باسم الجنس عن الجمع، والباقون بكسر العين وفتح الظاء وألف بعدها على الجمع؛ قال الجلال المحلي: وخلقنا في المواضع الثلاثة بمعنى صيرنا.
(6/18)
---(1/2656)
المرتبة السابعة: قوله تعالى: {ثم أنشأناه} أي: هذا المحدث عنه بعظمتنا {خلقاً آخر} أي: خلقاً مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيواناً، وكان جماداً وناطقاً، وكان أبكم وسميعاً، وكان أصم وبصيراً وكان أكمه وأودع ظاهره وباطنه بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه عجائب فطره وغرائب حكمه لا تدرك بوصف الواصف، ولا تبلغ بشرح الشارح، وثم لما بين الخلقين من التفاوت؛ قال الزمخشري: وقد احتج به أبو حنيفة رحمه الله فيمن غصب بيضة فأفرخت عنده، فقال: يضمن البيضة ولا يرد الفرخ؛ لأنه خلق آخر سوى البيضة، اه. ولما كان هذا التفصيل لتطوير الإنسان سبباً لتعظيم الخالق؛ قال تعالى: {فتبارك الله} أي: تنزه عن كل شائبة نقص وحاز جميع صفات الكمال، وأشار إلى جمال الإنسان بقوله تعالى: {أحسن الخالقين} أي: المقدرين، ومميز أحسن محذوف أي: خلقا. روي «عن عمر رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ قوله {خلقاً آخر} قال: فتبارك الله أحسن الخالقين» وروي «أنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنطق بذلك قبل إملائه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب هكذا فنزلت فقال عبد الله: إن كان محمد نبياً يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ»، فلحق بمكة كافراً، ثم أسلم يوم الفتح، وروى «سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب: فتبارك الله أحسن الخالقين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت يا عمر وكان عمر يقول: وافقني ربي في أربع: الصلاة خلف المقام، وضرب الحجاب على النسوة، وقولي لهن أو ليبدلن الله خيراً منكن فنزل قوله تعالى: {عسى ربه إن طلقكن} (التحريم، 5)
(6/19)
---(1/2657)
الآية، والرابع: قلت: فتبارك الله أحسن الخلقين، فقال: هكذا نزل» قال العارفون: هذه الواقعة كانت سبب السعادة لعمر والشقاوة لعبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه قيل: إنه مات كافراً؛ قال الله تعالى: {يضل به كثيراً} (البقرة، 26)
ويهدي به كثيراً، المرتبة الثامنة: قوله تعالى:
{ثم إنكم بعد ذلك} أي: الأمر العظيم من الوصف بالحياة والمد فى العمر في آجال متفاوتة ما بين طفل ورضيع ومحتلم شديد وشاب نشيط وكهل عظيم وشيخ هرم إلى ما بين ذلك من شؤون لا يحيط بها إلا اللطيف الخبير {لميتون} أي: لصائرون إلى الموت لا محالة، ولذلك ذكر النعت الذي للثبوت وهو ميت دون اسم الفاعل، وهو مائت، فإنه للحدوث لا للثبوت.
المرتبة التاسعة: قوله تعالى: {ثم إنكم يوم القيامة} أي: الذي تجمع فيه جميع الخلائق {تبعثون} للحساب والجزاء.
النوع الثاني: من الدلائل الاستدلال بخلق السموات وهو قوله تعالى:
{ولقد خلقنا فوقكم} في جميع جهة الفوق في ارتفاع لا تدركونه حق الإدراك {سبع طرائق} أي: سموات جمع طريقة؛ لأنها طرق الملائكة ومتعلقاتهم، وقيل: الأفلاك لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها، وقيل: لأنها طرق بعضها فوق بعض كطارقة النعل، وكل شيء فوقه مثله، فهو طريقة {وما كنا} أي: بمالنا من العظمة {عن الخلق} أي: الذي خلقناه تحتها {غافلين} أي: أنّ تسقط عليهم فتهلكهم بل نمسكها كآية ويمسك السماء أنّ تقع على الأرض إلا بإذنه ولا مهملين أمرها بل نحفظها عن الزوال والاختلاف وتدبير أمرها حتى تبلغ منتهى أمرها، وما قدر لها من الكمال حسب ما اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة.
النوع الثالث من الدلائل: الاستدلال بنزول الأمطار وكيفية تأثيرها في النبات، وهو قوله تعالى:
(6/20)
---(1/2658)
{وأنزلنا من السماء} أي: من جرمها وهو ظاهر اللفظ وعليه أكثر المفسرين أو من السحاب وسماه سماء لعلوه {ماء بقدر} أي: بقدر ما يكفيهم لمعاشهم في الزرع والغرس والشرب وأنواع المنفعة، ويسلمون معه من المضرة إذ لو كان فوق ذلك لأغرقت البحار الأقطار، ولو كان دون ذلك لأدّى إلى جفاف النبات والأشجار {فأسكناه} أي: فجعلناه ثابتاً مستقراً {في الأرض} كقوله تعالى: {فسلكه ينابيع في الأرض} (الزمر، 21)، و«عن ابن عباس عن النبي: صلى الله عليه وسلم أنّ الله تعالى أنزل من الجنة خمسة أنهار سيحون نهر الهند، وجيحون نهر بلخ، ودجلة والفرات نهرا العراق، والنيل نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس من أصناف معايشهم، فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه، وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء» وذلك قوله تعالى: {وإنا على ذهاب به لقادرون} قدرة هي في نهاية العظمة، فإنّا كما قدرنا على إيجاده واختراعه نقدر على رفعه وإزالته وزواله، فإذا رفعت هذه الأشياء كلها من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا؛ قال البغوي: وروى هذا الحديث الإمام الحسن بن سفيان عن عثمان بن سعيد عن سابق الإسكندري عن سلمة بن علي عن مقاتل بن حبان.
(6/21)
---(1/2659)
تنبيه: في تنكير ذهاب إيماء إلى تكثير طرقه، وفيه إيذان باقتدار المذهب وأنه لا يتعايا عليه شيء إذا أراده، وهو أبلغ في الإيعاد من قوله تعالى: {قل أرأيتم إنّ أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين} (الملك، 30)، فعلى العباد أنّ يستعظموا النعمة في الماء ويقيدوها بالشكر الدائم، ويخافوا نفادها إذا لم تشكر ثم إنه تعالى سبحانه لما نبه على عظم نعمته بخلق الماء ذكر بعده هذه النعمة الحاصلة من الماء بقوله تعالى:
{فأنشأنا} أي: فأخرجنا وأحيينا {لكم} خاصة لا لنا {به} أي: بذلك الماء الذي جعلنا منه كل شيء حي {جنات} أي: بساتين {من نخيل وأعناب} صرح بهذين الصنفين لشرفهما ولأنهما أكثر ما عند العرب من الثمار، وسمى الأوّل باسم شجرته لكثرة ما فيها من المنافع المقصودة بخلاف الثاني، فإنه المقصود من شجرته، وأشار إلى غيرهما بقوله تعالى: {لكم} أي: خاصة {فيها} أي: الجنات {فواكه كثيرة} تتفكهون بها {ومنها} أي: ومن الجنات من ثمارها وزروعها {تأكلون} رطباً ويابساً وتمراً وزبيباً، وقوله تعالى:
(6/22)
---(1/2660)
{وشجرة} عطف على جنات أي: وأنشأنا لكم شجرة أي: زيتونة {تخرج من طور سيناء} وهو الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى بن عمران عليه السلام بين مصر وإيلة، وقيل: بفلسطين، وفي رواية أخرى: طور سينين، ولا يخلو إما أنّ يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء أو سينين، وإما أنّ يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه كامرىء القيس، وبعلبك فيمن أضاف، فمن كسر سين سيناء وهو نافع وابن كثير وأبو عمرو، فقد منع الصرف للتعريف والعجمة والتأنيث لأنها بقعة، وفعلاء لا تكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء، ومن قرأ بفتح السين وهم الباقون لم يصرفه؛ لأنّ الألف للتأنيث كصحراء؛ قال مجاهد: معناه البركة أي: من جبل مبارك، وقال قتادة: معناه الحسن أي: الجبل الحسن، وقال الضحاك: هو بالقبطية ومعناه الحسن، وقال عكرمة: بالحبشية، وقال مقاتل: كل جبل فيه أشجار مثمرة، فهو سيناء وسينين بلغة القبط.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {تنبت} بضم التاء الفوقية،و كسر الباء الموحدة من الرباعي، والباقون بفتح الفوقية وضم الموحدة من الثلاثي فقوله تعالى: {بالدهن} تكون الباء على الأول زائدة، وعلى الثاني معدية قال المفسرون: وإنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل؛ لأنّ منه تشعبت في البلاد وانتشرت؛ ولأنّ معظمها هناك.
قال بعض المفسرين: وإنما عرف الدهن؛ لأنه أجل الأدهان وأكملها، وهو في الأصل مائع لزج خفيف يتقطع ولا يختلط بالماء الذي هو أصله فيسرج ويدهن به، وقوله تعالى: {وصبغ للآكلين} عطف على الدهن أي: إدام يصبغ اللقمة بغمسها فيه، وهو الزيت؛ قيل: إنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان ووصفها الله تعالى بالبركة في قوله تعالى: {يوقد من شجرة مباركة} (النور، 35)
النوع الرابع من الدلائل: الاستدلال بأحوال الحيوانات، وهو قوله تعالى:
(6/23)
---(1/2661)
{وإن لكم في الأنعام} وهي الإبل والبقر والغنم {لعبرة} عظيمة تعتبرون بها وتستدلون بها على البعث وغيره {نسقيكم مما في بطونها} أي: اللبن نجعله لكم شراباً نافعاً للبدن موافقاً للشهوة تلتذون به من بين الفرث والدم {ولكم فيها} أي: جماعة الأنعام، وقدم الجار تعظيماً لمنافعها حتى كأنّ غيرها عدم {منافع كثيرة} باستسلامها لما يراد منها مما لا يتيسر من أصغر منها وبأولادها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وغير ذلك من آثارها {ومنها تأكلون} أي: وكما تنتفعون بها وهي حية تنتفعون بها بعد الذبح أيضاً بسهولة من غير امتناع مّا من شيء من ذلك ولو شاء لمنعها وسلطها عليكم، ولو شاء لجعل لحمها لا ينضج أو جعله قذراً لا يؤكل، ولكنه بقدرته وعلمه هيأها لما ذكر وذللها.
{وعليها} أي: الأنعام الصالحة للحمل وهي الإبل والبقر، وقيل: المراد الإبل خاصة؛ لأنها هي المحمول عليها في العادة وقرنها بالفلك التي هي السفن في قوله تعالى: {وعلى الفلك تحملون} لأنها سفائن البر، فكما يحمل على الفلك في البحر فيحمل على هذه في البر قال ذو الرمة في المعنى:
*سفينة بر تحت خدي زمامها
قال الزمخشري: يريد صيدحه أي: ناقته؛ لأنّ اسمها كان صيدح قال:
*رأيت الناس ينتجعون غيثاً
** فقلت لصيدح انتجعي بلالا
يريد بلال بن أبي بردة الأشعري والي الكوفة، ولما بيّن سبحانه وتعالى دلائل التوحيد أردفها بذكر القصص كما هو العادة في سائر السور مبتدئاً بقصة نوح عليه السلام ، فقال تعالى:
(6/25)
---(1/2662)
{ولقد أرسلنا} أي: بما لنا من العظمة {نوحاً} وهو الأب الثاني بعد آدم عليهما الصلاة والسلام، وكان اسمه يشكر، وسمي نوحاً لوجوه: أحدها: لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك، فأهلكهم الله تعالى بالطوفان، فندم على ذلك، ثانيها: لمراجعته ربه في شأنّ ابنه، ثالثها: أنه مرّ بكلب مجذوم فقال له: اخسأ يا قبيح فعوتب على ذلك. {إلى قومه} وهم جميع أهل الأرض لتواصل ما بينهم لكونهم على لغة واحدة محصورين لا أنه أرسل إلى الخلق كافة ؛ لأنّ ذلك من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء {فقال} أي: فتسبب عن ذلك أنّ قال {يا قوم} ترفقاً بهم {اعبدوا الله} وحده لأنه إلهكم وحده لاستحقاقه لجميع خلال الكمال، واستأنف على سبيل التعليل قوله: {ما لكم من إله} أي: معبود بحق {غيره} فلا تعبدوا سواه {أفلا تتقون} أي: أفلا تخافون عقوبته إن عبدتم غيره، وقرأ الكسائي بكسر الراء والهاء، والباقون بضمهما.
{فقال} أي: فتسبب عن ذلك أنّ كذبوه بأنّ قال {الملأ} أي: الأشراف الذي تملأ رؤيتهم الصدور عظمة {الذين كفروا من قومه} لعوامهم {ما هذا} أي: نوح عليه السلام {إلا بشر مثلكم} أي: فلا يعلم ما لا تعلمون فأنكروا أنّ يكون بعض البشر نبياً، ولم ينكروا أنّ يكون بعض الطين إنساناً وبعض الماء علقة، وبعض العلقة مضغة إلى آخره، فكأنه قيل: ما حمله على ذلك فقالوا: {يريد أنّ يتفضل} يتكلف الفضل بادعاء مثل هذا {عليكم} لتكونوا أتباعاً له ولا خصوصية له دونكم {ولو شاء الله} أي: الملك الأعلى الإرسال إليكم وعدم عبادة غيره {لأنزل} كذلك {ملائكة} رسلاً بإبلاغ الوحي إلينا قال الزمخشري: وما أعجب شأنّ الضلال لم يرضوا للنبوة ببشر، وقد رضوا للألوهية بحجر {ما سمعنا بهذا} أي: الذي دعا إليه نوح من التوحيد {في آبائنا الأولين} أي: الأمم الماضية.
(6/26)
---(1/2663)
{إن} أي: ما {هو إلا رجل به جنة} أي: جنون ولأجله يقول ما يدعيه {فتربصوا به} أي: فتسبب عن الحكم بجنونه إنا نأمركم بالكف عنه لأنه لا حرج على جنونه {حتى} أي: إلى {حين} لعله يفيق أو يموت، فكأنه قيل: فما قال؟ فقيل:
{قال} عندما أيس من فلاحهم {رب انصرني} أي: أعني عليهم {بما كذبون} أي: بسبب تكذيبهم لي فإن تكذيب الرسول استخفاف بالمرسل.
{فأوحينا} أي: فتسبب عن دعائه أنّ أوحينا {إليه أنّ اصنع الفلك} أي: السفينة {بأعيننا} أي: إنه لا يغيب عنا شيء من أمرك ولا من أمرهم، وأنّ تعرف قدرتنا على كل شيء، فثق بحفظنا ولا تخف شيئاً من أمرهم، روي أنه لما أوحي إليه أنّ يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر؛ قال الجوهري: جؤجؤ الطائر والسفينة صدرهما والجمع الجآجىء. ولما كان لا يعلم الصنعة قال تعالى: {ووحينا} أي: وأمرنا وتعليمنا كيف تصنع، فإنّ جبريل علمه عمل السفينة، ووصف كيفية اتخاذها له، وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في سورة هود {فإذا جاء أمرنا} أي: بالهلاك عقب فراغك منها أو بالركوب {وفار التنور} قال ابن عباس: وجه الأرض، وفي القاموس: التنور الكانون يخبز فيه، ووجه الأرض، وعن قتادة: أنه أشرف موضع في الأرض أي: أعلاه، وعن علي: طلع الفجر، وعن الحسن: أنه الموضع المنخفض من السفينة الذي يسيل الماء إليه، وقيل: هو مثل كقولهم: حمي الوطيس، والأقرب كما قال الرازي، وعليه أكثر المفسرين، هو التنور المعروف بتنور الخباز، فيكون له فيه آية، روي أنه قيل لنوح: إذا رأيت الماء يفور في التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته، فركب وقيل: كان تنور آدم، وكان من حجارة، فصار إلى نوح، واختلف في مكانه، فعن الشعبي في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان نوح عمل السفينة وسط المسجد، وقيل: بالشام بموضع يقال له عين وردة، وقيل: بالهند.
(6/27)
---(1/2664)
وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى من الهمزتين المفتوحتين من كلمتين، وحقق الأولى وسهل الثانية ورش وقنبل {فاسلك} أي: أدخل {فيها} أي: السفينة {من كل زوجين،} من الحيوان {اثنين} ذكراً وأنثى، وقرأ حفص بتنوين اللام من كل أي: من كل نوع زوجين، فزوجين مفعول واثنين تأكيد،و الباقون بغير تنوين، فاثنين مفعول، ومن متعلق باسلك، وفي القصة إن الله تعالى حشر لنوح السباع والطير وغيرهما، فجعل يضرب يده في كل جمع، فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيحملهما في السفينة، وروي أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض {وأهلك} أي: وأهل بيتك من زوجك وأولادك {إلا من سبق عليه} لا له {القول منهم} بالهلاك وهو زوجته وولده كنعان بخلاف سام وحام ويافث، فحملهم وزوجاتهم الثلاثة، وفي سورة هود {ومن آمن وما آمن معه إلا قليل} (هود، 40)، قيل: كانوا ستة رجال ونساءهم، وقيل: جميع من كان في السفينة ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء {ولا تخاطبني} أي: بالسؤال في النجاة {في الذين ظلموا} أي: كفروا، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إنهم مغرقون} أي: قد حتم القضاء عليهم لظلمهم بالإشراك والمعاصي، ومن هذا شأنه لا يشفع له، فإنه تعالى بعد أنّ أملى لهم الدهر المتطاول فلم يزيدوا إلا ضلالاً ولزمتهم الحجة البالغة لم يبق إلا أنّ يجعلوا عبرة للمعتبرين ونحن نكرمك عن سؤال لا يقبل، ولقد بالغ سبحانه وتعالى حيث اتبع النهي عنه الأمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم بقوله تعالى:
{فإذا استويت} أي: اعتدلت {أنت ومن معك} أي: من البشر وغيرهم {على الفلك} ففرغت من امتثال الأمر بالحمل {فقل الحمد لله} أي: الذي لا كفء له؛ لأنه مختص بصفات الحمد {الذي نجانا} بحملنا فيه {من القوم} أي: الأعداء الأغبياء {الظالمين} أي: الكافرين لقوله تعالى: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} (الأنعام، 45)
(6/28)
---(1/2665)
تنبيه: إنما قال تعالى: قل، ولم يقل: قولوا؛ لأنّ نوحاً عليه السلام كان لهم نبياً وإماماً فكان قوله قولاً لهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة وإظهار كبرياء الربوبية، وإن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبي، ولما أشار له بهذا القول إلى السلامة بالحمل أتبعه بالإشارة إلى الوعد بإسكان الأرض بقوله تعالى:
{وقل رب أنزلني} في الفلك ثم في الأرض، وفي كل منزل تنزلني به وتورثني إياه {منزلاً مباركاً} أي: يبارك له فيه ويعطيه الزيادة في خير الدارين، وقرأ أبو بكر بفتح الميم وكسر الزاي أي: مكان النزول، والباقون بضم الميم وفتح الزاي مصدر أو اسم مكان، ثم إن الله تعالى أمره أنّ يشفع الدعاء بالثناء عليه المطابق لمسألته وهو قوله تعالى: {وأنت خير المنزلين} ما ذكر لأنك تكفي نزيلك كل ملم وتعطيه كل أمر، ولما كانت هذه القصة من أغرب القصص حث على تدبرها بقوله تعالى:
{إن في ذلك} أي: الأمر العظيم من أمر نوح والسفينة وإهلاك الكفار {لآيات} أي: دلالات على قدرة الله تعالى وصدق الأنبياء في أنّ المؤمنين هم المفلحون وأنهم الوارثون للأرض بعد الظالمين، وإن عظمت شوكتهم واشتدت صولتهم {وإن كنا} بما لنا من العظمة والوصف الثابت الدال على تمام القدرة {لمبتلين} أي: فاعلين فعل الخبير المختبر لعبادنا بإرسال الرسل ليظهر في عالم الشهادة الصالح منهم من غيره، ثم نبتلي الصالحين منهم بما يزيد حسناتهم وينقص سيئاتهم ويعلي درجاتهم، ثم نجعل لهم العاقبة كما قال تعالى: {والعاقبة للمتقين} (الأعراف، 128)
تنبيه: إن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واللام هي الفارقة.
القصة الثانية: قصة هود، وقيل: صالح عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى:
(6/29)
---
{ثم أنشأنا} أي: أحدثنا وأحيينا {من بعدهم} أي: من بعد إهلاكهم {قرناً} أي: قوماً {آخرين} هم عاد قوم هود، وقيل: ثمود قوم صالح.(1/2666)
{فأرسلنا} أي: فتعقب إنشاءنا لهم وتسبب عنه أنا أرسلنا {فيهم رسولاً منهم} هو هود، وقيل: صالح؛ قال البغوي: والأوّل هو الأظهر وهو المروي عن ابن عباس ويشهد له حكاية الله قول هود: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح} (الأعراف، 69)
ومجيء قصة هود على أثر قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء، ثم بين تعالى ما أرسل به بقوله تعالى: {أن اعبدوا الله} أي: وحدوه لأنه لا مكافىء له، ثم دل على الاستغراق بقوله تعالى: {ما لكم من إله غيره أفلا تتقون} أي: هذه الحالة التي أنتم عليها مخافة عقابه فتؤمنون، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والكسائي بضم النون في الوصل والباقون بكسرها، والقراءة في غيره ذكرت قريباً.k
{وقال الملأ} أي: الأشراف التي تملأ رؤيتهم الصدور {من قومه الذين كفروا} أي: غطوا ما يعرفون من أدلة التوحيد والانتقام من المشركين {وكذبوا بلقاء الآخرة} أي: بالمصير إليها {وأترفناهم} أي: والحال أنا بما لنا من العظمة نعمناهم {في الحياة الدنيا} بالأموال والأولاد وكثرة السرور يخاطبون أتباعهم {ما هذا} أشاروا إليه تحقيراً له عند المخاطبين {إلا بشر مثلكم} في الخلق والحال، ثم وصفوه بما يوهم المساواة لهم في كل وصف فقالوا: {يأكل مما تأكلون منه} أي: من طعام الدنيا {ويشرب مما تشربون} أي: من شرابها فكيف يكون رسولاً دونكم، وقولهم:
{ولئن} اللام لام قسم أي: والله لئن {أطعتم بشراً مثلكم} أي: فيما يأمركم به {إنكم إذاً} أي: إن أطعتموه {لخاسرون} أي: مغبونون لكونكم فضلتم مثلكم عليكم بما يدعيه، ثم بينوا إنكارهم بقولهم:
(6/31)
---
{أيعدكم أنكم إذا متم} ففارقت أرواحكم أجسادكم {وكنتم} أي: وكانت أجسادكم {تراباً} باستيلاء التراب على ما دون عظامكم {وعظاماً} مجردة عن اللحوم والأعصاب {أنكم مخرجون} أي: من تلك الحالة التي صرتم إليها فراجعون إلى ما كنتم عليه من الحياة على ما كان لكم من الأجسام.(1/2667)
تنبيه: قوله تعالى: مخرجون خبر إنكم الأولى، وإنكم الثانية تأكيد لها لما طال الفصل، ثم استأنفوا التصريح بما دل عليه الكلام من استبعاد ذلك فقالوا:
{هيهات هيهات} اسم فعل ماض بمعنى مصدر أي: بعد بعد جداً، وقال ابن عباس: هي كلمة بعد أي: بعيد، ثم كأنه قيل: لأي شيء هذا الاستبعاد؟ فقيل: {لما توعدون} من الإخراج من القبور فإن قيل: ما توعدون هو المستبعد ومن حقه أنّ يرفع بهيهات كما ارتفع به في قوله:
*فهيهات هيهات العقيق وأهله
فما هذه اللام؟ أجيب: بأنّ الزجاج قال في تفسيره: البعد لما توعدون فنزل منزلة المصدر، ويصح أنّ تكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في هيت لك لبيان المهيت به أو أنّ اللام زائدة للبيان.
فائدة: وقف البزي والكسائي على هيهات الأولى والثانية بالهاء، والباقون بالتاء على المرسوم.
(6/32)
---
وقولهم: {إن هي} ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه، وأصله إن الحياة {إلا حياتنا الدنيا} ثم وضع هي موضع الحياة؛ لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها، ومنه هي النفس تتحمل ما حملت، والمعنى: لا حياة إلا هذه الحياة؛ لأنّ إن النافية دخلت على هي التي بمعنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها، فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس {نموت ونحيى} أي: يموت منا من هو موجود وينشأ آخرون بعدهم، وقيل: يموت قوم ويحيا قوم، وقيل: تموت الآباء وتحيا الأبناء، وقيل: في الآية تقديم وتأخير أي: نحيا ونموت لأنهم كانوا ينكرون البعث بعد الموت كما قالوا: {وما نحن بمبعوثين} بعد الموت فكأنه قيل: فما هذا الكلام الذي يقوله؟ فقيل: كذب ثم حصروا أمره في الكذب فقالوا:
{إن} أي: ما {هو إلا رجل افترى} أي: تعمد {على الله} أي: الملك الأعلى {كذباً} فلا يلتفت إليه {وما نحن له بمؤمنين} أي: بمصدقين فيما يخبرنا به من البعث والرسالة، فكأنه قيل: فما قال؟ فقيل:(1/2668)
{قال رب} أيها المحسن إليّ بالرسالة وبإرسالي إليهم وبغيره من أنواع النعم {انصرني} أي: أوقع لي النصر {بما كذبون} فأجابه ربه بأن:
{قال عما قليل} من الزمان وما زائدة وأكدت القلة بزيادتها {ليصبحن} أي: ليصيرنّ {نادمين} أي: على كفرهم وتكذيبهم إذا عاينوا العذاب.
{فأخذتهم الصيحة} أي: صيحة العذاب والهلاك كائنة {بالحق} أي: الأمر الثابت من العذاب الذي لا يمكن مدافعته لهم ولا لغيرهم غير الله تعالى فماتوا، وقيل: صيحة جبريل عليه السلام ، ويكون القوم ثمود على الخلاف السابق {فجعلناهم} بسبب الصيحة {غثاء} أي: مطروحين ميتين كما يطرح الغثاء شبهوا في دمارهم بالغثاء وهو حميل السيل مما بلي واسودّ من الورق والعيدان ومنه قوله: {فجعله غثاء أحوى} (الأعلى، 5)
(6/33)
---
أي: أسود يابساً، ولما كان هلاكهم على هذا الوجه سبباً لهوانهم عبر عنه بقوله تعالى: {فبعداً} أي: هلاكاً وطرداً عن الرحمة {للقوم الظالمين} الذين وضعوا قوّتهم التي كان يجب عليهم بذلها في نصر الرسل في خذلانهم.
تنبيه: يحتمل هذا الدعاء عليهم والإخبار عنهم، ووضع الظاهر موضع ضميرهم للتعليل وبعداً وسحقاً ونفراً وتخويفاً ونحوها مصادر موضوعة مواضع أفعالها وهي من جملة المصادر التي قال سيبويه: نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها.
القصة الثالثة: المذكورة في قوله تعالى:
{ثم أنشأنا} أي: بعظمتنا التي يضرها تقديم ولا تأخير {من بعدهم} أي: من بعد من قدّمنا ذكره من نوح والقرن الذي بعده {قرونا} أي: أقواماً {آخرين} فهو سبحانه وتعالى تارة يقص علينا في القرآن مفصلاً كما تقدم، وتارة يقص مجملاً كما هنا، وقيل: المراد قصة لوط وشعيب وأيوب ويوسف عليهم السلام، وعن ابن عباس: بني إسرائيل، ثم إنه تعالى أخبر بأنه لم يعجل على أحد منهم قبل الأجل الذي أجل لهم بقوله تعالى:
{ما تسبق من أمة أجلها} أي: الذي قدر لها بأنّ تموت قبله {وما يستأخرون} عنه.(1/2669)
تنبيه: ذكر الضمير بعد تأنيثه رعاية للمعنى ومن زائدة.
{ثم أرسلنا رسلنا تتراً} أي: متتابعين بين كل اثنين زمان طويل، وقرأ أبو عمرو: رسلنا بسكون السين، والباقون برفعها، وقرأ تترا، ابن كثير وأبو عمرو في الوصل بتنوين الراء على أنه مصدر بمعنى التواتر وقع حالاً، والباقون بغير تنوين، ولما كان كأنه قيل: فكان ماذا؟ قيل: {كلما جاء أمّة رسولها} أي: بما أمرناه من التوحيد {كذبوه} أي: كما فعل هؤلاء بك لما أمرتهم بذلك.
(6/34)
---
تنبيه: أضاف الرسول مع الإرسال إلى الرسل ومع المجيء إلى المرسل إليهم؛ لأنّ الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه والمجيء الذي هو منتهاه إليهم، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والواو، والباقون بتحقيقهما، وهم على مراتبهم في المدّ {فأتبعنا} القرون بسبب تكذيبهم {بعضهم بعضاً} في الإهلاك، فلم يبق عند الناس منهم إلا أخبارهم كما قال تعالى: {وجعلناهم أحاديث} أي: أخبار يسمعونها ويتعجب منها ليكونوا عظة للمستبصرين فيعلموا أنه لا يفلح الكافرون ولا يخيب المؤمنون، وما أحسن قول القائل:
*ولا شيء يدوم فكن حديثاً
** جميل الذكر فالدنيا حديث
والأحاديث تكون جمعاً للحديث، ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكون جمعاً للأحدوثة التي هي مثل الأعجوبة والألعوبة وهي ما يتحدث به الناس تلهياً وتعجباً وهو المراد هنا، ولما تسبب عن تكذيبهم هلاكهم المقتضي لبعدهم قال تعالى: {فبعداً لقوم} أي: أقوياء على ما يطلب منهم {لا يؤمنون} أي: لا يوجد منهم إيمان وإن جرت عليهم الفصول الأربعة لأنه لا مزاج لهم معتدل.
القصة الرابعة: قصة موسى وهارون عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى:
(6/35)
---(1/2670)
{ثم أرسلنا} أي: بما لنا من العظمة {موسى وأخاه هارون بآياتنا} قال ابن عباس: الآيات التسع وهي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والبحر والسنين ونقص الثمرات {وسلطان مبين} أي: حجة بيّنة وهي العصا وأفردها بالذكر؛ لأنها قد تعلق بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربها، وكونها حارساً وشمعة وشجرة خضراء مثمرة ودلواً ورشاء، فجعلت كأنها ليست بعصا لما استبدت به من الفضائل فلذلك عطفت عليها كقوله تعالى: {من كان عدوّاً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال}، ويجوز أنّ يراد بالآيات نفس تلك المعجزات وبالسلطان المبين كيفية دلالتها على الصدق وذلك لأنها وإن شاركت آيات سائر الأنبياء في كونها آيات، فقد فارقتها في قوّة دلالتها على قول موسى عله السلام، وإنّ يراد بالسلطان المبين المعجزات وبالآيات الحجج، وإنّ يراد بها المعجزات فإنها آيات النبوّة وحجة بينة على ما يدعيه النبي، قال الرازي: واعلم أنّ الآية تدل على أنّ معجزات موسى كانت معجزات هارون أيضاً وأنّ النبوّة كما كانت مشتركة بينهما، فكذلك المعجزات.
{إلى فرعون وملئه} أي: وقومه ولكن لما كان الأطراف لا يخافون الأشراف عدهم عدماً، ومن الواضح أنّ التقدير أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وأشار بقوله تعالى: {فاستكبروا} إلى أنهم أوجدوا الكبر عن الاتباع فيما دعوهم إليه عقب الإبلاغ من غير تأمل ولا تثبت، وطلبوا أنّ لا يكونوا تحت أمر من دعاهم، وأشار بالكون إلى فساد جبلتهم بقوله تعالى: {وكانوا قوماً} أي: أقوياء {عالين} أي: متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم، ولما تسبب عن استكبارهم وعلوهم إنكارهم للاتباع قال تعالى:
(6/36)
---(1/2671)
{فقالوا أنؤمن} أي: بالله تعالى مصدقين {لبشرين مثلنا} أي: في البشرية والمأكل والمشرب وغيرهما مما يعتري البشر كما قال من تقدمهم: {وقومهما} أي: والحال أنّ قومهما أي: بني إسرائيل {لنا عابدون} خضوعاً وتذللاً أي: في غاية الذل والانقياد كالعبيد، فنحن أعلى منهما بهذا، أو لأنه كان يدعي الإلهية، فادعى للناس العبادة وأنّ طاعتهم له عبادة على الحقيقة.
{فكذبوهما} أي: فرعون وملؤه موسى وهارون، {فكانوا} أي: فرعون وملؤه بسبب تكذيبهم {من المهلكين} أي: بالغرق ببحر القلزم ولم تغنِ عنهم قوّتهم في أنفسهم، ولا قوتهم على خصوص بني إسرائيل واستعبادهم ولا ضر بني إسرائيل ضعفهم عن دفاعهم ولا ذلهم لهم وصغارهم في أيديهم، ولما كان ضلال بني إسرائيل بعد إنقاذهم من عبودية فرعون وقومه أعجب قال تعالى تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم
(6/37)
---
{ولقد آتينا} أي: بعظمتنا {موسى الكتاب} أي: التوراة {لعلهم} أي: قوم موسى وهارون عليهما السلام {يهتدون} من الضلالة إلى المعارف والأحكام، ولا يصح عود الضمير إلى فرعون وملئه؛ لأنّ التوراة إنما أوتيها بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون وملئه بدليل قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} (القصص، 43)
القصة الخامسة: قصة عيسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:(1/2672)
{وجعلنا} أي: بعظمتنا وقدرتنا {ابن مريم} نسبه إليها تحقيقاً لكونه لا أب له، وكونه بشراً محمولاً في البطن مولوداً لا يصلح لرتبة الإلهية، وزاد في تحقيق ذلك بقوله: {وأمه} وقال تعالى: {آية} ولم يقل: آيتين؛ لأنّ الآية فيهما واحدة ولادته من غير فحل، ويحتمل أنّ الآية الأولى حذفت لدلالة الثانية عليها، والتقدير: وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية لأنّ الله تعالى: جعل مريم آية لأنها حملته من غير ذكر، وقال الحسن: قد تكلمت في صغرها كما تكلم عيسى وهو قولها: {هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}، ولم تلتقم ثدياً قط.
تنبيه: قال بعض المفسرين: ولعل في ذلك إشارة إلى أنه تكلمت به آية للقدرة على إيجاد الإنسان بكل اعتبار من غير ذكر ولا أنثى، وهو آدم عليه السلام ، ومن ذكر بلا أنثى وهي حوّاء عليها السلام، ومن أنثى بلا ذكر وهو عيسى عليه السلام ، ومن الزوجين وهو بقية الناس {وآويناهما} أي: بعظمتنا {إلى ربوة} أي: مكان عالٍ من الأرض.
تنبيه: قد اختلف في هذه الربوة، فقال عطاء عن ابن عباس: هي بيت المقدس، وهو قول قتادة وكعب، قال كعب: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً، وقال عبد الله بن سلام: هي دمشق، وقال أبو هريرة: هي الرملة، وقال السدي: هي أرض فلسطين، وقال ابن زيد: هي مصر، وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء، والباقون بضم الراء {ذات قرار} أي: منبسطة مستوية واسعة يستقر عليها ساكنوها {ومعين} أي: ماء جار ظاهر تراه العيون.
(6/39)
---
تنبيه: قد اختلف في زيادة ميم معين وأصالتها فوجه من جعلها مفعولاً أنه مدرك بالعين لظهوره من عانه إذا أدركه بعينه نحو ركبه إذا ضربه بركبته، ووجه من جعله فعيلاً أنه نفاع لظهوره وجريه من الماعون وهو المنفعة قيل: سبب الإيواء أنها مرت بابنها إلى الربوة، وبقيت بها اثنتي عشرة سنة، ثم رجعت إلى أهلها بعدما مات ملكهم وههنا آخر القصص. وقد اختلف في المخاطب بقوله تعالى:(1/2673)
{يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} على وجوه؛ أحدها: أنه محمد صلى الله عليه وسلم وحده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجماعة، ثانيها: أنه عيسى عليه السلام ؛ لأنه روي أنّ عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه، ثالثها: أنه كل رسول خوطب بذلك، ووصي به لأنه تعالى في الأزل متكلم آمر ناهٍ، ولا يشترط في الأمر وجود المأمورين بل الخطاب أزلاً على تقدير وجود المخاطبين، فقول البيضاوي: لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة بل على معنى أنّ كلاً منهم خوطب به في زمانه، تبع فيه «الكشاف»، فإن المعتزلة أنكروا قدم الكلام فحملوا الآية على خلاف ظاهرها، وأنت خبير بأنّ عدم اشتراط ما ذكر إنما هو في التعلق المعنوي لا التنجيزي الذي الكلام فيه، فإنه مشروط فيه ذلك، وإنما خاطب جميع الرسل بذلك ليعتقد السامع أنّ أمراً خوطب به جميع الرسل ووصوا به حقيق أنّ يؤخذ به ويعمل عليه، وهذا كما قال الرازي أقرب؛ لأنه روي «عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح من لبن في شدّة الحر عند فطره وهو صائم، فرد صلى الله عليه وسلم إليها وقال: من أين لك هذا؟ فقالت: من شاة لي، ثم رده صلى الله عليه وسلم وقال: من أين هذه الشاة؟ فقالت: اشتريتها من مالي، فأخذه ثم إنها جاءته فقالت: يا رسول الله لم رددته؟ فقال صلى الله عليه وسلم بذلك أمرت الرسل أنّ لا تأكل إلا طيباً، ولا تعمل إلا صالحاً»، والمراد بالطيب الحلال، وقيل:
(6/40)
---(1/2674)
طيبات الرزق الحلال الصافي القوام، فالحلال هو الذي لا يعصى الله تعالى فيه، والصافي هو الذي لا ينسى الله فيه، والقوام هو الذي يمسك النفس ويحفظ العقل، وقيل: المراد بالطيب المستلذ أي: ما تستلذه النفس من المأكل والمشرب والفواكه، ويشهد له مجيئه على عقب قوله تعالى: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} (المؤمنون، 50)، واعلم أنه سبحانه وتعالى كما قال للمرسلين: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} قال للمؤمنين: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}، ودل سبحانه وتعالى على أنّ الحلال عون على الطاعة بقوله تعالى: {واعملوا صالحاً} فرضاً ونفلاً سراً وجهراً غير خائفين من أحد غير الله تعالى، ثم حثهم على دوام المراقبة بقوله تعالى: {إني بما} أي: بكل شيء {تعملون عليم} أي: بالغ العلم فأجازيكم عليه، وقرأ:
{وإن هذه} بكسر الهمزة الكوفيون على الاستئناف، والباقون بفتحها على تقدير واعلموا أنّ هذه أي: ملة الإسلام، وخفف النون ساكنة ابن عامر وشدّدها مفتوحة الباقون {أمتكم} أي: دينكم أيها المخاطبون أي: يجب أنّ تكونوا عليها حال كونها {أمة واحدة} لا شتات فيها أصلاً، فما دامت موحدة، فهي مرضية {وأنا ربكم} أي: المحسن إليكم بالخلق والرزق وحدي، فمن وحدني نجا، ومن أشرك معي غيري هلك {فاتقون} أي: فاحذرون.
(6/41)
---(1/2675)
{فتقطعوا} أي: الأمم وإنما أضمرهم لوضوح إرادتهم؛ لأنّ الآية التي قبلها قد صرحت بأنّ الأنبياء ومن نجا منهم أمة واحدة لا خلاف بينهما، فعلم قطعاً أنّ الضمير للأمم، ومن نشأ بعدهم ولذلك كان النظر إلى الأمر الذي كان واحداً أهم فقدم، وقوله: {أمرهم} أي: دينهم بعد أنّ كان مجتمعاً متصلاً {بينهم} وقوله تعالى: {زبراً} حال من فاعل تقطعوا أي: أحزاباً متخالفين، فصاروا فرقاً كاليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الأديان المختلفة جمع زبور بمعنى الفرقة، وقيل: معنى زبراً كتباً أي: تمسك كل قوم بكتاب فآمنوا به وكفروا بما سواه من الكتب {كل حزب} أي: فرقة من المتحزبين {بما لديهم} أي: عندهم من ضلال وهدى، وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها {فرحون} أي: مسرورون فضلاً عن أنهم راضون، وقوله تعالى:
{فذرهم} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي: اترك كفار مكة {في غمرتهم} أي: ضلالتهم، شبهها بالماء الذي يغمر القامة لأنهم مغمورون فيها {حتى حين} أي: إلى أنّ يقتلوا أو يموتوا، سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخيره، ولما كان الموجب لغرورهم ظنهم أنّ حالهم في بسط الأرزاق من الأموال والأولاد حالة رضا عنهم أنكر ذلك عليهم تنبيهاً لمن سبقت له السعادة،و كتبت له الحسنى وزيادة فقال تعالى:
{أيحسبون} أي: لضعف عقولهم، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها {أنما نمدهم} أي: نعطيهم ونجعله مدداً لهم {به من مال} نيسره لهم {وبنين} نمتعهم بهم، ثم أخبر عن أنّ بقوله تعالى:
(6/42)
---(1/2676)
{نسارع} أي: نعجل {لهم} أي: به {في الخيرات} لا نفعل ذلك {بل لا يشعرون} أنهم في غاية البعد عن الخيرات {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} (الأعراف، 182)، وقال تعالى في موضع آخر: {فلا تعجبك أمولهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} (التوبة، 55)، وروي عن زيد بن ميسرة أنه قال: أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء أيفرح عبدي أنّ أبسط إليه الدنيا، وهو أبعد له مني، ويحزن أنّ أقبض عنه الدنيا وهو أقرب له مني، وعن الحسن أنه لما أتي عمر رضي الله عنه بسواري كسرى فأخذهما ووضعهما في يد سراقة بن مالك فبلغا منكبيه، فقال عمر: اللهم إني قد علمت أنّ نبيك عليه الصلاة والسلام كان يحب أن يصيب مالاً لينفقه في سبيلك، فزويت ذلك عنه، ثم إن أبا بكر كان يحب ذلك اللهم لا يكون ذلك مكراً منك، ثم تلا: {أيحسبون} الآية. ولما ذكر أهل الافتراق ذكر أهل الوفاق ووصفهم بأربع صفات.
الأولى: قوله تعالى:
{إن الذين هم} أي: ببواطنهم {من خشية ربهم} أي: الخوف العظيم من المحسن إليهم المنعم عليهم {مشفقون} أي: دائمون على الحذر.
الصفة الثانية: قوله تعالى:
{والذين هم بآيات ربهم} أي: القرآن {يؤمنون} أي: يصدقون.
الصفة الثالثة: قوله تعالى:
{والذين هم بربهم} أي: الذي لا محسن إليهم غيره {لا يشركون} أي: شيئاً من شرك في وقت من الأوقات كما لم يشركه في الإحسان إليهم أحد، ولما أثبت لهم الإيمان الخالص نفى عنهم العجب بقوله تعالى:
(6/43)
---(1/2677)
{والذين يؤتون} أي: يعطون {ما آتوا} أي: ما أعطوا من الصدقة والأعمال الصالحة، وهذه الصفة الرابعة {وقلوبهم وجلة} أي: شديدة الخوف أنّ لا يقبل منهم ولا ينجيهم من عذاب الله، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {أنهم إلى ربهم} أي: الذي طال إحسانه إليهم {راجعون} بالبعث، فيجازيهم على النقير والقطمير، ويجزيهم بكل قليل وكثير، وهو الناقد البصير، ولا تنفع هناك الندامة، وليس هناك إلا الحكم العدل والحكم القاطع من جهة مالك الملك؛ قال الحسن البصري: المؤمن جمع إيماناً وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمناً، ثم أثبت لهم ما أفهم أنّ ضده لأضدادهم بقوله تعالى:
{أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} أي: يبادرون إلى الأعمال الصالحة قبل الموت، ولما ذكر تعالى كيفية أعمال المؤمنين المخلصين ذكر أنه تعالى لا يكلف أحداً فوق طاقته بقوله تعالى:
{ولا نكلف نفساً إلا وسعها} أي: طاقتها، فمن لم يستطع أن يصلي الفرض قائماً فليصل قاعداً، ومن لم يستطع أنّ يصلي قاعداً فليصل مضطجعاً، ومن لم يستطع أنّ يصوم رمضان فليفطر؛ لأنّ مبنى المخلوق على العجز {ولدينا} أي: وعندنا {كتاب ينطق بالحق} بما عملته كل نفس، وهو اللوح المحفوظ تسطر فيه الأعمال، وقيل: كتب الحفظة ونظيره قوله تعالى: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} (الجاثية، 29)، وقوله تعالى: {لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} (الكهف، 49)، فشبه تعالى الكتاب بمن يصدر عنه البيان، فإن الكتاب لا ينطق لكنه يعرف بما فيه كما يعرف بنطق الناطق إذا كان محقاً فإن قيل: ما فائدة ذلك الكتاب مع أنّ الله تعالى يعلم ذلك إذ لا تخفى عليه خافية؟ أجيب: بأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء، وقد يكون في ذلك حكمة لا يطلع عليها إلا هو تعالى {وهم} أي: الخلق كلهم {لا يظلمون} أي: لا ينقص من حسناتهم، ولا يزاد في سيئاتهم، ثم ذكر حال الكفار فقال تعالى:
(6/44)
---(1/2678)
{بل قلوبهم} أي: الكفرة من الخلق {في غمرة} أي: جهالة قد أغرقتها {من هذا} أي: القرآن أو الذي وصف به حال هؤلاء أو من كتاب الحفظة {ولهم أعمال من دون ذلك} المذكور للمؤمنين {هم} أي: الكفار {لها} أي: لتلك الأعمال الخبيثة {عاملون} أي: لا بد أنّ يعملوها فيعذبون عليها لما سبق من الشقاوة.
{حتى إذا أخذنا مترفيهم} أي: رؤساءهم وأغنياءهم {بالعذاب} قال ابن عباس: هو السيف يوم بدر، وقيل: هو الجوع دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» فابتلاهم الله تعالى بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام المحرقة والقذر والأولاد {إذا هم يجأرون} أي: يصيحون ويستغيثون ويجزعون، وأصل الجأر رفع الصوت بالتضرع؛ قاله البغوي، فكأنه قيل: فهل يقبل اعتذارهم أو يرحم انكسارهم؟ فقيل: لا بل يقال لهم بلسان الحال أو المقال.
{لا تجأروا اليوم} فإن الجأر غير نافع لكم، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إنكم منا لا تنصرون} أي: بوجه من الوجوه، ومن عدم نصرنا لم يجد له ناصراً فلا فائدة لجأره إلا إظهار الجزع، ثم علل عدم نصره لهم بقوله تعالى:
{قد كانت آياتي} أي: من القرآن {تتلى عليكم} أي: من أوليائي وهم الهداة النصحاء {فكنتم} كوناً هو كالجبلة {على أعقابكم} عند تلاوتها {تنكصون} أي: تعرضون مدبرين عن سماعها والعمل بها، والنكوص الرجوع القهقرى.
(6/45)
---(1/2679)
{مستكبرين} عن الإيمان، واختلف في عود الضمير في {به} فقال ابن عباس: بالبيت الحرام، وشهرة استكبارهم وافتخارهم أنهم قوّامه أغنت عن سبق ذكره، وذلك أنهم يقولون: نحن أهل حرم الله وجيران بيته، فلا يظهر علينا أحد ولا نخاف أحداً، فيأمنون فيه، وسائر الناس في الخوف، وقيل: بالقرآن، فلم يؤمنوا به، وقوله تعالى: {سامراً} نصب على الحال أي: جماعة يتحدثون بالليل حول البيت، وقوله تعالى: {تهجرون} قرأه نافع بضم التاء وكسر الجيم من الإهجار وهو الإفحاش أي: تفحشون وتقولون الخنا ذكر أنهم كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والباقون بفتح التاء وضم الجيم، أي: تعرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الإيمان وعن القرآن وترفضونها وتسمون القرآن سحراً وشعراً، ثم إنه تعالى لما وصف حالهم ردَّ عليهم بأنّ بين أنّ إقدامهم على هذه الأمور لا بد أنّ يكون لأحد أمور أربعة:
أحدها: أنّ لا يتأملوا في دليل نبوّته، وهو المراد من قوله تعالى:
(6/46)
---
{أفلم يدّبروا القول} أي: القرآن الدال على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأصل يدبروا يتدبروا أدغمت التاء في الدال.
ثانيها: أنّ يعتقدوا أنّ ما جاء به الرسول أمر على خلاف العادة وهو المراد من قوله تعالى: {أم جاءهم} في هذا القول {ما لم يأت آباءهم الأولين} الذين بعد إسماعيل وقبله.
ثالثها: أنّ لا يكونوا عالمين بأمانته وحسن حاله قبل ادعائه النبوّة، وهو المراد من قوله تعالى:
(6/47)
---(1/2680)
{أم لم يعرفوا رسولهم} أي: الذي أتاهم بهذا القول الذي لا قول مثله، وهم يعرفون نسبه وصدقه وأمانته، وما جاءهم به من معالي الأخلاق حتى أنهم لا يجدون فيه إذا تحققت الحقائق نقيصة يذكرونها ولا وصمة يستحلونها كما دلت عليه الأحاديث الصحاح منها حديث أبي سفيان بن حرب الذي في أول البخاري في سؤال هرقل ملك الروم له عن شأنه صلى الله عليه وسلم وقد اتفقت كلمتهم بتسميته الأمين {فهم} أي: فتسبب عن جهلهم به أنهم {له} أي: نفسه أو القول الذي أتى به {منكرون} فيكونوا ممن جهل الحق لجهل حال الآتي به، وفي هذا غاية التوبيخ لهم بجهلهم وبغباوتهم بأنهم يعرفون أنه أصدق الخلق وأعلاهم في كل معنى جميل، ثم كذبوه.
رابعها: أنّ يعتقدوا فيه الجنون فيقولوا إنما حمله على ادعائه الرسالة جنونه، وهو المراد من قوله تعالى:
{أم يقولون} أي: بعد تدبر ما أتى به وعدم عثورهم فيه على وجه من وجوه الطعن {به} أي: رسولهم {جنة} أي: جنون فلا يوثق به.
(6/48)
---(1/2681)
ولما كانت هذه الأقسام منفية عنه فإنهم أعرف الناس بهذا النبي الكريم، وإنه أكملهم خلقاً وأشرفهم خلقاً، وأظهرهم شيماً، وأعظمهم همماً، وأرجحهم عقلاً وأمتنهم رأياً، وأرضاهم قولاً وأصوبهم فعلاً أضرب عنها وقال تعالى: {بل} أي: لم ينكصوا عند سماع الآيات ويسمروا ويهجروا لاعتقاد شيء مما مضى، وإنما فعلوا ذلك لأنّ هذا الرسول الكريم {جاءهم بالحق} أي: القرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإسلام، وقال الجلال المحلي: الاستفهام فيه للتقرير بالحق من صدق النبي ومجيء الرسول للأمم الماضية ومعرفة رسولهم بالصدق والأمانة وأنّ لا جنون به، وبل للانتقال {وأكثرهم} أي: والحال أنّ أكثرهم {للحق كارهون} متابعة للأهواء الردية والشهوات البهيمية عناداً، وإنما قيد تعالى الحكم بالأكثر؛ لأنّ بعضهم يتركه جهلاً وتقليداً وخوفاً من أنّ يقال صبأ، وبعضهم يتبعه توفيقاً من الله تعالى وتأييداً، ثم بين تعالى أنّ اتباع الهوى يؤدي إلى الفساد العظيم بقوله تعالى:
{ولو اتبع الحق} أي: القرآن {أهواءهم} بأنّ جاء بما يهووه من الشرك والولد لله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً {لفسدت السموات} على علوها وإحكامها {والأرض} على كثافتها وانتظامها {ومن فيهن} على كثرتهم وانتشارهم وقوّتهم أي: خرجت عن نظامها المشاهد بسبب ادعائهم تعدد الآلهة لوجود التمانع في الشيء عادة عند تعدد الحاكم كما سبق تقريره في قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الأنبياء، 22)، {بل أتيناهم} بعظمتنا {بذكرهم} أي: بالقرآن الذي فيه ذكرهم وشرفهم، وقيل: بالذكر الذي تمنوه بقولهم: لو أنّ عندنا ذكراً من الأولين {فهم عن ذكرهم} أي: الذي هو شرفهم {معرضون} لا يلتفتون إليه، ثم بين تعالى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يطمع فيهم حتى يكون ذلك سبباً لنفرتهم بقوله تعالى:
(6/49)
---(1/2682)
{أم تسألهم} أي: على ما جئتم به {خرجاً} أي: أجراً، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الراء وبعدها ألف، والباقون بسكون الراء، ولما كان الإنكار معناه النفي حسن موقع فاء السببية في قوله تعالى:
{فخراج ربك} أي: رزقه في الدنيا وثوابه في العقبى {خير} لسعته ودوامه، ففيه مندوحة لك عن عطائهم، وقرأ ابن عامر بسكون الراء والباقون بفتحها وألف بعدها قال أبو عمرو بن العلاء: الخرج ما تبرعت به، والخراج ما لزمك أداؤه؛ قال الزمخشري: والوجه أنّ الخرج أخص من الخراج كقولك: خراج القرية، وخرج الكردة أي: الرقبة زيادة اللفظ لزيادة المعنى، ولذلك حسنت قراءة من قرأ خرجاً فخراج ربك يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق، فالكثير من عطاء الخالق خير، وقوله تعالى: {وهو خير الرازقين} تقرير لخيرية خراجه. ولما زيف سبحانه وتعالى طريق القوم أتبعه بصحة ما جاء به الرسول عليه السلام بقوله تعالى:
{وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم} تشهد عقولهم السليمة على استقامته لا عوج فيه يوجب اتهامهم له، كما تشهد له به العقول الصحيحة، فمن سلكه أوصله إلى الغرض، فحاز كل شرف.
تنبيه: قد ألزمهم الله تعالى الحجة في هذه الآيات، وقطع معاذيرهم وعللهم، فإن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره وعلنه خليق بأنّ يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم وأنه لم يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل له سلماً إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم إلا مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل من غير برهان.
{وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي: بالبعث والثواب والعقاب {عن الصراط} أي: الذي لا صراط غيره؛ لأنه لا موصل إلى القصد غيره {لناكبون} أي: عادلون منحرفون في سائر أحوالهم سائرون على غير منهج أصلاً بل خبط عشواء.
(6/50)
---(1/2683)
{ولو رحمناهم} أي: عاملناهم معاملة المرحوم في إزالة ضرره وهو معنى قوله تعالى: {وكشفنا ما بهم من ضر} أي: جوع أصابهم بمكة سبع سنين {للجوا} أي: عادوا وتمادوا {في طغيانهم} الذي كانوا عليه قبل هذا {يعمهون} أي: يترددون.
{ولقد أخذناهم بالعذاب} وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قريش أنّ يجعل عليهم سنين كسني يوسف، فأصابهم القحط، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال: بلى، فقال: قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فقد أكلوا الفرث والعظام والعلهز وشكا إليه الضرع فادع الله تعالى يكشف عنا هذا القحط فدعا فكشف عنهم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
تنبيه: العلهز وبر يخلط بدماء اللحم، فيؤكل في الجدب والعلهز أيضاً: القراد الضخم، وشكا بعض الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم السنة فقال:
*ولا شي مما يأكل الناس عندنا
** سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل
*وليس لنا إلا إليك فرارنا
** وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم «واستسقى لرفع هذه المحن» فقال الله تعالى عنهم: {فما استكانوا} أي: خضعوا خضوعاً هو كالجبلة لهم وأصله طلب السكون {لربهم} أي: المحسن إليهم عقب المحنة {وما يتضرعون} أي: يجددون الدعاء بالخضوع والذل والخشوع في كل وقت بحيث يكون لهم عادة بل هم على ما جبلوا عليه من الاستكبار والعتو.
{حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا} أي: صاحب {عذاب شديد} قال ابن عباس: يعني القتل يوم بدر، وهو قول مجاهد، وقيل: هو الموت، وقيل: هو قيام الساعة {إذا هم فيه} أي: ذلك الباب مطروحون لا يقدرون منه على نوع خلاص {مبلسون} متحيرون آيسون من كل خير، ثم إنه سبحانه التفت إلى خطابهم وبين عظيم نعمته من وجوه:
أحدها: ما ذكره بقوله تعالى:
(6/51)
---(1/2684)
أي: خلق {لكم} يا من يكذب بالآخرة {السمع} بمعنى الإسماع {والأبصار} على غير مثال سبق لتحسنوا بها ما نصب من الآيات {والأفئدة} أي: التي هي مراكز العقول فتتفكروا في الآيات وتستدلوا بها على الوحدانية فكنتم بها أعلى من بقية الحيوان جمع فؤاد وهو القلب، وإنما خص هذه الثلاثة بالذكر؛ لأنه يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها، فمن لم يعملها فيما خلقت له، فهو بمنزلة عادمها كما قال عز وجل: {فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم، ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله} (الأحقاف، 26)، ولما صور لهم هذه النعم وهي بحيث لا يشك عاقل في أنه لو تصور أنّ يعطي آدمي شيئاً منها لم يقدر على مكافأته حسن تبكيتهم في كفر النعم، فقال تعالى: {قليلاً ما تشكرون} لمن أولاكم هذه النعم التي لا يقدر غيره على شيء منها مع ادعائكم أنكم أشكر الناس لمن أسدى إليكم أقل ما يكون من النعم التي يقدر على مثلها كل أحد، فكنتم بذلك مثل الحيوانات العجم صماً بكماً عمياً؛ قال أبو مسلم: ليس المراد أنّ لهم شكراً وإن قل، لكنه يقال للكفور الجاحد النعمة ما أقل شكر فلان.
ثانيها: ما ذكره في قوله تعالى: {وهو} أي: وحده {الذي ذرأكم} أي: خلقكم وبثكم {في الأرض} للتناسل {وإليه} وحده {تحشرون} يوم النشور.
ثالثها: ما ذكره بقوله تعالى:
{وهو} أي: وحده {الذي} من شأنه أنه {يحي ويميت} فلا مانع له من البعث ولا غيره مما يريده.
رابعها: ما ذكره بقوله تعالى: {وله اختلاف الليل والنهار} أي: التصرف فيهما بالسواد والبياض والزيادة والنقصان {أفلا تعقلون} أي: بالنظر والتأمل أنّ الكل منا وأن قدرتنا تعم الممكنات كلها، وأن البعث من جملتها فتعتبرون، ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري النفي حسن بعده بقوله تعالى:
(6/53)
---(1/2685)
{بل قالوا} أي: هؤلاء العرب {مثل ما قال الأولون} من قوم نوح ومن بعدهم فقالوا ذلك تقليداً للأولين، ثم حكى الشبهة عنهم من وجهين: أحدهما: ما ذكره بقوله تعالى:
{قالوا} أي: منكرين للبعث متعجبين من أمره {أئذا متنا وكنا} أي: بالبلاء بعد الموت {تراباً وعظاماً} نخرة، ثم أكدوا الإنكار بقولهم: {أئنا لمبعوثون} أي: لمحشورون بعد ذلك قالوا ذلك استبعاداً ولم يتأملوا أنهم قبل ذلك أيضاً كانوا تراباً فخلقوا. ثانيهما: ما ذكره بقوله تعالى: إنهم قالوا:
{لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا} أي: البعث بعد الموت {من قبل} كأنهم قالوا: إن هذا الوعد كما وقع منه صلى الله عليه وسلم فقد وقع قديماً من سائر الأنبياء ولم يوجد مع طول العهد، وظنوا أنّ الإعادة تكون في دار الدنيا، ثم قالوا: {إن} أي: ما {هذا إلا أساطير} أي: أكاذيب {الأولين} كالأضاحيك والأعاجيب جمع أسطورة بالضم، وقيل: جمع أسطار جمع سطر؛ قال رؤبة:
*إني وأسطار سطرن سطراً
وهو ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له.
ولما أنكروا البعث هذا الإنكار المؤكد ونفوه هذا النفي المحتم أمره الله تعالى أنّ يقررهم بثلاثة أشياء هم بها مقرون، ولها عارفون يلزمهم من تسليمها الإقرار بالبعث قطعاً:
أحدها: قوله تعالى:
{قل} أي: مجيباً لإنكارهم البعث ملزماً لهم {لمن الأرض} أي: على سعتها وكثرة عجائبها {ومن فيها} على كثرتهم واختلافهم {إن كنتم} أي: مما هو كالجبلة لكم {تعلمون} أي: أهلاً للعلم وفيه تنبيه على أنهم أنكروا شيئاً لا ينكره عاقل، ولما كانوا مقرين بذلك أخبر تعالى عن جوابهم قبل جوابهم ليكون من دلائل النبوة وإعلام الرسالة بقوله تعالى استئنافاً:
(6/54)
---(1/2686)
{سيقولون} أي: قطعاً ذلك كله {لله} أي: المختص بصفات الكمال، ثم إنه تعالى أمره بقوله: {قل} أي: لهم إذا قالوا لك ذلك منكراً عليهم {أفلا تذكرون} أي: في ذلك المركوز في طباعكم المقطوع به عندكم ما غفلتم عنه من تمام قدرته وباهر عظمته فتصدقوا ما أخبر به من البعث الذي هو دون ذلك، وتعلموا أنه لا يصلح شيء منها وهو ملكه أنّ يكون شريكاً له تعالى ولا ولداً وتعلموا أنّ القادر على الخلق ابتداءً قادر على الإحياء بعد الموت، وأنه لا يصح في الحكمة أصلاً أنّ يترك البعث لأنّ أقلكم لا يرضى بترك حساب عبيده والعدل بينهم، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد بإدغام التاء الثانية في الذال.
ثانيها: قوله تعالى:
{قل} أي: لهم {من رب} أي: خالق ومدبر {السموات السبع} كما تشاهدون من حركاتها وسير أفلاكها {ورب العرش} أي: الكرسي {العظيم} كما قال تعالى: {وسع كرسيه السماوات والأرض} (البقرة، 255)
{سيقولون لله} أي: الذي له كل شيء هو رب ذلك لا جواب لهم غير ذلك، ولما تأكد الأمر وزاد الوضوح حسن التهديد على التمادي فقال تعالى: {قل} أي: منكراً عليهم {أفلا تتقون} أي: تحذرون عبادة غيره.
ثالثها قوله:
(6/55)
---(1/2687)
{قل} أمره الله تعالى بعدما قرّرهم بالعالمين العلوي والسفلي أن يقرّرهم بما هو أعم وأعظم وهو قوله تعالى: {من بيده} أي: من تحت قدرته ومشيئته {ملكوت كل شيء} من إنس وجن وغيرهما، والملكوت: الملك البليغ، قال ابن الأثير: كانت العرب إذا كان السيد فيهم أجار أحداً لا يخفر جواره، وليس لمن دونه أن يجير عليه لئلا يعاب عليه، ولو أجار ما أفاد، ولهذا قال تعالى: {وهو يجير} أي: يمنع ويغيث من شاء فيكون في حرز لا يقدر أحد على الدنو من ساحته {ولا يجار عليه} أي: ولا يمكن أحداً أبداً أن يجير جواراً يكون مستعلياً عليه بأن يكون على غير مراده بل يأخذ من أراد وإن نصره جميع الخلائق ويعلي من أراد وإن تحاملت عليه كل المصائب فتبين كالشمس أنه لا شريك يمانعه ولا ولد يضارعه، وأنه السيد العظيم الذي لا أعظم منه، الذي له الخلق والأمر ولا معقب لحكمه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ثم ألهبهم إلى المبادرة إلى الاعتراف به وهيجهم بقوله تعالى: {إن كنتم تعلمون} أي: في عداد من يعلم، ولذلك استأنف قوله تعالى:
{سيقولون لله} أي: الذي بيده ذلك خاصاً به.
تنبيه: سيقولون لله الأول لا خلاف فيها، وأما الثانية والثالثة فقرأ أبو عمرو: سيقولون الله بزيادة همزة الوصل مع التفخيم فيهما، ورفع الهاء والباقون بغير همز الوصل مع الترقيق وكسر الهاء والتقدير ذلك كله لله، ولما كان جوابهم بذلك يقتضي إنكار توقفهم في الإقرار بالبعث استأنف قوله تعالى: {قل} أي: لهم منكراً عليهم {فأنى تسخرون} أي: فكيف بعد إقراركم بهذا كله تخدعون وتصرفون عن الحق وكيف يخيل لكم أنه باطل، ولما كان الإنكار بمعنى النفي حسن قوله تعالى:
{بل} أي: ليس الأمر كما يقولون بل {أتيناهم بالحق} أي: بالصدق من التوحيد والوعد بالنشور {وإنهم لكاذبون} في كل ما ادعوه من الولد والشريك وغيرهما مما بين القرآن فساده ومن أعظم كذبهم قولهم: {اتخذ الرحمن ولداً} (مريم، 88)
قال تعالى رداً عليهم:(1/2688)
(6/56)
---
{ما اتخذ الله} أي: الذي لا كفء له {من ولد} أي: لا من الملائكة ولا من غيرهم لما قام من الأدلة على غناه وأنه لا مجانس له، ولما كان الولد أخص من مطلق الشريك قال تعالى: {وما كان معه} أي: بوجه من الوجوه {من إله} يشابهه في الألوهية {إذاً} لو كان معه إله آخر {لذهب كل إله بما خلق} بالتصرف فيه وحده ليتميز ما له مما لغيره.
فإن قيل: إذاً لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب، فكيف وقع قوله تعالى: {لذهب} جزاءً وجواباً، ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل؟ أجيب: بأن الشرط محذوف تقديره ولو كان معه آلهة، وإنما حذف لدلالة قوله تعالى: وما كان معه من إله عليه وهو جواب لمن معه المحاجة من المشركين {ولعلا بعضهم} أي: بعض الآلهة {على بعض} إذا تخالفت أوامرهم، فلم يرض أحد منهم أن يضاف ما خلقه إلى غيره، ولا أن يمضي فيه أمر على غير مراده كما هو مقتضى العادة، فلا يكون المغلوب إلهاً لعجزه ولا يكون مجيراً غير مجار عليه بيده وحده ملكوت كل شيء. ولما طابق الدليل الإلزامي نفي الشريك نزه نفسه الشريفة بما هو نتيجة ذلك من قوله تعالى: {سبحان الله} أي: المتصف بجميع صفات الكمال المنزه عن شائبة كل نقص {عما يصفون} من كل ما لا يليق بجناية المقدس من الأنداد والأولاد لما سبق من الدليل على فساده، ثم أقام دليلاً آخر على كماله يوصفه بقوله تعالى:
{عالم الغيب والشهادة} أي: ما غاب وما شوهد، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي برفع الميم على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هو، والباقون بالخفض على أنه صفة لله، ثم رتب على هذا الدليل قوله تعالى: {فتعالى} أي: تعاظم {عما يشركون} معه من الآلهة، ثم إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
(6/57)
---
{قل رب} أي: أيها المحسن إليّ {إما} فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة أي: إن كان لا بد أن {تريني} لأنَّ ما والنون للتأكيد {ما يوعدون} من العذاب في الدنيا والآخرة.(1/2689)
{رب فلا تجعلني} بإحسانك إليّ {في القوم الظالمين} أي: قرينا لهم في العذاب.
(6/58)
---
فإن قيل: كيف يجوز أن يجعل الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم المعصوم مع الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟ أجيب: بأنه يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه وإخباتاً له واستغفاره صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه سبعين مرة أو مائة مرة لذلك وما أحسن قول الحسن في قول أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: وليتكم ولست بخيركم، كان يعلم أنه خيرهم ولكن المؤمن يهضم نفسه وإنما ذكر ربه مرتين مرة قبل الشرط، ومرة قبل الجزاء مبالغة في التضرع.
{وإنا} أي: بما لنا من العظمة {على أن نريك} أي: قبل موتك {ما نعدهم} من العذاب {لقادرون} لكنا نؤخره علماً بأن بعضهم أو بعض أعقابهم يؤمنون وهو صادق بالقتل يوم بدر أو فتح مكة، ثم كأنه قال: فماذا أفعل فيما تعلم من أمرهم، فقال تعالى:
b
{ادفع بالتي هي أحسن} أي: من الأقوال والأفعال بالصفح والمداراة {السيئة} أذاهم إياك وهذا قبل الأمر بالقتال فهي منسوخة، وقيل: محكمة لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى نقصان دين أو مروءة {نحن أعلم بما يصفون} في حقك وحقنا، فلو شئنا منعناهم منه أو عاجلناهم بالعذاب، وليس أحد بأغير منا فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، ولما أدب سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يدفع بالتي هي أحسن علمه ما به يقوى على ذلك بقوله تعالى:
{وقل رب} أي: أيها المحسن إليّ {أعوذ بك} أي: ألتجىء إليك {من همزات الشياطين} أي: أن يصلوا إليّ بوساوسهم، وأصل الهمز النخس ومنه مهماز الرائض شبه حثهم الناس على المعاصي بهمز الرائض الدواب على المشي وإنما جمع همزات لتنوع الوسواس أو لتعدد المضاف إليه.
(6/59)
---(1/2690)
{وأعوذ بك رب} أي: أيها المربى لي {أن يحضرون} في حال من الأحوال خصوصاً حال الصلاة وقراءة القرآن وحلول الأجل؛ لأنها أحرى الأحوال، وهم إنما يحضرون بالسوء، ولو لم تصل إليَّ وساوسهم، فإن بعدهم بركة، وعن جبير بن مطعم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة قال عمر: ولا أدري أي صلاة هي فقال: «الله أكبر كبيراً ثلاثاً، والحمد لله كثيراً ثلاثاً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً ثلاثاً أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه؛ قال: نفثه الشعر ونفخه الكبر، وهمزه الموتة» أخرجه أبو داود؛ لأن الشعر يخرج من القلب فيلفظ به اللسان، وينفثه كما ينفث الريق والمتكبر ينتفخ ويتعاظم ويجمع نفسه ويحتاج إلى أن ينفخ، والموتة الجنون والمجنون يصير في الدنيا كالميتة، ثم إن الله تعالى أخبر أن هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت بقوله تعالى: {حتى} وهي هنا كما قال الجلال المحلي ابتدائية أو متعلقة بيصفون أو بكاذبون كما قال الزمخشري، وقدّم المفعول ليذهب الوهم في فاعله كل مذهب فقال:
{إذا جاء أحدهم الموت} فكشف له الغطاء وظهر له الحق ولاحت له بوارق العذاب، ولم يبق في شيء من ذلك ارتياب {قال} متحسراً على ما فرّط فيه من الإيمان والطاعة مخاطباً لملائكة العذاب على عادة جهله ووقوفه مع المحسوس من دأب البهائم {رب ارجعون} أي: ردوني إلى الدنيا دار العمل، ويجوز أن يكون الجمع له تعالى وللملائكة أو للتعظيم على عادة مخاطبات الأكابر سيما الملوك كقوله:
*ألا فارحموني يا إله محمد
وقوله:
*فإن شئت حرمت النساء سواكم
أو القصد تكرير الفعل للتأكيد؛ لأنه في معنى أرجعني كما قيل في قفا واطرقا فإنهما بمعنى قف قف واطرق اطرق، ولما كان في تلك الحالة مع وصوله إلى الغرغرة ليس على القطع من اليأس قال:
(6/60)
---(1/2691)
{لعلي أعمل} أي: لأن كون على رجاء من أن اعمل {صالحاً فيما تركت} أي: ضيعت من الإيمان بالله وتوابعه فيدخل في الأعمال الأعمال البدنية والمالية وعنه صلى الله عليه وسلم «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا: نرجعك إلى الدنيا فيقول إلى دار الهموم والأحزان بلى قدوماً على الله، وأما الكافر فيقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت» قال قتادة: ما تمنى أن يرجع إلى أهله ولا عشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله فرحم الله امرأ عمل فيما تمناه الكافر إذا رأى العذاب، وقال ابن كثير: كان العلاء بن زياد يقول: لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت واستقال ربه، فأقاله فليعمل بطاعة الله تعالى، ولما كان القضاء قد قطع بأنه لا يرجع ولو رجع لم يعمل بطاعة الله عز وجل، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون، قال الله تعالى له ردعاً ورداً لكلامه: {كلا} أي: لا يكون شيء من ذلك وكأنه قيل: فما حكم ما قال؟ فقيل: {إنها كلمة} والمراد بالكلمة في اللغة الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض رب ارجعون إلى آخره {هو قائلها} وقد عرف منه الخداع والكذب فهي كما عهد منه لا حقيقة لها، فلا يجاب إليها ولا تسمع منه وهو لا محالة لا يخليها، ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه، وتسلط الندم {ومن ورائهم} أي: أمامهم والضمير للجماعة {برزخ} أي: حاجز حائل بينهم وبين الرجعة، واختلف في معناه فقال مجاهد: حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا، وقال قتادة: بقية الدنيا، وقال الضحاك: البرزخ ما بين الموت إلى البعث، وقيل: هو الموت، وقيل: هو القبر هم فيه {إلى يوم يبعثون} وهو يوم القيامة، وفي هذا إقناط كليّ من الرجوع إلى الدنيا لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا، وإنما الرجوع فيه إلى حياة تكون في الآخرة.
(6/61)
---(1/2692)
{فإذا نفخ في الصور} أي: القرن، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنها النفخة الأولى ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض {فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون} ثم نفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، وعن ابن مسعود أنها النفخة الثانية قال: يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين، ثم ينادي منادٍ هذا فلان بن فلان، فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه فيفرح المرء أن يكون له حق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه، فيأخذه منهم، ثم قرأ ابن مسعود فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون، وفي رواية عطاء عن ابن عباس أنها النفخة الثانية فلا أنساب بينهم أي: لا يتفاخرون بالأنساب يومئذٍ كما كانوا يتفاخرون بها في الدنيا ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا من أنت ومن أي قبيل أنت، ولم يرد أن الإنسان ينقطع نسبه، فإن قيل: قد قال تعالى هنا: ولا يتساءلون، وقال تعالى في موضع آخر: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} (الصافات، 27)
؟ أجيب: بأن ابن عباس قال: إن للقيامة أحوالاً ومواطن ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل، فلا يتساءلون، وفي موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون، وقيل: التساؤل بعد دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.
{فمن ثقلت موازينه} أي: بالأعمال المقبولة، قال البقاعي: ولعل الجمع لأن لكل عمل ميزاناً يعرف أنه لا يصلح له غيره، وذلك أدل دليل على القدرة {فأولئك} أي: خاصة قال أيضاً: ولعله جمع للبشارة بكثرة الناجي بعد أن أفرد للدلالة على كثرة الأعمال أو على عموم الوزن لكل فرد {هم المفلحون} أي: الفائزون بالنجاة والدرجات العلى.
(6/62)
---(1/2693)
{ومن خفت موازينه} لإعراضه عن تلك الأعمال المؤسسة على الإيمان {فأولئك} خاصة {الذين خسروا أنفسهم} لإهلاكهم إياها باتباعها شهواتها في دار الأعمال وشغلها بأهوائها عن مراتب الكمال وقوله تعالى: {في جهنم خالدون} بدل من الصلة، أو خبر ثان لأولئك، وهي دار لا ينفك أسيرها ولا ينطفىء سعيرها، ثم استأنف قوله تعالى:
{تلفح} أي: تغشى بشدّة حرّها وسمومها ووهجها {وجوههم النار} فتحرقها، فما ظنك بغيرها، واللفح كالنفح إلا أنه أشد تأثيراً {وهم فيها كالحون} أي: عابسون قد شمرت شفاههم العليا والسفلى عن أسنانهم، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته» وقوله تعالى:
{ألم تكن آياتي} أي: من القرآن على إضمار القول أي: يقال لهم: ألم تكن آياتي {تتلى عليكم} أي: تتابع لكم قراءتها في الدنيا شيئاً فشيئاً {فكنتم بها تكذبون} ثم استأنف جوابه بقوله تعالى:
(6/63)
---
{قالوا ربنا} أي: المسبغ علينا نعمه {غلبت علينا شقوتنا} أي: ملكتنا بحيث صارت أحوالها مؤدّية إلى سوء العاقبة {وكنا} أي: بما جبلنا عليه {قوماً ضالين} في ذلك عن الحق أقوياء في موجبات الشقوة فكان سبباً للضلال عن طريق السعادة.
{ربنا} يا من عودنا بالإحسان {أخرجنا منها} أي: من النار تفضلاً منك على عادة فضلك وردّنا إلى دار الدنيا لنعمل ما يرضيك {فإن عدنا} إلى مثل ذلك الضلال {فإنا ظالمون} لأنفسنا، ثم استأنف جوابهم بأن:
(6/64)
---(1/2694)
{قال} لهم بلسان ملك بعد قدر الدنيا مرتين كما يقال للكلب {اخسؤوا} أي: انزجروا زجر الكلاب وانطردوا عن مخاطبتي ساكتين سكوت هوان {فيها} أي: النار {ولا تكلمون} أصلاً، فإنكم لستم بأهل لمخاطبتي لأنكم لن تزالوا متصفين بالظلم فييأس القوم بعد ذلك، ولا يتكلموا بكلمة إلا الزفير والشهيق والعواء كعواء الكلاب، وقال القرطبي: إذا قيل لهم ذلك انقطع رجاؤهم، وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض فانطبقت عليهم، وعن ابن عباس أنّ لهم ست دعوات إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة: ربنا أبصرنا وسمعنا، فيجابون: حق القول مني، فينادون ألفاً: ربنا أمتنا اثنتين، فيجابون: ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم، فينادون ألفاً: يا مالك ليقض علينا ربك، فيجابون: إنكم ماكثون، فينادون ألفاً: ربنا أخرجنا منها، فيجابون: أولم تكونوا أقسمتم، فينادون ألفاً: أخرجنا نعمل صالحاً، فيجابون: أولم نعمركم، فينادون ألفاً: رب ارجعون، فيجابون: اخسؤوا فيها ولا تكلمون، ثم لا يكون لهم إلا الزفير والشهيق والعواء، ثم علل ذلك بقوله تعالى:
{إنه كان} أي: كوناً ثابتاً {فريق} أي: ناس قد استضعفتموهم{من عبادي} وهم المؤمنون {يقولون} مع الاستمرار {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا بالخلق والرزق {آمنا} أي: أوقعنا الإيمان بجميع ما جاءتنا به الرسل {فاغفر لنا} أي: استر لنا زللنا {وارحمنا} أي: افعل بنا فعل الراحم {وأنت خير الراحمين} لأنك تخلص برحمتك من كل شقاء وهوان.
(6/65)
---(1/2695)
{فاتخذتموهم} أي: فتسبب عن إيمانهم أن اتخذتموهم {سخرياً} أي: تسخرون منهم وتستهزؤن بهم، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بضم السين، والباقون بالكسر وهو مصدر سخر كالسخر إلا أن في ياء النسب زيادة قوّة في الفعل كما قيل: الخصوصية في الخصوص، وعن الكسائي والفرّاء أن المكسور من الهزء والمضموم من السخرية والعبودية، أي: تسخرونهم وتتعبدونهم؛ قال الزمخشري: والأول مذهب الخليل وسيبويه، انتهى. وأظهر الذال عند التاء ابن كثير وحفص، والباقون بالإدغام {حتى أنسوكم ذكري} أي: بأن تذكروني فتخافوني، وأضاف ذلك إليهم لأنهم كانوا السبب فيه لفرط اشتغالهم بالاستهزاء بهم {وكنتم منهم تضحكون} استهزاء بهم نزلت في كفار قريش كانوا يستهزئون بالفقراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل بلال وعمار وصهيب وخباب، ولما تشوّقت النفس بعد العلم بما فعل بأعدائهم إلى جزائهم قال الله تعالى:
{إني جزيتهم اليوم} أي: بالنعيم المقيم {بما صبروا} أي: على عبادتي ولم يشغلهم عنها تألمهم بأذاكم، كما يشغلكم عنها التذاذكم بإهانتهم ففازوا دونكم وهو معنى قوله تعالى: {إنهم هم الفائزون} أي: بمطلوبهم الناجون من عذاب النار، وقرأه حمزة والكسائي بكسر الهمزة على الاستئناف والباقون بفتحها على أنها مفعول ثان لجزيتهم، ثم إن الله تعالى:
(6/66)
---(1/2696)
{قال} لهم على لسان الملك المأمور بسؤالهم تبكيتاً وتوبيخاً لأنهم كانوا يظنون أن بعد الموت يدوم الفناء ولا إعادة، فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنها دائمة، وأنهم فيها مخلدون سألهم {كم لبثتم في الأرض} على تلك الحال في الدنيا التي كنتم تعدونها فوزاً {عدد سنين} أنتم فيها ظافرون ولأعدائكم قاهرون، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: قل كم، بضم القاف وسكون اللام على الأمر للملك أو لبعض رؤساء أهل النار، والباقون بفتح القاف واللام وألف بينهما خبراً وتقدم توجيهه وأظهر الثاء المثلثة عند التاء المثناة فوق نافع وابن كثير وعاصم وأدغمها فيها الباقون.
{قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم} يشكون في ذلك. فإن قيل: كيف يصح في جوابهم أن يقولوا ذلك، ولا يقع من أهل النار الكذب؟ أجيب: بأنهم نسوا ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال، وقد اعترفوا بهذا النسيان حيث قالوا: {فاسأل العادين} أي: الملائكة المحصين أعمال الخلق وأعمارهم؛ قال ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين، وقيل: قالوا ذلك تصغيراً للبثهم وتحقيراً له بالإضافة إلى ما وقعوا فيه من دوام العذاب قال بعضهم:
*لا أن أيام الشقاء طويلة
** كما أن أيام السرور قصار
وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين وترك الهمز بعدها وكذا يفعل حمزة في الوقف والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها ثم:
{قال} الله تعالى لهم على لسان الملك: {إن} أي: ما {لبثتم} أي: في الدنيا {إلا قليلاً}،لأن الواحد وإن طال مكثه في الدنيا فإنه يكون قليلاً في جنب ما يلبث في الآخرة {لو أنكم كنتم تعلمون} أي: في عداد من يعلم في ذلك الوقت لما آثرتم الفاني على الباقي ولأقبلتم على ما ينفعكم ولتركتم أفعالكم التي لا يرضاها عاقل، ولكنكم كنتم في عداد البهائم، وقرأ حمزة والكسائي: قل؛ أمراً، والباقون: قال؛ خبراً، ولبثتم تقدم مثله، وتوجيه قال وقل، ثم وبخهم الله تعالى على تغافلهم بقوله تعالى:
(6/67)
---(1/2697)
{أفحسبتم أنما خلقناكم} على ما لنا من العظمة، وقوله تعالى: {عبثاً} حال أي: عابثين كقوله: لاعبين، أو مفعول له أي: ما خلقناكم للعبث، ولم يدعنا إلى خلقكم إلا حكمة اقتضت ذلك، وهي أن نتعبدكم ونكلفكم المشاق من الطاعات وترك المعاصي {و} حسبتم {أنكم إلينا لا ترجعون} في الآخرة للجزاء، وروى البغوي بسنده عن أنس «أن رجلاً مصاباً مرَّ به على ابن مسعود فرقاه في أذنه أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون، ثم ختم السورة فبرىء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو أن رجلاً موقناً قرأها على جبل لزال»، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء الفوقية وكسر الجيم، والباقون بضم الفوقية وفتح الجيم، ثم نزّه سبحانه وتعالى نفسه عما يقوله ويصفه به المشركون بقوله تعالى:
{فتعالى الله} أي: الذي له الجلال والجمال علواً كبيراً عن العبث، وغيره مما لا يليق به {الملك} أي: المحيط بأهل مملكته علماً وقدرة وسياسة وحفظاً ورعاية {الحق} أي: الذي لا يتطرق الباطل إليه في شيء في ذاته ولا في صفاته فلا زوال له ولا لملكه {لا إله إلا هو} فلا يوجد له نظير أصلاً في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فهو متعالٍ عن سمات النقص والعبث، ثم زاد في التعيين والتأكيد والتفرد بوصفه بصفة لا يدعيها غيره بقوله تعالى: {رب العرش} أي: السرير المحيط بجميع الكائنات التي تنزل منه محكمات الأقضية والأحكام ولذا وصفه بالكرم فقال: {الكريم} أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين، ولما بيّن سبحانه وتعالى أنه الملك الحق لا إله إلا هو أتبعه بأن من ادّعى إلهاً آخر، فقد ادعى باطلاً بقوله تعالى:
(6/68)
---(1/2698)
{ومن يدع مع الله} أي: الملك الذي لا كفء له {إلهاً آخر} يعبده {لا برهان له به} أي: بسبب دعائه بذلك إذا اجتهد في إقامة برهان على ذلك لم يجد، ثم ذكر أنّ من قال ذلك فجزاؤه العقاب العظيم بقوله تعالى: {فإنما حسابه} أي: جزاؤه الذي لا يمكن زيادته ولا نقصه {عند ربه} أي: الذي رباه ولم يربه أحد سواه الذي هو أعلم بسريرته وعلانيته، فلا يخفى عليه شيء من أمره، ولما افتتح السورة بقوله: {قد أفلح المؤمنون} ختمها بقوله: {إنه لا يفلح الكافرون} أي: لا يسعدون، فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة. ولما شرح الله تعالى أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام بالانقطاع إليه والالتجاء إلى غفرانه ورحمته بقوله تعالى:
{وقل رب} أي: أيها المحسن إليّ {اغفر وارحم} أي: أكثر من هذين الوصفين {وأنت خير الراحمين} فمن رحمته أفلح بما توفقه له من امتثال ما أشرت إليه أول السورة، فكان من المؤمنين وكان من الوارثين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، فقد انطبق على الأول هذا الآخر بفوز كل مؤمن وخيبة كل كافر، فنسأل الله تعالى أن يكون لنا ولوالدينا ولأحبابنا أرحم راحم وخير غافر إنه المتولي للسرائر والمرجو لإصلاح الضمائر، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة المؤمنون بشرته الملائكة بالروح والريحان، وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت» حديث موضوع، وقوله أيضاً تبعاً للزمخشري: روي أن أول سورة قد أفلح وآخرها من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع آيات من آخرها فقد نجا وأفلح، قال شيخ شيخنا ابن حجر حافظ عصره: لم أجده.
