وروى عكرمة: إن الهاء في قوله تعالى: {ليؤمنن به} كناية عن محمد صلى الله عليه وسلم يقول: لا يموت كتابي حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل: الهاء راجعة إلى الله عز وجل يقول: وإنّ من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالله عز وجل قبل موته عند المعاينة حين لا ينفعه إيمانه {ويوم القيامة يكون} أي: عيسى على القول الأوّل {عليهم شهيداً} إنه قد بلغهم رسالة ربه وأقرّ بالعبودية على نفسه كما قال تعالى مخبراً عنه: {وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم} (المائدة/ 117). وكل نبيّ شاهد على أمّته قال تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} (النساء، 41).
{فيظلم من الذين هادوا} وهو ما تقدّم ذكره من نقضهم الميثاق وبكفرهم بآيات الله وبهتانهم على مريم، وقولهم: {إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم} (النساء، 157)
{حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم} أي: كان وقع إحلالها لهم في التوراة، ثم حرّمت عليهم وهي التي في قوله تعالى في سورة الأنعام: {وعلى الذين هادوا حرّمنا كل ذي ظفر} (الأنعام، 146)
(2/341)
---
الآية {وبصدّهم} أي: الناس {عن سبيل الله} أي: دينه، وقوله تعالى: {كثيراً} صفة مصدر محذوف أي: صدّاً كثيراً بالإضلال عن الطريق، فمنعوا مستلذات تلك المآكل بما منعوا أنفسهم وغيرهم من لذاذة الإيمان.
{وأخذهم الربا وقد} أي: والحال إنهم قد {نهوا عنه} في التوراة، فكان محرماً عليهم كما هو محرّم علينا؛ لأنه قبيح في نفسه مزر بصاحبه، وفي الآية دليل على أنّ النهي للتحريم {وأكلهم أموال الناس بالباطل} أي: من الرشا في الحكم والمآكل أي: التي كانوا يصيبونها من عوامهم عاقبناهم بأن حرمنا عليهم طيبات، فكانوا كلما ارتكبوا كبيرة حرّم عليهم شيء من الطيبات التي كانت حلالاً لهم قال تعالى: {ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون} (الأنعام، 146)
{وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً} أي: مؤلماً دون من تاب وآمن.(1/756)
ولما بين سبحانه وتعالى ما للمطبوع على قلوبهم الغريقين في الكفر من العقاب بين ما لنيري البصائر بالرسوخ في العلم والإيمان من الثواب فقال:
{لكن الراسخون} أي: الثابتون المتمكنون {في العلم منهم} أي: من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه {والمؤمنون} أي: من المهاجرين والأنصار {يؤمنون بما أنزل إليك} أي: القرآن {وما أنزل من قبلك} أي: من سائر الكتب المنزلة وقوله تعالى: {والمقيمين الصلاة} نصب على المدح؛ لأنّ الصلاة لما كانت أعظم دعائم الدين ولذلك كانت ناهية عن الفحشاء والمنكر نصبت على المدح من بين هذه المرفوعات إظهاراً لفضلها.
وحكي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وأبان بن عثمان أنّ ذلك غلط من الكاتب ينبغي أن يكتب والمقيمون الصلاة، وكذلك قوله في سورة المائدة : {إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى} وقوله تعالى: {إنّ هذان لساحران} (طه، 63)
(2/342)
---
قالا: ذلك خطأ من الكاتب، وقال عثمان: إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها، فقيل له: ألا تغيره فقال: دعوه فإنه لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً وعامّة الصحابة وأهل العلم على إنه صحيح كما قدّمناه، وقيل: نصب بإضمار فعل تقديره: أعني المقيمين الصلاة، وقوله تعالى: {والمؤتون الزكاة والمؤمنون با واليوم الآخر} رجوع إلى النسق الأوّل {أولئك سنؤتيهم} بوعد لا خلف فيه على جمعهم بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح {أجراً عظيماً} وهو الجنة والنظر إلى وجهه الكريم، وقوله تعالى:
(2/343)
---
{إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء، واحتجاج عليهم بأنّ شأنه في الوحي إليه كشأن سائر الأنبياء الذين سلفوا، وبدأ بذكر نوح عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان أبا البشر مثل آدم عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين} (الصافات، 77)
(2/344)
---(1/757)
؛ ولأنه أوّل نبيّ من أنبياء الشريعة وأول نذير على الشرك وأوّل من عذبت أمته لردهم دعوته، وأهلك أهل الأرض بدعائه، وكان أطول الأنبياء عمراً، وجعلت معجزته في نفسه؛ لأنه عمر ألف سنة فلم ينقص له سن ولم يشب له شعرة ولم تنقص له قوّة ولم يصبر أحد على أذى قومه ما صبر هو على طول عمره {و} كما {أوحينا إلى إبراهيم وإسمعيل وإسحق} بني إبراهيم {ويعقوب} بن إسحق {والأسباط} أولاد يعقوب وظاهر هذا أنهم كلهم أنبياء وهو أحد قوليه، والقول الآخر: أن يوسف هو النبي فقط وعلى هذا فالمراد المجموع {وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا} أباه {داود زبوراً} قرأ حمزة بضم الزاي مصدر بمعنى مزبوراً أي: مكتوباً، والباقون بالنصب على إنه إسم للكتاب المؤتى، وكان فيه التحميد والتمجيد والثناء على الله عز وجلّ.
كان داود يبرز إلى البرية فيقوم ويقرأ الزبور ويقوم معه علماء بني إسرائيل، فيقومون خلفه، ويقوم الناس خلف العلماء، ويقوم الجن خلف الناس الأعظم فالأعظم، والشياطين خلف الجن، وتجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين يديه تعجباً لما يسمعن منه، والطير ترفرف على رؤوسهم، فلما قارف الذنب لم ير ذلك فقيل له: ذاك أنس الطاعة وهذا وحشة المعصية، قال السيوطي في شرح التنبيه: إنّ الزبور مئة وخمسون سورة ما بين قصار وطوال، والطويلة منها قدر ربع حزب، والقصيرة قدر سورة النصر اه.
وعن أبي موسى قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو رأيتني البارحة وأنا أسمع لقراءتك لقد أعطيت مزماراً من مزامير داود» وكان عمر إذا رآه قال: ذكرنا يا أبا موسى فيقرأ عنده، وإنما خص هؤلاء بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تعظيماً لهم، وقوله تعالى: {ورسلاً} أي: غير هؤلاء نصب بمضمر دل عليه أوحينا إليك مثل أرسلنا {قد قصصناهم} أي: تلونا ذكرهم {عليك من قبل} أي: قبل إنزال هذه السورة أو هذه الآية {ورسلاً لم نقصصهم عليك} أي: إلى الآن.
(2/345)
---(1/758)
روي أنه سبحانه وتعالى بعث ثمانية آلاف نبيّ: أربعة آلاف من بني إسرائيل وأربعة آلاف من سائر الناس، قاله الجلال المحلي في سورة غافر، وقوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليماً} هو منتهى مراتب الوحي أي: كلمه على التدريج شيئاً فشيئاً بحسب المصالح بغير واسطة ملك، فلا فرق في الوحي بين ما كان بواسطة وبين ما كان بلا واسطة وخص به موسى من بين سائر الأنبياء غير نبينا، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد فضله الله بأن أعطاه مثل ما أعطى كل واحد منهم وقوله تعالى:
{رسلاً} بدل من رسلاً قبله {مبشرين} أي: بالثواب من آمن {ومنذرين} أي: مخوّفين بالعذاب من كفر وقوله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة} متعلق بأرسلنا أو بمبشرين ومنذرين أي: حجة فقال: {بعد} إرسال {الرسل} فيقولوا: ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين، فبعثناهم لقطع عذرهم.
فإن قيل: كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله تعالى من الأدلة التي النظر فيها يوصل إلى المعرفة؟ أجيب: بأنّ الرسل ينبهون عن الغفلة وباعثون على النظر في الأدلة فإرسالهم ضروري {وكان الله عزيزاً} في ملكه لا يغلب فيما يريده {حكيماً} في صنعه.
(2/346)
---(1/759)
روي أن سعد بن عبادة قال: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أتعجبون من غيرة سعد والله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحبّ إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ولا أحد أحبّ إليه المدحة من الله ومن أجل ذلك وعد بالجنة»، قال ابن عباس: إن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد إنا سألنا عنك اليهود وعن صفتك في كتابهم، فزعموا أنهم لا يعرفونك، ودخل عليهم جماعة من اليهود فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم «والله إنكم لتعلمون أني رسول الله» فقالوا: والله ما نعلم ذلك أنزل الله عز وجل:
{لكن الله يشهد} أي: يبيّن نبوّتك {بما أنزل إليك} أي: من القرآن المعجز الدال على نبوّتك إن جحدوك وكذبوك {أنزله} متلبساً {بعلمه} الخاص به وهو العلم بتأليفه على نظم يعجز عنه كل بليغ.
وروي أنه لما نزل {إنا أوحينا إليك} قالوا: ما نشهد لك فنزلت {والملائكة يشهدون} لك أيضاً {وكفى با شهيداً} على ذلك بما قام من الحجج على صحة نبوّتك عن الاستشهاد بغيره {إنّ الذين كفروا وصدوا} الناس {عن سبيل الله} أي: دين الإسلام بكتمهم دين محمد صلى الله عليه وسلم وهم اليهود {قد ضلوا ضلالاً بعيداً} عن الحق؛ لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال، ولأنّ المضل يكون أعرق في الضلال وأبعد من الانقلاع عنه.
{إنّ الذين كفروا} بالله {وظلموا} نبيه بكتمان نعته {لم يكن الله ليغفر لهم} لكفرهم وظلمهم {ولا ليديهم طريقاً} من الطرق.
{إلا طريق جهنم} أي: الطريق المؤدي إليها {خالدين} أي: مقدرين الخلود {فيها} إذا دخلوها وأكد ذلك بقوله: {أبداً} لأنّ الله لا يغفر أن يشرك به {وكان ذلك على الله يسيراً} أي: هيّناً لا يصعب عليه ولا يستعظمه.
(2/347)
---(1/760)
{يأيها الناس قد جاءكم الرسول} محمد صلى الله عليه وسلم {بالحق من ربكم} لما قرّر من أمر النبوّة وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ووعيد من أنكرها خاطب الناس عامة بالدعوة وإلزام الحجة والوعد بالإجابة والوعيد على الرد {فآمنوا} بالله وقوله تعالى: {خيراً لكم} وكذلك قوله تعالى فيما يأتي {انتهوا خيراً لكم} (النساء، 171)
منصوب بمضمر وذلك إنه لما بعثهم على الإيمان وعلى الانتهاء عن التثليث علم أنه يحملهم على أمر فقال خيراً لكم أي: اقصدوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث، وهو الإيمان والتوحيد، وقيل: تقديره يكن الإيمان خيراً لكم. قال البيضاوي: ومنعه البصريون؛ لأنّ كان لا يحذف مع اسمه إلا فيما لا بدّ منه، ولأنه يؤدي إلى حذف الشرط وجوابه اه.
{وإن تكفروا} بالله {فإنّ ما في السموات والأرض} ملكاً وخلقاً، فهو غني عنكم فلا يضره كفركم كما لا ينفعه إيمانكم، ونبّه على غناه بقوله تعالى: {ما في السموات والأرض} وهو يعم ما اشتملتا عليه وما تركبتا منه {وكان الله عليماً} بأحوالكم {حكيماً} أي: فيما دبره لهم.
(2/348)
---(1/761)
{يا أهل الكتاب لا تغلوا} أي: تجاوزوا الحد {في دينكم} الخطاب للفريقين غلت اليهود في حط عيسى حتى رموه بالزنا، والنصارى في رفعه حتى اتخذوه إلهاً، وقيل: للنصارى خاصة، والمراد بالكتاب الإنجيل، فإنه أوفق لقوله تعالى: {ولا تقولوا على الله إلا} القول {الحق} أي: من تنزيهه عن الشريك والولد {إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها} أي: أوصلها {إلى مريم} وجعلها فيها {وروح} أي: ذو روح {منه} لا بتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادّة له، وسمى عيسى كلمة الله وكلمة منه؛ لأنه وجد بكلمته وأمره لا غير من غير واسطة أب ولا نطفة، وقيل له: روح الله وروح منه؛ لأنه ذو روح وجسد من غير جزء من ذي روح كالنطفة المنفصلة من الأب الحيّ، وإنما اخترع اختراعاً من عند الله وقدرته بأن أمر جبريل، فنفخ في جيب درعها، فحملت به فأضيف إلى الله تعالى تشريفاً له، وليس كما زعمتم أنه ابن الله، أو إله معه، أو ثالث ثلاثة؛ لأنّ الروح مركب، والإله منزه عن التركيب وعن نسبة المركب إليه.
(2/350)
---(1/762)
سورة المائدة
مدنية
مائة وعشرون آية أو اثنتان أو ثلاث وكلماتها ألفان وثمانمائة وأربع كلمات وحروفها أحد عشر ألفاً وسبعمائة وثلاثة وثلاثون حرفاً
{بسم الله} الذي له الأمر كله فلا يسئل عما يفعل {الرحمن} الذي عم بنعمة إيجاده وبيانه فنعمته أتم نعمة وأشمل {الرحيم} الذي خص خلص عباده بتوفيقه وأتم نعمته عليهم وأكمل.
{يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} أي: التي عقدها الله تعالى على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف وما يعقدون بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به أو يحسن إن حملنا الأمر على المشترك بين الوجوب والندب والعقد العهد الموثق شبه بعقد الحبل ونحوه قول الحطيئة:
*قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم ** شدّوا العِناجَ وشدوا فوقه الكرَبَا*
(15/1)
---
والعناج حبل يشدّ في أسفل الدلو ثم يشدّ إلى العراقي ليكون عوناً له، والكرب الحبل الذي يشدّ في وسط العراقي والعرقوتان الخشبتان المعترضتان على الدلو كالصليب وقوله تعالى: {أحلت لكم بهيمة الأنعام} تفصيل للعقود لأنّ العقود مجملة فهو شامل لجميع العقود لأنّ ذلك أمهات التكاليف وجميع ما في هذه السورة من الأحكام تفصيل لذلك.(1/763)
فائدة: روي عن ابن مسعود قال: أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكماً لم ينزلها في غيرها قوله تعالى: {والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام} {وما عملتم من الجوارح مكلبين} {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} وتمام الطهر في قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} {والسارق والسارقة} {ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} الآية {وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} وقوله تعالى: {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} وزيد عليها تاسع عشر وهو قوله تعالى: {وإذا ناديتم إلى الصلاة} ليس للآذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة وأما في سورة الجمعة فهو مخصوص بالجمعة وهو في هذه السورة عام في جميع الصلوات والبهيمة كل حيّ لا يميز أي: من شأنه أنه لا يميز فلا يدخل في ذلك المجنون ونحوه، والأنعام: الإبل والبقر والغنم وهي الأزواج الثمانية وألحق بها الظباء وبقر الوحش.
تنبيه: إضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان كقولك: ثوب خز ومعناه البهيمة من الأنعام.
(15/2)
---
فإن قيل: لم أفرد البهيمة وجمع الأنعام؟ أجيب: بإرادة الجنس وقوله تعالى: {إلا ما يتلى عليكم} أي: تحريمه في قوله تعالى: {حرّمت عليكم الميتة} الآية استثناء منقطع ويجوز أن يكون متصلاً والتحريم عرض من الموت ونحوه وقوله تعالى: {غير محلي الصيد} حال من ضمير لكم وقوله تعالى: {وأنتم حرم} مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من الضمير في محل جمع حرام وهو المحرم {إنّ الله يحكم ما يريد} من تحليل وتحريم وغيرهما على سبيل الإطلاق لا يجب عليه مراعاة مصلحة ولا حكمة كما تقوله المعتزلة، فلا يسئل عن تخصيص ولا تفصيل فما فهمتم حكمته فذاك ومالا فكلوه إليه وارغبوا في أن يلهمكم حكمته.(1/764)
{يأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله} جمع شعيرة: وهي اسم ما أشعر أي: جعل شعاراً وعلماً للنسك من مواقف الحج ومرامي الجمار والمطاف والمسعى والأفعال التي هي علامات الحاج، يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر، وقيل: معالم دينه، وقيل: فرائضه التي حدّها لعباده {ولا} تحلوا {الشهر الحرام} أي: بالقتال فيه قال تعالى: {إنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم} (التوبة، 36) وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، فيجوز أن يكون ذلك إشارة إلى جميع هذه الأشهر كما يطلق اسم الواحد على الجنس لأنّ الأشهر كلها في الحرمة سواء، ولكن قال الزمخشريّ: والشهر الحرام شهر الحج {ولا} تحلوا {الهدى} أي: بالتعرّض له وهو ما أهدى إلى الحرم من النعم {ولا} تحلوا {القلائد} أي: صاحب القلائد من الهدى، وعبر بها مبالغة في تحريمها أو القلائد أنفسها، والنهي عن إحلالها مبالغة في النهي عن التعرّض للهدى، والقلائد جمع قلادة وهي ما قلّد به الهدى من نعل أو غيره ليعلم به أنه هدى فلا يتعرّض له {ولا} تحلوا {آمّين} أي: قاصدين {البيت الحرام} لزيارته أي: بأن تقاتلوهم.
(15/3)
---
{يبتغون فضلاً من ربهم} وهو الثواب {ورضواناً} أي: وأن يرضى عنهم والجملة في موضع الحال من المستكن في آمين، أي: لا تتعرضوا لقومٍ هذه صفتهم تعظيماً لهم واستنكاراً أن يتعرّض لمثلهم، وقيل: معناه يبتغون من الله رزقاً بالتجارة ورضواناً بزعمهم لأنهم كانوا يظنون ذلك فوصفوا به بناء على ظنهم ولأنّ الكافر لا نصيب له في الرضوان كقوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان، 49) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان المسلمون والمشركون يحجون جميعاً فنهى الله تعالى المسلمين أن يمنعوا أحداً عن حج البيت بقوله تعالى:(1/765)
{لا تحلوا شعائر الله} فعلى الأوّل الآية محكمة قال الحسن: ليس في المائدة منسوخ، وعلى الثاني قال البيضاوي: فالآية منسوخة أي: لما فيها من حرمة القتال في الشهر الحرام، ومن حرمة منع المشركين عن المسجد الحرام والأوّل منسوخ بقوله تعالى: {اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} (التوبة، 5) والثاني بقوله تعالى: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (التوبة، 28) فقوله: منسوخ منزل على هذا، لكن إذا قلنا بشمول آمين للمسلمين والمشركين إنما يكون النسخ في حق المشركين خاصة وهو في الحقيقة تخصيص لا نسخ ففي تسميته نسخاً تسمح، وقرأ شعبة بضم الراء والباقون بالكسر.
(15/4)
---
{وإذا حللتم} أي: من الإحرام وقوله تعالى: {فاصطادوا} أمر إباحة أباح لهم الاصطياد بعد حظره عليهم كأنه قيل: وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا كما في قوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} (الجمعة، 10) {ولا يجرمنكم} أي: يحملنَّكم أو يكسبنَّكم {شنآن قوم} أي: شدّة بغضهم، وقرأ ابن عامر وشعبة بسكون النون بعد الشين والباقون بنصبها وقوله تعالى: {أن صدّوكم} قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أن الشرطية والباقون بفتحها أي: لأجل أن صدوكم في عام الحديبية أو غيره {عن المسجد الحرام} وقوله تعالى: {أن تعتدوا} أي: يشتد عدْوُكم عليهم بأن تنتقموا منهم بالقتل وغيره، ثاني مفعولي يجرمنكم فإنه يتعدّى إلى واحد وإلى اثنين ككسب {وتعاونوا على البر والتقوى} أي: بفعل ما أمرتم به {ولا تعاونوا} فيه حذف إحدى التاءين في الأصل {على الإثم} أي: المعاصي للتشفي {والعدوان} أي: التعدي في حدود الله للانتقام {واتقوا الله} أي: خافوا عقابه بأن تطيعوه {إنّ الله شديد العقاب} لمن خالفه فانتقامه أشد.
(15/5)
---
وقوله تعالى:(1/766)
{حرمت عليكم الميتة} أي: أكلها بيان ما يتلى عليكم والميتة ما فارقته الروح من غير ذكاة شرعية {والدم} أي: المسفوح قال تعالى: {أو دماً مسفوحاً} وكان أهل الجاهلية يصبونه في الأمعاء ويشوونها {ولحم الخنزير} قال العلماء: الغذاء يصير جزءاً من جوهر المتغذي ولا بد أن يحصل للمتغذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلاً في الغذاء، والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المنهيات فحرّم أكله على الإنسان لئلا يتكيّف بتلك الكيفية، ولذلك إن الفرنج لما واظبوا على أكل لحم الخنزير أورثهم الحرص العظيم والرغبة الشديدة في المنهيات، وأورثهم عدم الغيرة فإنّ الخنزير يرى الذكر من الخنازير ينزو على الأنثى التي له ولا يتعرّض له لعدم الغيرة.
{وما أهل لغير الله به} أي: رفع الصوت به لغير الله بأن ذبح على اسم غيره، والإهلال: رفع الصوت ومنه يقال: فلان أهل بالحج إذا لبى وكانوا يقولون عند الذبح: باسم اللات والعزى، قال ابن عادل: وقدم هنا لفظ الجلالة في قوله لغير الله به وأخرت في البقرة لأنها هناك فاصلة أو تشبه الفاصلة بخلافها هنا لأنّ بعدها معطوفات {والمنخنقة} وهي التي ماتت بالخنق سواء أفعل بها ذلك آدميّ أم اتفق لها ذلك {والموقوذة} وهي التي وقذت أي: ضربت حتى ماتت ويدخل في الموقوذة ما رمي بالبندق فمات {والمتردّية} أي: الساقطة من علو بان سقطت من جبل أو مشرف أو في بئر فماتت، ولو رمى صيداً في الهواء بسهم فأصابه فسقط على الأرض ومات حلّ لأنّ الوقوع على الأرض من ضرورته وإن سقط على جبل أو شجر ثم تردى منه فمات لم يحل لأنه من المتردية إلا أن يكون السهم ذبحه في الهواء فيحل كيفما وقع لأنّ الذبح قد حصل قبل التردية.
(15/7)
---(1/767)
تنبيه: دخلت الهاء في هذه الكلمات لأنّ المنخنقة هي الشاة المنخنقة كأنه قيل: حرّمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة والمتردية وخصَّت الشاة لأنها من أعمّ ما يأكل الناس والكلام يُخرّج على الأعمّ ويكون المراد الكل وأما الهاء في قوله تعالى: {والنطيحة} وهي التي تنطحها أخرى فتموت فِللْنَّقل من الوصفية إلى الاسمية وإلا فكان من حقها أن لا تدخلها تاء التأنيث كقتيل وجريح، وما في قوله تعالى: {وما أكل السبع} بمعنى الذي وعائده محذوف أي: وما أكله السبع ولا بد من حذف، ولهذا قال الزمخشريّ: وما أكل بعضه السبع وهذا يدل على أنّ جوارح الصيد إذا أكلت ما اصطادته لم يحل أكله.
وقوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} استثناء متصل أي: إلا ما أدركتم ذكاته وصار فيه حياة مستقرة من ذلك فهو حلال، وقيل: الاستثناء مخصوص بما أكل السبع وقيل: الاستثناء منقطع أي: ولكن ما ذكيتم من غيرها فحلال أو فكلوه، وكأنّ هذا القائل رأى أنها وصلت بهذه الأسباب إلى الموت أو إلى حالة قريبة منه فلم تفد تذكيتها عنده شيئاً، وقيل: الاستثناء من التحريم لا من المحرّمات أي: حرّم عليكم ما مضى إلا ما ذكيتم فإنه لكم حلال فيكون الاستثناء منقطعاً أيضاً، وأقلّ الذكاة في الحيوان المقدور عليه قطع الحلقوم والمريء وكمالها أن يقطع الودجين معهما، وهما عرقان في صفحتي العنق ويجوز بكل محدد يجرح من حديد أو قصب أو زجاج أو غيره إلا السن والظفر لقوله صلى الله عليه وسلم «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر».
وقوله تعالى: {وما ذبح على النصب} في محل رفع عطفاً على الميتة أي: وحرم عليكم ذلك والنصب واحد الأنصاب، وهي حجارة، كانت حول الكعبة يذبح عليها تقرباً إليها وتعظيماً لها، وقيل: هي الأصنام لأنها تنصب لتعبد، وعلى: بمعنى اللام أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأنصاب، وقيل: هو جمع والواحد نصاب ويدل للأوّل قول الأعشى:
(15/8)
---(1/768)
*وذا النصب المنصوب لا تعبدنه ** ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا*
وقوله تعالى: {وأن تستقسموا بالأزلام} في محل رفع أيضاً فكان عطفاً على الميتة أي: وحرم عليكم ذلك والأزلام جمع زَلَم بفتح الزاي وضمها مع فتح اللام قِدح بكسر القاف صغير وهو سهم لا ريش له ولا نصل، وذلك إنهم كانوا إذا قصدوا فعلاً ضربوا ثلاثة أقداح مكتوب على أحدها أمرني ربي، وعلى الآخر نهاني ربي، والثالث غفل أي: لا سمة عليه فإن خرج الأمر مضوا على ذلك وإن خرج الناهي تجنبوا عنه وإن خرج الغفل أداروها ثانياً، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم بالأزلام، وقيل: هو قسمة الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة.
وقوله تعالى: {ذلكم فسق} إشارة إلى ما ذكر تحريمه أي: خروج عن الطاعة، وقيل: إشارة إلى الاستقسام وكونه فسقاً؛ لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر بعلمه علام الغيوب، وقد قال تعالى: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} (النمل، 65) وضلال باعتقاد إنّ ذلك طريق إليه وقوله: أمرني ربي ونهاني ربي افتراء على الله عز وجل إن كان أراد بربي الله وما يدريه إنّ الله أمره أو نهاه، فالكهنة والمنجمون بهذه المثابة، وجهالة وشرك إن أراد به الصنم.
(15/9)
---(1/769)
وقوله تعالى: {اليوم} لم يرد به يوماً بعينه وإنما أراد الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية، وقيل: الألف واللام للعهد، قيل: أراد يوم نزولها، وقيل: نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع، وقيل: هو يوم دخوله صلى الله عليه وسلم مكة سنة تسع، وقيل: ثمان، وقوله تعالى: {يئس الذين كفروا من دينكم} فيه قولان أحدهما: يئسوا من أن يحلوا هذه الخبائث بعد أن جعلها الله تعالى محرمة، والثاني: يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم فترتدّوا عنه بعد طمعهم في ذلك، لما رأوا من قوته؛ لأنه تعالى كان وعد بإعلاء هذا الدين على كل الأديان بقوله تعالى: {ليظهره على الدين كله} (التوبة، 33) فحقق ذلك النصر وأزلل الخوف {فلا تخشوهم} أن يظهروا عليكم {واخشون} أجمع القرّاء السبعة على حذف الياء بعد النون لحذفها في الرسم أي: واخلصوا الخشية لي وحدي فإنّ دينكم قد اكتمل بدره وجل عن انمحاق محله وقدره ورضي به الآمر ومكّنه على رغم أنوف الأعداء وهو قادر وذلك قوله تعالى مسوقاً مساق التعليل:
(15/10)
---(1/770)
{اليوم أكملت لكم دينكم} أي: الذي أرسلت به أكمل خلقي محمداً صلى الله عليه وسلم نزلت هذه الآية يوم الجمعة يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع والنبيّ صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء فكادت عضد الناقة تندق من ثقلها فبركت، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنّ رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية من كتابكم تقرأونها لو علينا معاشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً قال: أي أية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي أنزلت فيه على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة، أشار عمر إلى أنّ ذلك اليوم كان عيداً، قال ابن عباس: كان ذلك اليوم خمسة أعياد جمعة وعرفة وعيد اليهود وعيد النصارى والمجوس، ولم يجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده.
وروي أنها لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله تعالى عنه فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «ما يبكيك يا عمر؟» قال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا فإذا كمل فلم يكمل شيء إلا نقص قال: «صدقت»، فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعدها أحداً وثمانين يوماً ومات يوم الإثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة من الهجرة. وقيل: توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل وكانت هجرته في الثاني عشر منه، فقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} أي: الفرائض والسنن والحدود والجهاد والحلال والحرام فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض وهذا معنى قول ابن عباس، وقال سعيد بن جبير وقتادة: اليوم أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك، وقيل: أظهرت دينكم وأمتكم من عدوّكم.
(15/11)
---(1/771)
فإن قيل: قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} يقتضي أنّ الدّين كان ناقصاً قبل ذلك وذلك يوجب أنّ الدين الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم أكثر عمره كان ناقصاً، وإنما وجد الدّين الكامل في آخر عمره مدّة قليلة. أجيب: بأنّ الدين لم يكن ناقصاً بل كان أبداً كاملاً وكانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت، إلا أنه تعالى كان عالماً في أوّل وقت المبعث بأنّ ما هو بعد العدم وأمّا في آخر زمان المبعث فأنزل شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة فالشرع أبداً كان كاملاً إلا أنّ الأوّل كمال إلى زمان مخصوص، والثاني كمال إلى يوم القيامة فلهذا قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي بإكماله، وقيل: بدخول مكة آمنين ورضيت أي: اخترت لكم الإسلام ديناً من بين الأديان، وهو الذي عند الله لا غير قال الله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} (آل عمران، 85).
وقوله تعالى: {فمن اضطرّ} متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض بما يوجب التجنب عنها وهو إن تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامّة والإسلام المرضي، والمعنى: فمن اضطرّ إلى تناول شيء من هذه المحرمات {في مخمصة} أي: مجاعة {غير متجانف} أي: مائل {لإثم} أي: معصية بأن يأكل ذلك تلذّذاً ومجاوزاً حدّ الرخصة كقوله تعالى: {غير باغ ولا عاد} (البقرة، 173) {فإنّ الله غفور} له ما أكل {رحيم} به في إباحته فلا يؤاخذه ومن المائل إلى الإثم قاطع الطريق ونحوه فلا يحل له الأكل مما ذكر قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر نون فمن اضطرّ في الوصل والباقون بالضم.
(15/12)
---(1/772)
{يسئلونك} يا محمد {ماذا أحل لهم} من الطعام وإنما أتى بقوله لهم بلفظ الغيبة لتقديم ضمير الغيبة في قوله تعالى: {يسئلونك} ولو قيل في الكلام: ماذا أحلّ لنا لكان جائزاً على حكاية الجملة كقولك: أقسم زيد ليضربن ولأضربن بلفظ الغيبة والتكلم، إلا أنّ ضمير المتكلم يقتضي حكاية ما قالوه كما أن لأضربن يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها وماذا مبتدأ وأحلّ لهم خبره كقولك: أي شيء أحلّ لكم منها؟ فقال تعالى: {قل} لهم {أحلّ لكم الطيبات} أي: ما ليس بخبيث منها وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد ولا مستقذر من ذي الطباع السليمة، وهذا يشمل كل ما ذبح وهو مأذون في ذبحه مما كانوا يحرّمونه على أنفسهم من السائبة وما معها وكل ما أذن فيه من غير ذبح كحيوان البحر وما أذن فيه من غير المطاعم.
وقوله تعالى: {وما علمتم من الجوارح} معطوف على الطيبات أي: أحلّ لكم الطيبات وصيد ما علمتم فحذف المضاف للعلم به والجوارح جمع جارحة من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والباز والشاهين، والهاء للمبالغة سميت؛ بذلك؛ لأنّ الجرح الكسب لأنها تكسب الصيد، ومنه قوله تعالى: {ويعلم ما جرحتم بالنهار} (الأنعام، 60) أي: كسبتم أو لأنها تجرح الصيد غالباً، وقوله تعالى: {مكلبين} حال من ضمير علمتم أي: حال كونكم معلّمين هذه الكواسب الصيد والمكلب المؤدّب الجوارح ومغريها مأخوذ من الكلب بسكون اللام وهو الحيوان النابح؛ لأنّ التأديب أكثر ما يكون في الكلاب فأخذ من لفظه لكثرته في جنسه أو لأنّ السبع يسمى كلباً ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عتبة بن أبي لهب حين أراد سفر الشام فغاظ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال النبيّ: «اللهمّ سلّط عليه كلباً من كلابك» فأكله الأسد، وقوله تعالى: {تعلمونهنّ} حال ثانية من ضمير علمتم أو استئناف.
(15/13)
---(1/773)
فإن قيل: ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم؟ أجيب: بأنّ فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح فقيهاً عالماً بالشرائط المعتبرة في الشرع لحل الصيد، وفي هذا فائدة جليلة وهي أنّ على كل طالب لشيء أن لا يأخذه إلا من أجلّ العلماء به وأشدّهم دراية له وأغوصهم على لطائفه وحقائقه، وإن احتاج في ذلك إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل فكم من أخذ من غير متقن قد ضيّع أيامه وعض عند لقاء التحارير أنامله {مما علمكم الله} أي: من علم التكليب لأنه إلهام من الله تعالى أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة منه أو مما علمكم الله أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره وانصرافه بدعائه وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه. {فكلوا مما أمسكن} أي: الجوارح مستقرّاً إمساكها {عليكم} أي: على تعليمكم وإن قتلته بأن لم تأكل منه بخلاف غير المعلّمة فلا يحل صيدها وشروط التعليم فيها ثلاثة أشياء: إذا أرسلت استرسلت، وإذا زجرت انزجرت، وإذا أخذت الصيد أمسكته ولم تأكل منه، وأقل ما يعرف به ذلك ثلاث مرات فإن أكلت منه فليس مما أمسكن على صاحبها فلا يحل أكله كما في حديث الصحيحين، وإن أكل منه فلا تأكل، منه إنما أمسك على نفسه. وعن علي رضي الله تعالى عنه: إذا أكل البازي فلا تأكل وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء وبعضهم لا يشترط ذلك في سباع الطير؛ لأن تأدبها إلى هذا الحدّ متعذر وقال آخرون: لا يشترط مطلقاً وفي هذا الحديث إنّ صيد السهم إذا أرسل وذكر اسم الله عليه كصيد المعلم من الجوارح.
(15/14)
---(1/774)
{واذكروا اسم الله عليه} في هذه الكناية ثلاثة أوجه أحدها: أنها تعود إلى المصدر المفهوم من الفعل وهو الأكل كأنه قيل: واذكروا اسم الله عليه على الأكل ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم «سمّ الله وكل مما يليك» الثاني: إنها تعود إلى ما علمتم أي: اذكروا اسم الله على الجوارح عند إرسالها على الصيد ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه» الثالث: إنها تعود إلى ما أمسكن أي: اذكروا اسم الله تعالى على ما أدركتم ذكاته مما أمسكت عليكم الجوارح {واتقوا الله} أي: في محرماته {إنّ الله سريع الحساب} فيؤاخذكم بما جل ودق، وقوله تعالى:
{اليوم} الكلام فيه كالكلام فيما قبله {أحلّ لكم الطيبات} أي: المستلذات {وطعام الذين أوتوا الكتاب} أي: ذبائح اليهود والنصارى، ومن دخل في دينهم قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم {حل} أي: حلال {لكم} فأمّا من دخل في دينهم بعد المبعث فلا تحل ذبيحتهم، ولو ذبح يهوديّ أو نصرانيّ على اسم غير الله تعالى كالنصراني يذبح على اسم المسيح لم تحل ذبيحته، وأما المجوس فقد سنّ بهم سنة أهل الكتاب في تقريرهم بالجزية دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم، قال صلى الله عليه وسلم «سنّوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم» رواه الإمام مالك {وطعامكم} إياهم {حل لهم} فلا عليكم أن تطعموهم ولا تبيعوه منهم ولو حرم عليهم لم يجز ذلك.
{والمحصنات من المؤمنات} أي: الحرائر {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} وهم اليهود والنصارى أي: حل لكم أن تنكحوهنّ وإن كنّ حربيات. وقال أبي عباس: لا تحل الحربيات وأما الإماء المسلمات فيحل نكاحهنّ في الجملة بخلاف الإماء الكتابيات فلا يحل نكاحهنّ عندنا ويحل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
(15/15)
---(1/775)
{إذا آتيتموهنّ أجورهنّ} أي: مهورهنّ فتقييد الحلّ بإتيانها لتأكيد وجوبها والحث على الأولى وإنّ من تزوّج امرأة وعزم أن لا يعطي صداقها كان في صورة الزاني، وورد فيه حديث وتسميته بالأجر يدل على أنه لا حدّ لأقلّه كما إن أقل الأجر في الإجارة لا يتقدّر {محصنين} أي: قاصدين الإعفاف والعقاب. وقيل: متزوّجين {غير مسافحين} أي: معلنين بالزنا بهنّ {ولا متخذي أخدان} أي: مسرّين بالزنا منهنّ، والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى قال الشعبي: الزنا ضربان: السفاح وهو الزنا على سبيل الإعلان واتخاذ الخدن وهو الزنا سراً والله تعالى حرمهما في هذه الآية وأباح التمتع بالمرأة على جهة الإحصان وهذه الآية مخصصة لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ} (البقرة، 221) فبقي على التحريم ما تضمنته تلك ما عدا الكتابيات من الوثنيات وغيرهنّ من جميع المشركات، حتى المنتقلة من الكتابيات من دينها إلى غير دين الإسلام، وقرأ الكسائي بكسر صاد المحصنات والباقون بنصبها.
(15/16)
---(1/776)
وقوله تعالى: {ومن يكفر بالإيمان} اختلف المفسرون في معناه فقال ابن عباس ومجاهد: ومن يكفر بالإيمان أي: بالله الذي يجب الإيمان به وإنما حسن هذا المجاز؛ لأنه يقال: رب الإيمان ورب الشيء على سبيل المجاز، وقال الكلبي: ومن يكفر بالإيمان أي: بكلمة التوحيد وهي شهادة أن لا إله إلا الله لأنّ الإيمان من لوازمها وإطلاق الشيء على لازمه مجاز مشهور، وقال قتادة: إنّ ناساً من المسلمين قالوا: كيف نتزوّج نساءهم مع كونهم على غير ديننا؟ فأنزل الله هذه الآية: {ومن يكفر} بما أنزل الله في القرآن فهو كذا وكذا فسمي القرآن إيماناً؛ لأنه مشتمل على بيان كل ما لا بد منه في الإيمان، والمراد من ذلك أن يأتي بشيء يصير به مرتداً {فقد حبط} أي: فسد {عمله} الصالح قبل ذلك إن اتصل ذلك بالموت بدليل قوله تعالى: {وهو في الآخرة من الخاسرين} وقوله تعالى في آية أخرى: {فيمت وهو كافر} (البقرة، 217) أمّا من أسلم قبل الموت فإنّ ثوابه يفسد دون عمله فلا يجب عليه إعادة حج قد فعله ولا صلاة قد صلاها قبل الردّة.
(15/17)
---(1/777)
{ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} أي: أردتم القيام إليها كقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ با} (النحل، 98) عبرّ عن إرادة الفعل بالفعل المسبب عنها للإيجاز والتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة، وظاهر الآية الكريمة يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثاً، لكن صدّ عنه الإجماع لما روي أنه صلى الله عليه وسلم صلى الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال له عمر: صنعت شيئاً لم تكن تصنعه فقال: «عمداً فعلته»، فقيل: هو مطلق أريد به التقييد والمعنى: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين وقيل: الأمر فيه للندب وقيل: كان ذلك أوّل الأمر ثم نسخ قال البيضاوي: وهو ضعيف لقوله صلى الله عليه وسلم «المائدة من آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلالها وحرموا حرامها» {فاغسلوا وجوهكم} أي: أمروا الماء عليها، ولا يجب الدّلك خلافاً لمالك رضي الله تعالى عنه {و} اغسلوا {أيديكم إلى المرافق} أي: معها إن وجدت وقدرها إن فقدت، لما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد» إلخ.. وللإجماع أوان إلى في الآية بمعنى مع كما في قوله تعالى: {من أنصاري إلى الله} (آل عمران، 52) ويزدكم قوّة إلى قوّتكم أو يجعل اليد التي هي حقيقة إلى المنكب مجازاً إلى المرفق مع جعل إلى غاية للغسل الداخلة هنا في المغيّا بقرينة الإجماع والاحتياط للعبادة، والمعنى اغسلوا أيديكم من رؤوس الأصابع إلى المرافق، أو تجعل باقية على حقيقتها إلى المنكب مع جعل إلى غاية للترك المقدّر فتخرج الغاية والمعنى اغسلوا أيديكم واتركوا منها إلى المرافق، والمرافق جمع مرفق بفتح الميم وكسر الفاء على الفصيح من اللغة وهو مفصل ما بين العضد والمعصم ولو قطع بعض ما يجب غسله وجب غسل الباقي؛ لأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور، وإن(1/778)
قطع
(15/19)
---
من المرفق فإن سلّ عظم الذراع وبقي العظمان المسميان برأس العضد وجب غسل رأس عظم العضد؛ لأنه من المرفق وهو مجموع العظمين والإبرة الداخلة بينهما وإن قطع من فوق المرفق ندب غسل باقي عضده.
{وامسحوا برؤسكم} أي: ببعضها. لما روى مسلم «إنه صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى عمامته» واكتفى بمسح البعض لأنه المفهوم من المسح عند إطلاقه ولم يقل أحد بوجوب خصوص الناصية وهي الشعر الذي بين النزعتين والاكتفاء بها يمنع وجوب الاستيعاب ويمنع وجوب التقدير بالربع أو أكثر لأنها دونه والباء إذا دخلت على متعدّد كما في الآية تكون للتبعيض أو على غيره كما في قوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (الحج، 29) تكون للالصاق.
فإن قيل: صيغة الأمر بمسح الرأس والوجه في التيمم واحدة فهلا أوجبتم التعميم أيضاً؟ أجيب: بأن المسح ثم بدل للضرورة فاعتبر ببدله ومسح الرأس أصل فاعتبر لفظه.
فإن قيل: المسح على الخف بدل فهلا وجب تعميمه كمُبْدَله؟ أجيب: بقيام الإجماع على عدم وجوبه، ولا فرق بين أن يمسح على بشرة الرأس أو شعرها ولو شعرة واحدة في حدّ الرأس؛ لأنّ ذلك يصدق عليها مسمى الرأس عرفاً إذ الرأس اسم لما رأس وعلا وقوله تعالى: {وأرجلكم} قرأ نافع وابن عامر وحفص والكسائي بنصب اللام عطفاً على وجوهكم. وقيل: على أيديكم والباقون بالكسر على الجوار ومنهم من عطف على المجرور على قراءة الجرّ والممسوح ليفيد مسح الخف، وعطف على المنصوب على قراءة النصف على المغسول ليفيد غسل الرجل المتجرّدة منه فيفيد كل من القراءتين غير ما أفادته الأخرى وقوله تعالى: {إلى الكعبين} وهم العظمان الناتئان في كل رجل من جانبين عند مفصل الساق والقدم دل على دخولهما في الغسل ما دل على دخول المرفقين فيه وقد مرّ.
(15/20)
---(1/779)
تنبيه: الفصل بين الأيدي والأرجل المغسولة بالرأس الممسوح فيه دليل على وجوب الترتيب في طهارة هذه الأعضاء وعليه الشافعيّ رضي الله تعالى عنه ولو قطع بعض القدم وجب غسل الباقي وإن قطع فوق الكعب فلا فرض عليه، وندب غسل الباقي كما مرّ في اليد ويؤخذ من السنة وجوب النية فيه كغيره من العبادات.
{وإن كنتم جنباً} من جماع وغيره {فاطهروا} أي: بالغسل لجميع البدن؛ لأنه أطلق ولم يخص الأعضاء كما في الوضوء {وإن كنتم مرضى} أي: مرضاً يضره الماء {أو على سفر} أي: مسافرين سفراً مباحاً طويلاً أو قصيراً {أو جاء أحد منكم من الغائط} أي: الموضع المطمئن من الأرض الذي يقضي فيه حاجته الإنسان التي لا بد منها سمي باسمه الخارج للمجاورة. قيل: وفي ذلك حكمة وهي شدة عجز الإنسان ليكف عن إعجابه وكبره وترفعه وفخره كما حكي أنّ بعض الأمراء لقي بعض البله فلم يفسح له فغضب وقال: كأنك لم تعرفني فقال: بلى والله إني لأعرفك أوّلك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة، وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر وسهل ورش وقنبل الهمزة الثانية وحقق الباقون الهمزتين معاً.
{أو لامستم النساء} بالذكر أو غيره أمنيتم أم لا وقرأ حمزة والكسائي بغير ألف بين اللام والميم والباقون بالألف {فلم تجدوا ماء} بعد طلبه لفقده حساً أو معنى بالعجز عن استعماله للمرض بجرح أو غيره {فتيمّموا} أي: اقصدوا {صعيداً} أي: تراباً {طيباً} أي: طهوراً خالصاً {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} مع المرفقين {منه} بضربتين والباء للإلصاق وبينت السنة أنّ المراد استيعاب العضوين بالمسح وتقدّم مثل هذه الآية في النساء في البيضاوي، ولعل تكريره ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة.
(15/21)
---(1/780)
{ما يريد الله ليجعل عليكم} في الدين {من حرج} أي: ضيق بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم {ولكن يريد ليطهركم} من الأحداث والذنوب فإنّ الوضوء يكفر الذنوب {وليُتِمّ نعمته عليكم} ببيان شرائع الدين {لعلكم تشكرون} نعمه فيثيبكم، قال البيضاوي: والآية مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى طهارتان أصل وبدل والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح وباعتبار المحل محدود وغير محدود وإنّ آلتيهما مائع وجامد وموجبهما حدث أصغر أو أكبر، وإنّ المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وإنّ الموعود عليه تطهير الذنوب وإتمام النعمة.
{واذكروا نعمة الله عليكم} أي: في هدايته لكم إلى الإسلام بعد أن كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، وفي غير ذلك من جميع النعم ليذكركم المنعم ويرغبكم في شكره، لأنّ كثرة النعم توجب على المنعم عليه الاشتغال بخدمة المنعم والانقياد لأوامره ونواهيه وقال تعالى: {نعمة الله} ولم يقل نعم الله؛ لأنّ هذا الجنس لا يقدر عليه إلا الله لأنّ نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون من الآفات وإيصال الخيرات في الدنيا والآخرة لا يعلمه إلا الله تعالى وإن المراد التأمل في هذا النوع من حيث إنه ممتاز عن نعمة غيره.
(15/22)
---(1/781)
فإن قيل: قوله تعالى: {واذكروا نعمة الله} يشعر بسبق النسيان وكيف يعقل نسيانها مع أنها متواترة متوالية علينا في جميع الساعات والأوقات؟ أجيب: بأنها لكثرتها وتعاقبها صارت كالأمر المعتاد فصار غاية ظهورها وكثرتها سبباً لوقوعها في محل النسيان {و}اذكروا {ميثاقه} أي: عقده الوثيق {الذي واثقكم به} أي: بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بايعكم ليلة العقبة على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره والمنشط مفعل من النشاط وهو الأمر الذي ينشط له والمكره مفعل من الكره وهو الأمر الذي تكرهه النفس وأضاف الميثاق الصادر من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نفسه كقوله: {إنّ الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} وأكد ذلك بأنكم التزمتموه {إذا} أي: حين {قلتم سمعنا وأطعنا} وفي ذلك تذكير بما أوجب الله له صلى الله عليه وسلم عليكم من الشكر بهدايته لكم إلى الإسلام ثم حذركم عن نقض تلك العهود بقوله: {واتقوا الله} أي: في ميثاقه أن تنقضوه {إنّ الله} الذي له صفات الكمال {عليم} أي: بالغ العلم {بذات الصدور} أي: بما في القلوب فبغيره أولى فيجازيكم عليها فضلاً عن جليات أعمالكم، وقيل: المراد بالميثاق هو الذي أخذه الله منهم حين أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى قاله مجاهد وقيل: المراد به الدلائل العقلية والشرعية التي نصبها الله على التوحيد والشرائع قاله السدي، وأدغم أبو عمرو القاف في واثقكم في الكاف بخلاف عنه.
(15/23)
---(1/782)
{ ياأيها الذين آمنوا كونوا قوّامين} أي: مجتهدين في القيام بحقوقه تعالى {شهداء} أي: متيقظين محضرين إفهامكم غاية الإحضار بحيث لا يشذّ عنها شيء مما تريدون الشهادة به {بالقسط} أي: العدل {ولا يجرمنكم} أي: ولا يحملنكم {شنآن} أي: شدّة بغض {قوم} أي: الكفار {على أن لا تعدلوا} فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل كمثلة وقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفياً مما في قلوبكم {اعدلوا} أي: تحروا العدل واقصدوه في كل شيء {هو} أي: العدل {أقرب} من تركه {للتقوى} لكونه لطفاً فيه وفيه تنبيه عظيم على أنّ وجوب العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله إذا كان بهذه الصفة فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه.
تنبيه: يؤخذ من هذا أن التكاليف مع كثرتها محصورة في نوعين: التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فقوله تعالى: {كونوا قوّامين } إشارة إلى التعظيم لأمر الله ومعنى القيام هو أن تقوم لله بالحق في كل ما يلزمك وقوله تعالى: {شهداء بالقسط} إشارة إلى الشفقة على خلق الله وفيه قولان، الأوّل: قال عطاء: لا تخاف في شهادتك أهل ودك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك. الثاني: أمرهم بالصدق في أفعالهم وأقوالهم، وتقدّم نظير هذه الآية في النساء، إلا أنّ هناك قدم لفظة القسط وهنا أخرّها، قال ابن عادل: فكان الغرض من ذلك والله أعلم إنّ آية النساء جيء بها في معرض الإقرار على نفسه ووالديه وأقاربه فبدأ فيها بالقسط الذي هو العدل من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة والتي هنا جيء بها في معرض ترك العداوة فبدأ بالأمر بالقيام؛ به لأنه أردع للمؤمنين ثم ثني بالشهادة بالعدل فجيء في كل معرض بما يناسبه. وقال البيضاوي: وتكرير هذا الحكم إمّا لاختلاف السبب كما قيل: إنّ الأولى نزلت في المشركين وهذه في اليهود ولمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة في إطفاء ثائرة الغيظ {واتقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون} فيجازيكم به.
(15/24)
---(1/783)
{وعد الله الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان بألسنتهم {وعملوا} تصديقاً لهذا الإقرار {الصالحات} وحذف ثاني مفعولي وعد استغناء بقوله: {لهم مغفرة وأجر عظيم} فإنه استئناف يبينه. وقيل: الجملة في موضع المفعول فإنّ الوعد ضرب من القول؛ لأنه لا ينعقد إلا به فكأنه قال: وعدهم هذا القول والأجر العظيم هو الجنة.
(15/25)
---
{والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} أي: النار التي اشتدّ توقدها فاشتدّ احمرارها فلا يراها أحد إلا أحجم عنها فيلقون فيها ثم يلازمونها فلا ينفكون عنها كما هو شأن الصاحب وهذا من عادة الله سبحانه وتعالى إنه يتبع حال أحد الفريقين حال الفريق الآخر وفاء بحق الدعوة وفيه مزيد وعد للمؤمنين وتطييب لقلوبهم.
{يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم} رسمت نعمت هنا بالتاء فوق فوقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي والهاء والباقون بالتاء وفي الوصل الجميع بالتاء.
روي أنّ المشركين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معاً وذلك بعسفان وهو وادٍ بينه وبين مكة مرحلتان في غزوة ذي أنمار فلما صلّوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقالوا: إن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم يعنون صلاة العصر وهموا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها فنزل جبريل عليه السلام بصلاة الخوف، رواه مسلم وغيره والآية إشارة إلى ذلك.
(15/26)
---(1/784)
وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني قريظة ومعه الخلفاء الأربعة يستقرضهم أي: يطلب منهم مالاً قرضاً لدية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين، لكن في رواية البيهقي أنّ المقتولين كانا معاهدين لا مسلمين وأن الخروج كان لبني النضير لا إلى قريظة فقالوا: نعم يا أبا القاسم وكانوا قد عاهدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات فقالوا: قد آن لك أن تأتينا أو تسألنا حاجة اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحش: أنا، فجاء إلى رحا عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله تعالى يده فنزل جبريل عليه السلام فأخبره فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة ثم دعا علياً وقال: «لا تبرح مقامك فمن خرج عليك من أصحابي فسأل عني فقل: توجه إلى المدينة» ففعل ذلك حتى تناهوا إليه ثم تبعوه، وقيل: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً وتفرق الناس في العضاء يستظلون بها فعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة فجاء أعرابي فسل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل عليه فقال: من يمنعك مني؟ قال: «الله» فأسقطه جبريل من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «من منعك مني؟» فقال: لا أحد أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله فنزلت.
(15/27)
---(1/785)
{إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم} ليفتكوا بكم يقال: بسط إليه لسانه إذا شتمه وبسط إليه يده إذا بطش به قال تعالى: {ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء} (الممتحنة، 2) ومعنى بسط اليد مدّها إلى المبطوش به، ألا ترى إلى قولهم: فلان بسيط الباع ومديد الباع بمعنى {فكف أيديهم عنكم} أي: منعها أن تمد إليكم ورد مضرتها عنكم {واتقوا الله} في جميع أموركم {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} فإنه الكافي لإيصال الخير ودفع الشر.
{ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل} أي: العهد الموثق بما أخذ عليكم من السمع والطاعة {وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً} أي: شاهداً على كل سبط نقيب يكفلهم بالوفاء بما عليهم الوفاء به كما بعثنا منكم ليلة العقبة اثني عشر نقيباً وأخذنا منكم الميثاق على ما به كمال الإسلام والنقيب الذي ينقب عن أحوال القوم كما قيل له: عريف لأنه يتعرّفها ومن ذلك المناقب وهي الفضائل لأنها لا تظهر إلا بالتنقيب عنها.
(15/28)
---(1/786)
روي أنّ بني إسرائيل لما استقروا بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله تعالى بالمسير إلى أريحاء بالمدّ أرض الشام وكان سكنها الكنعانيون الجبابرة وقال: إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرجوا إليها وجاهدوا فيها، وإني ناصركم وأمر موسى صلوات الله وسلامه عليه أن يأخذ من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أمروا به يوثقه عليهم واختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل وتكفل له بهم النقباء وسار بهم، فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون فرأوا إجراماً عظيماً وقوّة وشوكة فهابوا ورجعوا وحدّثوا قومهم، وقد نهاهم موسى عليه السلام أن يحدّثوهم فنكثوا الميثاق إلا كالب بن يوفنا من سبط يهودا ويوشع بن نون من سبط افراثيم بن يوسف وكانا من النقباء {وقال} لهم {الله إني معكم} أي: بالعون والنصرة {لإن} لام قسم {أقمتم الصلاة} التي هي وصلة العبد والخالق بجميع شروطها وأركانها وآتيتم الزكاة التي تقرّب العبد إلى الله عز وجلّ {وآمنتم برسلي} أي: بجميع الرسل {وعزرتموهم} أي: نصرتموهم وقيل: التعزير التعظيم وقيل: هو الثناء بخير قاله يونس وهو قريب من الثاني.
فإن قيل: لم أخرّ الإيمان بالرسل عن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنه مقدّم عليهما؟ أجيب: بأنّ اليهود كانوا مقرّين بأنه لا بدّ في حصول النجاة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة إلا أنهم كانوا مصرّين على تكذيب بعض الرسل فذكر أنّ بعد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة لا بدّ من الإيمان بجميع الرسل حتى يحصل المقصود وإلا لم يكن لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة تأثير في حصول النجاة بدون الإيمان بجميع الرسل.
(15/29)
---(1/787)
فإن قيل: قوله تعالى: {وأقرضتم الله قرضاً حسناً} داخل تحت إيتاء الزكاة فما فائدة إعادته؟ أجيب: بأنّ المراد بالزكاة الواجبة وبالقرض الصدقة المندوبة وخصها تنبيهاً على شرفها وقرضاً يحتمل المصدر والمفعول به، ولما كان الإنسان محل النقصان فهو لا ينفك عن زلل أو تقصير وإن اجتهد في صلاح العمل قال: سدّ الجواب القسم المدلول عليه باللام في لئن مسد جواب الشرط {لأكفرنّ} أي: لأسترنّ {عنكم سيآتكم} أي: فعلكم الذي من شأنه أن يسوء {ولأدخلنكم} فضلاً ورحمة مني {جنات تجري من تحتها الأنهار} أي: من شدّة الريّ {فمن كفر بعد ذلك} الميثاق {منكم فقد ضلّ} أي: ترك وضيع {سواء السبيل} أي: أخطأ طريق الحق والسواء في الأصل الوسط.t
فإن قيل: من كفر قبل ذلك أيضاً فقد ضلّ سواء السبيل، أجيب: بأنّ الضلال بعد أظهر وأعظم لأنه الكفر بعد البيان العظيم فهو أعظم من غيره لأنه قد يكون له قبل ذلك شبهة يتوهم له معذرة، وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار دال قد عند الضاد والباقون بالإدغام وقد تقدّم ولما نقضوا الميثاق مرّة بعد مرّة بتكذيب الرسل وقتل الأنبياء وكتمهم صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم كما تقدّم في سورة البقرة.
(15/30)
---(1/788)
قال تعالى: {فبما} ما مزيدة للتأكيد {نقضهم ميثاقهم لعنّاهم} قال عطاء: أبعدناهم من رحمتنا، وقال الحسن ومقاتل: مسخناهم قردة وخنازير وقال ابن عباس: ضربنا الجزية عليهم {وجعلنا قلوبهم قاسية} أي: لا تلين لقبول الإيمان وقرأ حمزة والكسائي بغير ألف بعد القاف وتشديد الياء بمعنى رديئة من قولهم درهم قسي إذا كان مغشوشاً وهو أيضاً من القسوة فإنّ المغشوش فيه يبس وصلابة والباقون بألف بعد القاف وتخفيف الياء وقوله تعالى: {يحرّفون الكلم عن مواضعه} استئناف لبيان قسوة قلوبهم فإنه لا قسوة أشد من تغيير كلام الله تعالى والافتراء عليه {ونسوا حظاً} أي: نصيباً نافعاً {مما ذكروا به} أي: من التوراة على أنبيائهم عيسى ومن قبله عليهم الصلاة والسلام تركوه ترك الناسي للشيء لقلة مبالاتهم به بحيث لم يكن لهم رجوع إليه وقيل معناه: إنهم حرّفوها فزلّت لشؤمهم أشياء منها عن حفظهم وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية وقيل: تركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته {ولا تزال} أي: بما نطلعك عليه يا أكرم الخلق فهو خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم {تطلع} أي: تظهر {على خائنة} أي: خيانة {منهم} بنقض العهد وغيره لأنّ ذلك من عادتهم وعادة أسلافهم لا تزال ترى ذلك منهم {إلا قليلاً منهم} لم يخونوا وهم الذين آمنوا منهم {فاعف عنهم} أي: امح ذنبهم ذلك {واصفح} أي: أعرض عن ذلك أصلاً ورأساً إن تابوا وآمنوا وعاهدوا والتزموا الجزية وقيل: مطلق ونسخ بآية السيف وقوله تعالى: {إنّ الله يحب المسحنين} تعليل للأمر بالصفح وحث عليه وتنبيه على أنّ العفو عن الكافر الخائن إحسان فضلاً عن العفو عن غيره.
روى الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سحره رجل من اليهود يقال له لبيد بن الأعصم.
(15/31)
---(1/789)
وفي رواية البخاري أنه رجل من بني زريق حليف لليهود وكان منافقاً حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء ولا يأتيهنّ وذلك أشدّ السحر، ثم إنّ الله تعالى شفاه وأعلمه أنّ السحر في بئر ذروان فقالت له عائشة رضي الله تعالى عنها: أفلا أخرجته؟ فقال: «لا أمّا أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شرّاً فأمرت به فدفنته» وهو في معجم الطبرانيّ الكبير وهذا لفظه، وعن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه قال: «كان رجل يدخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فعقد له عقداً فجعله في بئر رجل من الأنصار فأتاه ملكان يعوذانه فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال أحدهما: أتدري ما وجعه؟ قال فلان الذي يدخل عليه عقد له عقداً فألقاه في بئر فلان الأنصاري فلو أرسل رجلاً لوجد الماء أصفر فبعث رجلاً فأخذ العقد فحلها فبرىء، فكان الرجل بعد ذلك يدخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يذكر له شيئاً منه ولم يعاتبه»، وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنّ امرأة يهودية سمّت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك فقالت: أردت لأقتلك فقال: «ما كان الله ليسلطك على ذلك ـ أو قال ـ عليّ» قالوا: أفلا نقتلها؟ قال: «لا» قال أنس: فما زلت أعرفها في لهوات النبيّ صلى الله عليه وسلم فانظر إلى عفوه صلى الله عليه وسلم واقتد به»، وفي ذلك غاية العفو والإحسان امتثالاً لأمر ربه تعالى، وقيل: فاعف عن مؤمنهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم.
(15/32)
---
{ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم} أي: وأخذنا من النصارى ميثاقهم كما أخذنا ممن قبلهم.
(15/33)
---(1/790)
فإن قيل: هلا قال من النصارى؟ أجيب: بأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادّعاء لنصرة الله تعالى لقولهم لعيسى: {نحن أنصار الله} (آل عمران، 52) وليسوا موصوفين به قال الحسن: فيه دليل على أنهم نصارى بتسميتهم لا بتسمية الله تعالى {فنسوا} أي: تركوا ترك الناسي {حظاً} أي: نصيباً عظيماً يتنافس في مثله {مما ذكّروا به} أي: في الإنجيل من الإيمان ومن أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك ونقضوا الميثاق {فأغرينا} أي: أوقعنا {بينهم} أي: النصارى بعد أن جعلناهم فرقاً متباينين وهم نسطورية ويعقوبية وملكانية وكذا بينهم وبين اليهود {العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} أي: بتفرّقهم واختلاف أهوائهم فكل فرقة تكفر الأخرى وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية والباقون بتحقيقهما {وسوف ينبئهم الله} أي: يجزيهم في الآخرة {بما كانوا يصنعون} فيجازيهم عليه.
وقوله تعالى: {يا أهل الكتاب} خطاب لليهود والنصارى ووحد الكتاب لأنه للجنس {قد جاءكم رسولنا} وهو أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم {يبين لكم} أي: يوضح إيضاحاً شافياً {كثيراً مما كنتم تخفون} أي: تكتمون {من الكتاب} أي: التوراة والإنجيل كنعت محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم في التوراة وبشارة عيسى وأحمد في الإنجيل {ويعفو عن كثير} أن مما تخفونه فلا يبينه إذا لم يكن فيه مصلحة في أمر ديني أو عن كثير منكم فلا يؤاخذه بجرمه {قد جاءكم من الله نور} هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي جلا ظلمات الشك والشرك {وكتاب} هو القرآن العظيم {مبين} أي: بين في نفسه مبين لما كان خافياً على الناس من الحق.
(15/34)
---(1/791)
{يهدي به الله} أي: بالكتاب وقيل: بهما ووحد الضمير لأنّ المراد بهما واحد لأنهما كواحد في الحكم {من اتبع رضوانه} أي: رضاه بأن آمن {سبل} أي: طرق {السلام} أي: السلامة من العذاب أو الله باتباع شرائع دينه {ويخرجهم من الظلمات} أي: أنواع الكفر والوساوس الشيطانية {إلى النور} أي: الإسلام {بإذنه} أي: بإرادته أو بتوفيقه {ويهديهم إلى صراط مستقيم} أي: طريق هي أقرب الطرق إلى الله تعالى ومؤدّ إليه لا محالة وهو الدين الحق.
{لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح بن مريم} وذلك حيث جعلوه إلهاً وهم اليعقوبية فرقة من النصارى، وقيل: ما صرحوا به ولكن مذهبهم يؤدي إليه حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيي ويميت ويدبر أمر العالم {قل} لهم يا محمد {فمن يملك} أي: يدفع {من} عذاب {الله شيئاً} أي: من الأشياء التي يتوهم أنها قد تمنعه مما يريد {إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمّه ومن في الأرض جميعاً} أي: لا أحد يملك ذلك ولو كان المسيح إلهاً لقدر عليه فدل ذلك على أنه بمعزل من الألوهية وإنه مقدور مقهور قابل للفناء كسائر الممكنات، وأراد بعطف من في الأرض على المسيح وأمّه إنهما من جنسهم لا تفاوت بينهم وبينهما في البشرية {و ملك السموات والأرض وما بينهما} أي: بين النوعين وبين أفرادهما مما به تمام أمرهما {يخلق ما يشاء} أي: على أيّ كيف أراد {وا على كل شيء قدير} أي: قادر على الإطلاق يخلق من غير أصل كما خلق السموات والأرض ومن أصل كما خلق ما بينهما وينشىء من أصل ليس من جنسه كآدم وكثير من الحيوانات ومن أصل يجانسه أمّا من ذكر وحده كما خلق حوّاء من آدم أو من أنثى وحدها كعيسى بن مريم أو منهما كسائر الناس.
(15/35)
---(1/792)
{وقالت اليهود والنصارى} أي: كل طائفة قالت على حِدَتِها {نحن أبناء الله وأحباؤه} اختلف المفسرون في معنى ذلك على أربعة أوجه، أحدها: أنّ هذا من باب حذف المضاف أي: نحن أبناء رسل الله كقوله تعالى: {إنّ الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} (البقرة، 10) الثاني: إن لفظ الابن كما يطلق على ابن الصلب قد يطلق أيضاً على من اتخذ ابناً بمعنى تخصيصه بمزيد الشفقة والمحبة، فالقوم لما ادعوا عناية الله بهم ادعوا أنهم أبناء الله. الثالث: إنّ اليهود زعموا أنّ العزير ابن الله، والنصارى زعموا أنّ المسيح ابن الله ثم زعموا أنّ العزير والمسيح كانا منهم فصار كأنهم قالوا: نحن أبناء الله ألا ترى أنّ أقارب الملك إذا فاخروا أحداً يقولون: نحن ملوك الدنيا والمراد كونهم مختصين بالشخص الذي هو الملك فكذا هنا، الرابع: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوّفهم من عقاب الله فقالوا: كيف تخوّفنا بعذاب الله ونحن أبناء الله تعالى وأحباؤه فهذه الرواية إنما وقعت عن تلك الطائفة، وأمّا النصارى فإنهم يتلون في الإنجيل أنّ المسيح قال لهم: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، وقيل: أرادوا أنّ الله كالأب لنا في الحنو والعطف ونحن كالأبناء له في القرب والمنزلة، وقال إبراهيم النخعي: إنّ اليهود وجدوا في التوراة يا أبناء أحباري فبدلوه بيا أبناء أبكاري فمن ذلك قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه.
وجملة الكلام: إنّ اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلاً على سائر الخلق بسبب أسلافهم من الأنبياء إلى أن ادعوا ذلك.
(15/37)
---(1/793)
{قل} لهم يا محمد {فلم يعذبكم بذنوبكم} أي: فإن صحّ ما زعمتم فلم يعذبكم بذنوبكم ولا يعذب الأب ولده ولا الحبيب حبيبه وقد عذّبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ واعترفتم بأنه سيعذبكم بالنار أياماً معدودة، وقرأ البزّي في الوقف فَلِمَهْ بخلاف عنه {بل أنتم بشر من} جملة {من خلق}ه الله تعالى من البشر لكم ما لهم وعليكم ما عليهم {يغفر لمن يشاء} أي: ممن خلقه منكم ومن غيركم تفضلاً منه تعالى {ويعذب من يشاء} كذلك كما تشاهدونه يكرم ناساً منكم في هذه الدار ويهين آخرين لا اعتراض عليه، وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام من يغفر والياء في الميم من يعذب بخلاف عنه ورقق ورش الراء على أصله {و ملك السموات والأرض وما بينهما} أي: وأنتم مما بينهما فمن كان هكذا وقدرته هكذا كيف يستحق عليه البشر الضعيف حقاً واجباً وكيف يملك عليه الجاهل بعبادته الناقصة ديناً لازماً {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً} (الكهف، 5) ثم قال: {وإليه المصير} أي: المرجع فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
{يا أهل الكتاب} أي: من الفريقين {قد جاءكم رسولنا} محمد صلى الله عليه وسلم {يبيّن لكم} أي: ما كتمتم وحذف لتقدّم ذكره أو الدين وحذف لظهوره ويجوز أن لا يقدر مفعول على معنى ويبذل لكم البيان وجملة يبيّن لكم في موضع الحال أي: جاءكم رسولنا مبيناً لكم وقوله تعالى: {على فترة من الرسل} متعلق بجاءكم أي: جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل وانقطاع من الوحي، قال ابن عباس: يريد على انقطاع من الأنبياء فشبّه فقدهم وبعد العهد بهم ونسيان أخبارهم وبلاء رسومهم وآثارهم وانطماس معالمهم وأنوارهم بشيء كان يغلي ففتر ولم يبق من وصفه المقصود منه إلا أثرٌ خافٍ ورسْمٌ دارسٌ.
(15/38)
---(1/794)
يقال: فتر الشيء يفتر فتوراً إذا سكنت حركته وصار أقلّ مما كان عليه وسميت المدّة بين الأنبياء فترة لفتور الدواعي في العمل بترك الشرائع واختلفوا في مدّة الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم فقال أبو عثمان النهدي: ستمائة سنة، وقال قتادة: خمسمائة وستون سنة وقال معمر والكلبيّ: خمسمائة وستة وأربعون سنة وعن الكلبيّ: بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة وألف نبيّ، وبين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم أربعة من الأنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب وهو خالد بن سنان العبسيّ، وفي الآية امتنان عليهم بأن بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي وكانوا أحوج ما يكون إليه قال البقاعي: ولعله عبّر بالمضارع في يبيّن إشارة إلى أنّ دينه وبيانه لا ينقطع أصلاً بحفظ كتابه فكلما درست سنة منح الله تعالى بعالم يردّ الناس إليها بالكتاب العزيزالمعجز القائم أبداً فلذلك لا يحتاج الأمر إلى نبيّ مجدّد إلا عند الفتنة التي لا تطيقها العلماء وهي فتنة الدجال ويأجوج ومأجوج.
ثم علل ذلك بقوله تعالى: {أن} أي: كراهة أن {تقولوا} أي: إذا حشرتم وسئلتم عن إهمالكم {ما جاءنا من بشير} أيّ بشير فمن زائدة لتأكد النفي أي: يبشرنا لنرغب فنعمل بما يسعدنا فنفوز {ولا نذير} أي: يحذرنا لنرهب فنترك ما يشقينا فنسلم وقوله تعالى: {فقد جاءكم بشير ونذير} متعلق بمحذوف أي: لا تعتذروا بما جاءنا من بشير ولا نذير فلا جاءكم بشير ونذير {وا على كل شيء قدير} أي: فيقدر على الإرسال تَتْراً واحداً بعد واحد على التعاقب كما فعل بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وعلى الإرسال على فترة كما فعل بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
(15/39)
---(1/795)
{وإذ قال موسى لقومه} أي: من اليهود {يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم} أي: إنعامه فذكرهم بثلاثة أمور، أولها: قوله تعالى: {إذ} أي: حين {جعل فيكم} أي: منكم {أنبياء} فأرشدكم وشرفكم بهم ولم يبعث في أمّة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم وحمزة والكسائي بإظهار ذال «إذ» عند الجيم وأدغمها أبو عمرو وهشام، وثانيها: قوله تعالى: {وجعلكم ملوكاً} أي: وجعل منكم أو فيكم فقد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء بعد فرعون حتى قتلوا يحيى وهمّوا بقتل عيسى وقال ابن عباس: وأصحاب خدم وحشم، قال قتادة: كانوا أوّل من ملك الخدم ولم يكن قبلهم خدم.
وعن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنه قال: «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكاً» وقال أبو عبد الرحمن الجيلي: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المسلمين المهاجرين؟ فقال عبد الله له: يا هذا ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم قال: فأنت غنيّ من الأغنياء قال: ألك خادم؟ قال: نعم قال: أنت من الملوك. وقال السديّ: وجعلكم أحراراً تملكون أمر أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القبط يستعبدونكم، وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية فمن كان مسكنه واسعاً وفيه نهر جارٍ فهو ملك.
(15/40)
---(1/796)
وثالثها: قوله تعالى: {وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} وذلك، لأنه تعالى خصهم بأنواع عظيمة من الإكرام كفلق البحر لهم وأهلك عدوّهم وأورثهم أموالهم وأنزل عليهم المنّ والسلوى وأخرج لهم المياه الغزيرة من الحجر وأظلّ فوقهم الغمام، ولم يجتمع الملك والنبوّة لقوم كما اجتمعا لهم، وكانوا في تلك الأيام هم العلماء بالله تعالى وهم أحباب الله وأنصار دينه، وقيل: المراد بالعالمين عالمو زمانهم. وقال الكلبيّ: إن جعلت العالمين عامّاً وجب تخصيص «ما» لئلا يلزم أنهم أوتوا ما لم تؤت هذه الأمّة من الكرامة والفضل وغير ذلك وإن خصصته بعالمي زمانهم ف «ما» باقية على عمومها إذ لا محذور.
ولما ذكرهم هذه النعم وشرحها لهم أمرهم بعد ذلك بجهاد العدوّ فقال:
{يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة} أي: المطهرة وهي أرض بيت المقدس سمّيت بذلك لأنها كانت مسكن الأنبياء والمؤمنين وقال مجاهد: هي الطور وما حوله. وقال الكلبيّ: هي دمشق وفلسطين وبعض الأردُنّ وهو بضم الدال وتشديد النون اسم نهر أو كورة بالشأم قاله الجوهريّ، وقال قتادة: هي الشأم كلها {التي كتب الله لكم} أي: في اللوح المحفوظ إنها لكم مساكن وقال السديّ: أمركم بدخولها.
فإن قيل: على القول الأوّل: كيف كتبها لهم بعد قوله تعالى بعد {فإنها محرمة عليهم}؟ أجيب: بأجوبة أوّلها: قال ابن عباس: إنها كانت هبة ثم حرّمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم، ثانيها: اللفظ وإن كان عاماً لكم المراد به الخصوص فكأنها كتبت لبعضهم وحرّمت على بعضهم، ثالثها: إنّ الوعد بقوله تعالى: {كتب الله لكم} مشروط بقيد الطاعة فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط، رابعها: إنها محرّمة عليهم أربعين سنة فلما مضت الأربعون حصل ما كتب {ولا ترتدّوا على أدباركم} أي: ولا ترجعوا مدبرين خوفاً من العدوّ {فتنقلبوا خاسرين} أي: في سعيكم، وذلك أنّ قوم موسى لما أخرجوا من مصر وعدهم الله تعالى إسكان أرض الشأم.
(15/41)
---(1/797)
قال الكلبيّ: صعد إبراهيم عليه السلام جبل لبنان فقيل له: انظر ما أدرك بصرك فهو مقدّس وهو ميراث لذريّتك، وكان بنو إسرائيل يسمّون أرض الشأم أرض الموعد، ثم بعث موسى عليه السلام اثني عشر نقيباً ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأرض فلما دخلوا تلك الأماكن رأوا أجساماً عظيمة، قال ابن عادل: قال المفسرون فأخذهم أحد أولئك الجبارين وجعلهم في كمّه مع فاكهة قد حملها، من بساتينه، وأتى بهم للملك ونثرهم بين يديه وقال تعجيباً للملك: هؤلاء يريدون قتالنا فقال الملك: ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه بما شاهدتم، ثم انصرف هؤلاء النقباء إلى موسى عليه السلام فأخبروه بالواقعة فأمرهم أن يكتموا ما شاهدوه فلم يقبلوا قوله إلا رجلين منهم وهما يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف فتى موسى وكالب بن يوفنا فتى موسى وكان من سبط يهوذا فإنهما سهّلا الأمر وقالا: هي بلاد طيبة كثيرة النعم والأقوام وإن كانت أجسامهم عظيمة إلا أنّ قلوبهم ضعيفة، وأمّا العشرة الباقية من النقباء فإنهم أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا: يا ليتنا متنا في أرض مصر أو ليتنا نموت في هذه البرية ولا يدخلنا الله أرضهم فتكون نساؤنا وأولادنا وأثقالنا غنيمة لهم، ويقولون لأصحابهم: قالوا: نجعل علينا رؤساء وننصرف إلى مصر فذلك قوله تعالى:
(15/42)
---(1/798)
{قالوا يا موسى إنّ فيها قوماً جبارين} أي: عتاة قاهرين لغيرهم مكرهين لغيرهم على ما يريدون {وإنّا لن ندخلها} خوفاً منهم {حتى يخرجوا منها} أي: بأيّ وجه كان {فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} لها وأصل الجبّار المتعظم الممتنع عن القهر يقال: نخلة جبارة إذا كانت طويلة ممتنعة عن وصول الأيدي إليها وسمّي هؤلاء القوم جبارين لامتناعهم بطولهم وقوّة أجسادهم، وكانوا من العمالقة وبقية قوم عاد فلما قال بنو إسرائيل ما قالوا وهموا بالانصراف إلى مصر خرّ موسى وهارون عليهما السلام ساجدين وخرق يوشع وكالب ثيابهما وهما اللذان أخبر الله تعالى عنهما في قوله:
{قال رجلان من الذين يخافون} أي: مخالفة أمر الله تعالى {أنعم الله عليهما} أي: بالتوفيق والعصمة {ادخلوا عليهم الباب} أي: باب قرية الجبّارين ولا تخشوهم فإنا رأيناهم وأجسادهم عظيمة بلا قلوب {فإذا دخلتموه فإنكم غالبون} أي: لأنّ الله تعالى منجز وعده {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} به ومصدّقين بوعده فأراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة وعصوا أمرهما.
(15/43)
---
ثمّ {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً} نفوا دخولهم على التأبيد والتأييد وقوله تعالى: {ما داموا فيها} بدل من أبداً بدل البعض {فاذهب أنت وربك فقاتلا} هم {إنا ههنا قاعدون} عن القتال لا القعود الذي هو ضدّ القيام قالوا ذلك استهانة بالله ورسوله وعدم مبالاة بهما وقيل: وربك أي: هارون لأنه أكبر منه وقيل: تقديره اذهب أنت وربك يعينك فلما سمع من قومه ذلك.
(15/44)
---(1/799)
{قال ربّ إني لا أملك إلا نفسي وأخي} أي: لا أملك التصرّف ولا ينفذ أمري إلا في نفسي وأخي؛ لأنّ الإنسان لا يملك نفسه في الحقيقة إنما المراد به التصرف وإني أفعل ما أمرتني به وأخي هارون قاله لشكوى بثّه وحزنه إلى الله عز وجل لما خالفه قومه وأيس منهم ولم يبق معه موافق يثق به غير هارون عليه السلام والرجلان المذكوران وإن كانوا يوافقانه لم يثق بهما مما كابد من تلوّن قومه أو إنّ المراد بأخي من يواخيني في الدين فيدخلان فيه وأظهر وجوه الإعراب في أخي أنه منصوب عطفاً على نفسي والمعنى: ولا أملك إلا أخي مع ملكي نفسي دون غيرنا {فافرق} أي: فافصل {بيننا وبين القوم الفاسقين} بأن تحكم لنا بما نستحقه ونحكم عليهم بما يستحقونه أو بالتبعيد بيننا وبينهم.
(15/45)
---(1/800)
{قال} تعالى: {فإنها} أي: الأرض المقدّسة {محرّمة عليهم} أن يدخلوها وقوله تعالى: {أربعين سنة يتيهون} أي: يتحيرون {في الأرض} اختلف في العامل في أربعين فقيل: محرمة فيكون التحريم مؤقتاً غير مؤبد فلا يخالف ظاهر قوله تعالى: {التي كتب الله لكم} (المائدة، 21) وقيل: هو يتيهون أي: يسيرون فيها متحيرين، قال الزجاج: والأوّل خطأ لأنه جاء في التفسير أنها محرمة عليهم أبداً فنصبها بيتيهون أي: فيكون التحريم مطلقاً قال البغويّ: لم يرد به تحريم تعبد وإنما أراد تحريم منع وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه الصلاة والسلام: بي حلفت لأحرّمنّ عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي يوشع وكالب ولأتيهنهم في هذه البريّة أربعين سنة مكان كل يوم من الأيام التي تجسسوا فيها سنة، ولألقين جيفهم في هذه القفار وأما بنوهم الذين لم يعملوا الشر فيدخلونها فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ، وقيل: تسعة فراسخ قال ابن عباس: وهم ستمائة ألف مقاتل وكانوا يسيرون كلّ يوم جادّين فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا عنه وكان الغمام يظلّهم من الشمس وعمود نور يطلع بالليل فيضيء لهم وكان طعامهم المنّ والسلوى وماؤهم من الحجر الذي يحملون فإذا ولد لأحدهم مولود كان عليه ثوب مثل الظفر في رأي العين يطول بطوله ويتسع بقدرة الله والله أعلم بما يحكى من ذلك.
(15/46)
---(1/801)
فإن قيل: كيف ينزل المنّ والسلوى في حال العقوبة؟ أجيب: بأنه سبب البقاء وهو أبقى للعقوبة فهو كإقامة الحدود مع بقاء الخطاب، واختلفوا هل كان موسى وهارون عليهما السلام فيهم أو لا؟ قال البغويّ: الأصحّ أنهما كانا فيهم إلا أنه كان ذلك راحة لهما وزيادة في درجتهما وعقوبة لهم، وهو أبلغ في الإجابة أن يشاهدوهما في حال العقوبة فلا يصيبهما ما أصابهم ولم يدخل الأرض المقدّسة أحد ممن قال لن ندخلها بل هلكوا في التيه، وإنما قاتل الجبابرة أولادهم واختلفوا هل مات موسى وهارون في التيه أم لا؟ قال البيضاويّ: الأكثرون إنهما كانا معهم في التيه وإنهما ماتا فيه، مات هارون قبل موسى وموسى بعده بسنة، قال عمرو بن ميمون: مات هارون قبل موسى وكانا خرجا إلى بعض الكهوف فمات هارون فدفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل فقالوا: قتله لحبّنا إياه وكان محببّاً في بني إسرائيل فتضرّع موسى إلى ربه فأوحى الله تعالى إليه أن انطلق بهم إلى هارون فإني باعثه فانطلق بهم إلى قبره فناداه يا هارون فخرج من قبره ينفض رأسه فقال: أنا قتلتك؟ قال: لا ولكن مت قال: فعد إلى مضجعك وانصرفوا وعاش موسى صلى الله عليه وسلم بعده سنة.
(15/47)
---(1/802)
روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «جاء ملك الموت إلى موسى فقال له: أجب أمر ربك فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها فقال ملك الموت: يا رب إنك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت وقد فقأ عيني قال: فردّ الله عينه وقال: ارجع إلى عبدي وقل له: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة قال: ثم مه قال: ثم تموت قال: الآن من قريب؟ قال: رب أدنني من الأرض المقدّسة رمية حجر» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر» قال وهب: خرج موسى ليقضي حاجة فمرّ برهط من الملائكة يحفرون قبراً لم ير شيئاً أحسن منه ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة فقال لهم: يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر فقالوا: لعبد كريم على ربه فقال: إنّ هذا العبد لمن الله بمنزلة ما رأيت كاليوم أحسن منه مضجعاً فقالت الملائكة: يا صفيّ الله تحب أن يكون لك؟ قال: وددت قالوا: فانزل فاضطجع فيه وتوجه إلى ربك قال: فاضطجع فيه وتوجه إلى ربه ثم تنفس أسهل نفس فقبض الله تعالى روحه ثم سوّت عليه الملائكة التراب وقيل: إنّ ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فقبض الله روحه وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة، فلما مات موسى عليه السلام وانقضت الأربعون سنة بعث الله تعالى يوشع عليه السلام نبياً فأخبرهم أنّ الله تعالى قد أمرهم بقتال الجبابرة فصدّقوه وبايعوه فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحاء ومعه تابوت الميثاق وأحاط بمدينة أريحاء ستة أشهر وفتحوها في الشهر السابع ودخلوها فقاتلوا الجبارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم وكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها وكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت فقال: اللهمّ اردد الشمس عليّ وقال للشمس: إنك في طاعة الله وأنا في طاعة(1/803)
(15/48)
---
الله فسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقيم حتى ينتقم من أعداء الله قبل دخول السبت فردّت عليه الشمس وزيد في النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين.
وروى الإمام أحمد في مسنده حديثاً: «إنّ الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس» ثم تتبّع ملوك الشأم فاستباح منهم أحداً وثلاثين ملكاً حتى غلب على جميع أرض الشأم وصارت الشأم كلها لبني إسرائيل وفرق عمّاله في نواحيها وجمع الغنائم فلم تنزل النار فأوحى الله تعالى إلى يوشع إنّ فيها غلولاً فمرهم فليبايعوك فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال: هلمّ ما عندك فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل باليواقيت والجواهر، وكان قد غلّه فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان ثم مات يوشع ودفن في جبل إبراهيم وكان عمره مائة وستاً وعشرين سنة وتدبر أمر بني إسرائيل بعد موسى سبعاً وعشرين سنة فسبحان الباقي بعد فناء خلقه.
ولما ندم موسى عليه السلام على الدعاء عليهم قال تعالى: {فلا تأس على القوم الفاسقين} فبين تعالى أنهم أحقاء بذلك لفسقهم.
(15/49)
---(1/804)
{واتل عليهم نبأ ابني آدم} وهما هابيل وقابيل وقوله تعالى: {بالحق} صفة مصدر محذوف أي: تلاوة متلبسة بالحق. وقصتهما: أنّ الله تعالى أوحى إلى آدم أن يزوّج كل واحد منهما توأم الآخر وكانت حواء تلد لآدم كل بطن غلاماً وجارية وظاهر كلام المؤرّخين أنّ آدم لا يحل له أن يتزوّج بواحدة من بناته ولا من بنات أولاده، ولهذا ألغز بعضهم بقوله: ماتت زوجة رجل فحرم عليه نساء الدنيا وكان جميع ما ولدته أربعين ولداً في عشرين بطناً أولهم قابيل وتوأمته اقليما وثانيهم هابيل وتأومته يلودا وآخرهم عبد المغيث وتوأمته أمّ المغيث، ثم بارك الله تعالى في نسل آدم عليه السلام، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفاً فأراد آدم أن ينكح قابيل يلودا أخت هابيل وينكح هابيل اقليما وكانت أخت قابيل أحسن من أخت هابيل فذكر ذلك لولده فرضي هابيل وسخط قابيل وقال: هي أختي وأنا أحق بها فقال له أبوه: إنها لا تحل لك فأبى أن يقبل ذلك وقال: إنّ الله لم يأمر بهذا وإنما هو من رأيك فقال لهما آدم: قربا قرباناً فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت من السماء نار بيضاء فأكلتها وإذا لم تكن مقبولة لم تنزل النار وأكله الطير والسباع فخرجا ليقربا وكان قابيل صاحب زرع فقرب صبرة من طعام من أردأ زرعه وأضمر في نفسه ـ ما أبالي تقبل مني أم لا ـ لا يتزوّج أختي أبداً وكان هابيل صاحب غنم فعمد إلى أحسن كبش في غنمه فقرّبه، وأضمر في نفسه رضا الله عز وجل فوضعا قربانهما على الجبل ثم دعا آدم فنزلت نار من السماء فأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان قابيل كما قال تعالى: {إذ قرّبا قرباناً فتقبل من أحدهما} وهو هابيل {ولم يتقبل من الآخر} وهو قابيل لأنه سخط حكم الله ولم يخلص النية في قربانه وقصد إلى أخس ما عنده فغضب قابيل لردّ قربانه وأضمر الحسد في نفسه إلى أن أتى آدم مكة لزيارة البيت الحرام فلما(1/805)
(15/50)
---
غاب آدم أتى قابيل لهابيل وهو في غنمه {قال لأقتلنك} قال: ولم؟ قال: لأنّ الله تعالى قبل قربانك وردّ قرباني وتنكح أختي الحسناء وأنكح أختك الدميمة فيتحدّث الناس أنك خير مني ويفتخر ولدك على ولدي {قال} هابيل وما ذنبي؟ {إنما يتقبل الله من المتقين}.
فإن قيل: كيف كان قول هابيل إنما يتقبل الله من المتقين جواباً لقوله لأقتلنك؟ أجيب: بأنه لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له: إنما أوتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى لا من قبلي فلم تقتلني ومالك لا تعاقب نفسك ولا تحملها على تقوى الله تعالى التي هي السبب في القبول فأجابه بكلام حليم مختصر جامع لمعانٍ وفيه إشارة إلى أنّ الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما صار به المحسود محظوظاً لا في إزالة حظ المحسود فإنّ ذلك مما يضرّه ولا ينفعه وأنّ الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متَّقٍ، وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له: ما يبكيك وقد كنت وكنت فقال: إني أسمع الله يقول: {إنما يتقبل الله من المتقين}.
(15/51)
---(1/806)
{لئن} لام قسم {بسطت} أي: مددت {إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله ربّ العالمين} قال عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: وأيم الله إن كان المقتول لأشدّ الرجلين ولكن منعه التحرّج أن يبسط إلى أخيه يده خوفاً من الله عز وجل لأن الدفع لم يبح بعد أو تحرّياً لما هو الأفضل، قال عليه الصلاة والسلام: «كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» وإنما قال: ما أنا بباسط في جواب لئن بسطت للتبري عن هذا الفعل الشنيع رأساً والتحرّز من أن يوصف به ويطلق عليه ولذلك أكد النفي بالباء. وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص بفتح الياء من يدي والباقون بالسكون، واتفق القراء السبعة على بقاء صفة الطاء في بسطت وإدغام الطاء في التاء لأنّ مخرج الطاء والتاء واحد ولكن الصفة مختلفه فالطاء منطبقة والتاء منفتحة والطاء مستعلية والتاء مستقلة والطاء مجهورة والتاء مهموسة ويقال في ذلك: إدغام الحرف وإبقاء الصفة.
{إني أريد أن تبوء} أي: ترجع {بإثمي} أي: بإثم قتلي {وإثمك} الذي ارتكبته من قبل {فتكون من أصحاب النار} ولا أريد أن أبوء بإثمك إذا قتلتك فأكون منهم.
فإن قيل: كيف قال: أريد أن تبوء بإثمي وإثمك وإرادة القتل والمعصية لا تجوز؟ أجيب: بأنّ ذلك ليس بحقيقةِ إرادة، لكنه لما علم أنه يقتله لا محالة ووطن نفسه على الاستسلام طلباً للثواب فكأنه صار مريداً لقتله مجازاً وإن لم يكن مريداً حقيقة {وذلك جزاء الظالمين} أي: الراسخين في وصف الظلم وأكون أنا من أصحاب الجنة جزاء لي بإحساني في إيثاري حياتك على حياتي وذلك جزاء المحسنين.
(15/52)
---(1/807)
{فطوّعت} قال قتادة: فزينت {له نفسه قتل أخيه فقتله} قال ابن جريج: تمثل له إبليس وأخذ له طائراً ووضع رأسه على حجر وشدخ رأسه بحجر آخر وقابيل ينظر إليه فعلمه القتل فرضخ قابيل رأس هابيل بين حجرين وقتله وهو مستسلم وقيل: اغتاله في النوم وهو نائم فشدخ رأسه فقتله {فأصبح} أي: فصار {من الخاسرين} بقتله ولم يدر ما يصنع به لأنه أوّل ميت على وجه الأرض من بني آدم وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة فحمله بعد قتله في جراب أربعين يوماً وقال ابن عباس: سنة حتى أروح وعكف عليه الطير والسباع تنظر متى يرمي فتأكله فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمنقاره ورجليه حتى مكنّه ثم ألقاه في الحفرة وواراه وقابيل ينظر إليه فذلك قوله تعالى:
{فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه} أي: الله أو ليريه الغراب أي: ليعلمه؛ لأنه لما كان سبب تعليمه فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز {كيف يواري} أي: يستر {سوأة} أي: جيفة {أخيه} وقيل: عورته لأنه كان سلبه ثيابه فلما رأى قابيل ذلك {قال يا ويلتي} كلمة جزع وتحسر والألف فيها بدل من ياء المتكلم والمعنى: يا ويلتي احضري فهذا أوانك والويل والويلة الهلكة {أعجزت} أي: مع ما جعل الله لي من القوّة الناطقة {أن} أي: عن أن {أكون} مع مالي من الجوارح الصالحة لأعظم من ذلك {مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي} أي: لأهتدي إلى ما اهتدى إليه وقوله تعالى: {فأواري} عطف على أكون وليس جواب الاستفهام إذ ليس المعنى لو عجزت لواريت {فأصبح} أي: بسبب قتله {من النادمين} أي: على ما فعل لأنه فقد أخاه وأغضب ربه وأباه وما انتفع من قتله بشيء، قال المطلب بن عبد الله بن حنطب: لما قتل ابن آدم أخاه رجّت الأرض بما فيها سبعة أيام وعن ابن عباس لما قتله، وكان آدم عليه السلام بمكة اشتاك الشجر وتغيرت الأطعمة وحمضت وأمرّ الماء واغبرّت الأرض فقال آدم عليه السلام: قد حدث في الأرض حدث.
(15/53)
---(1/808)
وروي أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض وشربت الأرض الدم فسأله آدم عليه السلام بعد مجيئه من مكة عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلاً فقال: بل قتلته ولذلك اسودّ جسدك قال: فأين دمه إن كنت قتلته فحرّم الله عز وجل على الأرض من يومئذٍ أن تشرب دماً بعده أبداً، وعن الواقدي: أنّ السودان كلهم من ولده وعن محمد بن إسحاق: كان نوح نائماً فرآه ابنه حام عرياناً فلم يستره فاسودّ في الوقت فالسودان من ولده ورآه ابنه سام فستره.
وروي أنّ آدم صلوات الله وسلامه عليه مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك وأنه لما أتى من مكة إلى الهند رثاه بشعر وهو:
*تغيرت البلاد ومن عليها ** فوجه الأرض مغبرّ قبيح*
*تغير كل ذي طعم ولون ** وقل بشاشة الوجه المليح*
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: من قال إنّ آدم قال شعراً فقد كذب إنّ محمداً والأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام في النهي عن الشعر سواء.
وروي أنه رثاه فلم يزل ينتقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يقول الشعر فنظر إلى المرثية فإذا هي سجع فقال: إنّ هذا يقوم منه شعر فرد المقدّم إلى المؤخر والمؤخر إلى المقدّم فوزنه شعراً وزيد فيه أبيات منها:
*أرى طول الحياة عليّ غماً ** فهل أنا من حياتي مستريح*
*ومالي لا أجود بسكب دمع ** وهابيل تضمنه الضريح*
(15/54)
---(1/809)
فلما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمسين سنة ولدت له حواء شيئاً وتفسيره هبة الله أي: إنه خلف الله من هابيل علّمه الله ساعات الليل والنهار وأعلمه الله عبادة الخلق في كل ساعة منها وأنزل عليه خمسين صحيفة وصار وصي آدم وولي عهده. وأمّا قابيل فقيل له: اذهب طريداً شريداً فزعاً مرعوباً لا يأمن من يراه، فأخذ بيد أخته أقليماً وهرب بها إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس لعنه الله تعالى وقال له: إنما أكلت النار قربان أخيك لأنه كان يعبد النار فانصب أنت ناراً تكون لك ولعقبك فبنى بيت النار فهو أوّل من عبد النار، قال مجاهد: واتخذ أولاد قابيل آلات اللهو من اليراع والطبول والمزامير والعيدان والطنابير وانهمكوا في اللهو وشرب الخمر وعبادة النار والزنا والفواحش حتى أغرقهم الله تعالى بالطوفان أيام نوح عليه السلام، وبقي نسل شيث عليه السلام، قال البقاعي في تفسيره: والله أعلم بما يروى من ذلك ولا يعتمد على مثل هذه الأحاديث، وقد أحسن الطبري بقوله: أخبر الله تعالى بقتله ولا خبر يقطع العذر بصفة قتله على ما ذكرنا منه في مثله ولا فائدة في طلب الصحيح منه في الدين اه.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها لأنه أوّل من سنّ القتل».
(15/55)
---
{من أجل ذلك} أي: الذي فعله قابيل {كتبنا} أي: قضينا {على بني إسرائيل} في التوراة لأنهم كانوا أشدّ الناس جراءة على القتل ولذلك كانوا يقتلون الأنبياء {إنه} أي: الشأن {من قتل نفساً} أي: من بني آدم {بغير نفس} أي: بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص {أو} قتلها بغير {فساد} أتاه {في الأرض} كالشرك والزنا بعد الإحصان وقطع الطريق وكل ما يبيح إراقة الدم {فكأنما قتل الناس جميعاً} أي: من حيث هتك حرمة الدماء وسنّ القتل وجراءة الناس عليه أو من حيث أن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استحلال غضب الله والعذاب العظيم.
(15/56)(1/810)
---
{ومن أحياها} أي: بسبب من الأسباب كإنقاذ من هلكة أو غرق أو دفع من يريد أن يقتلها ظلماً {فكأنما أحيا الناس جميعاً} قال ابن عباس: من حيث عدم انتهاك حرمتها وصونها قال سليمان بن علي: قلت للحسن يأبا سعيد أهي لنا أي: هذه الآية كما كانت لبني إسرائيل؟ قال: إي، والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا اه. ومما يحسن إيراده هنا ما ينسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وقيل: إنه للشافعيّ رحمه الله تعالى:
*الناس من جهة التمثيل أكفاء ** أبوهم آدم والأمّ حوّاء*
*نفس كنفس وأرواح مشاكلة ** وأعظم خلقت فيهم وأعضاء*
*فإن يكن لهم في أصلهم حسب ** يفاخرون به فالطين والماء*
*ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ** على الهدى لمن استهدى أدلاء*
*وقدر كل امرىء ما كان يحسنه ** وللرجال على الأفعال أسماء*
*وضدّ كل امرىء ما كان يجهله ** والجاهلون لأهل العلم أعداء*
*ففز بعلم تعش حياً به أبداً ** فالناس موتى وأهل العلم أحياء*
{ولقد جاءتهم} أي: بني إسرائيل {رسلنا بالبينات} أي: المعجزات وقرأ أبو عمرو بسكون السين والباقون بضمها {ثم إنّ كثيراً منهم بعد ذلك} أي: بعدما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيداً للأمر وتجديداً للعهد {في الأرض لمسرفون} أي: مجاوزون الحدّ بالكفر والقتل وغير ذلك ولا يبالون به وبهذا اتصلت القصة بما قبلها.
ونزل في العرنيين «لما قدموا المدينة وهم مرضى أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وهم كذبة فبعثهم النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة ليشربوا من ألبانها وأبوالها فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الإبل».
(15/57)
---(1/811)
{إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} أي: يحاربون أولياءهما وهم المسلمون جعل محاربتهم محاربتهما تعظيماً {ويسعون في الأرض فساداً} أي: بقطع الطريق {أن يقتلوا} أي: إن قتلوا {أو يصلبوا} أي: مع ذلك إن قتلوا وأخذوا المال أي: والصلب ثلاثاً بعد القتل {أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف} أي: أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى إن اقتصروا على أخذ المال {أو ينفوا من الأرض} أي: إن أرعبوا ولم يأخذوا شيئاً أي: ينفوا من بلد إلى بلد إن رأى الإمام ذلك وإن رأى حبسهم فله ذلك ولو في بلدهم، هكذا فسر الآية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فحمل كلمة أو على التنويع لا التخيير كما في قوله تعالى: {وقالوا كونوا هوداً أو نصارى} (البقرة، 135) أي: قالت اليهود: كونوا هوداً وقالت النصارى: كونوا نصارى إذ لم يخيّر أحد منهم بين اليهودية والنصرانية {ذلك} أي: الجزاء العظيم {لهم خزي} أي: ذل وإهانة {في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} هو عذاب النار واحتج أكثر أهل العلم على أنّ هذه الآية نزلت في قطاع الطريق بقوله تعالى:
{إلا الذين تابوا} أي: رجعوا عما كانوا عليه من المحاربة خوفاً من الله تعالى {من قبل أن تقدروا عليهم} أي: فإنّ حقوقه تعالى تسقط عنهم كالقطع والصلب وتحتم القتل ويبقى القصاص والمال لأنه حق آدمي لا يسقط بالتوبة {فاعلموا أنّ الله غفور} لهم ما أتوه {رحيم} بهم، ولو كانت نزلت في الكفار لكانت توبتهم بالإسلام وهو رافع للعقوبة قبل القدرة وبعدها.
{يأيها الذين آمنوا اتقوا الله} أي: خافوا عقابه بأن تطيعوه {وابتغوا إليه الوسيلة} أي: اطلبوا ما تتوسلون به إلى ثوابه، والزلفى منه من فعل الطاعات وترك المعاصي من وسل إلى كذا إذا تقرّب إليه قال لبيد:
*أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم ** ألا كلّ ذي لب إلى الله وَاسِلَ*
(15/58)
---(1/812)
وفي الحديث «الوسيلة منزلة في الجنة» {وجاهدوا في سبيله} بمحاربه أعدائه لتكون كلمة الله هي العليا {لعلكم تفلحون} بالوصول إلى الله عز وجل والفوز بكرامته.
{إنّ الذين كفروا لو} ثبت {أنّ لهم ما في الأرض} من صنوف الأموال وأكده بقوله: {جميعاً ومثله معه ليفتدوا به} أي: ليجعلوه فدية لأنفسهم {من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم} أي: لأنّ المدفوع إليه ذلك تامّ القدرة وله الغنى المطلق {ولهم} بعد ذلك {عذاب أليم} أي: مؤلم.
(15/59)
---
{يريدون أن يخرجوا} أي: أن يكون لهم الخروج في وقت مّا إذا رفعهم اللهب إلى أن يكاد أن يلقيهم خارجاً {من النار} ثم نفى خروجهم على وجه التأكيد فقال: {وما هم بخارجين منها} أي: ما يثبت لهم خروج أصلاً {ولهم} خاصة دون عصاة المؤمنين {عذاب مقيم} أي: دائم تارة بالبرد وتارة بالحرّ وتارة بغيرهما.
فإن قيل: قال تعالى: {لا يذوقون فيها برداً} (النبأ، 24) فهو ينافي ما ذكر أجيب: بأن المراد بالبرد في الآية النوم فلا منافاة وأن في قوله تعالى:
{والسارق والسارقة} موصولة مبتدأ أي: والذي سرق والتي سرقت ولشبهه بالشرط دخلت الفاء في خبره وهو {فاقطعوا أيديهما} أي: يمين كلّ واحد منهما من الكوع كما بيّنته السنة كما بيّنت أنه لا بدّ أن يكون المسروق ربع دينار فصاعداً من حرز مثله من غير شبهة له فيه، وأنه إذا عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم ثم اليد اليسرى ثم الرجل اليمنى ثم بعد ذلك يعزر.
p
ثم علّل تعالى ذلك بقوله: {جزاء بما كسبا} أي: فعلا من ذلك ثم علّل تعالى هذا الجزاء بقوله: {نكالاً} أي: عقوبة لهما {من الله} وأعاد الاسم الأعظم تعظيماً للأمر فقال: {وا عزيز} أي: غالب على أمره {حكيم} أي: بالغ الحكم والحكمة في خلقه.(1/813)
{فمن تاب} أي: من السراق {من بعد ظلمه} أي: سرقته {وأصلح} أمره بالتخلص من التبعات والعزم على أن لا يعود إليها {فإنّ الله يتوب عليه} أي: يقبل توبته تفضلاً منه تعالى {إنّ الله غفور رحيم} فلا يعذبه في الآخرة، وأمّا القطع فلا يسقط عنه بالتوبة عند الأكثرين وإذا قطع السارق يجب عليه غرم ما سرق من المال عند أكثر أهل العلم، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي: لا غرم عليه وبالاتفاق إن كان المسروق قائماً عنده يسترد وتقطع يده لأنّ القطع حق الله عز وجل والغرم حق العبد ولا يمنع أحدهما الآخر وقوله تعالى:
(15/60)
---
{ألم تعلم} الاستفهام للتقرير والخطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل: معناه ألم تعلم أيها الإنسان فيكون خطاباً لكل أحد من الناس {أنّ الله له ملك السموات والأرض} أي: أنّ الملك خالص له عن جميع الشوائب {يعذب من يشاء} تعذيبه {ويغفر لمن يشاء} المغفرة له {وا على كلّ شيء قدير} أي: ومنه التعذيب والمغفرة فليس هو كغيره من الملوك الذين قد يعجز أحدهم عن تقريب ابنه وتبعيد أعدا عدوّه.(1/814)
{يأيها الرسول} أي: المبلغ لما أرسل به وقوله تعالى: {لا يحزنك} قرأ نافع بضمّ الياء وكسر الزاي والباقون بفتح الياء وضم الزاي {الذين يسارعون في الكفر} أي: يقعون فيه بسرعة بأن يظهروه إذا وجدوا منه فرصة وقوله تعالى: {من الذين قالوا آمنا} للبيان وقوله تعالى: {بأفواههم} أي: بألسنتهم متعلق بقالوا {ولم تؤمن قلوبهم} وهم المنافقون وقوله تعالى: {ومن الذين هادوا} عطف على من الذين قالوا وقوله تعالى: {سماعون للكذب} خبر مبتدأ محذوف أي: هم سماعون والضمير في سماعون للفريقين أو للذين يسارعون ويجوز أن يكون مبتدأ ومن الذين خبره أي: ومن اليهود قوم سماعون للكذب الذي افترته أحبارهم سماع قبول {سماعون} منك {لقوم} أي: لأجل قوم {آخرين} من اليهود {لم يأتوك} أي: لم يحضروا مجلسك وتجافوا عنك تكبراً وإفراطاً في البغضاء {يحرّفون الكلم} أي: الذي في التوراة كآية الرجم {من بعد مواضعه} أي: التي وضعها الله عليها أي: يبدلونه {يقولون} أي: الذين يحرّفونه لمن يرسلونهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم {إن أوتيتم هذا} أي: المحرّف أي: أفتاكم به محمد صلى الله عليه وسلم {فخذوه} أي: فاقبلوه منه واعلموا أنه الحق واعملوا به {وإن لم تؤتوه} أي: بأنّ أفتاكم بخلافه {فاحذروا} أن تقبلوه منه فإنه الباطل والضلال.
(15/61)
---(1/815)
روي أنّ شريفاً في خيبر زنا بشريفة وكانا محصنين وحدّهما الرجم في التوراة فكرهوا رجمهما لشرفهما وقالوا: إنّ هذا الرجل الذي بيثرب ليس في كتابه الرجم ولكن الضرب فأرسلوهما مع رهط منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وقالوا: إن أمركم بالجلد والتحميم أي: تسويد الوجه من الحُمّة بالضم والتشديد وهي السواد فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا تأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدّهما في كتابك؟ فقال: «هل ترضون بقضائي؟» فقالوا: نعم، فنزل جبريل عليه السلام بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟» قالوا: نعم فقال: هو أي رجل فيكم؟ فقالوا: هو أعلم يهودي بقي على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى بن عمران في التوراة، قال: «فأرسلوا إليه» ففعلوا فأتاهم فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنت ابن صوريا؟» قال: نعم قال: «أعلم اليهود» قال: كذلك يزعمون قال: «تجعلونه بيني وبينكم؟» قالوا: نعم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟» قال: نعم فوثب عليه سفلة اليهود فقال: خفت إن كذبت أن ينزل علينا العذاب، ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يعرفها من أعلامه فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبيّ الأميّ العربيّ الذي بشر به المرسلون فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب مسجده وقال: «اللهمّ إني أول من أحيا أمرك إذا ما أتوه فأنزل الله عز وجل {يأيها الرسول} الآية.
(15/62)
---(1/816)
وروي أنّ اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أنّ رجلاً منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟» فقالوا: نفضحهم ويجلدون قال عبد الله بن سلام: كذبتم إنّ فيها آية الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهما يده على آية الرجم وقرأ ما بعدها فقال له عبد الله: ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرّجم قالوا: صدقت يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: فرأيت الرجل يقي بيده عن المرأة الحجارة».
فائدة: كانت آية الرجم في القرآن فنسخت تلاوتها وبقي حكمها، روى البيهقي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال في خطبته: إن الله بعث محمداً وأنزل عليه كتاباً وكان فيما أنزل عليه آية الرجم فتلوناها ووعيناها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم وسيأتي الكلام في سورة الأحزاب أنّ هذه الآية كانت فيها.
{ومن يرد الله فتنته} أي: إضلاله أو فضيحته {فلن تملك} أي: لن تستطيع {له من الله شيئاً} في دفعها إذا لم تملك أنت، وأنت أقرب الخلق إلى الله تعالى فمن يملك {أولئك} أي: البعداء من الهدى {الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم} أي: من الكفر ولو أراده لكان وهذا كما ترى نصّ على فساد قول المعتزلة بأنه أراد ذلك {لهم في الدنيا خزي} أي: ذلٌّ بالفضيحة والجزية والخوف من المؤمنين {ولهم في الآخرة عذاب عظيم} وهو الخلود في النار والضمير للذين هادوا إن استأنفت بقوله تعالى: {ومن الذين} وإلا فللفريقين. وقوله تعالى:
(15/63)
---(1/817)
{سماعون للكذب} كرره للتأكيد {أكَّالون للسحت} وهو كل ما لا يحل كسبه وهو من سحته إذا استأصله لأنه مسحوت البركة كما قال الله تعالى: {يمحق الله الربا} (البقرة، 276) والربا باب منه وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام، وعن الحسن رحمه الله تعالى: كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه فأراه إياها وتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه فيأكل الرشوة ويسمع الكذب وعنه صلى الله عليه وسلم «كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به» وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بضم الحاء والباقون بالسكون.
(15/65)
---(1/818)
{فإن جاؤك} أي: لتحكم فيهم {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} هذا تخيير لرسول الله صلى الله عليه وسلم واختلفوا هل نسخ هذا التخيير أم لا؟ فقال أكثر أهل العلم: هو محكم ثابت وليس في سورة المائدة منسوخ، وحكّام المسلمين بالخيار في الحكم بين أهل الكتاب إن شاءوا حكموا وإن شاءوا لم يحكموا بحكم الإسلام وهو قول النخعيّ والشعبيّ وعطاء وقتادة وقال قوم: يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بينهم والآية منسوخة نسخها قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} (المائدة، 49) وهو قول مجاهد وعكرمة ومرويّ ذلك أيضاً عن ابن عباس وقال: لم ينسخ من المائدة إلا آيتان قوله تعالى: {لا تحلوا شعائر الله} (المائدة، 2) نسخها قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} (التوبة، 5) وقوله تعالى: {فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} (المائدة، 42) نسخها قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} (المائدة، 49) ومذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه أنّ الذمّيين وإن اختلفت ملتهما كيهوديّ ونصرانيّ يجب الحكم بينهما عند الترافع، وكذا الذمي مع المعاهد بخلاف المعاهدين فإنّ الحكم لا يجب بينهما؛ لأنهم لم يلتزموا بأحكامنا ولا التزمنا دفع بعضهم عن بعض فيحمل التخيير على هذا، والآية الأخرى على أهل الذمّة ويعلم من ذلك أنّ الحكم بين الحربيين لا يجب بطريق الأولى ولو ترافع إلينا ذميان في شرب خمر لم نحدّهما وإن رضيا بحكمنا لأنهما لا يعتقدان تحريمه ولو ترافع إلينا مسلم وذمي وجب الحكم بينهما إجماعاً {وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً} بأن يعادوك لإعراضك عنهم فإنّ الله تعالى يعصمك من الناس {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} أي: بالعدل الذي أمر الله تعالى به {إنّ الله يحب} أي: يثيب {المقسطين} أي: العادلين في الحكم وقوله تعالى:
(15/66)
---(1/819)
{وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله} استفهام تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به والحال أنّ الحكم منصوص عليه في كتابهم الذي هو عندهم، وتنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع وإنما طلبوا منه ما يكون أهون عليهم وإن لم يكن حكم الله تعالى في زعمهم {ثم يتولون} أي: يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم {من بعد ذلك} التحكيم وهذا داخل في حكم التعجب فإنه معطوف على يحكمونك {وما أولئك} أي: السعداء من الله {بالمؤمنين} أي: بكتابهم لإعراضهم عنه أوّلاً أو بك وبه.
(15/67)
---(1/820)
{إنا أنزلنا التوراة فيها هدى} يهدي من الضلالة إلى الحق {ونور} يكشف ما اشتبه عليهم من الأحكام {يحكم بها النبيون} أي: من بني إسرائيل وقوله تعالى: {الذين أسلموا} ذكر على وجه الصفة للأنبياء للتنويه بشأن الصفة دون التخصيص والتمييز؛ لأنهم كلهم بهذه الصفة منقادون لله تعالى وللتنبيه على عظم قدرها حيث وصف بها عظيم كما وصف الأنبياء بالصلاح والملائكة بالإيمان فإنّ أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف وقوله تعالى: {للذين هادوا} متعلق بأنزل أو بيحكم أي: يحكمون بها في تحاكمهم وهو يدلّ على أنّ النبيين أنبياؤهم وقوله تعالى: {والربَّانيون} أي: الزهّاد الذين انسلخوا من الدنيا وبالغولوا فيما يوجب النسبة إلى الرّب {والأحبار} أي: العلماء السالكون طريقة أنبيائهم عطف على النبيون {بما} أي: بسبب الذي {استحفظوا} أي: استودعوه {من كتاب الله} أي: استحفظهم الله تعالى إياه بأن يحفظوه من التضييع والتحريف أو بأن يحفظ فلا ينسى وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتاب الله من هذين الوجهين معاً: أحدهما: أن يحفظ في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم والثاني: أن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه والراجع إلى ما محذوف، ومن للتبيين والضمير في استحفظوا للأنبياء والربانيين والأحبار جميعاً وكذلك الضمير في قوله تعالى: {وكانوا عليه شهداء} أي: رقباء حاضرين لا يغيبون عنه ولا يتركون مراعاته أصلاً وقوله تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشونِ} نهي للحكام أن يخشوا غير الله تعالى في حكوماتهم خوفاً من سلطان ظالم أو خيفة أذية أحد من الأقرباء والأصدقاء، وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء في الوصل دون الوقف والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً {ولا تشتروا} أي: تستبدلوا {بآياتي} أي: بأحكامي التي أنزلتها {ثمناً قليلاً} أي: من الرشا وغيرها لتكتموا أو تبدلوها كما فعل أهل الكتاب وقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قال عكرمة: معناه ومن لم يحكم بما أنزل الله(1/821)
(15/68)
---
جاحداً له فقد كفر ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق فحمل الآيات على هذا وهو ظاهر، وقال الضحاك وقتادة: نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة وقيل: أولئك هم الكافرون في المسلمين لاتصالها بخطابهم والظالمون في اليهود والفاسقون في النصارى.
{وكتبنا} أي: فرضنا {عليهم} أي: اليهود {فيها} أي: التوراة {أن النفس} تقتل {بالنفس} إذا قتلتها {والعين} تفقأ {بالعين} أي: بعين من فقأها {والأنف} تجدع {بالأنف} أي: بأنف من جدعه {والأذن} تقطع {بالأذن} أي: بأذن من قطعها {والسنّ} تقلع {بالسنّ} أي: بسنّ من قلعها {والجروح قصاص} أي: يقتص فيها إذا أمكن كاليد والرجل والذكر ونحو ذلك وما لا يمكن فيه القصاص فيه الحكومة وهذا الحكم وإن كتب عليهم فهو مفروض في شرعنا.
وقرأ الكسائي هذه الألفاظ الخمسة وهي: العين بالعين إلى آخرها بالرفع على أنها جمل معطوفة على «أنّ» وما في حيزها باعتبار المعنى، وكأنه قيل: كتبنا عليهم النفس بالنفس والعين بالعين فإنّ الكتابة والقراءة يقعان على الجمل كالقول أو مستأنفة ووافق الكسائي ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر في الجروح فقط والباقون بالنصب في الجميع وسكن نافع الذال من الأذن وقرأ الباقون برفعها.
(15/69)
---(1/822)
{فمن تصدّق به} أي: القصاص بأن مكن من نفسه {فهو} أي: التصدّق بالقصاص {كفارة له} أي: لما أتاه فلا يعاقب ثانياً في الآخرة وقيل: فمن تصدّق به من أصحاب الحق فالتصدُق به كفارة للمتصدِق يكفر الله تعالى به من سيآته ما تقتضيه الموازنة كسائر طاعاته، وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: تهدم عنه ذنوبه بقدر ما تصدق به. وقيل: فهو كفارة للجاني إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه {ومن لم يحكم بما أنزل الله} أي: في القصاص وغيره {فأولئك هم الظالمون} أي: الذين تركوا العدل فضلّوا فصاروا كمن يمشي في الظلام فإن كان تديُّناً بالترك كان نهاية للظلم وهو الكفر وإلا كان عصياناً لأنّ الله تعالى أحق أن يخشى ويرجى.
(15/70)
---
{وقفينا} أي: أتبعنا {على آثارهم} أي: النبيّين الذين يحكمون بالتوراة {بعيسى بن مريم} صلى الله عليه وسلم ونسبه تعالى إلى أمّه إشارة إلى أنّه لا والد له تكذيباً لليهود وإلى أنه عبد مربوب تكذيباً للنصارى {مصدّقاً لما بين يديه} أي: قبله مما أتى به موسى عليه السلام {من التوراة} وأشار تعالى بقوله: {وآتيناه الإنجيل} أي: أنزلناه عليه كما أنزلنا التوراة على موسى عليهما الصلاة والسلام إلى أنه ناسخ لكثير من أحكامها {فيه هدى} من الضلالة {ونور} أي: بيان للأحكام وقوله تعالى: {ومصدّقاً} أي: الإنجيل حال {لما بين يديه} أي: قبله.
ولما كان الذي نزل قبله كثيراً بين المراد بقوله: {من التوراة} أي: لما فيها من الأحكام فالأول: صفة لعيسى عليه الصلاة والسلام والثاني: صفة لكتابه أي: فهو والتوراة والإنجيل يتصادقون فكل من الكتابين يصدق الآخر وهو يصدقهما لم يتخالفوا في شيء بل هو متخلق بجميع ما أتى به {وهدى وموعظة للمتقين} أي: كل ما فيه يهتدون به ويتعظون فترق قلوبهم ويعتبرون به.(1/823)
{وليحكم أهل الإنجيل} وهم اتباع عيسى عليه الصلاة والسلام {بما أنزل الله فيه} أي: من الأحكام، وقرأ حمزة بكسر اللام ونصب الميم عطفاً على معمول آتيناه والباقون بكسر اللام وسكون الميم على الأمر أي: فلينته أهل التوراة عما نسخ منها وليحكم أهل الإنجيل إلخ.. {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} أي: المختصّون بكمال الفسق فإن كان تديّناً كان كفراً وإن كان لاتّباع الشهوات كان مجرد معصية لأنّ الحظوظ والشهوات تحمل على الخروج من دائرة الشّرع مرّة بعد أخرى.
{وأنزلنا إليك} يا محمد خاصة {الكتاب} أي: الكامل في جمعه لكل ما يطلب منه وهو القرآن وقوله تعالى: {بالحق} متعلق بأنزلنا {مصدّقاً لما بين يديه} أي: قبله.
(15/72)
---
لما كانت الكتب السماوية من شدّة تصادقها كالشيء الواحد عبّر تعالى بالمفرد فقال: {من الكتاب} أي: الكتب المنزّلة التي جاء بها الأنبياء من قبل، فاللام الأولى في الكتاب للعهد؛ لأنه عني به القرآن والثانية للجنس لأنه عني به جنس الكتب المنزلة {ومهيمناً عليه} أي: رقيباً على سائر الكتب أي: يحفظها من التغيير والتبديل ويشهد لها بالصحة والثبات {فاحكم بينهم} أي: بين جميع أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك {بما أنزل الله} إليك في هذا الكتاب الناسخ لكتبهم المهيمن عليها في إثبات ما أسقطوه منها من أمرهم باتباعك ونحو ذلك من أوصافك {ولا تتبع أهواءهم} فيما خالفه عادلاً {عما جاءك من الحق} بالانحراف عنه إلى ما يشتهونه.(1/824)
{لكل جعلنا منكم} أيّها الأمم {شرعة} أي: ديناً موصلاً إلى الحياة الأبدية والشرعة هي الطريقة إلى الماء، شبّه بها الدّين لأنها موصلة إلى الماء الذي به الحياة الدنيوية {ومنهاجاً} أي: طريقاً واضحاً في الدين ناسخاً لما قبله، وقد جعلنا شرعتك ناسخة لجميع الشرائع وأمثاله مما يدل على أنا لسنا متعبدين بالشرائع المتقدّمة وأنّ كل رسول غير متعبد بشرع من قبله وهو محمول على الفروع وما دلّ على الاجتماع كآية شرع لكم من الدين محمول على الأصول.
{ولو شاء الله لجعلكم أمّة} أي: جماعة {واحدة} أي: متفقة على دين واحد في جميع الأعصار من غير نسخ وتحويل {ولكن} لم يشأ ذلك بل شاء أن تكونوا على شرائع مختلفة {ليبلوكم} أي: ليختبركم {فيما آتاكم} من الشرائع المختلفة ليبرز إلى الوجود المطيع منكم والعاصي {فاستبقوا الخيرات} أي: ابتدروها انتهازاً للفرصة بغاية الجهد فقل: من يسابق شخصاً يخشى العار بسبقه، وقوله تعالى: {إلى الله مرجعكم جميعاً} أي: بالبعث استئناف فيه تعليل للأمر بالاستباق، ووعد للمبادرين ووعيد للمقصرين {فينبئكم} أي: يخبركم {بما كنتم فيه تختلفون} أي: من أمر الدين ويجزي كلاً منكم بعمله. وقوله تعالى:
(15/73)
---
{وأن احكم بينهم بما أنزل الله} عطف على الكتاب أي: أنزلنا إليك الكتاب والحكم أو على الحق أي: أنزلناه بالحق وبأن أحكم، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر نون وأن احكم والباقون بضمها {ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن} أي: لئلا يفتنوك أي: يضلوك ويصرفوك {عن بعض ما أنزل الله إليك}.(1/825)
روي أنّ أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد لعلّنا نفتنه عن دينه فقالوا: يا محمد قد عرفت أنّا أحبار اليهود وأنّا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم وأنّ بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت {فإن تولوا} أي: عن الحكم المنزل وأرادوا غيره {فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم} أي: بالعقوبة في الدنيا {ببعض ذنوبهم} أي: التي أتوها ومنها التولي ويجازيهم على جميعها في الآخرة {وإنّ كثيراً من الناس} أي: هم وغيرهم {لفاسقون} أي: خارجون عن دائرة الطاعات ومعادن السعادات.
{أفحكم الجاهلية} أي: خاصة مع إنّ أحكامها لا يرضى بها عاقل لكونها لم يدع إليها كتاب بل هي مجرّد أهواء وهم أهل الكتاب {يبغون} أي: يريدون بإعراضهم عن حكمك مع ما دعا إليه كتابهم من اتباعك وشهد كتابك المعجز عن معارضته من وجوب رسالتك إلى جميع الخلائق وهذا استفهام إنكاري، وقرأ ابن عامر بالتاء على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وهو أدلّ على الغضب، والباقون بالياء على الغيبة. وقيل: نزلت في بني قريظة والنضير طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بما كان يحكم به الجاهلية من التفاضل بين القتلى أي: بين ديّات بعضهم على بعض {ومن} أي: لا أحد {أحسن من الله حكماً لقوم} أي: عند قوم {يوقنون} به خصّوا بالذكر؛ لأنهم الذين يتدبرون الأمور ويتخيلون الأشياء بأنظارهم فيعلمون أن لا أحسن حكماً من الله جلا وعلا.
(15/74)
---(1/826)
{يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} أي: توالونهم وتوادّونهم وتعاشرونهم معاشرة الأحباب وقوله تعالى: {بعضهم أولياء بعض} فيه إيماء إلى علة النهي أي: فإنهم متفقون على خلافكم يوالي بعضهم بعضاً لاتحادهم في الدين وإجماعهم على مضارتكم {ومن يتولهم منكم} أي: ومن والاهم منكم {فإنه منهم} أي: من جملتهم وهذا تشديد في وجوب مجانبتهم أو لأنّ الموالين كانوا منافقين {إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين} أي: الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار، ومن لم يرد الله هدايته لم يقدر أحد أن يهديه.k
تنبيه: اختلف في سبب نزول هذه الآية فقال قوم: نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق وذلك أنهما اختصما فقال عبادة: إنّ لي أولياء من اليهود كثيراً عددهم شديدة شوكتهم وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من موالاتهم ولا مولى لي إلا الله ورسوله فقال عبد الله: لكني لا أبرأ من ولاية اليهود لأني أخاف الدوائر ولا بد لي منهم فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال السدي: لما كانت وقعة أحد اشتدّت على طائفة من الناس وتخوّفوا أن تدال عليهم الكفار فقال رجل من المسلمين: أنا ألحق بفلان اليهودي آخذ منه أماناً إني أخاف أن تدال علينا اليهود وقال الآخر: أمّا أنا فألحق بفلان النصراني من أهل الشأم وآخذ منه أماناً فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال عكرمة: نزلت في أبي لبابة بن المنذر بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة حين حاصرهم فاستشاروه في النزول وقالوا: ماذا يصنع بنا إذا نزلنا فجعل إصبعه على حلقه يعني أنه الذبح أي: يقتلكم فنزلت
(15/76)
---(1/827)
{فترى الذين في قلوبهم مرض} أي: ضعف اعتقاد كعبد الله بن أبيّ {يسارعون فيهم} أي: في مولاتهم {يقولون} معتذرين عنها {نخشى} أي: نخاف خوفاً بالغاً {أن تصيبنا دائرة} أي: مصيبة تحيط بنا ويدور بها الدهر علينا من جدب أو غلبة ولا يتم أمر محمد فلا يميرونا {فعسى الله أن يأتي بالفتح} أي: بإظهار الدّين على الأعداء {أو أمر من عنده} أي: بهتك ستر المنافقين وافتضاحهم {فيصبحوا} أي: هؤلاء المنافقون {على ما أسرّوا في أنفسهم} أي: على ما استبطنوه من الكفر والشك في أمر الرسول فضلاً عما أظهروه مما أشعر به نفاقهم {نادمين} أي: ثابت لهم غاية الندم في الصباح وغيره وقوله تعالى:
{ويقول الذين آمنوا} قرأه عاصم وحمزة والكسائي بالرفع على أنه كلام مبتدأ ويؤيده قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر مرفوعاً بغير واو على أنه جواب قائل يقول: فماذا يقول المؤمنون حينئذٍ وقرأ بالنصب أبو عمرو عطفاً على يأتي باعتبار المعنى وكأنه قال: عسى الله أن يأتي بالفتح، ويقول الذين آمنوا {أهؤلاء الذين أقسموا با جهد أيمانهم} أي: غاية اجتهادهم فيها {إنهم لمعكم} في الدين أي: يقوله المؤمنون بعضهم لبعض تعجباً من حال المنافقين وتبجعاً بما منّ الله تعالى عليهم من الإخلاص، أو يقولون لليهود: فإنّ المنافقين حلفوا لهم بالمعاضدة كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {وإن قوتلتم لننصرنكم} (الحشر آية: 11) {حبطت} أي: بطلت {أعمالهم} أي: الصالحة {فأصبحوا} أي: فصاروا {خاسرين} الدنيا بالفضيحة والآخرة بالعقاب.
{يأيها الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان {من يرتدد} أي: يرجع {منكم عن دينه} إلى الكفر وهذا من الكائنات التي أخبر الله تعالى عنها في القرآن قبل وقوعها وكان أهل الردّة إحدى عشرة فرقة ثلاثة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(15/77)
---(1/828)
الأولى: بنو مدلج وكان رئيسهم ذو الحمار بالحاء المهملة، قال التفتازاني: كان له حمار يقول له: قف فيقف وسر فيسير وكانت النساء أي: نساء أصحابه يتعطرون بروث حماره، وقيل: يعقدون روثه بخمرهنّ فسمي ذو الخمار أيضاً بالخاء المعجمة، وذو هنا وفيما قبله بالواو وعلى الحكاية وهو العنسي بفتح العين وسكون النون منسوب إلى عنس وهو يزيد بن مذحج بن أدد بن كعب العنسي ويلقب بالأسود كان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلادها وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه وإلى سادات اليمن وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسك بدينهم والنهوض إلى حرب الأسود، فقتله فيروز الديلمي على فراشه قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: وأتى الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من السماء الليلة التي قتل فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قتل الأسود البارحة قتله رجل مبارك» قيل: ومن هو؟ قال: «فيروز» فَسُرّ المسلمون فبشر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بهلاك الأسود وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد وأتى خبر مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول وكان ذلك أوّل فتح جاء إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
(15/78)
---(1/829)
والفرقة الثانية: بنو حنيفة باليمامة ورئيسهم مسليمة الكذاب وكان تنبأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر وزعم أنه اشترك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في النبوّة وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله: أمّا بعد فإنّ الأرض نصفها لي ونصفها لك، وبعثه إليه مع رجلين من أصحابه فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم «لولا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما» ثم أجاب من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب: «أمّا بعد فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي فبعث أبو بكر رضي الله تعالى عنه خالد بن الوليد في جيش كبير حتى أهلكه الله تعالى على يد وحشيّ غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حرب شديد وكان وحشيّ يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام أراد في جاهليتي وإسلامي.