سورة النور
مدنية
وهي ثنتان أو أربع وستون آية
{بسم الله} الذي تمت كلمته فبهرت قدرته {الرحمن} الذي ظهرت الحقائق كلها بشمول رحمته {الرحيم} الذي شرف من اختاره بخدمته قوله تعالى:
(6/69)
---(1/2699)
{سورة} خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه سورة أي: عظيمة أو سورة أنزلناها، مبتدأ موصوف والخبر محذوف أي: فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها، وقال الأخفش: لا يبعد الابتداء بالنكرة، فسورة مبتدأ، وأنزلناها خبره، ثم رغب في امتثال ما فيها مبيناً أن تنوينها للتعظيم بقوله تعالى: {أنزلناها} أي: بما لنا من العظمة وتمام العلم والقدرة {وفرضناها} أي: قدرنا ما فيها من الحدود، وقيل: أوجبناها عليكم وعلى من بعدكم إلى قيام الساعة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديد الراء لكثرة الفروض، والباقون بالتخفيف {وأنزلنا فيها آيات} من الحدود والأحكام والمواعظ والأمثال وغيرها {بينات} أي: واضحات الدلالة {لعلكم تذكرون} أي: تتعظون، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد، ثم إنه تعالى ذكر في السورة أحكاماً كثيرة: الحكم الأول: قوله تعالى: {الزانية والزاني} أي: غير المحصنين لرجمهما بالسنة وأل فيما ذكر موصولة وهو مبتدأ ولشبهه بالشرط دخلت الفاء في خبره وهو {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} أي: ضربة يقال: جلده إذا ضرب جلده، ويزاد على ذلك بالسنة تغريب عام، والرقيق على النصف مما ذكر، ولا رجم عليه لأنه لا يتنصف.
(6/70)
---(1/2700)
واعلم أن الزنا من الكبائر، ويدل عليه أمور: أحدها: أن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى: {ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً} (الفرقان، 68)، ثانيها: قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} (الإسراء، 32)، ثالثها: أن الله تعالى أوجب المائة فيه بكمالها بخلاف حد القذف وشرب الخمر وشرّع فيه الرجم، وروى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا معشر الناس اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، أما اللاتي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما اللاتي في الآخرة فسخط الله سبحانه وتعالى وسوء الحساب وعذاب النار»، وعن عبد الله قال: «قلت: يار رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك» فأنزل الله تعالى تصديقاً لذلك: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون}» (الفرقان، 86)
(6/71)
---(1/2701)
والزنا إيلاج حشفة أو قدرها من مقطوعها من الذكر المتصل الأصلي من الآدمي الواضح ولو أشل وغير منتشر، وكان ملفوفاً في خرقة بقبل محرم في نفس الأمر لعينه خال عن الشبهة المسقطة للحدّ مشتهي طبعاً بأن كان فرج آدمي حيّ ولا يشترط إزالة البكارة حتى لو كانت غوراء وأدخل الحشفة فيها، ولم يزل بكارتها ترتب عليه حد الزنا بخلاف التحليل لا بدّ فيه من إزالة البكارة لقوله صلى الله عليه وسلم «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك»، واختلف في اللواط هل يطلق عليه اسم الزنا أو لا؟ فقال بعضهم: يطلق عليه لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان»، والذي عليه أكثر أصحابنا أنه غير داخل تحت اسم الزنا لأنه لو حلف لا يزني فلاط لم يحنث، والحديث محمول على الإثم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم «إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان»، وللشافعي في حده قولان؛ أصحهما أن الفاعل إن كان محصناً فإنه يرجم، وإلا فيجلد مائة ويغرب عاماً، وأما المفعول فلا يتصور فيه إحصان فيجلد ويغرب، والقول الثاني: يقتل الفاعل والمفعول به سواء كان محصناً أم لا لما روي عن ابن عباس أنه قال: من عمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به.
وأما إتيان البهائم فحرام بإجماع الأئمة، واختلف في عقوبته على أقوال: أحدها: حد الزنا فيرجم الفاعل المحصن ويجلد غيره ويغرب، والثاني: أنه يقتل محصناً كان أو غير محصن لما روي عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه»، والثالث: وهو الأصح أنه يعزر؛ لأن الحدّ شرع للزجر عما تميل النفس إليه، وضعفوا حديث ابن عباس لضعف إسناده، وهو وإن ثبت فهو معارض بما روي أنه صلى الله عليه وسلم «نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله».
(6/72)
---(1/2702)
وأما السحاق من النساء وإتيان المرأة الميتة والاستمناء باليد فلا يشرع فيه شيء من ذلك إلا التعزير والمقيم للحد هو الإمام أو نائبه، وللسيد أن يقيم الحدّ على رقيقه ولا تجوز الشفاعة في إسقاط الحدّ ولا تركه ولا تخفيفه كما قال تعالى: {ولا تأخذكم} أي: على أي حال من الأحوال {بهما رأفة} أي: رحمة ورقة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها، وقرأ ابن كثير بفتح الهمزة والباقون بسكونها، والسوسي على أصله من البدل، وقيل: معنى الرأفة أن يخففوا الضرب {في دين الله} أي: الذي شرعه لكم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها»، روي أن عمر رضي الله عنه جلد جارية له زنت، فقال للجلاد: اضرب ظهرها ورجليها، فقال له ابنه: ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله، فقال: يا بني إن الله تعالى لم يأمرنا بقتلها وقد ضربت فأوجبت. ثم إنه سبحانه وتعالى زاد في الحض على ذلك بقوله تعالى: {إن كنتم تؤمنون با} أي: الذي هو أرحم الراحمين فإنه ما شرع ذلك الا رحمة للناس عموماً وللزانين خصوصاً فلا تزيدوا في الحد ولا تنقصوا منه شيئاً، وفي الحديث «يؤتى بوال نقص من الحدود سوطاً فيقول: رحمة لعبادك، فيقال له: أنت أرحم مني، فيؤمر به إلى النار، ويؤتي بمن زاد سوطاً فيقول: لينتهوا عن معاصيك، فيؤمر إلى النار» وعن أبي هريرة: إقامة حد بأرض خير من مطر أربعين ليلة ثم أتبع ذلك بما يرهبه بقوله تعالى: {واليوم الآخر} الذي يحاسب فيه على النقير والقطمير والخفي والجلي {وليشهد} أي: وليحضر {عذابهما} أي: حدهما إذا أقيم عليهما {طائفة من المؤمنين} والطائفة الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة وأقلها ثلاثة أو أربعة وهي صفة غالبة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء، وعن ابن عباس في تفسيرها: أربعة إلى أربعين رجلاً من المصدقين بالله تعالى، وعن الحسن: عشرة، وعن قتادة: ثلاثة فصاعداً، وعن عكرمة: رجلان فصاعداً، وعن مجاهد: أقلها رجل فصاعداً، وقيل: رجلان وفضل قول(1/2703)
(6/73)
---
ابن عباس؛ لأن الأربعة هي الجماعة التي يثبت بها الزنا ولا يجب على الإمام حضور رجم ولا على الشهود لأنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز والغامدية ولم يحضر رجمهما، وإنما خص المؤمنين بالحضور؛ لأن ذلك أفضح، والفاسق بين صلحاء قومه أخجل، ويشهد له قول ابن عباس: إلى أربعين رجلاً من المصدقين بالله.
تنبيه: الضرب يكون بسوط لا حديد يجرح ولا خلق لا يؤلم، ويفرق بين السياط على أعضائه ولا يجمعها في موضع واحد، واتفقوا على أنه يتقي المهالك كالوجه والبطن والفرج ويضرب على الرأس لقول أبي بكر رضي الله عنه: اضرب على الرأس فإن الشيطان فيه، ولا يشد يده وينزع الثياب التي تمنع ألم الضرب كالفرو، ولو فرق سياط الحدّ تفريقاً لا يحصل به التنكيل مثل أن يضرب كل يوم سوطاً أو سوطين، فإن فرق وضرب والألم موجود كفى، وإن وجب الحدّ على حامل لا يقام عليها حتى تضع وترضعه حتى ينفطم ويندب أن يحفر للمرأة إلى صدرها إن ثبت زناها بالبينة لا بإقرارها ولا يندب للرجل مطلقاً، وإن وجب الحدّ على المريض نظر إن كان يرجى زواله كصداع انتظر أو لا يرجى كالزمانة فلا يؤخر ولا يضرب بالسياط بل بعثكال عليه مائة شمراخ، فيقوم ذلك مقام جلده، وأما في حال الحر والبرد الشديدين فإن كان الحدّ رجماً لم يؤخر لأن النفس مستوفاة، وإن كان جلداً أخر إلى اعتدال الهواء، ويقبل رجوع الزاني عن إقراره، ولو في أثناء الحدّ، وإذا مات في الحدّ يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين.
(6/74)
---(1/2704)
الحكم الثاني قوله تعالى: {الزاني لا ينكح} أي: لا يتزوج {إلا زانية أو مشركة} أي: المعلوم اتصافه بالزنا مقصور نكاحه على زانية أو مشركة {والزانية لا ينكحها} أي: لا يتزوجها {إلا زانٍ أو مشرك}، أي: والمعلوم اتصافها بالزنا مقصور نكاحها على زانٍ أو مشرك إذ الغالب أن المائل إلى الزنا لا يرغب في نكاح الصوالح والمسافحة لا يرغب فيها الصلحاء، فإن المشاكلة علة الألفة والانضمام والمخالفة سبب النفرة والافتراق، وقال بعضهم: الجنسية علة الضم والمشاكلة سبب المواصلة، والمخالفة توجب المباعدة وتحرم المؤالفة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل»، وعن علي رضي الله تعالى عنه أنه خطب أهل الكوفة بعد ثلاثة أيام من مقدمه عليهم، فقال: يا أهل الكوفة قد علمنا شراركم من خياركم، فقالوا: كيف وما لك إلا ثلاثة أيام؟ فقال: كان معنا شرار وخيار فانضم خيارنا إلى خياركم وشرارنا إلى شراركم، وعن الشعبي أنه قال: إنّ لله ملكاً موكلاً بجمع الأشكال بعضها إلى بعض، وقال القائل:
*عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
** فكل قرين بالمقارن يقتدي
(6/75)
---(1/2705)
فإن قيل: لما قدمت الزانية على الزاني أولاً، ثم قدم عليها ثانياً؟ أجيب: بأن تلك الآية سيقت لعقوبتهما على ما جنيا والمرأة هي المادة التي منها نشأت الجناية؛ لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن فلما كانت أصلاً وأوّلاً في ذلك بدىء بذكرها، وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه الراغب فيه والخاطب، ومنه يبدو الطلب {وحرم ذلك} أي: نكاح الزاني والزانية تحريماً لا مشوبة فيه {على المؤمنين} واختلف العلماء في معنى الآية وحكمها، فقال قوم منهم مجاهد وعطاء وقتادة والزهري والشعبي، ورواية عن ابن عباس قدم المهاجرون لمدينة وفيهم فقراء لا مال لهم ولا عشائر، وبالمدينة نساء بغاياهنّ يومئذٍ أخصب أهل المدينة، فرغب ناس من فقراء المسلمين في نكاحهنّ لينفقن عليهم فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فنزلت هذه الآية، وحرم ذلك على المؤمنين أن يتزوّجوا تلك البغايا لأنهن كنّ مشركات، وقال عكرمة: نزلت في نساء كن بمكة وبالمدينة لهن رايات يعرفن بهن منهن: أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها مأكلة فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الصفة فاستأذن رجل منهم النبي صلى الله عليه وسلم في نكاح أم مهزول فاشترطت أن تنفق عليه فنزلت هذه الآية، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد الغنوي وكان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، وكانت بمكة بغيّ يقال لها عناق، وكانت صديقة له في الجاهلية، فلما أتى مكة دعته عناق إلى نفسها، فقال مرثد: إن الله حرم الزنا، فقالت: فانكحني، فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنكح عناقاً، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليّ شيئاً، فنزل: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا(1/2706)
(6/76)
---
زانٍ أو مشرك}، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأها عليّ وقال: لا تنكحها» أخرجه الترمذي والنسائي وأبو داوود بألفاظ متقاربة المعنى.
فعلى قول هؤلاء كان التحريم خاصاً في حق أولئك دون سائر الناس، وقال قوم منهم سعيد بن جبير والضحاك، ورواية عن ابن عباس: المراد من النكاح هو الجماع، ومعنى الآية: الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة، والزانية لا تزني إلا بزانٍ أو مشرك، وقال يزيد بن هارون: إن جامعها وهو مستحل فهو مشرك وإن جامعها وهو محرم فهو زان، وعن عائشة رضي الله عنها: إن الرجل إذا زنا بامرأة ليس له أن يتزوجها لهذه الآية، وإذا باشرها كان زانياً. وكان ابن مسعود يحرم نكاح الزانية ويقول: إذا تزوج الزاني الزانية فهما زانيان أبداً. وقال الحسن: الزاني المجلود لا ينكح إلا زانية مجلودة، والزانية المجلودة لا ينكحها إلا زان مجلود. وقال سعيد بن المسيب وجماعة منهم الشافعي رحمه الله تعالى: إن حكم الآية منسوخ، وكان نكاح الزانية حراماً بهذه الآية فنسخها الله تعالى بقوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم} (النور، 32)، وهو جمع أيم وهي من لا زوج لها، فدخلت الزانية في أيامى المسلمين واحتج من جوّز نكاح الزانية بما روي عن جابر «أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن امرأتي لا تمنع يد لامس، قال: طلقها، قال فإني أحبها وهي جميلة، قال: استمتع بها، وفي رواية غيره أمسكها إذاً» وقد أجازه ابن عباس وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك فقال: «أوله سفاح وآخره نكاح»، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه ضرب رجلاً وامرأة زنيا، وحرض أن يجمع بينهما فأبى الغلام.
ولما نفر سبحانه وتعالى عن نكاح من اتصف بالزنا من رجل أو امرأة نهى عن الرمي به فقال تعالى:
(6/77)
---(1/2707)
{والذين يرمون} أي: بالزنا {المحصنات} جمع محصنة وهي هنا المسلمة الحرة المكلفة العفيفة وهذا هو الحكم الثالث والذي يدل على أن المراد الرمي بالزنا أمور: أحدها: تقدم ذكر الزنا، ثانيها: أنه تعالى ذكر المحصنات وهن العفائف فدل ذلك على أن المراد بالرمي رميها بضد ذلك، ثالثها: انعقاد الإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنا فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنا، رابعها: قوله تعالى: {ثم لم يأتوا} أي: إلى الحكام {بأربعة شهداء} أي: ذكور ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير شرط إلا في الزنا وشرط القاذف الذي يحد بسبب القذف التكليف والاختيار والتزام الأحكام والعلم بالتحريم وعدم إذن المقذوف، وأن يكون غير أصل، وألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية وتعريض فمن الصريح قوله لرجل أو امرأة زنيت أو زنيت، أو يا زاني أو يا زانية، ولو كسر التاء في خطاب الرجل وفتحها في خطاب المرأة أو زنيت في الجبل، ومن الكناية زنأت وزنأت في الجبل بالهمز، فإن نوى بذلك القذف كان قذفاً وإلا فلا، ومن التعريض يا ابن الحلال، وأما أنا فلست بزانٍ، فهذا ليس بقذف وإن نواه.
(6/79)
---(1/2708)
فإن قيل: إذا كان ذلك القذف يشمل الذكر والأنثى فلم كانت الآية الكريمة في الإناث فقط؟ أجيب: بأن الكلام في حقهن أشنع وتنبيهاً على عظيم حق أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها، وحدّ القاذف الحر ثمانون كما قال تعالى: {فاجلدوهم} أي: أيها المؤمنون من الأئمة ونوابهم {ثمانين جلدة} لكل واحد منهم لكل محصنة وحدّ القاذف الرقيق ولو مبعضاً أو مكاتباً أربعون جلدة على النصف من الحر لآية النساء فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب فهذه الآية مخصوصة بتلك إذ لا فرق بين الذكر والأنثى، ولا بين حدّ الزنا وحدّ القذف، ويدل على أن المراد بالآية الأحرار قوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم} أي: بعد قذفهم {شهادة} أي: شهادة كانت {أبداً} للحكم بافترائهم؛ لأن العبد لا تقبل شهادته، وإن لم يقذف. ولما كان التقدير أنهم قد افتروا عطف عليه تحذيراً من الإقدام عليه من غير تثبت {وأولئك} أي: الذين تقدم ذمهم بالقذف فنزلت رتبتهم جدّاً {هم الفاسقون} أي: المحكوم بفسقهم الثابت لهم هذا الوصف، وإن كان القاذف منهم محقاً في نفس الأمر وفي ذلك دليل على أن القذف من الكبائر؛ لأن اسم الفسق لا يقع إلا على صاحب كبيرة، واختلف العلماء في قبول شهادة القاذف بعد التوبة، وحكم هذا الاستثناء المذكور في قوله:
(6/80)
---(1/2709)
{إلا الذين تابوا} أي: رجعوا عما وقعوا فيه من القذف وغيره، وندموا عليه وعزموا على أن لا يعودوا {من بعد ذلك} أي: الأمر الذي أوجب إبعادهم، فذهب قوم إلى أن القاذف ترد شهادته بنفس القذف، فإذا تاب وصلح حاله كما قال تعالى: {وأصلحوا} أي: بعد التوبة بمضي مدة يظن بها حسن الحال، وهي سنة يعتبر بها حال التائب بالفصول الأربعة التي تكشف الطبائع {فإن الله} أي: الذي له صفات الكمال {غفور} أي: ستور لهم ما أقدموا عليه لرجوعهم عنه {رحيم} أي: يفعل بهم من الإكرام فعل الراحم بالمرحوم في قبول الشهادة، وقبلت شهادته سواء قبل الحدّ وبعده وزال عنه اسم الفسق، وقالوا: هذا الاستثناء يرجع إلى رد الشهادة، وإلى الفسق، ويروى ذلك عن ابن عمرو وابن عباس، وجمع من الصحابة وبه قال مالك والشافعي، وذهب قوم إلى أن شهادة المحدود في القذف لا تقبل أبداً وإن تاب، وقالوا: الاستثناء رجع إلى قوله: {وأولئك هم الفاسقون}، ويروى ذلك عن النخعي وشريح، وبه قال أصحاب الرأي قالوا: بنفس القذف لا تردّ شهادته ما لم يحد؛ قال الشافعي: هو قبل أن يحدّ شر منه حين يحدّ؛ لأن الحدود كفارات، فكيف يرد بها في أحسن حاليه، وذهب الشعبي إلى أن حد القذف يسقط بالتوبة.
فإن قيل: إذا قلتم بالأول فما معنى قوله تعالى: {أبداً}؟ أجيب: بأن معنى أبداً ما دام مصراً على القذف؛ لأن أبد كل إنسان مدته على ما يليق بحاله كما يقال: لا تقبل شهادة الكافر أبداً؛ يراد بذلك ما دام على كفره، فإذا أسلم قبلت شهادته.
(6/81)
---(1/2710)
تنبيهان: الإقرار بالزنا هل يثبت بشهادة رجلين أو أربع كالزنا؟ فيه قولان: أصحهما أنه يثبت برجلين بخلاف فعل الزنا؛ لأن الفعل يغمض الاطلاع عليه، وإذا شهد على فعل الزنا يجب أن يذكر الزاني ومن زنا بها؛ لأنه قد يراه على جارية لأبيه فيظنه زناً يوجب الحد، وأن يقول في شهادته: رأيت ذكره يدخل في فرجها، وإن لم يقل دخول الميل في المكحلة لكن قوله ذلك أولى، فلو شهدوا مطلقاً أنه زنا لم يقبلوا لأنهم ربما يرون المفاخذة زناً، ويشترط أيضاً أن يفسر في إقراره كالشهود ويصح رجوعه عن الإقرار، ولو في أثناء الحدّ كما مرَّ، ولا فرق في قبول الشهادة بين أن يجيء الشهود متفرقين أو مجتمعين كما قاله الشافعي، وقال أبو حنيفة: إذا شهدوا متفرقين لا يثبت وعليهم حدّ القذف، ولو شهد على الزنا أقل من أربعة أو أربعة وفيهم الزوج لم يثبت الزنا وعليهم الحدّ؛ لأن شهادة الزوج لا تقبل في حق زوجته؛ قال ابن الرفعة في الكفاية: لأمرين أحدهما: أن الزنا تعرض لمحل حق الزوج، فإنّ الزاني يستمتع بالمنافع المستحقة له فشهادته في حقها تتضمن إثبات جناية الغير على ما هو مستحق له، فلم تسمع كما إذا شهد أنه جنى على عبده، والثاني: أنّ من شهد بزنا زوجته فنفس شهادته دال على إظهار العداوة؛ لأن زناها يوغر صدره بتلطيخ فراشه وإدخال الغير عليه وعلى ولده، وهو أبلغ من مؤلم الضرب وفاحش السب، ولو قذف رجل وجاء بأربعة فساق شهدوا على المقذوف بالزنا لم يحدّوا؛ لأن شرائط الشهادة بالزنا قد وجدت عند القاضي إلا أنه لم تقبل شهادتهم لأجل التهمة فكما اعتبرنا التهمة في نفي الحدّ عن المشهود عليه، فكذلك أوجبنا اعتبارها في نفي الحدّ عنهم، ولما كان لفظ المحصنات عاماً للزوجات، وكان لهن حكم غير ما تقدم وهو الحكم الرابع أفردهن بقوله:
(6/82)
---(1/2711)
{والذين يرمون} أي: بالزنا {أزواجهم} أي: من المؤمنات والكافرات الحرائر والإماء {ولم يكن لهم شهداء} يشهدون على صحة ما قالوه {إلا أنفسهم} أي: غير أنفسهم وهذا ربما يفهم أنه إذا كان الزوج أحد الأربعة كفى وهذا المفهوم معطل لكونه حكاية حال واقعة لا شهود فيها، وقوله تعالى في الآية قبلها: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} فإنه يقتضي كون الشهداء غير الرامي بالزنا، ولعله استثناه من الشهداء؛ لأن لعانه يكون بلفظ الشهادة، ومذهب الشافعي أنه لا يقبل في ذلك كما قدّمناه {فشهادة أحدهم} أي: فالواجب شهادة أحدهم على من رماها أو فعليهم شهادة أحدهم {أربع شهادات} من خمس في مقابلة أربعة شهداء {بالله} أي: مقرونة بهذا الاسم الكريم الأعظم الموجب لاستحضار جميع صفات الجلال والجمال {إنه لمن الصادقين} أي: فيما قذفها به، وقرأ حفص وحمزة والكسائي برفع العين على أنه خبر شهادة والباقون بنصبها على المصدر {والخامسة أن لعنت الله} أي: الملك الأعظم {عليه} أي: القاذف نفسه {إن كان من الكاذبين} فيما رماها به، وقرأ نافع بتخفيف أن ساكنة ورفع لعنة، والباقون بتشديد النون منصوبة ونصب لعنة ورسمت لعنة بتاء مجرورة، ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، ووقف الباقون بالتاء، وإذا وقف الكسائي أمال الهاء هذا لعان الرجل وحكمه سقوط حدّ القذف عليه وحصول الفرقة بنفسه فرقة فسخ عندنا لقوله صلى الله عليه وسلم «المتلاعنان لا يجتمعان أبداً» وبتفريق الحاكم فرقة طلاق عند أبي حنيفة ونفي الولد إن تعرض له فيه وثبوت حدّ الزنا على المرأة بقوله تعالى: {ويدرأ} أي: يدفع {عنها} أي: المقذوفة {العذاب} أي: المعهود وهو الحدّ الذي أوجبه عليها كما تقدّم {أن تشهد أربع شهادات} من خمس {بالله} الذي له جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا كما تقدم في الزوج {إنه لمن الكاذبين} فيما قاله عليها {والخامسة} من الشهادات {أن غضب الله} الذي له الأمر كله {عليها إن كان(1/2712)
(6/83)
---
من الصادقين} أي: فيما رماها به.
روى البخاري في تفسيره وغيره عن ابن عباس «أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم البينة أو حد في ظهرك فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: البينة أو حد في ظهرك، فقال هلال بن أمية: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد، فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه: {والذين يرمون أزواجهم} حتى بلغ {إن كان من الصادقين}، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما فجاءا، فقام هلال بن أمية، فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: والله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب، ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة أوقفوها وقالوا: إنها موجبة؛ قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين، فهو لشريك بن سمحاء، فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن».
وقد روى البخاري أيضاً عن سهل ابن سعد أنّ سبب نزولها قصة مثل هذه لعويمر رضي الله عنه وقد تقدم أنه لا يمتنع أن يكون للآية الواحدة عدّة أسباب معاً أو متفرقة.
(6/84)
---(1/2713)
تنبيه: خصت المرأة بالغصب لأنه أبلغ من اللعن الذي هو الطرد لأنه قد يكون بسبب غير الغضب، وسبب التغليظ عليها الحث على اعترافها بالحق لما يصدق الزوج من القرينة من أنه لا يتجشم فضيحة أهله المستلزم لفضيحته إلا وهو صادق، ولأنها مادة الفساد وخالطة الأنساب، ويشترط في اللعان أمر القاضي وتلقينه كلماته في الجانبين فيقول: قل أشهد بالله إلخ؛ لأنّ اللعان يمين واليمين لا يعتد بها قبل استحلاف القاضي، وإن غلب فيه معنى الشهادة، فهي لا تؤدى عنده إلا بإذنه وأن يتأخر لعانها عن لعانه لأن لعانها لإسقاط الحدّ الذي وجب عليها بلعان الزوج كما علم مما مرّ، ويلاعن أخرس بإشارة مفهمة أو كتابة ويكرر كلمة الشهادة أربعاً أو يكتبها مرّة ويشير إليها أربعاً، ويصح اللعان بالعجمية، وإن عرف العربية ويشترط الولاء بين الكلمات الخمس فيؤثر الفصل الطويل ولا يشترط الولاء بين لعاني الزوجين،و لو أبدل لفظ شهادة بحلف ونحوه أو لفظ غضب بلعن أو عكسه أو ذكره قبل تمام الشهادة لم يصح ذلك ويصح أن يتلاعنا قائمين وإن يغلظ اللعان بزمان وهو بعد عصر الجمعة فيؤخر إليه إن لم يكن طلب أكيد وإلا فبعد عصر أي يوم كان وبمكان عند أشرف بلد اللعان فبمكة بين الحجر الأسود والمقام، وهو المسمى بالحطيم، والمدينة على المنبر، وبيت المقدس عند الصخرة، وغيرها على منبر الجامع، وتلاعن حائض بباب المسجد وذمي في بيعة للنصارى، وكنيسة لليهود وبيت نار لمجوس؛ لأنهم يعظمونها لا بيت أصنام وثني؛ لأنه لا حرمة له.
(6/85)
---(1/2714)
وقرأ حفص: والخامسة الأخيرة بالنصب، والباقون بالرفع. وقرأ نافع بتخفيف النون ساكنة وكسر الضاد ورفع الهاء من الاسم الجليل والباقون بتشديد النون منصوبة ونصب الضاد وخفض الهاء. ولما حرّم سبحانه وتعالى بهذه الجمل الأعراض والأنساب فصان بذلك الدين والأموال، علم أن التقدير فلولا أنه سبحانه خير الغافرين وخير الراحمين لما فعل بكم ذلك ولا فضح المذنبين وأظهر سرائر المستخفين، ففسد النظام فعطف على هذا الذي علم تقديره قوله تعالى:
{ولولا فضل الله} أي: بما له من الكرم والاتصاف بصفات الكمال {عليكم ورحمته} أي: بكم بالستر في ذلك {وإن الله} أي: الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً {تواب} بقبوله التوبة في ذلك وغير ذلك {حكيم} يحكم الأمور فيمنعها من الفساد بما يعلم من عواقب الأمور لفضح كل عاصٍ، ولم يوجب أربعة شهداء ستراً لكم، الحكم الخامس: قصة الإفك المذكورة في قوله تعالى:
{إن الذين جاؤوا بالإفك} أي: أسوأ الكذب سمي إفكاً لكونه مصروفاً عن الحق من قولهم: أفك الشيء إذا صرفه عن جهته، وذلك أن عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبويها كانت تستحق الثناء لما كانت عليه من الحصانة والشرف والعفة والكرم، فمن رماها بسوء فقد قلب الأمر عن أحسن وجوهه إلى أقبح أفضائه.
(6/86)
---(1/2715)
فإن قيل: لم ترك تسميتها؟ أجيب: بأنه تركه تنزيهاً لها عن هذا القال وإبعاداً لصون جانبها العلي عن هذا المراد، وقوله تعالى: {عصبة} خبر إنّ أي: جماعة أقلهم عشرة وأكثرهم أربعون وكذا العصابة وقوله تعالى: {منكم} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعائشة وصفوان ومن يعد عندكم في عداد المسلمين يريد عبد الله بن أبيّ وزيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم، وقوله تعالى: {لا تحسبوه شرّاً لكم} مستأنف أي: لا تنشأ عنه فتنة ولا يصدقه أحد {بل هو خير لكم} لاكتسابكم به الثواب العظيم؛ لأنه كان بلاءً مبيناً ومحنة ظاهرة، وظهور كرامتكم على الله تعالى بإنزال ثمان عشرة آية في براءتكم وتعظيم شأنكم وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم، والثناء على من ظن بكم خيراً كل واحدة منها مستقلة بما هو تعظيم لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له، وتبرئة لأم المؤمنين رضوان الله تعالى عليها وتطهير لأهل البيت وتهويل لمن تكلم في ذلك أو سمع به، فلم تمجه أذناه، وعدة ألطاف للسامعين والتالين إلى يوم القيامة، وفوائد دينية وأحكام وآداب لا تخفى على متأمّلها، ولما كان لا شفاء لغيظ الإنسان أعظم من انتصار الملك الديان له علل ذلك بقوله تعالى: {لكل امرىء منهم} أي: الآفكين {ما اكتسب} أي: بخوضه فيه {من الإثم} الموجب لشقائه {والذي تولى كبره} أي: معظمه {منهم} أي: من الخائضين وهو ابن أبيّ فإنه بدأ به وأذاعه عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو هو وحسان ومسطح فإنهما تابعاه بالتصريح به والذي بمعنى الذين على هذا {له عذاب عظيم} في الآخرة أو في الدنيا بأن جلدوا وصار ابن أبيّ مطروداً مشهوراً بالنفاق وحسان أعمى أشل اليدين ومسطح مكفوف البصر.
(6/87)
---(1/2716)
تنبيه: قصة الإفك معروفة في الصحيح والسنن وغيرهما شهيرة جداً ولكن نذكر منها طرفاً تبركاً بذكر النبي صلى الله عليه وسلم وبذكر السيدة عائشة وأبويها رضي الله تعالى عنهم، فنقول: «عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه؛ قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أنزل الحجاب فكنت أحمل في هودج وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين فأذن ليلة بالرحيل فقمت حين أذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري وإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه قالت: وأقبل الرهط الذين يرحلون بي فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يهبلن ولم يغشهم اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعدما سار الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داعٍ ولا مجيب، فيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إليَّ فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن معطل السهمي ثم الذكواني رضي الله تعالى عنه قد عرس من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم، فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حتى عرفني فخمرت وجهي بجلبابي ووالله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته فوطىء على يدها فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول فهلك من هلك،(1/2717)
(6/88)
---
وكان الذي تولى كبر الإفك منهم عبد الله بن أبيّ بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهراً والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم، ثم ينصرف فذلك الذي يريبني فيه ولا أشعر بالشر حتى نقهت فخرجت أنا وأمّ مسطح قبل المناصع، وكان متبرزناً وكنا لا نخرج إلا ليلاً وذلك
(6/89)
---(1/2718)
قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأولى في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فأقبلت أنا وأم مسطح حين فرغنا من شأننا نمشي فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلاً شهداً بدراً، فقالت: يا هنتاه أولم تسمعي ما قال؟ قالت: وما قال فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضاً على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: كيف تيكم، فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبويّ، قالت: وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما؛ قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت أبويّ فقلت لأمي: يا أماه ماذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك فوالله ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا أكثرن عليها؛ قالت: فقلت سبحان الله، ولقد تحدث الناس بهذا، قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي؛ قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار على النبي صلى الله عليه وسلم بما يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الودِّ، فقال أسامة: هم أهلك يا رسول الله ولا نعلم والله إلا خيراً، وأما عليّ فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وسل الجارية تصدقك قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمراً قط أغمصه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبيّ بن سلول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلا(1/2719)
(6/90)
---
خيراً وقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، ولم يدخل على أهلي إلا معي؛ قالت: فقام سعد أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج؛ قالت: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن حملته الحمية فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ولو كان من رهطك ما أحببت أن تقتله، فقام أسيد بن حضير
(6/91)
---(1/2720)
ابن عم سعد، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه كأنك منافق تجادل عن المنافقين قالت: فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت؛ قالت: فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم قالت: وأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوماً لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع حتى أني لأظن أن البكاء فالق كبدي فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي قالت: فبينما نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس؛ قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، و قد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء؛ قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه؛ قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى لا أحس منه بقطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله فيما قال، فقال: إني والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، فقالت أمي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيراً: والله لقد علمت ما سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقوني فوالله لا أجد لي ولا لكم مثلاً إلا ما قال العبد الصالح أبو يوسف ولم أذكر اسمه حين قال: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، ثم تحولت واضطجعت على فراشي والله يعلم حينئذٍ أني بريئة، والله مبرئي ببراءتي؛ ولكن والله ما كنت أظن أن(1/2721)
(6/92)
---
الله ينزل في شأني وحياً يتلى لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى في بأمر، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل الله تعالى على نبيه فأخذه ما كان يأخذه عند الوحي من البرحاء حتى أنه لا ينحدر منه العرق مثل الجمان في اليوم الشاتي من ثقل الذي أنزل عليه فسجي بثوب، فوالله ما سرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت أن نفس أبوي ستخرجان فرقاً من أن يأتي الله بتحقيق ما قال الناس، فلما سرى عنه وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة قد برأك الله فكنت أشد ما كنت غضباً، فقال لي أبواي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي؛ لقد سمعتموه فما أنكرتموه، ولا غيرتموه، وأنزل الله تعالى: {إن الذين جاؤوا} العشر آيات كلها، فقال أبو بكر: والله لا أنفق على مسطح بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: {ولا يأتل أولو الفضل منكم} إلى قوله: {غفور رحيم}، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع النفقة إلى مسطح التي كان ينفقها عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً؛ قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت حجش عن أمري فقال لزينب: ما علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت إلا خيراً؛ قالت عائشة: وهي التي تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع؛ قالت عائشة: «والله إنّ الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول سبحان الله، فوالذي نفسي بيده ما كشفت كنف أنثى قط، قالت: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله تعالى»؛ قالت: ولما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتلا القرآن وضرب عبد الله بن أبيّ مسطحاً(1/2722)
وحسان وحمنة
(6/93)
---
الحدّ. قال عروة: وكانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول: إنه الذي قال:
*
فإنّ أبي ووالده وعرضي
** لعرض محمد منكم وقاء
وقال الحافظ بن عمر بن عبد البر في الاستيعاب وأنكر قوم أن يكون حسان خاض في الإفك وجلد فيه، وروي عن عائشة أنها برأته من ذلك، انتهى. وقال غيره: والله لا أظن به ذلك أصلاً وإن جاءت تسميته في الصحيح فقد يخطىء الثقة لأسباب لا تحصى كما يعرف ذلك من مارس نقل الأخبار وكيف يظن به ذلك ولا شغل له إلا مدح النبي صلى الله عليه وسلم والمدافعة عنه والذم لأعدائه، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل معه وهو القائل يمدح عائشة ويكذب من نقل عنه ذلك:
*حصان رزان ما تزن بريبة
** وتصبح غرثي من لحوم الغوافل
*حليلة خير الناس ديناً ومنصباً
** نبي الهدى والمكرمات الفواضل
*عقيلة حي من لؤي بن غالب
** كرام المساعي مجدها غير زائل
*مهذبة قد طيب الله خيمها
** وطهرها من كل شين وباطل
*وإن كانت ما بلغت عني قلته
** فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
*فكيف وودي ما حييت ونصرتي
** لآل رسول الله زين المحافل
*له رتبة عال على الناس فضلها
** تقاصر عنها سورة المتطاول
(6/94)
---(1/2723)
وفي هذا القدر كفاية لأولي الألباب، فإن هذه القصة عبرة لمن اعتبر فإن أهل الإفك استمروا في هذا أكثر من شهر والله تعالى عالم بما يقولون، وإن قولهم يكاد يقطع الأكباد في أحب خلقه إليه وهو قادر على تكذيبهم عند أول ما خاضوا فيه ولكنه سبحانه أراد لناس رفع الدرجات ولآخرين الهلكات ولا بأس ببيان غريب هذه الألفاظ التي وقعت في هذه القصة من كلام عائشة وغيرها قولها: إذن أي: أعلم بالرحيل، وقولها فقدت عقداً لي من جزع أظفار: هو نوع من الخرز وهو الحجر اليماني المعروف، وقولها: لم يهبلن أي: لم يكثر لحمهنّ من السمن فيثقلن، وقولها إنما يأكلن العلقة من الطعام وهو بضم العين أي: البلغة من الطعام وهي قدر ما يمسك الرمق وقولها: ليس بها منهم داعٍ ولا مجيب أي: ليس بها أحد لا من يدعو ولا من يرد جواباً، وقولها: فيممت أي: قصدت، وقولها: قد عرس من وراء الجيش، فأدلج التعريس نزول المسافر بالليل للراحة والإدلاج بالتشديد سيراً آخر الليل وبالتخفيف سير الليل كله، وقولها: باسترجاعه هو قول القائل: إنا لله وإنا إليه راجعون. قولها: خمرت أي: غطيت وجهي بجلبابي أي: إزاري، وقولها: موغرين في نحو الظهيرة الوغر: شدّة الحر وكذلك نحر الظهيرة أي: أولها، وقولها: والناس يفيضون أي: يخوضون ويتحدثون، وقولها: وهو يريبني يقال: رابني الشيء يريبني أي: تشككت فيه، وقولها: ولا أرى من النبي اللطف أي: الرفق بها، واللطف في الأفعال الرفق، وفي الأقوال لين الكلام، وقولها: حين نقهت أي: أفقت من المرض والمناصع المواضع الخالية تقضى فيها الحاجة من غائط وبول، و أصله المكان الواسع الخالي والمرط كساء من صوف أو خز، قولها فقالت: تعس مسطح أي: خسر، وقولها: يا هنتاه أي: يا بلهاء كأنها نسبتها إلى البله وقلة المعرفة، وقولها: لا يرقأ أي: لا ينقطع، وقول بريرة: إن رأيت بمعنى النفي أي: ما رأيت منها أمراً أغمصه عليها بالصاد المهملة أي: أعيبه، والداجن الشاة التي(1/2724)
(6/95)
---
تألف البيت وتقيم به، وقوله صلى الله عليه وسلم من يعذرني أي: إن أنا أكافئه على سوء صنيعه إن عاتبت أو عاقبت، فلا تلوموني على ذلك، وقولها: ولكن حملته الحمية أي: حمله الغضب والأنفة والتعصب على الجهل للقرابة، وقولها: فتثاور الحيان أي: ثاروا ونهضوا للقتال والمخاصمة، وقولها: فلم يزل يخفضهم أي: يهوّن عليهم ويسكت، وقوله صلى الله عليه وسلم إن كنت ألممت قيل: هو من اللمم وهو صغار الذنوب، قيل: معناه مقارفة الذنب من غير فعل، وقولها: قلص دمعي أي: انقطع جريانه، قوله: ما رام أي: ما برح من مكانه والبرحاء الشدّة، والجمانة الدرة وجمعه جمان، وقولها: فسرّي عنه أي: كشف عنه، وقول زينب: أحمي سمعي وبصري أي: أمنعهما عن أن أخبر بما لم أسمع ولم أبصر وقولها: وهي التي كانت تساميني من السموّ وهو العلوّ والغلبة، فعصمها الله تعالى أي: منعها الله من الوقوع في الشر بالورع، وقول الرجل: ما كشفت كنف أنثى أي: ستر أنثى، وقول حسان في عائشة: حصان بفتح الحاء امرأة حصان أي: متعففة رزان أي: ثابتة ما تزن أي: ترمي ولا تتهم بريبة أي: أمر يريب الناس وتصبح غرثى أي: خائفة الموت، والغرث: الجوع من لحوم الغوافل جمع غافلة والمعنى أنها لا تغتاب أحداً ممن هو غافل، وقرأ لا تحسبوه وتحسبونه ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها، ولما أخبر سبحانه وتعالى بعقاب أهل الإفك، وكان في المؤمنين من سمعه وسكت، وفيهم من سمعه فتحدّث به متعجباً من قائله أو متثبتاً في أمره وفيهم من أكذبه أتبعه سبحانه وتعالى بعتابهم في أسلوب خطابهم مثنياً على من كذبه، فقال سبحانه وتعالى مستأنفاً محرضاً:
(6/96)
---(1/2725)
{لولا} أي: هلا ولم لا {إذ} أي: حين {سمعتموه} أيها المدعون للإيمان {ظن المؤمنون} أي: منكم {والمؤمنات} وكان الأصل ظننتم أي: أيها العصبة ولكنه التفت إلى الغيبة تنبيهاً على التوبيخ، وصرح بالنساء ونبه على الوصف المقتضي لحسن الظن تخويفاً للذي ظن السوء من سوء الخاتمة {بأنفسهم} حقيقة {خيراً} وهم دون من كذب عليها فقطعوا ببراءتها لأن الإنسان لا يظن في الناس إلا ما هو متصف به أو بإخوانهم لأن المؤمنين كالجسد الواحد وذلك نحو ما يروى أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: ألا ترين ما يقال؟ فقالت: لو كنت بدل صفوان كنت تظن بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءاً قال: لا، قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعائشة خير مني وصفوان خير منك {وقالوا هذا إفك مبين} أي: كذب بيّن.
(6/97)
---
فإن قيل: هلا قيل لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيراً وقلتم ولم عدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر؟ أجيب: بأن ذلك مبالغة في التوبيخ على طريقة الالتفات وليصرح بلفظ الإيمان دالاً على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن، وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه أن يبني الأمر فيها على الظن لا على الشك، وأن يقول بملء فيه بناءً على ظنه بالمؤمن الخير هذا إفك مبين هكذا اللفظ المصرح ببراءة ساحته لا يقول كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال، وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما يسمعه بإخوانه، ثم علل سبحانه وتعالى كذب الآفكين أن قال موبخاً لمن اختلقه وأذاعه ملفتاً لمريديه إلى ظن الخير:(1/2726)
{لولا} أي: هلا ولم لا {جاؤوا عليه بأربعة شهداء} كما تقدم أن القذف لا يباح إلا بها {فإذ} أي: حين {لم يأتوا بالشهداء} أي: الموصوفين {فأولئك} أي: البعداء من الصواب {عند الله هم الكاذبون} قد جعل الله التفضل بين الرمي الصادق والرمي الكاذب بثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفائها، والذين رموا عائشة لم تكن لهم بينة على قولهم، فقامت عليهم الحجة، وكانوا عند الله أي: في حكمه وشريعته كاذبين، وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدوا في دفعه وإنكاره واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة في التنكيل به إذا قذف امرأة محصنة من عرض نساء المسلمين فكيف بأم المؤمنين الصديقة بنت الصديق حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حبيبة حبيب رب العالمين. ولما بيّن الله سبحانه وتعالى الدليل على كذب الخائضين في هذا الكلام وأنهم استحقوا الملام قال عاطفاً على لولا الماضية التي للتحضيض:
(6/98)
---
{ولولا} التي هي لامتناع الشيء لوجود غيره {فضل الله} أي: المحيط بصفات الكمال {عليكم ورحمته} أي: معاملته لكم بمزيد الإنعام والإكرام اللازم للرحمة {في الدنيا} بقبول التوبة والمعاملة بالحلم {والآخرة} بالعفو عمن يريد أن يعفو عنه منكم {لمسكم} أي: عاجلكم {في ما أفضتم} أي: أيها العصبة أي: خضتم {فيه} من حديث الإفك {عذاب عظيم} أي: يحتقر معه اللوم والجلد.
فائدة: في مقطوعة في الرسم من ما كما ترى، ثم بين تعالى وقت حلول العذاب وزمان تعجيله بقوله تعالى:(1/2727)
{إذ} أي: مسكم حين {تلقونه} أي: تجتهدون في تلقي أي: قبول هذا الكلام الفاحش وإلقائه {بألسنتكم} أي: يرويه بعضكم عن بعض وذلك أن الرجل منهم كان يلقى الرجل فيقول: بلغني كذا وكذا يتلقونه تلقياً يلقيه بعضهم إلى بعض، وحذفت من الفعل إحدى التاءين {وتقولون بأفواهكم} أي: كلاماً مختصاً بالأفواه فهو كلام لا حقيقة له فلا يمكن ارتسامه في القلب بنوع دليل وأكد هذا المعنى بقوله تعالى: {ما ليس لكم به علم} أي: بوجه من الوجوه وتنكيره للتحقير.
فإن قيل: القول لا يكون إلا بالفم، فما معنى قوله تعالى: {بأفواهكم}؟ أجيب: بأن معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب فيترجم عنه اللسان وهذا الإفك ليس إلا قولاً يجري على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم به في القلب كقوله تعالى: {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} (آل عمران، 167)
{وتحسبونه} بدليل سكوتكم عن إنكاره {هيناً} أي: لا إثم فيه {وهو} أي: والحال أنه {عند الله} أي: الذي لا يبلغ أحد مقدار عظمته {عظيم} في الوزر واستجرار العذاب فهذه ثلاثة آثام مرتبة علق بها مس العذاب العظيم تلقي الإفك بألسنتهم والتحدث به من غير تحقق واستصغارهم لذلك، وهو عند الله تعالى عظيم:
(6/99)
---
{ولولا} أي: وهلا ولم لا {إذ} أي: حين {سمعتموه قلتم} من غير توقف ولا تلعثم {ما يكون} أي: ما ينبغي وما يصح {لنا أن نتكلم بهذا} أي: القول المخصوص ويجوز أن تكون الإشارة إلى نوعه فإن قذف آحاد الناس محرم، فكيف بمن اختارها العليم الحكيم لصحبة أكمل الخلق.
فإن قيل: كيف جاز الفصل بين لولا وقلتم؟ أجيب: بأن الظروف تنزل من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيها وأنها لا انفكاك لها عنه فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها.
فإن قيل: أيّ فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلاً؟ أجيب: بأن الفائدة فيه بيان أنه كان الواجب عليهم أن يذبوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم.(1/2728)
فإن قيل: ما معنى يكون والكلام بدونه ملتئم لو قيل ما لنا أن نتكلم بهذا؟ أجيب: بأن معناه ينبغي ويصح أي: ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا وما يصح لنا كما تقدم تقريره، ونحوه ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، وقوله تعالى: {سبحانك} تعجب من أن يخطر ذلك بالبال في حال من الأحوال.
فإن قيل: ما معنى التعجب في كلمة التسبيح؟ أجيب: بأن الأصل في ذلك أن يسبح الله تعالى عند رؤية التعجب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب، وقيل: تنزيه، فهو منزه عن أن يرضى بظلم هؤلاء القذفة، وعن أن لا يعاقبهم وعن أن تكون حرمة نبيه صلى الله عليه وسلم فاجرة، قال البيضاوي: فإن فجورها ينفر عنه ويخل بمقصود الزواج بخلاف كفرها فإنه لا ينفر أي: ولهذا كانت امرأة نوح ولوط كافرتين، وهذا يقتضي حل نكاح الكتابية مع أنها لا تحل له صلى الله عليه وسلم لأنها تكره صحبته؛ ولأنه أشرف من أن يضع ماءه في رحم كافرة بنكاح ولقوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} (الأحزاب، 6)
ولا يجوز أن تكون الكافرة أم المؤمنين، ولخبر «سألت ربي أن لا أزوج إلا من كانت معي في الجنة فأعطاني» رواه الحاكم وصحح إسناده.
(6/100)
---
أما التسري بالكافرة فلا يحرم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تسرى بريحانة وكانت يهودية من بني قريظة ولا يشكل تعليلهم السابق من أنه أشرف أن يضع ماءه في رحم كافرة؛ لأن القصد بالنكاح أصالة التوالد فاحتيط له، وبأنه يلزم منه أن تكون الزوجة المشركة أم المؤمنين بخلاف الملك فيهما {هذا بهتان} أي: كذب يبهت من يواجه به ويحيره لشدّة ما يفعل في القوى الباطنة؛ لأنه في غاية الغفلة عنه لكونه أبعد الناس منه، ثم هونه بقوله {عظيم} لعظمة المبهوت عليه، فإن حقارة الذنوب وعظمها باعتبار متعلقاتها، ولما كان هذا كله وعظاً لهم واستصلاحاً ترجمه بقوله:(1/2729)
{يعظكم الله} أي: يرقق قلوبكم الذي له الكمال كله، فيمهل بحلمه ولا يهمل بحكمته {أن} أي: كراهة أن {تعودوا لمثله أبداً} أي: ما دمتم أحياء مكلفين، ثم عظم هذا الوعظ بقوله تعالى: {إن كنتم مؤمنين} أي: متصفين بالإيمان راسخين فيه، فإنكم لا تعودون، فإن الإيمان يمنع عنه، وهذا تهييج وتقريع لا أنه يخرج عن الإيمان كما تقول المعتزلة.
فإن قيل: هل يجوز أن يسمى الله واعظاً كقوله تعالى: {يعظكم الله}؟ أجيب: بأنه لا يجوز كما قاله الرازي، قال: كما لا يجوز أن يسمى الله معلماً كقوله تعالى: {الرحمن علم القرآن} (الرحمن، 1)
؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية.
{ويبين الله} أي: بما له من صفات الكمال والإكرام {لكم الآيات} أي: الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب كي تتعظوا وتتأدبوا {والله} أي: المحيط بجميع الكمال {عليم} أي: بما يأمر به وينهى عنه {حكيم} لا يضع شيئاً إلا في أحكم مواضعه وإن دق عليكم فهم ذلك فلا تتوقفوا في أمر من أوامره، ولماكان من أعظم الوعظ بيان ما يستحق على الذنب من العقاب بينه بقوله تعالى:
(6/101)
---(1/2730)
{إن الذين يحبون} أي: يريدون وعبر بالحب إشارة إلى أنه لا يرتكب هذا مع شناعته إلا محب له، ولا يحبه إلا بعيد عن الاستقامة {أن تشيع} أي: تنتشر بالقول أو الفعل {الفاحشة} الفعلة الكبيرة القبح {في الذين آمنوا} أي: بنسبتها إليهم وهم العصبة، وقيل: المنافقون {لهم عذاب أليم في الدنيا} أي: بالحدّ للقذف {والآخرة} أي: بالنار لحق الله تعالى إن لم يتب {والله} أي: المستجمع لصفات الجلال والجمال {يعلم} أي: له العلم التام فهو يعلم مقادير الأشياء ما ظهر منها وما بطن وما الحكمة في إظهاره أو ستره أو غير ذلك من جميع الأمور {وأنتم لا تعلمون} أي: ليس لكم علم من أنفسكم فاعملوا بما علمكم فلا تتجاوزوه ولا تضلوا، وقيل: معناه يعلم ما في قلب من يحب أن تشيع الفاحشة فيجازيه عليها وأنتم لا تعلمون ذلك، وقيل: والله يعلم انتفاء الفاحشة عنهم وأنتم أيها العصبة لا تعلمون وجودها فيهم، وقوله تعالى:
{ولولا فضل الله عليكم ورحمته} أي: بكم تكرير للمنة بترك المعاجلة بالعقاب للدلالة على عظم الجريمة، ولذا عطف عليه {وأن الله} أي: الذي له القدرة التامة، فسبقت رحمته غضبه {رؤوف رحيم} على حصول فضله ورحمته، وجواب لولا محذوف كأنه قال: لعذبكم واستأصلكم لكنه رؤوف رحيم؛ قال ابن عباس: الخطاب لحسان ومسطح وحمنة قال الرازي: ويجوز أن يكون الخطاب عاماً، وقيل: الجواب في قوله تعالى: {ما زكى منكم من أحد}، وقرأ: رؤوف؛ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص بمدّ الهمزة والباقون بقصرها.
(6/103)
---(1/2731)
{يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات} أي: طرق {الشيطان} بتزيينه أي: لا تسلكوا مسالكه في إشاعة الفاحشة ولا في غيرها {ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه} أي: المتبع {يأمر بالفحشاء} أي: بالقبائح من الأفعال {والمنكر} أي: ما أنكره الشرع وهو كل ما يكرهه الله تعالى، وقرأ قنبل وابن عامر وحفص والكسائي بضم الطاء والباقون بالسكون {ولولا فضل الله} أي: الذي لا إله غيره {عليكم ورحمته} أي: بكم بتوفيق التوبة الماحية للذنوب وتشريع الحدود المكفرة لها {ما زكى} أي: ما طهر من ذنبها {منكم من أحد أبداً} آخر الدهر، والآية عند بعض المفسرين على العموم قالوا: أخبر الله أنه لولا فضل الله ورحمته ما صلح منكم من أحد، وقال ابن عباس: الخطاب للذين خاضوا في الإفك ومعناه ما طهر من هذا الذنب ولا صلح أمره بعد الذي فعل بالتوبة منه {ولكن الله} أي: العليم بأحوال خلقه {يزكي} أي: يطهر {من يشاء} من الذنوب بقبول التوبة منها {والله سميع} أي: لأقوالهم {عليم} أي: بما في قلوبهم.
{ولا يأتل} أي: يحلف افتعال من الآلية وهو القسم {أولو الفضل} أي: أصحاب الغنى {منكم والسعة أن} أي: أن لا {يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا} عنهم في ذلك {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} أي: على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم، قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه حيث حلف أن لا ينفق على مسطح وهو ابن خالة أبي بكر رضي الله تعالى عنه وكان يتيماً في حجره، وكان ينفق عليه فلما فرط منه ما فرط قال لهم أبو بكر: قوموا لستم مني ولست منكم وكفى بذلك داعياً في المنع، فإن الإنسان إذا أحسن إلى قريبه وكافأه بالإساءة كان أشد عليه مما إذا صدرت الإساءة من أجنبي؛ قال الشاعر:
*وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
** على المرء من وضع الحسام المهند
(6/104)
---(1/2732)
فقال له مسطح: نشدتك الله والإسلام والقرابة لا تحوجنا إلى أحد فما كان لنا أول الأمر من ذنب فقال: ألم تتكلم؟ فقال: قد كان بعض ذلك عجباً من قول حسان فلم يقبل عذره، وقال: انطلقوا أيها القوم فإن الله لم يجعل لكم عذراً ولا فرجاً، فخرجوا لا يدرون أين يذهبون وأين يتوجهون من الأرض، وناس من الصحابة أقسموا أن لا يتصدّقوا على من تكلم بشيء من الإفك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وقرأ عليه الآية، فلما وصل إلى قوله: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} {والله غفور رحيم} أي: مع كمال قدرته فتخلقوا بأخلاقه قال: بلى يا رب إني أحب أن تغفر لي، فذهب أبو بكر إلى بيته وأرسل إلى مسطح وأصحابه، وقال: قبلت ما أنزل الله تعالى على الرأس والعين وإنما فعلت بكم ما فعلت إذ سخط الله عليكم أما إذ عفا عنكم فمرحبا بكم، وجعل له مثلي ما كان له، وقال: والله لا أنزعها أبداً، وذلك من أعظم أنواع المجاهدات، ولا شك أن هذا أعظم من مقاتلة الكفار؛ لأن هذا مجاهدة مع النفس وذلك مجاهدة مع الكفار ومجاهدة النفس أشدّ من مجاهدة الكفار، ولهذا روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».
{إن الذين يرمون المحصنات} أي: العفائف {الغافلات} أي: عن الفواحش وهنَّ السليمات الصدور النقيات القلوب بأن لا يقع في قلوبهن فعلها اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يجربن الأمور ولم يرزن الأحوال فلا يفطن لما تفطن له المجربات العرافات؛ قال في ذلك القائل متغزلاً:
*ولقد لهوت بطفلة ميالة
** بلهاءتطلعني على أسرارها
(6/105)
---(1/2733)
وكذلك البله من الرجال في قوله صلى الله عليه وسلم «أكثر أهل الجنة البله»، وقيل: البله هم الراضون بنعيم الجنة والفطناء لم يرضوا إلا بالنظر إلى وجهه الكريم {المؤمنات} بالله ورسوله {لعنوا في الدنيا والآخرة} أي: عذبوا في الدنيا بالحد، وفي الآخرة بالنار {ولهم عذاب عظيم} لعظم ذنوبهم؛ قال مقاتل: هذا خاص في عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق، وروي أنه قيل لسعيد بن جبير: من قذف مؤمنة يلعنه الله في الدنيا والآخرة، فقال: ذلك لعائشة رضي الله عنها خاصة. قال الزمخشري: ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم ترَ أنَّ الله عز وجل قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه ما أنزل فيه على طرق مختلفة أو أساليب مفتنة كل واحد منها كاف في بابه ولو لم تنزل إلا هذه الثلاث آيات لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعاً وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم كما قال تعالى:
{يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} أي: من قول وفعل، وهو يوم القيامة بما أفكوا وبهتوا فإنه تعالى يوفيهم جزاءهم الحق كما قال تعالى:
(6/106)
---(1/2734)
{يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق} أي: جزاءهم الواجب الذين هم أهله {ويعلمون} عند ذلك {أن الله هو الحق المبين} حيث حقق لهم جزاء الذي كانوا يشكون فيه فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين وعبدة الأوثان إلا ما هو دونه في الفظاعة وما ذاك إلا لأمر عظيم، وعن ابن عباس أنه كان بالبصرة يوم عرفة، وكان يسأل عن تفسير القرآن حتى سئل عن هذه الآيات فقال: من أذنب ذنباً ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة، وهذا منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك ولقد برّأ الله تعالى أربعة بأربعة برّأ يوسف عليه السلام بلسان الشاهد فقال تعالى: {وشهد شاهد من أهلها} (يوسف، 26)
الآية، وبرّأ موسى عليه الصلاة والسلام من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرّأ مريم بإنطاق ولدها عليه الصلاة والسلام حين نادى من تحتها {إني عبد الله} (مريم، 30)
الآية، وبرّأ عائشة رضي الله تعالى عنها بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات فانظر كيف بينها وبين تبرئة أولئك وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتنبيه على أنافة محل سيد ولد آدم وخيرة الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين، ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه وتقدم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق فليتلق ذلك من آيات الإفك وليتأمل كيف غضب الله تعالى له في حرمته، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه، وقال قوم: ليس لمن قذف عائشة وبقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توبة؛ لأن الله تعالى لم يذكر في قذفهن توبة، وما ذكر من أول السورة فذاك في قذف غيرهن.
فإن قيل: إن كانت عائشة هي المرادة، فكيف قيل المحصنات؟ أجيب: بأنها لما كانت أم المؤمنين جمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بالإحصان والغفلة والإيمان ولذا قيل: إن هذا حكم كل قاذف ما لم يتب.
(6/107)
---(1/2735)
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: {هو الحق المبين}؟ أجيب: بأن معناه ذو الحق المبين أي: العادل الظاهر العدل الذي لا ظلم في حكمه والمحق الذي لا يوصف بباطل ومن هذه صفته كان له أن يجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته فحق مثله أن يتقى ويجتنب محارمه، وقرأ: يشهد؛ حمزة والكسائي بالياء التحتية والباقون بالفوقية، ويوم ناصبه الاستقرار الذي تعلق به لهم، وقرأ أبو عمرو: يوفيهم الله، بكسر الهاء والميم، وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم، والباقون بكسر الهاء وضم الميم هذا كله في الوصل، وأما الوقف فالجميع بكسر الهاء وسكون الميم.
(6/108)
---(1/2736)
{الخبيثات} أي: من النساء والكلمات {للخبيثين} من الناس {والخبيثون} أي: من الناس {للخبيثات} أي: مما ذكر {والطيبات} أي: مما ذكر {للطيبين} أي: من الناس {والطيبون} أي: منهم {للطيبات} أي: مما ذكر فاللائق بالخبيث مثله وبالطيب مثله {أولئك} أي: الطيبون والطيبات من النساء، ومنهم صفوان وعائشة {مبرؤون مما يقولون} أي: الخبيثون والخبيثات من النساء، وقيل: عائشة وصفوان ذكرهما بلفظ الجمع كقوله تعالى: {فإن كان له أخوة} أي: إخوان {لهم} أي: الطيبين والطيبات من النساء على الأول، ولصفوان وعائشة على الثاني {مغفرة} أي: عفو عن الذنوب {ورزق كريم} هو الجنة، وروي أنَّ عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تفتخر بأشياء أعطيتها لم تعطها امرأة غيرها منها أن جبريل عليه السلام أتى بصورتها في سرقة من حرير وقال للنبي صلى الله عليه وسلم هذه زوجتك، وروي أنه أتى بصورتها في راحته، ومنها أنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً غيرها، ومنها أنه قبض صلى الله عليه وسلم ورأسه الشريف في حجرها، ومنها أنه دفن في بيتها، ومنها أنه كان ينزل عليه الوحي وهو معها في لحاف، ومنها أن براءتها نزلت من السماء، ومنها أنها ابنة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقه، وخلقت طيبة، ووعدت بمغفرة ورزق كريم، وكان مسروق رحمه الله تعالى إذا روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبرّأة من السماء.
الحكم السادس: ما ذكره بقوله تعالى:
(6/109)
---(1/2737)
{يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم} أي: التي تسكنونها، فإن المؤجر والمعير لا يدخلان إلا بإذن، وقرأ ورش وأبو عمر وحفص بضم الباء الموحدة، والباقون بكسرها، وفي قوله تعالى: {حتى تستأنسوا} وجهان: أحدهما: أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو خلاف الاستيحاش؛ لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له فقد استأنس، والمعنى حتى يؤذن لكم كقوله تعالى: {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} (الأحزاب، 53)، وهذا من باب الكناية والإرداف؛ لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن، فوضع موضع الإذن، والثاني: أن يكون من الاستئناس بمعنى الاستعلام والاستكشاف استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً، والمعنى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا، ومنه قولهم: استأنس هل ترى أحداً، واستأنست فلم أرَ أحداً أي: تعرفت واستعلمت، وقال الخليل بن أحمد: الاستئناس: الاستبصار، من قولهم: آنست ناراً؛ أي: أبصرت، وقيل: هو أن يتكلم بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة ويتنحنح يؤذن أهل البيت، وعن أبي أيوب الأنصاري قال: يا رسول الله: ما الاستئناس؟ قال: «أن يتكلم الرجل» {وتسلموا على أهلها} كأن يقول الواحد: السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات، فإن أذن له دخل، وإلا رجع قال قتادة: المرة الأولى للتسميع، والثانية: ليتهيأ، والثالثة: إن شاء أذن، وإن شاء رد، وهذا من محاسن الآداب، فإن أول مرة ربما منعهم بعض الأشتغال من الإذن، وفي الثانية ربما كان هناك مانع يقتضي المنع، فإن لم يجب في الثالثة يستدل بعدم الإذن على مانع، ولهذا كان الأولى في الاستئذان ثلاثاً أن لا تكون متصلة، بل يكون بين كل واحدة والأخرى وقت ما.
(6/111)
---(1/2738)
ولا بد من إذن صريح إذا كان الداخل أجنبياً أو قريباً غير محرم سواء كان الباب مغلقاً أم لا، وإن كان محرماً فإن كان ساكناً مع صاحبه فيه لم يلزمه الاستئذان، ولكن عليه أن يشعره بدخوله بتنحنح أو شدة وطء أو نحو ذلك ليستتر العريان فإن لم يكن ساكناً فإن كان الباب مغلقاً لم يدخل إلا بإذن، وإن كان مفتوحاً فوجهان، والأوجه الاستئذان، وعن أبي موسى الأشعري أنه أتى باب عمر، فقال: السلام عليكم أأدخل؟ قالها ثلاثاً، ثم رجع وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الاستئذان ثلاثاً»، و«استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة يقال لها روضة: قومي إلى هذا فعلميه فإنه لا يحسن أن يستأذن، قولي له يقول: السلام عليكم أدخل، فسمع الرجل فقال: أدخل».
وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته: حييتم صباحاً وحييتم مساءً، ثم يدخل، فربما أصاب صاحب البيت مع امرأته في لحاف واحد، فصدّ الله عز وجل عن ذلك، وعلم ما هو الأحسن الأجمل، وكم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة قد تركوا العمل به وباب الاستئذان من ذلك.
(6/112)
---(1/2739)
قال الزمخشري: بينا أنت في بيتك إذ رعف عليك الباب بواحد من غير استئذان ولا تحية من تحايا إسلام ولا جاهلية، وهو ممن يسمع ما أنزل الله فيه، وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أين الأذن الواعية. {ذلكم خير لكم} أي: من تحية الجاهلية، ومن أن تدخلوا من غير استئذان. «روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أأستأذن على أمي؟ قال: نعم، قال: إنها ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا، قال: فاستأذن»، وقوله تعالى: {لعلكم تذكرون} متعلق بمحذوف أي: أنزل عليكم، وقيل: بين لكم هذا إرادة أن تذكروا وتتعظوا وتعملوا بما أمرتم به في باب الاستئذان، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد.
{فإن لم تجدوا فيها} أي: البيوت {أحداً} يأذن لكم في دخولها {فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم} أي: حتى يأتي من يأذن لكم فإن المانع من الدخول فيها ليس الاطلاع على العورات فقط، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي تطويها الناس في العادة عن غيرهم ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ولأنه تصرف في ملك غيرك، فلا بد أن يكون برضاه وإلا أشبه الغصب والتغلب {وإن قيل لكم ارجعوا} أي: بعد الاستئذان {فارجعوا} أي: إذا كان في البيت أحد، وقال لكم: ارجعوا فارجعوا {هو} أي: الرجوع {أزكى} أي: أطهر وأصلح {لكم} من الوقوف على الأبواب منتظرين؛ لأن هذا مما يجلب الكراهة ويقدح في قلوب الناس خصوصاً إذا كانوا ذوي مروءة مرتاضين للآداب الحسنة وإذا نهي عن ذلك لأدائه إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس، وعن أبي عبيد رحمه الله تعالى: ما قرعت باباً على عالم قط، وكفى بقصة بني أسد زاجرة وما نزل فيها من قوله تعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون}، (الحجرات، 4)
(6/113)
---(1/2740)
وعن قتادة رحمه الله تعالى: إذا لم يؤذن له لا يقعد وراء الباب فإن للناس حاجات، وإن حضر ولم يستأذن وقعد على الباب منتظراً جاز، وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يأتي باب الأنصاري لطلب الحديث فيقعد على الباب حتى يخرج، ولا يستأذن فيخرج الرجل فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أخبرتني فيقول: هكذا أمرنا أن نطلب العلم، فإذا وقف فلا ينظر من شق الباب إذا كان الباب مردوداً لما روي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من اطلع في بيت قوم فقد حل لهم يفقؤوا عينه» وفي رواية للنسائي قال: «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته ففقأت عينه ما كان عليك جناح»، ولو عرض أمر في دار من حريق أو هدم أو هجوم سارق أو ظهور منكر يجب إنكاره جاز الدخول بغير إذن {والله} أي: الذي لا يخفى عليه شيء {بما تعملون} من الدخول بإذن وبغير إذن {عليم} فيجازيكم عليه.
لما نزلت آية الاستئذان قالوا: يا رسول الله كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام على ظهر الطريق ليس فيها إنسان فأنزل اللّه تعالى:
(6/114)
---(1/2741)
{ليس عليكم جناح} أي: إثم {أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة} أي: بغير استئذان منكم، وذلك كبيوت الخانات والربط المسبلة {فيها متاع} أي: منفعة {لكم} والمنفعة فيها بالنزول وأنواع المتاع والاتقاء من الحر والبرد ونحو ذلك، وقال ابن زيد: هي بيوت التجار وحوانيتهم التي بالأسواق يدخلها للبيع والشراء وهو المنفعة، وقال إبراهيم النخعي: ليس على حوانيت الأسواق إذن، وكان ابن سيرين رحمه الله تعالى إذا جاء إلى حانوت السوقي يقول: السلام عليكم أدخل ثم يلج، وقال عطاء: هي البيوت الخربة والمتاع هو قضاء الحاجة فيها من البول والغائط، وذلك استثناء من الحكم السابق لشموله البيوت المسكونة وغيرها {والله يعلم ما تبدون} أي: تظهرون {وما تكتمون} أي: تخفون في دخول غير بيوتكم من قصد صلاح أو غيره، وفي ذلك وعيد من الله تعالى لمن دخل لفساد أو تطلع على عورات وسيأتي أنهم إذا دخلوا بيوتهم سلموا على أنفسهم.
والحكم السابع حكم النظر المذكور في قوله تعالى:
{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} أي: عما لا يحل لهم نظره {ويحفظوا فروجهم} أي: عما لا يحل لهم فعله بها.
تنبيه: من للتبعيض، والمراد غض البصر عما لا يحل كما مرَّ والاقتصار به على ما يحل، وجوّز الأخفش أن تكون مزيدة وأباه سيبويه.
فإن قيل: لم دخلت من في غض البصر دون حفظ الفرج؟ أجيب: بأن في ذلك دلالة على أن المراد أن أمر النظر أوسع بدليل جواز النظر للمحارم فيما عدا ما بين السرة والركبة، وأما نظر الفروج فالأمر فيه ضيق وكفاك فرقاً أن أبيح النظر إلا ما استثني منه، وحظر الجماع إلا ما استثني منه، ويجوز أن يراد مع حفظها عن الإفضاء إلى ما لا يحل حفظها عن الإبداء، وعن ابن زيد: كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلا هذا فإنه أراد به الاستتار.
(6/115)
---(1/2742)
فإن قيل: لم قدم غض البصر على حفظ الفرج؟ أجيب: بأن البلوى فيه أشد. وروي عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: «اصرف بصرك». وعن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية» أخرجه أبو داود والترمذي، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد» {ذلك} أي: غض البصر وحفظ الفرج {أزكى} أي: خير {لهم} لما فيه من البعد عن الريبة، سئل الشيخ الشبلي رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: {يغضوا من أبصارهم}، فقال: أبصار الرؤوس عن المحرمات وأبصار القلوب عن المحرمات، ثم أخبر سبحانه وتعالى بأنه خبير بأحوالهم وأفعالهم بقوله تعالى: {إن الله} أي: الملك الذي لا يخفى عليه شيء {خبير بما يصنعون} بسائر حواسهم وجوارحهم، فعليهم إذا عرفوا ذلك أن يكونوا منه على تقوى وحذر في كل حركة وسكون.
(6/116)
---(1/2743)
{وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} عما لا يحل لهن نظره {ويحفظن فروجهن} عما لا يحل لهن فعله بها، روي عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة بنت الحرث إذ أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه وذلك بعدما أمرنا بالحجاب فقال صلى الله عليه وسلم احتجبا منه فقلت: يا رسول الله أليس هو أعمى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه»، وقوله تعالى: {ولا يبدين} أي: يظهرن {زينتهن} أي: لغير محرم، والزينة خفية وظاهرة، فالخفية مثل الخلخال والخضاب في الرجل، والسوار في المعصم، والقرط في الأذن والقلائد في العنق، فلا يجوز للمرأة إظهارها، ولايجوز للأجنبي النظر إليها،والمراد من الزينة مواضعها من البدن، وذكر الزينة للمبالغة في الأمر بالصون والستر؛ لأن هذه الزينة واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها {إلا ما ظهر منها} أي: من الزينة الظاهرة، و اختلف أهل العلم في هذه الزينة التي استثناها الله تعالى فقال سعيد بن جبير وجماعة: هي الوجه والكفان، وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: هي الثياب، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هي الكحل والخاتم والخضاب في الكف فما كان من الزينة الظاهرة، يجوز للأجنبي النظر إليها إن لم يخفِ فتنة في أحد وجهين وعليه الأكثر.
(6/118)
---(1/2744)
وإنما رخص في هذا القدر للمرأة أن تبديه من بدنها لأنه ليس بعورة في الصلاة وسائر بدنها عورة فيها، ولأن سترها فيه حرج، فإن المرأة لا تجد بدّاً من مزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات وخاصة الفقيرات، والوجه الثاني يحرم؛ لأنه محل الفتنة ورجح حسماً للباب {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} أي: يسترن الرؤوس والأعناق والصدور بالمقانع، فإن جيوبهن كانت واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها، وكن يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفة فأمرن بأن يسدلنها من قدّامهن حتى تغطيها، ويجوز أن يراد بالجيوب الصدور تسمية لها باسم ما يليها ويلابسها، ومنه قولهم: ناصح الجيب بالنون والصاد أي: سليم الصدر، وقولك: ضربت بخمارها على جيبها كقولك: ضربت بيدي على الحائط إذا وضعتها عليه؛ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: يرحم الله تعالى نساء المهاجرات لما أنزل الله وليضربن بخمرهن على جيوبهن شققن مروطهن فاختمرن بها، والمرط كساء من صوف أو خز أو كتان، وقيل: هو الإزار، وقيل: هو الدرع.
(6/119)
---(1/2745)
وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وعاصم بضم الجيم، والباقون بكسرها، وكرر قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن} لبيان من يحل له الإبداء، ومن لا يحل له أي: الزينة الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة ولا للأجانب وهي ما عدا الوجه والكفين {إلا لبعولتهن} أي: فإنهم المقصودون بالزينة، ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج ولو الدبر ولكنه يكره، وقال ابن عباس: لا يضعن الجلباب والخمار عنهن إلا لأزواجهن {أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن} فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الخفية ولا ينظروا إلى ما بين السرة والركبة، وإنما سومح في الزينة الخفية لأولئك المذكورين في الآية للحاجة المضطرّة إلى مداخلتهم ومخالطتهم ولقلة الفتنة من جهتهم، ولما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك {أو نسائهن} أي: المؤمنات، فإن الكافرات لا يتحرجن عن وصفهن للرجال، فلا يجوز للمسلمة أن تتجرّد من ثيابها عند النساء الكافرات؛ لأنهن أجنبيات عن الدين فكن كالرجال الأجانب، لكن يجوز أن ترى الكافرة منها ما يبدو عند المهنة، وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يمنع نساء أهل الكتاب أن يدخلن الحمامات مع المسلمات، وقيل: النساء كلهن، وللعلماء في ذلك خلاف.
(6/120)
---(1/2746)
تنبيه: العورة على أربعة أقسام؛ عورة الرجل مع الرجل، وعورة المرأة مع المرأة، وعورة المرأة مع الرجل، وعورة الرجل مع المرأة، أما الرجل مع الرجل فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه ما عدا ما بين السرة والركبة، وكذلك المرأة مع المرأة، وأما المرأة مع الرجل أو الرجل مع المرأة، فلا ينظر أحدهما من الآخر شيئاً، وقيل: يجوز للأجنبي أن ينظر إلى وجهها وكفيها إذا أمن الفتنة ولم تكن شهوة، وقيل: يجوز لها أن تنظر منه ما عدا ما بين السرة والركبة، ويجوز لمن أراد أن يخطب حرة أن ينظر وجهها وكفيها، وهي تنظر منه إذا أرادت أن تتزوج به ما عدا ما بين السرة والركبة، وإن أراد أن يتزوج بأمة جاز أن ينظر منها ما عدا ما بين السرة والركبة، ويحرم أن ينظر بشهوة، ويحرم النظر بشهوة لكل منظور إليه إلا لمن أرد أن يتزوج بها وإلا حليلته ويباح النظر من الأجنبي لمعاملة وشهادة حتى يجوز النظر إلى الفرج للشهادة على الزنا والولادة، وإلى الثدي للشهادة على الرضاع وتعليم ومداواة بقدر الحاجة.
وكل ما حرم نظره متصلاً حرم نظره منفصلاً كشعر عانة من رجل أو قلامة ظفر من أجنبية، ويحرم اضطجاع رجلين أو امرأتين في ثوب واحد إذا كانا عاريين، وإن كان كل منهما في جانب من الفراش للخبر المتقدم، ويجب التفريق بين ابن عشر سنين وإخوته وأخواته في المضجع إذا كانا عاريين، وتسن مصافحة الرجلين والمرأتين لخبر: «ما من مسلمين يلتقيان ويتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا».
(6/121)
---(1/2747)
وتكره مصافحة من به عاهة كجذام أو برص، والمعانقة والتقبيل في الرأس للنهي عن ذلك إلا لقادم من سفر أو تباعد عهد، ويسن تقبيل الطفل ولو لغير أبويه شفقة، ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح، ويسن تقبيل يد الحي لصلاح أو علم أو زهد أو نحو ذلك، ويكره لغني أو وجاهة أو نحو ذلك، وقوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانهنّ} يعم الإماء والعبيد، فيحل نظر العبد العفيف غير المبعض والمشترك والمكاتب إلى سيدته العفيفة لما روى أبو داود: أنه صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة رضي الله تعالى عنها بعبد وهبه لها وعليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم وما تلقى قال صلى الله عليه وسلم «إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك».
(6/122)
---(1/2748)
وعن عائشة أنها قالت لعبدها ذكوان: إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر، وأما الفاسق والمبعض والمشترك والمكاتب فكالأجنبي بل قيل: إن المراد بالآية الإماء وعبداً وأمة كالأجنبي وبه قال ابن المسيب آخراً، وقال: لا تغرنكم آية النور فإن المراد بها الإماء {أو التابعين} أي: الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم {غير أولي الإربة} أي: أصحاب الحاجة إلى النساء {من الرجال} أي: ليس لهم همة إلى ذلك ولا حاجة لهم في النساء لأنهم بله لا يعرفون شيئاً من أمرهن، وقيل: هم شيوخ صلحاء إذا كانوا معهن غضوا أبصارهم، وقيل: هم الممسوحون سواء كان حراً أم لا وهو ذاهب الذكر والأنثيين، أما ذاهب الذكر فقط أو الأنثيين فقط فكالفحل، وعن أبي حنيفة لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم. قال الزمخشري: فإن قلت: روي: «أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم خصي فقبله» قلت: لا يقبل فيما تعم به البلوى إلا حديث مكشوف وإن صح فلعله قبله ليعتقه أو لسبب من الأسباب، انتهى. وعندنا يجوز جميع ذلك إذ لا مانع منه، وقيل: المراد بأولي الإربة هو المخنث، وقرأ ابن عامر وشعبة بنصب الراء على الاستثناء والحال، والباقون بكسرها على الوصفية، وقوله تعالى: {أو الطفل} بمعنى الأطفال وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس ويبينه ما بعده، وهو قوله تعالى: {الذين لم يظهروا} أي: لم يطلعوا {على عورات النساء} للجماع فيجوز لهن أن يبدين لهم ما عدا ما بين السرة والركبة؛ قال إمام الحرمين رحمه الله تعالى: إذا لم يبلغ الطفل حداً يحكي ما يراه فكالعدم أو بلغه من غير شهوة فكالمحرم، أو بشهوة فكالبالغ {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} وذلك أن المرأة كانت تضرب برجلها الأرض ليقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال، وقيل: كانت تضرب بإحدى رجليها على الأخرى ليعلم أنها ذات خلخالين فنهين عن ذلك لأن ذلك يورث ميلاً في الرجال، وإذا وقع النهي عن إظهار صوت(1/2749)
(6/123)
---
الحلي فمواضع الحلي أبلغ في النهي وأوامر الله ونواهيه في كل باب لا يكاد العبد الضعيف يقدر على مراعاتها، وإن ضبط نفسه واجتهد ولا يخلو من تقصير يقع منه فلذلك قال تعالى: {وتوبوا إلى الله} أي: الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات {جميعاً أيها المؤمنون} أي: مما وقع لكم من النظر الممنوع منه ومن غيره.
وشروط التوبة أن يقلع الشخص عن الذنب ويندم على ما مضى منه ويعزم على ألا يعود إليه ويرد الحقوق لأهلها، وقرأ ابن عامر في الوصل: أيها المؤمنون بضم الهاء لأنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها والباقون بفتحها، وأما الوقف فوقف أبو عمرو والكسائي بالألف بعد الهاء، ووقف الباقون على الهاء ساكنة {لعلكم تفلحون} أي: تنجون من ذلك بقبول التوبة منه، وفي الآية تغليب الذكور على الإناث، وعن ابن عباس توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة.
فإن قيل: على هذا قد صحت التوبة بالإسلام لأنه يجب ما قبله فما معنى هذه التوبة؟ أجيب: بأن بعض العلماء قال: إن من أذنب ذنباً ثم تاب لزمه كلما ذكره أن يجدد التوبة لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه وعزمه على عدم العودة إلى أن يلقى الله تعالى، والذي عليه الأكثر أنه لا يلزمه تجديدها.