الفرقة الثالثة: بنو أسد ورئيسهم طليحة بن خويلد وكان طليحة أحد من ارتد وادّعى النبوّة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوّل من قوتل بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم من أهل الردّة فبعث أبو بكر رضي الله تعالى عنه خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إليه فهزمهم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه بعد قتال شديد وأفلت طليحة فمرّ على وجهه هارباً نحو الشأم، ثم إنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه وسبع في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، الأولى: فزارة قوم عيينة بن حصن، والثانية: غطفان قوم قرّة بن سلمة، والثالثة: بنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل، والرابعة: بنو يربوع قوم مالك بن نويرة، والخامسة: بعض تميم قوم سجاج بنت المنذر المتنبئة التي زوّجت نفسها لمسيلمة الكذاب وفيها يقول أبو العلاء المعري:
*أمت سجاج ووالاها مسليمة ** كذابة في بني الدنيا وكذاب*
(15/79)
---(1/830)
والسادسة: كندة قوم الأشعث بن قيس والسابعة بنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد وكفى الله تعالى أمرهم على يد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وفرقة واحدة في عهد عمر رضي الله تعالى عنه وهي غسان قوم جبلة بن الأيهم تنصر وسار إلى الشأم، والجمهور أنه مات على ردّته وذكرت طائفة أنه عاد إلى الإسلام. وقرأ نافع وابن عامر يرتدد بدالين الأولى مكسورة مخففة والثانية ساكنة والباقون بدال مفتوحة مشدّدة.
واختلف في القوم في قوله تعالى: {فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال قتادة بن غنم الأزدي: لما نزلت الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قوم هذا» وأشار إلى أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه وكانوا من اليمن، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان يمان والحكمة يمانية» وقال الكلبي: هم أحياء من اليمن ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أفناء أي: لم يعلم ممن هم قاله الجوهري: فجاهدوا في سبيل الله يوم القادسية. وقيل: هم الأنصار وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فضرب على عاتق سلمان رضي الله تعالى عنه فقال: «هذا وذووه»، ثم قال: «لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس» والراجع إلى من محذوف تقديره: فسوف يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم غيرهم أو ما أشبه ذلك ومحبة الله تعالى لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظّمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم ومحبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه {أذلة على المؤمنين} أي: عاطفين عليهم متذللين لهم جمع ذليل، وأمّا ذلول فجمعه ذلل ومن زعم أنه من الذل الذي هو نقيض الصعوبة فقد غبي عنه لأنه ذلولاً لا يجمع على أذلة.
(15/80)
---(1/831)
فإن قيل: هلا قال أذلة للمؤمنين؟ أجيب: بأنه تضمن معنى الحنو والعطف كأنه قال: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع وأنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم أو للمقابلة في قوله تعالى: {أعزة على الكافرين} أي: شداد متغلبين عليهم من عزّه إذا غلبه، وقوله تعالى: {يجاهدون في سبيل الله} حال من الضمير في أعزة أو صفة أخرى لقوم، وقوله تعالى: {ولا يخافون لومة لائم} يحتمل أن تكون الواو للحال على أنهم يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين فإنهم كانوا موالين لليهود فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود فلا يعملون شيئاً مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم، وأمّا المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم قط، وإن يكون للعطف على يجاهدون بمعنى: إنهم الجامعون بين المجاهدة في سبيل الله والتصلّب في دينه واللومة المرّة من اللوم وفيها وفي تنكير لائم مبالغتان {ذلك} إشارة إلى الأوصاف المذكورة وقوله تعالى: {فضل الله يؤتيه من يشاء} أي: يمنحه ويوفق له فيبذل الإنسان جهده في طاعته لينظر إليه هذا النظر برحمته {وا واسع} أي: كثير الفضل {عليم} أي: بمن هو أهله، ونزل لما قال ابن سلام رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله إنّ قومنا هجرونا.
{إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} وإنما قال: وليكم ولم يقل: أولياؤكم للتنبيه على أنّ الولاية لله على الأصالة، ولرسوله وللمؤمنين على التبع إذ التقدير: إنما وليكم الله وكذا رسوله والمؤمنون. ولو قيل: إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبع ثم وصف المؤمنين بقوله تعالى: {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} أي: متخشعون في صلاتهم وزكاتهم وقيل: يصلون صلاة التطوع.
(15/81)
---(1/832)
{ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا} أي: ومن يتخذهم أولياء وقيل: من يعنهم وينصرهم {فإنّ حزب الله هم الغالبون} أي: فإنهم هم الغالبون ولكن وضع الظاهر موضع المضمر إظهاراً لما شرفهم به ترغيباً لهم في ولايته وتشريفاً لهم بهذا الاسم فكأنه قيل: ومن يتول هؤلاء فإنهم حزب الله وحزب الله هم الغالبون وتعريضاً بمن يوالي هؤلاء بأنه حزب الشيطان وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حزبهم.
ونزل في رفاعة بن زيد وسويد بن حارث اللذين أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادّونهما.
{يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم} أي: شرفكم الله به {هزواً} أي: مهزواً به {ولعباً} ثم بين المنهي عن موالاتهم بقوله تعالى: {من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} أي: اليهود. ولما خصص عمم بقوله: {والكفار} أي: من عبدة الأوثان وغيرهم {أولياء} أي: فإنّ الفريقين اجتمعوا على حسدكم وازدرائكم فلا تصح لكم مولاتهم، وقرأ أبو عمرو والكسائي بخفض الراء والباقون بالنصب عطفاً على الذين اتخذوا على أنّ النهي عن موالاة من ليس على الحق رأساً سواء من كان ذا دين تبع فيه الهوى وحرفه عن الصواب كأهل الكتاب ومن لم يكن كالمشركين {واتقوا الله} أي: بترك المناهي {إن كنتم مؤمنين} أي: صادقين في إيمانكم فإنّ الإيمان حقاً يقتضي ذلك وقوله تعالى:
(15/82)
---
{وإذا ناديتم} معطوف على الذين قبله أي: ولا تتخذوا الذين إذا ناديتم أي: دعوتم {إلى الصلاة} بالأذان {اتخذوها} أي: الصلاة {هزواً ولعباً} بأن يستهزؤا بها ويتضاحكوا ويقولوا: صاحوا كصياح العير، وفي هذا دليل على أنّ الأذان مشروع للصلوات المكتوبات.(1/833)
روى الطبراني أنّ نصرانياً بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أنّ محمداً رسول الله قال: أحرق الله الكاذب فدخل خادمه ذات ليلة بنار وأهله نيام فتطاير شرره في البيت فأحرقه وأهله {ذلك} أي: الاتخاذ {بأنهم} أي: بسبب إنهم {قوم لا يعقلون} أي: فإنّ السفه يؤدّي إلى الجهل بالحق والهزء به والعقل يمنع منه ونزل لما سأل نفر من اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم عمن يؤمن به من الرسل فقال: أومن بالله وما أنزل إلينا الآية، فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ولا ديناً شراً من دينكم.
{قل يأهل الكتاب هل تنقمون} أي: تنكرون {منا} وتعيبون يقال: نقم منه كذا أنكره وانتقم إذا كافأه {إلا أن آمنا با وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل} أي: إلى الأنبياء وقوله تعالى: {وأنّ أكثركم فاسقون} عطف على أن آمنا والمعنى ما تنكرون منا إلا إيماننا ومخالفتكم في عدم قبول الإيمان المعبّر عن عدم قبوله بالفسق اللازم عن عدم القبول وليس هذا مما ينكر.
{قل} لهم يا محمد {هل أنبئكم} أي: أخبركم {بشرّ من ذلك} أي: الذي تنتقمونه {مثوبه عند الله} نصب مثوبة على التمييز أي: ثواباً بمعنى جزاءً.
(15/84)
---
فإن قيل: المثوبة مختصة بالإحسان كما أنّ العقوبة مختصة بالشر أجيب: بأنّ ذلك على سبيل التهكم كما في قوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} (آل عمران، 21) وقوله تعالى: {من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير} (المائدة، 60) بدل من بشر على حذف مضاف قبل لفظ ذلك أو قبل لفظ من لعنه وتقديره: بشر من أهل ذلك من لعنه الله أو بشر من ذلك دين من لعنه الله لأنّ الدّين المشار إليه غير مطابق لقوله: من لعنه الله في معنى يشترك فيه لفظ شر فيقدر أهل قبل ذلك أو دين قبل من ليطابق.(1/834)
فإن قيل: هذا يقتضي كون الموصوفين بذلك الدين محكوماً عليهم بالشرّ ومعلوم إنه ليس كذلك أجيب: بأنه إنما خرج الكلام على حسب قولهم واعتقادهم، فإنهم حكموا بأنّ اعتقاد ذلك الدين شر فقيل لهم: هب أنّ الأمر كذلك لكن لعنة الله وغضبه ومسخ الصور شرّ من ذلك والذين لعنهم الله في هذه الآية هم اليهود أبعدهم الله من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات ومسخ بعضهم قردة وهم أصحاب السبت وبعضهم خنازير وهم كفار أهل مائدة عيسى، وقيل: كلا المسخين في أصحاب السبت مسخت شبانهم قردة ومشايخهم خنازير.
روي أنها لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود ويقولون: يا إخوة القردة والخنازير فينكسون رؤوسهم وقوله تعالى: {وعبد الطاغوت} عطف على صلة من كأنه قيل: ومن عبد الطاغوت وقرأ حمزة بضم باء عبد وكسرتاه الطاغوت على أنه اسم جمع لعبد عطف على من والباقون بنصب الباء من عبد والتاء من الطاغوت والطاغوت الشيطان أو العجل لأنه معبود من دون الله ولأنّ عبادتهم للعجل مما زينه لهم الشيطان فكانت عبادتهم له عبادة للشيطان وهو الطاغوت، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الطاغوت الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى.
(15/85)
---
تنبيه: روعي في منهم معنى من وفيما قبلها لفظها وهم اليهود {أولئك} أي: الملعونون الممسوخون {شرّ مكاناً} لأنّ مأواهم النار وجعلت الشرارة للمكان وهي لأهله وفيه مبالغة ليست في قولك أولئك شر ومكاناً تمييز {وأضل عن سواء السبيل} أي: طريق الحق وأصل السواء الوسط.(1/835)
فإن قيل: ذكر شر وأضلّ يقتضي مشاركة المؤمنين والكفار في الشرّ والضلال وإنّ الكفار أشرّ وأضل مع أنّ المؤمنين لم يشاركوا الكفار في شيء من ذلك أجيب: بأنّ مكان هؤلاء في الآخرة شر وأضل من مكان المؤمنين في الدنيا لما يلحقهم فيها من الشرّ والضلال الحاصل لهم بالهموم الدنيوية كسماع الأذى وغيره، أو إنّ ذلك على سبيل التنزل والتسليم للخصم على زعمه إلزاماً بالحجة وهذا أولى.
ونزل في يهود نافقوا النبيّ صلى الله عليه وسلم.
{وإذا جاؤكم قالوا آمنا وقد} أي: قالوا ذلك والحال إنهم قد {دخلوا} إليكم متلبسين {بالكفر وهم قد خرجوا} من عندكم متلبسين {به} أي: الكفر كما دخلوا لم يتعلق بهم شيء مما سمعوا به من تذكيرك بآيات الله ومواعظك {وا أعلم بما كانوا يكتمون} من الكفر وغيره في جميع أحوالهم من أقوالهم وأفعالهم وفي هذا وعيد لهم.
{وترى كثيراً منهم} أي: اليهود أو المنافقين {يسارعون} أي: يقعون سريعاً {في الإثم} أي: الكذب بدليل قوله تعالى عن قولهم الإثم {والعدوان} أي: الظلم وقيل: الإثم ما يختص بهم والعدوان ما يتعدّى إلى غيرهم {وأكلهم السحت} أي: الحرام كالرشا {لبئس ما كانوا يعملون} عملهم هذا.
{لولا} هلا {ينهاهم} أي: يجدّد لهم النهي {الربانيون} أي: المدّعون للتخلي من الدنيا إلى سبيل الرب {والأحبار} أي: العلماء {عن قولهم الإثم} أي: الكذب {وأكلهم السحت} أي: الحرام هذا تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك فإن لولا إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ وإذا دخل على المضارع المستقبل أفاد التحضيض {لبئس ما كانوا يصنعون} ترك نهيهم.
(15/86)
---
فإن قيل: لم عبّر في الأوّل بـ
[ يعملون] وفي الثاني بـ(1/836)
[ يصنعون]؟ أجيب: بأنّ كل عامل لا يسمّى صانعاً ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب ولذلك ذم بهذا خواصهم ولأنّ ترك الإنكار على المعصية أقبح من مواقعة المعصية لأنّ النفس تلتذ بها وتميل إليها، ولا كذلك ترك الإنكار عليها فكان جديراً بأبلغ الذمّ فيدخل في الذمّ كل من كان قادراً على النهي عن المنكر من العلماء أو غيرهم وتركه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هي أشد آية نزلت في القرآن، وعن الضحاك ما في القرآن آية أخوف عندي منها.
{وقالت اليهود} مما ضيّق عليهم بتكذيبهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وكانوا أكثر الناس مالاً وأخصبهم ناحية {يد الله مغلولة} أي: هو ممسك يقتر بالرزق، وغلّ اليد وبسطّها مجاز عن البخل والجود ومنه قوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} (الإسراء، 29) ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلاً لقالوا ما أبسط يده بالنوال؛ لأن بسط اليد وقبضها عبارتان وقعتا متعاقبتين للبخل والجود وقد استعملوها حيث لا تصح اليد كقولهم بسط اليأس كفيه في صدري فجعلت لليأس الذي هو معنى من المعاني لا من الأعيان كفان.
(15/87)
---(1/837)
فإن قيل: قد تقدّم أنّ قوله: {يد الله مغلولة} عبارة عن البخل فما تفعل في قوله تعالى: {غلت أيديهم} ومن حقه أن يطابق ما تقدّمه؟ أجيب: بأنه يجوز أن يكون معناه الدعاء عليهم بالبخل والنكد، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله تعالى وأنكدهم والمطابقة على هذا ظاهرة ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغلّ الأيدي حقيقة يغلون في الدنيا أسارى وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم كما قال تعالى: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل} (غافر، 71) وعلى هذا تكون المطابقة حاصلة من حيث لفظ مغلولة وغلت من حيث ملاحظة أنّ الأصل في القول الشنيع أن يقابل بالدعاء على قائله {ولعنوا} أي: أبعدوا مطرودين عن الجناب الكريم {بما قالوا} فمن لعنهم أنهم مسخوا قردة وخنازير ثم ردّ الله تعالى عليهم بقوله: {بل يداه مبسوطتان} مشيراً بالتثنية إلى غاية الجود وإنّ غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطي بيديه جميعاً {ينفق كيف يشاء} أي: هو مختار في إنفاقه يضيق تارة ويوسع أخرى على حسب مشيئته ومقتضى حكمته لا اعتراض عليه وقيل: القائل هذه المقالة فنحاص بن عازوراء فلما لم ينهه الآخرون ورضوا بقوله: أشركهم الله تعالى فيها.
{وليزيدنّ كثيراً منهم} أي: ممن أراد الله فتنته ثم ذكر فاعل الزيادة فقال: {ما أنزل إليك من ربك} من القرآن {طغياناً} أي: تمادياً في الجحود {وكفراً} بآيات الله فيزدادون على كفرهم وطغيانهم طغياناً وكفراً مما يسمعون من القرآن كما يزداد المريض مرضاً من تناول الغذاء الصالح للأصحاء {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} فكل فرقة منهم تخالف الأخرى فلا تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم.
(15/88)
---(1/838)
{كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله} أي: كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا لم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس، وقيل: خالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرس بالفاء الرومي ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين وقيل: كلما حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نصر عليهم، وعن قتادة: لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذلّ الناس {ويسعون في الأرض فساداً} أي: ويجتهدون في الكيد للإسلام ومحو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتبهم وإثارة الحرب والفتن وهتك المحارم {وا لا يحبّ المفسدين} أي: فلا يجازيهم إلا شراً.b
(15/89)
---
{ولو أنّ أهل الكتاب آمنوا} أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به {واتقوا} أي: الكفر {لكفّرنا عنهم سيآتهم} أي: التي فعلوها ولم نؤاخذهم بها {ولأدخلناهم جنات النعيم} مع المسلمين، وفي هذا إعلام بعظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيآتهم ودلالة على سعة رحمة الله تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيآت اليهود والنصارى وإنّ الإسلام يجبّ ما قبله وإن جلّ، وإن الكتابي لا يدخل الجنة ما لم يسلم.(1/839)
{ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل} أي: أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت محمد صلى الله عليه وسلم {وما أنزل إليهم} أي: من الكتب المنزلة {من ربهم} لأنهم مكلّفون بالإيمان بجميعها فكأنها أنزلت إليهم وقيل: هو القرآن وقوله تعالى: {لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} عبارة عن التوسعة أي: لوسّع عليهم أرزاقهم بأن يفيض عليهم من بركات السماء والأرض أو أن تكثر الأشجار المثمرة والزروع المغلّة أو أن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار فيجنونها من رأس الثمر والشجر ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم بين سبحانه وتعالى بذلك أن ما كف عنهم بشؤم كفرهم ومعاصيهم لا بقصور الفيض ولو أنهم آمنوا وأقاموا ما أمروا به لوسع عليهم وجعل لهم خير الدارين {منهم أمّة} أي: جماعة {مقتصدة} أي: عادلة غير غالية ولا مقصّرة وهم عبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون من النصارى آمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل: متوسطة في عداوته {وكثير منهم ساء} أي: بئس {ما} أي: شيئاً {يعملون} فيه معنى التعجب كأنه قيل: وكثير منهم ما أسوأ عملهم وقيل: هو كعب بن الأشرف وأصحابه والروم.
روى مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: من حدثك أنّ محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله فقد كذب وهو يقول:
(15/91)
---(1/840)
{يأيها الرسول بلغ} جميع {ما أنزل إليك من ربك} أي: لا تكتم شيئاً منه خوفاً أن تنال بمكروه {وإن لم تفعل} أي: وإن لم تبلغ جميع ما أنزل إليك {فما بلغت رسالته} أي: لأنّ كتمان بعضها ككتمان كلها أي: ولأنّ بعضها ليس بالأولى بالأداء من بعض فإذا لم تؤدّ بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن كتمت آية لم تبلغ رسالتي واختلف في سبب نزول هذه الآية فقيل: نزلت في عتب اليهود وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام فقالوا: أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزؤون به ويقولون: تريد أن نتخذك حناناً كما اتخذت النصارى عيسى حناناً فلما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك نزلت هذه الآية وقيل: نزلت في الجهاد وذلك أنّ المنافقين كانوا يكرهونه فكان يمسك أحياناً من حثهم على الجهاد وقيل: لما نزلت آية التخيير وهي قوله تعالى: {يأيها النبيّ قل لأزواجك} (الأحزاب، 28) فلم يعرضها عليهنّ خوفاً من اختيارهنّ الدنيا فنزلت وقيل غير ذلك وقرأ نافع وابن عامر وشعبة بألف بعد اللام وكسر التاء والباقون بغير ألف ونصب التاء {وا يعصمك من الناس} أي: يحفظك ويمنعك منهم.
فإن قيل: أليس قد شج وجهه وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم وأوذي بضروب من الأذى؟ أجيب: بأنّ معناه يعصمك من القتل فلا يصلون إلى قتلك، وفي هذا تنبيه على أنه يجب عليه أن يحتمل كل ما دون النفس من أنواع البلايا فما أشدّ تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقيل: نزلت هذه الآية بعدما شج رأسه لأنّ سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن.
(15/92)
---(1/841)
وروى إسحاق بن راهويه في مسنده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بعثني الله برسالاته فضقت بها ذرعاً فأوحى الله إليّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت» وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت فأخرج رأسه من قبة أدم فقال: «انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس» قال البيضاويّ وظاهر الآية يوجب تبليغ كل ما أنزل ولعل المراد بالتبليغ ما يتعلق به مصالح العباد وقصد بإنزاله اطلاعهم عليه فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم إفشاؤه اه.
قال بعض العارفين: ولهذا قال تعالى: {بلغ ما أنزل إليك} ولم يقل ما تعرّفنا به إليك، واعلم أنّ المراد من الناس ههنا الكفار بدليل قوله تعالى: {إنّ الله لا يهدي القوم الكافرين} أي: لا يمكنهم مما يريدون.
وروي «أنه عليه الصلاة والسلام نزل تحت شجرة في بعض أسفاره وعلق سيفه عليها فأتاه أعرابيّ وهو نائم وأخذ سيفه واخترطه وقال: من يمنعك مني يا محمد؟ قال: «الله تعالى» فرعدت يد الأعرابيّ وسقط من يده وضرب رأسه الشجرة حتى انتثر دماغه».
{قل يا أهل الكتاب لستم على شيء} أي: دين يعتد به حتى يسمى شيئاً لفساده وبطلانه كما تقول هذا ليس بشيء تريد تحقيره وتصغير شأنه، وفي أمثالهم أقل من لا شيء {حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم} أي: بأن تعملوا بما فيها ومن إقامتهما الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والإذعان لحكمه فإن الكتب الإلهية بأسرها آمرة بالإيمان بمن صدقته المعجزة ناطقة بوجوب الطاعة له والمراد إقامة أصولها وما ينسخ من فروعها {وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك} أي: من القرآن {طغياناً وكفراً} لكفرهم به {فلا تأس} أي: تحزن {على القوم الكافرين} إن لم يؤمنوا بك أي: لا تهتم بهم فإن ضرر ذلك لا حق بهم لا يتخطاهم وفي المؤمنين مندوحة عنهم لك.
(15/93)
---(1/842)
{إنّ الذين آمنوا والذين هادوا} هم اليهود {والصابئون} فرقة منهم {والنصارى} وقد سبق تفسير هذه الآية في سورة البقرة.
فإن قيل: بم رفع الصابئون وكان حقه والصابئين؟ أجيب: بأنه رفع على الابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير عما في خبر إنّ مع اسمها وخبرها كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك وأنشد سبيويه شاهداً له:
*وإلا فاعلموا أنا وأنتم ** بغاة ما بقينا في شقاق*
والشاهد في أنتم فإنه مبتدأ حذف خبره والتقدير وإلا فإنا بغاة وأنتم كذلك.
فإن قيل: ما فائدة هذا التقديم والتأخير؟ أجيب: بأنّ الصابئين أشدّ العرب المذكورين في هذه الآية ضلالاً وما سموا صابئين إلا لأنهم صبأوا عن الأديان كلها أي: خرجوا فكأنه قال: هؤلاء الفرق الذين آمنوا وأتوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم حتى الصابئون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضاً كذلك، وقيل: منصوب بالفتحة فكما جوّز بالفتحة مع الياء في بنين وسنين جوّز مع الواو كما هنا وقوله تعالى: {من آمن با واليوم الآخر وعمل صالحاً} في محل رفع بالابتداء وخبره {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} في الآخرة والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط والجملة خبر إن.
فإن قيل: كيف قيل: الذين آمنوا من آمن؟ أجيب: بأنّ المراد بالذين آمنوا الذين آمنوا بألسنتهم وهو المنافقون أو إنّ المراد مِنْ مَنْ ثبت على الإيمان واستقام ولم تخالجه ريبة فيه.
(15/94)
---(1/843)
{لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل} أي: على الإيمان بالله ورسوله {وأرسلنا إليهم رسلاً} أي: ولم نكتف بهذا العهد بل أرسلنا رسلاً ليذكروهم وليبينوا لهم أمر دينهم {كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم} أي: بما يخالف هواهم من الشرائع ومشاقّ التكاليف {فريقاً} أي: من الرسل {كذبوا} أي: كذبهم بنو إسرائيل من غير قتل كعيسى {وفريقاً} منهم {يقتلون} كزكريا ويحيى وإنما جيء بيقتلون موضع قتلوا على حكاية الحال الماضية استحضاراً لتلك الحالة الشنيعة للتعجب منها وتنبيهاً على أنّ ذلك دينهم ماضياً ومستقبلاً ومحافظة على رؤوس الآي.
(15/95)
---
{وحسبوا} أي: ظنّ بنو إسرائيل {أن لا تكون} أي: توجد {فتنة} أي: لا يصيبهم بها عذاب في الدنيا ولا في الآخرة بل استخفوا بأمرها فلا تعجب أنت من جرأتهم في ادعائهم إنهم أبناء الله وأحباؤه، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي برفع النون تنزيلاً للحساب منزلة العلم فتكون مخففة من الثقيلة وأصله أنه لا تكون فتنة والباقون بالنصب على أنّ الحساب على بابه {فعموا} أي: عن الحق فلم يبصروه وهذا العمى هو الذي لا عمى في الحقيقة سواه وهو انطماس البصائر {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (الحج، 46) {وصموا} عنه فلم يسمعوه أي: عَموا وصموا بعد موسى ويوشع عليهما السلام، والصمم أضر من العمى فصاروا كمن لا يهتدي إلى سبيل أصلاً؛ لأنه لا بصر له بعين ولا قلب ولا سمع {ثم تاب الله عليهم} ببعث عيسى بن مريم فرفعوه إلى الحق {ثم عموا وصموا} كرّة أخرى بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {كثير منهم} بدل من الضمير {والله بصير بما يعملون} أي: وإن دقّ فيجازيهم به وفق أعمالهم.
(15/96)
---(1/844)
{لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح بن مريم} وهم اليعقوبية منهم القائلون بالاتحاد {وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم} أي: إني عبد مربوب مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم {إنه من يشرك با} أي: يشرك في العبادة غيره {فقد حرّم الله عليه الجنة} أي: منعه من دخولها منعاً متحتماً فإنها دار الموحدين {ومأواه النار} أي: محل سكناه فإنها المعدة للمشركين {وما للظالمين من أنصار} أي: وما لهم أحد ينصرهم من النار لا بفداء ولا بشفاعة ولا بغيرهما فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً على أنهم ظلموا بالإشراك وعدلوا عن طريق الحق وهو يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى، نبه على أنهم عدلوا عن سبيل الحق فيما تقوّلوا على عيسى عليه السلام فلذلك لم يساعدهم عليه ولم ينصر قولهم، ورده وأنكره وإن كانوا معظمين له بذلك ورافعين من مقداره، وأن يكون من كلام عيسى عليه السلام على معنى ولا ينصركم أحد مني فيما تقولون ولا يساعدكم عليه لاستحالته وبعده عن العقول أو لا ينصركم ناصر في الآخرة من عذاب الله.
(15/97)
---(1/845)
{لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة} أي: أحد ثلاثة وهو حكاية عما قاله النسطورية والملكانية وفيه إضمار معناه ثالث ثلاثة الآلهة لأنهم يقولون: الإلهية مشتركة بين الله ومريم وعيسى ولك واحد من هؤلاء إله فهم ثلاثة آلهة، بين هذا قوله تعالى للمسيح: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} (المائدة، 116) ومن قال إنّ الله تعالى ثالث ثلاثة بالعلم ولم يرد به الآلهة لم يكفر فإنّ الله يقول: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» ثم قال الله تعالى رداً عليهم: {وما من إله إلا إله واحد} أي: وما في الموجودات واجب مستحق للعبادة من حيث إنه مبدأ جميع الموجودات إلا إله واحد موصوف بالوحدانية متعال عن الشركة ومن مزيدة للاستغراق {وإن لم ينتهوا} أي: الكفرة بجميع أصنافهم {عما يقولون} أي: من هاتين المقالتين وما داناهما {ليمسنّ} أي: مباشرة من غير حائل {الذين كفروا} أي: داوموا على الكفر {منهم عذاب أليم} أي: مؤلم لم ينقطع عنهم لعدم توبتهم ولذلك عقبه بقوله تعالى:
{أفلا يتوبون} أي: يرجعون بعد هذا الكفر الذي لا أوضح من بطلانه ولا أبين من فساده {إلى الله ويستغفرونه} أي: يطلبون منه غفران ما أقدموا عليه من تلك العقائد والأقوال الزائغة ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عن الاتحاد والحلول بعد هذا التقريع والتهديد {وا غفور} أي: بالغ المغفرة يمحو الذنوب فلا يعاقب عليها ولا يعاتب {رحيم} أي: بالغ الإكرام لمن أقبل عليه فيغفر لهم ويمنحهم من فضله إن تابوا وفي هذا الاستفهام تعجيب من إصرارهم.
(15/98)
---(1/846)
{ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت} أي: مضت {من قبله الرسل} أي: ليس هو بإله كالرسل الذين مضوا لم يكونوا آلهة وما من خارقة له إلا وقد كان مثلها أو أعجب منها لمن كان قبله فإن كان قد أحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى وهو أعجب وإن كان قد خلقه من غير أب فقد خلق آدم من غير أب وأمّ وهو أغرب {وأمه صدّيقة} أي: بليغة الصدق في نفسها كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق أو يصدّقن الأنبياء كما قال تعالى في وصفها {وصدّقت بكلمات ربها} (التحريم، 12) وهذه الآية من أدلة من قال إنّ مريم عليها السلام لم تكن نبية فإنه تعالى ذكر أشرف صفاتها في معرض الردّ على من قال بإلهيتها إشارة إلى ما هو الحق في اعتقاد ما لهما من أعلى الصفات فإنّ أعظم صفات عيسى عليه السلام الرسالة وأكمل صفات أمه عليها السلام الصديقية.
فائدة: مريم من أزواج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة. ولما بين سبحانه وتعالى أقصى ما لهما من الكمالات بين أنّ ذلك لا يوجب لهما الألوهية بقوله: {كانا يأكلان الطعام} لأنّ من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم لم يكن إلا جسماً مركباً من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وغير ذلك، مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام فكيف يكون إلهاً، وخص الأكل بالذكر لأنه أصل الحاجات والإله لا يكون محتاجاً وقيل: هذا كناية عن الحدث لأنّ من أكل وشرب لا بد له من البول والغائط ومن كانت هذه صفته كيف يكون إلهاً؟ ثم لما أوضح الله تعالى لهم الأدلة في أمرهما حتى ظهر كالشمس بعدهما عما ادّعوا فيهما اتبعه التعجب بقوله: {انظر} متعجباً {كيف نبين لهم الآيات} على وحدانيتنا {ثم انظر أنى} أي: كيف {يؤفكون} أي: يصرفون عن الحق مع قيام البرهان.
فإن قيل: ما معنى التراخي في قوله تعالى: {ثم انظر}؟ أجيب: بأنّ معناه التفاوت بين العجبين أي: أنّ بياننا للآيات عجب وإعراضهم عنها أعجب.
(15/99)
---(1/847)
{قل أتعبدون من دون الله} أي: غيره يعني عليه السلام {ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً} أي: لا يستطيع أن يضرّكم بمثل ما يضرّ الله تعالى به من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم الله به من صحة الأبدان والسعة والخصب وكل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع فبإقدار الله تعالى وتمكينه وكأنه لا يملك شيئاً وهذا دليل قاطع على أن أمر عيسى منافٍ للربوبية حيث جعله لا يستطيع ضراً ولا نفعاً وصفة الرب تعالى أن يكون قادراً على كل شيء لا يخرج مقدور عن قدرته تعالى.
فإن قيل: إذا كان المراد السيد عيسى فلِمَ عبّر بما دون من مع أنّ المراد من يعقل؟ أجيب: بأنه أتى بما نظر إلى ما هو عليه في ذاته توطئة لنفي القدرة عنه رأساً وتنبيهاً على أنه من هذا الجنس ومن كان له حقيقة تقبل المجانسة والمشاركة فبمعزل عن الألوهية أو أن المراد كل ما عبد من دون الله تعالى سواء كان ممن يعقل أم لا {وا هو السميع} لأقوالكم {العليم} بأحوالكم فيجازي عليها إن خيراً فخير وإن شراً فشر والاستفهام للإنكار.
(15/100)
---
{قل يأهل الكتاب} أي: عامّة {لا تغلوا} أي: تجاوزوا الحد {في دينكم} وقوله تعالى: {غير الحق} صفة للمصدر أي: لا تغلوا في دينكم غلوّاً غير الحق أي: غلواً باطلاً؛ لأنّ الغلو في الدين غلوان: حق وهو أن يجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون، وغلو باطل وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة فيرفعوا عيسى عليه السلام إلى أن يدّعوا له الإلهية أو يضعوه ويرتابوا فيه، وقيل: الخطاب للنصارى خاصة.
(15/101)
---(1/848)
{ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل} في غلوهم وهم أسلافهما الذين قد ضلّوا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في شريعتهم {وأضلوا كثيراً} أي: من الناس بتماديهم في الباطل من التثليث وغيره حتى ظنّ حقاً {وضلوا} أي: بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم {عن سواء السبيل} أي: طريق الحق وهو الإسلام والسواء في الأصل الوسط والأهواء ههنا المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة، قال أبو عبيدة: لم يذكر الهوى إلا في موضع الشر لا يقال: فلان يهوى الخير إنما يقال: يريد الخير ويحبه وقيل: سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار وقال رجل لابن عباس: الحمد لله الذي جعل هواي على هواك فقال: كل هوى ضلالة.
{لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود} أي: لعنهم الله في الزبور على لسان داود وإنّ أهل أيلة لمّا اعتدوا في السبت قال داود عليه السلام: اللهمّ العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة وخنازير وقوله تعالى {وعيسى بن مريم} عطف على داود أي: لعنهم الله في الإنجيل على لسان عيسى بن مريم وهم أصحاب المائدة ما لم يؤمنوا قال عيسى عليه السلام: اللهمّ العنهم واجعلهم آية فمسخوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبيّ، قال بعض العلماء: إنّ اليهود كانوا يفتخرون بأناس من أولاد الأنبياء فذكر الله تعالى هذه الآية ليدل على أنهم ملعونون على ألسنة الأنبياء {ذلك} أي: اللعن المذكور {بما} أي: بسبب ما {عصوا وكانوا يعتدون} ثم فسر المعصية والاعتداء بقوله تعالى:
(15/102)
---(1/849)
{كانوا لا يتناهون} أي: لا ينهى بعضهم بعضاً {عن منكر} أي: معاودة منكر {فعلوه} أو عن مثل منكر أو عن منكر أرادوا فعله وتهيؤا له وإنما قدر ما ذكر لأنّ التناهي عن منكر قد مضى محال {لبئس ما كانوا يفعلون} أي: يفعلونه والمخصوص بالذم محذوف أي: فعلهم هذا قال بعض المفسرين: فيا حسرتا على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير وقلة عبثهم به كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كلام الله وما فيه من المبالغات في هذا الباب.
{ترى كثيراً منهم} أي: من أهل الكتاب {يتولون الذين كفروا} أي: يوالون المشركين بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين {لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم} من العمل لمعادهم {أن سخط الله عليهم} أي: غضب عليهم {وفي العذاب هم خالدون} أي: دائماً.
{ولو كانوا يؤمنون با والنبيّ} محمد صلى الله عليه وسلم {وما أنزل إليه} من عند الله تعالى أعم من القرآن وغيره إيماناً خالصاً من غير نفاق {ما اتخذوهم} أي: المشركين {أولياء} إذ الإيمان يمنع ذلك {ولكنّ كثيراً منهم فاسقون} أي: خارجون عن الإيمان، وقيل معناه: ولو كانوا يؤمنون بالله وموسى كما يدعون ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يولهم المسلمون.
(15/103)
---(1/850)
{لتجدنّ} يا محمد {أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا} من أهل مكة لتضاعف كفرهم وجهلهم وانهماكهم في اتباع الهوى وفي جعل اليهود قرناء المشركين في شدّة العداوة للمؤمنين دلالة على شدة عداوتهم لهم، بل نبه على تقدّم قدمهم فيها على الذين أشركوا، وكذلك فعل في قوله تعالى: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا} (البقرة، 96) وعنه صلى الله عليه وسلم «ما خلا يهوديان بمسلم إلا هَمَّا بقتله» {ولتجدنّ أقربهم} أي: الناس {مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} إنما أسند تسميتهم نصارى إليهم دون تسمية اليهود لأنهم الذين سموا أنفسهم نصارى حين قال لهم عيسى عليه السلام: {من أنصاري إلى الله} (آل عمران، 52) الآية، أو لأنهم كانوا يسكنون قرية يقال لها: ناصرة وكلهم لم يكونوا ساكنين فيها، وعلى التقديرين فتسميتهم نصارى ليست حقيقة بخلاف تسمية اليهود يهوداً فإنها حقيقة سواء سموا بذلك لكونهم أولاد يهودا بن يعقوب أو لكونهم تابوا عن عبادة العجل بقولهم: إنا هُدْنا إليك أو لتحرّكهم في دراستهم.
(15/104)
---(1/851)
ثم علل سبحانه وتعالى سهولة مأخذ النصارى وقرب مودّتهم للمؤمنين بقوله تعالى: {ذلك بأن منهم قسيسين} أي: علماء {ورهباناً} أي: عباداً {وأنهم لا يستكبرون} عن اتباع الحق كما استكبر اليهودو المشركون من أهل مكة، نزلت في وفد النجاشي القادمين من الحبشة لا في كل النصارى لأنهم في عداوتهم للمسلمين كاليهود في قتلهم المسلمين وأسرهم وتخريب ديارهم وهدم مساجدهم وحرق مصاحفهم، قال أهل التفسير: ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم فافتتن من افتتن وعصم الله تعالى منهم من شاء ومنع الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة وقال: «إنّ ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يظلم عنده أحداً فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجاً» وأراد به النجاشي واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية وإنما النجاشي اسم الملك كقولهم: قيصر وكسرى فخرج إليه سراً أحد عشر رجلاً وأربع نسوة من جملتهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار وذلك في شهر رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الهجرة الأولى ثم خرج جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب وتتابع المسلمون إليهما فكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلاً سوى النساء والصبيان فلما علمت قريش بذلك أرسلوا إلى النجاشي بالهدايا ليردّهم إليهم فعصهم الله تعالى وانصرفوا خائبين، وأقام المسلمون هناك بحسن دار وخير جوار إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلا دينه في سنة ست من الهجرة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري ليزوّجه أمّ حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت قد(1/852)
(15/105)
---
هاجرت إليه مع زوجها فمات زوجها فأرسل النجاشي إلى أمّ حبيبة جارية تخبرها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستسرت بذلك وأذنت لخالد بن سعيد أن يزوّجها وكان الخاطب لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي فأنفذ إليها أربعمائة دينار، قالت أمّ حبيبة: فخرجنا إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فخرج من خرج إليه وأقمت بالمدينة حتى قدم ووافى جعفر بن أبي طالب وأصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشأم فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكوا وأسلموا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى.g
قال تعالى:
(15/106)
---(1/853)
{وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول} من القرآن {ترى أعينهم تفيض من الدمع} أي: جعلت أعينهم من فرط البكاء كأنهم تفيض بأنفسها {مما عرفوا من الحق} من الأولى للابتداء والثانية لتبيين ما عرفوا من الحق أو التبعيض فإنه بعض الحق والمعنى: إنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف إذا عرفوا كله، وقال ابن عباس: يريد النجاشي وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه فقرىء عليهم ثم دعا بجعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأحضر الرهبان والقسيسين وأمر جعفراً أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ عليهم كهيعص فما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة قالوا: آمنا كما قال تعالى: {يقولون ربنا آمنا} أي: صدقنا نبيك وكتابك {فاكتبنا مع الشاهدين} أي: أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون على الأمم يوم القيامة دليله قوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس} (البقرة، 143) وإذا نظرت مكاتبات النبيّ صلى الله عليه وسلم ازددت بصيرة في صدق هذه الآية فإنه ما كاتب نصرانياً إلا آمن أو كان ليناً ولو لم يسلم كهرقل والمقوقس وهودة بن علي وغيرهم وغايتهم أنهم ضنوا بملكهم وأما غير النصارى فإنهم كانوا على غاية في الفظاظة ككسرى فإنه مزق كتابه صلى الله عليه وسلم ولم يجز رسوله بشيء قال البقاعي: السرّ في ذلك أنه لما كان عيسى عليه الصلاة والسلام أقرب الأنبياء زمناً من زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان المنتمون إليه ولو كانوا كفرة أقرب الأمم مودّة لاتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم
وقالوا في جواب من عيّرهم بالإسلام من اليهود.
{وما لنا لا نؤمن با وما جاءنا من الحق} وهو القرآن لا مانع لنا من الإيمان مع وجود مقتضيه وقوله تعالى: {ونطمع} معطوف على نؤمن {أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين} أي: المؤمنين الجنة.
(15/108)
---(1/854)
{فأثابهم الله بما قالوا} أي: جعل ثوابهم على هذا القول المسند إلى خلوص النية الناشىء عن حسن الطوية {جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك} أي: الجزاء العظيم {جزاء المحسنين} أي: بالإيمان.
{والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} أي: الذين لا ينفكون عنها لا غيرهم من عصاة المؤمنين وإن كثرت كبائرهم وعطف التكذيب بآيات الله على الكفر وهو ضرب منه لأنّ القصد إلى بيان حال المكذبين وذكرهم في معرض المصدّيقين بها جمعاً بين الترغيب والترهيب.
{يأيها الذين آمنوا لا تحرموا} أي: لا تمنعوا أنفسكم بنذر أو يمين أو غير ذلك {طيبات} أي: مستلذات {ما أحلّ الله لكم} كمنع التحريم أي: لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً {ولا تعتدوا} حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرّم عليكم {إنّ الله لا يحب المعتدين} أي: لا يفعل فعل المحب من الإكرام للمفرطين في الورع بحيث يحرمون ما أحللت ولا للمفرّطين فيه الذين يحللون ما حرمت أن يفعلوا فعل المحرّم من المنع وفعل المحلل من التناول فالآية ناهية عن تحريم ما أحل وتحليل ما حرّم داعية إلى القصد بينهما.
(15/109)
---(1/855)
روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف يوم القيامة لأصحابه فبالغ وأشبع في الكلام في الإنذار فرق الناس وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في بيت عثمان بن مظعون وهم: أبو بكر الصديق وعليّ بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن وعثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنهم وتشاوروا واتفقوا على أن يترهبوا ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويجبوا مذاكيرهم ويصوموا الدهر ويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش ولا يأكلوا اللحم والودك، ولا يقربوا النساء والطيب ويسيحوا في الأرض فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟» قالوا: بلى يا رسول الله ما أردنا إلا الخير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لم أومر بذلك» ثم قال: «إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» ثم جمع الناس وخطبهم وقال: «ما بال أقوام يحرّمون النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً فإنه ليس في ديني ترك اللحم ولا النساء ولا اتخاذ الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة صوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شدّدوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع» فأنزل الله تعالى هذه الآية فقالوا: يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها وكانوا حلفوا على ما عليه اتفقوا فأنزل الله تعالى لا {يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} (البقرة، 225) ، الآية.
(15/110)
---(1/856)
وروي «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الدجاج والفالوز وكان يعجبه الحلواء والعسل وقال: «المؤمن حلو يحب الحلاوة» وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنّ رجلاً قال له: إني حرمت الفراش فتلا هذه الآية وقال: نم على فراشك وكفر عن يمينك» وعن الحسن: أنه دعي إلى طعام ومعه فرقد السنجي وأصحابه فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج والفالوز وغير ذلك فاعتزل فرقد ناحية فسأل الحسن أهو صائم فقالوا: لا ولكنه يكره هذه الألوان فقال: يا فريقد أترى لعاب النحل بلباب البر بخالص السمن يعيبه مسلم، وعنه أنه قيل له: فلان لا يأكل الفالوز يقول: لا أؤدي شكره قال: أفيشرب الماء البارد؟ قال: نعم قال: إنه جاهل إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوز، وعنه أنّ الله تعالى أدب عباده فأحسن أدبهم قال تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته} (الطلاق، 7) ما عاب الله قوماً وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوه ولا عذر قوماً ذواهاً عنهم فعصوه.
وروي أنّ عثمان بن مظعون أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: ائذن لي في الاختصاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس منا من خصى ولا من اختصى إن خصاء أمتي الصيام» فقال: يا رسول الله ائذن لي بالسياحة فقال: «إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله» قال: يا رسول الله ائذن لي في الترهب قال: «إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة».
وروي أنّ رجلاً قال: يا رسول الله إني أصبت من اللحم فانتشرت فأخذتني شهوة فحرّمت اللحم فأنزل الله تعالى هذه الآية، ولا تعارض بين الخبرين لأنّ الشيء الواحد قد يكون له أسباب جمة بعضها أقرب من بعض.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل نهياً شديداً وقال: «تزوّجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة».
(15/111)
---(1/857)
{وكلوا مما رزقكم الله} ولما كان الرزق يقع على الحرام قيده بعد القيد بالتبعيض بقوله: {حلالاً طيباً} وهو مفعول كلوا ومما حال منه تقدّمت عليه لأنه نكرة وقوله تعالى: {واتقوا الله} تأكيد للتوصية بما أمر الله به وزاده تأكيداً بقوله: {الذي أنتم به مؤمنون} لأنّ الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر به وعمّا نهى عنه.
{لا يؤاخذكم الله باللغو} الكائن {في أيمانكم} هو ما يبدو من المرء بلا قصد كقول الإنسان: لا والله وبلى والله وإليه ذهب الشافعيّ رحمه الله تعالى، وقيل: هو الحلف على ما يظنّ أنه كذلك ولم يكن وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم} أي: وثقتم {الأيمان} عليه بأن حلفتم عن قصد.
روي أنّ الحسن سئل عن لغو اليمين وكان عنده الفرزدق فقال: يا أبا سعيد دعني أجب عنك فقال:
*ولست بمأخوذ بلغو تقوله ** إذا لم تعمد عاقدات العزائم*
والمعنى: ولكن يؤاخذكم الله بما عقدتم إذا حنثتم أو بنكث ما عقدتم فحذف التقدير بأحد الأمرين للعلم به، وقرأ ورش يؤاخذكم بإبدال الهمزة واواً مفتوحة، وقرأ ابن ذكوان عاقدتم بألف بعد العين وتخفيف القاف والباقون بغير ألف مع تشديد القاف {فكفارته} أي: اليمين إذا حنثتم فيه التي تذهب إثمه وتزيل أثره بحيث تصيرون كأنكم ما حلفتم.
(15/112)
---(1/858)
{إطعام عشرة مساكين} أي: لكل مسكين مدّ عندنا ونصف صاع عند أبي حنيفة رحمه الله {من أوسط} أي: أعدل {ما تطعمون أهليكم} من برّ أو غيره لا من أعلاه ولا من أدناه {أو كسوتهم} بما يسمى كسوة كقميص وعمامة وإزار وسراويل ومقنعة من صوف وقطن وكتان وحرير ولو لرجل وإن لم يجز له لبسه لوقوع اسم الكسوة عليه رديئاً كان أو جيداً ويجزىء لبد أوفروة اعتبر في البلد لبسهما ولا يكفي دفع ما ذكر لمسكين واحد وعليه الشافعيّ ولا يكفي المكعب والنعل والخف والقلنسوة والتبان وهو سراويل قصيرة لا تبلغ الركبة ونحو ذلك مما لا يسمى كسوة {أو تحرير رقبة} أي: مؤمنة كما في كفارتي القتل والظهار حملاً للمطلق على المقيد وجوّز أبو حنيفة عتق الكافرة في كل كفارة إلا القتل، وخرج بالتخيير بين هذه الثلاثة أنه لا يجزىء أن يطعم خمسة ويكسو خمسة كما لا يجزىء إعتاق نصف رقبة وإطعام خمسة {فمن لم يجد} أي: بأن عجز عن أحد ما ذكر {فصيام ثلاثة أيام} أي: فكفارته صيام ثلاثة أيام ولا يجب تتابعها.
فإن قيل: قرىء شاذاً متتابعات والقراءة الشاذة كخبر الواحد في وجوب العلم كما أوجبنا قطع يد السارق اليمنى بالقراءة الشاذة في قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما} (المائدة، 38) ولأنّ من عادة الشافعي رحمه الله تعالى حمل المطلق على المقيد من جنسه وهو الظهار والقتل أجيب: بأنّ اليمين نسخ فيها متتابعات تلاوة وحكماً فلا يستدل بها بخلاف آية السرقة فإنها نسخت تلاوة لا حكماً وبأنّ المطلق ههنا متردّد بين أصلين يجب التتابع في أحدهما وهو كفارة الظهار والقتل ولا يجب في الآخر وهو قضاء رمضان فلم يكن أحد الأصلين في التتابع بأولى من الآخر ويسنّ تتابعها خروجاً من خلاف أبي حنيفة فإنه شرط تتابعها.
(15/113)
---(1/859)
تنبيه: المراد بالعجز أن لا يقدر على المال الذي يصرفه في الكفارة كمن يجد كفايته وكفاية من تلزمه مؤنته فقط ولا يجد ما يفضل عن ذلك وضابط ذلك: أنّ من جاز له أن يأخذ سهم الفقراء والمساكين من الزكاة والكفارات جاز له أن يكفر بالصوم لأنه فقير في الأخذ فكذا في الإعطاء {ذلك} أي: المذكور {كفارة أيمانكم إذا حلفتم} أي: وحنثتم {واحفظوا أيمانكم} أي: من أن تنكثوها ما لم تكن من فعل برّ أو إصلاح بين الناس كما مرّ في سورة البقرة {كذلك} أي: مثل ما بين لكم ما ذكر {يبين الله لكم آياته} أي: أعلام شريعته {لعلكم تشكرون} أي: يحصل منكم شكر بحفظ جميع الحدود الآمرة والناهية.
(15/114)
---
{يأيها الذين آمنوا إنما الخمر} أي: المسكر الذي خامر العقل سواء فيه كثيره وقليله {والميسر} أي: القمار {والأنصاب} أي: الأصنام {والأزلام} أي: قداح الاستقسام {رجس} أي: خبيث مستقذر وإنما وحد الخبر للنص على الخمر والإعلام بأنّ أخبار الثلاثة حذفت وقدرت لأنها أهل لأن يقال في كل واحدة منها على حدتها كذلك ولا يكفي عنها خبر واحد على سبيل الجمع ثم زاد في التنفير عنها تأكيداً لرجسيتها بقوله تعالى: {من عمل الشيطان} الذي يزينه {فاجتنبوه} أي: الرجس المعبر به عن هذه الأشياء أن تفعلوه {لعلكم تفلحون} أي: تظفرون بجميع مطالبكم.
واعلم أنه سبحانه وتعالى أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية بأن صدّر الجملة بإنما وقرنهما بالأصنام والأزلام وسماهما رجساً وجعلهما من عمل الشيطان تنبيهاً على أن الاشتغال بهما شر خالص أو غالب وأمر بالاجتناب عن عينهما وجعل الاجتناب سبباً يرجى منه الفلاح ثم قرّر ذلك بأن بين ما فيهما من المفاسد الدينية والدنيوية المقتضية للتحريم بقوله تعالى:
(15/116)
---(1/860)
{إنما يريد الشيطان} أي: بتزيين الشرب والقمار لكم {أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر} أي: إذا أتيتموهما لما يحصل فيهما من الشرّ والفتن، أمّا العداوة في الخمر فإنّ الشارب إذا سكر عربد كما فعل الأنصاري الذي شج رأس سعد بن أبي وقاص بلحى الجمل، وأمّا العداوة في الميسر فقال قتادة: كان الرجل يقامر على الأهل والمال ثم يبقى حزيناً مسلوب الأهل والمال مغتاظاً على حرفائه {ويصدّكم} بالاشتغال بهما {عن ذكر الله وعن الصلاة} وذلك لأنّ من اشتغل بشرب الخمر والقمار ألهاه ذلك عن ذكر الله وشوش عليه صلاته كما فعل بأضياف عبد الرحمن بن عوف، تقدّم رجل منهم يصلي بهم صلاة المغرب بعدما ما شربوا فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد بحذف لا، وإنما خصهما بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال تنبيهاً على أنهما المقصودان بالبيان وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة لقوله صلى الله عليه وسلم «شارب الخمر كعابد الوثن» رواه البزار ورواه ابن حبان بلفظ «مدمن الخمر كعابد الوثن» قال: ويشبه أن يكون فيمن يستحلها وهو كذلك وخص الصلاة بالذكر للإفراد بالتعظيم والإشعار بأنّ الصادّ عنها كالصادّ عن الإيمان من حيث إنها عماده، والفارق بينه وبين الكفر ثم أعاد الحثّ على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتباً على ما تقدّم من أنواع الصوارف بقوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} إيذاناً بأنّ الأمر في المنع والتحذير بلغ الغاية وأنّ الأعذار قد انقطعت فلفظه الاستفهام ومعناه أمر كقوله تعالى: {فهل أنتم شاكرون} (الأنبياء، 480) {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} فيما أمراكم به من اجتناب ذلك {واحذروا} مخالفتهما فيما ينهياكم عنه {فإن توليتم} أي: عن الطاعة {فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} أي: فلا يضرّه توليكم فإنما عليه الإبلاغ البيّن، وقد أدّى وإنما ضررتم أنفسكم.
(15/117)
---(1/861)
ولما نزل تحريم الخمر قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم: يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر نزل.
{ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات} تصديقاً لإيمانهم {جناح} أي: حرج {فيما طعموا} أي: من مال الميسر وشربوا من الخمر قبل التحريم {إذا ما اتقوا} أي: المحرّمات {وآمنوا وعملوا الصالحات} أي: ثبتوا على الإيمان والأعمال الصالحة {ثم اتقوا} ما حرّم عليهم بعد الخمر {وآمنوا} بتحريمه {ثم اتقوا} أي: استمرّوا وثبتوا على اتقاء المعاصي {وأحسنوا} أي: وتحرّوا الأعمال الجميلة واشتغلوا بها أو أن التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة الماضي والحال والاستقبال التي تقع فيها الأفعال المذكورة وباعتبار الحالات الثلاث استعمال الإنسان التقوى والإيمان بينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس، وبينه وبين الله عز وجل ولأجل استعمال الإنسان التقوى بينه وبين الله أبدل الإيمان بالإحسان في الكرة الثالثة إشارة إلى ما قاله عليه الصلاة والسلام في تفسير الإحسان من قوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» أو باعتبار المراتب الثلاثة: المبدأ والوسط والمنتهى أو باعتبار ما يتقي به فإنه ينبغي أن يترك المحرّمات توقياً من العقاب والشبهات تحزراً للنفس عن الوقوع في الحرام وبعض المباحات صوناً لها عن الخسة وتهذيباً لها عن دنس الطبيعة {وا يحب المحسنين} أي: يثيبهم.
ونزل عام الحديبية وكانوا محرمين ابتلاهم الله بالصيد فكانت الوحوش تغشى رحالهم فهموا بأخذها.
(15/118)
---(1/862)
{يأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله} أي: ليختبرنكم {بشيء} يرسله لكم {من الصيد} وإنما بعض لأنه ابتلاهم بصيد البر خاصة وفائدة الابتلاء إظهار المطيع من العاصي وإلا فلا حاجة به إلى البلوى {تناله أيديكم} أي: ما لا يقدر أن يفرّ من الصيد لصغر أو غيره {ورماحكم} أي: ما يقدر على الفرار لكبر أو غيره {ليعلم الله} أي: علم ظهور فإنه تعالى يعلم ما تخفى الصدور {من يخافه بالغيب} أي: ليتميز من يخاف عقاب الله وهو غائب منتظر في الآخرة فيجتنب الصيد، والمعنى: أنه سبحانه وتعالى يخرج بالامتحان ما كان من أفعال العباد في عالم الغيب إلى عالم الشهادة فيصير تعلق العلم به تعلقاً شهودياً كما كان تعلقاً غيبياً ليقوم بذلك على الفاعل الحجة في مجاري عاداتكم {فمن اعتدى} أي: فاصطاد {بعد ذلك} أي: الابتلاء بالصيد {فله عذاب أليم} أي: مؤلم وإنّ من لا يملك نفسه في مثل ذلك ولا يراعي حكم الله فيه فكيف به فيما تكون فيه النفس أميَل إليه وأحرص عليه.
(15/119)
---(1/863)
{يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} أي: محرمون بنسك أو في الحرم والنهي عما يؤكل لحمه لأنه الغالب فيه عرفاً وأمّا غير المؤكول فيحل قتله فإنه لا حظ للنفس في قتله إلا الإراحة من أذاه ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم «خمس يقتلن في الحل والحرم: الحداء والغراب والعقرب والفأرة والكلب» وفي رواية أخرى الحية بدل العقرب مع ما فيه من التنبيه على جواز قتل كل مؤذ وإنما ذكر القتل دون الذبح والذكاة للتعميم فإنّ مذبوح المحرم ميتة {ومن قتله منكم متعمداً} أي: قاصداً للصيد ذاكراً للاحرام إن كان محرماً والحرم إن كان فيه عالماً بالتحريم وذكر العمد ليس لتقييد وجوب الجزاء فإنّ إتلاف العامد والمخطىء واحد في إيجاب الضمان بل لقوله تعالى: {ومن عاد فينتقم الله منه} ولأنّ الآية نزلت فيمن تعمد إذ روي أنه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فطعنه أبو قتادة برمحه فقتله فنزلت، وعن الزهريّ نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ، وعن سعيد بن جبير: لا أرى في الخطأ شيئاً باشتراط العمد في الآية، وعن الحسن روايتان وقوله تعالى: {فجزاء} منوّن في قراءة عاصم وحمزة والكسائيّ وما بعده مرفوع أي: فعليه جزاء هو {مثل ما قتل من النعم} أي: شبهه في الخلقة لا التساوي في القيمة، وقرأ الباقون بغير تنوين في جزاء وخفض لام مثل {يحكم به} أي: المثل رجلان {ذوا عدل منكم} أي: لهما فطنة يميزان بها أشبه الأشياء به فيحكمان به وقد ذهب إلى إيجاب المثل جماعة من الصحابة حكموا في بلدان مختلفة بالمثل من النعم فحكم ابن عباس وعمر وعليّ في النعامة ببدنة وهي لا تساوي بدنة وعمر في الضبع بكبش وهو لا يساوي كبشاً وابن عباس وأبو عبيدة في بقر الوحش وحماره ببقرة، ابن عمر وابن عوف في الظبي بشاة وحكم بها ابن عباس وعمر وغيرهما في الحمام لأنه يشبهها في العب، والحمام كل ما عبّ وهدر من الطير كالفواخت والقمري والدبسيّ فدلّ ذلك على أنهم ينظرون إلى ما يقرب من(1/864)
(15/120)
---
الصيد شبهاً من حيث الخلقة لا من حيث القيمة.
وقوله: {هدياً} حال من جزاء وقوله تعالى: {بالغ الكعبة} أي: يبلغ به الحرم فيذبح فيه ويتصدّق به على مساكينه ولا يجوز أن يذبح حيث كان وهو نعت لما قبله وإن أضيف إلى معرفة لأنّ إضافته لفظية لا تفيد تعريفاً فإن لم يكن للصيد مثل من النعم كالعصفور والجراف فعليه قيمته {أو} عليه {كفارة طعام مساكين} في الحرم من غالب قوت البلد مما يساوي قيمة الجزاء لكل مسكين مدّ، وقرأ نافع وابن عامر كفارة بغير تنوين وخفض ميم طعام والباقون بالتنوين ورفع ميم طعام أي: هي طعام {أو} عليه {عدل} أي: مثل {ذلك} أي: الطعام {صياماً} يصومه في كل موضع يتيسر له عن كلّ مدّ يوماً، فأو للتخيير لأنه الأصل فيها، قال البقاعي: والقول بأنها للترتيب يحتاج إلى دليل.
وقوله تعالى: {ليذوق وبال أمره} متعلق بمحذوف أي: فعليه الجزاء أو الطعام أو الصوم ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام والوبال المكروه والضرر الذي يناله في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه من قوله تعالى: {فأخذناه أخذاً وبيلاً} (المزمل، 16) أي: ثقيلاً والطعام الوبيل الذي ينقل على المعدة ولا يستمر {عفا الله عما سلف} أي: من قتل الصيد قبل تحريمه فلا يؤاخذكم به {ومن عاد} إلى تعمد شيء من ذلك بعد النهي وقوله تعالى: {فينتقم الله منه} خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو ينتقم الله منه ولذلك دخلت الفاء ونحو ذلك قوله تعالى: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً} (الجن، 13) أي: ينتقم الله تعالى منه في الآخرة وإذا تكرّر من المحرم قتل الصيد تعدّدت عليه الكفارة عند عامّة العلماء.f
وعن ابن عباس وشريح: لا كفارة عليه تعلقاً بظاهر الآية فإنه لم يذكر الكفارة قالا: لأنّ الانتقام من العائد يمنع وجوب الكفارة {وا} الذي له صفات الكمال {عزيز} أي: غالب على أمره {ذو انتقام} أي: ممن أصبر على عصيانه.
(15/121)
---(1/865)
ولما كان هذا عاماً في كل صيد بيّن الله تعالى أنه خاص بصيد البرّ فقال:
{أحلّ لكم} أيها الناس حلالاً كنتم أو محرمين {صيد البحر} أي: ما صيد منه وهو ما لا يعيش إلا في الماء كالسمك بخلاف ما يعيش فيه وفي البرّ عند الشافعيّ رحمه الله تعالى وذهب قوم إلى أنّ جميع ما في البحر حلال وظاهر الآية حجة له. وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى: لا يحلّ منه إلا السمك، وقوله تعالى: {وطعامه} عطف على صيد البحر أي: وأحلّ لكم طعام البحر وهو ما يقذفه من السمك ميتاً قال صلى الله عليه وسلم في البحر: «هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته» رواه أبو داود والترمذيّ وغيرهما وصححوه وقال قتادة: صيده طريه وطعامه مالحه، وقيل: الضمير للصيد وطعامه أكله وعلى هذا فالصيد بمعنى الاصطياد والمعنى: أحلّ لكم اصطياد الصيد وأكل المصيد من الأنهار والبرك وغيرهما من جميع المياه كالبحر.
وقوله تعالى: {متاعاً} مفعول أي: أحلّ {لكم} تمتيعاً لكم تأكلونه طرياً {وللسيارة} أي: المسافرين منكم يتزوّدونه قديداً كما تزوّد موسى صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى الخضر الحوت {وحرّم عليكم صيد البرّ} أي: اصطياده وأكل ما صيد منه لكم وهو ما لا يعيش إلا فيه وما يعيش فيه وفي البحر فإن صيد الحلال حل للمحرم أكله لقوله صلى الله عليه وسلم «لحم الصيد حلال لكم ما لم تصطادون أو يصد لكم» {ما دمتم حرماً} أي: محرمين وقد ذكر تعالى تحريم الصيد على المحرم في ثلاث مواضع من هذه السورة قوله تعالى: {غير محلى الصيد وأنتم حرم} (المائدة، 1) إلى قوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} (المائدة، 2) وقوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} (المائدة، 95) وقوله تعالى: {وحرم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً} (المائدة، 96) تشديداً على المحرم أنه لا يتعاطى ذلك وأكد ذلك بقوله تعالى: {واتقوا الله} أي: في ذلك الاصطياد وغيره {الذي إليه تحشرون} فإنه مجازيكم بأعمالكم.
(15/123)
---(1/866)
{جعل الله الكعبة} أي: صيرها وسمى البيت كعبة لتكعبه أي: تربعه وقال مجاهد: سميت كعبة لترفعها والعرب تسمي كل بيت مرتفع كعبة وقال مقاتل: سميت كعبة لانفرادها من البناء وقوله تعالى: {البيت الحرام} أي: المحترم عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح كما تجيء الصفة كذلك {قياماً للناس} أي: يقوم به أمر دينهم بالحج أو العمرة إليه ودنياهم بأمن داخله وعدم التعرّض له وجبي ثمرات كل شيء إليه قال الرازي: والمراد بعض الناس وهم العرب وإنما حسن هذا المجاز؛ لأنّ أهل كل بلد إذا قالوا: الناس فعلوا كذا وصنعوا كذا فهم لا يريدون إلا أهل بلدتهم فلهذا السبب خوطبوا بهذا الخطاب على وفق عادتهم. وقرأ ابن عامر قيماً بغير ألف مصدر قام غير معل والباقون بالألف.
{والشهر الحرام} أي: الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب أي: صير الأشهر الحرم قياماً للناس يأمنون فيها من القتال {والهدي} أي: الذي لم يقلد {والقلائد} أي: الهدى الذي يقلد فيذبح ويقسم على الفقراء ومرّ الكلام عليه في أوّل السورة {ذلك} أي: الجعل المذكور وهو الأربعة الأشياء التي جعلها الله قياماً للناس {لتعلموا أنّ الله يعلم ما في السموات وما في الأرض} فإن شرع الأحكام لدفع المضار قبل وقوعها وجلب المنافع المترتبة عليها دليل على علمه بما في الوجود وما هو كائن وقوله تعالى: {وإنّ الله بكل شيء عليم} تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد إطلاق وقوله تعالى:
{اعلموا أنّ الله شديد العقاب} فيه وعيد لأعدائه ممن انتهك محارمه وقوله تعالى: {وإنّ الله غفور} فيه وعد لأوليائه ممن حافظ عليها {رحيم} بهم وقوله تعالى:
(15/124)
---(1/867)
{ما على الرسول إلا البلاغ} فيه تشديد على إيجاب القيام بما أمر به وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت عليكم الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم في التفريط {وا يعلم ما تبدون} أي: تظهرون من العمل {وما تكتمون} أي: تخفون منه فيجازيكم به.
وقوله تعالى:
{قل لا يستوي الخبيث والطيب} حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيدها رغب به في صالح العمل وحلال المال {ولو أعجبك كثرة الخبيث} إذ لا عبرة بالقلة والكثرة بل بالجودة والرداءة فإنّ المحمود القليل خير من المذموم الكثير، والخطاب لكل معتبر ولذلك قال تعالى: {فاتقوا الله} أي: في ترك الخبيث وإن كثر في الحس لنقصه في المعنى وآثِروا الطيب وإن قلّ في الحس لكثرته في المعنى {يا أولي الألباب} أي: أصحاب العقول السليمة {لعلكم تفلحون} أي: لتكونوا على رجاء من أن تفوزوا بجميع المطالب.
ونزل لما أكثروا سؤاله صلى الله عليه وسلم
{يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد} أي: تظهر {لكم تسؤكم} أي: لما فيها من المشقة فقيل: سبب نزولها ما في الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه إنهم لما سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه المسألة أي: بالغوا في السؤال فغضب وصعد المنبر وقال: «لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم» وشرع يكرّر ذلك وإذا رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه فقال: يا رسول الله من أبي؟ فقال: «حذافة» فقال عمر رضي الله تعالى عنه: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً نعوذ بالله من الفتن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط إنه قد صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط في آخره» فنزلت هذه الآية.
(15/125)
---(1/868)
وروي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه قال: يا رسول الله أنا حديث عهد بجاهلية اعف عنا يعف الله عنك فسكن غضبه، وللبخاريّ في التفسير عن أنس أيضاً قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط قال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم حنين فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان فنزلت هذه الآية. وللبخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء فيقول الرجل: من أبي؟ يقول الرجل تضلّ ناقته أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب ذات يوم وهو غضبان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال صلى الله عليه وسلم «لا أسأل عن شيء إلا وأجيب» فقال رجل: أين أنا؟ قال: «في النار» وقال آخر: من أبي؟ قال: «حذافة» وكان يدعى لغيره فنزلت هذه الآية. وقيل غير ذلك ولا تعارض بين هذه الأخبار ولو تعذر ردّها إلى شيء واحد لما مرّ عند قوله تعالى: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} (المائدة، 87) من أنّ الأمر الواحد قد تتعدّد أسبابه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية مع تحقيق الأولى والباقون بتحقيقهما. ولما كان ربما وقع في وهم متعنت أنّ هذا الزجر إنما هو لقصد راحة المسؤول عن السؤال خوفاً من عواقبه قال تعالى: {وإن تسألوا عنها} أي: تلك الأشياء التي تتوقع مساءتكم عند إبدائها {حين ينزل القرآن تبد لكم} المعنى: إذا سألتم عن أشياء في زمنه صلى الله عليه وسلم ينزل القرآن بإبدائها ومتى أبداها ساءتكم فلا تسألوا.
(15/126)
---(1/869)
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى قد فرض فرائض فلا تضيعوها وحدّ حدوداً فلا تعتدوها ثم عفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها»، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي وقوله تعالى: {عفا الله عنها} استئناف أي: عفا الله عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى مسألتها أو صفة أخرى أي: عن أشياء عفا الله عنها ولا يكلف بها.
روي أنه لما نزل {و على الناس حج البيت} (آل عمران، 97) قال سراقة بن مالك: ألكل عام فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم حتى أعاد ثلاثاً فقال: «لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم فاتركوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه».
{وا غفور} يمحو الزلات عيناً وأثراً ويعقبها بالإكرام {حليم} لا يعجل على العاصي بالعقوبة وقوله تعالى:
{قد سألها قوم} الضمير فيه للمسألة التي دلّ عليها تسألوا ولذلك لم يعدّ بعن أو الأشياء بحذف الجار وقوله تعالى: {من قبلكم} قال البيضاويّ: متعلق بسألها وليس صفة لقوم فإن ظرف الزمان لا يكون صفة لجثة ولا حالاً منها ولا خبراً عنها اه. قال أبو حيان: هذا محله في ظرف الزمان المجرّد من الوصف أمّا إذا لم يتجرّد عنه فيصح أن يكون صفة للجثة أو حالاً منها أو خبراً عنها، وقبل وبعد وصفان في الأصل فإذا قلت: جاء زيد قبل عمرو فالمعنى جاء في زمان قبل زمان مجيئه أي: تقدّم عليه ولذا صح وقوعه صلة للموصول ولو لم يلحظ فيه الوصف ولو كان ظرف زمان مجرّداً لم يجز أن يقع صلة قال تعالى: {والذين من قبلكم} (البقرة، 21) ولا يجوز والذين اليوم وممن سألها قبلهم ثمود سألوا صالحاً الناقة وسأل قوم عيسى المائدة {ثم أصبحوا} أي: صاروا {بها} أي: بسببها {كافرين} حيث لم يأتمروا بما سألوا جحوداً وقوله تعالى:
(15/127)
---(1/870)
{ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} ردّ وإنكار لما ابتدعته أهل الجاهلية.
روي أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر يجزوا أذنها أي: شقوها وتركوا الحمل عليها وركوبها ولم يجزوا وبرها ولم يمنعوها الماء والكلأ وقيل: إنهم كانوا ينظرون إلى خامس ولدها فإن كان ذكراً نحروه فأكله الرجال والنساء وإن كان أنثى يجزوا أذنها أي: شقوها وتركوها، وحرم على النساء لبنها ومنافعها وكانت منافعها خاصة للرجال وإذا ماتت حلت للرجال والنساء.
وأما السائبة فكان الرجل منهم يقول: إن شفيت أو ردّ غائبي فناقتي سائبة ثم يسيبها فلا تحبس عن مرعى ولا ماء ولا تركب ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها وقيل: كانت الناقة إذا تابعت ثنتي عشرة سنة إناثاً سيبت فلم يركب ظهرها ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فإن نتجت بعد ذلك أثنى شق أذنها ثم يخلى سبيلها مع أمّها في الإبل فلم تركب ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمّها فهي البحيرة بنت السائبة.
وأمّا الوصيلة فمن الغنم كانت إذا ولدت سبعة أبطن نظر فإن كان السابع ذكراً ذبحوه فأكل منه الرجال والنساء وإن كانت أنثى تركوها في الغنم وقيل: إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم فإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم وكان ابن الأنثى حراماً على النساء فإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعاً.
وأمّا الحام فهو الفحل إذا ركب ولد ولده ويقال: إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى. وإذا مات أكله الرجال والنساء.
(15/128)
---(1/871)
وروي «أنه صلى الله عليه وسلم قال لأكثم الخزاعي: يا أكثم رأيت عمرو بن لحى يجرّ قصبه في النار فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به ولا به منك وذلك أنه أوّل من غير دين إسماعيل ونصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي ولقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه» فقال أكثم: أيضرني شبهه يا رسول الله؟ قال: «لا إنك مؤمن وهو كافر» ومعنى {ما جعل الله} أي: ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير ولا التسيب ولا غير ذلك {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} في قولهم: إنّ الله أمرنا بها {وأكثرهم لا يعقلون} أنّ ذلك افتراء لأنهم قلدوا فيه آباءهم كما قال تعالى:
(15/129)
---
{وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا} أي: كافينا {ما وجدنا عليه آباءنا} إذ لا مستند لهم سوى ذلك قال الله تعالى: {أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون} أي: إلى الحق والاستفهام للإنكار أي: أحسبهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة ضالين. وقرأ هشام والكسائيّ قيل بضم القاف قبل الياء والباقون بالكسر.
{يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} أي: احفظوها والزموا إصلاحها {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} أي: لا يضركم الضالّ إذا كنتم مهتدين ومن الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته كما قال عليه الصلاة والسلام: «من رأى منكراً واستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه».(1/872)
وروي عن أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه أنه قال: يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} الآية وتضعونها غير موضعها ولا تدرون ما هي وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعذابه». وفي رواية «لتأمرن بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليستعملنّ الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب ثم ليدعون الله خياركم فلا يستجاب لهم».
قال أبوعبيدة: خاف الصدّيق رضي الله تعالى عنه أنه يتأوّل الناس الآية غير متأوّلها فيدعوهم إلى ترك الأمر بالمعروف فأعلمهم أنها ليست كذلك، قال أبو ثعلبة الخشني: سألت عن هذه الآية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحّاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت الأمر لا بدّ لك منه فعليك نفسك ودع أمر العامة وإن وراءكم أيام الصبر فمن صبر فيهنّ قبض على الجمر وإنّ وراءكم أياماً للعامل فيهنّ مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله» قال ابن المبارك وزادني غيره قال: «أجر خمسين منكم».
(15/131)
---
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ هذه الآية قرئت عنده فقال: إنّ هذا ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يقبل منكم فحينئذٍ عليكم أنفسكم فهي على هذا تسلية لمن يأمر وينهى فلا يقبل منه وبسط لعذره وعنه ليس هذا زمان تأويلها قيل: فمتى؟ قال: إذا حال دونها السيف والسوط والحبس.(1/873)
وروي: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا فإن لو تفتح عمل الشيطان ولكن قل قدّر الله وما شاء فعل». وقيل: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفهت آباءك ولاموه فنزلت: عليكم أنفسكم وعليكم من أسماء الفعل بمعنى الزموا أنفسكم ولذلك نصب أنفسكم {إلى الله مرجعكم جميعاً} الضال والمهتدي {فينبئكم بما كنتم تعملون} فيجازيكم به، وفي ذلك وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أنّ أحداً لا يؤاخذ بذنب أحد غيره.
{يأيها الذين آمنوا شهادة بينكم} أي: فيما أمرتم شهادة بينكم فشهادة مبتدأ خبره محذوف، قيل: هذه الآية وما بعدها من أشكل آي القرآن حكماً وإعراباً وتفسيراً والمراد بالشهادة الإشهاد بالوصية.
(15/132)
---(1/874)
وقيل: المراد بها اليمين بمعنى يمين ما بينكم أن يحلف اثنان، قال القرطبي: ورد لفظ الشهادة في القرآن على أنواع مختلفة بمعنى الحضور قال تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (البقرة، 185) وبمعنى قضى قال تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} (ال عمران، 18) وبمعنى أقرّ قال تعالى: {والملائكة يشهدون} (النساء، 166) وبمعنى حكم قال تعالى: {وشهد شاهد من أهلها} (يوسف، 26) وبمعنى حلف قال تعالى: {فشهادة أحدهم أربع شهادات} (النور، 6) وبمعنى وصى قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} أي: أسبابه {حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم} وهذا خبر بمعنى الأمر أي: ليشهد وإضافة شهادة ل «بين» على الاتساع وحين بدل من إذا أو ظرف لحضر واثنان فاعل شهادة أو خبر مبتدأ محذوف أي: الشاهد اثنان ومن فسر الغير بأهل الذمّة جعله منسوخاً فإنّ شهادته على المسلم لا تسمع إجماعاً، وقد اتفق الأكثرون على أنه لا نسخ في سورة المائدة، وعن مكحول نسخها قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (الطلاق، 2) وإنما جازت في أوّل الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في حال السفر.
(15/133)
---(1/875)
{إن أنتم ضربتم} أي: سافرتم {في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت} أي: قاربتم الأجل وقوله تعالى: {تحبسونهما} أي: توقفونهما وتصبرونهما صفة لآخران {من بعد الصلاة} أي: صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس وتصادم ملائكة الليل وملائكة النهار. وقيل: أيّ صلاة كانت {فيقسمان} أي: يحلفان {با} وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ اليمين إنما تكون إذا كانا من غيرنا فإن كانا مسلمين فلا يمين، وعن غيره: إن كان الشاهدان على حقيقتهما فقد نسخ تحليفهما، وإن كانا الوصيين فلا إثم شرط لهذا الحلف شرطاً فقال اعتراضاً بين القسم والمقسم عليه {إن ارتبتم} أي: شككتم فيما أخبرا به عن الواقعة ثم ذكر المقسم عليه بقوله: {لا نشتري به ثمناً} أي: بهذا الذي ذكرناه ثمناً أي: لم نذكره ليحصل لنا به غرض دنيوي وإن كان في نهاية الجلالة وليس قصدنا به إلا إقامة الحق {ولو كان} أي: القسم له {ذا قربى} أي: لنا {ولا نكتم شهادة الله} أي: التي أمرنا بإقامتها {إنا إذا} أي: إذا كتمناها {لمن الآثمين}.
(15/134)
---(1/876)
{فإن عثر} أي: اطلع بعد حلفهما {على أنهما استحقا إثماً} أي: فعلاً ما يوحيه من خيانة أو كذب في الشهادة بأن وجد عندها مثلاً ما اتهما به وادعيا أنهما ابتاعاه من الميت أو وصى لهما به {فآخران} أي: فشاهدان آخران {يقومان مقامهما} أي: في توجيه اليمين عليهما {من الذين استحق عليهم} الوصية وهم الورثة على قراءة غير حفص بضم التاء وكسر الحاء على البناء للمفعول وعلى البناء للفاعل فهو الأوليان ويبدل من آخران {الأوليان} بالميت أي: الأقربان إليه، وقرأ حمزة وشعبة بتشديد الواو وكسر اللام وبسكون الياء وفتح النون على الجمع على أنه صفة للذين أو بدل منه أي: من الأوّلين الذين استحق عليهم والباقون بسكون الواو وفتح اللام والياء وألف بعد الياء وكسر النون على التثنية على أنه بدل من آخران كما مرّ أو خبر محذوف أي: هما الأوليان {فيقسمان} أي: هذان الآخران {با} ويقولان {لشهادتنا} أي: يميننا {أحق} أي: أصدق {من شهادتهما} أي: يمينهما {وما اعتدينا} أي: تجاوزنا الحق في اليمين {إنا إذا} أي: إذا وقع منا اعتداء {لمن الظالمين} أي: الواضعين الشيء في غير موضعه.
(15/135)
---(1/877)
ومعنى الآيتين: أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي نسبه أو دينه على وصيته أو يوصي إليهما احتياطاً فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم ثم إن وقع نزاع وارتياب أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت، فإن اطلع على أنهما كذبا بأمارة أو مظنة حلف آخران من أولياء الميت والحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين فإن الشاهد لا يحلف ولا تعارض يمينه بيمين الوارث، وثابت إن كانا وصيين وردّ اليمين إلى الورثة إمّا لظهور خيانة الوصيين فإنّ تصديق الوصي باليمين لأمانته أو لتغيير الدعوى وتخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة لخصوص الواقعة التي نزلت لها، وهي ما روي أنّ رجلاً من بني سهم خرج مع تميم الداري وعدي بن زيد إلى الشام للتجارة وكانا حينئذٍ نصرانيين ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلماً فلما قدموا الشام مرض بديل فدوّن ما معه في صحيفة وطرحها في متاعه ولم يخبرهما بها وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله ومات ففتشاه وأخذا منه إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال منقوشاً بالذهب ثم قضيا حاجتهما وانصرفا إلى المدينة ودفعا المتاع إلى أهل الميت ففتشوا فأصابوا الصحيفة فيها تسمية ما كان معه فجاءوا تميماً وعدياً فقالوا: هل باع صاحبنا شيئاً؟ قالا: لا قالوا: هل اتجر تجارة قالا: لا قالوا: فهل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا لا قالوا: فإنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما معه وإنا فقدنا منها إناء من فضة مموّهاً بالذهب ثلثمائة مثقال من فضة قالا: ما ندري إنما أوصى لنا بشيء وأمرنا أن ندفعه لكم فدفعناه وما لنا علم بالإناء فاحتصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجترآ على الإنكار وحلفا فأنزل تعالى الله: {يأيها الذين آمنوا} الآية فلما نزلت هذه الآية صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا تميماً وعدياً فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يختانا شيئاً(1/878)
(15/136)
---
مما دفع إليهما فحلفا على ذلك وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما، ثم وجد الإناء في أيديهما، فبلغ ذلك بني سهم فأتوهما في ذلك فقالا: إنا كنا قد اشتريناه منه فقالوا: ألم تزعما أنّ صاحبنا لم يبع شيئاً من متاعه؟ قالا: لم يكن عندنا بينة وكرهنا أن نقر لكم فكتمنا لذلك فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فإن عثر فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي رفاعة السهميان وحلفا وتقدّم أنّ تخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة لخصوص الواقعة التي نزلت لها.f
{ذلك} أي: الحكم المذكور من ردّ اليمين على الورثة {أدنى} أي: أقرب {أن} أي: إلى أن {يأتوا} أي: الذين شهدوا أوّلاً {بالشهادة} أي: الواقعة في نفس الأمر {على وجهها} أي: الذي تحملوها عليه من غير تحريف ولا خيانة {أو} أقرب إلى أن {يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم} أي: على الورثة المدعين فيحلفون على خيانتهم وكذبهم فيفتضحون ويغرمون فلا يكذبوا وإنما جمع الضمير؛ لأنه حكم يعم الشهود كلهم {واتقوا الله} بترك الخيانة والكذب {واسمعوا} ما تؤمرون به سماع قبول {وا لا يهدي القوم الفاسقين} أي: الخارجين عن طاعته لا يهديهم إلى حجة أو إلى طريق الجنة.
وقوله تعالى:
(15/137)
---
{يوم يجمع الله الرسل} أي: يوم القيامة منصوب بإضمار اذكر. وقيل: بدل من مفعول واتقوا بدل اشتمال {فيقول} لهم توبيخاً لقومهم كما أنّ سؤال الموءودة لتوبيخ الوائد {ماذا} أي: الذي {أجبتم} به حين دعوتم إلى التوحيد {قالوا لا علم لنا} أي: لا علم لنا بما أنت تعلمه {إنك أنت علام الغيوب} فتعلم ما أجابونا وأظهروا لنا وما لم نعلم مما أضمروا في قلوبهم وقوله تعالى:
(15/138)
---(1/879)
{إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك} أي: اشكرها منصوب بإضمار اذكر، وقيل: بدل من يوم يجمع وهو على طريقة: ونادى أصحاب الجنة، والمعنى أنه تعالى يوبخ الكفرة يومئذٍ بسؤال الرسل عن إجابتهم وتعديد ما أظهروا عليهم من الآيات فكذبتهم طائفة وسموهم سحرة وغلا آخرون فاتخذوهم آلهة وقوله تعالى: {إذ أيدتك} أي: قوّيتك ظرف لنعمتي أو حال منه {بروح القدس} أي: جبريل عليه السلام فكان له في الصغر حفظ لم يكن لغيره وقوله تعالى:
(15/139)
---(1/880)
{تكلم الناس} حال من الكاف في أيدتك {في المهد} أي: طفلاً {وكهلاً} أي: تكلمهم في الطفولية والكهولة على السواء والمعنى: إلحاق حاله في الطفولية بحال الكهول في كمال العقل والتكلم به، وبه استدل على أنه ينزل قبل الساعة؛ لأنه رفع قبل الكهولة كما سبق في آل عمران {وإذ علمتك الكتاب} أي: الخط الذي هو مبدأ العلم {والحكمة} أي: الفهم لحقائق الأشياء والعمل بما يدعو إليه العلم {والتوراة} أي: المنزلة على موسى صلى الله عليه وسلم {والإنجيل} أي: المنزل عليك {وإذ تخلق من الطين} أي: هذا الجنس {كهيئة} أي: كصورة {الطير} والكاف اسم بمعنى مثل مفعول {بإذني} أي: بأمري {فتنفخ فيها} أي: في الصورة المهيأة {فتكون} تلك الصورة التي هيأتها {طيراً بإذني} أي: بإرادتي، وقرأ نافع بالمدّ بعد الطاء وبعد الألف همزة مكسورة وورش يرقق الراء على أصله والباقون بياء ساكنة بعد الطاء {وتبرىء الأكمه والأبرص بإذني} وسبق تفسيرهما في سورة آل عمران {وإذ تخرج الموتى} أي: من قبورهم أحياء {بإذني وإذ كففت بني إسرائيل} أي: اليهود {عنك} أي: حين هموا بقتلك وقوله تعالى: {إذ جئتهم} ظرف لكففت {بالبينات} أي: المعجزات {فقال الذين كفروا منهم أن} أي: ما {هذا} الذي جئت به {إلا سحر مبين} أي: بيّن ظاهر، وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء إشارة إلى عيسى عليه السلام، والباقون بكسر السين وسكون الحاء ولا ألف بعدها إشارة إلى ما جاء به.
{وإذا أوحيت} أي: بالإلهام باطناً وبإيصال الأوامر على لسانك ظاهراً {إلى الحواريين} أي: الأنصار {أن} أي: بأن {آمنوا بي وبرسولي} عيسى صلى الله عليه وسلم {قالوا آمنا} بهما {واشهد بأننا مسلمون} أي: منقادون أتم انقياد وقوله تعالى:
(15/140)
---(1/881)
{إذ قال الحواريون} منصوب باذكر. وقيل: ظرف لقالوا فيكون تنبيهاً على أنّ ادعاءهم الإخلاص مع قولهم: {يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك} قرأ الكسائي بالتاء على الخطاب وإدغام لام هل فيها على أصله، وفتح الباء الموحدة من ربك أي: هل تستطيع ربك أي: سؤال ربك والمعنى: هل تسأل ذلك من غير صارف؟ وقرأ الباقون بالياء على الغيبة ورفع الباء أي: يجيبك ربك إذا سألته {أن ينزل علينا مائدة} وهي الطعام ويقال أيضاً للخوان إذا كان عليه الطعام، والخوان: شيء يوضع عليه الطعام للأكل هو في العموم بمنزلة السفرة لما يوضع فيه طعام المسافر بالخصوص، وقال أهل الكوفة: سميت مائدة لأنها تميد بالآكلين أي: تميل، وقال أهل البصرة فاعلة بمعنى مفعولة أي: تميد أيدي الآكلين إليها كقولهم: عيشة راضية أي: مرضية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي وقولهم: {من السماء} أي: لا صنع للآدميين فيها لنختص بها عمن تقدّمنا من الأمم لم يكن بعد عن تحقيق واستحكام معرفة {قال} عيسى عليه الصلاة والسلام مجيباً لهم {اتقوا الله} أن تسألوه شيئاً لم تسأله الأمم من قبلكم {إن كنتم مؤمنين} بكمال قدرته تعالى وصحة نبوّتي أو صدقتكم في ادعائكم الإيمان فنهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان.
(15/141)
---(1/882)
{قالوا نريد} أي: بسؤالنا من أجل {أن نأكل منها} تبرّكاً لا أكل حاجة وقولهم: {وتطمئن} أي: تسكن {قلوبنا} بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته بيان لمّا دعاهم إلى السؤال وتمهيد عذرهم وقولهم: {ونعلم} أي: نزداد علماً {أن} مخففة أي: إنك {قد صدقتنا} في ادعاء النبوّة وإنّ الله يجيب دعوتنا، وقيل: إنّ عيسى عليه السلام أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوماً فإذا أفطروا لا يسألون الله شيئاً إلا أعطاهم ففعلوا وسألوا المائدة وقالوا: ونعلم إن قد صدقتنا في قولك إنا إذا صمنا ثلاثين يوماً لا نسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطانا {ونكون عليها من الشاهدين} إذا استشهدتنا أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر.
(15/142)
---
{قال عيسى بن مريم} لما رأى أنّ لهم غرضاً صحيحاً في ذلك وأنهم لا يقلعون عنه فأراد إلزامهم الحجة بكمالها {اللهمّ ربنا أنزل علينا مائدة} وحقّق موضع الإنزال بقوله: {من السماء تكون} هي أو يوم نزولها {لنا عيداً} نعظمه ونشرفه وقال سفيان: نصلي فيه.
(15/143)
---
وروي أنها نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيداً، وقيل: إنّ عيسى عليه السلام اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين وطأطأ رأسه وغض بصره وبكى ثم قال: اللهمّ ربنا إلخ.. وقيل: العيد السرور العائد ولذلك سمي يوم العيد عيداً وقوله: {لأوّلنا وآخرنا} بدل من لنا بإعادة العامل أي: عيداً لأهل زماننا ولمن جاء بعدنا وقال ابن عباس: يأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم وقوله: {وآية} عطف على عيداً وقوله: {منك} صفة لها أي آية كائنة منك دالّة على كمال قدرتك وصحة نبوّتي {وارزقنا} المائدة والشكر عليها {وأنت خير الرازقين} أي: من يرزق؛ لأنه تعالى خالق الرزق ومعطيه بلا غرض.(1/883)
{قال الله} تبارك وتعالى مجيباً لعيسى عليه السلام {إني منزلها عليكم} أي: المائدة. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح النون وتشديد الزاي والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي {فمن يكفر بعد} أي: بعد نزولها {منكم فإني أعذبه عذاباً} أي: تعذيباً أو مفعولاً به على السعة والضمير في {لا أعذبه} للمصدر ولو أريد بالعذاب ما يعذب به لم يكن بد من الباء {أحداً من العالمين} أي: عالمي زمانهم أو العالمين مطلقاً فإنهم مسخوا قردة وخنازير ولم يُعذّب بمثل ذلك غيرهم، قال عبد الله بن عمران: أشد الناس عذاباً يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وقوم فرعون.
(15/144)
---(1/884)
واختلف العلماء هل نزلت المائدة أو لا؟ فقال مجاهد والحسن: لم تنزل فإنّ الله تعالى لما أوعدهم على كفرهم بعد نزول المائدة خافوا أن يكفر بعضهم فاستغفروا وقالوا: لا نريدها فلم تنزل، وقوله تعالى: {إني منزلها عليكم} أي: إن سألتم والصحيح الذي عليه الأكثرون أنها نزلت لقوله تعالى: {إني منزلها عليكم} ولتواتر الأخبار في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلفوا في صفتها فقال عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسيّ: لما سأل الحواريون المائدة لبس عيسى عليه السلام مسحاً وبكى وقال: {اللهمّ ربنا أنزل علينا مائدة} الآية فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها وهي منقضة حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى عليه السلام وقال: اللهمّ اجعلني من الشاكرين اللهمّ اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة، فقام فتوضأ وصلى وكشف المنديل وقال: بسم الله خير الرازقين فإذا سمكة مشوية بلا فلوس أي: بلا قشر كالفلوس ولا شوك تسيل دهناً وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكرّاث، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد، فقال شمعون الصفار وهو رأس الحواريين: يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال: ليس شيئاً مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ولكنه شيء اخترعه الله تعالى بقدرته، كلوا مما سألتم واشكروا يمددكم ويزدكم من فضله فقال: يا روح الله كن أوّل من يأكل منها فقال: معاذ الله أن آكل منها ولكن يأكل منها، من سألها فخافوا أن يأكلوا منها فدعا أهل الفاقة والمرض وأهل البرص والجذام والمقعدين وقال: كلوا من رزق الله لكم الهناء ولغيركم البلاء، فأكلوا وصدروا عنها وهم ألف وثلثمائة رجل وامرأة من فقير وزمن ومريض ومبتلى كلهم شبعان والسمكة كهيئتها حين نزلت، ثم طارت المائدة صعوداً وهم ينظرون إليها حتى توارت(1/885)
(15/145)
---
فلم يأكل منها زمن ولا مريض ولا مبتلى إلا عوفي ولا فقير إلا استغنى، وندم من لم يأكل فلبثت أربعين صباحاً تنزل ضحاً فإذا نزلت اجتمعت الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والرجال والنساء ولا تزال منصوبة يؤكل منها حتى إذا فاء الفيء أي: زالت الشمس طارت وهم ينظرون في ظلها حتى توارت عنهم، وكانت تنزل غِبَّاً تنزل يوماً ولا تنزل يوماً كناقة ثمود، وقال قتادة: كانت تنزل عليهم بكرة وعشياً حيث كانوا كالمنّ والسلوى لبني إسرائيل، وقال وهب بن منبه: أنزل الله تعالى أقراصاً من شعير وحيتاناً فكان قوم يأكلون ثم يخرجون ويجيء آخرون فيأكلون حتى أكلوا جميعهم، وقال عطية العوفي: نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شيء، وقال الكلبي: كان عليها خبز أرز وبقل، وقال قتادة: كان عليها ثمر من ثمار الجنة، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم، وقال كعب الأحبار: نزلت منكسة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كلّ الطعام ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأنها كانت تنزل تارة كذا وتارة كذا.
قيل: لما نزلت قالوا: يا رسول الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال: يا سمكة إحيي بإذن الله تعالى فاضطربت ثم قال لها عودي كما كنت فعادت مشوية، ثم طارت المائدة ثم عصوا بعدها فمسخوا فمسخ منهم ثلثمائة وثلاثون رجلاً من ليلتهم على فراشهم مع نسائهم فأصبحوا خنازير يسعون، وبكوا فلما أبصرت الخنازير عيسى عليه السلام بكت وجعلت تطوف بعيسى وجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برؤوسهم ويبكون ولا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا.
وفي حديث: «أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً فأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادّخروا فمسخوا قردة وخنازير».
(15/146)
---(1/886)
{و} اذكر {إذ قال الله} أي: يقول لعيسى في القيامة توبيخاً لقومه وإنما عبر بالماضي لتحقق وقوعه كقوله تعالى: {أتى أمر الله} (النمل، 1) {يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} أي: غيره، وقال السدّي: قال الله هذا القول لعيسى حين رفعه إلى السماء؛ لأن حرف إذ يكون للماضي وسائر المفسرين على الأوّل، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية وأدخل ألفاً بينهما قالون وأبو عمرو وورش وابن كثير لم يدخلا ألفاً بينهما والباقون بتحقيق الهمزتين ولا ألف بينهما وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص أمي بفتح الباء والباقون بالسكون.
(15/147)
---(1/887)
فإن قيل: ما وجه هذا السؤال مع علم الله عز وجل أن عيسى عليه السلام لم يقله؟ أجيب: بأنه ذكر لتوبيخ قومه كما مرّ، ولتعظيم أمر هذه المقالة كما يقول القائل لآخر: أفعلت كذا وكذا فيما يعلم أنه لم يفعله إعلاماً واستعظاماً لا استخباراً واستفهاماً، وأيضاً أراد الله عز وجل أن يقرّ عيسى على نفسه بالعبودية فيسمع قومه ويظهر كذبهم عليه أنه أمرهم بذلك. قال أبو روق إذا سمع عيسى عليه السلام هذا الخطاب ارتعدت فرائصه ومفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة من جسده عين من دم ثم {قال} وهو يرعد مجيباً لله {سبحانك} أي: أنزهك عن أن يكون لك شريك {ما يكون} أي: ما ينبغي {لي أن أقول ما ليس لي بحق} خبر ليس «ولي» للتبيين، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو لي الأولى بفتح الياء والباقون بالسكون {إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما} أخفيه {في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} أي: ما أخفيته عني من الأشياء وقوله: في نفسك للمشاكلة. وقيل: المراد بالنفس الذات وقوله: {إنك أنت علام الغيوب} تقرير لجملتي {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} باعتبار منطوق {إنك أنت علام الغيوب} ومفهومه لأنه يدل بمنطوقه على أنه تعالى لا يعلم الغيب غيره فيكون تقريراً لقوله تعالى: {ولا أعلم ما في نفسك} وقرأ حمزة وشعبة بكسر الغين والباقون بالضم.
{ما قلت لهم إلا ما أمرتني به} وهو {أن اعبدوا الله ربي وربكم} أي: فأنا وإياهم في العبودية سواء {وكنت عليهم شهيداً} أي: رقيباً أمنعهم مما يقولون {ما دمت فيهم فلما توفيتني} بالرفع إلى السماء لقوله تعالى: {إني متوفيك ورافعك إليّ} (آل عمران، 55) والتوفّي أخذ الشيء وافياً والموت نوع منه قال الله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} (الزمر، 42) {كنت أنت الرقيب} أي: الحفيظ {عليهم} أي: لأعمالهم {وأنت على كل شيء} من قولي وقولهم وغير ذلك {شهيد} أي: مطلع عالم به.
(15/148)
---(1/888)
{إن تعذبهم} أي: من أقام على الكفر منهم {فإنهم عبادك} وأنت مالكهم تتصرف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك {وإن تغفر لهم} أي: لمن آمن منهم {فإنك أنت العزيز} أي: الغالب على أمره {الحكيم} في صنعه فإن عذبت فعدل، وإن عفوت ففضل.
{قال الله} تعالى {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} أي: في الدنيا كعيسى فإنّ النافع ما كان حال التكليف لا صدقهم في الآخرة، وقرأ نافع بنصب الميم على أنه ظرف لقال وخبر هذا محذوف، والمعنى: هذا الذي من كلام عيسى عليه السلام واقع يوم ينفع، والباقون بالرفع على الخبر، وقيل: أراد بالصادقين النبيين، وقال الكلبي: ينفع المؤمنين إيمانهم، وقال قتادة: متكلّمان يخطبان يوم القيامة عيسى عليه الصلاة والسلام وهو ما قصّ الله تعالى وعدوّ الله إبليس، وهو قوله تعالى: وقال الشيطان لما قضي الأمر فصدق عدوّ الله يومئذٍ، وكان كاذباً فلم ينفعه صدقه.
قال: ولما كان عيسى صادقاً في الدنيا والآخرة نفعه صدقه. ثم بيّن تعالى ثوابهم فقال: {لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} وأكد معنى ذلك بقوله تعالى: {أبداً} ولما كان ذلك لا يتمّ إلا برضا الله تعالى قال: {رضي الله عنهم} بطاعته {ورضوا عنه} بثوابه {ذلك} أي: هذا الأمر العليّ لا غيره {الفوز العظيم} وأمّا الكاذبون في الدنيا فلا ينفعهم صدقهم في ذلك اليوم كالكفار لما يؤمنون عند رؤية العذاب.
{ملك السموات والأرض} أي: خزائن المطر والنبات والرزق وغيرها {وما فيهنّ} من إنس وجنّ وملك وغيرهم ملكاً وخلقاً، وأتى بما دون من تغليباً لغير العاقل {وهو على كل شيء قدير} ومنه إثابة الصادق وتعذيب الكاذب، قال السيوطي: وخصّ العقل ذاته فليس عليها بقادر، وقوله البيضاوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا» حديث موضوع.
سورة الأنعام
مكية
(15/149)
---(1/889)
روي أنها نزلت بمكة جملة واحدة ليلاً ونزل معها سبعون ألف ملك قد سدّوا ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتمجيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سبحان ربي العظيم» وخرّ ساجداً، والزجل ـ بفتح الزاي والجيم : القوّة، قال البغوي: وروي مرفوعاً «من قرأ سورة الأنعام يصلي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره»، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت سورة الأنعام بمكة إلا قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم} إلى قوله تعالى: {لعلكم تتقون} فهذه الست آيات مدنيات.
ويروى أنه صلى الله عليه وسلم دعا بالكتاب فكتبوها من ليلتهم إلا الست آيات، قال بعض العلماء: واختصت هذه السورة بنوعين من الفضيلة أحدهما: أنها نزلت دفعة واحدة، والثاني: أنها شيعها سبعون ألفاً من الملائكة والسبب فيها أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوّة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين وهي مائة وخمسة وستون آية وعدد كلماتها ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة وعدد حروفها اثنا عشر ألفاً وأربعمائة واثنان وعشرون حرفاً.
{بسم الله} الذي تعالت عظمته عن كل شائبة نقص فكان له كل كمال {الرحمن} الذي عمت نعمته المحسن والمسيء فغمر الكل بالنوال {الرحيم} الذي خص أولياءه بإتمام النعمة فهداهم بنعمة الإيصال.
(15/150)
---(1/890)
{الحمد} هو الوصف بالجميل ثابت {} وهل المراد الإعلام بذلك للإيمان به أو الثناء به أو هما احتمالات قال الجلال المحلى في سورة الكهف: أفيدها الثالث، وتقدّم الكلام على الحمد لغة واصطلاحاً في أوّل الفاتحة، وقال كعب الأحبار: هذه الآية أوّل آية في التوراة وآخر آية في التوراة {وقل الحمد الذي لم يتخذ ولداً} (الإسراء، 111) إلى آخر الآية. وفي رواية أن آخر آية في التوراة آخر سورة هود، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: افتتح الله الخلق بالحمد فقال: {الحمد } {الذي خلق السموات والأرض} وختم بالحمد فقال تعالى: {وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد رب العالمين} (الزمر، 75) وقال أهل المعاني: لفظ الحمد لله خبر ومعناه الأمر أي: احمدوا الله وإنما جاء على صيغة الخبر وفيه معنى الأمر لأنه أبلغ في البيان من حيث أنه جمع الأمرين، ولو قيل: احمدوا الله لم يجمع الأمرين فكان قوله: {الحمد } أبلغ وإنما خص السموات والأرض بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما ترى العباد لأنّ السماء بغير عمد ترونها فيها العبر والمنافع والأرض مسكن الخلائق وفيها أيضاً العبر والمنافع، وجمع السموات دون الأرض وهي مثلهنّ لأنّ طبقاتها مختلفة الذات متفاوتة الآثار والحركات بالكواكب في سيرها وحركاتها في السرعة والبطء واستتار بعضها ببعض عند الخسوف وغيره وغير ذلك مما هو محرّر عند أهله وقدمها لشرفها قدراً وعظماً، وإن كانت الأرض أشرف من حيث أنها مسكن الأنبياء {وجعل} أي: خلق {الظلمات والنور} أي: كل ظلمة ونور وجمعها دونه لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها إذ ما من جرم إلا وله ظلّ وظلمة بخلاف النور فإنه من جنس واحد وهو النار ولا ترد الأجرام المنيرة كالكواكب لأنّ مرجع كل نير إلى النار على ما قيل: إنّ الكواكب أجرام نورانية نارية وإنّ الشهب منفصلة من نار الكواكب فصح أنّ النور من جنس النار وأن المراد بالظلمة الضلال وبالنار الهدى والهدى واحد والضلال متعدّد وتقديمها(1/891)
(15/152)
---
لتقدّم الإعدام على الملكات وقوله تعالى: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} عطف على قوله: {خلق} أي: إنه تعالى خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه ثم الذين كفروا يعدلون بربهم الأوثان أي: يسوونها به في العبادة وعلى هذا فيعدلون من العدل وهو التسوية، والباء متعلقة بيعدلون أو على قوله: الحمد لله على معنى أنّ الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلقه وأنعمه من العباد ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فيكفرون نعمته، وعلى هذا فيعدلون من العدول، والباء متعلقة بكفروا ومعنى ثم استبعاد عدولهم بعد وضوح آيات قدرته.n
{
هو الذي خلقكم من طين} أي: ابتدأ خلقكم منه فإنه المادّة الأولى، وإنّ آدم الذي هو أصل البشر خلق منه أو خلق أباكم فحذف المضاف، قال السدّي: بعث الله جبريل عليه السلام إلى الأرض ليأتيه بطائفة منها فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني فرجع جبريل عليه السلام ولم يأخذ قال: يا رب عاذت بك فبعث ميكائيل عليه السلام فاستعاذت فرجع فبعث ملك الموت عليه السلام فعاذت بالله منه فقال: أنا أعوذ بالله أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء فلذلك اختلفت ألوان بني آدم ثم عجنها بالماء العذب والملح والمر فلذلك اختلفت أخلاقهم فقال الله تعالى لملك الموت: رحم جبريل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم اجعل أرواح الخلق من هذا الطين بيدك.
(15/153)
---(1/892)
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه: خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب وجعله طيناً ثم تركه حتى كان حمأ مسنوناً ثم خلقه وصوّره وتركه حتى كان صلصالاً كالفخار ثم نفخ فيه من روحه {ثم قضى أجلاً} أي: أجلاً لكم تموتون عند انتهائه {وأجل مسمى} أي: مضروب {عنده} أي: وهو أجل القيامة، وقال الحسن: الأوّل: بين وقت الولادة إلى وقت الموت والثاني: من وقت الموت إلى البعث فإن كان الرجل براً تقياً وصولاً للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر وإن كان فاجراً قاطعاً للرحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث وذلك قوله تعالى: {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} (فاطر، 11) وقيل: الأول: النوم، والثاني: الموت وقيل: الأوّل: لمن مضى، والثاني: لمن بقي ولمن يأتي {ثم أنتم} أيها الكفار {تمترون} أي: تشكون في البعث بعد علمكم أنه ابتدأ خلقكم ومن قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر ومعنى ثم استبعاد أيضاً كما مرّ لأن يمتروا فيه بعدما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم.
{وهو الله} الضمير لله والله خبره وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائيّ بسكون الهاء من وهو والباقون بالضم وقوله تعالى: {في السموات وفي الأرض} متعلق بمعنى اسم الله كأنه قيل: هو مستحق العبادة فيهما ومنه قوله تعالى: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} (الزخرف، 84) أو هو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيهما، وقال الزجاج: فيه تقديم وتأخير تقديره: وهو الله {يعلم سركم} أي: ما تسرون {وجهركم} أي: ما تجهرون به بينكم في السموات والأرض، وقيل: معناه وهو إله السموات والأرض كقوله تعالى: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} (الزخرف، 84) {ويعلم ما تكسبون} أي: ما تعملون من خير أو شرّ فيثيب عليه أو يعاقب.
(15/154)
---(1/893)
فإن قيل: الأفعال إمّا أفعال القلوب وهي المسماة بالسر وإمّا أفعال الجوارح وهي المسماة بالجهر والأفعال لا تخرج عن السرّ والجهر فقوله تعالى: {ويعلم ما تكسبون} يقتضي عطف الشيء على نفسه وهو غير جائز أجيب: بأنّ المراد بالسر ما يخفى وبالجهر ما يظهر من أحوال الأنفس وبالمكتسب أعمال الجوارح فهو كما يقال: هذا المال كسب فلان أنه مكتسبه فلا يحمل على نفس الكسب وإلا لزم عطف الشيء على نفسه.
{وما تأتيهم} أي: الكفار {من آية من آيات ربهم} من الأولى مزيدة للاستغراق والثانية للتبعيض أي: ما يظهر لكم دليل قط من الأدلة أو معجزة من المعجزات أو آية من آيات القرآن {إلا كانوا عنها معرضين} أي: تاركين لها وبها مكذبين.
{فقد كذبوا بالحق لما جاءهم} أي: بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أتى به من المعجزات {فسوف يأتيهم أنباء} أي: عواقب {ما كانوا به يستهزؤن} بنزول العذاب بهم في الدنيا والآخرة أو عند ظهور الإسلام وارتفاع أمره.
{ألم يروا} أي: في أسفارهم إلى الشام وغيرها {كم} خبرية بمعنى كثيراً {أهلكنا من قبلهم من قرن} أي: أمّة من الأمم الماضية، وعلى هذا القرن الجماعة من الناس وجمعه قرون، وقيل: القرن مدّة من الزمان قيل: إنها عشرة أعوام، وقيل: عشرون، وقيل: ثلاثون، وقيل: أربعون، وقيل: خمسون، وقيل: ستون، وقيل: سبعون، وقيل: ثمانون، وقيل: تسعون، وقيل: مائة.
(15/155)
---(1/894)
لما روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بشر المازني: «تعيش قرناً» فعاش مائة سنة وقيل: مائة وعشرون فيكون معناه على هذه الأقاويل من أهل قرن {مكناهم في الأرض} أي: جعلنا لهم فيها مكاناً بالقوّة والسعة وقررناهم فيها {ما لم نمكن لكم} أي: ما لم نجعل لكم من السعة والقوّة فيه التفات عن الغيبة، والمعنى: لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثموداً وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا {وأرسلنا السماء} هي المطر {عليهم مدراراً} أي: متتابعاً {وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم} أي: تحت مساكنهم {فأهلكناهم بذنوبهم} أي: بسبب ذنوبهم بتكذيبهم الأنبياء فلم يغن ذلك عنهم شيئاً {وأنشأنا} أي: أحدثنا {من بعدهم قرناً آخرين} بدلاً منهم.
فإن قيل: ما فائدة ذكر أنشأنا قرناً آخرين بعدهم؟ أجيب: بأنه ذكر للدلالة على أنه تعالى لا يتعاظمه أن يهلك قرناً ويخرب بلاده منهم فإنه قادر على أن ينشىء مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده فهو قادر على أن يفعل ذلك بكم.
ونزل لما قال النضر بن الحارث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد: يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله {ولو نزلنا عليك كتاباً} أي: مكتوباً {في قرطاس} أي: رق كما اقترحوه {فلمسوه بأيديهم} أبلغ من عاينوه لأنه أنفى للشك {لقال الذين كفروا أن} أي: ما {هذا إلا سحر مبين} أي: تعنتاً وعناداً كما قالوا في انشقاق القمر.
(15/156)
---(1/895)
{وقالوا لولا} أي: هلا {أنزل عليه} أي: محمد صلى الله عليه وسلم {ملك} يكلمنا أنه نبي كقوله تعالى: {لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً} (الفرقان، 7) {ولو أنزلنا ملكاً بحيث} عاينوه كما اقترحوا فلم يؤمنوا {لقضي الأمر} أي: لحق إهلاكهم فإنّ سنة الله تعالى جرت فيمن قبلهم أنهم إذا جاءهم مقترحهم فلم يؤمنوا به يهلكهم {ثم لا ينظرون} أي: لا يمهلون لتوبة أو معذرة.
{س6ش9/ش18 وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُ? وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ * وَلَقَدِ اسْتُهْزِى?َ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا? مِنْهُم مَّا كَانُوا? بِهِ? يَسْتَهْزِءُونَ * قُلْ سِيرُوا? فِى ا?رْضِ ثُمَّ انظُرُوا? كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَا?رْضِ? قُل لِّلَّهِ? كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ? لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ رَيْبَ فِيهِ? الَّذِينَ خَسِرُو?ا? أَنفُسَهُمْ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ * وَلَهُ? مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ? وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَا?رْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَ يُطْعَمُ? قُلْ إِنِّى? أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ? وَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنِّى? أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَـ?ـ?ِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ?? وَذَالِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَ كَاشِفَ لَهُ?? إِs هُوَ? وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ?? وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }
(15/157)
---(1/896)
{ولو جعلناه} أي: المنزل إليهم {ملكاً لجعلناه} أي: الملك {رجلاً} أي: على صورته ليتمكنوا من رؤيته إذ لا قوّة للبشر على رؤية الملك في صورته وإنما رآه كذلك الأفراد من الأنبياء لقوّتهم القدسية وقوله تعالى: {وللبسنا عليهم ما يلبسون} جواب محذوف أي: ولو أنزلناه وجعلناه رجلاً للبسنا أي: لخلطنا عليهم بجعلنا إياه رجلاً ما يخلطون على أنفسهم وعلى غيرهم فيقولون: ما هذا إلا بشر مثلكم وإنما كان تلبيساً لأنهم لبسوا على ضعفتهم في أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنما هو بشر مثلكم ولو رأوا الملك رجلاً للحقهم من اللبس مثل ما لحق الضعفاء منهم فيكون اللبس نقمة من الله وعقوبة لهم على ما كان منهم من التخليط في السؤال واللبس على الضعفاء.
وقوله تعالى:
{ولقد استهزىء برسل من قبلك} فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يرى من قومه {فحاق} قال الربيع بن أنس: فنزل، وقال عطاء: فحل، وقال الضحاك: فأحاط {بالذين سخروا منهم} أي: من أولئك الرسل {ما كانوا به يستهزؤن} وهو العذاب فكذا يحيق بمن استهزأ بك.
{قل} لهم {سيروا في الأرض} أي: أوقعوا السير للاعتبار فيها ولا تغتروا بإمهالكم وتمكينكم {ثم انظروا كيف كان عاقبة} أي: آخر أمر {المكذبين} الرسل من هلاكهم بالعذاب فإنكم إذا شاهدتم تلك الآثار كمل لكم الاعتبار بهم.
{قل} لهم {لمن ما في السموات والأرض} خلقاً وملكاً وهو سؤال تبكيت {قل } إن لم يقولوه لا جواب غيره لأنه المتعين للجواب بالاتفاق إذ لا يمكنهم أن يذكروا غيره {كتب} أي: قضى {على نفسه الرحمة} تفضلاً منه وإحساناً، فالرحمة تعم الدارين ومن ذلك الهداية إلى معرفته والعلم بتوحيده بنصب الأدلة وإنزال الكتب والإمهال على الكفرة والعصاة والمذنبين ولو شاء لسلط عليهم المضار وجعل عيشهم من غير اللذيذ كالتراب وبعض القاذورات التي تعيش فيها الحيوانات.
(15/158)
---(1/897)
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لما قضى الله الخلق كتب كتاباً عنده فوق عرشه: إنّ رحمتي غلبت غضبي» وفي رواية «سبقت غضبي» وفي رواية «إنّ لله تعالى مئة رحمة واحدة بين الجنّ والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحوش على أولادها وأخر تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة».
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قدم عليه سبي فإذا امرأة من السبي قد غلب ثديها إذ وجدت صبياً في السبي أخذته وألصقته ببطنها وأرضعته فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه» فقلنا: لا والله يا رسول الله فقال: «الله أرحم بعباده من هذه بولدها» وقوله تعالى: {ليجمعنكم} استئناف واللام لام القسم أي: والله ليجمعنكم {إلى يوم القيامة} أي: في يوم القيامة وإلى بمعنى في أو ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم القيامة فيجازيكم بأعمالكم، وقيل: بدل من الرحمة بدل البعض فإن من رحمته بعثه إياكم وإنعامه عليكم {لا ريب} أي: لا شك {فيه} أي: اليوم أو الجمع، وقوله تعالى: {الذين خسروا أنفسهم} في موضع نصب على الذم أو رفع على الخبر أي: وأنتم الذين خسروا أنفسهم بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة الأصلية أو مبتدأ خبره {فهم لا يؤمنون}.
فإن قيل: الفاء تدل على أنّ عدم إيمانهم مسبب عن خسرانهم مع أنّ الأمر على العكس؟ أجيب: بأنّ إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد وإغفال النظر أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان وقوله تعالى:
{وله ما سكن} أي: حل {في الليل والنهار} عطف على لله أي: له كل شيء من حيوان وغيره لأنه خالقه ومالكه وقيل له: ما سكن فيهما أو تحرّك واكتفى بأحد الضدّين عن الآخر {وهو السميع} أي: لكل ما يقال {العليم} أي: بكل ما يفعل فلا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى.
ونزل لما دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين آبائه:
(15/159)
---(1/898)
{قل} لهم {أغير الله أتخذ ولياً} أي: رباً ومعبوداً وناصراً ومعيناً وهو استفهام ومعناه الإنكار أي: لا أتخذ غير الله ولياً {فاطر السموات والأرض} أي: خالقهما ابتداعاً من غير سبق، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما عرفت معنى الفاطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: إني فطرتها أي: ابتدأتها {وهو يطعم} أي: يرزق {ولا يطعم} أي: ولا يرزق، وصف سبحانه وتعالى ذاته بالغني عن الخلق باحتياجهم إليه لأنّ من كان من صفته أن يطعم الخلق لاحتياجهم إليه ولا يطعم لاستغنائه عنهم وجب أن يتخذ رباً وناصراً وولياً {قل إني أمرت أن أكون أوّل من أسلم} لله من هذه الأمّة لأنّ النبيّ سابق أمّته في الدين والدين وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة بسبب اختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم بالذات {ولا تكونن من المشركين} أي: وقيل لي: يا محمد لا تكونن من المشركين أي: في عدادهم باتباعهم في شيء من أغراضهم، وهذا التأكيد لقطع أطماعهم عنه صلى الله عليه وسلم في سؤالهم أن يكون على دين آبائه وقوله تعالى:
{قل إني أخاف إن عصيت ربي} بعبادة غيره {عذاب يوم عظيم} مبالغة أخرى في قطع أطماعهم وتعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب وقوله تعالى:
{من يصرف عنه} العذاب {يومئذٍ} أي: يوم القيامة، قرأه أبو بكر وحمزة والكسائيّ بفتح الياء وكسر الراء على البناء للفاعل والضمير لله تعالى والمفعول محذوف، وقرأه الباقون بضم الياء وفتح الراء على البناء للمفعول فالضمير للعذاب {فقد رحمه} ربه تعالى أي: أراد به الخير {وذلك} أي: الصرف أو الرحمة {الفوز المبين} أي: النجاة الظاهرة.
(15/160)
---(1/899)
{وإن يمسسك الله بضر} أي: ببلاء كمرض وفقر والضرّ اسم جامع لما ينال الإنسان من ألم ومكروه وغير ذلك مما هو في معناه {فلا كاشف} أي: لا رافع {له إلا هو} لا غيره {وإن يمسسك بخير} أي: بصحة وغنى والخير إسم جامع لكل ما ينال الإنسان من لذة وفرح وسرور وغير ذلك {فهو على كل شيء قدير} من الخير والضر وهذه الآية وإن كانت خطاباً للنبيّ صلى الله عليه وسلم فهي عامة لكل أحد والمعنى وإن يمسسك الله بضرّ أيها الإنسان فلا كاشف لذلك الضر إلا هو وإن يمسسك بخير أيها الإنسان فهو على كل شيء قدير من رفع الضرر وإيصال الخير، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أهدي للنبيّ صلى الله عليه وسلم بغلة أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر ثم أردفني خلفه فسار بي ملياً ثم التفت إليّ فقال لي: «يا غلام» فقلت: لبيك يا رسول الله قال: «أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعت على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف». وفي رواية: «اعلم أنّ النصر مع الصبر والفرج مع الكرب وأنّ مع العسر يسراً» «ولن يغلب عسر يسرين». وفي رواية: «فقد مضى القلم بما هو كائن فلو جهد الخلق أن ينفعوك بما لم يقضه لك الله لم يقدروا عليه ولو جهدوا أن يضرّوك بما لم يكتب الله عليك ما قدروا عليه».
{وهو القاهر} أي: القادر الذي لا يعجزه شيء مستعلياً {فوق عباده} فهم مقهورون تحت قدرته وكل من قهر شيئاً فهو مستعل عليه بالقهر والغلبة {وهو الحكيم} في خلقه {الخبير} ببواطنهم كظواهرهم ونزل لما قالت قريش للنبيّ صلى الله عليه وسلم يا محمد لقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا ما يشهد لك.
(15/161)
---(1/900)
{قل} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يكذبونك ويجحدون نبوّتك من قومك {أيّ شيء} بيني وبينكم {أكبر شهادة} تمييز محوّل عن المبتدأ {قل الله} أكبر شهادة إن لم تقولوه لا جواب غيره ثم ابتدأ {شهيد بيني وبينكم} أي: هو شهيد بيني وبينكم ويحتمل أن يكون الله شهيداً هو الجواب لأنه تعالى إذا كان هو الشهيد كان أكبر شيء شهادة {وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم} يا أهل مكة {به} أي: القرآن واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة وقوله تعالى: {ومن بلغ} عطف على ضمير المخاطبين أي: لأنذركم به يا أهل مكة ومن بلغه من الإنس والجنّ إلى يوم القيامة وهو دليل على أنّ أحكام القرآن تعمّ الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم وأنه لا يؤاخذ بها من لم يبلغه قال محمد بن كعب القرطبيّ: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال أنس بن مالك: لما نزلت هذه الآية كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وكل جبار يدعوهم إلى الله تعالى.
(15/163)
---(1/901)
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار». وفي رواية «نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأدّاها فربّ مبلغ أوعى من سامع». وفي رواية «فربّ حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» وقال مقاتل: من بلغه القرآن من الجنّ والإنس فهو نذير له وقوله تعالى: {أئنكم لتشهدون أنّ مع الله آلهة أخرى} إستفهام إنكاري قل: يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جحدوا نبوّتك واتخذوا آلهة غيري إنكم أيها المشركون لتشهدون أنّ مع الله آلهة أخرى وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها {قل} لهم {لا أشهد} بما تشهدون به أنّ مع الله آلهة أخرى بل أجد ذلك وأنكره {قل إنما هو إله واحد} لا شريك له وبذلك أشهد {وإنني بريء مما تشركون} معه من الأصنام، وفي الآية دليل على إثبات التوحيد ونفي الشريك لأنّ كلمة إنما تفيد الحصر فثبت بذلك إيجاب التوحيد والتبري من كل معبود سوى الله تعالى.
{الذين آتيناهم الكتاب} أي: التوراة والإنجيل وهم علماء اليهود والنصارى {يعرفونه} أي: محمداً صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته {كما يعرفون أبناءهم} من بين الصبيان.
روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال عمر رضي الله تعالى عنه: إنّ الله تعالى أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بمكة هذه الآية فكيف هذا؟ فقال عبد الله بن سلام: قد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشدّ معرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم من ابني فقال له عمر: كيف ذلك؟ فقال: أشهد أنه رسول الله حقاً ولا أدري ما تصنع النساء {الذين خسروا أنفسهم} من أهل الكتاب والمشركين {فهم لا يؤمنون} به لما سبق لهم من الفضاء بالشقاء.
(15/164)
---(1/902)
{ومن} أي: لا أحد {أظلم ممن افترى على الله كذباً} كقولهم: الملائكة بنات الله واتخذ الله ولداً {أو كذب بآياته} الآتي بها الرسل كالقرآن وغيره من المعجزات {إنه} أي: الشأن {لا يفلح الظالمون} أي: لا ينجح القائلون على الله الكذب والمفترون عليه الباطل.
{و} اذكر {يوم نحشرهم جميعاً} أي: أهل الكتاب والمشركين وغيرهم ومعبوداتهم وهو يوم القيامة {ثم نقول} توبيخاً {للذين أشركوا} أي: سموا شيئاً من دوننا إلهاً وعبدوه من الأصنام أو عزيراً أو المسيح أو الظلمة أو النور أو غير ذلك {أين شركاؤكم} أي: آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله تعالى: وأضافها إلى ضميرهم لتسميتهم لها بذلك وقوله تعالى: {الذين كنتم تزعمون} معناه كنتم تزعمونهم شركاء وإنها تشفع لكم عند الله فحذف المفعولان.
{ثم لم تكن فتنتهم} أي: معذرتهم {إلا أن قالوا} أي: قولهم {وا ربنا ما كنا مشركين} فيختم على أفواههم وتشهد جوارحهم عليهم بالشرك، وقرأ حمزة والكسائيّ يكن بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص فتنتهم بضمّ التاء والباقون بالنصب، وقرأ حمزة والكسائيّ ربنا بنصب الباء على النداء أو المدح والباقون بالكسر.
قال الله تعالى:
{انظر} يا محمد {كيف كذبوا على أنفسهم} باعتذارهم الباطل وتبريهم من الأصنام والشرك الذي كانوا عليه واستعمالهم الكذب مثل ما كانوا عليه في دار الدنيا وذلك لا ينفعهم {وضلّ} أي: غاب {عنهم ما كانوا يفترون} أي: يكذبون وهو قولهم: إنّ الأصنام تشفع لهم وتنصرهم فبطل ذلك كله في ذلك اليوم.
(15/165)
---(1/903)
فإن قيل: كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور وعلى أنّ الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟ أجيب: بأنّ الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشة إلا تراهم يقولون: {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} وقد أيقنوا الخلود ولم يشكوا فيه وقالوا: {ليقض علينا ربك} (الزحرف، 77) وقد علموا أنه لا يقضي عليهم.
{ومنهم من يستمع إليك} حين تتلو القرآن.
روي أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم يستمعون القرآن فقالوا للنضر: ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بيته ـ يعني الكعبة ـ ما أدري ما يقول إلا أنه يحرّك لسانه فيقول أساطير الأوّلين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الماضية وأخبارها فقال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقول حقاً فقال أبو جهل: كلا لا تقرّ بشيء من هذا فأنزل الله تعالى {ومنهم من يستمع إليك} {وجعلنا على قلوبهم أكنة} أي: أغطية {أن} أي: كراهة أن {يفقهوه} أي: يفهموا القرآن {و} جعلنا {في آذانهم وقراً} أي: صمماً فلا يسمعونه سماع قبول ووجه إسناد الفعل إلى ذاته تعالى وهو قوله تعالى: {وجعلنا} للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم كأنهم مجبولون عليه أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم: {وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب} (فصلت، 5) {وإن يروا كل آية} أي: معجزة من المعجزات الدالة على صدقك {لا يؤمنوا بها} لفرط عنادهم واستحكام التقليد فيهم {حتى إذا جاؤوك يجادلونك} أي: بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم جاؤوك يجادلونك ويناكرونك وحتى هي التي تقع بعدها الجمل لا عمل لها والجملة إذا وجوابها وهو {يقول الذين كفروا إن} أي: ما {هذا إلا أساطير} أي: أكاذيب {الأوّلين} أي: أحاديثهم من الأمم الماضية وأخبارهم وأقاصيصهم وما سطروا بمعنى كتبوا والأساطير جمع أسطورة بالضمّ قال البخاريّ عن ابن عباس: وهي الترّهات.h(1/904)
(15/166)
---
{وهم ينهون} الناس {عنه} أي: اتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم أو القرآن {وينأون} أي: يتباعدون عنه فلا يؤمنون به، قال محمد بن الحنفية والسدّيّ والضحاك: نزلت في كفار مكة وقال ابن عباس ومقاتل في أبي طالب: كان ينهى الناس عن أذى النبيّ صلى الله عليه وسلم ويمنعهم وينأى عن الإيمان به أي: يبعد حتى روي أنه اجتمع له رؤوس المشركين وقالوا: خذ شاباً من أحسن أصحابنا وجهاً وادفع إلينا محمداً فقال أبو طالب: ما أنصفتموني أدفع إليكم ولدي لتقتلوه وأربي ولدكم.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإيمان فقال: لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك ولكن أذب عنك ما حييت.
وروي أنهم اجتمعوا إلى أبي طالب وأرادوا برسول الله صلى الله عليه وسلم سوأ فقال:
*والله لن يصلوا إليك بجمعهم ** حتى أوسد في التراب دفينا*
*فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ** وابشر بذاك وقرّ منه عيونا*
*ودعوتني وزعمت أنك ناصح ** ولقد صدقت وكنت ثم أمينا*
*وعرضت ديناً لا محالة إنه ** من خير أديان البريّة دينا*
*لولا الملامة أو حذار مسبة ** لوجدتني سمحاً بذاك مبينا*
{وإن} أي: ما {يهلكون} بالنأي عنه {إلا أنفسهم} لأنّ ضرره عليهم {وما يشعرون} أنّ ضررهم لا يتعدّاهم إلى غيرهم وقوله تعالى:
{ولو ترى} يا محمد {إذ وقفوا} أي: عرضوا {على النار} جوابه محذوف أي: لو تراهم حين يقفون على النار فيعرفون مقدار عذابها لرأيت أمراً شنيعاً {فقالوا} أي: الكفار {يا} للتنبيه {ليتنا نرد} أي: إلى الدنيا {ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} تمنوا أن يردّوا إلى الدنيا ولا يكذبوا بآيات ربهم، وقرأ حفص وحمزة بنصب الياء من يكذب على جواب التمني والباقون بالرفع على الاستئناف، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة بفتح النون من تكون على جواب التمني والباقون بالضمّ على العطف وقوله تعالى:
(15/167)
---(1/905)
{بل بدا لهم} أي: ظهر لهم {ما كانوا يخفون من قبل} للإضراب عن إرادة الإيمان المفهوم من التمني والمعنى: أنهم ظهر لهم ما كانوا يخفون من نفاقهم وقبائح أعمالهم فتمنوا ذلك ضجراً لا عزماً على أنهم لو ردّوا لآمنوا كما قال تعالى: {ولو ردّوا} إلى الدنيا أي: لو فرض ذلك بعد الوقوف والظهور {لعادوا لما نهوا عنه} من الكفر والمعاصي {وإنهم لكاذبون} في قولهم: لو رددنا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا وكنا من المؤمنين.
{وقالوا إن} أي: ما {هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة، ويجوز أن يعطف على قوله: وإنهم لكاذبون على معنى وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء وهم الذين قالوا: إن هي إلا حياتنا وكفى به دليلاً على كذبهم.
{ولو ترى} يا محمد {إذ وقفوا} أي: عرضوا {على ربهم} لرأيت أمراً عظيماً {قال} لهم على لسان الملائكة توبيخاً {أليس هذا} البعث والحساب {بالحق} وقوله تعالى: {قالوا بلى وربنا} إقرار مؤكد باليمين لانجلاء الأمر غاية الانجلاء {قال فذوقوا العذاب} أي: الذي كنتم به توعدون {بما كنتم تكفرون} أي: بسبب كفركم وجحودكم البعث.
(15/169)
---(1/906)
{قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله} أي: بالبعث واستمرّ تكذيبهم {حتى إذا جاءتهم الساعة} أي: القيامة {بغتة} أي: فجأة وسميت القيامة ساعة لأنها تفجأ الناس بغتة في ساعة لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى، وقيل: لسرعة الحساب فيها لأنّ حساب الخلائق يوم القيامة يكون في ساعة واحدة وأقل من ذلك {قالوا يا حسرتنا} أي: يا ندامتنا والحسرة التلهف على الشيء الفائت وشدّة التألم ونداؤها مجاز أي: هذا أوانك فاحضري {على ما فرّطنا} أي: قصرنا {فيها} أي: الحياة الدنيا جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة لأنها موضع التفريط في الأعمال الصالحة ويجوز أن يكون للساعة على معنى قصرنا في شأنها والإيمان بها كما تقول: فرّطت في فلان ومنه فرّطت في جنب الله وقوله تعالى: {وهم يحملون أوزارهم} أي: أثقالهم وآثامهم {على ظهورهم} تمثيل لاستحقاقهم آصار الآثام، وقال السديّ وغيره: إنّ المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبه ريحاً فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا، فيقول: أنا عملك الصالح فاركبني فقد طال ما ركبتك في الدنيا فذلك قوله تعالى: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً} (مريم، 85) أي: ركباناً، وأمّا الكافر فيستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحاً فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا، فيقول: أنا عملك الخبيث طال ما ركبتني في الدنيا واليوم أركبك فهو معنى قوله تعالى: {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} {ألا ساء} أي: بئس {ما يزرون} أي: ما يحملون حملهم ذلك، وقوله تعالى:
(15/170)
---(1/907)
{وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو} جواب لقولهم: {إن هي إلا حياتنا الدنيا} أي: وما أعمالها إلا لعب ولهو يلهى الناس ويشغلهم عما يعقب منفعة دائمة ولذة حقيقية وقيل: معناه أن أمر الدنيا والعمل فيها لعب ولهو فأمّا فعل الخير والعمل الصالح فهو من فعل الآخرة {وللدار الآخرة} أي: الجنة، واللام فيه لام القسم {خير} أي: من الدنيا وأفضل لأنّ الدنيا سريعة الزوال والانقطاع {للذين يتقون} أي: الشرك، وقيل: اللهو واللعب {أفلا يعقلون} أي: إنّ الآخرة خير من الدنيا فيعملوا لها، وقرأ ابن عامر: ولدار، بتخفيف الدال وجرّ التاء من الآخرة، والباقون: وللدار، بتشديد الدال ورفع التاء، وقرأ نافع وابن عامر وحفص: تعقلون، على الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة.
(15/171)
---(1/908)
{قد} للتحقيق {نعلم أنه} أي: الشأن {ليحزنك الذي يقولون} من التكذيب، وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي والباقون بفتح الياء وضم الزاي {فإنهم لا يكذبونك} أي: بقلوبهم ولكن يجحدون بألسنتهم أو إنهم لا يكذبونك لأنك عندهم الصادق الموسوم بالصدق {ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} أي: يكذبون، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين فعرفوا أنه لا يكذب في شيء ولكنهم كانوا يجحدون، قال السدي: التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس ههنا أحد يسمع كلامك غيري؟ فقال أبو جهل: والله إن محمداً لصادق ما كذب محمد قط ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوّة فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: «أن أبا جهل قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم إنا لا نكذبك ولكنا نكذب الذي جئت به فأنزلت» ووضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم والباء لتضمن الجحود معنى التكذيب، وقرأ نافع والكسائي: يكذبونك، بسكون الكاف وتخفيف الذال من أكذبه إذا وجده كاذباً أو نسبه للكذب، والباقون بفتح الكاف وتشديد الذال من التكذيب وهو أن ينسبه إلى الكذب وقوله تعالى:
(15/172)
---(1/909)
{ولقد كذبت رسل من قبلك} تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وهذا دليل على أن قوله: {فإنهم لا يكذبونك} ليس بنفي لتكذيبه مطلقاً وإنما هو من قولك لغلامك: ما أهانوك ولكنهم أهانوني {فصبروا على ما كذبوا} أي: على تكذيبهم لهم {وأوذوا} أي: وصبروا على إيذائهم لهم {حتى أتاهم نصرنا} بإهلاك من كذبهم فتأس بهم واصبر حتى يأتيك النصر بإهلاك من كذبك وفي ذلك إيماء بوعد النصر للصابرين {ولا مبدل لكلمات الله} أي: لمواعيده من قوله تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين} (الصافات، 171) الآيات {ولقد جاءك من نبأ المرسلين} أي: من قصصهم وما كابدوا من قومهم مما يسكن به قلبك قيل: من مزيدة، وقيل: للتبعيض ويدل له قوله تعالى: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} (غافر، 78) .
{وإن كان كبر} أي: عظم وشق {عليك إعراضهم} عنك وعن الإيمان بما جئت به {فإن استطعت أن تبتغي} أي: تطلب بجهدك وغاية طاقتك {نفقاً} أي: منفذاً {في الأرض} تنفذ فيه إلى ما عساك تقدر إلى الانتهاء إليه {أو سلماً في السماء} أي: جهة العلوّ لترتقي فيه إلى ما تقدر عليه {فتأتيهم بآية} أي: مما اقترحوه عليك فافعل لتشاهد أنهم لا يزدادون عند إتيانك بها إلا إعراضاً كما أخبرناك لأنّ الله تعالى شاء ضلال بعضهم والمقصود بهذا بيان شدّة حرصه صلى الله عليه وسلم على هدايتهم وأنه لو قدر أن يتكلف النزول إلى تحت الأرض أو فوق السماء فيأتيهم بما يؤمنون به لفعل {ولو شاء الله} هدايتهم {لجمعهم على الهدى} أي: لوفقهم له ولكن لم يشأ ذلك فلم يؤمنوا والمعتزلة أوّلوا {لو شاء الله} بأنه لو شاء لجمعهم على الهدى بأن يأتيهم بآية ملجئة ولكن لم يفعل لخروجه عن الحكمة، وجرى على هذا الزمخشريّ في كشافه.
(15/173)
---(1/910)
والمعنى: أنّ أسناد مشيئة الجمع إلى الله تعالى ظاهر في أنه هو المهدي والمضل والمعتزلة لما قالوا: إنه بفعل العبد احتاجوا إلى التأويل {فلا تكونن من الجاهلين} أي: لا يشتدّ تحسرك على تكذيبهم ولا تجزع من إعراضهم عنك فتقارب حال الجاهلين الذين لا صبر لهم وإنما نهاه عن هذه الحالة وغلظ عليه الخطاب تبعيداً له عن هذه الحالة.
(15/174)
---
{إنما يستجيب} دعاءك إلى الإيمان {الذين يسمعون} سماع تفهم واعتبار كقوله تعالى: {أو ألقى السمع وهو شهيد} (ق، 37) وهم المؤمنون الذين فتح الله تعالى لهم أسماع قلوبهم فهم يسمعون الحق ويستجيبون له ويتبعونه دون من ختم الله على سمع قلبه وهو قوله: {والموتى} أي: الكفار لشبههم بهم في عدم السماع {يبعثهم الله} في الآخرة {ثم إليه يرجعون} أي: يردّون فيجازيهم بأعمالهم.
{وقالوا} أي: رؤساء قريش {لولا} أي: هلا {نزل عليه آية} مما اقترحوا {من ربه} المحسن إليه كالناقة والعصا والمائدة أو آية تضطرّهم إلى الإيمان كنتق الجبل أو آية إن جحدوها هلكوا {قل} لهم {إنّ الله قادر على أن ينزل آية} مما اقترحوه أو آية تضطرّهم إلى الإيمان أو آية إن جحدوها هلكوا لا يعجزه شيء {ولكنّ أكثرهم لا يعلمون} أي: ماذا عليهم في إنزالها من العذاب إن لم يؤمنوا بها ولهم فيما أنزل مندوحة عن غيره، وقرأ ابن كثير: ينزل، بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي والمعنى واحد.(1/911)
{وما من دابة في الأرض} أي: تدب على وجهها {ولا طائر بطير بجناحيه} في الهواء وهو بالمدّ ما بين السماء والأرض وهو المراد هنا وأمّا الهوى بالقصر فهوى النفس وليس مراداً وإنما قال: {بجناحيه} مع أنّ الطيران لا يكون إلا بهما قطعاً لمجاز السرعة ونحوها كما تقول: كتبت بيدي ونظرت بعيني {إلا أمم أمثالكم} أي: محفوظة أحوالها مقدّرة أرزاقها وآجالها، قال العلماء: جميع ما خلق الله تعالى لا يخرج عن هاتين الحالتين حتى ما في البحر لأنّ سيرها في الماء إمّا أن يكون دبيباً أو طيراناً مجازاً وإنما خص ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء وإن كان ما في السماء مخلوقاً له لأنّ الاحتجاج بالمشاهد أظهر وأولى مما لا يشاهد.
(15/175)
---
واختلف العلماء في وجه هذه المماثلة فقال مجاهد: أصناف مصنفة تعرف بأسمائها مثل بني آدم يعرفون بأسمائهم يريد أنّ كل جنس من الحيوان أمة فالطير أمة والدواب أمة والسباع أمة وقال ابن قتيبة: أمم أمثالكم في الغذاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك. وقال عطاء: أمثالكم في التوحيد والمعرفة، وقيل غير ذلك، والمقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره ليكون كالدليل على أنه قادر على أن ينزل آية {ما فرّطنا} أي: ما تركنا أو ما أغفلنا {في الكتاب} أي: اللوح المحفوظ {من شيء} فلم نكتبه فإنه مشتمل على ما يجري في العالم من الجليل والدقيق ولم يهمل فيه أمر حيوان، وقيل: المراد بالكتاب القرآن فإنه قد دوّن فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلاً ومجملاً، ومن مزيدة وشيء في موضع المصدر لا المفعول به فإن فرّط لا يتعدّى بنفسه، وقد عدّي بفي إلى الكتاب {ثم إلى ربهم يحشرون} قال ابن عباس والضحاك: حشرها موتها، وقال أبو هريرة: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة الدواب والطير وكل شيء فيأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني تراباً فحينئذٍ يتمنى الكافر ويقول: {يا ليتني كنت تراباً} (النبأ، 4).(1/912)
وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتؤدّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء».
{والذين كذبوا بآياتنا} أي: القرآن {صم} عن سماعها سماع قبول {وبكم} عن النطق بالحق {في الظلمات} أي: في ضلالات الكفر {من يشأ الله} إضلاله {يضلله ومن يشأ} هدايته {يجعله على صراط مستقيم} هو دين الإسلام وهو دليل واضح لأهل السنة على المعتزلة في قولهم: إنهما من العبد كما مرّ.
(15/176)
---
{قل} يا محمد لأهل مكة، وقوله تعالى: {أرأيتكم} استفهام تعجيب والكاف حرف خطاب أي: أخبروني {إن أتاكم عذاب الله} أي: في الدنيا كما أتى من قبلكم من الغرق أو الخسف والمسخ والصواعق ونحو ذلك من العذاب {أو أتتكم الساعة} أي: القيامة المشتملة على العذاب {أغير الله تدعون} في كشف العذاب عنكم {إن كنتم صادقين} أنّ الأصنام آلهة وجواب الاستفهام محذوف أي: فادعوه وهو تبكيت لهم.
{بل إياه تدعون} أي: تخصونه بالدعاء كما حكى الله تعالى ذلك عنهم في موضع كما في قوله تعالى: {وإذا مس الإنسان الضرّ دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً} (يونس، 12) الآية {فيكشف ما تدعون إليه} أي: ما تدعون إلى كشفه {إن شاء} كشفه في الدنيا تفضلاً عليكم كما هو عادته معكم في وقت شدائدكم ولكنه لا يشاء كشفه في الآخرة لأنه لا يبدّل القول لديه وإن كان له أن يفعل ما يشاء {وتنسون} أي: تتركون في تلك الأوقات دائماً {ما تشركون} معه من الأصنام فلا تدعونها لعلمكم أنها لا تضرّ ولا تنفع.
{ولقد أرسلنا} رسلاً {إلى أمم من قبلك} أي: قبلك ومن مزيدة فكذبوهم {فأخذناهم بالبأساء} أي: شدّة الفقر {والضرّاء} أي: الأمراض والأوجاع وهما صفتا تأنيث لا مذكر لهم {لعلهم يتضرّعون} أي: يتذللون ويتوبون عن ذنوبهم فيؤمنون.(1/913)
{فلولا} أي: فهلا {إذ جاءهم بأسنا} أي: عذابنا {تضرعوا} أي: لم يفعلوا ذلك مع قيام المقتضى له {ولكن قست قلوبهم} فلم تلن للإيمان {وزين لهم الشيطان} أي: بما أدخل عليهم من باب الشهوات {ما كانوا يعملون} من المعاصي فأصروا عليها.
(15/177)
---
{فلما نسوا} أي: تركوا {ما ذكروا} أي: وعظوا وخوّفوا {به} وإنما كان النسيان بمعنى الترك لأنّ التارك للشيء معرضاً عنه كأنه قد صيره بمنزلة ما قد نسي {فتحنا عليهم أبواب كل شيء} أي: من الخيرات والأرزاق والملاذ التي كانت مغلقة عنهم فنقلناهم من الشدّة إلى الرخاء استدراجاً لهم، وقرأ ابن عامر بتشديد التاء والباقون بالتخفيف {حتى إذا فرحوا بما أوتوا} أي: فرح بطر {أخذناهم} بالعذاب {بغتة} أي: فجأة {فإذا هم مبلسون} أي: متحسرون آيسون من كل خير.
(15/178)
---
أي: آخرهم بأن استؤصلوا {والحمد رب العالمين} أي: على نصر الرسل وإهلاك الكافرين والعصاة فإنّ إهلاكهم من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها.
(15/179)
---(1/914)
{قل} أي: لأهل مكة {أرأيتم} أي: أخبروني {إن أخذ الله سمعكم} أي: أصمكم {وأبصاركم} أي: أعماكم {وختم} أي: طبع {على قلوبكم} أي: بأن يغطي عليها ما يزول به عقلكم وفهمكم فلا تعرفون شيئاً {من إله غير الله يأتيكم به} أي: بذلك أو بما أخذ منكم وختم عليه لأنّ الضمير في به يعود على معنى الفعل أو بأحد هذه المذكورات ويجوز أن يعود إلى السمع الذي ذكره أوّلاً ويندرج غيره تحته كقوله تعالى: {وا ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة، 62) فالهاء راجعة إلى الله تعالى ورضا رسول الله صلى الله عليه وسلم يندرج في رضا الله تعالى {انظر} الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه غيره أي: انظر يا محمد {كيف نصرّف} أي: نبين لهم الآيات أي: العلامات الدالة على التوحيد والنبوّة ونكررها تارة من جهة المقدّمات العقلية وتارة من جهة الترغيب والترهيب وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدّمين {ثم هم يصدفون} أي: يعرضون عنها فلا يؤمنون.
{قل} لهم {أرأيتكم} أي: أخبروني {إن أتاكم عذاب الله بغتة} أي: فجأة {أو جهرة} أي: معاينة ترونه عند نزوله، وقال ابن عباس والحسن: ليلاً ونهاراً {هل يهلك} أي: ما يهلك به هلاك سخط وتعذيب {إلا القوم الظالمون} أي: المشركون لأنهم ظلموا أنفسهم بالشرك.
{وما نرسل المرسلين إلا مبشرين} من آمن بالجنة {ومنذرين} من كفر بالنار أي: ليس في إرسالهم أن يأتوا الناس بما يقترحون عليهم من الآيات إنما أرسلوا بالبشارة والنذارة {فمن آمن} أي: بهم {وأصلح} أي: عمله {فلا خوف عليهم} أي: من العذاب {ولا هم يحزنون} في الآخرة بفوات الثواب.
{والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب} أي: يصيبهم {بما كانوا يفسقون} أي: بسبب خروجهم عن الطاعة.
(15/180)
---(1/915)
{قل} لهم {لا أقول لكم عندي خزائن الله} نزلت حين اقترحوا عليه الآيات فأمره الله تعالى أن يقول لهم: إنما بعثت بشيراً ونذيراً ولا أقول لكم عندي خزائن الله جمع خزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي خزائن رزقه أو مقدوراته فأعطيكم منها ما تريدون لأنهم كانوا يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم إن كنت رسولاً من الله فاطلب منه أن يوسع علينا ويغني فقرنا فأخبر أنّ ذلك بيد الله لا بيدي {ولا} أقول لكم إني {أعلم الغيب} أي: فأخبركم بما مضى وما هو آت وذلك أنهم قالوا له: أخبرنا بمصالحنا ومضارنا في المستقبل حتى نستعدّ لتحصيل المصالح ودفع المضار فأجابهم بقوله: ولا أعلم الغيب فأخبركم بذلك {ولا أقول لكم إني ملك} وذلك أنهم قالوا: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوّج النساء؟ فأجابهم بذلك لأنّ الملك يقدر على ما لا يقدر عليه البشر ويشاهد ما لا يشاهدونه أي: لا أقول لكم شيئاً من ذلك فتنكرون وتجحدون.
(15/181)
---(1/916)
فإن قيل: قد يستدل بهذا على أنّ الملائكة أفضل من الأنبياء لأنّ معنى الكلام لا أدعي منزلة أقوى من منزلتي ولولا أنّ الملائكة أفضل لم يصح ذلك؟ أجيب: بأنه صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك تواضعاً لله تعالى واعترافاً بالعبودية حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النصارى في المسيح وبأنّ المراد بما قاله نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة وذلك لا يدل على أنهم أفضل من الأنبياء {إن أتبع إلا ما يوحى إليّ} تبرأ صلى الله عليه وسلم من دعوى الألوهية والملكية وادّعى النبوّة مع الرسالة التي هي أعلى كمالات البشر ردّاً لاستبعادهم دعواه وجزمهم على فساد مدّعاه وظاهر هذه الآية يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يجتهد في شيء من الأحكام بل جميع أوامر الله ونواهيه إنما كانت بوحي ولكن المرجح أنه يجتهد {قل} لهم {هل يستوي الأعمى والبصير} أي: هل يكونون سواء من غير مزية فإن قالوا: نعم كابروا الحس، وإن قالوا: لا، قيل: فمن تبع هذه الآيات الجليات فهو البصير ومن أعرض فهو الأعمى. وقيل: المراد بالأوّل الكافر وبالثاني المؤمن، وقيل: الضال والمهتدي، وقيل: الجاهل والعالم {أفلا تتفكرون} في أنهما لا يستويان فتؤمنوا.
{وأنذر} أي: خوّف إذ الإنذار إعلام مع تخويف {به} أي: القرآن وقوله تعالى: {الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم} إمّا قوم داخلون في الإسلام ومقرّون بالبعث إلا أنهم مفرطون في العمل وأمّا أهل الكتاب لأنهم مقرّون بالبعث وإمّا ناس من المشركين علم من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقاً فيهلكوا فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار دون المتمرّدين منهم وقوله تعالى: {ليس لهم من دونه} أي: غير الله تعالى {وليّ} أي: ينصرهم {ولا شفيع} أي: يشفع لهم حال من ضمير يحشرون بمعنى يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعاً لهم ولا بدّ من هذه الحال لأنّ كلاً منهم محشور فإنّ المخوّف هو الحشر على هذه الحالة.,(1/917)
(15/182)
---
فإن قيل: إذا فسر ما ذكر بالمؤمنين كان مشكلاً لأنه قد ثبت بصحيح النقل شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم للمذنبين من أمّته وكذلك تشفع الملائكة والأنبياء والمؤمنون بعضهم لبعض أجيب: بأنّ الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله تعالى كما قال: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} (البقرة، 255) وإذا كانت الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله صح قوله: ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع حتى يؤذن لهم بالشفاعة فإذا أذن فيها كان للمؤمنين ولي وشفيع {لعلهم يتقون} الله بإقلاعهم عما هم فيه وعمل الطاعات.
{ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ} بعدما أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بإنذار غير المتقين ليتقوا أمره بإكرام المتقين وتقريبهم وأن لا يطردهم ترضية لقريش.
روي أنّ رؤساءهم قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم لو طردت هؤلاء الأعبد يعنون الفقراء المسلمين وهم عمار وصهيب وخباب وسلمان وأضرابهم وكانت عليهم جباب من صوف جلسنا إليك وحادثناك فقال عليه الصلاة والسلام: «ما أنا بطارد المؤمنين» فقالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت قال: «نعم طمعاً في إيمانهم».
(15/183)
---(1/918)
وروي أنّ عمر رضي الله عنه قال له: لو فعلت حتى تنظر إلى ماذا يصيرون قالوا: فاكتب بذلك كتاباً فدعا بالصحيفة وبعلي رضي الله تعالى عنه فنزلت فرمى بالصحيفة واعتذر عمر رضي الله تعالى عنه من مقالته قال سلمان وخباب فينا نزلت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا وندنو منه حتى تمس ركبتنا ركبته فكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزل {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم} (الكهف، 28) فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه وقال لنا: «الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمّتي معكم المحيا ومعكم الممات» وقال الكلبي: قالوا له اجعل لنا يوماً ولهم يوماً قال: «لا أفعل» قالوا: فاجعل واحداً وأقبل علينا وولهم ظهرك فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال مجاهد: قالت قريش: لولا بلال وابن أم معبد لبايعنا محمداً فأنزل الله تعالى هذه الآية {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} يعني صلاة الصبح وصلاة العصر».
ويروى عنه أنّ المراد منه الصلوات الخمس وذلك أنّ ناساً من الفقراء كانوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال ناس من الأشراف: إذا صلينا فأخر هؤلاء فليصلوا خلفنا فنزلت هذه الآية وقوله تعالى: {يريدون وجهه} حال من يدعون أي: يدعون ربهم مخلصين فيه قيد الدعاء بالإخلاص تنبيهاً على أنه ملاك الأمر {ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء} أي: ليس عليك حساب في اختبار بواطنهم وإخلاصهم لما اتسموا بسيرة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضيّ كما ذكره المشركون وطعنوا في دينهم فحسابهم عليهم لا يتعدّاهم إليك كما أنّ حسابك لا يتعدّاك إليهم كقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام، 164) .
(15/184)
---(1/919)
فإن قيل: هلا اكتفى بقوله: {ما عليك من حسابهم من شيء} عن {وما من حسابك عليهم من شيء}؟ أجيب: بأن الجملتين جعلتا بمنزلة جملة واحدة وقصد بهما مؤدّى واحد وهو المعنى في قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعاك، 164) ولا يفيد هذا المعنى إلا الجملتان جميعاً.
كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه، وقيل: الضمير للمشركين والمعنى: لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم بحيث تطرد المؤمنين طمعاً فيه وقوله تعالى: {فتطردهم} أي: فتبعدهم جواب النفي وقوله تعالى: {فتكون من الظالمين} جواب النهي وهو ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة، واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآية فقالوا: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما همّ بطرد الفقراء عن مجلسه لأجل أشراف قريش عاتبه الله تعالى به على ذلك ونهاه عن طردهم وذلك قدح في العصمة وقوله تعالى: {فتطردهم فتكون من الظالمين} وأجيب: بأنه صلى الله عليه وسلم ما طردهم ولا همّ به لأجل استخفاف بهم وإنما كان هذا الهم لمصلحة وهي التلطف بهؤلاء الأشراف في إدخالهم في الإسلام فكان ترجيح هذا الجانب أولى وهو اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم فأعلمه الله تعالى أنّ تقريب هؤلاء الفقراء أولى من الهمّ بطردهم فقرّبهم منه وأدناهم والظلم في اللغة وضع الشيء في غير محله أي: فلا تهم بطردهم عنك فتضع الشيء في غير معوضه فهو من باب ترك الأفضل والأولى لا من باب ترك الواجبات.
(15/185)
---(1/920)
{وكذلك فتنا} أي: ابتلينا {بعضهم ببعض} أي: الشريف بالوضيع والغني بالفقير بأن قدّمناه بالسبق للإيمان {ليقولوا} أي: الشرفاء والأغنياء {أهؤلاء} الفقراء {منّ الله عليهم من بيننا} بالهداية أي: لو كان ما هم عليه هدى ما سبقونا إليه ونحن الأكابر والرؤساء وهم المساكين والضعفاء قال الله تعالى: {أليس الله بأعلم بالشاكرين} أي: بمن يقع منهم الإيمان والشكر فيوفقه وبمن لا يقع منه فيخذله.
(15/186)
---
{وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا} وقوله تعالى: {فقل} لهم {سلام عليكم} إمّا أن يكون أمراً بتبليغ سلام الله تعالى إليهم وإمّا أن يكون أمراً بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم {كتب} أي: قضى {ربكم على نفسه الرحمة}.
روي أنها نزلت في الذين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طردهم فوصفهم الله تعالى بالإيمان بالقرآن واتباع الحجج بعدما وصفهم بالمواظبة على العبادة وأمره بأن يبدأ بالتسليم أو يبلغ سلام الله تعالى إليهم ويبشرهم بسعة رحمته وفضله بعد النهي عن طردهم إيذاناً بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرّب ولا يطرد ويعز ولا يذل ويبشر من الله تعالى بالسلامة في الدنيا والرحمة في الآخرة، وقال عطاء: نزلت في الخلفاء الأربع وجماعة من الصحابة، وقيل: الآية على إطلاقها في كل مؤمن، وقيل: لما جاء عمر بن الخطاب واعتذر من مقالته التي تقدّمت وقال: ما أردت إلا الخير فنزلت، وقيل: إنّ قوماً جاؤوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبنا ذنوباً عظاماً فلم يردّ عليهم شيئاً فانصرفوا فنزلت {إنه من عمل منكم سوأ} أيّ سوء كان ملتبساً {بجهالة} أي: عمله وهو جاهل وفيه معنيان: أحدهما: إنه فاعل فعل الجهلة لأنّ من عمل ما يؤدّي إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل السفه والجهل لأنّ من أهل الحكمة والتدبير ومنه قول الشاعر:(1/921)
*على أنها قالت عشية زرتها ** جهلت على عمد ولم تك جاهلاً*
(15/187)
---
والثاني: إنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرّة ومن حق الحكيم أن لا يقدم على شيء حتى يعلم حاله وكيفيته، وقيل: إنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما سألوه ولم يعلم أنها مفسدة، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم إنه بفتح الهمزة على أنه بدل من الرحمة، والباقون بالكسر على أنه ضمير الشان {ثم تاب} أي: رجع {من بعده} أي: من بعد ارتكابه ذلك السوء {وأصلح} عمله {فإنه} أي: الله {غفور} له {رحيم} به، وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الهمزة على تقدير: أن المغفرة له والباقون بالكسر.
{وكذلك} أي: ومثل ذلك التفصيل الواضح وهو تفصيل أحوال الطوائف الأربع: الأولى: المطبوع على قلوبهم وهم من في آية {والذين كذبوا بآياتنا} (الأنعام، 39) والثانية: المرجوّ إسلامهم وهم من في آية {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم} (الأنعام، 51) والثالثة: المطيعون وهم من في آية {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} (الأنعام، 52) والرابعة: الداخلون في الإسلام لكنهم لا يحفظون حدوده وهم من في آية {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا} (الأنعام، 54) {نفصل الآيات} أي: نبين آيات القرآن في صفة المطيعين والمجرمين المصرين منهم والأوّابين {ولتستبين سبيل} أي: طريق {المجرمين} قرأ أبو بكر وشعبة وحمزة والكسائي بالياء بعد اللام على التذكير أي: وليظهر ويتضح سبيل المجرمين يوم القيامة إذا صاروا في النار والباقون بالتاء على الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي: وليظهر لك الحق يا محمد ويتبين لك سبيلهم فتعامل كلاً منهم بما يحق له، وقرأ نافع سبيل بنصب، اللام، والباقون بالرفع.
(15/188)
---(1/922)
{قل} يا محمد لهؤلاء المشركين {إني نهيت أن أعبد الذين تدعون} أي: تعبدون {من دون الله} وهي الأصنام التي يعبدونها أو ما تدعونها آلهة أي: تسمونها لأنّ الجمادات أخس من أن تدعى وقوله تعالى: {قل لا أتبع أهواءكم} تأكيد لقطع أطماعهم وبيان لمبدأ ضلالهم وأنّ ما هم عليه هوى وليس بهدى {قد ضللت إذاً} أي: إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال {وما أنا من المهتدين} أي: وما أنا من المهديين في شيء أي: لأنكم كذلك.
{قل إني على بينة} أي: بيان {من ربي} أي: معرفة وإنه لا معبود سواه {و} قد {كذبتم به} أي: بربي حيث أشركتم به غيره {ما عندي ما تستعجلون به} أي: العذاب الذي استعجلوه بقولهم: فأمطر علينا حجارة من السماء {إن} أي: ما {الحكم} في ذلك وغيره {إلا الله} فهو يفصل بين المختلفين ويقضي بإنزال العذاب متى شاء {يقص الحق} قرأ نافع وابن كثير وعاصم بضم القاف وصاد مهملة مشدّدة مع الرفع ومعناه: يقول الحق، لأن كل ما أخبر به فهو حق، والباقون بسكون القاف وضاد معجمة مخففة مع الكسر أي: إنه تعالى يقضي القضاء الحق {وهو خير الفاصلين} أي: الحاكمين {قل} لهم {لو أنّ عندي} أي: في قدرتي ومكنتي {ما تستعجلون به} أي: من العذاب {لقضي الأمر بيني وبينكم} أي: لانفصل ما بيني وبينكم بأن أهلككم عاجلاً بما تستعجلون به من العذاب غضباً لربي ولكنه عند الله تعالى {وا أعلم بالظالمين} أي: ما تستحقونه من العذاب والوقت الذي يستحقون فيه.
(15/189)
---(1/923)
{وعنده} سبحانه وتعالى {مفاتح الغيب} أي: خزائنه جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن أو ما يتوصل به إلى المغيبات مستعار من المفاتيح الذي هو جمع مفتح بالكسر وهو المفتاح {لا يعلمها إلا هو} وهي الخمسة التي في قوله: {إنّ الله عنده علم الساعة} (لقمان، 34) الآية كما رواه البخاري فيعلم أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحكم فيظهرها على ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته وفيه دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها {ويعلم ما} يحدث {في البر والبحر} قدّم البر لأنّ الإنسان أكثر ملابسة له بما فيه من القرى والمدن والمفاوز والجبال والحيوان والنبات والمعادن وغير ذلك، وأخر البحر لأنّ إحاطة العقل بأحواله أقل، وقال مجاهد: البر: المفاوز والقفار، والبحر: القرى والأمصار التي على الأنهار وقوله تعالى: {وما تسقط من ورقة} أي: ورقة من يد {إلا يعلمها} مبالغة في إحاطة علمه تعالى بالجزئيات، وقوله تعالى: {ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس} عطف على ورقة واختلف في الحبة فقيل: هي من هذا الحب المعروف تكون في بطن الأرض قبل أن تنبت، وقيل: هي الحبة التي تنبت في الصخرة التي في أسفل الأرض، واختلف في معنى الرطب واليابس فقال ابن عباس: الرطب: الماء، واليابس: البادية، وقال عطاء: يريد ما ينبت وما لا ينبت وقيل: المراد بالرطب: الحيّ، وباليابس: الميت، وقيل: هو عبارة عن كل شيء لأنّ جميع الأشياء إمّا رطبة وإمّا يابسة.
(15/190)
---(1/924)
فإن قيل: جميع هذه الأشياء داخلة تحت قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} فلمَ أفرد هذه الأشياء بالذكر؟ أجيب: بأنه تعالى ذكرها أوّلاً مجملة ثم فصل بعضاً من ذلك الإجمال ليدل بها على غيرها وقوله تعالى: {إلا في كتابه مبين} فيه قولان: أحدهما: إنه علم الله الذي لا يغير ولا يبدل، والثاني: إنه اللوح المحفوظ لأنّ الله تعالى كتب فيه علم ما يكون وما قد كان قبل أن يخلق السموات والأرض فهو على الأوّل بدل من الاستثناء الأوّل بدل الكل وعلى الثاني بدل الاشتمال.
(15/191)
---
{وهو الذي يتوفاكم بالليل} أي: يقبض أرواحكم عند النوم {ويعلم ما جرحتم} أي: كسبتم {بالنهار ثم يبعثكم} أي: يوقظكم بردّ أرواحكم {فيه} أي: النهار.
(15/192)
---
فإن قيل: لِمَ خص الليل بالنوم والنهار بالكسب مع أنّ ذلك يقع في غير هذا؟ أجيب: بأنّ ذلك جرى على الغالب {ليقضي أجل مسمى} أي: ليبلغ المستيقظ آخر أجله المسمى له في الدنيا {ثم إليه مرجعكم} بالموت والبعث {ثم ينبئكم بما كنتم تعملون} فيجازيكم به.
{وهو القاهر} مستعلياً {فوق عباده} لأنّ من قهر شيئاً وغلبه فهو مستعل عليه أمّا قهره للمعدوم فبالتكوين والإيجاد وأمّا قهره للموجود فبالإفناء والإفساد بنقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة ومن الوجود إلى العدم أخرى ويقهر النور بالظلمة والظلمة بالنور والنهار بالليل والليل بالنهار إلى غير ذلك من ضروب الكائنات وصنوف الممكنات {ويرسل عليكم} من ملائكته {حفظة} أي: تحفظ أعمالكم وهم الكرام الكاتبون، وعن أبي حاتم السختياني أنه كان يكتب عن الأصمعي كل شيء تلفظ به من فوائد العلم حتى قال فيه: أنت شبيه الحفظة تكتب لفظ اللفظة فقال أبو حاتم: وهذا أيضاً مما يكتب.(1/925)
فإن قيل: الله تعالى غني عن كتابة الملائكة فما فائدتها؟ أجيب: بأنّ فيها لطفاً للعباد لأنهم إذا علموا أنّ الله رقيب عليهم والملائكة موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد عن السوء {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا} أي: ملك الموت وأعوانه {وهم لا يفرّطون}أي: لا يقصرون فيما يؤمرون، وقيل: ملك الموت وحده فذكر الواحد بلفظ الجمع وجاء في الأخبار أنّ الله تعالى جعل الدنيا بين يدي الموت كالمائدة الصغيرة فيقبض من ههنا ومن ههنا فإذا كثرت عليه الأرواح يدعوها فتستجيب له.
(15/193)
---
فإن قيل: قال الله تعالى في آية أخرى {الله يتوفى الأنفس حين موتها} (الزمر، 42) وفي أخرى {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} (السجدة، 11) وقال هنا: {توفته رسلنا} فكيف الجمع؟ أجيب: بأن المتوفى في الحقيقة هو الله تعالى فإذا حضر أجل العبد أمر الله تعالى ملك الموت أن يقبض روحه ولملك الموت أعوان من الملائكة يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده فإذا وصلت إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت بنفسه فحصل الجمع بين الآيات، وقال مجاهد: ما من أهل بيت شعر ولا مدر إلا وملك الموت يطوف بهم كل يوم مرّتين، وقرأ حمزة بعد فاء توفته بألف ممالة على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث وسكن السين من رسلنا أبو عمرو ورفعها الباقون.
{ثم ردّوا} أي: الخلق {إلى الله} أي: إلى حكمه وجزائه {مولاهم} أي: سيدهم ومدبر أمورهم كلها {الحق} أي: الثابت الولاية وكل ولاية غير ولايته تعالى عدم {ألا له الحكم} أي: القضاء النافذ فيهم فلا حكم عليه {وهو أسرع الحاسبين} يحاسب الخلق كلهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا لحديث بذلك لأنه لا يحتاج إلى فكرة وروية وعقد يد فيحاسب خلقه بنفسه لا يشغله حساب بعضهم عن بعض.
(15/194)
---(1/926)
{قل} يا محمد لأهل مكة {من ينجيكم من ظلمات البرّ والبحر} أي: من الخسف في البر والغرق في البحر أو من شدائدهما استعيرت الظلمة للشدّة لمشاركتهما في الهول وإبطال الأبصار فقيل: لليوم الشديد يوم مظلم ولغيره يوم ذو كواكب، وقيل: حمله على الحقيقة أولى وظلمات البر هي ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب فيحصل من ذلك الخوف الشديد لعدم الاهتداء إلى الطريق الصواب وظلمات البحر ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الرياح العاصفة والأمواج الهائلة فيحصل من ذلك أيضاً الخوف الشديد من الوقوع في المهالك والمقصود أنّ عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان فيها إلا إلى الله تعالى لأنه هو القادر على كشف الكروب وإزالة الشدائد وهو المراد من قوله: {تدعونه تضرّعاً} أي: علانية {وخفية} أي: سرّاً وقوله تعالى: {لئن} اللام لام القسم على إرادة القول أي: يقولون والله لئن {أنجيتنا من هذه} أي: الظلمات والشدائد {لنكونن من الشاكرين} لك على هذه النعمة، والشكر: هو معرفة النعمة مع القيام بحقها لمن أنعم بها أي: فنكون من المؤمنين، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: أنجانا، بحذف التاء وألف بعد الجيم بدل الياء ليوافق قوله تعالى: {تدعونه} وأمالها حمزة والكسائي والباقون بالتاء بعد الياء.
(15/195)
---(1/927)
{قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب} أي: غمّ سوى ذلك {ثم أنتم تشركون} أي: تعودون إلى شركة الأصنام معه التي لا تضر ولا تنفع ولا توفون بالعهد وإنما وضع تشركون موضع لا تعبدون تنبيهاً على أنّ من أشرك في عبادة الله تعالى فكأنه لم يعبده {قل} لهم {هو القادر على أن يبعث} في كل وقت يريده {عليكم} في كل حالة {عذاباً من فوقكم} بإرسال الصيحة والحجارة والريح والطوفان كما فعل بقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الفيل {أو من تحت أرجلكم} بالغرق أو الخسف كما فعل بفرعون وقارون، وعن ابن عباس ومجاهد: عذاباً من فوقكم: السلاطين الظلمة، أو من تحت أرجلكم: العبيد السوء، وقال الضحاك: من فوقكم أي: من قبل كباركم أو من تحت أرجلكم أي: من أسفل منكم {أو يلبسكم} أي: يخلطكم {شيعاً} أي: فرقاً وينشب فيكم الأهوال المختلفة بقتل بعضكم بعضاً.
روي لما نزلت هذه الآية: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم} قال صلى الله عليه وسلم «أعوذ بوجهك» {ومن تحت أرجلكم} قال: «أعوذ بوجهك» {أو يلبسكم شيعاً} {ويذيق بعضكم بأس بعض} أي: بالقتال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هذا أهون أو أيسر».
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: «سألت ربي طويلاً أن لا يهلك أمّتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يهلك أمّتي بالسنين فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها».
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى ثلاثاً فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة «سأله أن لا يسلط على أمّته عدوّاً من غيرهم يظهر عليهم فأعطاه ذلك وسأله أن لا يهلكهم بالسنين فأعطاه ذلك وسأله أن لا يجعل بأس بعضهم على بعض فمنعه ذلك» {انظر} يا محمد {كيف نصرف} أي: نبين لهم {الآيات} الدالة على قدرتنا {لعلهم يفقهون} أي: يعلمون أنّ ما هم عليه باطل فيرجعوا عنه.
(15/196)
---(1/928)
{وكذب به} أي: القرآن أو العذاب {قومك} أي: الذين من حقهم أن يقوموا بجميع أمرك ويسرّوا بسيادتك فإنّ القبيلة إذا ساد أحدهم عزت به فإن عزه عزها وشرفه شرفها ولا سيما إذا كان من بيت الشرف ومعدن السيادة وإذا سفل أحدها اهتمت به غاية الاهتمام وسترت عيوبها مهما أمكنها فإنّ عاره لاحق لها فهو من عظيم التوبيخ لهم ودقيق التقريع لهم وزاد ذلك بقوله: {وهو} أي: والحال أنه {الحق} أي: الثابت الذي لا يضره التكذيب به ولا يمكن زواله {قل} لهم {لست عليكم بوكيل} أي: حفيظ وكل إلي أموركم فأجازيكم أو أمنعكم من التكذيب إنما أنا منذر والله الحفيظ {لكل نبأ} أي: خبر أخبركم به من هذه الأخبار {مستقر} أي: وقت يقع فيه ويستقرّ ومنه عذابكم {وسوف تعلمون} صحة ذلك عند وقوعه، إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة وفي ذلك تهديد لهم.
{وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} أي: القرآن بالاستهزاء والتكذيب {فأعرض عنهم} أي: فاتركهم ولا تجالسهم {حتى يخوضوا في حديث غيره} أي: حتى يكون خوضهم في غير الآيات والاستهزاء بها، وذكر الضمير على معنى الآيات لأنها القرآن والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد غيره ليكون أردع أو لغيره أي: وإذا رأيت أيها الإنسان {وإمّا} فيه إدغام نون إن الشرطية في ما المزيدة {ينسينك الشيطان} أي: فقعدت معهم ثم تذكرت {فلا تقعد بعد الذكرى} أي: التذكير لهذا النهي {مع القوم الظالمين} أظهر موضع الإضمار تفهماً ودلالة على الوصف الذي هو سبب الخوض.
وروي أنّ المسلمين قالوا: لئن كنا نقوم كلما استهزؤوا بالقرآن لم نستطع أن نجلس بالمسجد ونطوف فنزل:
d
(15/197)
---(1/929)
{وما على الذين يتقون} الله {من حسابهم} أي: الخائضين {من شيء} أي: شيء مما يحاسبون عليه إذا جالسوهم فمن مزيد للتأكيد {ولكن} عليهم {ذكرى} أي: تذكرة لهم ووعظ ويمنعوهم من الخوض وغيره من القبائح ويظهروا كراهتها وقال سعيد بن جبير ومقاتل: هذه الآية منسوخة بالآية التي في سورة النساء وهي قوله تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله} (النساء، 14) الآية، وذهب الجمهور إلى أنها محكمة لا نسخ فيها لأنها خبر والخبر لا يدخله النسخ ولأنه إنما أباح لهم القعود معهم بشرط التذكرة والموعظة {لعلهم يتقون} الخوض في الآيات.
{وذر الذين اتخذوا دينهم} أي: الذي كلفوه {لعباً ولهواً} باستهزائهم به {وغرّتهم الحياة الدنيا} أي: خدعتهم وغلب حبها على قلوبهم فأعرضوا عن دين الحق أي: فاتركهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم وهذا يقتضي الإعراض عنهم وهو قبل الأمر بالقتال ثم نسخ ذلك الإعراض بآية السيف {وذكر} أي: وعظ {به} أي: القرآن الناس {أن} أي: كراهة أن {تبسل نفس} أي: تسلم إلى الهلاك {بما كسبت} أي: بسبب ما عملت وأصل الإبسال والبسل المنع ومنه أسد باسل لأنّ فريسته لا تفلت منه والباسل الشجاع لامتناعه من قرنه وهذا بسل عليك أي: حرام {ليس لها من دون الله} أي: غيره {وليّ} أي: ناصر {ولا شفيع} يمنع عنها العذاب {وإن تعدل} أي: تلك النفس لأجل التوصل إلى الفكاك {كل عدل} أي: وإن تفدِ كل فداء والعدل الفدية لأنها تعادل المفدي {لا يؤخذ منها} ما تفدى به {أولئك} أي: الذين عملوا هذه الأعمال البعيدة عن الخير {الذين أبسلوا} أي: سلموا إلى العذاب {بما كسبوا} أي: بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة {لهم شراب من حميم} أي: ماء هو في غاية الحرارة {و} لهم {عذاب أليم} أي: مؤلم {بما} أي: بسبب ما {كانوا يكفرون} أي: هم بين ماء يغلي يتجرجر في بطونهم ونار تشعل في أبدانهم بسبب كفرهم.
(15/199)
---(1/930)
{قل} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين دعوك إلى دين آبائهم {أندعو} أي: نعبد {من دون الله} أي: غيره {ما لا ينفعنا} أي: بعبادته {ولا يضرّنا} أي: بتركها وهم الأصنام {ونردّ على أعقابنا} أي: نرجع إلى الشرك {بعد إذ هدانا الله} تعالى إلى التوحيد ودين الإسلام {كالذي استهوته} أي: أضلته {الشياطين في الأرض} حالة كونه {حيران} تائهاً ضالاً لا يهتدي لوجه ولا يدري كيف يسلك. وقرأ حمزة بعد الواو في استهوته بألف ممالة على التذكير، والباقون بالتاء على التأنيث، ورقق ورش راء حيران بخلاف عنه {له} أي: المستهوي {أصحاب} أي: رفقة {يدعونه إلى الهدى} أي: إلى الطريق المستقيم وسماه هدى تسمية للمفعول بالمصدر يقولون له: {إئتنا} فلا يجيبهم فيهلك والاستفهام للإنكار وجملة التشبيه للحال من ضمير نردّ وهذا مثل ضربه الله تعالى لمن يدعو إلى عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ومن يدعو إلى عبادة الله عز وجل الذي يضر وينفع يقول مثلهما كمثل رجل في رفقته ضل به الغيلان والشياطين عن الطريق المستقيم فجعل أصحابه من أهل رفقته يدعونه إليهم يقولون هلم إلى الطريق المستقيم وجعل الغيلان يدعونه إليهم فبقي حيران لا يدري أين يذهب فإن أجاب الغيلان ضل وهلك وإن أجاب أصحابه اهتدى وسلم {قل} لهم {إنّ هدى الله} الذي هو الإسلام {هو الهدى} وحده وما عداه ضلال {وأمرنا لنسلم لرب العالمين} أي: بأن نخلص العبادة له لأنه المستحق العبادة لا غيره وقوله تعالى:
{وأن أقيموا الصلاة واتقوه} عطف على لنسلم أي: للإسلام ولإقامة الصلاة لأنّ فيهما ما يقرب إلى الله.
(15/200)
---(1/931)
وروي أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر دعا أباه إلى عبادة الأوثان فنزلت، فإن قيل: إذا كان هذا وارداً في شأن أبي بكر رضي الله تعالى عنه فكيف قيل للرسول صلى الله عليه وسلم قل أندعو؟ أجيب: بأن ذلك إظهار للاتحاد الذي كان بينه صلى الله عليه وسلم وبين المؤمنين خصوصاً الصدّيق رضي الله تعالى عنه {وهو الذي إليه} لا إلى غيره بعد بعثكم من الموت {تحشرون} يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم.
{وهو الذي خلق السموات والأرض} على عظمهما {بالحق} أي: بسبب إقامة الحق، وقيل: خلقهما بكلامه الحق الذي هو قوله تعالى: {كن} وهو دليل على أنّ كلام الله تعالى ليس بمخلوق لأنه لا يخلق مخلوق بمخلوق {و} اذكر {يوم يقول} الله للخلق {كن فيكون} أي: فهو يكون وهو يوم القيامة يقول بمخلق قوموا أحياء {قوله} تعالى: {الحق} أي: الصدق الواقع لا محالة {وله الملك يوم ينفخ في الصور} أي: النفخة الثانية من إسرافيل عليه الصلاة والسلام وإنما أخبر سبحانه وتعالى عن ملكه يومئذٍ وإن كان الملك له سبحانه وتعالى في كل وقت في الدنيا والآخرة لأنه لا منازع له يومئذٍ فإنّ من كان يدعي الملك من الجبابرة والفراعنة وسائر الملوك الذين كانوا في الدنيا قد زال ملكهم فاعترفوا أنّ الملك لله الواحد القهار وأنه لا منازع له تعالى فيه وعلموا أنّ الذي كانوا يدعونه من الملك في الدنيا غرور وباطل.
تنبيه: اختلف العلماء في الصور المذكور في الآية فقال قوم: هو قرن ينفخ فيه وهو لغة أهل اليمن، وقال مجاهد: الصور قرن كهيئة البوق ويدل على صحة هذا القول ما روي أنّ أعرابياً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: ما الصور؟ قال: «قرن ينفخ فيه».
(15/201)
---(1/932)
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنتم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ» فكان ذلك ثقل على الصحابة فقالوا: كيف نعمل يا رسول الله أو كيف نقول؟ قال: «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا» وقال أبو عبيدة: الصور جمع صورة والنفخ فيها إحياؤها والأوّل أصح لما مرّ في الحديث ولإجماع أهل السنة أنّ المراد بالصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل نفختين: نفخة الصعق ونفخة البعث للحساب {عالم الغيب والشهادة} أي: ما غاب وما شوهد فلا يغيب عن علمه تعالى شيء {وهو الحكيم} أي: في جميع أفعاله وتدبير خلقه {الخبير} بباطن الأشياء كظاهرها بكل ما يعملونه من خير أو شر.
(15/202)
---(1/933)
{وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} اختلف العلماء في لفظة آزر فقال مجاهد: آزر اسم أبي إبراهيم وهو تارح ضبطه بعضهم بالحاء المهملة وبعضهم بالخاء المعجمة، وقال البخاريّ في تاريخه الكبير: إبراهيم بن آزر وهو في التوراة تارخ فعلى هذا يكون لأبي إبراهيم اسمان: آزر وتارخ مثل يعقوب وإسرائيل إسمان لرجل واحد فيحتمل أن يكون اسمه آزر وتارخ لقب له وبالعكس، فالله سماه آزر وإن كان عند النسابين والمؤرّخين اسمه تارح ليعرف بذلك وكان آزر أبو إبراهيم من كوثى وهي قرية من سواد الكوفة وقال سعيد بن المسيب ومجاهد: آزر اسم صنم كان والد إبراهيم يعبده وإنما سماه بهذا الاسم لأنّ من عبد شيئاً أو أحبه جعل اسم ذلك المعبود أو المحبوب اسماً له فهو كقوله تعالى: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} (الإسراء، 71) وقيل: معناه وإذا قال إبراهيم لأبيه: يا عابد آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه والأوّل أصح لأن آزر اسم أبي إبراهيم لأنّ الله تعالى سماه به وأخرج البخاري في أفراده أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أباه آزر يوم القيامة على وجهه» أي: آزر فترة وغبرة الحديث سماه النبيّ صلى الله عليه وسلم آزر أيضاً ولم يقل أباه تارح كما نقل عن النسابين والمؤرخين فثبت بهذا أنّ اسمه الأصلي آزر لا تارح وكان أهل تلك البلاد وهم الكنعانيون يعتقدون إلهية النجوم في السماء والأصنام في الأرض فيجعلون لكل نجم صنماً فإذا أرادوا التقرب إلى ذلك النجم عبدوا ذلك الصنم ليشفع لهم عند ذلك النجم فقال إبراهيم منكراً عليهم منبهاً لهم على ظهور فساد ما هو مرتكبه {أتتخذ} أي: أتكلف نفسك إلى خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى بأن تجعل {أصناماً آلهة} أي: تعبدها وتخضع لها ولا نفع فيها ولا ضر {إني أراك وقومك} أي: في إتفاقكم على هذا {في ضلال} أي: بعد عن الصراط المستقيم {مبين} أي: ظاهر جداً ببديهة العقل مع مخالفته لكل نبيّ نباه الله(1/934)
(15/204)
---
تعالى من آدم عليه السلام فمن بعده، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالسكون.
{وكذلك} أي: ومثل هذا التبصير العظيم الشأن {نري إبراهيم} أي: نبصر وهي حكاية حال ماضية {ملكوت السموات والأرض} أي: عجائبهما وبدائعهما والملكوت أعظم الملك والتاء فيه للمبالغة كالرهبوت والرغبوت والرحموت من الرغبة والرهبة والرحمة، وقال ابن عباس: خلق السموات والأرض، وقال مجاهد وسعيد بن جبير: يعني آيات السموات والأرض وذلك إنه أقيم على صخرة وكشف له عن السموات حتى رأى العرش والكرسي وما في السموات من العجائب وحتى رأى مكانه في الجنة فذلك قوله تعالى: {وآتيناه أجره في الدنيا} (العنكبوت، 27)
معناه: أريناه مكانه في الجنة وكشف له عن الأرض حتى نظر أسفل الأرضين ورأى ما فيها من العجائب.
وروي عن سلمان ورفعه بعضهم عن علي قال: «لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض أبصر رجلاً على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فأراد أن يدعو عليه فقال الرب تبارك وتعالى: يا إبراهيم إنك رجل مجاب الدعوة فلا تدعو على عبادي فإنما أنا من عبدي على ثلاث خلال: إمّا أن يتوب إليّ فأتوب عليه وإمّا أن أخرج منه نسمة تعبدني وإمّا أن يبعث إليّ فإن شئت عفوت عنه وإن شئت عاقبته» وفي رواية: «فإن تولى فإنّ جهنم من ورائه».
(15/205)
---(1/935)
وقال قتادة: ملكوت السموات الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار. وقيل: إنّ هذه الرؤية كانت بعين البصيرة لأنّ ذلك لا يدرك إلا بالعقل فأريناه ذلك ليستدل به على توحيدنا {وليكون من الموقنين}: واليقين عبارة عن علم يحصل بسبب التأمّل بعد زوال الشبهة لأنّ الإنسان في أوّل الحال لا ينفك عن شبهة فإذا كثرت الدلائل وتوافقت صارت سبباً لحصول اليقين والطمأنينة في القلب وزالت الشبهة عند ذلك قال ابن عباس في وليكون من الموقنين{: جلي له الأمر سرّه وعلانيته فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله تعالى إنك لا تستطيع هذا فردّه الله تعالى كما كان قبل ذلك.
فلما جنّ عليه الليل} أي: دخل فيه {رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل} أي: غاب {قال لا أحب الآفلين} وذلك إنّ إبراهيم صلى الله عليه وسلم ولد في زمن نمروذ بن كنعان وكان النمروذ أول من وضع التاج على رأسه ودعا الناس إلى عبادته وكان له كهان ومنجمون فقالوا له: إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه، ويقال: إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء، وقال السدي: إنّ النمروذ رأى في منامه كأنّ كوكباً طلع فذهب بضوأي الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع من ذلك فزعاً شديداً ودعا السحرة والكهنة فسألهم فقالوا: هو مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة فيكون هلاكك وهلاك ملكك وأهل بيتك على يديه فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته في تلك السنة وأمر بعزل الرجال عن النساء وجعل على كل عشرة رجلاً فإذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها لأنهم كانوا لا يجامعون في الحيض فإذا طهرت حيل بينهما فرجع آزر فوجد امرأته قد طهرت فواقعها فحملت بإبراهيم.
(15/206)
---(1/936)
قال محمد بن إسحاق: بعث نمروذ إلى كل امرأة حبلى بقربه يحسبها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم فإنه لم يعلم بحبلها لأنها كانت صغيرة لم يعرف الحبل ببطنها، وقال السدي: خرج نمروذ بالرجال إلى العسكر ونحاهم عن النساء خوفاً من ذلك ثم بدت له حاجة إلى المدينة ولم يأمن عليها أحداً من قومه إلا آزر فبعث إليه وأقسم عليه أن لا يدنو من أهله فقال آزر: أنا أشح على ديني من ذلك فأوصاه بحاجته فدخل المدينة وقضى حاجته ثم قال: لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما نظر إلى أم إبراهيم لم يتمالك حتى واقعها فحملت إبراهيم، قال ابن عباس: لما حملت أم إبراهيم به قال الكهان لنمروذ: إن الغلام الذي أخبرناك عنه قد حملته أمّه الليلة فأمر نمروذ بذبح الغلمان.
قال محمد بن إسحاق: لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلاً إلى مغارة وكانت قريبة منها فولدت فيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود ثم سدّت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها وكانت تختلف إليه فتنظر ما فعل فتجده يمص من إصبع ماء ومن إصبع لبناً ومن إصبع عسلاً ومن إصبع تمراً ومن إصبع سمناً، وقال محمد بن إسحاق: كان آزر قد سأل أمّ إبراهيم عن حملها فقالت: ولدت غلاماً فمات فصدقها وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر والشهر كالسنة فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهراً حتى قال لأمّه: أخرجيني، فأخرجته عشاء فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض وقال: إنّ الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي ما لي إله غيره، ثم نظر في السماء فرأى كوكباً فقال: هذا ربي ثم أتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب فلما أفل قال: لا أحب الآفلين.
(15/207)
---(1/937)
{فلما رأى القمر بازغاً} أي: مبتدئاً في الطلوع {قال هذا ربي} فأتبعه بصره {فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين}، وقيل: إنه كان في السرب سبع سنين، وقيل: ثلاث عشرة سنة، وقيل: سبع عشرة سنة، قال بعض أهل التفسير: فلما شبّ إبراهيم وهو في السرب قال لأمّه: من ربي؟ قالت: أنا، قال: فمن ربك؟ قالت: أبوك قال: فمن رب أبي؟ قالت: اسكت، فسكت ثم رجعت إلى زوجها فقالت: الغلام الذي كنا نحدّث أنه يغير دين أهل الأرض فإنه ابنك، ثم أخبرته بما قال فأتاه أبوه فقال له إبراهيم: يا أبتاه من ربي؟ قال: أمّك، قال: فمن رب أمّي؟ قال: أنا، قال: فمن ربك؟ قال: نمروذ قال: فمن رب نمروذ؟ فلطمه وقال: اسكت، فلما أخرج من السرب وجنّ عليه الليل رأى المشتري قد طلع ـ وقيل: الزهرة ـ وكانت تلك الليلة في آخر الشهر فتأخر القمر فيها فرأى الكوكب فقال ذلك.
وهل ذلك جار على ظاهره أو مؤوّل جرى بعضهم على الأوّل، وقال: كان إبراهيم مسترشداً طالباً للتوحيد حتى وفقه الله تعالى فلم يضره ذلك وأيضاً كان ذلك في طفوليته قبل قيام الحجة عليه فلم يكن كفراً والأصح الثاني إذ لا يجوز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه بريء، ثم قال: في تأويله أوجه: أحدها ـ وهو الأصح: أن إبراهيم ذكر ذلك على وجه الاحتجاج عليهم بقوله: هذا ربي أي: في زعمكم فلما غاب قال: لو كان إلهاً لما غاب كما قال تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان، 49)
أي: عند نفسك وبزعمك وكما أخبر عن موسى أنه قال: {وانظر إلى إلهك} (طه، 97)
(15/208)
---(1/938)
أي: في زعمك فلما أفل قال: لا أحبّ الآفلين فضلاً عن عبادتهم فإنّ الانتقال والاحتجاج يقتضي الإمكان والحدوث وينافي الألوهية فلم ينجح فيهم ذلك {فلما رأى القمر بازغاً} قال لهم: هذا ربي فلما أفل أي: غاب قال: {لئن لم يهدني ربي} أي: يثبتني على الهدى لا إنه لم يكن مهتدياً والأنبياء لم يزالوا يسألون الله تعالى الثبات على الإيمان وكان إبراهيم عليه السلام يقول: وأجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام.
{فلما رأى الشمس بازغة} أي: عند طلوع النهار {قال} لهم {هذا ربي هذا أكبر} أي: من الكواكب والقمر ولم يقل هذه مع أنّ الشمس مؤنثة لأنه أراد هذا الطالع أو رده إلى المعنى وهو الضياء والنور لأنه رآه أضوأ من النجم والقمر أو ذكره لتذكير خبره {فلما أفلت} أي: غربت وقويت عليهم الحجة فلم يرجعوا {قال يا قوم إني بريء مما تشركون} أي: بالله من الأصنام والأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث التي تجعلونها شركاء لخالقها، والوجه الثاني: من التأويل أنه قال ذلك على وجه الاستفهام تقديره: أهذا ربي؟ كقوله تعالى: {أفائن مت فهم الخالدون} (الأنبياء، 34)
أي: أفهم الخالدون وذكره على وجه التوبيخ منكراً لفعلهم، والوجه الثالث: إنه أراد أن يستدرجهم بهذا القول ويعرّفهم خطأهم وجهلهم ومثل هذا مثل من ورد على قوم يعبدون صنماً فأظهر تعظيمه فأكرموه حتى صدروا في كثير من الأمور عن رأيه إلى أن دهمهم عدوّ فشاوروه في أمره فقال: الرأي أن ندعو هذا الصنم حتى ينكشف عنا ما أصابنا فاجتمعوا حوله يتضرعون فلما تبين لهم أنه لا ينفع ولا يدفع دعاهم إلى أن يدعوا الله تعالى فدعوه فصرف عنهم ما كانوا يجدون فأسلموا.
فإن قيل: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟ أجيب: بأنّ الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب ولما ظهر خلاف قومه واستمرّوا في شركهم وقالوا له: من تعبد أنت؟ أظهر لهم ما هو عليه من الحق بقوله:
(15/209)
---(1/939)
{إني وجهت وجهي} أي: أخلصت قصدي وصرفت عبادتي {للذي فطر السموات والأرض} أي: خلقهما وابتدعهما وهو الله تعالى {حنيفاً} أي: مائلاً إلى الدين القويم عن كل دين يخالفه وأصل الحنيف الميل وهو عن طريق الضلال إلى طريق الاستقامة، وقيل: الحنيف هو الذي يستقبل الكعبة بصلاته {وما أنا من المشركين} تبرأ من الشرك الذي كان عليه قومه أي: وما أنا منكم ولا أعدّ في عدادكم بشيء أقاربكم به.
{وحاجه قومه} أي: خاصموه في التوحيد وهددوه بالأصنام أن تصيبه بسوء إن لم يرجع عن الكلام فيها {قال} لهم {أتحاجوني} أي: أتجادلونني {في الله} أي: في وحدانيته، وقرأ نافع وابن عامر بتخفيف النون وهي نون الرفع عند النحاة ونون الوقاية عند الفراء، والباقون بالتشديد {وقد} أي: والحال إنه قد {هداني} إلى توحيده ومعرفته {ولا أخاف ما تشركون به} شيئاً وذلك إن إبراهيم لما رجع إلى أبيه وصار من الشباب بحالة سقط عنه طمع الذباحين أي: ذباحي نمروذ وضمه آزر إلى نفسه وجعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها لإبراهيم ليبيعها فيذهب بها إبراهيم وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه؟ فلا يشتريها أحد فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر فصوب رؤوسها وقال: اشربي استهزاء بقومه وما هم عليه حتى فشا استهزاؤه بها في قومه وأهل قريته فقالوا له: احذر الأصنام فإنا نخاف أن تمسك بخبل أو جنون بعيبك إياها فقال: إنما يكون الخوف ممن يقدر على النفع والضر وهو قوله تعالى: {إلا أن يشاء ربي شيئاً} وهذا استثناء منقطع معناه لكن إن شاء ربي شيئاً من المكروه يصيبني فيكون لأنه قادر على النفع والضر وإنما قال إبراهيم ذلك لاحتمال إنّ الإنسان قد يصيبه في بعض حالاته وأيام عمره وما يكرهه فلو أصابه مكروه نسبوه إلى الأصنام فنفى هذه الشبهة بذلك {وسع ربي كل شيء علماً} أي: أحاط علمه بكل شيء من معلومه {أفلا تتذكرون} أي: يقع منكم تذكر فتميزوا بين الحق والباطل والقادر والعاجز.
(15/210)
---(1/940)
{وكيف أخاف ما أشركتم} به أي: الأصنام وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع {ولا تخافون} أنتم {أنكم أشركتم با} وهو تعالى حقيق بأن يخاف منه كل الخوف لأنه إشراك للمصنوع مع الصانع وتسوية بين المقدور العاجز والقادر الضارّ النافع {ما لم ينزل به} أي: بعبادته {عليكم سلطاناً} أي: حجة وبرهاناً وهو القادر على كلّ شيء {فأيّ الفريقين} أي: حزب الله وحزب ما أشركتم ولم يقل فأينا تعميمها للمغنيّ {أحق بالأمن} أهم الموحدون أو المشركون {إن كنتم تعلمون} من الأحق أي: إن كان لكم علم فأخبروني عما سألتكم عنه والأحق بذلك هم الموحدون فاتبعوهم قال تعالى قاضياً بينهما:
(15/211)
---
{الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} أي: لم يخلطوا إيمانهم بشرك.
روي أنه لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين فقالوا: «يا رسول الله فأينا لم يظلم نفسه فقال: «ليس ذلك إنما هو الشرك ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان لابنه: {يا بني لا تشرك با إنّ الشرك لظلم عظيم} (لقمان، 13)
» {أولئك} أي: الموصوفون بما ذكر {لهم الأمن} أي: من العذاب المؤبد {وهم مهتدون} وقوله تعالى:
k
(15/212)
---
{وتلك} مبتدأ ويبدل منه {حجتنا} وهي ما احتج به إبراهيم على قومه من قوله تعالى: {فلما جنّ عليه الليل} إلى قوله: {وهم مهتدون} أو من قوله تعالى: {أتحاجوني} إليه والخبر {آتيناها إبراهيم} أي: أرشدناه لها حجة {على قومه} ثم إنه سبحانه وتعالى لما تفضل على خليله صلى الله عليه وسلم برفعه على قومه قال تعالى: {نرفع درجات من نشاء} في العلم والحكمة، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتنوين التاء، والباقون بغير تنوين {إنّ ربك حكيم} في صنعه فيرفع من يشاء ويخفض من يشاء {عليم} بخلقه فهو الفعال لما يريد.(1/941)
{ووهبنا له} أي: إبراهيم {إسحق} أي: ابناً له {ويعقوب} أي: ابناً لإسحاق فهو ابن ابنه {كلاً} منهما ومن أبيهما {هدينا} إلى سبيل الرشاد ووفقناه إلى طريق الحق والصواب {ونوحاً هدينا} {من قبل} أي: قبل إبراهيم {ومن ذريته} أي: نوح لا إبراهيم لأنه تعالى ذكر في جملتهم يونس ولوطاً ولم يكونا من ذرّية إبراهيم، وقيل: الضمير لإبراهيم ويكون ذلك من باب التغليب فإنّ التغليب سائغ شائع في انتساب العرب {داود} وهو ابن إيشا هديناه وكان ممن آتاه الله الملك والنبوّة {وسليمان} هو ابن داود وهما اللذان بنيا بيت المقدس بأمر الله تعالى داود بخطه وتأسيسه وسليمان بإكماله وتشييده {وأيوب} هو ابن أموص بن رزاح بن روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم {ويوسف} هو ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
فإن قيل: لم قدم أيوب على يوسف مع أنّ يوسف أقرب منه؟ أجيب: بأنه قدمه للمناسبة بينه وبين سليمان لأنّ كلاً منهما ابتلي بأخذ كل ما في يده ثم ردّه الله تعالى إليه {وموسى} هو ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب {وهرون} هو أخو موسى أكبر منه بسنة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين {وكذلك} كما جزينا إبراهيم على توحيده وصبره على أذى قومه بأن رفعنا درجته ووهبنا له أولاداً أنبياء {نجزي المحسنين} على إحسانهم.
(15/213)
---(1/942)
{وزكريا} هو ابن أدن بن بركيا، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بغير همز، والباقون بالهمز {ويحيى} هو ابن زكريا {وعيسى} هو ابن مريم بنت عمران {وإلياس} قال ابن مسعود: هو إدريس وله اسمان مثل يعقوب وإسرائيل قال البغويّ: والصحيح أنه غيره لأنّ الله تعالى ذكره في ولد نوح وإدريس جدّ أبي نوح وهو إلياس بن ياسين بن فنحاس بن العيزار بن هارون بن عمران {كلّ} منهم {من الصالحين} أي: الكاملين في الصلاح وهو الإتيان بما ينبغي والتحرّز عما لا ينبغي {وإسمعيل} هو ابن إبراهيم وإنما أخر ذكره إلى هنا لأنه ذكر إسحاق وذكر أولاده من بعده على نسق واحد فلهذا السبب أخر ذكر إسماعيل إلى هنا {واليسع} هو أخطوب بن العجوز، وقرأ حمزة والكسائي بتشديد اللام وسكون الياء والباقون بسكون اللام وفتح الياء {ويونس} هو ابن متى {ولوطاً} هو ابن هاران أخي إبراهيم {وكلاً} منهم {فضلنا على العالمين} أي: بالنبوّة وفيه دليل على فضلهم على من عداهم من الخلق من أنس وملك ويستدلّ بهذه الآية من يقول إنّ الأنبياء أفضل من الملائكة وقوله تعالى:
{ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم} عطف على كلاً أو نوحاً ومن للتبعيض أي: وفضلنا بعض آبائهم وبعض ذرّياتهم وإخوانهم لأنّ آباء بعضهم كانوا مشركين وعيسى ويحيى لم يكن لهما ولد وكان في ذرّية بعضهم من كان كافراً كابن نوح وقوله تعالى: {واجتبيناهم} أي: اخترناهم، عطف على فضلنا أو هدينا {وهديناهم} أي: وأرشدناهم {إلى صراط مستقيم} هو الدين الحق.
{ذلك} أي: الذي هدوا إليه {هدى الله يهدي به من يشاء من عباده} سواء كان له أب يعلمه أو كان له من يحمله على الضلال أم لا فهو سبحانه وتعالى هو المتفضل بالهداية {ولو أشركوا} أي: ولو فرض إشراك هؤلاء الأنبياء بعد علوّ درجتهم وفضلهم {لحبط عنهم} أي: لفسد وسقط {ما كانوا يعملون} أي: لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم بسقوط ثوابها.
(15/214)
---(1/943)
{أولئك الذين آتيناهم الكتاب} أي: أولئك الذين سميناهم من الأنبياء وهم ثمانية عشر نبياً أعطيناهم الكتاب فالمراد بالكتاب الجنس {والحكم} أي: العمل المتقن بالعلم {والنبوّة} أي: وشرّفناهم بالنبوّة والرسالة {فإن يكفر بها} أي: بهذه الثلاثة {هؤلاء} أي: أهل مكة الذين أنت بين أظهرهم {فقد وكلنا بها} أي: وفقنا للإيمان بها والقيام بحقوقها {قوماً ليسوا بها بكافرين} كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه، واختلف في ذلك القوم فقال ابن عباس: هم الأنصار وأهل المدينة، وقال الحسن وقتادة: هم الأنبياء الثمانية عشر الذين تقدّم ذكرهم واختاره الزجاج، قال: والدليل عليه قوله تعالى:
{أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}، وقال عطاء العطاردي: هم الملائكة ونظر فيه لأنّ اسم القوم لا يطلق إلا على بني آدم، وقيل: الفرس، وقيل: هم المهاجرون والأنصار، واستظهر وقال ابن زيد: كل من لم يكفر فهو منهم سواء أكان ملكاً أم نبياً أم صحابياً أم تابعياً، والمراد بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد وأصول الدين دون الفروع المختلف فيها فإنها ليست هدى مضافاً إلى الكل ولا يمكن التأسي بهم جميعاً فليس فيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم متعبد بشرع من قبله، واستدلّ بعض العلماء بهذه الآية على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال: وبيانه أنّ جميع الخصال وصفات الشرف كانت متفرّقة فيهم فكان نوح صاحب احتمال على أذى قومه وكان إبراهيم صاحب كرم وبذل مجاهدة في الله عز وجلّ وكان إسحاق ويعقوب من أصحاب الصبر على البلاء والمحن وكان داود وسليمان من أصحاب الشكر على النعمة كما قال تعالى: {اعملوا آل داود شكراً} (سبأ، 13)
وكان أيوب صاحب صبر على البلاء كما قال تعالى: {إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنّه أواب} (ص، 44)
(15/215)
---(1/944)
وكان يوسف قد جمع بين الحالتين أي: الصبر والشكر وكان موسى صاحب الشريعة الظاهرة والمعجزات الباهرة وكان زكريا ويحيى وعيسى وإلياس من أصحاب الزهد في الدنيا وكان إسماعيل صاحب صدق وكان يونس صاحب تضرّع وإحسان ثم إن الله تعالى أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم وجمع له جميع الخصال المحمودة والمتفرّقة فثبت بهذا البيان أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء لما اجتمع فيه من الخصال التي كانت متفرّقة في جميعهم، اه.
وقرأ حمزة والكسائيّ بحذف الهاء في الوصل وحرّك الهاء بحركة مختلسة ابن عامر ومدّ على الهاء ابن ذكوان بخلاف عنه وسكن الهاء الباقون في الوصل وأما في الوقف فجميع القراء يثبتون الهاء ويسكنونها {قل} يا محمد لأهل مكة {لا أسألكم عليه} أي: القرآن أو التبليغ {أجراً} أي: لا أطلب على ذلك جعلاً {إن هو} أي: القرآن أو التبليغ {إلا ذكرى} أي: عظة {للعالمين} أي الإنس والجنّ.
(15/216)
---(1/945)
{وما قدروا} أي: اليهود {الله حق قدره} أي: ما عرفوه حق معرفته أو ما عظموه حق عظمته {إذ قالوا} للنبيّ صلى الله عليه وسلم وقد خاصموه في القرآن {ما أنزل الله على بشر من شيء} قال سعيد بن جبير جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم يخاصم النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أنّ الله تعالى يبغض الحبر السمين وكان حبراً سميناً» ـ والحبر بالفتح والكسر وهو أفصح العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه، قاله الجوهريّ ـ فغضب فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له قومه: ويلك ما هذا الذي بلغنا عنك، فقال: إنه أغضبني، فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف. وقال السدّي: نزلت في فنحاص بن عازوراء وهو قائل هذه المقالة، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: قالت اليهود: يا محمد أنزل الله تعالى عليك كتاباً، قال: نعم، قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتاباً. قال الله تعالى: {قل} لهم {من أنزل الكتاب} أي: التوراة {الذي جاء به موسى} أي: الذي أنتم تزعمون التمسك بشرعه حال كون الكتاب {نوراً} أي: ذا نور أي: ضياء من ظلمة الضلالة {وهدى} أي: ذا هدى {للناس} أي: يفرق بين الحق والباطل من دينهم وذلك قبل أن يبدّل ويغير {يجعلونه قراطيس} أي: يكتبونه في دفاتر مقطعة {يبدونها} أي: يظهرون ما يحبون إظهاره منها {ويخفون كثيراً} أي: مما كتبوه في القراطيس وهو ما عندهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ومما أخفوه أيضاً آية الرجم وكانت مكتوبة عندهم في التوراة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء في المواضع الثلاثة على الغيبة حملاً على قالوا وما قدروا، والباقون بالتاء على الخطاب وتضمن ذلك توبيخهم على سوء جهلهم للتوراة وذمّهم على تجزئتها بإبداء بعض انتخبوه وكتبوه في ورقات متفرّقة وإخفاء بعض لا يشتهونه. وقوله تعالى:(1/946)
(15/218)
---
{وعلمتم} أي: على لسان محمد صلى الله عليه وسلم {ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} خطاب لليهود أي: علمتم زيادة على ما في التوراة وبياناً لما التبس عليكم وعلى آبائكم الذين كانوا أعلم منكم، ونظيره أنّ هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون يذكرهم النعمة فيما عليهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: الخطاب لمن آمن من قريش. وقوله تعالى: {قل الله} أنزله راجع إلى قوله تعالى: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} أي: فإن أجابوك بأنّ الله أنزله فذاك وإلا فقل أنت الله أنزله إذ لا جواب غيره {ثم ذرهم} أي: اتركهم {في خوضهم} أي: باطلهم {يلعبون} أي: يستهزؤن ويسخرون، وفيه وعيد تهديد للمشركين وقال بعضهم: هذا منسوخ بآية السيف
{
وهذا} أي: القرآن {كتاب أنزلناه مبارك} أي: كثير الخير والبركة دائم النفع يبشر المؤمنين بالثواب والمغفرة ويزجر عن القبيح والمعصية، وأصل البركة النماء والزيادة وثبوت الخير {مصدّق الذي بين يديه} أي: قبله من الكتب الإلهية المنزلة من السماء على الأنبياء لأنها مشتملة على التوحيد والتنزيه لله تعالى وعلى البشارة والنذارة فثبت بذلك كون القرآن مصدقاً لجميع الكتب المنزلة، وقوله تعالى: {ولينذر} قرأه شعبة بالياء على الغيبة أي: لينذر الكتاب، والباقون بالتاء على الخطاب أي: ولتنذر يا محمد {أمّ القرى} أي: أهل مكة وسميت أمّ القرى لأنها قبلة أهل القرى ومحجهم ومجتمعهم وأعظم القرى شأناً ولبعض المجاورين:
*فمن يلق في بعض القريات رحله ** فأمّ القرى ملقى رحالي ومنتابي*
(15/219)
---(1/947)
وقيل: لأنّ الأرض دحيت من تحتها أو لأنها مكان أوّل بيت وضع للناس {ومن حولها} أي: جميع البلاد والقرى التي حولها شرقاً وغرباً {والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به} لأن من صدق بالآخرة خاف العاقبة ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر حتى يؤمن بالنبيّ والكتاب والضمير يحتملهما ويحافظ على الطاعة، وتخصيص الصلاة في قوله تعالى {وهم على صلاتهم يحافظون} لأنها عماد الدين وعلم الإيمان ومن حافظ عليها كانت لطفاً له في المحافظة على أخواتها.
(15/220)
---(1/948)
{ومن} أي: لا أحد {أظلم ممن افترى} أي: اختلق {على الله كذباً} فزعم أنّ الله بعثه نبياً كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي، أو اختلق عليه أحكاماً كعمرو بن لحيّ ومتابعيه {أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء} قال قتادة: نزلت في مسيلمة الكذاب من بني حنيفة وكان يسجع ويتكهن فادّعى النبوّة وزعم أنّ الله تعالى أوحى إليه وكان قد أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتشهدان أن مسيلمة نبيّ» قالا: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لولا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما» وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا نائم إذا أوتيت خزائن الأرض فوضع في يديّ سواران من ذهب فكبرا عليّ وأهماني فأوحى الله تعالى إلي أن أنفحهما فنفحتهما فطارا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة مسيلمة الكذاب» وفي لفظ الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت في المنام كان في يدي سوارين فأولتهما كذابين يخرجان بعدي يقال لأحدهما مسيلمة صاحب اليمامة والعنسي صاحب صنعاء» وقوله صلى الله عليه وسلم «فأوحى الله إلي أن أنفحهما» بالحاء المهملة ومعناه الرمي والدفع من نفحت الدابة برجلها ويروى بالخاء المعجمة من النفخ وهو قريب من الأوّل فأمّا مسيلمة الكذاب فإنه ادعى النبوّة في اليمامة وتبعه قوم من بني حنيفة وقتل في خلافة أبي بكر قتله وحشيّ قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما وكان يقول: قتلت خير الناس يعني: حمزة، وقتلت شرّ الناس يعني: مسيلمة الكذاب، قتل الأوّل وهو كافر وقتل الثاني وهو مسلم، وأمّا الأسود العنسي بالنون ويقال له: ذو الحمار، ادعى النبوّة باليمن في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل في حياته صلى الله عليه وسلم قبل موته بيومين وأخبر صلى الله عليه وسلم أصحابه بقتله، قتله فيروز الديلميّ فقال صلى الله عليه وسلم(1/949)
(15/221)
---
«فاز فيروز بقتل الأسود العنسي» {ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} قال السدّي: نزلت في عبد الله بن أبي سرح وكان قد أسلم وكان يكتب للنبيّ صلى الله عليه وسلم فكان إذا أملى عليه صلى الله عليه وسلم سميعاً بصيراً كتب عليماً حكيماً وإذا أملى عليه عليماً حكيماً كتب غفوراً رحيماً فلما نزلت {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} (المؤمنين،12)
أملاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال تبارك الله أحسن الخالقين فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «اكتبها هكذا نزلت» فشك عبد الله بن سرح وقال لئن كان محمد صادقاً فقد أوحي إليّ مثل ما أوحي إليه فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ثم رجع بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم قبل فتح مكة حين نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرّ الظهران وقال ابن عباس: ومن قال: سأنزل مثل ما أنزل الله يريد المستهزئين وهو جواب لقولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا، قال العلماء: وقد دخل في حكم هذه الآية كل من افترى على الله كذباً في ذلك الزمان وبعده لأنّ خصوص السبب لا يمنع عموم الحكم
{ولو ترى} يا محمد {إذ الظالمون} حذف مفعوله لدلالة الظرف عليه، أي: ولو ترى الظالمين المذكورين {في غمرات} أي: شدائد {الموت} من غمره الماء إذا غشيه فاستعير للشدة الغالبة {والملائكة باسطو أيديهم} أي: لقبض أرواحهم كالمتقاضي الملازم لغريمه لا يفارقه، أو بالعذاب أو الضرب يضربون وجوههم وأدبارهم يقولون لهم تعنيفاً: {أخرجوا أنفسكم} إلينا لنقبضها.
(15/222)
---(1/950)
فإن قيل: إنه لا قدرة لأحد على إخراج روحه من بدنه فما فائدة هذا؟ أجيب: بأنهم يقولون لهم: أخرجوها كرهاً لأن المؤمن يحب لقاء الله بخلاف الكافر، وقيل: يقولون لهم: خلصوا أنفسكم من هذا العذاب إن قدرتم على ذلك فيكون هذا القول توبيخاً لهم لأنهم لا يقدرون على خلاص أنفسهم من العذاب في ذلك الوقت {اليوم تجزون عذاب الهون} أي: الهوان {بما كنتم تقولون على الله غير الحق} أي: كادعاء الولد والشريك له تعالى ودعوى النبوّة والإيحاء كذباً {وكنتم عن آياته تستكبرون} أي: تتكبرون عن الإيمان بها وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمراَ فظيعاً.
(15/223)
---(1/951)
{و} يقال لهم إذا بعثوا للحساب والجزاء {لقد جئتمونا فرادى} أي: منفردين عن الأهل والمال والولد وسائر ما آثرتموه من الدنيا أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم وهو جمع فرد والألف للتأنيث ككسالى وفي هذا تقريع وتوبيخ لهم لأنهم صرفوا هممهم في الدنيا إلى تحصيل المال والولد والجاه وأفنوا أعمارهم في عبادة الأصنام فلم يغن عنهم ذلك شيئاً يوم القيامة فبقوا فرادى عن كل ما حصلوه في الدنيا {كما خلقناكم أوّل مرّة} أي: حفاة عراة، غرلاً، روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قرأت هذه الآية فقالت يا رسول الله واسوأتاه إنّ الرجال والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لكلّ امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال» وروي عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الناس حفاة عراة غرلاً» أي: غير مختونين، وفي رواية زيادة على ذلك بهما، قال الجوهري وغيره: أي: ليس معهم شيء، قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت: الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الأمر أشدّ أن يهمهم ذلك» {وتركتم ما خوّلناكم} أي: ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة {وراء ظهوركم} أي: في الدنيا فما أغنى عنكم ما كنتم منه تستكثرون {و} يقال لهم توبيخاً {ما نرى معكم شفعاءكم} أي: الأصنام {الذين زعمتم أنهم فيكم} أي: في استحقاق عبادتكم {شركاء} أي: لله وقوله تعالى: {لقد تقطع بينكم} قرأه نافع وحفص والكسائيّ بنصب النون أي: لقد تقطع ما بينكم من الوصل، والباقون بالرفع أي: لقد تقطع وصلكم والبين من الأضداد يستعمل للوصل والفصل {وضلّ} أي: ذهب {عنكم ما كنتم تزعمون} أي: من أنها شفعاؤكم أو أن لا بعث ولا جزاء.
(15/224)
---(1/952)
{إن الله فالق} أي: شاق {الحبّ} أي: عن النبات {والنوى} أي: عن النخل وقيل: المراد الشق الذي في الحنطة والنواة، والحبّ جمع الحبة وهو اسم لجميع البزور والحبوب من البرّ والشعير والذرة وكل مالم يكن له نوى والنوى جمع نواة وهي كل ما لم يكن حباً كالتمر والمشمس وغيرهما، وقال الضحاك: فالق الحبّ والنوى يعني خالق الحبّ والنوى {يخرج الحيّ من الميت} أي: كالإنسان من النطفة والطائر من البيضة {ومخرج الميت من الحيّ} كالنطفة من الإنسان والبيضة من الطائر.
تنبيه: مخرج معطوف على فالق كما قاله الزمخشريّ ويصح عطفه على يخرج لأن عطف الاسم المشابه للفعل على الفعل صحيح كعكسه وهو عطف الفعل على الاسم الشبيه بالفعل كقوله تعالى: {إن المصدّقين والمصّدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً} (الحديد،18)
فأقرضوا معطوف على المصدّقين لشبهه بالفعل لكونه اسم فاعل ومخرج شبيه بالفعل لكونه اسم فاعل، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائيّ بتشديد الياء، والباقون بالتخفيف {ذلكم} المحيي والمميت، هو {ا} الذي تحق له العبادة {فأنى} أي: فكيف {تؤفكون} أي: تصرفون عن الحق فتعبدون غير الله الذي هو خالق الأشياء، كلها، وقوله تعالى:
(15/226)
---(1/953)
{فالق الإصباح} مصدر بمعنى الصبح أي: شاق عمود الصبح وهو أوّل ما يبدو من النهار عن ظلمة الليل أو شاق ظلمة الأصباح وهو الغبش الذي عليه في آخر الليل {وجاعل الليل سكناً} أي: يسكن فيه الخلق راحه لهم، قال ابن عباس: إذ كل ذي روح يسكن فيه لأنّ الإنسان قد أتعب نفسه فاحتاج إلى زمان يستريح فيه ليسكن فيه عن الحركة وذلك هو الليل، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بنصب العين واللام ولا ألف قبل العين على الماضي حملاً على معنى المعطوف عليه فإن فالق بمعنى فلق، والباقون بكسر العين ورفع اللام وألف قبل العين وقوله تعالى: {والشمس والقمر} منصوبان بإضمار فعل دلّ عليه جاعل الليل أي: وجعل الشمس والقمر {حسباناً} أي: حساباً للأوقات أو الباء محذوفة وهو حال من مقدر أي: يجريان بحسبان كما في آية الرحمن وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى ما تقدّم ذكره في هذه الآية من الأشياء التي خلقها بقدرته وكمال علمه وهو المراد بقوله: {تقدير العزيز العليم} فالعزيز إشارة إلى كمال قدرته والعليم إشارة إلى كمال علمه {وهو الذي جعل} أي: خلق {لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البرّ والبحرّ} أي: في ظلمات الليل في البرّ والبحر وإضافتها إليهما للملابسة أو في مشتبهات الطرق وسماها ظلمات على الاستعارة وهو إفراد لبعض منافعها بالذكر بعدما أجملها بقوله: لكم، ومن منافعها أنها زينة للسماء كما قال تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح} ومنها رمي الشياطين كما قال تعالى: {وجعلناها رجوماً للشياطين} (الملك، 5)
{قد فصلنا} أي: بينا {الآيات} أي: الدالات على قدرتنا وتوحيدنا {لقوم يعلمون} أي: يتدبرون فإنهم المنتفعون به
(15/227)
---(1/954)
{وهو الذي أنشأكم} أي: خلقكم {من نفس واحدة} أي: من آدم عليه الصلاة والسلام فهو أبو البشر كلهم وحوّاء مخلوقة منه وعيسى أيضاً لأنّ ابتداء خلقه من مريم وهي من بنات آدم فثبت أنّ جميع البشر من آدم عليه السلام {فمستقرّ ومستودع} أي: فمستقرّ في الرحم ومستودع في القبر إلى أن يبعث أو فمستقر في أرحام الأمّهات ومستودع في أصلاب الآباء، قال سعيد بن جبير: قال لي ابن عباس: هل تزوّجت؟ قلت: لا، قال: أما إنه ما كان مستودعاً في ظهرك فسيخرجه الله عز وجلّ أو مستقرّ في الرحم ومستودع فوق الأرض قال تعالى: {ونقرّ في الأرحام ما نشاء} أو فمستقرّ على وجه الأرض ومستودع عند الله في الآخرة أو فمستقرّ في القبر ومستودع في الدنيا وكان الحسن يقول: يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك يوشك أن تلحق بصاحبك أو فمستقرّ في القبر ومستودع في الجنة أو النار قال تعالى في صفة الجنة: حسنت مستقرّاً وفي صفة النار وساءت مستقرّاً، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر القاف على اسم الفاعل والمستودع مفعول أي: فمنكم قار ومنكم مستودع لأنّ الاستقرار من الله تعالى دون الاستيداع لأنّ الاستقرار في الأصلاب أو فوق الأرض، لا صنع للعبد فيه بخلاف الاستيداع في الأرحام أو تحت الأرض، والباقون بالنصب {قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون} أي: يفهمون ما يقال لهم ذكر مع ذكر النجوم يعلمون لأنّ أمرها ظاهر وذكر مع تخليقه بني آدم يفقهون لأنّ إنشاءهم من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى استعمال فطنة وتدقيق نظر {وهو الذي أنزل من السماء ماء} أي: مطراً وهو من السحاب أو من جانب السماء، وقيل: إنّ الله تعالى ينزله من السماء إلى السحاب ثم من السحاب إلى الأرض {فأخرجنا به} أي: بالماء وفي ذلك التفات حيث لم يقل فأخرج على وفق أنزل {نبات كلّ شيء} أيّ شيء ينبت وينمو من جميع أصناف النبات فالسبب واحد وهو الماء والمسيبات صنوف متفرّقة كما قال تعالى: {يسقى بماء واحد(1/955)
(15/228)
---
ونفضل بعضها على بعض في الأكل} (الرعد، 4)
{فأخرجنا منه} أي: من النبات أو الماء {خضراً} أي: شيئاً أخضر يقال: أخضر وخضر مثل أعور وعور والأخضر هو جميع البقول والزروع والبقول الرطبة {نخرج منه} أي: الخضر {حباً متراكباً} أي: يركب بعضه بعضاً كسنابل الحنطة والشعير والأرز والذرة وقوله تعالى: {ومن النخل} خبر مقدّم ويبدل منه {من طلعها} وهو أوّل ما يخرج منها والمبتدأ {قنوان} أي: عراجين {دانية} أي: قريبة من التناول يتناولها النائم والقاعد أو قريب بعضها من بعض وإنما اقتصر على ذكرها عن مقابلها وهي البعيدة لدلالتها عليها كقوله تعالى {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل، 81)
(15/229)
---(1/956)
أي: والبرد واكتفى بذكر أحدهما وحكمة تخضيص دانية بالذكر زيادة النعمة فيها وقوله تعالى: {وجنات} عطف على نبات كلّ شيء أي: وأخرجنا به بساتين {من أعناب} وقوله تعالى: {والزيتون والرمّان} عطف أيضاً على نبات أي: وأخرجنا به شجر الزيتون والرمّان {مشتبهاً وغير متشابه} قال قتادة: معناه مشتبهاً ورقها مختلفاً ثمرها لأن ورق الزيتون يشتبه ورق الرمان، وقيل: مشتبهاً في النظر مختلفاً في الطعم والله سبحانه ذكر في هذه الآية أربعة أنواع من الشجر بعد ذكر الزرع وقدّم الزرع على سائر الأشجار لأنّ الزرع غذاء وثمار الأشجار فواكه والغذاء مقدّم على الفواكه وقدم النخل على غيرها لأنّ ثمرها يجري مجرى الغذاء وفيها من المنافع والخواص ما ليس في غيرها من الأشجار قال بعضهم وليس لنا أنثى من الشجر تحتاج إلى ذكر غير النخل أي: في تطييب ثمرها وذكر العنب عقب النخل لأنه من أشرف أنواع الفواكه ثم ذكر عقبه الزيتون لما فيه من البركة والنفع ثم ذكر بعده الرمان لما فيه من المنافع أيضاً {انظروا} أيها المخاطبون نظر اعتبار {إلى ثمره} قرأ حمزة والكسائيّ بضمّ الثاء والميم، والباقون بالنصب، وهو جمع ثمرة كشجرة وشجر وخشبة وخشب {إذا أثمر} أي: حين يبدو من أكمامه ضعيفاً قليل النفع أو عديمه {و} انظروا إلى {ينعه} أي: إلى إدراكه إذا أدرك وحان قطفه كيف يصير ذا نفع ولذة والمعنى انظروا نظر استدلال واعتبروا كيف أخرج الله هذه الثمرة اللطيفة من هذه الشجرة الكثيفة اليابسة وهو قوله تعالى: {إنّ في ذلكم لآيات} أي: دلالات على قدرته تعالى على البعث وغيره فإنّ حدوث الأجناس المختلفة والأنواع المفننة من أصل واحد ونقلها من حال إلى حال لا يكون إلا بإحداث قادر يعلم تفاصيلها ويرجح ما تقتضيه حكمته مما يمكن من أحوالها ولا يعوقه عن فعله ندّ يعارضه أو ضد يعانده وخص المؤمنين بالذكر بقوله: {لقوم يؤمنون} لأنهم المنتفعون بها بخلاف الكافرين ولذلك عقبه بتوبيخ من(1/957)
(15/230)
---
أشرك به والردّ عليه فقال تعالى:
{وجعلوا شركاء الجنّ} أي: الشياطين لأنهم أطاعوهم في عبادة الأوثان فجعلوها شركاء الله.
فإن قيل: لله مفعول ثان لجعلوا وشركاء مفعول أوّل ويبدل منه الجنّ فما فائدة التقديم؟ أجيب: بأنّ فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك من جنّ أو إنس أو ملك فلذلك قدم اسم الله تعالى على الشركاء، وقيل: المراد بالجنّ الملائكة بأن عبدوهم وقالوا: الملائكة بنات الله وسماهم جناً لاجتنانهم تحقيراً لشأنهم، وقال الكلبيّ: نزلت في الزنادقة أثبتوا الشركة لإبليس في الخلق فقالوا: الله خالق النور والناس والدواب والأنعام وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب فيقولون: هو شريك الله في تدبير هذا العالم فما كان من خير فمن الله وما كان من شر فمن إبليس تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً وقوله تعالى: {وخلقهم} حال بتقدير قد والضمير إمّا أن يعود إلى الجنّ فيكون المعنى والله خلق الجنّ فكيف يكون شريك الله عز وجلّ محدثاً مخلوقاً وإمّا أن يعود إلى الجاعلين لله شركاء فيكون المعنى وجعلوا لله الذي خلقهم شركاء لا يخلقون شيئاً وهذا كالدليل القاطع بأنّ المخلوق لا يكون شريكاً لله وكل ما في الكون محدث مخلوق والله تعالى خالق لجميع ما في الكون فامتنع أن يكون لله شريك في ملكه {وخرقوا} قرأه نافع بتشديد الراء، والباقون بالتخفيف، أي: اختلقوا {له بنين وبنات بغير علم} وهو قول أهل الكتابين في المسيح وعزير وقول قريش في الملائكة يقال: خلق الإفك وخرقه واختلقه واخترقه بمعنى وسئل الحسن عنه فقال: كلمة غريبة كانت العرب تقولها، كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله {سبحانه} تنزيهاً له {وتعالى عما يصفون} بأن له شريكاً أو ولداً
(15/231)
---(1/958)
{بديع السموات والأرض} أي: مبتدعهما من غير سبق مثال ورفع بديع على الخبر والمبتدأ محذوف أي: هو بديع أو على الابتداء والخبر {أنى يكون له ولد} أي: من أين يكون له ولد {ولم تكن له صاحبة} يكون منها الولد لأنّ الولد لا يكون إلا من صاحبة أنثى {وخلق كل شيء} أي: من شأنه أن يخلق {وهو بكل شيء عليم} لا تخفى عليه خافية، وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجوه: الأوّل: إنه مبدع السموات والأرض وهي أجسام عظيمة من جنس ما يوصف بالولادة لكونها مخلوقة لا يستقيم أن توصف بالولادة لاستمرارها وطول مدّتها ومخترع الأجسام لا يكون جسماً حتى يكون والدا، الثاني: أن الولادة لا تكون إلا من ذكر وأنثى مجانسين وهو متعال عن مجانس فلم يصح أن تكون له صاحبة فلم تصح الولادة، والثالث: أنه ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به ومن كان بهذه الصفة كان غنياً عن كل شيء والولد إنما يطلبه المحتاج، وقوله تعالى:
(15/232)
---(1/959)
{ذلكم} إشارة إلى الموصوف بما سبق من الصفات وهو مبتدأ وقوله تعالى: {الله ربكم لا إله إلا هو خالق كلّ شيء} أخبار مترادفة ويجوز أن يكون البعض في غير الله تعالى بدلاً أو صفة لأنّ الله تعالى أوّل وليس بصفة والبعض خبراً وقوله تعالى: {فاعبدوه} مسبب عن مضمون ذلك فإنّ من استجمع هذه الصفات استحق العبادة {وهو على كل شيء وكيل} أي: وهو مع تلك الصفات مالك لكل شيء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال فيجازي عليها {لا تدركه الأبصار} جمع بصر وهي حاسة النظر وقد يقال للعين من حيث إنها محلها والإدراك إحاطة بكنه الشيء وحقيقته وتمسك بظاهر هذه الآية قوم من أهل البدع وهم الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة وقالوا: إنّ الله تبارك وتعالى لا يراه أحد من خلقه وإن رؤيته مستحيلة عقلاً لأنّ الله تعالى أخبر أنّ الأبصار لا تدركه وإدراك البصر عبارة عن الرؤية إذ لا فرق بين قولك أدركته ببصري ورأيته ببصري فثبت بذلك أنّ لا تدركه الأبصار بمعنى لا تراه الأبصار وهذا يفيد العموم ومذهب أهل السنة إن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة واستدلوا لمذهبهم بأشياء من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ومن بعدهم من السلف فمن الكتاب قوله تعالى: {وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة} (القيامة 22، 23)
ففي هذه الآية دليل على أنّ المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وقال تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون} (المطفقين، 15)
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: حجب قوماً بالمعصية وهي الكفر فثبت أنّ قوماً يرونه بالطاعة وهي الإيمان، وقال مالك رضي الله تعالى عنه: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير الله تعالى الكفار بالحجاب وقال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (يونس ،26)
(15/234)
---(1/960)
وهذه الزيادة مفسرة بالنظر إلى الله تعالى يوم القيامة ومن السنة ما روي عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} (طه، 13)
ومنها أنّ ناساً قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل تضامون في القمر ليلة البدر ـ أي: هل تشكّون؟ » قالوا: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فإنكم ترونه كذلك» وعن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه مخلياً به يوم القيامة؟ قال: «نعم» قلت: وما آية ذلك من خلقه؟ قال: «يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخلياً به؟» قلت: بلى، قال: «فالله أعظم إنما هو خلق من خلق الله ـ أي: القمر ـ فالله أعظم وأجل» واحتج أهل السنة أيضاً على جواز رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة بقول كليم الله موسى عليه السلام: {رب أرني أنظر إليك} (الأعراف، 143)
إذ لا يسأل نبيّ ما لا يجوز أو يمتنع وقد علق الله تعالى الرؤية على استقرار الجبل بقوله تعالى: {فإن استقرّ مكانه فسوف تراني} (الأعراف، 143)
واستقرار الجبل جائز والمعلق على الجائز جائز وأمّا قول المتمسكين بظاهر الآية وإنّ الإدراك بمعنى الرؤية فممنوع لأنّ الإدراك هو الوقوف على كنه الشيء والإحاطة به والرؤية المعاينة وقد تكون المعاينة بلا إدراك قال الله تعالى في قصة موسى عليه السلام: {قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا} (الشعراء، 61)
(15/235)
---(1/961)
وكان قوم فرعون قد رأوا قوم موسى ولم يدركوهم فنفى موسى عليه السلام الإدراك مع ثبوت الرؤية فالله تعالى يصح أن يرى من غير إدراك ولا إحاطة كما يعرف في الدنيا ولا يحاط به قال تعالى: {ولا يحيطون به علماً} فنفي الإحاطة مع ثبوت العلم، قال سعيد بن المسيب: لا تحيط به الأبصار وقال عطاء: كلت أبصار، المخلوقين عن الإحاطة به، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومقاتل: لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يرى في الآخرة، وظاهر هذا التسوية بين الإدراك والرؤية ويدل على هذا التخصيص قوله تعالى: {وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة} (القيامة، 22، 23)
فقوله: ناظرة مقيد بيوم القيامة ويكون هذا جمعاً بين الآيتين {وهو يدرك الأبصار} أي: يراها أو يحيط بها علماً فلا يخفى عليه شيء ولا يفوته شيء {وهو اللطيف الخبير} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: اللطيف بأوليائه الخبير بهم،
وقال الزهري: اللطيف الرفيق بعباده، وقيل: اللطيف الموصل الشيء بالرفق واللين، وقيل: اللطيف الذي ينسي العباد ذنوبهم لئلا يخجلوا.
{قد جاءكم بصائر} جمع بصيرة أي: حجج {من ربكم} تبصرون بها الهدى من الضلالة والحق من الباطل {فمن أبصر} أي: عمل بالأدلة {فلنفسه} أي: خاصة إبصاره لأنه خلصها من الضلال إلى الهدى {ومن عمي} أي: لم يهد بالأدلة {فعليها} أي: خاصة عماه لأنه يضل فلا يضر إلا نفسه {وما أنا عليكم بحفيظ} أي: برقيب لأعمالكم وإنما أنا منذر والله تعالى هو الرقيب عليكم يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها.
(15/236)
---(1/962)
{وكذلك} أي: كما بينا ما ذكر {نصرّف} أي: نبيّن {الآيات} من حال إلى حال في المعاني المتنوّعة سالكين من وجوه البراهين بما يفوت القوى ويعجز القدر ليعتبروا {وليقولوا} اعتذاراً عند ظهور عجزهم {دارست} قرأ ابن كثير وأبو عمرو بألف بين الدال والراء أي: ذاكرت أهل الكتاب، والباقون بغير ألف أي: درست كتب الماضين وجئت بهذا منها، وقرأ ابن عامر بفتح السين وسكون التاء من الدروس أي: هذه الآيات التي تتلوها علينا قديمة قد درست وانمحت كقولهم: أساطير الأوّلين، وقيل: اللام فيه لام العاقبة أي: عاقبة أمرهم أن يقولوا: دارست أي: قرأت على غيرك، وقيل: قرأت كتب أهل الكتاب كقوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً} (القصص، 8)
{ولنبينه} أي: الآيات وذكر الضمير لأنها في معنى القرآن كأنه قيل: وكذلك نصرّف القرآن أو القرآن وإن لم يجر له ذكر لكونه معلوماً أو إلى التبيين الذي هو مصدر الفعل كقولهم: ضربته زيداً {لقوم يعلمون} فإنهم المنتفعون به.
وقوله تعالى:
{اتبع} خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي: اتبع يا محمد {ما أوحي إليك} أي: القرآن فالزم العمل به، ثم أكد مدحه بقوله: {من ربك} أي: المحسن إليك بهذا البيان، وقوله تعالى: {لا إله إلا هو} اعتراض أكد به إيجاب الاتباع لما في كلمة التوحيد من التمسك بحبل الله والاعتصام به والإعراض عما سواه، وقول البيضاوي: أو حال مؤكدة من ربك بمعنى منفرداً في الألوهية مبني على جواز تأكيد الجملة الفعلية بالإسمية وهو نادر {وأعرض عن المشركين} ولا تحتفل بأقوالهم ولا تلتفت إلى رأيهم، ومن جعله منسوخاً بآية السيف حمل الإعراض على ما يعمّ الكف عنهم.
(15/237)
---(1/963)
{ولو شاء الله} إيمانهم وعدم إشراكهم {ما أشركوا} وهذا نص صريح في أن شركهم كان بمشيئة الله تعالى خلافاً للمعتزلة في قولهم: لم يرد الله من أحد الكفر والشرك والآية ردّ عليهم {وما جعلناك عليهم حفيظاً} أي: رقيباً فتجازيهم بأعمالهم {وما أنت عليهم بوكيل} أي: فتجبرهم على الإيمان وهذا قبل الأمر بالقتال.
{ولا تسبوا الذين يدعون} أي: يعبدون {من دون الله} وهي الأصنام أي: ولا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح {فيسبوا الله عدواً} أي: اعتداءً وظلماً {بغير علم} أي: جهلاً منهم بالله وبما يجب أن يذكر به.
(15/238)
---(1/964)
روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يطعن في آلهتهم فقالوا: لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون إلهك فنزلت وقال السدي: لما حضرت أبا طالب الوفاة قالت قريش: انطلقوا فلندخلنّ على هذا الرجل فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته فتقول العرب: كان يمنعه عمه فلما مات قتلوه، فانطلق أبو سفيان وأبو جهل وأبي بن خلف ومعهم جماعة إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإنّ محمداً قد أذانا وآلهتنا فنحب أن تدعوه وتنهاه عن ذكر آلهتنا وندعه وإلهه، فطلبه وقال: هؤلاء قومك وبنو عمك يقولون: نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك وقد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم» فقال أبو جهل: نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها فما هي؟ قال: «قولوا لا إله إلا الله» فأبوا ونفروا، فقال أبو طالب: قل غيرها يا ابن أخي، فقال: «يا عمّ ما أنا بالذي أقول غيرها» فقالوا: لتكفن عن سبك آلهتنا أو لنشتمنك ومن يأمرك، فنزلت. وقيل: كان المسلمون يسبونها فنهوا لئلا يكون سبهم سبباً لسبّ الله تعالى وفيه دليل على أنّ الطاعة إذا أدّت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدّي إلى الشرّ شر {كذلك} أي: كما زينا لهؤلاء ما هم عليه من عبادة الأوثان وطاعة الشيطان بالحرمان والخذلان {زينا لكل أمّة عملهم} أي: من الخير والشرّ بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقاً وتخذيلاً، وفي هذه الآية دليل على تكذيب القدرية والمعتزلة حيث قالوا: لا يحسن من الله تعالى خلق الكفر وتزيينه فهو الفعال لما يريد لا يسئل عما يفعل {ثم إلى ربهم مرجعهم} في الآخرة {فينبئهم بما كانوا يعملون} في الدنيا فيجازيهم به.
{واقسموا} أي: كفار مكة {با جهد أيمانهم} أي: غاية اجتهادهم فيها {لئن جائتهم آية} أي: مما اقترحوه {ليؤمنن بها}.
(15/239)
---(1/965)
روي أنّ قريشاً قالوا: يا محمد إنك تخبرنا أنّ موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فينفجر منه الماء اثنتي عشرة عيناً وتخبرنا أنّ عيسى كان يحيي الموتى فأتنا من الآيات حتى نصدقك فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «أي شيء تحبون؟» قالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً وتبعث لنا بعض أمواتنا حتى نسأله عنك أحق ما تقول أم باطل؟ وأرنا الملائكة يشهدون لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني؟» قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين وسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يجعل الصفا ذهباً فجاء جبريل عليه السلام فقال: يا رسول الله لك ما شئت إن شئت أصبح ذهباً ولكن إن لم يصدقوا ليعذبنهم الله وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل يتوب تائبهم» فنزلت، قال الله تعالى: {قل} لهم {إنما الآيات عند الله} ينزلها كيف يشاء وإنما أنا نذير {وما يشعركم} أي: وما يدريكم أيها المسلمون بإيمانهم إذا جاءت فإنهم كانوا يتمنون مجيء الآية طمعاً في إيمانهم أي: أنتم لا تدرون ذلك {إنها إذا جاءت لا يؤمنون} لما سبق في علمي.
وقرأ أبو عمرو بسكون الراء، وروي عن الدوري اختلاس الضم وكسر الهمزة من إنها ابن كثير وأبو عمرو على الابتداء وقالا: تم الكلام عند قوله تعالى: {وما يشعركم} والباقون بالفتح فهي بمعنى لعل وهو شائع في كلام العرب: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً، بمعنى لعلك، ومنه قول عدي بن زيد:
*أعاذل ما يدريك أنّ منيتي ** إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد*
أي: لعل منيتي. وقرأ ابن عامر وحمزة: لا تؤمنون، بالتاء خطاباً للكفار، والباقون بالياء على الغيبة.
(15/240)
---(1/966)
{ونقلب أفئدتهم} أي: ونحوّل قلوبهم عن الحق فلا يفقهونه {و} نقلب {أبصارهم} عن الحق فلا يبصرونه فلا يؤمنون لأنّ الله تعالى إذا صرف القلوب والأبصار عن الإيمان بقيت على الكفر {كما لم يؤمنوا به} أي: بما أنزل من الآيات {أوّل مرّة} أي: التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل انشقاق القمر وغيره من المعجزات الباهرات. وقيل: معجزات موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كقوله تعالى: {أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل} (القصص، 48).
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ المرّة الأولى دار الدنيا أي: لوردوا من الآخرة إلى الدنيا نقلب أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان كما لم يؤمنوا في الدنيا قبل مماتهم كما قال تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} (الأنعام، 28)
{ونذرهم} أي: نتركهم {في طغيانهم} أي: ضلالهم {يعمهون} أي: يتردّدون متحيرين لا نهديهم هداية المتقين.
(15/241)
---
{ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى} كما اقترحوا {وحشرنا} أي: جمعنا {عليهم كل شيء قبلاً} قرأ نافع وابن عامر بكسر القاف وفتح الباء أي: معاينة فشهدوا بصدقك، والباقون بضم القاف والباء جمع قبيل أي: فوجاً فوجاً {ما كانوا ليؤمنوا} لما سبق في علم الله، وقوله تعالى: {إلا أن يشاء الله} استثناء منقطع أي: لكن إن شاء الله إيمانهم فيؤمنون أو استثناءً من أعمّ الأحوال أي: لا يؤمنون في حال إلا حال مشيئة الله تعالى إيمانهم {ولكن أكثرهم يجهلون} أي: إنهم لو أتوا بكل آية لم يؤمنوا فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم لأنّ بعضهم معاند مع أنّ مطلق الجهل يعمهم فيشمل المعاند أو لكنّ أكثر المسلمون يجهلون أنهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآية طمعاً في إيمانهم.(1/967)
{وكذلك} أي: ومثل ما جعلنا لك أعداء من كفار الإنس والجنّ {جعلنا لكل نبيّ} أي: ممن كان قبلك {عدواً} ويبدل منه {شياطين} أي: مردة {الإنس والجنّ} وفي هذا دليل على أنّ عداوة الكفرة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بفعل الله تعالى وخلقه {يوحي} أي: يوسوس {بعضهم} أي: الشياطين من النوعين {إلى بعض زخرف القول} أي: مموهه من الباطل {غروراً} أي: لأجل أن يغروهم بذلك {ولو شاء ربك} إيمانهم {ما فعلوه} أي: هذا الذي أنبأتك به من عداوتهم وما تفرع عليها وفي هذا دليل أيضاً {فذرهم} أي: اترك الكفرة على أيّ حالة اتفقت {وما يفترون} من الكفر وغيره مما زين لهم وهذا قبل الأمر بالقتال، وقوله تعالى:
(15/243)
---
{ولتصغى} عطف على غروراً إن جعل علة أي: ولتميل ميلاً قوياً {إليه} أي: الزخرف الباطل {أفئدة} أي: قلوب {الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي: ليس في طبعهم الإيمان بها لأنها غيب واهم لبلادتهم واقفون مع وهمهم ولذلك استولت عليهم الدنيا التي هي من أصل الغرور أو متعلق بمحذوف أي: وليكون ذلك جعلنا لكل نبيّ عدواً، والمعتزلة لما اضطروا فيه قالوا: اللام لام العاقبة وهو قول الزمخشريّ في كشافه إنّ اللام للصيرورة {وليرضوه} أي: الزخرف الباطل لأنفسهم {وليقترفوا} أي: يكتسبوا {ما هم مقترفون} من الآثام فيعاقبوا عليها ونزل لما قال مشركوا قريش للنبيّ صلى الله عليه وسلم اجعل بيننا وبينك حكماً من أحبار اليهود وإن شئت من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك.
(15/244)
---(1/968)
{أفغير الله} أي: قل لهم يا محمد أفغير الله {أبتغي} أي: أطلب {حكماً} أي: قاضياً بيني وبينكم {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب} أي: الأكمل المعجز وهو هذا القرآن الذي هو تبيان لكل شيء {مفصلاً} أي: مبيناً فيه الحق من الباطل {والذين آتيناهم الكتاب} أي: المعهود إنزاله من التوراة والإنجيل والزبور {يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} لما عندهم به من البشارة في كتبهم ولما له من موافقتهم في ذكر الأحكام المحكمة والمواعظ الحسنة وكثرة ذكر الله على وجوه ترقق القلوب وتفيض الدموع وتصدع الصدور مع ما يزيد به على ما في كتبهم من التفصيل بما يفهم المعارف الإلهية والمقامات الصوفية في ضمن الأحكام السياسية وإنما وصف جميعهم بالعلم لأنّ أكثرهم يعلمون ومن لم يعلم فهو متمكن بأدنى تأمل. وقيل: المراد مؤمنوا أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه. وقرأ ابن عامر وحفص بفتح النون وتشديد الزاي، والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي {فلا تكونن} يا محمد {من الممترين} أي: الشاكين في أنّ علماء أهل الكتاب يعلمون أنّ هذا القرآن حق وأنه منزل من عند الله، وقيل: فلا تكونن في شك مما قصصنا فيكون من باب التحريض فإنه صلى الله عليه وسلم لم يشك قط، وقيل: الخطاب وإن كان في الظاهر للنبيّ صلى الله عليه وسلم إلا أنّ المراد به غيره أي: فلا تكونن أيها الإنسان السامع لهذا القرآن في شك إنه منزل من عند الله لما فيه من الإعجاز الذي لا يقدر على مثله إلا الله تبارك وتعالى:
(15/245)
---(1/969)
{وتمت كلمات ربك} أي: بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بغير ألف بين الميم والتاء، والباقون بالألف {صدقاً} في الأخبار والمواعيد لا يقدر أحد أن يبدي في شيء منها خدشاً بتخلف مّا عن مطابقة الواقع {وعدلاً} أي: في الأقضية والأحكام ونصبهما على التمييز ويحتمل الحال والمفعول له {لا مبدل لكلماته} بنقض أو خلف بل كل ما أخبرت به فهو كائن لا محالة رضي من رضي وسخط من سخط، وقيل: المراد بالكلمات القرآن لا مبدل له لا يزيد فيه المغيرون ولا ينقصون {وهو السميع} لكل ما يقال {العليم} بكل ما يفعل.
{وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} أي: دينه وأكثر أهل الأرض كانوا على الضلالة، وقيل: الأرض مكة وذلك أنّ المشركين جادلوا النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أكل الميتة فقالوا للمسلمين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فكيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم؟ فنزلت، وقيل: لا تطعهم في اعتقاداتهم الفاسدة فإنك إن تطعهم يضلوك عن سبيل الله أي: يضلوك عن طريق الحق ومنهج الصدق ثم علل ذلك بقوله: {إن} أي: لأنهم ما {يتبعون} في مجادلتهم لك {إلا الظنّ} وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق {وإن} أي: ما {هم إلا يخرصون} أي: يكذبون على الله عز وجل فيما ينسبون إليه كاتخاذ الولد وجعل عبادة الأوثان وصلة إليه وتحليل الميتة وتحريم البحائر ونحو ذلك.F
{إنّ ربك هو} أي: لا غيره {أعلم} أي: عالم {من يضل عن سبيله وهو} أي: لا غيره {أعلم} أي: عالم {بالمهتدين} فيجازي كلاً منهم بما يستحقه.
وقوله تعالى:
(15/246)
---(1/970)
{فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحرّمون الحلال ويحللون الحرام والمعنى: كلوا مما ذكر اسم الله تعالى على ذبحه ولا تأكلوا مما ذكر عليه اسم غيره تعالى أو مات حتف أنفه {إن كنتم بآياته مؤمنين} أي: إن كنتم محققين الإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه فإنّ الإيمان يقتضي استباحة ما أحله الله تعالى واجتناب ما حرمه.
(15/247)
---
{وما لكم} أي: أيّ غرض لكم في {أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه} من الذبائح {وقد فصل} أي: بين {لكم ما حرّم عليكم} أي: مما لم يحرم في آية حرمت عليكم الميتة تفصيلاً واضح البيان ظاهر البرهان، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضم الفاء وكسر الصاد والباقون بفتحهما، وقرأ نافع وحفص بفتح الحاء والراء والباقون بضم الحاء وكسر الراء {إلا ما اضطررتم إليه} أي: مما حرم عليكم فإنه أيضاً حلال حال الضرورة {وإنّ كثيراً} من الذين يجادلونكم في أكل الميتة ويحتجون عليكم في ذلك بقولهم: كيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم {ليضلون بأهوائهم} أي: بما تهوى أنفسهم من تحليل الميتة وغيرها، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بضم الياء والباقون بفتحها {بغير علم} يعتمدونه في ذلك، وقيل: المراد بذلك عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين لأنه أوّل من بحر البحائر وسيب السوائب وأباح الميتة وغير دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم {إن ربك هو أعلم بالمعتدين} أي: الذين تجاوزوا الحق إلى الباطل والحرام إلى الحلال.(1/971)
{وذروا} أي: اتركوا {ظاهر الإثم وباطنه} أي: ما أعلنتم به وما أسررتم به من الذنوب كلها، وقيل: المراد بظاهر الإثم أفعال الجوارح وبباطنه أفعال القلوب فيدخل فيه الحسد والكبر والعجب وإرادة الشرّ للمسلمين ونحو ذلك، وقيل: ظاهر الإثم الزناة في الحوانيت وباطنه المرأة يتخذها الرجل صديقة فيأتيها سراً {إنّ الذين يكسبون الإثم} في الدنيا بارتكاب المعاصي {سيجزون} في الآخرة {بما كانوا يقترفون} أي: يكسبون وظاهر هذا النص يدل على عقاب المذنب ومذهب أهل السنة إنه إذا لم يتب فهو في خطر المشيئة إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه بفضله أمّا إذا تاب من الذنب توبة صحيحة لم يعاقب فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
(15/248)
---
{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} قال ابن عباس: الآية في تحريم الميتات وما في معناها من المنخنقة وغيرها، وقال عطاء: الآية في تحريم الذبائح التي كانوا يذبحونها على اسم الأصنام، واختلف أهل العلم في ذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم الله تعالى عليها فذهب قوم إلى تحريمها سواء أتركت التسمية عمداً أم نسياناً وهو قول ابن سيرين والشعبيّ واحتجوا بظاهر الآية وذهب قوم إلى حلها مطلقاً، ويروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الشافعي وأحمد وذهب قوم إلى أنه إن ترك التسمية عامداً لم تحل أو ناسياً حلت وهو مذهب مالك، ومن قال بالإباحة مطلقاً قال المراد من الآية الميتات وما ذبح على غير اسم الله بدليل قوله تعالى: {وإنه لفسق} أي: ما ذكر عليه اسم غير الله كما قال تعالى في آخر السورة: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً} إلى قوله: {أو فسقاً أهل لغير الله به} (الأنعام، 145)(1/972)
والضمير لما ويجوز أن يكون للأكل الذي دل عليه لا تأكلوا واحتجوا أيضاً في إباحتها بما روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قالوا: يا رسول الله إنّ هنا أقواماً حديث عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان فلا ندري أيذكرون اسم الله عليها أم لا؟ قال: «اذكروا أنتم اسم الله وكلوا» فلو كانت التسمية شرطاً للإباحة لكان الشك في وجودها مانعاً من أكلها كالشك في أصل الذبح {وإنّ الشياطين ليوحون} أي: يوسوسون {إلى أوليائهم} من الكفار {ليجادلوكم} في تحليل الميتة بقولهم: تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم وتدعون ما قتله الله وهذا يؤيد التأويل بالميتة {وإن أطعتموهم} أي: باستحلال ما حرم {إنكم لمشركون} أي: مثلهم في الشرك، قال الزجاج: فيه دليل على أنّ كل من أحل شيئاً مما حرّم الله أو حرّم شيئاً مما أحلّ الله فهو مشرك.
(15/249)
---(1/973)
{أو من كان ميتاً} أي: بالكفر {فأحييناه} أي: بالإيمان وإنما جعل الكفر موتاً لأنه جعل الإيمان حياة لأنّ الحي صاحب بصر يهتدي به إلى رشده، ولما كان الإيمان يهدي إلى الفوز العظيم والحياة الأبدية شبه بالحياة، وقرأ نافع بتشديد الياء والباقون بالتخفيف {وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} أي: يتبصر به الحق من غيره وهو الإيمان، وقال قتادة: هو كتاب الله القرآن بينة من الله مع المؤمن بها يعمل وبها يأخذ وإليها ينتهي {كمن مثله} أي: كمن هو {في الظلمات} فمثل زائدة {ليس بخارج منها} وهو الكافر أي: ليس مثله. نزلت هذه الآية في حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه وأبي جهل بن هشام وذلك إنّ أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرث فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس وحمزة لم يؤمن بعد فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يقول: يا أبا يعلى ما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسفه آلهتنا وخالف آباءنا، فقال حمزة: ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمداً رسول الله، وقيل: في عمر بن الخطاب أو عمار بن ياسر وأبي جهل. {كذلك} أي: كما زين للمؤمنين إيمانهم {زين للكافرين ما كانوا يعملون} أي: من الكفر والمعاصي، قال أهل السنة: المزين هو الله تعالى ويدل عليه قوله تعالى: زينا لهم أعمالهم وقالت المعتزلة: المزين هو الشيطان وردّ بالآية المذكورة.
{وكذلك} أي: كما جعلنا فساق أهل مكة أكابرها {جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها} أي: عظماءها، وأكابر جمع أكبر كأفضل وأفاضل وأسود وأساود وذلك سنة الله تعالى أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءهم كما قال في قصة نوح: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} (الشعراء، 111)
(15/250)
---(1/974)
وجعل فساقهم أكابرهم {ليمكروا فيها} بالصدّ عن الإيمان وذلك أنهم أجلسوا على طرق مكة أربع نفر ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم يقولون لكل من يقدم: إياكم وهذا الرجل فإنه كاهن ساحر كذاب فكان هذا مكرهم {وما يمكرون إلا بأنفسهم} لأنّ وباله يحيق بهم {وما يشعرون} أي: وما لهم نوع شعور بذلك.
{وإذا جاءتهم} أي: أهل مكة {آية} على صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم {قالوا لن نؤمن} به {حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} أي: من النبوّة وذلك أنّ الوليد بن المغيرة قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم لو كانت النبوّة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً فنزلت، وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل حين قال: زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبيّ يوحى إليه، والله لا نرضى إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه.
وقوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} استئناف للردّ عليهم بأن النبوّة ليست بالنسب والمال وإنما هي بفضائل نفسانية يخص الله بها من يشاء من عباده فيجتبي لرسالته من علم أنه يصلح لها وحيث مفعول به لفعل محذوف دل عليه أعلم لأنّ أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به أي: يعلم الموضع الصالح لوضعها فيه فيضعها وهؤلاء ليسوا أهلاً لها، وقرأ ابن كثير وحفص بنصب التاء ورفع الهاء ولا ألف قبل التاء على التوحيد، والباقون بكسر التاء والهاء وألف قبل التاء على الجمع {سيصيب الذين أجرموا} بقولهم ذلك {صغار} أي: ذل وهوان {عند الله} يوم القيامة، وقيل: تقديره من عند الله {وعذاب} أي: مع الصغار {شديد} أي: في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالنار {بما} أي: بسبب ما {كانوا يمكرون} من صدّهم الناس عن الإيمان وطلبهم ما لا يستحقونه.
(15/251)
---
بأن يقذف في قلبه نوراً فينفسح له ويقبله.(1/975)
ولما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر فقال: «نور يقذفه الله في قلب المؤمن ينشرح له قلبه وينفسخ» قيل: فهو لذلك أمارة، قال: «نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقي الموت» {ومن يرد} أي: الله {أن يضله يجعل صدره ضيقاً} أي: عن قبول الإيمان حتى لا يدخله، وقرأ ابن كثير بسكون الياء، والباقون بتشديدها مع الكسر، وقوله تعالى: {حرجاً} قرأه نافع وأبو بكر بكسر الراء أي: شديد الضيق، والباقون بالفتح وصفاً للمصدر، وفي الآية دليل على أنّ جميع الأشياء بمشيئة الله وإرادته حتى إيمان المؤمن وكفر الكافر {كأنما يصعد في السماء} أي: يشق عليه الإيمان كما يشق عليه صعود السماء شبه مبالغته في ضيق صدره بمن يزاول ما لا يقدر عليه، وقرأ ابن كثير بسكون الصاد وتخفيف العين من غير ألف بعد الصاد، وقرأ شعبة بتشديد الصاد وتخفيف العين وألف بعد الصاد بمعنى يتصاعد {كذلك} أي: مثل ما جعل الله الرجس على من أراد ضلاله من أهل هذا الزمان {يجعل الله الرجس} أي: العذاب أو الشيطان أي: يسلطه {على الذين لا يؤمنون} وقال الزجاج: الرجس في الدنيا اللعنة وفي الآخرة العذاب.
{وهذا} أي: الدين الذي أنت عليه يا محمد {صراط} أي: طريق {ربك مستقيماً} لا عوج فيه ونصبه على الحال المؤكدة للجملة والعامل فيها معنى الإشارة {قد فصلنا} أي: بينا {الآيات لقوم يذكرون} فيه إدغام التاء في الأصل في الذال أي: يتعظون فيعلمون أن القادر على كل شيء هو الله عز وجل وأن كل ما يحدث من خير أو شرّ فهو بقضائه وقدره وخلقه وإنه تعالى عالم بأحوال العباد حكيم عادل فيما يفعل بهم وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون.
{لهم} أي: المتذكرين {دار السلام} هي الجنة وأضافها لنفسه في قول جميع المفسرين فإنّ السلام كما قال الحسن هو الله تعالى تشريفاً لهم أو {تحيتهم فيها سلام} (يونس، 10)
(15/253)
---(1/976)
أو أراد بها دار السلامة {عند ربهم} أي: ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنهها غيره {وهو وليهم} أي: المتكفل بتولي أمورهم ولا يكلهم إلى أحد سواه {ما} أي: بسبب ما {كانوا يعملون} من الأعمال الصالحة التي كانوا يتقرّبون بها إليه في الدنيا.
{و} اذكر يا محمد {يوم نحشرهم} أي: الخلق {جميعاً} أي: لا نترك منهم أحداً، وقرأ حفص بالياء والباقون بالنون، وقوله تعالى: {يا معشر الجنّ} فيه حذف تقديره ويقال لهم: يا معشر الجنّ، والمعشر الجماعة والمراد من الجنّ الشياطين {قد استكثرتم من الإنس} أي: من إضلالهم وإغوائهم حتى صار أكثرهم أتباعكم {وقال أولياؤهم} أي: الذين أطاعوهم {من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض} أي: انتفع الإنس بتزيين الجنّ لهم الشهوات والجنّ بطاعة الإنس لهم {وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا} أي: إنّ ذلك الاستمتاع كان إلى أجل معين ووقت محدود ثم ذهب وبقيت الحسرة والندامة قال الحسن: الأجل الموت، وقيل: هو وقت البعث للحساب في القيامة {قال} الله تعالى على لسان الملائكة لهؤلاء الذين استمتع بعضهم ببعض من الجنّ والإنس {النار مثواكم} أي: مأواكم {خالدين فيها} أي: إلى ما لا آخر له فإنّ الجزاء من جنس العمل {إلا ما شاء الله} أي: من الأوقات التي ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير.
فقد روي أنهم يدخلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض فيتعاوون ويطلبون الردّ إلى الجحيم، وقيل: إلا ما شاء الله قبل الدخول قدر مدّة بعثهم ووقوفهم للحساب وقال ابن عباس: الاستثناء يرجع إلى قوم سبق في علم الله أنهم يسلمون فيخرجون من النار، قال البغوي: فما بمعنى من على هذا التأويل {إنّ ربك حكيم} في صنعه {عليم} بعواقب أمور خلقه وما هم صائرون إليه.
{وكذلك} أي: كما متعنا عصاة الإنس والجنّ بعضهم ببعض {نولى} من الولاية {بعض الظالمين بعضاً} أي: على بعض.
(15/254)
---(1/977)
روي عن ابن عباس في تفسيرها: هو أنّ الله تعالى إذا أراد بقوم خيراً ولى أمرهم خيارهم وإذا أراد بقوم شراً ولى أمرهم شرارهم {بما} أي: بسبب ما {كانوا يكسبون} من الكفر والمعاصي.