وعن أبي بردة أنه سمع الأغر يحدث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فإني أتوب إلى ربي كل يوم مائة مرة»، وعن ابن عمر قال: إنا كنا لنعدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول: «رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور مائة مرة»، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه»، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «للّه أفرح بتوبة عبده من أحدكم يسقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة».(1/2750)
(6/124)
---
ولما نهى عما سيفضي إلى السفاح المخل بالنسب المقتضي للألفة وحسن التربية ومزيد الشفقة المؤدية إلى بقاء النوع بعد الزجر عنه مبالغة فيه عقبه بالحكم الثامن وهو الأمر بالنكاح المذكور في قوله تعالى:
{وأنكحوا الأيامى منكم} جمع أيم والأيامى واليتامى أصلهما أيايم ويتايم فقلبا، والأيم هي من ليس لها زوج بكراً كانت أو ثيباً، ومن ليس له امرأة فيشمل ذلك الذكر والأنثى قال الشاعر:
*فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي
** وإن كنت أفتى منكم أتأيم
(6/125)
---
أي: أقرب إلى الشباب منك وأتأيم بالرفع على قلة جواب إن تتأيمي، وما بينهما جملة معترضة، والمعنى أوافقك في حالتي التزوج والتأيم، وإن كنت أقرب إلى الشباب منك، وعنه صلى الله عليه وسلم «اللهم إنا نعوذ بك من العيمة والغيمة، والأيمة والقزم والقرم العيمة: شهوة اللبن، والغيمة: العطش، والأيمة: شهوة النكاح مع الخلو من الزوجية، والقزم: البخل، والقرم: شهوة اللحم، وهذا في الأحرار والحرائر، وأما غيرهم فهو قوله تعالى: {والصالحين} أي: المؤمنين{من عبادكم} وهو من جموع عبد، {وإمائكم} والخطاب للأولياء والسادة، وهذا الأمر أمر ندب، فيستحب لمن تاقت نفسه للنكاح ووجد أهبته أن يتزوج ومن لم يجد أهبته استحب له أن يكسر شهوته بالصوم لما ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» أي: قاطع لشهوته لأن الوجاء بكسر الواو نوع من الخصاء وهو أن ترض عروق الأنثيين وتترك الخصيتان كما هما، فشبه الصوم في قطعه شهوة النكاح بالوجاء الذي يقطع النسل، والباءة بالمد مؤن النكاح، وهي المهر وكسوة فصل التمكين ونفقة يومه.
(6/126)
---(1/2751)
فإن لم تنكسر شهوته بالصوم فلا يكسرها بالكافور ونحوه بل يتزوج، ويكره لغير التائق إن فقد الأهبة أو وجدها وكان به علة كهرم فإن وجدها ولا علة به وهو غير تائق فالتخلي للعبادة أفضل من النكاح إن كان متعبداً فإن لم يتعبد فالنكاح أفضل من تركه لقوله صلى الله عليه وسلم «من أحب فطرتي فليستن بسنتي» وهي النكاح، وعنه صلى الله عليه وسلم «من كان له مال يتزوج به فلم يتزوج فليس منا»، وعنه صلى الله عليه وسلم «إذا تزوج أحدكم عج شيطانه يا ويلاه عصم ابن آدم مني ثلثي دينه» والأحاديث في ذلك كثيرة، وربما كان واجب الترك إذا أدى إلى معصية أو مفسدة، وعنه صلى الله عليه وسلم «إذا أتى على أمتي مائة وثمانون سنة فقد حلت لهم العزوبة والعزلة والترهب على رؤوس الجبال»، وفي رواية: «يأتي على الناس زمان لا تنال المعيشة فيه إلا بالمعصية، فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة»، ويندب النكاح للمرأة التائقة وفي معناها المحتاجة إلى النفقة، والخائفة من اقتحام الفجرة، ويستحب أن تكون المنكوحة بكراً إلا لعذر لقوله صلى الله عليه وسلم «هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك»، ولوداً لقوله صلى الله عليه وسلم «تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة»، وفي رواية: «يا عياض لا تتزوج عجوزاً ولا عاقراً، فإني مكاثر دينة» لما روى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة».
وقيل: المراد بالصالحين الصالحون للنكاح والقيام بحقوقه،و قوله تعالى: {إن يكونوا} أي: الأحرار {فقراء يغنهم الله} أي: بالتزويج {من فضله} ردّ لما عساه أن يمنع من النكاح والمعنى لا يمنعهن فقر الخاطب والمخطوبة من المناكحة، فإن في فضل الله غنية عن المال فإنه غادٍ ورائح، أو وعد من الله تعالى بالغنى لقوله صلى الله عليه وسلم «اطلبوا الغنى في هذه الآية».
(6/127)
---(1/2752)
لكن ينبغي أن تكون شريطة الله تعالى غير منسية في هذا الوعد ونظائره، وهي مشيئته ولا يشاء الحكيم إلا ما اقتضته الحكمة، ونحوه: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} (الطلاق، 3)، وقد جاءت الشريطة منصوصة في قوله تعالى: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم} (التوبة، 28)، ومن لم ينس هذه الشريطة لم ينتصب معترضاً بعزب كان غنياً فأفقره النكاح.
وبفاسق تاب واتقى الله وكان له شيء ففني وأصبح مسكيناً، وورد: «التمسوا الرزق بالنكاح»، وشكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل الحاجة فقال: «عليك بالباءة» أي: النكاح، وعن عمر رضي الله عنه: عجبت لمن يبتغي الغنى بغير النكاح، والله تعالى يقول: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}، وحكي عنه أنه قال: عجبت لمن لم يطلب الغنى بالباءة، وقال طلحة بن مطرف: تزوجوا فإنه أوسع لكم في رزقكم وأوسع في أخلاقكم ويزيد الله في ثروتكم؛ قال الزمخشري: ولقد كان عندنا رجل رازح الحال ثم رأيته بعد سنين وقد انتعشت حاله وحسنت، فسألته فقال: كنت في أول أمري على ما علمت وذلك قبل أن أرزق ولداً، فلما رزقت بكر ولدي تراخيت عن الفقر فلما ولد لي الثاني ازددت خيراً فلما تتاموا ثلاثة صبَّ الله علي الخير، فأصبحت إلى ما ترى، انتهى. {والله} أي: الذي له الملك كله {واسع} أي: ذو سعة لخلقه لا تنفد نعمه إذ لا تنتهي قدرته {عليم} بهم يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. ولما ذكر تعالى تزويج الحرائر والإماء ذكر حال من يعجز عن ذلك بقوله:
(6/128)
---(1/2753)
{وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً} أي: وليجهد في طلب العفة عن الزنا والحرام الذين لا يجدون ما ينكحون به من مهر ونفقة يوم التمكين وكسوة فصله، وقيل: لا يجدون ما ينكحون {حتى يغنيهم الله} أي: يوسع عليهم {من فضله} فينكحون، ولما ذكر تعالى نكاح الصالحين من العبيد والإماء حث على كتابتهم بالحكم التاسع وهو الأمر بالكتابة المذكور في قوله تعالى: {والذين يبتغون الكتاب} أي: يطلبون الكاتبة {مما ملكت أيمانكم} أي: من العبيد والإماء {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} أي: أمانة وقدرة على الكسب لأداء مال الكتابة.
(6/129)
---(1/2754)
وسبب نزول هذه الآية ما روي أن غلاماً لحويطب بن عبد العزى يقال له: الصبيح، سأل مولاه أن يكاتبه فأبى فأنزل الله هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين فأداها، وقتل يوم حنين في الحرب وأركانها أربعة رقيق وصيغة وعوض وسيد وشرط في السيد كونه مختاراً أهل تبرع وولاء وكتابة المريض مرض الموت محسوبة من الثلث، فإن خلف مثلي قيمته صحت الكتابة في كله أو مثل قيمته صحت في ثلثيه أو لم يخلف غيره صحت في ثلثه، وشرط في الرقيق اختيار وعدم صبا وجنون وأن لا يتعلق به حق آدمي لازم، وشرط في الصيغة لفظ يشعر بالكتابة كأن يقول السيد لمملوكه: كاتبتك على ألفين في شهرين كل شهر ألف، فإذا أديتهما فأنت حر، فيقول العبد: قبلت ذلك، فلا يصح عقدها إلا مؤجلاً منجماً بنجمين فأكثر، كما جرى عليه الصحابة فمن بعدهم، فلا بدّ من بيان قدرالعوض وصفته وعدد النجوم وقسط كل نجم فلا تجوز عند الشافعي رضي الله تعالى عنه بنجم واحد ولا بحال لأن العبد لا يملك شيئاً فعقدها بحال يمنع من حصول الغرض لأنه لا يقدر على أداء البدل عاجلاً، وعند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه تجوز حالاً ومؤجلاً ومنجماً وغير منجم؛ لأن الله تعالى لم يذكر التنجيم، وقياساً على سائر العقود وهي سنة لا واجبة، وإن طلبها الرقيق لئلا يتعطل أثر الملك وتتحكم المماليك على الملاك بطلب رقيق أمين قوي على الكسب وبهما فسر الشافعي الخير في الآية واعتبرت الأمانة لئلا يضيع ما يحصله فلا يعتق، والطلب والقدرة على الكسب ليوثق بتحصيل النجوم./
(6/130)
---(1/2755)
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث حق على الله عونهم المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله»، فإن فقدت هذه الشروط أو بعضها فهي مباحة إذ لا يقوى رجاء العتق بها ولا تكره بحال لأنها عند فقد ما ذكر فقد تفضي إلى العتق، نعم إن كان الرقيق فاسقاً بسرقة أو نحوها، وعلم سيده أنه لو كاتبه مع العجز عن الكسب اكتسب بطريق الفسق لم يبعد تحريمها حينئذٍ لتضمنها التمكين من الفساد، وتصح على عوض قليل وكثير، ويجب أن يحط عنه قبل عتقه شيئاً متمولاً من النجوم، أو يدفعه إليه من جنسها أو من غيرها، كما قال تعالى: {وآتوهم} أمر للسادة {من مال الله الذي آتاكم} ما يستعينون به في أداء ما التزموه لكم أيها السادة، وفي معنى الإيتاء حط شيء متمول مما التزموه بل الحط أولى من الدفع؛ لأن القصد بالحط الإعانة على العتق وهي محققة فيه موهومة في الدفع إذ قد يصرف المدفوع في جهة أخرى، وكون ذلك في النجم الأخير أولى منه فيما قبله لأنه أقرب إلى العتق.
يروى أن عمر رضي الله تعالى عنه كاتب عبداً له يكنى أبا أمية وهو أول عبد كوتب في الإسلام فأتاه بأول نجم فدفعه إليه عمر وقال: استعن به على كتابتك، فقال: لو أخرته إلى آخر نجم، فقال: أخاف أن لا أدرك ذلك وكونه ربعاً من النجوم أولى، فإن لم تسمح به نفسه فكونه سبعاً أولى، روى حط الربع النسائي وغيره، وحط السبع مالك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه، وعند أبي حنيفة أمر للمسلمين على جهة الوجوب بإعانتهم للمكاتبين وإعطائهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال كقوله: {وفي الرقاب} ولما بين تعالى ما يصح من تزويج العبيد والإماء أتبع ذلك بالحكم العاشر وهو الإكراه على الزنا المذكور في قوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم} أي: إماءكم {على البغاء} أي: الزنا.
(6/131)
---(1/2756)
كان لعبد الله بن أبيّ رأس المنافقين ست جوار معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة، يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب فشكت اثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤاجرون إماءهم، فلما جاء الإسلام قالت مسيكة لمعاذة: إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين، فإن يك خيراً فقد استكثرنا منه، وإن يك شراً فقد آن لنا أن ندعه، فأنزل الله هذه الآية، وروي أنه جاءت إحدى الجاريتين يوماً ببرد، وجاءت الأخرى بدينار فقال لهما: ارجعا فازنيا، فقالا: والله لا نفعل قد جاء الإسلام وحرم الزنا، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكيا إليه فنزلت.
ويكنى بالفتى والفتاة عن العبد والأمة، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي» {إن أردن تحصناً} أي: تعففاً عنه وهذه الإرادة محل الإكراه فلا مفهوم للشرط؛ لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن، فأما إذا لم ترد المرأة التحصن فإنها بغي الطبع طوعاً، وكلمة إن وإيثارها على إذا إيذان بأن الباغيات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من حيز الشاذ النادر ولأن الكلام ورد على سبب، وهو الذي ذكر في سبب نزول الآية، فخرج النهي على صورة صفة السبب وإن لم تكن شرطاً فيه، وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير تقديرها: وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصناً، ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء {لتبتغوا عرض الحياة الدنيا} أي: تطلبوا من أموال الدنيا بكسبهن وأولادهن {ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور} أي: لهن {رحيم} بهن، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال لهن: والله لهن أي: لا للمكره إلا إذا تاب.
(6/132)
---(1/2757)
فإن قيل: إن المكرهة غير آثمة فلا حاجة إلى المغفرة؟ أجيب: بأن الزنا لا يباح بالإكراه فهي آثمة لكن لا حد عليها للإكراه، ولما ذكر تعالى في هذه السورة هذه الأحكام وصف القرآن بصفات ثلاث:
أحدها: قوله تعالى:
{ولقدأنزلنا إليكم آيات مبينات} أي: الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت فيها الأحكام والحدود، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسر الياء التحتية والباقون بفتحها؛ لأنها واضحات تصدقها الكتب المتقدمة والعقول السليمة من بين بمعنى تبين أو لأنها بينت الأحكام والحدود.
ثانيها: قوله تعالى: {ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم} أي: من جنس أمثالهم، أي: وقصة عجيبة مثل قصصهم وهي قصة عائشة رضي الله تعالى عنها، فإنها كقصة يوسف ومريم عليهما السلام.
ثالثها قوله تعالى: {وموعظة للمتقين} أي: ما وعظ به في قوله تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} (النور، 2)، وقوله تعالى: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون} (النور، 12)
إلخ، وفي قوله تعالى: {لولا إذ سمعتموه قلتم} (النور، 16)
إلخ، وفي قوله تعالى: {يعظكم الله أن تعودوا} (النور، 17)
إلخ وتخصيصها بالمتقين لأنهم المنتفعون بها، واختلف في معنى قوله تعالى:
(6/133)
---
{الله نور السموات والأرض} فقال ابن عباس: الله هادي أهل السموات والأرض فهم بنوره إلى الحق يهتدون وبهدايته من حيرة الضلال ينجون، وقال الضحاك: منور السموات والأرض، فقال: نور السماء بالملائكة، ونور الأرض بالأنبياء، وقال مجاهد: مدبر الأمور في السموات والأرض، وقال أبي بن كعب والحسن وأبو العالية: مزين السموات والأرض؛ زين السماء بالشمس والقمر والنجوم، وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين، ويقال: بالنبات والأشجار، وقيل: معناه الأنوار كلها منه؛ كما يقال: فلان رحمة أي: منه الرحمة وقد يذكر مثل هذا اللفظ على طريق المدح كما قال القائل:
*إذ سار عبد الله من مرو ليلة
** فقد سار منها نورها وجمالها(1/2758)
وسبب هذا الاختلاف أن النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة أولاً وبواسطتها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيران على الأجرام الكثيفة المحاذية لها وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا على ضرب من التجوز كالأمثلة المتقدمة أو على تقدير مضاف كقولك: زيد كرم وجود، ثم تقول: ينعش الناس بكرمه وجوده، والمعنى ذو نور السموات والأرض ونور السموات والأرض الحق شبه بالنور في ظهوره وبيانه كقوله تعالى: {الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} (البقرة، 257)
(6/134)
---
أي: من الباطل إلى الحق، وأضاف النور إلى السموات والأرض لأحد معنيين إما للدلالة على سعة إشراقه وفشوّ إضاءته حتى تضيء له السموات والأرض، وإما أن يراد أهل السموات والأرض وأنهم يستضيئون به، واختلف أيضاً في معنى قوله تعالى: {مثل نوره} فقال ابن عباس: مثل نوره الذي أعطى المؤمن أي: مثل نور الله في قلب المؤمن وهو النور الذي يهتدي به كما قال تعالى: {فهو على نور من ربه} (الزمر، 22)، وقال الحسن وزيد بن أسلم: أراد بالنور القرآن، وقال سعيد بن جبير والضحاك: هو محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: أراد بالنور: الطاعة سمى طاعة الله نوراً، وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضلاً أي: صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة {كمشكاة} أي: كصفة مشكاة وهي الكوة في الجدار غير النافذة {فيها مصباح} أي: سراج ضخم ثاقب {المصباح في زجاجة} أي: قنديل من زجاج شامي أزهر وإنما ذكر الزجاجة؛ لأن النور وضوء النهار فيها أبين من كل شيء وضوءه يزيد في الزجاج.
ثم وصف الزجاجة بقوله تعالى: {الزجاجة كأنها} أي: النور فيها {كوكب دري} أي: مضيء شبهها في الضوء بإحدى الدراري من الكواكب الخمسة العظام وهي المشاهير المشتري والزهرة والمريخ وزحل وعطارد.
فإن قيل: لم شبه بالكواكب ولم يشبه بالشمس والقمر؟ أجيب: بأنهما يلحقهما الخسوف والكسوف والكواكب لا يلحقها ذلك.
(6/135)
---(1/2759)
وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال من الدرء بمعنى الدفع لدفعه الظلام والباقون بضمها منسوب إلى الدر أي: اللؤلؤ في صفاته وحسنه، وإن كان الكوكب أكثر ضوء من الدر لكن يفضل الكواكب بصفائه كما يفضل الدر سائر الحب، وهمز مع المد أبو عمر وشعبة وحمزة والكسائي والباقون بغير همز وكل من أهل الهمز على مرتبته في المد {توقد من شجرة مباركة زيتونة} أي: ابتداء توقده من شجرة الزيتون المتكاثر نفعه بأن رويت فتيلة المصباح بزيت الشجرة، وهي شجرة كثيرة البركة وفيها منافع كثيرة؛ لأن الزيت يسرج به ويدهن به وهو أدام وهو أصفى الأدهان وأضوؤها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح التاء والواو وبتشديد القاف على وزن تفعل على الماضي أي: المصباح، وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بضم التاء الفوقية وتخفيف القاف أي: المصباح {لاشرقية ولاغربية} أي: ليست بشرقية وحدها لاتصيبها الشمس إذا غربت ولا غربية وحدها فلا تصيبها الشمس إذا طلعت بل هي مصاحبة للشمس طول النهار تصيبها الشمس عند طلوعها وعند غروبها فتكون شرقية وغربية تأخذ حظها من الأمرين فيكون زيتها أضوأ، وهذا كما يقال: فلان ليس أسود ولا أبيض أي: ليس أسود خالصاً ولا أبيض خالصاً بل اجتمع فيه كل واحد منهما، وهذا الرمان ليس بحلو ولا حامض أي: اجتمع فيه الحلاوة والحموضة، هذا قول ابن عباس والأكثرين، وقال السدي وجماعة: معناه أنها ليست مقنأة لا تصيبها الشمس ولا في مضحاة لايصيبها الظل فهي لا تضرها شمس ولا ظل، والمقنأة بقاف فنون فهمزة وهي بفتح النون وضمها المكان الذي لا تطلع عليه الشمس، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري
(6/136)
---(1/2760)
وفي الحديث: «لا خير في شجرة مقنأة ولا في نبات في مقنأة، ولا خير فيهما في مضحى» قال ابن حجر العسقلاني: لم أجده، وقيل: معناه أنها معتدلة ليست في شرق يصيبها الحر، ولا في غرب يضرها البرد، وقيل: معناه هي شامية لأن الشام وسط الأرض لا شرقي ولا غربي، وقيل: ليست هذه الشجرة من أشجار الدنيا لأنها لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية، وإنما هو مثل ضربه الله تعالى لنوره {يكاد زيتها} أي: من صفائه {يضيء ولو لم تمسسه نار} أي: يكاد يتلألأ ويضيء بنفسه من غير نار {نور على نور} أي: نور المصباح على نور الزجاجة.
تنبيه: اختلف أهل العلم في معنى هذا التمثيل فقال بعضهم: وقع التمثيل لنور محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس لكعب الأحبار: أخبرني عن قوله تعالى: {مثل نوره كمشكاة} قال كعب: هذا مثل ضربه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فالمشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح فيه النبوة تتوقد من شجرة مباركة هي شجرة النبوة يكاد نور محمد صلى الله عليه وسلم وأمره يتبين للناس، ولو لم يتكلم أنه نبي كما يكاد ذلك الزيت يضيء، ولو لم تمسسه نار.
وروى سالم عن عمر في هذه الآية قال: المشكاة جوف النبي صلى الله عليه وسلم والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي جعله الله تعالى فيه، لا شرقية ولا غربية لا يهودي ولا نصراني، توقد من شجرة مباركة إبراهيم، نور على نور نور قلب إبراهيم ونور قلب محمد صلى الله عليهما وسلم، وقال محمد بن كعب القرظي: المشكاة إبراهيم والزجاجة إسماعيل عليهما السلام، والمصباح محمد صلى الله عليه وسلم سماه الله تعالى مصباحاً كما سماه سراجاً، فقال تعالى: {وسراجاً منيراً} (الأحزاب، 46)
(6/137)
---(1/2761)
توقد من شجرة مباركة، وهي إبراهيم عليه السلام سماه مباركاً؛ لأن أكثر الأنبياء من صلبه، لا شرقية ولا غربية يعني إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً لأن اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى قبل المشرق، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار تكاد محاسن محمد صلى الله عليه وسلم تظهر للناس قبل أن يوحى إليه، نور على نور نبي من نسل نبي نور محمد على نور إبراهيم عليهما السلام، وقال بعضهم: وقع هذا التمثيل لنور قلب المؤمن، روى أبو العالية عن أبيّ بن كعب قال: هذا مثل المؤمن فالمشكاة نفسه والزجاجة صدره، والمصباح ما جعل الله من الإيمان والقرآن في قلبه توقد من شجرة مباركة وهي الإخلاص لله وحده، فمثله كمثل شجرة التف بها الشجر فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس لا إذا طلعت ولا إذا غربت، فكذلك المؤمن قد احترس من أن يصيبه شيء من الفتن، فهو بين أربع خلال؛ إن أعطي شكر، وإن ابتلي صبر، وإن حكم عدل، وإن قال صدق، يكاد زيتها يضيء؛ أي: يكاد قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبين له لموافقته إياه، نور على نور؛ قال أبيّ: أي: فهو يتقلب في خمسة أنوار قوله نور وعمله نور ومدخله نور ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة؛ قال ابن عباس: هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته النار ازداد ضوءاً على ضوء كذلك يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاء العلم ازداد هدى على هدى، ونوراً على نور، وقال الكلبي: قوله تعالى: نور على نور يعني إيمان المؤمن وعمله، وقال السدي: نور الإيمان ونور القرآن، وقال الحسن وابن زيد: هذا مثل للقرآن، فالمصباح هو القرآن فكما يستضاء بالمصباح يهتدى بالقرآن، والزجاجة قلب المؤمن والمشكاة فمه ولسانه والشجرة المباركة شجرة الوحي، يكاد زيتها يضيء يعني: تكاد حجة القرآن تتضح وإن لم يقرأ، نور على نور يعني القرآن نور من الله لخلقه(1/2762)
(6/138)
---
مع ما قام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن، فازدادوا بذلك نوراً على نور {يهدي الله لنوره} قال ابن عباس: دين الإسلام وقيل: القرآن {من يشاء} فإن الأسباب بدون مشيئته لاغية، وقيل: يوفق الله لإصابة الحق من نظر وتدبر بعين عقله والإنصاف من نفسه ولم يذهب عن الجادة الموصلة إليه يميناً وشمالاً، ومن لم يتدبر فهو كالأعمى، سواء عليه جنح الليل الدامس وضحوة النهار الشامس {ويضرب} أي: يبين {الله الأمثال للناس} تقريباً للأفهام وتسهيلاً للأكدار {والله بكل شيء عليم} معقولاً كان أو محسوساً، ظاهراً كان أو خفياً، وفيه وعيد لمن تدبرها ولم يكترث بها، وقوله تعالى:
(6/139)
---
{في بيوت} يتعلق بما قبله أي: كمشكاة في بعض بيوت الله وهي المساجد كأنه قيل: مثل نوره، كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت، أو بما بعده وهو يسبح أي: يسبح رجال في بيوت، وفي قوله: فيها تكرير لقوله: في بيوت كقوله: زيد في الدار جالس فيها، أو بمحذوف كقوله {تعالى في تسع آيات} (النمل، 12)(1/2763)
أي: سبحوا في بيوت، والبيوت هي المساجد؛ قال سعيد بن جبير: عن ابن عباس قال: المساجد بيوت الله في الأرض، وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض، وقيل: المراد بالبيوت المساجد الثلاثة، وقيل: المراد أربعة مساجد لم يبنها إلا نبيّ؛ الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فجعلاها قبلة، وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام، ومسجد المدينة، ومسجد قباء بناهما النبي صلى الله عليه وسلم وأتى فيها بجمع الكثرة دون جمع القلة للتعظيم {أذن الله أن ترفع} قال مجاهد: تبنى، نظيره قوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت}، وقال الحسن: تعظم أي: فلا يذكر فيها الفحش من القول وتطهر من الأنجاس والأقذار، وقوله تعالى: {ويذكر فيها اسمه} عام فيما يتضمن ذكره حتى المذاكرة في أفعاله، والمباحثة في أحكامه، وقال ابن عباس: يتلى فيها كتابه {يسبح} أي: يصلى {له فيها بالغدو والآصال} أي: بالغداة والعشي، قال أهل التفسير: أراد به الصلوات المفروضة، فالتي تؤدى بالغداةصلاة الفجر، والتي تؤدى بالآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين؛ لأن اسم الأصيل يقع على هذا الوقت، وقيل: أراد به الصبح والعصر؛ قال صلى الله عليه وسلم «من صلى البردين دخل الجنة»؛ أراد صلاة الصبح وصلاة العصر، وقال ابن عباس: التسبيح بالغدو صلاة الضحى، وروى «من مشى إلى صلاة مكتوبة وهو متطهر فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن مشى إلى تسبيح الضحى، لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين»، وقرأ ابن عامر وشعبة بفتح
(6/140)
---
الباء الموحدة والباقون بكسرها.(1/2764)
{رجال لا تلهيهم تجارة} أي: معاملة رابحة، وقيل: المراد بالتجارة الشراء لقوله تعالى: {ولا بيع عن ذكر الله} إطلاقاً لاسم الجنس على النوع كما تقول: رزق فلان تجارة صالحة إذا اتجه له بيع صالح أو شراء، وعلى الأول ذكر مبالغة للتعظيم والتعميم بعد التخصيص، وقيل: التجارة لأهل الجلب تقول تجر فلان في كذا أي: جلب.
تنبيه: قوله تعالى: {رجال} فاعل يسبح بكسر الباء وعلى فتحها نائب الفاعل له ورجال فاعل فعل مقدر جواب سؤال مقدر كأنه قيل: من يسبحه وحذف من قوله تعالى: {وإقام الصلاة} الهاء تخفيفاً أي: وإقامة الصلاة، وأراد أداءها في وقتها لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة، وإنما ذكر إقام الصلاة مع أن المراد من ذكر الله الصلوات الخمس لأنه تعالى أراد بإقامة الصلاة حفظ المواقيت. روى سالم عن ابن عمر: أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة، فقام الناس وغلقوا حوانيتهم فدخلوا المسجد؛ قال ابن عمر: فيهم نزلت هذه الآية: {وإيتاء الزكاة} قال ابن عباس: إذا حضر وقت أداء الزكاة لم يحبسوها أي: فيخرجون ما يجب إخراجه من المال للمستحقين، وقيل: هي الأعمال الصالحة ومع ما هم عليه {يخافون يوماً} هو يوم القيامة {تتقلب} أي: تضطرب {فيه القلوب} بين النجاة والهلاك {والأبصار} بين ناحيتي اليمين والشمال، وقيل: تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشك إلى اليقين وتنفتح الأبصار من الأغطية، وقوله تعالى:
(6/141)
---(1/2765)
{ليجزيهم الله} متعلق بيسبح أو بلا تلهيهم، أو بيخافون {أحسن ما عملوا} في الطاعات فرضها ونقلها أي: ثوابه الموعود لهم، وأحسن بمعنى حسن {ويزيدهم من فضله} ما لم يستحقوه بأعمالهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وقوله تعالى: {والله يرزق من يشاء بغير حساب} تقرير للزيادة، وتنبيه على كمال القدرة ونفاذ المشيئة وسعة الإحسان وكمال جوده فكأنه سبحانه وتعالى لما وصفهم بالجد والاجتهاد في الطاعة ومع ذلك يكونون في نهاية الخوف، فالله سبحانه وتعالى يعطيهم الثواب العظيم على طاعتهم، ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في مقابلة خوفهم، وقوله تعالى:
(6/142)
---(1/2766)
{والذين كفروا أعمالهم كسراب} أي: فحالهم على ضد ذلك، فإن أعمالهم التي يحسبونها صالحة نافعة عند الله تعالى يجدونها لاغية مخيبة في العاقبة كسراب وهو ما يرى في الغلاة وقت الضحى الأكبر شبيهاً بالماء الجاري، وهو ليس بماء، ولكن الذي ينظر إليه من بعيد يظنه ماءً جارياً، وقيل: هو الشعاع الذي يرى نصف النهار في شدّة الحر في البراري الذي يخيل للناظر أنه الماء السارب أي: الجاري، فإذا قرب منه انغش فلم يرَ شيئاً، وأما الآل فإنما يكون أول النهار كأنه ماء بين السماء والأرض، وقال البغوي: والآل ما ارتفع عن الأرض وهو شعاع يجري بين السماء والأرض بالغدوات شبه بالمرآة ترفع فيها الشخوص يرى فيها الصغير كبيراً، والقصير طويلاً والرقراق يكون بالعشاء وهو ما ترقرق من السراب أي: جاء وذهب، وقوله تعالى: {بقيعة} جمع قاع وهي أرض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والآكام قاله في القاموس، وقيل: القيعة بمعنى القاع، وهو الأرض المستوية المنبسطة، وفيها يكون السراب، وقال الفراء: جمع قاع كجار وجيرة، وقال الفارسي: جمعه قيعة وقيعان {يحسبه} أي: يظنه {الظمآن} أي: العطشان الشديد العطش من ضعف العقل {ماءً} فيقصده ولا يزال سائراً {حتى إذا جاءه} أي: ما قدر أنه ماء، وقيل: جاء إلى موضع السراب {لم يجده شيئاً} مما حسبه ووجه التشبيه أن الذي جاء به الكافر إن كان من أفعال البر، فهو لا يستحق عليه ثواباً مع أنه يعتقد أن له ثواباً عليه، وإن كان من أفعال الإثم فهو يستحق عليه العقاب مع أنه يعتقد أن له ثواباً، فكيف كان فهو يعتقد أن له ثواباً عند الله تعالى فإذا وافى عرصة القيامة ولم يجد الثواب بل وجد العقاب العظيم عظمت حسرته وتناهى غمه فيشبه حاله حال الظمآن الذي اشتدت حاجته إلى الماء، فإذا شاهد السراب في البر تعلق به قلبه، فإذا جاء له لم يجده شيئاً، فكذلك حال الكافر يحسب أن عمله نافعه فإذا احتاج إلى عمله لم يجده شيئاً ولا ينفعه، وقال(1/2767)
(6/143)
---
مجاهد: السراب عمل الكافر وإتيانه إياه موته ومفارقة الدنيا.
فإن قيل: قوله تعالى: {حتى إذا جاءه} يدل على كونه شيئاً، وقوله تعالى: لم يجده شيئاً مناقض له؟ أجيب: بأن معناه {لم يجده شيئاً} نافعاً كما يقال: فلان ما عمل شيئاً وإن كان قد اجتهد، أو أنه إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة كأنه ضباب وهباء، فإذا قرب منه رق وانتشر وصار كالهواء {ووجد الله عنده} أي: ووجد عقاب الله الذي توعد به الكفار أو وجد زبانية الله، أو وجده محاسباً إياه أو قدم على الله {فوفاه حسابه} أي: جزاء عمله قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة فإنه قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية، ثم كفر بالإسلام؛ قال ابن الخازن: والأصح أن الآية عامة في حق جميع الكفار {والله سريع الحساب} لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات، فلا يشغله محاسبة واحد عن واحد، وفي هذا رد على المشبهة قبحهم الله تعالى لأنه تعالى لو كان متكلماً بآلة كما يقولون لما صح ذلك، وقوله تعالى:
Y
{أو كظلمات} عطف على كسراب على حذف مضاف واحد تقديره: أو كذي ظلمات، ودل على هذا المضاف قوله تعالى: {إذا أخرج يده لم يكد يراها} (النور، 40)
(6/144)
---(1/2768)
فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف، وهو قول أبي علي، وقال غيره على حذف مضافين تقديره أو كأعمال ذي ظلمات فقدر ذي ليصح عود الضمير إليه في قوله تعالى: {إذا أخرج يده} وقدر أعمال ليصح تشبيه أعمال الكفار بأعمال صاحب الظلمة إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمة، وأو للتخيير فإن أعمالهم لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة من لجج البحر والأمواج والسحاب، أو للتنويع، فإن أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب، وإن كانت قبيحة فكالظلمات أو للتقسيم باعتبار وقتين، فإنها كالظلمات في الدنيا وكالسراب في الآخرة، وقوله تعالى: {في بحر لجي} صفة لظلمات فيتعلق بمحذوف، واللجي منسوب إلى اللج، وهو معظم البحر، وقيل: منسوب إلى اللجة بالتاء، وهي أيضاً معظمه، فاللجي هو العميق الكثير الماء، وقوله تعالى: {يغشاه} أي: يغطي هذا البحر ويعلوه {موج} كائن {من فوقه موج} أي: أمواج مترادفة متراكمة {من فوقه} أي: الموج الثاني المركوم، وقوله تعالى: {سحاب} أي: غيم غطى النجوم وحجب أنوارها صفة أخرى لبحر، وقوله تعالى: {ظلمات} أي: من البحر والموجين والسحاب خبر مبتدأ مضمر تقديره هذه ظلمات أو تلك ظلمات، ويجوز أن يكون ظلمات مبتدأ والجملة من قوله تعالى: {بعضها فوق بعض} خبره، قاله الحوفي.
فإن قيل: لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة؟ أجيب: بأنها موصوفة تقديراً؛ أي: ظلمات كثيرة متكاثفة، وقرأ البزي سحاب بلا تنوين وجر ظلمات وقنبل ينون سحاب ويجر ظلمات، والبزي جعل الموج المتراكم بمنزلة السحاب، وأما قنبل: فإنه جعل ظلمات بدلاً من ظلمات الأولى والباقون بتنوين سحاب، وظلمات بالرفع فيهما {إذا أخرج} أي: الكافر في هذا البحر بدلالة المعنى، وإن لم يجرِ له ذكر {يده} وهي أقرب ما يرى إليه في هذه الظلمات {لم يكد} أي: الكائن فيه {يراها} أي: لم يقرب من رؤيتها فضلاً عن أن يراها كقول ذي الرمة:
(6/145)
---(1/2769)
إذا غير النأي (أي: البعد وفي نسخة الهجر) المحبين لم يكد
رسيس الهوى (أي: ثابته بمعنى الهوى الثابت) من حب مية يبرح
أي: يزول، والمعنى لم يقرب من البراح فضلاً عن أن يبرح.
تنبيه: في كيفية هذا التشبيه وجوه؛ أحدها: قال الحسن: إن الله تعالى ذكر ثلاثة أنواع من الظلمة؛ ظلمة البحر، وظلمة الأمواج، وظلمة السحاب؛ كذا الكافر له ظلمات ثلاثة: ظلمةالاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل، ثانيها: قال ابن عباس: شبه قلبه وسمعه وبصره بهذه الظلمات الثلاث، ثالثها: أن الكافر لا يدري ولا يدري أنه لا يدري ويعتقد أنه يدري، فهذه المراتب الثلاثة شبه تلك الظلمات الثلاث، رابعها: قلب مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم، خامسها: أن هذه الظلمات متراكمة، فكذا الكافر لشدة إصراره على كفره، قد تراكمت عليه الضلالات حتى لو ذكر عنده أظهر الدلائل لم يفهمه.
(6/146)
---
{ومن لم يجعل الله} أي: الملك الأعظم {له نوراً فما له من نور}، قال ابن عباس: من لم يجعل الله له ديناً وإيماناً فلا دين له، وقيل: من لم يهده الله فلا هادي له؛ لأنه تعالى قادر على ما يريد، ولما وصف تعالى أنوار القلوب قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد بقوله تعالى:
(6/147)
---(1/2770)
{ألم ترَ} أي: تعلم علماً يشبه المشاهدة في اليقين والوثاقة بالوحي والاستدلال {أن الله} أي: الحائز لصفات الكمال {يسبح له} أي: ينزهه عن كل شائبة نقص {من في السموات والأرض} لأن التسبيح لا يرى بالبصر بل يعلم بالقلب، وهذا استفهام والمراد به التقرير والبيان، وهذا التسبيح إما أن يكون المراد منه دلالته بخلق هذه الأشياء على كونه تعالى منزهاً عن النقائص موصوفاً بنعوت الجلال، أو يكون المراد منه في حق البعض الدلالة على التنزيه، وفي حق الباقين النطق باللسان؛ قال الرازي: والأول أقرب؛ لأن القسم الثاني متعذر؛ لأن في الأرض من لا يكون مكلفاً لا يسبح بهذا المعنى، والمكلفون منهم من لا يسبح أيضاً بهذا المعنى كالكفار، وأما القسم الثالث: وهو أن يقال: إن من في السموات وهم الملائكةيسبحون باللسان، وأما الذين في الأرض فمنهم من يسبح باللسان، ومنهم من يسبح على لسان الدلالة، فهذا يقتضي استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معاً وهو غير جائز أي: عند أكثر العلماء فلم يبق إلا القسم الأول وهو أن هذه الأشياء مشتركة في أن أجسامها وصفاتها دالة على تنزيه الله تعالى وقدرته وإلهيته وتوحيده وعدله، فسمي ذلك تنزيهاً توسعاً.
فإن قيل: فالتسبيح بهذا المعنى حاصل لجميع المخلوقات، فما وجه تخصيصه ههنا بالعقلاء؟ أجيب: بأن خلقة العقلاء أشد دلالة على وجود الصانع سبحانه وتعالى؛ لأن العجائب والغرائب في خلقهم أكثر، وهي العقل والنطق والفهم، ولما كان أمر الطير دلالته أعجب، ولأنها قد تكون بين السماء والأرض فتكون خارجة عن حكم من فيهما خصها بالذكر من جملة الحيوان بقوله تعالى: {والطير صافات} أي: باسطات أجنحتها في جو السماء لا شبهة في أنه لا يمسكها إلا الله تعالى وإمساكه لها في الجو مع أنها أجرام ثقيلة وإقداره لها فيه على القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرته تعالى.
(6/148)
---(1/2771)
واختلف في عود الضمائر في قوله تعالى: {كل} أي: من المخلوقات {قد علم صلاته وتسبيحه} على قولين أحدهما: أنها كلها عائدة على كل أي: كل قد علم هو صلاة نفسه وتسبيحها؛ قال ابن عادل: وهذا أولى لتوافق الضمائر، ثانيهما: أن الضمير في علم عائد إلى الله تعالى وفي صلاته وتسبيحه عائد على كل ويدل عليه قوله تعالى: {والله} أي: المحيط علماً وقدرة {عليم بما يفعلون} وقيل: إن ضرب أجنحة الطير صلاته وتسبيحه، وهذا يؤيد أن المراد من التسبيح دلالة هذه الأمور على التنزيه لا النطق باللسان روي أن أبا ثابت قال: كنت جالساً عند أبي جعفر الباقر فقال لي: أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها؟ قال: لا، قال: فإنهن يقدسن الله ربهن ويسألنه قوت يومهن؛ قال بعض العلماء: إنا نشاهد من الطيور وسائر الحيوانات أعمالاً لطيفة يعجز عنها كثير من العقلاء، فإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه، وبيان أنه تعالى ألهمها الأعمال اللطيفة بوجوه.
أحدها: أن الدب يرمي بالحجارة ويأخذ العصا ويرمي الإنسان حتى يتوهم أنه مات فيتركه وربما عاد يشمه ويتجسس نفسه، ويصعد الشجرة أخف صعود، ويهشم الجوز بين كفيه تفريقاً بالواحدة، وصدمة بالأخرى، ثم يفتح فاه فيذر قشره، ويتغذى به، ويحكى عن الفأر في سرقته أمور عجيبة.
ثانيها: أمر النحل وما لها من الرياسة، والبيوت المسدسة التي لا يتمكن من بنائها أفاضل المهندسين.
(6/149)
---(1/2772)
ثالثها: انتقال الكركي من طرف من أطراف العالم إلى الطرف الآخر طالباً لما يوافقه من الأهوية، ويقال: من خواص الخيل أن كل واحد يعرف صوت الفرس الذي قاتله وقتاً ما، والتماسيح تفتح أفواهها لطائر يقع عليها يقال لها القطقاط، وينظف ما بين أسنانها، وعلى رأس ذلك الطائر كالشوكة فإذا هم التمساح بالتقام ذلك الطائر تأذى من تلك الشوكة فيفتح فاه، فيخرج ذلك الطائر، والسلحفاة تتناول بعد أكل الحية سعتراً جبلياً، ثم تعود وقد عوفيت من ذلك، وحكي عن بعض الثقات المجربين للصيد أنه شاهد الحباري تقاتل الأفعى وتنهزم عنها إلى بقلة تتناول منها ثم تعود، ولا تزال كذلك، وكان ذلك الشخص قاعداً في كن، وكانت البقلة قريبة من مسكنه، فلما اشتغل الحباري بالأفعى قلع البقلة، فعاد الحباري إلى منبتها فلم يجدها فأخذ يدور حول منبتها دوراناً متتابعاً حتى خرَّ ميتاً، فعلم الشخص أنه يعالج بأكلها من اللسعة، وتلك البقلة هي الجرجير البري، وابن عرس يستظهر في مقاتلة الحية بأكل السذاب فإن النكهة السذابية تنفر منها الأفعى، والكلاب إذا مرضت بطونها أكلت سنبل القمح، وإذا جرحت داوت الجراحة بالسعتر الجبلي.
(6/150)
---(1/2773)
رابعها: القنافذ تحس بالشمال والجنوب قبل الهبوب، فتغير المدخل إلى جحرها، وكان رجل بالقسطنطينية قد أثرى بسبب أنه ينذر بالرياح قبل هبوبها، وينفع الناس بإنذاره، وكان السبب فيه قنفذاً في داره يفعل الصنيع المذكور فيستدل به، والخطاف صناع في اتخاذ العش من الطين، وقطع الخشب، فإن أعوزه الطين ابتل وتمرغ في التراب ليحمل جناحاه قدراً من الطين، وإذا فرخ بالغ في تعهد الفراخ وتأخذ رزقها بمنقارها، وترميها من العش، والغرانيق تصعد في الجو عند الطيران، فإن حجب بعضها عن بعض سحاب أو ضباب أحدثت عن أجنحتها حفيفاً مسموعاً يتبع به بعضها بعضاً، وإذا باتت على جبل فإنها تضع رأسها تحت أجنحتها إلا القائد فإنه ينام مكشوف الرأس فيسرع انتباهه وإذا سمع جرساً صاح، وحال النمل في الذهاب إلى مواضعها على خط مستقيم يحفظ بعضهاً بعضاً أمر عجيب، وإذا كشف عن بيوتها الساتر الذي كان يسترها، وكان تحته بيض لها، فإن كل نملة تأخذ بيضة في فمها وتذهب في أسرع وقت، والاستقصاء في هذا الباب مذكور في كتاب طبائع الحيوان، والمقصود في ذلك أن الفضلاء من العقلاء يعجزون عن أمثال تلك الحيل وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يقال: إنها تسبح الله تعالى وتثني عليه، وإن كانت غير عارفة بسائر الأمور التي تعرفها الناس، ويؤيد هذا قوله تعالى: {ولكن لا تفقهون تسبيحهم} (الإسراء، 44)، وقوله صلى الله عليه وسلم «إن نوحاً عليه السلام أوصى بنيه عند موته بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع لو كن في حلقة مبهمة قصمتهن، وسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق كل شيء، وقال الغزالي في الإحياء: روي «أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تولت عني الدنيا، وقلت ذات يدي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين أنت من صلاة الملائكة وتسبيح الخلائق، وبها يرزقون؛ قال: فقلت: وما هي يا رسول الله، قال: قل سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم(1/2774)
(6/151)
---
أستغفر الله مائة مرة ما بين طلوع الفجر إلى أن تصلي الصبح تأتيك الدنيا راغمة صاغرة، ويخلق الله عز وجل من كل كلمة ملكاً يسبح الله إلى يوم القيامة لك ثوابه»، ثم نبه سبحانه وتعالى بقوله:
{ولله ملك السموات والأرض} على أن الكل منه لأن كل ما سواه ممكن ومحدث، والممكن والمحدث لا يوجد إلا عند الانتهاء إلى القديم الواجب الوجود ويدخل في هذا جميع الأجرام والأعراض، وأفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم، وفي قوله تعالى: {وإلى الله} أي: الذي له الإحاطة بكل شيء {المصير} دليل على المعاد وأنه لا بد من مصير الكل إليه بعد الفناء. والرؤية في قوله تعالى:
{ألم ترَ} نظرية {أن الله} أي: ذا الجلال والجمال {يزجي سحاباً} أي: يسوقه برفق بعد أن أنشأه من العدم تارة من السفل وتارة من العلو ضعيفاً رقيقاً متفرقاً؛ قال أبو حيان: وهو اسم جنس واحده سحابة والمعنى يسوق سحابة إلى سحابة، وهو معنى قوله تعالى: {ثم يؤلف بينه} أي: بين أجزائه بعد أن كان قطعاً في جهات مختلفة، فيجعل القطع المتفرقة قطعة واحدة، {ثم يجعله ركاماً} في غاية العظمة متراكماً بعضه على بعض بعد أن كان في غاية الرقة {فترى} أي: في تلك الحالة المستمرة {الودق} أي: المطر {يخرج من خلاله} أي: من فتوقه التي حدثت بالتراكم وإرهاص بعضه في بعض.
(6/152)
---(1/2775)
فإن قيل: بين إنما تدخل على مثنى فما فوقه فلم دخلت هنا على مفرد؟ أجيب: بأن المراد بالسحاب الجنس فعاد الضمير على حكمه أو على حذف مضاف أي: بين أجزائه كما مر وبين قطعه فإن كل قطعة سحابة، وقرأ السوسي فترى في الوصل بالإمالة بخلاف عنه والباقون بالفتح، وأما في الوقف فأبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة وورش بالإمالة بين بين، والباقون بالفتح، {وينزل من السماء} أي: من الغمام وكل ما علا فهو سماء {من جبال فيها} أي: في السماء وهي السحاب الذي صار بعد تراكمه كالجبال وقوله تعالى: {من برد} بيان للجبال، والمفعول محذوف أي: ينزل مبتدئاً من السماء من جبال فيها من برد برداً، فمن الأولى: لابتداء الغاية باتفاق، والثانية: للتبعيض، والثالثة: للبيان، ويجوز أن تكون الثانية لابتداء الغاية أيضاً ومجرورها بدل من الأولى بإعادة العامل والتقدير وينزل من جبال أي: من جبال فيها فهو بدل اشتمال، والأخيرة للتبعيض واقع موقع المفعول.
فإن قيل: ما معنى من جبال فيها من برد؟ أجيب: بأن فيه معنيين؛ أحدهما: أن يخلق اللّه في السماء جبال برد كما خلق في الأرض جبال حجر وليس في العقل قاطع يمنعه، الثاني: أن يراد الكثرة بذكر الجبال كما يقال: فلان يملك جبالاً من ذهب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وإخفائها عند الزاي وتخفيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي، ثم بيّن تعالى أن ذلك باختياره وإرادته بقوله تعالى: {فيصيب به} أي: بكلٍ من البرد والمطر على وجه النقمة أو الرحمة {من يشاء} أي من الناس وغيرهم {ويصرفه عن من يشاء} صرفه عنه: فائدة: عن مقطوعة من من في الرسم، ثم نبه تعالى على ما هو غاية في العجب في ذلك مما في الماء من النور الذي ربما نزل منه صاعقة فأحرقت ما لا تحرق النار بقوله تعالى.
(6/153)
---(1/2776)
{يكاد} أي يقرب {سنا} أي ضوء {برقه} وهو اضطراب النور في خلاله {يذهب} أي هو ملتبساً {بالأبصار} أي الناظرة له أي يخطفها لشدّة لمعانه وتلألئه فتكون قوة البرق دليلاً على تكاثف السحاب وبشيراً بقوة المطر ونذيراً بنزول الصواعق، واعلم أن البرق الذي صفته كذلك لا بد وأن يكون ناراً عظيمة خالصة، والنار ضد الماء والبرد فظهوره يقتضي ظهور الضدّ من الضدّ وذلك لا يمكن إلا بقدرة قادر حكيم، ثم ذكر تعالى ما هو أدل على الاختيار بقوله تعالى مترجماً لما يشمل ما مضى وزيادة:
{يقلب الله} أي الذي له الأمر كله بتحويل الظلام ضياء والضياء ظلاماً والنقص تارة والزيادة أخرى مع المطر تارة والصحو أخرى {الليل والنهار} فينشأ عن ذلك التقليب من الحر والبرد والنمو والتنويع واليبس ما يبهر العقول، ولهذا قال منبهاً على النتيجة {إن في ذلك} الأمر العظيم الذي ذكر من جميع ما تقدم {لعبرة} أي دلالة على وجود الصانع القديم، وكمال قدرته وإحاطة علمه، ونفاذ مشيئته، وتنزيهه عن الحاجة وما يفضي إليها {لأولي الأبصار} أي لأصحاب البصائر على قدرة الله تعالى وتوحيده، ولما استدل تعالى أولاً بأحوال السماء والأرض وثانياً بالآثار العلوية استدل ثالثاً بأحوال الحيوانات بقوله تعالى:
{والله} أي: الذي له العلم الكامل والقدرة الشاملة {خلق كل دابة} أي: حيوان {من ماء} وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الخاء وكسر اللام ورفع القاف وكسر لام كل والباقون بفتح اللام والخاء ولا ألف بينهما ونصب لام كل.
(6/154)
---(1/2777)
فإن قيل: كثير من الحيوانات لم يخلق من الماء كالملائكة خلقوا من النور وهم أعظم الحيوانات عدداً، وكذا الجن وهم مخلوقون من النار وخلق آدم من التراب كما قال تعالى: {خلقه من تراب} وخلق عيسى من الريح، كما قال تعالى: {فنفخنا فيه من روحنا} ونرى كثيراً من الحيوانات يتوالد لا من نطفة؟ أجيب: بوجوه؛ أحسنها: ما قال القفال: إن من ماء صلة كل دابة وليس هو من صلة خلق. والمعنى أن كل دابة متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى، ثانيها: إن أصل جميع المخلوقات من الماء على ما روي «أن أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء، ثم قسم ذلك الماء فخلق منه النار والهواء والنور والتراب»، والمقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة، فكان أصل الخلقة الماء، فلهذا ذكره الله تعالى، ثالثها: المراد من الدابة التي تدب على وجه الأرض ومسكنها هنالك، فتخرج الملائكة والجن، رابعها: لما كان الغالب من هذه الحيوانات كونها مخلوقة من الماء إما لأنها متولدة من النطفة، وإما لأنها لا تعيش إلا بالماء أطلق عليها لفظ كل تنزيلاً للغالب منزلة الكل.
فإن قيل: لم نكر الماء في قوله تعالى {من ماء} وعرفه في قوله تعالى {من الماء كل شيء حي} (الأنبياء، 30)
؟ أجيب: بأنه جاء ههنا منكراً لأن المعنى خلق كل دابة من نوع من الماء مختصاً بتلك الدابة، وعرفه في قوله تعالى: {من الماء كل شيء حيّ}؛ لأن المقصود هناك كونهم مخلوقين من هذا الجنس، وههنا بيان أن ذلك الجنس.
(6/155)
---(1/2778)
ينقسم إلى أنواع كثيرة {فمنهم} أي: الدواب {من يمشي على بطنه}. كالحية والحيتان والديدان واستعير المشي للزحف على البطن كما قالوا في الأمر المستمر: قد مشى هذا الأمر ويقال فلان ما مشى له أمر أو سمي بذلك للمشاكلة بذكر الزاحف مع الماشي {ومنهم من يمشي على رجلين} أي: فقط كالآدمي والطير {ومنهم من يمشي عل أربع} أي: من الأيدي والأرجل كالنعم والوحش فإن قيل: لم حصر القسمة في هذه الثلاثة أنواع من المشي، وقد نجد من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب والعقارب والحيوان الذي له أربع وأربعون رجلاً الذي يسمى دخال الأذن؟ أجيب: بأن هذا القسم الذي لم يذكر كالنادر، فكان ملحقاً بالعدم، وقال النقاش: إنه اكتفى بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر من أربع؛ لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع وهي قوائم مشيه وكثرة الأرجل لبعض الحيوان زيادة في الخلقة لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها وبأن قوله تعالى: {يخلق الله ما يشاء} كالتنبيه على سائر الأقسام فإن قيل: لم جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب؟.
أجيب: بأنه قدم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشي من أرجل أو قوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع.
(6/156)
---(1/2779)
تنبيه: إنما أطلق من على غير العاقل لاختلاطه بالعاقل في المفصل بمن، وهو كل دابة وكان التعبير بمن أولى ليوافق اللفظ،ولما كانت هذه الأدلة ناظرة إلى البعث أتم نظر وكانوا منكرين له أكد ذلك بقوله تعالى: {إن الله} أي: الذي له الكمال المطلق {على كل شيء} من ذلك وغيره {قدير} لأنه القادر على الكل والعالم بالكل، فهو المطلع على أحوال هذه الحيوانات، فأي عقل يقف عليها، وأي خاطر يصل إلى ذرة من أسرارها؛ بل هو الذي يخلق ما يشاء كيف يشاء، ولا يمنعه منه مانع، ولما اتضح بهذا ما لله تعالى من صفات الكمال والتنزه عن كل شائبة نقص وقامت أدلة الوحدانية على ساق واتسقت براهين الألوهية أيّ اتساق؛ قال تعالى مترجماً لتلك الأدلة:
(6/157)
---
{لقد أنزلنا} أي: في هذه السورة وما تقدمها بما لنا من العظمة {آيات} أي: مما لنا من الحكم والأحكام والأدلة والأمثال {مبينات} للحقائق بأنواع الدلائل التي لا خفاء فيها {والله} أي: الملك الأعظم {يهدي من يشاء} من عباده {إلى صراط} طريق {مستقيم} هو دين الإسلام الموصل إلى دار الحق والفوز بالجنة، ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد أتبعه بذم قوم اعترفوا بالدين بألسنتهم ولكنهم لم يفعلوه بقلوبهم، فقال تعالى:(1/2780)
{ويقولون} أي: الذين ذمهم الله تعالى: {آمنا بالله} أي: الذي أوضح لنا جلاله وعظمته وكماله {وبالرسول} أي: الذي علمنا كمال رسالته وعمومها بما قام عليها من الأدلة {وأطعنا} أي: وأوجدنا الطاعة لله ولرسوله، ثم عظم المخالفة بين الفعل والقول بأداة البعد فقال تعالى: {ثم يتولى} أي: يرتد بإنكار القلب، ويعرض عن طاعة الله ورسوله ضلالاً منهم عن الحق {فريق منهم} أي: ناس يقصدون الفرقة من هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة {من بعد ذلك} أي: القول السديد المؤكد مع الله الذي هو أكبر من كل شيء، ومع رسوله الذي هو أشرف الخلائق {وما أولئك} أي: البعداء البغضاء الذين صاروا بتوليهم في محل البعد {بالمؤمنين} أي: المعهودين الموافقة قلوبهم ألسنتهم فإن قيل: إنه تعالى حكى عن كلهم أنهم يقولون: آمنا، ثم حكى عن فريق منهم التولي، فكيف يصح أن يقول في جميعهم: وما أولئك بالمؤمنين مع أن المتولي فريق؟ أجيب: بأن قوله تعالى: {وما أولئك بالمؤمنين} راجع إلى الذين تولوا لا إلى الجملة الأولى، ولو رجع إلى الجملة الأولى لصح، ويكون معنى قوله تعالى: {ثم يتولى فريق منهم} أي: يرجع عن هذا الفريق إلى الباقي، فيظهر بعضهم لبعض الرجوع كما أظهروه بينهم، ولما فضحهم بما أخفوه من توليهم قبح عليهم ما أظهروه فقال تعالى معبراً بأداةالتحقيق:
n
(6/158)
---
{وإذا دعوا} أي: الفريق الذين ادعوا الإيمان من أيّ داعٍ كان {إلى الله} أي: إلى ما نصب الملك الأعظم من أحكامه {ورسوله} وأفرد الضمير في قوله تعالى: {ليحكم} وقد تقدمه اسمان وهما الله ورسوله، فهو كقوله تعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة، 62)
؛ لأن حكم رسوله هو حكمه. قال الزمخشري: كقولك: أعجبني زيد وكرمه، تريد كرم زيد ومنه قوله:
*ومنهل من الفلافي أوسطه
** غلسته قبل القطا وفرّطه(1/2781)
أي: قبل فرط القطا {بينهم} أي: بما أراه الله {إذا فريق منهم} أي: ناس مجبولون على الأذى {معرضون} أي: فاجؤوا الإعراض إذا كان الحق عليهم لعلمهم بأنك لا تحكم لهم وهو شرح للتولي ومبالغة فيه.
{وإن يكن لهم} أي: على سبيل الفرض {الحق} أي: بلا شبهة {يأتوا إليه} أي: الرسول {مذعنين} أي: منقادين لعلمهم بأنه يحكم لهم لأنهم يعلمون أنه دائر مع الحق لهم وعليهم، فليس انقيادهم لطاعة الله ورسوله.
تنبيه: قوله تعالى: {إليه} يجوز تعليقه بيأتوا لأن أتى وجاء قد يتعديان بإلى، ويجوز أن يتعلق بمذعنين؛ لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة، وصححه الزمخشري قال: لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص ومذعنين حال، ثم قسم تعالى الأمر في عدولهم عن حكومته صلى الله عليه وسلم إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب بقوله تعالى:
(6/159)
---
{أفي قلوبهم مرض} أي: نوع فساد من أصل الفطرة يحملهم على الضلال، أو مرتابين في نبوته بقوله تعالى: {أم ارتابوا} أي: بأن رأوا منك تهمة فزالت ثقتهم ويقينهم بك أو خائفين الحيف في قضائه بقوله تعالى: {أم يخافون أن يحيف} أي: يجور {الله} أي: الغني عن كل شيء لأن له كل شيء {عليهم ورسوله} أي: الذي لا ينطق عن الهوى، ثم أضرب عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم الأول بقوله تعالى: {بل أولئك} أي: البعداء البغضاء {هم الظالمون} أي: الكاملون في الظلم، ووجه التقسيم أن امتناعهم إما لخلل فيهم أو في الحاكم، والثاني: إما أن يكون محققاً عندهم أو متوقعاً، وكل منهما باطل لأن منصب نبوته وفرط أمانته تمنعه فتعين الأول فظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف وضمير الفصل لنفي ذلك عن غيرهم فإن قيل: إذا خافوا أن يحيف الله عليهم ورسوله فقد ارتابوا في الدنيا، وإذا ارتابوا ففي قلوبهم مرض والكل واحد فأي فائدة في التعديد؟(1/2782)
أجيب: بأن قوله تعالى: {في قلوبهم مرض} أشار به إلى النفاق، وقوله تعالى: {أم ارتابوا} إشارة إلى أنهم بلغوا في حب الدنيا حيث يتركون الدين بسببه فإن قيل: هذه الثلاثة متغايرة ولكنها متلازمة فكيف أدخل عليها كلمة أم؟ أجييب بأنه تعالى نبههم على كل واحد من هذه الأوصاف فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق وكان فيها شك وارتياب وكانوا يخافون الحيف من الرسول، وكل واحد من ذلك كفر ونفاق، واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فقال مقاتل: نزلت في بشر المنافق وكان قد خاصم يهودياً في أرض، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقال المنافق: نتحاكم إلى كعب بن الأشرف فإن محمداً يحيف علينا، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقد مضت قصتها في سورة النساء.
(6/160)
---
وقال الضحاك: نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي رضي الله تعالى عنه أرض تقاسماها فوقع إلى علي ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة فقال المغيرة: بعني أرضك فباعه إياها وتقابضا، فقيل للمغيرة: أخذت سبخة لا ينالها الماء، فقال لعلي: اقبض أرضك فإنما أشتريتها إن رضيتها ولم أرضها، فقال علي: بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها وعرفت حالها لا أقبلها منك، ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المغيرة: أما محمد فلا نأتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف عليّ، فنزلت الآية.
وقال الحسن: نزلت في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر، ولما نفى تعالى عنهم الإيمان الكامل بما وصفهم به كان كأنه سئل عن حال المؤمنين، فقال تعالى:(1/2783)
{إنما كان} أي: دائماً {قول المؤمنين} أي: العريقين في ذلك الوصف {إذا دعوا} أي: من أي داع كان {إلى الله} أي: إلى ما أنزل الملك الذي لا كفء له من أحكامه {ورسوله} الذي لا ينطق عن الهوى {ليحكم} أي: الرسول {بينهم} بما أراه الله تعالى أي حكومة من الحكومات لهم أو عليهم {أن يقولوا سمعنا} أي: الدعاء {وأطعنا} أي: بالإجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وهذا ليس على طريق الخبر ولكنه تعليم أدب الشرع بمعنى أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا هكذا {وأولئك} أي: العالوا الرتبة {هم المفلحون} الذين وصفهم الله تعالى في أول المؤمنين، وهذا يدل على عادته تعالى في اتباع ذكر المحق المبطل والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي، ولما رتب تعالى الفلاح على هذا النوع الخاص أتبعه عموم الطاعة بقوله تعالى:
(6/161)
---
{ومن يطع الله} أي: الذي له الأمر كله {ورسوله} أي: فيما ساءه وسره {ويخش الله} أي: فيما صدر عنه من الذنوب في الماضي ليحمله ذلك على كل خير {ويتقه} أي: الله فيما بقي من عمره بأن يجعل بينه وبين ما يسخطه وقاية من المباحات فيتركها ورعاً {فأولئك} أي: العالوا الرتبة {هم الفائزون} بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من النعيم المقيم، وعن ابن عباس في تفسير هذه الآية ومن يطع الله في فرائضه ورسوله في سننه ويخش الله على ما مضى من ذنوبه ويتقه فيما يستقبل، وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت عليه هذه الآية.
وقرأ أبو عمرو وشعبة وخلاد ويتقه بسكون الهاء بخلاف عن خلاد وقالون باختلاس كسرة الهاء وحفص بسكون القاف، وقصر كسرة الهاء، والباقون وخلاد في أحد وجهيه بإشباع كسرة الهاء، ولما ذكر تعالى ما رتب على الطاعة الظاهرة التي هي دليل الانقياد الباطن ذكر حال المنافقين بقوله تعالى:
(6/162)
---(1/2784)
{وأقسموا بالله} أي: الذي له الكمال المطلق، وقوله تعالى: {جهد أيمانهم} مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها، وذلك إذا بالغ في اليمين وبلغ غاية شدتها ووكادتها، وعن ابن عباس: من قال بالله فقد بالغ في اليمين، وبلغ غاية شدتها {لئن أمرتهم} أي: أمر من الأمور {ليخرجن} مما هم متلبسون به من خلافه كائناً ما كان، وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أينما كنت نكن معك لئن خرجت خرجنا ولئن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا، فقال الله تعالى: {قل} أي: لهم {لا تقسموا} أي: لا تحلفوا فإن العلم بما أنتم عليه لا يحتاج إلى الإقسام، وههنا قد تم الكلام، ولو كان قسمهم صادقاً لما نهوا عنه؛ لأن من حلف على القيام بالبر لا ينهى عنه، فثبت أن قسمهم كان لنفاقهم، وكان باطنهم يخالف ظاهرهم، ومن نوى الغدر لا الوفاء فقسمه قبيح؛ قال المتنبي:
*وفي اليمين على ما أنت واعده
** ما دل أنك في الميعاد متهم
وفي رفع قوله تعالى: {طاعة معروفة} ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره أمرنا طاعة أو المطلوب طاعة، ثانيها: أنه مبتدأ والخبر محذوف، أي: أمثل أو أولى أو خير أي: طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وسلم خير من قسمكم الذي لا تصدقون فيه، ثالثها: طاعة مبتدأ أي: هذه الحقيقة ومعروفة هو الخبر أي: معروفة منكم ومن غيركم وإرادة الحقيقة هو الذي سوغ الابتداء بها مع تنكير لفظها؛ لأن العموم الذي تصلح له قد تخصص بإرادة الحقيقة كما قالوه في أعرف المعارف.
(6/164)
---(1/2785)
والمعنى أن الطاعة وإن اجتهد العبد في إخفائها لا بد أن تظهر مخايلها عل شمائله، وكذا المعصية؛ لأنه «ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها» رواه الطبراني عن عثمان، وعن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: لو أن رجلاً دخل بيتاً في جوف بيت فأدى هناك عملاً أوشك الناس أن يتحدثوا به، وما من عامل عمل عملاً إلا كساه الله رداء عمله إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر، وعن سعيد: لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوّة لخرج عمله للناس كائناً من كان {إن الله} أي: الذي له الإحاطة بكل شيء {خبير بما تعملون} أي: لا يخفى عليه شيء من سرائركم فإنه فاضحكم لا محالة، ومجازيكم على نفاقكم، ولما نبه الله تعالى على خداعهم، وأشار إلى عدم الاغترار بإيمانهم أمر بترغيبهم وترهيبهم مشيراً إلى الإعراض عن عقوبتهم بقوله تعالى:
(6/165)
---(1/2786)
{قل} أي: لهم {أطيعوا الله} أي: الذي له الكمال المطلق {وأطيعوا الرسول} أي: الذي له الرسالة المطلقة ظاهراً وباطناً، وقوله تعالى: {فإن تولوا} أي: عن طاعته بحذف إحدى التاءين خطاب لهم أي: فإن تتولوا فما ضررتموه، وإنما ضررتم أنفسكم {فإنما عليه} أي: محمد صلى الله عليه وسلم {ما حمل} أي: ما حمله الله تعالى من أداء الرسالة، وإذا أدّى فقد خرج من عهدة التكليف {وعليكم} أي: وأما أنتم فعليكم {ما حملتم} أي: ما كلفتم من التلقي بالقبول والإذعان، فإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرضتم أنفسكم لسخط الله وعذابه، وإن أطعتموه فقد أحرزتم نصيبكم من الخروج عن الضلالة إلى الهدى، فالنفع والضر عائد إليكم {وإن تطيعوه} بالإقبال على كل ما يأمركم به {تهتدوا} أي: إلى كل خير {وما على الرسول} أي: من جهة غيره {إلا البلاغ} أي: وما الرسول إلا ناصح وهاد، وما عليه إلا أن يبلغ ما له نفع في قبولكم، ولا عليه ضرر في توليتكم، والبلاغ بمعنى التبليغ كالأداء بمعنى التأدية، ومعنى {المبين} كونه مقروناً بالآيات والمعجزات. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال على المنبر: «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب»، وقال أبو أمامة الباهلي: عليكم بالسواد الأعظم، فقال رجل: ما السواد الأعظم؟ فنادى أبو أمامة هذه الآية في سورة النور، فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم، وقوله تعالى:
(6/166)
---(1/2787)
{وعد الله} أي: الذي له الإحاطة بكل شيء {الذين آمنوا منكم وعملوا} أي: تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة أو له ولمن معه ومن للبيان، ثم أكد غاية التأكيد بلام القسم لما عند أكثر الناس من الريب في ذلك بقوله تعالى: {ليستخلفنهم في الأرض} أي: أرض العرب والعجم بأن يمد زمانهم وينفذ أحكامهم، فيجعلهم متصرفين في الأرض تصرف الملوك في مماليكهم {كما استحلف الذين من قبلهم} أي: من الأمم من بني إسرائيل وغيرهم من كل من حصلت له مكنة وظفر على الأعداء بعد الضعف الشديد كما كتب في الزبور أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، وكما قال موسى عليه السلام : إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، وقرأ أبو بكر بضم التاء الفوقية وكسر اللام، والباقون بفتح التاء واللام {وليمكنن لهم} أي: في الباطن والظاهر {دينهم الذي ارتضى لهم} وهو دين الإسلام، وتمكينه تثبيته وتوكيده، وأضافه إليهم إشارة إلى رسوخ أقدامهم فيه، وأنه الذي لا ينسخ، ولما بشرهم بالتمكين أشار لهم إلى مقداره بقوله تعالى: {وليبدلنهم من بعد خوفهم} أي: الذي كانوا عليه {أمنا} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين، ولما هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى قال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح، فقال صلى الله عليه وسلم «لا تصبرون إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليس فيه حديدة» وأنجز الله تعالى وعده وأظفرهم على جزيرة العرب، وافتتحوا بعض بلاد المشرق والمغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم، واستولوا على الدنيا واستعبدوا أبناء القياصرة وتمكنوا اشرقاً وغرباً مكنة لم تحصل قبلهم لأمة من الأمم، كما قال صلى الله عليه وسلم «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها»، ولما قتلوا عثمان رضي الله عنه وخرجوا على عليّ(1/2788)
(6/167)
---
ثم ابنه الحسن نزع الله ذلك الأمر كما أشير إليه بمن، وتنكير أمنا، وجاءالخوف واستمر يتطاول ويزداد قليلاً قليلاً إلى أن صار في زماننا هذا إلى أمر عظيم، وذلك تصديق لقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم يملك الله من يشاء، فتصير ملكاً ثم تصير بزيزي قطع سبيل وسفك دماء وأخذ أموال بغير حقها»، والثلاثون: خلافة أبي بكر سنتان، وخلافة عمر عشرة، وخلافة عثمان اثنا عشر، وخلافة علي ستة، والبِزَّيزي بكسر الباء وتشديد الزاي الأولى، والقصر السلب والتغلب، وقوله: قطع سبيل إما عطف بيان لقوله: نصب بِزَّيزي، أو بدل منه، وقرأ ابن كثير وأبو بكر بسكون الباء الموحدة وتخفيف الدال، والباقون بفتح الموحدة وتشديد الدال، ثم أتبع ذلك بنتيجته بقوله تعالى تعليلاً للتمكين وما معه {يعبدونني} أي: وحدي، وقوله تعالى: {لا يشركون بي شيئاً} حال من الواو أي: يعبدونني غير مشركين فإن قيل: فما محل يعبدونني؟ أجيب: بأنه مستأنف لا محل له كأن قائلاً قال ما لهم مستخلفين ويؤمنون؟ فقال: يعبدونني ويجوز أن يكون حالاً عن وعدهم أي: وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلافهم فمحله النصب، ولما كان التقدير فمن ثبت على دين الإسلام وانقاد لأحكامه واستقام، نال هذه البشرى عطف عليه قوله تعالى: {ومن كفر} أي: ارتد وكفر هذه النعمة {بعد ذلك} أي: بعد الوعد أو الخلافة {فأولئك} أي: البعداء من الخير {هم الفاسقون} أي: الخارجون عن الدين خروجاً كاملاً لا يقبل معه معذرة، ولا يقال لصاحبه عثرة، بل تقام عليهم الأحكام بالقتل وغيره، ولا يراعى منهم ملام ولا تؤخذ بهم رأفة عند انتقام كما تقدم أول السورة فيمن لزمه الجلد، وقيل: المراد بالكفر كفران النعمة لا الكفر بالله، وقوله تعالى: {فأولئك هم الفاسقون} أي: العاصون لله، وقوله تعالى:
{
(6/168)
---(1/2789)
وأقيموا الصلاة} أي: فإنها قوام ما بينكم وبين ربكم معطوف على أطيعوا الله وأطيعوا الرسول؛ قال الزمخشري: وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل وإن طال؛ لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه {وآتوا الزكاة} فإنها نظام ما بينكم وبين إخوانكم {وأطيعوا الرسول} أي: في كل حال يأمركم به، وكررت طاعة الرسول تأكيداً لوجوبها {لعلكم ترحمون} أي: لتكونوا على رجاء من الرحمة ممن لا راحم في الحقيقة غيره. والفاعل في قوله تعالى:
{لا تحسبن} ضمير المخاطب أي: لا تحسبن أيها المخاطب {الذين كفروا} أي: وإن ازدادت كثرتهم على العدِّ وتجاوزت عظمتهم الحدّ {معجزين} أي: لأهل ودنا، وقيل: لنا {في الأرض} أي: فإنهم مأخوذون لا محالة، وقرأ ابن عامر وحمزة، بالياء على الغيبة قال النحاس: ما علمت أحداً من أهل العربية بصرياً ولا كوفياً إلا وهو يلحن قراءة حمزة فمنهم من يقول: هي لحن؛ لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ليحسبن، وأجيب عن ذلك من وجهين: أحدهما: أن المفعول الأول محذوف تقديره: ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين إلا أن حذف أحد المفعولين ضعيف عند البصريين، ومنه قول عنترة:
*ولقد نزلت فلا تظني غيره
** مني بمنزلة المحب المكرم
أي: فلا تظني غيره واقعاً.
والثاني: أن المفعولين هما قوله: {معجزين في الأرض} قاله الكوفيون، وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب، وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة، وكسرها الباقون، وقوله تعالى: {ومأواهم النار} أي: مسكنهم معطوف على لا تحسبن الذين كفروا معجزين، كأنه قيل: الذين كفروا لا يفوتون أهل ودنا أو لا يفوتوننا ومأواهم النار المراد بهم المقسمون عليه بالله جهد أيمانهم، ولما كانت سكنى الشيء لا تكون إلا بعد المصير إليه، قال تعالى: {ولبئس المصير} أي: المرجع مصيرها، فكيف إذا كان على وجه السكنى؟ واختلف في سبب نزول قوله تعالى:
(6/169)
---(1/2790)
{يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} الآية، فقال ابن عباس: وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً من الأنصار يقال له: مدلج بن عمرو إلى عمر رضي الله تعالى عنه وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك، فنزلت.
وقال مقاتل: نزلت في أسماء بنت مرثد كان لها غلام كبير، فدخل عليها في وقت فكرهته فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فنزلت، واللام في {ليستأذنكم} للأمر، وملك اليمين يشمل العبيد والإماء. قال بعض المفسرين: هذا الخطاب وإن كان ظاهره للرجال، فالمراد به الرجال والنساء؛ لأن التذكير يغلب على التأنيث قال الرازي: والأولى عندي أن الحكم ثابت في النساء بقياس جلي؛ لأن النساء في باب العورة أشد حالاً من الرجال، فهو كتحريم الضرب بالقياس على حرمة التأفيف، وقال ابن عباس: هي في الرجال والنساء أي: البالغين أو من قاربوا البلوغ يستأذنون على كل حال في الليل والنهار للدخول عليكم كراهة الاطلاع على عوراتكم والتطرق بذلك إلى مساءتكم، واختلف العلماء في هذا الأمر فقيل: للندب، وقيل: للوجوب، واستظهر {والذين} أي: وليستأذنكم الذين ظهروا على عورات النساء، ولكنهم {لم يبلغوا الحلم} وقيده بقوله تعالى: {منكم} ليخرج الكفار والأرقاء، وعبر عن البلوغ بالاحتلام؛ لأنه أقوى دلائله {ثلاث مرات} في اليوم والليلة، وقيل: ثلاث استئذانات في كل مرة، فإن لم يحصل الإذن رجع المستأذن كما تقدم المرّة الأولى من الأوقات الثلاث {من قبل صلاة الفجر}؛ لأنه وقت القيام من المضاجع، وطرح ثياب النوم {و} المرّة الثانية {حين تضعون ثيابكم} أي: التي للخروج بين الناس {من الظهيرة} أي: شدة الحرّ، وهو انتصاف النهار {و} المرّة الثالثة {من بعد صلاة العشاء}؛ لأنه وقت الانفصال من ثياب اليقظة والاتصال بثياب النوم، وخص هذه الأوقات؛ لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب
(6/170)(1/2791)
---
والالتحاف باللحاف، وأثبت من في الموضعين دلالة على قرب الزمن من الوقت المذكور لضبطه، وأسقطها في الأوسط دلالة على استغراقه؛ لأنه غير منضبط، ثم علل بقوله تعالى: {ثلاث عورات} أي: اختلالات في التستر والتحفظ {لكم}؛ لأنها من ساعات وضع الثياب والخلوة؛ قال البيضاوي: وأصل العورة الخلل، ومنها اعورَّ المكان، ورجل أعور إذا بدا فيه خلل انتهى.
وسميت هذه الأوقات عورات؛ لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فربما تبدو عورته، وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي في الوصل ثلاث بالنصب بتقدير أوقات منصوباً بدل من محل ما قبله قام المضاف إليه مقامه، والباقون بالرفع على أنها خبر مبتدأ مقدر بعده مضاف، وقام المضاف إليه مقامه أي: هي أوقات، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده، ثم بين سبحانه وتعالى حكم ما عدا ذلك بقوله تعالى مستأنفاً {ليس عليكم} أي: في ترك الأمر {ولا عليهم} أي: المماليك والصبيان في ترك الاستئذان {جناح} أي: إثم وأصله الميل في الدخول عليكم في جميع الساعات {بعدهن} أي: بعد هذه الأوقات الثلاثة إذا هجموا عليكم، ثم علل الإباحة في غيرها مخرجاً لغيرهم بقوله تعالى: {طوّافون عليكم} أي: لعمل ما تحتاجون في الخدمةكما أنتم طوافون عليهم لعمل ما يصلحهم ويصلحكم في الاستخدام {بعضكم} طوّاف {على بعض} لعمل يعجز عنه الآخر أو يشق عليه فلو عم الأمر بالاستئذان لأدى إلى الحرج.
(6/171)
---(1/2792)
فإن قيل: بما رفع {بعضكم على بعض}؟ أجيب: بأنه رفع بالابتداء وخبره على بعض أي: طوّاف على بعض، وحذف؛ لأنّ طوافون يدل عليه، ويجوز أن يرتفع بيطوف مضمراً لتلك الدلالة {كذلك} أي: كما بين ما ذكر {يبين الله} أي: بما له من إحاطة العلم والقدرة {لكم} أيتها الأمة {الآيات} في الأحكام وغيرها بعلمه وحكمته {والله} أي: الذي له الإحاطة العامةبكل شيء {عليم} بكل شيء {حكيم} فيما يريده، فلا يقدر أحد على نقضه، وختم الآية بهذا الوصف يدل على أنها محكمة لم تنسخ، واختلف في ذلك فقال الزمخشري: عن ابن عباس أنه قال: آية لا ىؤمن بها أكثر الناس آية الأذن، وإني لآمر جاريتي أي: زوجتي أن تستأذن علي، وسأله عطاء: أستأذن على أختي؟ قال: نعم وإن كانت في حجرك تمونها، وتلا هذه الآية، وعنه ثلاث آيات جحدهنّ الناس؛ الإذن كله، وقوله تعالى: {إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم} فقال الناس: أعظمكم بيتاً، وقوله: {وإذا حضر القسمة}، وعن ابن مسعود: عليكم أن تستأذنوا على آبائكم وأمهاتكم وأخواتكم، وعن الشعبي: ليست منسوخة، فقيل له: إن الناس لا يعملون بها، فقال: الله المستعان، وعن سعيد بن جبير: إن الناس يقولون: هي منسوخة والله ما هي منسوخة، ولكن الناس تهاونوا بها، وقال قوم: هي منسوخة.l
روى البغوي عن ابن عباس أنه قال: لم يكن للقوم ستر، ولا حجاب فكان الخدم والولائد يدخلون، فربما يرون منهم ما لا يحبون، فأمروا بالاستئذان، وقد بسط الله الرزق واتخذ الناس الستور، فلعل الرواية اختلفت عن ابن عباس، ولما بيّن تعالى حكم الصبيان والأرقاء الذين هم أطوع للأمر، وأقبل لكل خبر أتبعه حكم البالغين من الأحرار بقوله تعالى:
(6/172)
---(1/2793)
{وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم} أي: إذا بلغ أطفالكم الأحرار بلوغ السن الذي يكون فيه إنزال المني سواء رأى منياً أم لا، واختلف في ذلك السن، فقال عامة العلماء: هو خمس عشرة سنة، أي: قمرية تحديدية لا فرق في ذلك بين الذكر وغيره، وقال أبو حنيفة: هو ثماني عشرة سنة في الغلام، وسبع عشرة سنة في الجارية، وعن علي رضي الله عنه: أنه تعتبر القامة وتقدر بخمسة أشبار، وبه أخذ الفرزدق في قوله:
*ما زال مذ عقدت يداه إزاره
** وسما فأدرك خمسة الأشبار
(6/173)
---(1/2794)
واعتبر غيره الإنبات أي: للعانة، وعن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه سأل عن غلام له فقال: هل اخضر إزاره، أي: نبت شعر عانته؟ فأسند الاخضرار إلى الإزار على المجاز، ولأنه مما اشتمل عليه الإزار، ونبات العانة الخشن عندنا علامة على بلوغ ولد الكافر فقط أما إذا رأى المني في وقت إمكانه وهو استكمال تسع سنين قمرية فإنا نحكم ببلوغه سواء كان ذكراً أم أنثى مسلماً أم كافراً، وأما الخنثى فلا بدّ أن يمني من فرجيه أو يحيض بالفرج، ويمني من الذكر {فليستأذنوا} أي: على غيرهم في جميع الأوقات {كما استأذن الذين من قبلهم} أي: من الأحرار الكبار الذين جعلوا قسيماً للمماليك، فلا يدخل في ذلك الأرقاء، فلا يستدل بذلك على أن العبد البالغ يستأذن على سيدته، وقيل: المراد الذين كانوا مع إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام {كذلك} أي: كما بين لكم ما ذكر {يبين الله} أي: الذي له الإحاطة والقدرة {لكم}أيتها الأمة {آياته} أي: دلالاته {والله} أي: الذي يعلم السر وأخفى {عليم} أي: بأحوال خلقه {حكيم} أي: فيما دبر لهم، قال سعيد بن المسيب: يستأذن الرجل على أمه، فإنما أنزلت هذه الآية في ذلك، وسئل حذيفة: أيستأذن الرجل على والدته؟ فقال: نعم إن لم تفعل رأيت منها ما تكره، وعن أنس قال: لما كانت صبيحة يوم احتلمت دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أني قد احتلمت، فقال: «لا تدخل على النساء فما أتى علي يوم كان أشد منه». ولما ذكر تعالى إقبال الشباب في تعيين حكم الحجاب أتبعه الحكم عند إدبار الشباب في اتقاء الظاهر من الشباب بقوله تعالى:
(6/174)
---(1/2795)
{والقواعد من النساء} أي: اللاتي قعدن عن الولد والحيض من الكبر، فلا يلدن ولا يحضن، واحدتهن قاعد بلا هاء، وقيل: قعدن عن الأزواج وهو معنى قوله: {اللاتي لا يرجون نكاحاً} أي: لا يردن الرجال لكبرهن، قال ابن منبه: سميت المرأة قاعداً إذا كبرت؛ لأنها تكثر القعود، وقال ربيعة: هن العجز اللواتي إذا رآهن الرجل استقذرهن، فأما من كان فيها بقية من جمال وهي محل الشهوة فلا تدخل في هذه الآية {فليس عليهن جناح} أي: حرج في {أن يضعن ثيابهن} أي: الظاهرة فوق الثياب الساترة بحضرة الرجال كالجلباب والرداء والقناع فوق الخمار، أما الخمار فلا يجوز وضعه لما فيه من كشف العورة {غير متبرجات بزينة} أي: من غير أن يردن بوضع الجلباب والرداء إظهار زينتهن، ثم إن الزينة الخفية في قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} أو غير قاصدات بالوضع التبرج، والتبرج هو أن تظهر المرأة محاسن ما ينبغي لها أن تستره، ولما ذكر الله تعالى الجائز عقبه بالمستحب بعثاً منه على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها بقوله تعالى: {وأن يستعففن} أي: فلا يلقين الرداء أو الجلباب {خير لهن} من الإلقاء كقوله تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى}، {وأن تصدقوا} لأنه أبعد عن التهمة {والله} أي: الذي جلت عظمته {سميع} لقولكم {عليم} بما في قلوبكم، واختلف في سبب نزول قوله تعالى:
(6/175)
---(1/2796)
{ليس على الأعمى حرج} أي: في مؤاكلة غيره {ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج} كذلك، فقال ابن عباس لما أنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}: تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمني والعمى والعرج، وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لا يتمكن من الجلوس ولا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض يضعف عن التناول فلا يستوفي من الطعام حقه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعلى هذا تكون على بمعنى في؛ أي: ليس في الأعمى أي: ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض حرج.
وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما: كان العرجان والعميان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء؛ لأن الناس يستقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم، وعن عكرمة: كانت الأنصار في أنفسها قزازة فكانت لا تأكل من هذه البيوت إذا استغنوا، وكان هؤلاء يقولون: الأعمى ربما أكل أكثر، وربما سبقت يده إلى ما سبقت عين آكليه إليه، وهو لا يشعر، والأعرج ربما أخذ في مجلسه مكان اثنين فيضيق على جليسه،و المريض لا يخلو من رائحة تؤذي أو جرح يبض أو نحو ذلك فنزلت، وقال مجاهد: نزلت الآية ترخيصاً لهؤلاء في الأكل من بيوت من سمى الله في هذه الآية، وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون محل الرجل لطلب الطعام، فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيت أبيه وبيت أمه، وبعض من سمى الله تعالى في هذه الآية، فكان أهل الزمانة يتحرجون من هذا الطعام ويقولون: ذهب بنا إلى بيت غيره فنزلت الآية.
(6/176)
---(1/2797)
وقال سعيد بن المسيب: كان المسلمون إذا غزوا غلقوا منازلهم ويدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون: لا ندخلها وهم غيب، فأنزل الله تعالى هذه الآية رخصة لهم، وقال الحسن: نزلت رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد، وقال: تم الكلام عند قوله تعالى: {ولا على المريض حرج}، وقوله تعالى: {ولا على أنفسكم أن تأكلوا في بيوتكم} كلام مستأنف منقطع عما قبله فإن قيل: أي فائدة في إباحة أكل الإنسان طعاماً في بيته؟ أجيب: بأن المراد من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم فيدخل فيه بيوت الأولاد؛ لأن بيت ولده كبيته؛ قال صلى الله عليه وسلم «أنت ومالك لأبيك»، وقال صلى الله عليه وسلم «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه»، وقيل لما نزل قوله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} ()
(6/177)
---(1/2798)
قالوا: لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فأنزل الله تعالى: {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم} أي: لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم {أو بيوت آبائكم} أي: وإن بعدت أنسابهم قال البقاعي: ولعله جمع لذلك فإنها مرباكم وحرمتها حرمتكم {أو بيوت أمهاتكم} كذلك وقدم الأب؛ لأنه أجل وهو حاكم بيته دائماً والمال له {أو بيوت إخوانكم} أي: من الأبوين أو الأب أو الأم بالنسب أو الرضاع، فإنهم من أولى من رضي بذلك بعد الوالدين؛ لأنهم منكم، وهم أولياء بيوتهم {أو بيوت أخواتكم}، فإنهن بعدهم من أولي البيت، فإن كن مزوجات فلا بد من إذن الزوج {أو بيوت أعمامكم} فإنهم شقائق آبائكم سواء كانوا أشقاء أو لأب أم لأم، ولو أفرد العم لتوهم أنه الشقيق فقط، فإنه أحق بالاسم {أو بيوت عماتكم} فإنهن بعد الأعمام لضعفهن؛ ولأنهن ربما كان أولياء بيوتهن الأزواج {أو بيوت أخوالكم} لأنهم شقائق أمهاتكم {أو بيوت خالاتكم} أخرهن لما ذكر في العمات {أو ما ملكتم مفاتحه} قال ابن عباس: عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته، ولا يحمل ولا يدخر، وملك المفاتح كونها في يده وحفظه، وقال الضحاك: يعني من بيوت عبيدكم ومماليككم؛ لأن السيد يملك منزل عبده والمفاتح الخزائن بقوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} ()
(6/178)
---(1/2799)
ويجوز أن تكون الذي يفتح به، وقال عكرمة: إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير، وقال السدي: الرجل يولي طعام غيره ويقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه، وقيل: أو ما ملكتم مفاتحه ما خزنتموه عندكم، وقال مجاهد وقتادة: من بيوت أنفسكم مما ادخرتم وملكتم {أو صديقكم} أي: أو بيوت أصدقائكم، والصديق هو الذي صدق في المودة ويكون واحداً وجمعاً، وكذا الخليط والقطين والعدو قال ابن عباس: نزلت في الحرث بن عمرو خرج غازياً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف مالك بن زيد على أهله فلما رجع وجده مجهوداً فسأله عن حاله فقال: تحرجت أكل طعامك بغير إذنك، فأنزل الله هذه الآية. يحكى عن الحسن أنه دخل داره، وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالاً من تحت سريره فيها الخبيص ولطائف الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون، فتهللت أسارير وجهه سروراً وضحك وقال: هكذا وجدناهم يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين، وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء، فإذا حضر مولاها، فأخبرته أعتقها سروراً بذلك، وعن جعفر بن محمد: من عظم حرمة الصديق أن جعله الله تعالى في الأنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة بمنزلة النفس والأب والابن والأخ.
(6/179)
---(1/2800)
وعن ابن عباس: الصديق أكبر من الوالدين، إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات بل قالوا: {فمالنا من شافعين ولا صديق حميم} (،)، والمعنى يجوز الأكل من بيوت من ذكر وإن لم يحضروا إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة ظاهرة الحال، فإن ذلك يقوم مقام الإذن الصريح، ولذلك خصص هؤلاء فإنهم يعتادون التبسط بينهم وربما سمج الاستئذان وثقل كمن قدّم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل منه، فإن قيل: إذا كان ذلك لا بد فيه من العلم بالرضا فحينئذٍ لا فرق بينهم وبين غيرهم؟ أجيب: بأن هؤلاء يكفي فيهم أدنى قرينة بل ينبغي أن يشترط فيهم أن لا يعلم عدم الرضا بخلاف غيرهم لا بد فيه من صريح الإذن أو قرينة قوية، هذا ما ظهر لي ولم أرَ من تعرض لذلك، وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والأكل من طعامه بغير إذنه لهذه الآية، واحتج أبو حنيفة بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع؛ لأن الله تعالى أباح لهم الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذنهم.
فإن قيل: فيلزم أن لا يقطع إذا سرق من مال صديقه؟ أجيب: بأن من سرق من ماله لا يكون صديقاً له، وقيل: إن هذا كان أول الإسلام ثم نسخ فلا دليل له فيه، وقرأ بيوتكم وبيوت وبيوتاً ورش وأبو عمرو وحفص بضم الباء الموحدة، والباقون بالكسر، وقرأ حمزة والكسائي أمهاتكم في الوصول بكسر الهمزة، والباقون بالضم، وكسر الميم حمزة، وفتحها الباقون، ولما ذكر تعالى معدن الأكل ذكر حاله بقوله تعالى:
(6/180)
---(1/2801)
{ليس عليكم جناح} أي: إثم {أن تأكلوا جميعاً} أي: مجتمعن {أو أشتاتاً} أي: متفرقين، واختلف في سبب نزول هذه الآية، فقال الأكثرون: نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة، وكانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده فربما قعد منتظراً نهاره إلى الليل، فإن لم يجد من يؤاكله أكل ضرورة، وقال عطاء عن ابن عباس: كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته، فيدعوه إلى طعامه، فيقول: والله إني لأجنح أي: أتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير، فنزلت هذه الآية، وقال عكرمة وأبو صالح: نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم فرخص لهم في أن يأكلوا كيف شاؤوا مجتمعين أو أشتاتاً متفرقين، وقال الكلبي: كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاماً عزلوا للأعمى طعاماً وحده، وكذلك الزمن والمريض، فبين الله تعالى لهم أن ذلك غير واجب، وقيل: تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل وزيادة بعضهم على بعض.
تنبيه: {جميعاً} حال من فاعل تأكلوا، وأشتاتاً عطف عليه وهو جمع شتت، وشتى جمع شتيت وشتان تثنية شت، روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا نأكل ولا نشبع، قال: «فلعلكم تأكلون متفرقين اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه»، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا جميعاً ولا تفرقوا واذكروا اسم الله فإن البركة مع الجماعة».
ولما بين تعالى مواطن الأكل وكيفيته ذكر الحال التي عليها الداخل إلى تلك المواطن أو غيرها بقوله تعالى: {فإذا دخلتم} أي: بسبب ذلك أو غيره {بيوتاً} أي: من هذه البيوت {فسلموا على أنفسكم}أي: على أهلها الذين هم منكم ديناً وقرابة، جعل أنفس المؤمنين كالنفس الواحدة كقوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} (النساء، 29)
(6/181)
---(1/2802)
وقال ابن عباس: إذا لم يكن في البيت أحد فليقل: السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وقال قتادة: إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك، فهم أحق بالسلام ممن سلمت عليهم، وإذا دخلت بيتاً لا أحد فيه فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، حدثنا أن الملائكة ترد عليه {تحية من عند الله} أي: ثابتة بأمره مشروعة من لدنه {مباركة} أي: لأنه يرجى بها زيادة الخير والثواب {طيبة} أي: تطيب بها نفس المستمع، والتحية طلب سلامة وحياة للمسلم عليه والمحيا من عند الله، ووصفها بالبركة والطيب؛ لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله تعالى زيادة الخير وطيب الرزق، وعن أنس قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وقيل: تسع سنين، فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا قال لي لشيء تركته: لم تركته؟ وكنت واقفاً على رأسه أصب الماء على يديه، فرفع رأسه فقال: «ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بها» قلت: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال: «متى لقيت من أمتي أحداً فسلم عليه يطل عمرك وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصلِّ صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين».
تنبيه: تحية منصوب على المصدر من معنى فسلموا، فهو من باب قعدت جلوساً فكأنه قال: فحيوا تحية، وقال القفال: وإن كان في البيت أهل الذمة، فليقل: السلام على من اتبع الهدى، وكرر قوله تعالى: {كذلك يبين الله} أي: الذي أحاط علمه بكل شيء {لكم الآيات} ثالثاً لمزيد التأكيد وتفخيم الأحكام المختتمة به، وفصل الأولين بما هو المقتضي لذلك وهذا بما هو المقصود منه، فقال تعالى: {لعلكم تعقلون} أي: عن الله أمره ونهيه وأدبه، ولما كان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل موطن تجب الإقامة فيه ويهجر ما عداه من الأوطان قال تعالى:
(6/182)
---(1/2803)
{إنما المؤمنون} أي: الكاملون في الإيمان {الذين آمنوا بالله} أي: الملك الأعلى {ورسوله} أي: ظاهراً وباطناً {وإذا كانوا معه} أي: الرسول صلى الله عليه وسلم {على أمر جامع} أي: يجمعهم من حرب حضرت أو صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو تشاور في أمر نزل، ووصف الأمر بالجمع للمبالغة أو من الإسناد المجازي؛ لأنه لما كان سبباً في جمعهم نسب الفعل إليه مجازاً {لم يذهبوا} أي: يتفرقوا عنه ولم ينصرفوا عما اجتمعوا له لعذر لهم {حتى يستأذنوه} قال الكلبي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض في خطبته بالمنافقين، ويعيبهم فينظر المنافقون يميناً وشمالاً فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا، وإن أبصرهم أحد لبثوا وصلوا خوفاً، فنزلت هذه الآية، فكان المؤمن بعد نزولها لا يخرج لحاجةحتى يستأذن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكان المنافقون يخرجون بغير إذن، قال مجاهد: إن إذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده قال أهل العلم: كذلك كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن، وهذا إذا لم يكن سبب يمنعه من المقام، فإن حدث سبب يمنعه عن المقام كأن يكونوا في المسجد فتحيض منهم امرأة أو يجنب الرجل أو يعرض له مرض فلا يحتاج إلى الاستئذان، ولما كان اعتبار الإذن كالمصدق لصحة كمال الإيمان، والمميز للمخلص فيه أعاده مؤكداً على أسلوب أبلغ بقوله تعالى: {إن الذين يستأذنونك} أي: تعظيماً لك ورعاية للأدب {أولئك} أي: العالو الرتبة {الذين يؤمنون بالله} أي: الذي له الأمر كله {ورسوله} فإنه يفيد أن المستأذن مؤمن لا محالة وأن الذاهب بغير إذن ليس كذلك، ولما نص على الاستئذان تسبب عن ذلك إعلامه صلى الله عليه وسلم بما يفعل إذ ذاك بقوله تعالى: {فإذا استأذنوك لبعض شأنهم} وهو ما تشتد الحاجة إليه، {فأذن لمن شئت منهم} بالانصراف أي: إن شئت فأذن، وإن شئت فلا تأذن، ففي ذلك تفويض الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستدل به(1/2804)
(6/184)
---
على أن بعض الأحكام مفوّض إلى رأيه.
قال الضحاك ومقاتل: المراد عمر بن الخطاب وذلك «أنه استأذن في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله، فأذن له وقال: انطلق فوالله ما أنت بمنافق يريد أن يسمع المنافقون ذلك الكلام، فلما سمعوا ذلك قالوا: ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم وإذا استأذناه أبى، فوالله ما نراه يعدل»، قال ابن عباس: «إن عمر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له ثم قال: يا أبا حفص لا تنسنا من صالح دعائك»، ولما كان في الاستئذان ولو لعذر قصور؛ لأن فيه تقديماً لأمر الدنيا على أمر الدين أمره الله تعالى بأن يستغفر لهم بقوله تعالى: {واستغفر لهم الله} أي: الذي له الأمر كله بعد الإذن ليكون ذلك شاملاً لمن صحت دعواه وغيره، ثم علل ذلك ترغيباً في الاستغفار وتطييباً لقلوب أهل الأوزار بقوله تعالى: {إن الله} أي: الذي لا يخفى عليه شيء {غفور} أي: لفرطات العباد {رحيم} أي: بالتستر عليهم، ولما أظهرت هذه السورة بعمومها، وهذه الآيات بخصوصها من شرف الرسول ما أبهر العقول صرح بتفخيم شأنه وتعظيم مقامه بقوله تعالى:
(6/185)
---(1/2805)
{لا تجعلوا} أي: يا أيها الذين آمنوا {دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} قال سعيد بن جبير وجماعة: معناه: لا تنادوه باسمه فتقولوا: يا محمد، ولا بكنيته فتقولوا: يا أبا القاسم، بل نادوه وخاطبوه بالتوقير، فقولوا: يا رسول الله يا نبي الله، وعلى هذا يكون المصدر مضافاً لمفعوله، وقال المبرد والقفال: لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم لبعض، فتتباطؤون عنه كما يتباطأ بعضكم عن بعض إذا دعاه لأمر بل يجب عليكم المبادرة لأمره، ويؤيده قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} (النور، 63)، وعلى هذا يكون المصدر مضافاً للفاعل، وقال ابن عباس: احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه، فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره، وروي عنه أيضاً: لا ترفعوا أصواتكم في دعائه، وهو المراد من قوله: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله} (الحجرات، 3)، وقول المبرد كما قال ابن عادل: أقرب إلى نظم الآية.
(6/186)
---(1/2806)
ولما كان بعضهم يظهر الموافقة ويبطن المخالفة حذر من ذلك بقوله تعالى: {قد يعلم الله} أي: الذي لا تخفى عليه خافية {الذين يتسللون منكم} أي: ينسلون قليلاً قليلاً ليجعلوا ذهابهم في غاية الخفاء، ونظير تسلل تدرج وتدخل، وقوله تعالى: {لواذاً} حال أي: ملاوذين، واللواذ والملاوذة التستر يقال: لاذ فلان بكذا إذا استتر به، وقال ابن عباس: أي: يلوذ بعضهم ببعض، وذلك أن المنافقين كان يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة لا سيما في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار، وقد للتحقيق وتسبب عن علمه تعالى قوله تعالى: {فليحذر} أي: يوقع الحذر {الذين يخالفون عن أمره} أي: يعرضون عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصرفون عنه بغير إذنه، وقال أبو بكر الرازي: الضمير في أمره لله؛ لأنه يليه، وقال الجلال المحلي: أي: الله ورسوله وكلٌ صحيح، فإن مخالفة أمر أحدهما مخالفة أمر الآخر {أن} أي: لئلا {تصيبهم فتنة} قال مجاهد: بلاء في الدنيا، وعن ابن عباس: فتنة قتل، وعن عطاء: زلازل وأهوال، وعن جعفر بن محمد: يسلط الله عليهم سلطاناً جائراً {أو يصيبهم عذاب أليم} أي: وجيع في الآخرة.
تنبيه: الآية تدل على أن الأمر للوجوب؛ لأن تارك الأمور مخالف للأمر، ومخالف الأمر يستحق العذاب، ولا معنى للوجوب إلا ذلك، ولما أقام تعالى الأدلة على أنه نور السموات والأرض وختم بالتحذير لكل مخالف أنتج ذلك أن له كل شيء فقال تعالى:
(6/187)
---(1/2807)
{ألا إن لله ما في السموات والأرض} خلقاً وملكاً وعبيداً، فإن قيل: ما فائدة ذكر عبيداً بعد ملكاً؟ أجيب: عنه إنما ذكر لئلا يتوهم أن ما لما لا يعقل فقط، ولما كانت أحوالهم من جملة ما هو له، وإنها بخلقه قال تعالى: {قد يعلم ما أنتم} أي: أيها المكلفون {عليه} أي: من الموافقة والمخالفة والإخلاص والنفاق، وإنما أكد علمه بقد لتأكيد الوعيد، وذلك أنَّ قد إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى ربما، فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قول بعضهم:
*فإن تمس مهجور الفناء فربما
** أقام به بعد الوفود وفود
ونحوه يقول زهير:
*أخي ثقة لا تهلك الخمر
** ماله ولكنه قد يهلك المال نائله
والمعنى: أن جميع ما في السموات والأرض مختص به تعالى فكيف يخفى عليه أحوال المنافقين، وإن كانوا يجتهدون في سترها عن العيون وإخفائها؟ وقوله تعالى: {ويوم} أي: ويعلم يوم {يرجعون إليه} فيه التفات عن الخطاب أي: متى تكون، أو ويوم يرجع المنافقون إليه للجزاء {فينبئهم} أي: فتسبب عن ذلك أنه يخبرهم {بما عملوا} أي: من الخير والشر فيجازيهم عليه {والله} أي: الذي لا تخفى عليه خافية {بكل شيء} أي: من أعمالهم وغيرها {عليم} عن عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبويها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن الغزل وسورة النور» أخرجه أبو عبد الله في البيع في صحيحه، وأما قول البيضاوي: تبعاً للكشاف: «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقي» فهو حديث موضوع.
سورة الفرقان
مكية
إلا قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} إلى {رحيماً} فمدني، وآياتها سبع وسبعون آية، وثمانمائة واثنان وسبعون كلمة، وعدد حروفها ثلاثة آلاف وسبعمائة وثمانون حرفاً
{بسم الله} الذي له الحجة البالغة {الرحمن} الذي عم الخلق بنعمه {الرحيم} الذي وسعت رحمته كل شيء.
(6/188)
---(1/2808)
{تبارك} قال الزجاج: تفاعل من البركة وهي كثرة الخير وزيادته، ومنه تبارك الله، وفيه معنيان: تزايد خيره وتكاثر، أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، وعن ابن عباس كأن معناه جاءنا بكل بركةوخير، وقال الضحاك: تبارك تعاظم، ولا يستعمل إلا لله تعالى ولا يتصرف فيه، ثم وصف ذاته الشريفة بما يدل على ذلك بقوله تعالى: {الذي نزل الفرقان} أي: القرآن، والفرقان مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما، وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل ولأنه لم ينزل جملة واحدة، ولكن مفروقاً مفصولاً بين بعضه وبعض في الإنزال؛ ألا ترى قوله تعالى: {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث} (الإسراء، 106)
{على عبده} أي: محمد صلى الله عليه وسلم وأضافه إلى نفسه إضافة تشريف، وفي عود ضمير {ليكون} ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يعود على الذي نزل أي: ليكون الذي نزل الفرقان نذيراً.
الثاني: أنه يعود على الفرقان أي: ليكون الفرقان نذيراً، وأضاف الإنذار إليه كما أضاف الهداية إليه في قوله تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} (الإسراء، 9)
(6/189)
---
؛ قال ابن عادل: وهو بعيد؛ لأن المنذر والنذير في صفات الفاعل المخوف ووصف القرآن به مجاز وحمل الكلام على الحقيقة أولى.
الثالث: أنه يعود على عبده أي: ليكون عبده محمد صلى الله عليه وسلم {للعالمين نذيراً} أي: وبشيراً، وهذا أحسن الوجوه معنىً وصناعة لقربه مما يعود عليه والضمير يعود على أقرب مذكور، وللعالمين متعلق بنذيراً، وإنما قدّم لأجل الفواصل، ونذيراً بمعنى منذر أي: مخوف ويجوز أن يكون مصدراً بمعى الإنذار كالنكير بمعنى الإنكار ومنه قوله تعالى: {فكيف كان عذابي ونذر} (القمر، 16)(1/2809)
تنبيه: المراد بالعالمين قال البقاعي: أي: المكلفين كلهم من الجن والإنس والملائكة اه. ولكن في إرساله للملائكة خلاف بين العلماء، فقد نقل الجلال المحلي في شرحه على «جمع الجوامع» الإجماع على أنه لم يرسل إليهم، وغيره صرح بأنه أرسل إليهم، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.
فإن قيل: قوله تعالى: تبارك يدل على كثرة الخير والبركة، فالمذكور عقبه لا بد وأن يكون مبيناً لكثرة الخير والمنافع، والإنذار يوجب الغم والخوف فكيف يليق ذكره بهذا الموضع؟ أجيب: بأن الإنذار يجري مجرى تأديب الوالد كما أنه كلما كانت المبالغة في تأديب الوالد أكثر كان رجوع الخلق إلى الله تعالى أكثر، وكانت السعادة الأخروية أتم وأكثر، وهذا كالتنبيه على أنه لا التفات إلى المنافع العاجلة؛ لأنه تعالى لما وصف نفسه يعطي الخيرات الكثيرة لم يذكر إلا منافع الدين، ولم يذكر منافع الدنيا البتة، وقوله تعالى:
{الذي له ملك السموات والأرض} إشارة إلى احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه وتعالى حال حدوثها، وأنه تعالى هو المتصرف فيها كيف يشاء، فلا إنكار أن يرسل رسولاً إلى كل من فيها.
(6/190)
---(1/2810)
تنبيه: يجوز في الذي الرفع نعتاً للذي الأول أو بياناً أو بدلاً، أو خبراً لمبتدأ محذوف والنصب على المدح، وما بعده يدل على أنه من تمام الصلة، فليس أجنبياً فلا يضر الفصل به بين الموصول الأول والثاني إذا جعلنا الثاني تابعاً له {ولم يتخذ ولداً} أي: هو الفرد أبداً ولا يصح أن يكون غيره تعالى معبوداً ووارثاً للملك عنه، وهذا رد على النصارى، {ولم يكن له شريك في الملك} أي: هو المنفرد بالألوهية، وإذا عرف العبد ذلك انقطع رجاؤه عن كل من سواه تعالى ولم يشتغل قلبه إلا برحمته وإحسانه، وفيه ردّ على الوثنية القائلين بعبادةالنجوم والأوثان، ولما نفى تعالى الشريك، فكأن قائلاً يقول: هاهنا أقوام يعترفون بنفي الشريك والشركاء والأنداد ومع ذلك يقولون: يخلق أفعال أنفسهم، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {وخلق كل شيء} أي: من شأنه أن يخلق ومنه أفعال العباد، والخلق هنا بمعنى الإحداث أي: أحدث كل شيء إحداثاً مراعى فيه التقدير والتسوية {فقدره تقديراً} أي: هيأه لما يصلح له، مثاله أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر الذي تراه، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابي الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة، وسمي إحداث الله خلقاً؛ لأنه لا يحدث شيئاً لحكمة إلا على وجه التقدير من غير تفاوت.
فإذا قيل: خلق الله كذا، فهو بمنزلة قولك: أحدث وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فكأنه قيل: وأوجد كل شيء فقدره تقديراً في إيجاده، ولم يوجده متفاوتاً، ولو حمل خلق كل شيء على معناه الأصلي من التقدير لصار الكلام: وقدر كل شيء فقدره، فلم يصر له كبير فائدة، وقيل: فجعل له غاية ومنتهى ومعناه: فقدره للبقاء إلى أمد معلوم، واختلف في عود الضمير في قوله تعالى:
{واتخذوا من دونه} أي: الله تعالى أي: غيره {آلهة} على ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يعود على الكفار الذين تضمنهم لفظ العالمين.
(6/191)
---(1/2811)
ثانيها: أنه يعود على من ادعى لله شريكاً وولداً لدلالة قوله تعالى: {ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك}.
ثالثها: أنه يعود على المنذرين لدلالة نذيراً عليهم، ولما وصف نفسه سبحانه وتعالى بصفات الجلال والعزة والعلو أردفه بتزييف مذهب من يعبد غيره من وجوه منها: أنها ليست خالقة للأشياء بقوله تعالى: {لا يخلقون شيئاً} والإله يجب أن يكون قادراً على الخلق والإيجاد، ومنها: أنها مخلوقة بقوله تعالى: {وهم يخلقون} والمخلوق محتاج والإله يجب أن يكون غنياً، وغلب العقلاء على غيرهم؛ لأن الكفار كانوا يعبدون العقلاء كعزير والمسيح والملائكة، وغيرهم كالكواكب والأصنام التي ينحتونها ويصورونها، ومنها: أنها لا تملك لأنفسها ضراً ولا نفعاً بقوله تعالى: {ولا يملكون} أي: لا يستطيعون {لأنفسهم ضراً} أي: دفعه {ولا نفعاً} أي: جلبه ومن كان كذلك، فليس بإله، ومنها: أنها لا تقدر على موت ولا حياة ولا نشور بقوله تعالى: {ولا يملكون موتاً ولا حياة} أي: إماتة لأحد وإحياء لأحد {ولا نشوراً} أي: بعثاً للأموات، فيجب أن يكون المعبود قادراً على إيصال الثواب إلى المطيعين، والعقاب إلى العصاة، فمن لا يكون كذلك يجب أن لا يصلح للإلهية.
تنبيه: احتج أهل السنة بقوله تعالى: {لايخلقون شيئاً} على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى؛ لأنه تعالى عاب هؤلاء الكفار من حيث عبدوا ما لا يخلق شيئاً، وذلك يدل على أن من خلق يستحق أن يعبد، فلو كان العبد خالقاً لكان معبوداً إلهاً، ولما تكلم تعالى أولاً على التوحيد، وثانياً في الرد على عبدة غيره تكلم، ثالثاً في مسألة النبوة، وحكى شبه الكفار في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
الشبهة الأولى: قوله تعالى:
(6/192)
---(1/2812)
{وقال الذين كفروا} أي: مظهرو الوصف الذي حملهم على هذا القول، وهو ستر ما ظهر لهم ولغيرهم كالشمس والاجتهاد في إخفائه {إن} أي: ما {هذا} أي: القرآن {إلا إفك} أي: كذب مصروف عن وجهه {افتراه} اختلقه محمد صلى الله عليه وسلم {وأعانه عليه} أي: القرآن {قوم آخرون} أي: من غير قومه، وهم اليهود فإنهم يلقون إليه أخبار الأمم وهو يعبر عنها بعبارته، وقيل: عداس مولى حويطب بن عبد العزى ويسار مولى العلاء بن الحضرمي، وأبو فكيهة الرومي كانوا بمكة من أهل الكتاب فزعم المشركون أن محمداً يأخذ منهم فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى: {فقد جاؤوا} أي: قائلوا هذه المقالة {ظلماً} وهو جعل الكلام المعجز إفكاً مختلقاً متلقفاً من اليهود، وجعلوا العربي يتلقن من العجمي الرومي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب {وزوراً} أي: بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه، وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الدال، والباقون بالإدغام.
تنبيه: جاء وأتى يستعملان في معنى فعل فيعديان تعديته، وظلماً مفعول به، وقيل: إنه على إسقاط الخافض أي: جاؤوا بظلم.
الشبهة الثانية: قوله تعالى:
(6/193)
---(1/2813)
{وقالوا أساطير الأولين} أي: ما سطره الأولون من أكاذيبهم جمع أسطورة بالضم كأحدوثة، أو أسطار {اكتتبها} أي: تطلب كتابتها له من ذلك القوم وأخذها، والمعنى أن هذا القرآن ليس من الله تعالى إنما هو مما سطره الأولون الأول كأحاديث رستم واسفنديار استنسخها محمد من أهل الكتاب {فهي} أي: فتسبب عن تكلفه ذلك أنها {تملى عليه} أي: تقرأ عليه ليحفظها {بكرة} قبل أن تنتشر الناس {وأصيلا} أي: عشياً حين يأوون إلى مساكنهم، أو دائماً ليتكلف حفظها بالانتساخ؛ لأنه أمي لا يقدر أن يكرر من الكتاب، أو ليكتب وهذا كما ترى لا يقوله من له مسكة في عقل، أو مروءة كيف وهو يدعوهم إلى المعارضة ولو بسورة من مثله وفيهم الكتاب والشعراء والبلغاء والخطباء، وهم أكثر منه مالاً وأعظم أعواناً ولا يقدرون على شيء منه، فإن قيل: كيف؟ قيل: اكتتبها فهي تملى عليه، وإنما يقال: أمليت عليه فهو يكتبها؟ أجيب: بوجهين: أحدهما: أراد اكتتابها وطلبه، فهي تملى عليه، الثاني: أنها كتبت له وهو أمي فهي تملى أي: تلقى عليه من كتاب ليحفظها؛ لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب، وقرأ {فهي} قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء، والباقون بكسرها، ثم أمره الله تعالى بجوابهم بقوله تعالى:
(6/194)
---
{قل} أي: دالاً على بطلان ما قالوه ومهدداً لهم {أنزله الذي يعلم السر} أي: الغيب {في السموات والأرض}؛ لأنه أعجزكم عن آخركم بفصاحته وتضمنه أخباراً عن مغيبات مستقبلة وأشياء مكنونة لا يعلمها إلا عالم الأسرار، فكيف تجعلونه أساطير الأولين مع علمكم أن ما تقولونه باطل وزور؟ وكذلك باطن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبراءته مما يبهتونه، وهو يجازيكم على ما علم منكم وعلم منه.
(6/195)
---(1/2814)
فإن قيل: كيف يطابق هذا قوله تعالى: {إنه كان} أي: أزلاً وأبداً {غفوراً رحيماً}؟ أجيب: بأنه لما كان ما يقدمه في معنى الوعيد عقبه بما يدل على القدرة عليه؛ لأنه لا يوصف بالرحمة والمغفرة إلا القادر على العقوبة، أو هو تنبيه على أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صباً، ولكن صرف ذلك عنهم؛ لأنه غفور رحيم يمهل ولا يعاجل.
الشبهة الثالثة: قوله تعالى:
{وقالوا ما لهذا الرسول} أي: ما لهذا الذي يزعم الرسالة، وفيه استهانة وتهكم وتصغير لشأنه، وتسميته بالرسول سخرية منه كأنهم قالوا: ما لهذا الزاعم أنه رسول، ونحوه قول فرعون: {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} (الشعراء، 27)، أي: إن صح أنه رسول الله فما باله حاله مثل حالنا {يأكل الطعام} أي: كما نأكله {ويمشي} أي: ويتردد {في الأسواق} لطلب المعاش كما نمشي، فلا يجوز أن يمتاز عنا بالنبوة يعنون: أنه يجب أن يكون ملكاً مستغنياً عن الأكل والشرب والتعيش، وكذلك كانوا يقولون له: لست أنت بملك؛ لأنك تأكل الطعام، والملك لا يأكل، ولأن الملك لا يتسوق وأنت تتسوق، وما قالوه فاسد؛ لأن أكله الطعام لكونه آدمياً ومشيه في الأسواق لتواضعه، وكان ذلك صفته في التوراة، ولم يكن صخاباً في الأسواق، وليس شيء من ذلك ينافي النبوة، ولأنه لم يدع أنه ملك من الملوك، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكاً إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملك حتى يسانده في الإنذار والتخويف، فقالوا: {لولا} أي: هلا {أنزل إليه ملك} أي: يصدقه ويشهد له {فيكون معه نذيراً} أي: داعياً، ثم نزلوا أيضاً إلى أنه لم يكن مرفوداً بملك، فليكن مرفوداً بكنز، فقالوا:
(6/196)
---(1/2815)
{أو يلقى إليه كنز} أي: ينزل عليه كنز من السماء ينفقه فلا يحتاج إلى المشي في الأسواق لطلب المعاش، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلاً له بستان، فقالوا: {أو تكون له جنة} أي: بستان {يأكل منها} أي: إن لم يلق إليه كنز فلا أقل أن يكون له بستان كالمياسير فيتعيش بريعه، وقرأ حمزة والكسائي بالنون أن نأكل نحن منها فيكون له مزية علينا بها، والباقون بالياء وقوله تعالى: {وقال الظالمون} وضع فيه الظاهر موضع المضمر إذ الأصل وقالوا تسجيلاً عليهم بالظلم فيما قالوا {إن} أي: ما {تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} أي: مخدوعاً مغلوباً على عقله، وقيل: مصروفاً عن الحق، ولما أنهى تعالى ما ذكر من أقوالهم الناشئة عن ضلالهم التفت سبحانه وتعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم مسلياً له بقوله تعالى:
{انظر} أي: يا أفضل الخلق {كيف ضربوا لك الأمثال} أي: بالمسحور والمحتاج إلى ما ينفقه وإلى ملك يقوم معه بالأمر {فضلوا} أي: بذلك عن جميع طرق الهدى {فلا يستطيعون} أي: في الحال ولا في المآل بسبب الضلال {سبيلاً} أي: سلوك سبيل من السبل الموصلة إلى ما يستحق أن يقصد، بل هم في مجاهل موحشة وفيافي مهلكة، ولما أثبت أنهم لا علم لهم ولا قدرة ولا يمن ولا بركة أثبت لنفسه سبحانه وتعالى ما يستحق من الكمال الذي يفيض به على من يشاء من عباده ما يشاء بقوله تعالى:
(6/197)
---(1/2816)
{تبارك} أي: ثبت ثباتاً مقترناً باليمن والبركة لا ثبات إلا هو {الذي إن شاء} فإنه لا مكره له {جعل لك} أي: في الدنيا {خيراً من ذلك} أي: من الذي قالوه على طريق التهكم من الكنز والبستان، وقوله تعالى: {جنات} بدل من خيراً، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار أعني، ثم وصفها بقوله تعالى: {تجري من تحتها الأنهار} أي: تكون أرضها عيوناً نابعة أي: في أي موضع أريد منه إجراء نهر جرى، فهي لا تزال رياً تغني صاحبها عن كل حاجة ولا تحوجة في استمرارها إلى سقي {ويجعل لك قصوراً} أيضاً وهي جمع قصر، وهو المسكن الرفيع، قال المفسرون: القصور هي البيوت المشيدة، والعرب تسمي كل بيت مشيد قصراً، ويحتمل أن يكون لكل جنة قصر، فيكون مسكناً ومنتزهاً، ويجوز أن تكون القصور مجموعة والجنات مجموعة، وقال مجاهد: إن شاء جعل جنات في الآخرة وقصوراً في الدنيا، ولم يشأ الله سبحانه وتعالى ما أشار إليه في هذه الآية الشريفة في هذه الدنيا الفانية وأخره إلى الآخرة الباقية، وقد عرض عليه سبحانه وتعالى ما شاء في ذلك في الدنيا فأباه.
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً فقلت: لا يا رب ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، أو قال: ثلاثاً أو نحو هذا فإذا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك»، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو شئت لسارت معي جبال مكة ذهباً جاءني ملك فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت نبياً عبداً وإن شئت نبياً ملكاً، فنظرت إلى جبريل عليه السلام فأشار إلي أن ضع نفسك، فقلت: نبياً عبداً، قالت: وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئاً، ويقول: آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد».
(6/198)
---(1/2817)
وعن ابن عباس قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وجبريل عليه السلام معه، فقال جبريل عليه السلام : هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربه في زيارتك، فلم يلبث إلا قليلاً حتى جاء الملك وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن الله يخيرك أن يعطيك مفاتيح كل شيء لم يعطه أحداً قبلك، ولا يعطيه أحداً بعدك من غير أن ينقصك مما أداك شيئاً، فقال صلى الله عليه وسلم «بل يجمعها لي في الآخرة» فنزل {تبارك الذي إن شاء} الآية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة برفع اللام من يجعل، وفيه وجهان: أحدهما: أنه مستأنف، والثاني: أنه معطوف على جواب الشرط؛ لأن الشرط إذا وقع ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع كقوله:
*وإن أتاه خليل يوم مسألة
** يقول لا غائب مالي ولا حرم
والباقون بالجزم، ويجوز في {يجعل لك} إذا أدغمت أن تكون اللام في تقدير الجزم والرفع، ثم أضرب سبحانه وتعالى عن كلامهم في حق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
{بل} أي: لا يظنوا أنهم كذبوا بما جئت به؛ لأنهم لا يعتقدون فيك كذباً بل {كذبوا بالساعة} أي: القيامة، فقصرت أنظارهم على الحطام الدنيوي، وظنوا أن الكرامة إنما هي بالمال فلا يرجون ثواباً ولا عقاباً، فلا يتكلفون النظر والفكر، ولهذا لا ينتفعون بما يورد عليهم من الدلائل {وأعتدنا} أي: والحال أنا اعتدنا أي: هيأنا بما لنا من العظمة {لمن كذب} من هؤلاء وغيرهم {بالساعة سعيراً} أي: ناراً شديدة الاتقاد بما أعظموا الحريق في قلوب من كذبوهم من الأنبياء وأتباعهم، وعن الحسن: أن السعير اسم من أسماء جهنم.
تنبيه: احتج أهل السنة على أن الجنة مخلوقة بقوله تعالى: {أعدت للمتقين} (آل عمران، 133)
وعلى أن النار وهي دار العقاب مخلوقة بهذه الآية:
(6/199)
---(1/2818)
{إذا رأتهم من مكان بعيد} وهو أقصى ما تمكن رؤيتها منه، وقال الكلبي والسدي: من مسيرة عام، وقيل: من مسيرة مائة سنة، روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من كذب علي متعمداً فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً، قالوا: وهل لها من عينين؟ قال: نعم، ألم تسمع قوله تعالى: إذا رأتهم من مكان بعيد».
وقال البيضاوي: تبعاً للزمخشري: إذا كانت بمرأى منهم كقوله عليه الصلاة والسلام: لا «تراءي ناراهما» أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى على المجاز. انتهى، وهذا تأويل للمعتزلة بناء منهم على أن الرؤية مشروطة بالحياة بخلاف الأشاعرة فإنهم يجوزون رؤيتها حقيقة كتغيظها وزفيرها في قوله تعالى: {سمعوا لها تغيظاً} أي: غلياناً كالغضبان إذ غلى صدره من الغضب {وزفيراً} أي: صوتاً شديداً إذ لا امتناع من أنها تكون رائية مغتاظة زافرة، وأشار البيضاوي إلى ذلك بعد ما ذكر بقوله: هذا. وإن الحياة لما لم تكن مشروطة عندنا بالبينة أمكن أن يخلق الله فيها حياة فترى وتتغيظ وتزفر، وقال الجلال المحلي: وسماع التغيظ رؤيته وعلمه انتهى. قال عبد الله بن عمر: تزفر جهنم يوم القيامة زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر لوجهه، وقيل: إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضباً عل الكفار للانتقام منهم، فنسب إليها على حذف مضاف.
(6/200)
---(1/2819)
{وإذا ألقوا} أي: طرحوا طرح إهانة {منها} أي: النار {مكاناً} ثم وصفه تعالى بقوله تعالى: {ضيقاً} زيادة في فظاعتها، قال ابن عباس: يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح {مقرنين} أي: مصفدين زيادة قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم من الأغلال، وقد قيل: الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة، ولذلك وصف الله تعالى الجنة بأن عرضها السموات والأرض، وجاء في الأحاديث أن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا، ولقد جمع الله تعالى على أهل النار أنواع الضيق والإرهاق حيث ألقاهم في مكان ضيق يتراصون فيه تراصاً كما مر عن ابن عباس: أنه يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح، وهو منقول أيضاً عن ابن عمر، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «والذي نفسي بيده إنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط، وهم مع ذلك الضيق مسلسلون مقرنون في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم ويقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة في أرجلهم».Y
تنبيه: {مكاناً} منصوب على الظرف، ومنها في محل نصب على الحال من مكاناً؛ لأنه في الأصل صفة له، ومقرنين حال من مفعول {ألقوا}، وقرأ ابن كثير ضيقاً بسكون الياء والباقون بكسر الياء مشددة {دعوا هنالك} أي: في ذلك المكان البغيض البعيد عن الرفق {ثبوراً} قال ابن عباس: ويلاً، وقال الضحاك: هلاكاً، فيقولون: واثبوراه هذا حينك وزمانك؛ لأنه لا منادم لهم غيره، وليس يحضر أحدً منهم سواه، قال البغوي: وفي الحديث «إن أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه، وذريته من خلفه وهو يقول: يا ثبوراه وهم ينادون: يا ثبورهم حتى يقفوا على النار» فيقال لهم:
(6/201)
---(1/2820)
{لا تدعوا اليوم} أي: أيها الكفار {ثبوراً واحداً}؛ لأنكم لا تموتون إذا حلت بكم أسباب العذاب والهلاك {وادعوا ثبوراً كثيراً} أي: هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة، أو ادعوا أدعية كثيرة، وقال الكلبي: نزل هذا كله في أبي جهل والكفار الذين ذكروا تلك الشبه، ولما وصف تعالى: العقاب المعدّ للمكذبين بالساعة أتبعه بما يؤكد الحسرة والندامة بقوله تعالى:
{{قل} أي: لهؤلاء البعداء البغضاء {أذلك} أي: المذكور من الوعيد وصفة النار {خير أم جنة الخلد} أي: الإقامة الدائمة {التي وعد المتقون} أي: وعدها الله تعالى لهم، فالراجع إلى الموصوف وهو هاء وعدها محذوف.
(6/202)
---
فإن قيل: كيف يقال: العذاب خير أم جنة الخلد، وهل يجوز أن يقول القائل: السكر أحلى أم الصبر؟ أجيب: بأنه يحسن في معرض التقريع كما إذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرد وأبى واستكبر، فضربه ويقول له: هذا خير أم ذلك؟ قال أبو مسلم: جنة الخلد هي التي لا ينقطع نعيمها، والخلد والخلود سواء كالشكر والشكور، قال تعالى: {لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً} (الإنسان، 9)
فإن قيل: الجنة اسم لدار الخلد، فأي فائدة في قوله تعالى: {جنة الخلد}؟ أجيب: بأنّ الإضافة قد تكون للبيتين، وقد تكون لبيان صفة الكمال كقوله تعالى: {هو الله الخالق البارئ} (الحشر، 24)
وهذا من هذا البيان أو للتمييز عن جنات الدنيا، ثم حقق تعالى أمرها تأكيداً للبشارة بقوله: {كانت لهم جزاء} أي: ثواباً على أعمالهم بفضل الله تعالى وكرمه {ومصيراً} أي: مرجعاً.(1/2821)
فإن قيل: إن الجنة ستصير للمتقين جزاءً ومصيراً لكنها بعدما صارت كذلك فلم قال تعالى: {كانت}؟ أجيب: من وجهين: الأول: أن ما وعده الله تعالى فهو في تحققه كالواقع، الثاني: أنه كان مكتوباً في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم الله تعالى بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم، فإن قيل: لم جمع تعالى بين الجزاء والمصير؟ أجيب: بأن ذلك كقوله تعالى: {نعم الثواب وحسنت مرتفقاً} (الكهف، 31)، فمدح الثواب ومكانه، كما قال تعالى: {بئس الشراب وساءت مرتفقاً} (الكهف، 29)
فذم العذاب ومكانه؛ لأن النعيم لا يتم للمتنعم إلا بطيب المكان وسعته وموافقته للمراد والشهوة، وإلا تنغص، وكذلك العقاب يتضاعف بغثاثة الموضع وضيقه وظلمته، فلذلك ذكر المصير مع ذكر الجزاء.
تنبيه: المتقي يشمل من اتقى الكفر وإن لم يتق المعاصي وإن كان غيره أكمل، ثم ذكر تعالى تنعمهم فيها بعد أن ذكر نعيمهم بقوله تعالى:
{لهم فيها} أي: الجنة {ما يشاؤون} من كل ما تشتهيه أنفسهم كما قال تعالى: {ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم} (فصلت، 31)
(6/203)
---
{وفيها ما تشتهي الأنفس} (الزخرف، 71)(1/2822)
فإن قيل: أهل الدرجات النازلة إذا شاهدوا الدرجات العالية لابد وأن يريدوها، فإذا سألوها ربهم فإن أعطاها لهم لم يبق بين الناقص والكامل تفاوت في الدرجة، وإن لم يعطها لهم قدح ذلك في قوله تعالى: {لهم فيها ما يشاؤون}؟ أجيب: بأن الله تعالى يزيل هذا الخاطر عن قلوب أهل الجنة ويشتغلون بما هم فيه من اللذات عن الالتفات إلى حال غيرهم، وقوله تعالى: {خالدين} منصوب على الحال إما من فاعل يشاؤون، وإما من فاعل لهم لوقوعه خبراً، والعائد على ما محذوف أي: لهم فيها الذي يشاؤونه حال كونهم خالدين وقوله تعالى: {كان على ربك} أي: وعدهم ما ذكر {وعداً} يدل على أن الجنة جعلت لهم بحكم الوعد والتفضل لا بحكم الاستحقاق، وقوله تعالى: {مسؤولاً} أي: مطلوباً، اختلف في السائل، فالأكثر على أن المؤمنين سألوا ربهم في الدنيا حين قالوا: {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} (آل عمران، 194)
(6/204)
---(1/2823)
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما منكم من يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذاً نكثر؟ قال: الله تعالى أكثر»، وروي: «أنه يدعى بالمؤمن يوم القيامة حتى يوقفه الله تعالى بين يديه فيقول: عبدي فيقول: نعم يارب فيقول: إني أمرتك أن تدعوني ووعدتك أن أستجيب لك فهل كنت تدعوني؟ أما إنك لم تدعني بدعوة إلا استجبت لك أليس دعوتني يوم كذا وكذا لغمٍ نزل بك أن أفرج عنك ففرجت عنك؟ فيقول: نعم يا رب فيقول: إني عجلتها لك في الدنيا، ودعوتني يوم كذا وكذا لغمٍ نزل بك أن أفرج عنك فلم تر فرجاً؟ قال: نعم يارب فيقول: إني ادّخرت لك بها في الجنة كذا وكذا، ودعوتني في حاجة أقضيها لك في يوم كذا وكذا فقضيتها؟ فيقول: نعم يارب فيقول: إني عجلتها لك في الدنيا، ودعوتني يوم كذا وكذا في حاجة أقضيها لك فلم تر قضاءها؟ فيقول: نعم يارب، فيقول: إني ادخرت لك بها في الجنة كذا وكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يدع الله دعوة دعا بها عبده المؤمن إلا بين له، إما أن يكون عجل له في الدنيا وإما أن يكون ادخر له في الآخرة فيقول المؤمن في هذا المقام: يا ليته لم يكن عجل له شيء من دعائه»، وروي: «لا تعجلوا في الدعاء فإنه لايهلك مع الدعاء أحد»، وروي: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة» وروي: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول: دعوت فلم يستجب لي»، وروي: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل قيل: يا رسول الله ما الإستعجال قال: يقول: قد دعوت فلم يستجب لي فيستحسر» أي: يمل عند ذلك ويدع الدعاء، فليدع الإنسان وهو موقن بالإجابة.
(6/205)
---(1/2824)
وقال محمد بن كعب القرظي: الطلب من الملائكة للمؤمنين سألوا ربهم للمؤمنين بقولهم {ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم} وقيل: إن المكلفين سألوها بلسان الحال؛ لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعة الله كان ذلك قائماً مقام السؤال، قال المتنبي:
*في النفس حاجات وفيك فطانة
** سكوتي كلام عندها وخطاب
ولما ذكر تعالى حالهم في نفسهم أتبعه ذكر حالهم مع معبوداتهم من دونه بقوله تعالى:
{ويوم} أي: واذكر لهم يوم {نحشرهم} أي: المشركين، وقرأ ابن كثير وحفص بالياء، والباقون بالنون، واختلف في المراد بقوله تعالى: {وما يعبدون من دون الله} أي: غيره فقال الأكثرون: من الملائكة والجن والمسيح وعزير وغيرهم، وقال عكرمة والضحاك والكلبي: من الأصنام، فقيل لهم: كيف يخاطب الله تعالى الجماد بقوله تعالى: {فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء} أي: أوقعتموهم في الضلال بأمركم إياهم بعبادتكم {أم هم ضلوا السبيل} أي: طريق الحق بأنفسهم، فأجابوا بوجهين:
أحدهما: أنه تعالى يخلق الحياة فيها ويخاطبها.
ثانيهما: أن يكون ذلك بالكلام النفساني لا بالقول اللساني بل بلسان الحال كما ذكره بعضهم في تسبيح الجماد وكلام الأيدي والأرجل، ويجوز أن يكون السؤال عاماً لهم جميعاً، فإن قيل: كيف صح استعمال ما في العقلاء؟ أجيب: على الأول: بأنه أريد به الوصف كأنه قيل: ومعبوديهم ألا تراك تقول إذا أردت السؤال عن صفة زيد: ما زيد تعني أطويل أم قصير، فقيه أم طبيب؟، وقال تعالى: {والسماء وما بناها} (الشمس، 5)
(6/206)
---(1/2825)
{ولا أنتم عابدون ما أعبد} (الكافرون، 30)، وأما على القول الثاني: فواضح، وأما على القول الثالث: فغلب غير العاقل لغلبة عباده أو تحقيراً، فإن قيل: ما فائدة هذا السؤال مع أن الله تعالى كان عالماً في الأزل بحال المسؤول عنه؟ أجيب: بأن هذا سؤال تقريع للمشركين كما قال لعيسى عليه السلام : {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} (المائدة، 116)، وقرأ ابن عامر فنقول بالنون، والباقون بالياء، وقرأ أأنتم نافع وابن كثير بتسهيل الثانية وإدخال ألف بينها وبين همزة الاستفهام، وورش وابن كثير بتسهيل الثانية ولا ألف بينهما وبين الأولى ولورش وجه آخر وهو إبدال الثانية ألفاً، وهشام بتسهيل الثانية وتحقيقها مع الإدخال، والباقون بتحقيقهما، وقرأ هؤلاء أم هم نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة من أم ياء خالصة، والباقون بتحقيقها.
{قالوا سبحانك} أي: تنزيهاً لك عما لا يليق بك، أو تعجباً مما قيل لهم؛ لأنهم إما ملائكة أو أنبياء معصومون فما أبعدهم عن الضلال الذي هو مختص بإبليس وجنوده، أو جمادات وهي لا تقدر على شيء، أو إشعاراً بأنهم الموسومون بتسبيحه وتوحيده، فكيف يليق بهم إضلال عبيده؟ {ما كان ينبغي} أي: يستقيم {لنا أن نتخذ} أي: نتكلف أن نأخذ باختيارنا بغير إرادة منك {من دونك} أي: غيرك {من أولياء} للعصمة أو لعدم القدرة، فكيف يستقيم لنا أن نأمر بعبادتنا؟ فإن قيل: ما فائدة أنتم وهم، وهلا قيل: أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل؟ أجيب: بأن السؤال ليس عن الفعل ووجوده؛ لأنه لولا وجوده؛ لما توجه هذا العتاب، وإنما هو عن متوليه فلا بد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام حتى يعلم أنه المسؤول عنه.
(6/207)
---(1/2826)
تنبيه: من أولياء مفعول أول، ومن زائدة لتأكيد النفي، وما قبله المفعول الثاني، ولما تضمن كلامهم أنا لم نضللهم ولم نحملهم على الضلال حسن الاستدراك بقولهم: {ولكن متعتهم وآباءهم} وهو أن ذكروا سببه أي: أنعمت عليهم وعلى آبائهم من قبلهم بأنواع النعم والصحة وطول العمر في الدنيا، فجعلوا ذلك ذريعة إلى ضلالهم عكس القضية {حتى نسوا الذكر}أي: تركوا الإيمان بالقرآن، وقيل: تركوا ذكرك وغفلوا عنه {وكانوا} أي: في علمك بما قضيت عليهم في الأزل {قوماً بوراً} أي: هلكى، وهو مصدر وصف به، ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع، أو جمع بائر كعائذ وعوذ، وقوله:
{فقد كذبوكم} فيه التفات إلى العبدة بالاحتجاج والإلزام على حذف القول، والمعنى: فقد كذب المعبودون العابدين {بما} أي: بسبب ما {تقولون} أي: أيها العابدون من أنهم يستحقون العبادة، وأنهم يشفعون لكم وأنهم أضلوكم، ولما تسبب عن تخليهم عن عبدتهم أنه لا نفع في أيديهم ولا ضر قال تعالى: {فما يستطيعون} أي: المعبودون {صرفاً} أي: لشيء من الأشياء عن أحد من الناس لا أنتم ولا غيركم من عذاب ولا غيره بوجه حيلة ولا شفاعة ولا معاداة {ولا نصراً} أي: منعاً لكم من الله تعالى إن أراد بكم سوءاً، وهذا نحو قوله تعالى: {لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} (الإسراء، 56)، وقرأ حفص بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة {ومن يظلم} أي: بالشرك {منكم} أي: أيها المكلفون {نذقه} أي بما لنا من العظمة {عذاباً كبيراً} أي: شديداً في الدنيا بالقتل أو الأسر أو ضرب الجزية، وفي الآخرة بنار جهنم، روى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: {ما لهذا الرسول} إلى آخرها أنزل الله تعالى:
(6/208)
---(1/2827)
{وما أرسلنا قبلك} أي: يا أشرف الخلق أحداً {من المرسلين إلا} وحالهم {أنهم ليأكلون الطعام} كما تأكل ويأكل غيرك من الآدمين {ويمشون في الأسواق} كما تفعل فهذه عادة مستمرة من الله تعالى في كل رسله وهم يعلمون ذلك بالسماع من أخبارهم، وهذا تأكيد من الله تعالى؛ لأنهم لا يكذبونه صلى الله عليه وسلم وقيل: معنى الآية وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قد قيل لهم مثل هذا أنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كما قال تعالى في موضع آخر: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} (فصلت، 43)
(6/209)
---(1/2828)
{وجعلنا} أي بالعطاء والمنع بما لنا من العظمة {بعضكم} أي: أيها الناس {لبعض فتنة} أى: بلية والمعنى: أنه تعالى ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم وبمناصبتهم والعدواة لهم وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف، وجعل الغني فتنة للفقير والصحيح فتنة للمريض والشريف فتنة للوضيع، يقول الثاني من كل: مالي لا أكون كالأول؟ وقال ابن عباس: جعلت بعضكم بلاءً لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم وترون من خلافهم فتتبعوا الهدى أم لا، وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في أبي جهل والوليد بن عقبة والعاصي بن وائل والنضر بن الحرث، وذلك أنهم رأوا أبا ذر وابن مسعود وعماراً وبلالاً وصهيباً وعامر بن فهيرة ومن دونهم قد أسلموا قبلهم، فقالوا: أنسلم ونكون مثل هؤلاء؟ وقيل: جعلناك فتنة لهم؛ لأنك لو كنت غنياً صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا، فتكون ممزوجة بالدنيا، وإنما بعثناك فقيراً لتكون طاعة من يطيعك خالصة لوجه الله من غير طمع دنيوي وقوله تعالى: {أتصبرون} أي: على ما تسمعون مما ابتليتم، به استفهام بمعنى الأمر أي: اصبروا {وكان ربك} أي: المحسن إليك إحساناً لم يحسنه إلى أحد سواك لا سيما بجعلك نبياً عبداً {بصيراً} أي: بكل شيء فهو عالم بالإنسان قبل الامتحان لم يفده ذلك علماً لم يكن عنده، ولكن يعلم ذلك شهادة كما يعلم علم الغيب، ولتقوم عليهم بذلك الحجة فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك أقاويلهم، فإن صبرك عليها سعادتك وفوزك في الدارين.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نظر أحدكم من فضل عليه في المال والجسم فلينظر إلى من هو دونه في المال والجسم»، وروي: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم حذر أن تزدروا نعمة الله عليكم». الشبهة الرابعة: لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:
(6/210)
---(1/2829)
{وقال الذين لا يرجون لقاءنا} أي: لا يخافون البعث، قال الفراء: الرجاء بمعنى الخوف لغة تهامة، ومنه قوله تعالى: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً} (نوح، 13)
أي: لا تخافون لله عظمة {لولا} أي: هلا ولم لا {أنزل} أي: على أي وجه كان من أي منزل كان {علينا الملائكة} كما نزلت عليه فيما يزعم وكانوا رسلاً إلينا، أو فتخبرنا بصدقه {أو نرى ربنا} بما له علينا من الإحسان، وبما لنا نحن من العظمة بالقوة بالأموال وغيرها، فيأمرنا بما يريد من غير حاجة إلى واسطة؛ قال الله ردّاً عليهم: {لقد استكبروا} أي: تعظموا {في} شأن {أنفسهم} أي: أظهروا الاستكبار عن الحق، وهو الكفر والعناد في قلوبهم واعتقدوه كما قال تعالى: {إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} (غافر، 56)
(6/211)
---
{وعتوا} أي: تجاوزوا الحد في الظلم {عتواً كبيراً} أي: بالغاً أقصى مراتبه حيث عاينوا المعجزات الظاهرة، فأعرضوا عنها واقترحوا لأنفسهم الخبيثة ما سدت دونه مطامح النفوس القدسية، واللام جواب قسم محذوف، وفي فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ تعجب، ألا ترى أن المعنى ما أشد استكبارهم وما أكبر عتوهم؟ ثم بين تعالى لهم حالهم عند بعض ما طلبوا بقوله تعالى:
{يوم يرون الملائكة} أي: يوم القيامة، وقال ابن عباس: عند الموت {لا بشرى} أي: من البشر أصلاً {يومئذٍ} وقوله تعالى: {للمجرمين} أي: الكافرين إما ظاهر في موضع ضمير، وإما؛ لأنه عام فقد تناولهم بعمومه بخلاف المؤمنين فلهم البشرى بالجنة.
(6/212)
---(1/2830)
تنبيه: في نصب يوم أوجه: أحدها: أنه منصوب بإضمار فعل يدل عليه قوله تعالى: {لا بشرى} أي: يمنعون البشرى يوم يرون، الثاني: باذكر فيكون مفعولاً به. الثالث: بيعذبون مقدراً ولا يجوز أن يعمل فيه نفس البشرى لوجهين: أحدهما: أنها مصدر والمصدر لا يعمل فيما قبله، والثاني: أنها منفية بلا، وما بعد لا لا يعمل فيما قبلها. وقوله: {ويقولون} أي: في ذلك الوقت {حجراً محجوراً} عطف على المدلول ويقول الكفرة لهم حينئذٍ: هذه الكلمة استعاذة وطلباً من الله تعالى أن يمنع لقاء الملائكة عنهم مع أنهم كانوا يطلبون نزول الملائكة ويقترحونه وهم إذا رأوهم عند الموت أو يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم؛ لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون، وقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو والشدة النازلة أو نحو ذلك: حجراً محجوراً يضعونها موضع الاستعاذة، فهم يقولون ذلك إذا عاينوا الملائكة. قال سيبويه: يقول الرجل للرجل: تفعل كذا وكذا فيقول: حجراً، وهي من حجره إذا منعه؛ لأن المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه عنه فلا يلحقه، وكأن المعنى: أسأل الله أن يمنع ذلك منعاً ويحجره حجراً، وقال ابن عباس: تقول الملائكة: حراماً محرماً أن يدخل الجنة إلا من قال: لا إله إلا الله، وقيل: إذا خرج الكفار من قبورهم تقول الملائكة لهم: حرام محرم عليكم أن تكون لكم البشرى، ولما كان المريد لإبطال شيء لشدة كراهته له لا يقنع في إبطاله بغيره بل يأتيه بنفسه فيبطله، عبر تعالى بقوله:
(6/213)
---(1/2831)
{وقدمنا} أي: وعمدنا بما لنا من العظمة والقدرة الباهرة في ذلك اليوم الذي يرون فيه الملائكة سواء كان في الدنيا أم في الآخرة {إلى ما عملوا من عمل} أي: من مكارم الأخلاق من الجود وصلة الرحم وإغاثة الملهوف ونحو ذلك {فجعلناه} لكونه لم يؤسس على الإيمان، وإنما هو للهوى والشيطان {هباءً} وهو ما يرى في شعاع الشمس الداخل من كوّة مما يشبه الغبار {منثوراً} أي: مفرقاً أي: مثله في عدم النفع إذ لا ثواب فيه لعدم شرطه ويجازون عليه في الدنيا، فتكون النار مستقرهم ومقيلهم، ولهذا بين حال أضدادهم وهم المؤمنون بقوله تعالى:
{أصحاب الجنة يومئذٍ} أي: يوم إذ يرون الملائكة {خير مستقراً} من الكفار {وأحسن مقيلاً} منهم، والمستقر المكان الذي يكونون فيه في أكثر أوقاتهم مستقرين يتجالسون ويتحادثون، والمقيل: المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم والتمتع بمغازلتهن وملامستهن كما أن المترفين في الدنيا يعيشون على ذلك الترتيب، روي: أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار؛ قال ابن مسعود: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وقال ابن عباس في هذه الآية: الحساب في ذلك اليوم في أوله، وقال: يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس.
تنبيه: في أفعل قولان: أحدهما: أنها على بابها من التفضيل، والمعنى: أن المؤمنين خير في الآخرة مستقراً من مستقر الكفار، وأحسن مقيلاً من مقيلهم ولو فرض أن يكون لهم ذلك أو على أنهم خير في الآخرة منهم في الدنيا.
والثاني: أن يكون لمجرد الوصف من غير مفاضلة ومن ذلك المعنى قوله تعالى: {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون} (يس، 55)
(6/214)
---(1/2832)
ذكروا في تفسير الشغل افتضاض الأبكار، وإنما سمي مكان دعتهم واسترواحهم الحور مقيلاً مع أنه لا نوم في الجنة على طريق التشبيه. ثم عطف تعالى على قوله تعالى يوم يرون قوله تعالى:
{ويوم تشقق السماء} أي: كل سماء {بالغمام} أي: كما تشقق الأرض بالنبات فيخرج من خلال شقوقها، وهو غيم أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم.
تنبيه: في هذه الباء ثلاثة أوجه: أحدها: أنها سببية، أي: بسبب الغمام يعني سبب طلوعه منها، ونحوه {السماء منفطر به} (المزمل، 18)
كأنه الذي تتشقق به السماء، الثاني: أنها للحال أي: ملتبسة بالغمام، الثالث: أنها بمعنى عن أي: عن الغمام كقوله تعالى: {يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً} (ق، 44)
والباء وعن يتعاقبان تقول: رميت عن القوس، وبالقوس، وقرأ أبو عمرو والكوفيون بتخفيف الشين، والباقون بتشديدها، ثم أشار تعالى إلى جهل من طلب نزول الملائكة دفعة واحدة بقوله تعالى: {ونزل الملائكة} أي: بالتدريج بأمر حتم لا يمكنهم التخلف عنه بأمر من الأمور وغيره من الذين طلبوا أن يروهم في حال واحد {تنزيلاً} أي في أيديهم صحائف الأعمال؛ قال ابن عباس: تتشقق السماء الدنيا، فينزل أهلها، وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تتشقق السماء الثانية فينزل أهلها، وهم أكثر من أهل سماء الدنيا وأهل الأرض جناً وإنساً، ثم كذلك حتى تتشقق السماء السابعة، وأهل كل سماء يدورون على السماء التي قبلها، ثم تنزل الكروبيون ثم حملة العرش.
(6/215)
---(1/2833)
فإن قيل: ثبت أن نسبة الأرض إلى سماء الدنيا كحلقة في فلاة، فكيف تسع الأرض هؤلاء؟ أجاب بعض المفسرين: بأن الملائكة تكون في الغمام والغمام يكون مقر الملائكة، ويجوز أن الله تعالى يوسع الأرض حتى تسع الجميع، وقرأ ابن كثير بنونين الأولى مضمومة والثانية ساكنة وتخفيف الزاي ورفع اللام، ونصب الملائكة، والباقون بنون واحدة والزاي مشددة ونصب اللام ورفع الملائكة، ثم بين تعالى أن ذلك اليوم لا يقضي فيه غيره بقوله تعالى:
{الملك يومئذٍ} أي: إذ تشقق السماء بالغمام، ثم وصف الملك بقوله تعالى: {الحق} أي: الثابت ثباتاً لا يمكن زواله، ثم أخبر عنه بقوله تعالى: {للرحمن} أي: العام الرحمة في الدارين، ومن عموم رحمته وحقية ملكه أن يسر قلوب أهل وده بتعذيب أهل عداوته الذين عادوهم فيه لتضييعهم الحق باتباع الباطل، ولولا اتصافه بالرحمة لم يدخل أحد الجنة، فإن قيل: مثل هذا الملك لم يكن قط إلا للرحمن، فما الفائدة في قوله تعالى: {يومئذٍ}؟ أجيب: بأن في ذلك اليوم لا مالك له سواه لا في الصورة ولا في المعنى، فتخضع له الملوك وتعنو له الوجوه، وتذل له الجبابرة بخلاف سائر الأيام {وكان} أي: ذلك اليوم الذي تظهر فيه الملائكة الذي طلب الكفار رؤيتهم له {يوماً على الكافرين عسيراً} أي: شديد العسر والاستعار.
تنبيه: هذا الخطاب يدل على أنه لا يكون على المؤمنين عسيرا جاء في الحديث «أنه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا» وقوله تعالى:
(6/216)
---(1/2834)
{ويوم يعض الظالم} أي: المشرك لفرط تأسفه لما يرى فيه من الأهوال، معمول لمحذوف أو معطوف على يوم تشقق، وأل في الظالم تحتمل العهد والجنس لكن قال ابن عباس: أراد بالظالم عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاماً ودعا إليه جهراً جيرانه وأشراف قومه، وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم ويعجبه حديثه، فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاماً ودعا الناس ودعا النبي صلى الله عليه وسلم فلما قرب الطعام قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله»، فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فأكل صلى الله عليه وسلم من طعامه، وكان عقبة صديقاً لأبي بن خلف، فلما أتى أبيّ بن خلف قال له: يا عقبة صبأت؟ فقال: لا والله ما صبأت، ولكن دخل علي رجل فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له، فاستحيت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدت له فطعم، والشهادة ليست في نفسي، فقال: ما أنا بالذي أرضى منك أبداً إلا أن تأتيه وتبصق في وجهه وتطأ قفاه وتلطم وجهه وعينه، فوجده ساجداً في دار الندوة ففعل ذلك عقبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوت رأسك بالسيف» فقتل عقبة يوم بدر صبراً أمر علياً رضي الله عنه فقتله، وقيل: قتله عاصم بن ثابت بن أفلح الأنصاري، وأما أبي بن خلف فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده يوم أحد طعنه في المبارزة فرجع إلى مكة ومات.
(6/217)
---(1/2835)
قال الضحاك: لما بصق عقبة في وجه النبي صلى الله عليه وسلم عاد بصاقه في وجهه فاحترق خداه، فكان أثر ذلك فيه حتى مات، وقال الشعبي: كان عقبة خليل أمية، فأسلم عقبة فقال أمية: وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمداً، فكفر وارتد، فأنزل الله تعالى: {ويوم يعض الظالم} أي: عقبة {على يديه} قال الضحاك: يأكل يديه إلى المرفق، ثم تنبت ولا يزال هكذا كلما أكلها نبتت، وقال المحققون: هذه اللفظة للتحسر والغم يقال: عض أنامله وعض على يديه وهو لا يشعر حال كونه مع هذا الفعل {يقول}: أي: يجدد في كل لحظة قوله: {يا ليتني اتخذت} أي: أرغمت نفسي وكلفتها أن آخذ في الدنيا {مع الرسول} أي: محمد صلى الله عليه وسلم {سبيلاً} أي: طريقاً إلى الهدى، ولما تأسف على مجانبة الرسول ندم على مصادقة غيره بقوله:
{يا ويلتي} أي: يا هلاكي الذي ليس لي منادم غيره؛ لأنه ليس يحضرني سواه {ليتني لم أتخذ فلاناً} أي: أبياً {خليلاً} أي: صديقاً أوافقه في أعماله لما علمت من سوء عاقبتها، فكنى عن اسمه وإن أريد به الجنس، فكل من اتخذ من المضلين خليلاً كان لخليله اسم علم عليه لا محالة فجعله كناية عنه، وقرأ أبو عمرو بفتح الياء، والباقون بالسكون، وأظهر الدال عند التاء ابن كثير وحفص، وأدغمها الباقون ثم استأنف قوله: الذي يتوقع كل سامع أن يقوله:
{لقد} أي: والله لقد {أضلني عن الذكر} أي: عمى علي طريق القرآن الذي لا ذكر في الحقيقة غيره وصرفني عنه، والجملة في موضع العلة لما قبلها {بعد إذ جاءني} ولم يكن لي منه مانع يردني عن الإيمان به، وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بإظهار الذال، والباقون بالإدغام وقوله تعالى: {وكان الشيطان} إشارة إلى خليله سماه شيطاناً؛ لأنه أضله كما يضل الشيطان، أو إلى كل من كان سبباً للضلال من عتاة الجن والإنس {للإنسان خذولاً} أي:
(6/218)
---(1/2836)
شديد الخذلان يورده ثم يسلمه إلى أكره ما يكون لا ينصره ولو أراد ما استطاع بل هو في شر من ذلك؛ لأن عليه إثمه في نفسه، ومثل إثم من أضله.
تنبيه: حكم هذه الآية عام في كل خليلين ومتحابين اجتمعا على معصية الله تعالى قال صلى الله عليه وسلم «مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحاً خبيثة» وقال صلى الله عليه وسلم «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» وقال صلى الله عليه وسلم «لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي»، ولما ذكر تعالى أقوال الكفار ذكر قول رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
(6/219)
---
{وقال الرسول يا رب} أي: أيها المحسن إليّ بأنواع الإحسان وعبر بأداة البعد هضماً لنفسه، ومبالغة في التضرع {إن قومي} أي: قريشاً الذين لهم قوة ومنعة {اتخذوا هذا القرآن} أي: المقتضي للإجماع عليه والمبادرة إليه {مهجوراً} أي: متروكاً بعيداً لم يؤمنوا به ولم يقبلوه، وأعرضوا عن استماعه.
تنبيه: أشار بصيغة الافتعال إلى أنهم عالجوا أنفسهم في تركه علاجاً كثيراً لما يرون من حسن نظمه ويذوقون من لذيذ معانيه ورائق أساليبه، ولطيف عجائبه وبديع غرائبه، وأكثر المفسرين على أن هذا القول وقع من النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو مسلم: بل المراد أنه يقوله في الآخرة كقوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} (النساء، 41)
الآية، والأول أولى؛ لأن قوله تعالى:(1/2837)
{وكذلك} أي: كما جعلنا لك عدواً من مشركي قومك {جعلنا لكل نبي} من الأنبياء قبلك رفعة لدرجاتهم {عدواً من المجرمين} أي: من المشركين تسليةً له صلى الله عليه وسلم كأنه تعالى يقول له: فاصبر كما صبروا، ولا يكون ذلك إلا إذا وقع القول منه {وكفى بربك} أي: المحسن إليك {هادياً} أي: يهدي بك من قضى بسعادته {ونصيراً} أي: ينصرك على من حكم بشقاوته.
تنبيه: احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى خلق الخير والشر؛ لأن قوله تعالى: {لكل نبي عدواً} يدل على أن تلك العداوة من جعل الله تعالى وتلك العداوة كفر، فإن قيل: قوله تعالى: {يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً} كقول نوح عليه السلام : {رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً} (نوح: 5، 6)
فكما أن المقصود من هذا إنزال العذاب، فكذلك ما هنا فكيف يليق هذا بمن وصفه الله تعالى بالرحمة في قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء، 107)
(6/220)
---
؟ أجيب: بأن نوحاً عليه السلام لما ذكر ذلك دعا عليهم، وأما النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر هذا لم يدع عليهم، بل انتظر فلما قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً} كان ذلك كالأمر له بالصبر على ذلك وترك الدعاء عليهم فافترقا.
الشبهة الخامسة: لمنكري النبوة ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله تعالى:(1/2838)
{وقال الذين كفروا} أي: الذين غطوا عداوة وحسداً ما تشهد عقولهم بصحته من أن القرآن كلام الله تعالى لإعجازه لهم مفرقاً فضلاً عن كونه مجتمعاً {لولا} أي: هلا {نزل عليه القرآن} أي: أنزل كخير بمعنى أخير؛ لئلا يناقض قولهم {جملة} وأكدوا بقولهم {واحدة} أي: من أوله إلى آخره كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود لتحقق أنه من عند الله تعالى، ويزول عنا ما نتوهمه من أنه الذي يرتبه قليلاً قليلاً، وهذا الاعتراض في غاية السقوط؛ لأن الإعجاز لا يتخلف بنزوله جملة أو متفرقاً مع أن للتفريق فوائد منها:
ما أشار إليه بقوله تعالى: {كذلك} أي: أنزلناه شيئاً فشيئاً على هذا الوجه العظيم الذي أنكروه {لنثبت} أي: نقوي {به فؤادك} أي: قلبك فتعيه وتحفظه؛ لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئاً فشيئاً وجزءاً عقب جزء، ولو ألقي عليه جملة واحدة لتعيا بحفظه والرسول صلى الله عليه وسلم فارقت حاله حال داود وموسى عليهم السلام وعيسى حيث كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وهم كانوا قارئين كاتبين، فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ، فأنزله الله عليه منجماً في عشرين سنة، وقيل: في ثلاث وعشرين سنة، وأيضاً فكان ينزل على حسب الحوادث وجوابات السائلين؛ ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرقاً.
(6/221)
---(1/2839)
فإن قيل: ذا في كذلك يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدمه، والذي تقدم هو إنزاله جملة، فكيف فسر كذلك بأنزلناه مفرقاً؟ أجيب: بأن الإشارة إلى الإنزال مفرقاً لا إلى جملة، والدليل على فساد هذ الاعتراض أيضاً أنهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه، وتحدوا بسورة واحدة من أقصر السور فأبرزوا صفحة عجزهم وسجلوا به على أنفسهم حين لاذوا بالمناصبة وفزعوا إلى المجاذبة، ثم قالوا: هلا نزل جملة واحدة؟ كأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته، وقوله تعالى: {ورتلناه ترتيلاً} معطوف على الفعل الذي تعلق به كذلك كأنه قال تعالى: كذلك فرقناه ورتلناه ترتيلاً، ومعنى ترتيله قال ابن عباس: بيناه بياناً، والترتيل التبيين في تؤدة وتثبت، وقال السدي: فصلناه تفصيلاً، وقال مجاهد: بعضه في إثر بعض، وقال الحسن: تفريقاً آية بعد آية ووقعة عقب وقعة، ويجوز أن يكون المعنى: وأمرنا بترتيل قراءته، وذلك قوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلاً} (المزمل، 4)
أي: اقرأه بترتل وتثبت.
ومنه حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في صفة قراءته: لا كسردكم هذا لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها، وقيل: هو أن ننزله مع كونه متفرقاً على تمكث وتمهل في مدة متباعدة، وهي عشرون سنة، ولم نفرقه في مدة متقاربة، ولما كان التقدير قد بطل ما أتوا به من هذا الاعتراض عطف عليه.
(6/222)
---(1/2840)
{ولا يأتونك} أي: يا أشرف الخلق أي: المشركون {بمثل} أي: باعتراض في إبطال أمرك يخيلون به لعقول الضعفاء يجتهدون في تنميقه وتحسينه وتدقيقه حتى يصير عندهم في غاية الحسن والرشاقة لفظاً ومعنى {إلا جئناك} في جوابه {بالحق} أي: الذي لا محيد عنه، فيزهق ما أتوا به لبطلانه، فسمى ما يوردون من الشبه مثلاً، وسمى ما يدفع به الشبه حقاً {وأحسن} أي: من مثلهم {تفسيراً} أي: بياناً وتفصيلاً، ولما كان التفسير هو التكشيف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه، فقالوا: تفسير هذا الكلام كيت وكيت كما قيل: معناه كذا وكذا، أو لا يأتونك بحال وصفة عجيبة يقولون: هلا كانت هذه صفتك وحالك؟ نحو أن يقرن بك ملك ينذر معك أو يلقي إليك كنز، أو تكون لك جنة، أو ينزل عليك القرآن جملة واحدة إلا أعطيناك نحن من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه وما هو أحسن تكشيفاً لما بعثت عليه ودلالة على صحته، ثم بين تعالى: حال هؤلاء المعاندين في الآخرة بقوله تعالى:
(6/223)
---(1/2841)
{الذين} أي: هم الذين {يحشرون} أي: يجمعون قهراً ماشين مقلوبين {على وجوههم} مسحوبين {إلى جهنم} أي: كما أنهم لم ينظروا في الدنيا بعين الإنصاف فإن الآخرة مرآة الدنيا مهما عمل هنا رآه هناك كما أن الدنيا مزرعة الآخرة مهما عمل فيها جنى ثمره هناك. روى البخاري أن رجلاً قال: «يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة»، وروى البيهقي: «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف على الدواب، وصنف على الوجوه، وصنف على الأقدام»، ولما وصف الله تعالى المتعنتين في أمر القرآن بهذا الوصف استأنف الإخبار عنهم بقوله تعالى: {أولئك} أي: البعداء البغضاء {شر} أي: شر الخلق {مكاناً} هو جهنم {وأضل سبيلاً} أي: أخطأ طريقاً من غيرهم وهو كفرهم، ولما قال تعالى {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوّاً من المجرمين}، وذكر ذلك في معرض التسلية له صلى الله عليه وسلم ذكر قصص جماعة من الأنبياء، وعرفه تكذيب أممهم زيادة في تسليته، القصة الأولى: قصة موسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:
{ولقد آتينا} أي: بما لنا من العظمة {موسى الكتاب} أي: التوراة {وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً} أي: معيناً، فإن قيل: كونه وزيراً كالمنافي لكونه شريكاً له في النبوّة والرسالة؟ أجيب: بأنه لا منافاة بين النبوّة والرسالة والوزارة قد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء متعددون، ويؤمرون بأن يؤازر بعضهم بعضاً.
تنبيه: هارون بدل أو بيان أو منصوب على القطع ووزيراً مفعول ثان، وقيل: حال والمفعول الثاني معه ويدل على رسالة هارون عليه السلام قوله تعالى:
(6/224)
---(1/2842)
{فقلنا اذهبا إلى القوم} أي: الذين فيهم قوة وقدرة على ما يعانونه وهم القبط فرعون وقومه {الذين كذبوا بآياتنا} فذهبا إليهم بالرسالة فكذبوهما {فدمرناهم تدميراً} أي: أهلكناهم إهلاكاً أي: فأنت يا محمد لست أوّل من كذب من الرسل فلك أسوة بمن قبلك، فإن قيل: الفاء للتعقيب والإهلاك لم يحصل عقب بعثة موسى وهارون إليهم بل بعده بمدة مديدة؟ أجيب: بأن فاء التعقيب محمولة هنا على الحكم بإهلاكهم لا على الوقوع أو على أنه على إرادة اختصار القصة فاقتصر على حاشيتيها أي: أولها وآخرها لأنهما المقصودان من القصة بطولها أعني إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم.
تنبيه: قوله تعالى: كذبوا بآياتنا إن حملنا تكذيب الآيات على الآيات الإلهية فهو ظاهر، وإن حملناه على تكذيب آيات النبوّة فاللفظ، وإن كان للماضي فالمراد به المستقبل، القصة الثانية: قصة نوح عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:
(6/225)
---(1/2843)
{وقوم} أي: ودمرنا قوم {نوح لما كذبوا الرسل} كأنهم كذبوا نوحاً ومن قبله من الرسل صريحاً أو كان تكذيبهم لواحد منهم تكذيباً للجميع بالقوة، لأن المعجزات هي البرهان على صدقهم وهي متساوية الأقدام في كونها خوارق لا يقدر على معارضتها فالتكذيب بشيء منها تكذيب للجميع أولم يروا بعثة الرسل أصلاً كالبراهمة وهم قوم يمنعون بعثة الرسل نسبوا إلى رجل يقال له برهام قد مهد لهم ذلك وقرره في عقولهم، ولأنهم عللوا تكذيبهم بأنه من البشر فلزمهم تكذيب كل رسول من البشر، ثم بين تعالى تدميرهم بقوله تعالى: {أغرقناهم} قال الكلبي: أمطرنا عليهم السماء أربعين يوماً، وأخرج ماء الأرض أيضاً في تلك الأربعين، فصارت الأرض بحراً واحداً {وجعلناهم} أي: قوم نوح في ذلك {للناس آية} أي: لمن بعدهم عبرة ليعتبر كل من سلك طريقهم {وأعتدنا} أي: هيأنا في الآخرة {للظالمين} أي: للكافرين، وكان الأصل لهم ولكنه تعالى أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف {عذاباً أليماً} أي: مؤلماً سوى ما يحل بهم في الدنيا. القصة الثالثة: قصة هود عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:
(6/226)
---
{وعاداً} أي: ودمرنا عاداً قوم هود بالريح. القصة الرابعة: قصة صالح عليه السلام المذكورة في قوله: {وثموداً} أي: ودمرنا ثموداً قوم صالح بالصيحة. القصة الخامسة المذكورة في قوله تعالى: {وأصحاب الرس} أي: البئر التي هي غير مطوية أي: مبنية قال ابن جرير: والرس في كلام العرب كل محفور مثل البئر والقبر أي: ودمرناهم بالخسف.
(6/227)
---(1/2844)
واختلف في نبيهم، فقيل: شعيب وقيل غيره، كانوا قعوداً حولها فانهارت بهم وبمنازلهم فهلكوا جميعاً، وقال الكلبي: الرس بئر بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فأهلكهم الله تعالى وفلج بفتح الفاء واللام والجيم قرية عظيمة بناحية اليمن من مساكن عاد وبسكون اللام وادٍ قريب من البصرة، وقيل: الرس الأخدود، وقيل: بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيباً النجار، وقيل: أصحاب حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير سميت بذلك لطول عنقها، وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له: تخ، قيل: هو بتاء فوقية، فخاء معجمة أو مهملة، وبياء تحتية وجيم وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة، ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا.