{يا معشر الجنّ والإنس ألم يأتكم رسل منكم} أي: من مجموعكم وهم الإنس إذ الرسل منهم خاصة ولكن لما جمع الجنّ مع الإنس في الخطاب صح ذلك ونظيره قوله تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} (الرحمن، 22)
فإنّ ذلك يخرج من الملح دون العذب أو إن رسل الجنّ نذرهم الذين يسمعون كلام الرسول فيبلغون قومهم كما قال تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجنّ} (الأحقاف، 29)
الآية وتعلق بظاهر الآية قوم فقالوا: بعث إلى كل من الثقلين رسل من جنسهم {يقصون عليكم آياتي} أي: يخبرون بما أوحي إليهم من آياتي الدالة على توحيدي وتصديق رسلي {وينذرونكم لقاء يومكم هذا} أي: ويحذرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وهو يوم القيامة {قالوا شهدنا على أنفسنا} أي: اعترفوا بأنّ الرسل قد أتتهم وبلغتهم رسالات ربهم وأنذرتهم لقاء يومهم هذا وإنهم كذبوا الرسل ولم يؤمنوا بهم وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر قال الله تعالى: {وغرّتهم الحياة الدنيا} أي: إنما كان ذلك بسبب أنهم غرّتهم الحياة الدنيا ومالوا إليها {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} أي: في الدنيا.
فإن قيل: كيف أقروا على أنفسهم بالكفر في هذه الآية وجحدوا في آية أخرى وهي قولهم: {وا ربنا ما كنا مشركين} (الأنعام، 23)
؟ أجيب: بتفاوت الأحوال والمواطن في ذلك اليوم المتطاول فيقرون في بعضها ويجحدون في بعض آخر.
(15/255)
---(1/978)
فإن قيل: لم كرّر شهادتهم على أنفسهم؟ أجيب: بأن الأولى حكاية لقولهم: كيف يقولون وكيف يعترفون؟ والثانية ذم لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم فإنهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات المخدجة، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية حتى كان عاقبة إمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد تحذيراً للسامعين عن مثل حالهم.
{ذلك} أي: إرسال الرسل {أنّ} أي: لأجل أن {لم يكن ربك مهلك القرى بظلم} أي: بسبب ظلم ارتكبوه {وأهلها غافلون} أي: لم يتنبهوا برسول يبين لهم.
{س6ش132/ش137 وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا?? وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَرَبُّكَ الْغَنِىُّ ذُو الرَّحْمَةِ? إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن? بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ * إِنَّ مَا تُوعَدُونَ ?تٍ? وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ * قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا? عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ? فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ? عَاقِبَةُ الدَّارِ? إِنَّهُ? يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَجَعَلُوا? لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَا?نْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا? هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَاذَا لِشُرَكَآ?ـ?ِنَا? فَمَا كَانَ لِشُرَكَآ?ـ?ِهِمْ فَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ? وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآ?ـ?ِهِمْ? سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَكَذَالِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا? عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ? وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ? فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }
(15/256)
---(1/979)
{ولكل} أي: من العاملين بطاعة أو معصية {درجات} أي: جزاء {مما عملوا} أي: من خير وشر إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر وإنما سميت درجات لتفاضلها في الارتفاع والانخفاض كتفاضل الدرج {وما ربك بغافل عما يعملون} أي: عن شيء يعمله أحد من الفريقين بل هو عالم بكل شيء من ذلك وبما يستحقه العامل من ثواب أو عقاب، وقرأ ابن عامر بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة، والباقون بالياء على الغيبة.
{وربك الغني} أي: الغنى المطلق عن كل عابد وعبادته فليعمل العامل لنفع نفسه أو ضرها {ذو الرحمة} أي: التجاوز عن خلقه فمن رحمته إرسال الرسل وتأخير العذاب عن المذنبين لعلهم يتوبون ويرجعون {إن يشأ يذهبكم} يا أهل مكة بالإهلاك ففيه وعيد وتهديد لهم {ويستخلف من بعدكم} أي: بعد إهلاككم {ما يشاء} أي: خلقاً غيركم أمثل وأطوع منكم {كما أنشأكم من ذرية} أي: نسل {قوم آخرين} أذهبهم لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام ولكنه أبقاكم رحمة بكم.
{إنما توعدون} من مجيء الساعة والبعث بعد الموت والحشر للحساب يوم القيامة {لآت} لا محالة {وما أنتم بمعجزين} أي: فائتين عذابنا.
{قل} يا محمد لقومك من كفار قريش {يا قوم اعملوا على مكانتكم} أي: حالتكم التي أنتم عليها {إني عامل} على حالتي التي أنا عليها والمعنى: اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم، والتهديد بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد {فسوف تعلمون} غداً في القيامة {من} موصولة مفعول العلم {تكون له عاقبة الدار} أي: العاقبة المحمودة في الدار الآخرة أنحن أم أنتم {إنه لا يفلح} أي: يسعد {الظالمون} أي: الكافرون.
(15/257)
---(1/980)
{وجعلوا} أي: كفار مكة {مما ذرأ} أي: خلق {من الحرث} أي: الزرع {والأنعام نصيباً فقالوا هذا بزعمهم وهذا لشركائنا} وذلك أنّ المشركين كانوا يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيباً وللأوثان نصيباً فما جعلوه لله صرفوه إلى الضيفان والمساكين وما جعلوه للأصنام أنفقوه على الأصنام وخدمها فإن سقط شيء من نصيب الأوثان فيما جعلوه لله ردّوه إلى الأوثان وقالوا: إنها محتاجة وكان إذا هلك وانتقص شيء مما جعلوه لله لم يبالوا به وإذا هلك شيء مما جعلوه للأصنام جبروه بما جعلوه لله فذلك قوله تعالى: {فما كان لشركائهم} أي: ما جعلوه لها من الحرث والأنعام {فلا يصل إلى الله} أي: لجهته فلا يعطونه للمساكين ولا ينفقونه على الضيفان {وما كان فهو يصل إلى شركائهم} وفي قوله تعالى: {مما ذرأ} تنبيه على فرط جهالتهم فإنهم أشركوا مع الخالق تعالى في خلقه جماداً لا يقدر على شيء ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزاكي له. وفي قوله تعالى: {بزعمهم} تنبيه على أن ذلك مما اخترعوه لم يأمرهم الله تعالى به، وقرأ الكسائي برفع الزاي والباقون بالنصب {ساء} أي: بئس {ما يحكمون} حكمهم هذا.
{وكذلك} أي: ومثل ما زين لجميع المشركين تضييع أموالهم والكفر بربهم شركاؤهم {زين لكثير من المشركين قتل أولادهم} أي: بالوأد خشية الإملاق {شركاؤهم} من الجن أو من السدنة أي: الخدمة، وقرأ غير ابن عامر بفتح الزاي والياء ونصب لام قتل وكسر دال أولادهم وشركاؤهم بالواو مضمومة الهمزة على أنه فاعل، وقرأ ابن عامر بضم الزاي وكسر الياء ورفع لام قتل ونصب دال أولادهم وشركائهم بالياء مكسورة الهمزة بإضافة القتل إليه مفصولاً بينهما بمفعوله قال البيضاوي تبعاً للزمخشري: وهو ضعيف في العربية معدود من ضرورة الشعر. اه.
(15/258)
---(1/981)
وقد أنكر جماعة على الزمخشري في ذلك بأن القراءة المذكورة صحيحة متواترة وتركيبها صحيح في العربية فلا يجوز الطعن فيها ولا في ناقلها. قال التفتازاني: وهذا على عادته يطعن في متواتر القراآت السبع ويسند الخطأ تارة إليهم كما هنا وتارة إلى الرواية عنهم وكلاهما خطأ لأنّ القراآت متواترة، وكذا الروايات عنهم، وأطال في بيان ذلك وقال ابن مالك في كافيته: إضافة المصدر إلى الفاعل مفصولاً بينهما بمفعول المصدر جائزة في الاختيار إذ لا محذور فيها مع أنّ الفاعل كجزء من عامله فلا يضر فصله وإضافة القتل إلى الشركاء لأمرهم {ليردوهم} أي: ليهلكوهم بذلك الفعل الذي أمروهم به، والإرداء في اللغة الإهلاك، وقال ابن عباس: ليردوهم، في النار {وليلبسوا} أي: وليخلطوا {عليهم دينهم} قال ابن عباس: ليدخلوا عليهم الشك في دينهم وكان على دين إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام فوضعوا لهم هذه الأصنام وزينوها لهم {ولو شاء الله} عصمة هؤلاء من ذلك القبيح الذي زين لهم {ما فعلوه} فجميع الأشياء بمشيئته وإرادته {فذرهم} أي: اتركهم يا محمد {وما يفترون} أي: وما يختلقون من الكذب على الله فإن الله لهم بالمرصاد، وفي ذلك تهديد لهم كما مرّ.
(15/259)
---(1/982)
أي: المشركون سفهاً وجهلاً {هذه} إشارة إلى قطعة من أموالهم عينوها لآلهتهم {أنعام وحرث حجر} أي: حرام محجور عليه لا يصل أحد إليه وهو وصف يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات {لا يطعمها} أي: لا يأكل منها {إلا من نشاء} أي: من خدمة الأوثان والرجال دون النساء {بزعمهم} أي: لا حجة لهم فيه {وأنعام حرمت ظهورها} أي: فلا يركبونها كالبحائر والسوائب والحوامي {وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها} أي: عند ذبحها وإنما كانوا يذكرون عليها اسم الأصنام، وقيل: لا يحجون عليها ولا يركبونها لفعل خير لأنّ العادة لما جرت بذكر الله على الخير ذم هؤلاء على ترك فعل الخير ونسبوا ما فعلوه إلى الله تعالى {افتراء عليه} أي: اختلافاً وكذباً إنه أمرهم بها {سيجزيهم} أي: بوعد صادق لا خلف فيه {بما} أي: بسبب ما {كانوا يفترون}.u
{وقالوا ما في بطون هذه الأنعام} أي: أجنة البحائر والسوائب وقوله تعالى: {خالصة} حلال {لذكرونا} أي: خاصة بهم دون الإناث كما قال تعالى: {ومحرم على أزواجنا} أي: النساء، وحذف الهاء من محرم إما حملاً على اللفظ أو تخفيفاً لأنّ المراد بخالصة المبالغة {وإن يكن} أي: ما في بطونها {ميتة فهم فيه شركاء} أي: الذكور والإناث فيه سواء أي: أنّ ما ولد منها حياً فهو للذكور دون الإناث وما ولد منها ميتاً أكله الذكور والإناث جميعاً، وقرأ ابن عامر وشعبة بالتأنيث في تكن والباقون بالتذكير، وقرأ ابن كثير وابن عامر ميتة بالرفع على أنّ تكن تامة والباقون بالنصب على أنها ناقصة {سيجزيهم} الله {وصفهم} أي: سيكافئهم على وصفهم بالكذب على الله تعالى بالتحليل والتحريم {إنه} أي: الله {حكيم} في صنعه {عليم} بخلقه.
(15/261)
---(1/983)
{قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً} أي: جهلاً {بغير علم} نزلت في ربيعة ومضر وبعض من العرب من غيرهم كانوا يدفنون البنات أحياء مخافة السبي والفقر، وكان بنو كنانة لا يفعلون ذلك وسبب حصول هذه السفاهة هو قلة العلم بل عدمه بأنّ الله هو رازق أولادهم لا هم لأنّ الجهل كان غالباً عليهم قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا سموا جاهلية، وسبب هذا الخسران أنّ الولد نعمة عظيمة أنعم الله تعالى بها على الوالد فإذا تسبب في إزالة هذه النعمة وإبطالها فقد استوجب الذم وخسر في الدنيا والآخرة، أما خسارته في الدنيا فقد سعى في نقص عدده وإزالة ما أنعم الله تعالى به عليه وأما خسارته في الآخرة فقد استوجب بذلك العذاب العظيم، وقرأ أبو عمرو وابن عامر بتشديد التاء والباقون بالتخفيف {وحرموا ما رزقهم الله} وتفضل به عليهم رحمة لهم من تلك الأنعام والغلات بغير شرع ولا نفع بوجه {افتراء} أي: تعمداً للكذب {على الله} وهذا أيضاً من أعظم الجهالة لأنّ الجراءة على الله والكذب عليه من أعظم الذنوب والكبائر ولهذا قال تعالى: {قد ضلوا} أي: في فعلهم عن الحق والرشاد {وما كانوا مهتدين} أي: إلى طريق الحق والصواب في فعلهم.
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً} إلى قوله: {وما كانوا مهتدين}.
وروي عن مهدي بن ميمون أنه قال: سمعت بأرجاء العطاردي يقول: كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر وإذا لم نجد حجراً جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به فإذا دخل شهر رجب قلنا: منصل الأسنة فلا ندع رمحاً فيه حديدة ولا سهماً فيه حديدة إلا نزعناه فألقيناه في رجب.
(15/262)
---(1/984)
{وهو الذي أنشأ} أي: خلق {جنات} أي: بساتين {معروشات} أي: مبسوطات على الأرض كالبطيخ والقثاء {وغير معروشات} بأن ارتفعت على ساق كالنخل وشجر الرمان، وقال الضحاك: كلاهما في الكرم خاصة لأنّ منه ما يعرش بأن يبقى على وجه الأرض منبسطاً ومنه ما لم يعرش بأن يرتفع على ساق، وقيل: المعروشات ما عرشه الناس في البساتين، واهتموا به فعرشوه من كرم وغيره، وغير المعروشات هو ما أنبته الله تعالى في البراري والجبال من كرم أو شجر {و} أنشأ {النخل والزرع مختلفاً أكله} أي: ثمره وحبه في الهيئة والطعم منها الحلو والحامض والجيد والرديء، والضمير للزرع والباقي مقيس عليه، أو للنخل والزرع داخل في حكمه لكونه معطوفاً عليه، أو للجميع على تقدير كل ذلك أو كل واحد منها، ومختلفاً حال مقدرة لأنه لم يكن كذلك عند الإنشاء، وقرأ نافع وابن كثير بجزم الكاف، والباقون بالرفع {والزيتون والرمان متشابهاً} أي: ورقهما {وغير متشابه} أي: في طعمهما، وقيل: متشابهين في المنظر مختلفين في الطعم.
(15/263)
---(1/985)
ولما ذكر الله تعالى ما أنعم به على عباده من خلق هذه الجنات المحتوية على أنواع الثمار ذكر ما هو المقصود الأصلي وهو الانتفاع بها فقال تعالى: {كلوا من ثمره} أي: كل واحد من ذلك {إذا أثمر} أي: ولو قبل نضجه وهذا أمر إباحة وأما قوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} فالأمر فيه للوجوب والآية مدنية والحق هو الزكاة المفروضة والأمر بإتيانها يوم الحصاد ليهتم به حينئذٍ حتى لا يؤخره عن أوّل وقت يمكن فيه الإيتاء وليعلم أن الوجوب بالإدراك لا بالتنقيه، وقيل: الآية مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة فالحق ما كان يتصدق به على المساكين يوم الحصاد وكان ذلك واجباً حتى نسخه افتراض العشر ونصف العشر، وقرأ حمزة والكسائي برفع الثاء والميم من ثمره والباقون بنصبهما، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح حاء حصاده والباقون بكسرها ومعناهما واحد {ولا تسرفوا} أي: بإعطاء كله فلا يبقى لعيالكم شيء.
روي أنّ ثابت بن قيس صرم خمسمائة نخلة وقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئاً فنزلت {إنه لا يحب المسرفين} أي: المتجاوزين ما حدّ لهم، وفي ذلك وعيد وزجر عن الإسراف في كل شيء، قال مجاهد: الإسراف ما قصرت به عن حق الله تعالى وقالوا: لو كان أبو قبيس ذهباً لرجل أنفقه في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفاً، ولو أنفق درهماً واحداً أو مداً في معصية كان مسرفاً وقوله تعالى:
(15/264)
---(1/986)
{ومن الأنعام} عطف على جنات أي: وأنشأ من الأنعام {حمولة} أي: صالحة للحمل عليها كالإبل الكبار والبغال {وفرشاً} أي: تصلح للحمل كالإبل الصغار والعجاجيل والغنم سميت فرشاً لأنها كالفرش للأرض لدنوها منها، وقيل: هو ما ينسج من وبره وصوفه وشعره للفرش {كلوا مما رزقكم الله} أي: مما أحله لكم من هذه الأنعام والحرث {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} أي: طرائقه في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعل أهل الجاهلية، وقرأ قنبل وابن عامر وحفص والكسائي بضم الطاء والباقون بالسكون {إنه} أي: الشيطان {لكم عدو مبين} أي: بين العداوة.
وقوله تعالى:
(15/265)
---
{ثمانية أزواج} أي: أصناف بدل من حمولة وفرشاً والزوج لغة الفرد إذا كان معه آخر من جنسه لا ينفك عنه فيطلق لفظ الزوج على الواحد كما يطلق على الاثنين فيقال للذكر: زوج، وللأنثى: زوج {من الضأن} زوجين {اثنين} أي: ذكر وأنثى والضأن ذوات الصوف من الغنم والذكر ضائن والأنثى ضائنة والجمع ضوائن {ومن المعز} زوجين {اثنين} أي: ذكر وأنثى، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بفتح العين والباقون بالسكون والمعز والمعزى جمع لا واحد له من لفظه وهي ذوات الشعر من الغنم، وقال البغوي: جمع الماعز معيز وجمع الماعزة مواعز {قل} يا محمد لمن حرم ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى وأولادها كيفما كانت ذكوراً أو إناثاً أو مختلطة تارة ونسبوا ذلك لله تعالى {الذكرين} من الضأن والمعز {حرم} الله عليكم {أم الأنثيين} منهما {أما} أي: أم حرم ما {اشتملت} أي: انضمت {عليه أرحام الأنثيين} ذكراً كان أو أنثى {نبئوني} أي: أخبروني {بعلم} عن كيفية ذلك بأمر معلوم من جهة الله تعالى على تحريم ما حرمتم {إن كنتم صادقين} في دعواكم والاستفهام للإنكار والمعنى: من أين جاء التحريم فإن كان من قبل الذكورة فجميع الذكور حرام وإن كان من قبل الأنوثة فجميع الإناث حرام أو من قبل اشتمال الرحم فالزوجان حرام فمن أين التخصيص.(1/987)
تنبيه: اتفق القراء على أنّ في همزة الوصل وهي التي بين همزة الاستفهام ولام التعريف وجهين وهما البدل والتسهيل والبدل هو مدها مبدلة والتسهيل هو أن تقصرها مسهلة.
(15/267)
---
{ومن الإبل اثنين} ذكراً أو أنثى {ومن البقر اثنين} كذلك {قل} يا محمد لهؤلاء الذين اختلفوا جهلاً وسفهاً {آلذكرين حرم} الله عليكم {أم الأنثيين} منهما {أما} أي: أم حرّم ما {اشتملت} أي: انضمت {عليه أرحام} الأنثيين ذكراً كان أو أنثى {أم كنتم} أي: بل أكنتم {شهداء} أي: حاضرين {إذ وصاكم الله بهذا} أي: حين وصاكم بهذا التحريم إذا أنتم لا تؤمنون بي فلا طريق لكم إلى معرفة أمثال ذلك إلا بالمشاهدة والسماع فكيف تثبتون هذه الأحكام وتنسبونها إلى الله تعالى.
ولما احتج عليهم بهذه الحجة وبيّن أنه لا سند لهم في ذلك قال تعالى: {فمن} أي: لا أحد {أظلم ممن افترى} أي: تعمد {على الله كذباً} كعمرو بن لحي فإنه أوّل من بحر البحائر وسيب السوائب وغير دين إبراهيم عليه السلام ويدخل في هذا الوعيد كل من كان على طريقته أو ابتدأ شيئاً لم يأمر الله به ولا رسوله ونسب ذلك إلى الله تعالى لأن اللفظ عام فلا وجه للتخصيص فكل من أدخل في دين الله ما ليس منه فهو داخل في هذا الوعيد {ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} أي: لا يرشد ولا يوفق من كذب عليه وأضاف إليه ما لم يشرع لعباده.
ولما بين سبحانه وتعالى فساد طريقة أهل الجاهلية وما كانوا عليه من التحريم والتحليل من عند أنفسهم واتباع أهوائهم فيما أحلوه وحرموه من المطعومات أتبعه بالبيان الصحيح في ذلك وبين أن التحريم والتحليل لا يكون إلا بوحي سماوي وشرع نبوي فقال تعالى:
{قل} يا محمد لهؤلاء الجهلة الذين يحللون ويحرمون من عند أنفسهم {لا أجد في ما أوحي إليّ محرماً} أي: طعاماً محرّماً مما حرمتموه.
(15/268)
---(1/988)
فائدة: في ما أوحي إليّ في مقطوعة من ما في الرسم {على طاعم} أيّ طاعم كان من ذكر أو أنثى {يطعمه} أي: يتناوله أكلاً أو شرباً أو داء أو غير ذلك {إلا أن يكون} أي: ذلك الطعام {ميتة} وهي كل ما زالت حياته بغير ذكاة شرعية، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة تكون بالتأنيث والباقون بالتذكير ورفع ميتة ابن عامر على أنّ كان هي التامة، وعلى هذه القراءة يكون قوله تعالى: {أو دماً مسفوحاً} عطفاً على أن مع ما في حيزه أي: إلا وجود ميتة أو دماً مسفوحاً أي: مصبوباً كالدم في العروق لا كالكبد والطحال {أو لحم خنزير فإنه} أي: الخنزير {رجس} أي: نجس فالضمير يعود على المضاف إليه لأنّ اللحم دخل في قوله {ميتة} وحينئذٍ ففي الآية دلالة على نجاسة الخنزير وهو حي فلحمه وكذا سائر أجزائه بطريق الأولى ثم إني رأيت البقاعي في تفسيره جرى على ذلك وقوله تعالى: {أو فسقاً أهل لغير الله به} أي: ذبح على اسم غيره عطف على لحم خنزير وما بينهما اعتراض للتعليل.
تنبيه: ظاهر الآية أنّ المحرمات محصورة في هذه الأربعة وأنه لا يحرم شيء من سائر المطعومات والحيوانات غيرها وهي الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما ذبح على اسم غير الله تعالى، ويروى ذلك عن ابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير رضي الله تعالى عنهم لأنه ثبت أنه لا طريق إلى معرفة المحرّمات إلا بوحي وثبت أنّ الله تعالى نص في هذه الآية على هذه الأربعة أشياء وقال تعالى في (البقرة، 173)
(15/269)
---(1/989)
{إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله} وإنما تفيد الحصر فصارت هذه الآية المدنية مطابقة للآية المكية في الحكم ولكن الذي ذهب إليه جمهور العلماء أنّ التحريم لا يختص بهذه فقط بل المحرّم ما كان بنص كتاب أو سنة، وقد وردت السنة بتحريم أشياء غير ذلك منها تحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطيور وورد النهي عن أكل الهر وأكل ثمنه ويحرم أيضاً كل ما أمر بقتله كالحدأة والغراب الأبقع أو نهي عن قتله كالهدهد والخفاش وما لا نص فيه بتحريم أو تحليل أو بما يدل على أحدهما كالأمر بالقتل والنهي عنه إن استطابته عرب ذوو يسار وطباع سليمة حال رفاهية حل وإن استخبثوه فلا يحل فإن اختلفوا في استطابته اتبع الأكثر فإن استووا فقريش لأنهم قطب العرب وفيهم الفتوّة فإن اختلفت أو لم تحكم بشيء اعتبر الأشبه به من الحيوانات فإن استوى الشبهان أو لم يوجد ما يشبهه فحلال لهذه الآية وما جهل اسمه عمل بتسمية العرب له مما هو حلال أو حرام.
ولما حرّم الله تعالى هذه الأشياء أباح أكلها عند الاضطرار بقوله تعالى: {فمن اضطر} أي: حصل له جوع خشي منه التلف {غير باغ} أي: على مضطر مثله {ولا عاد} أي: ولا متجاوز قدر الضرورة، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والكسائي بضم النون في الوصل والباقون بالكسر {فإنّ ربك غفور} لا يؤاخذه بالأكل {رحيم} به حيث أباح له ذلك.
(15/270)
---(1/990)
{وعلى الذين هادوا} أي: اليهود واليهود علم على قوم موسى عليه الصلاة والسلام وسموا به اشتقاقاً من هادوا أي: مالوا إما عن عبادة العجل وإما عن دين موسى عليه السلام أو من هاد إذا رجع من خير إلى شر أو من شر إلى خير لكثرة انتقالهم عن مذاهبهم وقيل: لأنهم يتهوّدون أي: يتحرّكون عند قراءة التوراة وقيل: معرب من يهوذا بن يعقوب بالذال المعجمة ثم نسب إليه فقيل: يهودي ثم حذف الياء في الجمع فقيل: يهود {حرّمنا} أي: بسبب ظلمهم عليهم {كل ذي ظفر} أي: ما هو كالإصبع للآدمي من دابة أو طير وكان بعض ذوات الظفر حلالاً لهم فلما ظلموا حرّم عليهم فعم التحريم كل ذي ظفر بدليل قوله تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم} (النساء، 160)
{ومن البقر والغنم} أي: التي هي ذوات الأظلاف {حرّمنا عليهم شحومهما} أي: الصنفين والمراد شحم الجوف وهو الثروب قال الجوهري: هو شحم قد غشي الكرش والأمعاء رقيق ثم استثنى من الشحوم ما ذكره بقوله: {إلا ما حملت ظهورهما} أي: إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما {أو الحوايا} أي: ما حملته الحوايا وهي الأمعاء التي هي متعاطفة ملوية جمع حوية فوزنها فعائل كسفينة وسفائن، وقيل: جمع حاوية أو حاوياء كقاصعاء فهو فواعل {أو ما اختلط} أي: من الشحوم {بعظم} مثل شحم الإلية فإن ذلك لا يحرم عليهم.
(15/271)
---(1/991)
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح وهو بمكة: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال: «لا هو حرام» أي: بيعها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «قاتل الله اليهود إن الله تعالى لما حرم عليهم شحومهما أجملوه أي: أذابوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه» {ذلك} أي: التحريم العظيم وهو تحريم الطيبات {جزيناهم} به {ببغيهم} أي: بسبب مجاوزتهم الحدود {وإنا لصادقون} أي: في الإخبار عما حرمنا عليهم وعن بغيهم.
(15/272)
---
{فإن كذبوك} أي: اليهود يا محمد فيما أخبرناك به عنهم {فقل} لهم {ربكم ذو رحمة واسعة} أي: بتأخير العذاب عنكم فلم يعاجلكم بالعقوبة في ذلك تلطفاً بدعائهم إلى الإيمان {ولا يرد بأسه} أي: عقابه {عن القوم المجرمين} إذا جاء وقته وقيل: ذو رحمة واسعة للمطيعين وذو بأس شديد للمجرمين.
وقوله تعالى:
(15/273)
---(1/992)
{سيقول الذين أشركوا} إخبار عن مستقبل وقوع مخبره يدل على إعجازه، ولما لزمتهم الحجة وتيقنوا بطلان ما كانوا عليه من الشرك بالله وتحريم ما لم يحرمه الله قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} أرادوا أن يجعلوا قولهم: لو شاء الله ما أشركنا حجة لهم على إقامتهم على الشرك وقالوا: إن الله قادر على أن يحول بيننا وبين ما نحن فيه حتى لا نفعله فلولا أنه رضي ما نحن فيه وأراده منا وأمرنا به لحال بيننا وبين ذلك فقال الله تعالى تكذيباً: لهم: {كذلك كذب الذين من قبلهم} أي: من كفار الأمم الماضية {حتى ذاقوا بأسنا} أي: عذابنا ويستدل أهل القدر بهذه الآية يقولون: إنهم لما قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا} كذبهم الله ورد عليهم فقال: {كذلك كذب الذين من قبلهم} وأجاب أهل السنة بأن التكذيب ليس في قولهم لو شاء الله ما أشركنا بل ذلك القول صدق ولكن في قولهم: إن الله أمرنا بها ورضي ما نحن عليه كما أخبر تعالى عنهم في سورة الأعراف {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا وا أمرنا بها} (الأعراف، 28)
فالرد عليهم في هذا كما قال تعالى: {قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء} (الأعراف، 28)
والدليل على أنّ التكذيب ورد فيما قلنا لا في قولهم: {لو شاء الله ما أشركنا} قوله تعالى: {كذب الذين من قبلهم} بالتشديد ولو كان كذلك خبراً من الله عن كذبهم في قولهم: {لو شاء الله ما أشركنا} لقال: كذب الذين من قبلهم بالتخفيف وكان ينسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب، وقال الحسين بن الفضل: لو ذكروا هذه المقالة تعظيماً وإجلالاً لله تعالى ومعرفة منهم لما عابهم بذلك لأنّ الله تعالى قال: {ولو شاء الله ما أشركوا} (الأنعام، 107)
وقال تعالى: {وما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله} (الأنعام، 111)
(15/274)
---(1/993)
والمؤمنون يقولون ذلك ولكنّ المشركين قالوا تكذيباً وتحريضاً وجدلاً من غير معرفة بالله وبما يقولون نظيره قوله تعالى: {وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم} (الزخرف، 20)
قال الله تعالى: {ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} (الزخرف، 20)
وقد علم من ذلك أن أمر الله تعالى بمعزل عن مشيئته وإرادته فإن مريد لجميع الكائنات غير آمر بجميع ما يريد وعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئته فإنّ مشيئته لا تكون عذراً لأحد.
{قل} يا محمد لهؤلاء المشركين القائلين ما ذكر {هل عندكم} أيها الجهلة {من علم} أي: من أمر معلوم يصح الاحتجاج به على ما زعمتم من تحريم ما حرمتم وإنّ الله راض بشرككم {فتخرجوه لنا} أي: فتنظروه لنا وتبينوه لنا كما بينا لكم خطأكم {إن} أي: ما {تتبعون} في ذلك {إلا الظن} أي: فيما أنتم عليه ولا علم عندكم {وإن أنتم إلا تخرصون} أي: وما أنتم في ذلك كله إلا تكذبون وتقولون على الله تعالى الباطل.
{قل} لهم حين عجزوا عن إظهار الحجة {فللّه الحجة البالغة} أي: التامة على خلقه بإنزال الكتب وإرسال الرسل، قال الربيع بن أنس: لا حجة لأحد عصى الله وأشرك به على الله ولكن لله الحجة البالغة على عباده {فلو شاء} الله هدايتكم {لهداكم أجمعين} ولكنه لم يشأ ذلك بل شاء هداية بعض وضلال بعض آخر فوقع ذلك على الوجه الذي شاءه لا يسئل عما يفعل.
(15/275)
---(1/994)
{قل} لهم {هلم} أي: أحضروا {شهداءكم الذين يشهدون} لكم {إنّ الله حرّم هذا} أي: ما تقدّم من تحريمهم الأشياء على أنفسهم ودعواهم أنّ الله أمرهم به، وهلم اسم فعل لا يتصرّف يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث عند الحجازيين، وعند بني تميم فعل مؤنث ويثنى ويجمع {فإن شهدوا} أي: فإن تجرؤوا على الشهادة كذباً {فلا تشهد معهم} أي: فاتركهم ولا تسلم لهم فإنهم على ضلال وليست شهادتهم مستندة إلا إلى الهوى {ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا} إنما وضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن مكذب الآيات متبع الهوى لا غير وإن متبع الحجة لا يكون إلا مصدقاً بها {و} لا تتبع أهواء {الذين لا يؤمنون بالآخرة} التي هي دار الجزاء فإنهم لو جوّزوها ما اجترؤوا على ذلك {وهم بربهم يعدلون} أي: يشركون فيجعلون له عديلاً.
{قل} لهم {تعالوا} أي: أقبلوا علي {أتل} أي: أقرأ {ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً} وذلك أنهم سألوا وقالوا: أي الذي حرم الله؟ فأمر الله تعالى نبيه أن يبين لهم ذلك.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: {حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به} والمحرم هو الشرك لا ترك الشرك؟ أجيب: بأنّ موضع أن رفع أي: هو أن لا تشركوا، وقيل: نصب واختلفوا في وجهه فقيل: معناه حرّم عليكم أن تشركوا ولا صلة كقوله تعالى: {ما منعك أن لا تسجد} (الأعراف، 12)
(15/276)
---(1/995)
أي: ما منعك أن تسجد، وقيل: تم الكلام عند قوله: {حرّم ربكم} ثم قال: {عليكم أن لا تشركوا به شيئاً} على وجه الإغراء، وقال الزجاج: يجوز أن يكون هذا محمولاً على المعنى أي: أتل عليكم تحريم الشرك وجائز أن يكون على معنى أوصيكم أن لا تشركوا {وبالوالدين إحساناً} أي: فأحسنوا بهم إحساناً، وضعه موضع النهي عن الإساءة إليهما للمبالغة وللدلالة على أن ترك الإساءة في شأنهما غير كاف بخلاف غيرهما {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} أي: من أجل فقر تخافونه، والمراد بالقتل وأد البنات وهنّ أحياء وكانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية فنهاهم الله تعالى عن ذلك وحرمه عليهم وقوله تعالى: {نحن نرزقكم وإياهم} منع لموجبية ما كانوا يفعلونه لأجله واحتجاج عليهم لأنّ الله تعالى إذا تكفل برزق الوالد والولد وجب على الوالد القيام بحق الولد وتربيته والاتكال في أمر الرزق على الله {ولا تقربوا الفواحش} أي: سائر المعاصي {ما ظهر منها وما بطن} أي: علانيتها وسرها، وقيل: المراد الزنا علانيته وسره وكان أهل الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأساً في السر فحرم الله عز وجل الزنا في السر والعلانية، وأجاب الأوّل بأنّ السبب إذا كان خاصاً لا يمنع من حمل اللفظ على العموم ثم صرح بالقتل لشدة أمره بالتخصيص بعد التعميم فقال: {ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله} عليكم قتلها {إلا بالحق} وهي التي أبيح قتلها بردة أو قصاص أو زنا بعد إحصان وهو الذي يوجب الرجم أو نحو ذلك قال صلى الله عليه وسلم «لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة» وقوله تعالى: {ذلكم} إشارة إلى ما ذكر مفصلاً {وصاكم به} أي: أمركم به وأوجبه عليكم {لعلكم تعقلون} أي: تتدبرون ما في هذه التكاليف من الفوائد والمنافع فإنّ كمال العقل هو التدبر.k
(15/277)
---(1/996)
{ولا تقربوا مال اليتيم} أي: بنوع من أنواع عمل فيه أو غيره {إلا بالتي} أي: بالخصلة التي {هي أحسن} بماله كحفظه وتنميته وتثميره ويستمرّ ذلك {حتى يبلغ أشدّه} وهو سن يبلغ به أو إن حصول عقله عادة وهو البلوغ بالسن أو الاحتلام أو عقل يحصل به رشده.
(15/278)
---
وقيل: الأشدّ من الثماني عشر إلى ثلاثين سنة، وقيل: إلى أربعين، وقيل: إلى ستين {وأوفوا} أي: أتموا {الكيل والميزان بالقسط} أي: العدل من غير تفريط ولا إفراط {لا نكلف نفساً إلا وسعها} أي: طاقتها في إيفاء الكيل والميزان لم يكلف المعطي أكثر مما وجب عليه ولا يكلف صاحب الحق الرضا بأقل من حقه حتى لا تضيق نفسه عليه بل أمر كل واحد منهما بما يسعه مما لا حرج عليه فيه، وذكره عقب الأمر معناه: أنّ إيفاء الحق عسر فعليكم بما في وسعكم وما وراء الوسع معفوّ عنه {وإذا قلتم} أي: في حكم، أو شهادة، أو غير ذلك {فاعدلوا} فيه بالصدق {ولو كان} المقول له أو عليه {ذا قربى} أي: من ذوي قرابتكم {وبعهد الله أوفوا} أي: ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع {ذلكم} أي: الذي ذكر في هذه الآيات {وصاكم} بالعمل {به لعلكم تذكرون} أي: تتعظون فتأخذون بما أمرتكم به، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد.(1/997)
{وإنّ هذا} الذي وصيتكم به {صراطي مستقيماً} والإشارة فيه إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوّة وبيان الشريعة، وقرأ ابن عامر بتخفيف النون والباقون بالتشديد، وكسر الهمزة حمزة والكسائي على الاستئناف وفتحها الباقون على تقدير اللام، وفتح الياء من صراطي ابن عامر وسكنها الباقون، وتقدّم مذهب قنبل في الصراط بالسين ومذهب خلف في إشمام الصاد {فاتبعوه} أي: بغاية جهدكم لأنه الجامع للعباد على الحق الذي فيه كل خير {ولا تتبعوا السبل} أي: الطرق المخالفة لدين الإسلام {فتفرّق} فيه حذف إحدى التاءين أي: فتميل {بكم} أي: هذه الطرق المضلة {عن سبيله} أي: طريقه التي ارتضاها لعباده وبها أوصى {ذلكم} أي: الأمر العظيم من اتباعه {وصاكم به لعلكم تتقون} الضلال والتفرق عن الحق.
(15/279)
---
روي «أنه صلى الله عليه وسلم خط خطاً» ثم قال: «هذا سبيل الله» ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله وقال: «هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وقرأ: {وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه}».
{ثم آتينا موسى الكتاب} أي: التوراة.
فإن قيل: ثم للترتيب وإيتاء موسى الكتاب كان قبل مجيء القرآن أجيب: بأنّ ثم لترتيب الإخبار أي: ثم أخبركم أنا آتينا موسى الكتاب فدخل ثم لترتيب الخبر لا لتأخير النزول، وقوله تعالى: {تماماً} حال أي: لم ينقص الكتاب عما يصلحهم شيئاً {على} الوجه {الذي أحسن} أي: أتى بالإحسان فأثبت الحسن وجمعه بما بين من الشرع وبما حمى طوائف أهل الأرض به من الإهلاك العام.(1/998)
روي أنّ الله تعالى لم يهلك قوماً هلاكاً عامّاً بعد نزول التوراة، وقيل: تماماً على المحسنين من قوم موسى فيكون الذي بمعنى من أي: على من أحسن من قومه وكان فيهم محسن ومسيء، وقيل: الذي أحسن هو موسى عليه السلام أي: إتماماً للنعمة عليه لإحسانه بالعبادة أو الذي بمعنى ما أي: ما أحسن، وقوله تعالى: {وتفصيلاً} عطف على تماماً أي: وبياناً {لكل شيء} أي: يحتاج إليه في الدين {وهدى} أي: فيه هدى من الضلالة {ورحمة} أي: إنزاله عليهم رحمة لهم {لعلهم} أي: بني إسرائيل {بلقاء ربهم} أي: بالبعث والجزاء {يؤمنون} أي: ليكون حالهم بعد إنزال الكتاب لما يرون من حسن شرائعه وفخامة كلامه وجلالة أمره حال من يرجو أن يجدد الإيمان في كل وقت بلقاء ربه وليذكروا ما أنعم به عليهم من إخراجهم من مصر من العبودية والرق.
{وهذا} أي: القرآن {كتاب} أي: عظيم {أنزلناه} إليكم أي: بلسانكم حجة عليكم {مبارك} أي: كثير الخير والنفع والبركة {فاتبعوه} أي: اتبعوا ما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام {واتقوا} الكفر {لعلكم ترحمون} أي: بواسطة اتباعه وهو العمل بما فيه، ثم بيّن تعالى المراد من إنزاله فقال:
(15/280)
---
{أن} أي: كراهة أن {تقولوا إنما أنزل الكتاب} أي: التوراة والإنجيل {على طائفتين من قبلنا} أي: اليهود والنصارى {وإن كنا} أي: وقد كنا وإن هي المخففة من الثقيلة ولذلك دخلت اللام الفارقة بينها وبين النافية في خبر كان أي: وإنه كنا {عن دراستهم} قراءتهم لكتابهم قراءة مردودة {لغافلين} أي: لا نعرف حقيقتها ولا ثبت عندنا حقيقتها ولا هي بلساننا.(1/999)
{أو تقولوا} أي: أيها العرب لم نكن عن دراستهم غافلين بل كنا عالمين بها ولكنه لا يجب اتباع الكتاب إلاعلى المكتوب إليه فلم نتبعه و{لو أنا} أهلنا لما أهلوا له حتى {أنزل علينا الكتاب} أي: جنسه {لكنا أهدى منهم} أي: لما لنا من الاستعداد بوفور العقل وحدة الأذهان واستقامة الأفكار واعتدال الأمزجة والإذعان للحق {فقد جاءكم بينة من ربكم} أي: القرآن فيه بيان وحجة واضحة تعرفونها على لسان رجل منكم تعرفون أنه أولاكم بذلك {وهدى} من الضلالة لمن تدبره {ورحمة} أي: وهو رحمة ونعمة أنعم بها عليكم فتأمّلوا فيه واعملوا به {فمن} أي: لا أحد {أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف} أي: أعرض {عنها} فضل وأضل {سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا} ولا يتوبون {سوء العذاب} أي: شدّته {بما كانوا يصدفون} أي: بسبب إعراضهم.
(15/281)
---(1/1000)
{هل ينظرون} أي: ما ينظر هؤلاء المكذبون {إلا أن تأتيهم الملائكة} أي: لقبض أرواحهم أو بالعذاب، وقرأ حمزة والكسائي بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث {أو يأتي ربك} أي: أمره بالعذاب {أو يأتي بعض آيات} أي: علامات {ربك} الدالة على الساعة كطلوع الشمس من مغربها، وعن حذيفة والبراء بن عازب: «كنا نتذاكر الساعة إذ طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تتذاكرون؟ قلنا: كنا نتذاكر الساعة، فقال: «إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان ودابة الأرض وخسفاً بالمشرق وخسفاً بالمغرب وخسفاً بجزيرة العرب والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى وناراً تخرج من عدن» {يوم يأتي بعض آيات ربك} وهو طلوع الشمس من مغربها كما في حديث الصحيحين {لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل} صفة نفساً {أو} نفساً لم تكن {كسبت في إيمانها خيراً} أي: طاعة لا ينفعها توبتها قال صلى الله عليه وسلم «يدا الله مبسوطتان لمسيء الليل ليتوب بالنهار ولمسيء النهار ليتوب بالليل حتى تطلع الشمس من مغربها» وقال صلى الله عليه وسلم «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه» وقال صلى الله عليه وسلم «إنّ الله جعل بالمغرب باباً مسيرة عرضه سبعون عاماً للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله» وقال صلى الله عليه وسلم «ثلاث إذا أخرجن فلا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها».
(15/283)
---(1/1001)
{قل انتظروا} بعض هذه الأشياء {إنا منتظرون} ذلك وحينئذٍ لنا الفوز عليكم ولكم الويل {إنّ الذين فرّقوا دينهم} أي: بددوه فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وافترقوا فيه قال صلى الله عليه وسلم «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة» رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححاه وفي بعض الروايات قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي» وقرأ حمزة بتخفيف الراء وألف قبلها والباقون بتشديدها ولا ألف {وكانوا شيعاً} أي: فرقاً مختلفة وهم اليهود والنصارى في قول مجاهد وقتادة كأهل الكتاب فإنهم ابتدعوا في دينهم بدعاً أوصلتهم إلى تكفير بعضهم بعضاً فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض وكالمجوس الذين فرّقوا دينهم باعتقاد أن إلا له إثنان النور والظلمة وعبدوا الأصنام والنجوم وجعلوا لكل نجم قسماً يتوسل به في زعمهم إليه، وقيل: هم أهل البدع وأصحاب الأهواء من هذه الأمّة.
(15/284)
---(1/1002)
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «يا عائشة إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً هم أهل البدع وأصحاب الأهواء من هذه الأمّة» وعن العرباض بن سارية قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فوعظنا موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظة مودّع فأوصنا قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً فإنّ من يعيش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإنّ كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة». وروي: «إنّ أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها» {لست منهم في شيء} أي: من السؤال عنهم فلا تتعرّض لهم {إنما أمرهم إلى الله} يتولى جزاءهم {ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} فيجازيهم به وهذا منسوخ بآية السيف.
(15/285)
---(1/1003)
{من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} أي: عشر حسنات أمثالها فضلاً من الله تعالى {ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا مثلها} أي: جزاءها قضية للعدل {وهم لا يظلمون} أي: بنقص الثواب وزيادة العقاب، وما ذكر في أضعاف الحسنات هو أقل ما عد من الأضعاف فقد قال صلى الله عليه وسلم «إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل» وقال صلى الله عليه وسلم «يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد ومن جاء بالسيئة فله سيئة مثلها وأغفر ومن تقرّب مني شبراً تقرّبت منه ذراعاً ومن لقيني بقراب أهل الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة» وقال صلى الله عليه وسلم «يقول الله تبارك وتعالى: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة وإن عملها فاكتبوها بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف» وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: الآية في غير الصدقات من الحسنات، فأمّا الصدقات فإنها تضاعف سبعمائة ضعف.
{قل} يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك {إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم} بالوحي والإرشاد إلى ما نصب من الحجج، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالسكون، وقوله تعالى: {ديناً} بدل من محل إلى صراط مستقيم، والمعنى: وهداني صراطاً كقوله تعالى: {ويهديكم صراطاً مستقيماً} (الفتح، 20)
(15/286)
---(1/1004)
{قيماً} أي: مستقيماً، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح القاف وكسر الياء مشدّدة والباقون بكسر القاف وفتح الباء مخففة على أنه مصدر نعت به وكان قياسه قوماً فاعل لإعلال فعله كالقيام، وقوله تعالى: {ملة إبراهيم} عطف بيان لديناً إذ الملة بالكسر لدين وإن فرق بينهما بأن الملة لا تضاف إلا إلى النبيّ الذي تستند إليه، والدين لا تختص إضافته بذلك، وقوله تعالى: {حنيفاً} حال من إبراهيم أي: مائلاً من الضلالة إلى الاستقامة والعرب تسمي كل مرجح أو اختتن حنيفاً تنبيهاً على أنه دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى: {وما كان} إبراهيم صلى الله عليه وسلم {من المشركين} ردّ على كفار قريش لأنهم يزعمون أنهم على دين إبراهيم فأخبر الله تعالى أنّ إبراهيم لم يكن من المشركين.
{قل} يا محمد {إنّ صلاتي ونسكي} أي: عبادتي من حج وغيره {ومحياي ومماتي} أي: وما أنا عليه في حياتي وأموت عليه من الإيمان والطاعة أو طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير أو الحياة والممات أنفسهما، وقرأ نافع: ومحياي بسكون الياء بخلاف عن ورش إجراء للوصل مجرى الوقف والباقون بالفتح، وفتح الياء من مماتي نافع وسكنها الباقون {رب العالمين}.
{لا شريك له} في ذلك {وبذلك} أي: وبهذا التوحيد {أمرت وأنا أوّل المسلمين} أي: من هذه الأمّة لأنّ إسلام كل نبيّ مقدّم على إسلام أمّته، وقرأ نافع بمد أنا قبل الهمزة المفتوحة وقالون بالمدّ والقصر لأنها عنده مدّ منفصل والباقون لا مدّ أصلاً.
{قل} يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك {أغير الله أبغي} أي: أطلب {رباً} أي: إلهاً فأشركه في عبادتي وهذا جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم والهمزة للإنكار أي: منكر أن أبغي رباً غيره {وهو رب كل شيء} فكل من دونه مربوب ليس في الوجود من له الربوبية غيره كما قال تعالى: {قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} (الزمر، 64)
(15/287)
---(1/1005)
{ولا تكسب كل نفس} ذنباً {إلا عليها} أي: إثم الجاني عليه لا على غيره وقوله تعالى: {ولا تزر} أي: ولا تحمل نفس {وازرة} أي: آثمة {وزر} نفس {أخرى} جواب عن قولهم: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم {ثم إلى ربكم مرجعكم} يوم القيامة {فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} في الدنيا فيتبين الرشد من الغي والمحق من المبطل.
{وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} جمع خليفة لأنّ محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فخلفت أمّته سائر الأمم أو يخلف بعضهم بعضاً فيها أو هم خلفاء الله تعالى في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها {ورفع بعضكم فوق بعض درجات} أي: في الشرف والرزق {ليبلوكم} أي: ليختبركم {في ما آتاكم} أي: أعطاكم ليظهر المطيع منكم والعاصي.
فائدة: في تكتب مقطوعة عن ما {إنّ ربك سريع العقاب} لمن عصاه لأنّ ما هو آت قريب أو لأنه يسرع إذا أراده {وإنه لغفور} للمؤمنين {رحيم} بهم وصف الله تعالى العقاب ولم يضفه إلى نفسه ووصف تعالى ذاته بالمغفرة وضم إليه الوصف بالرحمة وأتى ببناء المبالغة واللام المؤكدة تنبيهاً على إنه تعالى غفور بالذات معاقب بالعرض كثير الرحمة مبالغ فيها قليل العقوبة مسامح فيها فنسأل الله العظيم أن يسامحنا وأن يغفر زلاتنا ولا يؤاخذنا بسوء أفعالنا وأن يفعل ذلك بوالدينا وأقاربنا وأحبابنا وأصحابنا وجميع المسلمين ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.
سورة الأعراف
مكية
إلا ثمان آيات من قوله تعالى {واسئلهم عن القرية} إلى قوله تعالى: {وإذ نتقنا الجبل} محكمة كلها وقيل: إلا قوله تعالى: {وأعرض عن الجاهلين} وعدد آياتها مائتان وخمس آيات وكلماتها ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمس وعشرون كلمة وحروفها أربعة عشر ألفاً وثلاثمائة وعشرة أحرف.
{بسم الله} الواحد الذي لا يقدر أحد قدره {الرحمن} الذي عمّ بنعمة البيان من أوجب عليهم شكره {الرحيم} الذي خص أهل ودّه فاجتنبوا نهيه وامتثلوا أمره.
(15/288)
---(1/1006)
{المص} سبق الكلام على معاني الحروف المقطعة في أوّل سورة البقرة وقوله تعالى:
{كتاب} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو أو هذا أو خبر المص والمراد بالكتاب السورة أو القرآن وقوله تعالى: {أنزل إليك} صفة والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم {فلا يكن في صدرك حرج} أي: ضيق {منه} أي: لا يضيق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به مخافة أن تكذب لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم كان يضيق صدره من الأذى ولا ينبسط له فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم، وقيل: الحرج الشك والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد أمته وسمي الشك حرجاً لأنّ الشاك ضيق الصدر كما أنّ المتيقن منشرح الصدر وقوله تعالى: {لتنذر} متعلق بأنزل أي: للإنذار به {وذكرى} أي: وتذكرة {للمؤمنين} به وحذف المفعول يدل على عموم الرسالة لكل من أمكن إنذاره وتذكيره من العقلاء، قال بعض المفسرين: وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم تقديره كتاب أنزلناه إليك لتنذر به، وذكرى للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه ويدل لهذا تعلق لتنذر بأنزل وقوله تعالى:
{اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} يعني القرآن والسنة لقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (النجم، الآيات: 2 ـ 3)
ولقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر، 7)
أي: قل لهم يا محمد اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وذروا ما أنتم عليه من الشرك {ولا تتبعوا من دونه} أي: ولا تتخذوا من دون الله أي: غيره {أولياء} تطيعونهم من شياطين الإنس والجن فيأمروكم بعبادة الأصنام واتباع البدع والأهواء الفاسدة {قليلاً ما تذكرون} أي: تتعظون، وقرأ ابن عامر بياء قبل التاء وتخفيف الذال، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال ولا ياء قبل التاء والباقون بتشديد الذال ولا ياء قبل التاء.
(15/290)
---(1/1007)
{وكم من قرية أهلكناها} أي: أهلكنا أهلها، وقيل: لا يحتاج إلى تقدير مضاف لأنّ القرية تهلك كما يهلك أهلها وإنما يقدّر في فجاءها لأجل قوله تعالى: {أو هم قائلون} وكم خبرية مفعول أهلكنا وهي للتكثير والإهلاك على حقيقته أو يقدّر أردنا إهلاكها لقوله تعالى: {فجاءها} أي: أهلها {بأسنا} أي: عذابنا فإنّ مجيء البأس قبل الإهلاك فتقدر الإرادة، وقيل: الإهلاك الخذلان وعلى هذا فلا حاجة إلى تقدير {بياتاً} أي: وقت الاستكان في البيوت ليلاً كما جاء قوم لوط عليه السلام {أو هم قائلون} أي: نائمون وقت القائلة وهي نصف النهار أو مستريحون من غير نوم كما أهلكنا قوم شعيب عليه السلام أي: مرّة جاءها ليلاً ومرّة نهاراً وإنما خص هذين الوقتين لأنهما وقت دعة واستراحة فيكون مجيء العذاب فيهما أفظع، وفي هذا وعيد وتخويف للكفار كأنه قيل: لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة فإنّ عذاب الله إذا نزل نزل دفعة واحدة.
{فما كان دعواهم} أي: قولهم {إذ جاءهم بأسنا} أي: عذابنا {إلا أن قالوا} أي: إلا قولهم {إنا كنا ظالمين} أي: فيما كنا عليه حيث لم نتبع ما أنزل إلينا من ربنا وذلك حين لا ينفعهم الاعتراف.
{فلنسئلنّ الذين أرسل إليهم} أي: المرسل إليهم وهم الأمم يسألهم الله تعالى عن قبول الرسالة وإجابتهم الرسل {ولنسئلن المرسلين} أي: عما أجيبوا به كما قال تعالى {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم} (المائدة، 109)
وقيل: نسأل المرسلين عن الإبلاغ والمراد من هذا السؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم والمنفي في قوله تعالى: {ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون} (القصص، 78)
سؤال الاستعلام الأوّل في موقف الحساب، وهذا عند حصولهم على العقوبة.
{فلنقصنّ عليهم} أي: الرسل والمرسل إليهم {بعلم} لنخبرنهم عن علم بما فعلوه باطناً وظاهراً وبما قالوه سراً وعلانية {وما كنا غائبين} عنهم فيخفى علينا شيء من أحوالهم وأقوالهم.
(15/291)
---(1/1008)
{والوزن} أي: لصحائف الأعمال بميزان له لسان وكفتان ينظر إليها الخلائق إظهاراً للعدل وقطعاً للمعذرة كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وتشهد بها جوارحهم ويؤيده ما روي أنّ رجلاً يؤتى به إلى الميزان فينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مدّ البصر فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة والبطاقة رقعة صغيرة تجعل في طيّ الثوب يكتب فيها ثمنه، وقيل: توزن الأعمال.
روي عن ابن عباس: يؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع في الميزان، وقيل: توزن الأشخاص لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة» وقوله تعالى: {يومئذٍ} أي: يوم السؤال المذكور وهو يوم القيامة خبر المبتدأ الذي هو الوزن، وقوله تعالى: {الحق} أي: العدل السوي صفته {فمن ثقلت موازينه} أي: رجحت على ما يعهد في الدنيا بصحائف الأعمال أو حسناته أو به على الأقوال الماضية، وعن الحسن: وحق لميزان توضع فيه الحسنات أن يرجح ويثقل وحق لميزان توضع فيه السيآت أن يخف.
فإن قيل: الميزان واحد فما وجه الجمع؟ أجيب: بأنّ العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد وقيل: إنه ينصب لكل عبد ميزان، وقيل: إنما جمعه لأنّ الميزان يشتمل على الكفتين واللسان والساهون ولا يتم الوزن إلا بذلك كله، وقيل: جمع لاختلاف الموزونات وتعدد الجمع فهو جمع موزون أو ميزان {فأولئك هم المفلحون} الفائزون بالنجاة والثواب.
{ومن خفت} أي: طاشت {موازينه} أي: السيآت أي: بسببها {فأولئك الذين خسروا أنفسهم} أي: بتصييرها إلى النار {بما كانوا بآياتنا يظلمون} أي: يجحدون.
(15/292)
---(1/1009)
{ولقد مكناكم} يا بني آدم {في الأرض} أي: في مسكنها وزرعها والتصرف فيها {وجعلنا لكم فيها معايش} جمع معيشة أي: أسباباً تعيشون بها أيام حياتكم من أنواع التجارات والصنائع والمآكل والمشارب وذلك بفضل الله تعالى وإنعامه على عبيده وكثرة الإنعام توجب الطاعة للمنعم بها والشكر له عليها ثم بيّن تعالى أنه مع هذا الإفضال على عبيده وإنعامه عليهم لا يقومون بشكرها كما ينبغي فقال تعالى: {قليلاً ما تشكرون} أي: على ما صنعت إليكم وأنعمت به عليكم وفيه دليل على أنهم قد يشكرون لأنّ الإنسان قد يذكر نعمة الله فيشكره عليها فلا يخلو في بعض الأوقات من الشكر على النعم وحقيقة الشكر تصور النعمة وإظهارها ويضادّه الكفر وهو نسيان النعمة وسترها.
{ولقد خلقناكم} أي: أباكم آدم {ثم صوّرناكم} أي: أباكم آدم والمراد يعني: خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوّر ثم صوّرناه فنزل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويرهم، وقيل: خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صوّرناكم في أرحام النساء {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم}.
فإن قيل: ثم للترتيب والتراخي وهي ظاهرة على القول الأوّل فما وجهه على الثاني؟ أجيب: بأنها تكون بمعنى الواو أي: وقلنا للملائكة اسجدوا لآدم سجود تحية بالانحناء {فسجدوا} أي: الملائكة كلهم لآدم {إلا إبليس} أبا الجن كان بين الملائكة {لم يكن من الساجدين} أي: ممن سجد.
(15/293)
---
{قال} الله تعالى لإبليس {ما منعك أن لا تسجد} أي: أن تسجد {إذ أمرتك} فلا زائدة للتأكيد كما في قوله تعالى: {لا أقسم} (البلد، 1)
أي: أقسم، وقوله تعالى: {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} (الأنبياء، 95)
(15/294)
---
أي: يرجعون نعم إن حمل ما منعك على ما حملك لم تكن زائدة {قال} إبليس مجيباً له تعالى: {أنا خير منه}.(1/1010)
فإن قيل: كيف يكون قوله: {أنا خير منه} جواباً لما منعك وإنما الجواب أن يقول منعني كذا؟ أجيب: بأنه جواب من حيث المعنى استأنف به استبعاداً لأن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله كأنه قال المانع: إني خير منه ولا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول فكيف يحسن أن يؤمر به فهو الذي سنّ التكبر وقال: بالحسن والقبح العقليين أوّلاً وعلل الخيرية بقوله تعالى: {خلقتني من نار} فهي أغلب أجزائي وهي مشرقة مضيئة عالية غالبة {وخلقته من طين} أي: هو أغلب أجزائه وهو كدر مظلم سافل مغلوب فكل منهما مركب من العناصر الأربعة فالإضافة إلى ما ذكر باعتبار الجزء الغالب، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أوّل من قاس إبليس فأخطأ فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله تعالى مع إبليس، قال ابن سيرين: ما عبدت الشمس إلا بالقياس وإنما أخطأ إبليس لأنه رأى الفضل كله باعتبار العنصر وغفل عما يكون باعتبار الفاعل كما أشار إليه بقوله تعالى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} (ص، 75)
أي: بغير واسطة وباعتبار الصورة كما نبه عليه تعالى بقوله: {ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} (الحجر، 29)
(15/295)
---(1/1011)
وباعتبار الغاية وهي ملاكه ولذلك أمر الملائكة بالسجود لما تبين لهم أنه أعلم منهم وإنّ له خواص ليست لغيره، وقال محمد بن جرير: ظن الخبيث أنّ النار خير من الطين ولم يعلم أنّ المفضل ما جعل الله له الفضل، وقد فضل الله الطين عن النار بوجوه منها: أنّ من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو الداعي لآدم بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع فأورثته الاجتباء والمنزلة والهداية، ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدّة والارتفاع وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار فأورثته اللعنة والشقاوة ولأنّ الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرّقها ولأنّ التراب سبب الحياة لأنّ حياة الأشجار والنبات لا تكون إلا مع الطين والنار سبب الهلاك.
فإن قيل: لم سأله الله تعالى عن المانع من السجود وهو عالم بما منعه؟ أجيب: بأنه للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وازدرائه أصل آدم عليه الصلاة والسلام.
(15/296)
---(1/1012)
{قال} الله تعالى لإبليس {فاهبط منها} أي: من الجنة، وقيل: من السماء إلى الأرض، والهبوط الإنزال والانحدار من فوق على سبيل القهقري والهوان والاستخفاف {فما يكون} أي: فما يصح {لك أن تتكبر فيها} عن أمري لأنّ الجنة أو السماء مكان الخاشع المطيع لأمر الله تعالى وفيه تنبيه على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة والسماء وأنه تعالى إنما طرد إبليس لتكبره لا لمجرّد المعصية قال صلى الله عليه وسلم كما رواه البيهقيّ: «من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله» وعن عمر رضي الله عنه: من تواضع رفع الله حكمته، ومن تكبر وعلا طوره هضمه الله إلى الأرض {فأخرج} منها {إنك من الصاغرين} أي: الكفرة الأذلاء المهانين والصغار الذل والمهانة، قال الزجاج: استكبر عدوّ الله إبليس فابتلاه الله تعالى بالصغار والذلة، وقيل: كان له ملك الأرض فأخرجه الله منها إلى جزائر البحر الأخضر وعرشه عليه فلا يدخل الأرض إلا خائفاً كهيئة السارق مثل شيخ عليه إطمار رثة يروغ فيها حتى يخرج منها.
{قال} إبليس عند ذلك {أنظرني} أي: أخرني ولا تمتني ولا تعجل عقوبتي {إلى يوم يبعثون} أي: الناس وهو النفخة الأخيرة عند قيام الساعة، وهذا من جهالة إبليس الخبيث لأنه سأل ربه الإمهال وقد علم إنه لا سبيل لأحد من الخلق إلى البقاء في الدنيا ولكنه كره أن يذوق الموت فطلب البقاء والخلود فلم يجب إلى ما سأل بل أجابه الله تعالى بقوله: {قال إنك من المنظرين} لا إلى ذلك الوقت بل إلى الوقت المعلوم كما بينه تعالى في سورة الحجر بقوله تعالى: {فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم} (الحجر، 37 ـ 38)
وذلك هو النفخة الأولى التي يموت فيها الخلق.
(15/297)
---(1/1013)
فإن قيل: لم أجيب إلى الإنظار وإنما استنظر ليفسد عباده ويغويهم؟ أجيب: بأنه أجابه لما في ذلك من ابتلاء العباد وفي مخالفته من عظيم الثواب وحكمة ما خلق الله تعالى من صنوف الزخارف وأنواع الملاذ والملاهي وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده.
{قال} أي: إبليس {فبما أغويتني} أي: فبإغوائك لي والباء للقسم أي: أقسم بإغوائك وجوابه {لأقعدنّ لهم} أي: لبني آدم {صراطك المسقيم} أي: على الطريق الموصل إليك وإنما أقسم بالإغواء لأنه كان تكليفاً والتكليف من أحسن أفعال الله تعالى لكونه تعريضاً لسعادة الأبد فكان جديراً لأن يقسم به ويجوز أن تتعلق الباء بفعل القسم المحذوف تقديره: فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدنّ أي: فبسبب إغوائك أقسم.
(15/298)
---(1/1014)
{ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} أي: من جميع الجهات الأربع ولذلك لم يقل من فوقهم ومن تحت أرجلهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ولا يستطيع أن يأتي من فوقهم لئلا يحول بين العبد وبين رحمة ربه، وقيل: لم يقل من تحتهم لأنّ الإتيان منه يوحش، وعنه إنه قال: من بين أيديهم من قبل الآخرة فيخبرهم أن لا بعث ولا جنة ولا نار، ومن خلفهم من قبل الدنيا فيزينها، لهم وعن أيمانهم أي: من قبل حسناتهم أي: فيبطؤهم، عنها، وعن شمائلهم من قبل سيآتهم أي: فيزين لهم المعاصي يدعوهم إليها. وإنما عدى الفعل إلى الأوّلين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه إليهم وإلى الآخرين بحرف المجاوزة فإنّ الآتي منهما كالمنحرف عنهم المارّ على عروضهم ونظيره قوله: جلست عن يمينه وعن شقيق ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربع مراصد من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي أمّا من بين يدي فيقول: لا تخف إنّ الله غفور رحيم فأقرأ {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى} (طه، 82)، وأمّا من خلفي فيخوفني الضيعة على من خلفي فأقرأ: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} (هود، 6)، وأمّا من قبل يميني فيأتيني من قبل النساء فأقرأ: {والعاقبة للمتقين} (القصص، 83)، وأمّا من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} (سبأ، 54)
{ولا تجد أكثرهم شاكرين} أي: مطيعين.
فإن قيل: كيف علم الخبيث ذلك؟ أجيب: بأنه إنما قال ذلك ظناً لقوله تعالى: {ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه} (سبأ، 20)
لما رأى فيهم مبدأ الشرّ متعدّداً وهو الشيطان والنفس والهوى ومبدأ الخير واحداً وهو الملك الملهم، وقيل: سمع ذلك من الملائكة.
(15/299)
---(1/1015)
{قال} الله تعالى لإبليس حين طرده عن بابه، وأبعده عن جنابه بسبب عصيانه ومخالفته {أخرج منها} أي: الجنة أو السماء كما مرّ فإنه لا ينبغي أن تسكن فيها {مذؤماً} أي: محقوراً ممقوتاً {مدحوراً} أي: مبعداً مطروداً عن الرحمة وقوله تعالى: {لمن تبعك منهم} أي: من الناس اللام فيه موطئة للقسم وجوابه {لأملأنّ جهنم منكم أجمعين} وهو سادّ مسدّ جواب الشرط وهو من تبعك أي: لأملأن جهنم منك بذريّتك ومن الناس وفيه تغليب الحاضر على الغائب.
{ويا آدم} أي: وقلنا يا آدم {اسكن} فهذه القصة معطوفة على قوله تعالى: {قلنا للملائكة} وقوله تعالى: {أنت} تأكيد للضمير في اسكن ليعطف عليه {وزوجك} أي: حواء بالمدّ وذلك بعد أن أهبط منها إبليس وأخرجه وطرده من الجنة {الجنة فكلا من حيث شئتما} من ثمار الجنة أي: من أيّ مكان شئتما.
فإن قيل: قال تعالى في سورة البقرة: {وكلا} (البقرة، 35)
بالواو وهنا بالفاء فما الفرق؟ أجاب الفخر الرازي: بأن الواو تفيد الجمع المطلق والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو ولا منافاة بين النوع والجنس ففي سورة البقرة ذكر الجنس وهنا ذكر النوع {ولا تقربا هذه الشجرة} أي: بالأكل منها مشيراً إلى شجرة بعينها أو نوعها وهي الحنطة، وقيل: شجرة الكرم، وقيل: غيرهما {فتكونا من الظالمين} أي: بالأكل منها أي: فتصيرا بذلك من الذين ظلموا أنفسهم، وتكونا يحتمل الجزم عطفاً على تقربا والنصب على جواب النهي.
{فوسوس لهما الشيطان} أي: إبليس بما مكنه الله تعالى منه من أنه يجري من الإنسان مجرى الدم ويلقي له في سره ما يميل به قلبه إلى ما يريد وهو أحقر وأذلّ من أن يكون له فعل وإنما الكل بيد الله سبحانه وتعالى وهو الذي جعله آلة لمراده منه ومنهم فإن {من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون} (الأعراف، 178)
(15/300)
---(1/1016)
ثم بين علة الوسوسة بقوله تعالى: {ليبدي} أي: ليظهر {لهما ما ووري} أي: ستر وغطى {عنهما من سوآتهما} أي:عوراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر وفيه دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوجة من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع قالت عائشة رضي الله عنها: «ما رأيت منه صلى الله عليه وسلم ولا رأى مني» أي: الفرج.
{وقال} أي: إبليس لآدم وحواء {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة} أي: عن الأكل منها {إلا أنّ} أي: كراهة أن {تكونا ملكين} أي: في عدم الشهوة وفي القدرة على الطيران والتشكل وغير ذلك من خواصهم {أو تكونا من الخالدين} أي: الذين لا يموتون ولا يخرجون من الجنة أصلاً كما في آية أخرى، {هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} (طه، 12)
{وقاسمهما} أي: أقسم لهما بالله على ذلك وأخرجه على زنة المفاعلة للمبالغة، وقيل: أقسما له بالقبول، وقيل: أقسما عليه بالله إنه لهما لمن الناصحين فأقسم لهما {أني لكما لمن الناصحين} فجعل ذلك مقاسمة وقال قتادة: حلف لهما بالله حين خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله تعالى فقال: إني خلقت قبلكما وأنا أعلم فاتبعاني أرشدكما وفيه تنبيه على الاحتراز من الحالف وإن الأغلب أنّ كل حلاف كاذب وأنه لا يحلف إلا عند ظنه أن سامعه لا يصدقه ولا يظنّ ذلك إلا وهو معتاد للكذب، وقال بعض العلماء: من خادعنا بالله خدعنا له، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة أعتقه وكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق فقيل له: إنهم يخدعونك فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له وإبليس لعنه الله تعالى أوّل من حلف بالله تعالى كاذباً فلما حلف ظن آدم أنّ أحداً لا يحلف بالله تعالى كاذباً فاغتر به.
(15/301)
---(1/1017)
{فدلاهما بغرور} أي: خدعهما، يقال: ما زال يدلي لفلان بالغرور يعني ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف القول الباطل وقيل: حطهما من منزلة الطاعة إلى حالة المعصية والغرور إظهار النصح مع إبطان الغش {فلما ذاقا الشجرة} أي: أكلا من ثمرها وفي ذلك دليل على أنهما تناولا اليسير من ذلك قصداً إلى معرفة طعمه إذ الذوق يدل على الأكل اليسير.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قبل ازدرادهما أخذتهما العقوبة والعقوبة هي قوله تعالى: {بدت} أي: ظهرت {لهما سوآتهما} أي: عوراتهما وتجافت عنهما لباسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما ووري عنه من سوأة صاحبه بأن رأى قبل نفسه وقبل صاحبه ودبره وكانا لا يريان ذلك وسمى كل منهما سوأة لأنّ انكشافه يسوء صاحبه، قال وهب: كان لباسهما من النور يحول بينهما وبين النظر، وقال قتادة: كان ظفراً ألبسهما الله من الظفر لباساً فلما وقعا في الذنب بدت لهما سوآتهما فاستحيا {وطفقا} أي: أقبلا وجعلا {يخصفان} أي: يلزقان {عليهما من ورق الجنة} أي: من ورق التين قال البغوي: حتى صار كهيئة الثوب، قال الزجاج: يجعلان ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما.
(15/302)
---(1/1018)
روي عن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان آدم رجلاً طوالاً كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس فلما وقع في الخطيئة بدت له سوأته وكان لا يراها فانطلق هارباً في الجنة فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته بشعره فقال لها: أرسليني، فقالت: لست بمرسلتك، فناداه الله عز وجل: يا آدم أمني تفرّ، فقال: لا يا رب ولكني استحييتك» {وناداهما} أي: خاطبهما {ربهما} بقوله: {ألم أنهكما عن تلكما الشجرة} أي: عن الأكل من ثمرها {وأقل لكما إنّ الشيطان لكما عدو مبين} أي: بين العداوة لكما وقد بان لكما عداوته بترك السجود تعنتاً وحسداً، وفي ذلك عتاب على مخالفة النهي وتوبيخ على الاغترار بقول العدوّ ودليل على أنّ مطلق النهي للتحريم، قال محمد بن قيس: لما أكل آدم من الشجرة ناداه ربه يا آدم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال: حواء أمرتني، وقال لحواء: لم أطعمت آدم؟ قالت: أمرتني الحية، وقال للحية: لم أمرتيها؟ قالت: أمرني إبليس، قال الله تعالى: أمّا أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة فتدمين في كل شهر، وأمّا أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين على وجهك وسيشدخ رأسك من لقيك، وأمّا أنت يا إبليس فملعون مدحور. وفي رواية لابن عباس: إنه قال لحواء: فإني أعطيتها أن لا تحمل إلا كرهاً ولا تضع إلا كرهاً.
(15/303)
---(1/1019)
{قالا ربنا ظلمنا أنفسنا} أي: ضررناها بمخالفة أمرك وطاعة عدوّنا وعدوك فإن لم تتب علينا نستمر عاصين {وإن لم تغفر لنا} أي: فهو ما عملنا عيناً وأثراً {وترحمنا} أي: فتعلي درجاتنا {لنكونن من الخاسرين} في الأرض فأعربت الآية أنهما فزعا إلى الإنصاف وبالاعتراف بذنبهما وإن كان إنما هو خلاف الأولى لأنه بطريق النسيان كما في سورة طه قال قتادة: قال آدم أرأيت إن تبت إليك واستغفرتك؟ قال: أدخلك الجنة، وأمّا إبليس فلم يسأل التوبة وسأل النظرة فأعطى كل واحد منهما ما سأله، وقال الضحاك في قوله تعالى: {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا} قال: هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه تعالى: وقد استدل من يرى صدور الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآية، ورد بأن درجة الأنبياء في الرفعة والعلو والمعرفة بالله تعالى في أعلى الدرجات ولكن يؤاخذون بما لم يؤاخذ به غيرهم وإنهم ربما عوتبوا بأمور صدرت منهم على سبيل التأويل فهم بسبب ذلك خائفون وجلون وهي ذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم ومعاصي بالنسبة إلى كمال طاعتهم لا إنها ذنوب كذنوب غيرهم ومعاص كمعاصي غيرهم فكان ما صدر منهم مع طهارتهم ونزاهتهم وعمارة بواطنهم بالوحي السماوي والذكر القدسي وعمارة ظواهرهم بالعمل الصالح والخشية لله تعالى ذنوب بالنسبة إلى أحوالهم فقالا ذلك على عادة المقرّبين في استعظام الصغير من السيئات وتحقير العظيم من الحسنات وقد تقدّم الكلام على ذلك في سورة البقرة ومن جملة ذلك أن آدم إنما أكل من الشجرة قبل النبوّة.
{قال} الله تعالى {اهبطوا} أي: آدم وحواء بما اشتملتما عليه من ذرّيتكما ويدل لذلك قوله تعالى في سورة طه: {اهبطا} (طه، 123)
(15/305)
---(1/1020)
بضمير التثنية {بعضكم} أي: بعض الذرّية {لبعض عدوّ} أي: من ظلم بعضهم بعضاً، وقيل: يعود الضمير لآدم وحواء وإبليس، وقيل: لآدم وحواء وإبليس والحية، وعلى هذين فالعداوة ثابتة بين آدم وإبليس والحية وذرية كل واحد من آدم وإبليس {ولكم في الأرض} أي: جنسها {مستقر} أي: موضع استقرار {و} لكم فيها {متاع} أي: تمتع {إلى حين} أي: انقضاء آجالكم، وقيل: إلى انقطاع الدنيا، وعن ثابت البناني رحمه الله تعالى لما أهبط آدم وحضرته الوفاة أحاطت به الملائكة فجعلت حواء تدور حولهم فقال لها: خلي ملائكة ربي فإنما أصابني الذي أصابني منك فلما توفي غسلته الملائكة بسرنديب بماء وسدر وتراً وحنطته وكفنته في وتر من الثياب وحفروا له ولحدوه بسرنديب بأرض الهند وقالوا لبنيه: هذه سنتكم من بعده.
{قال} الله تعالى {فيها} أي: الأرض {تحيون} أي: تعيشون أيام حياتكم {وفيها تموتون} أي: وفيها وفاتكم وموضع قبوركم {ومنها تخرجون} أي: يوم القيامة تخرجون للحشر والجزاء، وقرأ ابن ذكوان وحمزة والكسائي بفتح التاء وضم الراء والباقون بضم التاء وفتح الراء.
(15/306)
---
{يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً} أي: خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة من مطر ونحوه ونظيره قوله تعالى: {وأنزل لكم من الأنعام} (الزمر، 6)
وقوله تعالى: {وأنزلنا الحديد} (الحديد، 25)
(15/307)
---
وقيل: كل بركات الأرض منسوبة إلى السماء {يواري} أي: يستر {سوأتكم} أي: عوراتكم.
روي أنّ العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف في ثياب عصينا الله تعالى فيها وكان الرجال يطوفون بالنهار والنساء يطوفون بالليل عراة قال قتادة: كانت المرأة تطوف وتضع يدها على فرجها وتقول:
*اليوم يبدو بعضه أو كله ** وما بدا منه فلا أحله*(1/1021)
فنزلت، قال البيضاوي: ولعله سبحانه ذكر قصة آدم تقدمة لذلك حتى نعلم أنّ انكشاف العورة أوّل سوء أصاب الإنسان من الشيطان وإنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم {وريشاً} أي: ولباساً تتجملون به والريش للطائر معروف وهو لباسه وزينته كالثياب للإنسان فاستعير للإنسان لأنه لباسه وزينته والمعنى: وأنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم ولباساً لزينتكم لأنّ الزينة غرض صحيح. كما قال تعالى: {لتركبوها وزينة} (النحل، 8)
وقال تعالى: {ولكم فيها جمال} (النحل، 6)
وقال صلى الله عليه وسلم «إنّ الله جميل يحب الجمال» وقال ابن عباس: وريشاً أي: مالاً، يقال: تريش الرجل تموّل، ولما ذكر سبحانه وتعالى اللباس الحسي وقسمه إلى ساتر ومزين أتبعه اللباس المعنوي فقال: {ولباس التقوى} قال ابن عباس: هو العمل الصالح ثم زاد الله تعالى في تعظيم المعنوي بقوله: {ذلك خير} أي: ولباس التقوى هو خير من لباس الثياب لكونه أهم اللباسين لأنّ نزعه يكشف العورة الحسية والمعنوية فلو تجمل الإنسان بأحسن الملابس وهو غير متق كان كله سوآت ولو كان متقياً وليس عليه إلا خريقة ثوب تواري عورته كان في غاية الجمال والكمال وأنشدوا في المعنى:
u
*إذا أنت لم تلبس ثياباً من التقى ** عريت وإن وارى القميص قميص*
(15/308)
---(1/1022)
وقال قتادة: لباس التقوى هو الإيمان، وقال الحسن: هو الحياء لأنه يبعث على التقوى، وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: هو السمت الحسن، وقال ابن الزبير: هو خشية الله تعالى والعمل الصالح يشمل هذه الأمور كلها، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بنصب السين عطفاً على لباساً والباقون بالرفع على الابتداء والخبر ذلك خير {ذلك} أي: إنزال اللباس {من آيات الله} الدالة على فضله ورحمته {لعلهم يذكرون} فيعرفون نعمة الله فيتعظون ويتورعون عن القبائح وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر بدو السوآت وخصف الورق عليها إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة إظهاراً وإشعاراً بأنّ الستر باب عظيم من أبواب التقوى.
(15/309)
---(1/1023)
{يا بني آدم} أي: الذي خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي ثم أسكنته جنتي وأنزلته منها إلى دار محنتي {لا يفتننكم} أي: يضلنكم {الشيطان} أي: البعيد المحترق بالذنوب أي: لا تتبعوه فتفتتنوا فيمنعكم بذلك من دخول الجنة ويدخلكم النار {كما أخرج أبويكم من الجنة} بفتنته بعد أن كانا سكناها وتمكنا فيها وتوطناها وقد علمتم أنّ الدفع أسهل من الرفع وقوله تعالى: {ينزع عنهما لباسهما} حال من أبويكم أو من فاعل أخرج وإنما أضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يباشر ذلك لأنّ نزع لباسهما بسبب وسوسة الشيطان وغروره فأسند إليه واختلفوا في اللباس الذي نزع عنهما فقال ابن عباس وقتادة: كان لباسهما الظفر فلما أصابا المصيبة نزع عنهما وبقيت الأظفار تذكرة وزينة ومنافع، وقال وهب بن منبه: كان نوراً يحول بينهما وبين النظر وتقدّم بعض ذلك، وقال مجاهد: كان لباسهما التقوى، وقيل: كان لباسهما من ثياب الجنة قال بعض المفسرين: وهذا أقرب لأنّ إطلاق اللباس يطلق عليه وإنّ النزع لا يكون إلا بعد اللبس، اه. وتقدّم الكلام على قوله: {ليريهما سوآتهما إنه} أي: الشيطان {يراكم هو وقبيله} أي: جنوده وقال ابن عباس: قبيله ولده، وقال أبو زيد: نسله وإنما أعاد الكناية في قوله: هو ليحسن العطف والقبيل جمع قبيلة وهي الجماعة المجتمعة التي يقابل بعضها بعضاً {من حيث لا ترونهم} أي: للطافة أجسامهم أو عدم ألوانهم، وعن ابن عباس أنه قال: إنّ الله تعالى جعلهم يجرون من ابن آدم مجرى الدم، وجعل صدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصمه الله تعالى كما قال تعالى: {الذي يوسوس في صدور الناس} (الناس، 5)
(15/310)
---(1/1024)
فهم يرون بني آدم وبنو آدم لا يرونهم، وعن مجاهد: قال إبليس: جعل لنا أربعة نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا فتى، وعن ابن دينار أن عدوّاً يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله تعالى ومنع الرؤية إذا كانوا على خلقتهم الأصلية وإلا فقد يرون وأعند تشكلهم بصورة حيوان أو طير أو غير ذلك فإنّ للجنّ قوّة التشكل وهذا أمر شائع ذائع، وقد رؤي إبليس على صورة شيخ وتمثل لكثير من العباد على صورة حية بل قال شيخنا القاضي زكريا: والحق جواز رؤيتهم حتى من تلك الجهة كما هو ظاهر الأحاديث الصحيحة وتكون الآية مخصوصة بها فيكونون مرئيين في بعض الأحيان لبعض الناس دون بعض {إنا جعلنا الشياطين أولياء} أي: أعواناً وقرناء {للذين لا يؤمنون} لما بينهم من التناسب في الطباع.
{وإذا فعلوا فاحشة} كالشرك وطوافهم بالبيت عراة فنهوا عنه {قالوا} معللين لارتكابهم إياها بأمرين: أحدهما قولهم: {وجدنا عليها} أي: الفاحشة {آباءنا} فاقتدينا بهم والثاني قولهم: {وا أمرنا بها} افتراء عليه سبحانه وتعالى فأعرض الله تعالى عن الأوّل لظهور فساده ورد عن الثاني بقوله: {قل} لهم يا محمد {إنّ الله لا يأمر بالفحشاء} لأن عادته سبحانه وتعالى جرت على الأمر بمحاسن الأفعال والحث على مكارم الخصال {أتقولون على الله ما لا تعلمون} أنه قاله فإنكم لم تسمعوا كلام الله من غير واسطة ولا أخذتموه عن الأنبياء الذين هم وسائط بين الله وبين عباده وهو استفهام إنكاري يتضمن النهي عن الافتراء على الله، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية في الوصل والباقون بالتحقيق.
{قل} يا محمد لهؤلاء الذين يقولون ذلك {أمر ربي بالقسط} أي: بالعدل وهو الوسط من كلام المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط وقال ابن عباس: بلا إله إلا الله {وأقيموا} أي: وقل لهم أقيموا {وجوهكم} لله {عند كل مسجد} أي: أخلصوا له سجودكم.
(15/311)
---(1/1025)
فإن قيل: أمر ربي خبر وأقيموا وجوهكم أمر وعطف الأمر على الخبر لا يجوز. أجيب: بأنّ فيه إضماراً وحذفاً تقديره: قل أمر ربي بالقسط، وقل: أقيموا كما تقدّم تقديره فحذف قل لدلالة الكلام عليه، وقيل: معنى الآية وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة وقيل: معناه صلوا في أي مسجد حضرتكم الصلاة ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم {وادعوه} أي: اعبدوه {مخلصين له الدين} أي: الطاعة ولا تشركوا به شيئاً فإنّ إليه مصيركم و {كما بدأكم} أي: كما أنشأكم ابتداء {تعودون} أي: يعيدكم أحياء يوم القيامة حالة كونكم فريقين.
{فريقاً هدى} أي: خلق الهداية في قلوبهم فحق لهم ثواب الهداية {وفريقاً حق} أي: ثبت ووجب {عليهم الضلالة} أي: بمقتضى القضاء السابق، وقيل: إنّ الله تعالى بدأ خلق بني آدم مؤمناً وكافراً كما قال تعالى: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} (التغابن، 2)
ثم يعيدكم يوم القيامة، كما خلقكم كافراً ومؤمناً وقيل: يبعثون على ما كانوا عليه.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يبعث كل عبد على ما مات عليه» المؤمن على إيمانه والكافر على كفره. وقيل: من ابتدأ الله خلقه على الشقوة صار إليها وإن عمل عمل أهل السعادة كما أنّ إبليس كان يعمل بعمل أهل السعادة ثم صار إلى الشقاوة، ومن ابتدأ الله خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل عمل أهل الشقاوة كما أنّ السحرة كانوا يعملون عمل أهل الشقاوة فصاروا إلى السعادة.
(15/312)
---(1/1026)
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ العبد ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار وإنه ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم» وانتصاب فريقاً بفعل يفسره ما بعده أي: وخذل فريقاً وقوله تعالى: {إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله} أي: دونه تعليل لخذلانهم وتحقيق لضلالهم {ويحسبون} أي: يظنون {أنهم} مع ضلالهم {مهتدون} أي: على هداية وحق وفيه دليل على أنّ الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق والجاحد والمعاند في الكفر سواء.
{يا بني آدم خذوا زينتكم} أي: ما يستر العورة والتجمل عند الاجتماع للعبادة {عند كل مسجد} أي: كلما صليتم أو طفتم وكانوا يطوفون عراة، وعن طاووس رحمه الله: لم يأمرهم بالحرير والديباج وإنما أحدهم كان يطوف عرياناً ويضع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنهم قالوا: لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها، وقيل: تفاؤلاً ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب، وقيل: الزينة المشط، وقيل: الطيب. والسنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئة للصلاة وكان بنو عامر في أيام حجهم لا يأكلون الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون: فإنا أحق أن نفعل فقيل لهم: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} بتحريم الحلال أو بالتعري في الطواف أو بإفراط الطعام أو الشره عليه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما شئت واشرب ما شئت والبس ما شئت ما أخطاك خصلتان سرف ومخيلة.
وروي أنّ الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان: علم الأبدان وعلم الأديان، فقال له: لقد جمع الله تعالى الطب كله في نصف آية من كتابه، فقال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} (الأعراف، 31)
(15/313)
---(1/1027)
فقال النصراني: ولا يؤثر عن نبيكم شيء في الطب؟ فقال: جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة، قال: وما هي؟ قال قوله: «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء فأعط كل بدن ما عوّدته» فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً» {إنه لا يحب المسرفين} أي: لا يرتضي فعلهم ففي الآية الوعيد الشديد على الإسراف.
{قل} يا محمد لهؤلاء الجهلة من الذين يطوفون بالبيت عراة {من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} من الثياب كل ما يتجمل به فيدخل تحته أنواع الملبوس والحلي ولولا النص ورد بتحريم استعمال الذهب والحرير للرجال لدخل في هذا العموم ولكن ورد النص في تحريمه على الرجال دون النساء {و} قل أيضاً لهؤلاء الجهلة الذين كانوا لا يأكلون دسماً يعظمون بذلك حجهم من حرّم {الطيبات من الرزق} التي أخرج لعباده وخلقها لهم فيدخل تحت ذلك كل ما يستلذ ويشتهى من سائر المطعومات إلا ما ورد نص بتحريمه وقد دلت الآية على أنّ الأصل في الملابس وأنواع التجملات والمطاعم الإباحة إلا ما ورد النص بخلافه لأنّ الاستفهام في من للإنكار {قل هي} أي: الزينة والطيبات {للذين آمنوا في الحياة الدنيا} أي: بالأصالة والكفرة وإن شاركوهم فيها فتبع ولذا لم يقل تعالى: للذين آمنوا وغيرهم {خالصة يوم القيامة} لا يشاركهم فيها غيرهم. وقرأ نافع برفع التاء على أنها خبر بعد خبر والباقون بالفتح على الحال {كذلك} أي: مثل هذا التفصيل البديع {نفصل الآيات} أي: نبين أحكامها ونميز بعض المشتبهات من بعض {لقوم يعلمون} أي: يتدبرون فإنهم المنتفعون بها.
(15/314)
---(1/1028)
{قل} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يطوفون بالبيت عراة ويحرمون أكل الطيبات من الرزق وغير ذلك مما أحل الله تعالى {إنما حرم ربي الفواحش} أي: الكبائر والكبيرة ما توعد عليها بنحو لعن أو غضب بخصوصها في الكتاب أو السنة غالباً كالزنا جمع فاحشة {ما ظهر منها وما بطن} أي: جهرها وسرها، وقرأ حمزة بسكون الباء والباقون بفتحها {و} حرم {الإثم} أي: الصغائر وهي ما عدا الكبائر كالنظر إلى بدن أجنبية {و} حرم {البغي} على الناس أي: الظلم أو الكبر وأفرده بالذكر مع أنه من الكبائر للمبالغة وقوله تعالى: {بغير الحق} متعلق بالبغي مؤكد له معنى {و} حرم {أن تشركوا با ما لم ينزل به} أي: بالإشراك {سلطاناً} أي: حجة وفي ذلك تهكم بالمشركين وتنبيه على تحريم ما لم يدل عليه برهان، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف والباقون بالتشديد {و} حرم {أن تقولوا على الله ما لا تعلمون} في تحريم ما لم يحرم وغيره.
{ولكل أمّة أجل} أي: وقت معلوم وفي ذلك وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم الماضية {فإذا جاء أجلهم} أي: حان وقتهم {لا يستأخرون ساعة} عنه {ولا يستقدمون} ساعة عليه وإنما ذكرت الساعة وإن كان دونها كذلك لأنها أقل اسم للأوقات في العرف وذلك حين سألوا نزول العذاب فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر، وورش وقنبل سهلاً الثانية وأبدلاها حرف مد والباقون بالتحقيق فيهما.
(15/315)
---(1/1029)
{يا بني آدم إمّا} فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة {يأتينكم رسل منكم} أي: من نوعكم من عند ربكم {يقصون عليكم آياتي} أي: يقرؤن عليكم كتابي وأدلة أحكامي وشرائعي التي شرعت لعبادي وجواب الشرط قوله تعالى: {فمن اتقى} الشرك ومخالفة رسلي {وأصلح} عمله الذي أمرته به رسلي فعمل بطاعتي وتجنب معصيتي وما نهيت عنه {فلا خوف عليهم} حين يخاف غيرهم يوم القيامة من العذاب {ولا هم يحزنون} أي: يتجدّد لهم في وقت ما حزن على شيء فاتهم لأنّ الله يعطيهم ما تقر به أعينهم {والذين كذبوا بآياتنا} أي: جحدوها وكذبوا رسلنا {واستكبروا} أي: تكبروا {عنها} أي: عن الإيمان بها لأنّ كل مكذب وكافر متكبر قال تعالى: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} (الصافات، 35)
{أولئك} هؤلاء البعداء البغضاء {أصحاب النار هم فيها خالدون} أي: لا يخرجون منها أبداً وإدخال الفاء في خبر المبتدأ الأوّل دون خبر الثاني للمبالغة في الوعد والمسامحة في الوعيد.
(15/316)
---(1/1030)
{فمن} أي: لا أحد {أظلم ممن افترى على الله كذباً} أي: بنسبة الشريك والولد إليه أو قال عليه ما لم يقله {أو كذب بآياته} أي: القرآن {أولئك ينالهم} أي: يصيبهم {نصيبهم} أي: حظهم {من الكتاب} أي: مما كتب لهم في اللوح المحفوظ من الرزق والأجل وغير ذلك {حتى إذا جاءتهم} أي: هؤلاء الذين يفترون على الله الكذب {رسلنا} أي: ملك الموت وأعوانه {يتوفونهم} بقبض أرواحهم عند استكمال أعمارهم وأرزاقهم وقوله تعالى: {قالوا} جواب إذا أي: قال الرسل لهم تبكيتاً وتوبيخاً وتقريعاً {أين ما كنتم تدعون} أي: تعبدون {من دون الله} أي: غيره ادعوهم ليدفعوا عنكم ما نزل بكم، وقيل: إنّ هذا يكون في الآخرة أي: إذا جاءتهم ملائكة العذاب يتوفونهم أي: يستوفون عددهم عند حشرهم إلى النار {قالوا} أي: الكفار مجيبين للرسل {ضلوا} أي: غابوا {عنا} وتركونا عند حاجتنا إليهم فلم ينفعونا {وشهدوا على أنفسهم} أي: بالغوا في الاعتراف عند الموت أو عند معاينة العذاب {أنهم كانوا كافرين} أي: جاحدين وحدانية الله تعالى.
(15/317)
---(1/1031)
قال الله تعالى لهم يوم القيامة أو أحد من الملائكة {ادخلوا في أمم} أي: في جملة جماعات وفرق أمّ بعضها بعضاً {قد خلت} أي: مضت وسلفت {من قبلكم من الجنّ والإنس} أي: كفار الأمم الماضية من الفريقين، وقوله تعالى: {في النار} متعلق بادخلوا {كلما دخلت أمّة} أي: جماعة النار {لعنت أختها} أي: التي ضلت بالاقتداء بها {حتى إذا ادّاركوا} أي: تلاحقوا واستقرّوا {فيها} أي: النار {جميعاً قالت أخراهم} أي: منزلة أو دخولاً وهم الأتباع {لأولاهم} أي: لأجلهم وهم المتبعون إذ الخطاب مع الله تعالى لا معهم {ربنا هؤلاء} أي: الأوّلون {أضلونا} أي: لأنهم أوّل من سنّ الضلال. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية ياء في الوصل، والباقون بالتحقيق {فآتهم} أي: أذقهم بسبب ذلك {عذاباً ضعفاً} أي: يكون بقدر عذاب غيرهم مرّتين لأنهم ضلوا وأضلوا ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ومنه لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أوّل من سنّ القتل، ثم أكدوا شدّة العذاب بقولهم: {من النار قال} الله تعالى: {لكل} أي: منكم ومنهم {ضعف} أي: عذاب مضعف أمّا القادة فبكفرهم وتضليلهم وأما الأتباع فبكفرهم وتقليدهم لهم {ولكن لا تعلمون} أي: ما أعدّ الله تعالى لكل فريق من العذاب. وقرأ شعبة: يعلمون بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب.
{وقالت أولاهم} أي: في الكفر وهم القادة {لأخراهم} أي: الأتباع {فما كان لكم علينا من فضل} أي: لأنكم لم تكفروا بسببنا فقد جاءتكم الرسل والنذر فما رجعتم عن ضلالتكم وكفركم فنحن وأنتم سواء قال الله تعالى لهم: {فذوقوا العذاب بما} أي: بسبب ما {كنتم تكسبون} أي: من الكفر والأعمال الخبيثة.
(15/319)
---(1/1032)
{إنّ الذين كذبوا بآياتنا} أي: بدلائل التوحيد فلم يصدّقوا ولم يتبعوا رسلي {واستكبروا عنها} أي: وتكبروا عن الإيمان بها والانقياد لها والعمل بمقتضاها {لا تفتح لهم أبواب السماء} لصعود أعمالهم ولا لدعائهم ولا لأرواحهم ولا لنزول البركات عليهم لأنها طهارة عن الأرجاس الحسية والمعنوية فإذا صعدت أرواحهم الخبيثة بعد الموت مع ملائكة العذاب أغلقت الأبواب دونها ثم ألقيت من هناك إلى سجين بخلاف المؤمن فيفتح له ويصعد بروحه إلى السماء السابعة كما ورد في حديث.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بسكون الفاء وتخفيف التاء بعدها إلا أنّ أبا عمرو يقرأ بالتاء على التأنيث وحمزة والكسائي بالياء على التذكير، وقرأ الباقون بالتأنيث وفتح الفاء وتشديد التاء بعدها {ولا يدخلون الجنة} أي: التي هي أطهر المنازل وأشرفها {حتى} يكون ما لا يكون بأن {يلج} أي: يدخل {الجمل} على كبره {في سم الخياط} أي: ثقب الإبرة وهو غير ممكن فكذا دخولهم الجنة فهو تعليق على محال، وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل فقال: زوج الناقة استجهالاً للسائل وإشارة إلى أنّ طلب معنى آخر تكلف {وكذلك} أي: ومثل ذلك الجزاء بهذا العذاب وهو أنّ دخولهم الجنة محال عادة {نجزي المجرمين} أي: الكافرين لأنه تقدّم من صفتهم إنهم كذبوا بآيات الله واستكبروا عنها وهذه صفة الكفار فوجب حمل لفظ المجرمين على أنهم الكفار.
ولما بين تعالى أنّ الكفار لا يدخلون الجنة أبداً بين أنهم من أهل النار ووصف ما أعدّ الله لهم فيها فقال تعالى:
{لهم من جهنم مهاد} أي: فراش وأصل المهاد والمهد الذي يقعد عليه ويضطجع عليه كالبساط {ومن فوقهم غواش} أي: أغطية من النار جمع غاشية والتنوين فيه عوض عن الياء التي هي حرف علة.
(15/320)
---(1/1033)
وقيل: عن حركتها {وكذلك نجزي الظالمين} عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى إشعاراً بأنهم بتكذيبهم الآيات اتصفوا بهذه الأوصاف الذميمة وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة والظلم مع التعذيب بالنار تنبيهاً على أنه أعظم الإجرام.
وقوله تعالى:
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات} مبتدأ وقوله تعالى: {لا نكلف نفساً إلا وسعها} أي: طاقتها من العمل اعتراض بينه وبين خبره وهو {أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} وإنما حسن وقوع ذلك بين المبتدأ والخبر لأنه من جنس هذا الكلام لأنّ الله تعالى لما ذكر عملهم الصالح دل ذلك على أنّ ذلك العمل من وسعهم وطاقتهم وغير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أنّ الجنة مع عظم قدرها ومحلها يوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل كلفة ولا مشقة صعبة وأتبع الوعيد بالوعد على عادته فقال تعالى:
{ونزعنا ما في صدورهم من غل} أي: غش وعداوة كانت بينهم في الدنيا فمن كان في قلبه على أخيه غل في الدنيا نزع فسلمت قلوبهم وطهرت ولم يكن بينهم إلا التوادد والتعاطف، وعن عليّ رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم.
(15/321)
---(1/1034)
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار ليقتص بعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا» وقال السديّ في هذه الآية: إنّ أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما فنزع ما في صدورهم من غل وهو الشراب الطهور واغتسلوا من الآخر فجرت عليهم بنضرة النعيم فلا يشعثوا ولا يشحنوا بعدها أبداً، وقيل: إنّ درجات الجنة متفاوتة في العلوّ والكمال فبعض أهل الجنة أعلى من بعض فأخرج الله تعالى الغل والحسد من صدورهم وأزاله عنهم ونزعه من قلوبهم فلا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب الدرجة العالية {تجري من تحتهم الأنهار} أي: من تحت قصورهم زيادة في لذتهم وسرورهم {وقالوا الحمد الذي هدانا لهذا} أي: إن المؤمنين إذا دخلوا الجنة قالوا: الحمد لله الذي وفقنا وأرشدنا للعمل الذي هذا ثوابه وتفضل علينا به رحمة منه وإحساناً وصرف عنا عذاب جهنم بفضله وكرمه فله الحمد على ذلك {وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} أي: لولا هداية الله وتوفيقه، واللام لتوكيد النفي وجواب لولا محذوف دل عليه قوله تعالى: {وما كنا لنهتدي} وتقديره: لولا هداية الله لنا موجودة لشقينا أو ما كنا مهتدين، وقرأ ابن عامر بحذف الواو قبل ما والباقون بالواو.
(15/322)
---(1/1035)
وإذا دخل أهل النعيم الجنة ورأوا ما أعدّ الله تعالى لهم من النعيم قالوا: {لقد جاءت رسل ربنا بالحق} فاهتدينا بإرشادهم يقولون ذلك سروراً واعتباطاً بما نالوا وتلذذوا بالتكلم به وتبجحاً بأنّ ما علموه يقيناً في الدنيا صار لهم عين اليقين في الآخرة، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الدال والباقون بالإدغام {ونودوا} إذا رأوها من بعيد أو بعد دخولها والمنادي هو الله تعالى أو الملائكة ينادون بأمر الله تعالى {أن تلكم الجنة} التي كانت الرسل وعدتكم بها في الدنيا.
وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ إنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً وإنّ لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وإنّ لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً وإنّ لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً» فذلك قوله تعالى: {ونودوا أن تلكم الجنة} {أورثتموها} أي: أعطيتموها {بما كنتم تعملون} أي: بسبب أعمالكم الصالحة التي عملتموها لأنّ الجنة جعلت جزاء وثواباً لكم على الأعمال الصالحة ولا يعارض هذا ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لن يدخل الجنة أحد بعمله إنما يدخلونها برحمة الله تعالى» فإنّ الباء في الحديث للعوض وهي الداخلة على الأثمان نحو شريت الفرس بألف فلا تكون الجنة مشتراة له بعمله فيكون عمله ثمناً لها أو إنّ دخول الجنة برحمة الله واقتسام الدرجات بالأعمال أو أنّ العمل الصالح لن يناله المؤمن ولن يبلغه إلا برحمة الله وتوفيقه وإذا كان العمل الصالح بسبب الرحمة كان دخول الجنة في الحقيقة برحمة الله وجعلها الله تعالى ثواباً وجزاء لهم على تلك الأعمال الصالحة التي عملوها في دار الدنيا.
(15/323)
---(1/1036)
وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار أمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من الجنة والمؤمن يرث الكافر منزله من النار» وأن في المواضع الخمسة التي فيها المناداة والتأذين هي المخففة أو المفسرة لأنّ المناداة والتأذين من القول، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الثاء عند التاء والباقون بالإدغام.
(15/324)
---
{ونادى أصحاب} أي: أهل {الجنة أصحاب} أي: أهل {النار} أي: يقول أهل الجنة يا أهل النار {أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا} أي: في الدنيا على لسان الرسل من الثواب على الإيمان به وبرسله وطاعته {حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم} أي: من العذاب على الكفر {حقاً قالوا} أي: قال أهل النار مجيبين لأهل الجنة {نعم} وجدنا ذلك حقاً وهذا النداء إنما يكون بعد استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.
فإن قيل: الجنة في السماء والنار في الأرض فكيف يصح أن يقع هذا النداء؟ أجيب: بأن الله قادر على أن يقوّي الأصوات والأسماع فيصير البعيد كالقريب.
فإن قيل: هذا النداء من كل أهل الجنة لكل أهل النار أو من البعض للبعض؟ أجيب: بأن ظاهر الآية العموم ويحتمل في كل واحد من أهل الجنة ينادي من كان يعرف من الكفار في دار الدنيا والله أعلم بحقيقة ذلك، وقرأ الكسائي بكسر العين والباقون بالفتح وهما لغتان {فأذن مؤذن} أي: وهو إسرافيل صاحب الصور كما قاله ابن عباس، وقيل: واحد من الملائكة وأصل الأذان في اللغة الإعلام والمعنى نادى مناد {بينهم} أي: الفريقين أسمعهم {أن لعنت الله على الظالمين} وقرأ البزيّ وابن عامر وحمزة والكسائي بتشديد أنّ ونصب التاء والباقون بتخفيف أن ورفع التاء ثم فسر الظالمين منهم بقوله تعالى:(1/1037)
{الذين يصدّون عن سبيل الله} أي: يمنعون الناس عن الدخول في دين الإسلام {ويبغونها} أي: يطلبون السبيل {عوجاً} أي: معوجة، قال ابن عباس: يصلون لغير الله ويعظمون ما لم يعظمه الله، والعوج بكسر العين في الدين والأمر وكل ما لم يكن قائماً وبالفتح في كل ما كان قائماً كالحائط والرمح {وهم بالآخرة كافرون} أي: بكون الآخرة واقعة جاحدون منكرون لها.
{وبينهما} أي: أهل الجنة وأهل النار {حجاب} لقوله تعالى: {فضرب بينهم بسور} (الحديد، 13)
(15/325)
---(1/1038)
أو بين الجنة والنار ليمتنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى {وعلى الأعراف} وهو سور الجنة جمع عرف وهو المكان المرتفع ومنه عرف الديك لارتفاعه على ما سواه من جسده، وقال السدي: هي ذلك السور أعرافاً لأن أصحابه يعرفون الناس أي: أهل الجنة والنار {رجال} أي: طائفة من الموحدين استوت حسناتهم وسيآتهم كما في الحديث: «فقصرت بهم سيآتهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار فوقفوا هناك حتى يقضي الله تعالى فيهم ما يشاء ثم يدخلون الجنة بفضل الله تعالى ورحمته وهم آخر من يدخل الجنة»، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ثم قرأ قوله تعالى: {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم} ثم قال: إن الميزان تخف بمثقال حبة أو ترجح قال: ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف، وقيل: هم قوم خرجوا إلى الغزو بغير إذن آبائهم فقتلوا فأعتقوا من النار بقتلهم في سبيل الله وحبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم فهم آخر من يدخل الجنة، وقيل: هم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدلوا دينهم، وقيل: هم أطفال المشركين {يعرفون} أي: أصحاب الأعراف {كلاً} من أهل الجنة والنار {بسيماهم} أي: بعلاماتهم وهي بياض الوجوه للمؤمنين وسوادها للكافرين لرؤيتهم لهم إذ موضعهم عال {ونادوا} أي: ونادى أصحاب الأعراف {أصحاب الجنة أن سلام عليكم} إذا نظروا إليهم سلموا عليهم {لم يدخلوها} أي: أصحاب الأعراف الجنة {وهم يطمعون} في دخولها، قال الحسن: لم يطمعهم إلا لكرامة يريدها بهم.
وروى الحاكم عن حذيفة قال: بينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربك فقال: قوموا ادخلوا الجنة فقد غفرت لكم، وقال مجاهد: أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء وعلى هذا إنما يكون لبثهم على الأعراف على سبيل النزهة وليرى غيرهم شرفهم وفضلهم.(1/1039)
(15/326)
---
وحكى ابن الأنباري أنهم أنبياء وعلى هذا إنما أجلسهم على ذلك العالي تمييزاً لهم على أهل القيامة وإظهاراً لفضلهم وعلو مرتبتهم وليكونوا مشرفين على أهل الجنة والنار ومطلعين على أحوالهم ومقادير ثواب أهل الجنة وعقاب أهل النار، وقال أبو مخلد: هم ملائكة يرون في صورة الرجال، والأقوال الأول تدل على أنّ أصحاب الأعراف دون أهل الجنة في الدرجات وإن كانوا يدخلون الجنة برحمة الله، والأقوال الأخيرة تدل على أنهم أفضل من أهل الجنة لأنهم أعلى منهم منزلة وأفضل.
{وإذا صرفت أبصارهم} أي: أصحاب الأعراف {تلقاء} أي: جهة {أصحاب النار} فنظروا لهم وإلى سواد وجوههم وما هم فيه من العذاب {قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} أي: الكافرين في النار قال ابن عباس: إنّ أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أصحاب النار وما هم فيه تضرّعوا إلى الله تعالى وسألوه أن لا يجعلهم منهم. وقرأ قالون وأبو عمرو والبزي بإسقاط الهمزة الأولى وأبدلها ورش وقنبل حرف مدّ وسهلاها والباقون بالتحقيق.
{ونادى أصحاب الأعراف رجالاً} أي: كانوا عظماء في الدنيا من أهل النار {يعرفونهم بسيماهم} أي: بسيما أهل النار {قالوا} أي: أصحاب الأعراف لهؤلاء الذين عرفوهم في النار {ما أغنى عنكم جمعكم} أي: ما كنتم تجمعون من الأموال في الدنيا أو كثرتكم واجتماعكم فيها {وما كنتم تستكبرون} أي: وما أغنى عنكم تكبركم عن الإيمان شيئاً، قال الكلبيّ: ينادونهم على السور يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل بن هشام يا فلان ويا فلان ثم ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزؤون بهم مثل سلمان الفارسيّ وخبيب وصهيب وبلال وأشباههم فيقول أصحاب الأعراف لهؤلاء الكفار:
(15/327)
---(1/1040)
{أهؤلاء} لفظ استفهام أي: أهؤلاء الضعفاء {الذين أقسمتم} أي: حلفتم بالله {لا ينالهم الله برحمة} أي: لا يدخلون الجنة، وقد قيل لهم: {ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون} وقيل: أصحاب الأعراف إذا قالوا لأهل النار ما قالوا قال لهم أهل النار: إن دخل هؤلاء فأنتم لم تدخلوها فيعيرونهم بذلك ويقسمون أنهم لا يدخلون الجنة ولا ينالهم الله برحمة فتقول الملائكة الذين حبسوا أهل الأعراف: ادخلوا الجنة برحمة الله لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، وهذا ظاهر على الأقوال الأول، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر تنوين رحمة في الوصل وابن ذكوان بوجهين الضم والكسر والباقون بالضم.
{ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء} أي: صبوه وهو دليل على أنّ الجنة فوق النار {أو مما رزقكم الله} أي: من سائر الأشربة ليلاً ثم الإفاضة لأنّ الإفاضة ملائمة للماء وسائر المائعات فحملت الإفاضة على إفاضة جميع المائعات أو من سائر المشروب والمأكول بتضمين أفيضوا ألقوا كقوله:
*علفتها تبناً وماء بارداً ** حتى غدت همالة عيناها*
أي: فائضة عيناها. {قالوا} أي: أهل الجنة مجيبين لهم {إنّ الله حرّمهما} أي: منعهما {على الكافرين} أي: منعهم طعام الجنة وشرابها كما يمنع المكلف ما يحرم عليه ويحظر كقوله:
*حرام على عينيّ أن تطعم الكرى*
وقيل: لما كانت شهواتهم في الدنيا في لذة الأكل والشرب وعذبهم الله في الآخرة بشدّة الجوع والعطش فسألوا ما كانوا يعتادونه في الدنيا من طلب الأكل والشرب فأجيبوا بأنّ الله تعالى حرّم طعام الجنة وشرابها على الكافرين ثم وصف الله تعالى الكافرين بقوله:
(15/328)
---(1/1041)
{الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً} وهو ما زيّن لهم الشيطان من تحريم البحيرة والتصدية حول البيت وسائر الخصال الذميمة التي كانوا يفعلونها في الجاهلية، وقيل: كانوا إذا دعوا إلى الإيمان سخروا ممن دعاهم وهزؤوا به، واللهو هو صرف الهمّ بما لا يحسن أن يصرف له واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به {وغرّتهم الحياة الدنيا} أي: وخدعهم عاجل ما هم فيه من رغد العيش والدعة وشغلهم ما هم فيه من ذلك عن الإيمان بالله ورسوله ومن الأخذ بنصيبهم في الآخرة حتى أتتهم المنية وهم على ذلك والغرّة غفلة في اليقظة وهو طمع الإنسان في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال، وقيل: الجاه ونيل الشهوات فإذا حصل له ذلك صار محجوباً عن الدين وطلب الخلاص لأنه غريق في الدنيا بلذاته وما هو فيه من ذلك ولما وصفهم الله تعالى بهذه الصفات الذميمة قال: {فاليوم} أي: يوم القيامة {ننساهم} أي: نتركهم في النار ونعرض عنهم فلا نجيب دعاءهم ولا نرحم ضعفهم {كما نسوا لقاء يومهم هذا} أي: كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا كفعل الناسين فلم يخطر ببالهم ولم يهتموا له وأعرضوا عن الإيمان فقابل الله تعالى جزاء نسيانهم بالنسيان على المجاز لأنّ الله تعالى لا ينسى شيئاً فهو كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى، 40)
{وما كانوا بآياتنا يجحدون} أي: وما كانوا منكرين أنها من عند الله تعالى.
(15/329)
---
{ولقد جئناهم} أي: هؤلاء الكفار {بكتاب} أي: قرآن أنزلناه عليك يا محمد {فصلناه} أي: بينا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ مفصلة {على علم} أي: عالمين وجه تفصيله، وقوله تعالى: {هدى ورحمة لقوم يؤمنون} أي: به حال من منصوب فصلناه كما أنّ على علم حال من مرفوعه.
(15/330)
---(1/1042)
{هل ينظرون} أي: ما ينظرون {إلا تأويله} أي: إلا عاقبة أمره وما يؤول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد {يوم يأتي تأويله} أي: يوم القيامة لأنه يوم الجزاء {يقول الذين نسوه من قبل} أي: تركوه ترك الناسي {قد جاءت رسل ربنا بالحق} أي: قد تبين لهم واعترفوا يوم القيامة بأنّ ما جاءت به الرسل من الإيمان والحشر والنشر والبعث والثواب والعقاب حق حين لا ينفعهم ذلك الاعتراف.
ولما رأوا أنفسهم في العذاب قالوا: {فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا} اليوم {أو نردّ} أي: أو هل نردّ إلى الدنيا وقولهم: {فنعمل غير الذي كنا نعمل} فيها فنبدل الكفر بالإيمان والتوحيد والمعاصي بالطاعة والإنابة جواب الاستفهام الثاني {قد خسروا أنفسهم} أي: إذ صاروا إلى الهلاك لأنهم كانوا في الدنيا أوّل مرّة فلم يعملوا بطاعة الله ولو ردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والعصيان لسابق علم الله فيهم {وضل} أي: ذهب {عنهم ما كانوا يفترون} أي: من دعوى الشريك فلم ينفعهم.
{إنّ ربكم} أي: سيدكم ومولاكم ومصلح أموركم وموصل الخيرات إليكم ودافع المكاره عنكم هو {الله الذي خلق السموات والأرض} أي: ابتدعهما وأنشأ خلقهما على غير مثال سبق {في ستة أيام} أي: من أيام الدنيا، وقيل: من أيام الآخرة كل يوم ألف سنة.
فإن قيل: اليوم من أيام الدنيا عبارة عن مقدار من الزمان وذلك المقدار من طلوع الشمس إلى غروبها ولم يكن إذ ذاك شمس ولا قمر ولا سماء. أجيب: بأنّ معنى ذلك في مقدار ستة أيام فهو كقوله تعالى: {لهم رزقهم فيها بكرة وعشياً} (مريم، 62)
(15/331)
---(1/1043)
أي: على مقادير البكر والعشيّ في الدنيا لأن الجنة لا ليل فيها ولا نهار قال سعيد بن جبير: كان الله عز وجل قادراً على خلق السموات والأرض في لمحة ولحظة فخلقهنّ في ستة أيام تعليماً لخلقه التثبت والتأني في الأمور، وقد جاء في الحديث: «التأني من الله والعجلة من الشيطان». واختلف العلماء في اليوم الذي ابتدأ الله خلق الأشياء فيه فقيل: هو يوم السبت لخبر مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: «خلق الله التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجرة يوم الإثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق الله آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من النهار وفيما بين العصر إلى الليل»، وقيل: يوم الأحد لقول بعضهم سمي يوم الإثنين لأنه ثاني الأيام والخميس لأنه خامس الأيام قال الإسنوي: والصواب الأول للخبر المذكور {ثم استوى على العرش} أي: استوى أمره وقال أهل السنة: الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب الإيمان به ونكل فيه العلم إلى الله تعالى والمعنى أنّ له سبحانه وتعالى استواء على العرش على الوجه الذي عناه منزه عن الاستقرار والتمكن، وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} (طه، 5)
فأطرق رأسه ملياً وعلاه الرحضاء ثم قال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وما أظنك إلا ضالاً ثم أمر به فأخرج.
(15/332)
---(1/1044)
وروي عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة أمرّوها كما جاءت اقرؤها بلا كيف وإجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية والعرش في اللغة السرير، قال كعب: إنّ السموات في العرش كالقنديل معلقاً بين السماء والأرض، وقال الطائي: العرش ياقوتة حمراء، وشذ قوم فقالوا: العرش بمعنى الملك، وهذا عدول عن الحقيقة إلى التجوّز مع مخالفة الأثر ألم يسمعوا قوله تعالى: {وكان عرشه على الماء} (هود، 7)
أتراه كان الملك على الماء وكيف يكون الملك ياقوتة حمراء وبعضهم يقول: استوى بمعنى استولى ويحتج بقول الشاعر:
*قد استوى بشر على العراق ** من غير سيف ودم مهراق*
وقال آخر:
*هما استويا بفضلهما جميعاً ** على عرش الملوك بغير زور*
وهذا منكر عند أهل اللغة، قال ابن الأعرابيّ: لا يعرف استولى فلان على كذا إلا إذا كان بعيداً منه غير متمكن منه ثم تمكن منه والله تعالى لم يزل مستولياً على الأشياء، والبيتان قال ابن فارس اللغوي: لا يعرف قائلهما ولو صحا لا حجة فيهما لما بينا من استيلاء من لم يكن مستولياً نعوذ بالله من تعطيل الملحدة وتشبيه المجسمة، وقيل: هو ما علا فأظل ومنه عرش الكرم {يغشي الليل النهار} أي: يغطيه ولم يذكر عكسه، إما للعلم به وإما لأنّ اللفظ يحتملهما بأن يكون المعنى بأنه يلحق الليل بالنهار والنهار بالليل، وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بفتح الغين وتشديد الشين والباقون بسكون الغين وتخفيف الشين {يطلبه} أي: يطلب كل منهما الآخر طلباً {حثيثاً} أي: سريعاً فهو صفة مصدر محذوف ويحتمل أن يكون حالاً من الفاعل بمعنى حاثاً أو المفعول بمعنى المحثوث {والشمس والقمر والنجوم مسخرات} أي: مذللات لما يراد منهنّ من طلوع وأفول وسير على حسب إرادة المدبر لهنّ {بأمره} أي: بقضائه وتصريفه.
(15/333)
---(1/1045)
وقرأ ابن عامر برفع الأربعة على الابتداء والخبر والباقون بالنصب عطفاً على السموات، ومسخرات منصوب بالكسرة {ألا له الخلق} جميعاً {والأمر} كله فإنه الموجد والمتصرّف في ذلك، وفي هذا ردّ على من يقول: إنّ الشمس والقمر والكواكب تخلق له الأمر المطلق وليس لأحد أمر غيره فهو الآمر والناهي الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد من خلقه عليه، واستخرج سفيان، بن عيينة من هذا أنّ كلام الله تعالى ليس بمخلوق فقال: إنّ الله تعالى فرق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر أي: إن جعل الأمر وهو كلامه من جملة ما خلقه فهو كفر لأنّ المخلوق لا يقوم إلا بمخلوق {تبارك الله رب العالمين} أي: تعالى بالوحدانية وتعظم بالتفرّد في الربوبية، قال البيضاوي: وتحقيق الآية والله أعلم أنّ الكفرة كانوا متخذين أرباباً فبين الله تعالى لهم أنّ المستحق للربوبية واحد وهو الله تعالى لأنه الذي له الخلق والأمر فإنه تعالى خلق العالم على ترتيب قويم وتدبير حكيم فأبدع الأفلاك ثم زينها بالكواكب كما أشار إليه بقوله تعالى: {فقضاهنّ سبع سموات في يومين} وعمد إلى إيجاد الأجرام السفلية فخلق جسماً قابلاً للصور المتبدلة والهيآت المختلفة، ثم قسمها بصور نوعية متضادّة الآثار والأفعال وأشار إليه بقوله تعالى: {خلق الأرض في يومين} (فصلت، 9)
أي: ما في جهة السفل في يومين ثم أنشأ أنواع المواليد الثلاثة أي: وهي النبات والحيوان والمعدن بتركيب موادها أوّلاً وتصويرها ثانياً كما قال تعالى بعد قوله: {خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام} (فصلت، 10)
(15/334)
---(1/1046)
أي: مع اليومين الأوّلين اللذين خلق فيهما السموات لقوله تعالى في سورة السجدة: {الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام} ثم لما ثم له عالم الملك عمد إلى تدبيره كالملك الجالس على عرشه لتدبير المملكة فدبر الأمر من السماء إلى الأرض بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب وتكوير الليالي والأيام ثم صرّح بما هو نتيجة ذلك فقال: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}، ثم أمرهم أن يدعوه متذللين مخلصين بقوله تعالى:
(15/335)
---(1/1047)
{ادعوا ربكم} لأنّ الدعاء هو السؤال والطلب وهو نوع من أنواع العبادة لأنّ الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى ذلك المطلوب وهو عاجز عن تحصيله وعرف أنّ ربه سبحانه وتعالى يسمع الدعاء ويعلم حاجته وهو قادر على إيصالها إلى الداعي فعند ذلك يعرف العبد نفسه بالعجز والنقص ويعرف ربه بالقدرة والكمال وهو المراد من قوله تعالى: {تضرّعاً} أي: ادعوا ربكم تذللاً واستكانة وهو إظهار الذل في النفس والخشوع يقال: ضرع فلان لفلان إذا ذل له وخشع {وخفية} أي: سرّاً في أنفسكم وهو ضدّ العلانية والأدب في الدعاء أن يكون خفياً لهذه الآية، وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً بصيراً وهو معكم» قال أبو موسى: وأنا خلفه أقول لا حول ولا قوّة إلا بالله في نفسي، فقال: «يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟» قلت: بلى، قال: «لا حول ولا قوّة إلا بالله»، وقال الحسن: بين دعوة السرّ والجهر سبعون ضعفاً ولقد كان المسلمون يجهدون في الدعاء لا يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم وذلك أنّ الله تعالى يقول: {ادعوا ربكم تضرّعاً وخفية} فإنّ الله تعالى أثنى على زكريا عليه الصلاة والسلام فقال: {إذ نادى ربه نداءً خفياً} (مريم، 3)
(15/336)
---(1/1048)
وعن الحسن أيضاً: إنّ الله يعلم التقيّ والدعاء الخفيّ إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر الناس به وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة وعنده الزوّار وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يفعلوه في السرّ فيكون علانية أبداً {إنه} تعالى {لا يحب المعتدين} أي: المجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره نبه به على أنّ الداعي ينبغي له أن لا يطلب ما لا يليق به كرتبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصعود إلى السماء.n
روي أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهمّ إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال: يا بنيّ إسأل الله الجنة وتعوّذ به من النار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيكون في هذه الأمّة قوم يعتدون في الطهور والدعاء» وقيل: أراد به الاعتداء في الجهر، قال ابن جريج: من الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء والصياح، وعنه صلى الله عليه وسلم «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهمّ إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل» ثم قرأ: {إنه لا يحبّ المعتدين}.
(15/337)
---(1/1049)
{ولا تفسدوا في الأرض} أي: بالشرك والمعاصي {بعد إصلاحها} أي: ببعث الرسل وشرع الأحكام، وقيل: لا تفسدوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم وعلى هذا فمعنى قوله تعالى: {بعد إصلاحها} أي: بعد إصلاح الله تعالى إياها بالمطر والخصب {وادعوه خوفاً} منه ومن عذابه {وطمعاً} أي: فيما عنده من مغفرته وثوابه، وقال ابن جريج: خوف العدل وطمع الفضل {إنّ رحمت الله قريب من المحسنين} أي: المطيعين، وفي ذلك ترجيح الطمع وتنبيه على ما يتوسل به إلى الإجابة وتذكير قريب المخبر به عن رحمة لإضافتها إلى الله تعالى، وقال سعيد بن جبير: الرحمة ههنا الثواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ، وقيل: إنّ تأنيث الرحمة ليس بحقيقي وما كان كذلك جاز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة، وقيل: ذكره للفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره حيث يجب التأنيث في الأوّل فيقال فيه: فلانة قريبة مني ويجوز في الثاني فيقال: فلانة قريبة وقريب مني في المكان وكون الرحمة قريباً من المحسنين لأنّ الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار من الدنيا وإقبال على الآخرة، وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة وليس بينهم وبين رحمة الله التي هي الثواب في الآخرة إلا الموت وهو قريب من الإنسان.
فائدة: رحمت تكتب بالتاء المجرورة فوقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء والباقون بالتاء وأمالها الكسائي في الوقف، وقوله تعالى:
(15/338)
---(1/1050)
{وهو الذي يرسل الرياح} عطف على ما قبله والمعنى: إنّ ربكم الله الذي خلق السموات والأرض وهو الذي يرسل الرياح. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالتوحيد والباقون بالجمع {نشراً بين يدي رحمته} أي: متفرّقة قدام المطر الذي هو من أجل النعم وأحسنها أثراً. وقرأ عاصم بالباء الموحدة وسكون الشين أي مبشراً، وحمزة والكسائي بالنون مفتوحة وسكون الشين على أنه مصدر في موضع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان، وابن عامر بالنون مضمومة وسكون الشين تخفيفاً، والباقون بضم النون والشين جمع نشور بمعنى ناشر {حتى إذا أقلت} أي: حملت الرياح {سحاباً ثقالاً} أي: بالمطر يقال: أقل فلان الشيء إذا حمله واشتقاق الإقلال من القلة فإن من يرفع شيئاً يراه قليلاً {سقناه} أي: السحاب وإفراد الضمير باعتبار اللفظ وفيه التفات عن الغيبة ولو حمل على المعنى كالثقال لأنث كما لو حمل على اللفظ على الوصف لقيل: ثقيلاً، والسحاب جمع سحابة وهو الغيم فيه ماء أو لم يكن فيه ماء سمي سحاباً لانسحابه في الهواء، قال السدي: إن الله سبحانه وتعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين وهما طرفا السماء والأرض حيث يلتقيان فتخرجه ثم تنشره فتبسطه في السماء كما يشاء ثم تفتح له أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك {لبلد ميت} لا نبات فيه أي: لإحيائه.
(15/339)
---(1/1051)
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة بتخفيف الياء والباقون بالتشديد {فأنزلنا به} أي: بالبلد أو السحاب {الماء فأخرجنا به} أي: بذلك الماء لأن إنزال الماء كان سبباً لإخراج الثمرات {من كل الثمرات} أي: من كل أنواعها، قال الأزهري: قال الليث بن سعد رحمه الله تعالى: البلد هو كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خال أو مسكون والطائفة منها بلدة والجمع بلاد {كذلك} أي: مثل هذا الإخراج {نخرج الموتى} أحياء من قبورهم بعد فنائهم ودرس آثارهم {لعلكم تذكرون} أي: لكي تعتبروا وتتذكروا والخطاب لمنكري البعث يقول: إنكم شاهدتم الأشجار وهي مزهرة مورقة مثمرة في أيام الربيع والصيف ثم إنكم شاهدتموها يابسة عارية من تلك الأوراق والثمار ثم إن الله أحياها مرة أخرى فالقادر على إحيائها بعد موتها قادر على أن يحيي الأجساد بعد موتها. قال أبو هريرة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم: إذا مات الناس كلهم في النفخة الأولى أرسل الله تعالى عليهم مطراً كمني الرجال من ماء تحت العرش فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيها الروح ثم يلقي عليهم نومة فينامون في قبورهم ثم يحشرون بالنفخة الثانية وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم فعند ذلك يقولون: {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} (يس، 52)
وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد.
(15/340)
---(1/1052)
{والبلد الطيب} أي: والأرض الكريمة التربة السهلة السمحة {يخرج نباته بإذن ربه} أي: بمشيئته وتيسيره عبر به عن كثرة النبات وحسنه وغزارة نفعه لأنها وقعت في مقابلة {والذي خبث} أي: والبلد الذي خبث أرضه فهي سبخة {لا يخرج} نباته {إلا نكداً} أي: عسراً بمشقة وكلفة قال المفسرون: وهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر فشبه المؤمن بالأرض الطيبة وشبه نزول القرآن على قلبه بنزول المطر على الأرض الطيبة فإذا نزل المطر عليها أخرجت أنواع الأزهار والأثمار فكذلك المؤمن إذا سمع القرآن آمن به وانتفع به وظهر منه الطاعات والعبادات وأنواع الأخلاق الحميدة وشبه الكافر بالأرض الرديئة الغليظة السبخة التي لا ينتفع بها وإن أصابها المطر فكذلك الكافر إذا سمع القرآن لا ينتفع به ولا يصدّقه ولا يزيده إلا عتواً وكفراً وإن عمل الكافر حسنة في الدنيا كانت بمشقة وكلفة ولا ينتفع بها في الآخرة، وقيل: هو مثل ضربه الله تعالى لآدم وذريته كلهم منهم طيب ومنهم خبيث {كذلك} أي: كما بينا ما ذكر {نصرّف} أي: نبين {الآيات} الدالة على التوحيد والإيمان آية بعد آية وحجة بعد حجة {لقوم يشكرون} نعمة الله تعالى فيتفكرون فيها ويعتبرون بها وإنما خص الشاكرين بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بسماع القرآن.