{وقروناً} أي: ودمرنا قروناً {بين ذلك} أي: الأمر العظيم المذكور وهو بين كل أمتين من هذه الأمم وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة، ثم يشير إليها بذلك ويحسب الحاسب أعداداً متكاثرة ثم يقول: فذلك كيت وكيت على معنى فذلك المحسوب أو المعدود، ثم قال الله تعالى: {كثيراً} وناهيك بما يقول فيه سبحانه وتعالى أنه كثير وأسند البغوي في تفسير أمة وسطاً في البقرة عن أبي سعيد الخدري قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد صلاة العصر فما ترك شيئاً إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رؤوس النخل وأطراف الحيطان قال: إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي آخرها وأكرمها على الله عز وجل»، ثم إنه تعالى قال تسلية لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتأسية وبياناً لشريعته بالعفو عن أمته:
{وكلاً} أي: من هذه الأمم {ضربنا} أي: بما لنا من العظمة {له الأمثال} حتى وضح له السبيل وقام من غير شبهة الدليل {وكلاً تبرنا تتبيراً} أي: أهلكنا إهلاكاً، وقال الأخفش: كسرنا تكسيراً، وقال الزجاج: كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته.(1/2845)
(6/228)
---
{ولقد أتوا} أي: هؤلاء المكذبون من قومك {على القرية التي أمطرت} أي: وقع إمطارها ممن لا يقدر على الإمطار سواه بالحجارة ولذا قال تعالى: {مطر السوء} مصدر ساء وهي قرى قوم لوط، قال البغوي: كانت خمس قرى، فأهلك الله تعالى أربعاً منها لعملهم الفاحشة، وبختنصر واحدة منهم وهي صغر وكان أهلها لا يعملون العمل الخبيث فإن قيل: لم عبر تعالى بالقرية وهي قرى؟ أجيب: بأنه تعالى قال ذلك تحقيراً لشأنها في جنب قدرته تعالى وإهانة لمن يريد عذابه. ولانهماكهم على الفاحشة جميعهم حتى كانوا كأنهم شيء واحد وقوله تعالى:{أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون} أي: لا يخافون {نشوراً} أي: بعثاً بعد الموت؛ لأنه استقر في أنفسهم اعتقادهم التكذيب بالآخرة واستمروا عليه قرناً بعد قرن حتى تمكن منهم ذلك تمكيناً لا ينفع معه الاعتبار إلا من شاء الله.
{وإذا رأوك} أي: مع ما يعلمون من صدق حديثك وكرم أفعالك ولو لم تأتهم بمعجزة فكيف وقد أتيتهم بما بهر العقول {إن} أي: ما {يتخذونك إلا هزواً} أي: مهزوء بك وعبر تعالى بالمصدر إشارة إلى مبالغتهم في الاستهزاء مع شدة بعده صلى الله عليه وسلم عن ذلك يقولون: {أهذا الذي بعث الله رسولاً} أي: في دعواه محتقرين له أن تأتيه الرسالة، وقولهم.(1/2846)
{إنْ} مخففة من الثقيلة أي: إنه {كاد ليضلنا} أي: يصرفنا {عن آلهتنا} أي: عن عبادتها بفرط اجتهاده في الدعاء إلى التوحيد وكثرة ما يورد مما سبق إلى الذهن أنها حجج ومعجزات {لولا أن صبرنا} أي: بما لنا من الاجتماع والتعاضد {عليها} أي: على التمسك بعبادتها قال الله تعالى: {وسوف يعلمون} أي: في حال لا ينفعهم فيه العمل ولا العلم وإن طالت مدة الإمهال في التمكين {حين يرون العذاب} عياناً في الآخرة {من أضل سبيلاً} أي: أخطأ طريقاً أهم أم المؤمنون، ولما كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على رجوعهم ولزوم ما ينفعهم واجتناب ما يضرهم سلاه تعالى بقوله تعالى متعجباً من حالهم:
(6/229)
---
{أرأيت} أي: أخبرني {من اتخذ إلهه هواه} أي: أطاعه وبنى عليه دينه، لا سمع حجة ولا نظر دليلاً فإن قيل: لم أخر هواه والأصل قولك: اتخذ الهوى إلهاً؟ أجيب: بأنه ما هو إلا تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية كما تقول: علمت منطلقاً زايداً لفضل عنايتك بالمنطلق، ولما كان لا يقدر على صرف الهوى إلا الله تعالى تسبب عن شدة حرصه على هداهم قوله تعالى: {أفأنت تكون عليه وكيلاً} أي: حافظاً تحفظه من اتباع هواه لا قدرة لك على ذلك.
{أم تحسب أن أكثرهم} أي: هؤلاء المدعوّين {يسمعون} أي: سماع من ينزجر ولو كان غير عاقل كالبهائم {أو يعقلون} أي: كالبهائم ما يرون، وإن لم يكن لهم سمع حتى تطمع في رجوعهم باختيارهم من غير قسر فإن قيل: إنه تعالى لما نفى عنهم السمع والعقل فكيف ذمهم على الإعراض عن الدين وكيف بعث إليهم الرسول، فإن من شرط التكليف العقل؟ أجيب: بأنه ليس المراد أنهم لا يعقلون شيئاً بل المراد أنهم لم ينتفعوا بذلك العقل، فهو كقول الرجل لغيره إذا لم يفهم: إنما أنت أعمى وأصم فإن قيل: لم خص الأكثر بذلك دون الكل؟ أجيب: بأنه كان منهم من آمن، ومنهم من عقل الحق فكابر استكباراً وخوفاً على الرياسة.
(6/230)
---(1/2847)
ولما كان هذا الاستفهام مفيداً للنفي استأنف ما أفهمه بقوله تعالى: {إن} أي: ما {هم إلا كالأنعام} أي: في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم وعدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل والمعجزات {بل هم أضل} أي: منها {سبيلاً} لأنها تنقاد لمن يتعهدها، وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وتهتدي لمراعيها ومشاربها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والعذب الروي، ولما بين تعالى جهل المعرضين عن دلائل التوحيد وبين فساد طريقهم ذكر أنواعاً من الدلائل على وجود الصانع أولها: الاستدلال بالنظر إلى حال الظل مخاطباً رأس المخلصين الناظرين هذا النظر حثاً لأهل وده على مثل ذلك بقوله تعالى:
{ألم ترَ} أي: تنظر {إلى ربك} أي: إلى صنعه وقدرته {كيف مد الظل} وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس بجعله ممدوداً؛ لأنه ظل لا شمس معه، كما قال تعالى في ظل الجنة: {وظل ممدود} (الواقعة، 30)
(6/231)
---(1/2848)
إذ لم يكن معه شمس وإن كان بينهما فرق وهو الليل لأن ظل الأرض الممدود على قريب من نصف وجهها مدة تحجب نور الشمس عما قابل قرصها من الأرض حتى امتد بساطه وضرب فسطاطه كما حجب ظل ضلالهم أنوار عقولهم وغفلة طباعهم نفوذ أسماعهم {ولو شاء لجعله} أي: الظل {ساكناً} أي: دائماً ثابتاً لا يزول ولا تذهبه الشمس لاصقاً بأصل كل مظل من جبل وبناء وشجر غير منبسط فلم ينتفع به أحد، سمى انبساط الظل وامتداده تحركاً منه وعدم ذلك سكوناً لكنه تعالى لم يشأ بل جعله متحركاً كما يسوق الشمس له، وقال أبو عبيدة: الظل ما نسخته الشمس وهو بالغداة، والفيء ما نسخ الشمس وهو بعد الزوال سمي فيئاً؛ لأنه فاء من جانب المشرق إلى جانب المغرب {ثم جعلنا الشمس عليه} أي: الظل {دليلاً} أي: أن الناس يستدلون بالشمس وأحوالها في مسيرها على أحوال الظل من كونه ثابتاً في مكان أو زائلاً ومتسعاً أو متقلصاً فلو لم تكن الشمس لما عرف الظل ولولا النور لما عرفت الظلمة، والأشياء تعرف بأضدادها.
{ثم قبضناه} أي: الظل {إلينا} أي: إلى الجهة التي أردنا لا يقدر أحد غيرنا أن يحوله إلى جهة غيرها، والقبض جمع المنبسط من الشيء ومعناه أن الظل يعم جميع الأرض قبل طلوع الشمس، فإذا طلعت قبض الله الظل {قبضاً يسيراً} أي: على مهل، وفي هذا القبض اليسير شيئاً بعد شيء من المنافع ما لم يعد ولا يحصى، ولو قبض دفعة واحدة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعاً، وقيل: المراد من قبضها يسيراً قبضها عند قيام الساعة، وذلك بقبض أسبابها وهي الأجرام التي تلقي الظلال، وقوله تعالى: يسيراً كقوله تعالى: {حشر علينا يسير} (ق، 44)
(6/232)
---(1/2849)
فإن قيل: ثم في هذين الموضعين كيف موقعها؟ أجيب: بأن موقعها بيان تفاضل الأمور الثلاثة كان الثاني أعظم من الأول والثالث أعظم منهما تشبيهاً لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت، ولما تضمنت هذه الآية الليل والنهار وهو النوع الثاني قال تعالى مصرحاً بهما:
{وهو} أي: ربك المحسن إليك وحده {الذي جعل} دليلاً على الحق وإظهاراً للنعمة على الخلق {لكم الليل} أي: الذي تكامل به مد الظل {لباساً} أي: ساتراً للأشياء، شبه ظلامه باللباس في ستره {والنوم سباتاً} أي: راحة للأبدان بقطع المشاغل، وهو عبارة عن كونه موتاً أصغر طاوياً لما كان من الإحساس قاطعاً لما كان من الشعور والتقلب فيه دلائل لأهل البصائر، قال البغوي وغيره: وأصل السبت القطع، وفي جعله تعالى لذلك من الفوائد الدينية والدنيوية ما لا يعد ولا يحصى، وكذا في قوله تعالى: {وجعل} أي: وحده {النهار نشوراً} أي: منشوراً فيه لابتغاء الرزق وغيره، وفي ذلك إشارة إلى أن النوم واليقظة أنموذجان للموت والنشور. يحكى أن لقمان قال لابنه: يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر، ثم ذكر النوع الثالث بقوله تعالى:
(6/233)
---(1/2850)
{وهو} أي: وحده {الذي أرسل الرياح} وقرأه ابن كثير بالإفراد لإرادة الجنس وقرأه الباقون بالجمع لكونها تارة صبا وتارة دبوراً وتارة شمالاً وتارة جنوباً وغير ذلك، ويسن الدعاء عند هبوب الريح ويكره سبها لخبر «الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرها» رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن، وقوله تعالى: {نشراً} قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم النون والشين أي: ناشرات للسحاب، وقرأه ابن عامر بضم النون وسكون الشين على التخفيف، وقرأه عاصم بالباءالموحدة مضمومة وسكون الشين جمع بشور بمعنى مبشر، وقرأه حمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين على أنه مصدر وصف به {بين يدي رحمته} أي: قدام المطر، ولما كان الماء مسبباً عما تحمله الريح من السحاب أتبعه به بقوله تعالى: {وأنزلنا} أي: بما لنا من العظمة {من السماء} أي: من السحاب أو الجرم المعهود {ماء} ثم أبدل منه بياناً للنعمة به، فقال تعالى: {طهوراً} أي: طاهراً في نفسه مطهراً لغيره كما قال تعالى في آية أخرى: {ليطهركم به}، فهو اسم لما يتطهر به كالوضوء لما يتوضأ به، وكالسحور اسم لما يتسحر به والفطور اسم لما يفطر به. قال صلى الله عليه وسلم في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» أراد به المطهر فالماء المطهر؛ لأنه يطهر الإنسان من الحدث والخبث.
(6/234)
---(1/2851)
وذهب بعض الأئمة إلى أن الطهور هو الطاهر حتى جوّز إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة مثل الخل، وردّ بأنه لو جاز إزالة النجاسة بها لجاز إزالة الحدث بها، وذهب بعض منهم إلى أن الطهور ما يتكرر به التطهير، كالصبور اسم لمن يتكرر منه الصبر، والشكور اسم لمن يتكرر منه الشكر، حتى جوّز الوضوء بالماء الذي يتوضأ به مرة بعد مرة وردَّ بأن فعولاً يأتي اسماً للآلة كسحور لما يتسحر به كما مر فيجوز أن يكون طهور كذلك، ولو سلم اقتضاؤه التكرر فالمراد جمعاً بين الأدلة فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يجمعوا الماء في أسفارهم القليلة الماء، بل عدلوا عنه إلى التيمم ثبوت ذلك لجنس الماء أو في المحل الذي كان يمر عليه فإنه يطهر كل جزء منه.
{لنحيي به} أي: بالماء {بلدة ميتاً} أي: بالنبات وذكر ميتاً باعتبار المكان {ونسقيه} أي: بالماء وهو من أسقاه مزيد سقاه وهما لغتان قال ابن القطاع: سقيتك شراباً وأسقيتك، والله تعالى أسقى عباده وأرضه {مما خلقنا أنعاماً} أي: إبلاً وبقراً وغنماً {وأناسي كثيراً} جمع إنسان وأصله أناسين فأبدلت النون ياء وأدغمت فيها الياء أو جمع أنسي وقدم تعالى النبات؛ لأن به حياة الأنعام، والأنعام على الإنسان؛ لأن بها كمال حياته فإن قيل: لما خص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان؟ أجيب: بأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام ولأنها قنية الأناسي وعامة منافعهم متعلقة بها، فكان الإنعام عليهم بسقي أنعامهم كالإنعام بسقيهم.
فإن قيل: لما نكر الأنعام والأناسي ووصفها بالكثرة؟ أجيب: بأن جل الناس منيخون بالقرب من الأودية والأنهار ومنابع الماء فبهم غنية عن سقي السماء وأعقابهم، وهم كثير منهم لا يعيشون إلا بما ينزل الله من رحمته وسقيا سمائه، وكذلك قوله تعالى: {لنحيي به بلدة ميتاً} (الفرقان، 49)
يريد به بعض بلاد هؤلاء المتبعدين عن مظان الماء، واختلف في عود الهاء في قوله تعالى:
(6/235)
---(1/2852)
{ولقد صرفناه بينهم} على ثلاثة أوجه: أولها: قال الجمهور: إنها ترجع إلى المطر أي: صرفنا نزول الماء من وابل وطل وغير ذلك مرة ببلد ومرة ببلدة أخرى، قال ابن عباس: ما عام بأمطر من عام آخر، ولكن الله تعالى يصرفه في الأرض، وقرأ هذه الآية وهذا كما روي مرفوعاً «ما من ساعة من ليل أو نهار إلا والسماء تمطر فيها فيصرفه الله تعالى حيث يشاء»، وروي عن ابن مسعود يرفعه قال: «ليس من سنة بأمطر من أخرى ولكن الله تعالى قسم هذه الأرزاق فجعلها في السماء في هذا القطر ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم، وإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار»، وروي أن الملائكة يعرفون عدد المطر مقداره في كل عام لأنه لا يختلف ولكن تختلف فيه البلاد، ثانيها: قال أبو مسلم: الضمير راجع إلى المطر والسحاب والظلال، وسائر ما ذكره الله من الأدلة، ثالثها: صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر {ليذكروا} أي: ليتفكروا ويعملوا كمال القدرة وحق النعمة، ويقوموا بشكره.
(6/237)
---(1/2853)
تنبيه: أصل يذكروا يتذكروا أدغمت التاء في الذال وقرأ حمزة والكسائي بسكون الذال ورفع الكاف مخففة، والباقون بفتح الذال والكاف مشددتين {فأبى} أي: لم يرد {أكثر الناس} أي: بعبادتهم {إلا كفوراً} أي: جحوداً للنعمة وقلة الاكتراث بها وكفرانهم هو أنهم إذا مطروا قالوا: مطرنا بنوء كذا وهو بفتح النون وهمزة آخره وقت النجم الفلاني على عادة العرب في إضافة المطر إلى الأنواء فيكره أن يقول ذلك لإيهامه أن النوء فاعل المطر حقيقة، فإن اعتقد أنه الفاعل له حقيقة كفر، روى زيد بن خالد الجهني قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: قال أصبح من عبادي من هو مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي وكافر بالكواكب»، وأفاد تعليق الحكم بالباء أنه لو قال: مطرنا في نوء كذا لم يكره، ونقل الشافعي عن بعض الصحابة أنه كان يقول عند المطر: مطرنا بنوء الفتح، ثم يقرأ: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها} (فاطر، 2)
{ولو شئنا لبعثنا} أي: بما لنا من العظمة ونفوذ الكلمة {في كل قرية نذيراً} أي: رسولاً ينذرهم من البشر أو الملائكة أو غيرهم كما قسمنا المطر عليها وإنما قصرنا الأمر عليك وعظمناك به، وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل.
(6/238)
---(1/2854)
{فلا تطع الكافرين} فيما قصدوا من التنفير عن الدعاء بما يبدونه من المقترحات أو يظهرون لك من المداهنة أو من القلق من صادع الإنذار ويخيلون لك أنك لو أقللت منه رجوا أن يوافقوك وقابل ذلك بالتشدد والتصبر {وجاهدهم} أي: بالدعاء {به} أي: القرآن الذي تقدم التحدث عنه في قوله تعالى: ولقد صرفناه، أو بترك طاعتهم المدلول عليه بقوله تعالى: فلا تطع أو بالسيف والأقرب الأول؛ لأن السورة مكية، والأمر بالقتال ورد بعد الهجرة بزمان {جهاداً كبيراً} أي: جامعاً لكل المجاهدات الظاهرة والباطنة؛ لأن في ذلك إقبال كثير من الناس إليك واجتماعهم عليك، فيقوى أمرك ويعظم خطبك وتضعف شوكتهم وتنكسر سورتهم، فإن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف، ثم ذكر النوع الرابع بقوله تعالى:
{وهو الذي مرج البحرين} أي: الماءين الواسعين الكبيرين بأن خلاهما متجاورين متلاصقين، وهو بقدرته تعالى يفصل بينهما ويمنعهما التمازج {هذا عذب} أي: حلو سائغ {فرات} أي: شديد العذوبة بالغ الغاية فيها حتى يضرب إلى الحلاوة لا فرق بين ما كان منه على وجه الأرض، وما كان في بطنها {وهذا ملح} أي: شديد الملوحة {أجاج} أي: مر محرق بملوحته ومرارته لا يصلح لسقي ولا شرب.
تنبيه: أشار تعالى بأداة القرب في الموضعين تنبيهاً على وجود الوصفين مع شدة المقاربة لا يلتبس أحدهما بالآخر حتى أنه إذا حفر على شاطىء البحر الملح بالقرب جداً منه خرج الماء عذباً {وجعل} أي: الله تعالى {بينهما برزخاً} أي: حاجزاً من قدرته مانعاً من اختلاطهما، ثم إنه تعالى أتم تقرير النعمة في منعهما من الاختلاط بالكلمة التي جرت عادتهم بقولها عند التعوذ تشبيهاً لكل منهما بالمتعوذ بقوله تعالى: {وحجراً محجوراً} فكأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول له ذلك كما قال تعالى: {لا يبغيان} (الرحمن، 20)
(6/239)
---(1/2855)
أي: لا يبغي أحدهما على صاحبه بالملوحة أو العذوبة، فانتقاء البغي كالتعوذ ههنا، ثم جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه فهو يتعوذ منه وهو من أحسن الإستعارات وأشهدها على البلاغة فإن قيل: لا وجود للبحر العذب فكيف ذكره الله تعالى هنا؟ أجيب: بأن المراد منه الأودية العظام كالنيل وجيحون ومن البحر الأجاج البحار الكبار. ثم ذكر النوع الخامس بقوله تعالى:
{وهو} أي: وحده {الذي خلق من الماء} أي: المني من الرجل والمرأة {بشراً} أي: إنساناً {فجعله} أي: بعد ذلك بالتطوير في أطوار الخلقة والتدوير في أدوار التربية {نسباً} أي: ذكراً ينسب إليه {وصهراً} أي: أنثى يصاهر بها فيقسم هذا الماء بعد التطوير إلى ذكر وأنثى كما جعل ذلك الماء قسمين عذباً وملحاً ونحو هذا قوله تعالى: {فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} (القيامة، 39)، وقيل: النسب ما لا يحل نكاحه، والصهر ما يحل نكاحه، فالنسب ما يوجب الحرمة، والصهر ما لا يوجبها، قال البغوي: وقيل وهو الصحيح: النسب من القرابة والصهر الخلطة التي تشبه القرابة وهو النسب المحرم للنكاح، وقد ذكر الله تعالى أنه حرم للنسب سبعاً في قوله تعالى في النساء: {حرمت عليكم أمهاتكم} (النساء، 23)
{وكان ربك} أي: المحسن إليك بإرسالك وإنزال هذا الذكر إليك {قديراً} حيث خلق من مادة واحدة بشراً ذا أعضاء مختلفة وطبائع متباعدة، وجعله قسمين ذكراً وأنثى، وربما يخلق من نطفة واحدة نوعين ذكراً وأنثى فهو يوفق من يشاء فيجعله عذب المذاق سهل الأخلاق، ويخذل من يشاء فيجعله مر الأخلاق كثير الشقاق غريقاً في النفاق، ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد عاد إلى تهجين سيرتهم، فقال تعالى:
(6/240)
---(1/2856)
{ويعبدون} أي: هؤلاء الكفرة {من دون الله} أي: مما يعلمون أنه في الرتبة دون الله المستجمع لصفات الكمال والعظمة بحيث أنه لا ضر ولا نفع إلا وهو بيده {ما لا ينفعهم} بوجه من الوجوه إن عبدوه في إزالة كربة {ولا يضرهم} في أزلة نعمة من نعم الله تعالى عليهم إن تركوه {وكان الكافر} أي: مع علمه بضعفه وعجزه {على ربه} أي: المحسن إليه لا غيره {ظهيراً} أي: معيناً للشيطان من الإنس والجن على أولياء الله تعالى، روي أنها نزلت في أبي جهل ويجوز أن يراد بالظهير الجماعة كقوله تعالى: {والملائكة بعد ذلك ظهير} (التحريم، 4)، كما جاء الصديق والخليط وعلى هذا يكون المراد بالكافر الجنس، فإن بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء نور دين الله قال تعالى: {وإخوانهم يمدونهم في الغي} (الأعراف، 202)
وهذا أولى لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ، ولأنه أوفق لظاهر قوله تعالى: {ويعبدون من دون الله}، وقيل: معناه وكان الذي يفعل هذا الفعل وهو عبادة ما لا ينفع ولا يضر على ربه هيناً مهيناً من قولهم ظهرت به إذا خلفته خلف ظهرك لا تلتفت إليه وهو نحو قوله تعالى: {أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم} (آل عمران، 77)، ولما كان التقدير تسلية له صلى الله عليه وسلم فالزم ما نأمرك به ولا يزد همك بردهم عما هم فيه، فإنا ما أرسلناك عليهم وكيلاً عطف عليه قوله تعالى:
{وما أرسلناك} يا أشرف الخلق بما لنا من العظمة {إلا مبشراً} بالثواب على الإيمان والطاعة {ونذيراً} أي: مخوفاً بالعقاب على الكفر والمعصية، ثم كأنه قيل: فماذا أقول لهم إذا طعنوا في الرسالة؟ فقال تعالى:
(6/241)
---(1/2857)
{قل} أي: لهم يا أكرم الخلق حقيقة وأعدلهم طريقة محتجاً عليهم بإزالة ما يكون موضعاً للتهمة {ما أسألكم عليه} أي: على تبليغ ما أرسلت به {من أجر} فتتهموني أني أدعوكم لأجله إذ لا غرض لي إلا نفعكم، ثم أكد هذا المعنى بقوله تعالى مستثنياً؛ لأن الاستثناء معيار العموم {إلا من} أي: إلا أجر من {شاء أن يتخذ} أي: يكلف نفسه ويخالف هواه، ويجعل له {إلى ربه سبيلاً} فإنه إذا اهتدى بهداية ربه كان لي مثل أجره لا نفع لي من جهتكم إلا هذا فإن سميتم هذا أجراً فهو مطلوبي، ولا مرية في أنه لاينقص أحداً شيئاً من دنياه فأفاد فائدتين؛ الأولى: أنه لا طمع له أصلاً في شيء ينقصهم، والثانية: إظهار الشفقة البالغة حيث لم يقصد بمنفعتهم الموصلة لهم إلى ربهم ثواباً لنفسه، وقيل: الاستثناء منقطع أي: لكن من يشاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً فليفعل، وجرى على هذا الجلال المحلي، وقال ابن عادل: في الأول نظر؛ لأنه لم يسند السؤال المنفي في الظاهر إلى الله تعالى إنما أسنده إلى المخاطبين فكيف يصح هذا التقدير؟ انتهى. وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المد والقصر وسهّل ورش وقنبل الثانية، ولهما أيضاً إبدالها ألفاً والباقون بتحقيق الهمزتين، ولما بين تعالى أن الكفار يتظاهرون على إيذائه وأمره أن لا يطلب منهم أجراً أمره أن يتوكل عليه في دفع جميع المضار، وجلب جميع المنافع بقوله تعالى:
(6/242)
---(1/2858)
{وتوكل} أي: أظهر العجز والضعف واستسلم واعتمد في أمرك كله، ولا سيما في مواجهتهم بالإنذار، وفي ردهم من عنادهم {على الحي الذي لا يموت} فلا ضياع لمن توكل عليه، فإنه الحقيق بأن يتوكل عليه دون الأحياء الذين يموتون، فإنهم إذا ماتوا ضاع من توكل عليهم، وعن بعض السلف أنه قرأها فقال: لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق {وسبح} متلبساً {بحمده} أي: نزهه عن كل نقص مثبتاً له كل كمال، وقيل: صلِّ له شكراً على نعمه، وقيل: قل سبحان الله والحمد لله وحده وعلى هذا اقتصر الجلال المحلى {وكفى به بذنوب عباده} أي: ما ظهر منها وما بطن وكل ما سواه عبد {خبيراً} أي: عالماً مطلقاً فلا يخفى عليه خافية شيء منها، وإن دق فلا عليك إن آمنوا أو كفروا، وهذه الكلمة يراد بها المبالغة يقال: كفى بالعلم كمالاً وكفى بالأدب مالاً وهو معنى حسبك أي: لا تحتاج معه إلى غيره، لأنه تعالى خبير بأحوالهم قادر على مكافأتهم، وهذا وعيد شديد، ولما أمر الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يتوكل عليه وصف تعالى نفسه بأمور منها أنه حي لا يموت، ومنها أنه عالم بجميع المعلومات، ومنها أنه قادر على كل الممكنات، وهو قوله تعالى:
(6/244)
---(1/2859)
{الذي خلق السموات والأرض} على عظمهما {وما بينهما} من الفضاء والعناصر والعباد وأعمالهم من الذنوب وغيرها ألا يعلم من خلق وقوله تعالى: {في ستة أيام} أي: من أيام الدنيا تعجيب للغبي الجاهل وتدريب للفطن العالم في الحلم والأناة والصبر على عباد الله تعالى في دعوتهم، فإن قيل: الأيام عبارة عن حركة الشمس في السموات، فقبل السموات لا أيام فكيف قال تعالى: في ستة أيام؟ أجيب: بأنه تعالى خلقها في مدة مقدارها هذه الأيام، فإن قيل: يلزم على هذا قدم الزمان وهو ممنوع؟ أجيب: بأن الله تعالى خلق هذه المدة أولاً ثم خلق السموات والأرض فيها بمقدار ستة أيام فلا يلزم من ذلك قدم الزمان، وقيل: في ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم مقداره ألف سنة وهو بعيد؛ لأن التعريف لا بد وأن يكون بأمر معلوم لا بأمر مجهول.g
فإن قيل: لما قدر الخلق والإيجاد بهذا المقدار؟ أجيب: بأنه يجب على المكلف أن يقطع الطمع عن مثل هذا فإنه بحر لا ساحل له من ذلك تقدير الملائكة الذين هم أصحاب النار بتسعة عشر، وحملة العرش بثمانية والشهور بإثني عشر والسموات بالسبع وعدد الصلوات ومقادير النصب في الزكوات والحدود والكفارات، فالإقرار بأن كل ما قاله الله حق هو الدين والواجب ترك البحث عن هذه الأشياء، وقد نص الله تعالى على ذلك في قوله عز وجل: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً} ثم قال الله تعالى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} (المدثر، 31)
(6/245)
---(1/2860)
وهذا جواب أيضاً عن أنه لم لم يخلقها في لحظة وهو قادر على ذلك، وعن سعيد ابن جبير: إنما خلقها في ستة أيام وهو قادر أن يخلقها في لحظة واحدة، تعليماً لخلقه الرفق والتثبت، وقيل: اجتمع خلقها يوم الجمعة فجعله الله عيداً للمسلمين، وعن مجاهد أول الأيام يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، ولما كان تدبير هذا الملك أمراً باهراً أشار إليه بأداة التراخي بقوله تعالى: {ثم استوى على العرش} أي: شرع في التدبير لهذا الملك الذي اخترعه وأوجده، ولا يجوز أن يفسر بالاستقرار، لأنه يقتضي التغير الذي هو دليل الحدوث، ويقتضي التركيب وكل ذلك على الله محال، فإن قيل: يلزم من ذلك أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات، وقال الله تعالى: {وكان عرشه على الماء} (هود، 7)
؟ أجيب: بأن كلمة ثم ما دخلت على خلق العرش بل على رفعه على السموات وهو في اللغة سرير الملك وفي رفع قوله تعالى {الرحمن} أوجه؛ أحدها: أنه خبر الذي خلق أو خبر مبتدأ مضمر أي: هو الرحمن ولهذا أجاز الزجاج وغيره الوقف على العرش، ثم يبتدىء الرحمن أي: هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود والتعظيم إلا له، أو يكون بدلاً من الضمير في استوى، وعلى هذا اقتصر الجلال المحلي.
(6/246)
---(1/2861)
واختلف في معنى الفاء في قوله تعالى: {فاسأل به} على قولين؛ أحدهما: أنها على بابها وهي متعلقة بالسؤال، والمراد بقوله: {خبيراً} أي: عالماً يخبرك بحقيقته هو الله تعالى، ويكون من التجريد كقوله: رأيت به أسداً والمعنى: فاسأل الله الخبير بالأشياء قال الزمخشري: أو فاسأل بسؤاله خبيراً كقولك: رأيت به أسداً أي: برؤيته انتهى. فقال الكلبي: فقوله به يعود إلى ما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش، والباء من صلة الخبير وذلك الخبير هو الله تعالى، لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق السموات والأرض، والاستواء على العرش، ولا يعلمها أحد إلا الله تعالى، والثاني: أن تكون الباء بمعنى عن إما مطلقاً وإما مع السؤال خاصة كهذه الآية، وكقول علقمة بن عبيدة:
*فإن تسألوني بالنساء فإنني
** خبير بأدواء النساء طبيب
والضمير في به لله وخبيراً من صفات الملك وهو جبريل عليه السلام ، فعن ابن عباس أن ذلك الخبير هو جبريل وإنما قدم لرؤوس الآي وحسن النظم، وقال ابن جرير: الباء في به صلة والمعنى: فاسأله خبيراً، وخبيراً نصب على الحال وقيل: به يجري مجرى القسم كقوله تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به}، وقيل: فاسأل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتاب حتى تعرف من ينكره ومن ثم كانوا يقولون: ما نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة يعنون مسيلمة الكذاب، وكان يقال له: رحمن اليمامة، وقيل: فاسأل بسبب سؤالك إياه خبيراً عن هذه الأمور وكل أمر تريده فيخبرك بحقيقة أمره ابتداءً وحالاً ومآلاً، فلا يضيق صدرك بسبب هؤلاء المدعوين، فإنه ما أرسلك إلا وهو عالم بهم فسيعلي كعبك عليهم ويحسن لك العاقبة، وقرأ ابن كثير والكسائي بالنقل، وكذا يقرأ حمزة في الوقف، والباقون بسكون السين وفتح الهمزة، ولما ذكر تعالى إحسانه إليهم وإنعامه عليهم ذكر ما أبدوه من كفرهم في موضع شكرهم بقوله:
(6/247)
---(1/2862)
{وإذا قيل لهم}: أي: من أي قائل قال لهؤلاء الذين يتقلبون في نعمه: {اسجدوا} أي: اخضعوا بالصلاة وغيرها {للرحمن} أي: الذي لا نعمة لكم إلا منه {قالوا وما الرحمن} متجاهلين في معرفته فضلاً عن كفر نعمته معبرين بأداة ما لا يعقل، وقال ابن عربي: إنما عبروا بذلك إشارة إلى جهلهم بالصفة دون الموصوف، ثم عجبوا من أمره بذلك منكرين عليه بقولهم: {أنسجد لما تأمرنا} فعبروا عنه بعد التجاهل في أمره، والإنكار على الداعي إليه أيضاً بأداة ما لا يعقل {وزادهم} أي: هذا الأمر الواضح المقتضي للإقبال والسكون شكراً للنعمة وطمعاً في الزيادة {نفوراً} أي: عن الإيمان والسجود.
تنبيه: هذه السجدة من عزائم سجود التلاوة يسن للقارئ والمستمع والسامع أن يسجد عند قراءتها أو سماعها، وقرأ وإذا قيل لهم هشام والكسائي بالإشمام وضم القاف مع سكون الياء والباقون بكسر القاف، وقرأ لما يأمرنا حمزة والكسائي بالياء التحتية والباقون بالتاء الفوقية، وأبدل ورش والسوسي الهمزة وقفاً ووصلاً وحمزة وقفاً لا وصلاً، ولما حكى تعالى عن الكفار مزيد النفرة عن السجود وذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود والعبادة للرحمن قال عز من قائل:
{تبارك} أي: ثبت ثباتاً لا نظير له {الذي جعل في السماء} التي تقدم أنه اخترعها، واختلف في معنى قوله: {بروجاً} فقال الزجاج ومجاهد وقتادة: هي النجوم الكبار سميت بروجاً لظهورها، وقال عطية العوفي: هي القصور فيها الحرس كما قال تعالى: {ولو كنتم في بروج مشيدة} (النساء، 78)
(6/248)
---(1/2863)
وقال عطاء عن ابن عباس: هي الاثنا عشر التي هي منازل الكواكب السبعة السيارة وهي: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، فالحمل والعقرب بيتا المريخ، والثور والميزان بيتا الزهرة، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد، والسرطان بيت القمر، والأسد بيت الشمس، والقوس والحوت بيتا المشتري، والجدي والدلو بيتا زحل، وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربعة فيكون نصيب كل واحد منها ثلاثة بروج تسمى المثلثات فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية.
{وجعل فيها} أي: السماء وقيل: البروج {سراجاً} أي: شمساً وقرأ حمزة والكسائي بضم السين والراء على الجمع للتنبيه على عظمته في ذلك من حيث أنه أعظم من ألوف من السرج فهو قائم مقام الوصف كما في الذي بعده كما سيأتي وقيل: المراد بالجمع الشمس والكواكب الكبار، والباقون بكسر السين وفتح الراء وألف بعدها على التوحيد {وقمراً منيراً} أي: مضيئاً بالليل، ولما ذكر تعالى هاتين الآيتين ذكر ماهما آيتاه بقوله تعالى:
{وهو الذي جعل الليل} أي: الذي آيته القمر {والنهار} أي: الذي آيته الشمس {خلفة} أي: ذوي حالة معروفة في الاختلاف، فيأتي هذا خلف ذاك بضد ما له من الأوصاف، وقال ابن عباس والحسن: يعني خلفاً وعوضاً يقوم أحدهما مقام صاحبه فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر قال شقيق: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: فاتتني الصلاة الليلة قال: أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك، فإن الله عز وجل جعل الليل والنهار خلفة {لمن أراد أن يذكر} أي: يتذكر آلاء الله ويتفكر في صنعه فيعلم أنه لا بد له من صانع حكيم واجب الذات رحيم على العباد، وقرأ حمزة بسكون الذال وضم الكاف مخففة من ذكر بمعنى تذكر والباقون بفتح الكاف والذال مشددتين.
(6/249)(1/2864)
---
{أو أراد شكوراً} أي: شكر نعمة ربه عليه من الإتيان بكل منهما بعد الآخر لاجتناء ثمراته ولو جعل أحدهما دائماً لفاتت مصالح الآخر ولحصلت السآمة والملل منه والتواني في الأمور المقدرة بالأوقات وفتر العزم الذي إنما يثيره لتداركها دخول وقت آخر وغير ذلك من الأمور التي أحكمها العلي الكبير، وعن الحسن من فاته عمله من التذكر والشكر بالنهار كان له في الليل مستعتب، ومن فاته بالليل كان له في النهار مستعتب، ولما ذكر الله تعالى عباده الذين خذلهم بتسليط الشيطان عليهم فصاروا حزباً ولم يضفهم إلى اسم من أسمائه إيذاناً بإهانتهم لهوانهم عنده أشار إلى عباده الذين أخلصهم لنفسه قوله تعالى:
{وعباد الرحمن} فأضافهم إليه رفعة لهم وإن كان الخلق كلهم عباده وأضافهم إلى وصف الرحمة الأبلغ الذي أنكره أولئك تبشيراً لهم، ثم وصفهم بضد ما وصف به المتكبرين عن السجود إشارة إلى أنهم تخلقوا من هذه الصفة التي أضيفوا إليها بصفات كثيرة؛ الصفة الأولى: قوله تعالى: {الذين يمشون} وقال تعالى: {على الأرض} تذكيراً بما يصيرون إليه وحثاً على السعي في معالي الأخلاق {هوناً} أي: هينين أو مشياً هيناً مصدر وصف به مبالغة والهون الرفق واللين، ومنه الحديث: «أحبب حبيبك هوناً ما»، وقوله: المؤمنون هينون، والمثل: إذا عز أخوك فهن، والمعنى إذا عاسر فياسر، والمعنى أنهم يمشون بسكينة وتواضع ووقار لا يضربون لوقارهم بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشراً وبطراً ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق لقوله تعالى: {ويمشون في الأسواق} (الفرقان، 30)
(6/250)
---(1/2865)
تنبيه: عباد مرفوع بالإبتداء وفي خبره وجهان؛ أحدها: الجملة الأخيرة في آخر السورة أولئك يجزون وبه بدأ الزمخشري والذين يمشون وما بعده صفات للمبتدأ، والثاني: أن الخبر الذين يمشون. الصفة الثانية {وإذا خاطبهم الجاهلون} أي: بما يكرهون {قالوا سلاماً} أي: تسلماً منكم لا نجاهلكم ومتاركة لا خير بيننا ولا شر أي: فنسلم منكم تسلماً فأقيم السلام مقام التسلم وقيل: قالوا: سداداً من القول أي: يسلمون فيه من الإثم والإيذاء وليس المراد التحية؛ لأن المؤمنين لم يؤمروا بالسلام على المشركين، وعن أبي العالية: نسختها آية القتال ولا حاجة إلى ادعاء النسخ بآية القتال ولا غيرها؛ لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة أسلم للعرض والورع، وأطلق الخطاب إعلاماً بأن أكثر خصال الجاهل وهو الذي يخالف العلم والحكمة الجهل وهو السفه وقلة الأدب من قوله:
*ألا لا يجهلن أحد علينا
** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ولما ذكر تعالى ما بينهم وبين الخلق ذكر ما بينهم وبينه وهي الصفة الثالثة بقوله تعالى:
(6/251)
---(1/2866)
{والذين يبيتون} من البيتوتة قال الزجاج: كل من أدركه الليل قيل: بات وإن لم ينم كما يقال: بات فلان قلقاً والمعنى يبيتون {لربهم} أي: المحسن إليهم {سجداً} على وجوههم في الصلاة وقدّمه لأنه أنهى الخضوع، وأخر عنه قوله تعالى: {وقياماً} أي: على أقدامهم وإن كان تطويل القيام أفضل للروي، وتخصيص البيتوتة؛ لأن العبادة في الليل أشق وأبعد من الرياء، قال الزمخشري: والظاهر أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره، وقيل: من قرأ شيئاً من القرآن في صلاة وإن قل فقد بات ساجداً وقائماً، وقال ابن عباس: من صلى بعد العشاء ركعتين فقد بات ساجداً وقائماً، وقيل: هما لركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء، وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من صلى عشاء الآخرة في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى الصبح في جماعة كان كقيام ليلة»، ولما ذكر تعالى تهذيبهم للخلق والخالق وصفهم الله تعالى أنهم مع ذلك خائفون وجلون وهي الصفة الرابعة بقوله تعالى:
{والذين يقولون ربنا} أي: المحسن إلينا {اصرف عنا عذاب جهنم} قال ابن عباس: يقولون في سجودهم وقيامهم هذا القول، ثم علل سؤالهم بقوله تعالى: {إن عذابها كان} أي: كوناً جبلت عليه {غراماً} أي: هلاكاً وخسراناً ملحاً لازماً لا ينفك عنه كما قال:
*إن يعاقب يكن غراماً وإن يع
** ط جزيلاً فإنه لا يبالي
ومنه الغريم لملازمته وإلحاحه فهم يبتهلون إلى الله تعالى في صرف العذاب عنهم لعدم اعتدادهم بأعمالهم ووثوقهم على استمرار أحوالهم، ولما ثبت لهم هذا الوصف أنتج قوله تعالى.
{إنها ساءت} أي: تناهت هي في كل ما يحصل منه سوء وهي في معنى بئست في جميع المذام {مستقراً} أي: موضع استقرار {ومقاماً} أي: موضع إقامة.
(6/253)
---(1/2867)
تنبيه: ساءت في حكم بئست كما مر ففيها ضمير مبهم يفسره مستقراً، والمخصوص بالذم محذوف معناه ساءت مستقراً ومقاماً هي وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم إن وجعلها خبراً لها، ويجوز أن تكون ساءت بمعنى أحزنت ففيها ضمير اسم إن ومستقراً حال أو تمييز والتعليلان يصح أن يكونا متداخلين أو مترادفين وأن يكونا من كلام الله تعالى وحكاية لقولهم، ولما ذكر تعالى أفعالهم وأقوالهم أتبع ذلك بذكر إنفاقهم وهو الصفة الخامسة بقوله تعالى:
{والذين إذا أنفقوا} أي: للخلق أو الخالق في واجب أو مستحب أو مباح {لم يسرفوا} أي: لم يجاوزوا الحد في النفقة بالتبذير فيضيعوا الأموال في غير حقها {ولم يقتروا} أي: لم يضيقوا فيضيعوا الحقوق {وكان} أي: إنفاقهم بين ذلك أي: الإسراف والإقتار {قواماً} أي: وسطاً.
تنبيه: اسم كان ضمير يعود على الإنفاق المفهوم من قوله تعالى: أنفقوا وخبرها قواماً، وبين ذلك معمول له، وقيل: غير ذلك وذكر المفسرون في الإسراف والتقتير وجوهاً؛ أحدها: قال الرازي وهو الأقوى وصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقتير، وبمثله أمر صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} (الإسراء، 29)
إذ يقال: ما عال من اقتصد، وسأل رجل بعض العلماء ما البناء الذي لا سرف فيه قال: ما سترك من الشمس وأكنك من المطر، قال: فما الطعام الذي لا سرف فيه؟ قال: ما سد الجوعة، قال: فما اللباس الذي لا سرف فيه؟ قال: ما ستر عورتك وأدفأك من البرد، ثانيها: وهو قول ابن عباس: الإسراف النفقة في معصية الله تعالى، والإقتار منع حق الله تعالى، وقال مجاهد: لو أنفق أحد مثل جبل أبي قبيس ذهباً في طاعة الله تعالى لم يكن سرفاً، ولو أنفق صاعاً في معصية الله تعالى كان سرفاً، وقال الحسن: لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عما ينبغي وأنشدوا:
*ذهاب المال في حمد وخير
** ذهاب لا يقال له ذهاب
(6/254)
---(1/2868)
وسمع رجل رجلاً يقول: لا خير في الإسراف، فقال: لا إسراف في الخير، وعن عمر بن عبد العزيز أنه شكر عبد الملك بن مروان حين زوجه ابنته وأحسن إليه فقال: وصلت الرحم وفعلت وصنعت وجاء بكلام كثير حسن فقال ابن لعبد الملك إنما هو كلام أعده لهذا المقام، فسكت عبد الملك، فلما كان بعد أيام دخل عليه والابن حاضر فسأله عن نفقته وأحواله، فقال: النفقة بين الشيئين، فعرف عبد الملك أنه أراد ما في هذه الآية فقال لابنه: يا بني هذا أيضاً مما أعده، وثالثها السرف مجاوزة الحد في التنعم والتوسع في الدنيا وإن كان من حلال؛ لأنه يؤدي إلى الخيلاء وكسر قلوب الفقراء، فكانت الصحابة لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة ولكن كانوا يأكلون ما يسد جوعتهم ويعينهم على عبادة ربهم ويلبسون ما يستر عوراتهم ويقيهم من الحر والبرد، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كفى سرفاً أن لا يشتهي الرجل شيئاً إلا اشتراه فأكله، وقرأ نافع وابن عامر يقتروا بضم التحتية وكسر الفوقية من أقتر، وابن كثير وأبو عمر بفتح التحتية وكسر الفوقية والكوفيون بفتح التحتية وضم الفوقية، ولما ذكر تعالى ما تحلوا به من أصول الطاعات أتبعه بذكر ما تخلوا عنه من أمهات المعاصي التي هي الفحشاء والمنكر وهو الصفة السادسة بقوله تعالى:
(6/255)
---(1/2869)
{والذين لا يدعون} أي: رحمة لأنفسهم واستعمالاً للعدل {مع الله} أي: الذي اختص بصفات الكمال {إلهاً آخر} أي: دعاءً جلياً بالعبادة ولا خفياً بالرياء، ولما نفى عنهم ما يوجب قتل أنفسهم بخسارتهم إياها أتبعه نفي قتل غيرهم بقوله سبحانه: {ولا يقتلون النفس} رحمة للخلق وطاعة للخالق ولما كان من الأنفس ما لا حرمة له بين المراد بقوله تعالى: {التي حرم الله} أي: منع من قتلها {إلا بالحق} أي: بأن تعمل بما يبيح قتلها، ولما ذكر القتل الجلي أتبعه الخفي بتضييع نسب الولد بقوله تعالى: {ولا يزنون} أي: رحمة للمزني بها ولأقاربها أن تنهتك حرماتهم مع رحمته لنفسه على أن الزنا أيضاً جار إلى القتل والفتن وفيه التسبب إلى إيجاد نفس بالباطل كما أن القتل سبب إلى إعدامها بذلك، وقد روي في الصحيح عن عبد الله بن مسعود أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم وفي رواية أكبر عند الله؟ قال: «أن تدعو لله نداً وهو خلقك قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك» فأنزل الله تصديق ذلك، {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} الآية.
(6/256)
---(1/2870)
وقد استشكل تصديق هذه الآية للخبر من حيث أن الذي فيه قتل خاص وزنا خاص، والتقييد بكونه أكبر والذي فيها مطلق القتل والزنا من غير تعرض لعظم؟ وأجيب: بدفع الإشكال بأنها نطقت بتعظيم ذلك من سبعة أوجه؛ الأول: الاعتراض من بين المبتدأ الذي هو وعباد الرحمن وما عطف عليه والخبر الذي هو أولئك يجزون الغرفة على إحدى الروايتين بذكر هذه الثلاثة خاصة وذلك دال على مزيد الاهتمام الدال على الإعظام، الثاني: الإشارة بأداة البعد في قوله تعالى: {ومن يفعل ذلك} أي: هذا الفعل العظيم القبيح مع قرب المذكورات فدل على أن البعد من رتبتها فهو إشارة إلى جميع ما تقدم؛ لأنه بمعنى ما ذكر، فلذلك وحده وأدغم لام يفعل في الذال أبو الحارث والباقون بالإظهار، الثالث: التعبير باللقي مع المصدر المزيد الدال على زيادة المعنى في قوله: {يلق أثاماً} دون يأثم ويلق إثماً أي: جزاء إثمه، الرابع: التقييد بالمضاعفة في قوله تعالى مستأنفاً:
{يضاعف} بأسهل أمر {له العذاب} جزاء ما أتبع نفسه هواها، الخامس: التهويل بقوله تعالى: {يوم القيامة} الذي هو أهول من غيره بما لا يقاس، السادس: الإخبار بالخلود الذي أقل درجاته أن يكون مكثاً طويلاً بقوله تعالى: {ويخلد فيه} وقرأ يضاعف ويخلد ابن عامر وشعبة برفع الفاء والدال، والباقون بجزمهما وأسقط الألف من يضاعف مع تشديد العين ابن كثير وابن عامر فالجزم على أنهما بدلان من يلق بدل اشتمال، والرفع على الاستئناف، السابع: التصريح بقوله تعالى: {مهاناً} فلما أعظم الأمر من هذه الأوجه علم أن كلاً من هذه الذنوب كبير، وإذا كان الأعم كبيراً كان الأخص المذكور أعظم من مطلق الأعم؛ لأنه زاد عليه بما صار به خاصاً فثبت بهذا أنها كبائر وإن قتل الولد والزنا بحليلة الجار أكبر ما ذكر فوجد تصديق الآية للخبر.
(6/257)
---(1/2871)
وقرأ حفص مع ابن كثير بصلة الهاء بالياء من فيه قبل مهاناً، فإن قيل: ذكر أن من صفات عباد الرحمن صفات حسنة فكيف يليق بعد ذلك أن يطهرهم عن الأمور العظيمة مثل الشرك والقتل والزنا فلو كان الترتيب بالعكس كان أولى؟ أجيب: بأن الموصوف بتلك الصفات السابقة قد يكون متمسكاً بالشرك تديناً وبقتل الموؤدة تديناً وبالزنا تديناً فبين تعالى أن المراد لا يصير بتلك الخصال وحدها من عباد الرحمن حتى يجتنب تلك الكبائر، وأجاب الحسن بأن المقصود من ذلك التنبيه على الفرق بين سيرة المسلمين وسيرة الكفار كأنه قال تعالى: وعباد الرحمن الذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، وأنتم تدعون ولا يقتلون وأنتم تقتلون الموؤدة ولا يزنون وأنتم تزنون، ولما أتم تعالى: تهديد الفجار على هذه الأوزار أتبعه ترغيب الأبرار إلى العزيز الغفار بقوله تعالى:
{إلا من تاب} أي: رجع عن كل شيء كان فيه من هذه النقائص {وآمن} أي: أوجد الأساس الذي لا يثبت عمل بدونه وهو الإيمان وأكد رجوعه بقوله تعالى: {وعمل عملاً صالحاً} أي: مؤسساً على أساس الإيمان، فإن قيل: العمل الصالح يدخل فيه التوبة والإيمان فذكرهما قبل العمل الصالح يستغني عنه؟ أجيب: بأنهما أفردا بالذكر لعلو شأنهما.h
(6/258)
---(1/2872)
تنبيه: اختلف في هذا الاستثناء على وجهين؛ أحدهما: أنه استثناء متصل وهو ما دل عليه كلام الجمهور لأنه من الجنس، والثاني: أنه منقطع ورجحه أبو حيان معللاً بأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب، فيصير التقدير إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فلا يضاعف له العذاب، ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف بخلافه في المنقطع، فإن التقدير لكن من تاب إلى آخره، فلا يلقى عذاباً البتة، ووجه كلام الجمهور بأن ما ذكر ليس بلازم إذ المقصود الإخبار بأن من فعل كذا فإنه يحل به ما ذكر إلا أن يتوب وأما إصابة أصل العذاب وعدمه فلا تعرض في الآية له، ثم زاد تعالى في الترغيب بالإتيان بالفاء ربطاً للجزاء بالشرط دليلاً على أنه سببه، فقال تعالى: {فأولئك} أي: العالو المنزلة {يبدل الله} أي: الذي له العظمة والكبرياء {سيئاتهم حسنات} قال ابن عباس ومجاهد: هذا التبديل في الدنيا فيبدل الله تعالى قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في الإسلام، فيبدلهم بالشرك إيماناً وبقتل المؤمنين قتل المشركين وبالزنا إحصاناً وعفة، فكأنه تعالى يبشرهم بتوفيقهم لهذه الأعمال الصالحة فيستوجبوا بها الثواب.
(6/259)
---(1/2873)
وقال الزجاج: إن السيئة بعينها لا تصير حسنة فالتأويل أن السيئة تمحى بالتوبة وتكتب مع التوبة حسنة، والكافر يحبط الله عمله ويثبت عليه السيئات، وقال سعيد بن المسيب ومكحول: إن الله تعالى يمحو السيئة عن العبد ويثبت له بدلها الحسنة بحكم هذه الآية وهذا هو ظاهر الآية ويدل له ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأعلم آخر رجل يخرج من النار رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال له اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها، فيعر ض عليه صغارها، فيقال له: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول: نعم فلا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له: إن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول: يا رب قد عملت أشياء لا أراها ههنا، قال أبو هريرة: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه» {وكان الله} أي: الذي له الجلال والإكرام على الإطلاق أزلاً وأبداً {غفوراً} أي: ستور الذنوب كل من تاب بهذا الشرط {رحيماً} به بأن يعامله بالإكرام كما يعامل المرحوم فيعطيه مكان كل سيئة حسنة.
روى البخاري عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أهل الشرك ولما نزل صدرها قال أهل مكة: قد عدلنا بالله وقتلنا النفس التي حرم الله وأتينا الفواحش فأنزل الله إلا من تاب إلى رحيماً. روى البخاري في التفسير أن ناساً من أهل الشرك كانوا قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت هذه الآية ونزل {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} (الزمر، 53)
:
(6/260)
---(1/2874)
{ومن تاب} أي: عن ذنوبه غير ما ذكر {وعمل} تصديقاً لادعائه التوبة {صالحاً} ولو كان كل من نيته وعمله ضعيفاً ورغب سبحانه في ذلك بقوله تعالى معلماً أنه يصل إلى الله {فإنه يتوب} أي: يرجع واصلاً {إلى الله} أي: الذي له صفات الكمال فهو يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات {متاباً} أي: رجوعاً مرضياً عند الله بأن يرغبه الله تعالى في الأعمال الصالحة فلا يزال كل يوم في زيادة بنيته وعمله فيخف عليه ما كان ثقيلاً ويتيسر عليه ما كان عسيراً، ويسهل عليه ما كان صعباً كما مرّ في أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ولا يزال كذلك حتى يحبه فيكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها بأن يوفقه للخير فلا يسمع إلا ما يرضيه وهكذا، ولما وصف سبحانه وتعالى عباده بأنهم تحلوا بأصول الفضائل وتخلوا عن أمهات الرذائل ورغب في التوبة؛ لأن الإنسان لعجزه لا ينفك عن النقص مدحهم بصفة أخرى وهي الصفة المذكورة في قوله تعالى:
(6/261)
---(1/2875)
{والذين لا يشهدون} أي: لا يحضرون {الزور} أي: القول المنحرف عن الصدق كذباً كان أو مقارباً له فضلاً عن أن يتفوهوا به للخبر فلا يسمعوا أو يقروا عليه في مواعظ عيسى بن مريم عليه السلام إياكم ومجالسة الخطائين ويحتمل أنهم لا يشهدون شهادة الزور فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وعن قتادة مجالس الباطل وعن ابن الحنفية اللهو والغناء، وعن مجاهد أعياد المشركين، ثم عطف عليه بما هو أعم منه بقوله تعالى: {وإذا مروا باللغو} أي: الذي ينبغي أن يطرح من الكلام القبيح وغيره {مروا كراماً} أي: آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر إن تعلق بهم أمر أو نهي إشارة أو عبارة على حسب ما يرون نافعاً، فإن لم يتعلق بهم ذلك كانوا معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه لقوله تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} (القصص، 55)، ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش والصفح عن الذنوب والكناية عما ما يستهجن التصريح به، وعن الحسن لم تشقهم المعاصي، وقيل: إذا سمعوا من الكفار الأذى أعرضوا عنه، ثم ذكر الصفة الثامنة بقوله تعالى:
{والذين إذا ذكروا} أي: ذكرهم غيرهم كائناً من كان لأنهم يعرفون الحق بنفسه لا بقائله {بآيات ربهم} أي: الذي وفقهم ليذكر إحسانه إليهم في حسن تربيته لهم بالاعتبار بالآيات المرئية والمسموعة {لم يخرّوا} أي: لم يسقطوا {عليها صماً} أي: غير واعين لها {وعمياناً} أي: غير متبصرين بما فيها كمن لا يسمع ولا يبصر كأبي جهل والأخنس بن شريق بل خروا سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون راعية، فالمراد من النفي نفي الحال وهي: صماً وعمياناً دون الفعل وهو الخرور، فالمراد نفي القيد دون المقيد كما تقول: لا يلقاني زيد مسلماً هو نفي للسلام لا للقاء، الصفة التاسعة المذكورة في قوله تعالى:
(6/262)
---(1/2876)
{والذين يقولون} أي: علماً منهم بعد اتصافهم بجميع ما مضى أنهم أهل للإمامة {ربنا هب لنا من أزواجنا} اللاتي قرنتهن بنا كما فعلت بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم فمدحت أزواجه في كلامك القديم، وجعلت مدحهن يتلى على تعاقب الأزمان والسنين {وذرياتنا قرة أعين} لنا بأن نراهم مطيعين لك ولا شيء أسر للمؤمن من أن يرى حبيبه يطيع الله تعالى، وعن محمد بن كعب ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده يطيعون الله، وعن ابن عباس هو الولد إذا رآه يكتب الفقه وخصوا الأزواج والذرية بذلك؛ لأن الأقربين أولى بالمعروف.
تنبيه: من في قوله تعالى من أزواجنا يحتمل أن تكون بيانية كأنه قيل: هب لنا قرة أعين، ثم بينت القرة وفسرت بقوله: من أزواجنا وذرياتنا، ومعناه أن اجعلهم لهم قرة أعين وهو من قولهم رأيت منك أسداً أي: أنت أسد، وأن تكون ابتدائية على معنى هب لنا من جهتهم ما تقر به عيوننا من طاعة وإصلاح وأتوا بجمع القلة في أعين؛ لأن المتقين الذين يفعلون الطاعة ويسرون بها قليلون في جنب العاصين، وقيل: سألوا أن يلحق الله بهم أزواجهم وذريتهم في الجنة ليتم لهم سرورهم ووحد القرّة لأنها مصدر، وأصلها من البرد لأن العرب تتأذى من الحر وتتروح إلى البرد وتذكر قرة العين عند السرور وسخنة العين عند الحزن ويقال: دمع العين عند السرور بارد وعند الحزن حار، وقال الأزهري: معنى قرة العين أن يصادف قلبه من يرضاه فتقر عينه عن النظر إلى غيره، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص بألف بعد الياء على الجمع والباقون بغير ألف على الإفراد {واجعلنا للمتقين إماماً} أي: أئمة يقتدون بنا في أمر الدين بإضافة العلم والتوفيق للعمل فاكتفى بالواحد لدلالته على الجنس ولعدم اللبس كقوله تعالى: {ثم يخرجكم طفلاً} (غافر، 67)
(6/263)
---(1/2877)
أو أرادوا واجعل كل واحد منا أو أرادوا جمع آم كصائم وصيام أو أرادوا اجعلنا إماماً واحداً لاتحادنا واتفاق كلمتنا، وعن بعضهم في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين يحسن أن تطلب ويرغب فيها، وقال الحسن: نقتدي بالمتقين ويقتدي المتقون بنا، وقيل: هذا من المقلوب، أي: واجعل المتقين لنا إماماً واجعلنا مؤتمين مقتدين بهم، وهو قول مجاهد، وقيل: نزلت هذه الآية في العشرة المبشرين بالجنة، ولما بين تعالى صفات المتقين المخلصين بين بعده إحسانه إليهم بقوله تعالى:
{أولئك} أي: العالو الرتبة العظيمة العظيمو المنزلة {يجزون} أي: فضلاً من الله تعالى على ما وفقهم له من هذه الأعمال الزاكية والأحوال الصافية {الغرفة} أي: الغرفات وهي العلالي في الجنة فوحد اقتصاراً على الواحد الدال على الجنس والدليل على ذلك قوله تعالى : {وهم في الغرفات آمنون} (سبأ، 37)، وقيل: هي من أسماء الجنة، ولما كانت القرب في غاية التعب لمنافاتها لشهوات النفس وهواها وطبع البدن رغب فيها بأن جعلها سبباً لهذا الجزاء بقوله تعالى: {بما صبروا} أي: أوقعوا الصبر على أمر ربهم ومرارة غربتهم بين الجاهلين في أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم وغير ذلك من معالي خلالهم، ولما كان المنزل لا يطيب إلا بالكرامة والسلامة.
(6/264)
---(1/2878)
قال تعالى {ويلقون فيها} أي: الغرفة {تحية} أي: دعاء الحياة من بعضهم لبعض ومن الملائكة الذين لا يرد دعاؤهم ولا يمترى في إخبارهم، لأنهم عن الله تعالى ينطقون وذلك على وجه الإعظام والإكرام مكان ما أهانهم عباد الشيطان وقيل: ملكاً وقيل: بقاءً دائماً {وسلاماً} أي: من الله والملائكة وغيرهم وسلامة من كل آفة مكان ما أصابوهم بالمصائب: اللهم وفقنا لطاعتك واجعلنا من أهل رحمتك وارزقنا مما رزقتهم في دار رضوانك يا أرحم الراحمين، وقرأ حمزة والكسائي وشعبة بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف من لقي كما قال تعالى: {فسوف يلقون غياً} (مريم، 59)، والباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف أي: يجعلهم الله تعالى لاقين بأيسر أمر كما قال تعالى {ولقاهم نضرة وسروراً} (الإنسان، 11)
{خالدين فيها} أي: الغرفة لا يموتون ولا يخرجون مكان ما أزعجوهم من ديارهم حتى هاجروا ودلَّ على علو أمرها وعظيم قدرها بإبراز مدحها في مظهر التعجب بقوله تعالى: {حسنت} أي: ما أحسنها {مستقراً} أي: موضع استقرار {ومقاماً} أي: موضع إقامة وهذا مقابل ساءت ومثله في الإعراب، ولما شرح سبحانه وتعالى صفات المتقين وأثنى عليهم من أجلها وشرح ثوابهم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
{قل} أي: لكفار مكة {ما يعبأ} أي: ما يصنع {بكم} أيها الكافرون من عبأت الجيش أو لا يعتد بكم {ربي} أي: المحسن إليّ وإليكم برحمانيته المخصص لي بالإحسان برحيميته وإنما خص بالإضافة لاعترافه دونهم {لولا دعاؤكم} أي: عبادتكم وما متضمنة لمعنى الاستفهام وهي في محل النصب وهي عبارة عن المصدر كأنه قيل: وأي عبء يعبأ بكم لولا عبادتكم وطاعتكم إياه كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات، 56)
(6/265)
---(1/2879)
{فقد كذبتم} بما أخبرتكم به حيث خالفتموه وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد، وقال قوم: ما يعبأ ما يبالي بمغفرتكم ربي لولا دعاؤكم معه آلهة وما يفعل بعذابكم لولا شرككم كما قال تعالى: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} لولا دعاؤكم أي: نداؤكم في الشدائد كما قال تعالى: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} (العنكبوت، 65)، وقوله تعالى: {فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون} (الأنعام، 42)
ويجوز أن تكون ما نافية وجرى على ذلك الجلال المحلي {فسوف} أي: فتسبب عن تكذيبهم أن يجازيكم على ذلك ولكنه مع قدرته واختياره وقوته لا يعاجلكم بل {يكون} جزاء هذا التكذيب عند انقضاء ما ضربه لكم من الآجال {لزاماً} أي: لازماً يحيق بكم لا محالة، فاعتدوا وتهيؤوا لذلك اليوم فكل آت قريب وكل بعيد عنكم قريب عنده، وعن مجاهد: هو القتل يوم بدر وإنه لوزم بين القتلى لزاماً قتل منهم تسعون وأسر منهم سبعون، وعن ابن مسعود: خمس قد مضين الدخان والقمر والروم والبطشة واللزام، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن «من قرأ سورة الفرقان لقي الله وهو مؤمن بأن الساعة آتية لا ريب فيها وأدخل الجنة بغير حساب» حديث موضوع والله أعلم.
(6/266)
---
سورة الشعراء
مكية إلا قوله والشعراء إلى آخرها فمدنية وهي مائتان وست وعشرون آية وألف ومائتان وسبع وتسعون كلمة وخمسة آلاف وخمسمائة وإثنان وأربعون حرفاً
روى البغويّ عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال أعطيت طه والطواسين من ألواح موسى.
عليه السلام {بسم الله} الذي دلّ علوّ كلامه على عظمة شأنه وعز مرامه {الرحمن} الذي لا يعجل على من عصاه {الرحيم} الذي يحي قلوب أهل ودّه بالتوفيق لما يرضاه.
(7/1)
---(1/2880)
{طسم} قال ابن عباس: عجزت العلماء عن علم تفسيرها، وفي رواية عنه: أنه قسم وهو من أسماء الله تعالى. وقال قتادة: اسم من أسماء القرآن وقال مجاهد اسم السورة، وقال محمد بن كعب القرظي: أقسم بطوله وسناه وملكه، ولهذا الاختلاف قال الجلال المحلي: الله أعلم بمراده بذلك، وقد قدمنا الكلام على أوائل السور في أول سورة البقرة وقرأ حمزة والكسائي وشعبة بإمالة الطاء، والباقون بالفتح، وأظهر حمزة النون من سين عن الميم، وأدغمها الباقون وهي في مصحف عبد الله بن مسعود ط س م مقطوعة من بعضها.
{تلك} أي: هذه الآيات العالية المرام الحائزة أعلى مراتب التمام المؤلفة من هذه الحروف التي تتناطقون بها وكلمات ألسنتكم {آيات الكتاب} أي: القرآن الجامع لكل فرقان {المبين} أي: الظاهر إعجازه المظهر الحق من الباطل ولما كان عنده صلى الله عليه وسلم من مزيد الشفقة وعظيم الرحمة على قومه قال تعالى تسلية له.
{لعلك باخع} أي: هالك {نفسك} غماً وأسفاً من أجل {ألا يكونوا} أي: قومك {مؤمنين} أي: راسخين في الإيمان أي: لا تبالغ في الحزن والأسف فإن هذا الكتاب في غاية البيان في نفسه والإبانة للغير، وقد تقدم في غير موضع أنه ليس عليك إلا البلاغ ولو شئنا لهديناهم طوعاً أو كرهاً. والبخع: أن يبلغ بالذبح البخاع بالخاء والباء وهو عرق مستبطن الفقار وذلك أقصى حد الذابح. ولعل: للإشفاق أي: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إيمان قومك فصبره وعزاه وعرفه أن حزنه وغمه لا ينفع كما أن وجود الكتاب ووضوحه لا ينفع، ثم إنه تعالى أعلمه بأن كل ما هم فيه إنما هو بإرادته بقوله تعالى:
(7/3)
---(1/2881)
{إن نشأ ننزل عليهم} وعبر بالمضارع فيهما إعلاماً بدوام القدرة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون الثانية وإخفائها عند الزاي وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي، ثم قال تعالى محققاً للمراد {من السماء} أي: التي جعلنا فيها بروجاً للمنافع، وأشار إلى تمام القدرة بتوحيدها بقوله تعالى: {آية} أي: قاهرة كما فعلنا ببعض من قبلهم بنتق الجبل ونحوه.
تنبيه: هنا همزتان مختلفتان، أبدل نافع وابن كثير وأبو عمرو الهمزة الثانية المفتوحة بعد المكسورة ياء خالصة، وحققها الباقون. ثم أشار تعالى إلى تحقق هذه الآية بالتعبير بالماضي في قوله تعالى عطفاً على ننزل لأنه في معنى أنزلنا {فظلت} أي: عقب الإنزال من غير مهلة {أعناقهم} أي: التي هي موضع الصلابة وعنها تنشأ حركات الكبر والإعراض {لها خاضعين} أي: منقادين.
تنبيه: خاضعين: خبر عن أعناقهم، واستشكل جمعه جمع سلامة لأنه مختص بالعقلاء؟ وأجيب عنه بأوجه: أحدها: أن المراد بالأعناق رؤساءهم ومقدموهم شبهوا بالأعناق كما يقال لهم الرؤوس والنواصي والصدور، قال القائل:
*في محفل من رؤوس الناس مشهود*
ثانيها: أنه على حذف مضاف أي: فظل أصحاب الأعناق ثم حذف وبقي الخبر على ما كان عليه قبل الحذف المخبر عنه مراعاة للمحذوف.
ثالثها: أنه لما أضيف إلى العقلاء اكتسب منهم هذا الحكم كما يكتسب التأنيث بالإضافة لمؤنث في قوله:
*كما شرقت صدر القناة من الدم*
رابعها: قال الزمخشري: أصل الكلام فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع وترك الكلام على أصله كقولهم: ذهبت أهل اليمامة كأن الأهل غير مذكور، ونوزع في التنظير لأنّ أهل ليس مقحماً البتة لأنه المقصود بالحكم.
خامسها: أنها عوملت معاملة العقلاء، كقوله تعالى: {ساجدين} (يوسف، 4) {وطائعين} (فصلت، 11) في يوسف والسجدة، وقيل إنما قال تعالى: {خاضعين} لموافقة رؤوس الآي لتكون على نسق واحد.
(7/4)
---(1/2882)
{وما يأتيهم} أي: الكفار {من ذكر} أي: موعظة أو طائفة من القرآن يذكروننا به فيكون سبب ذكرهم وشرفهم {من الرحمن} أي: الذي أنكروه مع إحاطة نعمه بهم {محدث} أي: بالنسبة إلى تنزيله وعلمهم به وأشار تعالى إلى دوام كبرهم بقوله تعالى: {إلا كانوا عنه معرضين} أي: إعراضاً هو صفة لهم لازمة، ولما كان حال المعرض عن الشيء حال المكذب به قال تعالى.
{فقد} أي: فتسبب عن هذا الفعل منهم أنه قد {كذبوا} أي: بالذكر بعد إعراضهم وأمعنوا في تكذيبه بحيث أدى بهم إلى الاستهزاء به المخبر به عنهم ضمناً في قوله تعالى: {وسيأتيهم} أي: إذا مسهم عذاب الله تعالى يوم بدر ويوم القيامة {أنباء} أي: عظيم أخبار وعواقب {ما} أي: العذاب الذي {كانوا به يستهزؤن} أي: يهزؤون من أنه كان حقاً أو باطلاً وكان حقيقاً بأن يصدق ويعظم أمره أو يكذب فيستخف أمره.
ثم قال تعالى: معجباً منهم.
{أو لم يروا إلى الأرض} أي: على سعتها واختلاف نواحيها، ونبه على كثرة ما صنع من جميع الأصناف بقوله تعالى: {كم أنبتنا} أي: بما لنا من العظمة {فيها} بعد أن كانت يابسة ميتة لا نبات فيها {من كل زوج} أي: صنف متشاكل بعضه لبعض فلم يبق صنف يليق بهم في العاجلة إلا أكثرنا من الإنبات منه {كريم} أي: كثير المنافع محمود العواقب وهو صفة لكل ما يحمد ويرضى وهو ضدّ اللئيم، وههنا يحتمل معنيين أحدهما: النبات على نوعين: نافع وضار فذكر كثرة ما أنبت في الأرض من جميع أصناف النبات النافع وخلى ذكر الضار، والثاني: أن يعم جميع النبات نافعه وضاره ويصفهما جميعاً بالكرم وينبه على أنه تعالى ما أنبت شيأً إلا فيه فائدة، لأنّ الحكيم لا يفعل فعلاً إلا لحكمة بالغةٍ وإن غفل عنها الغافلون ولم يتصل إلى معرفتها العاقلون، ولما كان ذلك باهراً للعقل منبهاً له في كل حال على عظيم اقتدار صانعه وبديع اختياره، وصل به قوله تعالى:
(7/5)
---(1/2883)
{إنّ في ذلك} أي: الأمر العظيم {لآية} أي: دلالة على كمال قدرته تعالى، فإن قيل: حين ذكر الأزواج دل عليها بكلمتي الكثرة والإحاطة وكان لا يحصيها إلا عالم الغيب، فكيف قال إنّ في ذلك لآية؟ وهلا قال لآيات؟ أجيب بوجهين: أحدهما: أن يكون ذلك مشاراً به إلى مصدر أنبتنا فكأنه قال: إنّ في ذلك الإنبات لآية، ثانيهما: أن يراد أنّ في كل واحد من تلك الأزواج لآية {و} الحال أنه {ما كان أكثرهم} أي: البشر {مؤمنين} في علم الله تعالى وقضائه فلذلك لا ينفعهم مثل هذه الآيات العظام، وقال سيبويه: كان زائدة
{وإن} أي: والحال أنّ {ربك} أي: الذي أحسن إليك بالإرسال وسخر لك قلوب الأصفياء وزوى عنك اللد والأشقياء {لهو العزيز} أي: ذو العزة ينتقم من الكافرين {الرحيم} يرحم المؤمنين، ولما كان مع ما ذكر في ذكر القصص تسلية لنبينا صلى الله عليه وسلم فيما يقاسيه من الأذى والتكذيب وكان موسى عليه السلام قد اختص بالكتاب الذي ما بعد القرآن مثله والآيات التي ما أتى بمثلها أحد قبله، بدأ بذكره فقال تعالى:
{وإذ} أي: واذكر إذ {نادى ربك} أي: المحسن إليك بكل ما يمكن الإحسان به في هذه الدار، ثم ذكر المنادى بقوله تعالى: {موسى} أي: حين رأى الشجرة والنار، واختلف أهل السنة في النداء الذي سمعه موسى عليه السلام أهو الكلام القديم أو صوت من الأصوات؟.
قال أبو الحسن الأشعري رضي الله تعالى عنه: هو الكلام القديم فكما أن ذاته تعالى لا تشبه سائر الذوات مع أن الدليل دال على أنها معلومة ومرئية في الآخرة من غير كيف ولا جهة فكذا كلامه منزه عن مشابهة الحرف والصوت مع أنه مسموع.
(7/6)
---(1/2884)
وقال الماتريدي: هو من جنس الحروف والأصوات، وأما المعتزلة: فقد اتفقوا على أن ذلك النداء كان بحروف وأصوات علم به موسى من قبل الله تعالى فصار معجزاً علم به موسى أن الله تعالى مخاطباً له فلم يحتج مع ذلك لواسطة، ثم ذكر تعالى ما له النداء بقوله تعالى: {أن} أي: بأن {أئت القوم} أي: الذين فيهم قوة وأيًّ قوة {الظالمين} رسولاً، ووصفهم بالظلم لكفرهم، واستبعادهم بني إسرائيل وذبح أولادهم وقوله تعالى:
{قوم فرعون} أي: معه بدل أو عطف بيان للقوم الظالمين، وقوله تعالى: {ألا يتقون} استئناف أتبعه إرساله إليهم للإنذار تعجباً من إفراطهم في الظلم واجترائهم عليه ولما كان من المعلوم أن من أتى الناس بما يخالف أهواءهم لم يقبل.
{قال رب} أي: أيها الرفيق بي {إني أخاف أن يكذبون} أي: فلا يترتب على إتياني إليهم أثر فاجعل لي قبولاً ومهابة تحرسني بها ممن يريدني بسوء، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، والباقون بالسكون.
{ويضيق صدري} من تكذيبهم لي {ولا ينطلق لساني} بأداء الرسالة للعقدة التي فيه بواسطة تلك الجمرة التي لذعته في الطفولية {فأرسل} أي: فتسبب عن ذلك الذي اعتذرت به عن المبادرة إلى الذهاب عند الأمر طلب الإرسال {إلى هارون} أخي ليكون لي عضداً على ما أمضي له من الرسالة، فيحتمل أن تكون تلك العقدة باقية عند الرسالة، وأن تكون قد زالت عند الدعوة، ولكن لا يكون مع حل العقدة من لسانه من الفصحاء المصاقع الذين أوتوا سلاطة الألسنة وبسطة المقال، وهارون كان بتلك الصفة فأراد أن يقرن به، ويدل عليه قوله تعالى: {وأخي هارون هو أفصح مني لساناً} (القصص: 34)
(7/7)
---(1/2885)
ومعنى فأرسل إلى هارون: أرسل إليه جبريل واجعله نبياً وأزرني به واشدد به عضدي، وهذا الكلام مختصر وقد بسطه في غير هذا الموضع وقد أحسن في الاختصار حيث قال: {فأرسل إلى هارون} فجاء بما يتضمن معنى الاستنباء، ومثله في تقصير الطويلة والحسن قوله تعالى: {فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميراً} (الفرقان، 36)
حيث اقتصر على ذكر طرفي القصة أولها وآخرها وهما الإنذار والتدمير، ودل بذكرهما على ما هو الغرض من القصة الطويلة كلها وهو أنهم قوم كذبوا بآيات الله فأراد الله إلزام الحجة عليهم فبعث إليهم رسولين فكذبوهما فأهلكهم.
فإن قيل: كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يأمره ربه بأمر فلا يقبله بسمع وطاعة من غير توقف وتشبث بعلل، وقد علم أن الله تعالى عليم بحاله؟ أجيب: بأنه قد امتثل وتقبل ولكنه التمس من ربه أن يعضده بأخيه حتى يتعاونا على تنفيذ أمره وتبليغ رسالته فمهد قبل التماسه عذراً فيما التمسه ثم التمس بعد ذلك، وتمهيد العذر في التماس المعين على تنفيذ الأمر ليس بتوقف في امتثال الأمر ولا بتعلل فيه، وكفى بطلب العون دليلاً على التقبل لا على التعلل، ثم زاد في الاعتذار في طلب العون خوفاً من أن يقتل قبل تبليغ الرسالة بقوله:
{ولهم علي ذنب} أي: تبعه ذنب فحذف المضاف، أو سمى باسمه كما يسمى جزاء السيئة سيئة وهو قتله القبطي وسماه ذنباً على زعمهم، وهذا اختصار قصته المبسوطة في مواضع. {فأخاف} بسبب ذلك {أن يقتلون} أي: يقتلونني به.
{قال} الله تعالى {كلا} أي: ارتدع عن هذا الكلام فإنه لا يكون شيءُ، مما خفت لا قتل ولا غيره، وكأنه لما كان التكذيب مع ما قام عليه من الصدق من البراهين المقوية لصاحبها الشارحة لصدره العلية لأمره عدّ عدماً، وقد أجبناك إلى الإعانة بأخيك.
{فاذهبا} أي: أنت وأخوك متعاضدين إلى ما أمرتك به مؤيدين {بآياتنا} الدالة على صدقكما.
(7/8)
---(1/2886)
تنبيه: {فاذهبا} عطف على ما دلّ عليه حرف الردع من الفعل كأنه قيل: ارتدع عما تظن فاذهب أنت وأخوك بآياتنا {إنا} أي: بما لنا من العظمة {معكم مستمعون} أي: سامعون لأنه تعالى لا يوصف بالمستمع على الحقيقة لأنّ الاستماع جار مجرى الإصغاء والاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية، ومنه قوله تعالى: {قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجنّ فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً} (الجن، 1)
ويقال استمع إلى حديثه وسمع حديثه: أصغى إليه وأدركه بحاسة السمع، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صبّ في أذنيه البرم» وهو الكحل المذاب ويروى: البيرم وهو بزيادة الياء، فإن قيل: لم قال معكم بلفظ الجمع وهما اثنان؟ أجيب: بأنه تعالى أجراهما مجرى الجمع تعظيماً لهما، أو معكما ومع بني إسرائيل يسمع ما يجيبكم فروعون.
{فأتيا} أي: فتسبب عن ذهاب ما ذكرت بالحراسة والحفظة أني أقول لكما ائتيا {فرعون} نفسه وإن عظمت مملكته وجلت جنوده {فقولا} أي: ساعة وصولكما له ولمن عنده {إنا رسول رب العالمين} أي: المحسن إلى جميع الخلق المدبر لهم مصالحهم، فإن قيل: هلا ثنى الرسول كما ثنى في قوله تعالى: {إنا رسولا ربك}؟ (طه، 47) أجيب: بأن الرسول يكون بمعنى المرسل فلم يكن بد من تثنيته، وأما ههنا فهو إما لأنه مصدر بمعنى الرسالة والمصدر يوحد ومن مجيء رسول بمعنى الرسالة قوله:
*لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ** بسرّ ولا أرسلتهم برسول*
(7/9)
---(1/2887)
أي: برسالة، والواشون الساعون بالكذب عند ظالم وما فهت بمعنى ما تكلمت، وإما لأنهما ذوا شريعة واحدة فنزلا منزلة رسول، وإما لأنه من وضع الواحد موضع التثنية لتلازمهما فصارا كالشيئين المتلازمين كالعينين واليدين، وقال أبو عبيدة: يجوز أن يكون الرسول بمعنى الاثنين والجمع تقول العرب هذا رسولي ووكيلي وهذان رسولي ووكيلي وهؤلاء رسولي ووكيلي، كما قال تعالى: {وهم لكم عدوّ} (الكهف: 50)، ثم ذكر له ما قصد من الرسالة إليه فقال معبراً بأداة التفسير، لأنّ الرسول فيه بمعنى الرسالة التي تتضمن القول.
{أن} أي: بأن {أرسل} أي: خل وأطلق، وأعاد الضمير على معنى رسول فقال {معنا بني إسرائيل} أي: قومنا الذين استعبدتهم ظلماً ولا سبيل لك عليهم نذهب بهم إلى الأرض المقدسة التي وعدنا الله تعالى بها على ألسنة الأنبياء من آبائنا عليهم الصلاة والسلام، وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة وكانوا في ذلك الوقت ستمائة وثلاثين ألفاً، ويروى أن موسى رجع مصر وعليه جبة صوف وفي يده عصاه ومكتل معلق في رأس العصا وفيه زاده فدخل داره نفسه وأخبر هارون بأن الله تعالى أرسلني إلى فرعون وأرسل إليك حتى ندعو فرعون إلى الله تعالى، فخرجت أمهما وصاحت، وقالت إن فرعون يطلبك ليقتلك فلو ذهبتما إليه قتلكما فلم يمتنع بقولها: وذهبا إلى باب فرعون ليلاً ودقا الباب ففزع البوابون وقالوا من بالباب، وروي أن البواب اطلع عليهما وقال من بالباب ومن أنتما؟ فقال موسى أنا رسول رب العالمين فذهب البواب إلى فرعون وقال إن مجنوناً بالباب يزعم أنه رسول رب العالمين فقال فرعون ائذن له لعلنا نضحك منه، وقيل: لم يؤذن لهما إلى سنة فدخلا عليه وأديا رسالة الله عز وجل فعرف فرعون موسى لأنه نشأ في بيته فلما عرفه.
(7/10)
---(1/2888)
{قال} له منكراً عليه {ألم نربك} حذف، فأتيا فرعون فقالا له ذلك لأنه معلوم لا يشتبه وهذا النوع من الاختصار كثير في القرآن {فينا} أي: في منازلنا {وليداً} أي: صغيراً قريباً من الولادة بعد فطامه {ولبثت فينا} أي: في عزنا باعتبار انقطاعك إلينا وتعززك بنا {من عمرك سنين} ثلاثين سنة فما لنا عليك من الحق ينبغي أن يمنعك من مواجهتنا بمثل هذا، وكأنه عبر بما يفهم النكد كناية عن مدّة مقامه عنده بأنها كانت نكدة لأنه وقع فيما كان يخافه وفاته ما كان يحتاط به من ذبح الأطفال، وكان موسى يلبس من ملابس فرعون ويركب من مراكبه وكان يسمى ابنه، وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة عند التاء، والباقون بالإدغام، ولما ذكره ما يحمله على الحياء منه ذكره ذنباً يخاف من عاقبته فقال مهولاً له بالكناية.