ولما ذكر الله تعالى في الآيات المتقدّمة دلائل آثار قدرته الدالة على توحيده وربوبيته وأقام الأدلة القاطعة على صحة البعث بعد الموت أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما جرى لهم مع أممهم فقال:
(15/342)
---(1/1053)
{لقد} جواب قسم محذوف تقديره: والله لقد {أرسلنا نوحاً} عليه السلام {إلى قومه} ولا تكاد تطلق هذه اللام إلا مع قد لأنها مظنة التوقع فإن المخاطب إذا سمعها توقع وقوع ما صدر بها ونوح هو ابن لمك بن متوشلح بن أخنوخ وهو إدريس عليه السلام وهو أوّل نبي بعثه الله تعالى بعد إدريس وكان نجاراً بعثه الله تعالى إلى قومه وهو ابن خمسين سنة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: وهو ابن أربعين سنة، وقيل: وهو ابن مائة سنة، وقيل: وهو ابن مائتين وخمسين سنة، وقال ابن عباس: سمي نوحاً لكثرة ما ناح على نفسه، واختلفوا في سبب نوحه فقال بعضهم: لدعوته على قومه بالهلاك، وقيل: لمراجعته ربه في شأن ابنه كنعان، وقيل: لأنه مرّ بكلب مجذوم فقال له: اخسأ يا قبيح فأوحى الله تعالى إليه: أعبتني، أو أعبت الكلب. وفي ذكر القصص تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن إعراض قومه عن قبول الحق فقط بل قد أعرض عنه غالب الأمم الخالية والقرون الماضية وفيه تنبيه على أن عاقبة أولئك الذين كذبوا الرسل كانت للخسار والهلاك في الدنيا والآخرة والعذاب الأليم فمن كذب محمداً صلى الله عليه وسلم من قومه كانت عاقبته مثل أولئك الذين خلوا من قبلهم من الأمم المكذبة وفيه دليل على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان أميّاً لا يقرأ ولا يكتب ولم يلق أحداً من علماء زمانه وقد أتى بمثل هذه القصص والأخبار عن القرون الماضية والأمم الخالية مما لم ينكره عليه أحد فعلم بذلك أنه إنما أتى من عند الله وأنه أوحى إليه بذلك فكان ذلك دليلاً واضحاً وبرهاناً قاطعاً على صحة نبوّته صلى الله عليه وسلم {فقال} نوح حال إرساله لقومه {يا قوم اعبدوا الله} أي: اعبدوه وحده لقوله تعالى: {مالكم من إله غيره} فإنه الذي يستحق العبادة لا غيره. وقرأ الكسائي بكسر الراء والهاء على أنه صفة لإله والباقون برفعهما على البدل من محله {إني أخاف عليكم} إن لم تقبلوا ما آمركم به من عبادة(1/1054)
(15/343)
---
الله تعالى واتباع أمره وطاعته {عذاب يوم عظيم} هو يوم القيامة أو يوم نزول الطوفان وإهلاكهم فيه، وقال: أخاف، على الشك وإن كان يقيناً من حلول العذاب بهم إن لم يؤمنوا به لأنه لم يعلم وقت نزول العذاب بهم أيعاجلهم أم يتأخر عنهم العذاب إلى يوم القيامة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالسكون.
{قال الملأ من قومه} أي: الأشراف منهم فإنهم يملؤون العيون منظراً {إنا لنراك في ضلال} أي: خطأ وزوال عن الحق {مبين} أي: بين.
{قال} نوح مجيباً لهم: {يا قوم ليس بي ضلالة} أي: ليس بي شيء مما تظنون من الضلال.
فإن قيل: لم لم يقل ليس بي ضلالة كما قالوا؟ أجيب: بأنّ الضلالة أخص من الضلال فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه كما لو قيل: ألك ثمر فقلت: ما لي ثمرة فقد بالغ في النفي كما بالغوا في الإثبات وقوله تعالى: {ولكني رسول من ربّ العالمين} استدراك باعتبار ما يلزمه وهو كونه كأنه قال: ولكني على هدى في الغاية لأني رسول الله.
(15/344)
---(1/1055)
{أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم} والنصح إرادة الخير لغيره كما يريده لنفسه، ويقال: نصحته ونصحت له كما يقال: شكرته وشكرت له وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة وإنما وقعت خالصة للمنصوح له مقصوداً بها جانبه لا غير فرب نصيحة ينتفع بها الناصح فتقصد للنفعين جميعاً ولا نصيحة أمحض من نصيحة الله ورسوله وقيل: حقيقة النصح تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه، وقال بعض المفسرين: والفرق بين إبلاغ نصيحة الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة أن يعلمهم جميع أوامر الله تعالى ونواهيه وجميع أنواع التكاليف التي أوجبها الله تعالى عليهم وأما النصيحة فهي أن يرغبهم في قبول تلك الأوامر والنواهي والعبادات ويحذرهم عقابه إن عصوه وقرأ أبو عمرو بسكون الباء وتخفيف اللام من الإبلاغ كقوله تعالى: {لقد أبلغتكم رسالات ربي} وقرأ الباقون بفتح الباء وتشديد اللام من التبليغ كقوله تعالى: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} (النساء، 67)
{وأعلم من الله ما لا تعلمون} أي: من صفات الله وأحوال قدرته الباهرة وشدّة بطشه على أعدائه وإنّ بأسه لا يردّ عن القوم المجرمين، وقوله تعالى:
(15/345)
---(1/1056)
{أو عجبتم} الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف أي: أكذبتم وعجبتم {أن جاءكم} أي: من أن جاءكم {ذكر} أي: موعظة {من ربكم على رجل} أي: على لسان رجل {منكم} أي: من جنسكم أو من جملتكم تعرفون نسبه وذلك أنهم كانوا يتعجبون من نبوّة نوح عليه السلام ويقولون: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين يعنون إرسال البشر ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة {لينذركم} أي: لأجل أن ينذركم عاقبة الكفر والمعاصي {ولتتقوا} أي: ولأجل أن تتقوا الله {ولعلم ترحمون} بالتقوى إن وجدت منكم لأنّ المقصود إرسال الرسل الإنذار والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي والمقصود بالتقوى الفوز بالرحمة في الدار الآخرة وفائدة حرف الترجي التنبيه على أن التقوى غير موجبة والرحمة من الله تعالى محض تفضيل وأن المتقي ينبغي أن لا يعتمد على تقواه ولا يأمن من عذاب الله.
{فكذبوه} أي: نوحاً {فأنجيناه والذين} آمنوا به {معه} من الغرق وكانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة، وقيل: تسعة بنوه الثلاثة سام وحام ويافث وستة ممن آمن به، وقوله تعالى: {في الفلك} متعلق بمعه كأنه قيل: والذين استقرّوا معه في الفلك أو صحبوه في الفلك أو بأنجيناه أي: أنجيناهم في السفينة من الطوفان {وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا} بالطوفان {إنهم كانوا قوماً عمين} أي: عمي القلوب عن الحق غير مستبصرين يقال: رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر وأنشدوا قول زهير:
*وأعلم علم اليوم والأمس قبله ** ولكنني عن علم ما في غد عم*
(15/346)
---(1/1057)
{وإلى عاد} أي: وأرسلنا إلى عاد وهو عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح وهي عاد الأولى {أخاهم هوداً} أي أخاهم في النسب لا في الدين وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح، وقيل: هو ابن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام، واختلف في سبب الأخوة من أين حصلت على وجهين: الأوّل: قال الزجاج: إنه كان من بني آدم ومن جنسهم لا من الملائكة ويكفي هذا القدر في تسمية الأخوة، والمعنى: إنا أرسلنا إلى عاد واحداً من جنسهم من البشر ليكون الفهم والأنس بكلامه أتم وأكمل ولم يبعث إليهم من غير جنسهم مثل الملك والجنّ، والوجه الثاني: أنّ أخاهم بمعنى صاحبهم والعرب تسمي صاحب القوم أخاهم وكانت منازل عاد بالأحقاف باليمن والأحقاف الرمل الذي عند عمان وحضرموت {قال يا قوم اعبدوا الله} أي: وحدوه ولا تجعلوا معه إلهاً آخر {مالكم من إله غيره}.
فإن قيل: لم حذف العاطف من قوله: قال ولم يقل: فقال كما في قصة نوح؟ أجيب: بأنّ هذا على تقدير سؤال سائل قال: فما قال لهم هود، فقيل: قال: يا قوم، وقيل: إنّ نوحاً كان مواظباً على دعوته قومه غير متوان فيها لأن الفاء تدل على التعقيب وأمّا هود فلم يكن كذلك بل كان دون نوح في المبالغة في الدعاء فأخبر الله تعالى عنه بقوله: {يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره} {أفلا تتقون} الله أي: أفلا تخافون عقابه فتؤمنون ولما كانت هذه القصة معطوفة على قصة نوح وقد علم ما حل بهم من الغرق حسن قوله هنا: {أفلا تتقون} أي: أفلا تخافون ما نزل بهم من العذاب ولما لم يكن قبل واقعة قوم نوح شيء حسن تخويفهم من العذاب فقال هناك: {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} (الأحقاف، 21)
{قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة} أي: في حمق وجهالة وضلالة عن الصواب.
(15/347)
---(1/1058)
فإن قيل: لم قال قوم نوح: إنا لنراك في ضلال مبين، وقوم هود: إنا لنراك في سفاهة؟ أجيب: بأنّ نوحاً لما خوّف قومه بالطوفان وطفق في عمل السفينة في أرض ليس فيها من الماء شيء قال له قومه: إنا لنراك في ضلال مبين حيث تتعب في إصلاح سفينة في هذه الأرض، وأمّا هود عليه السلام لما زيف عبادة الأصنام ونسب من عبدها إلى السفه وهو قلة العقل قابلوه بمثله فقالوا: إنا لنراك في سفاهة {وإنا لنظنك من الكاذبين} أي: في ادعائك أنك رسول من رب العالمين.
{قال} هود لهؤلاء الملأ الذين نسبوه إلى السفه {يا قوم ليس بي سفاهة} أي: ليس الأمر كما تزعمون أنّ بي سفاهة {ولكني رسول من رب العالمين}.
(15/348)
---
{أبلغكم رسالات ربي} أي: أؤدي إليكم ما أرسلني به من أوامره ونواهيه وشرائعه وتكاليفه {وأنا لكم ناصح} أي: فيما آمركم به من عبادة الله تعالى {أمين} أي: مأمون على تبليغ الرسالة وأداء النصح والأمين الثقة على ما إئتمن عليه.
فإن قيل: لم قال نوح: وأنصح لكم بصيغة الفعل وقال هود: وأنا لكم ناصح بصيغة اسم الفاعل؟ أجيب: بأنّ صيغة الفعل تدل على تجدده ساعة بعد ساعة وكان نوح يدعو قومه ليلاً ونهاراً كما أخبر الله تعالى عنه بقوله: {رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً} (نوح، 5)
(15/349)
---
فلما كان ذلك من عادته ذكره بصيغة الفعل فقال: {وأنصح لكم} وأمّا هود فلم يكن كذلك بل كان يدعوهم وقتاً دون وقت فلهذا قال: {وأنا لكم ناصح أمين}.
فإن قيل: مدح الذات بأعظم صفات المدح غير لائق بالعقلاء؟ أجيب: بأنه فعل هود ذلك لأنه كان يجب عليه إعلام قومه بذلك ومقصوده الرد عليهم في قولهم: {وإنا لنظنك من الكاذبين} فوصف نفسه بالأمانة وأنه أمين في تبليغ ما أرسل به من عند الله وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه في موضع الضرورة إلى مدحها.
{أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم} سبق تفسيره.
(15/350)
---(1/1059)
تنبيه: في إجابة الأنبياء الكفرة عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا والإعراض عن مقالتهم كمال النصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة وهكذا ينبغي لكل ناصح {واذكروا} نعمة الله عليكم {إذا جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح} أي: خلفتموهم في الأرض أو جعلكم ملوكاً في الأرض فإنّ شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج وهو موضع بالبادية بها رمل إلى شحر عمان وهو بفتح الشين المعجمة وكسرها وبالحاء المهملة ساحل البحر بين عمان وعدن {وزادكم في الخلق بسطة} أي: طولاً وقوّة قال الجلال المحلى في سورة الفجر: كان طول الطويل منهم أربعمائة ذراع وقامة القصير ستين ذراعاً، وقال أبو حمزة اليماني: سبعون ذراعاً، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ثمانون ذراعاً، وقال مقاتل: كان طول كل رجل اثني عشر ذراعاً، أخرج ابن عساكر عن وهب بذراعهم أي: على الأقوال كلها، وقال وهب: كان رأس أحدهم مثل القبة العظمية وكان عين الرجل ـ أي: بعد موته ـ تفرخ فيها الضباع وكذا مناخرهم، وقرأ نافع والبزي وشعبة والكسائي بالصاد وأبو عمرو وهشام وقنبل وحفص وخلف بالسين وأمّا ابن ذكوان وخلاد فقرآ بالسين والصاد {فاذكروا آلاء الله} أي: أنعمه أي: اعملوا بما يليق بذلك الإنعام وهو أن تؤمنوا به وتتركوا ما أنتم عليه من عبادة الأصنام {لعلم تفلحون} أي: تفوزون بالنعيم المقيم في الآخرة.
(15/351)
---(1/1060)
{قالوا}أي: قوم هود مجيبين له {أجئتنا} يا هود {لنعبد الله وحده ونذر} أي: نترك {ما كان يعبد آباؤنا} أي: من الأصنام استبعدوا اختصاص الله تعالى بالعبادة والإعراض عما أشرك به آباؤهم ومعنى المجيء في أجئتنا إما لأن هوداً كان معتزلاً عن قومه كما كان يفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم بحراء قبل البعثة فلما أوحي إليه جاء قومه يدعوهم أو يريدون به الاستهزاء لأنهم كانوا يعتقدون أنّ الله تعالى لا يرسل إلا الملائكة فكأنهم قالوا: أجئتنا من السماء كما يجيء الملك أو أن المقصود على المجاز كما تقول: ذهب يشتمني ولا يراد حقيقة الذهاب {فأتنا بما تعدنا} أي: من العذاب {إن كنت من الصادقين} أي: في قولك: إني رسول الله.
{قال} هود مجيباً لهم {قد وقع عليكم} أي: نزل عليكم {من ربكم رجس} عقاب {وغضب} أي: سخط {أتجادلونني في أسماء سميتموها} أي: وضعتموها {أنتم وآباؤكم} أي: من عند أنفسكم، والاستفهام للإنكار عليهم لأنهم سموا الأصنام بالآلهة فعبدوها من دون الله {ما نزل الله بها} أي: بعبادتها {من سلطان} أي: حجة وبرهان لأنّ المستحق للعبادة بالذات هو الموجد للكل وإنها لو استحقت كان استحقاقها بجعله تعالى إمّا بإنزال آية أو نصب دليل {فانتظروا} أي: نزول العذاب بسبب تكذيبكم لي {إني معكم من المنتظرين} ذلك فأرسلت عليهم الريح العقيم.
(15/352)
---(1/1061)
{فأنجيناه} أي: هوداً {والذين معه} أي: من المؤمنين {برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا} أي: استأصلناهم وقوله تعالى: {وما كانوا مؤمنين} عطف على كذبوا. روي أنّ قوم هود كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله تعالى إليهم هوداً فكذبوا وازدادوا عتواً فأمسك الله تعالى القطر عنهم ثلاث سنين حتى جهدوا وكان الناس حينئذ مسلمهم وكافرهم إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله تعالى الفرج فجهزوا إلى الحرم قيل بن عنز ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم وكان بمكة إذ ذاك العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام وسيدهم معاوية بن بكر فلما قدموا عليه وهو بظاهر مكة أنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فلبثوا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان له وكان اسم إحداهما وردة والأخرى جرادة فتسميتهما جرادتين فيه تغليب والقينة الأمة مغنية أو غير مغنية فلما رأى ذهولهم باللهو عما بعثوا له أهمه ذلك واستحى أن يكلمهم فيه مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه فذكر ذلك للقينتين فقالتا: قل شعراً نغنيهم به ولا يدرون من قاله فعلم القينتين معاوية:
v
*ألا يا قل ويحك قم فهينم*
والهينمة الصوت الخفي أي: أخف الدعاء.
*لعل الله يمنحنا غماما
والغمام هنا المطر.
*فيسقي أرض عاد إن عاداً ** قد أمسوا لا يبينون الكلاما*
*من العطش الشديد فليس نرجو ** به الشيخ الكبير ولا الغلاما*
(15/353)
---(1/1062)
فلما غنتا به أزعجهم ذلك وقالوا: إن قومكم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم فقال لهم مرثد بن سعد: والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله تعالى سقاكم وأظهر إسلامه فقالوا لمعاوية: احبس عنا مرثداً لا يقدمنّ معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ثم دخلوا مكة فقال قيل: اللهمّ اسق عاداً ما كنت تسقيهم فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء: يا قيل اختر لنفسك ولقومك فقال: اخترت السوداء فإنها أكثر ماء فخرجت على عاد من واد لهم يقال له: المغيث فاستبشروا به وقالوا: هذا عارض ممطرنا فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود ومن معه من المؤمنين وأتوا مكة فعبدوا الله فيها حتى ماتوا.
يروى أنّ النبيّ من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إذا هلك قومه هاجر والصالحون معه إلى مكة يعبدون الله تعالى فيها حتى يموتوا، وروي عن عليّ رضي الله تعالى عنه أن قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر. وقال عبد الرحمن بن سابط: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبياً وأن قبر هود وصالح وشعيب وإسماعيل في تلك البقعة.
(15/354)
---(1/1063)
{وإلى ثمود} أي: وأرسلنا إلى ثمود قبيلة أخرى من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عابر بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام، وقيل: سموا به لقلة مائهم من الثمد وهو الماء القليل وكان مسكنهم الحجر وهو بكسر الحاء موضع بين الحجاز والشام إلى وادي القرى واتفق القرّاء السبعة هنا على عدم صرف ثمود مراداً به القبيلة وقرىء مصروفاً في غير هذه السورة بتأويل الحيّ أو باعتبار الأصل وهو أنه اسم لأبيهم الأكبر أو للماء القليل {أخاهم صالحاً} أي: أخاهم في النسب لا في الدين وهو صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود {قال} لهم صالح حين أرسله الله تعالى إليهم {يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره} أي: فلا يستحق أن يعبد سواه {قد جاءتكم بينة من ربكم} أي: معجزة ظاهرة الدلالة على صحة نبوّتي وصدق ما أقول وأدعو إليه من عبادة الله تعالى ثم فسر تلك البينة بقوله: {هذه ناقة الله لكم آية} أي: علامة على صدقي أو آية نصبت على الحال عاملها ما دل عليه اسم الإشارة من معنى الفعل كأنه قال: أشير إليها آية ولكم بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان خاصة وهم ثمود لأنهم عاينوها وسائر الناس أخبروا وليس الخبر كالمعاينة كأنه قال لكم خصوصاً وإنما أضيفت إلى الله تعالى تعظيماً لها وتفخيماً لشأنها كما يقال: بيت الله ولأنها جاءت من عند الله تعالى بلا وسائط وأسباب معهودة ولذلك كانت آية {فذروها} أي: أتركوها {تأكل في أرض الله} أي: العشب فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات إنباتكم {ولا تمسوها بسوء} أي: بشيء من أنواع الأذى لا بعقر ولا بغيره وقوله: {فيأخذكم عذاب أليم} أي: بسبب أذاها جواب النهي.
(15/355)
---(1/1064)
{واذكروا إذ جعلكم خلفاء} في الأرض {من بعد عاد} أي: إن الله تعالى أهلك عاداً وجعلكم تخلفونهم في الأرض وتعمرونها {وبوّأكم} أي: أسكنكم وأنزلكم {في الأرض} أي أرض الحجر {تتخذون من سهولها قصوراً} أي: تبنون القصور من سهولة الأرض لأنّ القصور إنما تبنى من اللبن والآجرّ المتخذ من الطين السهل اللين غالباً {وتنحتون الجبال بيوتاً} أي: وتنقبون في الجبال البيوت وكانوا في الصيف يسكنون بيوت الطين وفي الشتاء بيوت الجبال. وقرأورش وأبو عمرو وحفص بضم الباء والباقون بخفضها {فاذكروا آلاء الله} أي: فاذكروا نعمة الله عليكم واشكروه عليها فإنكم منعمون مرفهون بمساكن في الصيف ومساكن في الشتاء {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} والعثو أشد الفساد، وقال قتادة: معناه لا تسيروا مفسدين في الأرض، وقيل: أراد به النهي عن عقر الناقة.
{قال الملأ الذين استكبروا من قومه} أي: تكبروا عن الإيمان به {للذين استضعفوا} أي: للذين استضعفوهم واستبذلوهم وقوله تعالى: {لمن آمن منهم} بدل من الذين استضعفوا بدل الكل إن كان الضمير لقومه وبدل البعض إن كان للذين، وقرأ ابن عامر: وقال الملأ بالواو والباقون بلا واو {أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه} أي: أنّ الله أرسله إلينا وإليكم قالوا: ذلك على الاستهزاء {قالوا} أي: الضعفاء {إنا بما أرسل به} أي صالح من الدين والهدى {مؤمنون} أي: مصدّقون وإنما عدلوا عن الجواب السويّ الذي هو نعم تنبيهاً على أنّ إرساله أظهر من أن يشك فيه عاقل أو يخفى على ذي لب.
{قال} الملأ: {الذين استكبروا} عن أمر الله تعالى والإيمان به وبرسوله صالح عليه السلام {إنا بالذي آمنتم به كافرون} أي: جاحدون متكبرون.
(15/357)
---(1/1065)
{فعقروا الناقة} أي: عقرها فدار بأمرها فأسند العقر إليهم والعقر قطع عرقوب البعير ثم جعل النحر عقراً فإنه قتلها بالسيف فإنّ ناحر البعير يعقره ثم ينحره {وعتوا عن أمر ربهم} أي: تكبروا عن أمر ربهم وعصوه وكذبوا نبيهم صالحاً عليه السلام {وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا} أي: من العذاب {إن كنت من المرسلين} أي: إن كنت تزعم أنك رسول الله فإنّ الله ينصر رسله على أعدائه وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا مكذبين في كل ما أخبرهم به من العذاب.
{فأخذتهم الرجفة} أي: الزلزلة الشديدة من الأرض والصيحة من السماء {فأصبحوا في دارهم جاثمين} أي: باركين على الركب ميتين.
(15/358)
---(1/1066)
روي أن عاداً لما أهلكت عمرت ثمود بلادهم وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعماراً طوالاً حتى أنّ الرجل كان يبني البيت المحكم فينهدم في حياته فينحتون البيوت من الجبال وكانوا في سعة ورخاء من العيش فعثوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأصنام فبعث الله تعالى إليهم صالحاً عليه السلام من أشرافهم غلاماً شاباً فدعاهم إلى الله تعالى حتى كبر لا يتبعه إلا قليل مستضعفون فلما ألحّ عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر عليهم التحذير والتخويف سألوه آية فقال لهم: أيّ آية تريدون؟ فقالوا: تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم في السنة فتدعو إلهك وندعوا آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا، قال لهم صالح: نعم، فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم وخرج صالح معهم ودعوا أوثانهم وسألوهم الاستجابة فلم تجبهم ثم قال سيدهم جندع بن عمرو وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها: الكاثبة: أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء ـ والمخترجة هي التي شاكلت البخت، والجوفاء ذات الجوف، والوبراء ذات الوبر ـ فإن فعلت ذلك صدّقناك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتؤمنن ولتصدّقنّ فقالوا: نعم فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة أي: تحرّكت للولادة تمخض النتوج بولدها فانصدعت أي: انشقت عن ناقة عشراء وهي التي مرّ عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى عظماً وعظماؤهم ينظرون ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندح ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدّقوه فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن أسد والخباب صاحبا أوثانهم ورباب بن صمعر كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود فلما خرجت الناقة قال لهم صالح: هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد غباً فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيها ثم تتفحج وهو(1/1067)
(15/359)
---
بتقديم الحاء المهملة مثل التفسح وهو أن تفرج بين رجليها فيحلبون ما شاؤا حتى تمتلىء أوانيهم فيشربون ويدّخرون، وكانت تصيف أي: تقيم زمن الصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه، وتشتو أي: تقيم زمن الشتاء ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره، فشق ذلك عليهم وزين عقرها لهم امرأتان عنيزة بنت غنم وصدقة بنت المختار لما أضرّت به من مواشيهما وكانتا كثيرتي المواشي فعقروها واقتسموا لحمها فرقي سقبها وهو بفتح السين والقاف ولدها الذكر جبلاً اسمه قارة فرغا ثلاثاً وكان صالح عليه السلام قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه، وانفجت وهو بتشديد الجيم أي: انفتحت الصخرة بعد رغائه فدخلها، فقال لهم صالح: تصبحون غداً وجوهكم مصفرّة وبعد غد وجوهكم محمرّة واليوم الثالث وجوهكم مسودّة، ثم يصبحكم العذاب فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله تعالى إلى أرض فلسطين فلما كان اليوم الرابع واشتدّ الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالإنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم وهلكوا. وسيأتي لهذه القصة زيادة إن شاء الله تعالى في سورة النمل.
ويروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرّ بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: «لا يدخلنّ أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم» وقال صلى الله عليه وسلم لعليّ: «أتدري من أشقى الأوّلين» قال: الله ورسوله أعلم، قال: «عاقر ناقة صالح عليه السلام، أتدري من أشقى الآخرين» قال: الله ورسوله أعلم، قال: «قاتلك» {فتولى} أي: أعرض صالح {عنهم} وفي هذا التولي قولان: أحدهما: أنه تولى عنهم بعد أن ماتوا وهلكوا ويدلّ عليه قوله تعالى: {فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم} والفاء للتعقيب فدلّ على أنه حصل هذا التولي بعد جثومهم وهو موتهم.
(15/360)
---(1/1068)
والقول الثاني: أنه تولى عنهم وهم أحياء قبل هلاكهم ويدلّ عليه أنه خاطبهم {وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} وهذا الخطاب لا يليق إلا بالإحياء، وعلى هذا القول يحتمل أنّ في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره فتولى عنهم وقال: يا قوم لقد أبلغتكم سالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين. وأجيب من جهة الأوّل: بأنه خاطبهم بعد هلاكهم تقريعاً وتوبيخاً كما خاطب نبينا صلى الله عليه وسلم الكفار من قتلى بدر حين ألقوا في القليب فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يناديهم بأسمائهم الحديث في الصحيحين وفيه فقال عمر: يا رسول الله تكلم أمواتاً قد جيفوا، فقال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يجيبون» وقيل: إنما خاطبهم صالح عليه السلام بذلك ليكون عبرة لمن يأتي من بعدهم فينزجروا عن مثل تلك الطريقة.
وروي أنّ عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء ونزل بهم العذاب يوم السبت، وروي أنه خرج في مائة وعشرين من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعاً فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفاً وخمسمائة دار، وروي أنه رجع بمن معه من المسملين فسكنوا ديارهم وقال قوم من أهل العلم: توفي صالح بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة وأقام في قومه عشرين سنة.
(15/361)
---(1/1069)
{ولوطاً} أي: وأرسلنا لوط بن هاران بن تارخ ابن أخي إبراهيم {إذ قال لقومه} أي: وقت قوله لهم، وقيل: معناه واذكر لوطاً ويبدل منه إذ قال لقومه وهم أهل سذوم، قال التفتازانيّ: هو بفتح السين قرية قوم لوط والذال المعجمة في رواية الأزهري دون غيره، اه. وصوّبه صاحب القاموس وغلط الجوهريّ في قوله: إنها مهملة وذلك أنّ لوطاً عليه السلام لما هاجر مع عمه إبراهيم عليه السلام إلى الشام فنزل إبراهيم عليه السلام أرض فلسطين وأنزل لوطاً الأردن وهو بضم الهمزة والدال وتشديد النون نهر وكورة بأعلى الشام فأرسله الله تعالى إلى أرض سذوم يدعوهم إلى الله تعالى وينهاهم عن فعلهم القبيح وهو قوله تعالى: {أتأتون الفاحشة} أي: أتفعلون الفاحشة الخبيثة التي هي غاية القبح وكانت فاحشتهم إتيان الذكر في أدبارهم كما سيأتي {ما سبقكم بها من أحد من العالمين} أي: ما فعلها أحد قبلكم والباء للتعدية ومن الأولى زائدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق والثانية للتبعيض والجملة استئناف مقرّر للإنكار وبخهم أولاً بإتيان الفاحشة ثم باختراعها فإنه أسوأ، قال عمرو بن دينار: ما نزا ذكر على ذكر في الدنيا حتى كان من قوم لوط. ثم بين الفاحشة بقوله:
(15/362)
---(1/1070)
{أئنكم لتأتون الرجال} أي: في أدبارهم {شهوة من دون النساء} أي: إن أدبار الرجال أشهى عندكم من فروج النساء. وقرأ نافع وحفص بكسر الهمزة ولا ياء بينها وبين النون على الحبر وشهوة إمّا مفعول له وإمّا مصدر في موضع الحال وفي التقييد بها وصفهم بالبهيمية الصرفة وتنبيه على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع لا قضاء الوطر، وقرأ ابن كثير بهمزتين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة مسهلة ولا مدّ بينهما، وأبو عمرو كذلك إلا أنه يمدّ بين الهمزتين وهشام بتحقيق الهمزتين بينهما مدّ والباقون بتحقيقهما من غير مدّ بينهما وقوله: {بل أنتم} أيها القوم {قوم مسرفون} أي: مجاوزون الحلال إلى الحرام إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحالة التي توجب ارتكاب القبائح وتدعو إلى اتباع الشهوات وإنما ذمّهم الله تعالى وعيرهم ووبخهم بهذا الفعل الخبيث لأن الله تعالى خلق الإنسان وركب فيه شهوة النكاح لبقاء النسل وعمارة الدنيا وجعل النساء محلاً لتلك الشهوة وموضع النسل فإذا تركهنّ ووضع الشيء في غير محله الذي خلق له فقد أسرف وجاوز واعتدى لأنّ وضع الشيء في غير محله الذي وضع له إسراف لأن أدبار الرجال ليست محلاً للولادة التي هي مقصودة بتلك الشهوة المركبة في الإنسان.
روي أنّ أوّل من عمل عمل قوم لوط إبليس لعنه الله تعالى لأنّ بلادهم أخصبت بالزرع والثمار وانتجعها أهل البلدان فتمثل لهم إبليس لعنه الله تعالى في صورة شاب ثم دعا إلى نفسه فكان أوّل من نكح في دبره، وقال محمد بن إسحاق: كانت لهم ثمار وقرى لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فأذوهم فعرض لهم إبليس لعنه الله تعالى في صورة شيخ، وقال لهم: إن فعلتم بهم كذا وكذا نجوتم منهم فلما ألحّ عليهم قصدوهم فأصابوا غلماناً حساناً فاستخنثوا واستحكم ذلك فيهم.
(15/363)
---
[وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ](1/1071)
له حين وبخهم على فعلهم القبيح وارتكابهم ما حرّم الله تعالى عليهم من العمل الخبيث {إلا أن قالوا} أي: قال بعضهم لبعض {أخرجوهم من قريتكم} أي: ما جاؤوا بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط عليه السلام من إنكار الفاحشة وتعظيم أمرها ولكنهم جاؤوا بشيء آخر لا يتعلق بنصيحته وكلامه من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم ضجراً بهم وبما يسمعونه من وعظهم ونصحهم وقولهم: {إنهم أناس يتطهرون} أي: يتنزهون عن فعلكم وعن أدبار الرجال سخرية بهم وبتطهيرهم من الفواحش وافتخاراً بما كانوا فيه من القاذورات كما تقول الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتنزه.
(15/364)
---
{فأنجيناه} أي لوطاً {وأهله} أي: من آمن به، وقوله تعالى: {إلا امرأته} استثناء من أهله فإنها كانت تسر الكفر موالية لأهل سذوم {كانت من الغابرين} أي: من الذين غبروا أي: بقوا في ديارهم فهلكوا.
وروي أنها التفتت فأصابها حجر فماتت وإنما قال تعالى: {من الغابرين} ولم يقل من الغابرات لأنها هلكت مع الرجال فغلب الذكور على الإناث.
{وأمطرنا عليهم مطراً} أي: نوعاً من المطر عجيباً وهو مبين بقوله تعالى: {وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل} (الحجر، 74)
أي: قد عجنت بالكبريت والنار، يقال: مطرت السماء وأمطرت، وقال أبو عبيدة: يقال في العذاب: أمطر وفي الرحمة مطر، وقيل: خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم {فانظر} أي: أيها الإنسان {كيف كان عاقبة المجرمين}.
روي أنّ تاجراً منهم كان في الحرم فوقف الحجر أربعين يوماً حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه، وقال مجاهد: نزل جبريل عليه السلام وأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط فاقتلعها ورفعها إلى السماء ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها ثم أتبعوا بالحجارة كما قال تعالى: {فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل} (الحجر، 74).(1/1072)
{وإلى مدين} أي: وأرسلنا إلى ولد مدين بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام {أخاهم} في النسب لا في الدين {شعيباً} بن ميكيل بن يشجر بن مدين وكان يقال له: خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه عليه السلام وكان قومه أهل كفر وبخس للمكيال والميزان {قال} أي: شعيب عليه السلام {يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بينة} أي: معجزة تدلّ على صدق ما جئت به {من ربكم} أوجبت عليكم الإيمان بي والأخذ بما آمركم به.
(15/365)
---
فإن قيل: ما كانت معجزته إذ لم تذكر له معجزة؟ أجيب: بأنه قد وقع العلم بأنه كان له معجزة لقوله: {قد جاءتكم بينة من ربكم} ولأنه لا بدّ لمدّعي النبوّة من معجزة تشهد له وتصدّقه وإلا لم تصح دعواه وكان متنبئاً لا نبياً غير أنّ معجزته لم تذكر في القرآن كما لم تذكر أكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم فيه ومن معجزات شعيب عليه السلام الواردة في غير القرآن ما روي من محاربة عصا موسى التنين حين دفع إليه الغنم وولادة الغنم الدرع حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها والدرع بوزن الصرد وهي الغنم التي أوائلها سواد وأواخرها بياض ووقوع عصا آدم عليه السلام على يده في المرات السبع وغير ذلك من الآيات لأن هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام فكانت معجزة لشعيب وهذا أولى من جعله كرامة لموسى أو إرهاصاً وهو علامة تظهر قبل النبوّة وقيل: أراد بالبينة الموعظة وهي قوله تعالى: {فأوفو الكيل والميزان} أي: أتموهما {ولا تبخسوا} أي: تنقصوا {الناس أشياءهم} فتطففوا الكيل والوزن يقال: بخس فلان الكيل والوزن إذا نقصه وطففه.
(15/366)
---(1/1073)
فإن قيل: هلا قال المكيال والميزان كما في سورة هود؟ أجيب: بأنه أراد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال أو سمى ما يكال به بالكيل، أو أريد وأوفوا كيل المكيال ووزن الميزان وإنما قال {أشياءهم} لأنهم كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه كما يفعل أمراء الجور {ولا تفسدوا في الأرض} أي: بالكفر والمعاصي {بعدإصلاحها} أي: بعدما أصلح أمرها وأهلها الأنبياء وأتباعهم بالشرائع {ذلكم} أي: الذي ذكرت لكم وأمرتكم به من الإيمان ووفاء الكيل والميزان وترك المظالم والبخس {خير لكم} أي: مما أنتم عليه من الكفر وظلم الناس {إن كنتم مؤمنين} أي: مصدّقين بما أقول لكم ومعنى {خير لكم} أي: في الإنسانية وحسن ما يتحدّث به وجمع المال لأنّ الناس ترغب في متاجرتكم إذا عرفوا منكم الأمانة والتسوية.
{ولا تقعدوا بكل صراط} أي: طريق من طرف الدين {توعدون} أي: تمنعون الناس من الدخول فيه وتهدّدونهم على ذلك وذلك أنهم كانوا يجلسون على الطرقات فيخبرون من أتى عليهم أنّ شعيباً الذي تريدونه كذاب فلا يفتنكم عن دينكم وقيل: كانوا يقطعون الطريق على الناس أو يقعدون لأخذ المكس منهم وقوله تعالى: {وتصدّون} أي: تصرفون الناس {عن سبيل الله} أي: دينه {من آمن به} دليل على أنّ المراد بالطريق سبيل الحق.
فإن قيل: صراط الحق واحد قال تعالى: {وأنّ هذا صراطى مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} (الأنعام، 153)
(15/367)
---(1/1074)
فكيف قيل: بكل صراط؟ أجيب: بأنّ صراط الحق وإن كان واحدا لكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة وكانوا إذا رأوا أحد يشرع في شيء منها أوعدوه وصدوه {وتبغونها} أي: تطلبون الطريق {عوجاً} أي: تصفونها للناس بأنها سبيل معوجة عن الحق غير مستقيمة لتصدّوهم عن سلوكها والدخول فيها أو يكون ذلك تهكماً بهم وإنهم يطلبون لها ما هو محال فإنّ طريق الحق لا يعوج {واذكروا} نعمة الله عليكم وآمنوا به {إذ كنتم قليلاً فكثركم} أي: كثر عددكم بعد القلة أو كثركم بالغنى بعد الفقر وكثركم بالقدرة بعد الضعف قيل: إنّ مدين بن إبراهيم تزوّج بنت لوط عليهما السلام فولدت فرمى الله تعالى في نسلهما بالبركة والنماء فكثروا ونموا {وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين} قبلكم بتكذيبهم رسلهم أي: آخر أمرهم من الهلاك وأقرب الأمم إليكم قوم لوط فانظروا كيف أرسل الله تعالى عليهم حجارة من السماء لما عصوه وكذبوا رسوله.g
{وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا} به أي: وإن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين فرقة آمنت بي وصدقت برسالتي وفرقة كذبت وجحدت برسالتي {فاصبروا} أي: فتربصوا {حتى يحكم الله بيننا} أي: بين الفرقتين فيعز المؤمنين أي: المصدّقين وينصرهم ويهلك المكذبين الجاحدين ويعذبهم وفي هذا وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين {وهو خير الحاكمين} أي: لا حيف في حكمه ولا معقب له لأنه تعالى منزه عن الجور والميل في حكمه وإنما قال: {خير الحاكمين} لأنه قد يسمى بعض الأشخاص حاكماً على سبيل المجاز والله تعالى هو الحاكم في الحقيقة.
(15/368)
---
أي: الجماعة {الذين استكبروا} أي: تكبروا {من قومه} عن الإيمان بالله ورسوله وتعظموا عن اتباع شعيب عليه الصلاة والسلام {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن} أي: ترجعن {في ملتنا} أي: لا بدّ من أحد الأمرين إمّا إخراجك ومن اتبعك على دينك من بلدنا أو عودكم في الكفر.
(15/369)
---(1/1075)
فإن قيل: شعيب لم يكن قط على ملتهم حتى يرجع إلى ما كان عليه؟ أجيب: بأنّ أتباع شعيب كانوا على ملة أولئك الكفار فخاطبوا شعيباً وأتباعه جميعاً فدخل هو في الخطاب وإن لم يكن على ملتهم قط لأنّ الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر مطلقاً فاستعمل العود في حقهم على سبيل المجاز وجرى بعضهم على أن العود يستعمل بمعنى صار كما يستعمل بمعنى رجع فلا يستلزم الرجوع إلى حالة سابقة بل هو انتقال من حالة سابقة إلى حالة مستأنفة كما قال القائل:
*فإن تكن الأيام تحسن مرّة ** إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب*
راد فقد صارت لهنّ دنوب ولم يرد أن ذنوباً كانت لهنّ قبل الإحسان {قال} لهم شعيب على سبيل الاستفهام الإنكاري {أولو كنا كارهين} أي: كيف نعود فيها ونحن كارهون لها، وقيل: لا نعود فيها وإن أكرهتمونا وجبرتمونا على الدخول فيها لا نقبل ولا ندخل.
{قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها} والجواب عن هذا مثل ما أجيب به عن الأوّل وهو أن نقول: إنّ الله نجى قومه الذين آمنوا به من تلك الملة الباطلة إلا أن شعيباً نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً مما كانوا عليه من الكفر فأجرى الكلام على حكم التغليب {وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا} أي: إلا أن يشاء خذلاننا وارتدادنا فحينئذ يمضي قضاء الله فينا وينفذ حكمه علينا وفيه دليل على أنّ الكفر بمشيئة الله تعالى، وقيل: أراد به حسم طمعهم في العود بالتعليق على ما لا يكون {وسع ربنا كل شيء علماً} أي: وسع علمه كل شيء فلا يخفى عليه شيء مما كان وما يكون منا ومنكم {على الله توكلنا} في أن يثبتنا على الإيمان ويخلصنا من الأشرار ولما أيس شعيب من إيمان قومه دعا بهذا الدعاء فقال: {ربنا افتح} أي: اقض وافصل واحكم {بيننا وبين قومنا بالحق} أي: بالعدل الذي لا جور فيه ولا ظلم ولا حيف {وأنت خير الفاتحين} أي: الحاكمين.
(15/370)
---(1/1076)
{وقال الملأ الذين كفروا من قومه} أي: قال جماعة من أشراف قوم شعيب ممن كفر به لآخرين منهم {لئن اتبعتم شعيباً} أي: على دينه وتركتم دينكم وما أنتم عليه {إنكم إذاً لخاسرون} أي: مغبونون لفوات ما يحصل لكم بالبخس والتطفيف أو لاستبدال ضلالته بهداكم وجواب القسم الذي وطأته اللام في لئن اتبعتم شعيباً وجواب الشرط قوله: {إنكم إذاً لخاسرون} فهو سادّ مسدّ الجوابين.
{فأخذتهم الرجفة} أي: الزلزلة الشديدة {فأصبحوا في دارهم} أي: مدينتهم {جاثمين} أي: باركين على الركب ميتين، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فتح الله عليهم باباً من جهنم فأرسل عليهم حرّاً شديداً فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء فدخلوا في الأسراب ليتبرّدوا فيها فوجدوها أشدّ حرّاً من الظاهر فخرجوا إلى البرية فبعث الله تعالى عليهم سحابة فيها ريح طيبة باردة فأظلتهم وهي الظلة فوجدوا لها برداً ونسيماً فنادى بعضهم بعضاً حتى اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ألهبها الله عليهم ناراً ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد وصاروا رماداً، وروي أنّ الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام ثم سلط عليهم الحرّ سبعة أيام ثم رفع لهم جبل من بعيد فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون فأتاهم وأخبرهم فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم فذلك قوله تعالى: {عذاب يوم الظلة} (الشعراء، 189)
وقال قتادة: بعث الله تعالى شعيباً إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين فأمّا أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة وأمّا أصحاب مدين فأخذتهم الصيحة صاح بهم جبريل عليه السلام فهلكوا جميعاً، قال أبو عبدا الله البجلي: كان أبو جاد وهوّز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين وكان ملكهم في زمن شعيب يوم الظلة كلمن فلما هلك قالت ابنته شعراً ترثيه وتبكيه:
*كلمن قد هدّركني ** هلكه وسط المحله*
*سيد القوم أتاه ال ** حتف نار تحت ظله*
*جعلت ناراً عليهم ** دارهم كالمضمحله*
وقوله تعالى:
(15/371)
---(1/1077)
{الذين كذبوا شعيباً} مبتدأ خبره {كأن} مخففة واسمها محذوف أي: كأنهم {لم يغنوا} أي: لم يبقوا وينزلوا {فيها} أي: في ديارهم يوماً من الدهر يقال: غنيت بالمكان أي: أقمت به والمغاني المنازل التي بها أهلها واحدها مغني قال الشاعر:
*ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ** في ظل ملك ثابت الأوتاد*
أراد أقاموا فيه وقيل: كأن لم يعيشوا فيها متنعمين يقال: غني الرجل إذا استغنى وهو من الغنى الذي هو ضدّ الفقر قال الشاعر:
*غنينا زماناً بالتصعلك والغنى ** وكل سقانا بكاسيهما الدهر*
*فما زادنا بغياً على ذي قرابة ** غنى ولا أزرى بأحسابنا الفقر*
قال الزجاج: معنى غنينا عشنا والتصعلك الفقر يقال للفقير: صعلوك {الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين} أي: ديناً ودنيا دون الذين اتبعوه فإنهم الرابحون في الدارين وأكد ذلك بإعادة الموصول وغيره للردّ عليهم في قولهم السابق.
{فتولى} أي: أعرض شعيب {عنهم} أي: عن قومه {وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم} أي: قال ذلك لما تيقن نزول العذاب بهم تأسفاً وحزناً عليهم لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منهم الإجابة والإيمان ثم أنكر على نفسه فقال: {فكيف آسى} أي: أحزن {على قوم كافرين} لأنهم ليسوا أهل حزن لاستحقاقهم ما نزل عليهم بسبب كفرهم، وقيل: قال ذلك اعتذاراً عن عدم شدّة حزنه عليهم والمعنى: لقد بالغت في الإبلاغ والإنذار وبذلت وسعي في النصح فلم يصدّقوا قولي فكيف أحزن عليهم وقوله تعالى:
{وما أرسلنا في قرية من نبيّ} فيه إضمار وحذف تقديره: فكذبوه {إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء} قال ابن مسعود: البأساء الفقر والضرّاء المرض، وقيل: البأساء الشدّة وضيق العيش والضرّاء سوء الحال {لعلهم يضرّعون} أي: فعلنا بهم ذلك لكي يتضرّعوا ويتوبوا والتضرّع التذلل والخضوع والانقياد لأمر الله.
(15/372)
---(1/1078)
{ثم بدّلنا مكان السيئة الحسنة} أي: أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والشدّة السلامة والسعة كقوله تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} (الأعراف، 168)
فأخبر الله تعالى بهذه الآية أنه يأخذ أهل المعاصي والكفر تارة بالشدة وتارة بالرخاء على سبيل الاستدراج وهو قوله تعالى: {حتى عفوا} أي: كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم يقال: عفا الشعر إذا كثر وطال ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «وأعفوا اللحى» أي: وفروها وأكثروا شعرها {وقالوا} كفراً للنعمة {قد مس آباءنا الضرّاء والسرّاء} وهذه عادة الدهر قديماً وحديثاً لنا ولآبائنا ولم يكن ما مسنا من الشدّة والضرّاء عقوبة لنا من الله تعالى على ما نحن عليه فكونوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤكم من قبل فإنهم لم يتركوا دينهم لما أصابهم من الضراء والسراء قال الله تعالى: {فأخذناهم بغتة} أي: فجأة أينما كانوا ليكون ذلك أعظم لحسرتهم {وهم لا يشعرون} أي: بنزول العذاب بهم والمراد بذكر هذه القصة وغيرها من القصص اعتبار من سمعها لينزجر عما هو عليه من الذنوب ويرجع إلى الله تعالى ويزداد الذين آمنوا إيماناً.
(15/373)
---
{ولو أنّ أهل القرى} أي: المكذبين {آمنوا} أي: بالله ورسوله {واتقوا} أي: الشرك والمعاصي {لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} أي: لأتيناهم بالخير من كل جهة، وقيل: بركات السماء المطر وبركات الأرض النبات والثمار والأنعام وجميع ما فيها من الخيرات وكل ذلك من فضل الله تعالى وإحسانه وإنعامه على عباده. وقرأ ابن عامر بتشديد التاء والباقون بالتخفيف {ولكن كذبوا} أي: فعلنا بهم ذلك ليؤمنوا فما آمنوا ولكن كذبوا الرسل {فأخذناهم} أي: عاقبناهم بأنواع العذاب {بما} أي: بسبب ما {كانوا يكسبون} من الكفر والمعاصي.
وقوله تعالى:(1/1079)
{أفأمن أهل القرى} عطف على قوله تعالى: {فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} وما بينما اعتراض والمعنى: أبعد ذلك أمن أهل القرى {أن يأتيهم بأسنا} أي: عذابنا {بياتاً} أي: ليلاً وقوله تعالى: {وهم نائمون} حال من ضمير هم البارز أو المستتر في بياتاً.
{أو أمن أهل القرى} هو استفهام بمعنى الإنكار وفيه وعيد وزجر وتهديد والمراد بالقرى مكة وما حولها وقيل: هو عام في كل أهل القرى الذين كفروا وكذبوا. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بسكون الواو والباقون بفتح الواو {أن يأتيهم بأسنا ضحى} أي: نهاراً لأن الضحى صدر النهار {وهم يلعبون} أي: وهم ساهون لاهون غافلون عما يراد بهم وقوله تعالى:
(15/375)
---
{أفأمنوا مكر الله} تقرير لقوله تعالى: {أفأمن أهل القرى} ومكر الله استعارة لاستدراج العبد بالنعم في الدنيا وأخذه من حيث لا يحتسب {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} أي: إنه لا يأمن استدراجه إياهم بالنعم وأخذهم بغتة إلا من خسر في أخراه وهلك مع الهالكين فعلى العاقل أن يكون في خوفه من الله تعالى كالمحارب الذي يخاف من عدوّه المتمكن البيات والغيلة، وعن الربيع بن خيثم رحمه الله تعالى أنّ ابنته قالت له: مالي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ فقال: يا ابنتاه إن أباك يخاف البيات أراد قوله تعالى: {أن يأتيهم بأسنا بياتاً}: {أولم يهد} أي: يتبين {للذين يرثون الأرض} أن يسكنونها {من بعد} هلاك {أهلها} الذين كانوا من قبلهم فورثوها عنهم وخلفوهم فيها {أن لو نشاء أصبناهم} بالعذاب {بذنوبهم} كما أصبنا من قبلهم والهمزة للتوبيخ وأن لو نشاء مرفوع بأنه فاعل يهد أي: أولم يهد للذين يخلفون من خلا قبلهم في ديارهم ويرثون أرضهم هذا الشأن وهو أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم أي: بسببها كما أصبنا من قبلهم وأهلكنا الوارثين منهم كما أهلكنا المورثين وإنما عدى فعل الهداية باللام لأنه بمعنى التبيين كما مرّ.(1/1080)
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية واواً في الوصل والباقون بتحقيقهما وقوله تعالى: {ونطبع} أي: نختم {على قلوبهم} معطوف على ما دلّ عليه {أولم يهد} كأنه قيل: يغفلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم أو على يرثون الأرض أو يكون منقطعاً بمعنى: ونحن نطبع على قلوبهم {فهم لا يسمعون} موعظة أي: لا يقبلونها ومنه سمع الله لمن حمده قال الشاعر:
*دعوت الله حتى خفت أن لا ** يكون الله يسمع ما أقول*
أي: يقبله ويستجيبه.
(15/376)
---
{تلك القرى} أي: القرى التي ذكرنا لك يا محمد أمرها وأمر أهلها وهي قرى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب {نقص عليك} يا محمد {من أنبائها} أي: نخبرك عنها وعن أهلها وما كان من أمرهم وأمر رسلهم الذين أرسلوا إليهم لتعلم أننا ننصر رسلنا والذين آمنوا معهم على أعدائهم من أهل الكفر والعناد وكيف أهلكناهم بكفرهم ومخالفتهم رسلهم وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتحذير لكفار قريش أن يصيبهم مثل ما أصابهم {ولقد جاءتهم} أي: أهل تلك القرى {رسلهم بالبينات} أي: بالمعجزات الباهرات والبراهين الدالة على صدقهم وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بالإظهار والباقون بالإدغام وأمال حمزة وابن ذكوان الألف وسكن السين أبو عمرو ورفعها الباقون {فما كانوا ليؤمنوا} أي: عند مجيئهم بها {بما كذبوا} أي: كفروا به {من قبل} أي: قبل مجيء الرسل بل استمرّوا على الكفر واللام لتأكيد النفي والدلالة على أنهم ما صلحوا للإيمان لمنافاته لحالتهم في التصميم على الكفر والطبع على قلوبهم {كذلك} أي: كما طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية وأهلكهم يطبع الله على قلوب الكافرين الذين كتب عليهم أنهم لا يؤمنون من قومك.(1/1081)
{وما وجدنا لأكثرهم} أي: لأكثر الناس على الإطلاق أو لأكثر الأمم الخالية والقرون الماضية الذين قصصنا خبرهم عليك، وأكد الاستغراق فقال: {من عهد} أي: من وفاء بالعهد الذي عهدناه إليهم وأوصيناهم به يوم أخذ الميثاق، والآية على الأوّل اعتراض وعلى الثاني من تتمة الكلام السابق {وإن} مخففة أي: وإنا {وجدنا} أي: في علمنا في عالم الشهادة {أكثرهم لفاسقين} أي: خارجين عن دائرة العهد طبق ما كنا نعلمه منهم في عالم الغيب وما أبرزناه في عالم الشهادة إلا لنقيم عليهم به الحجة على ما يتعارفونه بينهم في مجاري عاداتهم ومدارك عقولهم.
(15/377)
---
{ثم بعثنا من بعدهم} أي: الرسل المذكورين وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام أو الأمم المهلكين {موسى} عليه السلام {بآياتنا} أي: بحجتنا الدالة على صدقه كاليد والعصا {إلى فرعون} هو علم جنس لملوك مصر ككسرى لملوك فارس وقيصر لملوك الروم والنجاشي لملوك الحبشة، وكان اسم فرعون موسى: قابوس، وقيل: الوليد بن مصعب بن الريان وكان ملك القبط {وملائه} أي: عظماء قومه وخصهم بالذكر لأنهم إذا أذعنوا أذعن من دونهم فكأنهم المقصودون والإرسال إليهم إرسال إلى الكل {فظلموا} أي: كفروا {بها} أي: بسبب رؤيتها خوفاً على رياستهم ومملكتهم الفانية أن تخرج من أيديهم {فانظر} أيها المخاطب بعين البصيرة {كيف كان عاقبة المفسدين} أي: آخر أمرهم أي: كيف فعلنا بهم وكيف أهلكناهم.
{وقال موسى} لما دخل على فرعون {يا فرعون} خاطبه بما يعجبه امتثالاً لأمر الله تعالى له أن يلين في خطابه وذلك لأن فرعون كان لقب مدح لمن ملك مصر {إني رسول} أي: مرسل إليك وإلى قومك ثم بين مرسله بقوله تعالى: {من ربّ العالمين} أي: الإله الذي خلق الخلق وهو سيدهم ومالكهم، وقوله تعالى:
(15/378)
---(1/1082)
{حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق} جواب لتكذيب فرعون إياه في دعوى الرسالة وإنما لم يذكره لدلالة قوله تعالى: {فظلموا بها} (الأعراف، 103)
(15/379)
---
والحق هو الثابت الدائم والحقيق. مبالغة فيه وكأن المعنى: أنا ثابت مستمرّ على أن لا أقول على الله إلا الحق قرأ نافع عليّ بالتشديد فحقيق مبتدأ خبره أن وما بعدها والباقون بالسكون وعلى هذا تكون على بمعنى الباء أو يضمن حقيق معنى حريص وأن لا مقطوعة في الرسم أي: النون من لام الألف {قد جئتكم ببينة} أي: معجزة {من ربكم} على صدقي فيما أدعي من الرسالة وهي العصا واليد البيضاء ثم إن موسى عليه السلام لما فرّغ من تبليغ رسالته رتب على ذلك الحكم قوله: {فأرسل معي بني إسرائيل} أي: فخلهم حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدّسة التي هي وطن آبائهم وكان قد استعبدهم واستخدمهم في الأعمال الشاقة من ضرب اللبن ونقل التراب ونحوهما {قال} فرعون لعنه الله مجيباً لموسى عليه السلام {إن كنت جئت بآية} أي: علامة على صحة رسالتك {فأت بها إن كنت من الصادقين} أي: في عداد أهل الصدق العريقين فيه لتصح دعواك عندي وتثبت.
{فألقى عصاه فإذا هي} أي: العصا {ثعبان مبين} أي: ظاهر أمره لا شك فيه أنه ثعبان، والثعبان الذكر العظيم من الحيات.
فإن قيل: أليس قال الله تعالى في موضع: {كأنها جان} (النمل، 10)(1/1083)
والجان الحية الصغيرة؟ أجيب: بأنها كانت كالجان في الخفة والحركة وهي في جثتها حية عظيمة. روي أنه لما ألقاها صارت حية عظيمة صفراء شقراء فاغرة فاها بين لحييها ثمانون ذراعاً وارتفعت عن الأرض بقدر ميل وقامت على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض والأعلى على سور القصر وتوجهت نحو فرعون لتأخذه فوثب فرعون عن سريره هارباً وأحدث قيل: أخذته البطن في ذلك اليوم أربعمائة مرّة وقد قيل: إنه كان يأكل الموز حتى لا يتغوّط وحملت على الناس فانهزموا وصاحوا ومات منهم خمسة وعشرون ألفاً ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى أنشدك الله الذي أرسلك أن تأخذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت ثم قال: هل معك آية أخرى قال: نعم.
(15/380)
---
{ونزع يده} أي: أخرجها من جيبه، وقيل: من تحت إبطه بعد أن أراه إياها محترقة أدماً كما كانت وهي عنده {فإذا هي بيضاء} نورانية {للناظرين} لها شعاع غلب شعاع الشمس قال ابن عباس: كان لها نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض له لمعان مثل لمعان البرق فخرّوا على وجوههم ثم ردّها إلى جيبه فإذا هي كما كانت ولما كان البياض المفرط عيباً في الجسد وهو البرص قال الله تعالى في آية أخرى: {من غير سوء} (طه، 22)
أي: من غير برص.
فإن قيل: بم يتعلق قوله تعالى: {للناظرين}؟ أجيب: بأنه يتعلق بقوله تعالى: {بيضاء} والمعنى: فإذا هي بيضاء للنظارة ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضاً عجيباً خارجاً عن العادة يجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع النظارة للعجائب.(1/1084)
فإن قيل: أحد هذين الأمرين إمّا العصا وإمّا اليد كان كافياً فما فائدة الجمع بينهما؟ أجيب: بأنّ كثرة الدلائل توجب القوّة في اليقين وزوال الشك وقول بعض الملحدين: المراد بالثعبان وباليد البيضاء شيء واحد وهو أنّ حجة موسى عليه السلام كانت قوية ظاهرة قاهرة من حيث أنها أبطلت أقوال المخالفين وأظهرت فسادها كانت كالثعبان العظيم الذي يتلقف حجج المبطلين ومن أنها كانت ظاهرة في نفسها وصفت باليد البيضاء كما يقال في العرف: لفلان يد بيضاء في العلم الفلاني أي: قوة كاملة ومرتبة ظاهرة مردود إذ حمل هاتين المعجزتين على هذا الوجه يجري مجرى دفع التواتر وتكذيب الله ورسوله ولما أتى بالبيان وأقام واضح البرهان.
{قال الملأ} أي: الأكابر {من قوم فرعون إنّ هذا} أي: موسى {لساحر عليم} أي: عالم بالسحر ماهر فيه قد أخذ بأعين الناس ويريهم الشيء بخلاف ما هو عليه حتى يخيل إليهم أنّ العصا صارت حية وأنّ الآدم أبيض كما أراهم يده بيضاء وهو آدم اللون وإنما قالوا ذلك لأن السحر كان هو الغالب في ذلك الزمان.
(15/381)
---
فإن قيل: قد أخبر الله تعالى في هذه السورة أن هذا الكلام من قول الملأ لفرعون وقال في سورة الشعراء وقال أي: فرعون للملأ حوله: {إن هذا لساحر عليم} (الشعراء، 34)
فكيف الجمع بينهما؟ أجيب: عن ذلك بجوابين: الأوّل: لا يمتنع أن يكون قاله فرعون أولاً ثم إنهم قالوه بعده فأخبر الله عنهم هنا وأخبر عن فرعون في سورة الشعراء. الثاني: أن فرعون قال هذا القول ثم إن الملأ من قومه وهم خاصته سمعوه منه ثم إنهم بلغوه إلى العامّة فأخبر الله تعالى هنا عن الملأ وأخبر هناك عن فرعون {يريد} أي: موسى {أن يخرجكم} أيها القبط {من أرضكم} أي: أرض مصر {فماذا تأمرون} أي: أيّ شيء تشيرون أن نفعل به فقوله: {فماذا تأمرون} من قول فرعون وإن لم يذكر، وقيل: من قول الملأ وتمّ كلام فرعون عند قوله:(1/1085)
{يريد أن يخرجكم من أرضكم} فقال الملأ مجيبين له: فماذا تأمرون وإنما خاطبوه بلفظ الجمع وهو واحد على عادة الملوك في التعظيم والتفخيم، والمعنى: فما تأمرون أن نفعل به والقول الأوّل أصح لسياق الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: {قالوا أرجئه} أي: موسى {وأخاه} هارون عليهما السلام أي: أخر أمرهما ولا تعجل فيه حتى ننطر فى أمرهما والإرجاء في اللغة التأخير وقيل: الحبس أي: احبسه وأخاه ورد بأن فرعون ما كان يقدر على حبس موسى بعدما رأى من أمر العصا ما رأى.v
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بهمزة ساكنة والباقون بغير همز {وأرسل في المدائن} جمع مدينة واشتاقها من مدن بالمكان أي: أقام به أي: مدائن صعيد مصر {حاشرين} أي: أرسل رجالاً من أعوانك وهم الشرط بضم الشين وفتح الراء طائفة من أعوان الولاة يحشرون إليك السحرة من جميع مدائن الصعيد، وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد فإن غلبهم موسى صدّقناه واتبعناه وإن غلبوه علمنا أنه ساحر فذلك قوله تعالى:
(15/382)
---(1/1086)
{يأتوك} أي: الشرط {بكل ساحر عليم} أي: ماهر بصناعته والباء يحتمل أن تكون بمعنى مع ويحتمل أن تكون باء التعدية، وقرأ حمزة والكسائي بتشديد الحاء مفتوحة وألف بعدها ولا ألف قبلها والباقون بتخفيف الحاء مكسورة وألف قبلها ولا ألف بعدها ولم يختلفوا في سورة الشعراء أنه سحار، قيل: الساحر الذي يعلم السحر ولا يعلم والسحار من يديم السحر، روي أنّ فرعون لما رأى من سلطان الله وقدرته في العصا ما رأى قال: إنا لا نقاتل موسى إلا بمن هو أقوى منه فاتخذ غلماناً من بني إسرائيل وبعث بهم إلى مدينة يقال لها: الفرما يعلمونهم السحر فعلموهم سحراً كثيراً وواعد فرعون موسى موعداً ثم بعث السحرة الذين أرسلهم فجاؤوا ومعلمهم معهم فقال فرعون للمعلم: ما صنعت؟ فقال: علمتهم سحراً لا تطيقه أهل الأرض إلا أن يأتي أمر من السماء فإنهم لا طاقة لهم به ثم بعث فرعون في مملكته فلم يترك في سلطانه ساحر إلا أتي به وهذا يدل على أنّ السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان وهو يدل على صحة ما يقوله المتكلمون وهو أنه تعالى يجعل معجزة كل نبيّ من جنس ما كان غالباً على أهل ذلك الزمان لما كان السحر غالباً على أهل زمان موسى كانت معجزته شبيهة بالسحر وإن كانت مخالفة للسحر في الحقيقة، ولما كان الطب غالباً على أهل زمان عيسى عليه السلام كانت معجزته من جنس الطب، ولما كانت الفصاحة غالبة على أهل زمان محمد صلى الله عليه وسلم كانت معجزته من جنس الفصاحة. واختلفوا في عدد السحرة الذي جمعهم فرعون فمن مقل ومن مكثر وليس في الآية ما يدل على المقدار والكيفية والعدد ولذلك اختلف في عددهم، فقال مقاتل: كانوا اثنين وسبعين اثنان من القبط وهما رؤساء القوم وسبعون من بني إسرائيل، وقال الكلبي: كان الذين يعلمونهم رجلين مجوسيين من أهل نينوى بلدة يونس عليه السلام وكانوا سبعين غير رئيسهم، وقال كعب الأحبار: كانوا اثني عشر ألفاً، وقال محمد بن إسحاق: كانوا خمسة عشر ألفاً، وقال(1/1087)
(15/383)
---
عكرمة: كانوا سبعين ألف، وقال ابن المنكدر: كانوا ثمانين ألفاً، وقال مقاتل: كان رئيس السحرة شمعون، وقال ابن جريج: كان رئيسهم يوحنا.
{وجاء السحرة فرعون} أي: بعدما أرسل الشرط في طلبهم {قالوا أئن لنا لأجراً} أي: جعلاً وعطاءً تكرمنا به {إن كنا نحن الغالبين} لموسى.
فإن قيل: هلا قيل: فقالوا بالفاء؟ أجيب: بأنه على تقدير: سائل سأل ما قالوا إذا جاؤوا؟ فأجيب: بقوله: {أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين} وقرأ ابن كثير وحفص بهمزة مكسورة ونون مشدّدة بعدها على الخبر والباقون بهمزتين وسهل الثانية أبو عمرو وأدخل ألفاً بينهما والباقون بتحقيقهما وأدخل بينهما ألفاً هشام والباقون بغير ألف بينهما.
{قال} لهم فرعون {نعم} أي: لكم الأجر والعطاء وقرأ الكسائي بكسر العين والباقون بالفتح وقوله تعالى: {وإنكم لمن المقرّبين} عطف على محذوف سدّ مسدّ الجواب كأنه قيل: جواباً لقولهم: {أئن لنا لأجراً} إنّ لكم أجراً وإنكم لمن المقربين أراد إني لا أقتصر لكم على الثواب بل أزيدكم عليه وتلك الزيادة أني أجعلكم من المقرّبين عندي، قال الكلبيّ: تكونون أوّل من يدخل وآخر من يخرج من عندي الآية تدل على أن كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبداً ذليلاً مهيناً عاجزاً وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة في دفع موسى وتدل أيضاً على أنّ كل السحرة ما كانوا قادرين على قلب الأعيان وإلا لما احتاجوا إلى طلب الأجر والمال من فرعون لأنهم لو قدروا على قلب الأعيان لقلبوا التراب ذهباً ولنقلوا ملك فرعون إلى أنفسهم ولجعلوا أنفسهم ملوك العالم ورؤساء الدنيا والمقصود من هذه الآيات تنبيه الإنسان لهذه الدقائق وأن لا يغتر بكلمات أهل الأباطيل والأكاذيب.
(15/384)
---(1/1088)
{قالوا} أي: السحرة {يا موسى إمّا أن تلقى} أي: عصاك {وإمّا أن نكون نحن الملقين} أي: عصينا وحبالنا فراعوا مع موسى عليه السلام حسن الأدب حيث قدموه على أنفسهم في الإلقاء فعوضهم الله تعالى حيث تأدّبوا مع نبيه عليه السلام أن منّ عليهم بالإيمان والهداية ولما راعوا الأدب أوّلاً وأظهروا ما يدل على رغبتهم.
{قال} لهم موسى {اتقوا} أنتم فقدّمهم على نفسه في الإلقاء.
فإن قيل: كيف جاز لنبيّ الله تعالى موسى عليه السلام أن يأمر بالإلقاء وقد علم أنه سحر وفعل السحر حرام أو كفر؟ أجيب: عن ذلك بأجوبة: أحدها: إنّ معناه إن كنتم محقين في فعلكم فألقوا وإلا فلا تلقوا، الثاني: أنّ القوم إنما جاؤوا لإلقاء تلك الحبال والعصيّ وعلم موسى عليه السلام أنه لا بدّ وأن يفعلوا ذلك ووقع التحير في التقديم والتأخير فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراء لشأنهم وقلة مبالاته بهم وثقته بما وعده الله تعالى من التأييد والتقوية وأنّ المعجزة لا يغلبها سحر أبداً، الثالث: أنه عليه السلام كان يريد إبطال ما أتوا به من السحر وإبطاله ما كان يمكن إلا بتقديمهم فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله فلهذا المعنى أمرهم بالإلقاء أولاً {لما ألقوا} حبالهم وعصيهم {سحروا} أي: صرفوا {أعين الناس} عن إدراك حقيقة ما فعلوه من التمويه والتخييل وهذا هو الفرق بين السحر الذي هو فعل البشر وبين معجزة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذي هو فعل الله تعالى وذلك لأنّ السحر ليس فيه قلب الأعيان وإنما فيه صرف أعين الناس عن إدراك ذلك الشيء بسبب التمويهات والمعجزة قلب ذلك الشيء حقيقة كقلب عصا موسى عليه السلام فإذا هي حية تسعى {واسترهبوهم} أي: أرهبوهم والسين زائدة قاله المبرد، وقال الزجاج: استدعوا رهبة الناس حتى رهبهم الناس وذلك بأن بعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك أيها الناس احذروا فهذا هو الاسترهاب {وجاؤوا} أي: السحرة {بسحر عظيم}.
(15/385)(1/1089)
---
روي أنّ السحرة قالوا: قد عملنا سحراً لا تطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به وذلك أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً فإذا هي حيات تسعى كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً ويقال: إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا داخل تلك العصى زئبقاً ليضيء وألقوها على الأرض فلما أثر حرّ الشمس فيها تحرّكت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات تتحرّك وتلتوي باختيارها، ويقال: إن الأرض كان سعتها ميلاً في ميل فصارت كلها حيات وأفاعي ففزع الناس من ذلك وأوجس في نفسه خيفة موسى وهذه الخيفة لم تحصل لموسى عليه السلام لأجل سحرهم لأنه كان على ثقة ويقين من الله تعالى أنهم لم يغلبوه وهو غالبهم وكان عالماً بأنّ ما أتوا به على وجه المعارضة لمعجزته فهو من باب السحر والتخيل وذلك باطل ومع هذا الجزم يمتنع حصول الخوف لموسى عليه السلام وإنما كان خوفه لأجل فزع الناس واضطرابهم مما رأوه من أمر تلك الحيات فخاف موسى عليه السلام أن يتفرّقوا قبل ظهور معجزته وحجته فلذلك أوجس في نفسة خيفة موسى.
{وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك} فألقاها فصارت حية عظيمة قد سدّت الأفق قال ابن زيد: كان اجتماعهم بالاسكندرية وقال: بلغ ذنب الحية من وراء البحر ثم فتحت فاهاً ثمانين ذراعاً {فإذا هي تلقف} بحذف إحدى التاءين من الأصل أي: تبتلع {ما يأفكون} أي: ما يزوّرونه من الإفك وهو الصرف وقلب الشيء عن وجهه.
(15/386)
---(1/1090)
روي أنها ابتلعت كل ما أتوا به من السحر فكانت تبتلع حبالهم وعصيهم واحداً واحداً حتى ابتلعت الكل ثم أقبلت على الذين حضروا ذلك المجمع ففزعوا ووقع الزحام عليهم فمات منهم بسبب ذلك الزحام خمسة وعشرون ألفاً ثم أخذها موسى عليه السلام فصارت في يده عصا كما كانت أوّل مرة فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه أمر من السماء وليس بسحر وعرفوا أنّ ذلك ليس في قدرة البشر وقوّتهم فعند ذلك خروا سجداً وقالوا: آمنا برب العالمين وذلك قوله تعالى: {فوقع الحق} أي: فظهر الحق الذي جاء به موسى {وبطل ما كانوا يعملون} أي: من السحر وذلك أنّ السحرة قالوا: لو كان ما صنع موسى سحراً لبقيت حبالنا وعصينا فلما فقدت وتلاشت في عصا موسى علموا أنّ ذلك من أمر الله تعالى وقدرته وقرأ حفص: تلقف بسكون اللام وتخفيف القاف والباقون بفتح اللام وتشديد القاف وشدّد التاء البزيّ.
{فغلبوا} أي: فرعون وجموعه {هنالك} أي: عند ذلك الأمر العظيم العالي الرتبة {وانقلبوا صاغرين} أي: رجعوا إلى المدينة أذلاء مقهورين {وألقي السحرة ساجدين} أي: أنّ الله تعالى ألهمهم ذلك وحملهم عليه حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى وينقلب الأمر عليه، قال الأخفش: من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا.
(15/387)
---
قال فرعون: إياي تعنون قالوا: لا بل.
{رب موسى} فقال: إياي تعنون لأني أنا الذي ربيت موسى فلما قالوا: {وهارون} زالت الشبهة وعرف الكل أنهم كفروا بفرعون وآمنوا بإله السماء قال مقاتل: قال موسى لكبير السحرة: أتؤمن بي إن غلبتك فقال: لآتينّ بسحر لا يغلبه سحر ولئن غلبتني لأومننّ بك وفرعون ينظر إليهما ويسمع كلامهما فهذا قوله: {إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة} ويقال: إنّ الحبال والعصيّ التي كانت مع السحرة كانت حمل ثلثمائة بعير فلما ابتلعتها عصا موسى عليه السلام كلها قال بعضهم لبعض: هذا أمر خارج عن هذا السحر وما هو إلا من أمر السماء فآمنوا وصدّقوا.(1/1091)
فإن قيل: كان يجب أن يأتوا بالإيمان قبل السجود فما فائدة تقديم السجود على الإيمان؟ أجيب: بأنّ الله تعالى لما قذف في قلوبهم الإيمان والمعرفة خرّوا سجداً لله تعالى شكراً على ما هداهم إليه وألهمهم من الإيمان بالله تعالى وتصديق رسوله ثم أظهروا بعد ذلك إيمانهم قال قتادة: كانوا أوّل النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة، وعن الحسن: نرى من ولد في الإسلام ونشأ بين المسلمين يبيع دينه بكذا وكذا وهؤلاء الكفار نشؤوا في الكفر بذلوا أنفسهم لله تعالى.
{قال فرعون} للسحرة منكراً عليهم موبخاً لهم بقوله: {آمنتم} أي: صدقتم {به} أي: بموسى أو بالله تعالى والاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ.
(15/389)
---
فائدة: هنا ثلاث همزات جميع القراء بإبدال الثالثة ألفاً وحقق الثانية شعبة وحمزة والكسائي وسهلها نافع وابن كثير وأبو عمر وابن عامر وأمّا حفص فإنه أسقط الأولى وأبدلها قنبل في الوصل واواً {قبل أن آذن لكم} أي: قبل أن آمركم بذلك وآذن لكم فيه {إنّ هذا لمكر مكرتموه} أي: إن هذا الصنيع لحيلة احتلتموها أنتم وموسى {في المدينة} أي: مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع، وذلك أنّ فرعون رأى موسى يحدّث كبير السحرة فظن فرعون أن موسى وكبير السحرة قد تواطؤوا عليه وعلى أهل مصر ليستولوا على مصر كما قال: {لتخرجوا منها أهلها} أي: القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل وقوله تعالى: {فسوف تعلمون} فيه وعيد وتهديد أي: فسوف تعلمون ما أفعل بكم ثم فسر ذلك الوعيد بقوله:(1/1092)
{لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف} أي: يخالف الطرف الذي تقطع منه اليد الطرف الذي تقطع منه الرجل، قال الكلبي: لأقطعنّ أيديكم اليمنى وأرجلكم اليسرى {ثم لأصلبنكم} أي: أعاقبكم ممددة أيديكم لتصير على هيئة الصليب أو حتى يتقاطر صليبكم وهو الدهن الذي فيكم {أجمعين} أي: لا أترك منكم أحداً تفضيحاً لكم وتنكيلاً لأمثالكم قال ابن عباس: أوّل من صلب وقطع الأيدي والأرجل فرعون أي: إنه أوّل من سنّ ذلك فشرعه الله تعالى للقطاع تعظيماً لجرمهم ولذلك سماه محاربة الله ورسوله ولكن على التعاقب لفرط رحمته.
{قالوا} أي: السحرة مجيبين لفرعون حين وعدهم بما ذكر {إنا إلى ربنا} بعد موتنا على أيّ وجه كان {منقلبون} أي: راجعون إليه في الآخرة.
(15/390)
---
{وما تنقم} أي: تنكر {منا} أي: في فعلك ذلك بنا وتعيب علينا {إلا أن آمنا} أي: إلا ما هو أصل المفاخر كلها وهو الإيمان {بآيات ربنا لما جاءتنا} لم نتأخر عن معرفة الصدق وهذا موجب الإكرام لا الإنتقام ثم فزعوا إلى الله تعالى فقالوا: {ربنا أفرغ علينا صبراً} عندما توعدهم فرعون به أي: اصبب علينا صبراً كاملاً تاماً ولهذا أتى بلفظ التنكير أي: صبراً وأيّ صبر عظيم {وتوفنا مسلمين} أي: واقبضنا على دين الإسلام وهو دين خليلك عليه السلام قال ابن عباس: كانوا في أوّل النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء، قال الطيبيّ: إنّ فرعون قطع أيديهم وأرجلم وصلبهم، وقال غيره: إنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى: {بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون} (القصص، 35).(1/1093)
تنبيه: في الآية فوائد الأولى قولهم: {أفرغ علينا صبراً} أكمل من قولهم أنزل علينا صبراً لأن إفراغ الإناء هو صب ما فيه بالكلية فكأنهم طلبوا من الله تعالى كل الصبر لا بعضه، الثانية: إنّ قولهم صبراً مذكور بصيغة التنكير وذلك يدل على تمام الكمال أي: صبراً تاماً كاملاً، الثالثة: إن ذكر الصبر من قبلهم ومن أعمالهم ثم إنهم طلبوه من الله تعالى وذلك يدل على أنّ فعل العبد لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى وقضائه، الرابعة: احتج القاضي بهذه الآية على أنّ الإيمان والإسلام واحد فقال: إنهم قالوا أوّلاً: آمنا بآيات ربنا، ثم قالوا ثانياً: وتوفنا مسلمين فوجب أن يكون ذلك الإيمان هو ذلك الإسلام وذلك يدل على أنّ أحدهما هو الآخر واعلم أنّ فرعون بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرّض لموسى لأنه كان كلما رأى موسى عليه السلام خافه أشدّ الخوف فلهذا السبب لم يتعرّض له إلا أن القوم لم يعرفوا ذلك فقالوا له: {أتذر موسى وقومه} كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله تعالى:
(15/391)
---
{وقال الملأ} أي: الأشراف {من قوم فرعون} له {أتذر} أي: تترك {موسى وقومه} من بني إسرائيل {ليفسدوا في الأرض} أي: أرض مصر وأراد بالفساد فيها أنهم يأمرونهم بمخالفة فرعون وهو قولهم: {ويذرك وآلهتك} أي: معبوداتك أي: فلا يعبدك ولا يعبدها، قال ابن عباس: كان لفرعون بقرة حسنة يعبدها وكان إذا رأى بقرة حسنة أمرهم بعبادتها ولذلك أخرج لهم السامري عجلاً، وقال السدي: كان فرعون اتخذ لقومه أصناماً وكان يأمرهم بعبادتها وقال لهم: أنا ربكم ورب هذه الأصنام وذلك قوله: {أنا ربكم الأعلى}.(1/1094)
فإن قيل: إنّ فرعون إن لم يكن كامل العقل لم يجز في حكمة الله تعالى إرسال الرسل إليه وإن كان عاقلاً لم يجز أن يعتقد في نفسه كونه خالق السموات والأرض لأنّ فساد معلوم بالضرورة؟ أجيب: بأن الأقرب أن يكون دهرياً منكر الوجود الصانع وكان يقول: مدبر هذا السفلي هو الكواكب واتخذ أصناماً على صورة الكواكب وكان يعبدها ويأمر بعبادتها وكان يقول في نفسه: إنه المطاع المخدوم في الأرض ولهذا قال: {أنا ربكم الأعلى} {قال} فرعون مجيباً لملئه حين قالوا له: أتذر موسى وقومه {سنقتل أبناءهم} أي: المولودين {ونستحيي نساءهم} أي: نتركهم أحياء كما كنا نفعل من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة ولا يتوهم إنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكك على يديه. وقرأ نافع وابن كثير بفتح النون وسكون القاف وضم التاء مخففة والباقون بضم النون وفتح القاف وكسر التاء مشدّدة {وإنا فوقهم قاهرون} أي: غالبون وهم مقهورون تحت أيدينا ولا أثر لغلبة موسى لنا في هذه المناظرة فأعادوا عليهم القتل فشكت بنو إسرائيل لموسى فأمرهم بالصبر كما قال تعالى:
(15/392)
---
{قال موسى لقومه} أي: بني إسرائيل {استعينوا بالله واصبروا} أي: استعينوا بالله على فرعون وقومه فيما نزل بكم من البلاء فإن الله تعالى هو الكافي لكم واصبروا على ما نالكم من المكاره في أنفسكم وأبنائكم {إنّ الأرض} أي: أرض مصر وإن كانت الأرض كلها {} تعالى لأنّ الكلام فيها {يورثها من يشاء من عباده} وفي هذا تسلية لهم وتقريراً للأمر بالاستعانة بالله عز وجل والتثبت في الأمر وقوله تعالى: {والعاقبة} أي: المحمودة {للمتقين} لأنّ الله تعالى وعدهم بالنصر وتذكير لما وعدهم به من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم وتحقيق له ولما سمع بنو إسرائيل ما قال فرعون من توعده لهم بالقتل مرّة ثانية.(1/1095)
{قالوا} لموسى {أوذينا من قبل أن تأتينا} أي: بالرسالة وذلك إن بني إسرائيل كانوا مستضعفين في يد فرعون وقومه وكان يأخذ منهم الجزية وكان يستعملهم في الأعمال الشاقة إلى نصف النهار ويمنعهم من الترفه والتنعم ويقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم فلما جاء موسى بالرسالة وجرى له ما جرى شدد فرعون في استعمالهم فكان يستعملهم جميع النهار بلا أجر وأراد أن يعيد القتل عليهم فقالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا {ومن بعد ما جئتنا} أي: بالرسالة.
فإن قيل: ظاهر هذا الكلام يوهم أن بني إسرائيل كرهوا مجيء موسى بالرسالة وذلك كفر أجيب: عن هذا الإيهام بأنّ موسى عليه السلام كان قد وعدهم بزوال ما كانوا فيه من الشدّة والمشقة فظنوا أنّ ذلك يكون على الفور فلما رأوا أنّ المشقة قد زادت عليهم قالوا ذلك أي: فمتى يكون ما وعدتنا به من زوال ما نحن فيه {قال} موسى عليه السلام مجيباً لهم: {عسى ربكم أن يهلك عدوّكم} أي: فرعون وقومه {ويستخلفكم في الأرض} أي: يجعلكم تخلفونهم في أرضهم بعد هلاكهم، قال البيضاوي: ولعله أتى بفعل الطمع أي: بعسى لعدم جزمه بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم.
(15/393)
---
وقد روي أنّ مصر إنما فتح لهم في زمن داود عليه السلام ثم سبب عن الاستخلاف قوله تعالى مذكراً لهم محذراً من سطواته تعالى: {فينظر} أي: وأنتم خلفاء متمكنون {كيف تعملون} أي: يعاملكم معاملة المختبر وهو في الأزل أعلم بما تعملون منكم بعد إبقاعكم للأعمال ولكنه يفعل ذلك لتقوم الحجة عليكم على مجاري عاداته.
روي عن عمرو بن عبيد أنه دخل على المنصور قبل الخلافة وعلى مائدته رغيف أو رغيفان فطلب زيادة لعمرو فلم يجد فقرأ عمرو هذه الآية ثم دخل عليه بعدما استخلف فذكر له ذلك وقال: قد بقي فينظر كيف تعملون.(1/1096)
{ولقد أخدنا آل فرعون} أي: فرعون وقومه {بالسنين} أي: بالقحط والجوع سنة بعد سنة فإنّ السنة تطلق بالغلبة على ذلك كما تطلق على العام ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «اللهمّ اجعلها عليهم كسني يوسف» {ونقص من الثمرات} أي: بالعاهات، قال قتادة: أمّا السنين فلأهل البوادي وأمّا نقص الثمرات فلأهل الأمصار، وعن كعب يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة {لعلهم يذكرون} أي: يتعظون فيؤمنون ويرجعون عما هم عليه من الكفر والمعاصي لأنّ الشدّة ترقق القلوب وترغب فيما عند الله تعالى من الخيرات والدليل على ذلك قوله تعالى: {وإذا مسكم الضرّ في البحر ضلّ من تدعون إلا إياه} (الإسراء، 67)
وقوله تعالى: {وإذا مسه الشرّ فذو دعاء عريض} (فصلت، 51)
وقال سعيد بن جبير: عاش فرعون أربعمائة سنة لم ير مكروهاً في نفسه ثلثمائة وعشرين سنة ولو أصابه في تلك المدّة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية ثم بين سبحانه وتعالى أنهم عند نزول تلك المحن عليهم يقدمون على ما يزيد في كفرهم ومعصيتهم فقال:
(15/394)
---(1/1097)
{فإذا جاءتهم الحسنة} قال ابن عباس: العشب والخصب والثمار والمواشي والسعة في الرزق والعافية والسلامة {قالوا لنا هذه} أي: نحن مستحقوه على العادة التي جرت من كثرة نعمتنا وسعة أرزاقنا ولم يعلموا أنه من الله تعالى فيشكروه على أنعامه {وإن تصبهم سيئة} أي: قحط وجدب ومرض وبلاء ورأوا ما يكرهونه في أنفسهم {يطيروا} يتشاءموا وأصله يتطيروا {بموسى ومن معه} من المؤمنين، ويقولون: ما أصابنا إلا بشؤمهم وهذا إغراق في وصفهم في الغباوة والقساوة فإن الشدائد ترقق القلوب وتذلل العرائك وتزيل التماسك سيما بعد مشاهدة الآيات وهي لم تؤثر فيهم بل زادوا عندها عتوّاً وانتهاكاً في البغي وإنما عرّف الحسنة وذكرها مع أداة التحقيق لكثرة وقوعها وتعلق الإرادة بأحداثها بالذات ونكر السيئة وأتى بها مع حرف الشك لندورها وعدم القصد إلا بالتبع {ألا إنما طائرهم عند الله} أي: سبب خيرهم وشرهم عنده تعالى وهو حكمه ومشيئته أو سبب شؤمهم عند الله تعالى وهو أعمالهم المكتوبة عنده فإنها التي ساقت إليهم ما يسوءهم {ولكنّ أكثرهم لا يعلمون} أي: إنّ ما يصيبهم من الله تعالى وذلك لأنّ أكثر الخلق يضيفون الحوادث إلى الأسباب المحسوسة ويقطعونها عن قضاء الله تعالى وتقديره: والحق أنّ الكل من الله تعالى لأنّ كل موجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته والواجب لذاته واحد وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته وبهذا الطريق يكون الكل من الله تعالى فإسناده إلى غير الله تعالى يكون جهلاً بكمال الله تعالى.H
{وقالوا} أي: فرعون وقومه القبط لموسى عليه السلام {مهما تأتنا به} وقوله تعالى: {من آية} أي: من عند ربك بيان لمهما وإنما سموها آية على زعم موسى لا لاعتقادهم ولذلك قالوا: {لتسحرنا بها} أي: لتصرفنا عما نحن عليه من الدين {فما نحن لك بمؤمنين} أي: بمصدّقين.
(15/396)
---(1/1098)
تنبيه: اختلف في أصل مهما فقيل: أصلها ما ما الأولى ما الشرطية والثانية ما الزائدة ضمت إليها للتأكيد ثم قلبت ألفها هاء استثقالاً لتكرير المتجانسين فصارت مهما هذا قول الخليل والبصريين، وقيل: أصلها مه التي بمعنى اكفف وما الجزائية كأنهم قالوا: اكفف ما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فهو كذا وكذا هذا قول الكسائي فهي مركبة على هذين القولين والمعتمد الذي جرى عليه ابن هشام وغيره أنها بسيطة لأنّ دعوى التركيب لم يقم عليها دليل ووزنها فعلى وألفها للإلحاق أو للتأنيث والضميران في به وبها راجعان لمهما إلا أن أحدهما ذكر باعتبار اللفط والثاني أنث باعتبار المعنى لأنه في معنى الآية ونحوه قول زهير:
*ومهما يكن عند امرىء من خليقة ** وإذ خالها تخفى على الناس تعلم*
قال في الكشاف: وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرّفها من لا يد له في علم العربية فيضعها في غير موضعها ويحسب أنها بمعنى متى ما ويقول: مهما جئتني أعطيتك قال ابن عباس: إنّ القوم لما قالوا مهما تأتنا به من آية من ربك فهي عندنا من باب السحر ونحن لا نؤمن بها البتة وكان موسى عليه السلام رجلاً حديداً فعند ذلك دعا عليهم فاستجاب الله تعالى له فقال تعالى:
(15/397)
---(1/1099)
{فأرسلنا عليهم الطوفان} وقال سعيد بن جبير: لما آمنت السحرة ورجع فرعون مغلوباً أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي على الشر فتابع الله تعالى عليهم الآيات فأخذهم أوّلاً بالسنين وهو القحط ونقص الثمرات وأراهم قبل ذلك من المعجزات اليد والعصا فلم يؤمنوا فدعا عليهم موسى وقال: يا رب إنّ عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتا وإنّ قومه قد نقضوا العهد فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة فبعث الله تعالى عليهم الطوفان وهو الماء فأرسل الله تعالى المطر من السماء وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة مختلطة فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ومن جلس منهم غرق ولم يدخل من ذلك الماء في بيوت بني إسرائيل شيء وركب ذلك الماء على أرضهم فلم يقدروا أن يحرثوا ولا يعملوا شيئاً ودام ذلك عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت حتى كان الرجل منهم لا يرى شمساً ولا قمراً ولا يستطيع الخروج من داره فصرخوا إلى فرعون واستغاثوا به فأرسل إلى موسى عليه السلام فقال: اكشف عنا العذاب فقد صار بحراً واحداً فإن كشف هذا العذاب آمنا بك فأزال الله تعالى عنهم المطر وأرسل الرياح فجففت الأرض وخرج من النبات ما لم ير مثله قط فقالوا: هذا الذي جزعنا منه خير لنا لكنا لم نشعر فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل، وقيل: المراد بالطوفان الجدري وهو بضم الجيم وفتح الدال وبفتحهما قروح في البدن تنفط وتنضح، وقيل: هو الموتان وهو بضم الميم موت في الماشية، وقيل: هو الطاعون فنكثوا العهد {و} لم يؤمنوا وأقاموا شهراً في عافية فأرسل الله تعالى عليهم {الجراد} فأكل النبات والثمار وأرواق الشجر حتى كان يأكل الأبواب وسقوف البيوت ومسامير الأبواب من الحديد وابتلي الجراد بالجوع فكانت لا تشبع ولم يصب بني إسرائيل شيء من ذلك وعظم الأمر عليهم حتى صارت عند طيرانها تغطي الشمس ووقع بعضها على بعض في الأرض ذراعاً(1/1100)
(15/398)
---
فضجوا من ذلك وقالوا: يا موسى ادع لنا ربك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك فأعطوه عهد الله وميثاقه فدعا موسى عليه السلام فكشف الله عنهم الجراد بعدما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت، وفي الخبر مكتوب على صدر كل جرادة جند الله الأعظم، ويقال: إنّ موسى عليه السلام برز إلى الفضاء وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت الجراد من حيث جاءت، وقيل: أرسل الله تعالى ريحاً فاحتمل الجراد فألقاه في البحر وكان قد
(15/399)
---(1/1101)
بقي من زرعهم وغلاتهم بقية فقالوا: قد بقي لنا ما يكفينا فما نحن بتاركي ديننا {و} لم يؤمنوا وأقاموا أشهراً في عافية وعادوا إلى أعمالهم الخبيثة فأرسل الله تعالى عليهم {القمل} واختلفوا في القمل، فعن ابن عباس أنه السوس الذي يخرج من الحنطة، وعن قتادة أنه أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها. وعن عكرمة أنه الحمنان وهو ضرب من القراد، وعن عطاء القمل المعروف فأكل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيمصه، وكان أحدهم يأكل طعاماً فيمتلىء قملاً، وكان أحدهم يخرج عشرة أجربة إلى الرحا فلا يردّ منها إلا شيئاً يسير، وعن سعيد بن جبير كان إلى جنبهم كثيب أعفر فضربه به موسى عليه السلام بعصاه فصار قملاً فأخذت أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كأنه الجدري ومنعهم النوم والقرار فصاحوا وصرخوا هم وفرعون إلى موسى عليه السلام وقال: إنا نتوب فادع لنا ربك يكشف عنا هذا البلاء فدعا موسى فرفع الله القمل عنهم بعدما أقام عليه سبعة أيام من السبت إلى السبت فنكثوا وعادوا إلى أخبث أعمالهم وقالوا: ما كنا أحق أن نستيقن أنه ساحر منا اليوم جعل الرمل دواب {و} لم يؤمنوا فدعا موسى عليه السلام عليهم بعدما أقاموا شهراً في عافية فأرسل الله تعالى عليهم {الضفادع} فامتلأت منها بيوتهم وأطعمتهم وآنيتهم فلا يكشف أحدهم عن ثوب ولا طعام ولا شراب إلا وجد فيه الضفادع وكان الرجل يجلس في الضفادع إلى رقبته ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه وكان يثب في قدورهم فيفسد عليهم طعامهم ويطفىء نيرانهم وكان أحدهم يضطجع فيركبه الضفدع فيكون عليه ركاماً حتى لا يستطيع أن ينصرف إلى شقه الآخر ويفتح فاه إلى أكلة فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه ولا يعجن عجيناً ولا يفتح قدراً إلا امتلأت ضفادع، وعن ابن عباس أنّ الضفادع كانت بريّة فلما أرسلها الله تعالى إلى آل فرعون سمعت فأطاعت فجعلت تلقي نفسها في القدور وهي تغلي وفي التنانير(1/1102)
(15/400)
---
وهي تفور فأثابها الله تعالى بحسن طاعتها برد الماء فلقوا منها أذى شديداً فشكوا إلى موسى عليه السلام وقالوا: ارحمنا هذه المرّة فما بقي إلا أن نتوب التوبة النصوح ولا نعود فأخذ عهودهم ومواثيقهم ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع بأن أماتها وأرسل الله المطر والريح فاحتملها إلى البحر بعدما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت ثم نكثوا العهد {و} لم يؤمنوا وعادوا لكفرهم وأعمالهم الخبيثة فدعا عليهم موسى بعدما أقاموا شهراً في عافية فأرسل الله تعالى عليهم {الدم} فصارت مياههم كلها دماً فما يستقون من بئر ولا نهر إلا وجدوه ماء عبيطاً أحمر فشكوا إلى فرعون وقالوا: ليس لنا شراب، فقال: إنه سحركم، فقالوا: من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا دماً عبيطاً وكان فرعون لعنه الله تعالى يجمع بين القبطيّ والإسرائيليّ على الإناء الواحدة فيكون ما يلي الإسرائيليّ ماء وما يلي القبطيّ دماً ويقومان إلى الجرّة فيها الماء فيخرج للإسرائيلي ماء وللقبطيّ دم حتى كانت المرأة من آل فرعون تأتي للمرأة من بني إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول: اسقيني من مائك فتصبّ لها من قربتها فيعود في الإناء دماً حتى كانت تقول: اجعليه في فيك ثم مجيه في فيّ فتأخذ في فيها ماء وإذا مجته في فيها صار دماً واعترى فرعون العطش حتى أنه كان ليضطرّ إلى مضغ الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها دماً فمكثوا على ذلك سبعة أيام لا يشربون إلا الدم فأتوا موسى وشكوا إليه ما يلقونه وقالوا: ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا موسى عليه السلام ربه فكشف عنهم، وقيل: الدم الذي سلط عليهم هو الرعاف، وقوله تعالى: {آيات} نصب على الحال {مفصلات} أي: مبينات لا تشكل على عاقل إنها آيات الله تعالى ونقمته عليهم أو مفصلات لامتحان أحوالهم إذ كان بين كل آيتين منها شهر وكان امتداد كل واحدة أسبوعاً كما مرّت الإشارة إلى(1/1103)
ذلك وقيل: إنّ
(15/401)
---
موسى عليه السلام لبث فيهم بعدما غلب السحرة وآمنوا به عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل {فاستكبروا} عن الإيمان فلم يؤمنوا {وكانوا} أي: فرعون وقومه {قوماً مجرمين} أي: كافرين.
{
ولما وقع عليهم الرجز} أي: نزل بهم العذاب وهو ما ذكره الله تعالى من الطوفان وما بعده، وقال سعيد بن جبير: الرجز الطاعون وهو العذاب السادس بعد الآيات الخمس التي تقدّمت فنزل بهم الطاعون فمات به من القبط في يوم واحد سبعون ألفاً وتركوا غير مدفونين، قال الإمام الرازي: والقول الأوّل أقوى لأنّ لفظ الرجز مفرد محلى بالألف واللام فينصرف إلى المعهود السابق وههنا المعهود السابق هو الأنواع الخمسة التي تقدّم ذكرها وأمّا غيرها فمشكوك فيه فحمل اللفظ على المعلوم أولى من حمله على المشكوك فيه، وعن أسامة بن زيد: الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه {قالوا يا موسى ادع لنا ربك} ولم يقولوا ربنا كبراً وعتواً {بما عهد عندك} أي: بعهده عندك وهو النبوة وسميت عهداً لأن الله تعالى عهد أن يكرم النبيّ وهو عهد أن يستقل بأعبائها أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك به في آياتك والباء إمّا أن تتعلق بقوله: {ادع لنا ربك} على وجهين: أحدهما: أسعفنا إلى ما نطلب منك من الدعاء لك بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة أو ادع الله لنا متوسلاً إليه بعهده عندك وإمّا أن يكون قسماً مجاباً بقوله تعالى: {لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك} أي: أقسمنا بعهد الله تعالى عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك {ولنرسلنّ معك بني إسرائيل} أي: لنصدّقنك بما جئت به ولنخلين بني إسرائيل ليذهبوا حيث شاؤوا.
(15/402)
---(1/1104)
{فلما كشفنا عنهم الرجز} أي: بدعاء موسى عليه السلام {إلى أجل هم بالغوه} أي: إلى حدّ من الزمان هم بالغوه لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدّم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليمّ وقوله تعالى: {إذا هم ينكثون} جواب لما أي: فلما كشفنا عنهم فاجؤا النكث من غير توقف وتأمّل فيه.
فإن قيل: إنّ الله تعالى علم من حال هؤلاء أنهم لا يؤمنون بتلك المعجزات فما الفائدة في تواليها عليهم وإظهار الكثير منها؟ أجيب: بأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسئل عما يفعل قال تعالى:
{فانتقمنا منهم} أي: كافأناهم على سوء صنيعهم وأصل الانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب لأنه تعالى لما كشف عنهم العذاب مرّات فلم يؤمنوا ولم يرجعوا عن كفرهم وبلغوا الأجل الذي أجل لهم انتقم منهم بأن أهلكهم كما قال تعالى: {فأغرقناهم في اليمّ} أي: في البحر الذي لا يدرك قعره، وقيل: هو لجة البحر ومعظم مائه واشتقاقه من التيمم لأنّ المنتفعين به يقصدونه قال الأزهريّ: ويقع اليمّ على البحر الملح والبحر العذب ويدل على ذلك قوله تعالى: {فاقذفيه في اليمّ} (طه، 39)
والمراد نيل مصر وهو عذب، وإغراقهم {بأنهم} أي: بسبب أنهم {كذبوا بآياتنا} الدالة على وحدانيتنا وصدق رسولنا {وكانوا عنها} أي: الآيات {غافلين} أي: لا يتدبرونها، وقيل: الضمير في عنها يرجع للنقمة التي دل عليها قوله تعالى: {انتقمنا} أي: وكانوا عن النقمة قبل حلولها غافلين.
فإن قيل: الغفلة ليست من فعل الإنسان ولا تحصل باختياره فكيف جاء الوعيد على الغفلة أجيب: بأنّ المراد بالغفلة هنا الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها فهم أعرضوا عنها حتى صاروا كالغافلين عنها.
(15/403)
---(1/1105)
فإن قيل: أليس قد ضموا إلى التكذيب والغفلة معاصي كثيرة فكيف يكون الانتقام بهذين دون غيرهما؟ أجيب: بأنه ليس في بيان أنه تعالى انتقم منهم بهذين دلالة على نفي ما عداهما. قال الرازي: والآية تدل على أنّ الواجب في الآيات النظر فيها فلذلك ذمّهم بأنهم غفلوا عنها وذلك يدل على أنّ التقليد طريق مذموم ولما بين تعالى إهلاك القوم بالغرق على وجه العقوبة بين تعالى ما فعله بالمؤمنين من الخيرات وهو أنه تعالى أورثهم أرضهم وديارهم فقال تعالى:
{وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون} أي: بالاستعباد وذبح الأبناء وأخذ الجزية والأعمال الشاقة وهم بنو إسرائيل {مشارق الأرض ومغاربها} أي: أرض الشأم وهي من الفرات إلى بحر سرف الموضع الذي خرجوا منه من البحر وغرق فيه فرعون وآله كما نقله البقاعي في المائدة عن التوراة، وقيل: المراد جملة الأرض لأنه خرج من جملة بني إسرائيل داود وسليمان عليهما السلام وقد ملكا الأرض ويدل للأوّل قوله تعالى: {التي باركنا فيها} أي: بالخصب وسعة الأرزاق وذلك لا يليق إلا بأرض الشأم {وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل} أي: مضت عليهم واستمرّت من قولهم تم عليه الأمر إذا قضي وهي قوله تعالى: {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض} (القصص، 5)
الخ.. والحسنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة ومعنى تمت عليهم إنجاز الوعيد الذي تقدّ بإهلاك عدوّهم واستخلافهم في الأرض وإنما كان الإنجاز تماماً للكلام لأنّ الوعد بالشيء يبقى كالشيء المعلق فإذا حصل الموعود به فقد تمّ ذلك الوعد وكمل.
(15/404)
---(1/1106)
فائدة: رسمت كلمة بالتاء المجرورة ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ووقف الباقون بالتاء وإنما حصل لهم ما ذكر {بما صبروا} أي: بسبب صبرهم وحسبك بها حاثاً على الصبر ودالاً على أنّ من قابل البلاء بالجزع وكله الله تعالى إليه ومن قابله بالصبر وانتظار النصر ضمن الله تعالى له الفرج {ودمّرنا} أي: أهلكنا، قال الليث: الدمار الهلاك التامّ {ما كان يصنع فرعون وقومه} في أرض مصر من القصور والعمارات {وما كانوا يعرشون} أي: من الجنان وما كانوا يرفعون من البنيان كصرح هامان وقرأ ابن عامر وشعبة بضم الراء والباقون بالجرّ وهذا آخر ما قص الله تعالى من نبأ فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعاصيهم ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من مملكة فرعون واستعبادهم ومعاينتهم الآيات العظام بقوله تعالى:
(15/405)
---
أي: قطعناه بهم.(1/1107)
روي أنّ جوازهم كان يوم عاشوراء وأنّ موسى عليه السلام صامه شكراً لله تعالى على إنجائهم وإهلاك عدوّهم ومع النعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم لم يراعوها حق رعايتها كما حكى الله تعالى عنهم ذلك بقوله تعالى: {فأتوا على قوم} أي: مرّوا عليهم {يعكفون على أصنام لهم} أي: يقيمون على عبادتها، قال ابن جريج: كانت تماثيل بقر وذلك أوّل شأن العجل قيل: كانوا قوماً من لخم وكانوا نزولاً بالرقة، وقيل: كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم. وقرأ حمزة والكسائي بكسر الكاف والباقون بالضم {قالوا} أي: قال بعضهم لبعض: لإنه كان مع موسى السبعون المختارون وكان فيهم من يرتفع عن مثل هذا السؤال الباطل وهو قولهم: {يا موسى} سموه كما ترى باسمه جفاء وغلظة {اجعل لنا إلهاً} أي: صنماً نعتكف عليه وهذا يدل على غاية جهلهم وذلك أنهم توهموا أنه يجوز عبادة غير الله تعالى بعدما رأوا الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى وكمال قدرته وهي الآيات التي توالت على قوم فرعون حتى أغرقهم الله تعالى في البحر بكفرهم وهو عبادتهم غير الله سبحانه وتعالى فحملهم جهلهم إلى أن قالوا لنبيهم موسى عليه السلام: اجعل لنا إلهاً {كما لهم آلهة} وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم مما رأى من بني إسرائيل بالمدينة تذكرة لحال الإنسان وإنه ظلوم جهول كنود إلا من عصمه الله {وقليل من عبادي الشكور} (سبأ، 13)
{قال} موسى ردّاً عليهم {إنكم قوم تجهلون} وصفهم بالجهل المطلق وأكده لبعد ما صدر عنهم بعدما رأوا من الآيات العظمى والمعجزة الكبرى لأنه جهل أعظم مما رأى منهم وأشنع.
(15/407)
---(1/1108)
{إنّ هؤلاء} أي: القوم {متبر} أي: هالك مدمر {ما هم فيه} أي: إنّ الله تعالى يهدم دينهم الذي هم عليه ويحطم أصنامهم ويجعلها رضاضاً {وباطل} أي: مضمحل {ما كانوا يعملون} أي: من عبادتها وإن قصدوا بها التقرب إلى الله تعالى لأن الاشتغال بعبادة غير الله يزيل معرفة الله تعالى من القلب، والمقصود من العبادة رسوخ معرفة الله تعالى في القلب، فكان هذا ضداً للغرض ونقيضاً للمطلوب.
{قال} موسى عليه السلام مجيباً لهم على سبيل الإنكار عليهم والتعجب {أغير الله أبغيكم إلهاً} وأصله: أبغي لكم أي: أطلب لكم معبوداً {وهو} أي: والحال أنه هو وحده {فضلكم على العالمين} إذ الإله ليس شيئاً يطلب ويلتمس ويتخذ بل الإله هو الذي يكون قادراً على الإنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة وجميع النعم فهذا الموجود هو الإله الذي يجب على الخلق عبادته فكيف يجوز العدول عن عبادته إلى عبادة غيره وفي تفضيلهم على العالمين قولان: الأوّل: أنه تعالى فضلهم على عالمي زمانهم إلا ما يخصه العقل من الأنبياء والملائكة، والثاني: أنه تعالى خصهم بتلك الآيات القاهرة ولم يحصل مثلها لأحد من العالمين وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصال مثاله: رجل يعلم علماً واحداً وآخر يعلم علوماً كثيرة سوى ذلك العلم فصاحب العلم الواحد مفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك العلم في الحقيقة.
{وإذ أنجيناكم من آل فرعون} أي: واذكروا صنعه معكم في هذا الوقت وقرأ ابن عامر بحذف الياء والنون والباقون بإثباتهما وقوله تعالى: {يسومونكم} أي: يكلفونكم ويذيقونكم {سوء العذاب} أي: أشدّه استئناف لبيان ما أنجاهم أو حال من المخاطبين أو من آل فرعون أو منهما وقوله تعالى: {يقتلون أبناءكم ويستحيون} أي: يستبقون {نساءكم} بدل من يسومونكم سوء العذاب {وفي ذلكم} أي: الإنجاء أو العذاب {بلاء} أي: نقمة أو محنة {من ربكم عظيم} أي: أفلا تتعظون وتنتهون عما قلتم.
(15/408)
---(1/1109)
{وواعدنا موسى ثلاثين ليلة} نكلمه عند انتهائها بأن يصوم أيامها، روي أنّ موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل بمصر أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب من الله تعالى فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك سأل ربه فأمر بصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة فصامه فلما تمت أنكر خلوف فمه فتسوّك فقالت الملائكة: كنا نشم منك رائحة المسك فأفسدته بالسواك، وقيل: أوحى الله تعالى إليه أما علمت أنّ خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فأمره الله تعالى بعشرة أخرى ليكلمه الله بخلوف فمه كما قال تعالى: {وأتممناها بعشر} أي: من ذي الحجة {فتم ميقات ربه} أي: وقت وعده بتكليمه إياه {أربعين ليلة} وقيل: أمره أن يتخلى ثلاثين بالصوم والعبادة ثم أنزل عليه التوراة في العشر وكلمه فيها ولقد أجمل ذكر الأربعين في سورة البقرة وفصلها هنا، وقرأ أبو عمرو وعدنا بغير ألف قبل العين والباقون بألف.
فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: {فتم ميقات ربه أربعين ليلة} مع أن كل أحد يعلم أنّ الثلاثين مع العشر تكون أربعين؟ أجيب: بأنه تعالى إنما قال: {أربعين ليلة} إزالة لتوهم أنّ ذلك العشر من الثلاثين لأنه يحتمل أتممناها بعشر من الثلاثين كأنه كان عشرين ثم أتمه بعشر فصار ثلاثين فأزال هذا الإيهام.
تنبيه: الفرق بين الميقات والوقت أنّ الميقات ما قدّر فيه عمل من الأعمال والوقت وقت للشيء قدره مقدّر أم لا وقوله تعالى: {أربعين} نصب على الحال أي: تمّ بالغاً هذا العدد وليلة نصب على التمييز {وقال موسى لأخيه} وقوله: {هرون} عطف بيان لأخيه أي: قال له عند ذهابه إلى الجبل للمناجاة: {اخلفني} أي: كن خيلفتي {في قومي وأصلح} أي: ما يجب أن يصلح من أمورهم أو كن مصلحاً {ولا تتبع سبيل المفسدين} أي: ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه.
(15/409)
---(1/1110)
فإن قيل: إنّ هارون كان شريك موسى عليهما السلام في النبوّة فكيف جعله خليفة لنفسه فإنّ شريك الإنسان أعلى حالاً من خليفته، وردّ الإنسان من منصبه الأعلى إلى الأدون يكون إهانة له؟ أجيب: بأنّ الأمر وإن كان كما ذكر إلا أنّ موسى عليه السلام كان هو الأصل في تلك النبوّة.h
فإن قيل: لما كان هارون نبياً والنبيّ لا يفعل إلا الإصلاح فكيف وصى إليه بالإصلاح؟ أجيب: بأنّ المقصود من هذا الأمر التأكيد كقول الخليل: {ولكن ليطمئن قلبي} (البقرة، 26)
{ولما جاء موسى لميقاتنا} أي: للوقت الذي وعدناه للكلام فيه {وكلمه ربه} دلت الآية الكريمة على أنه تعالى كلم موسى عليه السلام والناس مختلفون في كلام الله تعالى، قال الزمخشريّ في كشافه: وكلمه ربه من غير واسطة كما يكلم الملك وتكليمه أن يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطاً في اللوح، اه. وهذا مذهب المعتزلة ولا شك في بطلانه وفساده لأنّ ذلك الجرم كالشجرة لا يقول: أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري فثبت بذلك بطلان ما قالوه وذهب بعض الحنابلة والحشوية إلى أنّ كلام الله تعالى حروف وأصوات متقطعة وأنه قديم، قال الإمام الرازي: وهذا القول أخس من أن يلتفت إليه العقل والذي عليه أكثر أهل السنة والجماعة أنّ كلام الله تعالى صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وأنّ موسى سمع تلك الصفة الحقيقية الأزلية، قالوا: كما أنه لا يبعد رؤية ذاته مع أنّ ذاته ليست جسماً ولا عرضاً كذلك لا يبعد سماع كلامه مع أنّ كلامه لا يكون حرفاً ولا صوتاً.
(15/410)
---(1/1111)
وفيما روي أنّ موسى عليه السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة تنبيه على أنّ سماع كلامه تعالى القديم ليس من جنس كلام المحدثين وهل كان سبحانه وتعالى كلم موسى وحده أو مع أقوام آخرين؟ ظاهر الآية يدل للأوّل لأنّ قوله تعالى: {وكلمه ربه} يدل على تخصيص موسى عليه السلام بهذا التشريف والتخصيص بالذكر يدل على نفي الحكم عمن عداه، وقال القاضي: بل السبعون المختارون سمعوا أيضاً كلام الله تعالى، قال: لأنّ الغرض بإحضارهم أن يخبروا قوم موسى عليه السلام عما يجري هناك وهذا المقصود لا يتم إلا عند سماع الكل وأيضاً فإنّ تكليم الله تعالى على هذا الوجه معجز وقد تقدّمت نبوّة موسى عليه السلام فلا بدّ من ظهور هذا المعنى لغيره، ولما سمع عليه السلام كلام ربه اشتاق إلى رؤيته سبحانه وتعالى {قال رب أرني أنظر إليك} قال في الكشاف: ثاني مفعولي أرني محذوف أي: أرني نفسك أنظر إليك.
فإن قيل: الرؤية عين النظر فكيف قيل: أرني أنظر إليك؟ أجيب: بأنّ معنى أرني نفسك اجعلني متمكناً من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك وأراك وفي هذا دليل على أنّ رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأنّ طلب المستحيل من الأنبياء محال خصوصاً ما يقتضي الجهل بالله تعالى ولذلك ردّه بأن {قال} له {لن تراني} دون لن أرى ولن أريك ولن تنظر إليّ تنبيهاً على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على بعد في الرائي لم يوجد فيه بعد وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين: قالوا: {أرنا الله جهرة} (النساء، 153)
(15/411)
---(1/1112)
كما قاله الزمخشري أشدّ خطأ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلم ويزيل شبهتهم كما فعل بهم حين قالوا: اجعل لنا إلهاً والاستدلال بالجواب وهو قوله تعالى: {لن تراني} على استحالتها أشدّ خطأ إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته إياه على أنه لا يراه أبداً وأن لا يراه غيره أصلاً فضلاً عن أن يدل على استحالته فإنّ أهل البدع والخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة قالوا: لن تكون لتأبيد النفي وهو خطأ لأنها لو كانت للتأبيد لزم التناقض بذكر اليوم في قوله تعالى: {فلن أكلم اليوم إنسياً} (مريم، 26)
ولزم التكرار بذكر أبداً في قوله تعالى: {ولن يتمنوه أبداً} (البقرة، 95)
ولن تجتمع مع ما هو لانتهاء الغاية نحو قوله تعالى: {فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي} (يوسف، 80)
وأمّا تأبيد النفي في قوله تعالى: {لن يخلقوا ذباباً} (الحج، 73)
(15/412)
---(1/1113)
فلأمر خارجيّ لا من مقتضيات لن ولا تقتضي تأكيد النفي أيضاً خلافاً للزمخشريّ في كشافه بل قولك: لن أقوم، محتمل لأن تريد به أنك لا تقوم أبداً وأنك لا تقوم في بعض الأزمنة المستقبلة وهو موافق لقولك: لا أقوم، في عدم إفادة التأكيد وقوله تعالى: {ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} استدراك يريد أن يبين به أنه لا يطيق الرؤية وفي تعليق الرؤية بالاستقرار أيضاً دليل على جوازها لأنّ استقرار الجبل عند التجلي ممكن بأن يجعل الله تعالى له قوّة على ذلك والمعلق على الممكن ممكن وتراني في الحرفين الياء ثابتة وقفاً ووصلاً، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر النون والباقون بالضم، قال وهب بن منبه ومحمد بن إسحاق: لما سأل موسى ربه الرؤية أرسل الله الضباب والصواعق والرعد والبرق حتى أحاطت بالجبل الذي عليه موسى أربعة فراسخ من كل جانب وأمر الله تعالى ملائكة السموات أن يعرضوا على موسى عليه السلام فمرّت به ملائكة السماء الدنيا كثيران البقر تنبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد ثم مرّت به ملائكة السماء الثانية كأمثال الأسود لهم لجب بالتسبيح والتقديس ففزع مما رأى وسمع واقشعرّت كل شعرة في جسده ورأسه ثم قال: لقد ندمت على مسألتي فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه شيء؟ فقال له رئيس الملائكة: يا موسى اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم مرّت به ملائكة السماء الثالثة كأمثال النسور لهم قصف ورجف ولجب شديد وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس كلجب الجيش العظيم ألوانهم كلهب النار ففزع موسى عليه السلام واشتدّ فزعه وأيس من الحياة فقال له رأس الملائكة: مكانك يا ابن عمران حتى ترى ما لا صبر لك عليه ثم مرّت به ملائكة السماء الرابعة لا يشبههم شيء من الذين مرّوا به ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس لا يقاربهم شيء من الذين مرّوا به قبلهم فاصطكت ركبتاه وأرعب(1/1114)
(15/413)
---
قلبه واشتد بكاؤه فقال له رأس الملائكة: يا ابن عمران اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم مرّت به ملائكة السماء الخامسة لهم سبعة ألوان فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره لم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه خوفاً واشتدّ حزنه وكثر بكاؤه فقال له رأس الملائكة: يا ابن عمران مكانك حتى ترى بعض ما لا تصبر عليه ثم مرّت به ملائكة السماء السادسة وفي يد كل واحد منهم مثل النخلة الطويلة نور أشدّ ضوأً من الشمس ولباسهم كلهب النار إذا سبحوا وقدّسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السموات كلهم يقولون بشدّة أصواتهم: سبوح قدّوس ربّ العزة أبداً لا يموت في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم وهو يبكي ويقول: يا رب اذكرني ولا تنس عبدك لا أدري أنفلت مما أنا فيه أم لا إن خرجت احترقت وإن مكثت احترقت، فقال له رأس الملائكة: قد أوشك يا ابن عمران أن يشتدّ خوفك وينخلع قلبك فاصبر للذي سألت ثم أمر الله تعالى أن يحمل عرشه ملائكة السماء السابعة فلما بدا نور العرش انصدع نور الجبل من عظمة الله تعالى ورفعت الملائكة أصواتهم جميعاً يقولون: سبحان الملك القدّوس رب العزة أبداً لا يموت بشدّة أصواتهم فارتج الجبل واندك وذلك قوله تعالى: {فلما تجلى ربه} أي: «أظهر من نوره قدر نصف أنملة الخنصر» كما في حديث صححه الحاكم {للجبل} أي: جبل زبير بفتح الزاي والإضافة فيه بيانية لقول الجوهري: الزبير اسم للجبل الذي كلم الله تعالى عليه السلام عليه {جعله دكاً} أي: مدكوكاً مفتتاً، وحكي عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى أظهر من سبعين ألف حجاب نوراً قدر الدرهم فجعل الجبل دكاً مستوياً بالأرض والدك والدق أخوان، وقال ابن عباس: جعله تراباً، وقال سفيان: ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب فيه، وقال الكلبي: كسر جبالاً صغاراً، قال البغويّ: ووقع في بعض التفاسير صار لعظمته ستة أجبل وقعت ثلاثة(1/1115)
بالمدينة أحد
(15/414)
---
وورقان ورضوى ووقعت ثلاثة بمكة ثور وثبير وحرا.
وقرأ حمزة والكسائيّ بألف بعد الكاف وهمزة مفتوحة من غير تنوين وصلاً ووقفاً أي: مستوياً ومنه ناقة دكاء للتي لا سنام لها والباقون بالتنوين بعد الكاف والوقف على ألف التنوين {وخرّ} أي: وقع {موسى صعقاً} أي: مغشياً عليه من هول ما رأى غشية كالموت، وروي أنّ الملائكة مرّت عليه وهو مغشيّ عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون له: يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة {فلما أفاق} من غشيته {قال} تعظيماً لما رأى {سبحانك} أي: تنزيهاً لك من النقائص كلها {تبت إليك} أي: من الجراءة والإقدام على السؤال بغير إذن، وقيل: لما كانت الرؤية مختصة بمحمد صلى الله عليه وسلم فمنعها قال: سبحانك تبت إليك من سؤالي ما ليس لي، وقيل: لما سأل الرؤية ومنعها قال: تبت إليك من هذا السؤال وحسنات الأبرار سيئات المقرّبين {وأنا أوّل المؤمنين} أي: في زماني، وقيل: أنا أوّل من أمن إنك لا ترى في الدنيا أي: لكل الأنبياء وإلا فالرؤية ثابتة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء على الصحيح وللزمخشري هنا في كشافه على مذهبه الفاسد في عدم الرؤية مطلقاً تأويلات فلتحذر.
(15/415)
---(1/1116)
{قال يا موسى إني اصطفيتك} أي: اخترتك {على الناس} أي: الموجودين في زمانك وهارون وإن كان نبياً مرسلاً كان مأموراً باتباعه ولم يكن كليماً ولا صاحب شرع وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح ياء إني والباقون بالسكون وقوله تعالى: {برسالاتي} أي: بأسفار التوراة، قرأه نافع وابن كثير بغير ألف بعد اللام على التوحيد والباقون بالألف بعد اللام على الجمع {وبكلامي} أي: وبتكليمي إياك {فخذ ما آتيتك} أي: ما أعطيتك من الرسالة {وكن من الشاكرين} لأنعمي لأنّ موسى عليه السلام لما منع الرؤية عدّد الله تعالى عليه وجوه نعمه العظيمة التي له عليه وأمره أن يشتغل بشكرها كأنه قال له: إن كنت منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظيمة كذا وكذا فلا يضيق صدرك بسبب منع الرؤية وانظر إلى سائر أنواع النعم التي خصصتك بها واشتغل بشكرها والاشتغال بشكرها إنما يكون بالقيام بلوازمها علماً وعملاً والمقصود تسلية موسى عليه السلام عن منع الرؤية قال الإمام الرازي: وهذا أيضاً أحد ما يدل على أنّ الرؤية جائزة على الله تعالى إذ لو كانت ممتنعة في نفسها لما كان إلى ذكر هذا القدر حاجة.
(15/417)
---(1/1117)
وروي أنّ موسى عليه السلام كان بعدما كلمه ربه لا يستطيع أحد أن ينظر إليه لما غشي وجهه من النور ولم يزل على وجهه برقع حتى مات وقالت له زوجته: أنا لم أرك منذ كلمك ربك فكشف لها عن وجهه فأخذها مثل شعاع الشمس فوضعت يدها على وجهها وخرّت ساجدة وقالت ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة، قال: ذاك إن لم تتزوّجي بعدي لأنّ المرأة لآخر أزواجها {وكتبنا له} أي: لموسى {في الألواح} أي: ألواح التوراة، قال البغوي: وفي الحديث: «كانت من سدر الجنة طول اللوح اثنتا عشرة ذراعاً» وجاء في الحديث: «خلق الله آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده» والمراد بيده قدرته، وقيل: كانت من زبرجدة خضراء، وقيل: من ياقوتة حمراء، وقيل: من صحرة صماء لينها الله تعالى لموسى فقطعها بيده، وأمّا كيفية الكتابة فقال ابن جريج: كتبها جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور، وقال وهب: سمع موسى صرير القلم بالكلمات العشر وكان ذلك في أوّل يوم من ذي القعدة، وقيل: إنّ موسى خرّ صعقاً ـ يوم عرفة وأعطى التوراة يوم النحر وكانت الألواح عشرة على طول موسى، وقيل: كانت تسعة، وقيل: سبعة، وقال مقاتل: وكتبنا له في الألواح كنقش الخاتم، وقال الربيع بن أنس: نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير يقرأ الجزء منها في سنة ولم يقرأها إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى عليهم السلام أي: لم يحفظها ويقرأها عن ظهر قلب إلا هؤلاء الأربعة، قال الإمام الرازي: وليس في لفظ الآية ما يدل على كيفية تلك الألواح وعلى كيفية تلك الكتابة فإن ثبت ذلك التفصيل بدليل منفصل قويّ وجب القول به وإلا وجب السكوت عنه.
(15/418)
---(1/1118)
وأمّا قوله تعالى: {من كل شيء} فلا شبهة أنه ليس على العموم بل مما يحتاج إليه موسى عليه السلام وقومه من أمر الدين وقوله تعالى: {موعظة وتفصيلاً} أي: تبييناً {لكل شيء} بدل من الجار والمجرور قبله أي: كتبنا كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام وقوله تعالى: {فخذها} على إضمار القول عطفاً على كتبنا أو بدلاً من قوله: {فخذ ما آتيتك} (الأعراف، 144)
والهاء للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء أو الرسالة وعن كعب الأحبار أنّ موسى عليه السلام نظر في التوراة فقال: إني أجد أمّة هي خير الأمم أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأوّل والكتاب الآخر ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال رب اجعلهم أمّتي قال: هي أمّة محمد يا موسى، قال: يا رب إني أجد أمّة هم الحامدون رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمراً قالوا: نفعل إن شاء الله فاجعلهم أمّتي، قال: هم أمّة محمد، قال: يا رب إني أجد أمّة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم وكان الأوّلون يحرقون صدقاتهم بالنار وهم المستجابون والمستجاب لهم الشافعون والمشفعون لهم فاجعلهم أمّتي، قال: هم أمّة محمد، قال: يا رب إني أجد أمّة إذا أشرف أحدهم على شرف كبر الله وإذا هبط وادياً حمد الله الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيثما كانوا يتطهرون من الجنابة طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء غرّ محجلون من آثار الوضوء فاجعلهم أمّتي قال: هم أمّة محمد، قال: يا رب إني أجد أمّة إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة مثلها وإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فاجعلهم أمّتي، قال: هم أمّة محمد، قال: يا رب إني أجد أمة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب اصطفيتهم فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فلا أجد أحداً إلا مرحوماً فاجعلهم أمّتي، قال: هم أمّة محمد، قال: يا رب إني أجد أمّة مصاحفهم في صدورهم يلبسون ألوان ثياب أهل الجنة(1/1119)
(15/419)
---
يصطفون في صلاتهم كصفوف الملائكة أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل لا يدخل النار أحد منهم إلا من برىء من الحسنات مثل ما برىء الحجر من ورق الشجر فاجعلهم أمّتي، قال: هم أمّة محمد، فلما عجب موسى من الخير الذي أعطاه الله محمداً وأمته قال: يا ليتني من أصحاب محمد فأوحى الله تعالى إليه {إني اصطفيتك} الخ فرضي موسى كل الرضا، ومعنى {بقوّة} أي: بجدّ وعزيمة {وأمر قومك يأخذوا بأحسنها} أي: بأحسن ما فيها.
فإن قيل: ظاهر هذا يقتضي أنّ فيها ما ليس بأحسن وأنه لا يجوز لهم الأخذ به وذلك متناقض وأجيب عن ذلك بأجوبة: الأوّل: أنّ تلك التكاليف منها ما هو حسن ومنها ما هو أحسن كالاقتصاد والعفو والانتصار والصبر فمرهم أن يحملوا أنفسهم بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب كقوله تعالى: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} (الزمر، 55)
وقوله تعالى: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} (الزمر، 18)
هذا ما أجاب به في الكشاف وتبعه البيضاوي والإمام الرازي لكن قال التفتازاني: هذا ينافي ما تقرر من أن المكتوب على بني إسرائيل هو القصاص قطعاً والجواب بأنه مثال للحسن والأحسن لا لكونه في التوراة بعيد جداً.
(15/420)
---(1/1120)
فإن قيل: يلزم عليه أيضاً منع الأخذ بالحسن وذلك يقدح في كونه حسناً. أجيب عن هذا: بأن الأخذ بالحسن الثاني على سبيل الندب فلا يقدح في منع الأخذ بالحسن، الثاني: أن الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح وأحسن هؤلاء الثلاثة الواجب، الثالث: أن المراد بالأحسن البالغ في الحسن مطلقاً لا بالإضافة وهو المأمور به كقولهم: الصيف أحر من الشتاء أي: هو في حره أبلغ من الشتاء في برده فكذا هنا المأمور به أبلغ في الحسن من المنهي عنه في القبح {سأريكم دار الفاسقين} أي: دار فرعون وقومه وهي مصر كيف أقفرت منهم ودمروا لفسقهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل بكم مثل ما نكل بهم، وقيل: منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكهم الله لفسقهم في ممرّكم عليها في أسفاركم، وقيل: المراد دارهم في الآخرة وهي جهنم.
(15/421)
---(1/1121)
{سأصرف عن آياتي} المنصوبات في الآفاق والأنفس كغلق السموات والأرض وما بينهما {الذين يتكبرون في الأرض} أي: أصرفها عنهم بالطبع على قلوبهم فلا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها، وقال سفيان بن عيينة: سأمنعهم فهم القرآن، وقوله تعالى: {بغير الحق} صلة يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل فإن إظهار الكبر على الغير قد يكون بالحق فإن للمحق أن يتكبر على المبطل وفي الكلام المشهور: التكبر على المتكبر صدقة {وإن يروا كل آية} أي: منزلة أو معجزة {لا يؤمنوا بها} أي: لعنادهم وتكبرهم {وإن يروا سبيل} أي: طريق {الرشد} أي: الهدى الذي جاء من عند الله {لا يتخذوه سبيلاً} أي: طريقاً يسلكونه بقصد منهم ونظر وتعمد بل إن سلكوه فعن غير قصد. وقرأ حمزة والكسائي بفتح الراء والشين والباقون بضمّ الراء وسكون الشين {وإن يروا سبيل الغيّ} أي: الضلال {يتخذوه سبيلاً} أي: بغاية الشهوة والتعمد والاعتماد لسلوكه {ذلك} أي: هذا الصرف العظيم الذي زاد عن مطلق الصرف بالعمى عن الإيمان واتخاذ الرسالة {بأنهم} أي: بسبب أنهم {كذبوا بآياتنا} أي: الدالة على وحدانيتنا {وكانوا عنها غافلين} أي: كان دأبهم وديدنهم معاملتهم إيانا بالإعراض عنها حتى كأنها مغفول عنها فلا يفكرون فيها ولا يعتبرون بها غفلة وانهماكاً فيما يشغلهم عنها من شهواتهم، وعن الفضيل بن عياض ذكر لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا عظمت أمّتي الدنيا نزع عنها هيبة الإسلام وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت عليهم بركة الوحي».
(15/422)
---(1/1122)
{والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة} أي: وكذبوا بلقائهم الدار الآخرة التي هي موعد الثواب فهو من إضافة المصدر إلى المفعول به ويجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى الظرف بمعنى: ولقاء ما وعد الله في الدار الآخرة {حبطت} أي: بطلت {أعمالهم} أي: ما عملوه في الدنيا من خير كصلة رحم وصدقة فلا ثواب لهم لعدم شرطه {هل} أي: ما {يجزون إلا} جزاء {ما كانوا يعملون} أي: من التكذيب والمعاصي.
{واتخذ قوم موسى من بعده} أي: بعد ذهابه إلى المناجاة {من حليهم} أي: الذي استعاروه من القبط بسبب عرس فبقي عندهم.