{وفعلت فعلتك} أي: من قتل القبطي، ثم أكد نسبته إلى ذلك مشيراً إلى أنه عامله بالحلم تخجيلاً له فقال {التي فعلت وأنت} أي: والحال أنك {من الكافرين} قال الحسن والسدي من الكافرين بإلهك ومعناه: على ديننا هذا الذي تعيبه، وقال أكثر المفسرين أي: الجاحدين لنعمتي عليك بالتربية وعدم الاستعباد يقول ربيناك فكافأتنا أن قتلت منا نفساً وكفرت بنعمتنا وهذا رواية العوفي عن ابن عباس: وقال إنّ فرعون لم يكن يعلم ما الكفر بالربوبية.
(7/11)
---
{قال} له موسى مجيباً على طريقة النشر المشوش واثقاً بوعد الله تعالى بالسلامة {فعلتها إذاً} أي: إذ قتلته {وأنا من الضالين} أي: من الجاهلين بأنّ ذلك يؤدّي إلى قتله، أو المخطئين كمن يقتل خطأً من غير تعمد للقتل. قال ابن جرير: والعرب تضع الضلال موضع الجهل والجهل موضع الضلال. وقيل: لا أعرف ذنباً فأنا واثق من كل جهة حتى يوجهني ربي إلى ما شاء.
(7/12)
---(1/2889)
{ففررت} أي: فتسبب عن فعلها أني فررت {منكم} أي: منك لسطوتك ومن قومك لإغرائهم إياك عليّ {لما خفتكم} على نفسي أن تقتلوني بذلك القتيل الذي قتلته خطأً وأنا ابن اثنتي عشرة سنة مع كونه كافراً مهدر الدم {فوهب لي ربي} الذي أحسن إليّ بتربيتي عندكم تحت كنف أمي آمنة عليّ مما أحدثتم من الظلم {حكماً} أي: علماً وفهماً، وقيل نبوّة {وجعلني من المرسلين} أي: فاجهد الآن جهدك فإني لا أخافك لقتل ولا غيره، ولما اجتمع في كلام فرعون منّ وتعيير، بدأه بجوابه عن التعيير ولأنه الأخير فكان أقرب ولأنه أهم، وهو معنى ما تقدم من أنه على طريقة النشر المشوش بأن يبدأ بالأخير قبل الأوّل، ولهذا كرّ على امتنانه عليه بالتربية فأبطله من أصله موبخاً له مبكتاً منكراً عليه غير أنه حذف حرف الإنكار إجمالاً في القول وإحساناً في الخطاب وأبى أن تسمى نعمته إلا نقمة بقوله:
{وتلك} أي: التربية الشنيعة العظيمة في الشناعة التي ذكرتنيها {نعمة تمنها عليّ أن عبدت} أي: تعبيدك وتذليلك قومي {بني إسرائيل} أي: جعلتهم عبيداً ظلماً وعدواناً وهم أبناء الأنبياء ولسلفهم يوسف عليه السلام عليكم من المنة بإحياء نفوسكم أولاً وعتق رقابكم ثانياً، ما لا تقدرون له على جزاء أصلاً ثم ما كفاك ذلك حتى فعلت ما لم يفعله مستعبد فأمرت بقتل أبناءهم فكان ذلك سبب وقوعي إليك لأسلم من ظلمك، ولو لم تفعل ذلك لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليمّ فكيف تمن عليّ بذلك؟ وقيل: معناه إنك تدعي أن بني إسرائيل عبيدك ولا منة للمولى على العبد في تربيته. وقال الحسن: إنك استعبدت بني إسرائيل فأخذت أموالهم وأنفقت منها عليّ فلا نعمة لك بالتربية. وقيل: إنّ الذي تولى تربيتي هم الذين استعبدتهم فلا منة لك عليّ لأنّ التربية كانت من قبل أمي ومن قومي، ليس لك إلا مجرد الاسم وهذا ما يعد إنعاماً.
(7/13)
---(1/2890)
فإن قيل: لم جمع الضمير في منكم وخفتكم مع إفراده في تمنها وعبدت؟ أجيب: بأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله، كما مرّت الإشارة إليه بدليل قوله تعالى:{إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك} (القصص: 20)
وأما الامتنان فمنه وحده وكذلك التعبيد، ولما قال له بوابه إنّ ههنا من يزعم أنه رسول رب العالمين وأدخله عليه.
{قال} له {فرعون} عند دخوله حائداً عن جوابه منكراً لخالقه على سبيل التجاهل كما أنكر هؤلاء الرحمن متجاهلين وهم أعرف الناس بغالب أفعاله كما كان فرعون يعرف لقول موسى عليه الصلاة والسلام {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} (الإسراء: 102)
{وما ربّ العالمين} أي: الذي زعمتما أنكما رسوله وإنما أتى بما دون من لأنها يسأل بها عن طلب الماهية كقولك ما العنقاء، ولما كان جواب هذا السؤال لا يمكن تعريفه إلا بلوازمه الخارجية لامتناع التعريف بنفسه وبما هو داخل فيه لاستحالة التركيب في ذاته عدل موسى عليه السلام إلى جواب ممكن فأجاب بصفاته تعالى، كما قال تعالى إخباراً عنه:
{قال رب} أي: خالق ومبدع ومدبر {السموات} كلها {والأرض} وإن تباعدت أجرامها بعضها من بعض {وما بينهما} أي: بين السموات والأرض فأعاد ضمير التثنية على جمعين اعتباراً بالجنسين وخصه بهذه الصفات لأنها أظهر خواصه وآثاره وفيه إبطال لدعواه أنه إله، ومعنى قوله {إن كنتم موقنين} أي: إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدّي إليه النظر الصحيح نفعكم هذا الجواب وإلا لم ينفع، أو إن كنتم موقنين بشيء قط فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وإنارة دليله، ولما ذكر موسى عليه السلام هذا الجواب الحق.
(7/14)
---(1/2891)
{قال} فرعون {لمن حوله} من أشراف قومه، قال ابن عباس: وكانوا خمسمائة رجل عليهم الأسورة وكانت للملوك خاصة {ألا تستمعون} جوابه الذي لم يطابق السؤال، سألته عن حقيقته وهو يجيبني بالفاعلية، ولما كان يمكن أن يعتقد أن السموات والأرضين واجبة لذاتها فهي غنية عن الخالق.
{قال} لهم موسى زيادة في البيان {ربكم ورب آبائكم الأولين} فعدل عن التعريف بخالقية السموات والأرض إلى التعريف بكونه تعالى خالقاً لهم ولآبائهم، إذ لا يمكن أن يعتقد في نفسه وفي آبائه وأجداده كونهم واجبين لذواتهم لأنّ المشاهدة دلت على أنهم وجدوا بعد العدم وعدموا بعد الوجود، وما كان كذلك استحال أن يكون واجباً لذاته واستحال وجوده إلا بالمؤثر فكان التعريف بهذا الأثر أظهر ولكن فرعون لم يكتف بذلك ولهذا.
{قال إنّ رسولكم} على طريق التهكم إشارة إلى أنّ الرسول ينبغي أن يكون أعقل الناس ثم زاد الأمر بقوله: {الذي أرسل إليكم} أي: وأنتم أعقل الناس {لمجنون} لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه، فكيف يصلح للرسالة من الملوك؟ فلما قال ذلك عدل موسى ج إلى طريق ثالث أوضح من الثاني بأن.
{قال رب المشرق والمغرب} أي: الشروق والغروب ووقتهما وموضعهما {وما بينهما} من المخلوقات لأنّ التدبير المستمرّ على هذا الوجه العجيب لا يتمّ إلا بتدبير مدبر قادر، وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع نمروذ، فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة وهو الذي ذكر موسى عليه الصلاة السلام بقوله: {ربكم ورب آبائكم الأولين} فأجابه نمروذ {أنا أحي وأميت} (البقرة: 228)
فقال {إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر} (البقرة: 258)
(7/15)
---(1/2892)
وهو الذي ذكره موسى ج بقوله: {رب المشرق والمغرب} وأما قوله: {إن كنتم تعقلون} فكأنه ج قال إن كنت من العقلاء عرفت أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت لك، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته ولا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ولا بأجزاء حقيقته، فلم يبق إلا أن أعرف حقيقته بآثار حقيقته، وقد عرفت حقيقته بآثار حقيقته فمن كان عاقلاً يقطع بأنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرته لك، فلما انقطع فرعون عن الجواب ولزمته الحجة تكبر عن الحق وعدل إلى التخويف بأن.
{قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين} أي: واحداً ممن هم في سجني على ما تعلم من حالي في اقتداري ومن سجوني وفظاعتها، ومن حال من فيها من شدّة الحصر والغلظ في الحجر. قال الكلبي: كان سجنه أشدّ من القتل لأنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق وحده لا يسمع ولا يبصر فيها شيئاً، وقرأ ابن كثير وحفص وعاصم بإظهار الذال عند التاء، والباقون بالإدغام، ثم ذكر موسى ج كلاماً مجملاً ليعلق فرعون قلبه به فيعدل عن وعيده، بأن.
{قال} مدافعاً بالتي هي أحسن إرخاء للعنان لإزادة البيان معنىً لا يبقى معه عذر ولا نسيان، لأنّ من العادة الجارية السكون إلى الإنصاف والرجوع إلى الحق والاعتراف {أولو} أي: أتسجنني ولو {جئتك بشيءٍ مبين} أي: هل يحسن أن يذكر هذا مع اقتداري على أن آتيك بشيء بدليلين يدلان على وجود الله تعالى وعلى أني رسوله فعند ذلك.
{قال} طمعاً في أن يجد موضعاً للتكذيب أو التلبيس {فأت به} أي: تسبب عن قولك هذا أني أقول ائت بذلك الشيء {إن كنت من الصادقين} أي: فيما ادعيت من الرسالة.
(7/16)
---(1/2893)
تنبيه: الواو في أولو جئتك واو الحال وليتها الهمزة بعد حذف الفعل كما علم من التقرير، فإن قيل: كيف قطع الكلام بما لا تعلق له بالأوّل وهو قوله أولو جئتك بشيء مبين أي: بآية بينة والمعجز لا يدل على ذلك كدلالة سائر ما تقدم؟ أجيب: بأنه يدل بما أراد أن يظهره من انقلاب العصا حية على الله تعالى وعلى توحيده وعلى أنه صادق في ادعاء الرسالة، فالذي ختم به كلامه ما تقدم.
{فألقى} أي: فتسبب عن ذلك وتعقبه أن ألقى موسى {عصاه} التي تقدم في غير سورة أنّ الله تعالى أراه إياها ولم يصرّح باسمه اكتفاء بضميره لأنه غير ملتبس {فإذا هي ثعبان} أي: حية في غاية الكبر {مبين} أي: ظاهر ثعبانيته، روي أنها لما انقلبت حية ارتفعت إلى السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون تقول يا موسى مرني بما شئت، ويقول فرعون أسألك بالذي أرسلك إلا ما أخذتها فأخذها فعادت عصا، فإن قيل: كيف قال هنا {ثعبان مبين} وفي آية أخرى {فإذا هي حية تسعى} (طه: 20)
وفي آية ثالثة {كأنها جان} (النمل: 10)
والجان مائل إلى الصغر والثعبان إلى الكبر؟ أجيب: بأن الحية اسم الجنس ثم لكبرها صارت ثعباناً، وشبهها بالجان لخفتها وسرعتها، ويحتمل أنه شبهها بالشيطان لقوله تعالى: {والجانّ خلقناه من قبل من نار السموم} (الحجر: 27)
ويحتمل أنها كانت صغيرة كالجان ثم عظمت فصارت ثعباناً، ثم إنّ موسى ج لما أراه آية العصا قال فرعون هل غيرها قال: نعم.
{ونزع يده} أي: التي كانت احترقت لما أخذ الجمرة وهو في حجر فرعون، وبذل فرعون جهده في علاجها بجميع من قدر عليه من الأطباء فعجزوا عن إبرائها نزعها من جيبه بعد أن أراه إياها على ما يعهده منها ثم أدخلها في جيبه {فإذا هي} بعد النزع {بيضاء للناظرين} يضيء الوادي من شدّة بياضها من غير برص، لها شعاع كشعاع الشمس يعشي البصر ويسدّ الأفق، فعند هذا أراد فرعون لعمية هذه الحجة على قومه فذكر أموراً أوّلها أن.
(7/17)
---(1/2894)
{قال للملأ حوله} لما وضح له الأمر يمّوه على عقولهم: خوفاً من إيمانهم {إنّ هذا لساحر عليم} أي: شديد المعرفة بالسحر، حوله: حال من الملأ ومفعول القول، قوله: {إن هذا لساحر عليم} ولما أوقعهم بما جبلهم به أحماهم لأنفسهم فقال ملغياً لجلباب الإلهية لما قهره من سلطان المعجزة.
{يريد أن يخرجكم من أرضكم} أي: هذه التي هي قوامكم {بسحره} أي: بسبب ما أتى به، فإنه يوجب استتباع الناس فيتمكن مما يريد، ثم قال لقومه الذين كان يزعم أنهم عبيده وأنه إلههم، ما دل على أنه حارت قواه فحط عن منكبيه كبرياء الربوبية وارتعدت فرائصه لما استولى عليه من الدهش والحيرة حتى جعل نفسه مأموراً بعد أن كان يدعي كونه آمراً بل إلهاً قادراً {فماذا تأمرون} أي: في مدافعته عما يريد بنا.
{قالوا} أي: الملأ الذين كانوا حوله {أرجه وأخاه} أي: أخر أمرهما ومناظرتهما إلى اجتماع السحرة، ولم يأمر بقتلهما ولا بما يقاربه، فسبحان من يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده فيهابه كل شيء ولا يهاب هو غير خالقه. وقرأ قالون بغير همز واختلاس كسرة الهاء، وورش والكسائي بغير همز وإشباع حركة كسرة الهاء، وابن كثير وهشام بالهمزة الساكنة وصلة الهاء مضمومة، وأبو عمرو بالهمزة وضم الهاء مقصورة، وابن ذكوان بالهمزة وكسر الهاء مقصورة، وعاصم وحمزة بغير همز وإسكان الهاء {وابعث في المدائن حاشرين} أي: رجالاً يحشرون السحرة، وأصل الحشر: الجمع بكره، وقيل: إنّ فرعون أراد قتل موسى فقالوا له لا تفعل فإنك إن تقتله دخلت الناس شبهة في أمره، ولكن أخره واجمع له سحرة ليقاوموه ولا يثبت له عليك حجة، وعارضوا قوله {إنّ هذا الساحر عليم} (الأعراف: 109)
بقولهم:
{يأتوك بكل سحار} أي: بليغ في السحر، فجاؤوا بكلمة الإحاطة وصيغة المبالغة ليطمأنوا من نفسه ويسكنوا من بعض قلقه {عليم} أي: متناه في العلم به بعدما تناهى في السحرية، وعبر بالبناء للمفعول في قوله.
(7/18)
---(1/2895)
{فجمع السحرة} إشارة إلى عظمة ملكه، أي: بأيسر أمر لما له عندهم من العظمة {لميقات يوم معلوم} أي: في زمانه ومكانه وهو ضحى يوم الزينة كما مرّ في طه، وعن ابن عباس: وافق يوم السبت من أول يوم من سنتهم وهو يوم النيروز.
{وقيل} أي: يقول من يقبل لكونه عن فرعون {للناس} أي: عامّة وقوله {هل أنتم مجتمعون} فيه استبطاء لهم في الاجتماع، والمراد منه استعجالهم واستحثاثهم كما يقول الرجل لغلامه هل أنت منطلق إذا أراد أن يحرك منه ويحثه على الانطلاق، كأنما يخيل له أنّ الناس قد انطلقوا وهو واقف، ومنه قول تأبط شراً، اسم شاعر:
*هل أنت باعث دينار لحاجتنا ** أو عبد رب أخا عون بن مخراق*
أي: هل أنت حث على إرسال دينار أو عبد رب، اسمي رجلين، والثاني منصوب على محل الأوّل، وأخا عون منادى أو عطف بيان له، وعليه اقتصر الكشاف.
(7/19)
---
{لعلنا نتبع السحرة} أي: في دينهم {إن كانوا هم الغالبين} أي: لموسى في دينه ولا نتبع موسى في دينه، وليس غرضهم اتباع السحرة وإنما الغرض الكلي أن لا يتبعوا موسى فساقوا الكلام مساق الكناية لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى، وقيل: أرادوا بالسحرة موسى وهارون وقالوا ذلك على طريق الاستهزاء وعبر بالفاء في قوله:
{فلما جاء السحرة} أي: الذين كانوا في جميع بلاد مصر إيذاناً بسرعة حشرهم لضخامة ملكه ووفور عظمته {قالوا لفرعون} مشترطين الأجر في حال الحاجة إلى الفعل ليكون ذلك أجدر بحسن الوعد ومجاز القصد {آئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين} موسى، وأتوا بأداة الشك مع جزمهم بالغلبة تخويفاً له بأنه إن لم يحسن في وعدهم لم ينصحوا له.(1/2896)
{قال} مجيباً إلى ما سألوا {نعم} لكم ذلك، وقرأ الكسائي بكسر العين، والباقون بالفتح وزادهم بما لا أحسن منه عند أهل الدنيا مؤكداً بقوله {وإنكم إذاً} أي: إذا غلبتم {لمن المقربين} أي: عندي، وزاد إذاً هنا زيادة في التأكيد، ولما قال لهم فرعون ذلك قالوا لموسى {إمّا أن تلقي وإمّا أن نكون نحن الملقين} (الأعراف، 115) .
{قال لهم موسى} أي: مريداً لإبطال سحرهم لأنه لا يتمكن منه إلا بإلقاءهم {ألقوا ما أنتم ملقون} فإن قيل: كيف أمرهم بفعل السحر؟ أجيب: بأنه لم يرد بذلك أمرهم بالسحر والتمويه بل الأذن بتقديم ما هم فاعلوه لا محالة توسلاً به إلى إظهار الحق.
(7/21)
---
{فألقوا} أي: فتسبب عن قول موسى ج وتعقبه أن ألقوا {حبالهم وعصيهم} أي: التي أعدّوها للسحر {وقالوا} مقسمين {بعزة فرعون} وهي من أيمان الجاهلية، وهكذا كل حلف بغير الله، ولا يصح في الإسلام إلا الحلف بالله تعالى أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته كقولك والله والرحمن ورب العرش وعزة الله وقدرة الله وجلال الله وعظمة الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالطواغيت ولا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون» ولقد استحدث الناس في هذا الباب في إسلامهم جاهلية نسبت لها الجاهلية الأولى، وذلك أن الواحد منهم لو أقسم بأسماء الله كلها وصفاته على شيء لم يقبل منه ولم يعتد بها حتى يقسم برأس سلطانه، فإذا أقسم به فتلك عندهم جهد اليمين التي ليس وراءها حلف لحالف، ثم إنهم أكدوا يمينهم بأنواع من التوكيد بقولهم: {إنا لنحن} أي: خاصة لا نستثني {الغالبون} وذلك لفرط اعتقادهم في أنفسهم، أو لإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر.(1/2897)
{فألقى} أي: فتسبب عن صنع السحرة وتعقبه أن ألقى {موسى عصاه} التي جعلت آية له وتسبب عن إلقائه قوله تعالى: {فإذا هي تلقف} أي: تبتلع في الحال بسرعة وهمة {ما يأفكون} أي: ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم وكيدهم ويزوّرونه فيخيلون في حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى بالتمويه على الناظرين أو إفكهم، سمى تلك الأشياء إفكاً مبالغة، وقرأ حفص بسكون اللام وتخفيف القاف، وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد القاف، وشدّد البزي التاء في الوصل وخففها الباقون.
{فألقى السحرة} أي: عقب فعلها من غير تلبث {ساجدين} أي: فسجدوا بسرعة عظيمة حتى كأن ملقياً ألقاهم من قوة إسراعهم علماً منهم بأنّ هذا من عند الله فأمسوا أتقياء بررة بعدما جاؤوا في صبح ذلك اليوم سحرة كفرة.
(7/22)
---
روي أنهم قالوا إن يك ما جاء به موسى سحراً فلن نغلب وإن يك من عند الله فلن يخفى علينا، فلما قذف عصاه فتلقفت ما أتوا به علموا أنه من عند الله فآمنوا. وعن عكرمة أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء، وإنما عبر عن الخرور بالإلقاء لأنه ذكر مع الإلقاآت فسلك به طريقة المشاكلة، وفيه أيضاً: مع مراعاة المشاكلة أنهم حين رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين كأنهم أخذوا فطرحوا طرحاً، فإن قيل: فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به؟.
أجيب: بأنه الله تعالى بما خوّلهم من التوفيق أو إيمانهم أو ما عاينوا من المعجزة الباهرة، قال الزمخشري: ولك أن لا تقدر فاعلاً لأنّ ألقوا بمعنى خرّوا وسقطوا، ولما كان كأنه قيل: هذا فعلهم فما كان قولهم: قيل.
{قالوا آمنا برب العالمين} أي: الذي دعا إليه موسى عليه السلام أول ما تكلم وقولهم:(1/2898)
{رب موسى وهارون} عطف بيان لرب العالمين، لأنّ فرعون كان يدعي الربوبية وأرادوا أن يعذلوه، ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام أنه الذي دعا إليه موسى وهارون عليهما السلام، ولما آمن السحرة بأجمعهم لم يأمن فرعون أن يقول قومه أنّ هؤلاء السحرة على كثرتهم وبصيرتهم لم يؤمنوا إلا عن معرفة بصحة أمر موسى عليه السلام فيسلكون طريقهم، فلبس على القوم وبالغ في التنفير عن موسى من وجوه: أحدها: أن.
{قال آمنتم له} أي: لموسى {قبل أن آذن} أي: أنا {لكم} فمسارعتكم إلى الإيمان به دالة على ميلكم إليه.
تنبيه: ههنا همزتان مفتوحتان، قرأ الجميع بإبدال الثانية ألفاً، وحقق الثانية حمزة والكسائي وشعبة، وسهلها الباقون غير حفص فإنه أسقط الأولى والثانية عنده هي المبدوء بها.
ثانيها: قوله {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} وهذا تصريح بما رمز به أولاً وتعريض منه بأنهم فعلوا ذلك عن مواطأة بينهم وبين موسى وقصروا في السحر ليظهروا أمر موسى وإلا ففي قوة السحر أن تفعلوا مثل ما يفعل.
(7/23)
---
ثالثها: قوله {فلسوف تعلمون} وهو وعيد وتهديد شديد، رابعها: قوله:
{لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف} أي: يد كل واحد اليمنى ورجله اليسرى {ولأصلبنكم أجمعين} وهذا الوعيد من أعظم الإهلاكات، ثم إنهم أجابوا عن هذه الكلمات من وجهين: الأول: قولهم:
{قالوا لا ضير} أي: لا ضرر علينا وخبر لا محذوف تقديره في ذلك {إنا} أي: بفعلك ذلك فينا إن قدّرك الله تعالى عليه {إلى ربنا} الذي أحسن إلينا بالهداية بعد موتنا بأي وجه كان {منقلبون} أي: راجعون في الآخرة، الثاني: قولهم:(1/2899)
{إنا نطمع} أي: نرجو {أن يغفر} أي: يستر ستراً بليغاً {لنا ربنا خطايانا} أي: التي قدمناها على كثرتها ثم عللوا طمعهم مع كثرة الخطايا بقولهم: {أن كنا} أي: كونا هو لنا كالجبلة {أول المؤمنين} أي: من أهل هذا المشهد أو من رعية فرعون أو من أهل زمانهم ولما ظهر من أمر فرعون ما شاهدوه وخيف أن يقع منه ببني إسرائيل وهم الذين آمنوا وكانوا في قوم موسى ج ما يؤدّى إلى الاستئصال أمره الله تعالى أن يسري بهم كما قال تعالى:
{وأوحينا} أي: بما لنا من العظمة حين أردنا فصل الأمر وإنجاز الموعود {إلى موسى أن أسر} ليلاً {بعبادي} وذلك بعد سنين أقام بين أظهرهم يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات فلم يزيدوا إلا عتوّاً وفساداً، وقرأ نافع وابن كثير بكسر النون ووصل الهمزة بعدها من سرى، وقرأ الباقون بسكون النون وقطع الهمزة بعدها، ثم علل أمره له بالسير في الليل بقوله تعالى: {إنكم متبعون} أي: لا تظنّ أنهم لكثرة ما رأوا من الآيات يكفون عن اتباعكم فأسرع بالخروج لتبعدوا عنهم إلى الموضع الذي قدرت في الأزل أن يظهر بحري، والمراد: يوافقهم عند البحر، ولم يكتم إتباعهم عن موسى لعدم تأثره به، والمعنى: أني بنيت تدبير أمركم وأمرهم على أن تتقدّموا ويتبعوكم حتى يدخلوا مدخلكم ويسلكوا مسلككم من طريق البحر فأطبقه عليهم.
(7/24)
---(1/2900)
روي: أنه مات في تلك الليلة في كل بيت من بيوتهم ولد فاشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه. وروي أنّ الله تعالى أوحى إلى موسى أن أجمع بني إسرائيل كل أربعة أبيات في بيت ثم اذبحوا الجداء واضربوا بدمائها أبوابكم فإني سآمر الملائكة أن لا يدخلوا بيتاً على بابه دم وآمرهم بقتل أبكار القبط واختبزوا خبزاً فطيراً فإنه أسرع لكم، ثم أسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمري، وروي أنّ قوم موسى قالوا لقوم فرعون إن لنا في هذه الليلة عيداً ثم استعاروا منهم حليهم بهذا السبب ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر، فلما سمع فرعون ذلك جمع قومه وتبعهم كما قال تعالى:
{فأرسل فرعون} أي: لما أصبح وعلم بهم {في المدائن حاشرين} أي: رجالاً يجمعون الجنود بقوة وسطوة وإن كرهوا ويقولون تقوية لقلوبهم وتحريكاً لهممهم.
(7/25)
---(1/2901)
{إن هؤلاء} إشارة بأداة القرب تحقيراً لهم إلى أنهم في القبضة وإن بعدوا لما بهم من العجز وبآل فرعون من القوّة فليسوا بحيث يخاف قوتهم {لشرذمة} أي: طائفة وقطعة من الناس {قليلون} أي: بالنسبة إلى مالنا من الجنود التي لا تحصى فذكرهم أولاً بالاسم الدال على القلة بالشرذمة وهي الطائفة القليلة، ومنها قولهم: ثوب شرذم للذي بلي وتقطع قطعاً، ثم جعلهم قليلاً بالوصف ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلاً واختار جمع السلامة الذي هو للقلة مع أنهم كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً وسماهم بشرذمة قليلين وذلك بالنسبة لما أرسله خلفهم، فإنّ الذي أرسله فرعون في أثرهم ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور ومع كل ملك ألف، وخرج فرعون في جمع عظيم وكان مقدمته سبعمائة ألف كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة، وعن ابن عباس خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث فلذلك استقل قوم موسى، قال الزمخشري ويجوز أن يريد بالقلة الذلة والقماءة ولا يريد قلة العدد، والمعنى: أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع عليهم غلبتهم وعلوّهم ولكنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا، كما قال تعالى عنهم.
{وإنهم لنا لغائظون} أي: بما فجعونا به من أنفسهم وبما استعاروه من الزينة من الأواني الذهب والفضة وفاخر الكسوة فلا رحمة في قلوبهم بجمعهم.
{وإنا لجميعٌ حذرون} أي: من عادتنا الحذر والتيقظ واستعمال الحزم في الأمور فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم فساده، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن لئلا يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه، وقرأ ابن ذكوان والكوفيون بألف بعد الحاء، والباقون بغير ألف، قال أبو عبيدة والزجاج: هما بمعنى واحد يقال رجل حذر وحذور وحاذر بمعنى، وقيل بل بينهما فرق فالحذر المتيقظ والحاذر الخائف.
(7/26)
---(1/2902)
قيل: الأول للتجدّد لأنه اسم فاعل، والثاني: للثبات لأنه صفة مشبهة وقيل: الحاذر المتبلج الذي له شوكة، السلاح وهو أيضاً من الحذر لأنّ ذلك إنما يفعل حذراً، يحكى أنه كان يتصرف في خراج مصر وأنه يجزئه أربعة أجزاء: أحدها: لوزرائه وكتابه وجنده والثاني: لحفر الأنهار وعمل الجسور والثالث: له ولولده والرابع: يفرّق في المدن، فإن لحقهم ظلم أو ظمأ أو اشتجار أو فساد غلة أو موت عوامل قوّاهم به، ويروى أنه قصده قوم فقالوا نحتاج إلى أن نحفر خليجاً لنعمر ضياعنا فأذن في ذلك واستعمل عليهم عاملاً فاستكثر ما حمل من خراج تلك الناحية إلى بيت المال فسأل عن مبلغ ما أنفقوه في خليجهم فإذا هو مائة ألف دينار، فأمر بحملها إليهم فامتنعوا من قبولها، فقال: اطرحوها عليهم فإنّ الملك إذا استغنى بمال الرعية يعني رعيته افتقر، وإن الرعية إذا استغنت بمال ملكهم استغنى واستغنوا، ولما كان التقدير فأطاعوا أمره ونفروا على كل صعب وذلوا، عطف عليه قوله تعالى بما آل إليه أمرهم.
{فأخرجناهم} أي: فرعون وجنوده بما لنا من القدرة من مصر ليلحقوا بموسى وقومه إخراجاً حثيثاً مما لا يسمع أحد بالخروج منه {من جنات} أي: بساتين كانت على جانبي النيل يحق لها أن تذكر {وعيون} أي: أنهار جارية في الدور من النيل، وقيل: عيون تخرج من الأرض لا يحتاج معها إلى نيل ولا مطر.
{وكنوز} أي: أموال ظاهرة من الذهب والفضة وسميت كنوز لأنها لم يعط حق الله منها وما لم يعط حق الله تعالى منه فهو كنز وإن كان ظاهراً، قيل: كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام كل غلام على فرس عتيق في عنق كل فرس طوق من ذهب {ومقام} من المنازل {كريم} أي: مجلس حسن للأمراء والوزراء بحقه اتباعهم، وعن الضحاك: المنابر وقيل: السرر في الحجال، وذكر بعضهم أنه كان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من ذهب يجلس عليها الأشراف عليهم الأقبية من الديباج مخوصة بالذهب.
(7/27)
---(1/2903)
{كذلك} أي: أخرجنا كما وصفنا {وأورثناها} أي: تلك النعم السنية بمجرّد خروجهم بالقوّة وبعد إغراق فرعون وجنوده بالفعل {بني إسرائيل} أي: جعلناهم بحيث يرثونها لأنا لم نبق لهم مانعاً يمنعهم منها بعد أن كانوا مستعبدين بين أيدي أربابها، واستشكل إرثهم لها بالفعل لقوله تعالى في الدخان {قوماً آخرين} (الدخان، 28)
وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في ذلك المحل. بل قيل: إنّ بني إسرائيل لم يرجعوا إلى مصر بعد ذلك ولما وصف تعالى الإخراج وصف أثره بقوله تعالى: مرتباً عليه بالفعل وعلى الإيراث بالقوّة.
{فأتبعوهم} أي: جعلوا أنفسهم تابعة لهم {مشرقين} أي: داخلين في وقت شروق الشمس بطلوعها صبيحة الليلة التي سار فيها بنو إسرائيل، ولولا تقدير العزيز العليم بخرق ذلك للعادة لم يكن ذلك على حكم العادة في أقل من عشرة أيام فإنه تعجز الملوك عن مثله، واستمرّوا إلى أن لحقوهم عند بحر القلزم.
(7/28)
---
{فلما تراءى الجمعان} أي: رأى كل منهما الآخر {قال أصحاب موسى} ضعفاً وعجزاً استصحاباً لما كانوا فيه عندهم من الذل، ولأنهم أقل منهم بكثير بحيث يقال إن طليعة آل فرعون كانت على عدد بني إسرائيل وذلك محقق لتقليل فرعون لهم، وكأنه عبر عنهم بأصحاب دون بني إسرائيل؛ لأنه كان قد آمن كثير من غيرهم {إنا لمدركون} أي: يدركنا فرعون وقومه وقد صرنا بين سدّين العدّو وراءنا والبحر أمامنا ولا طاقة لنا بذلك.
(7/29)
---
{قال} أي: موسى عليه السلام وثوقاً بوعد الله تعالى {كلا} أي: لا يدركونكم أصلاً، ثم علل ذلك تسكيناً لهم بقوله {إن معي ربي} أي: بنصره فكأنهم قالوا وما عساه يفعل وقد وصلونا قال {سيهدين} أي: يدلني على طريق النجاة، روي: أن مؤمن آل فرعون كان بين يدي موسى عليه السلام فقال أين تذهب فهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون قال: أمرت بالبحر ولعلي أؤمر بما أصنع.(1/2904)
{فأوحينا} أي: فتسبب عن كلامه الدال على المراقبة أنا أوحينا ونوّه باسم الكليم جزاء له على ثقته به سبحانه وتعالى، فقال تعالى: {إلى موسى} وفسر الوحي الذي فيه معنى القول بقوله تعالى: {أن اضرب بعصاك البحر} أي: الذي أمامكم وهو بحر القلزم الذي يتوصل أهل مصر منه إلى الطور وإلى مكة المشرّفة وما والاها، وقيل: النيل، فضربه {فانفلق} بسبب ضربه لما ضربه امتثالاً لأمر ربه وصار اثني عشر فرقاً على عدد أسباطهم {فكان كل فرق} أي: جزء وقسم عظيم منه {كالطود} أي: الجبل في إشرافه وطوله وصلابته بعدم السيلان {العظيم} المتطاول في السماء الثابت في قعره لا يتزلزل لأنّ الماء كان منبسطاً في أرض البحر فلما انفلق وانكشف فيه الطريق انضم بعضه إلى بعض فاستطال وارتفع في السماء بين تلك الأجزاء مسالك سلكوها لم يبتل منها سرج الراكب.
قال الزجاج: لما انتهى موسى إلى البحر هاجت الريح والبحر يرمي بموج كالجبال، فقال يوشع: يا كليم الله يا ابن امرأة عمران قد غشينا فرعون والبحر أمامنا، فقال موسى: ههنا فخاض يوشع الماء وجاز البحر ما يواري حافر دابته الماء، وقال الذي يكتم إيمانه يا كليم الله أين أمرت قال ههنا، فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقيه، ثم أقحمه البحر فارتسب في الماء، وصنع القوم مثل ذلك فلم يقدروا فجعل موسى لا يدري كيف يصنع، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه، فانفلق فصار فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبط طريق فإنّ الرجل على فرسه لم يبتلّ سرجه ولا لبده.
(7/30)
---(1/2905)
روي: أنّ موسى قال عند ذلك يا من كان قبل كل شيء والمكوّن لكل شيء والكائن بعد كل شيء، وهذا معجز عظيم من وجوه: أحدهما: أن تفرّق ذلك الماء معجز وثانيها: أنّ اجتماع ذلك الماء فوق كل فرق منه حتى صار كالجبل معجز أيضاً، وثالثها: أنه ثبت في الخبر أنه تعالى أرسل على فرعون وقومه من الرياح والظلمة ما حيرهم فاحتبسوا القدر الذي تكامل معه عدد بني إسرائيل وهذا معجز ثالث، ورابعها: أن جعل الله في تلك الجدران المائية كوى ينظر بعضهم إلى بعض وهذا معجز رابع، وخامسها: أن أبقى الله تعالى تلك المسالك حتى قرب آل فرعون فطمعوا أن يتخصلوا من البحر كما تخلص موسى عليه السلام وهذا معجز خامس.
فائدة: لكل من جميع القراء في الراء من فرق الترقيق والتفخيم. ولما كان التقدير: وأدخلنا كل شعب منهم في طريق من تلك الطرق عطف عليه.
{وأزلفنا} أي: قربنا بعظمتنا {ثم} أي: هناك {الآخرين} أي: فرعون وقومه حتى سلكوا مسالكهم وقال أبو عبيدة: وأزلفنا أخلفنا، ومنه ليلة المزدلفة أي: ليلة الجمع، عن عطاء بن السائب: أنّ جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وقوم فرعون وكان يسوق بني إسرائيل ويقول ليلحق آخركم بأولكم ويستقبل القبط ويقول رويدكم ليلحق آخركم أولكم.
{وأنجينا موسى ومن معه} وهم من تبعوه من قومه وغيرهم {أجمعين} أي: لم نقدّر على أحد منهم الهلاك بل أخرجناهم من البحر على هيئته المذكورة.
{ثم أغرقنا الآخرين} أي: فرعون وقومه أجمعين بانطباق البحر عليهم لما تم دخولهم البحر وخروج بني إسرائيل منه، ويقال هذا البحر بحر القلزم، وقيل: هو بحر من وراء مصر يقال له أساف.
(7/31)
---(1/2906)
{إنّ في ذلك} أي: الأمر العظيم العالي الرتبة من قصة موسى وفرعون وما فيها من العظات {لآية} أي: علامة عظيمة دالة على قدرة الله تعالى لأنّ أحداً من البشر لا يقدر عليه وعلى حكمته وكون وقوعه مصلحة في الدين والدنيا أو على صدق موسى لكونه معجزة له وعلى التحذير عن مخالفة أمر الله تعالى ورسوله عليه السلام ، وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه قد بغتم بتكذيب قومه معه ظهور المعجزات عليه فنبه الله تعالى بهذا الذكر على أنّ له أسوة بموسى وغيره {وما كان أكثرهم} أي: أهل مصر الذين شاهدوها والذين وعظوا بسماعها {مؤمنين} أي: متصفين بالإيمان الثابت، أما القبط فما آمن منهم إلا السحرة ومؤمن آل فرعون وامرأة فرعون والمرأة التي دلتهم على عظام يوسف عليه السلام ، وأما بنو إسرائيل فكان كثير منهم متزلزلاً يتعنت كل قليل ويقول ويفعل ما هو كفر حتى تداركهم الله تعالى على يدي موسى عليه السلام ومن بعده، وأول ما كان من ذلك سؤالهم إثر مجاوزة البحر أن يجعل لهم إلهاً كالأصنام التي مرّوا عليها، وأمّا غيرهم ممن تأخر عنهم فحالهم معروف وأمرهم مشاهد مكشوف فقد سألوه بقرة يعبدونها واتخذوا العجل وطلبوا رؤية الله جهرة.
{وإن ربك} أي: المحسن إليك بإعلاء أمرك واستنقاذ الناس من ظلام الجهل على يدك {لهو العزيز} أي: القادر على الانتقام من كل فاجر {الرحيم} بعباده لأنه تعالى أفاض عليهم نعمه وكان قادراً على أن يهلكهم، فدل ذلك على كمال رحمته وسعة جوده وفضله. ولما أتم سبحانه وتعالى ما أراد من قصة موسى عليه السلام ليعرف محمداً صلى الله عليه وسلم أن تلك المحن التي أصابته كانت حاصلة لموسى، أتبعه دلالة على رحمته وزيادة في تسلية نبيه قصة إبراهيم عليه السلام وهي القصة الثانية بقوله تعالى:
(7/32)
---(1/2907)
{واتل} أي: اقرأ قراءة متتابعة يا أشرف الخلق {عليهم} أي: كفار مكة وقوله تعالى: {نبأ} أي: خبر {إبراهيم} قراءة نافع وابن كثر وأبو عمرو في الوصل بتسهيل الهمزة الثانية، وحققها الباقون، وفي الابتداء بالثانية الجميع يحققون ويبدل منه.
{إذ} أي: حين {قال لأبيه وقومه} منبهاً لهم على ضلالهم لا مستعلماً لأنه كان عالماً بحقيقة حالهم ولكنه سألهم بقوله: {ما} أي: أي شيء {تعبدون} أي: تواطئون على عبادته ليريهم أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء كما تقول للتاجر ما مالك وأنت تعلم أن ماله الرقيق، ثم تقول الرقيق جمال وليس بمال.
{قالوا} في جوابه {نعبد أصناماً}، فإن قيل: قوله عليه السلام ما تبعدون سؤال عن المعبود فحسب، فكان القياس أن يقولوا أصناماً كقوله تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} (البقرة: 219)
وكذا قوله تعالى: {ماذا قال ربكم قالوا الحق} (سبأ: 23)
وكقوله تعالى: {ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً}؟ (النحل: 30)
أجيب: بأنّ هؤلاء قد أجابوا بقصة أمرهم كاملة كالمبتهجين بها والمفتخرين فاشتملت على جواب إبراهيم عليه السلام وعلى ما قصدوه من إظهار ما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار، ألا تراهم كيف عطفوا على قولهم: نعبد {فنظل لها عاكفين} ولم يقتصروا على زيادة نعبد وحده، ومثاله أن تقول لبعض الشطار ما تلبس في بلادك فيقول: ألبس البرد إلا تحمى فأجر ذيله بين جواري الحيّ، وإنما قالوا نظل لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل، يقال ظلّ يفعل كذا إذا فعل بالنهار، والعكوف: الإقامة على الشيء، ثم إن إبراهيم عليه السلام .
(7/33)
---(1/2908)
{قال} منبهاً على فساد مذهبهم {هل يسمعونكم} أي: يسمعون دعاءكم أو يسمعونكم تدعون فحذف ذلك لدلالة {إذ} أي: حين {تدعون} عليه، فعلى الأول: هي متعدّية لواحد اتفاقاً، وعلى الثاني: هي متعدية لاثنين قامت الجملة المقدرة مقام الثاني وهو قول الفارسيّ، وعند غيره الجملة المقدرة حال، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الذال عند التاء، والباقون بالإدغام.
{أو ينفعونكم} إن عبدتموهم {أو يضرّون} أي: يضرونكم إن لم تعبدوهم، ولما أقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام عليهم هذه الحجة الباهرة وهو أنّ الذي يعبدونه لا يسمع دعاءهم حتى يعرف مقصودهم ولو عرف ذلك لما صح أن يبذل النفع أو يدفع الضرّ فكيف يعبد ما هذه صفته ولم يجدوا ما يدفعون به حجته إلا التقليد.
{قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك} أي: مثل فعلنا هذا الفعل العالي الشأن ولو لم يكن عند من نعبدهم شيء من ذلك، ثم صوّر إحالة آبائهم في نفوسهم تعظيماً لأمرهم بقولهم: {يفعلون} أي: فنحن نفعل كما فعلوا فإنهم حقيقيون منا بأن لا نخالفهم مع سبقهم لنا إلى الوجود فهم أرصن منا عقولاً وأعظم تجربة فلولا أنهم رأوا ذلك حسناً ما واظبوا عليه، وهذا تقليد محض خال عن أدنى نظر كما تفعل البهائم والطير في تبعها لأولها، ثم إنّ إبراهيم عليه السلام .
{قال} معرضاً عن جواب كلامهم لما رآه ساقطاً لا يرتضيه عاقل {أفرأيتم} أي: تسبب عن قولكم هذا أني أقول لكم أرأيتم، أي: إن لم تكونوا رأيتموهم رؤية موجبة لتحقق أمرهم فانظروهم نظراً شافياً {ما كنتم تعبدون} أي: مواظبين على عبادتهم.
{أنتم وآباؤكم الأقدمون} أي: الذين هم أقدم ما يكون فإنّ التقدم والأولية لا يكون برهاناً على الصحة، والباطل لا ينقلب حقاً بالقدم.
{فإنهم عدوّ لي} أي: أعداء لي، وإنما وحده على إرادة الجنس ويجيء العدوّ والصديق في معنى الواحد والجماعة، قال القائل:
*وقوم على ذوي مثرة ** أراهم عدوّاً وكانوا صديقاً*
(7/34)
---(1/2909)
ومنه قوله تعالى: {وهم لكم عدوّ} (الكهف: 50)
تشبهاً بالمصادر كالحنين والصهيل، وقيل: هو من المقلوب أراد أني عدوّ لهم فإنّ من عاديته فقد عاداك، وقرأ نافع أفرايتم بتسهيل الهمزة التي هي عين الكلمة، ولورش أيضاً إبدالها ألفاً، وأسقطها الكسائي، وحققها الباقون.
فإن قيل: لم قال فإنهم عدوّ لي ولم يقل فإنها عدوّ لكم؟ أجيب: بأنه عليه السلام صور المسألة في نفسه بمعنى أني فكرت في أمري فرأيت عبادتي ولها عبادة للعدوّة فاجتنبتها وأراهم أنها نصيحة نصح بها نفسه فإذا تفكروا قالوا ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون ذلك أدعى إلى القبول وأبعث إلى الاستماع منه، ولو قال فإنهم عدوّ لكم لم يكن بتلك المثابة ولأنه دخل في باب من التعريض وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح لأنه يتأمل فيه فربما قاده التأمّل إلى التقبل، ومنه ما يحكى عن الشافعيّ رضي الله عنه أن رجلاً واجهه بشيء فقال: لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب، وسمع رجل ناساً يتحدثون في الحجر فقال: ما هو ببيتي ولا ببيتكم، وقوله {إلا رب العالمين} أي: مدبر هذه الأكوان كلها يصح أن يكون استثناء منقطعاً بمعنى أنهم عدوّ لي لا أعبدهم لكن رب العالمين فإني أعبده، وأن يكون متصلاً على أن الضمير لكل معبود عبدوه وكان من آبائهم من عبد الله تعالى فكأنه قال إلا رب العالمين فإنه ليس بعدوّي بل هو ولي ومعبودي، ثم شرع يصفه بما هم به عالمون من أنه على الضدّ الأقصى من كل ما عليه أصنامهم بقوله:
(7/35)
---(1/2910)
{الذي خلقني} أي: أوجدني على هيئة التقدير والتصوير {فهو} أي: فتسبب عن تفرده بخلقي أنه هو لا غيره {يهدين} أي: إلى الرشاد ولا يعلم باطن المخلوق ويقدر على التصرف فيه غير خالقه ولا يكون خالقه إلا سميعاً بصيراً ضاراً نافعاً له الكمال كله وذكر الخلق بالماضي لأنه لا يتجدد في الدنيا، والهداية بالمضارعة لتجددها وتكرّرها، لأنه تعالى لما أتم خلقه ونفخ فيه الروح عقب ذلك هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى كل ما يصلحه ويعينه وإلا فمن هداه إلى أن يتغذى بالدم في البطن امتصاصاً؟ ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة وإلى معرفة مكانه؟ ومن هداه لكيفية الارتضاع إلى غير ذلك ديناً ودنياً.
{والذي} أي: {هو} لا غيره {يطعمني ويسقين} أي: يرزقني ويغذيني بالطعام والشراب ولو أراد أعدم ما آكل وما أشرب أو أصابني بآفة لا أستطيع معها أكلاً ولا شرباً، ونبه بذكر الطعام والشراب على ما عداهما.
تنبيه: يجوز في والذي يطعمني ويسقين أن يكون مبتدأ وخبره محذوف لدلالة ما قبله عليه وكذا الذي بعده، ويجوز أن تكون أوصافاً للذي خلقني ودخول الواو جائز كقوله:
*إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المزدحم*
وتكرير الموصول على الوجهين للدلالة على أن كل واحدة من الصلات مستقلة باقتضاء الحكم.
{وإذا مرضت} أي: باستيلاء بعض الأخلاط على بعض لما بينهما من التنافر الطبيعي {فهو} أي: وحده {يشفين} أي: بسبب تعديل المزاج بتعديل الأخلاط وقسرها عن الاجتماع لا بطبيب ولا غيره.
فإن قيل: لم أضاف المرض إلى نفسه مع أنّ المرض والشفاء من الله تعالى؟ أجيب: بأنه قال ذلك استعمالاً لحسن الأدب كما قال الخضر عليه السلام {فأردت أن أعيبها} (الكهف: 79)
(7/36)
---(1/2911)
وقال {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما} (الكهف، 82) ، وأجاب الرازي بأنّ أكثر أسباب المرض محدث بتفريط الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك، ومن ثم قال الحكماء لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم لقالوا التخم، وبأنّ الشفاء محبوب وهو من أصول النعم والمرض مكروه وليس من النعم، وكان مقصود إبراهيم عليه السلام تعديد النعم ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إلى الله تعالى ولا ينتقض ذلك بإسناد الإماتة إليه كما سيأتي، فإنّ الموت ليس بضرّ لأنّ شرط كونه ضرّاً وقوع الإحساس به وحال الموت لا يحصل الإحساس به إنما الضرر في مقدماته وذلك هو عين المرض، ولأنّ الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر وخلاصها عنها عين السعادة بخلاف المرض.
{والذي يميتني} يقبض روحي في الدنيا ليخلصني من آفاتها {ثم يحيين} للمجازاة في الآخرة كما شفاني من المرض، ولهذا التراخي بين الموت والإحياء أتى بثم هنا لأنّ الإماتة في الدنيا والإحياء في الآخرة، ولما ذكر البعث ذكر ما يترتب عليه بقوله:
{والذي أطمع} هضماً لنفسه وإطراحاً لأعماله {أن يغفر} أي: يمحو أو يستر {لي خطيئتي} أي: تقصيري عن أن أقدره حق قدره {يوم الدين} أي: الجزاء.
روي أنّ عائشة قالت قلت يا رسول الله: إنّ ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: «لا ينفعه، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» وهذا كله احتجاج من إبراهيم على قومه أنه لا يصلح للإلهية إلا من يفعل هذه الأفعال.
فإن قيل: لم قال والذي أطمع والطمع عبارة عن الظنّ والرجاء وهو عليه السلام كان قاطعاً بذلك؟.
أجيب: بأنّ في ذلك إشارة إلى أن الله تعالى لا يجب عليه لأحد شيء، فإنه يحسن منه تعالى كل شيء ولا اعتراض لأحد عليه في فعله.
(7/37)
---(1/2912)
فإن قيل: لم أسند لنفسه الخطيئة مع أنّ الأنبياء معصومون؟ أجيب: بأنّ مجاهداً قال هي قوله: إني سقيم وقوله: بل فعله كبيرهم هذا وقوله: لسارة هي أختي، ورد بأن هذه معاريض كلام وتخيلات للكفرة وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار، والأولى في الجواب أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم وهضم لأنفسهم، ويدل عليه قوله: أطمع ولم يجزم القول بالمغفرة، وفيه تعليم لأممهم وليكون لطفاً لهم باجتنابهم المعاصي والحذر منها وطلب المغفرة مما يفرط منهم، فإن قيل: لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين وإنما المغفرة في الدنيا؟ أجيب: بأنّ أثرها يتبين يومئذ وهو الآن خفي لا يعلم، ولما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام ثناء عليه ذكر بعد ذلك دعاءه ومسألته بقوله.
{رب} أي: أيها المحسن إليّ {هب لي حكماً} أي: عملاً متقناً بالعلم، وقال ابن عباس: معرفة حدود الله وأحكامه، وقال الكلبيّ: النبوّة لأنّ النبيّ ذو حكمة وذو حكم بين عباد الله، ثم بين أنّ الاعتماد إنما هو على محض الكرم فإن من نوقش الحساب عذب بقوله {وألحقني بالصالحين} أي: الذين جعلتهم أئمة للمتقين في الدنيا والآخرة وهم الأنبياء والمرسلون، وقد أجابه الله تعالى حيث قال {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} (البقرة: 130)
وفي ذلك تنبيه على أن تقديم الثناء على الدعاء من المهمات، فإن قيل: لم لم يقتصر إبراهيم عليه السلام على الثناء ولا سيما يروى عنه أنه قال حسبي من سؤالي علمه بحالي؟.
أجيب: بأنه عليه السلام إنما ذكر ذلك حين اشتغاله بدعوة الخلق إلى الحق لأنه قال فإنهم عدوّ لي إلا رب العالمين ثم ذكر الثناء ثم ذكر الدعاء لما أنّ الشارع لا بد له من تعليم الشرع فأمّا حين خلا بنفسه ولم يكن غرضه تعليم الشرع اقتصر على قوله حسبي من سؤالي علمه بحالي.
(7/38)
---(1/2913)
تنبيه: الإلحاق بالصالحين أن يوفقه لعمل ينتظم به في جملتهم أو يجمع بينه وبينهم في المنزلة والدرجة في الجنة، ثم إنه عليه السلام طلب زيادة في الآخرة بقوله:
(7/39)
---
{واجعل لي لسان صدق} أي: ذكراً جميلاً وقبولاً عاماً وثناءً حسناً بما أظهرت من خصال الخير {في الآخرين} أي: من الناس الذين يوجدون بعدي إلى يوم الدين لأكون للمتقين إماماً، فيكون لي مثل أجورهم، فإنّ من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، قال ابن عباس: أعطاه الله تعالى بقوله: {وتركنا عليه في الآخرين} (الصافات: 78)
أنّ أهل الإيمان يتولونه ويثنون عليه وقد جعله الله شجرة مباركة فرع منها الأنبياء الذين أحيا الله تعالى بهم ذكره الذي من أعظمه ما كان على لسان أعظمهم النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم من قوله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إلى آخره، ولما طلب عليه السلام سعادة الدنيا وكان لا نفع لها إلا باتصالها بسعادة الآخرة التي هي الجنة طلبها بقوله:
d
{واجعلني} أي: مع ذلك كله بفضلك ورحمتك {من ورثة جنة النعيم} لأنّ فيها النظر إلى وجه الله الكريم وهو السعادة الكبرى، شبهها بالأرض الذي يحصل بغير اكتساب إشارة إلى أنها لا تنال إلا بمنه وكرمه لا بشيء من ذلك، ولما دعا لنفسه ثنى بأحق الخلق ببره بقوله:
{واغفر لأبي} بالهداية والتوفيق إلى الإيمان لأنّ المغفرة مشروطة بالإيمان وطلب المشروط متضمن لطلب الشرط، فقوله: {واغفر لأبي} كأنه دعاء له بالإيمان، وقيل: إنّ أباه وعده بالإسلام لقوله تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه} (التوبة: 114)(1/2914)
فدعا له قيل: أن يتبين له أنه عدوّ لله كما سبق في سورة التوبة، وقيل: إنّ أباه قال له أنه على دينه باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً وتقيةً وخوفاً فدعا له لاعتقاده أنّ الأمر كذلك فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه، ولذلك قال في دعائه {إنه كان من الضالين} فلولا اعتقاده فيه أنه في الحال ليس بضالّ لما قال ذلك، وقيل: إن الاستغفار للكفار لم يكن ممنوعاً إذ ذاك.
(7/40)
---
{ولا تخزني} أي: تفضحني {يوم يبعثون} أي: العباد، فإن قيل: كان قوله: {واجعلني من ورثة جنة النعيم} كافياً عن هذا وأيضاً قال تعالى: {إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين} (النحل: 27)
فما كان نصيب الكفار فقط كيف يخافه المعصوم؟ أجيب: بأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فكذا درجات الأبرار خزي المقرّبين وخزي كل واحد بما يليق به، ولما نبه عليه السلام على أنّ المقصود هو الآخرة صرح بالتنزيه في الدنيا بقوله:
{يوم لا ينفع} أي: أحداً {مال} أي: يفتدى به أو يبذله لشافع أو ناصر وقاهر {ولا بنون} ينتصر بهم أو يعتضد فكيف بغيرهم، وفي استثناء قوله:
{إلا من} أوجه: أحدها: أنه منقطع وجرى عليه الجلال المحلي أي: لكن من {أتى الله بقلب سليم} فإنه ينفعه ذلك، الثاني: أنه مفعول به لقوله تعالى: لا ينفع أي: لا ينفع المال والبنون إلا هذا الشخص فإنه ينفعه ماله المصروف في وجوه البرّ وبنوه الصلحاء لأنه علمهم وأحسن إليهم، الثالث: أنه بدل من المفعول المحذوف ومستثنى منه إذ التقدير لا ينفع مال ولا بنون أحداً من الناس إلا من كانت هذه صفته.(1/2915)
واختلف في القلب السليم على أوجه: قال الرازي أصحها: أنّ المراد منه سلامة النفس عن الجهل والأخلاق الرذيلة، الثاني: أنه الخالص من الشرك والنفاق وهو قلب المؤمن وجرى على هذا الجلال المحلي وأكثر المفسرين، فإنّ الذنوب قل أن يسلم منها أحد، وهذا معنى قول سعيد بن المسيب. السليم: هو الصحيح وهو قلب المؤمن فإن قلب الكافر والمنافق مريض، قال تعالى: {في قلوبهم مرض} (البقرة: 10)
الثالث: أنه الذي سلم وسلّم وأسلم وسالم واستسلم، الرابع: أنه هو اللديغ أي: القلق المنزعج من خشية الله، لكن قال الزمخشريّ: أنّ القولين الأخيرين من بدع التفاسير، وقوله تعالى:
(7/41)
---
{وأزلفت الجنة} حال من واو يبعثون، ومعنى أزلفت قربت أي: قربت الجنة {للمتقين} فتكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها ويفرحون بأنهم المحشورون إليها زيادة إلى شرفهم.
{وبرّزت الجحيم} أي: كشفت وظهرت النار الشديدة {للغاوين} أي: الكافرين فيرونها مكشوفة ويحشرون على أنهم المسوقون إليها زيادة في هوانهم.
تنبيه: في اختلاف الفعلين بترجيح لجانب الوعد على الوعيد حيث قال في حق المتقين وأزلفت أي: قربت وفي حق الغاوين وبرّزت أي: أظهرت ولا يلزم من الظهور القرب.
{وقيل لهم} تبكيتاً وتنديماً وتوبيخاً، وأبهم القائل ليصلح لكل أحد تحقيراً لهم، ولأنّ المراد نفس القول لا كونه من معين {أينما} أي: أين الذي {كنتم تعبدون} في الدنيا، ثم حقر معبوداتهم بقوله تعالى:
{من دون} أي: من أدنى رتبة من رتب {الله} أي: الملك الذي لا كفء له، وكنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم ويقونكم شرّ هذا اليوم {هل ينصرونكم} بدفع العذاب عنكم {أو ينتصرون} بدفعه عن أنفسهم.(1/2916)
{فكبكبوا} أي: فتسبب عن عجزهم أن ألقوا {فيها} أي: في مهواة الجحيم {هم} أي: الأصنام وما شابهها من الشياطين ونحوهم {والغاوون} أي: الذين ضلوا بهم، والكبكبة: تكرار الكب لتكرير معناه كأنّ من ألقى في النار ينكب مرّة بعد أخرى حتى يستقرّ في قعرها، وقال الزجاج: طرح بعضهم فوق بعض، وقال القتيبي: ألقوا على رؤوسهم.
{وجنود إبليس} وهم اتباعه ومن أطاعه من الإنس والجنّ، وقيل ذريته {أجمعون} ولما لم يتمكنوا من قول في جواب استفهامهم قبل إلقائهم.
{قالوا} أي: العبدة {وهم فيها} أي: الجحيم {يختصمون} أي: مع المعبودات وقولهم:
{تالله} أي: الذي له جميع الكمال {إن كنا لفي ضلال مبين} أي: ظاهر جدّاً لمن كان له قلب سليم معمول قولهم وما بينهما، وهو وهم فيها يختصمون جملةً حاليةً معترضةً بين القول ومعموله وقيل: إنّ الأصنام تنطق وتخاصم العبدة، ويؤيده الخطاب في قولهم:
(7/42)
---
{إذ} أي: حين {نسويكم برب العالمين} في استحقاق العبادة.
تنبيه: إذ منصوب إما بمبين أو بمحذوف أي: ضللنا في وقت تسويتنا لكم بالله في العبادة.
{وما أضلنا} أي: ذلك الضلال المبين عن الطريق البين {إلا المجرمون} أي: الأولون الذين اقتدينا بهم من رؤسائنا وكبرائنا كما في آية أخرى {ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلاً} (الأحزاب: 67)
وعن ابن جريح: إبليس وابن آدم الأوّل وهو قابيل وهو أوّل من سنّ القتل وأنواع المعاصي.
{فما} أي: فتسبب عن ذلك أنه ما {لنا} اليوم وزادوا في تعميم النفي بزيادة الجار فقالوا {من شافعين} يكونون سبباً لإدخالنا الجنة كالمؤمنين تشفع لهم الملائكة والنبيون.(1/2917)
{ولا صديق حميم} أي: قريب يشفع لنا يقول ذلك الكفار حين تشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون، والصديق: هو الصادق في ودادك الذي يهمه ما أهمك مع موافقة الدين، وعن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الرجل ليقول في الجنة ما فعل صديقي فلان وصديقه في الجحيم فيقول الله تعالى أخرجوا له صديقه إلى الجنة فيقول من بقي في النار فما لنا من شافعين ولا صديق حميم» قال الحسن: استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإنّ لهم شفاعة يوم القيامة، فإن قيل: لم جمع الشافع ووحد الصديق؟ أجيب: بأنّ الشفعاء كثيرون في العادة رحمة له وحسبة وإن لم يسبق له بأكثرهم معرفة، وأما الصديق وهو الصادق في ودادك الذي يهمه ما أهمك، قال الزمخشري: فأعز من بيض الأنوق انتهى. قال الجوهريّ: الأنوق على فعول طير وهو الرخمة وفي المثل أعز من بيض الأنوق لأنها محرزة فلا يكاد يظفر بها لأنّ أوكارها في رؤوس الجبال والأماكن الصعبة البعيدة، وعن بعض الحكماء أنه سئل عن الصديق فقال اسم لا معنى له: أي: لا يوجد ولما وقعوا في هذا الهلاك وانتفى عنهم الخلاص تسبب عنه تمنيهم المحال فقالوا.
(7/43)
---
{فلو أن لنّا كرّة} أي: رجعة إلى الدنيا {فنكون من المؤمنين} أي: الذين صار الإيمان لهم وصفاً لازماً فأزلفت لهم الجنة.(1/2918)
تنبيه: انظر ما أحسن ما رتب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين حين سألهم أوّلاً عما يعبدون سؤال مقرر لا مستفهم ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع وعلى تقليدهم آباؤهم الأقدمين فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة فضلاً عن أن يكون حجة، ثم صور المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله عز وجل فعظم شأنه وعدد نعمته من لدن خلقه وإنشائه إلى حين وفاته مع ما يرجى في الآخرة من رحمته، ثم أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين وابتهل إليه ابتهال الأوابين، ثم وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله تعالى وعقابه وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمني الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا.
{إن في ذلك} أي: المذكور من قصة إبراهيم وقومه {لآية} أي: عظة على بطلان الباطل وحقوق الحق {وما} أي: والحال أنه ما {كان أكثرهم} أي: الذين شهدوا منهم هذا الأمر العظيم الذي سمعوه عنه {مؤمنين} أي: بحيث صار الإيمان صفة لهم ثابتة وفي ذلك أعظم تسلية لنبينا صلى الله عليه وسلم
(7/44)
---
{وإن ربك} أي: المحسن إليك بإرسالك وهداية الأمة بك {لهو العزيز} أي: القادر على إيقاع النقمة بكل من خالفه حين يخالفه {الرحيم} أي: الفاعل فعل الراحم في إمهاله العصاة مع إدرار النعم ودفع النقم وإرسال الرسل ونصب الشرائع لكي يؤمنوا أو أحد من ذرّيتهم، ولما أتم سبحانه وتعالى قصة الأب الأعظم الأقرب إبراهيم عليه السلام أتبعها بقصة الأب الثاني وهو نوح عليه السلام وهي القصة الثالثة مقدمها لها على غيرها لما له من القدم في الزمان إعلاماً بأنّ البلاء قديم ولأنها أدل على صفتي الرحمة والنعمة اللتين هما أثراً لغرة بطول الإملاء لهم على طول مدتهم ثم تعميم النعمة مع كونهم جميع أهل الأرض فقال:(1/2919)
{كذبت قوم نوح} وهم أهل الأرض كلها من الآدميين قبل اختلاف الأمم بتفرّق اللغات {المرسلين} أي: بتكذيبهم نوحاً عليه السلام لأنه أقام الدليل على نبوته بالمعجزة ومن كذب بالمعجزة فقد كذب بجميع المعجزات لتساوي أقدامها في الدلائل على صدق الرسول، وقد سئل الحسن البصري عن ذلك فقال: من كذب واحداً من الرسل فقد كذب الكل لأنّ الأخير جاء بما جاء به الأوّل.
تنبيه: القوم يؤنث باعتبار معناه ولذا يصغر على قويمة، ويذكر باعتبار لفظه وتذكيره أشهر، واختير التأنيث ههنا للتنبيه على أن فعلهم أخس الأفعال وإلى أنهم مع عتوّهم وكثرتهم كانوا عليه سبحانه وتعالى أهون شيء وأضعفه بحيث جعلهم هباءً منثوراً وكذا من بعدهم ولأجل التسلية عبر بالتكذيب في كل قصة.
{إذ} أي: حين {قال لهم أخوهم} أي: في النسب لا في الدين {نوح} وذكر الأخوة زيادة في تسلية النبيّ صلى الله عليه وسلم وأشار تعالى إلى حسن أدب نوح عليه السلام مع قومه واستجلابهم برفقه ولينه بقوله لهم {ألا تتقون} الله بأن تجعلوا بينكم وبينه وبين الحفظة وقاية بطاعته بالتوحيد وترك الالتفات إلى غيره ثم علل أهليته للأمر عليهم بقوله:
(7/45)
---
{إني لكم} أي: مع كوني أخاكم يسرّني ما يسرّكم ويسوءني ما يسوءكم {رسول} أي: من عند خالقكم فلا مندوحة لي عما أمرت به {أمين} أي: مشهور بالأمانة بينكم لا غش عندي كما تعلمون ذلك مني على طول خبرتكم لي ثم تسبب عن ذلك الرفق الجزم بالأمر فقال:
{فاتقوا الله} أي: أوجدوا الخوف والحذر والتحرز الذي اختص بالجلال والجمال لتحوزوا أصل السعادة فتكونوا من أهل الجنة {وأطيعون} فيما آمركم به من توحيد الله وطاعته ثم نفى عن نفسه التهمة بعد أن أثبت أمانته بقوله.(1/2920)
{وما أسألكم عليه} أي: على هذا الحال الذي أتيتكم به وأشار إلى الإغراق في النفي بقوله {من أجر} لتظنوا أني جعلت الدعاء سبباً لذلك، ثم أكد النفي بقوله {إن} أي: ما {أجري} أي: ثوابي في دعائي لكم {إلا على رب العالمين} أي: الذي دبر جميع الخلائق ورباهم، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص بفتح الياء في أجري في المواضع الخمسة في هذه السورة، والباقون بالسكون ولما انتفت التهمة تسبب عن انتفائها إعادة ما قدمه إعلاماً بالاهتمام به زيادة في الشفقة عليهم فقال:
{فاتقوا الله} أي: الذي حاز جميع صفات العظمة {وأطيعون} ولما أقام الدليل على نصحه وأمانته.
(7/46)
---
{قالوا} أي: قومه منكرين عليه ومنكرين لاتباعه استناداً إلى الكبر الذي ينشأ عنه بطر الحق وغمص الناس أي: احتقارهم {أنؤمن لك} أي: لأجل قولك هذا وما أوتيته من أوصافك {و} الحال أنه قد {اتبعك الأرذلون} أي: فيكون إيماننا بك سبباً لاستوائنا معهم، والرذالة: الخسة والذلة، وإنما استرذلوهم لاتضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا، قيل: كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة والحجامة والصناعة لا تزري بالديانة وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما زالت أتباع الأنبياء كذلك حتى كادت من سماتهم وأماراتهم، ألا ترى إلى هرقل حيث سأل أبا سفيان عن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قال ضعفاء الناس وأراذلهم قال: مازالت أتباع الأنبياء كذلك، وعن ابن عباس هم الفاتحة، وعن عكرمة الحاكة والإساكفة، وعن مقاتل السفلة ولما كانت هذه الشبهة في غاية الركاكة لأنّ نوحاً بعث إلى جميع قومه فلا يختلف الحال بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب وخستها أجابهم بقوله:
(7/47)
---(1/2921)
{قال وما} أي: أي شيء {علمي بما كانوا يعملون} قبل أن يتبعوني أي: مالي وللبحث عن سرائرهم، وإنما قال هذا لأنهم قد طعنوا مع استرذالهم في إيمانهم وأنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة وإنما آمنوا هوى وبديهة كما حكى الله عنهم في قوله: {الذين هم أراذلنا بادي الرأي} (هود: 27)
ثم أكد أنه لا يبحث عن بواطنهم بقوله:
(7/48)
---
{إن} أي: ما {حسابهم} أي: في الماضي والآتي {إلا على ربي} أي: المحسن إليّ فهو محاسبهم ومجازيهم، وأمّا أنا فلست بمحاسب ولا مجاز {لو تشعرون} أي: لو كان لكم نوع شعور لعلمتم ذلك فلم تقولوا ما قلتم ما هو دائر على أمور الدنيا فقط ولا نظر له إلى يوم الحساب، فإنّ الغنى غنى الدين والنسب نسب التقوى، ولما أوهم قولهم: هذا استدعاء طرد هؤلاء الذين آمنوا معه وتوقيف إيمانهم عليه حيث جعلوا أتباعهم المانع عنه أجابهم بقوله عليه السلام .
{وما} أي: ولست {أنا بطارد المؤمنين} أي: الذين صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً فلم يرتدوا عنه للطمع في إيمانكم ولا لغيره من أتباع شهواتكم، ثم علل ذلك بقوله:
{إن أنا إلا نذير} أي: محذر لا وكيل فاتش على البواطن ولامتنعت عن الاتباع {مبين} أوضح ما أرسلت به فلا أدع فيه لبساً، وقرأ قالون بمدّ أنا في الوصل بخلاف عنه، والباقون بالقصر، ولما أجابهم بهذا الجواب وقد أيسوا مما راموه لم يكن منهم إلا التهديد بأن.
{قالوا لئن لم تنته} ثم سموه باسمه جفاء وقلة أدب بقولهم: {يا نوح} عما تقوله {لتكونن من المرجومين} قال مقاتل والكلبي: من المقتولين بالحجارة، وقال الضحاك: من المشتومين فعند ذلك حصل اليأس لنوح عليه السلام من فلاحهم فلذلك.(1/2922)
{قال} شاكياً إلى الله ما هو أعلم به منه توطئة للدّعاء عليهم ومعرضاً عن تهديدهم له صبراً واحتساباً لأنه من لازم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {رب} أي: أيها المحسن إليّ {إنّ قومي كذبون} أي: فيما جئت به فليس الغرض من هذا إخبار الله بالتكذيب لعلمه بأنه عالم الغيب والشهادة ولكنه أراد لا أدعوك عليهم لما آذوني وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنهم كذبوك في وحيك ورسالتك.
(7/49)
---
{فافتح} أي: احكم {بيني وبينهم فتحاً} أي: حكماً يكون لي فيه فرج وبه من المضيق مخرج فأهلك المبطلين {ونجني ومن معي} أي: في الدين {من المؤمنين} مما تعذب به الكافرين، ثم لما كان في إهلاكهم وإنجائه من بديع الصنع ما يجل عن الوصف أظهره في مظهر العظمة بقوله تعالى:
{فأنجيناه ومن معه} أي: الذين اتبعوه في الدين على ضعفهم وقلتهم {في الفلك} أي: السفينة وجمعه فُلك قال الله تعالى: {وترى الفلك فيه مواخر} (فاطر: 12)
قالوا حد بوزن قفل والجمع بوزن أسد، وقال تعالى {المشحون} أي: الموقور المملوء من الناس والطير والحيوان لأنّ سلامة المملوء جداً أغرب، ولما كان إغراقهم كلهم من الغرائب عظمه بأداة البعد فقال تعالى:
{ثم أغرقنا بعد} أي: بعد إنجاء نوح ومن معه {الباقين} أي: من بقي على الأرض ولم يركب معه في السفينة على قوّتهم وكثرتهم.
{إن في ذلك} أي: الأمر العظيم من الدعاء والإمهال ثم الإنجاء والإهلاك {لأية} أي: عظة لمن شاهد ذلك أو سمع به {وما} أي: والحال أنه ما {كان أكثرهم} أي: العالمين بذلك {مؤمنين} وقد كان ينبغي لهم إذ فاتهم الإيمان بمحض الدليل أن يبادروا بالإيمان حين رأوا أوائل العذاب.
{وإن ربك} المحسن إليك بإرسالك وتكثير أتباعك وتعظيم أشياعك {لهو العزيز} أي: القادر بعزته على كل من قسرهم على الطاعة وإهلاكهم في أوّل أوقات المعصية {الرحيم} أي: الذي يخص من شاء من عباده بخالص وداده.(1/2923)
ولما فرغ من ذكر قصة نوح عليه السلام شرع في قصة هود عليه السلام وهي القصة الرابعة فقال تعالى:
{كذبت عاد} أي: تلك القبيلة التي مكن الله تعالى لها في الأرض بعد قوم نوح {المرسلين} بالأعراض عن معجزة هود عليه السلام ، ثم سلى محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
(7/50)
---
{إذ} أي: حين {قال لهم أخوهم} أي: في النسب لا في الدين {هود} بصيغة العرض تأدباً معهم وتلطفاً بهم {ألا تتقون} أي: يكون منكم تقوى لربكم الذي خلقكم فتعبدونه ولا تشركون به ما لا يضرّكم ولا ينفعكم، ثم علل ذلك بقوله:
{إني لكم رسول} أي: فهو الذي حملني على أن أقول لكم ذلك {أمين} أي: لا أكتم عنكم شيئاً مما أمرت به ولا أخالف شيئاً منه.
{فاتقوا} أي: فتسبب عن ذلك أن أقول لكم اتقوا {الله} أي: الذي هو أعظم من كل شيء {وأطيعون} أي: في كل ما آمركم به من طاعة الله وترك معاصيه ومخالفته ثم نفى عن نفسه التهمة في دعائه لهم بقوله:
{وما} أي: والحال أني ما {أسألكم عليه} أي: دعائي لكم {من أجر} فتتهموني به وإنما أنا رسول داع {إن} أي: ما {أجري} أي: ثوابي {إلا على رب العالمين} فهو الذي يثيب العبد على عمله، ولما فرغ من دعائهم إلى الإيمان أتبعه إنكار بعض ما هم عليه لأنّ حالهم حال الناسي لذلك الطوفان الذي أهلك الحيوان وأهدم البنيان بقوله لهم:(1/2924)
{أتبنون بكل ريع} جمع ريعة وهو في اللغة المكان المرتفع، ومنه قولهم: كم ريع أرضك وهو ارتفاعها، وقال ابن عباس: الريع كل شرف، وقال مجاهد: هو الفج بين الجبلين، وقال الضحاك: هو كل طريق {آية} أي: علامة على شدتكم لأنه لو كان لهداية أو نحوها لكفى بعض ذلك ولكنكم {تعبثون} بمن يمرّ في الطريق إلى هود عليه السلام وتسخرون منه، والجملة حال من ضمير تبنون، وقيل: كانوا يبنون الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم فنهوا عن ذلك ونسبوا إلى العبث، وقال سعيد بن جبير: هي بروج الحمام لأنهم كانوا يلعبون بالحمام، ثم ذكرهم بزوال الدنيا بقوله.
{وتتخذون مصانع} قال مجاهد: قصوراً مشيدة، وقال الكلبي هي الحصون، وقال قتادة: هي مأخذ الماء يعني الحياض واحدها مصنعة، ولما كان هذا الفعل حال الراجي للخلود قال لهم {لعلكم} أي: كأنكم {تخلدون} فيها فلا تموتون، ثم بين لهم أفعالهم الخبيثة بقوله:
(7/51)
---
{وإذا بطشتم} أي: أردتم البطش بأحد بضرب أو قتل {بطشتم جبارين} أي: من غير رأفة، قال البغويّ: والجبار: الذي يضرب ويقتل على الغضب.
تنبيه: إنما قدّرنا الإرادة لئلا يتحد الشرط والجزاء، وجبارين حال، ولما خوّفهم هود عليه السلام بهذا الإنكار وهو أنّ اتخاذ الأبنية العالية يدل على حب الدنيا واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء والجبارية تدل على حب التفرد بالعلوّ وهي ممتنعة الحصول للعبد وخوّفهم بهذا الإنكار عقاب الجبار تسبب عن ذلك قوله:
{فاتقوا الله} أي: الذي له صفات الجلال والإكرام {وأطيعون} زيادة في دعائهم إلى الآخرة وزجراً لهم عن حب الدنيا والاشتغال بالشرف والتجبر، ثم وصل هذا الوعظ بما يؤكد القبول بأن نبههم على نعم الله تعالى عليهم بقوله:
{واتقوا الذي أمدّكم} أي: جعل لكم مدداً وهو اتباع الشيء ما يقوّ به على الانتظام {بما تعلمون} أي: ليس فيه نوع خفاء حتى تغفلوا عن تقييد بالشكر، ثم فصل ذلك المجمل بقوله:(1/2925)
{أمدّكم بأنعام} تعينكم على الأعمال وتأكلون منها وتبيعون {وبنين}.
يعينونكم على ما تريدون عند العجز.
{وجنات} أي: بساتين ملتفة الأشجار بحيث تستر داخلها {وعيون} أي: أنهار تشربون منها وتسقون أنعامكم وبساتينكم ثم خوّفهم بقوله:
{إني أخاف عليكم} قال ابن عباس: إن عصيتموني أي: فإنكم قومي يسوءني ما يسوءكم {عذاب يوم عظيم} في الدنيا والآخرة فإنه كما قدر على الإنعام فهو قادر على الانتقام وتعظيم اليوم أبلغ من تعظيم العذاب، ولما بالغ عليه السلام في وعظهم وتنبيههم على نعم الله تعالى حيث أجملها ثم فصلها مستشهد بعلمهم وذلك أنه أيقظهم عن سنة غفلتهم عنها حين قال: {أمدّكم بما تعلمون} ثم عدّدها عليهم وعرّفهم المنعم بتعديد ما يعلمون من نعمته وأنه كما قدر أن يتفضل عليكم بهذه النعمة قادر على الانتقام منكم ولم يقدّر الله تعالى هدايتهم.
(7/52)
---
{قالوا} له راضين بما هم عليه {سواء علينا أوعظت} أي: خوفت وحذرت {أم لم تكمن من الواعظين} فإنا لا نرعوي عما نحن فيه، فإن قيل: لو قيل أوعظت أم لم تعظ كان أخصر والمعنى واحد؟ أجيب: بأنّ ذلك لتواخي القوافي، أو لأنّ المعنى ليس واحداً بل بينهما فرق لأنّ المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلاً من أهله ومباشريه فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك أم لم تعظ، وقرأ قوله تعالى:
(7/53)
---
أي: ما {هذا} أي: الذي جئتنا به {إلا خلق الأولين} نافع وابن عامر وعاصم وحمزة بضم الخاء واللام أي: ما هذا الذي نحن فيه إلاعادة الأولين في حياة ناس وموت آخرين وعافية قوم وبلاء آخرين، وقرأ الباقون بضم الخاء وسكون اللام أي: ما هذا إلا كذب الأولين.
{وما نحن بمعذبين} أي: على ما نحن عليه لأنا أهل قوة وشجاعة ونجدة وبلاغة وبراعة، لما تضمن هذا التكذيب تسبب عنه قوله تعالى:(1/2926)
{فكذبوه} ثم تسبب عن تكذيبهم قوله تعالى: {فأهلكناهم} أي: في الدنيا بريح صرصر، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في سورة الحاقة {إن في ذلك} أي: الإهلاك في كل قرن للمكذبين والإنجاء للمصدقين {لآية} أي: عظيمة لمن بعدهم على أنه تعالى فاعل ذلك وحده وأنه مع أوليائه ومن كان معه لا يذلّ وأنه على أعدائه ومن كان عليه لا يعز {وما كان أكثرهم} أي: أكثر من كان بعدهم {مؤمنين} أي: فلا تحزن أنت يا أشرف الرسل على من أعرض عن الإيمان.
{وإن ربك} أي: المحسن إليك بإرسالك وغيره من النعم {لهو العزيز} في انتقامه ممن عصاه {الرحيم} في إنعامه وإكرامه وإحسانه مع عصيانه وكفرانه وإرسال المرسلين وتأييدهم بالآيات المعجزة.
ثم أتبع قصة هود عليه السلام قصة صالح عليه السلام وهي القصة الخامسة بقوله تعالى:
{كذبت ثمود} وهم أهل الحجر {المرسلين} وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار المثناة عند المثلثة، والباقون بالإدغام وأشار تعالى إلى زيادة التسلية بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تأمل ولا توقف بقوله تعالى:
{إذ} أي: حين {قال لهم أخوهم} أي: في النسب لا في الدين {صالح} بصيغة العرض تأدباً معهم وتلطفاً بهم كقول من تقدم قبله {ألا تتقون} الله، ثم علل ذلك بقوله:
{إني لكم رسول} من رب العالمين فلذلك عرضت عليكم هذا لأني مأمور بذلك {أمين} في جميع ما أرسلت به إليكم من خالقكم الذي لا أحد أرحم منه بكم، ثم تسبب عن قوله: {إني لكم رسول} قوله:
(7/54)
---
{فاتقوا الله} أي: الذي له الغنى المطلق {وأطيعون} فيما أتيت به من عند الله، ثم نفى عنه ما فديتموهم ممن لا عقل له بقوله:
{وما أسألكم عليه} أي: ما جئتكم به، وأغرق في النفي بقوله {من أجر} ثم زاد في تأكيد هذا النفي بقوله: {إن} أي: ما {أجري} على أحد {إلا على رب العالمين} فهو المتفضل المنعم على خلقه، ثم شرع ينكر عليهم أكل خيره وعبادة غيره بقوله:(1/2927)
{أتتركون} أي: من أيدى النوائب التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى {في ما ههنا} أي: في بلادكم هذه من النعم حالة كونكم {آمنين} لا تخافون وأنتم تبارزون الملك القهار بالعظائم.
فائدة: تكتب في ما ههنا في مقطوعة عن ما، ثم فسر ما أجمله بقوله:
{في جنات} أي: بساتين تستر الداخل فيها وتخفيه لكثرة أشجارها {وعيون} تسقيها من مالها من البهجة وغير ذلك من المنافع.
{وزروع} أي: من سائر الأنواع {ونخل طلعها} أي: ما يطلع منها من الثمر {هضيم} قال ابن عباس: هو اللطيف، ومنه قوله: كشح هضيم، وقيل: هو الجواد الكريم من قولهم: يد هضوم إذا كانت تجود بما لديها، وقال أهل المعاني هو المنضم بعضه إلى بعض في وعائه قبل أن يظهر، والطلع: عنقود الثمر قبل خروجه من الكمّ، وقال الزمخشري: الطلع هو الذي يطلع من النخلة كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو والقنوهر اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه.
فإن قيل: لم قال ونخل بعد قوله: {في جنات} والجنة تتناول النخل أول شيء كما يتناول النعم الإبل كذلك من بين الأزواج حتى إنهم ليذكرون الجنة ولا يقصدون إلا النخيل كما يذكرون النعم ولا يريدون إلا الإبل قال زهير:
*تسقى جنة سحقاً*
(7/55)
---
وسحقاً: جمع سحوق، ولا يوصف به إلا النخل؟ أجيب: بوجهين: أحدهما: أنه خص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر تنبيهاً على انفراده عنها بفضله عليها، الثاني: أن يريد بالجنات غيرها من الشجر لأنّ اللفظ يصلح لذلك ثم يعطف عليها النخل، ولما ذكر ما أنعم الله تعالى به عليهم أتبعه أفعالهم الخبيثة بقوله:
{وتنحتون} أي: والحال أنكم تنحتون إظهاراً للقدرة {من الجبال} وقرأ {بيوتاً} ورش وأبو عمرو وحفص بضم الباء، والباقون بكسرها، وقرأ {فرهين} ابن عامر والكوفيون بألف بعد الفاء، أي: حاذقين، وقرأ الباقون بغير ألف، أي: بطرين لا لحاجتكم إلى شيء من ذلك.(1/2928)
{فاتقوا} أي: فتسبب عن ذلك. أني أقول لكم اتقوا {الله} الذي له جميع العظمة بأن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية باتباع أوامره واجتناب زواجره {وأطيعون} أي: في كل ما أمرتكم به عنه فإني لا آمركم إلا بما يصلحكم.
{ولا تطيعوا أمر المسرفين} أي: المجاوزين للحدود، وقال ابن عباس: المشركين، وقال مقاتل: هم التسعة الذين عقروا الناقة.
تنبيه: استعير الطاعة التي هي انقياد للآمر لامتثال الأمر، أو جعل الأمر مطاعاً على المجاز الحكمي والمراد الآمر، ومنه قولهم: لك على أمرة مطاعة وقوله تعالى: {وأطيعوا أمري} (طه: 90)
ثم وصف المسرفين بما بين سرفهم بقوله.
{الذين يفسدون في الأرض} بالمعاصي {ولا يصلحون} أي: ولا يطيعون الله في أمرهم به، فإن قيل: فما فائدة ولا يصلحون بعد قوله: يفسدون؟ أجيب: بأنّ في ذلك دلالة على خلوص فسادهم فليس فيه شيء من الصلاح كما يكون حال بعض المفسدين مخلوطاً ببعض الصلاح، ولما عجزوا عن الطعن في شيء مما دعاهم إليه عدلوا إلى التخييل على عقول الضعفاء بأن.
(7/56)
---
{قالوا إنما أنت من المسحرين} قال مجاهد وقتادة: من المسحورين المخدوعين، أي: ممن سحر مرة بعد مرة، أي: حتى غلب على عقله، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أي: من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب ولست بملك وعلى هذا يكون قولهم:
{ما أنت إلا بشر مثلنا} تأكيداً له، قيل المسحور: هو المخلوق بلغة بجيلة أي: فما وجه خصوصيتك عنا بالرسالة {فأت بآية} أي: علامة تدل على صدقك {إن كنت من الصادقين} أي: الراسخين في الصدق فقال لهم صالح: ما تريدون قالوا نريد ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة فتلد سقباً فأخذ صالح يتفكر فقال له جبريل صلّ ركعتين وسل ربك الناقة ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقباً مثلها في العظم، وعن أبي موسى رأيت مصدرها فإذا هو ستون ذراعاً فلما رآها.(1/2929)
{قال} لهم صالح {هذه ناقة} أخرجها ربي من الصخرة كما اقترحتم {لها شرب} أي: نصيب من الماء في يوم معلوم {ولكم شرب يوم} أي: نصيب من الماء في يوم {معلوم} لا زحام بينكم وبينها، وعن قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم ولا تشرب في يومهم ماء.
{ولا تمسوها بسوء} كضرب وعقر، ثم خوّفهم بما تسبب عن عصيانهم بقوله: {فيأخذكم} أي: يهلككم {عذاب يوم عظيم} بسبب ما حل فيه من العذاب فهو أبلغ من وصف العذاب بالعظيم، وأشار إلى سرعة عصيانهم بفاء التعقيب في قوله.
{فعقروها} أي: فقتلوها بضرب ساقها بالسيف وأسند العقر إلى كلهم لأنّ عاقرها إنما عقر برضاهم فكأنهم فعلوا ذلك {فأصبحوا} أي: فتسبب عن عقرهم لها أنهم أصبحوا حين رأوا مخايل العذاب {نادمين} على عقرها من حيث إنه يفضي إلى العقاب والهلاك لا من حيث إنه معصية الله ورسوله وليس على وجه التوبة، أو كان ذاك عند رؤية البأس فلم ينفعهم.
(7/57)
---
{فأخذهم العذاب} أي: العذاب الموعود على عقرها {إن في ذلك} أي: ما تقدم في هذه القصة من الغرائب {لآية} أي: دلالة عظيمة على صحة ما أمروا به عن الله {وما} أي: والحال أنه مع ذلك ما {كان أكثرهم مؤمنين} بل استمرّوا على ما هم عليه.
{وإنّ ربك} أي: المحسن إليك بأحسن الأخلاق {لهو العزيز} أي: فلا يخرج شيء عن قبضته وإرادته {الرحيم} أي: في كونه لم يهلك أحداً حتى يرسل إليهم رسولاً يبين لهم ما يرتضيه الله تعالى وما يسخطه.
ثم أتبع قصة صالح عليه السلام قصة لوط عليه السلام وهي القصة السادسة فقال:
(7/58)
---
أي: كتكذيب من تقدم كأنهم تواصوا به {قوم لوط المرسلين} لأنّ من كذب رسولاً كما مضى فقد كذب الكل ثم بين إسراعهم في الضلال بقوله تعالى:
(7/59)
---(1/2930)
{إذ} أي: حين {قال لهم أخوهم} أي: في البلد لا في الدين ولا في النسب لأنه ابن أخي إبراهيم عليهما السلام وهما من بلاد الشرق من أرض بابل، وكأنه عبر بالأخوة لاختياره لمجاورتهم ومناسبتهم بمصاهرتهم وإقامته بينهم في مدينتهم مدة مديدة وسنين عديدة وإتيانه بالأولاد من نساءهم مع موافقته لهم في أنه قروي ثم بينه بقوله تعالى: {لوط} بصيغة العرض كغيره ممن تقدم {ألا تتقون} الله فتجعلون بينكم وبين سخطه وقاية، ثم علل ذلك بقوله:
{إني لكم} أي: خاصة {رسول} فلا تسعني المخالفة {أمين} لا غش عندي ولا خيانة، ثم تسبب عن ذلك قوله:
{فاتقوا الله} أي: الملك العظيم فإنه قادر على ما يريد فلا تعصوه {وأطيعون} أي: لأنّ طاعتي سبب نجاتكم لأني لا آمركم إلا بما يرضيه ولا أنهاكم إلا عما يغضبه ثم نفى عن نفسه ما يتوهم كما تقدم لغيره بقوله:
{وما أسألكم عليه} أي: الدعاء إلى الله تعالى {من أجر} أي: فتتهموني بسببه {إن أجري إلى على رب العالمين} أي: المحسن إليّ بإيجادكم ثم بتربيتكم، ثم وبخهم ووعظهم بقوله:
{أتأتون الذكران} وقوله {من العالمين} يحتمل عوده إلى الآتي، أي: أنتم من جملة العالمين مخصوصون بهذه الصفة وهي إتيان الذكور ولم يفعل هذا الفعل غيركم من الناكحين من الخلق، ويحتمل عوده إلى المأتي: أي: أنتم اخترتم الذكران من العالمين كالإناث منهم وعلى هذا يحتمل أن يراد الذكران من الآدميين ومن غيرهم توغلاً في الشرّ وتجاهراً بالتهتك، قال البقاعي: وإن يراد الآدميون وجرى عليه البغوي وأكثر المفسرين أي: تريدون الذكران من أولاد آدم مع كثرة الإناث وغلبتهنّ.
(7/60)
---(1/2931)
{وتذرون} أي: تتركون لهذا الغرض {ما خلق لكم} أي: للنكاح {ربكم} أي: المحسن إليكم وقوله {من أزواجكم} يصلح أن يكون تبييناً أي: وهن الإناث وأن يكون للتبعيض ويكون المخلوق لذلك هو القبل، وكانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم، ثم كأنهم قالوا نحن لم نترك نساءنا أصلاً ورأساً وإن كانوا قد فهموا أنّ مراده تركهن حال الفعل في الذكور، فقال مضرباً عن مقالهم لما أرادوا به حيدة عن الحق وتمادياً في الفجور {بل أنتم قوم عادون} أي: متجاوزون عن حدّ الشهوة حيث زادوا على سائر الناس بل والحيوانات أي: مفرطون في المعاصي، وهذا من جملة ذلك، أو أحقاء بأن توصفوا بالعدوان بارتكابكم هذه الجريمة، ولما اتضح الحق عندهم وعرفوا أن لا وجه لهم في ذلك وانقطعت حجتهم.
{قالوا} مقسمين {لئن لم تنته} وسموه باسمه جفاء وغلظة بقولهم: {يا لوط} أي: عن مثل إنكارك هذا علينا {لتكونن من المخرجين} أي: ممن أخرجناه من بلدنا على وجه فظيع من تعنيف واحتباس أملاك كما هو حال الظلمة إذا أجلوا بعض من يغضبون عليه وكما كان يفعل بعض أهل مكة بمن يريد المهاجرة، وفي هذا إشارة إلى أنه غريب عندهم وأنّ عادتهم المستمّرة نفي من اعترض عليهم.
{قال} مجيباً لهم {إني} مؤكداً المضمون ما يأتي به {لعملكم من القالين} أي: المبغضين غاية البغض لا أقف عن الإنكار عليه بالإبعاد.
تنبيه: قوله من القالين: أبلغ من أن يقول إني لعملكم قالٍ كما تقول فلان من العلماء فيكون أبلغ من قولك فلان عالم لأنك تشهد له بكونه معدوداً في زمرتهم ومعروفة مساهمته لهم في العلم، والقلي: البغض الشديد كأنّ البغض يقلي الفؤاد والكبد والقالي المبغض كما قال القائل:
*ووالله ما فارقتكم قالياً لكم ** ولكن ما يقضى عليّ يكون*
ثم إنه عليه السلام دعا إلى الله تعالى بقوله:
(7/61)
---(1/2932)
{رب نجني وأهلي} وقوله: {مما يعملون} يحتمل أن يريد من عقوبة عملهم، قال الزمخشري: وهو الظاهر، ويحتمل أن يريد بالتنجية العصمة، ثم إنّ الله تعالى قبل دعاءه كما قال تعالى:
{فنجيناه وأهله} مما عذبناهم به بإخراجنا له من بلدهم حين استخفافهم له ولم نؤخره عنهم إلى حين خروجهم إلا لأجله، وأكد بقوله تعالى: {أجمعين} إشارة إلى أنه نجى أهل بيته ومن تبعه على دينه، ثم استثنى تعالى من أهل بيته قوله تعالى:
{إلا عجوزاً} وهي امرأته كائنة {في} حكم {الغابرين} أي: الماكثين الذين تلحقهم الغبرة بما يكون من الداهية فإننا لم ننجها لقضائنا بذلك في الأزل لكونها لم تتابعه في الدين ولم تخرج معه وكانت مائلة إلى القوم راضية بفعلهم، وقيل: أنها خرجت فأصابها حجر في الطريق فأهلكها.
فإن قيل: كان أهله مؤمنين ولولا ذلك لما طلب لهم النجاة فكيف استثنيت الكافرة منهم؟ أجيب: بأنّ الاستثناء إنما وقع من أهل بيته كما مرّت الإشارة إليه وفي هذا الاسم لها معهم مشركة بحق الزواج وإن لم تشاركهم في الإيمان، فإن قيل: في الغابرين صفة لها كأنه قيل إلا عجوزاً في الغابرين غابرة ولم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم؟ أجيب: بأنّ معناه إلا عجوزاً مقدّراً غبورها، أو في حكمهم كما مرت الإشارة إليه.
{ثم دمرنا} أي: أهلكنا {الآخرين} أي: المؤخرين عن اتباع لوط وفي التعبير بلفظ الآخرين إشارة إلى تأخرهم من كل وجه، ثم لما كان المراد بقوله تعالى: دمرنا حكمنا بتدميرهم عطف عليه قوله:
(7/62)
---(1/2933)
{وأمطرنا عليهم مطراً} قال وهب بن منبه: الكبريت والنار، وقال قتادة: أمطر الله تعالى على شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكتهم {فساء مطر المنذرين} اللام فيه للجنس حتى يصح وقوع المضاف إلى المنذرين فاعل ساء وذلك لأنّ فاعل فعل الذمّ أو المدح يجب أن يكون معرفاً بلام الجنس، أو مضافاً إلى المعرف بلام الجنس ليحصل الإبهام المقصود ثم التفصيل ولا يأتي ذلك في لام العهد، والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم.
{إن في ذلك} أي: إنجاء لوط ومن معه وإهلاك هؤلاء الكفار الفجار {لآية} أي: دلالة عظيمة على ما يصدق الرسل في جميع ترغيبهم وترهيبهم، ولما كان من أتى بعد هذه الأمم كقريش ومن بعدهم قد علموا أخبارهم وضموا إلى تلك الأخبار نظر الديار والتوسم في الآثار، قال تعجباً من حالهم في ضلالهم {وما} أي: والحال أنه ما {كان أكثرهم مؤمنين} بما وقع لهؤلاء.
{وإن ربك} وحده {لهو العزيز} أي: في بطشه لأعدائه {الرحيم} في لطفه بأوليائه.
ثم أتبع قصة لوط عليه السلام بقصة شعيب عليه السلام وهي القصة السابعة قال تعالى:
{كذب أصحاب الأيكة} أي: الغيضة ذات الأرض الجيدة التي تبتلع الماء فتنبت الشجر الكثير الملتف {المرسلين} لتكذيبهم شعيباً عليه السلام فيما أتى به من المعجزة المساوية في خرق العادة وعجز المتحدين بها عن مقاومتها لبقية المعجزات الآتي بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر لَيكة بلام مفتوحة من غير ألف وصل وياء ساكنة ولا همزة قبلها وفتح تاء التأنيث، والباقون بإسكان اللام وقبلها وصل وبعد اللام همزة مفتوحة بعدها ياء ساكنة وخفض تاء التأنيث، قال أبو عبيدة: وجدنا في بعض التفاسير الفرق بين ليكة والأيكة فقيل: ليكة هو اسم للقرية التي كانوا فيها، والأيكة: البلاد كلها فصار الفرق بينهما شبيهاً لما بين مكة وبكة، ثم بين تعالى وقت تكذيبهم بقوله تعالى:
(7/63)
---(1/2934)
{إذ} أي: حين {قال لهم شعيب} برفق ولطف {ألا تتقون} الله الذي تفضل عليكم بنعمه ولم يقل أخوهم شعيب لأنه لم يكن من أهل الأيكة في النسب لأنهم كانوا أهل بدو وكان عليه السلام قروياً، لأنّ الله تعالى لم يرسل نبياً إلا من أهل القرى تشريفاً لهم، لأنّ البركة والحكمة في الاجتماع، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التعرب بعد الهجرة وقال: «من يرد الله به خيراً ينقله من البادية إلى الحاضرة ولما ذكر مدين قال أخاهم شعيباً لأنه كان منهم وكان الله تعالى بعثه إلى قومه أهل مدين وأصحاب الأيكة، ثم أكد ما قاله بقوله:
{إني} وأشار إلى تبشيرهم إن أطاعوه بقوله {لكم رسول} أي: من عند الله فهو أمرني أن أقول لكم ذلك {أمين} أي: لا خيانة عندي ولا غش فلذلك أبلغ جميع ما أرسلت به ولذلك تسبب عنه قوله:
{فاتقوا الله} أي: المحسن إليكم بهذه الغيضة وغيرها {وأطيعون} لما ثبت من نصحي لكم، ثم ذكر ما ذكر من تقدّمه من الأنبياء من نفي ما يتوهم أنّ لهم رغبة في أجرة على دعائهم فقال:
{وما أسألكم عليه} أي: دعائي لكم إلى الإيمان بالله تعالى {من أجر} ثم زاد في البراءة من الطمع في أحد من الخلق بقوله {إن} أي: ما {أجري إلا على رب العالمين} أي: المحسن إلى الخلائق كلهم فأنا لا أرجو أحداً سواه، ثم نصحهم بقوله:
{أوفوا الكيل} أي: أتموه إتماماً لا شبهة فيه إذا كلتم كما توفونه إذا اكتلتم {ولا تكونوا من المخسرين} أي: الناقصين لحقوق الناس في الكيل والوزن كما قال تعالى: {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون} (المطففين: 1، 2) أي: الكيل {وإذا كالوهم} (المطففين: 2)
أي: كالوا لهم {أو وزنوهم} أي: وزنوا لهم {يخسرون} (المطففين: 3)
ينقصون الكيل أو الوزن.
{وزنوا} أي: لأنفسكم ولغيركم {بالقسطاس} أي: الميزان الأقوم وأكد معناه بقوله {المستقيم} وقيل: هو بالرومية العدل، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بكسر القاف، والباقون بالضمّ.
(7/64)
---(1/2935)
تنبيه: الكيل على ثلاثة أضرب: واف، وطفيف، وزائد، فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء بقوله تعالى: {أوفوا الكيل} ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف بقوله تعالى: {ولا تكونوا من المخسرين}
ولم يذكر الزائد لأنه إن فعله فقد أحسن وإن لم يفعله فلا إثم عليه، والوزن في ذلك كالكيل، ولهذا عمم في النهي عن النقص بقوله:
{ولا تبخسوا} أي: تنقصوا {الناس أشياءهم} أي: في كيل أو وزن أو غير ذلك، ثم أتبع ذلك بما هو أعم بقوله {ولا تعثوا} أي: لا تنصرفوا {في الأرض} من غير تأمل حال كونكم {مفسدين} أي: في المال أو غير ذلك كقطع الطريق والقتل، ثم خوفهم بعد أن وعظهم ونهاهم عن الفساد من سطوة الجبار ما حل بمن هو أعظم منهم بقوله:
(7/65)
---
{واتقوا الذي خلقكم} أي: من نطفة فإعدامكم أهون شيء عليه وأشار إلى ضعفهم وقوة من كان قبلهم بقوله {والجبلة} أي: الجماعة والأمم {الأولين} الذين كانوا على خلقة وطبيعة عظيمة كأنها الجبال قوة وصلابة لا سيما قوم هود الذين بلغت بهم الشدة حتى قالوا من أشدّ منا قوّة، وقد أخذهم الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، ثم إنهم أجابوه بالقدح في الرسالة أولاً: باستصغار الوعيد ثانياً: بأن.
(7/66)
---
{قالوا إنما أنت من المسحرين} أي: الذين كرّر سحرهم مرّة بعد أخرى حتى اختلفوا فصار كلامهم على غير نظام، أو من المعللين بالطعام والشراب كما مضى في صالح عليه السلام أي: فأنت بعيد عن الصلاحية للرسالة، ثم أشاروا إلى عدم صلاحية البشر لها مطلقاً ولو كان أعقل الناس بقولهم:
{وما أنت إلا بشر مثلنا} أي: فلا وجه لتخصيصك عنا بذلك وأتوا بالواو للدلالة على أنه جامع بين وصفين مناقضين منافيين للرسالة مبالغة في تكذيبه، ولهذا قالوا {وإن نظنك لمن الكاذبين} أي: في دعواك.(1/2936)
تنبيه: مذهب البصريين أنّ {إن} هذه هي المخففة من الثقيلة، أي: وإنا نظنك، والذي يقتضيه السياق ترجيح مذهب الكوفيين هنا في أنّ {إن} نافية، فإنهم أرادوا بإثبات الواو في وما أنت المبالغة في نفي إرساله بتعداد ما ينافيه، فيكون مرادهم أنه ليس لنا ظنّ يتوجه إلى غير الكذب، وهو أبلغ من إثبات الظنّ به، ثم إنّ شعيباً عليه السلام كان توعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا فقالوا.
{فأسقط علينا كسفا} أي: قطعاً {من السماء} أي: السحاب أو الحقيقة {إن كنت من الصادقين} أي: العريقين في الصدق المشهورين فيما بين أهله لنصدّقك فيما لزم من أمرك لنا باتخاذ الوقاية من العذاب.
تنبيه: انظر إلى حسن نظر شعيب عليه السلام كيف هدّدهم بما لله عليهم من القدرة في خلقهم وخلق من كانوا أشدّ منهم قوة وإهلاكهم بأنواع العذاب لما عصوه بتكذيب رسلهم، وقرأ حفص بفتح السين، والباقون بالسكون وهنا همزتان مكسور، فقالون والبزي يسهل الهمزة الأولى من المدّ والقصر، وأسقطها أبو عمرو مع المدّ، والباقون بتحقيق الأولى.
{قال} لهم شعيب في جوابهم {ربي أعلم بما تعلمون} فيجازيكم به فإن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره إلى أجل معلوم، وأمّا أنا فليس عليّ إلا البلاغ، وأنا مأمور به فلم أخوّفكم من نفسي ولا ادعيت قدرة على عذابكم فطلبكم ذلك مني مضموم إلى ظلمكم بالتكذيب.
(7/67)
---(1/2937)
{فكذبوه} أي: استمرّوا على تكذيبه {فأخذهم} أي: فتسبب عن تكذيبهم أن أخذهم {عذاب يوم الظلة} وهي سحابة على نحو ما طلبوا من قطع السماء، روي أنّ الله تعالى حبس عنهم الريح سبعاً وتسلط عليهم الرمض: وهو شدّة الحرّ مع سكون الريح فأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظل ولا ماء ولا شراب، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها برداً ونسيماً فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا، وروي أن شعيباً بعث إلى أمّتين أصحاب مدين وأصحاب الأيكة، فأهلكت مدين بصيحة جبريل، وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة {إنه كان عذاب يوم عظيم} وقدمنا أن تعظيم اليوم أبلغ من تعظيم العذاب.
{إن في ذلك} أي: الأمر العظيم من الإنجاء المطرد لكلّ رسول ومن أطاعه والأخذ المطرد لمن عصاه في كل عصر بكل قطر بحيث لا يشذ من الفريقين إنسان قاصٍ ولا دان {لآية} أي: دلالة واضحة عظيمة على صدق الرسل وأن يكونوا جديرين بتصديق العباد لهم في جميع ما قالوه من البشائر والنذائر، بأن الله تعالى يهلك من عصاه وينجي من والاه لأنه الفاعل المختار لما يريد {وما كان أكثرهم} أي: أكثر قومك كما كان من قبلهم {مؤمنين} مع أنك قد أتيت قومك بما لا يكون معه شك لو لم يكن لهم بك معرفة قبل ذلك، فكيف وهم عارفون بأنك كنت قبل الرسالة أصدقهم لهجة وأعظمهم أمانة وأغزرهم عقلاً وأعلاهم همة وأبعدهم عن كل ذي دنس.
{وإنّ ربك} أي: المحسن إليك بكل ما يعلي شأنك ويوضح برهانك {لهو العزيز} فلا يعجزه أحد {الرحيم} بالإمهال لكي يؤمنوا أو أحد من ذرّيتهم: وهذا آخر القصص السبع المذكورة على سبيل الاختصار تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تهديداً للمكذبين له.
فإن قيل: كيف كرّر في هذا السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرّر؟.
(7/68)
---(1/2938)
أجيب: بأنّ كل قصة منها كتنزيل برأسه وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها، فكانت كل واحدة منها تدلي بحق على أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها وأن تختم بما ختمت به، ولأنّ في التكرير تقريراً للمعاني في الأنفس وتثبيتاً لها في الصدور، ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفظ العلوم إلا بترديد ما يراد حفظه منها، وكلما زاد ترديده كان أمكن في القلب وأرسخ في الفهم وأثبت للذكر وأبعد من النسيان، ولأنّ هذه القصص طرقت بها آذان وقرعن الإنصات للحق وقلوب غلف عن تدبره فكوثرت بالوعظ والتذكير وروجعت بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح أذناً أو يشق ذهناً أو يصقل عقلاً طال عهده بالصقل، أو يجلو فهماً قد غطى عليه تراكم الصدا وفي ذلك دلالة على أنّ البعثة مقصورة على الدعاء إلى معرفة الحق والطاعة فيما يقرّب المدعو إلى ثوابه ويبعده عن عقابه، وأنّ الأنبياء متفقون على ذلك وإن اختلفوا في بعض التفاريع، مبرؤون عن المطامع الدينية والأغراض الدنيوية، ولما ذكر الله تعالى قصص الأنبياء عليهم السلام أتبعه بما يدلّ على نبوّته صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى.
{وإنه} أي: الذكر الذي أتاهم بهذه الأخبار وهم عنه معرضون وله تاركون {لتنزيل رب العالمين} أي: الذي ربّاهم بشمول علمه وعظيم قدرته بما يعجز عن أقل شيء منه غيره.
{نزل به} أي: نجوماً على سبيل التدريج من الأفق الأعلى الذي هو محل البركات، وعبر عن جبريل عليه السلام بقوله {الروح} دلالة على أنه مادّة خير، وأنّ الأرواح تحيا بما ينزله من الهدى وقال تعالى {الأمين} إشارة إلى كونه عليه السلام معصوماً من كل دنس فلا يمكن منه خيانة.
{على قلبك} يا أشرف الرسل ففي هذا تقرير لحقية تلك القصص.
(7/69)
---(1/2939)
وتنبيه: على إعجاز القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنّ الإخبار عنها ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحياً من الله تعالى، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص بتخفيف الزاي، والروح الأمين برفعهما والباقون بتشديد الزاي والروح الأمين بنصبهما.
فإن قيل: قال على قلبك وهو إنما نزل عليه؟ أجيب: بأنه ذكر ليؤكد أن ذلك المنزل محفوظ والمرسول متمكن من قلبه لا يجوز عليه التغير ولأنّ القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز والاختيار، وأمّا سائر الأعضاء فمسخرة له، ويدلّ على ذلك الكتاب والسنة والمعقول فمن الكتاب قوله تعالى: {نزل به الروح الأمين على قلبك} واستحقاق الجزاء ليس إلا على ما في القلب قال الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} (البقرة: 225)
ومن السنة قوله: صلى الله عليه وسلم «ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» ومن المعقول أنّ القلب إذا غشي عليه وقطع سائر الأعضاء لم يحصل به الشعور وإذا أفاق القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات وإذا فرح القلب أو حزن تغير حال الأعضاء عند ذلك، ولأنّ المعاني الروحانية إنما تنزل أوّلاً على الروح ثم تنتقل منه إلى القلب لما بينهما من التعلق، ثم تتصعد منه إلى الدماغ فينتقش منه لوح المخيلة.
ولما كان السياق في هذه السورة للتحذير قال تعالى معللاً للجملة التي قبله {لتكون من المنذرين} أي: المخوفين المحذرين لمن أعرض عن الإيمان وفعل ما نهى عنه من المعاصي وقوله تعالى:
(7/70)
---(1/2940)
{بلسان عربي} يجوز أن يتعلق بالمنذرين فيكون المعنى لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم خمسة: هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يتعلق بنزل فيكون المعنى نزله باللسان العربي لينذر به لأنه لو نزله باللسان الأعجميّ لتجافوا عنه أصلاً ولقالوا ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به، قال ابن عباس: بلسان قرشيّ ليفهموا ما فيه، ولما كان في العربيّ ما قد يشكل على بعض العرب قال تعالى: {مبين} أي: بين في نفسه كاشف لما يراد منه غير تارك لبساً عند من تدبره على ما يتعارفه العرب في مخاطباتها من سائر لغاتها بحقائقها ومجازاتها على اتساع إرادتها وتباعد مراميها في محاوراتها وحسن مقاصدها في كناياتها واستعاراتها ومن يحيط بذلك حق الإحاطة غير العليم الحكيم الخبير البصير، ولما كان الاستكثار من الأدلة مما يسكن النفوس وتطمئن به القلوب قال تعالى.
{وإنه} أي: هذا القرآن أصوله وكثيراً من قصصه وأمّهات فروعه {لفي زبر} أي: كتب {الأولين} كالتوراة والإنجيل وقيل: وإنه أي: محمداً ونعته لفي كتب الأوّلين.
(7/71)
---(1/2941)
{أو لم يكن لهم} أي: لكفار مكة ذلك {آية} أي: على صحة القرآن أو نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن عامر بالتاء الفوقية ورفع آية على أنها الاسم والخبر لهم، والباقون بالياء التحتية ونصب آية على أنها الاسم والخبر لهم، والباقون بالياء التحتية ونصب آية على أنها خبر وقوله تعالى {أن يعلمه} أي: هذا الذي يأتي به نبينا من عندنا هو اسمها {علماء بني إسرائيل} أي: يعرفوه بنعته المذكور في كتبهم، والمعنى أو لم يكن لهؤلاء المنكرين، علم بني إسرائيل علامة ودلالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لأنّ العلماء الذين كانوا من بني إسرائيل كانوا يخبرون بوجود ذكره في كتبهم كعبد الله بن سلام وابن يامين وثعلبة وأسد وأسيد، قال الله تعالى: {وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين} (القصص: 53)
قال ابن عباس: بعث أهل مكة إلى اليهود بالمدينة فسألوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنّ هذا لزمانه وإنا لنجد في التوراة نعته وصفته فكان ذلك آية على صدقه.
فائدة: خط في المصحف علماء بواو قبل الألف على لغة من يميل الألف إلى الواو، وعلى هذه اللغة كتبت الصلاة والزكاة والربا، قال الله تعالى:
{ولو نزلناه} أي: القرآن على ما هو عليه من الحكمة والإعجاز {على بعض الأعجمين} أي: على رجل ليس بعربيّ اللسان أو بلغة العجم.
{فقرأه عليهم} أي: كفار مكة {ما كانوا به مؤمنين} لفرط عنادهم واستكبارهم أو لعدم فهمهم واستنكافهم من اتباع العجم، وقالوا ما نفقه قولك وجعلوه عذراً بجحودهم، ونظيره {ولو جعلنا قرآنا أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته} (فصلت، 44) .
تنبيه: الأعجمين جمع أعجميّ بياء النسب على التخفيف بحذفها من الجمع ولكونه جمع أعجميّ جمع جمع سلامة لأنه حينئذ ليس من باب أفعل فعلاء بخلاف ما لو كان جمع أعجم فإنّ مؤنثه عجماء بوزن أفعل فعلاء وهو عند البصريين لا يجمع هذا الجمع إلا لضرورة كقوله:
(7/72)
---(1/2942)
*حلائل أسودين وأحمرين*
وقال ابن عطية: جمع أعجم، يقال الأعجمون جمع أعجم وهو الذي لا يفصح وإن كان غربيّ النسب يقال له أعجم وذلك يقال للحيوانات، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «جرح العجماء جبار» وأسند الطبريّ عن عبد الله بن مطيع أنه كان واقفاً بعرفة وتحته جمل فقال جملي هذا أعجم ولو أنه أنزل عليهم ما كانوا يؤمنون، ولما كان ذلك محل تعجب وكأنه ربما ظنّ له أنّ الأمر على خلاف حقيقته قرّر مضمونه وحققه بقوله تعالى:
{كذلك} أي: مثل إدخالنا التكذيب به بقراءة الأعجم {سلكناه} قال ابن عباس والحسن ومجاهد: أدخلنا الشرك والتكذيب {في قلوب المجرمين} أي: كفار مكة بقراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أنّ الكل بقضاء الله تعالى وقدره، وقيل: الضمير في سلكناه عائد إلى القرآن، قال ابن عادل: وهو الظاهر أي: سلكناه في قلوب المجرمين كما سلكناه في قلوب المؤمنين ومع ذلك لم ينجع فيهم، وفي جملة.
{لا يؤمنون به} وجهان: أحدهما: الاستئناف على جهة البيان والإيضاح لما قبله، والثاني: أنها حال من الضمير في سلكناه أي: سلكناه غير مؤمن به أي: من أجل ما جبلوا عليه من الإجرام وجعل على قلوبهم من الطبع والختام {حتى يروا العذاب الأليم} أي: الملجئ للإيمان فحينئذ يؤمنون حيث لا ينفعهم الإيمان ويطلبون الأمان حيث لا أمان، ولما كان إتيان الشرّ فجأة أشدّ، قال تعالى:
{فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون} بإتيانه.
{فيقولوا} أي: تأسفاً واستسلاماً وتلهفاً في تلك الحالة لعلمهم بأنه لا طاقة به بوجه {هل نحن منظرون} أي: مفسوح لنا في آجالنا فنسمع ونطيع.
(7/73)
---(1/2943)
فإن قيل: ما معنى التعقيب في فيأتيهم بغتة فيقولوا؟ أجيب: بأنه ليس المعنى ترادف رؤية العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة في الوجود، وإنما المعنى ترتبها في الشدّة، كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآن حتى يكون رؤيتهم للعذاب عما هو أشدّ منها وهو لحوقه بهم مفاجأة عما هو أشدّ منه وهو سؤالهم النظرة، مثال ذلك: أن تقول لمن تعظه: إن أسأت مقتك الصالحون فمقتك الله، فإنه لا يقصد بهذا الترتيب أن مقت الله يوجد عقب مقت الصالحين وإنما قصدك إلى ترتيب شدّة الأمر على المسيء، فإنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين عما هو أشدّ من مقتهم وهو مقت الله، ونرى ثم تقع في هذا الأسلوب فيجمل موقعها، ولما أوعدهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالعذاب قالوا إلى متى توعدنا بالعذاب ومتى هذا العذاب قال الله تعالى:
{أفبعذابنا} أي: وقد تبين لهم كيف أخذه للأمم الماضية والقرون الخالية والأقوام العاتية {يستعجلون} أي: بقولهم: أمطر علينا حجارة أسقط علينا كسفاً من السماء ونحو ذلك.
{أفرأيت} أي: هب أنّ الأمر كما يعتقدون من طول عيشهم في النعيم فأخبرني {إن متعناهم} أي: في الدنيا برغد العيش وصافي الحياة {سنين}.
{ثم جاءهم} أي بعد تلك السنين المتطاولة والدهور المتواصلة {ما كانوا يودعون}من العذاب.
(7/74)
---
{ما} أي: أيّ شيء {أغنى عنهم} أي: فيما أخذهم من العذاب {ما كانوا يمتعون} برفع العذاب أو تخفيفه، أي: لم يغن عنهم طول التمتع شيئاً ويكون كأنهم لم يكونوا في نعيم قط، وعن ميمون بن مهران: أنه لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له عظني فلم يزد على تلاوة هذه الآية، فقال له ميمون لقد وعظت فأبلغت.
(7/75)
---
{وما أهلكنا من قرية} أي: من القرى السالفة بعذاب الاستئصال {إلا لها منذرون} أي: رسولهم ومن تبعه من أمّته ومن سمعوا من الرسل بأخبارهم مع أممهم من قبلهم، ثم علل الإنذار بقوله تعالى:(1/2944)
{ذكرى} أي: تنبيهاً عظيماً على ما فيه النجاة، أو جعل المنذرين نفس الذكرى، كما قال تعالى {قد أنزلنا إليكم ذكراً رسولاً} (الطلاق: 10 ـ 11)
وذلك إشارة إلى إمعانهم في التذكير حتى صاروا إياه {وما كنا ظالمين} أي: في إهلاك شيء منها لأنهم كفروا نعمتنا وعبدوا غيرنا بعد الإعذار إليهم ومتابعة الحجج ومواصلة الوعيد.
تنبيه: الواو في قوله: {وما كنا} واو الحال من نون أهلكنا فإن قيل: كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا ولم تعزل عنها في قوله تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم}؟ (الحجر: 4)
أجيب: بأنّ الأصل عزل الواو لأنّ الجملة صفة لقرية وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف كما في قوله تعالى: {سبعة وثامنهم كلبهم} (الكهف: 22)
ولما كان الكفرة يقولون إنّ محمداً كاهن وما يتنزل عليه من جنس ما تتنزل به الشياطين، أكذبهم الله سبحانه وتعالى بقوله.
{وما تنزلت به الشياطين} أي: ليكون سحراً أو كهانةً أو شعراً أو أضغاث أحلام كما يقولون.
{وما ينبغي} أي: وما يصح {لهم} أن يتنزلوا به {وما يستطيعون} أي: التنزل به وإن اشتدّت معاجلتهم على تقدير: أن يكون لهم قابلية لذلك، ثم علل هذا بقوله تعالى:
{إنهم عن السمع} أي: لكلام الملائكة {لمعزولون} أي: محجوبون بالشهب، ولما كان القرآن داعياً إلى الله تعالى ناهياً عن عبادة غيره تسبب عن ذلك قوله تعالى:
(7/76)
---
{فلا تدع مع الله} أي: الحائز لكمال الصفات {إلهاً آخر فتكون} أي: فيتسبب عن ذلك أن تكون {من المعذبين} من القادر على ما يريد بأيسر أمر وأسهله، وهذا خطاب لنبيه صلى الله عليه وسلم والمراد غيره لأنه معصوم من ذلك، قال ابن عباس: يحذر به غيره يقول أنت أكرم الخلق لديّ وأعزهم عليّ ولئن اتخذت إلهاً غيري لعذبتك فيكون الوعيد أزجر له ويكون هو أقبل، روى محمد بن إسحاق بسنده عن عليّ رضى الله عنه أنه قال لما نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم
(7/77)
---(1/2945)
{وأنذر عشيرتك الأقربين} دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عليّ إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أني متى أناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت عليها حتى جاءني جبريل فقال يا محمد إلا تفعل ما تؤمر يعذبك ربك فاصنع لي صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عساً من لبن، ثم اجمع بني عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم إليه وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعته فجئت به فلما وضعته تناول صلى الله عليه وسلم جذبة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصفحة، ثم قال كلوا بسم الله فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدّمت لجميعهم، ثم قدّمت لجميعهم ثم قال اسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعاً وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بادره أبو لهب فقال سحركم محمد صاحبكم فتفرّق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عليّ إنّ هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول فتفرّق القوم قبل أن أكملهم فأعد لنا الطعام مثل ما صنعت ثم اجمعهم، ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقدمته ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا وشربوا ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على أمري ويكون أخي ووصي وخليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعاً، فقلت وأنا أحدثهم سناً: أنا يا رسول الله أكون وزيرك عليه قال فأخذ برقبتي ثم قال: إنّ هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا وأطيعوا فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لعليّ وتطيع.
(7/78)
---(1/2946)
وعن ابن عباس: لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عديّ لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقي قالوا: نعم ما جرّبنا عليك إلا الصدق قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قال أبو لهب تباً لك ما جمعتنا إلا لهذا، ثم قام فنزلت {تبت} أي: خسرت {يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب} (المسد: 1 ـ 2)
وفي رواية فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه فقالوا من هذا؟ فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدّقي» إلى آخر ما مرّ.
وعن أبي هريرة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله هذه الآية فقال يا معشر قريش أو كلمة نحوها، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً ويا فاطمة بنت محمد سلي ما شئت من مال لا أغني عنك من الله شيئاً».
وروى أبو يعلى عن الزبير بن العوام: «أنّ قريشاً جاءته فحذرهم وأنذرهم فسألوه آيات سليمان في الريح وداود في الجبال وعيسى في إحياء الموتى ونحو ذلك وأن يسير الجبال ويفجر الأنهار ويجعل الصخرة ذهباً فأوحى الله تعالى إليه وهم عنده فلما سري عنه أخبرهم أن أعطي ما سألوه ولكنه إن أراهم فكفروا عوجلوا، فاختار صلى الله عليه وسلم الصبر عليهم ليدخلهم الله باب الرحمة فلما كانت النذارة إنما هي للمشركين، أمر بضدّها لأضدادهم» بقوله تعالى:
(7/79)
---(1/2947)
{واخفض جناحك} أي: لمن غاية اللين وذلك لأنّ الطائر إذا أراد أن يرتفع رفع جناحيه، وإذا أراد أن ينحط كسرهما وخفضهما فجعل ذلك مثلاً في التواضع، ومنه قول بعضهم:
*وأنت الشهير بخفض الجناح ** فلأنك في رفعه أجدلا*
ينهاه عن التكبر بعد التواضع {لمن اتبعك من المؤمنين} أي: سواء كانوا من الأقربين أم من الأبعدين، فإن قيل: المتبعون للرسول هم المؤمنون؟.
أجيب: بوجهين: أحدهما: أن تسميتهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين لمشارفتهم ذلك، الثاني: أن يريد بالمؤمنين المصدّقين بألسنتهم وهم صنفان صنف: صدّق واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، وصنف: ما وجد منه إلا التصديق فقط، أما أن يكونوا منافقين أو فاسقين والفاسق والمنافق لا يخفض لهما الجناح فمن على هذا للتبعيض، وإن أريد عموم الإتباع فهي للتبيين واختلف في الواو في قوله تعالى:
{فإن عصوك} على أوجه: أحدها: أنها ضمير الكفار، أي: فإن عصاك الكفار في أمرك لهم بالتوحيد، الثاني: أنها ضمير العشيرة، وهذا أقرب كما جرى عليه السلف والجلال المحلي، الثالث: أنها ضمير المؤمنين أي: فإن عصاك المؤمنون في فروع الإسلام وبعض الأحكام بعد تصديقك والإيمان برسالتك، وهذا كما قال ابن عادل: في غاية البعد {فقل} أي: تاركاً لما كنت تعاملهم من اللين {إني بريء} أي: منفصل غاية الانفصال {مما تعملون} أي: من العصيان الذي أنذر منه القرآن.
{وتوكل} أي: فوّض في عصمتك ونجاتك وجميع أمورك {على العزيز} أي: القادر على الدفع عنك والانتقام منهم {الرحيم} أي: الذي نصرك عليهم برحمته، وقرأ نافع وابن عامر فتوكل بالفاء على الإبدال من جواب الشرط، والباقون بالواو، ثم أتبع الأمر بالتوكل الوصف المقتضى لجميع أوصاف الكمال بقوله تعالى:
{الذي يراك} أي: بصراً وعلماً {حين تقوم} من نومك إلى التهجد، وقال مجاهد: أي: يراك أينما كنت، وقال أكثر المفسرين كما قال البغويّ حين تقوم إلى الصلاة أي: من نوم أو غيره.(1/2948)
(7/80)
---
{و} يرى {تقلبك} في الصلاة قائماً وراكعاً وساجداً {في الساجدين} قال عكرمة عن ابن عباس أي: في المصلين، وقال مقاتل: مع المصلين في الجماعة يقول يراك حين تقوم وحدك للصلاة ويراك إذا صليت مع المصلين جماعة، وقال مجاهد: يرى تقلب بصرك في المصلين فإنه كان يبصر من خلفه كما يبصر أمامه.
وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هل تدرون قبلتي ههنا فو الله ما يخفى عليّ خشوعكم ولا ركوعكم إني لأراكم من وراء ظهري»، وقال عطاء عن ابن عباس: أراد وتقلبك في أصلاب الأنبياء من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجك في هذه الأمة، وقيل: تردّدك في تصفح الأحوال المتهجدين من أصحابك لتطلع عليهم من حيث لا يشعرون، وتستبطن سرائرهم وكيف يعبدون الله وكيف يعملون لآخرتهم، كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون لحرصه عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات وتكثير الحسنات فوجدها كبيوت الزنابير.
{إنه هو} أي: وحده {السميع} أي: لجميع أقوالكم {العليم} أي: بجميع ما تسرونه وتعلنونه من أعمالكم وشمول العلم يستلزم تمام القدرة فصار كأنه قال: إنه السميع البصير العليم القدير تثبيتاً للتوكل عليه، ولما بين سبحانه وتعالى أنّ القرأن لا يصح أن يكون مما تنزلت به الشياطين، أكد ذلك بأن بين أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم لا يصح أن ينزلوا عليه من وجهين ذكرهما بقوله تعالى:
{هل أنبئكم} أي: أخبركم خبراً جلياً نافعاً في الدين عظيم الجدوى في الفرقان بين أولياء الرحمن وإخوان الشيطان {على من تنزل} وتتردّد {الشياطين} حين تسترق السمع ولما كان كأنه قيل: نعم أشار إلى أحد الوجهين بقوله تعالى:
{تنزل} على سبيل التدريج والتردّد {على كل أفاك} أي: كذاب {أثيم} أي: فاجر مثل مسيلمة الكذاب وغيره من الكهنة أشار إلى ثاني الوجهين بقوله تعالى:
(7/81)
---(1/2949)
{يلقون السمع} أي: الآفكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون وحيهم إليهم أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس فيضمون إليها على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها، كما جاء في الحديث الكلمة يخطفها الجنيّ فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة، ولا كذلك محمد صلى الله عليه وسلم فإنه أخبر عن مغيبات كثيرة لا تحصى وقد طابق كلها، ويجوز أن يعود الضمير على الشياطين، ومعنى إلقائهم السمع إنصاتهم إلى الملأ الأعلى قبل أن يرجموا فيخطفون منهم بعض المغيبات ويوحونه إلى أوليائهم أو يلقون الشيء المسموع إلى الكهنة {وأكثرهم} أي: الفريقين {كاذبون} أما الشياطين فإنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا، وأمّا الآفكون: فإنهم يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم.
فإن قيل: كيف قال وأكثرهم كاذبون بعدما حكم عليهم أنّ كل واحد منهم أفاك؟ أجيب: بأنّ الأفاكين هم الذين يكثرون الكذب لأنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب فأراد أنّ هؤلاء الأفاكين قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الجنيّ وأكثرهم مفتر عليه، ولما قال الكفار لم لا يجوز أن يقال الشياطين تنزل بالقرآن على محمد كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة وبالشعر على الشعراء، ثم إنه تعالى فرق بين محمد عليه الصلاة والسلام وبين الكهنة، وذكر ما يدلّ على الفرق بينه وبين الشعراء بقوله تعالى:
{والشعراء يتبعهم الغاوون} أي: الضالون المائلون عن سنن الأقوم إلى كل فساد يجرّ إلى الهلاك وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا كذلك بل هم الساجدون الباكون الزاهدون رضي الله تعالى عنهم، وقرأ نافع بسكون التاء الفوقية وفتح الباء الموحدة، والباقون بتشديد الفوقية وكسر الموحدة، ولما قرّر حال أتباعهم، علم منه أنهم هم أغوى منهم لتهّتكهم في شهوة اللقلقة باللسان حتى حسن لهم الزور والبهتان، دلّ على ذلك بقوله تعالى:
(7/82)
---(1/2950)
{ألم تر} أي: تعلم {أنهم} أي: الشعراء ومثل حالهم بقوله تعالى: {في كل واد} من أودية القول من المدح والهجو والتشبب والرثاء والمجون وغير ذلك {يهيمون} أي: يسيرون سير البهائم حائرين وعن طريق الحق حائدين كيفما جرّهم القول أنجرّوا من القدح في الأنساب والتشبب بالحرم والهجو ومدح من لا يستحق المدح ونحو ذلك، ولذلك قال تعالى:
{وأنهم يقولون ما لا يفعلون} أي: لأنهم لا يقصدونه وإنما ألجأهم إليه الفنّ الذي سلكوه فأكثر أقوالهم لا حقائق لها، وقيل: إنهم يمدحون الجود والكرم ويحثون عليه ولا يفعلونه ويذمّون البخل ويصرّون عليه ويهجون الناس بأدنى شيء صدر منهم.
تنبيه: قال المفسرون: أراد شعراء الكفار كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر مقاتل أسماءهم فقال: منهم عبد الله بن الزبعري السهميّ وهبيرة بن أبي وهب المخزوميّ وشافع بن عبد مناف وأبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحيّ وأمية بن أبي الصلت الثقفي تكلموا بالكذب والباطل وقالوا: نحن نقول كما قال محمد وقالوا الشعر واجتمع إليهم غواة قومهم يسمعون أشعارهم حين هجوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويروون عنهم قولهم: فذلك قوله تعالى: {يتبعهم الغاوون} وهم الرواة الذين يروون هجاء المسلمين، وقال قتادة: هم الشياطين، ثم.
إنه تعالى لما وصف شعراء الكفار بهذه الأوصاف، استثنى شعراء المسلمين الذين كانوا يجتنبون شعر الجاهلية ويهجون الكفار وينافحون عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، منهم: حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك، فقال تعالى:
(7/83)
---(1/2951)
{إلا الذين آمنوا} أي: بالله ورسوله {وعملوا} أي: تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} أي: التي شرعها الله تعالى ورسوله {وذكروا الله} مستحضرين ما له من الكمال {كثيراً} أي: لم يشغلهم الشعر عن الذكر، روي أنّ كعب بن مالك قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم «إنّ الله قد أنزل في الشعر ما أنزل، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به نضح النبل» وعن أنس رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم «دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول:
*خلوا بني الكفار عن سبيله ** اليوم نضر بكم على تنزيله*
*ضرباً يزيل الهمام عن مقيله ** ويذهب الخليل عن خليله*
فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول شعراً فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم خل عنه يا عمر فهي أسرع فيهم من نضح النبل» وعن البراء أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال يوم قريظة لحسان: «أهج المشركين فإنّ جبريل معك» وعن عائشة رضي الله عنها قالت أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «اهجوا قريشاً فإنه أشدّ عليهم من رشق النبل فأرسل إلى ابن رواحة فقال اهجهم فلم يرض فأرسل إلى كعب بن مالك ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فقال حسان قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد ثم أدلع لسانه فجعل يحرّكه فقال والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لا تعجل فإنّ أبا بكر أعلم قريش بأنسابها وإنّ لي فيهم نسباً حتى يخلص لك نسبي، فأتاه حسان ثم رجع فقال يا رسول الله لقد أخلص لي نسبك والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما يسلّ الشعر من العجين، قالت عائشة فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: إنّ روح القدس لا يزال يؤدّيك ما نافحت عن الله ورسوله قالت وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هجاهم حسان فشفى وأشفى» قال حسان:
(7/84)
---(1/2952)
الكتاب : السراج المنير للخطيب الشربينى
*هجوت محمداً فأجبت عنه ** وعند الله في ذاك الجزاء*
*هجوت محمداً برّاً حنيفاً ** رسول الله شيمته الوفاء*
*فإنّ أبي ووالدتي وعرضي ** لعرض محمد منكم وفاء*
*فمن يهجو رسول الله منكم ** ويمدحه وينصره سواء*
*وجبريل رسول الله فينا ** وروح القدس ليس له كفاء*
وورد في مدح الشعر عن أبيّ بن كعب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنّ من الشعر حكمة» وعن ابن عباس قال: جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: هل معك من شعر أمية ابن أبي الصلت شيء؟ قال: نعم قال هيه، فأنشده بيتاً فقال هيه حتى أنشده مائة بيت» وعن جابر بن سمرة قال: «جالست رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مئة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون شيئاً من أمر الجاهلية فربما تبسم معهم» وعن عائشة: الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ الحسن ودع القبيح، وعن: الشعبيّ كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان عليّ أشعر الثلاثة، وعن ابن عباس: أنه كان ينشد الشعر في المسجد ويستنشده فروي أنه دعا عمر بن أبي ربيعة المخزوميّ واستنشده القصيدة التي أوّلها:
*أمن آل نُعْمٍ أنت غاد مبكر ** غداة غد أم رائح فمهجر*
(7/85)
---(1/2953)
فأنشد ابن ربيعة القصيدة إلى آخرها وهي قريبة من سبعين بيتاً، ثم إنّ ابن عباس أعاد القصيدة جميعاً وكان حفظها بمرّة واحدة. ثم بين سبحانه وتعالى ما حمل المؤمنين على الشعر وهو انتصارهم من المشركين بقوله تعالى: {وانتصروا} أي: بهجوهم الكفار {من بعدما ظلموا} بهجو الكفار لهم لأنهم بدؤا بالهجاء، ثم أوعد شعراء المشركين وغيرهم من الكفار بقوله تعالى: {وسيعلم الذين ظلموا} بالشرك وهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم {أي: منقلب} أي: مرجع {ينقلبون} أي: يرجعون بعد الموت، قال ابن عباس: إلى جهنم والسعير، وفي هذا تهديد شديد لما في سيعلم من الوعيد البليغ، {وفي الذين ظلموا} من الإطلاق والتعميم وفي {أيّ منقلب ينقلبون} من الإبهام والتهويل، وقد تلا أبو بكر لعمر رضي الله عنهما حين عهد إليه هذه الآية.
اللهمّ اجعلنا ممن جعل هذه الآية بين عينيه فلم يغفل عنها، وروى الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت السورة التي تذكر فيها البقرة من الذكر الأوّل وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم السورة التي تذكر فيها البقرة من تحت العرش وأعطيت المفصل نافلة» وعن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله أعطاني السبع مكان التوراة وأعطاني الطواسين مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهنّ نبيّ قبلي»، وما رواه البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ من أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم وبعدد من كذب بعيسى وصدّق بمحمد صلى الله عليه وسلم حديث موضوع.
سورة النمل
مكية وهي ثلاث أو أربع أو خمس وتسعون آية، وألف ومائةوتسع وأربعون كلمة، وأربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون حرفاً
(7/86)
---(1/2954)
{بسم الله} أي: الذي كمل علمه فبهرت حكمته {الرحمن} الذي عمّ بالهداية بأوضح البيان {الرحيم} أي: الذي منّ بجنات النعيم على من اتبع الصراط المستقيم.
{طس} قال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله عز وجلّ، وقد سبق الكلام في حروف الهجاء عليه، وقرأ حمزة والكسائي وشعبة، بإمالة الطاء، والباقون بالفتح.
(7/87)
---
{تلك} أي: هذه الآيات العالية المقام البعيدة المرام البديعة النظام {آيات القرآن} أي: الكامل في قرآنيته الجامع للأصول الناشر للفروع الذي لا خلل فيه ولا فصم ولا صدع ولا وصم {وكتاب مبين} أي: مظهر الحق من الباطل، فإن قيل: كيف صح أن يشار لاثنين أحدهما مؤنث والآخر مذكر باسم الإشارة المؤنث ولو قلت تلك هند وزيد لم يجز؟.
أجيب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنّ المراد بالكتاب هو الآيات لأنّ الكتاب عبارة عن الآيات المجموعة فلما كانا شيئاً واحد صحت الإشارة إليهما بإشارة الواحد المؤنث، الثاني: أنه على حذف مضاف أي: وآيات كتاب مبين، الثالث: أنه لما ولي المؤنث ما تصح الإشارة به إليه اكتفى به وحسن، ولو ولي المذكر لم يحسن، ألا ترى أنك تقول جاءتني هند وزيد ولو أخرت هند لم يجز تأنيث الفعل، وقرأ ابن كثير بالنقل وصلاً وابتداءً وحمزة في الوقف لا غير، والباقون بغير نقل وقوله تعالى:
{هدى وبشرى} يجوز أن يكونا منصوبين على المصدر بفعل مقدّر من لفظهما، أي: يهدي هدىً ويبشر بشرى، وأن يكونا في موضع الحال من آيات والعامل فيهما ما في تلك من معنى الإشارة، وأن يكونا خبراً بعد خبر، وأن يكونا خبري مبتدأ مضمر، أي: هو هدى من الضلالة وبشرى {للمؤمنين} أي: المصدّقين به بالجنة كقوله تعالى: {فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً} (النساء: 175)(1/2955)
ولهذا خص به المؤمنين، وقيل المراد بالهدى الدلالة، وإنما خصه بالمؤمنين لأنه ذكر مع الهدى البشرى، والبشرى إنما تكون للمؤمنين، أو لأنهم تمسكوا به كقوله تعالى: {إنما أنت منذر من يخشاها} (النازعات: 45)
أو لأنه يزيد في هداهم كقوله تعالى: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} (مريم: 76)، ولما كان وصف الإيمان خفياً وصفهم بما يصدّقه من الأمور الظاهرة بقوله تعالى:
(7/88)
---
{الذين يقيمون الصلاة} أي: بجميع حدودها الظاهرة والباطنة من المواقيت والطهارات والشروط والأركان والخشوع والمراقبة والإحسان إصلاحاً لما بينهم وبين الخالق {ويؤتون الزكاة} أي: إحساناً فيما بينهم وبين الخلائق {وهم بالآخرة هم يوقنون} أي: يوجدون الإيقان حق الإيجاد بالاستدلال ويجدّدونه في كل حين بما يوجد منهم من الإقدام على الطاعة والإحجام عن المعصية، وأعيد هم لما فصل بينه وبين الخبر، ولما أفهم التخصيص أن ثم من يكذب بها ذكره بقوله تعالى:
{إن الذين لا يؤمنون} أي: لا يوجدون الإيمان ولا يجددونه {بالآخرة زينا} أي: بعظمتنا التي لا يمكن دفاعها {لهم أعمالهم} أي: القبيحة بتركيب الشهوة حتى أعرضوا عن الخوف من عاقبتها مع ظهور قباحتها، والإسناد إليه حقيقيّ عند أهل السنة لأنه الموجد الحقيقيّ، وإلى الشيطان مجاز سببيّ، وعند المعتزلة بالعكس، قال الزمخشريّ في تفسيره: إنّ إسناده إلى الشيطان حقيقة وإسناده إلى الله عز وجل مجاز {فهم} أي: فتسبب عن ذلك أنهم {يعمهون} أي: يتحيرون ويتردّدون في أودية الضلال ويتمادون في ذلك، فهم كل لحظة في خبط جديد بعمل غير سديد.(1/2956)
{أولئك} أي: البعداء البغضاء {الذين لهم} أي: خاصة {سوء العذاب} أي: أشدّه في الدنيا بالخوف والقتل {وهم في الآخرة هم الأخسرون} أي: أشدّ الناس خسارة لأنهم خسروا ما لا خسارة مثله لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم، ولما وصف تعالى القرآن بما اقتضى بيان أهل الفوز والخسران، ذكر حال المنزل عليه وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم مخاطباً له بقوله تعالى:
(7/89)
---
{وإنك} أي: وأنت يا أشرف الخلق وأعلمهم وأعظمهم وأحكمهم {لتلقى القرآن} أي: لتؤتاه وتلقنه أي: يلقى عليك بشدّة {من لدن} أي: من عند {حكيم} أي: بالغ الحكمة فلا شيء من أفعاله إلا وهو في غاية الإتقان {عليم} أي: عظيم العلم واسعه تامّه شامله، والجمع بينهما مع أنّ العلم داخل في الحكمة لعموم العلم ودلالة الحكمة على إتقان الفعل، والإشعار بأنّ علوم القرآن منها: ما هو كالعقائد والشرائع، ومنها: ما ليس كذلك كالقصص والأخبار عن المغيبات، ثم شرع في بيان تلك العلوم بقوله تعالى:(1/2957)
{إذ قال موسى} أي: اذكر قصته حين قال {لأهله} أي: زوجته بنت شعيب عليه السلام عند مسيره من مدين إلى مصر وهي القصة الأولى من قصص هذه السورة، قال الزمخشريّ: روي أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته، وقد كنى الله تعالى عنها بالأهل فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع وهو قوله: امكثوا، وكانا يسيران ليلاً وقد اشتبه الطريق عليهما والوقت وقت برد، وفي مثل هذا الحال يقوى الناس بمشاهدة نار من بعد، لما يرجى فيها من زوال الحيرة وأمن الطريق ومن الانتفاع بالنار للإصطلاء، فلذلك بشرها فقال: {إني آنست} أي: أبصرت إبصار حصل لي به الأنس وأزال عني الوحشة {ناراً سآتيكم منها بخبر} أي: عن حال الطريق وكان قد أضلها، وعبر بلفظ الجمع كما في قوله: {امكثوا} فإن قيل: كيف جاء بسين التسويف؟ أجيب: بأنّ ذلك عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ الإتيان أو كانت المسافة بعيدة، فإن قيل: قال هنا {سآتيكم منها بخبر} وفي السورة الآتية: {لعلي آتيكم منها بخبر} (القصص: 29)
وهما كالمتدافعين لأنّ أحدهما ترج والآخر تيقن؟ أجيب: بأنّ الراجي قد يقول إذا قوي رجاؤه سأفعل كذا وسيكون كذا مع تجويزه الحقيقة.
(7/90)
---
{أو آتيكم بشهاب قبس} أي: شعلة نار في رأس فتيلة أو عود، قال البغويّ: وليس في الطرف الآخر نار، وقال بعضهم الشهاب شيء ذو نور مثل العمود والعرب تسمى كل شيء أبيض ذي نور شهاباً، والقبس: القطعة من النار، وقرأ الكوفيون بشهابٍ بالتنوين على أنّ القبس بدل منه أو وصف له لأنه بمعنى المقبوس، والباقون بإضافة الشهاب إليه لأنه يكون قبساً وغير قبس فهو من إضافة النوع إلى جنسه، نحو ثوب خز إذ الشهاب شعلة من النار والقبس قطعة منها يكون في عود أو غيره كما مرّ.(1/2958)
فإن قيل: لم جاء بأو دون الواو؟ أجيب: بأنه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعاً لم يعدم واحدة منهما، إمّا هداية الطريق وإمّا اقتباس النار ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده، وما أدراه حين قال ذلك أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين جميعاً وهما العزان عز الدنيا وعز الآخرة، ثم إنه عليه السلام علل إتيانه بذلك إفهاماً لأنها ليلة باردة بقوله: {لعلكم تصطلون} أي: لتكونوا في حال من يرجى أن يستدفئ بذلك من البرد، والطاء بدل من تاء الافتعال، من صلى بالنار بكسر اللام وفتحها.
{فلما جاءها} أي: تلك التي ظنها ناراً {نودي} من قبل الله تعالى {أن بورك} أن هي المفسرة لأنّ النداء فيه معنى القول، والمعنى قيل له: بورك، أو المصدرية أي: بأن بورك، وقوله تعالى: {من في النار} أي: موسى {ومن حولها} أي: الملائكة هو نائب الفاعل لبورك، والأصل بارك الله من في النار ومن حولها، وهذا تحية من الله عز وجلّ لموسى بالبركة.
(7/91)
---
ومذهب أكثر المفسرين أنّ المراد بالنار النور ذكر بلفظ النار لأنّ موسى حسبه ناراً، أو من في النار هم الملائكة، وذلك أنّ النور الذي رآه موسى عليه السلام كان فيه الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتقديس ومن حولها هو موسى لأنه كان بالقرب منها ولم يكن فيها، وقال سعيد بن جبير: كانت النار بعينها والنار إحدى حجب الله تعالى، كما جاء في الحديث: «حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه» الحديث تنبيه: بارك يتعدّى بنفسه وبحرف الجرّ يقال باركك الله وبارك عليك وبارك فيك وبارك لك، وقال الشاعر:
*فبوركت مولوداً وبوركت ناشئاً ** وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب*(1/2959)
قال الزمخشريّ: والظاهر أنه عامّ في كل من في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وحواليهما من أرض الشأم، ولقد جعل الله تعالى أرض الشأم الموسومة بالبركات لكثرتها مبعث الأنبياء، وكفاتهم أحياء وأمواتاً، ومهبط الوحي عليهم، وخصوصاً تلك البقعة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام وقوله تعالى {وسبحان الله رب العالمين} من تمام ما نودي به لئلا يتوهم من سماع كلامه تشبيهاً، وللعجب من عظمة الله في ذلك الأمر فإنه أتاه النداء، كما ورد من جميع الجهات فسمعه بجميع الحواس، أو تعجب من موسى لما دعاه من عظمته ولما تشوفت النفس إلى تحقق الأمر تصريحاً، قال تعالى تمهيداً لما أراد سبحانه إظهاره على يد موسى عليه السلام من المعجزات الباهرات.
{يا موسى إنه} أي: الشأن العظيم الجليل الذي لا يبلغ وصفه، وجملة {أنا الله} أي: البالغ في العظمة ما تقصر عنه الأوهام، مفسرة له، أو المتكلم، وأنا خبر، والله بيان له، ثم وصف تعالى نفسه بوصفين يدلان على ما يفعله مع موسى عليه السلام : أحدهما: {العزيز} أي: الذي يصل إلى سائر ما يريد ولا يرده عن مراده راد، والثاني: {الحكيم} أي: الذي يفعل كل ما يفعله بحكمة وتدبير.
(7/92)
---
فإن قيل: هذا النداء يجوز أن يكون من عند غير الله تعالى، فكيف علم موسى أنه من الله تعالى؟ أجيب: بأنه سمع الكلام المنزه عن شائبة كلام المخلوقين لأنّ النداء أتاه من جميع الجهات وسمعه بجميع الحواس كما مر، فعلم بالضرورة أنه صفة الله سبحانه وتعالى، ثم أرى الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام آية تدلّ على قدرته ليعلم علم شهود وهي قوله تعالى:(1/2960)
{وألق عصاك} فألقاها كما مرّ فصارت في الحال، كما آذنت به الفاء حية عظيمة جدّاً، ومع كونها في غاية العظم في نهاية الخفة والسرعة في اضطرابها عند محاولتها ما تريد {فلما رآها تهتز} أي: تضطرب في تحرّكها مع كونها في غاية الكبر {كأنها جان} أي: حية صغيرة في خفتها وسرعتها فلا ينافي ذلك كبر جثتها {ولى} أي: موسى عليه السلام ثم إنّ التولية مشتركة بين معان، فلذا بين المراد منها بقوله تعالى: {مدبراً} أي: التفت هارباً منها مسرعاً جدّاً لقوله تعالى: {ولم يعقب} أي: لم يرجع على عقبه ولم يلتفت إلى ما وراءه بعد توليه.
تنبيه: قال الزمخشري: وألق عصاك معطوف على بورك لأنّ المعنى نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك كلاهما تفسير لنودي، والمعنى قيل: له: بورك من في النار، وقيل له: ألق عصاك انتهى. وإنما احتاج إلى تقدير وقيل له ألق لتكون جمله خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها لأنه يرى في العطف تناسب الجمل المتعاطفة، والصحيح كما قاله أبو حيان: أنه لا يشترط ذلك، ولما تشوّفت النفس إلى ما قيل له عند هذه الحالة أجيب: بأنه قيل له {يا موسى لا تخف} أي: منها ولا من غيرها ثقة بي، ثم علل هذا النهي بقوله تعالى: مبشراً بالأمن والرسالة {إني لا يخاف لديّ} أي: عندي {المرسلون} أي: من حية وغيرها لأنهم معصومون من الظلم لا يخاف من الملك العدل إلا ظالم، وقوله تعالى.
(7/93)
---(1/2961)
{إلا من ظلم} فيه وجهان: أحدهما: أنه استثناء منقطع، لأنّ المرسلين معصومون من المعاصي وهذا هو الصحيح، والمعنى لكن من ظلم من سائر الناس فإنه يخاف إلا من تاب كما قال تعالى: {ثم بدّل} أي: بتوبته {حسناً بعد سوء} وهو الظلم الذي كان عمله أي: جعل الحسن بدل السوء كالسحرة الذين آمنوا بعد ذلك بموسى عليه السلام {فإني} أرحمه بسبب أني {غفور} أي: من شأني أن أمحو الذنوب محواً يزيل جميع آثارها {رحيم} أي: أعامله معاملة الراحم البليغ الرحمة، والثاني: أنه استثناء متصل.
وللمفسرين فيه عبارات: قال الحسن: إنّ موسى ظلم بقتل القبطي ثم تاب فقال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، وقال غيره: إنّ ذلك محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل، وقال بعض النحويين: إلا ههنا بمعنى ولا، أي: لا يخاف لديّ المرسلون ولا المذنبون التائبون كقوله تعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا} (البقرة: 150)
أي: ولا الذين ظلموا ثم أراه الله تعالى بعد هذه الآية آية أخرى ذكرها بقوله تعالى:
{وأدخل يدك في جيبك} أي: فتحة ثوبك وهو ما قطع منه ليحيط بعنقك، وكان عليه مدرعة صوف لا كم لها وقيل: الجيب القميص لأنه يجاب أي: يقطع {تخرج بيضاء} أي: بياضاً عظيماً نيراً جداً له شعاع كشعاع الشمس، وكانت الآية الأولى مما في يده بقلب جوهرها إلى جوهر شيء آخر حيواني، وهذه في يده نفسها بقلب عرضها التي كانت عليه إلى عرض آخر نوراني، ثم نفى عنها أن يكون ذلك بسبب آفة بقوله تعالى: {من غير سوء} أي: برص ولا غيره من الآفات، وقوله تعالى {في تسع آيات} كلام مستأنف، وحرف الجرّ فيه متعلق بمحذوف، والمعنى: اذهب في تسع آيات {إلى فرعون وقومه} كقول القائل:
*فقلت إلى الطعام فقال منهم ** فريق يحسد الأنس الطعاما*
ويجوز أن يكون بمعنى وألق عصاك وأدخل يدك في تسع آيات وعدادهنّ.
(7/94)
---(1/2962)
ولقائل أن يقول كانت الآيات إحدى عشرة آية: ثنتان منها العصا واليد، والتسع الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم، وقيل: في بمعنى من أي: من تسع آيات فتكون العصا واليد من التسع، ثم علل إرساله إليهم بالخوارق بقوله تعالى: {إنهم كانوا قوماً فاسقين} أي: خارجين عن طاعتنا.
{فلما جاءتهم آياتنا} أي: على يد موسى عليه السلام {مبصرة} أي: بينة واضحة هادية إلى الطريق الأقوم {قالوا هذا سحر} أي: خيال لا حقيقة له {مبين} أي: واضح في أنه خيال.
(7/95)
---
أي: أنكروا كونها آيات موجبات لصدقه مع علمهم بإبطالهم لأنّ الجحود الإنكار مع العلم {واستيقنتها أنفسهم} أي: علموا أنها من عند الله تعالى وتخلل علمها صميم قلوبهم، فكانت ألسنتهم مخالفة لما في قلوبهم ولذلك أسند الاستيقان إلى النفس، ثم علل جحدهم ووصفهم لها بخلاف وصفها بقوله تعالى: {ظلماً وعلواً} أي: شركاء وتكبراً عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى {فانظر} يا أشرف الخلق {كيف كان عاقبة المفسدين} وهو الإغراق في الدنيا بأيسر سعي وأيسر أمر، فلم يبق منهم عين تطرف ولم يرجع منهم مخبر على كثرتهم وعظمتهم وقوتهم، والإحراق في الآخرة بالنار المؤبدة. القصة الثانية قصة داود وسليمان عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى.(1/2963)
{ولقد آتينا} أي: بما لنا من العظمة {داود وسليمان} ابنه وهما من أتباع موسى عليهم السلام وبعده بأزمان متطاولة {علماً} أي: جزأ من العلم عظيماً من منطق الطير والدواب وتسبيح الجبال وغير ذلك لم نؤته لأحد من قبلهما ولما كان التقدير فعملا بمقتضاه، عطف عليه قوله: {وقالا} شكراً عليه ودلالة على شرف العلم وتنبيهاً لأهله على التواضع {الحمد} أي: الإحاطة بجميع أوصاف الكمال {لله} أي: الذي لا كفء له {الذي فضلنا} أي: بما آتانا من النبوّة والكتاب وتسخير الشياطين والجنّ والإنس وغير ذلك {على كثير من عباده المؤمنين} أي: ممن لم يؤت علماً أو مثل علمهما، وفي ذلك تحريض للعالم أن يحمد الله تعالى على ما آتاه من فضله ويعتقد أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه كثير، فلا يتكبر ولا يفتخر ويشكر الله تعالى، وينفع به المسلمين كما نفعه الله تعالى به، ثم إنه تعالى أشار إلى فضل سليمان بأنه جمع إلى ما آتاه ما كان منح به أباه بقوله تعالى:
(7/97)
---
{وورث سليمان داود} أباه عليهما السلام دون سائر أولاده وكان لداود تسعة عشر ابناً فأعطي سليمان ما أعطي داود من الملك وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين، قال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكاً من داود وأقضى منه، وكان داود أشد تعبداً من سليمان، وكان سليمان شاكراً لنعم الله تعالى {وقال} تحدّثاً بنعمة ربه ومنبهاً على ما شرّفه الله تعالى به ليكون أجدر في قبول الناس ما يدعوهم إليه من الخير {يا أيها الناس علمنا} أي: أنا وأبي بأيسر أمر وأسهله {منطق الطير} أي: فهم ما يريده كل طائر إذا صوّت، فسمى صوت الطير منطقاً لحصول الفهم منه كما يفهم من كلام الناس.
(7/98)
---(1/2964)
روي عن كعب الأحبار أنه قال: صاح ورشان عند سليمان عليه السلام فقال أتدرون ما يقول: قالوا: لا قال: إنه يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب، وصاحت فاختة فقال: أتدرون ما تقول قالوا: لا قال: فإنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح طاووس فقال أتدرون ما يقول: قالوا: لا قال: فإنه يقول: كما تدين تدان، وصاح هدهد فقال أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا قال: فإنه يقول: من لا يرحم لا يرحم، وصاح صرد فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا قال فإنه يقول: استغفروا الله يا مذنبين، وصاح طيطوى فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا قال فإنه يقول: كل حيّ ميت وكل جديد بال، وصاح خطاف فقال: أتدرون ما يقول قالوا: لا قال فإنه يقول: قدّموا خيراً تجدوه، وهدرت حمامة فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا، قال فإنها تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه، وصاح قمري فقال: أتدرون ما يقول قالوا: لا، قال: فإنه يقول سبحان ربي الأعلى، قال والغراب يدعو على العشار، والحدأة تقول كل شيء هالك إلا الله، والقطاة تقول من سكت سلم، والببغاء تقول ويل لمن الدنيا همه والضفدع يقول سبحان رب القدّوس، ويقول أيضاً سبحان ربي المذكور بكلّ لسان، والباز يقول سبحان ربي وبحمده، وعن مكحول قال: صاح دراج عند سليمان فقال أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: لا قال: فإنه يقول: الرحمن على العرش استوى.
(7/99)
---(1/2965)
وروي عن فرقد السنحيّ قال مرّ سليمان على بلبل فوق شجرة يحرّك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا الله ونبيه أعلم قال يقول أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء: وهو بالفتح والمدّ التراب، وقال أبو عبيد: هو الدروس، وفي حديث صفوان: «إذا دخلت بيتي فأكلت رغيفاً وشربت عليه فعلى الدنيا العفاء»، وروي أنّ جماعة من اليهود قالوا لابن عباس إنا سائلوك عن سبعة أشياء فإن أخبرتنا آمناً وصدّقنا، قال: اسألوا تفقهاً ولا تسألوا تعنتاً، قالوا: أخبرنا ما يقول القنبر في صفيره والديك في صعيقه والضفدع في نعيقه والحمار في نهيقه والفرس في صهيله وما يقول الزرزور والدرّاج، قال نعم أمّا القنبر فيقول: اللهمّ العن مبغضي محمد وآل محمد، وأمّا الديك فيقول: اذكروا الله يا غافلين، وأمّا الضفدع فيقول: سبحان المعبود في لجج البحار، وأمّا الحمار فيقول: اللهمّ العن العشار، وأمّا الفرس فيقول: إذا التقى الصفان سبوح قدّوس رب الملائكة والروح، وأما الزرزور فيقول: اللهمّ إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق، وأمّا الدراج فيقول: الرحمن على العرش استوى قال: فأسلم اليهود وحسن إسلامهم.
ويروى عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جدّه عن الحسين بن عليّ قال: إذا صاح النسر قال: ابن آدم عش ما شئت آخره الموت، وإذا صاح العقاب قال: في البعد من الناس أنس، وإذا صاح القنبر قال: إلهي العن مبغضي آل محمد، وإذا صاح الخطاف قرأ: الحمد لله رب العالمين ويمدّ ولا الضالين كما يمدّ القارئ.
(7/100)
---(1/2966)
وقول سليمان عليه السلام {وأوتينا من كل شيء} أي: تؤتاه الأنبياء والملوك، قال ابن عباس من أمر الدنيا والآخرة، وقال مقاتل: يعني النبوّة والملك وتسخير الجنّ والإنس والرياح {إن هذا} أي: الذي أوتيناه {لهو الفضل المبين} أي: البين في نفسه لكلّ من ينظره الموضح لعلوّ قدر صاحبه، روي أنّ سليمان أعطي ملك مشارق الأرض ومغاربها فملك أربعين سنة وستة أشهر جميع أهل الدنيا من الجنّ والأنس والدواب والطير والسباع وأعطى مع ذلك منطق الطير، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة، فقوله: {إنّ هذا لهو الفضل المبين} تقرير لقوله {الحمد لله الذي فضلنا} والمقصود منه الشكر والحمد، كما قال صلى الله عليه وسلم «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»، فإن قيل: كيف قال علمنا وأوتينا وهو كلام المتكبر؟ أجيب بوجهين: الأوّل: أنه يريد نفسه وأباه كما مرّ، الثاني: أنّ هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع وكان ملكاً مطاعاً، ولما كان هذا مجرّد خبر أتبعه ما يصدّقه بقوله تعالى:
{وحشر} أي: جمع جمعاً حتماً بقهر وسطوة وإكراه بأيسر أمر {لسليمان جنوده} ثم بين ذلك بقوله تعالى: {من الجنّ} وبدأ بهم لعسر جمعهم ثم ثنى بقوله تعالى: {والإنس} لشرفهم ثم أتبع من يعقل بما لا يعقل بقوله {والطير} فقدّم القسم الأول لشرفه وذلك كان في مسير له في بعض الغزوات {فهم} أي: فتسبب عن مسيره بذلك أنهم {يوزعون} أي: يكفون بحبس أولهم على آخرهم بأدنى أمر وأسهله ليتلاحقوا فيكون ذلك أجدر بالهيبة وأعون على النصرة وأقرب إلى السلامة، قال قتادة: كان على كل صنف من جنوده وزعة ترد أوّلها على آخرها لئلا يتقدّموا في المسير، قال والوازع: الحابس وهو النقيب، وقال مقاتل: يوزعون أي: يساقون، وقال السدّيّ: يوقفون، وقيل: يجمعون، وأصل الوزع الكف والمنع.
(7/101)
---(1/2967)
قال محمد بن كعب القرظيّ: كان معسكر سليمان عليه السلام مئة فرسخ خمسة وعشرون للإنس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للوحش وخمسة وعشرون للطير، وقيل: نسجت له الجنّ بساطاً من ذهب وحرير فرسخاً في فرسخ وكان يوضع كرسيه وسطه فيقعد وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة فتقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة والناس حولهم والجنّ والشياطين حول الناس والوحش حولهم وتظلهم الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة يعني: حرّة وسبعمائة سرّية، فيأمر الريح العاصف فترفعه ثم يأمر الرخاء فتسير به مسيرة شهر، وأوحي إليه وهو يسير بين السماء والأرض أني قد زدت في في ملكك أن لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت به الريح فأخبرتك به، فيحكى أنه مرّ بحراث فقال لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً فألقته الريح في أذنه فنزل ومشى إلى الحراث وقال: إني مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ثم قال لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود واستمرّ سائراً بمن معه.
{حتى إذا أتوا} أي: أشرفوا {على وادي النمل} روي عن كعب الأحبار أنه قال: كان سليمان إذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه، وقد اتخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد وقدور عظام تسع كل قدر عشرة من الإبل يطبخ الطباخون ويخبز الخبازون واتخذ ميادين للدّواب فتجري بين يديه وهو بين السماء والأرض والريح تهوي بهم فسار من اصطخر يريد اليمن، فمرّ بمدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال سليمان هذه دار هجرة نبيّ يخرج في آخر الزمان طوبى لمن آمن به وطوبى لمن اتبعه، ولما وصل إلى مكة رأى حول البيت أصناماً تعبد من دون الله فلما جاوز سليمان البيت بكى البيت فأوحى الله تعالى إلى البيت ما يبكيك؟
(7/102)
---(1/2968)
فقال: يا رب أبكاني أنّ هذا نبيّ من أنبياءك وقوم من أوليائك مرّوا علي فلم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك، فأوحى الله تعالى إليه لا تبك فإني سوف أملؤك وجوهاً سجداً وأنزل فيك قرآناً جديداً وأبعث منك نبي آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ وأجعل فيك عماراً من خلقي يعبدونني وأفرض على عبادي فريضة يزفون إليك زفيف النسور إلى وكرها ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها وحنين الحمامة إلى بيضها وأطهرك من الأوثان وعبدة الشياطين، ثم مرّ سليمان حتى مرّ بوادي السدير من الطائف فأتى على وادي النمل هكذا قال كعب إنه واد بالطائف.
قال البقاعي: وهو الذي تميل إليه النفس فإنه معروف عندهم إلى الآن بهذا الاسم، وقال قتادة ومقاتل: هو واد بالشأم وجرى عليه البيضاوي، وقيل: واد كانت تسكنه الجنّ وأولئك النمل مراكبهم، وقال نوف الحميري: كان نمل ذلك الوادي مثل الذباب، وقيل: كان كالبخاتي، وقال البغويّ والمشهور: أنه النمل الصغير.
فائدة: وقف الكسائي على وادي بالياء، والباقون بغير ياء، فإن قيل: لم عدى أتوا بعلى؟ أجيب: بأنه يتوجه على معنيين: أحدهما: أن إتيانهم كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء، والثاني: أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم، أرادوا أن ينزلوا عند مقطع الوادي لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهوى لا يخاف حطمهم.
(7/103)
---(1/2969)
ولما كانوا في أمر مهول منظره وقربوا من ذلك الوادي {قالت نملة} قال الشعبيّ: كانت تلك النملة ذات جناحين، وقيل: كانت نملة عرجاء فنادت {يا أيها النمل ادخلوا} أي: قبل وصول ما أرى من الجيش {مساكنكم} ثم عللت أمرها فقالت: {لا يحطمنكم} أي: يكسرنكم ويهشمنكم، أي: لا تبرزوا فيحطمكم فهو نهي لهم عن البروز في صورة نهيه وهو أبلغ من التصريح بنهيهم لأن من نهى أميراً عن شيء كان لغيره أشدّ نهياً {سليمان وجنوده} أي: لأنهم لكثرتهم إذا صاروا في هذا الوادي استعلوا عليه فضيقوه فلم يدعوا فيه موضع شبر خالياً {وهم} أي: سليمان وجنوده {لا يشعرون} أي: بحطمهم لكم لاشتغالهم بما هم فيه من أحوال السير، وقولها هذا يدل على علمها بأنهم لو شعروا بهم ما آذوهم لأنهم أتباع نبيّ فهم رحماء، وإنما خاطبتهم خطاب من يعقل لأنها لما جعلت قائلة والنمل مقولاً له كما يكون في أولي العقل أجرت خطابهم، والنمل: اسم جنس معروف واحده نملة، ويقال نملة ونمل بضم النون وسكون الميم، ونملة ونمل بضمهما.
وعن قتادة: أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال سلوني عما شئتم، وكان أبو حنيفة رحمه الله تعالى حاضراً وهو غلام حديث، فقال سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى؟ فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل له من أين عرفت؟ فقال من كتاب الله، وهو قوله: قالت نملة ولو كانت ذكراً لقال قال نملة، قال الزمخشريّ: وذلك أنّ النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي انتهى.
(7/104)
---(1/2970)
وردّ هذا أبو حيان فقال: ولحاق التاء في قالت لا يدلّ على أنّ النملة مؤنثة بل يصح أن يقال في الذكر قالت نملة لأن النمل وإن كان بالتاء هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث وما كان كذلك كاليمامة والقملة مما بينه في الجمع وبين واحده تاء التأنيث من الحيوان، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث، ولا يدلّ كونه يخبر عنه إخبار المؤنث على كونه ذكراً وأنثى لأنّ التاء دخلت فيه للفرق لا للدّلالة على التأنيث له الحقيقي، بل دالة على الواحد من هذا الجنس، قال وكان قتادة بصيراً بالعربية، وكونه أفحم يدل على معرفته باللسان إذا علم أنّ النملة يخبر عنها إخبار المؤنث وإن كانت تطلق على الأنثى والذكر إذ لا يتميز فيه أحد هذين، ولحاق العلامة لا يدل، فلا يعلم التذكير والتأنيث إلا بوحي من الله ا.ه.
وقال الطيبي: العجب من أبي حنيفة إن ثبت ذلك عنه لأنّ النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر والأنثى وأطال الكلام في ذلك.
فإن قيل: كيف يتصّور الحطم من سليمان وجنوده وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على بساط بين السماء والأرض؟ أجيب: بأنّ من جنوده ركباناً ومنهم مشاة على الأرض تطوى لهم، أو أنّ ذلك كان قبل تسخير الريح لسليمان، ويروى أنّ سليمان لما بلغ وادي النمل حبس جنده حتى دخل النمل بيوتهم، فقد روي أنه سمع كلامها من ثلاثة أميال، وقيل: كان اسمها طاخية.
فائدة: قال أهل المعاني في كلام هذه النملة أنواع من البلاغة: نادت ونبهت وسمت وأمرت ونصت وحذرت وخصت وعمت وأشارت وأعذرت، ووجهه: نادت يا، نبهت: ها، سمت: النمل، أمرت: ادخلوا، نصت: مساكنكم، حذرت: لا يحطمنكم، خصت: سليمان، عمت: وجنوده، أشارت: وهم، أعذرت: لا يشعرون، ولما كان هذا أمر معجباً لما فيه من جزالة الألفاظ وجلالة المعاني تسبب عنه قوله.