فإن قيل: كيف قال: من حليهم وكان معهم معاراً؟ أجيب: بأنه لما أهلك الله تعالى قوم فرعون بقيت تلك الأموال في أيديهم وصارت ملكاً لهم كسائر أملاكهم بدليل قوله تعالى: {كم تركوا من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين، كذلك وأورثناها قوماً آخرين} (الدخان، الآيات: 25 26 27 28)
وقرأ حمزة والكسائي بكسر الحاء والباقون بضمها {عجلاً} أي: صاغه لهم منه السامري وقوله تعالى: {جسداً} بدل منه أي: صار جسداً ذا لحم ودم {له خوار} أي: صوت البقر.
روي أنّ السامريّ لما صاغ العجل ألقي في فمه قبضة من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام يوم قطع البحر فصار حياً له خوار، وقيل: صاغه بنوع من الحيل فيدخل الريح جوفه ويصوت. وإنما نسب الاتخاذ إليهم وهو فعله إما لأنهم رضوا به أو لأنّ المراد اتخاذهم إياه إلهاً، وقيل: إنه ما خار إلا مرّة واحدة، وقيل: إنه كان يخور كثيراً فإذا خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤوسهم، وقال وهب: كان يسمع منه الخوار وهو لا يتحرّك، قال السدي: كان يخور ويمشي.
(15/423)
---(1/1123)
وقوله تعالى: {ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً} تقريع على فرط ضلالهم وإفراطهم بالنظر لأن هذا العجل لا يمكنه أن يتكلم بصواب ولا يهدي إلى رشد ولا يقدر على ذلك ومن كان كذلك كان جماداً أو حيواناً ناقصاً عاجزاً وعلى كلا التقديرين لا يصلح أن يعبد، ثم وصفهم الله تعالى بالظلم بقوله: {اتخذوه} أي: العجل إلهاً {وكانوا ظالمين} أي: واضعين الأشياء في غير موضعها فلم يكن اتخاذ العجل بدعاً منهم ولا أوّل مناكيرهم واختلفوا هل كل قوم موسى عبدوا العجل أو بعضهم؟ قال الحسن: كلهم عبدوا العجل غير هارون، واحتج عليه بوجهين: الأوّل: عموم هذه الآية، والثاني: قول موسى عليه السلام في هذه القصة: {رب اغفر لي ولأخي} (الأعراف، 151)
قال: خص نفسه وأخاه بالدعاء وذلك يدلّ على أنّ من كان مغايراً لهما ما كان أهلاً للدعاء ولو بقوا على الإيمان ما كان الأمر كذلك، وقال غيره: بل كان قد بقي في بني إسرائيل من ثبت على إيمانه وإن ذلك الكفر إنما وقع في قوم مخصوصين والدليل عليه قوله: {ومن قوم موسى أمّة يهدون بالحق وبه يعدلون} (الأعراف، 159).
(15/424)
---(1/1124)
{ولما سقط في أيديهم} أي: ولما ندموا على عبادة العجل، تقول العرب لكل نادم على أمر قد سقط في يده، وذلك لأنّ من شأن من اشتدّ ندمه على أمر أن يعض يده ثم يضرب فخذه فتصير يده ساقطة لأنّ السقوط عبارة عن النزول من أعلى إلى أسفل {ورأوا} أي: علموا {أنهم قد ضلوا} عن الطريق الواضح باتخاذ العجل {قالوا} توبة ورجوعاً إلى الله تعالى كما قال أبوهم آدم عليه السلام {لئن لم يرحمنا ربنا} الذي لم يقطع قط إحسانه عنا فيكف غضبه ويديم إحسانه {ويغفر لنا} أي: يمحو ذنوبنا عيناً وأثراً لئلا ينتقم منا في المستقبل {لنكوننّ من الخاسرين} أي: فينتقم منا بذنوبنا وهذا كلام من اعترف بعظيم ما قدم عليه من الذنوب وندم على ما صدر منه ورغب إلى الله تعالى في إقالة عثرته وإنما قالوا ذلك لما رجع موسى عليه السلام إليهم كما قال تعالى:
(15/425)
---
{ولما رجع موسى} أي: من مناجاته {إلى قومه غضبان} أي: من جهتهم {أسفاً} أي: لأن الله تعالى كان قد أخبره أنه قد فتن قومه وأنّ السامريّ قد أضلهم فكان موسى في حال رجوعه غضبان أسفاً، قال أبو الدرداء: الأسف أشدّ الغضب، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الأسف الحزن والأسيف الحزين، قال الواحدي: والقولان متقاربان لأنّ الغضب من الحزن والحزن من الغضب وقرأ حمزة والكسائي بالخطاب في يرحمنا ويغفر لنا ونصب ربنا والباقون بالغيبة ورفع الباء {قال} موسى لهم: {بئسما خلفتموني من بعدي} أي: بئس الفعل فعلكم بعد فراقي إياكم وهذا الخطاب يحتمل أن يكون لعبدة العجل من السامري وأتباعه أي: بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل وتركتم عبادة الله تعالى وأن يكون لهارون والمؤمنين أي: بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوهم من عبادة غير الله تعالى والمخصوص بالذم محذوف تقديره: بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم.(1/1125)
فائدة: اتفقوا على وصل بئسما هنا في الرسم {أعجلتم أمر ربكم} أي: أتركتموه غير تام كأنه ضمن عجل معنى سبق فعدي تعديته أو أعجلتم أمر ربكم الذي وعدنيه من الأربعين وقدرتم موتي وغيرتم بعدي كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم.
روي أن السامريّ قال لهم حين أخرج لهم العجل وقال: هذا إلهكم وإله موسى إنّ موسى لن يرجع وإنه قد مات.
وروي أنهم عدوا عشرين يوماً بلياليها فجعلوها أربعين ثم أحدثوا ما أحدثوا {وألقى الألواح} أي: ألواح التوراة أي: طرحها من شدّة الغضب وفرط الضجر أي: عند استماعه حديث العجل حمية للدين وكان في نفسه حديداً شديد الغضب.
(15/427)
---
روي أنّ التوراة كانت سبعة أسباع في سبعة ألواح فلما ألقاها انكسرت فرفع ستة أسباعها أي: ستة أسباع ما فيها لا ستة أسباعها نفسها لقوله بعد وأخذ الألواح وكان فيها تفصيل كل شيء وبقي سبع فرفع ما كان من أخبار الغيب وبقي ما فيه المواعظ والأحكام والحلال والحرام قال الرازي: ولقائل أن يقول: ليس في القرآن إلا أنه ألقى الألواح فإمّا أنه ألقاها بحيث تكسرت فهذا ليس في القرآن وأنه جراءة عظيمة على كتاب الله ومثله لا يليق بالأنبياء {وأخذ برأس أخيه} أي: بشعر رأسه بيمينه وشعر لحيته بشماله {يجره} أي: أخاه {إليه} غضباً وكان هارون عليه السلام أكبر من موسى بثلاث سنوات وأحب إلى بني إسرائيل من موسى لأنه كان ألين منه جانباً ف {قال} هارون عند ذلك {ابن أمّ} قراءة ابن عامر وشعبة والكسائي بكسر الميم وأصله يا ابن أمي فحذف الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفاً كالمنادى المضاف إلى الياء والباقون بالنصب زيادة في التخفيف لطوله أو تشبيهاً بخمسة عشر.(1/1126)
فإن قيل: هارون وموسى من أب وأمّ فلماذا ناداه بالأمّ فقط؟ أجيب: بأنه إنما ذكرها لأنها كانت مؤمنة فاعتد بنسبها ولأنها هي التي قاست فيه المخاوف والشدائد فذكره بحقها ليرققه عليه والطاعنون في عصمة الأنبياء يقولون: أخذ برأس أخيه يجره على سبيل الإهانة والاستحقاق والمثبتون لعمة الأنبياء يقولون: أخذ برأس أخيه يجره على سبيل الإهانة والاستخفاف والمثبتون لعصمة الأنبياء قالوا: جر رأس أخيه ليساره ويستكشف منه كيفية تلك الواقعة.
(15/428)
---
فإن قيل: فلماذا قال يا ابن أمّ {إنّ القوم} الذين عبدوا العجل {استضعفوني} أي: إني قد بذلت وسعي في كفهم فاستذلوني وقهروني {وكادوا} أي: قاربوا {يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء} أي: فلا تفعل بي ما يشمتون بي لأجله وأصل الشماتة الفرح ببلية من تعاديه ويعاديك يقال: شمت فلان بفلان إذا سرّ بمكروه نزل به أي: لا تسرّ الأعداء بما تنال مني من مكروه فكيف فعل بأخيه ذلك؟ أجيب: بأنّ هارون إنما قال ذلك خوفاً من أن يتوهم جهال بني إسرائيل أنّ موسى غضبان عليه كما هو غضبان على عبدة العجل أي: فلا تفعل بي ما تشمت به أعدائي فهم أعداؤك فإنّ القوم يحملون هذا الفعل الذي تفعله بي على الإهانة لا على الإكرام {ولا تجعلني مع القوم الظالمين} أي: الذين عبدوا العجل مع براءتي منهم بالمؤاخذة أو بنسبة التقصير ولما اعتذر له أخوه وذكر شماتة الأعداء.
{قال رب اغفر لي} أي: ما حملني عليه مما صنعت بأخي {ولأخي} أي: اغفر له ما فرط في كفهم عن عبادة العجل إن كان وقع منه تفريط وضمه إلى نفسه في الاستغفار ترضية له ودفعاً للشماتة عنه {وأدخلنا في رحمتك} أي: بمزيد الإنعام علينا {وأنت أرحم الراحمين} فأنت أرحم بنا منا على أنفسنا قال الله تعالى:(1/1127)
{إنّ الذين اتخذوا العجل} أي: إلهاً يعبدونه من دون الله تعالى فهذا هو المفعول الثاني من مفعولي اتخذوا {سينالهم غضب} أي: عقوبة {من ربهم وذلة في الحياة الدنيا} وهي خروجهم من دارهم، وللمفسرين في هذه الآية طريقان الأوّل أنّ المراد بالذين اتخذوا العجل الذين باشروا عبادة العجل.
(15/429)
---
فإن قيل: أولئك تاب الله عليهم بسبب أن قتلوا أنفسهم في معرض التوبة على ذلك الذنب وإذا تاب الله عليهم فكيف ينالهم الغضب والذلة؟ أجيب: بأنّ ذلك الغضب إنما حصل لهم في الدنيا وهو نفس القتل فكان ذلك القتل غضباً عليهم والمراد بالذلة هو استسلامهم أنفسهم للقتل واعترافهم على أنفسهم بالضلال والخطأ، وقيل: خروجهم من ديارهم لأنّ ذل الغربة مثل مضروب.
فإن قيل: السين في قوله: سينالهم للاستقبال فكيف تكون للماضي؟ أجيب: بأنّ هذا إنما هو خبر عما أخبر الله تعالى به موسى عليه السلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل ثم أخبره الله تعالى في ذلك الوقت أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة فكان هذا الكلام سابقاً لوقته وهو القتل الذي أمرهم الله تعالى به بعد ذلك، والطريق الثاني: أنّ المراد بالذين اتخذوا العجل الذين كانوا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم فوصف اليهود الذين كانوا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم باتخاذ العجل وإن كان ما فعل ذلك إلا آباؤهم لأنهم رضوا بفعلهم ولأنّ العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما يفعل ذلك في المناقب يقولون للأمم: أفعلتم كذا وكذا؟ وإنما فعله من مضى من آبائهم. ثم حكم عليهم بأنهم سينالهم غضب من ربهم في الآخرة وذلة في الحياة الدنيا كما قال تعالى في صفتهم: {ضربت عليهم الذلة والمسكنة} (البقرة، 61)(1/1128)
{وكذلك} أي: كما جزيناهم {نجزي المفترين} أي: كل مفتر في دين الله فجزاؤه غضب الله في الآخرة والذلة في الدنيا، قال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلا ويجد فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية لأنّ المبتدع مفتر في دين الله.
(15/430)
---
{والذين عملوا السيئات} أي: عملوا الأعمال السيئة ويدخل في ذلك كل ذنب حتى الكفر {ثم تابوا} أي: رجعوا عنها إلى الله تعالى {من بعدها} أي: من بعد أعمالهم السيئة {وآمنوا} أي: وصدقوا بالله تعالى بأنه لا إله غيره وأنه يقبل توبة التائب ويغفر الذنوب وإن عظمت {إنّ ربك} أي: يا محمد أو يا أيها الإنسان التائب {من بعدها} أي: التوبة {لغفور} أي: ستور عليهم محاء لما كان منهم {رحيم} بهم أي: منعم عليهم بالجنة وفي الآية دليل على أنّ السيئات بأسرها صغيرها وكبيرها مشتركة في التوبة وأنّ الله تعالى يغفرها جميعاً بفضله ورحمته فإنّ عفوه وكرمه أعظم وأجل وهذا من أعظم ما يفيد البشارة والفرح للمذنبين التائبين، وتقدير الآية: أنّ من أتى بجميع السيئات ثم تاب إلى الله تعالى وأخلص التوبة فإنّ الله يغفرها له ويقبل توبته.
(15/431)
---(1/1129)
{ولما سكت} أي: سكن {عن موسى الغضب} أي: باعتذار هارون وبتوبتهم فعند ذلك سكن غضبه وهو الوقت الذي قال: رب اغفر لي ولأخي، وفي هذا الكلام استعارتان استعارة بالكناية في الغضب عن الشخص الناطق واستعارة تصريحية أو تخييلية في السكوت عن طفء غضب موسى وسكون هيجانه وغليانه، وقال عكرمة: إنّ المعنى: سكت موسى عن الغضب فقلب كما قالوا: أدخلت القلنسوة في رأسي والمعنى: أدخلت رأسي في القلنسوة {أخذ الألواح} أي: وكما دعا لأخيه منبهاً بذلك على زوال غضبه عليه فكذلك أخذ الألواح التي ألقاها منبهاً على زوال غضبه، قال الإمام الرازي: وظاهر هذا يدلّ على أن شيئاً منها لم ينكسر ولم يبطل وأن الذي قيل من أن ستة أسباع التوراة رفعت إلى السماء ليس الأمر كذلك اه. ومرّت الإشارة إلى ما يدلّ على الجمع بين ما هنا وبين ما مرّ {وفي نسختها} أي: ما نسخ فيها من كتب والنسخ عبارة عن النقل والتحويل فإذا نسخت كتاباً من كتاب حرفاً بحرف فقد نسخت ذلك الكتاب فهو نقلك ما في الأصل إلى الفرع لأن الألواح نسخت من اللوح المحفوظ والنسخة فعلة بمعنى مفعولة كالخطبة، وقيل: إنّ موسى عليه السلام لما ألقى الألواح فتكسرت صام أربعين يوماً فردّت عليه في لوحين، وعلى قول من قال: إنّ الألواح لم تكسر وأخذها موسى بعينها بعدما ألقاها يكون المعنى: وفي نسختها أي: المكتوب فيها {هدى} أي: بيان للحق {ورحمة} أي: إرشاد إلى الصلاح والخير، وقال ابن عباس: هدى من الضلالة ورحمة من العذاب {للذين هم لربهم يرهبون} أي: يخافون.
فإن قيل: التقدير: الذين يرهبون ربهم فما الفائدة في اللام في قوله: {لربهم}؟ أجيب بأوجه: الأوّل: أنّ تأخير الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفاً فدخلت اللام للتقوية ونظيره قوله تعالى: {إن كنتم للرؤيا تعبرون} (يوسف، 43)
(15/432)
---(1/1130)
الثاني: أنها لام الأجل والمعنى: للذين هم لأجل ربهم يرهبون لا رياء ولا سمعة، الثالث: أنه قد يزاد حرف الجرّ في المفعول وإن كان الفعل متعدّياً كقولك: قرأت السورة وقرأت بالسورة.
{واختار موسى قومه} أي: من قومه فحذف الجارّ وأوصل الفعل إليه فنصب يقال اخترت من الرجال زيداً، واخترت الرجال زيداً، وأنشدوا قول الفرزدق:
*منا الذي اختير الرجال سماحة ** وجوداً إذا هب الرياح الزعازع*
قال أبو علي: والأصل في هذا الباب أنّ في الأفعال ما يتعدّى إلى المفعول الثاني بحرف الجرّ ثم يتسع فيحذف حرف الجرّ فيتعدّى إلى المفعول الثاني من ذلك قولك: اخترت من الرجال زيداً ثم يتسع فيقال: اخترت الرجال زيداً، وأستغفر الله من ذنبي وأستغفر الله ذنبي قال الشاعر:
*أستغفر الله ذنباً لست محصيه*
ويقال أمرت زيداً بالخير وأمرت زيداً الخير قال الشاعر:
*أمرتك الخير فافعل ما أمرت به*
قال الرازي: وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير: واختار موسى قومه لميقاتنا وأراد بقومه المعتبرين منهم إطلاقاً لاسم الخير على ما هو المقصود منه وقوله: {سبعين رجلاً لميقاتنا} عطف بيان وعلى هذا الوجه فلا حاجة إلى ما ذكر من التكلفات {فلما أخذتهم الرجفة}.
روي أنّ الله تعالى أمره أن يأتيه في سبعين رجلاً من بني إسرائيل فاختار من كل سبط ستة فزاد اثنان فقال: ليتخلف منكم رجلان، فتشاحوا فقال: لمن قعد أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع وذهب معه الباقون.
(15/433)
---(1/1131)
روي أنه لم يصب إلا ستين شيخاً فأوحى الله تعالى إليه أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً، وقيل: كانوا أبناء ما عدا العشرين ولم يتجاوزوا الأربعين قد ذهب عنهم الجهل والصبا فأمرهم موسى عليه السلام أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج إلى طور سينا لميقات ربه وكان أمره أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى غشي الجبل كله ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم: ادنوا وكان موسى عليه السلام إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه الحجاب ودنا القوم حتى دخلوا في الغمام ووقعوا سجداً فسمعوه يكلم موسى يأمره وينهاه وافعل لا تفعل فلما فرغ من أمره ونهيه وانكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا: له لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهي الرجفة فماتوا جميعاً فقام موسى يناشد ربه ويدعوه {قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل} أي: من قبل خروجهم إلى الميقات {وإياي} معهم فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهموني إذا رجعت إليهم وما هم معي وعنى بذلك: أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم بالإنقاذ منهما فإن ترحمت عليهم مرّة أخرى لم يبعد من عميم إحسانك، وقال وهب: لم تكن تلك الرجفة موتاً ولكن القوم لما رأوا تلك الهيبة أخذتهم الرجفة حتى كادت أن تبين منهم مفاصلهم فلما رأى موسى ذلك رحمهم وخاف عليهم الموت واشتدّ عليه فقدهم وكانوا له وزراء على الخير سامعين مطيعين فعند ذلك دعا وبكا وناشد ربه فكشف الله تعالى عنهم تلك الرجفة واطمأنوا وسمعوا كلام ربهم وذلك قوله تعالى: {قال} أي: موسى {رب لو شئت أهلكتهم من قبل} أي: من قبل عبادة العجل وإياي بقتلي القبطي {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} أي: عبدة العجل وظنّ موسى أنهم عوقبوا باتخاذ بني إسرائيل العجل وقال هذا على طريق(1/1132)
(15/434)
---
السؤال، وقال المبرد: هو استفهام استعطاف أي: لا تهلكنا وقد علم موسى عليه السلام أنّ الله تعالى أعظم من أن يأخذ بجريرة الجاني غيره، وقيل: بما فعل السفهاء من العناد والتجاسر على طلب الرؤية وكان ذلك قاله بعضهم {إن هي} أي: ما هي {إلا فتنتك} قال الواحدي: الكناية في هي تعود إلى الفتنة كما تقول: إن هو إلا زيد، والمعنى: أنّ تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك أي: اختبارك وابتلاؤك وهذا تأكيد لقوله تعالى: {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} لأنّ معناه لا تهلكنا بفعلهم فإنّ تلك الفتنة كانت اختباراً منك وابتلاء أضللت بها قوماً فافتتنوا بأن أوجدت في العجل خواراً فزاغوا به وأسمعتهم كلامك حتى طمعوا في الرؤية هديت قوماً فعصمتهم حتى ثبتوا على دينك فذلك معنى قوله: {تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء} ولما أثبت أنّ الكل بيده تعالى استأنف سؤاله في أن يفعل لهم الأصلح فقال: {أنت} أي: وحدك {ولينا} نعتقد أن لا يقدر على عمل مصالحنا غيرك وأنت لا نفع لك في شيء من الأمرين ولا ضر بل الكل بالنسبة إليك على حد سواء ونحن على بصيرة من أنّ أفعالك لا تعلل بالأغراض وعفوك عنا ينفعنا وانتقامك منا يضرّنا ونحن في حضرتك قد انقطعنا إليك وحططنا رحال افتقارنا لديك {فاغفر لنا} أي: امح ذنوبنا {وارحمنا} أي: اشملنا برحمتك التي وسعت كل شيء {وأنت خير الغافرين} أي: لأنّ غيرك يتجاوز عن الذنب طلباً للثناء أو للثواب أو دفعاً للصفة الخسيسة وهي صفة الحقد ونحوه وأنت منزه عن ذلك فتغفر السيئة وتبدلها حسنة.
(15/435)
---(1/1133)
أي: أوجب أو أثبت أو اقسم {لنا} أي: في مدّة إحيائك لنا {في هذه الدنيا} أي: الحاضرة والدنية {حسنة} أي: حسن معيشة وتوفيق طاعة {وفي الآخرة} أي: واكتب لنا في الحياة الآخرة حسنة وهي الجنة ثم علل ذلك بقوله: {إنا هدنا} أي: تبنا {إليك} أي: عما لا يليق بجنابك وأصل الهود الرجوع برفق والهود جمع هائد وهو التائب ولبعضهم:
*يا راكب الذنب هدهد ** واسجد كأنك هدهد*
(15/436)
---
قال بعضهم: وبه سميت اليهود وكان اسم مدح قبل نسخ شريعتهم ثم صار اسم ذم بعد نسخها {قال} الله تعالى لموسى: {عذابي أصيب به من أشاء} من خلقي أذنب أو لم يذنب لا اعتراض علي {ورحمتي وسعت} عمت وشملت {كل شيء} من خلقي في الدنيا ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمتي وهذا معنى حديث أبي هريرة في الصحيحين «إنّ رحمتي سبقت غضبي» وفي رواية «غلبت غضبي» وأمّا في الآخرة فقال تعالى: {فسأكتبها للذين يتقون} الله {ويؤتون الزكاة} وخصها بالذكر لنفعها المتعدّي ولأنها كانت أشق عليهم، قال قتادة: لما نزل {ورحمتي وسعت كل شيء} قال إبليس: أنا من ذلك الشيء فقال تعالى: {فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة} {والذين هم بآياتنا يؤمنون} ولا يكفرون بشيء منها فأيس إبليس منها وتمناها اليهود والنصارى وقالوا: نحن نتقي ونؤمن بآيات ربنا فأخرجهما الله تعالى بقوله:
{الذين يتبعون الرسول النبيّ الأميّ} وإنما سماه رسولاً بإضافته إلى الله عز وجل لأنه الواسطة بين الله تعالى وبين خلقه لرسالته وأوامره ونواهيه وشرائعه إليهم ونبياً لأنه رفيع الدرجة عند الله ثم وصفه بالأميّ وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ وهي صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم «نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» والعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤون أي: الخط والنبيّ صلى الله عليه وسلم كان كذلك، قال أهل التحقيق: وكونه أمياً بهذا التفسير كان من جملة معجزاته وبيانه من وجوه:(1/1134)
(15/437)
---
الأوّل: أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوماً مرّة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فلا بدّ وأن يزيد فيها أو أن ينقص عنها بالقليل والكثير ثم إنه عليه الصلاة والسلام مع أنه ما كان يكتب ولا يقرأ يتلو كتاب الله تعالى من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير فكان ذلك معجزة وإليه الإشارة بقوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} (الأعلى، 6)
الثاني: أنه لو كان يحسن الخط والقراءة لكان متهماً في أنه ربما طالع كتب الأوّلين فحصل هذه العلوم من تلك المطالعة فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة كان ذلك من المعجزات وهذا هو المراد من قوله تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} (العنكبوت، 48)
الثالث: تعلم الخط شيء سهل فإن أقلّ الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعي فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم في الفهم ثم إنه تعالى آتاه علوم الأوّلين والآخرين وأعطاه من العلوم والحقائق ما لم يصل إليه أحد من الخلق ومع تلك القوّة العظيمة في العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذي يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلاً وفهماً فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جارياً مجرى الجمع بين الضدين وذلك من الأمور الخارقة للعادة وجارية مجرى المعجزات وهذا الاتباع تارة يكون بالقوّة فقط لمن تقدم موته على زمانه صلى الله عليه وسلم وتارة يخرج من القوّة إلى الفعل كمن لحق زمان دعوته فمن علم الله تعالى منه أنه لا يتبعه إذا أدركه لا يغفر له ولو عمل جميع الطاعات غير ذلك وعرّفه لهم بجميع خواصه حتى لا يتطرق إليه عند مجيئه ريب ولا يتعلل في أمره بعلة ولذلك اتبعه.
(15/438)
---(1/1135)
{الذي يجدونه} أي: علماء بني إسرائيل {مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل} باسمه ونعته ولكنهم كتموا ذلك وبدلوه وغيروه حسداً منهم له وخوفاً على زوال رياستهم وقد حصل لهم ما كانوا يخافونه فقد زالت رياستهم ووقعوا في الذل والهوان وعن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: أجل إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبيّ إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله ويفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاء، انتهى.l
شرح غريب ألفاظه: الفظ: السيء الخلق، والغليظ: الجافي القاسي، والسخاب بالسين والصاد: الكثير الصياح، والاعوجاج: ضدّ الاستقامة والملة العوجاء: الكفر، والقلب الأغلف: الذي لا يصل إليه شيء ينفعه كأنه في غلاف.
(15/439)
---(1/1136)
وقوله تعالى: {يأمرهم بالمعروف} قال الزجاج: يجوز أن يكون استئنافاً ويجوز أن يكون المعنى: يجدونه مكتوباً عندهم إنه يأمرهم بالمعروف قال الرازي: ومجامع المعروف في قوله عليه الصلاة والسلام «التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله» وذلك لأنّ الموجود إمّا واجب الوجود لذاته وإمّا ممكن لذاته، أما الواجب لذاته فهو الله تعالى ولا معروف أشرف من تعظيمه وإظهار عبوديته وإظهار الخشوع والخضوع على باب عزته والاعتراف بكونه موصوفاً بصفات الكمال مبرأ عن النقائص والآفات منزهاً عن الأضداد والأنداد، وأما الممكن لذاته فإن لم يكن حيواناً فلا سبيل إلى إيصال الخير إليه لأنّ الانتفاع مشروط بالحياة ومع ذلك فإنه يجب النظر إلى كلها بعين التعظيم من حيث إنها مخلوقة لله ومن حيث إنّ كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلاً ظاهراً وبرهاناً باهراً على توحيده وتنزيهه فإنه يجب النظر إليه بعين الاحترام ومن حيث إنّ لله سبحانه وتعالى في كل ذرة من ذرات المخلوقات أسراراً عجيبة وحكماً خفية فيجب النظر إليها بعين الاحترام، وأما إن كان ذلك المخلوق من جنس الحيوان فإنه يجب الشفقة عليه بأقصى ما يقدر الإنسان عليه ويدخل فيه برّ الوالدين وصلة الأرحام وبث المعروف فثبت أنّ قوله صلى الله عليه وسلم «التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله» كلمة جامعة لجميع جهات الأمر بالمعروف {وينهاهم عن المنكر} وهو ضد الأمور المذكورة، وقال عطاء: يأمرهم بالمعروف بخلع الأنداد وبمكارم الأخلاق وبصلة الأرحام وينهاهم عن المنكر أي: عبادة الأوثان وقطع الأرحام {ويحل لهم الطيبات} أي: ما حرم عليهم في شرعهم كالشحوم {ويحرم عليهم الخبائث} كالدم ولحم الخنزير والربا والرشوة {ويضع عنهم إصرهم} أي: ثقلهم الذي كان يحمل عليهم، وقرأ ابن عامر بفتح الهمزة الممدودة والصاد وألف بعد الصاد عى الجمع والباقون بكسر الهمزة وسكون الصاد ولا ألف بعدها على التوحيد {والأغلال التي كانت(1/1137)
(15/440)
---
عليهم} أي: ويضع الأثقال والشدائد التي كانت عليهم من الدين والشريعة وذلك مثل قتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض النجاسة من البدن والثوب بالمقراض وغير ذلك من الشدائد التي كانت على بني إسرائيل شبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق كما أنّ اليد لا تمتدّ مع وجود الغل فكذلك لا تمتدّ إلى الحرام الذي نهيت عنه وكانت هذه الأثقال في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم نسخ ذلك كله ويدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة» {فالذين آمنوا به} أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم {وعزروه} أي: وقروه وعظموه وأصل التعزير المنع والنصرة وتعزير النبيّ صلى الله عليه وسلم تعظيمه وإجلاله ودفع الأعداء عنه {ونصروه} على أعدائه {واتبعوا النور الذي أنزل معه} أي: القرآن سمي نوراً لأن به يستنير قلب المؤمن فيخرج من ظلمات الشك والجهالة إلى ضياء اليقين والعلم، وقيل: الهدى والبيان والرسالة، وقيل: الحق الذي بيانه في القلوب كبيان النور.
فإن قيل: كيف يمكن حمل النور هنا على القرآن والقرآن ما أنزل مع محمد صلى الله عليه وسلم وإنما أنزل مع جبريل عليه السلام؟ أجيب: بأنّ معناه أنه أنزل مع نبوّته لأنّ نبوّته ظهرت مع ظهور القرآن ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات قال: {أولئك هم المفلحون} أي: الفائزون بالمطلوب في الدنيا والآخرة.
ولما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص من جواهر أوصاف هذا النبيّ الكريم حثاً على الإيمان وإيجاباً له على وجه يعلم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف تقدّم زمانه أو تأخر قال تعالى:
(15/441)
---(1/1138)
{قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم} الخطاب عام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى كافة الثقلين بل وإلى الملائكة قاله السبكي والبقاعيّ وغيرهما وهذا هو اللائق بمقامه صلى الله عليه وسلم وإن خالف في ذلك بعضهم، وأما سائر الرسل فمبعوثون إلى أقوامهم فقط لقوله صلى الله عليه وسلم «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي أرسلت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض طيبة مسجداً وطهوراً ونصرت على عدوّي بالرعب يرعب مني مسيرة شهر وأطعمت الغنيمة دون من قبلي وقيل لي سل تعطه وأخبأت شفاعتي لأمتي».
(15/442)
---(1/1139)
فإن قيل: كان آدم عليه السلام مبعوثاً إلى جميع أولاده ونوح عليه السلام لما خرج من السفينة كان مبعوثاً إلى الذين كانوا معه مع أن جميع الناس في ذلك الزمان ما كانوا إلا ذلك القوم؟ أجيب: بأنّ ذلك لم يكن لعموم رسالتهما بل للحصر المذكور فليس ذلك من باب عموم الرسالة، وقوله: {جميعاً} حال من إليكم أي: إن الكل يشترط عليهم الإيمان بي والإتباع لي وقد طار الخبر بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى كل أفق وتغلغل في كل نفق ولم يبق الله أهل مدر ولا وبر ولا سهل ولا جبل ولا بحر ولا بر في مشارق الأرض ومغاربها إلا وقد ألقاه إليهم وملأ به مسامعهم وألزمهم به الحجة وهو سائله عنهم يوم القيامة وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه حين رفع إليه الذراع فنهش منها فقال: «أنا سيد الناس يوم القيامة»، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا أوّل الناس خروجاً إذا بعثوا وأنا قائدهم إذا وفدوا وأنا خطيبهم إذا أنصتوا وأنا مستشفعهم إذا حبسوا وأنا مبشرهم إذا يئسوا لواء الحمد يومئذ بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر»، وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر»، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه ولا فخر وأنا أوّل شافع وأوّل مشفع يوم القيامة ولا فخر وأنا أكرم الأوّلين والآخرين ولا فخر»، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي» والفخر ادعاء العظمة والكبر والشرف أي: لا أقول تبجحاً ولكن شكراً وتحدّثاً بالنعمة وما اجتمع بهم في مجمع إلا كان إمامهم قبل موته(1/1140)
(15/443)
---
وبعده اجتمع بهم ليلة الإسراء في بيت المقدس فصلى بهم إماماً ثم اجتمع بهم في السماء فصلى بجميع أهل السماء إماماً وأما يوم الجمع الأكبر والكرب الأعظم فيحيل الكل عليه وما أحال بعض الأكابر على بعض إلا علما منهم بأن الختام يكون به ليكون أظهر للاعتراف بإمامته والانقياد لطاعته لأنّ المحيل على المحيل على الشيء محيل على ذلك والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم تظهر في ذلك الموقف رسالته بالفعل إلى كافة الخلق فيظهر سر هذه الآية {الذين يتبعون الرسول} قال البقاعيّ: ولما دل بالإضافة إلى اسم الذات ما يدل على جميع الصفات على عموم دعوته وشمول رسالته حتى للجنّ والملائكة أيد ذلك بقوله: {الذي له ملك السموات والأرض} فيكون محله جرّاً على الوصف وإن حيل بين الصفة والموصوف بقوله: {إليكم جميعاً} لأنه متعلق المضاف إليه فهو كالمتقدّم عليه قال الزمخشريّ: والأحسن أن يكون محله نصباً بإضمار أعني وهذا الذي يسمى النصب على المدح، قال البيضاوي: أو مبتدأ خبره {لا إله إلا هو} أي: فالكل منقادون لأمره خاضعون له ثم علل ذلك بقوله: {يحيي ويميت} أي: له هاتان الصفتان مختصاً بهما ومن كان كذلك كان منفرداً بما ذكر، قال البقاعيّ: وإذا راجعت ما يأتي إن شاء الله تعالى في أوّل الفرقان مع ما مضى في أوائل الأنعام لم يبق عندك شك في دخول الملائكة عليهم السلام في عموم الدعوة اه.
(15/444)
---(1/1141)
وقد مرّت الإشارة إلى ذلك ولما أمر الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يقول للناس: {إني رسول الله إليكم جميعاً} أمر الله تعالى جميع خلقه بالإيمان به وبرسوله بقوله: {فآمنوا با ورسوله} وذلك أن الإيمان بالله هو الأصل والإيمان برسوله فرع عليه فلهذا بدأ بالإيمان بالله ثم ثنى بالإيمان برسوله ثم وصفه تعالى بقوله: {النبيّ الأميّ} وتقدّم معناهما {الذي يؤمن با وكلماته} أي: بما أنزل عليه وعلى سائر الرسل من كتبه ووحيه وقال قتادة: المراد بكلماته القرآن، وقال مجاهد: عيسى بن مريم لأنه خلق بقوله: كن فكان ولم يكن من نطفة تمنى، ولهذا سمي كلمة الله وقيل: هو الكلمة التي تكون عنها عيسى وجميع خلقه وهي قوله: {كن} {واتبعوه} أي: واقتدوا به أيها الناس فيما يأمركم به وينهاكم عنه {لعلكم تهتدون} أي: لكي تهتدوا وترشدوا جعل تعالى رجاء الاهتداء أثر الإيمان والاتباع تنبيهاً على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شريعته فهو بعد في خطيئة الضلالة.
{ومن قوم موسى} أي: من بني إسرائيل {أمة} أي: جماعة {يهدون بالحق} أي: يهدون الناس محقين أو بكلمة الحق {وبه} أي: بالحق {يعدلون} أي: يحكمون والمراد بتلك الأمّة الثابتون على الإيمان القائلون بالحق من أهل زمان موسى عليه السلام اتبع ذكر المرتابين الكافرين من بني إسرائيل بذكر أضدادهم كما هو عادة القرآن تنبيهاً على أن تعارض الخير والشرّ وتزاحم أهل الحق والباطل مستمر وقيل: هم الذين أسلموا من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه {واعترض} بأنهم كانوا قليلين في العدد ولفظ الأمة يقتضي الكثرة، وأجيب: بأنهم لما كانوا مخلصين في الدين جاز إطلاق لفظ الأمة عليهم كما في قوله تعالى: {إنّ إبراهيم كان أمّة} (النحل، 12)
(15/445)
---(1/1142)
وقيل: إنّ بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطاً تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرّق بينهم وبين إخوانهم ففتح الله تعالى لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه سنة ونصفاً حتى خرجوا من وراء الصين وهم هناك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا. وذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل ذهب به ليلة الإسراء نحوهم فكلمهم فقال لهم جبريل عليه السلام: هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا: لا، قال: هذا محمد النبي الأميّ فآمنوا به وقالوا: يا رسول الله إنّ موسى عليه السلام أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ مني عليه السلام فردّ محمد على موسى صلى الله عليهما وسلم السلام ثم أقرأهم عشر سور من القرآن أنزلت بمكة ولم تكن فريضة نزلت غير الصلاة والزكاة وأمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت ولا يتظالموا ولا يتحاسدوا ولا يصل إليهم منا أحد ولا إلينا منهم أحد قال بعض المحققين: هذا القول ضعيف وإن كان البغوي صححه لوجوه: الأوّل: كونه أقرأهم عشر سور وقد نزل عليه أكثر من ذلك وكان فرض الزكاة بالمدينة فكيف يأمرهم بها قبل فرضها، الثاني: كون جبريل ذهب إليهم به ليلة الإسراء لم يرد بذلك نقل صحيح ولا رواه أحد من أئمة الحديث، الثالث: أنّ أحداً منهم لا يصل إلينا ولا يصل إليهم منا أحد فمن الذي أوصل خبرهم إلينا فثبت بذلك بطلان هذا القول.
فإن قيل: إنّ يأجوج ومأجوج قد وصل خبرهم إلينا ولم يصل خبرنا إليهم أجيب: بالمنع فمن أين يعرف أنه لم يصل خبرنا إليهم ثم قال: فالمختار في تفسير هذه الآية أنها إما أن تكون قد نزلت في قوم كانوا متمسكين بدين موسى قبل التبديل والتغيير ثم ماتوا وهم على ذلك وإما أن تكون قد نزلت فيمن أسلم من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه.
(15/446)
---(1/1143)
{وقطعناهم} أي: فرقنا بني إسرائيل وقوله تعالى: {اثنتي عشرة} حال وتأنيثه حملاً على الأمة {أسباطاً} بدل منه ولذلك جمع قبائل والأسباط أولاد الولد وكانوا اثنتي عشرة قبيلة من اثني عشر ولداً من ولد يعقوب عليه السلام {أمماً} بدل بعد بدل أو نعت لأسباطاً أي: وقطعناهم أمماً لأنّ كل سبط كان أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد وكل واحدة كانت تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى لا تكاد تأتلف {وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه} أي: حين استسقوه في التيه {أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست} أي: انفجرت والمعنى واحد وهو الانفتاح بسعة وكثرة يقال: بجست الماء فانبجس أي: فجرته فانفجر قاله الجوهري، وعلى هذا التقرير فلا تباين بين الانبجاس المذكور هنا وبين الانفجار المذكور في سورة البقرة، وقال آخرون: الانبجاس خروج الماء بقلة والانفجار خروجه بكثرة وطريق الجمع أن الماء ابتدأ بالخروج قليلاً ثم صار كثيراً وهذا الفرق مروي عن عمرو بن العلاء.
(15/448)
---(1/1144)
فإن قيل: هلا قيل: فضربه فانبجست؟ أجيب: بأنه إنما حذف ذلك للإيماء على أن موسى لم يتوقف في الامتثال وإن ضربه لم يكن مؤثراً يتوقف عليه الفعل في ذاته {منه} أي: من الحجر {اثنتا عشرة عيناً} أي: بعدد الأسباط {قد علم كل أناس} أي: كل سبط منهم {مشربهم} أي: لا يدخل سبط على سبط في مشربهم {وظللنا عليهم الغمام} أي: في التيه ليقيهم من حر الشمس {وأنزلنا عليهم المنّ} الترنجبيل {والسلوى} أي: الطير السماني بتخفيف الميم والقصر جعل الله تعالى ذلك طعاماً لهم في التيه، وقيل: المنّ الخبز والسلوى الإدام، وقال ابن يحيى: السلوى طائر يشبه السماني وخاصيته أن أكل لحمه يلين القلوب القاسية يموت إذا سمع صوت الرعد كما أنّ الخطاف يقتله البرد فيلهمه الله تعالى أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون فيها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوان المطر والرعد فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض {كلوا} أي: وقلنا لهم كلوا {من طيبات ما رزقناكم} مما لم تعالجوه نوع معالجة وقوله تعالى: {وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} فيه حذف ترك ذكره للاستغناء عنه ودلالة الكلام عليه تقديره كلوا من طيبات ما رزقناكم فامتنعوا من ذلك وسئموه وقالوا: لن نصبر على طعام واحد وسألوه غير ذلك لأنّ المكلف إذا أمر بشيء فتركه وعدل عنه إلى غيره يكون عاصياً بفعل ذلك فلهذا قال تعالى: {وما ظلمونا} أي: بفعل شيء مما قابلوا به الإحسان بالكفران ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بمخالفتهم ما أمروا به وقد سبق تفسير هذه الآية في سورة البقرة.
(15/449)
---(1/1145)
{وإذ قيل لهم} أي: واذكر يا محمد لقومك إذا قيل لبني إسرائيل {اسكنوا هذه القرية} أي: بيت المقدس {وكلوا منها} أي: من القرية {حيث شئتم وقولوا} أمرنا {حطة وادخلوا الباب} أي: باب القرية {سجداً} أي: سجوداً نحناء وقوله تعالى: {نفغر لكم} قرأه نافع وابن عامر بضم التاء وفتح الفاء على التأنيث والباقون بنون مفتوحة وكسر الفاء وقوله تعالى: {خطاياكم} قرأه نافع بكسر الطاء بعدها همزة مفتوحة ممدودة وبعد الهمزة تاء مضمومة على الجمع وابن عامر كذلك إلا أنه يقصر الهمزة على التوحيد وأبو عمرو بفتح الخاء والطاء وبعد الطاء ألف بعدها ياء وبعد الياء ألف على وزن قضاياكم والباقون بكسر الطاء بعدها همزة مفتوحة ممدودة بعدها تاء مكسورة {سنزيد المحسنين} أي: بالطاعة ثواباً.
{فبدّل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم} فقالوا حبة في شعرة ودخلوا يزحفون على أستاههم أي: أدبارهم {فأرسلنا عليهم رجزاً} أي: عذاباً {من السماء بما كانوا يظلمون} أي: وهذه القصة أيضاً تقدّمت في سورة البقرة لكن ألفاظ هذه الآية تخالف الآية المذكورة في (البقرة، 58)
(15/450)
---(1/1146)
من وجوه: الأوّل: أنه قال هناك: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية} وهنا قال: {وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية} والثاني: أنه قال هناك: {فكلوا} بالفاء وقال هنا: {وكلوا} بالواو، والثالث: أنه قال هناك: {رغداً} وأسقطه هنا، والرابع: أنه قال هناك: {وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة} وقال هنا: على التقديم والتأخير، والخامس: أنه قال هناك: {نغفر لكم خطاياكم} وقال هنا: {نغفر لكم خطيئاتكم} والسادس: أنه قال هناك: {وسنزيد المحسنين} وهنا: حذف الواو، والسابع: أنه قال هناك: {فأنزلنا على الذين ظلموا} وقال هنا: {فأرسلنا عليهم} الثامن: أنه قال هناك: {بما كانوا يفسقون} وقال هنا: {بما كانوا يظلمون} ولا منافاة بين هذه الألفاظ المختلفة أمّا الأول: وهو أنه قال هناك: {ادخلوا هذه القرية} وقال هنا: {اسكنوا} فلا منافاة بينهما لأنّ كل ساكن في موضع فلا بدّ من الدخول فيه، وأمّا الثاني: وهو قوله هناك: {فكلوا} بالفاء، وقال هنا: {وكلوا} بالواو فالفرق بينهما أنّ للدخول حالة مقتضية للأكل عقب الدخول فحسن دخول الفاء التي هي للتعقيب ولما كانت السكنى حالة استمرار حسن دخول الواو عقب السكنى فيكون الأكل حاصلاً متى شاؤوا فظهر الفرق، وأمّا الثالث: وهو أنه ذكر هناك: {رغداً} وأسقطه هنا فلأنّ الأكل عقب الدخول ألذ وأكمل والأكل مع السكنى والاستمرار ليس كذلك فحسن دخول لفظ رغداً هناك: دون هنا، وأمّا الرابع: وهو قوله هناك: {ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة} وقال هنا على التقديم والتأخير فلا منافاة في ذلك لأنّ المقصود من ذلك تعظيم أمر الله تعالى وإظهار الخضوع والخشوع له فلم يتفاوت الحال بحسب التقديم والتأخير، وأمّا الخامس: وهو أنه قال هناك: {خطاياكم} وقال هنا: {خطيئاتكم} فهو إشارة إلى أنّ هذه الذنوب سواء كانت قليلة أم كثيرة فهي مغفورة عند الإتيان بهذا الدعاء والتضرّع، وأمّا السادس: وهو قوله تعالى هناك: {وسنزيد} بالواو وقال هنا بحذفها(1/1147)
(15/451)
---
فالفائدة في حذف الواو أنه تعالى وعد بشيئين بالغفران وبالزيادة للمحسنين من الثواب وإسقاط الواو لا يخل بذلك المعنى لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل: ماذا حصل بعد الغفران؟ فقيل: إنه سيزيد المحسنين، وأما السابع: وهو الفرق بين أنزلنا وبين أرسلنا، فلأن الإنزال لا يشعر بالكثرة والإرسال يشعر بها فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب القليل ثم جعله كثيراً وهو نظير ما تقدّم من الفرق بين انبجست وانفجرت.
وأما الثامن وهو الفرق بين قوله تعالى: {يفسقون} وبين قوله تعالى: {يظلمون} فلأنهم لما ظلموا أنفسهم فيما غيروا وبدّلوا فسقوا بذلك وخرجوا عن طاعة الله فوصفوا بكونهم ظالمين لأجل أنهم ظلموا أنفسهم، وبكونهم فاسقين لأنهم خرجوا عن طاعة الله فالفائدة في ذكر هذين الوصفين التنبيه على حصول هذين الأمرين هذا ملخص كلام الرازي رحمه الله تعالى ثم قال: وتمام العلم بذلك عند الله تعالى.
(15/452)
---(1/1148)
{واسألهم} أي: اسأل يا محمد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك سؤال توبيخ وتقريع {عن القرية} أي: عن خبرها وما وقع بأهلها لا سؤال استفهام لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد علم حال هذه القرية بوحي من الله تعالى إليه وإخباره إياه بحالهم وإنما القصد من هذا السؤال تقرير اعتداء اليهود وإقدامهم على الكفر والمعاصي قديماً، وأن إصرارهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنكارهم نبوته ومعجزاته ليس بشيء قد حدث الآن في زمانه، بل إصرارهم على الكفر كان حاصلاً في قديم الزمان، وفي الإخبار بهده القصة معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان أمياً لم يقرأ الكتب القديمة ولم يعرف أخبار الأوّلين ثم أخبرهم بما جرى لأسلافهم في قديم الزمان وأنهم بسبب مخالفتهم لأمر الله تعالى مسخوا قردة، واختلفوا في هذه القرية فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هي قرية يقال لها أيلة بين مدين والطور على شاطىء البحر، وقال الزهري: هي طبرية الشام، وقيل: مدين والعرب تسمي المدينة قرية، وعن أبي عمرو بن العلاء: ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج، يعني: رجلين من أهل المدن. {التي كانت حاضرة البحر} أي: مجاورة بحر القلزم على شاطئه والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} (البقرة، 196)
(15/453)
---(1/1149)
{إذ} أي: حين {يعدون} أي: يعتدون {في السبت} أي: يتجاوزون حدود الله تعالى بالصيد فيه وقد نهوا عنه، وقوله تعالى: {إذ تأتيهم حيتانهم} ظرف ليعدون {يوم سبتهم شرعاً} أي: ظاهرة على الماء كثيرة جمع شارع، وقال الضحاك: متتابعة، وعن الحسن تشرع على أبوابهم كأنها الكباش البيض والحيتان السمك وأكثر ما تستعمل العرب الحوت في معنى السمكة والسبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبد، فمعناه يعدون في تعظيم هذا اليوم وكذلك قوله: {يوم سبتهم} معناه يوم تعظيمهم أمر السبت يدل عليه قوله تعالى: {ويوم لا يسبتون} أي: لا يعظمون السبت أي: سائر الأيام {لا تأتيهم} أي: الحيتان ابتلاء من الله تعالى {كذلك} أي: مثل ذلك البلاء الشديد {نبلوهم بما} أي: بسبب ما {كانوا يفسقون} وقوله تعالى:
(15/454)
---
{وإذ} معطوف على إذ قبله {قالت أمة} أي: جماعة {منهم} أي: من أهل القرية لم تصد ولم تنه لمن نهى {لم تعظون قوماً الله مهلكهم} في الدنيا بعذاب من عنده لأنهم لا ينتهون عن الفساد ولا يتعظون بالمواعظ {أو معذبهم عذاباً شديداً} في الآخرة لتماديهم في العصيان {قالوا} أي: الواعظون موعظتنا {معذرة} نعتذر بها {إلى ربكم} أي: لئلا ننسب إلى تقصير في ترك النهي فإنّ النهي عن المنكر يجب وإن علم الناهي أن مرتكبه لا يقلع عن معصيته وقيل: إذا علم الناهي حال المنهي وأنّ النهي لا يؤثر فيه سقط النهي، وربما وجب الترك لدخوله في باب العبث، ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على المآصر أو الجلادين المرتبين للتعذيب لتعظهم وتكفهم عما هم فيه كان ذلك عبثاً منك ولم يكن إلا سبباً للتلهي بك {ولعلهم يتقون} أي: وجائز عندنا أن ينتفعوا بالموعظة فيتقوا الله ويتركوا ما هم فيه من الصيد؛ إذ اليأس لا يحصل إلا بالهلاك.(1/1150)
{فلما نسوا} أي: تركوا ترك الناسي {ما ذكروا} أي: وعظوا {به} ولم يرجعوا {أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا} أي: بالاعتداء ومخالفة أمر الله تعالى {بعذاب بئيس} أي: شديد {بما} أي: بسبب ما {كانوا يفسقون}.
روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أسمع الله تعالى يقول: {أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس} فلا أدري ما فعلت الفرقة الساكتة وجعل يبكي، قال عكرمة: فقلت جعلني الله تعالى فداك ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه، قالوا: لِمَ تعظون قوماً الله مهلكهم، وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل أهلكتهم، قال: فأعجبه قولي ورضي به وأمر لي ببردين فألبسنيهما، وقال نجت الساكتة، وقال عمار بن زيان: نجت الطائفتان الذين قالوا لم تعظون قوماً الله مهلكهم، والذين قالوا معذرة، وأهلك الله الذين أخذوا الحيتان وهذا قول الحسن.
(15/456)
---
فإن قيل: إنّ ترك الوعظ معصية والنهي أيضاً عنه معصية فوجب دخول هؤلاء التاركين للوعظ الناهين عنه تحت قوله تعالى: {وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس} ولهذا قال ابن زيد: نجت الناهية وهلكت الفرقتان. أجيب: بأنّ هذا غير لازم لأنّ النهي عن المنكر إنما يجب على الكفاية فإذا قام به البعض سقط عن الباقين.
{فيما عتوا عما نهوا عنه} قال ابن عباس: أبوا أن يرجعوا عن المعصية والعتو عبارة عن الإباء والعصيان أي: فلما تكبروا عن ترك ما نهوا عنه وتمرّدوا في العصيان من اعتدائهم في السبت واستحلالهم ما حرّم الله تعالى عليهم من صيد السمك في يوم السبت وأكله. {قلنا لهم كونوا قردة خاسئين} أي: صاغرين فكانوها كقوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل، 40)
وهذا يقتضي أنّ الله تعالى عذبهم أولاً بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك فمسخهم، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريراً وتفصيلاً للأولى.
(15/457)
---(1/1151)
وروي أنّ اليهود أمروا باليوم الذي أمرنا به وهو يوم الجمعة فتركوه واختاروا يوم السبت فابتلوا به وحرّم الله عليهم فيه الصيد، وأمروا بتعظيمه فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعاً بيضاً سماناً كأنها المخاض لا يرى الماء من كثرتها، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم جاءهم إبليس فقال لهم: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياضاً تسوقون الحيتان إليها يوم السبت فلا تقدر على الخروج منها، وتأخذونها يوم الأحد، وأخذ رجل منهم حوتاً وربط في ذنبه خيطاً إلى خشبة في الساحل ثم شواه يوم الأحد فوجد جاره ريح السمك فتطلع في تنوره فقال: إني أرى الله سيعذبك فلما لم يره عذب أخذ في السبت القابل حوتين، فلما رأوا أنّ العذاب لا يعاجلهم صادوا وأكلوا وملحوا وباعوا وكانوا نحواً من سبعين ألفاً، فصار أهل القرية أثلاثاً ثلثاً نهوا وكانوا نحواً من اثني عشر ألفاً، وثلثاً قالوا: لم تعظون قوماً؟ وثلثاهم أصحاب الخطيئة، فلما لم ينتهوا قال المسلمون: إنا لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب، ولعنهم داود عليه السلام فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إنّ للناس شأناً فعلوا الجدار فنظروا فإذا هم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القرود أنسباءها من الإنس والإنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود فجعل القرد يأتي نسيبه فيشمّ ثيابه ويبكي فيقول: ألم ننهك فيقول برأسه بلى، وقيل: صار الشباب قردة والشيوخ خنازير. واختلفوا في أنّ الذين مسخوا هل بقوا قردة وهل هذه القردة من نسلهم أو هلكوا وانقطع نسلهم؟ لا دلالة في الآية على شيء من ذلك، وعن الحسن: أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها أثقلها خزياً في الدنيا وأطولها عذاباً في الآخرة، وعن جابر: بين العبد وبين رزقه حجاب فإن صبر خرج إليه وإلا هتك الحجاب ولم ينل إلا ما قدّر له.
(15/458)
---(1/1152)
قال الزمخشريّ: هاه وايم الله ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم، ولكن الله تعالى جعل موعداً والساعة أدهى وأمرّ وقوله تعالى:
{وإذا} عطف على واسألهم أي: واذكر لهم حين {تأذن} أي: اعلم {ربك} وأجري مجرى القسم كعلم الله وشهد الله ولذلك أجيب بجوابه وهو {ليبعثن عليهم} أي: اليهود {إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} أي: بالإهانة والذل وأخذ الجزية منهم فبعث الله تعالى عليهم سليمان وبعده بختنصر فقتلهم وسباهم وضرب عليهم الجزية، وكانوا يؤدونها إلى المجوس إلى أن بعث الله تعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم ولا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر حتى ينزل عيسى بن مريم فإنه لا يقبل الجزية ولا يقبل إلا الإسلام.
فإن قيل: إنه يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته أخذ الجزية أو الإسلام أجيب: بأنّ شريعته بذلك مغياة بنزول عيسى عليه السلام وقوله تعالى: {إنّ ربك سريع العقاب} أي: لمن أقام على الكفر كهيئة الدليل على أنه يجمع لهم مع ذل الدنيا عذاب الآخرة فيكون العذاب مستمراً عليهم في الدنيا والآخرة، ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {وإنه لغفور} أي: لمن آمن منهم ورجع عن الكفر واليهودية ودخل في دين الإسلام {رحيم} بهم.
(15/459)
---(1/1153)
{وقطعناهم} أي: فرقناهم {في الأرض أمماً} أي: فرقاً بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم تتمة لإدبارهم حتى لا تكون لهم شوكة قط و{أمماً} مفعول ثانٍ أو حال وقوله تعالى: {منهم الصالحون} صفة أو بدل منه وهم الذين آمنوا بالمدينة ونظراؤهم {ومنهم} أي: أناس {دون ذلك} أي: منحطون عن الصلاح فهم كفرتهم وفسقتهم {وبلوناهم} أي: اختبرناهم جميعاً الصالح وغيره {بالحسنات} أي: بالخصب والعافية {والسيآت} أي: بالجور والشدّة {لعلهم يرجعون} أي: كي يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا إليه. قال أهل المعاني: وكل واحد من الحسنات والسيآت يدعو إلى الطاعة أما النعم فلأجل الترغيب وأما النقم فلأجل الترهيب.
{فخلف من بعدهم} أي: هؤلاء الذين وصفناهم {خلف} والخلف القرن الذي يجيء من بعد وهو بسكون اللام شائع في الشر وبفتحها في الخير يقال: خَلَف صدق بفتح اللام وخلْف سوء بسكونها وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح قال حسان بن ثابت:
*لنا القدم الأولى إليك وخلفنا ** لأوّلنا في طاعة الله تابع*
وقال لبيد في الذم:
*ذهب الذين يعاش في أكنافهم ** وبقيت في خلف كجلد الأجرب*
(15/460)
---(1/1154)
فحرك اللام والخلف مصدر نعت به، ولذلك يقع على الواحد والجمع والمراد به الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم {ورثوا الكتاب} أي: التوراة من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها {يأخذون عرض هذا الأدنى} أي: هذا الشيء الفاني الأدنى أي: الدنيا وما يتمتع به فيها وفي قوله: {هذا الأدنى} تخسيس وتحقير، والأدنى إما من الدنو بمعنى القرب لأنه عاجل قريب، وإما من دون الحال وسقوطها وقلتها والعرض بالفتح جميع متاع الدنيا كما يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجر، والعرض بسكون الراء جميع المال سوى الدراهم والدنانير وجمعه عروض. والمعنى: أنهم يأخذون حطام الدنيا وهو الشيء التافه الخسيس الحقير؛ لأنّ الدنيا بأسرها فانية حقيرة والراغب فيها أحقر منها فاليهود ورثوا التوراة وعلموا ما فيها وضيعوا العمل بما فيها وتركوه وأخذوا الرشا في الأحكام ويعلمون أنه حرام {و} مع إقدامهم على هذا الذنب العظيم وإصرارهم عليه {يقولون سيغفر لنا} أي: لا يؤاخذهم الله تعالى بذلك فيتمنون على الله الأمانيّ الباطلة، وعن شدّاد بن أوس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني»؛ لأنّ اليهود كانوا يقومون على الذنوب ويقولون: سيغفر لنا، وهذا هو التمني بعينه. وقوله تعالى: {وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} الواو فيه للحال أي: يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم غير تائبين وليس في التوراة وعد المغفرة مع الإصرار وقوله تعالى: {ألم يؤخذ} استفهام تقرير {عليهم ميثاق الكتاب} أي: التوراة والإضافة بمعنى في {أن لا يقولوا على الله إلا الحق} أي: المعلوم شأنه وليس من المعلوم إثبات المغفرة على القطع بغير توبة، بل ذلك خروج عن ميثاق الكتاب وقوله تعالى: {ودرسوا ما فيه} أي: ما في ذلك الميثاق الذي في الكتاب أو الكتاب بتقرير القراءة للحفظ عطف على {ألم(1/1155)
(15/461)
---
يؤخذ} من حيث المعنى فإنه تقرير أو على ورثوا و{ألم يؤخذ} اعتراض {والدار الآخرة خير} أي: وما في الدار الآخرة مما أعده الله خير {للذين يتقون} الله ويخافون عقابه {أفلا يعقلون} أي: حين أخذوا ما يشقيهم ويفنى بدل ما يسعدهم ويبقى أنّ الدار الآخرة خير، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب ويكون المراد الإعلام بتناهي الغضب، والباقون بالياء على الغيبة.
{والذين يمسكون بالكتاب} يقال: مسكت بالشيء وتمسكت به وأمسكت به والتمسك بالكتاب العمل بما فيه وإحلال حلاله وتحريم حرامه وإقامة حدوده والتمسك بأحكامه وقرأ شعبة بسكون الميم وتخفيف السين والباقون بفتح الميم وتشديد السين {وأقاموا الصلاة} أي: وداوموا على إقامتها في مواقيتها وإنما أفردها بالذكر وإن كانت الصلاة داخلة في التمسك بالكتاب تنبيهاً على عظم قدرها وأنها أعظم العبادات بعد الإيمان بالله تعالى وهذه الآية نزلت في الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه وقوله تعالى: {إنا لا نضيع أجر المصلحين} الجملة خبر الذين وفيه وضع الظاهر موضع المضمر أي: أجرهم.
(15/462)
---
{وإذ } أي: إذ يا محمد {نتقنا} أي: رفعنا {الجبل فوقهم} أي: من أصله {كأنه ظلة} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كأنه سقيفة والظلة كل ما أظلك من سقف بيت أو سحابة أو جناح حائط والجمع ظلل وظلال {وظنوا} أي: أيقنوا {أنه واقع بهم} أي: ساقط عليهم بوعد الله بوقوعه إن لم يقبلوا أحكام التوراة.
(15/463)
---(1/1156)
روي أنهم لم يقبلوا أحكام التوراة لعظمها وثقلها فرفع الله تعالى الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم فكان فرسخاً في فرسخ، وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعنّ عليكم فلما نظروا إلى الجبل خرّ كل واحد منهم ساجداً على حاجبه وهو ينظر بعينه اليمنى خوفاً من سقوطه فلذلك لا ترى يهودياً يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون: هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة، وقوله تعالى: {خذوا} هو على إضمار القول أي: قلنا لهم خذوا أو قائلين خذوا {ما آتيناكم} أي: من الكتاب وقوله تعالى: {بقوّة} أي: بجد وعزم على تحمل مشاقه حال من واوخذوا {واذكروا ما فيه} أي: بالعمل به ولا تتركوه كالمنسي {لعلكم تتقون} أي: فضائح الأعمال ورذائل الأخلاق
{وإذ} أي: واذكر يا محمد حين {أخذ ربك من بني آدم} وقوله تعالى: {من ظهورهم} بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار كما قاله السيوطي، أو بدل بعض كما قاله البيضاوي {ذريّاتهم} أي: بأن أخرج بعضهم من صلب بعض نسلاً بعد نسل كنحو ما يتوالدون كالذر، ونصب لهم دلائل على ربوبيته وركب فيهم عقلاً عرفوا به، كما جعل للجبال عقولاً حين خوطبوا بقوله تعالى: {يا جبال أوبي معه والطير} (سبأ، 10)
كما جعل تعالى للبعير عقلاً حتى سجد للنبيّ صلى الله عليه وسلم وكذا للشجرة حين سمعت لأمره وانقادت، وكذا للنملة حين قالت: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} (النمل، 18)
. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر بألف بعد الياء وكسر التاء على الجمع والباقون بغير ألف وفتح التاء على التوحيد. {وأشهدهم على أنفسهم}قال: {ألست بربكم قالوا بلى}
(15/464)
---(1/1157)
أنت ربنا، وعن مسلم بن يسار الجهني أنه قال: إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عنها فقال: «إنّ الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرّية» فقال: خلفت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرّية، فقال: هؤلاء إلى النار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ الله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار» وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما خلق الله تعالى آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذرّيته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان وبيصاً من نور، وعرضهم على آدم فقال: أي رب، من هؤلاء؟ قال: ذرّيتك، فرأى رجلاً منهم، فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: يا رب من هذا؟ قال: داود، قال: يا رب كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة، قال: يا رب زده من عمري أربعين سنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين سنة جاءه ملك الموت، فقال آدم: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود؟ فجحد آدم فجحدت ذرّيته، ونسي آدم فأكل من الشجرة فنسيت ذرّيته، وخطىء فخطئت ذرّيته» أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
(15/465)
---(1/1158)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أبصر آدم في ذرّيته قوماً لهم نور، فقال: يا رب من هم؟ فقال: الأنبياء، ورأى واحداً هو أشدّهم نوراً، فقال: يا رب من هو؟ قال: داود، قال: فكم عمره؟ قال: ستون سنة، قال آدم: هو قليل، وكان عمر آدم ألف سنة، فقال: يا رب زده من عمري أربعين سنة، فلما تم عمر آدم تسعمائة وستين سنة أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فقال: بقي من أجلي أربعون سنة، فقال: ألست قد وهبتها من ابنك داود؟ فقال: ما كنت لأجعل لأحد من أجلي شيئاً، فعند ذلك كتب لكل نفس أجلها».
وعن مقاتل أنّ الله تعالى مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فخرج منه ذرّية بيض كهيئة الذرّ تتحرك، ثم مسح صفحة ظهره اليسرى، فخرج منه ذرّية سود كهيئة الذرّ، فقال: يا آدم هؤلاء ذرّيتك، ثم قال لهم: ألست بربكم، قالوا: بلى، فقال للبيض: هؤلاء في الجنة برحمتي، وهم أصحاب اليمين، وقال للسود: هؤلاء في النار، ولا أبالي، وهم أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة، ثم أعادهم جميعاً في صلب آدم، فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء، وقال تعالى فيمن نقض العهد الأوّل {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} (الأعراف، 102)
وقال بعض المفسرين: إنّ أهل السعادة أقروا طوعاً، وقالوا: بلى، وأهل الشقاوة قالوا بغتة وكرهاً، وذلك معنى قوله تعالى: {وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً} (آل عمران، 83)
واختلفوا في موضع الميثاق، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ببطن نعمان، وهو واد إلى جنب عرفة، وعنه أيضاً أنه بدهناء من أرض الهند، وهو الموضع الذي أهبط فيه آدم عليه السلام، وقال الكلبي: بين مكة والطائف.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى:
(15/466)
---(1/1159)
{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم} وإنما أخرجه من ظهر آدم؟ أجيب: بأن الله تعالى أخرج ذرّية آدم بعضهم من ظهور بعض على ما يتوالدون فالأبناء من الآباء في الترتيب، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لما علم أنهم كلهم بنوه وأخرجوا من ظهره، فالمخرج من ظهورهم مخرج من ظهره.
وقوله: {شهدنا} أي: على أنفسنا بذلك وإنما أشهدهم على أنفسهم كراهة {أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا} التوحيد {غافلين} أي: لعدم الأدلة، فلذلك أشركنا، وقوله تعالى:
{أو يقولوا} أي: لو لم ترسل إليهم الرسل، عطف على {أن يقولوا}، وقرأ أبو عمرو بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب {إنما أشرك آباؤنا من قبل} أي: قبل أن نوجد {وكنا ذرّية من بعدهم} أي: فلم نعرف لنا مربياً غيرهم، فكنا لهم تبعاً فشغلنا اتباعهم عن النظر، ولم يأتنا رسول منبه، فيتسبب عن ذلك إنكارهم في قولهم: {أفتهلكنا بما فعل المبطلون} أي: من آبائنا، قال أبو حيان: والمعنى أنّ الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمن العهد من توحيد الله وعبادته لكانت لهم حجتان: إحداهما: كنا غافلين، والأخرى: كنا تبعاً لأسلافنا، فكيف والذنب إنما هو لمن طرّق لنا وأضلنا، انتهى.
فإن قيل: كيف يكون ذكر الميثاق عليهم حجة فإنهم لما أخرجوا من ظهر آدم ركب فيهم العقل، وأخذ عليهم الميثاق، فلما أعيدوا إلى صلبه بطل ما ركب فيهم فتوالدوا ناسين لذلك الميثاق؟ أجيب: بأن التذكير به على لسان صاحب المعجزة قائم مقام ذكره في النفوس، وبذلك قامت الحجة عليهم يوم القيامة لإخبار الرسل إياهم بذلك الميثاق في الدنيا، فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد، ولزمتهم الحجة، ولا تسقط الحجة بنسيانهم وعدم حفظهم بعد إخبار الصادق صاحب الشرع والمعجزات الباهرات.
(15/467)
---(1/1160)
والمقصود من إيراد هذا الكلام هنا إلزام اليهود مقتضى الميثاق العام بعدما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية، ومنعهم من التقليد، وحملهم على النظر والاستدلال كما قال تعالى:
{وكذلك} أي: ومثل ذلك التفصيل البديع الجليل الرفيع {نفصل الآيات} أي: كلها لئلا يواقعوا ما لا يليق بجنابنا جهلاً لعدم الدليل {ولعلهم يرجعون} أي: عن التقليد واتباع الباطل.
{واتل} أي: يا محمد {عليهم} أي: اليهود {نبأ} أي: خبر {الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} أي: خرج بكفره كما تخرج الحية من جلدها، وهو بلعم بن باعوراء من علماء بني إسرائيل، وقيل: من الكنعانيين سئل أن يدعو على موسى، وأهدي إليه شيء، فدعا فانقلبت عليه، واندلع لسانه على صدره {فاتبعه الشيطان} أي: لحقه وأدركه وصيره لنفسه تابعاً في معصية الله تعالى، فخالف أمر ربه وأطاع الشيطان وهواه {فكان من الغاوين} أي: من الضالين الهالكين.
(15/468)
---(1/1161)
وقصته على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أنّ موسى عليه السلام لما قصد حرب الجبارين، ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعم، وكان عنده اسم الله الأعظم، فقالوا: إنّ موسى رجل حديد ومعه جند كثير، وإنه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج فادع الله تعالى أن يردّهم عنا، فقال: ويلكم نبيّ الله ومعه الملائكة والمؤمنون فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما لا تعلمون؟ وأني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي، فراجعوه وألحوا عليه، فقال: حتى أوامر ربي، وكان لا يدعو حتى ينظر ما يؤمر به في المنام، فوامر في الدعاء عليهم، فقيل له في المنام: لا تدع عليهم، فقال لقومه: إني قد وامرت ربي، وإني نهيت أن أدعو عليهم، فأهدوا إليه هدية، فقبلها وراجعوه فقال: حتى أوامر ربي، فوامر فلم يؤمر بشيء، فقال: قد وامرت ربي فلم يأمرني بشيء، فقالوا: لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرّة الأولى، فلم يزالوا يتضرّعون إليه حتى فتنوه، فافتتن، فركب أتاناً له متوجهاً إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال له: حسبان، فلما سار على أتانه غير بعيد ربضت، فنزل عنها وضربها فقامت، فركبها فلم تسر به كثيراً حتى ربضت، فضربها فأذن الله تعالى لها في الكلام وأنطقها له فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي؟ ويحك أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين فتدعو عليهم؟ فلم ينزجر فخلى الله تعالى سبيل الأتان، فانطلقت به حتى أشرف على جبل حسبان، فجعل يدعو عليهم فلا يدعو بشر إلا صرف الله تعالى به لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله تعالى به لسانه إلى بني إسرائيل، فقال له قومه: يا بلعم أتدري ما تصنع؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا، فقال: هذا ما لا أملكه هذا شيء قد غلب الله عليه، فاندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهب الآن مني الدنيا(1/1162)
(15/469)
---
والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، احملوا النساء وزينوهنّ وأعطوهنّ السلع، ثم أرسلوهنّ إلى عسكر بني إسرائيل يبعنها فيه، ومروهنّ أن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنه إن زنا رجل بواحدة كفيتموهم، ففعلوا فلما دخل النساء العسكر مرّت امرأة من الكنعانيين على رجل من عظماء بني إسرائيل وكان رأس سبط شمعون بن يعقوب فقام إلى المرأة وأخذ بيدها حتى أعجبه جمالها ثم أقبل بها حتى وقف على موسى وقال: إني لأظنك أن تقول هذه حرام عليك، قال: أجل هي حرام عليك لا تقربها قال: فو الله لا نطيعك، ثم دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل الله تعالى عليهم الطاعون في الوقت فهلك منهم سبعون ألفاً في ساعة من النهار
g
وقيل: الآية نزلت في أمية بن أبي الصلت كان قد قرأ الكتب وعلم أنّ الله تعالى يرسل رسولاً في ذلك الزمان ورجا أن يكون هو فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به.
وقيل: نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبيّ صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، وقيل: إنها نزلت في البسوس وهو رجل من بني إسرائيل وكان قد أعطى ثلاث دعوات مستجابات وكان له امرأة وكان له منها أولاد فقالت له: اجعل لي منها دعوة فقال لها: لك منها واحدة فما تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا الله تعالى فصارت أجمل النساء في بني إسرائيل فلما علمت أنه ليس في بني إسرائيل أجمل منها رغبت عنه فغضب ودعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهبت فيها دعوتان فجاء بنوها وقالوا: ليس لنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة نباحة وقد عيرنا الناس ادع الله أن يردّها إلى الحال التي كانت عليها فدعا الله تعالى فعادت كما كانت فذهب فيها الدعوات كلها وقيل غير ذلك، ويدل للقول الأوّل قوله تعالى:
(15/470)
---(1/1163)
{ولو شئنا لرفعناه} أي: منازل الأبرار {بها} أي: بسبب تلك الآيات {ولكنه أخلد إلى الأرض} أي: مال إلى الدنيا، قال البيضاوي: أو السفالة، قال الجوهري: السفالة بالضم نقيض العلو، وبالفتح النذالة {واتبع هواه} أي: في آثار الدنيا، واسترضى قومه، وأعرض عن مقتضى الآيات، وإنما علق رفعه بمشيئة الله تعالى، ثم استدرك عنه بفعل العبد تنبيهاً على أنّ المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه، وأنّ عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه، وأنّ السبب الحقيقي هو المشيئة، وأن ما نشاهده من هذه الأسباب وسايط معتبرة في حصول المسبب من حيث أن المشيئة تعلقت به كذلك.
(15/471)
---(1/1164)
وكان مقتضى ظاهر الكلام أن يقول: ولكنه أعرض عنها، فأوقع موقعه أخلد إلى الأرض، واتبع هواه مبالغة وتنبيهاً على ما حمله عليه، وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وهذه الآية من أشدّ الآيات على أصحاب العلم، وذلك لأنه بعد أن خص هذا الرجل بآياته، وعلمه الاسم الأعظم وخصه بالدعوات المستجابة لما اتبع الهوى انسلخ من الدين، فصار في درجة الكلب، وذلك يدل على أن كل من كانت نعم الله تعالى في حقه أكثر، فإذا أعرض عن متابعة الهدى، وأقبل على متابعة الهوى كان بعده عن الله أعظم، وإليه الإشارة بقوله: «من ازداد علماً ولم يزدد هدى فلم يزدد من الله إلا بعداً» {فمثله} أي: فصفته التي هي مثل في الخسة {كمثل الكلب} أي: كمثله في أخس أوصافه وهو {إن تحمل عليه} أي: بالطرد والزجر {يلهث} أي: يدلع لسانه {أو} إن {تتركه يلهث} فهو يلهث دائماً سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك، وليس غيره من الحيوان كذلك، قيل: كل شيء يلهث إنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب، فإنه يلهث في حال الكلال والراحة؛ لأنّ اللهث طبيعة أصلية فيه، فكذلك حال من كذب بآيات الله إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال، وكذلك حال الحريص على الدنيا إن وعظته فهو حريص لا يقبل الوعظ ولا ينجع فيه، وإن تركته ولم تعظه فهو حريص أيضاً؛ لأنّ الحرص على طلب الدنيا صار طبيعة له لازمة كما أن اللهث طبيعة لازمة للكلب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «الكلب منقطع الفؤاد يلهث إن حمل عليه أو لم يحمل عليه»، ومحل الجملة الشرطية النصب على الحال كأنه قيل: كمثل الكلب ذليلاً دائم الذلة لاهثاً في الحالتين.
(15/472)
---(1/1165)
وقيل: لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانه فوقع على صدره، وجعل يلهث كما يلهث الكلب {ذلك} أي: المثل {مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا} فعم بهذا المثل جميع من كذب بآيات الله وجحدها، ووجه التمثيل بينهم وبين الكلب اللاهث أنهم إذا جاءتهم الرسل ليهدوهم لم يهتدوا بل هم في ضلال على كل حال {فاقصص القصص} أي: فأخبر يا محمد قومك بهذه الأخبار التي سبقت بها مواقع الوقائع وآثار الأعيان حتى لم تدع في شيء منها لبساً على كل من يسمع لك من اليهود وغيرهم {لعلهم يتفكرون} أي: يتدبرون فيها فيؤمنون.
{ساء} أي: بئس {مثلاً القوم} أي: مثل القوم {الذين كذبوا بآياتنا} أي: بعد قيام الحجة عليها وعلمهم بها {وأنفسهم كانوا يظلمون} أي: كان ذلك في طبعهم جبلة لهم لا يقدر غير الله تعالى على تغييره، وتقديم المفعول به للاختصاص، كأنه قيل: وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدّاها إلى غيرها. وقوله تعالى:
{من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون} تصريح بأن الهدى والضلال من الله تعالى، وأنّ هداية الله تعالى تختص ببعض دون بعض، وأنها مستلزمة للاهتداء، والإفراد في الأوّل والجمع في الثاني باعتبار اللفظ والمعنى، تنبيه على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقتهم بخلاف الضالين، والاقتصار في الإخبار عمن هدى الله بالمهتدي تعظيم لشأن الاهتداء، وتنبيه على أنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم لو لم يحصل له غيره لكفاه، وأنه المستلزم للقول بالنعم الآجلة والعنوان له.
(15/473)
---
أي: خلقنا {لجهنم كثيراً من الجنّ والإنس} أخبر الله تعالى أنه خلق كثيراً من الجنّ والإنس للنار، وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة، ومن خلقه الله تعالى للنار فلا حيلة له في الخلاص منها.
(15/474)
---(1/1166)
روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبيّ من الأنصار فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء، ولم يدركه، فقال: أو غير ذلك يا عائشة إنّ الله خلق الجنة، وخلق لها أهلاً، وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً، وهم في أصلاب آبائهم» أخرجه مسلم.
قال النووي في «شرح مسلم»: أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أنّ من مات من أطفال المسلمين فهو في الجنة؛ لأنه ليس مكلفاً، وتوقف فيه من لا يعتد به لهذا الحديث، وأجاب العلماء عنه بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله نهانا عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عنها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص قوله: أعطه فإني لأراه مؤمناً، فقال: أو مسلماً، قال بعضهم: ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قاله قبل أن يعلم أنّ أطفال المسلمين في الجنة، فلما علم ذلك أخبر به، قال:
وأما أطفال المشركين، ففيهم ثلاثة مذاهب، قال الأكثرون: هم في النار تبعاً لآبائهم، وتوقف طائفة منهم، والثالث وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون: أنهم من أهل الجنة، واستدلوا بأشياء منها حديث «إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجنة، وحوله أولاد الناس، قالوا: يا رسول الله وأولاد المشركين، قال: وأولاد المشركين» رواه البخاري في صحيحه ومنها قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} (الإسراء، 15)
ولا يتوجه على المولود التكليف، ولا يلزمه قبول قول المرسل حتى يبلغ، وهذا متفق عليه.
(15/475)
---(1/1167)
وفي الآية دليل وحجة واضحة لمذهب أهل السنة في أن الله تعالى خالق أفعال العباد جميعها خيرها وشرّها؛ لأنه تعالى بين باللفظ الصريح أنه خلق كثيراً من الجنّ والإنس للنار، ولا مزيد على بيان الله تعالى؛ ولأن العاقل لا يختار لنفسه دخول النار، فلما عمل بما يوجب عليه دخول النار به علم أنّ له من يضطرّه إلى ذلك العمل الموجب لدخول النار وهو الله تعالى.
وقالت المعتزلة: إن اللام في قوله: {لجهنم}، لام العاقبة، واستدلوا لذلك بآيات وأشعار، فمن الآيات قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً} (القصص، 8)
وهم ما التقطوه لهذا الغرض، ومنها قول موسى: {ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك} (يونس، 88)
ومن الأشعار قول بعضهم:
*وللموت تغذ و الوالدات سخالها ** كما لخراب الدهر تبنى المساكن*
وقال آخر:
*أموالنا لذوي الميراث نجمعها ** ودورنا لخراب الدهر نبنيها*
وقال آخر:
*له ملك ينادي كل يوم ** لدوا للموت وابنوا للخراب*
وقال آخر:
*وأمّ شمال فلا تجزعي ** فللموت ما تلد الوالدات*
(15/476)
---(1/1168)
وهذا مردود؛ لأنّ المصير إلى التأويل إنما يحسن إذا ثبت الدليل العقلي على امتناع حمل اللفظ على ظاهره، فإذا لم يثبت كان المصير إلى التأويل في هذا المقام عبثاً، فالحق مذهب أهل الحق جعلنا الله تعالى وأهل مودّتنا منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وآله، ثم وصف الله تعالى هؤلاء الذين أضلهم بقوله تعالى: {لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها} أي: لا يبصرون بها طريق الحق والهدى {ولهم آذان لا يسمعون بها} أي: الآيات والمواعظ سماع تأمّل وتذكر، وقال أهل المعاني: إنّ الكفار لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلقة بالدنيا، ولهم أعين يبصرون بها المرئيات، وآذان يسمعون بها الكلمات، وهذا لا شك فيه، ولما وصفهم الله تعالى بأنهم لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون مع وجود هذه الحواس الدرّاكة علم أنّ المراد من ذلك يرجع إلى مصالح الدين، وما فيه نفعهم في الآخرة، والعرب تقول مثل ذلك لمن ترك استعمال بعض جوارحه فيما لا يصلح له، ومنه قوله الشاعر:
*وعوراء الكلام صممت عنها ** وإني إن أشاء بها سميع*
(15/477)
---(1/1169)
فإنه أثبت له صمماً مع وجود السمع ولما سلب عنهم هذه المعاني كانت النتيجة {أولئك} أي: البعداء من المعاني الإنسانية {كالأنعام} في أنها لا تفهم ولا تعقل ذلك؛ لأنّ الإنسان وسائر الحيوانات مشتركة في هذه الحواس الثلاث التي هي القلب والبصر والسمع، وإنما فضل الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل والإدراك والفهم المؤدّي إلى معرفة الحق من الباطل والخير من الشرّ، فإذا كان الكافر لا يعرف ذلك ولا يدركه كان لا فرق بينه وبين البهائم التي لا تدرك شيئاً، ولما كانوا قد زادوا على ذلك بفقد نفع هذه الحواس قال تعالى: {بل هم أضلّ} سبيلاً من الأنعام؛ لأنّ الأنعام تعرف ما يضرّها وما ينفعها، فإذا رأت ناراً مثلاً لا تقع فيها، وإذا رأت كلأ مثلاً دخلت فيه، والكافر لا يعرف ذلك؛ ولأنّ الحيوان لا قدرة له على تحصيل هذه الفضائل؛ والإنسان أعطي القدرة على تحصيلها، ومن أعرض عن اكتساب الفضائل العظيمة مع القدرة على تحصيلها كان أخس حالاً ممن لم يكتسبها مع العجز عنها؛ ولأنّ الأنعام مطيعة لله تعالى، والكافر غير مطيع، ولأنّ الأنعام تعرف ربها وتذكره، وهم لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه؛ ولأنها تضل إذا لم يكن معها مرشد، فأما إذا كان معها مرشد فقل أن تضل، وهؤلاء الكفار قد جاءهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتب، وهم يزدادون في الضلالة.
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {أولئك هم الغافلون} قال عطاء: عما أعدّ الله تعالى لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب.
{و الأسماء الحسنى} ذكر ذلك في أربع سور أوّلها هذه السورة، وثانيها في آخر سورة بني إسرائيل في قوله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعو فله الأسماء الحسنى} (الإسراء، 110)
وثالثها في أوّل طه وهو قوله تعالى: {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} (طه، 8)
ورابعها في آخر الحشر في قوله تعالى: {هو الله الخالق البارىء المصوّر له الأسماء الحسنى} (الحشر، 24)
(15/478)
---(1/1170)
والحسنى مؤنث الأحسن كالكبرى والصغرى {فادعوه بها} أي: فسموه بتلك الصفات، وللدعاء شروط منها أن يعرف الداعي معاني الأسماء التي يدعو بها، ومنها أن يستحضر في قلبه عظمة المدعو سبحانه وتعالى، ومنها أن يخلص إليه في دعائه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ لله تسعة وتسعين اسماً مئة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة إنه وتر يحب الوتر» وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «يا الله يا رحمن» فقال المشركون: إنّ محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا يدعو اثنين فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والأسماء الحسنى كما في الحديث «الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارىء المصوّر الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذلّ السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العليّ الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القويّ المتين الوليّ الحميد المحصي المبدىء المعيد المحيي المميت الحيّ القيوم الواجد الماجد الواحد الأحد الفرد الصمد القادر المقتدر المقدّم المؤخر الأوّل الآخر الظاهر الباطن الوال المتعال البرّ التوّاب المنتقم العفوّ الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغنيّ المغني المانع الضارّ النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور»، رواه الترمذي.
(15/479)
---(1/1171)
قال النووي: اتفق العلماء على أنّ هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه تعالى وليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وقوله: «من أحصاها دخل الجنة» المراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء، ولهذا جاء في حديث آخر: «أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن العربي المالكي عن بعضهم: «إنّ لله تعالى ألف اسم» قال ابن العربي: وهذا قليل وقوله صلى الله عليه وسلم «من أحصاها دخل الجنة» قال البخاري: من حفظها، وهو قول أكثر المحققين، وتعضده الرواية الأخرى من حفظها دخل الجنة، وقيل: من أحضر بباله عند ذكرها معناها وتفكر في مدلولها، وقوله صلى الله عليه وسلم «إنّ الله وتر يحب الوتر» الوتر الفرد، ومعناه في وصف الله تعالى: الواحد الذي لا شريك له ولا نظير واختلفوا هل الاسم الأعظم الله أو الحيّ القيوم وهل الاسم عين المسمى أو غيره؟ وفي ذلك خلاف، وقد حققت ذلك في مقدمتي على البسملة والحمدلة {وذروا} أي: اتركوا {الذين يلحدون} أي: يميلون عن الحق {في أسمائه} أي: حيث اشتقوا منها أسماء لآلهتهم كاللات من الله والعزى من العزيز، ومنات من المنان، وقال أهل المعاني: الإلحاد في أسمائه تعالى هو أن تسميه بما لم يسم الله به نفسه، ولم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة؛ لأن أسماءه تعالى كلها توقيفية فيجوز أن يقال: يا جواد، ولا يجوز أن يقال: يا سخي، ويجوز أن يقال: يا عالم، ولا يجوز أن يقال: يا عاقل، ويجوز أن يقال: يا حكيم، ولا يجوز أن يقال: يا طبيب {سيجزون} أي: في الدنيا والآخرة {ما كانوا يعملون} في هذا وعيد شديد لمن ألحد في أسمائه تعالى وهذا قبل الأمر بالقتال، وقرأ حمزة: «يَلحَدون» بفتح الياء والحاء من لحد، والباقون بضم الياء وكسر الحاء من ألحد.
(15/480)
---(1/1172)
ولما ذكر سبحانه وتعالى إنه خلق للنار طائفة ضالين مضلين ملحدين عن الحق ذكر أنه خلق للجنة أمة هادين في الحق عادلين في الأمر بقوله تعالى:
{وممن خلقنا أمة} أي: جماعة {يهدون بالحق وبه} أي: بالحق خاصة {يعدلون} أي: يجعلون الأمور متعادلة لا زيادة في شيء منها على ما ينبغي ولا نقص؛ لأنا وفقناهم فكشفنا عن أبصارهم حجاب الغفلة التي ألزمناها أولئك، واستدل بذلك على صحة الإجماع؛ لأنّ المراد منه إنّ في كلّ قرن طائفة بهذه الصفة، وأكثر المفسرين إنهم أمّة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تزال من أمتي طائفة على الحق إلى أن يأتي أمر الله» رواه الشيخان، وعن معاوية رضي الله تعالى عنه قال وهو يخطب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال من أمّتي أمّة قائمة بأمر الله لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» إذ لو اختص بعهد الرسول أو غيره لم يكن لذكره فائدة فإنه معلوم، وعن الكلبيّ هم الذين آمنوا من أهل الكتاب، وقيل: هم العلماء والدعاة إلى الدين.
{والذين كذبوا بآياتنا} أي: القرآن أو غيره من أهل مكة أو غيرهم {سنستدرجهم} أي: سنستدنيهم إلى الهلاك قليلاً قليلاً، وأصل الاستدراج الاستبعاد والاستنزال درجة بعد درجة {من حيث لا يعلمون} أي: سنأخذهم قليلاً قليلاً من حيث لا يحتسبون، وذلك أنّ الله تعالى يفتح عليهم من النعم ما يغبطون به ويركنون إليه، ثم يأخذهم على غرّة أغفل ما يكونون.
(15/481)
---(1/1173)
وقيل: سنقرّبهم إلى ما يهلكهم ونضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم؛ لأنهم كانوا إذا أتوا بذنب فتح الله تعالى عليهم من أبواب الخير والنعمة في الدنيا، فيزدادوا بذلك تمادياً في الغيّ والضلالة ويتدرجوا في الذنوب والمعاصي بسبب ترادف النعم يظنون أن تواتر النعم يقرب من الله تعالى، وإنما هي خذلان منه وتبعيد، فهو استدراج الله تعالى فيأخذهم الله تعالى أخذة واحدة أغفل ما يكونون عليه، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حمل إليه كنوز كسرى قال: اللهمّ إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً فإني سمعتك تقول: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}.
{وأملي لهم} أي: أمهلهم وأطيل مدّة أعمارهم ليتمادوا في الكفر والمعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة ولا أفتح لهم باب التوبة {إنّ كيدي} أي: أخذي {متين} أي: شديد وإنما سماه كيداً؛ لأنّ ظاهره إحسان وباطنه خذلان.
{أو لم يتفكروا} فيعلموا {ما بصاحبهم} محمد صلى الله عليه وسلم {من جنة} أي: جنون.
(15/482)
---(1/1174)
روي أنه صلى الله عليه وسلم صعد على الصفا فدعاهم فخذاً فخذاً يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله تعالى فقال قائلهم: إنّ صاحبكم لمجنون بات يهوّت إلى الصباح، فنزلت، ومعنى: يهوّت: يصوّت، يقال: هيت به وهوت به أي: صاح قاله الجوهريّ، وإنما نسبوه إلى الجنون وهو بريء منه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خالفهم في الأقوال والأفعال؛ لأنه كان معرضاً عن الدنيا ولذاتها مقبلاً على الآخرة ونعيمها مشتغلاً بالدعاء إلى الله تعالى وإنذارهم بأسه ونقمته ليلاً ونهاراً من غير ملال ولا ضجر، فعند ذلك نسبوه إلى الجنون، فبرّأه الله تعالى من الجنون بقوله تعالى: {إن} أي: ما {هو إلا نذير مبين} أي: بين الإنذار بحيث لا يخفى على ناظر {أولم ينظروا} أي: نظر اعتبار واستدلال {في ملكوت السموات والأرض} أي: ملكهما البالغ {وما} أي: وفيما {خلق الله من شيء} أي: غيرهما مما يقع عليه الشيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها ليدل لهم على كمال قدرة صانعها ووحدة مبدعها وعظم شأن مالكها ومتولي أمرها؛ ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه، وقوله تعالى: {وأن عسى أن يكون قد اقترب} أي: دنا {أجلهم} عطف على ملكوت، وأن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن وكذا اسم يكون ولا يصح أن تكون أن مصدرية خلافاً للبيضاوي قال التفتازانيّ: لأنّ المصدرية لا تدخل الأفعال غير المتصرّفة التي لا مصادر لها، والمعنى أولم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها، فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مفاجأة الموت ونزول العذاب، فلعل أجلهم قد اقترب فيموتوا على الكفر قبل أن يؤمنوا فيصيروا إلى النار، فيجب على العاقل المبادرة إلى التفكر والاعتبار والنظر المؤدي إلى الفوز والنعيم الدائم {فبأيّ حديث} أي: كتاب {بعده} أي: الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {يؤمنون} أي: يصدّقون، وليس بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبيّ ولا بعد كتابه كتاب؛ لأنه خاتم الأنبياء، وكتابه خاتم(1/1175)
(15/483)
---
الكتب لانقطاع الوحي بعده صلى الله عليه وسلم
فإن قيل: قوله تعالى: {فبأي حديث بعده يؤمنون} يدل على أنّ القرآن حادث كما تمسك به بعض المعتزلة أجيب: من جهة أهل السنة: بأنّ ذلك محمول على الألفاظ من الكلمات ولا نزاع في حداثتها.
ثم ذكر تعالى علة إعراضهم عن الإيمان بقوله تعالى:
{من يضلل الله فلا هادي له} بوجه من الوجوه أي: إنّ إعراض هؤلاء عن الإيمان لإضلال الله إياهم ولو هداهم لآمنوا {ويذرهم} أي: يتركهم {في طغيانهم} أي: ضلالهم وتماديهم في الكفر {يعمهون} أي: يتردّدون متحيرين لا يهتدون سبيلاً، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر: «ونذرهم» بالنون والباقون بالياء، وجزم حمزة والكسائيّ الراء قال سيبويه: إنه عطف على محلّ الفاء وما بعدها من قوله تعالى: {فلا هادي له}؛ لأنّ موضع الفاء وما بعدها جزم لجواب الشرط، ورفعها الباقون استئنافاً، وهو مقطوع عما قبله.
ولما بيّن تعالى التوحيد والنبوّة والقضاء والقدر أتبعه المعاد لتكمل المطالب الأربعة التي هي أمهات مطالب القرآن مبيناً ما اشتمل عليه عامة الكلام من تبلدهم في العمه وتلددهم في أشراك الشبه بقوله تعالى:
h
(15/484)
---(1/1176)
{يسألونك} يا محمد سؤال استهزاء {عن الساعة} أي: عن وقتها، واختلفوا في ذلك السائل، فقال ابن عباس: إنّ قوماً من اليهود قالوا: يا محمد أخبرنا متى تقوم الساعة إن كنت نبياً كما تقول، فإنا نعلم متى هي، فنزلت هذه الآية، وقال الحسن وقتادة: إنّ قريشاً قالوا: يا محمد بيننا وبينك قرابة فاذكر لنا متى الساعة؟ والساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا، وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة، أو لأنّ حساب الخلق يقضي فيها في ساعة واحدة فسميت بالساعة لهذا السبب، أو لأنها على طولها عند الله تعالى كساعة واحدة، وقوله تعالى: {أيان} سؤال استفهام عن الوقت الذي تقوم فيه الساعة ومعناه متى {مرساها} قال ابن عباس منتهاها والمرسى هنا مصدر بمعنى الإرساء كقوله تعالى: {بسم الله مجراها ومرساها} (هود، 41)
أي: إجراؤها وإرساؤها، والإرساء الإثبات يقال: رسا يرسو إذا ثبت قال الله تعالى: {والجبال أرساها} (النازعات، 32)
(15/485)
---(1/1177)
{قل} لهم يا محمد {إنما علمها} أي: متى تكون {عند ربي} أي: لا يعلم الوقت الذي تقوم فيه الساعة إلا الله تعالى استأثر الله تعالى بعلمها، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه، ولهذا لما سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: متى الساعة، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» قال المحققون: والسبب في إخفاء الساعة عن العباد أنهم إذا لم يعلموا متى تكون، كانوا على حذر منها، فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية، ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى فقال: {لا يجليها} أي: يظهرها {لوقتها} أي: في وقتها المعين، فاللام بمعنى في وهو أولى من قول البيضاوي إنها للتأقيت {إلا هو} أي: لا يقدر على إظهار وقتها المعيّن بالإعلام والإخبار إلا هو {ثقلت} أي: عظمت {في السموات والأرض} أي: ثقل أمرها وخفي علمها على أهل السموات والأرض، وكل شيء خفي فهو ثقيل شديد، وقال الحسن: إذا جاءت ثقلت وعظمت على أهل السموات والأرض، وإنما ثقلت عليهم؛ لأنّ فيها فناءهم وموتهم، وذلك ثقيل على القلوب وقوله تعالى: {لا تأتيكم إلا بغتة} تأكيد أيضاً لما تقدّم وتقرير لكونها بحيث لا تجيء إلا فجأة على حين غفلة من الخلق.
(15/486)
---(1/1178)
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة والرجل قد رفع الأكلة إلى فيه فلا يطعمها، ولتقومنّ الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه» اللقحة بفتح اللام وكسرها الناقة القريبة العهد بالنتاج وقوله: يليط حوضه، ويروى: يلوط حوضه أي: يطينه ويصلحه، يقال: لاط حوطه يليطه ويلوطه إذا طينه، والأكلة بضمّ الهمزة اللقمة. وفي رواية «أنّ الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم بسلعته في سوقه، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه»، رواه بمعناه الشيخان. {يسألونك} أي: يسألك قومك عن الساعة {كأنك حفيّ عنها} أي: عالم بها من قولهم: أحفيت في المسألة إذا بالغت في السؤال عنها حتى علمتها، وقيل: الحفي البارّ اللطيف ومنه قوله سبحانه وتعالى: {إنه كان بي حفياً} (مريم، 47)
أي: بارّاً لطيفاً مجيب دعائي إذا دعوته أي: يسألونك كأنك بارّ بهم لطيف العشرة معهم، وهذا قول الحسن ويؤيده ما روي في تفسيره: أنّ قريشاً قالت لمحمد صلى الله عليه وسلم إنّ بيننا وبينك قرابة فاذكر لنا متى الساعة.
والمعنى يسألونك عنها كأنك حفيّ فتحفى بهم أي: فتخصهم لأجل قرابتك بتعليم وقتها، وتروي علمها عن غيرهم ولو أخبرت بوقتها لمصلحة علمها الله تعالى في إخبارك به لكنت مبلغه القريب والغريب من غير تخصيص كسائر ما أوحي إليك.
وقيل: كأنك حفيّ بالسؤال عنها تحبه وتؤثره أي: إنك تكره السؤال عنها؛ لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه ولم يؤته أحداً من خلقه كقوله تعالى: {قل} يا محمد {إنما علمها عند الله} أي: استأثر الله تعالى بعلمها فلا يعلم متى الساعة إلا هو.
(15/487)
---(1/1179)
فإن قيل: قوله تعالى: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها} وقوله تعالى ثانياً: {يسألونك كأنك حفيّ عنها} فيه تكراراً. أجيب: بأنه لا تكرار؛ لأنّ السؤال الأوّل عن وقت قيام الساعة، والثاني عن كنه ثقل الساعة وشدّتها ومهابتها، فلا يلزم التكرار.
وقيل: ذكر الثاني للتأكيد ولما جاء به من زيادة قوله: {كأنك حفيّ عنها} وعلى هذا تكرار العلماء الحذاق في كتبهم لا يحلون المكرر من فائدة، ومنهم محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة رحمهما الله تعالى.
فإن قيل: لم أجاب عن الأوّل بقوله: {إنما علمها عند ربي} وعن الثاني بقوله: {إنما علمها عند الله}؟ أجيب: بأنّ السؤال الأوّل لما كان واقعاً عن وقت قيام الساعة، والثاني كان واقعاً عن مقدار شدّتها ومهابتها عبر عن الجواب فيه بقوله: علم ذلك عند الله؛ لأنه أعظم أسمائه مهابة وعظمة ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بقوله: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أي: لا يعلمون السبب الذي من أجله أخفيت معرفة علم وقت قيامها المغيب عن الخلق، وقيل: لا يعلمون أنّ علمها عند الله وإنه استأثر بعلم ذلك حتى لا يسألوا عنه.
وروي أنّ أهل مكة قالوا: يا محمد ألا تخبرنا بالسعر الرخيصة قبل أن يغلو فنشتريه ونربح فيه عند الغلاء، وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرحل عنها إلى ما قد أخصبت، فأنزل الله تعالى:
(15/488)
---
لهم {لا أملك لنفسي نفعاً} اجتلاب نفع بأن أربح فيما أشتريه {ولا ضرّاً} أي: ولا أقدر أدفع عن نفسي ضرّاً نزل بها بأن أرتحل إلى الأرض الخصبة أو من الأرض الجدبة {إلا ما شاء الله} من ذلك فيلهمني إياه ويوفقني له.
(15/489)
---(1/1180)
وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة بني المصطلق عصفت ريح في الطريق ففرّت الدواب منها فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بموت رفاعة بالمدينة، وكان فيها غيظ للمنافقين وقال صلى الله عليه وسلم «انظروا أين ناقتي» فقال عبد الله بن أبيّ المنافق مع قومه: ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت الرجل بالمدينة ولم يعرف أين ناقته؟ فقال صلى الله عليه وسلم إنّ ناساً من المنافقين قالوا: كيت وكيت، وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة فوجدوها على ما قال صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية {ولو كنت} أي: من ذاتي {أعلم الغيب} أي: جنسه {لاستكثرت} أي: أوجدت لنفسي كثيراً {من الخير وما مسني السوء} أي: ولو كنت أعلمه لخالفت حالي ما هي عليه من استكثار المنافع، ويدخل فيه ما يتصل بالخصب واجتناب المضارّ حتى لا يمسني سوء {إن} أي: ما {أنا إلا نذير} بالنار للكافرين {وبشير} بالجنة {لقوم يؤمنون} أي: يصدّقون، وقيل: لقوم يؤمنون متعلق بنذير وبشير؛ لأنهم المنتفعون بهما {هو الذي خلقكم} أي: ولم تكونوا شيئاً {من نفس واحدة} أي: خلقها ابتداء من تراب، وهي آدم عليه السلام {وجعل منها} أي: من جسدها من ضلع من أضلاعها، وقيل: من جنسها لقوله تعالى: {جعل لكم من أنفسكم أزواجاً} (الشورى، 11)
(15/490)
---(1/1181)
{زوجها} أي: حوّاء، قالوا: والحكمة في كونها خلقت منه أنّ الجنس إلى الجنس أميل والجنسية علة الضمّ {ليسكن إليها} أي: ليأنس بها ويطمئن إليها إطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه، وإنما ذكر الضمير في يسكن بعد أن أنث في قوله تعالى: {من نفس واحدة} ذهاباً إلى معنى النفس ليناسب تذكير الضمير في قوله تعالى: {فلما تغشاها} أي: جامعها، ولئلا يوهم لو أنثه نسبة السكون إلى الأنثى، والأمر بخلافه إزالة لاستيحاشه، فكانت نسبة المؤانسة إليه أولى {حملت حملاً خفيفاً} أي: خف عليها ولم تلق منه ما يلقى الحوامل غالباً من الأذى، أو محمولاً خفيفاً وهو النطفة {فمرّت به} أي: فعالجت به أعمالها وقامت وقعدت ولم يعقها عن شيء من ذلك لخفته {فلما أثقلت} أي: صارت ذا ثقل بكبر الولد في بطنها {دعوا الله} أي: آدم وحوّاء عليهما السلام {ربهما} مقسمين {لئن آتيتنا صالحاً} أي: ولداً سوياً لا عيب فيه {لنكونن من الشاكرين} أي: نحن وأولادنا على نعمتك علينا، وذلك أنهما جوّزا أن يكون غير سوي لقدرة الله تعالى على كل ما يريد لأنه الفاعل المختار.
فائدة: اتفق القراء على إدغام تاء التأنيث الساكنة في الدال.
{فلما آتاهما صالحاً} أي: جنس الولد الصالح في تمام الخلق بدناً وقوّة وعقلاً، فكثروا في الأرض وانتشروا في نواحيها ذكوراً وإناثاً {جعلا} أي: النوعان من أولادهما الذكور والإناث؛ لأنّ صالحاً صفة للولد وهو الجنس، فيشمل الذكر والأنثى والقليل والكثير، فكأنه قيل: فلما آتاهما أولاداً صالحي الخلقة من الذكور والإناث جعل النوعان {له شركاء} أي: بعضهم أصناماً وبعضهم ناراً وبعضهم شمساً وبعضهم غير ذلك، وقيل: جعل أولادهما له شركاء {فيما آتاهما} أي: فيما آتى أولادهما فسموه عبد العزى وعبد مناف على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ويدل عليه قوله تعالى: {فتعالى الله عما يشركون}.
{أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون} أي: الأصنام.
(15/491)
---(1/1182)
فإن قيل: كيف وحد {يخلق}، ثم جمع فقال: {وهم يخلقون}؟ أجيب: بأنّ لفظ ما يقع على الواحد والاثنين والجمع، فوحد بحسب ظاهر اللفظ، وجمع باعتبار المعنى.
فإن قيل: كيف جمع الواو والنون لمن لا يعقل وهو جمع من يعقل من الناس؟ أجيب: بأنه لما اعتقد عابدوا الأصنام أنها تعقل وتميز ورد هذا الجمع على ما يعتقدونه، وقيل: لما حملت حوّاء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها: ما يدريك ما في بطنك؟ ولعله بهيمة أو كلب وما يدريك من أين يخرج؟ فخافت من ذلك وذكرت لآدم فهُمّا منه، وهو بضمّ الهاء وتشديد الميم من الهم وهو هنا الحزن، ثم عاد إليها وقال: إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله على أن يجعله خلقاً مثلك، ويسهل عليك خروجه فسميه عبد الحرث، وكان اسم إبليس حارثاً في الملائكة، ففعلت ولما ولدته سمته عبد الحرث.
فإن قيل: قد قال البيضاويّ: وأمثال ذلك لا تليق بالأنبياء، ويحتمل أن يكون الخطاب في خلقكم لآل قصيّ من قريش، فإنهم خلقوا من نفس قصيّ وكان له زوج من جنسها عربية قرشية فطلبا من الله تعالى الولد فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم عبد شمس وعبد مناف وعبد قصيّ وعبد الدار، ويكون الضمير في يشركون لهما ولأعقابهما المقتدين بهما اه أجيب: بأنه نظر في ذلك إلى الظاهر وإلا فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال: سميه عبد الحرث فإنه يعيش، فسمته فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره» رواه الحاكم وقال: صحيح، والترمذيّ وقال حسن غريب.
(15/492)
---(1/1183)
وروي عن ابن عباس أنه قال: كانت حواء تلد لآدم فتسميه: عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس فقال: إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحرث، فسمياه فعاش، وجاء في حديث «خدعهما إبليس مرتين: مرّة في الجنة ومرّة في الأرض»، وهو قول كثير كمجاهد وسعيد بن المسيب وهذا كما قال البغويّ: ليس إشراكاً في العبادة، ولا أنّ الحرث ربهما فإنّ آدم كان نبياً معصوماً من الشرك ولكن قصد إلى أنّ الحرث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمّه، وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به إنه مملوك كما يطلق اسم الرب على من لا يراد به أنه معبود هذا كالرجل إذا نزل به ضيف يسمي نفسه عبد الضيف على وجه الخضوع لا على وجه أنّ الضيف يملكه قال الشاعر:
*وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً ** ولا شيمة لي بعدها تشبه العبدا*
وتقول للغير: أنا عبدك، قال الرازي: ورأيت بعض الأفاضل كتب على عنوان عبد ودود فلان، وقال يوسف عليه السلام لعزيز مصر: {إنه ربي} (يوسف، 23)
ولم يرد به معبوده كذلك هذا فقوله تعالى: {فتعالى الله عما يشركون} ابتداء كلام، وأريد به إشراك أهل مكة، وقرأ نافع وشعبة: «شركاً» بكسر الشين وسكون الراء وألف منونة بعد الكاف في الوصل وفي الوقف بغير تنوين أي: شركة، والباقون بضمّ الشين وفتح الراء وبعد الكاف ألف بعدها همزة مفتوحة.
فإن قيل: المطاع إبليس فكيف يعير بالجمع؟ أجيب: بأنّ من أطاع إبليس فقد أطاع جميع الشياطين، هذا إن حملت هذه الآية على القصة المشهورة، أمّا إذا لم نقل به فلا حاجة إلى التأويل.
(15/493)
---(1/1184)
{ولا يستطيعون} أي: الأصنام {لهم} أي: لعابديهم {نصراً} أي: لا تقدر على النصر لمن أطاعها أو عبدها، ولا تضر من عصاها، والمعبود الذي تجب عبادته يكون قادراً على إيصال النفع والضر، وهذه الأصنام ليست كذلك، فكيف يليق بالعاقل أن يعبدها؟ {ولا أنفسهم ينصرون} أي: وهي لا تقدر أن تدفع عن نفسها مكروهاً، فإنّ من أراد كسرها قدر عليه، وهي لا تقدر على دفعه عنها. والاستفهام للتوبيخ.
ثم خاطب المؤمنين بقوله تعالى: {وإن تدعوهم} أي: المشركين {إلى الهدى} أي: إلى الإسلام {لا يتبعوكم} أي: لأنّ الله تعالى حكم عليهم بالضلالة فلا يقبلوا الهداية، وقرأ نافع بسكون التاء وفتح الباء الموحدة، والباقون بفتح التاء مشدّدة وكسر الباء الموحدة {سواء عليكم أدعوتموهم} إلى الهدى {أم أنتم صامتون} أي: ساكتون عن دعائهم، فهم في كلا الحالتين لا يؤمنون.
وقيل: الضمير في تدعوهم للأصنام أي: إنّ هذه الأصنام التي يعبدها المشركون معلوم من حالها أنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تسمع من دعاها إلى خير وهدى، وذلك أنّ المشركين كانوا إذا وقعوا في شدّة وبلاء تضرّعوا إلى أصنامهم، وإذا لم يكن لهم إلى الأصنام حاجة سكتوا فقيل لهم: لا فرق بين دعائكم إلى الأصنام وسكوتكم عنها، فإنها عاجزة في كل حال.
{إنّ الذين تدعون} أي: تعبدون {من دون الله عباد} أي: مملوكة {أمثالكم} فهي لا تملك ضرّاً ولا نفعاً.
(15/494)
---(1/1185)
فإن قيل: كيف وصفها بأنها عباد مع أنها جماد؟ أجيب: بأنّ المشركين لما ادّعوا أنّ الأصنام تضرّ وتنفع وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة فاهمة، فوردت هذه الألفاظ على وفق معتقدهم تبكيتاً لهم وتوبيخاً ولذلك قال: {فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين} في كونها آلهة، ولم يقل: فادعوهنّ فليستجبن، وقال: {إنّ الذين}، ولم يقل: التي، وبأنّ هذا اللفظ إنما ورد في معرض الاستهزاء بالمشركين؛ لأنهم لما نحتوها بصورة الإناسي قال لهم: إن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم، فلا يستحقون عبادتكم كما إنه لا يستحق بعضكم عبادة بعض، فلم جعلتم أنفسكم عبيداً، وجعلتموها آلهة وأرباباً.
ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالكم بقوله تعالى:
{ألهم أرجل يمشون بها أم} أي: بل الله {لهم أيد يبطشون بها أم} أي: بل الله {لهم أعين يبصرون بها أم} أي: بل الله {لهم آذان يسمعون بها} وهذا الاستفهام إنكاري أي: ليس لهم شيء من ذلك مما هو لكم، فكيف تعبدونهم وأنتم أتم حالاً منهم؟ إذ لا يليق بالإنسان العاقل أن يشتغل بعبادة الأخس الأدون الأرذل، ونظير هذا قول إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه: {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً} (مريم، 42)
وقد تعلق بعض الجهال بهذه الآية في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى، فقال: إنّ الله تعالى جعل عدم هذه الأعضاء لهذه الأصنام دليلاً على عدم إلهيتها، فلو لم تكن هذه الأعضاء موجودة لله لكان عدمها دليلاً على عدم الإلهية، وذلك باطل فوجب القول بإثبات هذه الأعضاء لله تعالى.
(15/495)
---(1/1186)
أجيب: بأن المقصود من هذه الآية بيان أنّ الإنسان أفضل وأحسن حالاً من الصنم؛ لأنّ الإنسان له رجل ماشية ويد باطشة وعين باصرة وأذن سامعة، والصنم رجله غير ماشية ويده غير باطشة وعينه غير مبصرة وأذنه غير سامعة، فكان الإنسان أفضل وأكمل حالاً من الصنم، فاشتغال الأفضل الأكمل بحال الأخس ألادون جهل، فهذا هو المقصود من ذكر هذا الكلام لا ما ذهب إليه وهم هؤلاء الجهال {قل ادعوا} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: ادعوا {شركاءكم} أي: إلى هلاكي {ثم كيدون} قال الحسن: كانوا يخوّفونه صلى الله عليه وسلم بآلهتهم فقال الله تعالى له: قل لهم ادعوا شركاءكم ثم كيدون أي: ليظهر لكم أنها لا قدرة لها على إيصال المضارّ إليّ بوجه.
وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، وهشام له فيها وجهان: الإثبات والحذف، وصلاً ووقفاً، والباقون يحذفونها وصلاً ووقفاً. ثم تهكم عليهم صلى الله عليه وسلم بقوله: {فلا تنظرون} أي: فأعجلوا في كيدي أنتم وشركاؤكم، فإنكم لا تقدرون على ذلك، وعلل عدم قدرتهم على ذلك بقوله:
(15/496)
---(1/1187)
{إنّ وليي الله} الذي يتولى حفظي ونصري هو الله {الذي نزل الكتاب} المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة في الدين وهو القرآن {وهو} أي: الله سبحانه {يتولى الصالحين} أي: بنصره وحفظه، فلا يضرهم عداوة من عاداهم، قال ابن عباس: يريد بالصالحين الذين لا يعدلون بالله شيئاً ولا يعصونه، فمن عادته تعالى أن يتولى الصالحين من عباده فضلاً عن أنبيائه وفي هذا مدح للصالحين، وأنّ من تولاه الله تعالى بحفظه لا يضره شيء، وعن عمر بن عبد العزيز أنه ما كان يدخر لأولاده شيئاً، فقيل له فيه، فقال: ولدي إما أن يكون من الصالحين أو من المجرمين، فإن كان من الصالحين فوليه هو الله تعالى، ومن كان الله تعالى له ولياً فلا حاجة له إلى مالي، وإن كان من المجرمين فقد قال الله تعالى: {فلن أكون ظهيراً للمجرمين} ومن رده الله تعالى لم أكن مشتغلاً بمهماته {والذين تدعون من دونه} أي: الله {لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون} أي: فكيف أبالي بهم؟
فإن قيل: هذه الأشياء قد صارت مذكورة في الآيات المتقدّمة فما الفائدة في تكريرها؟ أجيب: بأنّ الأوّل مذكور على جهة التقريع، وهذا مذكور على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وبين من لا تجوز كأنه قيل: الإله المعبود يجب أن يكون بحيث يتولى الصالحين، وهذه الأصنام ليست كذلك، فلا تكون صالحة للإلهية {وإن تدعوهم} أي: الأصنام {إلى الهدى لا يسمعوا} دعاءكم {وتراهم} يا محمد {ينظرون إليك} أي: يقابلونك كالناظر {وهم لا يبصرون} لأنهم صوّروا بصورة من ينظر إلى من يواجهه، وقال الحسن: المراد بهذا المشركون، ومعناه إن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الهدى لا يسمعوا دعاءكم؛ لأنّ آذانهم قد صمت عن سماع الحق وتراهم ينظرون إليك يا محمد وهم لا يبصرون أي: ببصائر قلوبهم.
(15/498)
---(1/1188)
ولما بيّن تعالى أن الله هو الذي يتولاه، وإنّ الأصنام وعابديها لا يقدرون على الإيذاء والإضرار بين ما هو المنهج القويم والصراط المستقيم في معاملة الناس بقوله تعالى: {خذ العفو} أي: اقبل الميسور من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسّس وذلك مثل قبول الاعتذار، ويدخل في ذلك ترك التشديد في كل ما يتعلق بالحقوق المالية، ويدخل فيه أيضاً التخلق مع الناس بالخلق الطيب وترك الغلظة والفظاظة، قال تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران، 159)
وقال صلى الله عليه وسلم «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» وقال الشاعر:
*خذي العفو مني تستديمي مودّتي ** ولا تنطقي في سورتي حين أغضب*
وقال عكرمة: لما نزلت هذه الآية: قال عليه الصلاة والسلام: يا جبريل ما هذا؟ قال: لا أدري حتى أسأل، ثم رجع فقال: «إنّ الله تعالى يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك» {وأمر بالعرف} أي: بالمعروف قال عطاء: بلا إله إلا الله {وأعرض عن الجاهلين} أي: فلا تقابلهم بالسفه، وذلك مثل قوله تعالى: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} (الفرقان، 63)
وذلك سلام المتاركة، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً ولا سخاباً في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح»، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله بعثني بمكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال».h
قال أبو زيد لما نزل قوله تعالى: {وأعرض عن الجاهلين} قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «كيف يا رب والغضب» فنزل {وإما} فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة {ينزغنك من الشيطان نزغ} أي: وسوسة وقوله تعالى: {فاستعذ} أي: فاستنجد {با} جواب الشرط وجواب الأمر محذوف أي: يدفعه عنك.
(15/499)
---(1/1189)
تنبيه: احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية، وقالوا: لولا أنه يجوز من النبي الإقدام على المعصية والذنب لم يحتج إلى الاستعاذة، وأجيب عن ذلك بأجوبة: الأول إنّ معنى هذا الكلام إن حصل في قلبك نزغ فاستعذ بالله كما أنه تعالى قال: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر، 65)
ولم يدل ذلك على أنه أشرك الثاني على تقدير أنه لو حصل وسوسة من الشيطان لكن الله تعالى قد عصم قلب نبيه صلى الله عليه وسلم من قبولها وثباتها في قلبه وإنما القادح لو قبل صلى الله عليه وسلم وسوسة والآية لا تدل على ذلك.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من إنسان إلا ومعه شيطان» وفي رواية: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة» قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: «وإياي إلا أنّ الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» وفي رواية: «لكنه أسلم بعون الله فلقد أتاني فأخذت بحلقه ولولا دعوة سليمان لأصبح في المسجد طريحاً» قال النووي: يروى بفتح الميم وضمها فمن ضمها معناه فأسلم أنا من شره وفتنته ومن فتحها قال معناه: إنّ القرين أسلم أي: صار مسلماً فلا يأمرني إلا بخير الثالث: أنّ الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره أي: وإما ينزغنك أيها الإنسان من الشيطان نزغ فاستعذ بالله كقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ با} (النحل، 98)
{إنه سميع}للقول {عليم} بالفعل، وفي الآية دليل على أنّ الاستعاذة باللسان لا تفيد إلا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة فكأنه تعالى قال: اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك فإني سميع واستحضر معنى الاستعاذة بعقلك وقلبك فإني عليم بما في ضميرك وفي الحقيقة القول اللساني بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر {إنّ الذين اتقوا إذا مسهم} أي: أصابهم {طيف} أي: شيء ألمّ بهم {من الشيطان تذكروا} عقاب الله وثوابه {فإذا هم مبصرون} الحق من غيره، فيرجعون.
(15/500)
---(1/1190)
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بياء ساكنة بعد الطاء والباقون بألف بعد الطاء بعدها همزة مكسورة {وإخوانهم} أي: وإخوان الشياطين من الكفار {يمدّونهم} أي: يمدّهم الشياطين {في الغيّ} أي: يزيدونهم في الضلالة بالتزيين والحمل عليها {ثم لا يقصرون} أي: لا يكفون عن الضلالة ولا يتركونها، وهذا بخلاف حال المؤمنين المتقين؛ لأنّ المؤمن إذا أصابه طيف من الشيطان تذكر وعرف ذلك فنزع عنه وتاب واستغفر، والكافر مستمرّ في ضلاله لا يتذكر ولا يرعوي {وإذا لم تأتهم} أي: أهل مكة {بآية} أي: مما اقترحوها كقولهم: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} (الإسراء، 90)
{قالوا لولا اجتبيتها} أي: هلا تقولتها من عند نفسك كسائر ما تقرؤه، فإنهم كانوا يقولون: إنّ هذا الإفك مفترى، تقول العرب: اجتبيت الكلام اختلقته وافتعلته وأنشأته من عندك، وهلا طلبتها من ربك منزلة عليك مقترحة؟ قال الله تعالى: {قل}: يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوا الآيات {إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي} أي: ليس لي أن أقترح على ربي في أمر من الأمور إنما أنتظر الوحي، فكل شيء أكرمني به قلته، وإلا فالواجب السكوت وترك الاقتراح.
ثم بيّن أن عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها لا يقدح في الغرض؛ لأن ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة بالغة باهرة، فإذا ظهرت هذه المعجزة الواحدة كانت كافية في تصحيح النبوة، فكان طلب الزيادة من باب التعنت، فذكر في وصف القرآن ألفاظاً ثلاثة أوّلها قوله: {هذا بصائر من ربكم} أي: هذا القرآن فيه حجة وبرهان، وأصل البصائر الأبصار وهو ظهور الشيء حتى يبصره الإنسان، ولما كان القرآن سبباً لبصائر العقول في دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد أطلق عليه لفظ البصيرة فهو من باب تسمية السبب باسم المسبب.
وثانيها: {وهدى} أي: وهو هدى.
وثالثها: {ورحمة} أي: وهو رحمة {لقوم يؤمنون}.
(16/1)
---(1/1191)
فإن قيل: ما الفرق بين هذه المراتب الثلاث؟ أجيب: بأنهم متفاوتون في درجات العلوم، فمنهم من بلغ الغاية في علم التوحيد حتى صار كالمشاهد، وهم أصحاب عين اليقين، ومنهم من بلغ درجة الاستدلال والنظر، وهم أصحاب علم اليقين، ومنهم المسلم المستسلم وهم عامة المؤمنين، وهم أصحاب حق اليقين، فالقرآن في حق القسم الأوّل، وهم السابقون بصائر، وفي حق القسم الثاني وهم المستدلون هدى، وفي حق القسم الثالث وهم عامة المؤمنين رحمة.
{وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} أي: عن الكلام {لعلكم ترحمون} أي: لكي يرحمكم ربكم باتباعكم ما أمرتم به من أوامره، واختلفوا في سبب نزول هذه الآية فذهب قوم إلى أنها نزلت في الصلاة كانوا يتكلمون فيها فأمروا باستماع قراءة الإمام والإنصات.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأمروا بالسكوت والاستماع إلى قراءة القرآن، وقال قوم: نزلت في ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام.
وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في رفع الأصعات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وقال الكلبي: كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار، وعن ابن مسعود أنه سمع ناساً يقرؤون مع الإمام فلما انصرفوا قال: أما آن لكم أن تفقهوا وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا كما أمركم الله، وهو قول الحسن والزهري: إن الآية نزلت في القرآن في الصلاة.
(16/2)
---(1/1192)
وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد إنّ الآية نزلت في الخطبة أمروا بالإنصات لخطبة الإمام يوم الجمعة، وقال عمر بن عبد العزيز: الإنصات لكل واعظ، وقيل: معناه وإذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له وأنصتوا، وقيل: معنى فاستمعوا له فاعملوا بما فيه ولا تجاوزوه، قال البغوي: والأوّل أولاها وهو أنها في القراءة في الصلاة لأنّ الآية مكية والجمعة وجبت بالمدينة، قال البيضاوي: وظاهر اللفظ يقتضي وجوبهما حيث يقرأ القرآن مطلقاً وعامة العلماء على استحبابهما خارج الصلاة واحتج به من لا يرى وجوب القراءة على المأموم وهو ضعيف، اه. أي: مردود بخبر الصحيحين: «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» وقوله تعالى:
{واذكر ربك في نفسك} عام في الأذكار من القراءة والدعاء وغيرهما، والمراد بالذكر في النفس أن يستحضر في قلبه عظمة الله تعالى جل جلاله؛ لأنّ الذكر باللسان إذا كان عارياً عن ذكر القلب كان عديم الفائدة؛ لأنّ فائدة الذكر حضور القلب وإشعاره عظمة المذكور تعالى، قال الرازي: سمعت بعض الأكابر من أصحاب القلوب كان إذا أراد أن يأمر واحداً من المريدين بالخلوة والذكر أمره أربعين يوماً بالخلوة والتصفية، ثم عند استكمال هذه المدّة وحصول التصفية الكاملة يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين، ويقول للمريد: اعتبر حال قلبك عند سماع هذه الأسماء، فكل اسم وجدت قلبك عند سماعه قوي تأثره وعظم تشوّقه، فاعلم أنّ الله تعالى إنما يفتح أبواب المكاشفات عليك بواسطة المواظبة على ذكر ذلك الاسم بعينه، وهذا طريق حسن لطيف في هذا الباب، اه.
وقيل: ذلك أمر للمأموم بالقراءة سراً بعد فراغ الإمام من قراءة الفاتحة كما هو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى {تضرعاً} أي: تذللاً {وخيفة} أي: خوفاً منه.
(16/3)
---(1/1193)
فائدة: إنما قال تعالى: {واذكر ربك} ولم يقل: واذكر إلهك ولا غيره من الأسماء وإنما سماه في هذا المقام باسم كونه رباً، وأضاف نفسه إليه، وكل ذلك يدل على نهاية الرحمة والتقريب والفضل والإحسان، والمقصود منه أن يصير العبد فرحاً مسروراً مبتهجاً عند سماع هذا الاسم، لأنّ لفظ الرب مشعر بالتربية والفضل، وعند سماع هذا الاسم يتذكر العبد أقسام إنعام الله تعالى عليه، وبالحقيقة لا يصل عقله إلى أقل أقسامه كما قال تعالى: {وإن تعدوا نعم الله لا تحصوها} (إبراهيم، 34)
فعند انكشاف هذا المقام في القلب يقوى الرجاء، فإذا سمع بعد ذلك قوله: {تضرعاً وخيفة} عظم الخوف وحينئذٍ يحصل في القلب موجبات الرجاء وموجبات الخوف، وعنده يكمل الإيمان كما قال عليه الصلاة والسلام: «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا» وهذا جرى عليه بعضهم في حالة الصحة، فيكون الخوف والرجاء مستويان.
(16/4)
---(1/1194)
والذي جرى عليه الغزالي وهو التحقيق أنه إن قوي رجاؤه يقوى جانب الخوف والعكس بالعكس، وأما حال المرض فيكون جانب الرجاء أرجح، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال: «كيف تجدك»؟ قال: أرجو الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يجتمعان في قلب مؤمن في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف» {ودون الجهر من القول} أي: ومتكلماً كلاماً فوق السر ودون الجهر أي: قصداً بينهما، فإنه أدخل في الخشوع والإخلاص {بالغدوّ} جمع غدوة، وقيل: إنه مصدر {والآصال} جمع أصيل، وهو ما بين صلاة العصر إلى الغروب، وإنما خص هذين الوقتين بالذكر؛ لأنّ الإنسان يقوم بالغداة من النوم الذي هو آخر الموت إلى اليقظة التي هي كالحياة فاستحب له أن يستقبل حالة الانتباه من النوم، وهو وقت الحياة من موت النوم بالذكر ليكون أوّل أعماله ذكر الله تعالى، وأما وقت الآصال وهو آخر النهار فإن الإنسان يريد أن يستقبل النوم الذي هو أخو الموت فيستحب الذكر؛ لأنها حالة تشبه الموت، ولعله لا يقوم من تلك النومة، فيكون موته على ذكر الله تعالى، وهو المراد من قوله تعالى: {ولا تكن من الغافلين} عن ذكر الله.
وقيل: إنما خصا بالذكر؛ لأنّ الصلاة بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر مكروهة، واستحب للعبد أن يذكر الله تعالى فيهما ليكون في جميع أوقاته مشتغلاً بما يقرّبه إلى الله تعالى من صلاة وذكر، وقيل: إنّ أعمال العباد تصعد أوّل النهار وآخره، فيصعد عمل الليل عند صلاة الفجر، ويصعد عمل النهار بعد العصر إلى الغروب، فاستحب له الذكر فيهما ليكون ابتداء عمله بالذكر وختامه بالذكر.
(16/5)
---(1/1195)
{إنّ الذين عند ربك} أي: الملائكة المقرّبين بالفضل والكرامة {لا يستكبرون} أي: لا يتكبرون {عن عبادته} لأنهم عبيده خاضعون لعظمته وكبريائه {ويسبحونه} أي: وينزهونه عن جميع النقائص، ويقولون: سبحان الله ربنا {وله يسجدون} أي: ويخضعون له بالعبادة والتذلل لا يشركون به غيره، وفي هذا إشارة إلى أنّ الأعمال تنقسم إلى قسمين: أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فأعمال القلوب هي تنزيه الله تعالى عن كل ما سواه، وهو الاعتقاد القلبي عبر عنه بقوله: {ويسبحونه} وعبر عن أعمال الجوارح بقوله: {وله يسجدون} ليوافق الملائكة المقرّبين في عبادتهم، وعن معدان قال: سألت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: حدّثني حديثاً ينفعني الله به قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة»، وفي رواية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة»، وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعاً لمكان جبهته في غير وقت صلاة»، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويلتي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» والحديث الذي ذكره البيضاوي تبعاً للزمخشري وهو: «من قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس ستراً وكان آدم شفيعاً له يوم القيامة» حديث موضوع.
سورة الأنفال
مدنية
وقيل: إلا {وإذ يمكر بك الذين كفروا} الآيات السبع فمكية، وهي خمس أو ست أو سبع وسبعون آية، وألف وخمس وسبعون كلمة، وخمسة آلاف وثمانون حرفاً.
(16/6)
---(1/1196)
{بسم الله} الذي له العظمة الظاهرة والحكمة الباهرة {الرحمن} الذي عم جميع خلقه بنعمه المتواترة {الرحيم} الذي خص من أراد من عباده بما يرضيه فكان حامده وشاكره.