(7/105)
---(1/2971)
{فتبسم ضاحكاً من قولها} أي: لما أوتيته من الفصاحة والبيان وسروراً بما وصفته به من العدل في أنه وجنوده لا يؤذي أحداً وهم يعلمون، وبما آتاه الله من سمعه كلام النملة وإحاطته بمعناه تنبيه: ضاحكاً: حال مؤكدة لأنها مفهومة من تبسم، وقيل: هي حال مقدّرة فإنّ التبسم ابتداء الضحك، وقيل: التبسم قد يكون للغضب، ومنه تبسم تبسم الغضبان، فضاحكاً: مبيناً له، قال عنترة:
d
*لما رآني قد قصدت أريده ** أبدى نواجذه لغير تبسم*
وقال الزجاج: أكثر ضحك الأنبياء التبسم، وقوله: ضاحكاً أي: متبسماً، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم»، وعن عبد الله بن الحارث بن جبير قال: «ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل: كان أوّله التبسم، وآخره الضحك، ثم حمد الله تعالى على هذه النعمة وسأل ربه توفيق شكره لما تذكر ما أولاه ربه سبحانه وتعالى بحسن تربيته من فهم كلامها إلى ما أنعم عليه من غير ذلك {وقال رب} أي: أيها المحسن إليّ {أوزعني} أي: ألهمني {أن أشكر نعمتك} وقيل معناه لغة: اجعلني أزع شكر نعمتك أي: أكفه وأمنعه حتى لا يفلت مني فلا أزال شاكراً، وأزع بفتح الزاي أصله: أوزع فحذفت واوه كما في أدع، ولما أفهم ذلك تعلق النعمة به حققه بقوله {التي أنعمت عليّ} وأفهم قوله: {وعلى والديّ} أن أمّه كانت أيضاً تعرف منطق الطير وإنما أدرج ذكر والديه لأنّ النعمة على الولد نعمة على الوالدين خصوصاً النعمة الراجعة إلى الدين فإنه إذا كان تقياً نفعهما بدعائه وشفاعته ودعاء المؤمنين لهما كلما دعوا له وقالوا رضي الله عنك وعن والديك.
تنبيه: الشكر لغة: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعم على الشاكر أو غيره سواء كان ذكراً باللسان أم اعتقاداً أو محبة بالجنان أم عملاً وخدمة بالأركان، كما قال القائل:
(7/106)
---(1/2972)
*أفادتكم النعماء مني ثلاثة ** يدي ولساني والضمير المحجبا*
وعرفاً: صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه من السمع وغيره إلى ما خلق لأجله، وهذا لمن حفته العناية الربانية نسأل الله الكريم الفتاح أن يحفنا ومن يلوذ بنا بعنايته.
روي عن داود عليه السلام أنه قال: يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة أخرى منك أحتاج عليها إلى شكر آخر؟ فأوحى الله تعالى إليه يا داود إذا علمت أنّ ما بك من نعمة فمني فقد شكرتني. والشكر ثلاثة أشياء: الأول: معرفة النعمة بمعنى إحضارها في الخاطر بحيث يتميز عندك أنها نعمة، فرب جاهل تحسن إليه وتنعم عليه وهو لا يدري، فلا جرم أنه لا يصح منه الشكر، الثاني: قبول النعمة بتلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة، فإنّ ذلك شاهد بقبولها حقيقة، الثالث: الثناء بها بأن تصف المنعم بالجود والكرم ونحوه مما يدل على حسن تلقيك لها واعترافك بنزول مقامك في الرتبة عن مقامه، فإنّ اليد العليا خير من اليد السفلى.
ولما علم من كلامه أن الشاكر هو المستغرق في الثناء على المنعم بما يجب عليه من العمل بحسب ما يقدر عليه، وكان ذلك العمل مما يجوز أن يكون زين لذلك العبد كونه حسناً وهو ليس كذلك قال عليه السلام : مشيراً إلى هذا المعنى {وأن أعمل صالحاً} أي: في نفس الأمر، وقيده بقوله {ترضاه} لأنّ العمل الصالح قد لا يرضاه المنعم لنقص في العامل، كما قيل:
*إذا كان المحب قليل حظ ** فما حسناته إلا ذنوب*
(7/107)
---(1/2973)
وقوله {وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين} يدل على أنّ دخول الجنة برحمته وفضله لا باستحقاق العبد، والمعنى: أدخلني في جملتهم وأثبت اسمي في أسمائهم واحشرني في زمرتهم، قال ابن عباس: يريد مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين، فإن قيل: درجات الأنبياء أفضل من درجات الصالحين والأولياء فما السبب في أنّ الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين وقد تمنى يوسف عليه السلام بقوله {فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} (الشعراء: 83)
وقال إبراهيم: {هب لي حكماً وألحقني بالصالحين} (الشعراء، 83) .
أجيب: بأنّ الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله تعالى ولا يفعل معصية ولا يهم بمعصية وهذه درجة عالية، ثم إنّ سليمان عليه السلام لما وصل إلى المنزل الذي قصده تفقد أحوال جنوده كما تقتضيه العناية بأمور الملك.
{وتفقد الطير} أي: طلبها وبحث عنها، والتفقد طلب ما فقد، ومعنى الآية طلب ما فقد من الطير {فقال ما لي لا أرى الهدهد} أي: أهو حاضر {أم كان من الغائبين} أم منقطعة، كأنه لما لم يره ظنّ أنه حاضر ولم يره لساتر أو غيره، فقال مالي لا أراه، ثم احتاط فلاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لا ح له، وهذا يدل على أنه تفقد جماعة من الجند وتحقق غيبتهم وشك في غيبته.
(7/108)
---(1/2974)
وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء: أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم فتجهز للمسير واستصحب من الجنّ والإنس والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ عسكره مائة فرسخ فحملتهم الريح فلما وافى الحرم أقام به ما شاء الله أن يقيم وكان ينحر في كل يوم مدة مقامه بمكة خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة وقال لمن حضر من أشراف قومه أنّ هذا المكان يخرج منه نبيّ عربي صفته كذا وكذا يعطى النصر على جميع ما يأواه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في الله لومة لائم، قالوا فبأي: دين يدين يا نبيّ الله؟ قال بدين الحنيفية: فطوبى لمن أدركه وآمن به، قالوا كم بيننا وبين خروجه يا نبيّ الله؟ قال: مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل، فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم خرج منها صباحاً وسار نحو اليمن فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضاً حسناء تزهو خضرتها فأحبّ النزول ليصلي ويتغدى، فلما نزل قال الهدهد: إنّ سليمان قد اشتغل بالنزول فأرتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها فنظر يميناً وشمالاً فرأى بستاناً لبلقيس، فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط عليه، وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن عنفير، فقال عنفير هدهد اليمن ليعفور سليمان من أين أقبلت وإلى أين تريد؟ قال أقبلت من الشأم مع صاحبي سليمان بن داود فقال ومن سليمان؟ قال ملك الإنس والجنّ والشياطين والطير والوحوش والرياح، فمن أين أنت؟ قال أنا من هذه البلاد، قال ومن ملكها؟ قال امرأة يقال لها بلقيس، وإن لصاحبكم ملكاً عظيماً ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها ملكت اليمن كله وتحت يدها اثنا عشر ألف قائد تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها، قال أخاف أن يفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء، قال(1/2975)
(7/109)
---
الهدهد اليماني إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة، فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها وغاب إلى وقت العصر، وكان نزول سليمان على غير ماء، قال ابن عباس: وكان الهدهد دليل سليمان على الماء، وكان يعرف الماء ويرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاجة ويعرف بعده وقربه فينقر الأرض ثم تجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ويستخرجون الماء، قال سعيد بن جبير: لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الأزرق: انظر ما تقول: إن الصبيّ منا يصنع الفخ ويحثوا عليه التراب فيجيء الهدهد ولا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه؟ فقال له ابن عباس ويحك إن القدر إذا جاء حال بين البصر، وفي رواية إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمي البصر، قال القائل:
*هي المقادير فدعني والقدر ** إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر*
*إذا أراد الله أمراً بامرئ ** وكان ذا عقل وسمع وبصر*
*يعبر الجهل فيعمى قلبه ** وسمعه وعقله ثم البصر*
*حتى إذا أنفذ فيه حكمه ** ردّ عليه عقله ليعتبر*
*لا تقل لما جرى كيف جرى ** كل شيء بقضاء وقدر*
فلما دخل على سليمان وقت الصلاة سأل الإنس والجنّ والشياطين عن الماء فلم يعلموه، فتفقد الهدهد فلم يجده فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فقال أصلح الله الملك ما أدري أين هو، وما أرسلته مكاناً، فغضب سليمان عند ذلك وقال.
{لأعذبنه} أي: بسبب غيبته فيما لم آذن فيه {عذاباً شديداً} أي: مع بقاء روحه ردعاً لأمثاله {أو لأذبحنه} أي: بقطع حلقومه أي: تأديباً لغيره {أو ليأتيني بسلطان مبين} أي: بحجة واضحة.
(7/110)
---(1/2976)
واختلفوا في تعذيبه الذي أوعده به على أقوال: قال البغوي: أظهرها أنّ عذابه أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطاً لا يمتنع من النمل والذباب ولا من هوام الأرض انتهى، وقيل: تعذيبه أن يؤذيه بما لا يحتمله ليعتبر به أبناء جنسه، وقيل: كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمسه، وقيل: أن يطلى بالقطران ويشمس، وقيل: أن يلقى للنمل تأكله، وقيل: إيداعه القفص، وقيل: التفريق بينه وبين ألفه، وقيل: لألزمنه صحبة الأضداد.
قال الزمخشريّ: وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد، وقيل: لألزمنه خدمة أقرانه، ثم دعا العقاب سيد الطير فقال له: عليّ بالهدهد الساعة فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى التزق بالهواء فنظر الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم، فالتفت يميناً وشمالاً فإذا بالهدهد مقبلاً من نحو اليمن، فانقض العقاب نحوه يريده فلما رأى الهدهد ذلك علم أنّ العقاب يقصده بسوء، فناشده فقال بحق الله الذي قواك وأقدرك عليّ إلا ما رحمتني ولم تتعرّض لي بسوء، فولى عنه العقاب وقال له ويلك ثكلتك أمّك إنّ نبيّ الله قد حلف أن يعذبك أو ليذبحنك، قال فما استثنى، قال: بلى، قال أو ليأتيني بسلطان مبين، ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما انتهى إلى العسكر تلقاه النسر والطير فقالوا له ويلك أين غبت في يومك هذا فلقد توعدك نبي الله وأخبروه بما قال، فقال الهدهد وما استثنى نبي الله عليه السلام ؟ قالوا: بلى، قال أو ليأتيني بسلطان مبين، قال فنجوت إذاً، ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان، وكان قاعداً على كرسيه، فقال العقاب قد أتيتك به يا نبيّ الله.
(7/111)
---(1/2977)
{فمكث} أي: الهدهد، وقوله تعالى: {غير بعيد} صفة للمصدر، أي: مكثاً غير بعيد، فلما قرب الهدهد منه رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعاً لسليمان، فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه، وقال له أين كنت؟ لأعذبنك عذاباً شديداً فقال له الهدهد: يا نبيّ الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى، فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه، ثم سأله فقال ما الذي أبطأك عني {فقال أحطت} أي: علماً {بما لم تحط به} أي: أنت مع اتساع علمك وامتداد ملكك، ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوّة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له في علمه، وتنبيهاً له على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه ويكون لطفاً في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء والإحاطة بالشيء علماً أن يعلم من جميع جهاته لا يخفى منه معلوم، قالوا:
وفيه دليل على بطلان قول الروافضة أنّ الإمام لا يخفى عليه شيء ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه، وقيل: الضمير في مكث لسليمان، وقيل: غير بعيد صفة للزمان أي: زماناً غير بعيد، وقرأ عاصم بفتح الكاف، والباقون بضمها، وهما لغتان إلا أنّ الفتح أشهر، {وجئتك} أي: الآن {من سبأ بنبأ} أي: خبر عظيم {يقين} أي: محقق، وقرأ أبو عمرو والبزيّ سبأ بفتح الهمزة من غير تنوين، جعلاه اسماً للقبيلة أو البقعة فمنعاه من الصرف للعلمية والتأنيث، والباقون بالجر والتنوين جعلوه اسماً للحيّ أو المكان، قال البغوي: وجاء في الحديث أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن سبأ فقال: «رجلاً كان له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة» فقال سليمان وما ذاك قال:
(7/112)
---(1/2978)
{إني وجدت امرأة تملكهم} وهي بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان، وكان أبوها ملكاً عظيم الشأن قد ولد له أربعون ملكاً هو آخرهم، وكان يملك أرض اليمن كلها، وكان يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفؤاً لي، وأبى أن يتزوج منهم فزوجوه بامرأة من الجنّ يقال لها ريحانة بنت السكن، فولدت بلقيس ولم يكن له ولد غيرها.
(7/113)
---
قال البغوي: وجاء في الحديث «أنّ أحد أبوي بلقيس كان جنياً فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك، فطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وعصاها آخرون، وملكوا عليهم رجلاً وافترقوا فرقتين كل فرقة استولت على طرف من أرض اليمن، ثم إنّ الرجل الذي ملكوه أساء السير في أهل مملكته حتى كان يمد يده إلى حرم رعيته ويفجر بهنّ، فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه، فلما رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه، فأجابها، وقال: ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا إياسي منك، فقالت لا أرغب عنك أنت كفؤ كريم، فاجمع رجال قومي واخطبني منهم، فجمعهم وخطبها إليهم، فقالوا لا نراها تفعل ذلك، فقال لهم إنها قد ابتدأتني وأنا أحبّ أن تسمعوا قولها، فجاؤها فذكروا لها قالت نعم أحببت الولد فزوجوها منه، فلما زفت إليه خرجت في أناس كثير من حشمها، فلما جاءته أسقته الخمر حتى سكر، ثم جزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها، فلما أصبح الناس رأوا الملك قتيلاً ورأسه منصوب على باب دارها، فعلموا أنّ تلك المناكحة كانت حيلة مكر وخديعة منها، فاجتمعوا إليها وقالوا أنت بهذا الملك أحق من غيرك فملكوها».
(7/114)
---(1/2979)
وعن الحسن عن أبي بكرة قال لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ أهل فارس قد ملكوا عليهم امرأة قال: «لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة» وقوله {وأوتيت} يجوز أن يكون معطوفاً على تملكهم، وجاز عطف الماضي على المضارع لأنّ المضارع بمعناه، أي: ملكتهم، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال من مرفوع تملكهم، وقد معها مضمرة عند من يرى ذلك، وقوله {من كل شيء} عام مخصوص بالعقل لأنها لم تؤت ما أوتيه سليمان، فالمراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدّة {ولها عرش} أي: سرير {عظيم} أي: ضخم لم أجد لأحد مثله طوله ثمانون ذراعاً وعرضه أربعون ذراعاً وارتفاعه ثلاثون ذراعاً، مضروب من الذهب والفضة مكلل بالدرّ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والزمرّد، وقوائمه من الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والزمرّد عليه سبعة أبواب على كل باب بيت مغلق.
فإن قيل: كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ وأيضاً كيف سوى بين عرش بلقيس وعرش الرحمن في الوصف بالعظم؟ أجيب عن الأوّل: بأنه يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان واستعظم لها ذلك العرش، ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء كما يكون لبعض أمراء الأطراف شيء يكون في العظم أبلغ مما لغيره من أبناء جنسه من الملوك، ووصف عرش الرحمن بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض.
فإن قيل: كيف خفي على سليمان تلك المملكة العظيمة مع أنّ الإنس والجنّ كانوا في طاعته فإنه عليه السلام كان ملك الدنيا كلها مع أنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام؟ أجيب: بأنّ الله تعالى أخفى عنه ذلك لمصلحة رآها كماأخفى مكان يوسف على يعقوب، ولما كان الهدهد في خدمة أقرب أهل ذلك الزمان إلى الله تعالى فحصل له من النورانية ما هاله، قال مستأنفاً.
(7/115)
---(1/2980)
{وجدتها وقومها} أي: كلهم على ضلال كبير وذلك أنهم {يسجدون للشمس} مبتدئين ذلك {من دون الله} أي: من أدنى رتبة للملك الأعظم الذي لا مثل له {وزين لهم الشيطان أعمالهم} أي: هذه القبيحة حتى صاروا يظنونها حسنة، ثم تسبب عن ذلك أنه أعماهم عن طريق الحق فلهذا قال {فصدّهم عن السبيل} أي: الذي لا سبيل إلى الله غيره، وهو الذي بعث به أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام، ثم تسبب عن ذلك ضلالهم فلهذا قال {فهم} أي: بحيث {لا يهتدون} أي: لا يوجد لهم هدى بل هم في ضلال صرف وعمى محض.
{ألا يسجدوا لله} أي: أن يسجدوا له، فزيدت لا وأدغم فيها نون أن، كما في قوله تعالى: {لئلا يعلم أهل الكتاب} (الحديد: 29)
والجملة في موضع مفعول يهتدون بإسقاط إلى، هذا إذا قرئ بالتشديد وهي قراءة غير الكسائي، وأمّا الكسائي: فقرأ بتخفيف ألا فألا فيها تنبيه واستفتاح وما بعدها حرف نداء ومناداه محذوف كما حذفه من قال:
*ألايا اسلمى يا دار ميّ عليّ البلى ** ولا زال منهلاً بجرعاتك القطر*
(7/116)
---(1/2981)
ويقف الكسائي على ألا، وعلى يا، وعلى اسجدوا، وإذا ابتدأ اسجدوا ابتدأ بالضم، ثم وصف الله تعالى بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود من الاتصاف بكمال القدرة والعلم حثاً على السجود له وردّاً على من يسجد لغيره سبحانه وتعالى بقوله: {الذي يخرج الخبء} وهو مصدر بمعنى المخبوء من المطر والنبات وغيرهما وخصه بقوله: {في السموات والأرض} لأنّ ذلك منتهى مشاهدتنا فننظر ما يكون فيهما بعد أن لم يكن من سحاب ومطر ونبات وتوابع ذلك من الرعد والبرق وما يشرق من الكواكب ويغرب إلى غير ذلك من الرياح والحرّ والبرد وما لا يحصيه إلا الله تعالى {ويعلم ما تخفون} في قلوبهم {وما تعلنون} بألسنتهم، وقرأ الكسائي وحفص بالتاء الفوقية فيهما، والباقون بالتحتية، فالخطاب ظاهر على قراءة الكسائي لأنّ ما قبله أمرهم بالسجود وخاطبهم به، والغيبة على قراءة الباقين غير ظاهرة لتقدّم الضمائر الغائبة في قوله {أعمالهم } {فصدهم} و{فهم} وأمّا قراءة حفص فتأويلها أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أتم قصة أهل سبأ، ويجوز أن تكون إلتفاتاً على أنه نزل الغائب منزلة الحاضر فخطابه ملتفتاً إليه وقوله:
{الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} أي: الذي هو أوّل الأجرام وأعظمها والمحيط بجملتها، يحتمل أن يكون من كلام الهدهد استدراكاً لما وصف عرش بلقيس بالعظم، وأن يكون من كلام الله تعالى ردّاً عليه في وصفه عرشها بالعظم فبين العظمتين بون عظيم، فإن قيل: من أين للهدهد التهدي إلى معرفة الله ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟.
(7/117)
---(1/2982)
أجيب: بأنه لا يبعد أن يلهمه الله تعالى ذلك كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها، خصوصاً في زمن نبي سخرت له الطيور وعلم منطقها وجعل ذلك معجزة له، وهذه آية سجدة واختلف في محلها، هل هو هذه الآية أو عند قوله قبلها وما يعلنون؟ الجمهور على الأوّل، ولما فرغ الهدهد من كلامه.
{قال} له سليمان {سننظر} أي: نختبر ما قلته {أصدقت} فيه فنعذرك {أم كنت من الكاذبين} أي: معروفاً بالانخراط في سلكهم فإنه لا يجترئ على الكذب عندي إلا من كان غريقاً في الكذب فهو أبلغ من أم كذبت، وأيضاً لمحافظة الفواصل، ثم شرع فيما يختبره به فكتب له كتاباً على الفور في غاية الوجازة قصداً للإسراع في إزالة المنكر على تقدير صدق الهدهد بحسب الاستطاعة، ودل على إسراعه في كتابته بقوله جواباً له.
{اذهب بكتابي هذا} فكأنه كان مهيأ عنده فدفعه إليه وأمره بالإسراع، فطار كأنه البرق ولهذا أشار بالفاء في قوله: {فألقه إليهم} أي: الذين ذكرت أنهم يعبدون الشمس وذلك للاهتمام بأمر الدين، وقرأ أبو عمرو وشعبة وخلاد بخلاف عنه فألقه بسكون الهاء، واختلس الكسرة قالون وهشام بخلاف عنه، والباقون بإشباع الكسرة. {ثم} قال له إذا ألقيته إليهم {تولّ} أي: تنحّ {عنهم} إلى مكان تسمع فيه كلامهم ولا يصلون معه إليك {فانظر ماذا يرجعون} أي: يردّون من الجواب، وقال ابن زيد في الآية تقديم وتأخير، مجازها اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون، ثم توّل عنهم أي: انصرف إليّ، فأخذ الهدهد الكتاب وأتى إلى بلقيس وكانت بأرض يقال لها مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام.
(7/118)
---(1/2983)
قال قتادة: فوافاها في قصرها وقد غلقت الأبواب وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها، فأتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها فألقى الكتاب على نحرها، وقيل نقرها فانتبهت فزعة، وقال مقاتل: حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على رأس المرأة وحولها القادة والجنود فرفرف ساعة، والناس ينظرون إليه حتى رفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها، وقال وهب بن منبه وابن زيد: كانت لها كوة مستقبلة الشمس تقع الشمس فيها حين تطلع فإذا نظرت إليها سجدت لها، فجاء الهدهد إلى الكوّة فسدها بجناحه فارتفعت الشمس ولم تعلم بها، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر إليها، فرمى بالصحيفة إليها فأخذت بلقيس الكتاب وكانت قارئة فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت لأنّ ملك سليمان كان في خاتمه وعرفت أنّ الذي أرسل الكتاب أعظم ملكاً منها، وقرأت الكتاب وتأخر الهدهد فجاءت حتى قعدت على سرير ملكها وجمعت الملأ من قومها وهم اثنا عشر ألف قائد مع كل قائد ألف مقاتل، وعن ابن عباس قال: كان مع بلقيس مائة ألف، قيل مع كل قيل مائة ألف، والقيل: الملك دون الملك الأعظم، وقال قتادة ومقاتل: كان أهل مشورتها ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً كل رجل منهم على عشرة آلاف، فلما جاؤوا أخذوا مجالسهم.
(7/119)
---(1/2984)
{قالت} لهم بلقيس {يا أيها الملأ} وهم أشراف الناس وكبراؤهم {إني ألقي إليّ} أي: بإلقاء ملق على وجه غريب {كتاب} أي: صحيفة مكتوب فيها كلام وخبر جامع، قال الزمخشريّ: وكانت كتب الأنبياء جملاً لا يطنبون ولا يكثرون، ولما حوى هذا الكتاب من الشرف أمراً باهراً لم يعهد مثله وصفته بقولها {كريم} وقال عطاء والضحاك: سمته كريماً لأنه كان مختوماً روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كرامة الكتاب ختمه»، «وكان عليه السلام يكتب إلى العجم فقيل له إنهم لا يقبلون إلا كتاباً عليه خاتم فاصطنع له خاتماً»، وعن ابن المقنع: من كتب إلى أخيه كتاباً ولم يختمه فقد استخف به، وقال مقاتل: كريم أي: حسن، وعن ابن عباس: أي: شريف لشرف صاحبه، وقيل: سمته كريماً لأنه كان مصدراً ب{بسم الله الرحمن الرحيم}، ثم بينت ممن الكتاب فقالت.
{إنه من سليمان} ثم بينت المكتوب فيه فقالت {وإنه بسم الله الرحمن الرحيم}.
(7/120)
---(1/2985)
{ألا تعلو عليّ} قال ابن عباس: لا تتكبروا عليّ، وقيل لا تتعظموا ولا تترفعوا عليّ، أي: لا تمتنعوا عن الإجابة فإن ترك الإجابة من العلو والتكبر {وائتوني مسلمين} أي: منقادين خاضعين فهو من الاستسلام، أو مؤمنين فهو من الإسلام، فإن قيل: لم قدم سليمان اسمه على البسملة؟ أجيب: بأنه لم يقع منه ذلك بل ابتدأ الكتاب بالبسملة وإنما كتب اسمه عنواناً بعد ختمه لأنّ بلقيس إنماعرفت كونه من سليمان بقراءة عنوانه كما هو المعهود، ولذلك قالت: {إنه بسم الله الرحمن الرحيم} أي: إنّ الكتاب، فالتقديم واقع في حكاية الحال، واعلم أن قوله: {بسم الله الرحمن الرحيم} مشتمل على إثبات الصانع وإثبات كونه عالماً قادراً حياً مريداً حكيماً رحيماً قال الطيبي: وقال القاضي: هذا كلام في غاية الوجازة مع إثبات كمال الصانع وإثبات كمال الدلالة على المقصود لاشتماله على البسملة الدالة على ذات الإله وصفاته صريحاً أو التزاماً، والنهي عن الترفع الذي هو أمّ الرذائل، والأمر بالإسلام الذي هو جامع لأمّهات الفضائل، ولما سكتوا عن الجواب.
{قالت} لهم {يا أيها الملأ} ثم بينت ما داخلها من الرعب من صاحب هذا الكتاب بقولها{أفتوني} أي: تكرّموا عليّ بالإنابة عما أفعله {في أمري} هذا الذي أجيب به هذا الكتاب جعلت الشورى فتوى توسعاً، لأنّ الفتوى الجواب في الحادثة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة واواً، والباقون بتحقيقها وفي الابتداء الجميع بالتحقيق.
ثم عللت أمرها لهم بقولها {ما كنت قاطعة أمراً} أي: فاعلته وفاصلته غير متردّدة فيه {حتى تشهدون} أفادت بذلك أن شأنها دائماً مشاورتهم في كل جليل وحقير فكيف بهذا الأمر الخطير، وفي ذلك استعطافهم بتعظيمهم وإجلالهم وتكريمهم ودلالة على غزارة عقلها وحسن أدبها، ثم إنهم أجابوها عن ذلك بأن.
(7/121)
---(1/2986)
{قالوا} مائلين إلى الحرب {نحن أولو قوّة} أي: بالمال والرجال {وأولو} أي: أصحاب {بأس} عزم في الحرب {شديد والأمر} أي: في كل من المصادمة والمسالمة راجع وموكول {إليك فانظري} أي: بسبب أنه لا نزاع معك {ماذا تأمرين} فإنا نطيعك ونتبع أمرك، ولما علمت أن من سخر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده.
{قالت} جواباً لما أحست في جوابهم من ميلهم إلى الحرب والحرب سجال لا يدري عاقبتها {إن الملوك} أي: مطلقاً فكيف بهذا النافذ الأمر، العظيم القدر {إذا دخلوا} عنوة بالقهر {قرية أفسدوها} أي: بالنهب والتخريب {وجعلوا أعزة أهلها أذلة} أي: أهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر، ثم أكدت هذا المعنى بقولها {وكذلك} أي: ومثل هذا الفعل العظيم الشأن {يفعلون} أي: هو خلق لهم مستمرّ في جميعهم فكيف بمن تطيعه الوحوش والطيور وغيرهما.
تنبيه: هذه الجملة من كلامها وهو كما قال ابن عادل الظاهر، ولهذا جبلت عليه فتكون منصوبة بالقول، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى تصديقاً لها فهي استئنافية لا محل لها من الإعراب، وهي معترضة بين قولها. ولما بينت ما في المصادمة من الخطر أتبعته بما عزمت عليه من المسالمة بقولها.
(7/122)
---(1/2987)
{وإني مرسلة إليهم} أي: إلى سليمان وقومه {بهدية} وهي العطية على طريق الملاطفة، وذلك أن بلقيس كانت امرأة كيسة قد سيست وساست فقالت للملأ من قومها إني مرسلة إلى سليمان وقومه بهدية أصانعه بها عن ملكي فاختبره بها أملك هو أم نبي؟ فإن يكن ملكاً قبل الهدية وانصرف، وإن يكن نبياً لم يقبل الهدية ولم يرضها منا إلا أن نتبعه على دينه، فذلك قولها {فناظرة بم} أي: أيّ شيء {يرجع المرسلون} فأهدت إليه وصفاً ووصائف، قال ابن عباس: ألبستهم لباساً واحداً كي لا يعرف ذكراً من أنثى، وقال مجاهد ألبست الجواري لباس الغلمان وألبست الغلمان لباس الجواري، واختلف في عددهم: فقال ابن عباس: مائة وصيف ومائة وصيفة، وقال مجاهد ومقاتل: مائة غلام ومائتا جارية، وقال قتادة: أرسلت إليه بلبنات من ذهب في حرير وديباج، وقال ثابت البناني: أهدت إليه صفائح الذهب في أوعية الديباج، وقيل: كانت أربع لبنات من ذهب، وقال وهب وغيره: عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية فألبست الجواري لباس الغلمان الأقبية والمناطق وألبست الغلمان لباس الجواري وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب وفي أعناقهم أطواقاً من ذهب وفي آذانهم أقراطاً وشنوفاً مرصعات بأنواع الجواهر وغواشيها من الديباج الملونة وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة من فضة وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت المرتفع وأرسلت المسك والعنبر وعمدت إلى حقة فجعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة، وجذعة لعلها مثقوبة معوّجة الثقب ودعت رجلاً من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو وضمت إليه رجالاً من قومها أصحاب رأي وعقل، وكتبت معهم كتاباً بنسخة الهدية.
(7/123)
---(1/2988)
وقالت: إن كنت نبياً فميز بين الوصف والوصائف، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها، واثقب الدرة ثقباً مستوياً، وأدخل خيطاً في الخرزة المثقوبة من غير علاج إنس ولا جنّ، وأمرت بلقيس الغلمان: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثم قالت للرجل انظر إلى الرجل إذا دخلت عليه فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره فأنا أعز منه، وإن رأيت الرجل بشاشاً لطيفاً فاعلم أنه نبيّ مرسل، فتفهم قوله ورد الجواب.
فانطلق الرسول بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعاً إلى سليمان فأخبره الخبر كله فأمر سليمان عليه السلام الجنّ أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة ففعلوا، ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ ميداناً واحداً بلبنات الذهب والفضة وأن يجعلوا حول الميادين حائطاً شرفها من الذهب والفضة ففعلوا، ثم قال أيّ الدواب أحسن مما رأيتم في البر والبحر قالوا يا نبيّ الله إنا رأينا دوابّ في مجر كذا وكذا منقطة مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص، قال عليّ بها الساعة، فأتوابها فقال شدّوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة وألقوا لها علوفتها فيها، ثم قال للجنّ عليّ بأولادكم فاجتمع خلق كثير فأقامهم عن يمين الميدان ويساره، ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره ووضع له أربعة آلاف كرسي على يمينه ومثلها على يساره وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفاً فراسخ وأمر الإنس فاصطفوا صفوفاً فراسخ وأمر الوحوش والسباع والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه ويساره.
(7/124)
---(1/2989)
فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم مثلها تروث على لبن الذهب والفضة تقاصرت أنفسهم ورموا ما معهم من الهدايا، وفي بعض الروايات أن سليمان لما أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعاً على قدر موضع اللبنات التي معهم فلما رأى الرسل موضع اللبنات خالياً وكل الأرض مفروشة خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك الموضع الخالي فلما رأوا الشياطين نظروا إلى منظر عجيب ففزعوا، فقالت لهم الشياطين جوزوا فلا بأس عليكم، فكانوا يمرّون على كردوس من الجنّ والإنس والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم سليمان نظراً حسناً بوجه طلق وقال: ما وراءكم؟ فأخبره رئيس القوم بما جاءوا له وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه وقال أين الحقة؟ فأتى بها فحركها وجاء جبريل عليه السلام فأخبره بما في الحقة فقال: إنّ فيها درة ثمينة غير مثقوبة وجزعة مثقوبة معوّجة الثقب، فقال الرسول صدقت فاثقب الدرّة وأدخل الخيط في الخرزة، فقال سليمان عليه السلام من لي بثقبها فسأل سليمان الإنس ثم الجنّ فلم يكن عندهم علم بذلك ثم سأل الشياطين فقالوا أرسل إلى الأرضة فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال لها سليمان سلي حاجتك قالت تصير رزقي في الشجرة فقال لك ذلك، وروي أنها جاءت دودة تكون في الصفصاف فقالت أنا أدخل الخيط في الثقب على أن يكون رزقي في الصفصاف فجعل لها ذلك، فأخذت الخيط بفيها ودخلت الثقب وخرجت من الجانب الآخر، ثم قال من لهذه الخرزة بسلكها بالخيط فقالت دودة بيضاء أنا لها يا رسول الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر فقال لها سليمان سلي حاجتك قالت: تجعل رزقي في الفواكه قال لك ذلك، ثم ميز بين الجواري والغلمان بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء من الآنية(1/2990)
(7/125)
---
بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به الوجه، والغلام يأخذ من الآنية بيديه ويضرب بهما وجهه وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعدها، والغلام على ظاهر الساعد وكانت الجارية تصبّ الماء صباً، وكان الغلام يحدر الماء على ساعده حدراً، فميز بينهم بذلك، ثم ردّ سليمان الهدية كما قال تعالى:
(7/126)
---
{فلما جاء} أي: الرسول الذي بعثته، والمراد به الجنس، قال أبو حيان وهو يقع على الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث {سليمان} ورفع إليه ذلك {قال} أي: سليمان عليه السلام للرّسول ولمن في خدمته استصغاراً لما معه {أتمدّونني} أي: أنت ومن معك ومن أرسلك {بمال} وإنما قصدي لكم لأجل الدين تحقيراً لأمر الدنيا وإعلاماً بأنه لا التفات له نحوها بوجه ولا يرضيه شيء دون طاعة الله تعالى، وقرأ نافع وأبو عمرو: بإثبات الياء وصلاً لا وقفاً، وابن كثير: بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، وحمزة بإدغام النون الأولى في الثانية وإثبات الياء وصلاً ووقفاً، ثم تسبب عن ذلك قوله استصغاراً لما معهم {فما آتاني الله} أي: الملك الأعظم من الحكمة والنبوّة والملك، وهو الذي يغني مطيعه عن كل شيء سواه فمهما سأله أعطاه، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص: بفتح الياء في الوصل، ولقالون وأبي عمرو وحفص أيضاً إثباتها وقفاً، والباقون بحذف الياء وقفاً ووصلاً، وأمالها حمزة والكسائي محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين {خير} أي: أفضل {مما آتاكم} أي: من الملك الذي لا دين ولا نبوّة فيه {بل أنتم} أي: بجهلكم بالدين {بهديتكم} أي: بإهداء بعضكم إلى بعض {تفرحون} وأمّا أنا فلا أفرح بها وليست الدنيا من حاجتي لأنّ الله تعالى قد مكنني فيها وأعطاني منها ما لم يعط أحداً، ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوّة، ثم قال للمنذر بن عمرو أمير الوفد.(1/2991)
{ارجع} أي: بهديتهم وجمع في قوله {إليهم} إكراماً لنفسه وصيانة لاسمها عن التصريح بضميرها وتعظيماً لكل من يهتم بأمرها ويطيعها {فلنأتينهم بجنود لا قبل} أي: لا طاقة {لهم بها} أي: بمقابلتها {ولنخرجنهم منها} أي: من أرضهم وبلادهم وهي سبأ {أذلة وهم صاغرون} أي: ذليلون لا يملكون شيئاً من المنعة.
(7/127)
---
فإن قيل: فلنأتينهم ولنخرجنهم قسم فلا بدّ أن يقع؟ أجيب: بأنه معلق على شرط محذوف لفهم المعنى، أي: إن لم يأتونى مسلمين، قال وهب وغيره من أهل الكتب، لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان قالت لهم قد عرفت والله ما هذا بملك وما لنا به من طاقة فبعثت إلى سليمان أني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعلته داخل سبعة أبواب داخل قصرها وقصرها داخل سبعة قصور وأغلقت الأبواب وجعلت عليها حرّاساً يحفظونه، ثم قالت لمن خلفت على سلطانها احتفظ بما وكلتك وبسرير ملكي لا يخلص إليه أحد حتى آتيك، ثم أمرت منادياً ينادي في أهل مملكتها تؤذنهم بالرحيل وتجهزت للمسير فارتحلت في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن تحت يد كل قيل ألوف كثيرة.
قال ابن عباس: كان سليمان رجلاً مهيباً لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه، فخرج يوماً فجلس على سرير ملكه فرأى رهجاً قريباً منه، فقال ما هذا؟ قالوا بلقيس وقد نزلت منا على مسيرة فرسخ، فأقبل سليمان حينئذ على جنوده بأن.(1/2992)
{قال} لهم {يا أيها الملأ} أي: الأشراف {أيكم} وفي الهمزتين ما تقدم {يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين} أي: مؤمنين، وقال ابن عباس: واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر سليمان بإحضار عرشها فقال أكثرهم: لأنّ سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها، وقيل: ليريها قدرة الله تعالى ببعض ما خصه به من العجائب الدالة على عظيم القدرة وصدقه في دعوى النبوّة في معجزة يأتي بها في عرشها، وقال قتادة: لأنه أعجبته صفته لما وصفه الهدهد بالعظم فأحبّ أن يراه، وقال ابن زيد: يريد أن يأمر بتنكيره وتغييره فيختبر بذلك عقلها.
(7/128)
---
{قال عفريت من الجن} وهو المارد القوي، قال وهب: اسمه كودي، وقيل: ذكوان، وقال ابن عباس العفريت الداهي، وقال الضحاك: هو الخبيث، وقال الربيع: الغليظ، وقال الفراء: القويّ الشديد، قيل: إنّ الشياطين أقوى من الجنّ وأنّ المردة أقوى من الشياطين وأنّ العفريت أقوى منهما، قال بعض المفسرين العفريت من الرجال الخبيث المتكبر، وقيل: هو صخر الجني وكان بمنزلة جبل يضع قدمه عند منتهى طرفه، وقوله تعالى {أنا آتيك به} قرأه في الموضعين نافع بإثبات الألف من أنا وصلاً ووقفاً، والباقون وصلاً لا وقفاً، ثم بيّن سرعة إسراعه بقوله {قبل أن تقوم من مقامك} أي: الذي تجلس فيه للقضاء، قال ابن عباس: كان له غداة كل يوم مجلس يقضي فيه إلى نصف النهار، ثم أوثق الأمر وأكده بقوله {وإني عليه} أي: على الإتيان به سالماً {لقويّ} أي: على حمله لا يحصل عجزي عنه {أمين} أي: على ما فيه من الجواهر وغيرها، قال سليمان عليه السلام أريد أسرع من ذلك.(1/2993)
{قال الذي عنده علم من الكتاب} المنزل وهو علم الوحي والشرائع، وقيل: كتاب سليمان، وقيل: اللوح المحفوظ، والذي عنده علم من الكتاب جبريل، قال البقاعي ولعله التوراة والزبور انتهى، وفي ذلك إشارة إلى أنّ من خدم كتاب الله حق الخدمة كان الله تعالى معه، كما ورد في شرعنا «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويديه التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها»، أي: أنه يفعل له ما يشاء.
(7/129)
---
واختلفوا في تعيينه: فقال أكثر المفسرين: هو آصف بن برخيا كاتب سليمان، وقيل اسمه أسطوم وكان صديقاً عالماً يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى، وقيل ملك أيد الله تعالى به سليمان عليه السلام ، وعن ابن لهيعة بلغني أنه الخضر عليه السلام {أنا آتيك به} ثم بين فضله على العفريت بقوله {قبل أن يرتدّ} أي: يرجع {إليك طرفك} أي: بصرك إذا طرفت أجفانك فأرسلته إلى منتهاه، ثم رددته فالطرف: تحريكك أجفانك إذا نظرت فوضع في موضع النظر، ولما كان الناظر موصوفاً بإرسال الطرف في نحو قوله:
*وكنت إذا أرسلت طرفك رائداً ** لقلبك يوماً أتعبتك المناظر*(1/2994)
وصف برد الطرف ووصف الطرف بالارتداد، روي أن آصف قال لسليمان مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك، فمدّ سليمان عينيه فنظر نحو اليمين ودعا آصف فبعث الله تعالى الملائكة فحملوا السرير من تحت الأرض يجدّون جداً حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان، وقال الكلبي: خرّ آصف ساجداً ودعا باسم الله الأعظم فغار عرشها تحت الأرض حتى نبع تحت كرسي سليمان بقدرة الله تعالى، وقيل: كانت المسافة شهرين، وقال سعيد بن جبير: يعني من قبل أن يرجع إليك أقصى من ترى وهو أن يصل إليك من كان منك على مدّ بصرك، وقال قتادة: قبل أن يأتيك الشخص من مدّ البصر، وقال مجاهد: يعني: إدامة النظر حتى يرد البصر خاسئاً، قال الزمخشري: ويجوز أن يكون هذا مثلاً لاستقصار مدّة المجيء به، كما تقول لصاحبك افعل ذلك في لحظة وفي ردّ طرف والتفت ترني وما أشبه ذلك تريد السرعة انتهى.
(7/130)
---
واختلفوا في الدعاء الذي دعا به آصف: فقال مجاهد ومقاتل: بياذا الجلال والإكرام، وقال الكلبي: يا حيّ يا قيوم، وروي ذلك عن عائشة رضي الله عنها، وروي عن الزهريّ قال دعاء الذي عنده علم من الكتاب يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت ائتني بعرشها، وعن الحسن يا الله يا رحمن، وقال محمد بن المنكدر إنما هو سليمان قال له عالم من بني إسرائيل آتاه الله تعالى علماً وفهماً أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك قال سليمان هات قال أنت النبيّ ابن النبيّ وليس أحد أوجه عند الله منك فإن دعوت الله كان عندك فقال صدقت ففعل ذلك فجيء بالعرش في الوقت.(1/2995)
قال الرازي وهذا القول أقرب واستدل لذلك بوجوه منها: أنّ سليمان كان أعرف بالكتاب من غيره لأنه هو النبي فكان صرف اللفظ إليه أولى، ومنها: أنّ إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لآصف دون سليمان لاقتضى ذلك قصور حال سليمان في أعين الخلق، ومنها: أنه قال هذا من فضل ربي فظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى بدعاء سليمان.
{فلما رآه} أي: رأى سليمان العرش {مستقرّاً عنده} أي: حاصلاً بين يديه {قال} شاكراً لربه لما آتاه الله تعالى من هذه الخوارق {هذا} أي: الإتيان المحقق {من فضل ربي} أي: المحسن إليّ لا بعمل أستحق به شيئاً فإنه أحسن إليّ بإخراجي من العدم ونظر إليّ بتوفيقي للعمل فكل عمل نعمة يستوجب عليّ بها الشكر، ولذلك قال {ليبلوني} أي: ليختبرني {أأشكر} فاعترف بكونه فضلاً {أم أكفر} بظني أني أوتيته باستحقاق.
(7/131)
---
تنبيه: ههنا همزتان مفتوحتان فنافع يسهل الهمزة الثانية، وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام، ولم يدخل ورش وابن كثير، ولورش أيضاً إبدالها ألفا، والباقون بالتحقيق وعدم الإدخال، ثم زاد في حث نفسه على الشكر بقوله {ومن شكر} أي: أوقع الشكر لربه {فإنما يشكر لنفسه} فإن نفعه لها وهو أن يستوجب تمام النعمة ودوامها لأنّ الشكر قيد للنعمة الموجودة وجلب للنعمة المفقودة {ومن كفر} أي: بالنعمة {فإنّ ربي} أي: المحسن إليّ بتوفيقي لما أنا فيه من الشكر {غني} عن شكره لا يضرّه تركه شيئاً {كريم} أي: بإدرار الإنعام عليه فلا يقطعه عنه بسبب عدم شكره، ولما حصل العرش عنده.(1/2996)
{قال} عليه السلام {نكروا} أي: غيروا {لها عرشها} أي: سريرها إلى حالة تنكره إذا رأته، قال قتادة ومقاتل: هو أن يزاد فيه وينقص، وروي أنه جعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه وجعل مكان الجوهر الأحمر أخضر ومكان الأخضر أحمر اختباراً لعقلها، كما اختبرتنا بالوصفاء والوصائف والدرة وغير ذلك.
وإليه أشار بقوله {ننظر أتهتدي} أي: إلى معرفته فيكون ذلك سبباً لهدايتها في الدين {أم تكون من الذين} شأنهم أنهم {لا يهتدون} بل هم في غاية الغباوة ولا يتجدّد لهم اهتداء، وقال وهب ومحمد بن كعب: إنما حمل سليمان على ذلك، أنّ الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي له أسرار الجنّ لأنّ أمها كانت جنية وإذا ولدت له ولداً لا ينفكون عن تسخير سليمان وذرّيته من بعده، فأساؤوا الثناء عليها ليزهدوه فيها، فقالوا: إنّ في عقلها شيئاً وإنّ رجليها كحافر الحمار وأنها شعراء الساقين، فأراد سليمان عليه الصلاة والسلام أن يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر إلى قدميها ببناء الصرح، ثم أشار إلى سرعة مجيئها إشارة إلى خضوعها بالتعبير بالفاء في قوله.
(7/132)
---
{فلما جاءت} وكانت قد وضعت عرشها في بيت خلف سبعة أبواب ووكلت به حراساً أشدّاء {قيل} لها وقد رأت عرشها بعد تنكيره {أهكذا عرشك} أي: مثل هذا عرشك {قالت كأنه هو} قال مقاتل: عرفته ولكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها، وقال عكرمة: كانت حكيمة لم تقل نعم خوفاً من أن تكذب ولم تقل لا خوفاً من التكذيب فقالت كأنه هو فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقر ولم تنكر، وقيل: اشتبه عليها أمر العرش لأنها خلفته في بيت خلف سبعة أبواب مغلقة والمفاتيح معها فقيل لها فإنه عرشك فما أغنى عنك إغلاق الأبواب.(1/2997)
وقوله تعالى: {وأوتينا العلم من قبلها} فيه وجهان: أحدهما: أنه من كلام بلقيس فالضمير في قبلها راجع للمعجزة والحالة الدال عليها السياق، والمعنى: وأوتينا العلم بنبوّة سليمان من قبل ظهور هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة، وذلك لما رأت قبل ذلك من أمر الهدهد ورد الهدية والرسل من قبلها من قبل الآية في العرش {وكنا مسلمين} أي: منقادين طائعين لأمر سليمان، والثاني: أنه من كلام سليمان وأتباعه فالضمير في قبلها عائد على بلقيس فكان سليمان وقومه قالوا: إنها قد أصابت في جوابها وهي عاقلة وقد رزقت الإسلام، ثم عطفوا على ذلك قولهم {وأوتينا العلم} يعني بالله تعالى وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة في مثل علمها وغرضهم من ذلك شكراً لله تعالى في أن خصهم بمزيد التقديم في الإسلام قاله مجاهد، وقيل: معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين طائعين لله تعالى، واختلف في فاعل قوله عز وجل.
(7/133)
---
{وصدّها ما كانت تعبد من دون الله} على ثلاثة أوجه: أحدها: ضمير البارئ تعالى، الثاني ضمير سليمان عليه السلام ، أي: منعها ما كانت تعبد من دون الله وهو الشمس، وعلى هذا فما كانت تعبد منصوب على إسقاط الخافض، أي: وصدّها الله تعالى أو سليمان عما كانت تعبد من دون الله قاله الزمخشريّ مجوزاً له، قال أبو حيان وفيه نظر من حيث إنّ حذف الجار ضرورة كقوله:
*تمرّون الديار فلم تعوجوا*
وقد تقدم آيات كثيرة من هذا النوع، والثالث: أنّ الفاعل هو ما كانت أي: صدّها ما كانت تعبد عن الإسلام أي: صدّها عبادة الشمس عن التوحيد وقوله تعالى: {إنها كانت من قوم كافرين} استئناف أخبر الله تعالى أنها كانت من قوم يعبدون الشمس، فنشأت بينهم ولم تعرف العبادة ولم تعرف إلا عبادة الشمس، ولما تم ذلك فكأنه قيل: هل كان بعد ذلك اختبار فقيل نعم.(1/2998)
{قيل لها} أي: قائل من جنود سليمان عليه السلام فلم يمكنها المخالفة {ادخلي الصرح} وهو سطح من زجاج أبيض شفاف تحته ماء جار فيه سمك اصطنعه سليمان، ولما قالت له الشياطين إنّ رجليها كحافر الحمار وهي شعراء الساقين، فأراد أن ينظر إلى ساقيها من غير أن يسألها كشفهما، وقيل الصرح صحن الدار أجرى تحته الماء وألقى فيه كل شيء من دواب البحر السمك والضفادع وغيرهما ثم وضع سريره في صدره وجلس عليه وعكف عليه الطير والجنّ والأنس، وقيل: اتخذ صحناً من قوارير وجعل تحتها تماثيل من الحيتان والضفادع فكان الواحد إذا رآه ظنه ماء {فلما رأته حسبته لجة} وهي معظم الماء {وكشفت عن ساقيها} لتخوضه فنظر إليها سليمان فرآها أحسن الناس ساقاً وقدماً إلا أنها كانت شعراء الساقين فلما رأى سليمان ذلك صرف نظره عنها، وناداها بأن.
(7/134)
---
{قال} لها {إنه} أي: هذا الذي ظننته ماء {صرح ممرد} أي: مملس ومنه الأمرد لملاسة وجهه من الشعر {من} أي: كائن من {قوارير} أي: زجاج وليس بماء، ثم إنّ سليمان دعاها إلى الإسلام وكانت قد رأت حال العرش والصرح فأجابت بأن {قالت رب} أي: أيها المحسن إليّ {إني ظلمت نفسي} أي: بما كنت فيه من العمى بعبادة غيرك عن عبادتك {وأسلمت مع سليمان لله} أي: مقرّة له بالألوهية والربوبية على سبيل الوحدانية، ثم رجعت إشارة للعجز عن معرفة الذات حق المعرفة إلى الأفعال التي هي بحر المعرفة فقالت {رب العالمين} فعممت بعد أن خصت إشارة إلى الترقي من حضيض دركات العمى إلى أوج درجات الهدى، وقيل: إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة قالت في نفسها إنّ سليمان يريد أن يغرقني وكان القتل أهون من هذا، فقولها ظلمت نفسي أي: بذلك الظنّ.
(7/135)
---(1/2999)
واختلفوا في أمرها بعد إسلامها هل تزّوجها سليمان عليه السلام ؟ فالذي عليه أكثر المفسرين فيما رأيت أنه تزوّج بها وكره ما رأى من شعر ساقيها فسأل الإنس ما يذهب هذا فقالوا الموس فقالت المرأة لا تمسني حديدة قط، فسأل الجنّ فقالوا لا ندري، فسأل الشياطين فقالوا إنا نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء فاتخذوا النورة والحمام فكانت النورة والحمامات من يومئذ، فلما تزوّجها سليمان أحبها حباً شديداً وأقرّها على ملكها وأمر الجنّ فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها وارتفاعاً وحسناً، قال الطيبي سلحين ومؤمنة باليمن وغمدان قال في النهاية هم بضم الغين وسكون الميم البناء العظيم، وكان يزورها في الشهر مرّة ويقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له وقيل: إنها لما أسلمت قال لها سليمان اختاري رجلاً من قومك أن أزوجك له قالت ومثلي يا نبيّ الله ينكح الرجال وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان، قال نعم إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك، ولا ينبغي لك أن تحرّمي ما أحل الله، فقالت إن كان ولا بدّ فزوّجني ذا تبع ملك همدان فزوّجه بها ثم ردّها إلى اليمن وسلطن زوجها ذا تبع على اليمن وأمر زوبعة أمير جنّ اليمن أن يطيعه فبنى له المصانع ولم يزل أميراً حتى مات سليمان عليه السلام ، فلما أن حال الحول وتبينت الجنّ موت سليمان أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته يا معشر الجنّ إنّ الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرّقوا وانقضى ملك ذي تبع وملك بلقيس مع ملك سليمان، وقيل: إنّ الملك وصل إلى سليمان وهو ابن ثلاثة عشر سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة فسبحان من يدوم ملكه وبقاؤه.
ولما أتم سبحانه وتعالى قصة سليمان وداود عليهما السلام ذكر قصة صالح عليه السلام وهي القصة الثالثة بقوله تعالى:
(7/136)
---(1/3000)
{ولقد أرسلنا} أي: بمالنا من العظمة {إلى ثمود أخاهم} أي: من القبيلة {صالحاً} ثم ذكر المقصود من الرسالة بما لا أعدل منه ولا أحسن بقوله: {أن اعبدوا الله} أي: الملك الأعظم وحده ولا تشركوا به شيئاً، ثم تعجب منهم بما أشارت إليه الفاء وإذا المفاجأة من المبادرة إلى الافتراق بما يدعو إلى الاجتماع بقوله: {فإذا هم} أي: ثمود {فريقان} وبين بقوله تعالى: {يختصمون} أنهم فرقة افتراق بكفر وإيمان لا فرقة اجتماع في هدى وعرفان، ففريق صدق صالحاً واتبعه وفريق استمرّ على شركه وكذبه وكل فريق يقول أنا على الحق وخصمي على الباطل، ثم استعطف صالح عليه السلام على المكذبين بأن.
{قال} لهم {يا قوم لم تستعجلون} أي: تطلبون العجلة بالإتيان {بالسيئة} أي: التي مساءتها ثابتة وهي العقوبة التي أنذرت بها من كفر {قبل} الحالة {الحسنة} من الخيرات التي أبشركم بها في الدنيا والآخرة إن آمنتم، والاستعجال: طلب الإتيان بالأمر قبل الوقت المضروب، واستعجالهم لذلك بالإصرار على سببه وقولهم استهزاءً {ائتنا بما تعدنا} وكانوا يقولون إنّ العقوبة التي بعدها صالح إن وقعت على زعمه تبنا حينئذ واستغفرنا، فحينئذ يقبل الله تعالى توبتنا ويدفع العذاب عنا، فخاطبهم صالح عليه السلام على حسب عقولهم واعتقادهم فقال.
{لولا} أي: هلا ولم لا {تستغفرون الله} أي: تطلبون غفرانه قبل نزول العذاب، فإنّ استعجال الخير أولى من استعجال الشرّ {لعلكم ترحمون} تنبيهاً لهم على الخطأ فيما قالوه فإنّ العذاب إذا نزل بهم لا تقبل توبتهم.
تنبيه: وصف العذاب بأنه سيئة مجازاً إمّا لأن العقاب من لوازمه أو لأنه يشبهه في كونه مكروهاً، وأمّا وصف الرحمة بأنها حسنة فقيل حقيقة وقيل مجاز، ثم إنّ صالحاً عليه السلام لما قرّر لهم هذا الكلام الحق أجابوه بكلام فاسد بأن.
(7/138)
---(1/3001)
{قالوا} فظاظة وغلظة {اطيرنا} أي: تشاءمنا {بك وبمن معك} أي: وبمن آمن بك، وذلك أن الله تعالى قد أمسك عنهم المطر في ذلك الوقت وقحطوا، فقالوا حل بنا هذا الضرر والشدّة من شؤمك وشؤم أصحابك، قال الزمخشري: كان الرجل يخرج مسافراً فيمرّ بطائر فيزجره فإن مرّ سانحاً تيمن وإن مرّ بارحاً تشائم، قال الجوهريّ: السنيح والسانح ما ولاك ميامنه من ظبي أو طائر وغيرهما وبرح الظبي بروحاً إذا ولاك مياسره يمرّ من ميامنك إلى مياسرك والعرب تتطير بالبارح وتتفائل بالسانح، فلما نسبوا الخير والشرّ إلى الطائر استعير لما كان سببهما من قدر الله تعالى وقسمته تنبيه: أصل اطيرنا تطيرنا أدغمت التاء في الطاء واجتلبت همزة وصل.
ثم أجابهم صالح عليه السلام بأن {قال} لهم {طائركم} أي: ما يصيبكم من خير وشرّ {عند الله} أي: الملك الأعظم المحيط بكل شيء علماً وقدرة وهو قضاؤه وقدره وليس شيء منه بيد غيره، وسمي طائراً لسرعة نزوله بالإنسان، فإنه لا شيء أسرع من قضاء محتوم، وقال ابن عباس: الشؤم أتاكم من عند الله تعالى بكفركم، وقيل: طائركم عملكم عند الله سمي طائراً لسرعة صعوده إلى السماء، ومنه قوله تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} (الإسراء: 13)
{بل أنتم قوم تفتنون} قال ابن عباس: تختبرون بالخير والشرّ كقوله تعالى: {ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة} (الأنبياء: 35)
وقال محمد بن كعب: تعذبون، وقيل: يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم بالتطير، لما أخبر الله تعالى عن عامة هذا الفريق بالشرّ نبه على بعض شرّهم بقوله تعالى:
{وكان في المدينة} أي: مدينة ثمود وهي الحجر {تسعة رهط} أي: رجال وإنما جاز تمييزاً لتسعة بالرهط لأنه في معنى الجماعة فكأنه قيل تسعة أنفس أو رجال كما قدّرته، والفرق بين الرهط والنفر أنّ الرهط من الثلاثة إلى العشرة أو من السبعة إلى العشرة والنفر من الثلاثة إلى التسعة.
(7/139)
---(1/3002)
وأسماؤهم عن وهب: الهذيل بن عبد رب غنم بن غنم، رياب بن مهرج، مصدع بن مهرج، عمير بن كردبة، عاصم بن مخرمة، سبيط بن صدقة، سمعان بن صفي، قدار بن سالف وهم الذي سعوا في عقر الناقة وكانوا عتاة قوم صالح وكانوا من أبناء أشرافهم ورأسهم قدار بن سالف وهو الذي تولى عقر الناقة، وقوله: {يفسدون في الأرض} إشارة إلى عموم فسادهم ودوامه وقوله: {ولا يصلحون} يحتمل أن يكون مؤكداً للأوّل ويحتمل أن لا يكون وهو الأولى، لأنّ بعض المفسدين قد يندر منه بعض الصلاح فنفى عنهم ذلك فليس شأنهم إلا الفساد المحض الذي لا يخالطه شيء من الصلاح، ولما اقتضى السياق السؤال عن بعض حالهم أجاب بقوله:
{قالوا تقاسموا} أي: قال بعضهم لبعض احلفوا {بالله} أي: الملك العظيم {لنبيتنه} أي: صالحاً {وأهله} أي: من آمن به لنهلكنّ الجميع ليلاً، فإنّ البيات مباغتة العدوّ ليلاً تنبيه: محل تقاسموا جزم على الأمر، ويجوز أن يكون فعلاً ماضياً، وحينئذ يجوز أن يكون مفسراً لقالوا كأنه قيل: ما قالوا: فقيل تقاسموا، ويجوز أن يكون حالاً على إضمار قدر أي: قالوا ذلك متقاسمين وإليه ذهب الزمخشريّ.
{ثم لنقولنّ} أي: بعد إهلاك صالح ومن معه {لوليه} أي: المطالب بدمه إن بقي منهم أحد {ما شهدنا} أي: ما حضرنا {مهلك} أي: إهلاك {أهله} أي: أهل ذلك الولي فضلاً عن أن نكون باشرنا أو أهل صالح عليه السلام فضلاً عن أن نكون شهدنا مهلكه أو باشرنا قتله ولا موضع إهلاكه، وقرأ حمزة والكسائي بعد اللام من لنبيتنه بتاء فوقية مضمومة وبعد الياء التحتية بتاء فوقية مضمومة وبعد اللام من ليقولنّ بتاء فوقية مفتوحة وضمّ اللام بعد الواو، والباقون بعد اللام من لنقولنّ بنون مفتوحة ونصب اللام من لنقولنّ، وقرأ عاصم مهلك بفتح الميم، والباقون بضمها، وكسر اللام حفص، وفتحها الباقون.
(7/140)
---(1/3003)
ولما صمموا على هذا الأمر وظنوا أنفسهم على المبالغة في الحلف بقولهم {وإنا لصادقون} أي: في قولنا ما شهدنا مهلك أهله ذلك، فإن قيل: كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟ أجيب: على التفسير الثاني بأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحاً وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين، ثم قالوا ما شهدنا مهلك أهله فذكروا أحدهما، كانوا صادقين لأنهم فعلوا البياتين جميعاً لا أحدهما، وفي هذا دليل قاطع على أنّ الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم إلا أنهم قصدوا قتل نبيّ الله ولم يرضوا لأنفسهم أن يكونوا كاذبين حتى سوّوا للصدق في خبرهم حيلة يتفصون فيها عن الكذب ولما كان منهم عمل من لم يظنّ أنّ الله عالم به قال تعالى محذراً أمثالهم عن أمثال ذلك.
{ومكروا مكراً} وهو ما أخفوه من تدبيرهم الفتك بصالح وأهله {ومكرنا مكراً} أي: جازيناهم على مكرهم بتعجيل العقوبة {وهم لا يشعرون} أي: لا يتجدّد لهم شعور بما قدّرناه عليهم، شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة، وقيل: إنّ الله تعالى أخبر صالحاً بمكرهم فتحرّز عنهم فذاك مكر الله تعالى في حقهم.
{فانظر كيف كان عاقبة مكرهم} في ذلك {أنا دمرناهم} أي: أهلكناهم {وقومهم أجمعين} روي أنه كان لصالح عليه السلام مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه، فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاثة فخرجوا إلى الشعب وقالوا إذا جاء يصلي قتلناه، ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فبعث الله تعالى صخرة من أهضب جبالهم فبادروا إلى الشعب فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل الله تعالى بهم وبقومهم، وعذب الله تعالى كلاً منهم في مكانه بصيحة جبريل عليه السلام ورمتهم الملائكة بحجارة يرونها ولا يرونهم.
(7/141)
---(1/3004)
وقال ابن عباس: أرسل الله تعالى الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة فقتلتهم، وقال مقاتل: نزلوا في سفح الجبل ينتظر بعضهم بعضاً ليأتوا دار صالح فحمى عليهم الجبل فأهلكهم وأهلك الله تعالى قومهم بالصيحة.
{فتلك بيوتهم} أي: ثمود كلهم {خاوية} أي: خالية من خوى البطن إذا خلا أو ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط تنبيه: خاوية منصوب على الحال، والعامل فيها معنى اسم الإشارة، وقرأ الكوفيون أنا دمرناهم بفتح الهمزة إما على حذف حرف الجرّ، أي: لأنا دمرناهم وإمّا أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي: هي أنا دمرناهم أي: العاقبة تدميرنا إياهم، وقيل غير ذلك، والباقون بكسر الهمزة على الاستئناف وهو تفسير للعاقبة، وقرأ ورش وأبو عمر ووحفص بيوتهم بضم الباء الموحدة، وكسرها الباقون، ولما ذكر تعالى هلاكهم اتبعه بقوله تعالى: {بما ظلموا} أي: بسبب ظلمهم وهو عبادتهم من لا يستحق العبادة وتركهم من يستحقها، ثم زاد في التهويل بقوله تعالى: {إن في ذلك} أي: هذا الأمر الباهر للعقول الذي فعل بثمود {لآية} أي: عبرة عظيمة ولكنها {لقوم يعلمون} قدرتنا فيتعظون أما من لا علم عنده فقد نادى على نفسه في عداد البهائم، ولما ذكر تعالى الذين أهلكهم أتبعه بذكر الذين نجاهم فقال.
{وأنجينا} أي: بعظمتنا وقدرتنا {الذين آمنوا} وهم الفريق الذين كانوا مع صالح كلهم {وكانوا يتقون} أي: متصفين بالتقوى أيضاً فكأنهم مجبولون عليه فيجعلون بينهم وبين ما يسخط الله وقاية من الأعمال الصالحة.
ولما ذكر تعالى قصة صالح عليه السلام أتبعها قصة لوط عليه السلام وهي القصة الرابعة بقوله تعالى:
{ولوطاً} وهو إما منصوب عطفاً على صالح، أي: وأرسلنا لوطاً، وإما عطفاً على الذين آمنوا أي: وأنجينا لوطاً، وإما باذكر مضمرة ويبدل منه على هذا.
(7/142)
---(1/3005)
{إذ} أي: حين {قال لقومه} أي: الذين كان سكن فيهم لما فارق عمه إبراهيم الخليل عليهما السلام وصاهرهم وكانوا يأتون الأحداث منكراً موبخاً {أتأتون الفاحشة} أي: الفعلة المتناهية في الفحش {وأنتم تبصرون} من بصر القلب، أي: تعلمون فحشها واقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح، أو يبصرها بعضكم من بعض لأنهم كانوا في ناديهم يرتكبونها معلنين لا يستتر بعضهم من بعض خلاعة ومجانة وانهماكاً في المعصية، قال الزمخشري وكان أبا نواس بنى على مذهبهم قوله:
*وبح باسم ما تأتي وذرني من الكنى ** فلا خير في اللذات من دونها ستر*
أو تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم، فإن قيل: إذا فسر تبصرون بالعلم وبعده بل أنتم قوم تجهلون فكيف يكونون علماء جهلاء؟.
أجيب: بأنهم يفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمهم بذلك أو يجهلون العاقبة، أو أنّ المراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها، ثم عين ما أبهمه بقوله.
{أئنكم لتأتون} وقال {الرجال} إشارة إلى أنّ فعلتهم هذه مما يعني الوصف ولا يبلغ كنه قبحها ولا يصدّق ذو عقل أنّ أحداً يفعلها، ثم علل ذلك بقوله {شهوة} إنزالاً لهم إلى رتبة البهائم التي ليس فيها قصد ولد ولا إعفاف، وقال {من دون النساء} إشارة إلى أنهم أساؤوا من الطرفين في الفعل والترك، وقوله: {بل أنتم قوم تجهلون} تقدّم في جواب تبصرون تفسيره، فإن قيل: تجهلون صفة لقوم والموصوف لفظه لفظ الغائب فهلا طابقت الصفة الموصوف؟ أجيب: بأنه قد اجتمعت الغيبة والمخاطبة فغلبت المخاطبة لأنها أقوى وأرسخ أصلاً من الغيبة، وقرأ أئنكم نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية المكسورة كالياء، وحققها الباقون، وأدخل بينهما قالون وأبو عمرو ألفاً، وهشام بخلاف عنه، لما بين تعالى بجهلهم بين أنهم أجابوا بما لا يصلح أن يكون جواباً بقوله تعالى:
(7/143)
---(1/3006)
{فما كان جواب قومه} أي: لهذا الكلام الحسن لما لم يكن لهم حجة ولا شبهة في دفعه {إلا أن قالوا} عدولاً إلى المغلابة وتمادياً في الخبث {أخرجوا آل لوط} أي: أهله وقولوا {من قريتكم} مناً عليه بإسكانه عندهم، وعللوا ذلك بقولهم {إنهم أناس يتطهرون} أي: يتنزهون عن القاذورات كلها فينكرون هذا العمل القذر ويغيظنا إنكارهم، وعن ابن عباس: هو استهزاء أي: قالوه تهكماً بهم، ولما وصولوا في الخبث إلى هذا الحدّ سبب سبحانه وتعالى عن قولهم وفعلهم قوله تعالى:
(7/144)
---
{فأنجيناه وأهله} أي: كلهم من أن يصلوا إليهم بأذى ويلحقهم من عذابنا {إلا امرأته قدرناها} أي: قضينا عليها وجعلناها بتقديرنا {من الغابرين} أي: الباقين في العذاب، وقرأ شعبة بتخفيف الدال والباقون بالتشديد.
{وأمطرنا عليهم مطراً} هو حجارة السجيل، أي: أهلكتهم ولذلك تسبب عنه قوله {فساء} أي: فبئس {مطر المنذرين} بالعذاب مطرهم.
ولما أتم سبحانه وتعالى هذه القصص الدالة على كمال قدرته وعظيم شأنه وما خص به رسله من الآيات والانتصار من البعداء أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحمده على هلاك الأمم الخالية بقوله.
{قل} يا أفضل الخلق.
{الحمد} أي: الوصف بالإحاطة بصفات الكمال {لله} على إهلاك هؤلاء البعداء البغضاء، وأن يسلم على من اصطفاه بالعصمة من الفواحش والنجاة من الهلاك بقوله تعالى: {وسلام على عباده الذين اصطفى} أي: اصطفاهم، واختلف فيهم فقال مقاتل: هم الأنبياء والمرسلون بدليل قوله تعالى: {وسلام على المرسلين} (الصافات، 181) وقال ابن عباس: في رواية أبي مالك هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: هم كل المؤمنين من السابقين واللاحقين تنبيه: سلام مبتدأ وسوغ الابتداء به كونه دعاء.
(7/145)
---(1/3007)
ولما بين أنه تعالى أهلكهم ولم تغن عنهم آلهتهم من الله شيئاً قال تعالى: {آلله} أي: الذي له الجلال والإكرام {خير} أي: لعباده الذين اصطفاهم وأنجاهم {أم ما يشركون} أي: الكفار من الآلهة خير لعبادها فإنهم لا يغنون عنهم شيئاً تنبيه: لكل من القراء السبعة في هاتين الهمزتين وجهان: الأوّل: تحقيق همزة الاستفهام وإبدال همزة الوصل ألفاً مع المدّ، والثاني: تحقيق همزة الاستفهام أيضاً وتسهيل همزة الوصل مع القصر، وقرأ أبو عمرو وعاصم يشركون بالياء التحتية بالغيبة حملاً على ما قبله من قوله تعالى: {وأمطرنا عليهم مطراً} وما بعده من قوله تعالى: {بل أكثرهم} والباقون بالتاء الفوقية على الخطاب، وهو التفات للكفار، بعد خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا تبكيت للمشركين بحالهم لأنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى، ولا يؤثر عاقل شيئاً على شيء إلا لزيادة خير ومنفعة، فقيل لهم هذا الكلام تنبيهاً لهم على نهاية ضلالهم وجهلهم وتهكماً بهم وتسفيهاً لرأيهم إذ من المعلوم أنه لا خير فيما أشركوه رأساً حتى يوازنون بينه وبين من هو مبتدأ كل خير.g
وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم»، ثم عدد سبحانه وتعالى أنواعاً من الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، الأوّل منها قوله تعالى:
(7/146)
---(1/3008)
{أم من خلق السموات والأرض} أي: التي هي أصول الكائنات ومبادئ المنافع، فإن قيل: ما الفرق بين أم وأم في {أم ما يشركون} و{أم من خلق السموات}؟ أجيب: بأنّ تلك متصلة لأنّ المعنى أيهما خير، وهذه منقطعة بمعنى بل والهمزة، لما قال الله خير أم الآلهة قال بل أم من خلق السموات والأرض خير تقريراً لهم بأنّ من قدر على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء {وأنزل لكم} أي: لأجلكم خاصة وأنتم تكفرون به وتنسبون ما تفرد به من ذلك لغيره {من السماء ماء} هو للأرض كالماء الدافق للأرحام {فأنبتنا به حدائق} جمع حديقة وهي البستان، وقيل: القطعة من الأرض ذات الماء.
قال الراغب: سميت بذلك تشبهاً بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها، وقال غيره: سميت بذلك لأحداق الجدران بها قاله ابن عادل، وليس بشيء لأنه يطلق عليها ذلك مع عدم الجدران {ذات بهجة} أي: بهاء وحسن ورونق وسرور على تقارب أصولها مع اختلاف أنواعها وتباين طعومها وأشكالها ومقاديرها وألوانها، ولما أثبت الإنبات له نفاه عن غيره بقوله تعالى: {ما كان} أي: ما صح وما تصوّر بوجه من الوجوه {لكم} وأنتم أحياء فضلاً عن شركائكم الذين هم أموات بل موات {أن تنبتوا شجرها} أي: شجر تلك الحدائق {أإله مع الله} أعانه على ذلك، أي: ليس معه إله {بل هم} أي: في ادعائهم معه سبحانه شريكاً {قوم يعدلون} أي: عن الحق الذي لا مرية فيه إلى غيره، وقيل: يعدلون عن هذا الحق الظاهر، ونظير هذه الآية أوّل سورة الأنعام، الثاني: منها قوله تعالى:
(7/147)
---(1/3009)
{أم من جعل الأرض قراراً} وهو بدل من {أم من خلق السموات} وحكمه حكمه، ومعنى قراراً ألا تميد بأهلها، وكان القياس يقتضي أن تكون هادئة أو مضطربة كما يضطرب ما هو معلق في الهواء، ولكن الله تعالى أبدى بعضها من الماء بحيث يتأتى استقرار الإنسان والدواب عليها {وجعل خلالها} أي: وسطها {أنهاراً} أي: جارية على حالة واحدة فلو اضطربت الأرض أدنى اضطراب لتغيرت مجاري المياه.
ثم ذكر تعالى سبب القرار بقوله تعالى: {وجعل لها رواسي} أي: جبالاً أثبت بها الأرض على ميزان دَبَّرهُ سبحانه وتعالى في مواضع من أرجائها بحيث اعتدلت جميع جوانبها فامتنعت من الاضطراب، ولما كان بعض مياه الأرض عذباً وبعضها ملحاً مع القرب جدّاً، بيّن الله تعالى أن أحدهما لم يختلط بالآخر بقوله تعالى: {وجعل بين البحرين} أي: العذب والملح {حاجزاً} من قدرته يمنع أحدهما أن يختلط بالآخر {أإله مع الله} أي: المحيط علماً وقدرة معين له على ذلك {بل أكثرهم} أي: الذين ينتفعون بهذه المنافع {لا يعلمون} توحيد ربهم بل هم كالبهائم لإعراضهم عن هذا الدليل الواضح تنبيه: في قراءة أإله مثل أئنكم، الثالث: منها قوله تعالى:
(7/148)
---(1/3010)
{أم من يجيب المضطرّ} أي: المكروب وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجأ والتضرّع إلى الله تعالى {إذا دعاه} وقت اضطراره، وعن ابن عباس: هو المجهود، وعن السدي هو الذي لا حول له ولا قوة. فإن قيل: هذا يعم كل مضطرّ وكم مضطرّ يدعو فلا يجاب؟ أجيب: بأنّ اللام فيه للجنس لا للاستغراق ولا يلزم منه إجابة كل مضطرّ، وقوله تعالى: {ويكشف السوء} كالتفسير للاستجابة وأنه لا يقدر أحد على كشف ما وقع له من فقر إلى غنى ومرض إلى صحة إلا القادر الذي لا يعجزه شيء والقاهر الذي لا ينازع، والإضافة في قوله تعالى: {ويجعلكم خلفاء الأرض} بمعنى في أي يخلف بعضكم بعضاً لا يزال يجدّد ذلك بإهلاك قرن وإنشاء آخر إلى قيام الساعة {أإله مع الله} أي: الملك الذي لا كفؤ له ثم استأنف التبكيت تفظيعاً له ومواجهاً به بقوله تعالى: {قليلاً ما تذكرون} أي: تتعظون وقرأ أبو عمرو وهشام بالياء، التحتية على الغيبة، والباقون بالخطاب وفيه ادغام التاء في الذال وما زائدة القليل، الرابع منها: قوله تعالى:
(7/149)
---(1/3011)
{أم من يهديكم} أي: يرشدكم إلى مقاصدكم {في ظلمات البر} أي: بالنجوم والجبال والرياح {والبحر} بالنجوم والرياح {ومن يرسل الرياح} أي: التي هي دلائل السير {بُشراً} أي: تنشر السحاب وتجمعها {بين يدي رحمته} أي: التي هي المطر تسمية للمسبب باسم السبب والرياح التي يهتدي بها في المقاصد أربع: التي من تجاه الكعبة الصبا، ومن ورائها الدبور، ومن جهة يمينها الجنوب، ومن شمالها الشمال ولكل منها طبع فالصبا حارة يابسة، والدبور باردة رطبة، والجنوب حارة رطبة، والشمال باردة يابسة وهي ريح الجنة التي تهب على أهلها جعلنا الله ووالدينا ومشايخنا وأصحابنا ومن انتفع بشيء من هذا التفسير ودعا لنا بالمغفرة منهم، وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير الريح بالإفراد، والباقون بالجمع، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمر ونشراً بضم النون والشين وابن عامر بضم النون وسكون الشين، وحمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين وعاصم بالباء الموحدة مضمومة وسكون الشين، ولما انكشف بما مضى من الآيات ما كانوا في ظلامه من واهي الشبهات واتضحت الأدلة، ولم يبق لأحد في شيء من ذلك علة، كرّر سبحانه وتعالى الإنكار في قوله تعالى {أإله مع الله} أي: الذي كمل علمه {تعالى الله} أي: الفاعل القادر المختار {عما يشركون} به غيره، وأين رتبة العجز من رتبة القدرة، الخامس: منها قوله تعالى:
(7/150)
---
{أم من يبدأ الخلق} أي: كلهم في الأرحام من نطفة ما علمتم منهم وما لم تعلموا {ثم يعيده} أي: بعد الموت لأنّ الإعادة أهون، فإن قيل: كيف قيل: لهم ثم يعيده؟ أجيب: بأنهم كانوا مقرين بالابتداء ودلالته على الإعادة ظاهرة قوية لأنّ الإعادة أهون عليه من الابتداء، فلما كان الكلام مقروناً بالدلالة الظاهرة صاروا كأنهم لا عذر لهم في إنكار الإعادة لقيام البراهين عليها، ولما كان الإمطار والإنبات من أدلّ ما يكون على الإعادة قال مشيراً إليهما على وجه عمّ جميع ما مضى.(1/3012)
{ومن يرزقكم من السماء} أي: بالمطر والحرّ والبرد وغيرها مما له سبب في التكوين أو التلوين {والأرض} أي: بالنبات والمعادن والحيوان وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله تعالى: وعبر عنها بالرزق لأنّ به تمام النعمة {أإله مع الله} أي: الذي له صفات الجلال والإكرام، ولما كانت هذه كلها براهين ساطعة ودلائل قاطعة أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إعراضاً عنهم بقوله تعالى: {قل} أي: لهؤلاء المدّعين للعقول {هاتوا برهانكم} أي: حجتكم على نفي شيء من ذلك عن الله تعالى أو على إثبات شيء منه لغيره {إن كنتم صادقين} أي: في أنكم على حق في أنّ مع الله تعالى غيره، وأضاف تعالى البرهان إليهم تهكماً بهم وتنبيهاً على أنهم أبعدوا في الضلال وأغرقوا في المحال، ثم إنهم سألوه عن وقت قيام الساعة فنزل.
{قل} أي: لهم {لا يعلم من في السموات والأرض} من الملائكة والناس {الغيب} أي: ما غاب عنهم وقوله تعالى: {إلا الله} استثناء منقطع أي: لكن الله يعلمه، ولما كان الله تعالى منزهاً عن أن يحويه مكان جعل الاستثناء هنا منقطعاً، فإن قيل: من حق المنقطع النصب؟.
(7/152)
---
أجيب: بأنه رفع بدلاً على لغة بني تميم يقولون ما في الدار أحد إلا حمار يريدون ما فيها إلا حمار كأن أحداً لم يذكر، ومنه قولهم: ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا أخوانه، فإن قيل: ما الداعي إلى المذهب التميمي على الحجازي؟ أجيب: بأنه دعت إليه حاجة سرية حيث أخرج المستثنى مخرج قوله إلا اليعافير بعد قوله ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس ليؤل المعنى إلى قولك إن كان الله ممن في السموات والأرض فهم يعلمون الغيب بمعنى أنّ علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم، كما أنّ معنى ما في البيت أن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس، إنباء عن خلوها عن الأنيس.(1/3013)
ويصح أن يكون متصلاً والظرفية في حقه تعالى مجاز بالنسبة إلى علمه وإن كان فيه جمع بين الحقيقة والمجاز كما قال به إمامنا الشافعيّ رضي الله تعالى عنه، وإن منعه بعضهم، ومن ذلك قول المتكلمين: الله تعالى في كل مكان على معنى أنّ علمه في الأماكن كلها فكأن ذاته فيها، وعلى هذا فيرتفع على البدل والصفة، والرفع أفصح من النصب لأنه منفي، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول.
{قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} وعن بعضهم أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحداً لئلا يأمن أحد من عبيده مكره، وقوله تعالى: {وما يشعرون} صفة لأهل السموات والأرض نفي أن يكون لهم علم بالغيب، وإن اجتمعوا وتعاونوا {أيان} أي: أيّ وقت {يبعثون} أي: ينشرون، وقوله تعالى:
{بل} بمعنى هل {أدارك} أي: بلغ وتناهى {علمهم في الآخرة} أي: بها حتى سألوا عن وقت مجيئها، ليس الأمر كذلك {بل هم في شك} أي: ريب {منها} كمن تحير في الأمر لا يجد عليه دليلاً {بل هم منها عمون} لا يدركون دلائلها لاختلال بصيرتهم، وهذا وإن اختص بالمشركين بمن في السموات والأرض، نسب إلى جميعهم كما يسند فعل البعض إلى الكل.
(7/153)
---
فإن قيل: هذه الاضرابات الثلاثة ما معناها؟ أجيب: بأنها لتنزيل أحوالهم وصفهم أوّلاً بأنّهم لا يشعرون بوقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أنّ القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه والإزالة مستطاعة، ثم بما هو أسوأ حالاً وهو العمى وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه وفرجه لا يخطر بباله حقاً ولا باطلاً ولا يفكر في عاقبة وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه فلذلك عدّاه بمن دون عن لأنّ الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون، ووصفهم باستحكام علمهم في أمر الآخرة تهكماً.(1/3014)
وقرأ أبو عمرو وابن كثير بقطع الهمزة مفتوحة وسكون اللام قبلها وسكون الدال بعدها، والباقون بكسر اللام وإسقاط الهمزة بعدها وتشديد الدال وبعدها ألف بمعنى تتابع حتى استحكم أو تتابع حتى انقطع من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك وقوله تعالى:
{وقال الذين كفروا أئذا كناتراباً وآباؤنا أئنا} أي: نحن وآباؤنا الذين طال العهد بهم {لمخرجون} كالنبات، والعامل في إذا محذوف يدل عليه لمخرجون تقديره نبعث ونخرج، لأنّ بين يدي عمل اسم المفعول فيه عقبات وهي همزة الاستفهام وإنا ولام الابتداء وواحدة منها كافية فكيف إذا اجتمعت، والمراد الإخراج من الأرض أو من حال الفناء إلى حال الحياة وتكرير حرف الاستفهام بإدخاله على إذا وأنا جميعاً إنكار على إنكار وجحود عقب جحود ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه، والضمير في إنا لهم ولآبائهم لأنّ كونهم تراباً قد تناولهم وآباؤهم.
تنبيه: آباؤنا عطف على اسم كان وقام الفصل بالخبر مقام الفصل بالتوكيد.
(7/154)
---
وقرأ نافع بالخبر في إذا وبالاستفهام في أئنا، وابن عامر والكسائي بالاستفهام في الأوّل والخبر في الثاني وزادا فيه نوناً ثانية، وباقي القراء بالاستفهام في الأوّل والثاني وهم على مذاهبهم من التسهيل والتحقيق والمدّ والقصر، فمذهب قالون وأبي عمرو التسهيل في الهمزة الثانية، وإدخال ألف بينها وبين همزة الاستفهام، ومذهب ورش وابن كثير التسهيل وعدم الإدخال ومذهب هشام الإدخال وعدمه مع التحقيق، ومذهب الباقين التحقيق وعدم الإدخال، ثم أقام الكفار الدليل في زعمهم على ذلك فقالوا تعليلاً لاستبعادهم.(1/3015)