(16/7)
---
{يسألونك} يا أشرف الخلق يا محمد {عن الأنفال} أي: الغنائم لمن هي؟ وكيف مصرفها؟ وإنما سميت الغنيمة نفلاً؛ لأنها عطية من الله تعالى وفضل منه كما يسمى به ما يشرطه الإمام لمقتحم خطر عطية له وزيادة على سهمه {قل} يا محمد لهم {الأنفال والرسول} يجعلانها حيث شاءا وأكثر المفسرين أن سبب نزولها اختلاف المسلمين في غنائم بدر كيف تقسم؟ فقال الشبان: هي لنا؛ لأنا باشرنا القتال، وقال الشيوخ: كنا ردأً لكم ولو انكشفتم لفئتم إلينا، فنزلت، وقيل: شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان له غنا ـ وهو بفتح الغين المعجمة والمد النفع ـ أن ينفله فسار شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين، ثم طلبوا نفلهم، وكان المال قليلاً، فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات: كنا ردأ أي: عوناً لكم وفئة تنحازون إلينا، فنزلت فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء، رواه الحاكم في المستدرك، وعن عبادة بن الصامت: نزلت فينا معاشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه بين المسلمين على السواء، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإصلاح ذات البين، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إنه قال: لما كان يوم بدر وقتل أخي عمير، وقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه، وأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستوهبته منه فقال: هذا ليس لي ولا لك اطرحه في القبض، وهو بفتحتين: ما قبض من الغنائم فطرحته، وبي ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلاً حتى نزلت سورة الأنفال، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «سألتني السيف وليس لي وإنه قد صار لي(1/1197)
اذهب فخذه» وقيل: إنها نزلت فيما يصل من المشركين إلى المسلمين بغير قتال من عبد أو أمة أو متاع، فهو للنبيّ صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما يشاء.
(16/8)
---
واختلفوا هل هذه الآية منسوخة أو لا؟ فقال مجاهد وعكرمة: هي منسوخة بقوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإنّ خمسه وللرسول} (الأنفال، 41)
الآية فكانت الغنائم يومئذٍ للنبيّ صلى الله عليه وسلم فنسخها الله تعالى بالخمس، وقال بعضهم: هي ناسخة من وجه ومنسوخة من وجه وذلك أن الغنائم كانت حراماً على الأمم الذين من قبلنا في شرائع أنبيائهم، وأباحها الله تعالى بهذه الآية لهذه الأمة، وجعلها ناسخة لشرع من قبلنا، ثم نسخت بآية الخمس، وقال عبد الله بن زيد بن أسلم: هي ثابتة غير منسوخة، ومعنى الآية: قل الأنفال لله وللرسول يضعها حيث أمره الله تعالى، وقد بيّن الله تعالى مصارفها في قوله: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإنّ خمسه} الآية.
فإن قيل: ما معنى الجمع بين ذكر الله والرسول؟ أجيب: بأنّ معناه أن حكم الغنيمة مختص بالله ورسوله بأمر الله يقسمها على ما تقتضيه حكمته، ويمتثل الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الله تعالى فيها وليس الأمر في قسمها مفوّضاً إلى رأي أحد {فاتقوا الله} بطاعته، واتركوا مخالفته واتركوا المخاصمة والمنازعة في الغنائم {وأصلحوا ذات بينكم} أي: وأصلحوا الحال فيما بينكم بالمودّة وترك النزاع وتسليم أمر الغنائم إلى الله ورسوله {وأطيعوا الله ورسوله} فيما يأمركم به وينهاكم عنه {إن كنتم مؤمنين} حقاً، فإنّ الإيمان يقتضي ذلك.
{إنما المؤمنون} أي: الكاملون في الإيمان {الذين إذا ذكر الله} أي: وعيده {وجلت} أي: خافت وخضعت ورقت {قلوبهم} أي: أنّ المؤمن إنما يكون مؤمناً كاملاً إذا كان خائفاً من الله تعالى، ونظيره قوله تعالى: {والذين هم من عذاب ربهم مشفقون} (المعارج، 27)
وقوله تعالى: {الذين هم في صلاتهم خاشعون} (المؤمنون، 2).(1/1198)
فإن قيل: إنه تعالى قال هنا: {وجلت قلوبهم} وفي آية أخرى {وتطمئن قلوبهم بذكر الله} (الرعد، 28)
(16/9)
---
فكيف الجمع بينهما؟ أجيب: بأنه لا منافاة بينهما؛ لأنّ الوجل هو خوف العقاب، والاطمئنان إنما يكون من اليقين وشرح الصدر بمعرفة التوحيد، وهذا مقام الخوف والرجاء، وقد اجتمعا في آية واحدة وهي قوله تعالى: {تقشعر منه جلود الذين يخشون ريهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} (الزمر، 23)
عند رجاء ثواب الله.
قال أهل التحقيق: الخوف على قسمين: خوف العقاب وهو خوف العصاة، وخوف الجلال والعظمة، وهو خوف الخواص؛ لأنه تعالى غني بذاته عن كل الموجودات وما سواه من المخلوقات محتاجون إليه، والمحتاج إذا حضر عند الملك الغني هابه وخافه، وليست تلك الهيبة من العقاب بل مجرد علمه بكونه غنياً عنه وكونه محتاجاً إليه يوجب تلك المهابة وذلك الخوف، وأما العصاة فيخافون عقابه، والمؤمن إذا ذكر الله وجل قلبه وخافه على قدر مرتبته {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} أي: تصديقاً ويقيناً؛ لأن زيادة الإيمان بزيادة التصديق وذلك على وجهين:
الوجه الأوّل: وهو الذي عليه عامة أهل العلم على ما حكاه الواحدي إن كل من كانت عنده الدلائل أكثر وأقوى كان أزيد إيماناً؛ لأنّ عند حصول كثرة الدلائل وقوّتها يزول الشك ويقوى اليقين، فتكون معرفته بالله أقوى، فيزداد إيمانه، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح».
الوجه الثاني: وهو أنهم يصدقون بكل ما يتلى عليهم من عند الله، ولما كانت التكاليف متوالية في زمنه صلى الله عليه وسلم فكلما تجدد تكليف كانوا يزدادون تصديقاً وإقراراً، ومن المعلوم أن من صدّق إنساناً في شيئين كان أكثر ممن يصدّقه في شيء واحد، فقوله تعالى: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} معناه: أنهم كلما سمعوا آية جديدة أتوا بإقرار جديد، فكان ذلك زيادة في الإيمان والتصديق.(1/1199)
(16/10)
---
فإن قيل: إن تلك الآيات لا توجب الزيادة وإنما الموجب هو سماعها أو معرفتها أجيب: بأن ذلك هو المراد من الآية، واختلفوا هل الإيمان يقبل الزيادة والنقصان أو لا؟ فالذين قالوا: إن الإيمان عبارة عن التصديق القلبي قالوا: لا يقبل الزيادة ولا النقصان، والذين قالوا: إنه مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل قالوا: يقبل الزيادة والنقصان، واحتجوا بهذه الآية من وجهين:
الأوّل: أنّ قوله تعالى: {زادتهم إيماناً} يدل على أنّ الإيمان يقبل الزيادة، ولو كان عبارة عن التصديق فقط لما قبل الزيادة، وإذا قبل الزيادة فقد قبل النقص.
(16/11)
---(1/1200)
الوجه الثاني: أنه تعالى ذكر في هذه الآية أوصافاً متعدّدة من أحوال المؤمنين، ثم قال بعد ذلك: {أولئك هم المؤمنون حقاً} وذلك يدل على أنّ تلك الأوصاف داخلة في مسمى الإيمان، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» ففي الحديث دليل على أنّ للإيمان أدنى وأعلى، فيكون قابلاً للزيادة والنقص، وقال عمير بن حبيب: إن للإيمان زيادة ونقصاناً، قيل له: فما زيادته وما نقصانه فقال: إذا ذكرنا الله وحمدناه، فذلك زيادته، وإذا سهونا وغفلنا فذلك نقصانه، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي: إنّ للإيمان فرائض وشرائط وحدوداً وسنناً فمن استكملها فقد استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، ثم وصف الله تعالى المؤمنين الكاملين بصفة أخرى ثالثة، وهي الاتكال عليه بقوله تعالى: {وعلى ربهم يتوكلون} أي: يفوّضون جميع أمورهم إليه لا يرجون غيره، ولا يخافون سواه؛ لأنّ المؤمن إذا كان واثقاً بوعد الله تعالى ووعيده كان من المتوكلين عليه لا على غيره، وهذا الحال مرتبة عالية ودرجة شريفة، وهي أنّ الإنسان بحيث يصير لا يبقى له اعتماد في أمر من الأمور إلا على الله تعالى، وهذه الصفات الثلاث مرتبة على أحسن صفات الترتيب، فإنّ المرتبة الأولى هي الوجل عند ذكر الله، والمرتبة الثانية هي الانقياد لمقامات تكاليفه، والمرتبة الأخيرة الانقطاع بالكلية عما سوى الله والاعتماد بالكلية على فضل الله بل الغنى بالكلية عما سوى الله، ثم إنّ هذه المراتب الثلاث أحوال معتبرة في القلوب والبواطن، ثم انتقل منها إلى رعاية أحوال الظاهر فقال:
(16/12)
---(1/1201)
{الذين يقيمون الصلاة} أي: الذين يؤدّونها بحقوقها {ومما رزقناهم} أي: أعطيناهم {ينفقون} في طاعة الله؛ لأنّ رأس الطاعات المعتبرة في الظاهر ورئيسها بذل النفس في الصلاة، وبذل المال في مرضاة الله، ويدخل في ذلك صلاة الفرض والنفل والزكاة والصدقات والإنفاق في الجهاد والإنفاق على المساجد والقناطر، ثم قال تعالى:
{أولئك} أي: الموصوفون بهذه الصفات الخمسة {هم المؤمنون حقاً} لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل ومحاسن أفعال الجوارح التي المعيار عليها، وهي الصلاة والصدقة و{حقاً} مصدر مؤكد للجملة التي هي {أولئك هم المؤمنون} كقوله: هو عبد الله حقاً، أي: أحق ذلك حقاً.
تنبيه: اختلف العلماء في أنه هل للشخص أن يقول: أنا مؤمن حقاً، أو لا؟ فقال أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه: الأولى أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، ولا يقول: أنا مؤمن حقاً، وقال أصحاب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه: الأولى أن يقول: أنا مؤمن حقاً، ولا يجوز أن يقول: إن شاء الله تعالى، واستدل للأوّل بوجوه:
الأوّل أن قوله: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ليس على سبيل الشك، ولكن الشخص إذا قال: أنا مؤمن فقد مدح نفسه بأعظم المدائح فربما حصل له بذلك عجب، فإذا قال: إن شاء الله تعالى زال ذلك العجب، وحصل الانكسار له.
(16/13)
---(1/1202)
الثاني إنّ الله تعالى ذكر في أوّل الآية ما يدل على الحصر وهو قوله تعالى: {إنما المؤمنون هم} كذا وكذا وكلمة إنما تفيد الحصر، وذكر في آخر الآية قوله تعالى: {أولئك هم المؤمنون حقاً} وهذا أيضاً يفيد الحصر، فلما دلت هذه الآية على هذا المعنى، ثم إنّ الإنسان لا يمكنه القطع على نفسه بحصول هذه الصفات الخمس، فكان الأولى له أن يقول: إن شاء الله تعالى، وعن الحسن أنّ رجلاً سأله: أمؤمن أنت؟ فقال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب، فأنا مؤمن بها، وإن كنت تسألني عن قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} الآية فلا أدري أنا منهم أم لا؟ وقال سفيان الثورّي: من زعم أنه مؤمن حقاً عند الله، ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية، وهذا إلزام منه أي: كما لا نقطع أنه من أهل الجنة قطعاً، فلا نقطع أنه مؤمن حقاً.
الثالث: أنّ قوله: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى للتبرّك، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» مع العلم القطعيّ بأنه لاحق بأهل القبور.
الرابع: أنّ المؤمن لا يكون مؤمناً حقاً إلا إذا ختم له بالإيمان، ومات عليه، وهذا لا يحصل إلا عند الموت، فلهذا السبب حسن أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، فالمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة.
الخامس: أنّ ذكر هذه الكلمة لا ينافي حصول الجزم والقطع ألا ترى أنه تعالى قال: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} (الفتح، 27)
وهو تعالى منزه عن الشك والريب، فثبت أنه تعالى إنما ذكر ذلك تعليماً منه لعباده فالأولى ذكر هذه الكلمة الدالة على تفويض الأمور إلى الله تعالى حتى يحصل ببركة هذه الكلمة دوام الإيمان، واستدلّ الثاني بوجهين:
(16/14)
---(1/1203)
الأول: أنّ المتحرك يجوز أن يقول: أنا متحرّك، ولا يجوز أن يقول أنا متحرّك إن شاء الله تعالى، وكذا في القول في القائم والقاعد فكذا هنا.
الثاني: أنه تعالى قال: {أولئك هم المؤمنون حقاً} فقد حكم الله لهم بكونهم مؤمنين حقاً، فكان قوله: إن شاء الله يوجب الشك فيما قطع الله تعالى لهم به، وذلك لا يجوز، وأجاب الأوّل عن قولهم: المتحرّك لا يجوز أن يقول: أنا متحرك إن شاء الله تعالى بالفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمناً وبين وصفه بكونه متحركاً إذ الإيمان يتوقف حاله على الخاتمة، والحركة فعل للإنسان نفسي، فحصل الفرق بينهما، وعن قولهم: إنه تعالى قال: {أولئك هم المؤمنون حقاً} فحكم لهم بكونهم مؤمنين حقاً إذا أتوا بتلك الأوصاف الخمسة على الحقيقة، ونحن لا نعلم ذلك، فثبت حينئذ أنّ الصواب مع أصحاب القول الأوّل: {لهم} أي: للموصوفين بتلك الصفات {درجات} أي: منازل في الجنة {عند ربهم} بعضها أعلى من بعض؛ لأنّ المؤمنين تتفاوت أحوالهم في الأخذ بتلك الأوصاف المذكورة، فلهذا تتفاوت منازلهم في الجنة على قدر أعمالهم. قال عطاء: درجات الجنة يرتفعون فيها بأعمالهم، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام»، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «في الجنة مائة درجة لو أنّ العالمين اجتمعوا في إحداهنّ لوسعتهم» {ومغفرة} أي: لما فرط منهم {ورزق كريم} أعدّ لهم في الجنة لا ينقطع عدده ولا ينتهي أمده.
فإن قيل: أليس المفضول إذا علم حصول الدرجات العالية للفاضل، وحرمانه منها فإنه يتألم قلبه ويتنغص عيشه وذلك يحيل كون الثواب رزقاً حسناً؟ أجيب: بأنّ استغراق كل أحد في سعادته الحاضرة تمنعه من حصول النظر إلى غيره، وبالجملة فأحوال الآخرة لا تناسب أحوال الدنيا إلا بالاسم، وقوله تعالى:
(16/15)
---(1/1204)
{كما أخرجك ربك من بيتك بالحق} يقتضي تشبيه شيء بهذا الإخراج واختلفوا في تقدير ذلك، فقال المبرد: تقديره الأنفال لله والرسول وإن كرهوا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق إلى القتال وإن كانوا كارهين له.
قال الرازي: وهذا الوجه أحسن الوجوه المذكورة في هذا الموضع، وقال عكرمة: تقديره فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، فإنّ ذلك خير لكم كما أنّ إخراج محمد من بيته خير لكم، وإن كرهه فريق منكم، وقال الكسائيّ: الكاف متعلق بما بعده، وهو قوله: {يجادلونك في الحق}، والتقدير كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، على كره فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال ويجادلونك فيه، وقيل: الكاف بمعنى على تقديره امض على الذي أخرجك ربك، وقيل: الكاف بمعنى إذ تقديره واذكر إذ أخرجك ربك من بيتك بالحق {وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون} الخروج والجملة حال من كاف أخرجك، وقيل: كما خبر مبتدأ محذوف أي: هذه الحالة في كراهتهم لها مثل إخراجك في حال كراهتهم، وقد كان خيراً لهم، فكذلك هذه أيضاً، وذلك أنّ أبا سفيان قدم بعير من الشام في أربعين راكباً منهم عمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل الزهريّ، وفيها تجارة كثيرة، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين فأعجبهم لقيّ العير لكثرة المال وقلة العدوّ، فلما سمع أبو سفيان بمسير النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه استأجر ضمضم بن عمرو الغفاريّ وبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم ويخبرهم أنّ محمداً وأصحابه قد خرجوا لعيرهم، فخرج ضمضم سريعاً إلى مكة، وكانت عاتكة أخت العباس بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رأت رؤيا فقالت لأخيها العباس: إني رأيت عجباً رأيت راكباً أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناس قد اجتمعوا عليه، ورأيت كأنّ ملكاً نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها ورمى أي: رمى بها إلى فوق(1/1205)
(16/16)
---
فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة، فقال العباس: اكتميها فلا تذكريها لأحد، ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان صديقاً له، فذكرها له واستكتمه فذكرها الوليد لأبيه عتبة ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش، قال العباس: فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل علينا قال: فلما فرغت من طوافي أقبلت حتى جلست معهم فقال أبو جهل: يا بني عبد المطلب متى حدثت هذه الفتنة فيكم؟ قلت: وما ذاك، قال: الرؤيا التي رأت عاتكة، قلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم؟ قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث فنتربص بكم الثلاث فإن بك ما قالت حقاً فسيكون وإن تمض الثلاث، ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت في العرب، قال العباس: فوالله ما كان مني إليه كبير أمر إلا أني جحدت ذلك وأنكرته أن لا تكون عاتكة رأت شيئاً، ثم تفرقنا، فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت، قال: قلت: والله ما كان مني إليه من شيء وأيم الله تعالى لأتعرّضن له فإن عاد لأكفينكنه، قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة، وأنا حديد مغضب أرى أنّ قد فاتني منه أمر أحبّ أن أدركه منه قال: فدخلت المسجد، فرأيته قال: فوالله إني لأمشي نحوه لأتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به، وكان أبو جهل رجلاً خفيفاً حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر إذ خرج نحو باب المسجد يشتدّ قال: قلت: ماله لعنه الله أكان هذا فرقاً مني أن أشاتمه قال: فإذا هو سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره، وقد حوّل رحله وشق(1/1206)
قميصه، وهو يقول:
(16/17)
---
يا معشر قريش هذه أموالكم مع أبي سفيان، وقد عرض لها محمد وأصحابه، فنادى أبو جهل فوق الكعبة يا أهل مكة النجاء النجاء، وهو بالمدّ: الإسراع منصوب على الإغراء أي: الزموا الإسراع على كل صعب وذلول أي: أسرعوا مجتمعين ولا تقفنّ لأن تختاروا للركوب ذلولاً دون صعب عيركم أموالكم إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبداً، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير في المثل لا في العير ولا في النفير فقيل له: إن العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس، فقال: والله لا يكون ذلك أبداً حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور ونقيم القينات والمعازف ببدر فيتسامع جميع العرب بمخرجنا وأن محمداً لم يصب العير فإنا قد أعضضناه فمضى بهم إلى بدر، وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة، ونزل جبريل عليه السلام وقال: يا محمد إنّ الله وعدكم إحدى الطائفتين إمّا العير وإمّا قريشاً، فاستشار النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقال: ما تقولون؟ إنّ القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فالعير أحبّ إليكم أم النفير؟ قالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ردّد عليهم، وقال: إنّ العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير ودع العدّو فقام عند غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأحسنا الكلام وأمالاه إلى المضيّ إلى العدوّ، ثم قام سعد بن عبادة، فقال: انظر أمرك فاقض فوالله لو سرت إلى عدن أبين، وهي مدينة معروفة باليمن، وأبين بوزن أبيض اسم رجل من حمير عدن بها أي: أقام، ما تخلف عنك رجل من الأنصار.
(16/18)
---(1/1207)
ثم قال المقداد بن عمرو: يا رسول الله امض لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «أشيروا عليّ أيها الناس» وهو يريد الأنصار؛ لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة: إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلى ديارنا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتخوّف أن تكون الأنصار لا ترى عليهم نصرته إلا على عدوّ دهمه بالمدينة فقام سعد بن معاذ فقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: «أجل»، قال: قد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالله الذي بعثك بالحق نبياً لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقي بنا عدوّنا وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعلّ الله تعالى يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسطه قول سعد رضي الله عنه، قال: سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا، فإنّ الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.
(16/19)
---(1/1208)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حدّثه عن أهل بدر قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول: «هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله تعالى، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله تعالى» قال عمر فوالذي بعثه بالحق نبياً ما أخطأ الحدود التي حدّها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال: «يا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقاً فإني وجدت ما وعدني الله حقاً» فقال عمر: كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها، فقال: «ما أنتم أسمع لما أقول لهم منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا عليّ شيئاً».
وروي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس دونها شيء، فناداه العباس وهو في وثاقه أي: قيده وكان العباس حينئذ مأسوراً مقيداً لا يصلح، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم لم؟ قال: لأنّ الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك فكانت الكراهة من بعضهم لقوله تعالى: {وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون}.
{يجادلونك في الحق} أي: القتال {بعدما تبين} إنك لا تصنع شيئاً إلا بأمر ربك {كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون} إليه أي: يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت وهو يشاهد أسبابه وذلك أنّ المؤمنين لما أيقنوا بالقتال كرهوا ذلك، وقالوا: لم يعلمنا أنا نلقى العدوّ فنستعد للقائهم، وإنما خرجنا لطلب العير، إذ روي أنهم كانوا رجالة وما كان فيهم إلا فارسان، وفيه إيماء إلى أنّ مجادلتهم كانت لفرط فزعهم ورعبهم.
(16/20)
---(1/1209)
{وإذ} أي: واذكر إذ {يعدكم الله إحدى الطائفتين} أي: العير أو النفير، وإحدى ثاني مفعولي «يعدكم» وقد أبدل منها {أنها لكم} بدل اشتمال {وتودّون} أي: تريدون {أن غير ذات الشوكة} أي: القوة والشدة والسلاح وهي العير {تكون لكم} لقلة عددها وعددها إذ لم يكن فيها إلا أربعون فارساً بخلاف النفير لكثرة عددهم وعددهم.
وقرأ أبو عمرو بادغام التاء في التاء بخلاف عنه {ويريد الله أن يحق الحق} أي: يظهره {بكلماته} أي: بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة، وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر {ويقطع دابر الكافرين} أي: يستأصلهم، والمعنى أنكم تريدون أن تصيبوا مالاً، ولا تلقوا مكروهاً والله يريد إعلاء الدين وإظهار الحق، وما يحصل لكم من فوز الدارين {ليحق الحق} أي: يثبت الإسلام {ويبطل الباطل} أي: يمحق الكفر {ولو كره المجرمون} أي: المشركون ذلك.
فإن قيل: قوله تعالى: {ليحق الحق} بعد قوله: {أن يحق الحق} يشبه التكرار أجيب: بأنّ المعنيين متباينان وذلك أنّ الأوّل لبيان المراد وما بينه وبين مرادهم من التفاوت، والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول على اختيار ذات الشوكة على غيرها ونصره عليها.
(16/21)
---
{إذ} أي: واذكر إذ {تستغيثون ربكم} واستغاثتهم أنهم لما عملوا أن لا محيص عن القتال أخذوا يقولون ربنا انصرنا على عدوّك أغثنا يا غياث المستغيثين.
(16/22)
---
وعن عمر رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمئة أي وبضعة عشر، فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو اللّهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه، وأخذه أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه، وقال: يا نبيّ الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك.(1/1210)
وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار ذال إذ عند التاء، والباقون بالإدغام، {فاستجاب لكم أني} أي: بأني فحذف الجارّ وسلط عليه استجاب فغصب محله {ممدّكم بألف من الملائكة مردفين} أي: متتابعين يردف بعضهم بعضاً، وقرأ نافع بفتح الدال، وقيل: بالفتح والكسر، والباقون بالكسر، وعدهم بالألف أوّلاً، ثم صارت ثلاثة آلاف، ثم خمسة آلاف كما في آل عمران، فقيل: نزل جبريل عليه السلام في خمسمائة ملك على الميمنة، وفيها أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وميكائيل عليه السلام على الميسرة، وفيها عليّ رضي الله تعالى عنه في صور الرجال عليهم عمائم بيض وثياب بيض قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم، فقاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ويوم حنين.
وروي أنّ أبا جهل قال لابن مسعود من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصاً؟ قال: من الملائكة، فقال أبو جهل: هم غلبونا لا أنتم.
وروي أنّ رجلاً من المسلمين بينما هو يشتدّ في طلب رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه، فنظر إلى المشرك وقد خرّ مستلقياً وشق وجهه، فحدّث الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقت ذاك من مدد السماء الثالثة، فقتلوا يوم بدر سبعين وأسروا سبعين»، وعن أبي داود المازنيّ تبعت رجلاً من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي.
(16/23)
---
وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: «قال لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فتقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف».
وقيل: إنهم لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم، فإنّ جبريل عليه السلام أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح عليه السلام بصيحة واحدة، وقيل: يدلّ على هذا قوله تعالى:(1/1211)
{وما جعله الله إلا بشرى} لكم أي: وما جعل الإرداف بالملائكة إلا بشرى لكم {ولتطمئن به قلوبكم} فيزول ما بها من الوجل لقلتكم وذلتكم، والصحيح أنهم قاتلوا يوم بدر، ولم يقاتلوا فيما سواه لما تقدّم {وما النصر إلا من عند الله} أي: لا من عند غيره، وأما إمداد الملائكة وكثرة العدد والأهب ونحوها فهي وسايط لا تأثير لها، فلا تحسبوا أن النصر منها ولا تيأسوا منه بفقدها، وفي ذلك تنبيه على أنّ الواجب على المسلم أن لا يتوكل إلا على الله تعالى في جميع أحواله، ولا يثق بغيره، فإنّ الله تعالى بيده النصر والإعانة. {إنّ الله عزيز} أي: إنه تعالى قويّ منيع لا يقهره شيء ولا يغلبه غالب بل هو يقهر كلّ شيء ويغلبه {حكيم} في تدبيره ونصره ينصر من يشاء ويخذل من يشاء من عباده.
{إذ} أي: واذكر إذ {يغشاكم النعاس} وهو النوم الخفيف {أمنة} أي: أمناً مما حصل لكم من الخوف من عدوّكم {منه} أي: من الله تعالى؛ لأنهم لما خافوا على أنفسهم لكثرة عددهم وعددهم وقلة المسلمين وقلة عددهم، وعطشوا عطشاً شديداً ألقى الله عليهم النوم حتى حصلت لهم الراحة وزال عنهم الكلال والعطش، وتمكنوا من قتال عدوّهم كان ذلك النوم نعمة في حقهم؛ لأنه كان خفيفاً بحيث لو قصدهم العدوّ لعرفوا وصوله إليهم وقدروا على دفعه عنهم.
(16/24)
---(1/1212)
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: النعاس في القتال أمنة من الله تعالى، وفي الصلاة وسوسة من الشيطان، وقرأ نافع بضم الياء وكسر الشين مخففة وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والشين مع التخفيف فيهما، والباقون بضم الياء وكسر الشين مشدّدة، ورفع السين من النعاس ابن كثير وأبو عمرو ونصبها الباقون على أن الله تعالى هو الفاعل {وينزل عليكم من السماء ماء} أي: مطراً {ليطهركم به} أي: من الأحداث والجنابات، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي، وذلك أنّ المسلمين نزلوا يوم بدر على كثيب رمل أعفر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب، فناموا فاحتلم أكثرهم، وكان المشركون قد سبقوهم على ماء بدر، فنزلوا عليه وأصبح المسلمون على غير ماء وبعضهم محدث وبعضهم جنب وأصابهم العطش، فوسوس إليهم الشيطان، أو قال لهم المنافقون: تزعمون أنكم على الحق وفيكم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأنتم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون محدثين، فكيف ترجون أن تظهروا على عدوّكم وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش فإذا قطع العش أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة؟ فحزنوا حزناً شديداً وأشفقوا، فأنزل الله تعالى مطراً أسال منه الوادي، فشرب منه المؤمنون واغتسلوا وتوضؤوا وسقوا الدواب وملؤوا الأسقية وطفىء الغبار وعظمت النعمة من الله عليهم بذلك، وكان دليلاً على حصول النصر والظفر وزالت عنهم وسوسة الشيطان كما قال تعالى: {ويذهب عنكم رجز الشيطان} أي: وسوسة الشيطان التي ألقاها في قلوبكم، وقيل: الجنابة؛ لأنها من تخييله.
(16/25)
---(1/1213)
فإن قيل: يلزم على هذا التكرار فإنّ هذا تقدّم في قوله تعالى: {ليطهركم به} وأجيب عنه: بأنّ المراد من قوله تعالى: {ليطهركم به} حصول الطهارة الشرعية ومن قوله تعالى {ويذهب عنكم رجز الشيطان} أن الرجز هو عين المنيّ، فإنه شيء مستخبث، وطابت أنفسهم كما قال تعالى: {وليربط}أي: يحبس {على قلوبكم} باليقين والصبر ولبدت الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام كما قال تعالى: {ويثبت به الأقدام} أي: أن تسوخ في الرمل، والضمير في «به» للماء ويجوز كما قال الزمخشريّ أن يكون للربط؛ لأنّ القلب إذا تمكن فيه الصبر والجراءة ثبتت الأقدام في مواطن القتال وقوله تعالى:
{إذ يوحي ربك} متعلق بيثبت أو بدل من «إذ يعدكم» {إلى الملائكة} أي: الذين أمدّ بهم المسلمين وقوله تعالى: {إني} أي بأني{معكم} أي: بالعون والنصرة مفعول يوحي {فثبتوا الذين آمنوا} أي: قوّوا قلوبهم بأن تقاتلوا المشركين معهم، وقيل: بالتبشير والإعانة، فكان الملك يمشي في صورة رجل أمام الصف ويقول: أبشروا فإنّ الله تعالى ناصركم عليهم فإنكم تعبدونه وهؤلاء لا يعبدونه، وقيل: بإلقاء الإلهام في قلوبهم كما أنّ للشيطان قوّة في إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم بالشر ويسمى ما يلقيه الشيطان وسوسة وما يلقيه الملك إلهاماً.
(16/26)
---(1/1214)
ثم بين تعالى المعية بقوله تعالى: {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} أي: الخوف فلا يكون لهم ثبات وكان ذلك نعمة من الله تعالى على المؤمنين حيث ألقى الخوف في قلوب المشركين، وقرأ ابن عامر والكسائي برفع العين، والباقون بالسكون وقوله تعالى: {فاضربوا} خطاب للمؤمنين وللملائكة {فوق الأعناق} أي: أعاليها التي هي المذابح والمفاصل والرؤوس، فإنها فوق الأعناق وقيل: المراد الأعناق، وفوق صلة، أو بمعنى على أي: اضربوا على الأعناق {واضربوا منهم كل بنان} قال ابن عطية: يعني: كل مفصل، وقال ابن عباس: يعني: الأطراف، والبنان جمع بنانة وهي أطراف الأصابع من اليدين والرجلين، وقال ابن الأنباري: كانت الملائكة لا تعلم كيف تقاتل بني آدم فعلمهم الله تعالى: قيل: إنما خصت الرأس والبنان بالذكر؛ لأنّ الرأس أعلى الجسد وأشرف الأعضاء، والبنان أضعف الأعضاء، فيدخل في ذلك كل عضو في الجسد.
وقيل: أمرهم بضرب الرأس وبه هلاك الإنسان وبضرب البنان وبه تبطل حركته عن القتال؛ لأنّ بالبنان يتمكن من مسك السيف والسلاح وحمله والضرب به فإذا قطع بنانه تعطل ذلك كله.
{ذلك} أي: التسليط العظيم الذي وقع من القتل والأسر يوم بدر، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد {بأنهم} أي: الذين تلبسوا بالكفر {شاقوا الله} الذي لا يطاق انتقامه {ورسوله} أي: خالفوهما في الأوامر والنواهي والمشاقة المخالفة وأصلها المجانبة كأنهم صاروا في شق وجانب غير الذي يرضيانه {ومن يشاقق الله ورسوله فإنّ الله شديد العقاب} له فإنّ الذي أصابهم في ذلك اليوم من الأسر والقتل شيء قليل في جنب ما أعدّ الله تعالى لهم من العقاب يوم القيامة، وقوله تعالى:
(16/27)
---(1/1215)
{ذلكم} خطاب للكفرة على طريق الالتفات من الغيبة في شاقوا أي: ذلكم الذي عجل لكم ببدر من القتل والأسر {فذوقوه} عاجلاً {وأنّ للكافرين} آجلاً في الآخرة {عذاب النار} ووضع الظاهر فيه موضع المضمر للدلالة على أنّ الكفر سبب للعاجل والآجل.
{يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً} أي: مجتمعين كأنهم لكثرتهم يزحفون أي: يدبون دبيباً من زحف الصبي إذا دبّ على استه قليلاً قليلاً سمي به، وجمع على زحوف، وانتصابه على الحال وهو مصدر موصوف به كالعدل والرضا ولذلك لم يجمع {فلا تولوهم الأدبار} أي: منهزمين منهم وإن كنتم أقل منهم.
{ومن يولهم يومئذٍ} أي: يوم لقائهم {دبره} أي: يجعل ظهره إليهم منهزماً {إلا متحرفاً} أي: منعطفاً {لقتال} بأن يريهم أنه منهزم خداعاً ثم يكر عليهم وهو باب من مكايد الحرب {أو متحيزاً} منضماً وصائراً {إلى فئة} أي: جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها على القرب يستنجد بها.
ومنهم من لا يعتبر القرب لما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان في سرية بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرّوا إلى المدينة فقلت: يا رسول الله نحن الفرارون، فقال: «بل أنتم العكارون» وفي رواية «الكرارون» أي: المتعاطفون إلى الحرب، وأنا فئتكم.
وانهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف، فقال عمر: أنا فئتك {فقد باء} أي: رجع {بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} أي: المرجع هي، وعن ابن عباس أنّ الفرار من الزحف من أكبر الكبائر هذا إذا لم يزد العدد على الضعف لقوله تعالى: {الآن خفف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً} (الأنفال، 66)
(16/28)
---(1/1216)
وقيل: هذا في أهل بدر خاصة؛ لأنه ما كان يجوز لهم الانهزام يوم بدر؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان معهم قاله مجاهد. ولما انصرف المسلمون من قتال بدر كان الرجل يقول: أنا قتلت فلاناً، ويقول الآخر: أنا قتلت فلاناً، فنزل قوله تعالى:
{فلم تقتلوهم} أي: بقوّتكم {ولكنّ الله قتلهم} أى: بنصره إياكم بأن هزمهم لكم.
(16/29)
---
قال البيضاوي تبعاً للزمخشريّ: والفاء جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم، فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم، اه. ورده ابن هشام بأنّ الجواب المنفي بلم لا تدخل عليه الفاء، واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {وما رميت} يا محمد {إذ رميت ولكنّ الله رمى} على ثلاثة أقوال: الأوّل وهو قول أكثر المفسرين نزلت في يوم بدر، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ندب إلى قتال بدر نزلوا بدراً ووردت عليهم روّاد قريش وفيهم أسلم غلام أسود لبني الحجاج وأبو يسار غلام لبني العاصي بن سعد، فأتوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما: أين قريش؟ فقالا: هم وراء هذا الكثيب الذي بالعدوة القصوى الكثيب العقنقل، وهو الكثيب العظيم المتداخل الرمل، قاله الجوهريّ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم «كم القوم؟» قالا: كثير، قال: ما عدّتهم، قالا: لا ندري، قال: «كم ينحرون كل يوم؟» قالا: يوماً عشرة ويوماً تسعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «القوم ما بين التسعمائة إلى الألف، ثم قال لهما: «فمن فيهم من أشراف قريش؟» قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وأبو جهل بن هشام وعدّا جماعة أخرى، فقال صلى الله عليه وسلم «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» فلما طلعت قريش من العقنقل قال عليه الصلاة والسلام: «هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهمّ إني أسألك ما وعدتني» فأتاه جبريل عليه السلام، وقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان قال لعليّ رضي الله(1/1217)
عنه: «أعطني قبضة من حصباء الوادي» فرمى بها في وجوههم وقال: «شاهت الوجوه» أي: قبحت، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه وفمه ومنخره، فانهزموا وردفهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم، والمعنى إنّ الرمية التي رميتها بلغ أثرها إلى ما لا يبلغه أثر البشر لكونها كانت برمي الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم؛ لأن كفاً من الحصباء لا يملأ عيون
(16/30)
---
الجيش الكثير برمية البشر فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ صورتها وجدت منه ونفاها عنه؛ لأنّ أثرها الذي لا تطيقه البشر فعل الله تعالى، فكان الله تعالى هو فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من الرسول صلى الله عليه وسلم أصلاً.
القول الثاني: إنها نزلت يوم خيبر، روي أنه عليه الصلاة والسلام أخذ قوساً وهو على باب خيبر، فرمى سهماً، فأقبل السهم حتى قتل لبابة بن أبي الحقيق وهو على فرسه فنزلت.
(16/31)
---(1/1218)
القول الثالث: إنها نزلت في يوم أحد في قتل أبيّ بن خلف، وذلك إنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعظم رميم وفتته وقال: يا محمد من يحيي هذه وهي رميم؟ فقال صلى الله عليه وسلم «يحييه الله، ثم يميتك، ثم يحييك ثم يدخلك النار» فأسر يوم بدر، فلما افتدي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ عندي فرساً أعلفها كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى» فلما كان يوم أحد أقبل أبيّ يركض على ذلك الفرس حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «استأخروا» ورماه بحربة كسر ضلعاً من أضلاعه، فمات ببعض الطريق فنزلت، والأصح الأوّل وإلا أدخل في أثناء القصة كلاماً أجنبياً عنها، وذلك لا يليق، وقال الرازي: لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع؛ لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: {ولكن الله قتلهم}، {ولكن الله رمى} بكسر النون مخففة ورفع الهاء من اسم الله فيهما والباقون بفتح النون مشدّدة ونصب الهاء وقوله تعالى: {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً} معطوف على قوله تعالى: {ولكن الله رمى} أي: ولينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة، ثم ختم الله تعالى هذه الآية بقوله تعالى: {إنّ الله سميع} لأقوالكم {عليم} بأحوال قلوبكم وهذا جرى مجرى التحذير والترهيب؛ لئلا يغترّ العبد بظواهر الأمور ويعلم أنّ الخالق تعالى يطلع على ما في الضمائر والقلوب، وقوله تعالى:
{ذلكم} إشارة إلى البلاء الحسن، ومحله الرفع أي: الغرض ذلكم، وقوله تعالى: {وإنّ الله موهن كيد الكافرين} معطوف على «ذلكم» أي: المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم.
(16/32)
---(1/1219)
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الواو وتشديد الهاء وتنوين النون ونصب الدال، وقرأ حفص بسكون الواو وتخفيف الهاء وعدم تنوين النون وخفض الدال والباقون بسكون الواو وتخفيف الهاء مع تنوين النون ونصب الدال وقوله تعالى:
{إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} أكثر المفسرين على أنه خطاب للكفار.
روي أنّ أبا جهل لعنه الله قال يوم بدر: اللهمّ أينا كان أقطع للرحم وأفجر فأهلكه الغداة، وقال السدي: إنّ المشركين لما أرادوا الخروج إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهمّ انصر أعلى الجندين وأهدى القبيلتين وأكرم الحزبين بأفضل الدين، فأنزل الله تعالى هذه الآية أي: «إن تستنصروا لأهدى القبلتين وتستقضوا، فقد جاءكم النصر والقضاء بهلاك من هو كذلك، وهو أبو جهل، ومن قتل معه دون النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
وقيل: خطاب للمؤمنين وذلك إنه صلى الله عليه وسلم لما رأى المشركين وكثرة عددهم وعددهم استغاث بالله تعالى وطلب ما وعده الله تعالى به من إحدى الطائفتين، وتضرع إلى الله تعالى، وكذلك الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقال تعالى: {إن تستفتحوا} أي: إن تطلبوا النصر الذي تقدّم به الوعد فقد جاءكم الفتح أي: حصل ما وعدتم فاشكروا الله تعالى والزموا الطاعة.
قال القاضي عياض: وهذا القول أولى؛ لأنّ قوله تعالى: {فقد جاءكم الفتح} لا يليق إلا بالمؤمنين، اه.
(16/33)
---(1/1220)
وقال البيضاوي إنه خطاب لأهل مكة عن سبيل التهكم اه. ويدل له قوله تعالى: {وإن تنتهوا} أي: عن الكفر ومعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم {فهو خير لكم} أي: لتضمنه سلامة الدارين وخير المنزلتين {وإن تعودوا} أي: لقتال النبيّ صلى الله عليه وسلم {نعد} أي: لنصرته عليكم {ولن تغني} أي: تدفع {عنكم فئتكم} أي: جماعتكم {شيئاً}؛ لأنّ الله تعالى على الكافرين فيخذلهم {ولو كثرت} فئتكم {وإنّ الله مع المؤمنين} بالنصر والمعونة، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح الهمزة على ولأنّ الله تعالى والباقون بالكسر على الاستئناف.
{يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا} أي: تعرضوا {عنه} أي: الرسول صلى الله عليه وسلم بمخالفة أمره، فإنّ المراد من الآية الأمر بطاعته والنهي عن الإعراض عنه، وذكر طاعة الله للتوطئة والتنبيه على أنّ طاعة الله في طاعة الرسول لقوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء، 80)
وقيل: الضمير للجهاد {وأنتم تسمعون} أي: القرآن والمواعظ سماع فهم وتصديق.
{ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا} أي: بألسنتهم {وهم لا يسمعون} سمعاً ينتفعون به، وهذه صفة المنافقين.
{إنّ شر الدواب عند الله} أي: إنّ شر من دب على وجه الأرض من خلق الله عنده {الصم} عن سماع الحق {البكم} عن النطق بالحق فلا يقولونه {الذين لا يعقلون} أمر الله، وسماهم دواب لقلة انتفاعهم بعقولهم كما قال تعالى: {أولئك كالأنعام بل هم أضل} (الأعراف، 179)
قال ابن عباس: هم نفر من بني عبد الدار بن قصي كانوا يقولون: نحن صم بكم عما جاء به محمد، فقتلوا جميعاً بأحد وكانوا أصحاب اللواء، ولم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة.
(16/34)
---(1/1221)
{ولو علم الله فيهم خيراً} أي: سعادة كتبت لهم أو انتفاعاً بالآيات {لأسمعهم} سماع تفهم {ولو أسمعهم} على سبيل الفرض، وقد علم أن لا خير فيهم {لتولوا} عنه ولم ينتفعوا به وارتدّوا عن التصديق والقبول {وهم معرضون} لعنادهم وجحودهم الحق بعد ظهوره، وقيل: إنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحي لنا قصياً فإنه كان شيخاً مباركاً يشهد لك بالنبوّة، فنؤمن بك، فقال الله تعالى: ولو أسمعهم كلام قصي لتولوا وهم معرضون.
{ ياأيها الذين آمنوا استجيبوا وللرسول} أي: أجيبوهما بالطاعة، ووحد الضمير في قوله تعالى: {إذا دعاكم}؛ لأنّ دعوة الله تعالى تسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم
روى الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم مرّ على أبيّ بن كعب وهو يصلي فدعاه، فعجل في صلاته ثم جاء، فقال له صلى الله عليه وسلم «ما منعك عن إجابتي؟» قال: كنت أصلي، قال: «ألم تجد فيما أوحي إليّ {استجيبوا وللرسول}؟ ويؤخذ من ذلك أنّ إجابته صلى الله عليه وسلم بالقول: لا تقطع الصلاة، وهو كذلك، بل ولا بالفعل الكثير كما قاله بعض أصحابنا، وهو ظاهر الحديث أيضاً.
ولما كان اجتناء ثمرة الطاعة في غاية القرب منه نبه على ذلك باللام دون إلى فقال: {لما يحييكم} من العلوم الدينية فإنها حياة القلوب والجهل موتها، قال أبو الطيب:
*لا تعجبنّ الجهول حليته ** فذاك ميت وثوبه كفن*
أو مما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد، وقال السدي: هو الإيمان؛ لأن الكافر ميت فيحيا بالإيمان، وقال ابن إسحق: هو الجهاد أعزكم الله تعالى به بعد الذل، وقال العتبي: هو الشهادة لقوله تعالى: {بل أحياء عند ربهم يرزقون} (آل عمران، 169)
{واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه} أي: إنه يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليماً كما يردّه الله تعالى، فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله.
(16/35)
---(1/1222)
وقال الضحاك: يحول بين المرء المؤمن والمعصية وبين الكافر والطاعة، وقال السدي: يحول بين المرء وقلبه، فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه، وقال مجاهد: يحول بين المرء وقلبه، فلا يعقل ولا يدري ما يعمل.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» قالوا: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: «القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء» {وإنه} أي: واعلموا أنه تعالى: {إليه تحشرون} لا إلى غيره فلا تتركوا مهملين معطلين فيجازيكم بأعمالكم وفي هذا تشديد في العمل وتحذير عن الكسل والغفلة.
{واتقوا فتنة} أي: ذنباً، قيل: هو إقرار المنكر بين أظهرهم، وقيل: افتراق الكلمة، وقيل: فتنة عذاباً، وقوله تعالى: {لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} جواب الأمر، والمعنى إن إصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة، ولكنها تعمكم، كما يحكى إنّ علماء بني إسرائيل لم ينهوا عن المنكر، فعمهم الله تعالى بالعذاب.
فإن قيل: كيف جاز أن تدخل النون المؤكدة في جواب الأمر؟ أجيب: بأنّ فيه معنى النهي كقولك: انزل عن الدابة لا تطرحك ولا تطرحنك، وكقوله تعالى: {يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان} (النمل، 18)
{واعلموا أنّ الله شديد العقاب} لمن خالفه.
(16/36)
---(1/1223)
{واذكروا} يا معاشر المهاجرين {إذ أنتم} في أوائل الإسلام {قليل} أي: عددكم {مستضعفون} أي: لا منعة لكم {في الأرض} أي: أرض مكة، وإطلاقها لأنها لعظمها كأنها هي الأرض كلها، أو لأنّ حالهم كان في بقية البلاد كحالهم فيها أو قريباً من ذلك، ولهذا عبر بالناس في قوله تعالى: {تخافون أن يتخطفكم الناس} أي: تأخذكم الكفار بسرعة كما تتخطف الجوارح الصيد {فآواكم} إلى المدينة، أو جعل لكم مأوى تتحصنون فيه على أعدائكم {وأيدكم} أي: قوّاكم {بنصره} أي: بإمداد الملائكة يوم بدر، وبمظاهرة الأنصار {ورزقكم من الطيبات} أي: الغنائم أحلها لكم، ولم يحلها لأحد قبلكم {لعلكم تشكرون} هذه النعم العظيمة.
{يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول} أي: بأن تضمروا خلاف ما تظهرون.
(16/38)
---(1/1224)
روي أنه صلى الله عليه وسلم حاصر يهود بني قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات وأريحا من الشام فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة واسمه رفاعة، أو مروان بن عبد المنذر وكان مناصحاً لهم؛ لأنّ ماله وعياله عندهم، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه إنه الذبح أي: حكم سعد هو القتل، فلا تفعلوا، فقال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي من مكانهما حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدّ نفسه على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، وأمّا إذ فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب الله تعالى عليه، فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خرّ مغشياً عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له: قد تيب عليك فحل نفسك، فقال: لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاءه فحله بيده فقال: إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي، فقال له صلى الله عليه وسلم «يجزيك الثلث أن تتصدّق به» فنزلت هذه الآية.
(16/39)
---(1/1225)
وعن المغيرة نزلت في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعن جابر بن عبد الله أنّ أبا سفيان خرج من مكة، فعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم خروجه وعزم الذهاب إليه، فكتب رجل من المنافقين إليه: إنّ محمداً يريدكم فخذوا حذركم، فنزلت، وقيل: معنى لا تخونوا الله بأن لا تعطلوا فرائضه، ورسوله بأن لا تستنوا به، وأصل الخون النقص كما أنّ أصل الوفاء التمام، واستعماله في ضدّ الأمانة لتضمنه إياه، وقوله تعالى: {وتخونوا أماناتكم} أي: ما إئتمنتم عليه من الدين وغيره مجزوم بالعطف على الأوّل أي: ولا تخونوا، أو منصوب بأن مضمرة بعد الواو على جواب النهي أي: لا تجمعوا بين الخيانتين كقوله:
*لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله*
{وأنتم تعلمون} أنكم تخونون أي: وأنتم علماء مميزون الحسن من القبيح.
{واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة} أي: محنة من الله تعالى ليبلوكم فيهم، فلا يحملنكم حبهم على الخيانة كأبي لبابة؛ لأنه يشغل القلب بالدنيا ويصيره حجاباً عن خدمة المولى.
ثم إنه تعالى نبه بقوله تعالى: {وإنّ الله عنده أجر عظيم} على أنّ سعادات الآخرة خير من سعادات الدنيا؛ لأنها أعظم في الشرف، وأعظم في القوّة، وأعظم في المدّة؛ لأنها تبقى بقاء لا نهاية له فهذا هو المراد من وصف الله الأجر الذي عنده بالعظم.
قال الرازي: ويمكن أن يتمسك بهذه الآية في بيان أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح؛ لأنّ الاشتغال بالنوافل يفيد الأجر العظيم عند الله، والاشتغال بالنكاح يفيد الولد، ويوجب الحاجة إلى المال، وذلك فتنة، ومعلوم أنّ ما يفضي إلى الأجر العظيم عند الله هو خير مما يفضي إلى الفتنة، اه. لكن محله في غير المحتاج إلى النكاح الواجد أهبته، وإلا فالنكاح حينئذٍ أفضل وأولى من التخلي للعبادة.
ولما حذر الله تعالى عن الفتنة بالأموال والأولاد رغب في التقوى التي توجب ترك الميل والهوى في محبة الأموال والأولاد بقوله:
,
(16/40)
---(1/1226)
{يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله} أي: بالأمانة وغيرها {يجعل لكم فرقاناً} أي: هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل {ويكفر عنكم سيآتكم} أي: يسترها ما دمتم على التقوى {ويغفر لكم} أي: يمح ما كان منكم غير صالح عيناً وأثراً، وقيل: السيآت الصغائر، والذنوب الكبائر، وقيل: المراد ما تقدّم وما تأخر؛ لأنها في أهل بدر، وقد غفر الله تعالى لهم، وقوله تعالى: {وا ذو الفضل العظيم} تنبيه على أن ما وعده لهم على التقوى تفضل منه وإحسان، وإنه ليس مما توجبه تقواهم عليه كالسيد إذا وعد عبده إنعاماً على عمله.
ولما ذكر سبحانه وتعالى المؤمنين بنعمه عليهم بقوله تعالى: {واذكروا إذ أنتم قليل} إلى آخره، عطف عليه قوله تعالى:
(16/41)
---(1/1227)
{وإذ يمكر بك الذين كفروا} فذكر رسوله الله صلى الله عليه وسلم نعمه عليه، وهو دفع كيد المشركين ومكر الماكرين عنه، وهذه السورة مدنية، وهذا المكر كان بمكة، ولكن الله تعالى ذكره بالمدينة مكر قريش به حين كان بمكة ليشكر نعمة الله تعالى عليه في نجاته من مكرهم واستيلائه عليهم، وكان ذلك المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من المفسرين إنّ قريشاً لما أسلمت الأنصار وبايعوه فرقوا أن يتفاقم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعت رؤساؤهم كأبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبي سفيان وهشام بن عمرو وطعيمة بن عدي والنضر بن الحرث وأبي البحتري بن هشام في دار الندوة متشاورين في أمره صلى الله عليه وسلم فدخل عليهم إبليس لعنه الله تعالى في صورة شيخ، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخ من نجد سمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً قالوا: ادخل فدخل، فقال أبو البحتري: رأيي أن تحبسوه في بيت وتسدّوا باب البيت غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها وتتربصوا به ريب المنون حتى يهلك مثل ما هلك من قبله من الشعراء، فصرخ عدوّ الله النجدي وقال: بئس الرأي رأيتم والله لئن حبستموه في بيت ليأتينكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم قالوا: صدق الشيخ النجدي، فقال هشام بن عمرو: رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع واسترحتم، فقال النجدي: بئس الرأي تعمدون إلى رجل قد أفسد سفهاءكم، فتخرجوه إلى غيركم فيفسدهم، ألم تروا إلى حلاوة منطقه وطلاوة لسانه وأخذ القلوب ما يسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ذلك فيذهب ويستميل قلوب قوم، ثم يسير بهم إليكم ويخرجكم من بلادكم، قالوا: صدق والله الشيخ النجدي، فقال أبو جهل لعنه الله تعالى: والله لأشيرن عليكم برأي لا رأي غيره، إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شاباً وتعطوه سيفاً صارماً، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرّق دمه في القبائل، فلا تقوى بنو هاشم على(1/1228)
(16/42)
---
حرب قريش كلهم فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا، فقال إبليس الملعون: صدق هذا الفتى هو أجودكم رأياً القول ما قال لا أرى غيره، فتفرّقوا على قول أبي جهل مجمعين على قتله، فأتى جبريل عليه الصلاة والسلام النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأذن الله تعالى له عند ذلك بالخروج إلى المدينة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه فنام في مضجعه، وقال له: اتشح ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه، ثم خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخذ قبضة من تراب، وأخذ الله تعالى أبصارهم عنه، وجعل ينثر التراب على رؤوسهم، وهو يقرأ: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً} إلى قوله تعالى: {فهم لا يبصرون} (يس، 9)
ومضى إلى الغار هو وأبو بكر، وخلف علياً بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت بمكة عنده، وكانت الودائع تودع عنده لصدقه وأمانته، وبات المشركون يحرسون علياً على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسبون إنه النبيّ صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا بادروا إليه فرأوا علياً، فقالوا له: وأين صاحبك؟ فقال: لا أدري، فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه، فلما بلغوا الغار، رأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخله لم تكن تنسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاثاً، ثم قدم المدينة وأبطل الله مكرهم، وهذا معنى قوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} {ليثبتوك} أي: يوثقوك ويحبسوك {أو يقتلوك} كلهم قتلة رجل واحد {أو يخرجوك} من مكة {ويمكرون} بك {ويمكر الله} أي: يردّ مكرهم عليهم بتدبير أمرك بأن أوحي إليك ما دبروه، وأمرك بالخروج إلى المدينة، وأخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فقتلوا {وا خير الماكرين} أي: أعلمهم به، فلا ينفذ مكرهم دون مكره.
قال البيضاوي: وإسناد أمثال هذا إنما يحسن للمزاوجة، ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم، اه.
(16/43)
---(1/1229)
واعترض عليه بأنه لا يتعين في مثل ذلك المشاكلة بل يجوز أن يكون ذلك استعارة؛ لأنّ إطلاق المكر على إخفاء الله تعالى ما أوعده لمن استوجبه إن جعل باعتبار أنّ صورته تشبه صورة المكر فاستعارة، أو باعتبار الوقوع في صحبة مكر العبد فمشاكلة، وعلى هذا لا يحتاج كما قال الطيبي إلى وقوعه في صحبة مكر العبد قال: ومنه قول عليّ رضي الله عنه: من وسع الله تعالى عليه في دنياه ولم يعلم إنه مكر به فهو مخدوع في عقله.
{وإذا تتلى عليهم آياتنا} أي: القرآن {قالوا} أي: هؤلاء الذين ائتمروا في أمره صلى الله عليه وسلم {قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا} وهذا غاية مكابرتهم، وفرط عنادهم، إذ لو استطاعوا ذلك لفعلوه وإلا فما منعهم لو كانوا مستطيعين، وقرّعهم بالعجز عشر سنين، ثم قارعهم بالسيف، فلم يعارضوا بسورة مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلبوا خصوصاً في باب البيان، وقيل: قائله النضر بن الحرث المقتول صبراً؛ لأنه كان يأتي الحيرة يتجر فيشتري كتب أخبار العجم ويحدّث بها أهل مكة، وإسناده إلى الجميع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم، فكأنه كان قاضيهم، وقد أسره المقداد يوم بدر، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتله، فقال المقداد: أسيري يا رسول الله؟ فقال: «إنه كان يقول في كتاب الله تعالى ما يقول» فعاد المقداد لقوله، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «اللهمّ أغن المقداد من فضلك» فقال: ذاك الذي أردت يا رسول الله فقتله النبيّ صلى الله عليه وسلم فأنشدت أخته:
*ما كان ضرك لو مننت وربما ** منّ الفتى وهو المغيظ المحنق*
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «لو بلغني هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه» {إن} أي: ما {هذا} أي: القرآن {إلا أساطير الأوّلين} أي: أخبار الأمم الماضية وأسماؤهم، وما سطر الأوّلون في كتبهم، والأساطير جمع أسطورة وهي المكتوبة من قولهم سطرت أي: كتبت وقيل: أساطير جمع أسطور وأسطار جمع سطر.
(16/44)
---(1/1230)
{وإذ قالوا اللهمّ إن كان هذا} أي: الذي يقرؤه محمد {هو الحق} المنزل {من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} أي: مؤلم على إنكاره غير الحجارة قاله النضر وغيره، استهزاء وإيهاماً أنه على بصيرة وجزم ببطلانه.
وعن معاوية رضي الله عنه أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة قال: أجهل من قومي قومك قالوا: {اللهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك} الآية، وما قالوا: إن كان هذا هو الحق فاهدنا إليه.
فإن قيل: قد حكى الله تعالى هذه المقالة عن الكفار، وهي من حسن نظم القرآن، فقد حصلت المعارضة في هذا القدر، وأيضاً حكي عنهم أنهم قالوا في سورة بني إسرائيل، وقالوا: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} (الإسراء، 90)
الآية، وذلك أيضاً كلام الكفار، فقد حصل من كلامهم ما يشبه نظم القرآن وذلك يدل على حصول المعارضة، أجيب: بأنّ الإتيان بهذا القدر لا يكفي في حصول المعارضة؛ لأنه كلام قليل لا تظهر فيه وجوه المعارضة والفصاحة والبلاغة؛ لأنّ أقل ما وقع به التحدي سورة أو قدرها قال الله تعالى:
{وما كان الله ليعذبهم} أي: بما سألوه {وأنت فيهم} أي: لأنّ العذاب إذا نزل عمّ، ولم يعذب أمّة إلا بعد خروج نبيها والمؤمنين منها {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} أي: وفيهم من يستغفر، وهم المسلمون بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كان في هذه الأمّة أمانان أما النبيّ صلى الله عليه وسلم فقد مضى وأمّا الاستغفار فهو كائن فيكم إلى يوم القيامة، فاللفظ وإن كان عامّاً إلا أنّ المراد بعضهم كما يقال قدم أهل البلدة الفلانية على القتال والمراد بعضهم.
(16/45)
---(1/1231)
{وما لهم أن لا يعذبهم الله} بالسيف بعد خروجك والمستضعفين، فنفى تعالى في الآية أنه لا يعذبهم ما دام الرسول والمؤمنون فيهم، وذكر في هذه الآية أنه يعذبهم إذا خرجوا من بينهم، وقال الحسن: الآية الأولى منسوخة بهذه، وردّ بأنّ الأخبار لا يدخلها النسخ، واختلفوا في هذا العذاب فقال بعضهم: لحقهم هذا العذاب المتوعد به يوم بدر، وقيل: يوم فتح مكة، وقال ابن عباس: هذا العذاب هو عذاب الآخرة، والعذاب الذي نفي عنهم هو عذاب الدنيا، ثم بيّن تعالى ما لأجله يعذبهم، فقال: {وهم يصدّون} أي: يمنعون النبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين {عن المسجد الحرام} أن يطوفوا به وذلك عام الحديبية، ونبه تعالى على أنهم يصدّونهم لادعائهم أنهم أولياؤه، فكانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم، فنصد من نشاء وندخل من نشاء، ثم بيّن تعالى بطلان هذه الدعوى بقوله تعالى: {وما كانوا أولياءه} كما زعموا {إن} أي: ما {أولياؤه إلا المتقون} أي: الذين يتحرّزون عن المنكرات الذين لا يعبدون فيه غيره، وقيل: الضميران لله {ولكنّ أكثرهم} أي: الناس {لا يعلمون} أن لا ولاية لهم عليه وكأنه نبه بالأكثر على أنّ منهم من يعلم ويعاند، أو أراد به الكل كما يراد بالقلة العدم.
{وما كان صلاتهم عند البيت} أي: دعاؤهم أو ما يسمونه صلاة، أو ما يضعون موضعها {إلا مكاء} أي: صفيراً {وتصدية} أي: تصفيقاً، قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون.
(16/47)
---(1/1232)
وقال مجاهد: كان نفر من بني عبد الدار يعارضون النبيّ صلى الله عليه وسلم في الطواف ويستهزؤون به، ويدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون، ويخلطون عليه طوافه وصلاته، فالمكاء جعل الأصابع في الشدق، والتصدية الصفير، وقال مقاتل: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد الحرام قام رجلان عن يمينه ورجلان عن يساره يصفران ويصفقان ليخلطوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاته {فذوقوا العذاب} أي: عذاب القتل والأسر ببدر في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة {بما} أي: بسبب ما {كنتم تكفرون} اعتقاداً وعملاً. ولما ذكر تعالى عبادة الكفار البدنية، وهي المكاء والتصدية، ذكر عقبه عبادتهم المالية التي لا جدوى لها في الآخرة بقوله تعالى:
{إنّ الذين كفروا ينفقون أموالهم} في حرب النبيّ صلى الله عليه وسلم {ليصدّوا عن سبيل الله} أي: ليصرفوا عن دين الله تعالى نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا إثني عشر رجلاً منهم: أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وكلهم من قريش، وكان يطعم كل واحد منهم أيام بدر عشر جزائر، أو في أبي سفيان استأجر يوم أحد ألفين من العرب سوى من استجاش أي: اتخذه جيشاً، وأنفق عليهم أربعين أوقية، والأوقية اثنان وأربعون مثقالاً، أو في أصحاب العير، فإنه لما أصيب قريش ببدر قيل لهم: أعينوا بهذا المال على حرب محمد لعلنا ندرك ثأرنا ففعلوا {فسينفقونها ثم تكون} أي: عاقبة الأمر {عليهم حسرة} أي: ندامة لفواتها وفوات ما قصدوه {ثم يغلبون} أي: آخر الأمر وإن كان الحرب بينهم سجالاً قبل ذلك كما اتفق لهم في بدر، فإنهم أنفقوا مع الكثرة والقوّة، ولم يغن عنهم شيء من ذلك بل كان وبالاً عليهم فإنه كان سبباً لجراءتهم حتى قدموا فما كان في الحقيقة إلا قوّة للمؤمنين {والذين كفروا} أي: ثبتوا على الكفر {إلى جهنم يحشرون} أي: يساقون إليها يوم القيامة فهم في خزي في الدنيا والأخرة.
(16/48)
---(1/1233)
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل تعالى: وإلى جهنم يحشرون؟ أجيب: بأنه أسلم منهم جماعة كأبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وحكيم بن حزام، بل ذكر أن الذين ثبتوا على الكفر يكونون كذلك.
{ليميز الله الخبيث} أي: الفريق الكافر {من الطيب} أي: من الفريق المؤمن {ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً} أي: يجمعه متراكماً بعضه على بعض كقوله تعالى: {كادوا يكونون عليه لبداً} (الجن، 19)
أي: لفرط ازدحامهم، وقيل: ليميز المال الخبيث الذي أنفقه الكافر على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم من المال الطيب الذي أنفقه المؤمن في جهاد الكفار كإنفاق أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما في نصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم فيركمه جميعاً {فيجعله في جهنم} في جملة ما يعذبون به كقوله تعالى: {فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} (التوبة، 35)
الآية، واللام على هذا متعلقة بتكون من قوله تعالى: {ثم تكون عليهم حسرة} وعلى الأوّل متعلقة بيحشرون أو يغلبون.
وقرأ {ليميز} حمزة والكسائيّ بضم الياء الأولى وفتح الميم وتشديد الياء الثانية مع الكسر والباقون بفتح الياء الأولى وكسر الميم وسكون الياء الثانية، وقوله تعالى: {أولئك} إشارة إلى الذين كفروا {هم الخاسرون} أي: الكاملون في الخسران؛ لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم.
ولما بيّن تعالى ضلالهم في عباداتهم البدنية والمالية أرشدهم إلى طريق الصواب.
(16/49)
---(1/1234)
فقال: {قل} يا محمد {للذين كفروا} كأبي سفيان وأصحابه {إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} أي: قل لأجلهم هذا القول وهو أن ينتهوا عن الكفر وقتال النبيّ صلى الله عليه وسلم يغفر لهم ما قد سلف من ذلك ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل: إن تنتهوا يغفر لكم {وإن يعودوا} أي: إلى الكفر ومعاداة النبيّ صلى الله عليه وسلم {فقد مضت سنة الأوّلين} أي: بإهلاك أعدائه ونصر أنبيائه وأوليائه وأجمع العلماء على أنّ الإسلام يجبّ ما قبله، واختلفوا هل الكافر الأصلي مخاطب بفروع الشريعة؟ وهل يسقط عن المرتدّ ما مضى في حال ردّته كالكافر الأصلي كما هو ظاهر الآية؟ وهل الردّة تحبط ما مضى من العبادات قبلها، ذهب أصحاب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه إلى أنه مخاطب بدليل قوله تعالى: {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين} (المدثر، الآيات: 42 ـ 43)
الآية، وأنّ المرتدّ لا تسقط عنه العبادات الفائتة في الردّة تغليظاً عليه، وأنّ الردّة لا تحبط ما مضى، وقد تقدّم الكلام على ذلك في المائدة، وعن يحيى بن معاذ أنه قال: توحيد لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر أرجو أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب.
ولما بيّن تعالى أنّ هؤلاء الكفار إن انتهوا عن كفرهم حصل لهم الغفران، وإن عادوا فهم متوعدون سنة الأوّلين أتبعه بالأمر بقتالهم إذا أصرّوا، فقال تعالى:
(16/50)
---(1/1235)
{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} أي: شرك كما قاله ابن عباس، وقال الربيع: حتى لا يفتن أحدكم عن دينه؛ لأنّ المؤمنين كانوا يفتنون عن دين الله في مبدأ الدعوة، فافتتن من المسلمين بعضهم، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى الحبشة، وفتنة ثانية وهو أنه لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة توامرت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم، فأصاب المؤمنين جهد شديد، فأمر الله تعالى بقتالهم حتى تزول هذه الفتنة {ويكون الدين كله} خالصاً {} تعالى وحده لا يعبد غيره {فإن انتهوا} عن الكفر {فإن الله بما يعملون بصير} أي: فيجازيهم به.
{وإن تولوا} عن الإيمان {فاعلموا أنّ الله مولاكم} أي: ناصركم ومتولي أموركم {نعم المولى} هو فإنه لا يضيع من تولاه {ونعم النصير} أي: الناصر، فلا يغلب من ينصره فمن كان في حماية هذا المولى وفي حفظه وكفايته كان آمناً من الآفات مصوناً عن المخالفات.
(16/51)
---
{واعلموا أنما غنمتم} أي: أخذتم من الكفار الحربيين {من شيء} مما يقع عليه اسم شيء مما هو لهم ولو اختصاصاً {فإنّ خمسه وللرسول}.(1/1236)
واعلم أنّ الغنيمة والفيء إسمان لما يصيبه المسلمون من الحربيين والصحيح أنهما مختلفان، فالفيء ما حصل لنا مما هو لهم بلا إيجاف كجزية وعشر تجارة وما جلوا عنه ولو لغير خوف كضرّ أصابهم، وتركه مرتدّ وكافر معصوم بلا وارث، وكذا الفاضل عن وارث له غير حائز وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله} (الحشر، 7)،وأمّا الغنيمة فهي ما حصل لنا منهم مما هو لهم بإيجاف أو سرقة أو التقاط، وكذا ما انهزموا عنه عند التقاء الصفين، ولو قبل شهر السلاح، أو أهداه الكافر لنا والحرب قائمة، ولم تحلّ الغنائم لأحد قبل الإسلام بل كانت الأنبياء إذا غنموا مالاً جمعوه، فتأتي نار من السماء تأخذه، ثم أحلت للنبيّ صلى الله عليه وسلم وكانت في صدر الإسلام له خاصة؛ لأنه كالمقاتلين كلهم نصرة وشجاعة بل أعظم، ثم نسخ ذلك واستقل الأمر على أنها تجعل خمسة أقسام متساوية، ويؤخذ خمس رقاع ويكتب على واحدة لله أو للمصالح وعلى أربع للغانمين، ثم تدرج في بنادق مستوية، ويخرج لكل خمس رقعة، فما خرج لله أو للمصالح جعل بين أهل الخمس على خمسة أصناف، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن معه وذكر الله تعالى في الآية للتبرك، وأما ما كان له صلى الله عليه وسلم فهو لمصالح المسلمين كسد الثغور وأرزاق علماء بعلوم تتعلق بمصالحنا كتفسير وفقه وحديث، والصنف الثاني: ما ذكره الله تعالى بقوله: {ولذي القربى} أي: قرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب دون من عداهم لاقتصاره صلى الله عليه وسلم في القسم عليهم مع سؤال غيرهم من بني عمهم نوفل وعبد شمس له لقوله صلى الله عليه وسلم «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه» فيعطون ولو أغنياء، ويفضل الذكر على الأنثى كالإرث؛ لأنه عطية من الله تعالى تستحق بقرابة الأب كالإرث، فلا يعطي أولاد البنات من بني هاشم والمطلب شيئاً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعط الزبير وعثمان(1/1237)
(16/53)
---
مع أنّ أمّ كل واحد منهما كانت هاشمية.
والصنف الثالث: ما ذكره الله تعالى بقوله: {واليتامى} اليتيم صغير ولو أنثى لخبر: «لا يتم بعد احتلام» لا أب له وإن كان له أمّ وجد، ومن فقد أمّه فقط يقال له: منقطع، واليتيم في البهائم من فقد أمّه، وفي الطير من فقد أباه وأمّه.
والصنف الرابع: ما ذكره الله تعالى بقوله: {والمساكين} الصادقين بالفقراء والمسكين من له مال أو كسب لائق به يقع موقعاً من كفايته ولا يكفيه العمر الغالب، وقيل: سنة كمن يملك أو يكسب سبعة أو ثمانية ولا يكفيه إلا عشرة، والفقير من لا مال له أو له ذلك ولا يقع موقعاً من كفايته كمن يحتاج إلى عشرة، ولا يملك أو لا يكتسب إلا درهمين أو ثلاثة. والخامس: ما ذكره الله تعالى بقوله: {وابن السبيل} وهو المسافر المحتاج، ولا معصية بسفره والأخماس الأربعة الباقية للغانمين، وهم من حضر القتال ولو في أثنائه بنية القتال وإن لم يقاتل أو حضر بلا نية وقاتل كأجير لحفظ أمتعة وتاجر ومحترف، وقوله تعالى: {إن كنتم آمنتم با} متعلق بمحذوف دل عليه واعلموا أي: إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء فسلموه إليهم واقنعوا بالأخماس الأربعة الباقية، فإنّ العلم العملي إذا أمر به لم يرد منه العلم المجرد؛ لأنه مقصود بالعرض، والمقصود بالذات هو العمل وقوله تعالى: {وما} عطف على بالله {أنزلنا على عبدنا} محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات والملائكة والنصر {يوم الفرقان} أي: يوم بدر، فإنه فرق به بين الحق والباطل {يوم التقى الجمعان} أي: جمع المؤمنين وجمع الكافرين، وهو يوم بدر وهو أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة، فالتقوا يوم الجمعة لتسعة عشر أو لسبعة عشر من رمضان وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً والمشركون ما بين الألف والتسعمائة فهزم الله تعالى المشركين، وقتل منهم سبعون، وأسر منهم مثل(1/1238)
ذلك {وا
(16/54)
---
على كلّ شيء قدير} فيقدر على نصر القليل على الكثير، والدليل على العزيز كما فعل ذلك بكم ذلك اليوم وقوله تعالى:
{إذ أنتم بالعدوة الدنيا} أي: القربى من المدينة، بدل من يوم الفرقان أو من يوم التقى الجمعان، أو منصوب باذكروا مقدّراً، والعدوة الدنيا مما يلي المدينة {وهم بالعدوة القصوى} أي: البعدى من المدينة، وهي مما يلي مكة وكان الماء بها، وكان استظهار المشركين من هذا الوجه أشدّ.
والقصوى تأنيث الأقصى، وكان قياسه قلب الواو كالدنيا والعليا، ولكن لم تغلب تفرقة بين الاسم والصفة، فإنها تقلب في الاسم دون الصفة على الأكثر وقيل: بالعكس وعلى الأوّل القصوى وإن كان صفة للعدوة في الآية كالدنيا لكن غلب عليها الاسمية لترك الوصف بها في أكثر الاستعمالات كما قاله ابن جني، فالقصوى بالواو على القولين شاذ بالنظر إلى اسميتها في الأوّل وإلى وصفيتها في الثاني، ومثال الصفة الخالصة حلوى تأنيث الأحلى فهي بالواو مقيسة على الأوّل شاذة على الثاني، ومثال الاسم الخالص حزوى اسم مكان فهو بالواو شاذ على الأوّل مقيس على الثاني، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو العدوّة وهي شط الوادي بكسر العين فيهما، والباقون بضمّ العين فيهما، وأمّا الدنيا والقصوى فأمالهما حمزة والكسائي محضة، وأبو عمرو بين بين، وورش بالفتح وبين اللفظين {والركب} أي: العير التي خرجوا لها التي يقودها أبو سفيان {أسفل منكم} أي: أسفل منكم على ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر، وأسفل نصب على الظرفية معناه مكاناً أسفل من مكانكم، وهو مرفوع المحل؛ لأنه خبر المبتدأ {ولو تواعدتم} أنتم والنفير للقتال {لاختلفتم في الميعاد} وذلك أنّ المسلمين خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج، وخرج الكفار مرعوبين مما بلغهم من تعرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموالهم فيمنعوها من المسلمين، فالتقوا على غير ميعاد لقلتهم وكثرة عدوّهم {ولكن} جمع الله تعالى بينهم على هذه(1/1239)
الحالة من غير
(16/55)
---
ميعاد {ليقضي الله أمراً كان مفعولاً} في علمه وهو نصر أوليائه وإعزاز دينه وإعلاء كلمته وقهر أعدائه، وقوله تعالى: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة} بدل من ليقضي أو متعلق بقوله: {مفعولاً} واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام أي: ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة لا عن مخالطة شبهة حتى لا يبقى له على الله حجة، ويصدر إسلام من أسلم أيضاً عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به، فإنّ وقعة بدر من الآيات الواضحة التي من كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها.f
وقرأ نافع والبزيّ وشعبة بياءين: الأولى مكسورة والثانية مفتوحة، والباقون بياء واحدة مشدّدة، ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {وإنّ الله لسميع عليم} أي: يسمع دعاءكم ويعلم حاجتكم وضعفكم لا تخفى عليه خافية.
{إذ} أي: واذكر يا محمد نعمة الله عليك إذ {يريكهم الله} أي: المشركين {في منامك} أي: نومك {قليلاً} فأخبرت أصحابك فسروا وقالوا: رؤيا النبيّ صلى الله عليه وسلم حق، وصار ذلك سبباً لجرائتهم على عدوّهم وقوّة لقلوبهم.
فإن قيل: رؤيا الكثير قليلاً غلط، فكيف يجوز على الله تعالى؟ أجيب: بأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا يسئل عما يفعل، أو أنه تعالى أراه بعضهم دون بعض، فحكم صلى الله عليه وسلم على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون، وقال الحسن: إنّ هذه الإراءة كانت في اليقظة قال: والمراد من المنام العين التي هي موضع النوم {ولو أراكهم كثيراً لفشلتم} أي: ولو أراكم كثيراً لذكرته للقوم ولو سمعوا ذلك لفشلوا أي: جبنوا {ولتنازعتم} أي: اختلفتم {في الأمر} أي: أمر القتال وتفرّقت آراؤكم بين الفرار والقتال {ولكنّ الله سلم} أي: سلمكم من الفشل والتنازع فيما بينكم، وقيل: سلمكم من الهزيمة والقتل {إنه} تعالى {عليم} أي: بالغ العلم {بذات الصدور} أي: بما في القلوب من الجراءة والجبن والجزع وغير ذلك.
(16/56)(1/1240)
---
{وإذ يريكموهم} أي: المؤمنون {إذ التقيتم في أعينكم قليلاً} أي: إنّ الله تعالى قلل عدد المشركين في أعين المؤمنين يوم التقوا في القتال ليتأكد في اليقظة ما رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم في منامه، وأخبر به أصحابه، وتقوى بذلك قلوب المؤمنين وتزداد جراءتهم ولا يجبنوا عن قتالهم.
قال ابن مسعود: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى اجنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلاً منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفاً، والضميران مفعولا يرى، وقليلاً حال من الثاني {ويقللكم في أعينهم} أي: ويقللكم يا معشر المؤمنين في أعينهم أي: المشركين؛ لئلا يهربوا وإذا استقلوا عدد المسلمين لم يبالغوا في الاستعداد والتأهب لقتالهم، فيكون ذلك سبباً لظهور المؤمنين.
قال السدّيّ: قال ناس من المشركين: إنّ العير قد انصرفت، فارجعوا، فقال أبو جهل: الآن إذ برز لكم محمد وأصحابه، فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم إنما محمد وأصحابه أكلة جزور يعني جمع آكل أي: قليل يشبعهم جزور واحد، يضرب مثلاً في القلة والأمر الذي لا يعبأ به، ثم قال: فلا تقتلوهم واربطوهم بالحبال، أراد بقوله ذلك القدرة والقوّة.
فإن قيل: كيف يمكن تقليل الكثير وتكثير القليل؟ أجيب: بأنّ ذلك ممكن في قدرة الله تعالى، وإنّ الله تعالى على ما يشاء قدير، ويكون ذلك معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمعجزة هي من خوارق العادات، فلا ينكر ذلك، أو أنّ الله تعالى يستر عنهم بعضه بساتر، أو يحدث في أعينهم ما يستقلون له الكثير كما أحدث في عيون الحول ما يرون له الواحد اثنين، قيل لبعضهم: إنّ الأحول يرى الواحد اثنين، وكان بين يديه ديك قال: فمالي أرى هذين الديكين أربعة، وهذا قبل: التحام القتال فلما التحم أراهم إياهم مثليهم كما في آل عمران {ليقضي الله أمراً كان مفعولاً} أي: في علمه، وهو إعلاء كلمة الإسلام ونصر أهله.
(16/57)
---(1/1241)
فإن قيل: قد تقدّم ذلك في الآية المتقدّمة، فكان ذكره هنا محض تكرار أجيب: بأنّ المقصود من ذكره في الآية المتقدّمة هو أنه تعالى فعل تلك الأفعال ليحصل استيلاء المؤمنين على الكافرين على وجه يكون معجزة دالة على صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم والمقصود من ذكره هنا ليس هو ذلك المعنى بل المقصود أنه تعالى ذكر هنا أنه قلل عدد المؤمنين في أعين الكفار، فبين تعالى أنه إنما فعل ذلك ليصير ذلك سبباً؛ لئلا يبالغ الكفار في تحصيل الاستعداد والحذر فيصير ذلك سبباً لانكسارهم {وإلى الله ترجع الأمور} كلها فلا ينفذ إلا ما يريد إنفاذه فلا تجري الأمور على ما يظنه العباد، وفي هذا تنبيه على أنّ أمور الدنيا غير مقصودة وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زاد اليوم المعاد.
ولما ذكر تعالى أنواع نعمه على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين يوم بدر علمهم إذا التقوا بالفئة وهي الجماعة من المحاربين نوعين من الأدب بقوله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم} أي: قاتلتم؛ لأنّ اللقاء سبب للقتال غالباً {فئة} أي: جماعة كافرة {فاثبتوا} لقتالهم كما ثبتم في بدر ولا تحدثوا أنفسكم بفرار هذا هو النوع الأوّل {واذكروا الله كثيراً} بقلوبكم وألسنتكم قال ابن عباس: أمر الله تعالى أولياءه بذكره في أشدّ أحوالهم تنبيهاً على أنّ الإنسان لا يجوز له أن يخلو قلبه ولسانه عن ذكر الله، ولو أنّ رجلاً أقبل من المشرق إلى المغرب على أن ينفق الأموال سخاء والآخر من المغرب إلى المشرق يضرب بسيفه في سبيل الله لكان الذاكر لله أعظم أجراً، وقيل: المراد من هذا الذكر الدعاء بالنصر والظفر؛ لأنّ ذلك لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى {لعلكم تفلحون} أي: تظفرون بمرادكم من النصر والثبوت.
(16/58)
---(1/1242)
فإن قيل: هذه الآية توجب الثبات على كل حال وذلك يوهم أنها ناسخة لآية التحرّف والتحيز. أجيب: بأنّ المراد من الثبات الجدّ في المحاربة بل كان الثبات في هذا المقصود لا يحصل إلا بذلك التحرّف والتحيز.
ثم قال تعالى مؤكداً لذلك:
(16/59)
---
{وأطيعوا الله ورسوله} في سائر ما يأمران به؛ لأنّ الجهاد لا ينفع إلا مع التمسك بسائر الطاعات {ولا تنازعوا} أي: تختلفوا فيما بينكم {فتفشلوا} أي: تجبنوا {وتذهب ريحكم} أي: قوّتكم ودولتكم، والريح مستعارة للدولة شبهها في نفوذ أثرها بالريح، ثم أدخل المشبه في جنس المشبه به ادعاء، وأطلق اسم المشبه به على المشبه، وقيل: المراد بها الحقيقة؛ لأنه لم يكن قط نصر إلا بريح يبعثها الله تعالى، وفي حديث الشيخين «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور»، وعن النعمان بن مقرن قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا لم يقاتل من أوّل النهار أخر القتال حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر» أخرجه أبو داود {واصبروا} أي: عند لقاء العدوّ ولا تنهزموا عنه {إنّ الله مع الصابرين} بالنصر والمعونة.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدوّ واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أنّ الجنة تحت ظلال السيوف» ثم قال صلى الله عليه وسلم «اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم».
(16/60)
---(1/1243)
{ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم} أي: ليمنعوا غيرهم ولم يرجعوا بعد نجاتها {بطراً} أي: فخراً وطغياناً في النعمة وذلك إنّ النعم إذا كثرت من الله تعالى على العبد فإن صرفها في المفاخرة على الأقران وكاثر بها أبناء الزمان وأنفقها في غير طاعة الرحمن، فذلك هو البطر في النعمة، وإن صرفها في طاعة الله وابتغاء مرضاته فذلك شكرها {ورئاء الناس} أي: ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة وذلك أنهم لما بلغوا الجحفة، وأتاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم، فقال أبو جهل: لا والله حتى نقدم بدراً، وكان بدر موسماً من مواسم العرب يجتمع لهم فيها سوق في كل عام، ونشرب بها الخمور وتعزف علينا القينات، والعزف اللعب بالمعازف، وهي الدفوف وغيرها مما يضرب به قاله ابن الأثير وغيره، والقينات الجواري، ونطعم بها من حضرنا من العرب، فذلك بطرهم ورياؤهم الناس بإطعامهم فوافوها فسقوا المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القينات، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم بطرين مرائين، وأمرهم أن يكونوا أهل تقوى وإخلاص من حيث إنّ النهي عن الشيء أمر بضدّه {ويصدّون عن سبيل الله} أي: ويمنعون الناس الدخول في دين الله {وا بما يعملون محيط} لا يخفى عليه شيء؛ لأنه محيط بأعمال العباد كلها فيجازيهم بأعمالهم.
(16/61)
---(1/1244)
{وإذ} أي: واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم إذ {زين لهم} أي: المشركين {الشيطان} أي: إبليس {أعمالهم} الخبيثة بأنّ شجعهم على لقاء المسلمين لما خافوا الخروج من أعدائهم بني بكر بن الحرث جاء إبليس وجند من الشياطين معه راية فتمثل لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكنانيّ وكان من أشرافهم {وقال} غارّاً لهم في أنفسهم {لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم} أي: مجير لكم من كنانة {فلما تراءت الفئتان} أي: التقى الفريقان رأى إبليس الملائكة قد نزلوا من السماء علم عدوّ الله إبليس أنهم لا طاقة لهم بهم {نكص على عقبيه} قال الضحاك: ولى مدبراً وقال النضر بن شميل: رجع القهقرى على قفاه هارباً {وقال إني بريء منكم} قال الكلبي: لما التقى الجمعان كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة بن مالك، وهو آخذ بيد الحرث بن هشام، فنكص عدوّ الله إبليس على عقبيه، فقال له الحرث: إلى أين أتخذلنا في هذه الحالة؟ فقال له عدوّ الله إبليس: {إني أرى ما لا ترون} ودفع في صدر الحرث، وانطلق فانهزموا قال الحسن: رأى إبليس جبريل بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي يده اللجام يقود الفرس ما ركب، قال قتادة: قال إبليس: إني أرى ما لا ترون وصدق وقال: {إني أخاف الله} وكذب والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوّة له ولا منعة، فأوردهم وأسلمهم، وذلك من عادة عدوّ الله إبليس لعنه الله لمن أطاعه إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم، وقال عطاء: خاف إبليس أن يهلكه الله تعالى فيمن يهلك، وقيل: أخاف الله عليكم، وقيل: إنه لما رأى جبريل خافه، وقيل: لما رأى الملائكة تنزل من السماء خاف أن يكون الوقت الذي أنظر إليه قد حضر، فقال ما قال إشفاقاً على نفسه.
(16/62)
---(1/1245)
ولما انهزموا وبلغوا مكة قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغه ذلك فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان، وقوله تعالى: {وا شديد العقاب} يجوز أن يكون من كلام إبليس أي: إني أخاف الله؛ لأنه شديد العقاب وأن يكون مستأنفاً أي: والله شديد العقاب لمن خالفه وكفر به.
فإن قيل: كيف يقدر إبليس أن يتصوّر بصورة البشر وإذا تشكل بصورة البشر فكيف يسمى شيطاناً؟ أجيب: بأنّ الله تعالى أعطاه قوّة، وأقدره على فعل ذلك كما أعطى الملائكة قوّة وأقدرهم على أن يتشكلوا بصورة البشر لكن النفس الباطنية لم تتغير، فلم يلزم من تغير الصورة تغير الحقيقة.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما رؤي إبليس يوماً فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة» وما ذاك إلا لما يرى من نزول الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما كان من يوم بدر.
{إذ} أي: واذكر إذ {يقول المنافقون} أي: من أهل المدينة، والمنافق هو من يظهر الإسلام ويخفي الكفر كما أنّ المرائي هو من يظهر الطاعة ويخفي المعصية {والذين في قلوبهم مرض} أي: شك وارتياب، وهم قوم من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يقع الإسلام في قلوبهم ولم يتمكن، فلما خرج قريش إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا معهم إلى بدر، فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وارتدوا وقالوا: {غرّ هؤلاء} المسلمين {دينهم} إذ خرجوا مع قلتهم يقاتلون الجمع الكثير توهماً أنهم ينصرون بسببه، فقتلوا جميعاً منهم قيس بن الوليد بن المغيرة وعديّ بن أمية بن خلف الجمحي والعاص بن أمية بن الحجاج، قال تعالى في جوابهم: {ومن يتوكل على الله} أي: يثق به يغلب {فإنّ الله عزيز} أي: غالب على أمره {حكيم} أي: في صنعه يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل، ويعجز عن إدراكه.
ولما شرح تعالى أحوال هؤلاء الكفار شرح أحوال موتهم، والعذاب الذي يصل إليهم في ذلك الوقت بقوله تعالى:
(16/63)
---(1/1246)
{ولو ترى} أي: عاينت وشاهدت يا محمد {إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة} أي: بقبض أرواحهم عند الموت {يضربون وجوههم وأدبارهم} أي: ظهورهم وأستاههم، قال البيضاويّ: ولعلّ المراد تعميم الضرب أي: يضربون ما أقبل منهم وما أدبر بمقامع من حديد {و} يقولون لهم: {ذوقوا عذاب الحريق} أي: النار.
قال ابن عباس: كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف، وإذا ولوا ضربوا أدبارهم، فلا جرم قابلهم الله بمثله في وقت نزع الروح، وجواب لو محذوف، والتقدير لرأيت منظراً هائلاً وأمراً فظيعاً وعقاباً شديداً، والملائكة مرفوع بالفعل ويضربون حال منهم ويجوز أن يكون في قوله: يتوفى ضمير الله تعالى والملائكة مرفوعة بالابتداء ويضربون خبر.
{ذلك} أي: الذي نزل بكم من القتل والضرب والحريق {بما} أي: بسبب ما {قدّمت} أي: كسبت {أيديكم} من الكفر والمعاصي، وإنما عبر بالأيدي دون غيرها لأنّ أكثر الأفعال تزاول بها والتحقيق إنّ الإنسان جوهر واحد وهو الفعال وهو الدراك وهو المؤمن وهو الكافر وهو المطيع وهو العاصي وهذه الأعضاء آلة له وأدوات في الفعل فأضيف الفعل في الظاهر إلى الآلة وهو في الحقيقة مضاف إلى جوهر ذات الإنسان {وأنّ الله ليس بظلام للعبيد} فلا يعذب أحداً من خلقه بغير ذنب وظلام للتكثير لأجل العبيد أي: أنه بمعنى ذي ظلم.
(16/64)
---(1/1247)
{كدأب} أي: دأب هؤلاء الكفار بكفرهم مثل دأب {آل فرعون} وهو عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه أي: داموا عليه فجوزي هؤلاء بالقتل والأسر يوم بدر كما جوزي آل فرعون بالإغراق، وأصل الدأب في اللغة إدامة العمل يقال: فلان دأب في كذا أي: داوم عليه وسميت العادة دأباً لأنّ الإنسان مداوم على عادته مواظب عليها {والذين من قبلهم} أي: من قبل آل فرعون وقوله تعالى: {كفروا بآيات الله} تفسير لدأب آل فرعون {فأخذهم الله بذنوبهم} أي: بسبب كفرهم كما أخذ هؤلاء {الله الله قويّ} أي: على ما يريده فينتقم ممن كفر وكذب رسله {شديد العقاب} ممن كفر وكذب رسله وقوله تعالى:
(16/65)
---
{ذلك} إشارة إلى ما حلّ بهم من العقاب {بأن} أي: بسبب أن {الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم} أي: مبدلاً لها بالنقمة {حتى يغيروا ما بأنفسهم} أي: بأن يبدّلوا ما بهم من الحال إلى حال أسوأ منه.
(16/66)
---
فإن قيل: فما كان من تغيير آل فرعون ومشركي مكة حتى غير الله تعالى نعمته عليهم، ولم تكن لهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة أجيب: بأنه تعالى كما يغير الحال المرضية إلى المسخوطة يغير الحال المسخوطة؟ إلى أسخط منها، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كفرة عبدة أوثان فلما بعث إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وتحزبوا عليه ساعين في إراقة دمه غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت عليه فغير الله تعالى ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب {وإنّ الله سميع} لما يقولون {عليم} بما يفعلون.
{كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم} أي: أهلكنا بعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالحجارة وبعضهم بالريح وبعضهم بالمسخ، كذلك أهلكنا كفار قريش بالسيف {وأغرقنا آل فرعون} أي: هو وقومه.
فإن قيل: ما فائدة تكرير هذه الآية مرّة ثانية؟ أجيب: بأنّ فيها فوائد:(1/1248)
منها: إنّ الكلام الثاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأوّل؛ لأن الكلام الأوّل فيه ذكر أخذهم، وفي الثاني ذكر إغراقهم وذلك تفصيل.
ومنها: أنه ذكر في الآية الأولى أنهم كفروا بآيات الله، وفي الآية الثانية أنهم كذبوا بآيات ربهم ففي الآية الثانية إشارة إلى أنهم كذبوا بها مع جحودهم لها وكفرهم بها.
ومنها: أنّ تكرير هذه القصة للتأكيد، ولما نيط به من الدلالة على كفران النعم بقوله: {بآيات ربهم} وبيان ما أخذ به آل فرعون.
ومنها: أنّ الأولى لسببية الكفر، والثانية لسببية التغيير، والنقمة بسبب تغييرهم ما بأنفسهم {وكل} أي: من الفرق المكذبة أو من غرقى القبط وقتلى قريش {كانوا ظالمين} أنفسهم بالكفر والمعاصي وغيرهم بالإضلال واضعين الآيات في غير موضعها وهم يظنون بأنفسهم العدل، ولما وصف تعالى كل الكفار بقوله تعالى: {وكل كانوا ظالمين} أفرد بعضهم بمزية في الشر والفساد فقال:
(16/67)
---
{إنّ شرّ الدواب عند الله} في حكمه وعلمه {الذين كفروا} أي: أصرّوا على الكفر {فهم لا يؤمنون} أي: لا يتوقع منهم إيمان وقوله تعالى:
{الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرّة} بدل البعض من الذين كفروا، وهم يهود قريظة عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالئوا أي: يساعدوا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح، وقالوا: نسينا وأخطأنا ثم عاهدهم فنكثوا ومالؤوا معهم يوم الخندق وانطلق كعب بن الأشرف إلى أهل مكة فحالفهم، وإنما جعلهم الله تعالى شر الدواب؛ لأنّ شر الناس الكفار، وشر الكفار المصرون منهم وشر المصرين الناكثون العهود {وهم لا يتقون} الله في حذرهم.(1/1249)
{فإمّا} فيه إدغام إن الشرطية في ما الزائدة {تثقفنهم} أي: تجدن هؤلاء الذين نقضوا العهد وظفرت بهم {في الحرب فشرد} قال ابن عباس: فنكل {بهم} أي: بهؤلاء الذين نقضوا العهد {من خلفهم} أي: من وراءهم من أهل مكة واليمن وغيرهما، فيخافون أن تفعل بهم كفعل هؤلاء، وقال عطاء: أثخنْ فيهم القتل حتى يخافك غيرهم {لعلهم} أي: الذين خلفهم {يذكرون} أي: يتعظون بهم.
{وإمّا تخافن} أي: تعلمن يا محمد {من قوم} عاهدتهم {خيانة} في العهد بإمارات تلوح لك كما ظهر من قريظة والنضير {فانبذ} أي: اطرح عهدهم {إليهم}، وقوله تعالى: {على سواء} حال أي: مستوياً أنت وهم في العلم بنقض العهد، بأن تعلمهم به؛ لئلا يتهموك بالغدر إذا نصبت الحرب معهم {إنّ الله لا يحبّ الخائنين} أي: في نقض العهد أو غيره.
(16/68)
---(1/1250)
روي أنّ معاوية كان بينه وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدراً، فإذا هو عمرو بن عنبسة، فأرسل إليه معاوية يسأله فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان بينه وبين قوم عهد فلا ينبذ عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء» فرجع معاوية، قال الرازي: حاصل الكلام في هذه الآية أنه تعالى أمره بقتل من ينقض العهد على أقبح الوجوه، وأمره أن يتباعد على أقصى الوجوه، من كل ما يوهم نكث العهد ونقضه، قال أهل العلم: إذا ظهرت آثار نقض العهد ممن عاهدهم الإمام من المشركين بأمر ظاهر مستفيض، إمّا أن يظهر ظهوراً محتملاً أو ظهوراً مقطوعاً به، فإن كان الأوّل وجب الإعلام عليه على ما هو مذكور في هذه الآية، وذلك أن قريظة عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فحصل للنبيّ صلى الله عليه وسلم خوف الغدر به وبأصحابه فههنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم على سواء، ويعلمهم بالحرب، وأمّا إذا ظهر نقض العهد ظهوراً مقطوعاً به فههنا لا حاجة إلى نبذ العهد بل يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة، وهم في ذمّة النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يرعهم إلا وجيش النبيّ صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، وذلك على أربعة فراسخ من مكة.
ولما بيّن تعالى ما يفعله صلى الله عليه وسلم في حق من يجده في الحرب ويتمكن منه، وذكر أيضاً ما يجب أن يفعله فيمن ظهر منه نقض العهد، بين أيضاً حال من فاته في يوم بدر وغيره لكي لا تبقى حسرة في قلبه فقد كان فيهم من بلغ في أذية النبيّ صلى الله عليه وسلم مبلغاً عظيماً بقوله تعالى:
(16/69)
---(1/1251)
{ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا} أي: خلصوا من القتل والأسر يوم بدر {إنهم لا يعجزون} الله أي: لا يفوتونه بهذا السبق في الانتقام منهم، إمّا في الدنيا، وإمّا في الآخرة بعذاب النار، وفيه تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيمن، فاته من المشركين ولم ينتقم منه، فأعلمه الله تعالى أنهم لا يعجزونه، وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص يحسبن بالياء على الغيبة على أن الفعل للذين كفروا، والباقون بالتاء على الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشرد من صدر منه نقض العهد إلى من خاف منه النقص واتفق لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم قصدوا الكفار بلا آلة ولا عدة أمرهم في هذه الآية بالإعداد لهؤلاء الكفار بقوله تعالى:
{وأعدوا لهم} أي: لقتالهم {ما استطعتم من قوّة} الإعداد اتخاذ الشيء لوقت الحاجة إليه، وفي المراد بالقوّة أقوال.t
الأوّل: الرمي وقد جاءت مفسرة به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: «وأعدوا لهم ما استطعتم ألا إن القوّة الرمي ثلاثاً» أخرجه مسلم، وعن أبي أسيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين صففنا لقريش وصفوا لنا: «إذا كبسوكم فعليكم بالنبل»، وفي رواية: «ليس من اللهو محمود إلا ثلاثة: تأديب الرجل فرسه، وملاعبة أهله، ورميه بقوسه أي: نبله، فإنهنّ من الحق ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه، فإنها نعمة تركها أو كفرها» أخرجه الترمذي.
والثاني: إنها الحصون.
والثالث: إنها جميع الأسلحة والآلات التي تكون لكم قوّة في الحرب على قتال عدوّكم وقوله تعالى: {ومن رباط الخيل} مصدر بمعنى حبسها في سبيل الله سواء كانت ذكوراً أو إناثاً، وقال عكرمة: المراد الإناث.
(16/70)
---(1/1252)
وروي عن خالد بن الوليد أنه قال: لا يركب في القتال إلا الإناث لقلة صهيلها، وعن أبي محيريز أنه قال: كانت الصحابة يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف، وإناث الخيل عند البيات والغارات، وقيل: ربط الفحول أولى؛ لأنها أقوى على الكرّ والفرّ، ويدلّ للأوّل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله، وتصديقاً بوعده، فإنّ شبعه وريه وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة» يعني حسناته، وعن عروة البارقيّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم»، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال: «ما أنزل عليّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره} {ترهبون} أي: تخوفون {به} أي: بتلك القوّة أو بذلك الرباط {عدوّ الله وعدوّكم} أي: الكفار من أهل مكة وغيرهم، وذلك إنّ الكفار إذا علموا أنّ المسلمين متأهبون للجهاد مستعدون له مستكملون لجميع الأسلحة وآلات الحرب وإعداد الخيل مربوطة للجهاد خافوهم، فلا يقصدون دخول دار الإسلام بل يصير ذلك سبباً لدخول الكفار في الإسلام أو بذل الجزية للمسلمين {و} ترهبون {آخرين من دونهم} أي: غيرهم وهم المنافقون لقوله تعالى: {لا تعلمونهم}؛ لأنهم معكم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم {الله يعلمهم} أي: إنهم منافقون.
(16/71)
---(1/1253)
فإن قيل: المنافقون لا يخافون القتال فكيف يوجب ما ذكر الإرهاب؟ أجيب: بأنّ المنافقين إذا شاهدوا قوّة المسلمين، وكثرة آلاتهم وأسلحتهم كان ذلك مما يخوفهم ويقطع طمعهم من أن يصيروا غالبين، فيحملهم ذلك على أن يتركوا الكفر من قلوبهم، وبواطنهم ويصيروا مخلصين في الإيمان، وقيل: هم اليهود، وقيل: الفرس {وما تنفقوا من شيء} وإن قل {في سبيل الله} أي: طاعته جهاداً كان أو غيره {يُوفّ إليكم} قال ابن عباس: أجره، أي: لا يضيع في الآخرة أجره ويعجل الله عوضه في الدنيا {وأنتم لا تظلمون} أي: لا تنقصون من الثواب، ولما سئل ابن عباس عن هذا التفسير تلا قوله تعالى: {آتت أكلها ولم تظلم منه شيأ} (الكهف، 33)
ولما بيّن تعالى ما يرهب به العدوّ من القوّة، والاستظهار بيّن جواز الصلح بقوله تعالى:
{وإن جنحوا} أي: مالوا {للسلم} أي: الصلح {فاجنح} أي: فمل {لها} وعاهدهم، وتأنيث الضمير في لها لحمل السلم مع أنه مذكر على ضدّه وهو الحرب قال الشاعر:
*السلم تأخذ منها ما رضيت به ** والحرب يكفيك من أنفاسها جُرَعُ*
فأنث ضمير السلم، في تأخذ حملاً على ضدّه وهو الحرب، وعن ابن عباس هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون با} (التوبة، 29)
وعن مجاهد بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} (التوبة، 5)
وقال غيرهما: الصحيح إنّ الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام، وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبداً أو يجابوا إلى الهدنة أبداً وهذا ظاهر.
وقرأ شعبة بكسر السين، والباقون بالفتح {وتوكل على الله} أي: فوض أمرك إليه فيما عقدته معهم؛ ليكون عوناً لك في جميع أحوالك {إنه هو السميع}؛ لأقوالهم فهو يسمع كل ما أبرموه في ذلك، وفي غيره كما يسمعه علانية {العليم} بنياتهم فهو يعلم كل ما أخفوه كما إنه يعلم كل ما أعلنوه.
(16/72)
---(1/1254)
{وإن يريدوا} أي: الكفار {أن يخدعوك} أي: بإظهار الصلح ليستعدوا لك {فإن حسبك} أي: كافيك {الله هو الذي أيدك بنصره} في سائر أيامك، فإن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم من أوّل حياته إلى وقت وفاته كان أمراً إلهياً وتدبيراً علوياً، وما كان لكسب الخلق فيه مدخل {و} أيدك {بالمؤمنين} أي: الأنصار.
(16/73)
---
فإن قيل: فإذا كان الله تعالى مؤيده بنصره، فأيّ حاجة مع نصره تعالى إلى المؤمنين؟ أجيب: بأن التأييد ليس إلا من الله تعالى دائماً لكنه على قسمين: أحدهما: ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة، والثاني ما يحصل بذلك فالأوّل هو المراد من قوله تعالى: {أيدك بنصره}، والثاني: هو المراد من قوله تعالى: {وبالمؤمنين} والله تعالى هو مسبب الأسباب، وهو الذي أقامهم بنصره ثم بيّن تعالى كيف أيده بالمؤمنين بقوله تعالى:(1/1255)
{وألف} أي: جمع {بين قلوبهم} وذلك إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث إلى قوم أنفتهم شديدة، وحميتهم عظيمة حتى لو أنّ رجلاً من قبيلة لطم لطمةً واحدة، قاتلت عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره، ثم إنهم انقلبوا عن تلك الحالة حتى قاتل الرجل أباه وأخاه وابنه، واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصاراً دعاة، فإزالة تلك العداوة الشديدة وتبديلها بالمحبة القوية، مما لا يقدر عليها إلا الله تعالى، وصارت تلك معجزة ظاهرة على صدق نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا قال تعالى: {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم} أي: تناهت عداوتهم إلى حد لو أنفقت في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم تقدر على الإلفة والصلاح بينهم {ولكن الله ألف بينهم} بقدرته البالغة، فإنه تعالى المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء {إنه} أي: الله تعالى {عزيز} أي: غالب على أمره لا يعصى عليه ما يريد {حكيم} لا يخرج شيء عن حكمته، وقيل: الآية نزلت في الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم فأنساهم الله تعالى ذلك، وألف بين قلوبهم بالإسلام حتى تصادقوا وصاروا أنصاراً، وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته.
{يأيها النبيّ حسبك} أي: كافيك {ا}.
(16/74)
---
فإن قيل: هذا مكرّر، أجيب: بأنه تعالى لما وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء وعده بالنصر والظفر في هذه الآية مطلقاً على جميع التقديرات، فلا يلزم حصول التكرار؛ لأنّ المعنى في الآية الأولى: إن أرادوا خداعك كفاك الله تعالى أمرهم، والمعنى في هذه الآية عام في كل ما يحتاج إليه في الدين وقوله تعالى: {ومن اتبعك من المؤمنين} إمّا في محل نصب على المفعول معه كقول الشاعر:
*فحسبك والضحاك سيف مهند*(1/1256)
يروي الضحاك بالنصب على أنه مفعول معه، والمعنى: كفاك وكفى أتباعك المؤمنين الله ناصراً، أو رفع عطفاً على اسم الله تعالى أي: كفاك الله وكفى المؤمنين، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، وعن سعيد بن جبير أسلم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فتمم الله تعالى به الأربعين فنزلت هذه الآية.
{يأيها النبيّ حرّض المؤمنين} أي: حثهم {على القتال} للكفار والتحريض في اللغة، كالتحضيض، وهو الحث على الشيء {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} منهم {وإن يكن منكم مائة} صابرة {يغلبوا ألفاً من الذين كفروا} وهذا خبر بمعنى الأمر أي: ليقاتل العشرون منكم المائتين والمائة الألف قتال عشرة أمثالكم.
تنبيه: تقييد ذلك بالصبر يدلّ على أنه تعالى ما أوجب هذا الحكم إلا بشرط كونه صابراً قادراً على ذلك، وإنما يحصل هذا الشرط عند حصول أشياء منها: أن يكون شديد الأعضاء قوياً جلداً، ومنها: أن يكون قويّ القلب شديد البأس شجاعاً غير جبان، ومنها: أن يكون غير متحرف لقتال أو متحيز إلى فئة، فإنّ الله تعالى استثنى هاتين الحالتين في الآيات المتقدّمة فعند حصول هذه الشروط كان يجب على الواحد أن يثبت للعشرة.
(16/75)
---
فإن قيل: حاصل هذه العبارة المطولة إنّ الواحد يثبت للعشرة فما الفائدة في العدول إلى هذه العبارة المطولة؟ أجيب: بأنّ هذا إنما ورد على وفق الواقعة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث السرايا والغالب أن تلك السرايا ما كان ينقص عددها عن العشرين، وما كانت تزيد على المائة فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذين العددين.(1/1257)
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بالتاء على التأنيث والباقون بالياء على التذكير {بأنهم} أي: بسبب أنهم {قوم لا يفقهون} أي: جهلة بالله تعالى واليوم الآخر، فلا يقاتلوا لطلب ثواب وخوف عقاب إنما يقاتلون حمية، فإذا صدقتموهم في القتال لا يثبتون معكم، وكان هذا يوم بدر فرض الله تعالى على الرجل الواحد من المسلمين قتال عشرة من الكافرين فثقلت على المؤمنين، قال عطاء عن ابن عباس: لما نزل التكليف بهذه الآية صاح المهاجرون وقالوا: يا رب نحن جياع وعدوّنا شباع، ونحن في غربة وعدوّنا في أهليهم ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا، وعدوّنا ليس كذلك فنسخها الله تعالى بقوله تعالى:
{الآن خفف الله عنكم} أيها المؤمنون {وعلم أن فيكم ضعفاً} أي: في قتال الواحد للعشرة {فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين} منهم {وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين} منهم {بإذن الله} أي: بإرادته تعالى، فردّوا من العشرة إلى اثنين، فإذا كان المسلمون على قدر النصف من عدوّهم لا يجوز أن يفروا، وقال عكرمة: إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة والعشرة لمائة حال ما كان المسلمون قليلين، فلما كثروا خفف الله تعالى عنهم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر، فإن فر من اثنين فقد فر {وا مع الصابرين} بالنصر والمعونة فكيف لا يغلبون، قال سفيان بن شبرمة: وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل ذلك ونزل لما أخذوا الفداء من أسرى بدر.
(16/76)
---
{ما كان} أي: ما صح وما استقام {لنبيّ أن تكون له أسرى} قرأ أبو عمرو بالتاء على التأنيث، والباقون بالياء على التذكير {حتى يثخن في الأرض} أي: يكثر قتل الكفار، ويبالغ فيه حتى يذل الكفر ويقل حزبه، ويعز الإسلام ويستولي أهله؛ لأنّ الملك والدولة إنما تقوى وتشتدّ بالقتل، قال الشاعر:
*لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ** حتى يراق على جوانبه الدم*(1/1258)
روي أنه صلى الله عليه وسلم أتي يوم بدر بسبعين أسيراً فيهم العباس عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وعقيل بن أبي طالب فاستشار فيهم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك، وقال عمر رضي الله تعالى عنه: كذبوك وأخرجوك فقدمهم، واضرب أعناقهم، فإنّ هؤلاء أئمة الكفر، وإنّ الله أغناك عن الفداء، مكّن علياً من عقيل، وحمزة من العباس، ومكني من فلان ـ لنسيب له ـ فلنضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه ثم أضرم عليهم ناراً، فقال له العباس: قطعت رحمك، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجبهم ثم دخل، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول ابن رواحة، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنّ الله لين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدّد قلوب رجال حتى تكون أشدّ من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: {من تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} (إبراهيم، 36)
ومثل عيسى في قوله: {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} (المائدة، 118)
ومثلك يا عمر مثل نوح قال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} (نوح، 26)
ومثل موسى حيث قال: {ربنا اطمس على أموالهم} (يونس، 88)
ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قول أبي بكر.
(16/77)
---(1/1259)
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «يا أبا حفص، وكان ذلك أوّل ما كناه، أتأمرني أن أقتل العباس؟» فجعل عمر يقول: ويل لعمر ثلكته أمه، ثم قال لأصحابه: أنتم اليوم عالة ولا يغلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق، فقال ابن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتدّ خوفي فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إلا سهيل بن بيضاء»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للقوم: «إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدّتهم» فقالوا: بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد وكان فداء الأسارى عشرين أوقية، والأوقية أربعون درهماً، فيكون مجموع ذلك ألفاً وستمائة درهم، وقال قتادة: كان الفداء يومئذٍ لكل أسير أربعة آلاف.
قال عمر رضي الله تعالى عنه: فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله تعالى عنه يبكيان قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة» لشجرة قريبة منه {تريدون} أيها المؤمنون {عرض الدنيا} بأخذ فداء من المشركين، وإنما سمي منافع الدنيا عرضاً، لأنها لا ثبات لها ولا دوام، فكأنها تعرض ثم تزول بخلاف منافع الآخرة {وا يريد} لكم {الآخرة} أي: ثوابها بقهركم المشركين ونصركم الدين {وا عزيز} لا يقهر ولا يغلب {حكيم} أي: لا يصدر منه فعل إلا وهو في غاية الإتقان، قال ابن عباس: كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذٍ قليل، فلما كثروا واشتدّ سلطانهم، أنزل الله تعالى في الأسرى {فإمّا مناً بعد وإما فداء} (محمد، 4)
(16/78)
---(1/1260)
فجعل الله تعالى نبيه والمؤمنين في أمر الأسرى بالخيار إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا فادوهم، وإن شاءوا أعتقوهم أي: فهذه الآية نسخت تلك، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت الغنائم حراماً على الأنبياء والأمم، وكانوا إذا أصابوا مغنماً جعلوه للقربان وكانت تنزل نار من السماء فتأكله فلما كان يوم بدر أسرع المؤمنون وأخذوا الفداء فأنزل الله تعالى.
{لولا كتاب من الله سبق} أي: لولا قضاء الله سبق في اللوح المحفوظ، بأنه يحمل لكم الغنائم {لمسكم} أي: لنالكم {فيما أخذتم} أي: من الفداء {عذاب عظيم} وقال الحسن ومجاهد: لولا كتاب من الله سبق إنه لا يعذب أحداً ممن شهد بدراً مع النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحق: لم يكن من المؤمنين أحد إلا أحب الغنائم، إلا عمر بن الخطاب، فإنه أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الأسرى، وسعد بن معاذ قال: يا رسول الله كان الإثخان في القتل أحبّ إليّ من استبقاء الرجال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ».
روي: لما نزلت هذه الآية كف رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديهم أن يأخذوا من الفداء فنزلت:
{فكلوا مما غنمتم} أي: من الفداء، فإنه من جملة الغنائم {حلالاً طيباً} فأحل الله الغنائم بهذه الآية لهذه الأمة وقال صلى الله عليه وسلم «أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي».
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لم تحل الغنائم لأحد قبلنا، ثم أحل لنا الغنائم ذلك بأنّ الله رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا».
(16/79)
---(1/1261)
فإن قيل: ما معنى الفاء في قوله تعالى: {فكلوا}؟ أجيب: بأنها سببية والمسبب محذوف تقديره أبحت لكم الغنائم فكلوا، وبنحوه تشبث من زعم أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، وحلالاً حال من المغنوم أو صفة للمصدر أي: أكلاً حلالاً، وفائدته إزاحة ما وقع في نفوسهم منه بسبب تلك المعاتبة، ولذلك وصفه بقوله: {طيباً}. {واتقوا الله} في مخالفته {إنّ الله غفور} غفر ذنوبكم {رحيم} أباح لكم ما أخذتم، وقوله تعالى: {واتقوا الله} إشارة إلى المستقبل، وقوله تعالى: {إنّ الله غفور رحيم} إشارة إلى الحالة الماضية ولما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفداء من الأسارى وثق عليهم أخذ أموالهم منهم ذكر الله تعالى هذه الآية استمالاً لهم، فقال عز من قائل:
(16/80)
---(1/1262)
{يأيها النبيّ قل لمن في أيديكم من الأسرى} قرأ أبو عمرو بضم الهمزة وفتح السين بعدها ألف، والباقون بفتح الهمزة وسكون السين ولا ألف بعدها، وأمال الألف بعد الراء أبو عمرو وحمزة والكسائي محضة، وورش بين بين {إن يعلم الله في قلوبكم خيراً} أي: خلوص إيمان وصحة نية {يؤتكم خيراً مما أخذ منكم} من الفداء، قال ابن عباس: نزلت في العباس وعقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحرث كان العباس أسيراً يوم بدر، ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس فكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر،فلم تبلغه النوبة حتى أسر، فقال العباس: كنت مسلماً إلا أنهم ألزموني فقال صلى الله عليه وسلم «إن يكن ما تذكره حقاً فالله يجزيك وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا» قال العباس: وكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يترك ذلك الذهب لي فقال: «أما شيء خرجت به تستعين به علينا فلا» قال: فكلفني فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية، وفداء نوفل بن الحارث فقال العباس: تركتني يا محمد أتكفف قريشاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فأين ما دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة، وقلت لها ما أدري ما يصيبني، فإن حدث بي ما حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل وقثم فقال العباس: وما يدريك يا ابن أخي؟ قال: «أخبرني به ربي» فقال العباس: أنا أشهد أنك صادق وأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتاباً في أمرك فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب، قال العباس: فأبدلني الله خيراً من ذلك لي الآن عشرون عبداً وإن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي».
(16/82)
---(1/1263)
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفاً فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه، وأمره العباس أن يأخذ منه فأخذ منه ما قدر على حمله وكان يقول: هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو المغفرة من ربكم يعني الدعوة بقوله تعالى: {ويغفر لكم وا غفور رحيم} واختلف المفسرون في أنّ الآية نزلت في العباس خاصة أو في جملة الأسارى قال بعضهم: إنها نزلت في الكل قال الرازي: وهذا أولى؛ لأنّ ظاهر الآية يقتضي العموم من ستة أوجه:
أحدها: قوله تعالى: {قل لمن في أيديكم}.
وثانيها: قوله تعالى: {من الأسرى}.
وثالثها: قوله تعالى: {إن يعلم الله في قلوبكم خيراً}.
ورابعها: قوله تعالى: {يؤتكم خيراً}.
وخامسها: قوله تعالى: {مما أخذ منكم}.
وسادسها: قوله تعالى: {ويغفر لكم} فدلت هذه الألفاظ الستة على العموم فما الموجب للتخصيص أقصى ما في الباب أن يقال: سبب نزول هذه الآية هو العباس إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
{وإن يريدوا} أي: الأسارى {خيانتك} أي: بما أظهروا من القول {فقد خانوا الله} بالكفر ونقض ميثاقه المأخوذ بالعهد {من قبل} أي: قبل بدر {فأمكن منهم} ببدر قتلاً وأسراً فليتوقعوا مثل ذلك إن عادوا {وا عليم} بما في بواطنهم وضمائرهم من إيمان وتصديق وخيانة {حكيم} أي: بالغ الحكمة فهو يتقن كل ما يريده فهو يوهن كيدهم ويتقن ما يقابلهم به فيلحقهم لا محالة وكذا فعل تعالى في ابن عزة الجمحي، فإنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم في المنّ عليه بغير شيء لفقره وعياله وعاهده على أنه لا يظاهر عليه أحداً، ثم خان فظفر به في غزوة حمراء الأسد عقب يوم أحد أسيراً، فاعتذر له وسأله العفو عنه فقال: «لا، لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرّتين وأمر به فضربت عنقه.
(16/83)
---(1/1264)
{إنّ الذين آمنوا} أي: بالله ورسوله {وهاجروا} أي: وأوقعوا الهجرة من بلاد الشرك وهم المهاجرون الأوّلون هجروا أوطانهم وعشائرهم وأحبابهم حباً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم {وجاهدوا} أي: وأوقعوا الجهاد وهو بذل الجهد في توهين الكفر {بأموالهم} وكانوا في غاية العزة في أوّل الأمر {وأنفسهم} بإقدامهم على القتال مع شدّة الأعداء وكثرتهم وقدم المال؛ لأنه سبب قيام النفس أي: بإنفاقهم لها في الجهاد وتضييع بعضها بالهجرة من الديار، والنخيل وغيرها، وأخر قوله تعالى: {في سبيل الله} لذلك، وفي سببية أي: جاهدوا بسببه حتى لا يصدّ عنه صاد، ويسهل المرور فيه من غير قاطع {والذين آووا} أي: من هاجر إليهم من النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأسكنوهم في ديارهم وقسموا لهم من أموالهم وعرضوا عليهم أن ينزلوا لهم عن بعض نسائهم ليتزوّجوهنّ {ونصروا} أي: الله ورسوله والمؤمنين وهم الأنصار رضي الله عنهم، حازوا هذين الوصفين الشريفين فكانوا في الذروة من هذين الجنسين ولكن المهاجرين الأوّلون أعلى منهم لسبقهم في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل ولحملهم الأذى من الكفار زماناً طويلاً وصبرهم على فرقة الأهل والأوطان.@
(16/84)
---(1/1265)
وأشار تعالى إلى القسمين بأداة البعد لعلوّ مقامهم فقال: {أولئك} أي: العالو الرتبة {بعضهم أولى ببعض} أي: دون أقاربهم من الكفار قال ابن عباس في الميراث فكانوا يتوارثون بالهجرة فكان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون ذوي الأرحام وكان من آمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى كان فتح مكة انقطعت الهجرة وتوارثوا بالأرحام حيث كانوا وصار ذلك منسوخاً بقول تعالى{وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} {والذين آمنوا ولم يهاجروا} أي: آمنوا وأقاموا بمكة {ما لكم من ولايتهم من شيء} أي: فلا إرث بينكم وبينهم ولا نصيب لهم في الغنيمة {حتى يهاجروا} أي: إلى المدينة {وإن استنصروكم في الدين} أي: ولم يهاجروا {فعليكم النصر} أي: فيجب عليكم أن تنصروهم على المشركين {إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} أي: عهد فلا تنصروهم عليهم وتنقضوا عهدهم {وا بما تعملون بصير} في ذلك ترغيب في العمل بما حث عليه من الإيمان والهجرة وغير ذلك مما تقدّم وترهيب من العمل بأضدادها، وفي البصير إشارة إلى العلم بما يكون من ذلك خالصاً أو مشوباً، ففيه مزيد حث على الإخلاص.
{والذين كفرا بعضهم أولياء بعض} أي: في النصر؛ لأن كفار قريش كانوا معادين اليهود فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاونوا عليه جميعاً وفي الميراث، فيرث بعضهم بعضاً ولا إرث بينكم وبينهم {ألا تفعلوه} أي: ما أمرتم به من التواصل بينكم وتولى بعضكم لبعض حتى في الميراث وقطع العلائق بينكم وبين الكفار {تكن} أي: تحصل {فتنة} أي: عظيمة {في الأرض} بضعف الإيمان وقوّة الكفر {وفساد كبير} في الدين، ولما تقدّمت أنواع المؤمنين المهاجر والناصر والقاعد وذكر أحكام موالاتهم أخذ يبين تفاوتهم في الفضل بقوله تعالى:
(16/85)
---(1/1266)
{والذين آمنوا} أي: بالله ورسوله وما أتى به {وهاجروا} في الله تعالى من يعادي نبيه صلى الله عليه وسلم سابقين {وجاهدوا في سبيل الله} بما تقدّم من المال والنفس وغيرهما، فبذلوا الجهد في إذلال الكفار ولم يذكر آلة الجهاد؛ لأنها مع تقدّم ذكرها لازمة {والذين أووا} أي: من هاجر إليهم {ونصروا} أي: حزب الله {أولئك هم المؤمنون} أي: الكاملون في الإيمان {حقاً} أي: لأنهم حققوا إيمانهم بتحقيق مقتضاه من الهجرة والجهاد وبذل المال ونصرة الحق ثم وعدهم الموعد الكريم بقوله تعالى: {لهم مغفرة} أي: لزلاتهم وهفواتهم؛ لأن مبنى الآدمي على العجز اللازم عند التقصير وإن اجتهد ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه.
ولما ذكر تطهيرهم بالمغفرة ذكر تزكيتهم بالرحمة بقوله تعالى: {ورزق} أي: من الغنائم وغيرها في الدنيا والآخرة {كريم} أي: لا تبعة ولا منة فيه ثم الحق بهم في الأمرين من يستلحق بهم ويتسم بسمتهم بقوله تعالى:
(16/86)
---(1/1267)
{والذين آمنوا من بعد} أي: بعد السابقين إلى الإيمان والهجرة {وهاجروا} أي: لاحقين للسابقين، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم من هاجر بعد الحديبية قال: وهي الهجرة الثانية {وجاهدوا معكم} أي: من تجاهدونه من حزب الشيطان {فأولئك منكم} أي: من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار فلهم ما لكم وعليهم ما عليكم من المواريث والمغانم وغيرها لأنّ الوصف الجامع هو المدار للأحكام وإن تأخرت رتبتهم عنكم بما أفهمته أداة البعد {وأولوا الأرحام} أي: ذووا القرابات {بعضهم أولى ببعض} قال ابن عباس: كانوا يتوارثون بالهجرة والإخاء حتى نزلت هذه الآية فبين الله تعالى بها أن سبب القرابة أقوى وأولى من سبب الهجرة والإخاء ونسخ بها ذلك التوارث وقوله تعالى: {في كتاب الله} أي: في حكمه في اللوح المحفوظ أو القرآن وتمسك أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى بهذه على توريث ذوي الأرحام وأجاب عنه الشافعي رضي الله تعالى عنه بأنه لما قال في كتاب الله كان معناه في حكم الله الذي بينه في سورة النساء، فصارت هذه السورة مقيدة بالأحكام التي ذكرها في سورة النساء في قسمة المواريث وإعطاء أهل الفروض فروضهم وما بقي فللعصبات فوجب أن يكون المراد من هذا هو ذاك فقط فلا يتعدّى إلى توريث ذوي الأرحام ثم قال تعالى في ختم السورة {إن الله بكل شيء عليم} أي: إن هذه الأرحام التي ذكرتها وفصلتها كلها حكمة وصواب وصلاح وليس فيها شيء من العبث والباطل لأنّ العالم بجميع المعلومات لا يحكم إلا بالصواب ونظيره أنّ الملائكة لما قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء قال الله تعالى مجيباً لهم: {إني أعلم ما لا تعلمون} أي: كما علمتم بكوني عالماً بكل المعلومات فاعلموا أنّ حكمي يكون منزهاً عن الغلط فكذا هنا وقول البيضاوي في بعض النسخ تبعاً للزمخشريّ، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة وشاهد أنه بريء من النفاق وأعطي(1/1268)
(16/87)
---
عشر حسنات بعدد كل منافق ومنافقة وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته في الدنيا» حديث موضوع.
سورة التوبة
مدنية
إلا الآيتين من قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} وهي آخر ما نزلت وآيها مائة وثلاثون وقيل: تسع وعشرون، وعدد كلماتها ألفان وأربعمائة وسبع وتسعون كلمة وحروفها عشرة آلاف وثمانمائة وسبعة وثمانون حرفاً، ولها عدّة أسماء: التوبة، براءة، المقشقشة، البحوثة، المبعثرة، المنقرة، المثيرة، الحافرة، المخزية، الفاضحة، المنكلة، المشردة، المدمدمة، سورة العذاب وإنما سميت بذلك لما فيها من التوبة للمؤمنين والقشقشة من النفاق وهي التبرؤ منه والبحث عن حال المنافقين وإثارتها والحفر عنها وما يخزيهم ويفضحهم وينكلهم ويشردهم ويدمدم عليهم ولم تكتب فيها البسملة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك كما يؤخذ من حديث رواه الحاكم وأخرج في معناه عن علي أن البسملة أمان وهي نزلت لرفع الأمن بالسيف، وعن حذيفة إنكم تسمونها سورة التوبة وهي سورة العذاب.
(16/88)
---(1/1269)
وروى البخاريّ عن البراء أنها آخر سورة نزلت، وقيل: كان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه سورة أو آية بين موضعها فتوفي ولم يبيّن موضعها وكانت قصتها تشابه قصة الأنفال وتسامتها؛ لأنّ في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نبذها فضمت إليها، قال القاضي: يبعد أن يقال إنه عليه الصلاة والسلام لم يبيّن كون هذه السورة تالية لسورة الأنفال لأنّ القرآن مرتب من قبل الله تعالى ومن قبل رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي نقل ولو جوّزنا في بعض السور أن لا يكون ترتيبها من الله تعالى على سبيل الوحي لجوزنا مثله في سائر السور، وفي آيات السورة الواحدة وذلك يخرجه عن كونه حجة بل الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام أمر بوضع هذه السورة بعد سورة الأنفال وحياً، وأنه عليه الصلاة والسلام حذف بسم الله الرحمن الرحيم من هذه السورة وحياً، والقول بأنّ قصتها تشابه قصتها وتناسبها فضمت إليها إنما يتم إذا قلنا: إنهم إنما وضعوا هذه السورة من قبل أنفسهم لهذه العلة. وقيل: إن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في أن سورة الأنفال وسورة براءة سورة واحدة أم سورتان، فقال بعضهم: هما سورة واحدة؛ لأنّ كلتيهما نزل في القتال، ومجموعهما هو السورة السابعة من الطوال وهي سبع، وما بعدها المؤن؛ لأنهما معاً مائتان وست آيات، فهما بمنزلة سورة واحدة. ومنهم من قال: سورتان، فلما ظهر الاختلاف من الصحابة في هذا تركوا بينهما فرجة تنبيهاً على قول من يقول: هما سورة واحدة. وقال بعض أصحاب الإمام الشافعي رضي الله عنه: لعل الله لما علم من بعض الناس أنهم ينازعون في كون بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن أمر أن لا تكتب ههنا ليدل ذلك على كونها آية من كل سورة، فإنها لما لم تكن آية من هذه السورة وجب كونها آية من كل سورة، وقيل غير ذلك. والصحيح من هذه الأقوال ما ذهب إليه القاضي من أنّ القرآن مرتب من قبل الله ومن قبل رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي نقل، وأنه صلى(1/1270)
(16/89)
---
الله عليه وسلم حذف بسم الله الرحمن الرحيم من هذه السورة وحياً، وإنما ذكرت هذه الأقوال تشحيذاً للأذهان. وقوله تعالى:
(16/90)
---
{براءة} خبر مبتدأ محذوف أي: هذه براءة. وقوله تعالى: {من الله ورسوله} من: ابتدائية متصلة بمحذوف تقديره: واصلة من الله ورسوله، ويجوز أن يكون: براءة مبتدأ لتخصيصها بصفتها، والخبر {إلى الذين عاهدتم} أي: أوقعتم العهد بينكم وبينهم {من المشركين} أي: وإن كانت معاهدتكم لهم إنما كانت بإذن من الله ورسوله، فكما فعلتم المعاهدة بإذنهما فافعلوا النقض تبعاً لهما، ودل سياق الكلام وما حواه من بديع النظام أن العهد إنما هو لأجل المؤمنين، وإنما الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فغنيان عن ذلك، أمّا الله فبالغنى المطلق، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فبالذي اختاره للرسالة؛ لأنه ما فعل ذلك إلا وهو قادر على نصره بسبب وبغير سبب.
روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف، وجعل المشركون ينقضون عهوداً كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر الله تعالى بنقض عهودهم وذلك قوله تعالى: {وإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} (الأنفال، 58)
(16/91)
---(1/1271)
الآية ونقض العهد بما يذكر في قوله تعالى {فسيحوا} أي: سيحوا آمنين أيها المشركون {في الأرض أربعة أشهر} لا يتعرّض لكم فيها ولا أمان لكم بعدها، وكان ابتداء هذه الأشهر يوم الحج الأكبر وانقضاؤها إلى عشر من ربيع الآخر، وقال الأزهري: هي شوّال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم؛ لأنها نزلت في شوّال. وقيل: في ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشرين من شهر ربيع الآخر، وكانت حرماً لأنهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم أو على التغليب؛ لأنّ ذا الحجة والمحرم منها. قال البغوي: والأوّل هو الأصوب وعليه الأكثرون اه. وقيل: العشر من ذي القعدة إلى عشر من شهر ربيع الأوّل؛ لأنّ الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم ثم صار في السنة الثانية من ذي الحجة وكان نزولها في سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه على موسم الحج سنة تسع ثم أتبعه علياً رضي الله عنه راكب العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرأها على أهل الموسم، فقيل له: لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال: لا يؤدّي عني إلا رجل مني، فلما دنا علي من أبي بكر سمع أبو بكر الرغاء فوقف، وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصل العضباء: المشقوقة الأذن، ولم تكن ناقته صلى الله عليه وسلم كذلك ولكن كان ذلك علماً عليها، والرغاء بالمدّ: صوت ذوات الخف قاله الجوهري، فلما لحقه قال أمير أو مأمور.
(16/92)
---(1/1272)
وروي أن أبا بكر رضي الله عنه لما كان ببعض الطريق هبط جبريل، وقال: يا محمد لا يبلغنّ رسالتك إلا رجل منك فأرسل علياً رضي الله عنه فرجع أبو بكر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله أشيء نزل، قال: نعم فسر وأنت على الموسم وعلي ينادي بالآي، فلما كان قبل التروية بيوم خطب أبو بكر وحدثهم عن مناسكهم وقام علي يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: أيها الناس إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية، وعن مجاهد ثلاث عشرة، ثم قال: أمرت بأربع آي بأن أخبروا نادى بها أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف به عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده، فقالوا عند ذلك: أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع.
فإن قيل: قد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة لأن يؤدّوا عنه كثيراً ولم يكونوا من عترته، أجيب: بأنّ هذا ليس على العموم بل مخصوص بالعهود؛ لأنّ العرب عاداتها أن لا يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل من الأقارب، فلو تولاه أبو بكر رضي الله تعالى عنه لجاز أن يقولوا: هذا خلاف ما يعرف فينا من نقض العهود، فربما لم يقبلوا فلم يخف عليهم بتوليته علياً ذلك، ويدل على ذلك أن في بعض الروايات لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي، وقيل: لما خص أبا بكر بتولية الموسم خص علياً بهذا التبليغ تطييباً للقلوب ورعاية للجوانب، وقيل: قرر أبا بكر على الموسم وبعث علياً خليفة لتبليغ هذه الرسالة حتى يصلي خلف أبي بكر ويكون ذلك جارياً مجرى تنبيه على إمامة أبي بكر.
(16/93)
---(1/1273)
فإن قيل: ما وجه إطباق أكثر العلماء على جواز مقاتلة المشركين في الأشهر الحرم وقد صانها الله تعالى عن ذلك؟ أجيب: بأنهم قالوا: قد نسخ وجوب الصيانة وأبيح قتال المشركين فيها.
{واعلموا أنكم غير معجزي الله} أي: لا تفوتونه وإن أمهلكم {وأنّ الله مخزي الكافرين} أي: مذلهم في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالعذاب.
{وأذان} أي: إعلام واقع {من الله ورسوله إلى الناس} إذ الأذان في اللغة الإعلام، ومنه الأذان للصلاة، فإنه إعلام بوقتها وارتفاعه كارتفاع براءة على الوجهين.
فإن قيل: لم علقت البراءة بالذين عاهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس أجيب: بأنّ البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم، وأما الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث.
{يوم الحج الأكبر} أي: يوم عيد النحر لأنّ فيه معظم أفعاله من طواف ونحر وحلق ورمي يقع فيه، ولأن الإعلام كان فيه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في حجة الوداع فقال: أي يوم هذا؟ فقالوا: يوم النحر فقال: هذا يوم الحج الأكبر.
(16/94)
---(1/1274)
وروي أن علياً رضي الله عنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاءه رجل فأخذ بلجام دابته وسأله عن يوم الحج الأكبر فقال: يومك هذا فخل سبيلها، وقيل: يوم عرفة لقوله صلى الله عليه وسلم «الحج عرفة»، وقيل: أيام منى كلها؛ لأنّ اليوم قد يطلق ويراد به الحين والزمان كقوله يوم صفين ويوم الجمل؛ لأنّ الحرب دامت في هذه الأيام ويطلق عليها يوم واحد. وقيل: هو الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود وعيد النصارى وعيد المشركين ولم يجتمع مثل ذلك قبله ولا بعده ووصف الحج بالأكبر؛ لأنّ العمرة تسمى الحج الأصغر، وإنما قيل لها الأصغر لنقصان أعمالها عن الحج. وقيل: وصف بذلك لموافقته حج النبيّ صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة وودّع الناس فيه وخطبهم وعلمهم مناسكهم. وقيل: وصف بذلك لاجتماع أعياد الملل في ذلك اليوم. وقيل: لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل المشركين. وقوله تعالى: {إنّ الله بريء من المشركين} أي: من عهودهم فيه حذف تقديره وأذان من الله ورسوله بأنّ الله بريء من المشركين، وإنما حذف الجار لدلالة الكلام عليه. وقوله تعالى: {ورسوله} مرفوع على أنه مبتدأ حذف خبره أي: ورسوله.
كذلك وحكي أنّ أعرابياً سمع رجلاً يقرأ: ورسوله بالجرّ، فقال: إن كان الله بريء من رسوله فأنا منه بريء فلببه الرجل إلى عمر رضي الله عنه، فحكى الأعرابيّ الواقعة فحينئذٍ أمر عمر بتعليم العربية.
(16/95)
---(1/1275)
وحكي أيضاً أنّ أعرابياً قدم في زمن عمر، فقال: من يقرئني مما أنزل الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم فأقرأه رجل براءة، فقال: {إنّ الله بريء من المشركين ورسول}ه بالجرّ، فقال الأعرابيّ: أوقد برىء الله من رسوله إن يكن الله بريء من رسوله فأنا بريء منه، فبلغ عمر رضي الله تعالى عنه مقالة الأعرابيّ فدعاه فسأله فأخبره الأعرابيّ بذلك، فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابيّ فقال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: {إنّ الله بريء من المشركين ورسوله} بالرفع، فقال: وأنا والله أبرأ مما برىء الله ورسوله منه، فأمر عمر أن لا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود الدؤلي فوضع النحو. {فإن تبتم} أي: عن الكفر والغدر {فهو} أي: ذلك الأمر العظيم وهو المتاب {خير لكم} أي: من الإقامة على الشرك، وهذا ترغيب من الله في التوبة والإقلاع عن الشرك الموجب لدخول النار. {وإن توليتم} أي: أعرضتم عن الإيمان والتوبة من الشرك {فاعلموا أنكم غير معجزي الله} وذلك وعيد عظيم وإعلام بأنّ الله تعالى قادر على إنزال أشدّ العذاب بهم كما قال تعالى: {وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} أي: مؤلم وهو القتل والأسر في الدنيا والنار في الآخرة ولفظ البشارة هنا ورد على سبيل الإخبار أو على سبيل الاستهزاء كما يقال محبتهم الضرب وإكرامهم الشتم، وقوله تعالى:
{إلا الذين عاهدتم من المشركين} استثناء من المشركين وهم بنو ضمرة حيّ من كنانة أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بإتمام عهدهم إلى مدّتهم، وكان قد بقي من مدّتهم تسعة أشهر، وكان السبب فيه أنهم لم ينقضوا كما قال تعالى: {ثم لم ينقصوكم شيئاً} أي: من عهودكم التي عاهدتموهم عليها {ولم يظاهروا} أي: ولم يعاونوا {عليكم أحداً} من عدوّكم {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدّتهم} أي: إلى انقضائها، ولا تجروهم مجرى الناكثين. وقوله تعالى: {إنّ الله يحب المتقين} تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى.
(16/96)(1/1276)
---
{فإذا انسلخ} أي: انقضى وخرج {الأشهر الحرم} التي حرم الله تعالى عليهم فيها قتالهم، وضربت أجلاً لسياحتهم والتعريف مثله في {فأرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول} (المزمل، 16)
والمراد بكونها حرماً أنّ الله تعالى حرم القتل والقتال فيها. وقيل: هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، قال البيضاويّ: وهذا يخل بالنظم أي: نظم الآية إذ نظمها يقتضي توالي الأشهر المذكورة. {فاقتلوا المشركين} أي: الناكثين الذين ضربتم لهم هذا الأجل إحساناً وكرماً {حيث وجدتموهم} أي: في حل أو حرم أو في شهر حرام أو غيره. {وخذوهم} أي: بالأسر {واحصروهم} أي: بالحبس عن إتيان المسجد الحرام والتصرّف في بلاد الإسلام في القلاع والحصون حتى يضطروا إلى الإسلام أو القتل {واقعدوا لهم} أي: لأجلهم خاصة، فإن ذلك من أفضل العبادات {كل مرصد} أي: طريق يسلكونه لئلا ينبسطوا في البلاد. وانتصاب كل على الظرفية كقوله: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} (الأعراف، 16)
(16/97)
---(1/1277)
وقيل: بنزع الخافض، قال الحسن بن الفضل: نسخت هذه الآية كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذى الأعداء. {فإن تابوا} أي: عن الكفر بالإيمان {وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة} تصديقاً لتوبتهم وإيمانهم، فوصلوا ما بينهم وبين الخالق وما بينهم وبين الخلائق. {فخلوا سبيلهم} أي: فدعوهم ولا تتعرّضوا لهم بشيء من ذلك، وفي هذه الآية دليل على أن تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله؛ لأنه إن كان جاحداً لوجوبهما فهو مرتدّ وإلا قتل بترك الصلاة وأخذت منه الزكاة قهراً وقوتل على ذلك كما نقل عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: لما توفي النبيّ صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر كفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر رضي الله تعالى عنهما: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله» فقال أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية: عقالاً كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم على منعها، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أنّ الله شرح صدر أبي بكر إلى القتال، فعرفت أنه الحق. {إنّ الله غفور} أي: بليغ المحو للذنوب التي تاب صاحبها عنها {رحيم} به.
(16/98)
---(1/1278)
{وإن أحد من المشركين} أي: الذين أمرت بقتالهم {استجارك} أي: طلب أن تعامله في الإكرام معاملة الجار بعد انقضاء مدّة السياحة {فأجره} أي: فأمنه ودافع عنه من يقصده بسوء. {حتى يسمع كلام الله} أي: القرآن بسماع التلاوة الدالة عليه فيعلم بذلك ما يدعى إليه من المحاسن ويتحقق أنه ليس من كلام الخلق {ثم} إن أراد الانصراف ولم يسلم {أبلغه مأمنه} أي: الموضع الذي يأمن فيه وهو دار قومه لينظر في أمره، ثم بعد ذلك يجوز لك قتلهم وقتالهم من غير غدر ولا خيانة. قال الحسن: هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة.
تنبيه: أحد: مرفوع بفعل مضمر يفسره الظاهر وتقديره: وإن استجارك أحد، ولا يجوز أن يرتفع بالابتداء؛ لأن إن من عوامل الفعل، فلا تدخل على غيره. {ذلك} أي: الأمر بالإجارة للغرض المذكور {بأنهم} أي: بسبب أنهم {قوم لا يعلمون} أي: لا علم لهم لأنهم لا عهد لهم بنبوّة ولا رسالة ولا كتاب، فإذا علموا أوشك أن ينفعهم العلم، وقوله سبحانه وتعالى:
(16/99)
---
{كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله} استفهام معناه الجحد أي: لا يكون لهم عهد عند الله ولا عند رسوله وهم يغدرون وينقضون العهد {إلا الذين عاهدتم} أي: من المشركين {عند المسجد الحرام} يوم الحديبية وهم المستثنون قبل {فما استقاموا لكم} أي: أقاموا على العهد ولم ينقضوه {فاستقيموا لهم} أي: على الوفاء وهو كقوله تعالى: {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدّتهم} (التوبة، 4)
(16/100)
---
غير أنه مطلق وهذا مقيد، وما تحتمل الشرطية والمصدرية. {إنّ الله يحب المتقين} أي: من اتقى يوفي بعده لمن عاهده، وقد استقام صلى الله عليه وسلم على عهدهم حتى نقضوه بإعانة بني بكر على خزاعة. وقوله تعالى:(1/1279)
{كيف}تكرار للاستبعاد بثبات المشركين على العهد وحذف الفعل لكونه معلوماً أي: كيف يكون لهم عهد ثابت {وإن} أي: والحال أنهم مضمرون لكم الغدر والخيانة، فهم إن {يظهروا عليكم} أي: يعلو أمرهم على أمركم بأن يظفروا بكم بعد العهد والميثاق {لا يرقبوا} أي: لا يراعوا {فيكم} أي: في أذاكم بكل جليل وحقير {إلا} أي: قرابة محققة قال حسان:
*لعمرك إن إلّك من قريش ** كإلِّ السقب من رأل النعام*
السقب: ولد الناقة، والرأل: ولد النعامة، والخطاب في لعمرك لأبي سفيان، أي: لا قرابة بينك وبين قريش كما لا قرابة بين ولد الناقة وولد النعامة. وقيل: إلا إلهاً، وقيل: جبريل {ولا ذمة} أي: عهداً بل يؤذوكم ما استطاعوا وقوله تعالى: {يرضونكم بأفواههم} أي: بكلامهم كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن مقرّر لاستبعاد الثبات منهم على العهد {وتأبى قلوبهم} أي: عن الوفاء به لمخالفة ما فيها من الأضغان {وأكثرهم فاسقون} أي: راسخو الأقدام في الفسق.
(16/101)
---
فإن قيل: الموصوفون بهذه الصفة كفار، والكفر أقبح وأخبث من الفسق، فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة في الذم. وأيضاً الكفار كلهم فاسقون فلا يبقى لقوله: وأكثرهم فائدة؟ أجيب: بأنّ الكافر قد يكون عدلاً في دينه، فلا ينقض العهد، وقد يكون فاسقاً خبيث النفس في دينه فينقضه، فالمراد بالفسق هنا نقض العهد، وكان في المشركين من وفى بعهده، فلهذا قال: وأكثرهم أي: إنّ هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهد أكثرهم فاسقون في دينهم وعند أقوامهم وذلك يوجب المبالغة في الذم. وقال ابن عباس: لا يبعد أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم وتاب فلهذا السبب قال: {وأكثرهم فاسقون} حتى يخرج عن هذا الحكم أولئك الذين دخلوا في الإسلام.(1/1280)
{اشتروا} أي: استبدلوا {بآيات الله} أي: القرآن {ثمناً قليلاً} أي: عرضاً يسيراً من الدنيا، وهو اتباع الأهواء والشهوات مع مصاحبة الكفر، وذلك أنّ أبا سفيان بن حرب أطعم حلفاءه وترك حلفاء النبيّ صلى الله عليه وسلم فنقض العهد الذي بينهم بسبب تلك الأكلة {فصدوا} أي: فتسبب لهم ذلك وأداهم إلى أن صدوا {عن سبيله} أي: منعوا الناس من الدخول في دينه {إنهم ساء} أي: بئس {ما كانوا يعملون} أي: عملهم هذا، وما دل عليه قوله تعالى:
{لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة} فهو تفسير لا تكرير، وقيل: الأوّل عام في المنافقين، وهذا خاص بالذين اشتروا وهم اليهود والأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم. {وأولئك} أي: هؤلاء البعداء من كل خير {هم المعتدون} الذين تعدوا ما حد الله لهم في دينه وما يوجبه العقد والعهد.
ولما بيّن تعالى حال من لا يرقب في الله إلاً ولا ذمة وينقض العهد وينطوي على النفاق ويتعدّى ما حدّ الله تعالى له بين ما يصيرون به من أهل دينه بقوله تعالى:
(16/102)
---
{فإن تابوا} أي: رجعوا عن الشرك إلى الإيمان وعن نقض العهد إلى الوفاء به {وأقاموا الصلاة} أي: المفروضة عليهم بجميع حدودها وأركانها {وآتوا الزكاة} المفروضة عليهم طيبة بها نفوسهم {فإخوانكم} أي: فهم إخوانكم {في الدين} لهم ما لكم وعليهم ما عليكم. وقوله تعالى: {ونفصل الآيات لقوم يعلمون} اعتراض للحث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين وخصال التائبين.(1/1281)
{وإن نكثوا} أي: نقضوا {أيمانهم} أي: عهودهم.{من بعد عهدهم} الذي عاهدوكم عليه أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحداً من أعدائكم {وطعنوا في دينكم} أي: وعابوا دينكم الذي أنتم عليه وقدحوا فيه. {فقاتلوا أئمة الكفر} أي: الكفار بأسرهم، وإنما خص الأئمة منهم بالذكر؛ لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع منهم على هذه الأعمال الباطلة، وقال ابن عباس: نزلت في أبي سفيان بن حرب والحارث بن هشام وأبي جهل وسائر رؤساء قريش، وهم الذين نقضوا عهودهم وهموا بإخراج الرسول، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية المكسورة وحققها الباقون، وقول البيضاوي: والتصريح بالياء لحن تبع فيه الكشاف التابع للفراء، وهو مردود، فالجمهور من النحاة والقراء على جواز قلب الهمزة الثانية حرف لين، فبعضهم على جعلها بين بين، وبعضهم على قلبها ياء خالصة، وقوله تعالى: {إنهم لا أيمان لهم} قرأ ابن عامر بكسر الهمزة أي: لا تصديق لهم ولا دين وليس في ذلك دلالة على أنّ توبة المرتدّ لا تقبل، والباقون بالفتح جمع يمين أي: لا أيمان لهم على الحقيقة، وأيمانهم ليست بأيمان، وإلا لما طعنوا في دينكم ولم ينكثوا، وفيه دليل على أنّ الذمي إذا طعن في الإسلام فقد نكث عهده أي: إن شرط ذلك عليه كما هو مذهبنا وتمسك أبو حنيفة رحمه الله تعالى بهذا على أنّ يمين الكافر لا تكون يميناً وعند الشافعيّرخمه الله تعالى يمينهم منعقدة، ومعنى هذه الآية عنده أنهم لما لم يؤمنوا بها صارت أيمانهم
(16/103)
---(1/1282)
كأنها ليست بأيمان والدليل على أنّ يمينهم منعقدة أنّ الله تعالى وصفها بالنكث في قوله تعالى: {وإن نكثوا أيمانهم} ولو لم تكن منعقدة لما صح وصفها بالنكث وقوله تعالى: {لعلهم ينتهون} متعلق بقاتلوا أي: ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم ما وجد من العظائم أن ينتهوا عما هم عليه من الكفر والطعن في دينكم والمظاهرة عليكم، وهذا في غاية كرم الله تعالى وفضله على الإنسان وليس الغرض إيصال الأذية لهم كما هو طريقة الموحدين.
ولما قال تعالى: {فقاتلوا أئمة الكفر} أتبعه بذكر ثلاثة أسباب تبعثكم على مقاتلتهم، كل واحد منها يوجب مقاتلتهم لو انفرد، فكيف بها حال الاجتماع: أحدها ما ذكره تعالى بقوله:
(16/104)
---(1/1283)
{ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم} أي: نقضوا عهودهم وهم الذين نقضوا عقد الصلح بالحديبية وأعانوا بني بكرة على خزاعة وهذا يدلّ على أنّ قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم من الكفار ليكون ذلك زجراً لغيرهم وثانيها قوله تعالى: {وهموا بإخراج الرسول} من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة على ما ذكر في قوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا}. وقيل: هم اليهود نكثوا عهد الرسول وهموا بإخراجه من المدينة وهذا من أوكد ما يجب القتال لأجله. وثالثها قوله تعالى: {وهم بدؤوكم} أي: بالقتال {أوّل مرّة} أي: هم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم بالكتاب المنير وتحدّاهم به، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال فهم البادؤون بالقتال والبادىء أظلم، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم، وبخهم الله تعالى بترك مقاتلتهم وحضهم عليها ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها، وتقرر أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب حقيق بأن لا تترك مصادمته، وأن يوبخ من فرّط فيها. {أتخشونهم} أي: أتخافونهم أيها المؤمنون فتتركون قتالهم {فا أحق أن تخشوه} فقاتلوا أعداءه {إن كنتم مؤمنين} أي: مصدقين بوعد الله تعالى ووعيده؛ لأنّ قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بمن سواه كقوله تعالى: {ولا يخشون أحداً إلا الله} (الأحزاب، 39)
ولما وبخهم الله تعالى على ترك القتال جدّد له الأمر به بقوله تعالى:
(16/105)
---
{قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم} أي: بالقتل والأسر واغتنام الأموال.
فإن قيل: قد قال الله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} (الأنفال، 33)
(16/106)
---(1/1284)
فكيف قال تعالى هنا: {يعذبهم الله بأيديكم}؟ أجيب: بأن المراد بالعذاب في الآية الأولى عذاب الاستئصال، وبهذه الآية القتل والأسر. والفرق: أنّ عذاب الاستئصال قد يتعدّى إلى غير المذنب، وإنه في حقه لمزيد الثواب وعذاب القتل مقصور على المذنب وهذا كالتصريح بأنّ هذا الفعل وما عطف عليه فعله تعالى وإن كان جارياً على أيدي العباد كسباً لا يرد على ذلك أنه لا يقال يعذب الله المؤمنين بأيدي الكافرين؛ لأنّ ذلك إنما امتنع لشناعة العبارة كما لا يقال: يا خالق القاذورات والأبوال والعذرات وإن كان هو الخالق لها. {ويخزهم} أي: بالذل والفضيحة في الدنيا والعذاب في الآخرة {وينصركم عليهم} أي: يمكنكم من قتلهم وإذلالهم {ويشف صدور قوم مؤمنين} أي: طائفة من المؤمنين وهم خزاعة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى شديداً فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه فقال: أبشروا فإن الفرج قريب.
{ويذهب غيظ قلوبهم} أي: كربها ووجدها، وقد وفى الله تعالى بما وعد، والآية من المعجزات. وقوله تعالى: {ويتوب الله على من يشاء} استئناف أي: إنّ الله تعالى يهدي من يشاء إلى الإسلام كما فعل بأبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، فهؤلاء كانوا من أئمة الكفر ورؤساء المشركين ثم مَنَّ الله تعالى عليهم بالإسلام يوم فتح مكة فأسلموا وحسن إسلامهم. {وا عليم} أي: يعلم ما سيكون كما يعلم ما قد كان فهو عليم بكل شيء، فيعلم من يصلح للتوبة ومن لا يصلح لها، أو يعلم ما في قلوبكم من الإقدام والإحجام {حكيم} أي: أحكم جميع أموره.
(16/107)
---(1/1285)
{أم حسبتم} أي: أظننتم {أن تتركوا} فلا تؤمروا بالجهاد ولا تمتحنوا ليظهر الصادق من الكاذب، والخطاب للمؤمنين حين كره بعضهم القتال، وقيل للمنافقين. وأم: بمعنى همزة الإنكار. {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} أي: علماً ظاهراً تقوم به الحجة عليكم في مجاري عاداتكم على مقتضى عقولكم بأن يقع الجهاد في الواقع بالفعل، وعبر تعالى بلما دون لم لدلالتها مع استغراق الزمان على أن تبين ما بعدها متوقع كائن، وقوله تعالى: {ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة} عطف على جاهدوا داخل في حيز الصلة كأنه قيل: ولما يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذي وليجة من دون الله. والوليجة: فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل، وهي البطانة من المشركين يتخذونهم يفشون إليهم أسرارهم، وقال قتادة: هي الخيانة. وقال عطاء: هي الأولياء. {وا خبير بما تعملون} من مولاة المشركين وغيرها، فيجازيكم عليه.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ولما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ عليّ رضي الله عنه عليه القول، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا؟ فقال له عليّ: وهل لكم محاسن؟ قال: نعم نحن أفضل منكم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني يعني الأسير فأنزل الله تعالى رداً على العباس.
(16/108)
---(1/1286)
{ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} أي: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مسجد الله بدخوله والقعود فيه وخدمته، فإذا دخل بغير إذن مسلم عزر وإن دخل بإذنه لم يعزر، لكن لا بد من حاجة فيشترط للجواز الإذن والحاجة، ويدل على جواز دخول الكافر المسجد بالإذن أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد وهو كافر، وذهب جماعة إلى أنّ المراد منه العمارة المعروفة من بناء المسجد وترميمه عند خرابه فيمنع منه الكافر، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون السين ولا ألف بعدها على التوحيد، وفي هذا دلالة على أن المراد المسجد الحرام. والباقون بفتح السين، وألف بعدها على الجمع. وفيه دلالة على أن المراد جميع المساجد، وقيل: المراد على القراءتين المسجد الحرام، وإنما جمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامر الجميع. وقوله تعالى: {شاهدين على أنفسهم بالكفر} حال من الواو في يعمروا، أي: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة متعبدات الله مع الكفر بالله وبعبادته ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر ظهور كفرهم، قال الحسن: لم يقولوا نحن كفار، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام، وذلك أنّ كفار قريش كانوا نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف بثياب قد عملنا فيها المعاصي وكلما طافوا أسبوعاً سجدوا للأصنام فلم يزدادوا من الله إلا بعداً. وقيل: هو قولهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، وقال السدي: شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يسأل: من أنت؟ فيقول: نصراني، واليهوديّ يقول: يهودي، والمشرك يقول: مشرك. {أولئك حبطت} أي: بطلت {أعمالهم} أي: الأعمال التي عملوها من أعمال البر وافتخروا بها مثل العمارة والحجابة والسقاية، وفك العناة مع الكفر لا تأثير لها {وفي النار هم خالدون} لجعلهم الكفر(1/1287)
(16/109)
---
مكان الإيمان.
واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنّ مرتكب الكبيرة من أهل الإيمان لا يبقى مخلداً في النار من وجهين: الأوّل قوله تعالى: {وفي النار هم خالدون} يفيد الحصر أي: هم فيها خالدون لا غيرهم، ولما كان هذا وارداً في حق الكفار ثبت أن الخلود لا يحصل إلا للكافر. الثاني: أنه تعالى جعل الخلود في النار جزاء للكفار عن كفرهم، فلو كان هذا الحكم جزاء لغير الكافر لما صح تهديد الكافر به. وفي الكشاف: أن الكبيرة تهدم الأعمال وهو جار على مذهبه الفاسد، ولما بيّن تعالى أن الكافر ليس له أن يعمر مساجد الله بين المستحق لعمارتها بقوله تعالى:
{إنما يعمر مساجد الله من آمن با واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش} أحداً {إلا الله} أي: إنما تتم عمارتها لهؤلاء الجامعين بين الكمالات العملية والعلمية.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يذكر الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم مع أنّ الإيمان به شرط في صحة الإيمان؟ أجيب: بأنه تعالى لما ذكر الصلاة والصلاة لا تتم إلا بالتشهد وهو مشتمل على ذكره كان ذلك كافياً، ومما علم من أن الإيمان بالله تعالى قرينه وتمامه الإيمان به فكان الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم مذكوراً بطريق أبلغ وهو طريق الكناية لما مرّ من مقارنتهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر. وقيل: إن المشركين كانوا يقولون: إنّ محمداً إنما ادّعى رسالة الله طلباً للرّياسة والملك، فلذلك ترك ذكر النبوّة فكأنه يقول مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلا الإيمان بالمبدأ والمعاد، فذكر المقصود الأصلي وحذف ذكر النبوّة تنبيهاً للكفار على أنه لا مطلوب له من الرياسة.
(16/110)
---(1/1288)
فإن قيل: كيف قال تعالى: {ولم يخش إلا الله} والمؤمن يخاف الظَلَمة والمفسدين؟ أجيب: بأن المراد من هذه الخشية الخوف والتقوى في أبواب الدين، وأن لا يختار على رضا الله تعالى عنه رضا غيره لتوقع مخوف. وإذا اعترضه أمران: أحدهما: حق الله تعالى، والآخر: حق نفسه؛ أن يخاف الله تعالى، فيؤثر حق الله تعالى على حق نفسه. وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها فأريد نفي تلك الخشية عنهم. ومن عمارة المساجد: ترميمها وفرشها وتنويرها بالسرج التي لا سرف فيها، وإدامة العبادة فيها والذكر. ومن الذكر درس العلم فيها، بل هو أجله وأعظمه، وصيانتها مما لم تبن المساجد لأجله كحديث الدنيا.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي في آخر الزمان ناس من أمّتي يأتون المساجد، فيقعدون حلقاً ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة». وفي الحديث: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش». وفي «الكشاف»: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: إنّ بيوتي في أرضي المساجد، وإنّ زواري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره». قال شيخ شيخنا ابن حجر: لم أجده هكذا، وفي الطبراني عن سلمان رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله وحق على المزور أن يكرم زائره».
وروي عنه صلى الله عليه وسلم «من ألف المسجد ألفه الله تعالى» وقال صلى الله عليه وسلم «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان». وعن أنس رضي الله عنه: من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوءه.
(16/111)
---(1/1289)
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من غدا إلى المسجد وراح أعد الله تعالى له نزلاً من الجنة كلما غدا وراح». وفي قوله تعالى: {فعسى أولئك} أي: الموصوفون بهذه الصفات {أن يكونوا من المهتدين} تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء وحسم أطماعهم والانتفاع بأعمالهم التي قد استعظموها وافتخروا بها وأملوا عاقبتها، فإنه تعالى بيّن أن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع وضموا إليه الخشية من الله تعالى، فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائراً بين لعل وعسى، فما بال هؤلاء المشركين يقطعون بأنهم مهتدون ويجزمون بفوزهم بخير من عند الله ومنع للمؤمنين من أن يغترّوا بأحوالهم ويتكلوا عليها، وذكر المفسرون في سبب نزول قوله تعالى:
(16/112)
---(1/1290)
{أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن با واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله} أقوالاً، فعن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: لا أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فنزلت. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال العباس حين أسر يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام وبالهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج، فنزلت. وقيل: إن المشركين قالوا لليهود: نحن علينا سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه، فقالت لهم اليهود: أنتم أفضل، فنزلت. وقيل: إنّ علياً قال للعباس رضي الله عنهما: يا عم، ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألست في أفضل من الهجرة أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام، فلما نزلت قال العباس: ما أراني إلا تارك سقايتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً» وكان العباس عم النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده سقاية الحاج وكان يليها في الجاهلية فلما جاء الإسلام وأسلم العباس أقره صلى الله عليه وسلم على ذلك.
(16/113)
---(1/1291)
وروي أنه صلى الله عليه وسلم جاء السقاية فاستسقى، فقال العباس رضي الله عنه لابنه الفضل: يا فضل، اذهب إلى أمّك فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها، فقال له صلى الله عليه وسلم «اسقني» قال: يا رسول الله يجعلون أيديهم فيه، قال: «اسقني» فشرب منه ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: «اعملوا فإنكم على عمل صالح». وعن أبيّ بن عبد الله المزني رضي الله عنه قال: كنت جالساً مع ابن عباس عند الكعبة، فأتاه أعرابي، فقال: مالي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ أمن حاجة بكم أم من بخل؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل، إنما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشربه وسقى فضله أسامة وقال: أحسنتم وأجملتم كذا فاصنعوه، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبيذ: تمر ينقع في الماء غدوة وهو حلال، فإن غلا وخمر حرم.
تنبيه: السقاية والعمارة مصدران من سقى وعمر كالصيانة والوقاية، فلا بد من مضاف محذوف تقديره أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله {لا يستوون عند الله} أي: لا يستوي حال هؤلاء الذين آمنوا بالله وجاهدوا في سبيل الله بحال من سقى الحاج وعمر المسجد الحرام وهو مقيم على كفره؛ لأنّ الله تعالى لا يقبل عملاً إلا مع إيمان به وبيّن عدم تساويهم بقوله تعالى: {وا لا يهدي القوم الظالمين} أي: الكفرة ظلمة بالشرك ومعاداة النبيّ صلى الله عليه وسلم منهمكون في الضلال، فكيف يساوون الذين عاهدهم الله تعالى ووفقهم للحق والصواب؟ وقيل: المراد بالظالمين الذين يسوّون بينهم وبين المؤمنين.
(16/114)
---(1/1292)
{الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله} أي: أعلى مرتبة وأكثر كرامة ممن لم يستجمع هذه الصفات والمراد من كون العبد عند الله بالاستغراق في عبوديته وطاعته، وليس المراد منه قطع العندية بحسب الجهة والمكان؛ لأنّ الأرواح البشرية إذا تطهرت من دنس الأوصاف البدنية أشرقت بأنوار الجلال وتجلى فيها أضواء عالم الكمال، وسرت من العبودية إلى العندية. وقيل: أعظم درجة عند الله ممن افتخر بالسقاية وعمارة المسجد الحرام.
فإن قيل: على هذا كيف قال في وصفهم أعظم درجة مع أنه ليس للكافر درجة؟ أجيب: بأنّ هذا ورد على حسب ما كانوا يقدّرون؛ لأنفسهم من الدرجة والفضيلة عند الله. ونظيره قوله تعالى: {الله خير أم ما يشركون} (النحل، 59)
وقوله تعالى: {أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم} (الصافات، 62)
{وأولئك} من هذه صفتهم {هم الفائزون} أي: بسعادة الدنيا والآخرة.
(16/115)
---
{يبشرهم} أي: يخبرهم {ربهم} والبشارة الخبر السار الذي يفرح الإنسان عند سماعه وتستبشر بشرة وجهه عند سماع ذلك الخبر السار، ثم ذكر سبحانه وتعالى الذي يبشرهم به بقوله تعالى: {برحمة منه ورضوان}، فهذا أعظم البشارات؛ لأنّ الرحمة والرضوان من الله تعالى سبحانه وتعالى على العبد نهاية مقصودة {وجنات} أي: بساتين كثيرة الأشجار والثمار {لهم فيها} أي: الجنات {نعيم} أي: جزاء خالص عن كدر مّا {مقيم} أي: غير منقطع. وقوله تعالى:
(16/116)
---
{خالدين فيها} حال مقدرة وحقق الخلود بقوله تعالى: {أبداً}، ولما ذكر تعالى هذه الأحوال، قال: {إنّ الله عنده أجر عظيم} وناهيك بما يصفه الله بالعظم وخص هؤلاء المؤمنين بهذا الثواب المعبر عن دوامه بهذه العبارات الثلاث المقرونة بالعظم والاسم الأعظم، فكان أعظم الثواب؛ لأنّ إيمانهم أعظم الإيمان.
وذكر المفسرون في سبب نزول قوله تعالى:(1/1293)
{يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء} أقوالاً فقال مجاهد: هذه الآية متصلة بما قبلها نزلت في العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة، وقال ابن عباس رضي الله تعنهما: لما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من تعلق به أهله وولده يقولون: ننشدك الله أن لا تضيعنا، فيرق لهم فيقيم عندهم ويدع الهجرة فنزلت، فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقربائه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه حتى رخص لهم بعد ذلك. قال مقاتل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة أي: لا تتخذوهم أولياء يمنعوكم عن الإيمان ويصدوكم عن الطاعة لقوله تعالى: {إن استحبوا} أي: اختاروا {الكفر على الإيمان} أي: أقاموا عليه، تركوا الإيمان بالله ورسوله {ومن يتولهم منكم} أي: ومن يختر المقام معهم على الهجرة والجهاد {فأولئك هم الظالمون} أي: فقد ظلم نفسه بمخالفة أمر الله تعالى واختيار الكفار على المؤمنين.
ولما نزلت هذه الآية قال الذين أسلموا ولم يهاجروا: إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجارتنا وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا، فنزل قوله تعالى:
(16/117)
---(1/1294)
{قل} يا محمد لهؤلاء الذين قالوا هذه المقالة {إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم} أي: أقرباؤكم مأخوذ من العشرة، وقيل: من العَشَرة، فإن العشرة جماعة ترجع إلى عقد كعقد العشرة {وأموال اقترفتموها} أي: اكتسبتموها {وتجارة تخشون كسادها} أي: عدم نفاقها بفراقكم لها {ومساكن ترضونها} أي: تستوطنونها راضين بسكناها {أحب إليكم من الله ورسوله} أي: الهجرة إلى الله ورسوله {وجهاد في سبيله} فقعدتم لأجل ذلك عن الهجرة والجهاد، أي: إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله وطاعة رسوله، ومن المجاهدة في سبيل الله {فتربصوا} أي: انتظروا متربصين وهو تهديد بليغ {حتى يأتي الله بأمره}. قال مجاهد بقضائه أي: عقوبة عاجلة أو آجلة، وقال مقاتل بفتح مكة {وا لا يهدي القوم} أي: لا يخلق الهداية في قلوب {الفاسقين} أي: الخارجين عن طاعته، وفي هذا دليل على أنه إذا وقع تعارض بين مصالح الدين ومصالح الدنيا وجب على المسلم ترجيح مصالح الدين على مصالح الدنيا.
(16/118)
---(1/1295)
{لقد نصركم الله} النصرة المعونة على الأعداء بإظهار المسلمين عليهم {في مواطن} أي: أماكن للحرب {كثيرة} كبدر وقريظة والنضير، والمراد بذلك غزواته صلى الله عليه وسلم وسراياه وبعوثه، وكانت غزواته صلى الله عليه وسلم على ما ذكر في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم تسع عشرة غزوة زاد بريدة في حديثه قاتل في ثمان منها، وأمّا جميع غزواته وسراياه وبعوثه فقيل: سبعون، وقيل: ثمانون {ويوم} أي: واذكر يوم {حنين} وهو واد بين مكة والطائف أي: يوم قتالكم فيه هوازن وقوله تعالى: {إذ أعجبتكم كثرتكم} بدل من يوم حنين، وكانت قصة حنين على ما نقله الرواة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وقد بقي من شهر رمضان أيام، وخرج متوجهاً إلى حنين لقتال هوازن وثقيف، واختلفوا في عدد عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا ستة عشر ألفاً. وقال الكلبيّ: كانوا عشرة آلاف، وقال قتادة: كانوا اثني عشر ألفاً، عشرة آلاف الذين حضروا فتح مكة، وألفان انضموا إليهم من الطلقاء، وهم الأسراء الذين أخذوا يوم فتح مكة وأطلقوا، وبالجملة كانوا عدداً كثيراً، وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف، فلما التقوا قال رجل من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلة إعجاباً بكثرتهم، فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل. وقيل: قائلها أبو بكر رضي الله عنه، وقيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا القول بعيد جداً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان في أحواله كلها متوكلاً على الله تعالى منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها ثم اقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم المشركون وتخلوا عن الذراري ثم تنادوا: يا حماة السوادة اذكروا الفضائل فتراجعوا وانكشف المسلمون حتى بلغ منهزمهم مكة وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذاً بلجام بغلته، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث وناهيك بهذا شهادة لرسول الله صلى الله(1/1296)
(16/119)
---
عليه وسلم على تناهي شجاعته قال البراء بن عازب: كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا على الغنائم واستقبلونا بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق معه إلا العباس وأبو سفيان، قال البراء: والذي لا إله إلا هو ما ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم دبره قط قد رأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب والعباس أخذ بلجام الدابة وهو يقول: أنا النبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب فطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يولي ثم قال للعباس: «وكان صيتاً صح يا عباس» فنادى: «يا عباد الله يا أصحاب الشجرة» وهم أصحاب بيعة الرضوان المذكورون في قوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} (الفتح، 18)
يا أصحاب سورة البقرة قال الطيبي وهم المذكورون في قوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} (البقرة، 285)
وقيل: الذين أنزلت عليهم سورة البقرة فرجعوا جماعة واحدة يقولون: لبيك لبيك ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين فقال عليه الصلاة والسلام: «هذا حين حمي الوطيس» أي: اشتدّ الحرب ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاً من تراب فرماهم ثم قال: «انهزموا ورب الكعبة» فانهزموا.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم أخذ قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل بها وجوههم، ثم قال: «شاهت الوجوه». قالت سلمة بن الأكوع: فما خلق الله تعالى منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فولوا مدبرين فهزمهم الله تعالى. {فلم تغن} أي: الكثرة. {عنكم شيأ وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} أي: برحبها أي: بسعتها لا تجدون فيها مقراً تطمئن إليه نفوسكم من شدّة الرعب، ولا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكانه. {ثم وليتم مدبرين} أي: الكفار ظهوركم مدبرين أي: منهزمين، والإدبار الذهاب إلى خلف خلاف الإقبال.
(16/120)
---(1/1297)
{ثم أنزل الله سكينته} أي: رحمته التي سكنوا إليها وأمنوا. {على رسوله وعلى المؤمنين} أي: على الذين انهزموا، فردّوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم لما ناداهم العباس بإذنه صلى الله عليه وسلم وقيل: هم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقع الحرب. {وأنزل جنوداً} أي: ملائكة {لم تروها} بأعينكم قال سعيد بن جبير: مد الله نبيه صلى الله عليه وسلم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، وقيل: ثمانية آلاف، وقيل: ستة عشرة ألفاً.
وروي أنّ رجلاً من بني النضير قال: للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق، والرجال الذين عليهم ثياب بيض ما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة، وما قتلنا إلا بأيديهم، فأخبروا بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «تلك الملائكة» {وعذب الذين كفروا} بالقتل والأسر وسبي العيال وسلب المال. {وذلك جزاء الكافرين} أي: ما فعل بهم جزاء كفرهم في الدنيا.
روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قسم ما أفاء الله عليه يوم حنين في الناس، وفي المؤلفة قلوبهم، لم يعط الأنصار شيئاً، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معاشر الأنصار: ألم أجدكم ضلالاً، فهداكم الله بي، وكنتم متفرّقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي» كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أنّ قال: «ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله، لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا. أما ترضون أمن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبيّ إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، لو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، الأنصار شعار، والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» وعن رافع بن خديج أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس، كل إنسان منهم مائة من الإبل، وأعطي عباس بن مرداس دون ذلك فقال العباس بن مرداس:(1/1298)
(16/121)
---
*أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع*
*فما كان حصن ولا حابس ** يفوقان مرداس في مجمع*
*وما كنت دون امرىء منهما ** ومن يخفض اليوم لا يرفع*
قال: فأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم له مائة.
{ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء} منهم بالتوفيق للإسلام {وا غفور رحيم} فيتجاوز عنهم، ويتفضل عليهم.
(16/122)
---
روي أنّ ناساً منهم جاؤوا فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبرّ الناس وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا قيل: سبي يومئذٍ ستة آلاف نفس وأخذ من الإبل ما لا يحصى فقال: إنّ عندي ما ترون إنّ خير القول أصدقه اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً، والحسب ما يعدّه الإنسان من مفاخر آبائه، كنوا بذلك عن اختيار الذراري والنساء على استرجاع الأموال لأنّ تركهم في ذلّ الأسر يفضي إلى الطعن في أحسابهم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنّ هؤلاء جاؤوا مسلمين وإنّا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً فمن كان بيده شيء وطابت نفسه أن يردّه فشأنه أي: فليلزم شأنه وأمره ومن لا تطب نفسه ليعطنا وليكن قرضاً علينا أي: بمنزلة القرض حتى نصيب شيئاً فنعطيه مكانه فقالوا: رضينا وسلمنا فقال: إني لا أدري لعلّ فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا.(1/1299)
{يأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس} أي: ذوو نجس لأنّ معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس أو إنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يتجنبون النجاسات فهي ملابسة لهم أو جعلوا كأنهم النجاسات بعينها مبالغة في وصفهم بها، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير، وعن الحسن رحمه الله تعالى: من صافح مشركاً توضأ وأهل المذاهب على خلاف هذين القولين والنجس مصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع.
{فلا يقربوا المسجد الحرام} أي: لنجاستهم وإنما نهى عن الاقتراب للمبالغة والمنع من دخول الحرم. قال العلماء: وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار على ثلاثة أقسام:
(16/123)
---
أحدها: الحرم فلا يجوز للكافر أن يدخل المسجد بحال ذمياً كان أو مستأمناً لظاهر هذه الآية وإذا جاء رسول من دار الكفر إلى الإمام والإمام في الحرم لا يؤذن له في دخول الحرم بل يخرج إليه الإمام أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم وجوّز أبو حنيفة وأهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم.
القسم الثاني: من بلاد الإسلام الحجاز فيجوز للكافر دخوله بالإذن ولا يقيم فيه أكثر من ثلاثة أيام. لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لأخرجنّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً» فأجلاهم عمر في خلافته وأجل لمن قدم منهم تاجراً ثلاثاً وجزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول وأمّا في العرض فمن جدّة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشأم.
والقسم الثالث: سائر بلاد الإسلام يجوز للكافر أن يقيم فيها بذمّة أو أمان لكن لا يدخل المساجد إلا بإذن مسلم لحاجة.
(16/124)
---(1/1300)
وقوله تعالى: {بعد عامهم هذا} إشارة إلى العام الذي حج فيه أبو بكر رضي الله تعالى عنه ونادى عليّ رضي الله عنه ببراءة وهو سنة تسع من الهجرة وقبل سنة حجة الوداع ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً أن يقرأ على مشركي مكة أوّل براءة وينبذ إليهم عهدهم وأنّ الله بريء من المشركين ورسوله قال أناس يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدّة لانقطاع السبيل وفقد الحمولات وذلك أنّ أهل مكة كانت معايشهم من التجارات وكان المشركون يأتون مكة بالطعام ويتجرون فلما امتنعوا من دخول الحرم خافوا الفقر وضيق العيش فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى {وإن خفتم عيلة} أي: فقراً وحاجة بانقطاع تجارتهم عنكم {فسوف يغنيكم الله من فضله} أي: من عطائه وتفضله من وجه آخر وقد أنجز الله تعالى وعده بأن أرسل المطر عليهم مدراراً فكثر خيرهم وأسلم أهل جدّة وصنعاء وتبالة وجرش وجلبوا الميرة الكثيرة إلى مكة فكفاهم الله تعالى ما كانوا يخافون، وتبالة بفتح التاء وجرش بضمّ الجيم وفتح الراء وشين معجمة قريتان من قرى اليمن وقيد ذلك بقوله تعالى: {إن شاء} لتنقطع الآمال إليه تعالى ولينبه على أنه متفضل في ذلك وأنّ الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض وفي عام. دون عام {إنّ الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة {عليم} أي: بوجوه المصالح {حكيم} أي: فيما يعطي ويمنع، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ألقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال من أين تأكلون فأمرهم الله تعالى بقتال أهل الكتاب كما قال تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون با ولا باليوم الآخر} (التوبة، 29)
(16/125)
---(1/1301)
فإن قيل: اليهود والنصارى يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر فكيف أخبر الله تعالى عنهم بذلك؟ أجيب: بأنّ من اعتقد أن العزير ابن الله وأنّ المسيح ابن الله فليس بمؤمن بل هو مشرك وبأنّ من كذب رسولاً من الرسل فليس بمؤمن واليهود والنصارى يكذبون أكثر الأنبياء {ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله} من الشرك وأكل أموال الناس بالباطل وتبديل التوراة والإنجيل وغير ذلك {ولا يدينون دين الحق} أي: الثابت الذي هو ناسخ لسائر الأديان وهو الإسلام كما قال تعالى: {إنّ الدين عند الله الإسلام} (آل عمران، 19)
{من الذين أوتوا الكتاب} أي: اليهود والنصارى بيان للذين لا يؤمنون {حتى يعطوا الجزية} وهي الخراج المضروب على رقابهم في نظير سكناهم في بلاد الإسلام آمنين مأخوذ من المجازاة لكفنا عنهم.
وقيل من الجزاء بمعنى القضاء قال الله تعالى: {واتقوا يوماً لا تجزى نفس عن نفس شيئاً} (البقرة، 48)
أي: لا تقضي وقوله تعالى: {عن يد} حال من الضمير أي: منقادين مقهورين يقال لكل من أعطي شيئاً كرهاً من غير طيب نفس أعطي عن يد، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها على يد غيرهم وهل يجوز أن يوكلوا مسلماً في دفعها أو لا ينبغي على تفسير الصغار المذكور في قوله تعالى: {وهم صاغرون} أي: أذلاء منقادون لحكم الإسلام ويكفي في الصغار أن يجري عليهم الحكم بما لا يعتقدون حله أن يجوز التوكيل على هذا تفسيره ـ أن يجلس الآخذ ويقوم الكافر ويطأطىء رأسه ويحني ظهره ويضع الجزية في الميزان ويقبض الآخذ لحيته ويضرب لهزمتيه وهما مجتمع اللحم بين الماضغ والأذن من الجانبين : مردود بأن هذه الهيئة باطلة ودعوى سنيتها أو وجوبها أشدّ بطلاناً ولم ينقل أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا أحداً من الخلفاء الراشدين فعل شيئاً من ذلك وعلى تفسيرها بما ذكر يمتنع التوكيل إذا قيل بوجوبه لا باستحبابه.
(16/126)
---(1/1302)
تنبيه: مفهوم الآية يقتضي تخصيص الجزية بأهل الكتاب ولكن ألحق بهم المجوس لأنه صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، وقال: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» وكذا من زعم التمسك بصحف إبراهيم وزبور داود صلى الله عليهما وسلم ومن أحد أبويه كتابيّ والآخر وثنيّ وأولاد من تهوّد أو تنصر قبل النسخ أو شككنا في وقت التهوّد والتنصر أكان قبل النسخ أم بعده؟ فلا تعقد لأولاد من تهوّد أو تنصر بعد النسخ في ذلك الدين ولا لعبدة الأوثان والشمس والملائكة والسامرة والصابئون إن خالفوا اليهود والنصارى في أصول دينهم فليسوا منهم وإلا فمنهم، وعن مالك تؤخذ الجزية من كل كافر إلا المرتد، وعن أبي حنيفة إلا مشركي العرب، وأقلّ الجزية دينار لكل سنة عن كل واحد لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن: «خذ من كلّ حالم» ـ أي: محتلم ـ ديناراً صححه ابن حبان والحاكم وتؤخذ من زمن وشيخ هرم وأعمى وراهب وأجير وفقير عجز عن كسب فإذا تمت سنة وهو معسر ففي ذمّته حتى يوسر، وقال أبو حنيفة على الغنيّ ثمانية وأربعون درهماً وعلى المتوسط نصفها وعلى الفقير الكسوب ربعها ولا شيء على فقير غير كسوب ولا بدّ أن يكون المأخوذ منه حرّاً ذكراً غير صبيّ ومجنون وتلحق إفاقة مجنون كثرت فإن قلّ زمن الجنون كساعة من شهر فلا أثر لها ولو بلغ ابن ذمي ولم يعط جزية ألحق بمأمنه وإن أعطاها عقد له.
وقيل: عليه كجزية أبيه ولا يحتاج إلى عقد له اكتفاء بعقد أبيه ومن مات ممن عقدت له الجزية أو أسلم أو جنّ أو حجر عليه بفلس أو سفه بعد سنة فجزيته كدين آدميّ أو في أثنائها تقسط وتسقط بالإسلام والموت عند أبي حنيفة.
(16/127)
---(1/1303)
{وقالت اليهود عزير ابن الله} اختلفوا في قائل هذه المقالة على أقوال: أحدها قال عبيد بن عمير: إنما قال هذا القول رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء وهو الذي قال: إنّ الله فقير ونحن أغنياء وثانيها قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير وعكرمة: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا: كيف نتبع دينك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أنّ عزيراً ابن الله، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعلى هذين القولين القائل إنما هو بعض اليهود إلا أنّ الله تعالى نسب ذلك إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على اسم الواحد يقال: فلان ركب الخيول ولعله لم يركب إلا واحداً منها، وفلان يجالس السلاطين ولعله لم يجالس إلا واحداً. وثالثها: أنّ هذا المذهب لعله كان ثابتاً فيهم ثم انقطع فحكى الله تعالى ذلك عنهم ولا عبرة بإنكار اليهود لذلك فإنّ الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب واختلف في السبب الذي قالوا ذلك لأجله فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنّ اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فأنساهم الله تعالى التوراة ونسخها من صدورهم فتضرّع عزير إلى الله تعالى وابتهل إليه أن يردّ إليه الذي نسخ من صدورهم فبينما هو يصلي مبتهلاً إلى الله تعالى نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت إليه التوراة فأذن في قومه وقال: يا قوم قد آتاني الله تعالى التوراة وردّها إليّ فعلقوا به يعلمهم ثم مكثوا ما شاء الله تعالى ثم إنّ التابوت أنزل بعد ذهابه عنهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير فوجدوه مثله فقالوا: ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله وقيل: لما رفع الله تعالى عنهم التوراة خرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: إلى أين تذهب؟ قال: أطلب العلم، فحفظه التوراة وأملاها عليهم عن(1/1304)
(16/128)
---
ظهر قلبه لا يخرم منها حرفاً، فقالوا: ما جمع الله التوراة في قلبه وهو غلام إلا أنه ابنه، وقال الكلبيّ: إنّ بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل وقتل من قرأ التوراة وكان عزير إذ ذاك صغيراً فاستصغره فلم يقتله فلما رجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة فبعث الله تعالى عزيراً ليجدّد لهم التوراة ويكون لهم آية بعد ما أماته الله تعالى مائة سنة وأرسل إليه ملكاً بإناء فيه ماء فسقاه فمثلت التوراة في صدره فلما أتاهم وقال لهم: أنا عزير كذبوه وقالوا: إن كنت كما تزعم فاتل علينا التوراة فكتبها لهم من صدره ثم إنّ رجلاً منهم قال: إنّ أبي حدّثني أنّ التوراة جعلت في خابية ودفنت في كرم فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعارضوا بها ما كتبه عزير فلم يجدوه غادر حرفاً فقالوا: إنّ الله تعالى لم يقذف التوراة في قلب عزير إلا أنه ابنه فعند ذلك قالت اليهود: عزير ابن الله.u
(16/129)
---(1/1305)
وقرأ عاصم والكسائيّ عزير بالتنوين والباقون بغير تنوين، قال الزجاج: الوجه إثبات التنوين فقوله: عزير مبتدأ، وقوله: ابن خبره، وإذا كان كذلك فلا بدّ من التنوين في حال السعة لأنّ عزيراً ينصرف سواء كان عربياً أم عجمياً وسبب كونه منصرفاً أمران: أحدهما: أنه اسم خفيف فينصرف وإن كان أعجمياً كهود ولوط والثاني: أنه على صيغة التصغير وأنّ الأسماء الأعجمية لا تصغر. وأمّا الذين تركوا التنوين فلهم فيه أوجه: أحدها أنه أعجميّ معرفة فوجب أن لا ينصرف. وثانيها: قال الفرّاء: نون التنوين ساكنة من عزير والباء من ابن الله ساكنة فحصل ههنا التقاء الساكنين فحذف التنوين للتخفيف، وردّ هذا الوجه بأنه مخالف لما تقرّر من أن الوجه عند ملاقاة التنوين للساكن التحريك لا الحذف. وثالثها: أنّ الابن وصف والخبر محذوف والتقدير عزير بن الله معبودنا، وردّ هذا أيضاً بأنه يؤدّي إلى تسليم النسب وإنكار الخبر المقدّر لأنّ من أخبر عن ذات موصوفة بصفة بأمر من الأمور وأنكره منكر توجه الإنكار إلى الخبر فكان المقصود بالإنكار قولهم: عزير ابن الله معبودنا وحصل تسليم كونه ابن الله ومعلوم أن ذلك كفر.
(16/130)
---(1/1306)
{وقالت النصارى المسيح} أي: عيسى {ابن الله} واختلف في السبب الذي قالوا ذلك لأجله فقيل: إنما قالوه استحالة لأن يكون ولد بلا أب، وقيل: إنّ النصارى كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعدما رفع عيسى عليه الصلاة والسلام يصلون إلى القبلة ويصومون رمضان حتى وقع بينهم وبين اليهود حرب وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولص قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام ثم قال بولص لليهود: إن الحق مع عيسى وقد كفرنا ومصيرنا إلى النار ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار فإني سأحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار وكان له فرس يقاتل عليه يقال له العقاب فعرقبه وأظهر الندامة والتوبة ووضع التراب على رأسه وقال للنصارى: نوديت من السماء ليس لك توبة إلا أن تتنصر وقد تبت وأتيتكم فأدخلوه الكنيسة ونصروه ودخل بيتاً فيها مكث فيه سنة لا يخرج منه ليلاً ولا نهراً حتى تعلم الإنجيل ثم خرج منه وقال: إنه نودي أنّ الله قبل توبتك فصدقوه وأحبوه وعلا شأنه فيهم ثم عمد إلى ثلاث رجال اسم واحد منهم نسطورا والآخر يعقوب والآخر ملكا فعلم نسطورا أنّ عيسى ومريم والإله ثلاث وعلم يعقوب أنّ عيسى ليس بإنسان ولا جسم ولكنه ابن الله وعلم ملكا أنّ عيسى هو الإله لم يزل ولا يزال فلما اشتهر ذلك فيهم دعا كل واحد منهم وقال له: أنت خالصتي فادع الناس لما علمتك، وأمره أن يذهب إلى ناحية من اليلاد ثم قال لهم: إني رأيت عيسى في المنام وقد رضي عني، وقال لكل واحد منهم: سأذبح نفسي تقرّباً إلى عيسى، ثم ذهب إلى المذبح فذبح نفسه وتفرّق أولئك الثلاثة فذهب واحد إلى الروم وواحد إلى بيت المقدس وواحد إلى ناحية أخرى وأحكم كل واحد منهم مقالته ودعا الناس إليها فتبعه على ذلك طوائف من الناس فتفرّقوا واختلفوا ووقع القتال فهذا هو السبب في وقوع الكفر في طوائف النصارى هذا ما حكاه الواحدي رحمه الله تعالى قال الرازي عقب هذه الحكاية: والأقرب عندي أن يقال ورد لفظ الابن في(1/1307)
(16/131)
---
الإنجيل على سبيل التشريف ثم إنّ القوم لأجل عداوة القوم بالغوا وفسروا لفظ الابن بالبنوّة الحقيقية والجهال قبلوا ذلك وفشا هذا المذهب الفاسد في اتباع عيسى عليه السلام والله سبحانه وتعالى أعلم بالحقيقة {ذلك قولهم بأفواههم} أي: لا مستند لهم عليه.
فإن قيل: كل قول يقال بالفم فما معنى بأفواههم؟ أجيب: بأنه قول لا يعضده برهان فما هو إلا لفظ تفوهوا به فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي لا تدل على معان وذلك أنّ القول الدالّ على معنى لفظه مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب وما لا معنى له مقول بالفم لا غير أو بأن يراد بالقول المذهب كقولهم قول الشافعيّ رحمه الله تعالى يريدون مذهبه وما يقول به كأنه قيل: ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم لأنه لا حجة معه ولا شبهة حتى تؤثر في القلوب وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له ولا ولد لم تكن لهم شبهة في انتفاء الولد قال أهل المعاني: لم يذكر الله تعالى قولاً مقروناً بالأفواه والألسن إلا كان ذلك زوراً {يضاهون} قال ابن عباس: يشابهون، وقال مجاهد: يواطئون، وقال الحسن: يوافقون {قول الذين كفروا من قبل} أي: من قبلهم ولا بدّ من حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قول الذين كفروا ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعاً والمعنى أنّ الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم فالكفر قديم فيهم غير مستحدث أو يضاهي قول المشركين: الملائكة بنات الله، وقيل: الضمير للنصارى أي: يضاهي قولهم: المسيح ابن الله قول اليهود عزير ابن الله لأنهم أقدم منهم. وقرأ عاصم بكسر الهاء وبعدها همزة مضمومة والباقون بضمّ الهاء ولا همز بعدها وقوله تعالى: {قاتلهم الله} دعاء عليهم بالهلاك فإنّ من قاتله الله تعالى هلك أو تعجب من شناعة قولهم كما يقال لمن فعل فعلاً يتعجب منه قاتله الله ما أعجب فعله وقيل: لعنهم الله.(1/1308)
(16/132)
---
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كل شيء في القرآن مثله فهو لعن {أنى يؤفكون} أي: كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل مع قيام الدليل بأنّ الله تعالى واحد أحد فجعلوا له ولداً تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً وهذا التعجب راجع إلى الخلق لأنّ الله تعالى لا يتعجب من شيء ولكن هذا الخطاب على عادة العرب في مخاطباتهم فالله تعالى عجب نبيه صلى الله عليه وسلم من تركهم الحق وإصرارهم على الباطل.
{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم} أي: اتخذ اليهود أحبارهم أي: علماءهم والحبر في الأصل العالم من أي طائفة كان واختص في العرف بعلماء اليهود من ولد هرون وكان أبو الهيثم يقول: واحد الأحبار حبر بالفتح وينكر الكسر، واتخذ النصارى رهبانهم أي: عبادهم أصحاب الصوامع، والراهب في الأصل من تمكنت الرهبة من قلبه فظهر آثارها على وجهه ولباسه واختص في العرف بعلماء النصارى أصحاب الصوامع {أرباباً من دون الله} لأنهم أطاعوهم في تحريم ما أحلّ الله تعالى وتحليل ما حرّم الله تعالى كما تطاع الأرباب في أوامرهم ونحوه تسمية أتباع الشيطان فيما يوسوس به عباده كما قال تعالى: {بل كانوا يعبدون الجنّ} (سبأ، 41)
وقال إبراهيم الخليل عليه السلام: {يا أبت لا تعبد الشيطان}، وعن عدي بن حاتم أنه قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: «يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك» فطرحته ثم انتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة فوصل إلى هذه الآية فقلت: إنا لسنا نعبدهم فقال: أليس يحرمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ويحلون ما حرّمه فتحلونه، قلت: بلى، قال: تلك عبادتهم» قال عبد اللهبن المبارك:
*وهل بدّل الدين إلا الملوك ** وأحبار سوء ورهبانها*
(16/133)
---(1/1309)
فإن قيل: إنه تعالى كفرهم بسبب أن أطاعوا الأحبار والرهبان فالقاسق يطيع الشيطان فوجب الحكم بكفره على ما هو قول الخوارج. أجيب: بأنّ الفاسق وإن كان يقبل دعوى الشيطان إلا أنه لا يعظمه بل يلعنه ويستخف به وأمّا هؤلاء فكانوا يقبلون قول الأحبار والرهبان ويعظمونهم وقد يبالغ بعض الجهال في تعظيم شيخه بحيث يميل طبعه إلى القول بالحلول والاتحاد وذلك الشيخ إذا كان طالباً للدنيا بعيداً عن الآخر بعيداً عن الدين قد يلقي إليهم أنّ الأمر كما يقولون ويعتقدون، وعن الفضيل رضي الله تعالى عنه ما أبالي أطعت مخلوفاً في معصية الخالق أو صليت لغير القبلة {والمسيح بن مريم} أي: اتخذوه كذلك لكونهم جعلوه ابناً فأهلوه للعبادة بذلك مع كونه ابن مريم فهو لا يصلح للإلهية بوجه لمشاركته للآدميين في الحمل والولادة والأكل والشرب وغير ذلك من أحوال البشر الموجبة للحاجة المنافية للإلهية {وما أمروا} أي: في التوراة والإنجيل {إلا ليعبدوا} أي: ليطيعوا على وجه التعبد {إلهاً واحداً} أي: لا يقبل القسمة بوجه لا بالذات ولا بالمماثلة وهو الله تعالى وأما طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعة من أمر الله بطاعته فهي في الحقيقة طاعة الله تعالى وقوله تعالى: {لا إله إلا هو} صفة ثانية أو استئناف مقرّر للتوحيد {سبحانه عما يشركون} أي: تعالى وتنزه عن أن يكون له شريك في العبادة والأحكام وأن يكون له شريك في الإلهية يستحق التعظيم والإجلال.
(16/134)
---(1/1310)
{يريدون} أي: رؤساء اليهود والنصارى {أن يطفئوا نور الله} أي: شرعه وبراهينه الدالة على واحدانيته وتقديسه عن الولد أو القرآن أو نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم {بأفواههم} أي: بأقوالهم الكاذبة وشركهم وفي تسمية دينه أو القرآن أو نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم نوراً ومعاندتهم إطفاءه بأفواههم تمثيل لحالهم في طلبهم أن يبطلوا نور الله بالتكذيب بالشرك بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق والإضاءة ليطفئه بنفخه ويطمسه {ويأبى الله} أي: لا يرضى {إلا أن يتمّ نوره} بإعلاء التوحيد وإعزاز الإسلام.
فإن قيل: كيف جاز أبى الله إلا كذا ولا يقال كرهت أو أبغضت إلا زيداً؟ أجيب: بأنه أجرى أبى مجرى لم يرد ألا ترى كيف قوبل {يريدون أن يطفئوا} بقوله: {ويأبى الله} وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلا أن يتم نوره وقوله تعالى: {ولو كره الكافرون} محذوف الجواب لدلالة ما قبله أي: ولو كرهوا غلبته.
{هو الذي أرسل رسوله} محمداً صلى الله عليه وسلم {بالهدى} أي: القرآن الذي أنزله عليه وجعله هادياً له {ودين الحق} أي: دين الإسلام {ليظهره} أي: ليعليه {على الدين كله} أي: جميع الأديان المخالفة له وهذا كالبيان لقوله تعالى: {ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره} ولذلك كرّر {ولو كره المشركون} غير أنه وضع المشركون موضع الكافرون للدلالة على أنهم ضمو الكفر بالرسول إلى الشرك بالله تعالى.
(16/136)
---(1/1311)
فإن قيل: الإسلام لم يضمّ غالباً لسائر الأديان في أرض الصين والهند والروم وسائر بلاد الكفر أجيب عن ذلك بأوجه: الأوّل: بأنه لا دين بخلاف الإسلام إلا وقد قهرهم المسلمون وظهروا عليهم في بعض المواضع وإن لم يكن ذلك في جميع مواضعهم فقهروا اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب وغلبوا النصارى على بلاد الشأم وما والاها إلى ناحية الروم والمغرب وغلبوا المجوس على ملكهم وغلبوا عُبَّاد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الهند والترك وكذا سائر الأديان فثبت أنّ الذي أخبر الله تعالى عنه في هذه الآية قد وقع وحصل فكان ذلك إخباراً عن الغيب فكان معجزاً.
الوجه الثاني: ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: هذا وعد من الله تعالى بجعل الإسلام غالباً على جميع الأديان وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى عليه السلام فإنه لا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام، وقال السدي: ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدّى الخراج.
الوجه الثالث: أنّ المراد إظهاره في جزيرة العرب وقد حصل ذلك فإنه تعالى ما أبقى فيها أحداً من الكفار، وقال ابن عباس: الهاء في {ليظهره} إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمعنى ليعلمه شرائع الدين كلها ويظهره عليها حتى لا يخفى عليه شيء منها.
(16/137)
---(1/1312)
{يأيها الذين آمنوا إنّ كثيراً من الأحبار} أي: علماء اليهود {والرهبان} أي: عباد النصارى {ليأكلون} أي: يتناولون {أموال الناس بالباطل} كالرشا وإنما عبر بالأكل لأنه معظم المراد من المال وإشارة إلى تحقير الأحبار والرهبان بأن يفعلوا ما ينافى مقامهم الذي أقاموا أنفسهم فيه بإظهار الزهد والمبالغة في التدين قال الرازي: ولعمري من تأمّل أحوال الناس في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم وشرح أحوالهم فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات وأنه في الطهارة والعظمة مثل الملائكة المقرّبين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ويحمل نهاية الذل والدناءة في تحصيله {ويصدّون} الناس {عن سبيل الله} أي: دينه ولما كان مطلوب الخلق في الدنيا المال والجاه بين تعالى في صفة الأحبار والرهبان كونهم مشغوفين بهذين الأمرين أمّا المال فهو المراد بقوله تعالى: {ليأكلون أموال الناس بالباطل} (التوبة، 34)
(16/138)
---(1/1313)
وأما الجاه فهو المراد بقوله: {ويصدّون عن سبيل الله} فإنهم لو أقرّوا بأنّ محمداً صلى الله عليه وسلم على الحق لزمهم متابعته وحينئذ كان يبطل حكمهم وتزول حرمتهم ولأجل الخوف من هذا المحذور كانوا يبالغون في المنع من متابعته صلى الله عليه وسلم ويبالغون في إلقاء الشبهات وفي استخراج وجوه المكر والخديعة وفي منع الخلق من قبول دينه الحق {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} يحتمل أن يراد بقوله: {الذين} أولئك الأحبار والرهبان فيكون مبالغة في وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس بقوله تعالى: {ليأكلون أموال الناس بالباطل} ووصفهم أيضاً بالبخل الشديد والامتناع من إخراج الواجبات عن أموال أنفسهم بقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة} وأن يراد المسلمون الذين يجمعون المال ولا يؤدّون حقه ويكون اقترانهم بالمرتشين من اليهود والنصارى تغليظاً ودلالة على أنّ من يأخذ منهم السحت ومن لا يعطي منكم بطيب زكاة ماله سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم وأن يراد كل من كنز المال ولم يخرج منه الحقوق الواجبة سواء كان من الأحبار والرهبان أو كان من المسلمين.
(16/139)
---(1/1314)
لما روي عن زيد بن وهب قال مررت على أبي ذر بالربذة فقلت: ما أنزلت بهذه الأرض فقال: كنا بالشأم فقرأت: {والذين يكنزون الذهب} الآية فقال معاوية: ما هذا فينا ما هذا إلا في أهل الكتاب، فقلت: إنها فيهم وفينا فصار ذلك سبباً لوحشة بيني وبينه فكتب إليّ عثمان أن أقبل إلي فلما قدمت المدينة انحرف الناس عني كأنهم لم يروني من قبل فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي: تنح قريباً فقلت: إني والله لن أدع ما كنت أقول وأصل الكنز في كلام العرب الجمع وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز يقال: هذا جسم مكتنزاً الأجزاء إذا كان مجتمع الأجزاء، واختلف علماء الصحابة في المراد بهذا الكنز المذموم على قولين: الأوّل: وهو ما عليه الأكثر أنه المال الذي لم تؤدّ زكاته لما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعني: شدقيه ـ ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا {ولا تحسبّن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله} (آل عمران، 180)
الآية»، والشجاع: الحية، والأقرع صفته لطول عمره لأنّ من طال عمره تمزق شعره وذهب وهي صفة أخبث الحيات، والزبيبتان: الزائدتان في الشدقين.
(16/140)
---(1/1315)
وروي لما نزلت هذه الآية كبر على المسلمين فذكر عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم» وقال ابن عباس في قوله تعالى: {ولا ينفقونها في سبيل الله} يريد الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم، قال القاضي عياض تخصيص هذا المعنى بمنع الزكاة لا سبيل إليه بل الواجب أن يقال: الكنز هو الذي ما أخرج عنه ما وجب إخراجه ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات وبين ما يلزم من نفقة الحج وبين ما يجب إخراجه في الدين والحقوق والإنفاق على الأهل والعيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات فيجب في كلّ هذا الآثام وأن يكون داخلاً في الوعيد والقول الثاني: إنّ المال الكثير إذا جمع فهو الكنز المذموم واحتج الذاهبون إلى هذا القول بعموم الآية وبما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية: «تبا الذهب تبا للفضة» قالها ثلاثاً فقالوا له: أي مال نتخذ قال: «لساناً ذاكراً وقلباً خاشعاً وزوجة تعين أحدكم على دينه» وقال عليه الصلاة والسلام: «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها» وتوفي شخص فوجد في مئزره دينار فقال صلى الله عليه وسلم «كية» وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال: «كيتان» وأجاب القائلون بالأوّل بأنّ هذا كان قبل فرض الزكاة فأمّا بعد فرض الزكاة فالله أعدل وأكرم أن يجمع عبده مالاً من حيث أذن فيه ويؤدّي ما أوجب عليه فيه ثم يعاقبه.
وقد روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن هذه الآية فقال: كانت قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت جعلها الله طهرة للأموال وقال ما أبالي لو أنّ لي مثل أحد ذهباً أعلم عدده أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى.
(16/141)
---(1/1316)
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» وقال صلى الله عليه وسلم «ما أدّي زكاته فليس بكنز» وكان في زمانه صلى الله عليه وسلم جماعة معهم الأموال كعثمان وعبد الرحمن بن عوف وكان عليه الصلاة والسلام يعدّهم من أكابر الصحابة وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية لأن الإعراض اختيار للأفضل وإلا دخل في الورع والزهد في الدنيا والاقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه وكونه أدخل في الورع لأمور منها أن كسب المال شاق شديد وحفظه بعد حصوله أشدّ وأشق وأصعب فيبقى الإنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل وأخرى في طلب الحفظ ثم إنه لا ينتفع منها إلا بالقليل ومنها أن كثرة المال والجاه تورث الطغيان كما قال تعالى: {إنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} (العلق، آيتان: 6 ـ 7)
فالطغيان يمنع من وصول العبد إلى مقام رضوان الرحمن ويوقع في الخذلان والخسران ومنها أنه تعالى أوجب الزكاة وذلك سعي في تنقيص المال ولو كان تكثيره فضيلة لما سعى الشرع في تنقيصه.
فإن قيل: قال عليه الصلاة والسلام: «اليد العليا خير من اليد السفلى» أجيب: بأنّ اليد العليا إنما إفادته صفة الخيرية لأنه لما أعطى ذلك القليل تسبب أنه حصل في ماله ذلك النقصان القليل فحصل له الخيرية وبسبب أنه حصل للفقير بذلك الزيادة القليلة حصلت له المرجوحية.
فإن قيل: إنه تعالى ذكر شيئين وهما الذهب والفضة ثم قال: {ولا ينفقونها} فلم أفرد الضمير؟ أجيب: بأنّ الضمير راجع إلى المعنى دون اللفظ لأنّ كل واحد منهما جملة وافية وعدّة كثيرة ودنانير ودراهم فهو كقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} (الحجرات، 9)(1/1317)
وقيل: ذهب به إلى المكنوز، وقيل: إلى الأموال، وقيل: التقدير ولا ينفقون الفضة وحذف الذهب لأنه داخل في الفضة من حيث أنهما معاً يشتركان في ثمنية الأشياء أو أن ذكر أحدهما يغنى عن الآخر كقوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها} (الجمعة، 11)
(16/142)
---
جعل الضمير للتجارة وقيل: التقدير والذهب كذلك كما أنّ قول القائل: فإني وقيار بها لغريب أي: وقيار كذلك.
فإن قيل: ما السبب في كونه خصهما بالذكر من سائر الأموال؟ أجيب: بأنهما خصا من دون سائر الأموال لأنهما أشرف الأموال وهما اللذان يقصدان بالكنز ومن كنزا عنده لم يعدم سائر أجناس المال فكان ذكر كنزهما دليلاً على ما سواهما ثم إنه تعالى لما ذكر من يكنز الذهب والفضة قال تعالى: {فبشرهم} أي: أخبرهم {بعذاب أليم} أي: مؤلم وعبر بالبشارة على سبيل التهكم.
(16/143)
---(1/1318)
{يوم يحمى عليها} أي: الكنوز بأن تدخل {في نار جهنم} فيوقد عليها {فتكوى} أي: تحرق {بها} أي: بهذه الأموال {جباههم وجنوبهم وظهورهم} قال ابن مسعود رضي الله عنه لا يوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم في موضع على حدته، وسئل أبو بكر الورّاق لم خصت الجباه والجنوب والظهور بالكي قال: لأنّ الغنيّ صاحب الكنز إذا رأى الفقير قبض جبهته وإذا جلس الفقير بجنبه تباعد عنه وولى عليه ظهره، وقيل: المعنى أنهم يكوون على الجهات الأربع أما من مقدمه فعلى الجبهة وأمّا من خلفه فعلى الظهر وأمّا من يمينه ويساره فعلى الجنبين، وقيل: لأنّ جمعهم وإمساكهم المال كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية والملابس البهية وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدّي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحة له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره كلما بردت عليه أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار» وقوله تعالى: {هذا ما كنزتم} على إرادة القول أي: يقال لهم هذا ما كنزتم {لأنفسكم} أي: لمنفعتها وكان عين مضرتها وسبب تعذبيها {فذوقوا ما كنتم تكنزون} أي: تمنعون حقوق الله تعالى في أموالكم، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: انتهيت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: «هم الأخسرون ورب الكعبة» فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمّي من هم قال: «هم؟ الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم».
(16/144)
---(1/1319)
{إنّ عدّة الشهور} أي: عددها {عند الله اثنا عشر شهراً} وهي المحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وشهر ربيع الثاني وجمادى الأوّل وجمادى الثاني ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوّال وذو القعدة وذو الحجة، هذه شهور السنة القمرية التي هي مبنية على سير القمر في المنازل وهي شهور العرب التي يعتدّ بها المسلمون في صيامهم ومواقيت حجهم وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم وأيام هذه الشهور ثلثمائة وخمسة وخمسون يوماً والسنة الشمسية عبارة عن دور الشمس في الفلك دورة واحدة تامّة وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية فيقع الصوم والحج تارة في الشتاء وتارة في الصيف قال المفسرون: وسبب نزول هذه الآية من أجل النسىء الذي كانت العرب تفعله في الجاهلية فكان حجهم يقع تارة في وقته وتارة في المحرّم وتارة في صفر وتارة في غيرهما من الشهور فأعلم الله تعالى أنّ عدة الشهور سنة المسلمين التي يعتدون بها اثنا عشر شهراً على منازل القمر وسيره فيها وهو قوله تعالى: {إنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً} أي: في علمه وحكمه {في كتاب الله} أي: في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه أحوال مخلوقاته بأسرها على التفصيل وهو أصل الكتب التي أنزلها الله تعالى على جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقيل فيما أثبته وأوجبه من حكمه ورآه حكمة وصواباً {يوم خلق السموات والأرض} أي: إنّ هذا الحكم حكم به قضاه يومئذ أي: السنة اثنا عشر شهراً {منها} أي: الأشهر {أربعة حرم} ثلاثة سواء ذو القعدة بفتح القاف وذو الحجة بكسر الحاء على المشهور فيهما وسميا بذلك لقعودهم عن القتال في الأوّل ولوقوع الحج في الثاني، والمحرّم بتشديد الراء المفتوحة سمي بذلك لتحريم القتال فيه وقيل: لتحريم الجنة فيه على إبليس ودخلته اللام دون غيره من الشهور لأنه أوّلها فعرفوه كأنه قيل: هذا الشهر الذي ابتدأ أول السنة(1/1320)
(16/145)
---
وواحد فرد وهو رجب ويجمع على أرجاب ورجاب ورجوب ورجبات، ويقال له: الأصم والأصب، وقيل: لم يعذب الله أمّة في شهر رجب ورد عليه بأنّ الله تعالى أغرق قوم نوح فيه قاله الثعلبي، وهذا الترتيب الذي ذكرناه في عد الأشهر الحرم وجعلها من سنتين هو الصواب كما قاله النوويّ في شرح مسلم ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: «ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» وعدها الكوفيون من سنة واحدة فقالوا: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة، قال ابن دحية: وتظهر فائدة الخلاف فيما إذا نذر صيامها مرتبة فعلى الأوّل يبتدىء بذي القعدة وعلى الثاني بالمحرم ومعنى الحديث أنّ الأشهر رجعت إلى ما كانت عليه وعاد الحج في ذي الحجة وبطل النسىء الذي كان في الجاهلية وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة وكانت حجة أبي بكر رضي الله عنه قبلها في ذي القعدة ومعنى الحرم أنّ المعصية فيها أشدّ عقاباً والطاعة فيها أكثر ثواباً والعرب كانوا يعظمونها جدّاً حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يتعرّض له.
(16/146)
---(1/1321)
فإن قيل: أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة فما السبب في هذا التمييز؟ أجيب: بأنّ هذا المعنى غير مستبعد في الشرائع فإن أمثلته كثيرة ألا ترى أنه تعالى ميز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمة وميز يوم الجمعة عن سائر أيام الأسبوع بمزيد الحرمة وميز يوم عرفة عن سائر الأيام بتلك العبادة المخصوصة وميز شهر رمضان عن سائر الشهور بمزيد حرمة وهو وجوب الصوم وميز بعض ساعات اليوم بوجوب الصلاة فيها وميز بعض الليالي عن سائرها وهي ليلة القدر وميز بعض الأشخاص عن سائر الناس بإعطاء خلع الرسالة وإذا كانت هذه الأمثلة ظاهرة مشهورة فأي استبعاد في تخصيص بعض الأشهر بمزيد الحرمة {ذلك} أي: تحريم الأشهر الأربعة {الدين القيم} أي: المستقيم وهو دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام والعرب ورثوه منهما، وقيل: المراد بالدين الحساب يقال: الكيس من دان نفسه أي: حاسبها، والقيم معناه المستقيم فتفسير الآية على هذا التقدير ذلك الحساب المستقيم الصحيح والعدد المستوي وقال الحسن: ذلك الدين القيم الذي لا يبدل ولا يغير فالقيم هنا بمعنى القائم الدائم الذي لا يزول وهو الدين الذي فطر الناس عليه {فلا تظلموا فيهنّ} أي: الأشهر الحرم {أنفسكم} بالمعاصي فإنها فيها أعظم وزراً لأنّ الله تعالى خص هذه الشهور بمزيد احترام في آية أخرى وهو قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهنّ الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} (البقرة، 197)
(16/147)
---(1/1322)
فهذه الأشياء غير جائزة في غير الحج أيضاً إلا أنه تعالى أكد في المنع منها في هذه الأيام تنبيهاً على زيادتها في الشرف وقال ابن عباس: إنّ المراد فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم والمقصود منع الإنسان من الإقدام على الفساد مطلقاً في جميع العمر قال الفراء: والأوّل أولى لأنّ العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة فيهنّ فإذا جاوز هذا العدد قالوا فيها: والأصل فيه أنّ جمع القلة يكنى عنه كما يكنى عن جماعة مؤنثة ويكنى عن جمع الكثرة كما يكنى عن واحدة مؤنثة كما قال حسان:
*لنا الجفنات الغرّ يلمعن في الضحى ** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما*
قال: يلمعن ويقطرن لأن الأسياف والجفنات جمع قلة ولو جمع جمع الكثرة لقال: تلمع وتقطر هذا في الاختيار ثم يجوز إجراء أحدهما مجرى الآخر كقول النابغة:
*ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب*
فقال: بهن، والسيوف جمع كثرة، وقيل: المراد بالظلم المقاتلة في هذه الأشهر، وقيل: النسيء الذي كانوا يعملونه فينقلون الحج من الذي أمر الله تعالى بإقامته فيه إلى شيء آخر ويغيرون تكاليف الله تعالى والجمهور على أنّ حرمة المقاتلة في الأشهر الحرم منسوخة، وعن عطاء لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم والأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا ويؤيد الأوّل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف وغزا هوازن بحنين في شوّال وذي القعدة، وقوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافة} أي: جميعاً في كل الشهور {كما يقاتلونكم كافة واعلموا أنّ الله مع المتقين} بالعون والنصرة ومن كان معه نصر لا محالة.
(16/148)
---(1/1323)
{إنما النسيء} أي: التأخير لحرمة شهر إلى آخر كما كانت الجاهلية تفعل كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرّموا مكانه شهراً آخر ورفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرّد العدد فكانوا يؤخرون تحريم المحرّم إلى صفر فيحرّمون صفر ويستحلون المحرم فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخروه إلى ربيع وهكذا شهر بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها وكانوا يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي القعدة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين وكذا باقي شهور السنة فوافقت حجة أبي بكر رضي الله عنه في السنة التاسعة في ذي القعدة قبل حجة الوداع بسنة ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوداع فوافق حجه في شهر ذي الحجة وهو شهر الحج المشروع فوقف بعرفة في اليوم التاسع وخطب بالناس في اليوم العاشر وأعلمهم أنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ـ الحديث المتقدّم ـ وأمرهم بالمحافظة على ذلك لئلا يتبدل في مستأنف الأيام وقد رجع المحرّم إلى موضعه الذي وضعه الله تعالى وذلك بعد دهر طويل.
(16/150)
---(1/1324)
وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته لنا: «أيّ شهر هذا» قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: «أليس ذا الحجة» قلنا: بلى قال: «أيّ بلد هذا» قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: «أليس البلد الحرام» قلنا: بلى قال: «فأي يوم هذا» قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: «أليس يوم النحر» قلنا: بلى قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعلّ بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ألا هل بلغت ألا هل بلغت ألا هل بلغت» قلنا: نعم قال: «اللهم اشهد» واختلفوا في أوّل من نسأ النسيء فقال ابن عباس: بنو مالك بن كنانة وكان يليه أبو ثمامة وجنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يقوم على جمل بالموسم فينادي إنّ آلهتكم قد أحلت لكم المحرّم فأحلوه ثم ينادي في قابل إنّ آلهتكم قد حرمت عليكم المحرّم فحرّموه وقال الكلبي: أوّل من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة، وقيل: أول من فعل ذلك عمرو بن لحي وهو أوّل من سيب السوائب وقال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم «رأيت عمرو بن لحيّ يجرّ قصبه في النار». وقوله تعالى: {زيادة في الكفر} معناه أنه تعالى حكى عنهم أنواعاً كثيرة من الكفر فلما ضموا تحريم ما أحل الله تعالى وتحليل ما حرّم الله تعالى وهو كفر كان ضم هذا العمل إلى تلك الأنواع المتقدّمة من الكفر زيادة في الكفر لأنّ الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفراً فزادتهم رجساً إلى رجسهم كما أنّ المؤمن كلما أحدث طاعة ازدادا إيماناً فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون. وقرأ ورش النسيّ بقلب الهمزة ياء وإدغام الياء فيها فبقيت ياء مضمومة مشدّدة والباقون بهمزة(1/1325)
(16/151)
---
مضمومة هذا في الوصل وأمّا الوقف فورش يقف بياء مشدّدة ساكنة وحمزة كذلك وله فيه الروم والاشمام والباقون بهمزة ساكنة {يضل به} أي: بهذا التأخير الذي هو النسيء {الذين كفروا} قرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الياء وفتح الضاد لقوله تعالى: {زين لهم سوء أعمالهم} والباقون بفتح الياء وكسر الضاد على معنى أنهم هم الضالون لقوله تعالى: {يحلونه} أي: يحلون النسيء من الأشهر الحرم {عاماً} ويحرّمون مكانه شهراً آخر {ويحرّمونه عاماً} فيتركونه على حرمته وإنما فعلوا ذلك {ليواطؤا} أي: ليوافقوا {عدّة} أي: عدد {ما حرّم الله} من الأشهر فلا يزيدون على تحريم أربعة أشهر ولا ينقصون عنها ولا ينظرون إلى أعيانها {فيحلوا ما حرّم الله} بمواطأة العدة من غير مراعاة الوقت الذي يحلون إليه الأشهر الحرم {زين لهم سوء أعمالهم} قال ابن عباس: زين لهم الشيطان هذا العمل حتى حسبوا هذا القبيح حسناً {وا لا يهدي القوم الكافرين} أي: هداية موصلة إلى الاهتداء لما سبق لهم في الأزل أنهم من أهل النار، ولما رجع النبيّ صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى المدينة وحث على غزوة تبوك وكان ذلك الوقت زمان عسرة وشدّة حرّ وطابت ثمار المدينة ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّ شديد واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز جلاً للناس أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فشق عليهم الخروج وتثاقلوا فنزل:
(16/152)
---(1/1326)
{يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم} بإدغام التاء في الأصل في المثلثة واجتلاب همزة الوصل إذ أصله تثاقلتم ومعناه تباطأتم وملتم عن الجهاد {إلى الأرض} والقعود فيها والاستفهام للتوبيخ، قال المحققون وإنما تثاقل الناس من وجوه: الأوّل: شدّة الزمان في الصيف والقحط، والثاني: بعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الكثير الزائد على ما جرت به عادتهم في سائر الغزوات، والثالث: إدراك الثمار بالمدينة في ذلك الوقت، والرابع شدّة الحرّ في ذلك الوقت ثم قال لهم الله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا} وغرورها {من الآخرة} بدل الآخرة ونعيمها {فما متاع الحياة الدنيا في} جنب متاع {الآخرة إلا قليل} أي: حقير لأنّ متاع الدنيا يفقد عن قريب ونعيم الآخرة باق على الدوام فلهدا السبب كان متاع الدنيا بالنسبة إلى نعيم الآخرة قليلاً وفي الآية دليل على وجوب الجهاد في كل حال وفي كل وقت لأنّ الله تعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر فلو لم يكن الجهاد واجباً لما عاتبهم الله على التثاقل ويؤكد هذا الوعيد المذكور في قوله تعالى:
(16/153)
---(1/1327)
{إلا} أي: بإدغام نون إن الشرطية في لا في الموضعين {تنفروا} أي: تخرجوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم للجهاد {يعذبكم عذاباً أليماً} أي: مؤلماً في الآخرة لأنّ العذاب الأليم لا يكون إلا فيها أو بالإهلاك بسبب فظيع كقحط وظهور عدو، وقيل: باحتباس المطر عنهم قال ابن عباس: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً من أحياء العرب فتثاقلوا فأمسك الله عنهم المطر فكان ذلك عذابهم {ويستبدل قوماً غيركم} أي: يأت بهم بدلكم قال ابن عباس: هم التابعون وقال سعيد بن جبير: أبناء فارس، وقال أبو روق: هم أهل اليمن، قال الرازي: وهذه الوجوه ليست تفسيراً للآية لأنّ الآية ليس فيها إشعار بها بل حمل لذلك المطلق على صورة معينة شاهدوها وقال في الكشاف بعد ذكره ذلك والظاهر مستغن عن التخصيص {ولا تضروه شيئاً} أي: لا يقدح تثاقلكم في نصردينه شيئاً فإنه الغني عن كل شيء وفي كل أمر وقيل: الضمير راجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي: ولا تضروره لأنّ الله تعالى وعده أن ينصره ووعده كائن لا محالة {وا على كل شيء قدير} أي: فيقدر على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا عدد كما قال تعالى: {إلا تنصروه} أي: محمداً صلى الله عليه وسلم أيها المؤمنون {فقد نصره الله} فإنه المتكفل بنصرة رسوله صلى الله عليه وسلم في إعزاز دينه وإعلاء كلمته أعنتموه أو لم تعينوه فإنه قد نصره عند قلة الأولياء وكثرة الأعداء فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدد وقد نصره {إذ} أي: حين {أخرجه الذين كفروا} من مكة حين مكروا به حيث تشاوروافي قتله أو إخراجه أو إثباته في دار الندوة فكان ذلك لإذن الله له في الخروج من بينهم حالة كونه {ثاني اثنين} أي: أحدهما أبو بكر رضي الله عنه لا ثالث لهما لم يبصرهما إلا الله تعالى وقوله تعالى: {إذ} بدل من إذ قبله {هما في الغار} أي: غار ثور الذي في أعلى الجبل المواجه للركن اليماني بأسفل مكة على مسيرة ساعة منها لما كمنا فيه ثلاث(1/1328)
(16/154)
---
ليال ليفتر عنهما الطلب وذلك قبل أن يصلا إليكم ويعوّلا في النصر عليكم وقوله تعالى: {إذ} بدل ثان {يقول} صلى الله عليه وسلم {لصاحبه} أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وثوقاً بربه غير منزعج من شيء وقد قال له أبو بكر لما رأى أقدام المشركين لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا {لا تحزن} والحزن همّ غليظ بتوجع يرق له القلب وإنما كان خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهما لما وصلا الغار نزل أبو بكر الغار أولاً يلتمس ما في الغار فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «ما لك» فقال: بأبي أنت وأمّي الغار مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك وكان في الغار جُحر فوضع عقبه عليه لئلا يخرج ما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم «لا تحزن» {إن الله معنا} فقال له أبو بكر: وإنّ الله لمعنا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم «نعم» فجعل يمسح الدموع عن خدّه.
وروي لما طلع المشركون فوق الغار وأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال عليه الصلاة والسلام: «ما طنك باثنين الله ثالثهما».
وروي لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين باضتا في أسفله والعنكبوت نسجت عليه فقال صلى الله عليه وسلم «اللهمّ أعم أبصارهم» فجعلوا يتردّدون حول الغار ولا يرون أحداً ويقولون لو دخلا هذا الغار تكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت.
(16/155)
---(1/1329)
تنبيه: دلت هذه الآية على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه من وجوه منها أنّ الهجرة كانت بإذن الله تعالى وكان في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من المخلصين وكانوا في النسبة إلى شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب من أبي بكر رضي الله عنه فلولا أنّ الله تعالى أمره بأن يستصحبه في تلك الواقعة الصعبة الهائلة وإلا لكان الظاهر أن لا يخصه بهذه الصحبة وتخصيص الله تعالى له بهذا التشريف دال على منصب عال له في الدين ومنها قوله صلى الله عليه وسلم «لا تحزن إنّ الله معنا» ولا شك أنّ المراد من هذه المعية المعية بالحفظ والنصرة والحراسة والمعونة وقد شرك صلى الله عليه وسلم بين نفسه وبين أبي بكر في هذه المعية وكفى بها شرفاً ومنها أن قوله: «لا تحزن» نهى عن الحزن مطلقاً والنهي يوجب الدوام والتكرار وذلك يقتضي أنه لا يحزن أبو بكر رضي الله عنه بعد ذلك البتة قبل الموت وعند الموت وبعد الموت ومنها إطباق الكل على أنّ أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام.
(16/156)
---(1/1330)
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبي بكر: «أنت صاحبي في الغار وصاحبي على الحوض» قال الحسن بن الفضل: من قال إنّ أبا بكر رضي الله عنه لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكار نص القرآن وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً لا كافراً واختلف في عود الضمير في قوله تعالى: {فأنزل الله سكينته} أي: طمأنينته {عليه} هل هو للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو لأبي بكر رضي الله عنه؟ رجح الثاني لوجوه: الأوّل: أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات وأقرب المذكورات المتقدّمة في هذه الآية هو أبو بكر لأنه تعالى قال: {إذ يقول لصاحبه} والتقدير إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر لا تحزن وعلى هذا التقدير فأقرب المذكورات السابقة هو أبو بكر فوجب عود الضمير إليه. والثاني: أنّ الحزن والخوف كانا حاصلين لأبي بكر لا للرسول صلى الله عليه وسلم فإنه كان آمناً ساكن القلب فيما وعده الله تعالى أن ينصره على قريش فلما قال لأبي بكر: لا تحزن صار آمناً فصرف السكينة لأبي بكر ليصير ذلك سبباً لزوال خوفه أولى من صرفها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنه كان قبل ذلك ساكن النفس قويّ القلب. الثالث: إنه لو كان المراد إنزال السكينة على الرسول صلى الله عليه وسلم لوجب أن يقال: إنّ الرسول كان قبل ذلك خائفاً ولو كان خائفاً لما أمكنه أن يقول لأبي بكر: «لا تحزن إنّ الله معنا» فمتى كان خائفاً لم يمكنه أن يزيل الخوف عن قلب غيره ولو كان راجعاً إلى الرسول لوجب أن يقال: فأنزل الله سكينته عليه فقال لصاحبه: «لا تحزن» فيكون ذلك مما يدلّ على فضيلة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ومنها حديث الهجرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام عن عائشة رضي الله عنها وعن أبويها قالت: لم أعقل أبويّ إلا وهما يدينان الدين ولم يمرّ علينا يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا طرفي النهار بكرة وعشية فلما ابتلي(1/1331)
(16/157)
---
المسلمون قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «إني رأيت دار هجرتكم سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان» فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامّة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة وتجهز أبو بكر رضي الله عنه قبل المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي» فقال أبو بكر: وهل ترجون ذلك يا رسول الله قال: «نعم» فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق الشجر وهو الخبط أربعة أشهر، قالت عائشة: فبينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في حرّ الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر: والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «أخرج من عندك» فقال أبو بكر: إنما هم أهلك يا رسول الله، فقال: «قد أذن لي في الخروج» فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: «نعم» قال أبو بكر: فخذ إحدى راحلتيّ هاتين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بالثمن» قالت عائشة: فجهزناهما أحبّ الجهاز ووضعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فسميت بذلك ذات النطاقين قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الرحمن بن أبي بكر وهو غلام شاب فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمراً يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام وكان يرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء يفعل ذلك كل ليلة من الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً عارفاً بالهداية وهو على(1/1332)
دين كفار قريش
(16/158)
---
فأمناه ودفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما بعد صبح ثلاث فارتحلا وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديليّ فأخذ بهم طريق الساحل فعلم بهم سراقة بن مالك المدلجي وكان كفار قريش جعلوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر كل واحد منهما لمن قتله أو أسره دية قال سراقة فتبعتهم حتى دنوت فعثرت فرسي فخررت عنها فقمت وأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرّهم أم لا فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام فقربت بي حتى سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغت الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم الآمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إنّ قومك جعلوا فيك الدية وأخبرتهم بما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قالا: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمان فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي رقعة من أدم ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجاراً أقبلوا من الشام فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياباً بيضاً فلما قربا من المدينة وصل الخبر إلى الأنصار فخرجوا مسرعين فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرّة فأخذ بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأوّل فقام في بني عمرو بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته وصار يمشي معه الناس حتى بركت عند مكان مسجد الرسول صلى الله عليه(1/1333)
وسلم بالمدينة وكان مربد
(16/159)
---
تمر لسهل وسهيل فساومهما صلى الله عليه وسلم ليتخذه مسجداً فقالا بل نهبه لك يا رسول الله، ثم بناه مسجداً وصار صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنائه ويقول وهو ينقل اللبن:
*هذا الحمال لا حمال خيبر ** هذا أبر ربنا وأطهر*
ويقول أيضاً:
*إنّ الأجر أجر الآخرة ** فارحم الأنصار والمهاجرة*
قال ابن شهاب: لم يبلغنا في الأحاديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذا فإظهار خروجه صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه مما يدل على فضيلته وفضائله رضي الله عنه وعن بقية الصحابة أجمعين وفيما ذكرناه كفاية. وأمّا الضمير في قوله تعالى: {وأيده} فاتفقوا أنه للنبي صلى الله عليه وسلم فهو معطوف على قوله تعالى: {فقد نصره الله}.
{بجنود لم تروها} أي: من الملائكة الكرام في الغار ويوم بدر والأحزاب وحنين وجميع مواطن قتاله {وجعل كلمة} أي: دعوة {الذين كفروا} إلى الكفر {السفلى} أي: المغلوبة فخيب سعيهم وردّ كيدهم {وكلمة الله} أي: إلى الإسلام {هي العليا} أي: الغالبة الظاهرة وقيل: كلمة الذين كفروا ما كانوا قدرها بينهم من الكيد بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وكلمة الله هي ما وعده بالنصر والظفر بهم فكان ما وعده الله تعالى حقاً وصدقاً {وا عزيز} في ملكه {حكيم} في أمره وتدبيره لا يمكن أن ينتقض شيء من مراده فلا محيص عن نفوذ ما أراده ولما بلغت هذه المواعظ من القلوب الواعية مبلغاً هيأها للقبول أقبل عليها سبحانه وتعالى فقال:
(16/160)
---(1/1334)
{انفروا خفافاً وثقالاً} أي: على الصفة التي يخف عليكم الجهاد فيها وعلى الصفة التي يثقل عليكم وهذان الوصفان يدخل تحتهما أقسام كثيرة ولهذا اختلفت عبارات المفسرين فيها فقال ابن عباس: نشاطاً وغير نشاط، وقال الحسن: شباناً وشيوخاً، وقال عطية العوفي: ركباناً ومشاة، وقال أبو صالح: فقراء وأغنياء، وقال الحكم بن عيينة: مشاغيل وغير مشاغيل، وقال حرة الهمداني: أصحاء وأصحاب مرض، وعن صفوان بن عمرو كنت والياً على حمص فلقيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو فقلت: يا عم لقد أعذر الله إليك، فرفع حاجبيه وقال: استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ألا إنه من يحبه الله يبتليه، وعن الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل: إنك عليل صاحب مرض فقال: استنفرنا الله الخفيف والثقيل فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع. وعن ابن أمّ مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعليّ أن أنفر قال: «ما أنت إلا خفيف أو ثقيل» فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه صلى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج} (النو، 61)
أي: فهي منسوخة بذلك وقال ابن عباس: نسخت بقوله تعالى: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى} (التوبة، 91)
الآية، وقال السدي: لما نزلت اشتدّ شأنها على المسلمين فنسخها الله تعالى وأنزل {ليس على الضعفاء ولا على المرضى} وقال عطاء الخراساني: منسوخة بقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} (التوبة، 122)
وقوله تعالى: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} أمر إيجاب للجهاد أي: ما أمكن لكم بهما كليهما أو أحدهما على حسب الحال والحاجة.
(16/162)
---(1/1335)
{ذلكم} أي: هذا الأمر العظيم {خير لكم} أي: خاص بكم ويجوز أن يكون أفعل تفضيل، أي: عبادة المجاهد بالجهاد خير من عبادة القاعد بغيره كما قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله هل يمكن بلوغ درجة المجاهد فقال: «هل تستطيع أن تقوم فلا تفتر وتصوم فلا تفطر» ثم ختم تعالى الآية بقوله تعالى: {إن كنتم تعلمون} أي: ما حصل من الخيرات في الآخرة على الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن القول بالقيامة حق وأن القول بالثواب والعقاب صدق.
ونزل في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك: {لو كان} ما تدعوهم إليه {عرضاً} أي: متاعاً من الدينا، يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر {قريباً} أي: سهل المأخذ وقوله تعالى: {وسفراً قاصداً} أي: وسطاً فحذف اسم كان وهو ما قدرته، قال الزجاج: لدلالة ما تقدم عليه وإنما سمي السفر قاصداً لأن المتوسط بين الإفراط والتفريط يقال له: مقتصد قال تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد} (فاطر، 32)
لأن المتوسط بين الكثرة والقلة يقصده كل أحد وقوله تعالى: {قاصداً} أي: ذا قصد كقولهم: لابن وتامر {لاتبعوك} أي: وافقوك طلباً للغنيمة {ولكن بعدت عليهم الشقة} أي: المسافة التي تقطع بمشقة {وسيحلفون} أي: المتخلفون {با} إذا رجعت من تبوك معتذرين {لو استطعنا} أي: لو كان لنا استطاعة بالبدن أو العدة {لخرجنا} أي: في هذه الغزاة {معكم يهلكون أنفسهم} أي: بسبب هذه الأيمان الكاذبة كما قال تعالى: {وا يعلم إنهم لكاذبون} في ذلك لأنهم كانوا مستطيعين الخروج.
(16/163)
---(1/1336)
{عفى الله عنك لم أذنت لهم} أي: عفا الله تعالى عنك يا محمد ما كان منك في ذلك لهؤلاء المنافقين الذين استأذنوك في ترك الخروج معك إلى تبوك، واختلفوا هل في ذلك معاتبة للنبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فقال عمرو بن ميمون: اثنان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بهما إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من أسارى بدر فعاتبه الله تعالى كما تسمعون، وقال سفيان بن عيينة: انظروا إلى هذا اللطف بدأ الله تعالى بالعفو قبل أن يعيره، وقال القاضي عياض في الشفاء: إن هذا أمر لم يتقدّم للنبي صلى الله عليه وسلم فيه من الله تعالى نهي فيعد معصية ولأعده الله تعالى معصية عليه بل لم يعده أهل العلم معاتبة وغلطوا من ذهب إلى ذلك وليس عفا بمعنى غفر بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق» ولم تجب عليهم قط أي: لم يكن يلزمكم ذلك. ونحوه للقشيري قال: وإنما يقول: العفو لا يكون إلا عن ذنب، من لا يعرف كلام العرب. وقال مكي: هو استفتاح كلام مثل أصلحك الله وأعزك. وقال السمرقندي: إن معناه عافاك الله، وقال الرازي: إن ذلك يدل على مبالغة الله في توقيره وتعظيمه كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظماً عنده عفا الله عنك ما جوابك عن كلامي ورضي الله عنك ما صنعت في أمري فلا يكون غرضه من هذا الكلام إلا مزيد التمجيد والتعظيم أي: كما كانت عادة العرب في مخاطبتهم لأكابرهم بأن يقولوا: أصلح الله الأمير والملك ونحو ذلك. {حتى يتبين لك الذين صدقوا} أي: في اعتذارهم {وتعلم الكاذبين} أي: فيما أظهروا من الإيمان باللسان لو لم يؤذن لهم لقعدوا بلا إذن غير مراعين ميثاقهم الذي واثقوك عليه بالطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره قال ابن عباس: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين يؤمئذ حتى نزلت براءة.
(16/164)
---(1/1337)
{لا يستأذنك} أي: لا يطلب إذنك بغاية الرغبة فيه {الذين يؤمنون با واليوم الآخر} أي: الذي يكون فيه الجزاء بالثواب والعقاب {أن} أي: في أن {يجاهدوا} وإنما حسن هذا الحذف لظهوره {بأموالهم وأنفسهم} بل يبادرون إلى الجهاد عند إشارتك إليه وبعثك عموماً عليه فضلاً عن أن يستأذنوك في التخلف عنه فإن الخلص من المهاجرين والأنصار كانوا يقولون لا نستأذنه صلى الله عليه وسلم في الجهاد فإن ربنا ندبنا إليه مرّة بعد مرّة فأيّ فائدة في الاستئذان ولنجاهد معه بأموالنا وأنفسنا وكانوا بحيث لو أمرهم صلى الله عليه وسلم بالقعود لشق عليهم كما وقع لعليّ رضي الله عنه في غزوة تبوك لما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يبقى في المدينة شق عليه ولم يرض حتى قال له صلى الله عليه وسلم «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» {وا عليم بالمتقين} أي: الذين يتقون مخالفته ويسارعون إلى طاعته.
{إنما يستأذنك} يا محمد في التخلف عن الجهاد معك من غير عذر {الذين لا يؤمنون با واليوم الآخر} وهم المنافقون لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً {وارتابت} أي: شكت {قلوبهم} في الدين وإنما أضاف الشك والارتياب إلى القلب لأنه محل المعرفة والإيمان فإذا داخله الشك كان ذلك نفاقاً {فهم} أي: فتسبب عن ذلك أنهم {في ريبهم يتردّدون} أي: المنافقون ويتحيرون لا مع الكفار ولا مع المؤمنين.
تنبيه: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآيات فقيل إنها منسوخة بالآية التي في سورة النور وهي قوله تعالى: {إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون با ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم} (النو، 62)
(16/165)
---(1/1338)
وقيل: إنها محكمات كلها ووجه الجمع بين هذه الآيات أن المؤمنين كانوا يسارعون إلى طاعة الله تعالى وجهاد عدوهم من غير استئذان فإذا عرض لأحدهم عذر استأذن في التخلف فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيراً في الإذن لهم بقوله تعالى: {فأذن لمن شئت منهم} وأما المنافقون فكانوا يستأذنون في التخلف من غير عذر فعيرهم الله تعالى بهذا الاستئذان لكونه بغير عذر.
{ولو أرادوا الخروج} إلى الغزو معك {لأعدّوا له} أي: قبل حلوله {عدّة} أي: قوّة وأهبة من المتاع والسلاح والكراع بحيث يكونون كالحاضرين في صلب الحرب الواقفين في الصف قد استعدوا لها بجميع عدتها، ولما كان قوله تعالى: {ولو أرادوا الخروج} يعطي معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو أتى تعالى بحرف الاستدراك فقال تعالى: {ولكن كره الله انبعاثهم} أي: لم يرض خروجهم معك إلى الغزو {فثبطهم} أي: حبسهم بالجبن والكسل {وقيل} لهم {اقعدوا مع القاعدين} أي: مع النساء والصبيان والمرضى وأهل الأعذار ومعنى {قيل لهم} أي: قدر الله تعالى عليهم ذلك بأن ألقى في قلوبهم القعود لما كره الله انبعاثهم مع المؤمنين، وقيل القائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استأذنوه في القعود فقال لهم: اقعدوا مع القاعدين.
فإن قيل: خروج المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون فيه مصلحة أو مفسدة فإن كان فيه مصلحة فلِمَ قال تعالى: {ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم} وإن فيه مفسدة فلم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {عفا الله عنك لم أذنت لهم} في ترك الخروج؟ أجيب: بأن خروجهم فيه مفسدة عظيمة بدليل قوله تعالى:
{لو خرجوا فيكم} أي: معكم {ما زادوكم} بخروجهم {إلا خبالاً} أي: فساداً وشراً بتخذيل المؤمنين وتقدم الكلام على قوله: {لم أذنت لهم}.
(16/166)
---(1/1339)
تنبيه: لا يصح أن يكون فيه الاستثناء منقطعاً لأنّ الاستثناء المنقطع يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه كقوله: {ما زادوكم خيراً إلا خبالاً} والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور وإذا لم يذكر ووقع الاستثناء من أعم العام كأنه قيل: ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً {ولأوضعوا} أي: أسرعوا {خلالكم} أي: بينكم فيما يخل بكم بالمشي بالنميمة {يبغونكم الفتنة} أي: يطلبون منكم ما تفتتنون به وذلك أنهم يقولون للمؤمنين: لقد جمعوا لكم كذا وكذا ولا طاقة لكم بهم وإنكم ستهزمون منهم وسيظهرون عليكم، ونحو ذلك من الأحاديث الكاذبة التي تجبنهم {وفيكم} أي: والحال أن فيكم {سماعون لهم} أي: عيون لهم يؤدون لهم أخباركم وما يسمعون منكم وهم الجواسيس أو مطيعون لهم يسمعون كلام المنافقين ويطيعونهم وذلك أنهم يلقون إليهم أنواعاً من الشبهات الموجبة لضعف القلب فيقبلونها منهم.
فإن قيل: كيف يكون في المؤمنين الخالصين من يطيع المنافقين؟ أجيب: بأنهم ربما قالوا قولاً أثر في قلوب ضعفة المؤمنين في بعض الأحوال وقوله تعالى: {وا عليم بالظالمين} وعيد وتهديد للمنافقين الذين يلقون الفتن والشبهات بين المؤمنين.
(16/167)
---(1/1340)
{لقد ابتغوا الفتنة} أي: العنت ونصب الغوائل والسعي في تشتيت شملك وتفريق أصحابك عنك كما فعل عبد الله بن أبيّ يوم أحد وحنين انصرف بمن معه وعن ابن جريج وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الثنية ليلة العقبة وهم اثنا عشر رجلاً ليفتكوا به. {من قبل} أي: قبل غزوة تبوك {وقلبوا لك الأمور} أي: ودبروا لك الحيل والمكايد ودوروا الآراء في إبطال أمرك {حتى جاء الحق} وهو تأييدك ونصرك {وظهر أمر الله} أي: غلب دينه وعلا شرعه {وهم كارهون} له أي: على رغم منهم فدخلوا فيه ظاهراً، ولما تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك قال للجد بن قيس وكان من المنافقين: «يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر يعني: الروم نتخذ منهم سراري ووصفاء» فقال الجدّ بن قيس: يا رسول الله لقد علم قومي أني مغرم بالنساء وإني أخشى إن رأيت بنات بني الأصفر أن لا أصبر عنهن ائذن لي بالقعود ولا تفتني وأعينك بمالي، قال ابن عباس: اعتل الجد بن قيس ولم تكن له علة إلا النفاق فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى فيه:
{ومنهم} أي: المنافقين {من يقول أئذن لي} أي: في القعود في المدينة {ولا تفتني} أي: ببنات بني الأصفر وقيل: لا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإنك إن منعتني من القعود وقعدت بغير إذنك وقعت في الإثم وقيل: لا تلقني في الهلاك فإن الزمان زمان شدة الحر ولا طاقة لي بها وقيل: لا تفتني بسبب ضياع المال والعيال؛ إذ لا كافل لهم بعدي قال الله تعالى: {ألا في الفتنة سقطوا} أي: إن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة التخلف وظهور النفاق لا ما أخبروا عنه {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} أي: جامعة لهم لا محيص لهم عنها يوم القيامة أو هي محيطة بهم الآن لأنّ أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها.
(16/169)
---(1/1341)
{إن تصبك} يا محمد في بعض الغزوات {حسنة} أي: نصرة وغنيمة {تسؤهم} أي: تحزنهم لما في قلوبهم من الضعف والمرض {وإن تصبك مصيبة} أي: نكبة وإن صغرت في بعض الغزوات كما وقع يوم أحد {يقولوا} أي: سروراً وتبجحاً بحسن رأيهم {قد أخذنا أمرنا} أي: بالجد والحزم في القعود عن الغزو {من قبل} أي: قبل هذه المصيبة {ويتولوا وهم فرحون} أي: مسرورون بما نالك من المصيبة وسلامتهم منها قال الله تعالى:
{قل} يا محمد لهؤلاء الذين يفرحون بما يصيبك من المصائب والمكروه {لن يصيبنا إلا ما كتب الله} أي: قدره {لنا} في اللوح المحفوظ لأنّ القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة من خير وشر فلا يقدر أحد أن يدفع عن نفسه مكروهاً نزل به أو يجلب لنفسه نفعاً إن أراده ما لم يقدر له {هو} أي: الله {مولانا} أي: ناصرنا وحافظنا وهو أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} في جميع أمورهم لأنّ حقهم أن لا يتوكلوا على غيره ليفعلوا ما هو حقهم.
(16/170)
---(1/1342)
{قل} يا محمد لهؤلاء المنافقين {هل تربصون} فيه حذف إحدى التاءين من الأصل أي: تنتظرون أن يقع {بنا} أيها المنافقون {إلا إحدى الحسنيين} تثنية حسنى تأنيث أحسن أي: إلا إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسنى العواقب وهما النصر أو الشهادة، وذلك أنّ المسلم إذا ذهب إلى الجهاد في سبيل الله إما أن يسلم ويغنم فيحصل له المال وإما أن يقتل في سبيل الله فتحصل له الشهادة وهي العاقبة القصوى وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة» {ونحن نتربص بكم} أي: إحدى السوأيين من العواقب إما {أن يصيبكم الله بعذاب من عنده} لا سبب لنا فيه كأن ينزل عليكم قارعة من السماء كما نزلت على عاد وثمود {أو} بعذاب {بأيدينا} أي: بسببنا من قتل ونهب وأسر وغير ذلك {فتربصوا} بنا ما ذكرنا من عواقبنا {إنا معكم متربصون} ما هو عاقبتكم ولا بد أن يلقى كلنا ما يتربصه لا يتجاوزه.
{قل} يا محمد لهؤلاء المنافقين {أنفقوا طوعاً أو كرهاً} أي: من غير إلزام من الله ورسوله أو ملزمين.
وسمي الإلزام إكراهاً لأنهم منافقون فكان إلزامهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم لأنّ رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه أو مكرهين من جهتهم {لن يتقبل منكم} أي: لا تقبل منكم نفقاتكم على أيّ حال كان.
فإن قيل: كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال: {لن يتقبل منكم}؟ أجيب: بأن هذا أمر في معنى الخبر كقوله تعالى: {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً} (مريم، 75)
وروي أنها نزلت في الجدّ بن قيس حين تخلف عن غزوة تبوك وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مالي أعينك به فاتركني.
(16/171)
---(1/1343)
ثم علل تعالى سبب منع القبول بقوله تعالى: {إنكم} أي: لأنكم {كنتم قوماً فاسقين} والمراد بالفسق هنا الكفر ويدل عليه قوله تعالى:
{وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا با وبرسوله} أي: وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم، وقرأ حمزة والكسائي: يقبل، بالياء على التذكير لأنّ تأنيث النفقات غير حقيقي، والباقون بالتاء على التأنيث {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى} أي: متثاقلون لا يأتونها قط بنشاط {ولا ينفقون} أيّ: نفقة من واجب أو غيره {إلا وهم كارهون} أي: في حال الكراهة وإن ظهر خلاف ذلك وذلك كله لعدم النية الصالحة وهذا لا ينافي طوعاً لأنّ ذلك بحسب الظاهر وهذا بحسب الواقع.
(16/172)
---
{فلا تعجبك} يا محمد {أموالهم} أي: وإن أنفقوها في سبيل الله وجهزوا بها الغزاة فإنّ ذلك من غير إخلاص منهم ولا حسن نية ولا جميل طوية {ولا أولادهم} الذين يتجملون بهم فإنّ ذلك استدراج ووبال كما قال تعالى: {إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} وإن كان يتراءى أنها لذيدة لأنّ ذلك من شأن الحياة وتعذيبهم فيها بسبب ما يكابدون من جمعها وحفظها من المتاعب وما يرون فيها من الشدائد والمصائب.
(16/173)
---
فإن قيل: هذا لا يختص بالمنافق فما فائدة تخصيصه به؟ أجيب: بأنّ المؤمن قد علم أنه مخلوق للآخرة وأنه يثاب بالمصائب الحاصلة في الدنيا فلم يكن المال والولد في حقه عذاباً والمنافق لا يعتقد ذلك فبقي ما يحصل له في الدنيا من التعب والمشقة والغم والحزن على المال والولد عذاباً عليه في الدنيا {وتزهق} أي: تخرج {أنفسهم} بسببها {وهم} أي: والحال أنهم {كافرون} أي: يموتون على الكفر فتكون عاقبتهم بعد عذاب الدنيا عذاب الآخرة وهكذا كل من أراد الله تعالى استدراجه في الغالب كثر ماله وولده فكثر إعجابه بماله وولده وبطره وكفره نعمة الله تعالى.(1/1344)
والإعجاب السرور بالشيء مع نوع الافتخار به ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه وهذه الحالة تدل على استغراق النفس بذلك الشيء وانقطاعه عن الله تعالى فإنه لا يبعد في حكم الله تعالى أن يزيل ذلك الشيء عن ذلك الإنسان ويجعله لغيره والإنسان متى كان متذكراً لهذا المعنى زال إعجابه بذلك الشيء ولذلك قال صلى الله عليه وسلم «ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه» وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «هلك المكثرون»، وقال أيضاً: «مالك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأبقيت».
وروي من كثر ماله اشتدّ حسابه ومن أراد من السلطان قرباً ازداد من الله بعداً والأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة والمقصود منها الزجر عن الإطناب من الدنيا والمنع من التهالك في حبها والافتخار بها لأنّ الإنسان خلق للآخرة لا للدنيا فينبغي أن لا يشتدّ عجبه بالدنيا وأن لا يميل قلبه إليها فإن المسكن الأصلي له هو الآخرة لا الدنيا، ولما بين تعالى كون المنافقين مستجمعين لكل مضار الدنيا والآخرة خالين عن جميع منافع الآخرة والدنيا عاد إلى ذكر فضائحهم وقبائحهم فمنها إقدامهم على الأيمان الكاذبة كما قال تعالى:
(16/174)
---
{ويحلفون} أي: المنافقون {با} للمؤمنين إذا جاؤوا معهم {إنهم لمنكم} أي: على دينكم وملتكم {وما هم منكم} أي: لكفر قلوبهم {ولكنهم قوم يفرقون} أي: يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلوا بالمشركين فيظهرون الإسلام تقية.(1/1345)
{لو يجدون ملجأ} أي: حصناً يلجؤن إليه وقيل: لو وجدوا مهرباً هربوا إليه، وقيل: لو يجدون قوماً يأمنون عندهم على أنفسهم منكم لصاروا إليهم وفارقوكم {أو مغارات} أي: سراديب جمع مغارة وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان أي: يستتر {أو مدّخلاً} أي: موضعاً يدخلونه {لولوا إليه} والمعنى أنهم لو وجدوا مكاناً على أحد هذه الوجوه الثلاثة مع أنها شر الأمكنة لدخلوا إليه وتحرّزوا فيه {وهم يجمحون} أي: يسرعون في دخول ذلك المكان إسراعاً لا يردّ وجوههم شيء ومن هذا يقال: جمح الفرس وهو فرس جموح وهو الذي إذا حمل لا يرده اللجام، ثم ذكر تعالى نوعاً آخر من قبائح المنافقين وهو طعنهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب أخذ الصدقات بقوله تعالى:
(16/175)
---(1/1346)
{ومنهم من يلمزك} أي: يعيبك {في الصدقات} قال أبو على الفارسي: ههنا محذوف والتقدير يعيبك في تقسيم الصدقات واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال أبو سعيد الخدري: بيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مالاً إذ أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم رأس الخوارج وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين واستعطف قلوب أهل مكة بتوفير الغنائم عليهم فقال: يا رسول الله اعدل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ويلك إن لم أعدل فمن يعدل قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل» فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه فقال له صلى الله عليه وسلم «دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية». وقال الكلبي: قال رجل من المنافقين يقال له الجوّاظ المنافق: ألا ترون إلى صاحبكم يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ويزعم أنه يعدل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا أبا لك أما كان موسى راعياً أما كان داود راعياً» فلما ذهب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون»، وقال ابن زيد قال المنافقون: والله ما يعطيها محمد إلا من أحب ولا يؤثرها إلا هواه فنزلت.
وروى أبو بكر الأصم في تفسيره أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه: «ماعلمك بفلان» فقال: ما لي به علم إلا أنك تدنيه في المجلس وتجزل له العطاء فقال صلى الله عليه وسلم «إنه منافق أداريه عن نفاقه وأخاف أن يفسد على غيره» فقال: لو أعطيت فلاناً بعض ما تعطيه فقال صلى الله عليه وسلم «إنه مؤمن أكمل إيمانه وأما هذا فمنافق أداريه خوف فساده».
(16/176)
---(1/1347)
{فإن أعطوا منها} أي: من الصدقات {رضوا} أي: رضوا عنك في قسمتها {وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} أي: وإن لم تعطهم عابوا عليك وسخطوا، قال أهل المعاني: إن هذه الآية تدل على ركاكة أخلاق المنافقين ودناءة طباعم وذلك لأنه لشدّة شرههم إلى أخذ الصدقات عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبوه إلى الجور في القسمة مع أنه كان أبعد خلق الله تعالى عن الميل إلى الدنيا، وقال الضحاك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بينهم ما آتاه الله تعالى من قليل المال وكثيره وكان المؤمنون يرضون بما أعطوا ويحمدون الله تعالى وأما المنافقون فإن أعطوا كثيراً فرحوا وإن أعطوا قليلاً سخطوا وذلك يدل على أن رضاهم وسخطهم لطلب النصيب لا لأجل الدين، وكلمة إذا للمفاجأة أي: وإن لم يعطوا منها فاجؤا السخط.
(16/177)
---(1/1348)
{ولو أنهم} أي: المنافقين {رضوا ما آتاهم الله ورسوله} أي: ما أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم والصدقات أو غيرها وذكر الله تعالى للتعظيم والتنبيه على أن ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بأمره {وقالوا} أي: مع الرضا {حسبنا الله} أي: كافينا الله من فضله {سيؤتينا الله من فضله ورسوله} أي: من غنيمة أو صدقة أخرى ما يكفينا {إنا إلى الله} أي: في أنّ الله تعالى يغنينا عن الصدقة وغيرها من أموال الناس ويوسع علينا من فضله {راغبون} أي: عريقون في الرغبة ولذلك نكتفي بما يأتي من قبله كائناً ما كان وجواب لو محذوف والتقدير لكان خيراً لهم، نقل عن عيسى عليه السلام أنه مرّ بقوم يذكرون الله تعالى فقال: ما الذي حملكم عليه؟ فقالوا: الخوف من عقاب الله، فقال: أصبتم، ومر على قوم يشتغلون بالذكر فسألهم فقالوا: لا نذكره للخوف من العقاب ولا للرغبة في الثواب بل لإظهار ذلة العبودية وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته وتشريف اللسان بالألفاظ الدالة على صفات قدسه، فقال: أنتم المحقون المحققون، ثم بين سبحانه وتعالى مصارف الصدقات تحقيقاً لما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم فقال عز من قائل:
{إنما الصدقات} أي: الزكوات مصروفة {للفقراء} والفقير هو الذي لا يجد ما يقع موقعاً من كفايته كأنه يحتاج إلى عشرة دراهم وهو لا يجد إلا درهمين أو ثلاثاً مأخوذ من الفقار كأنه أصيب فقاره {والمساكين} جمع مسكين وهو الذي يجد ما يقع موقعاً من كفايته ولا يكفيه كأن يحتاج إلى عشرة وهو يجد سبعة أو ثمانية مأخوذ من السكون كأنّ العجز أسكنه والمسكين أعلى من الفقير ويدل عليه قوله تعالى: {أما السفينة فكانت لمساكين} (الكهف، 79)
(16/178)
---(1/1349)
وروي أنه صلى الله عليه وسلم تعوذ من الفقر وقيل: الفقير أعلى لقوله تعالى: {أو مسكيناً ذا متربة} والعبرة عند الجمهور في عدم كفاية الفقير والمسكين بالعمر الغالب بناء على أنه يعطى كفاية ذلك {والعاملين عليها} أي: الزكاة فيعطى العامل وإن كان غنياً ويدخل في اسم العامل الساعي وهو الذي يبعثه الإمام لأخذ الزكاة والكاتب والحاشر والعريف وهو الذي يعرف أرباب الاستحقاق والحاسب والحافظ للأموال والكيال والوزان والعداد عمال إن ميزوا أنصباء الأصناف لا المميزون للزكاة من المال وجامعوه فإن أجرتهم على المالك. {والمؤلفة قلوبهم} وهم إما ضعيف النية في الإسلام فيعطى ليقوى إسلامه أو شريف في قومه يتوقع بإعطائه إسلام غيره أو كاف لناشر من يليه من الكفار أو مانعي الزكاة فيعطى حيث إعطاؤه أهون علينا من بعث جيش وأما مؤلفة الكفار لترغيبهم في الإسلام فلا يعطون من الزكاة ولا من غيرها للإجماع ولأنّ الله تعالى أعز الإسلام وأهله وأغنى عن التأليف. {وفي الرقاب} وهم المكاتبون كتابة صحيحة فيعطون ما يؤدّون من النجوم إن عجزوا عن الوفاء ولو لم يحل النجم لأن قوله تعالى: {وفي الرقاب} كقوله تعالى: {وفي سبيل الله} وهناك يعطى المال للمجاهدين فيعطى للرقاب فلا يشترى به رقاب للعتق كما قيل به: {والغارمين} وهم من لزمتهم الديون وهم ثلاثة أضرب: دين لزمه لمصلحة نفسه، ودين لزمه بضمان لا لتسكين فتنة، ودين لزمه لتسكينها وهو إصلاح ذات البين فمن استدان لمصلحة نفسه أعطى لا إن استدان في معصية إلا إن تاب عنها فيعطى إذا احتاج وكان بحيث لو قضى دينه مما معه تمسكن فيترك له ما يكفيه ويعطي ما يقضي به بقية دينه ويعطى ولو قدر على قضائه بالكسب وكذا المكاتب ويشترط حلول الدين في إعطاء الغريم وإن ضمن لا لتسكين فتنة وهو معسر ملتزم بمال على معسر أعطي ما يقضي به دينه وإذا قضى به دينه لا يرجع على الأصيل وإن ضمن بإذنه وإنما يرجع إذا غرم من عنده ويعطى معسر(1/1350)
(16/179)
---
ملتزم بمال على موسر بلا إذن من الأصيل لأنه إذا غرم لا يرجع عليه بخلاف ما إذا ضمن بإذنه ولا يعطى موسر ملتزم بمال على موسر وإن ضمن موسر ما على معسر أعطي الأصيل دون الضامن والغارم لإصلاح ذات البين يعطى مع الغني ولو في غير دم ويعطى المستدين لقرى ضيف وعمارة مسجد وبناء قنطرة وفك أسير ونحو ذلك من المصالح العامة عند العجز عن النقد.
{وفي سبيل الله} وهم الغزاة المتطوعون أي: الذين لا رزق لهم في الفيء ويعطون ولو أغنياء إعانة لهم على الغزو وتحرم الزكاة على الغازي المرتزق ولو كان عاملاً فإذا عدم الفيء واضطررنا إلى المرتزق ليكفينا شر الكفار أعانه الأغنياء لا من الزكاة {وابن السبيل} أي: الطريق وهو من ينشىء سفراً مباحاً من محل الزكاة فيعطى ولو كان كسوباً أو كان مسافراً لنزهة ويعطى أيضاً المسافر الغريب المجتاز بمحل الزكاة وإنما يعطيان إن لم يجدا معهما شيئاً يكفيهما لسفرهما وقوله تعالى: {فريضة من الله} نصب بفعله المقدر أي: فرض لهم الصدقات فريضة أو حال من الضمير المستكن في للفقراء.
(16/180)
---(1/1351)
{والله عليم} أي: بالغ العلم بما يصلح الدين والدنيا ويؤلف بين قلوب المسلمين {حكيم} يضع الأشياء في مواضعها وإنما أضيفت الصدقات إلى الأصناف الأربعة الأولى بلام الملك وإلى الأربعة الأخيرة بفي الظرفية للإشعار بإطلاق الملك في الأربعة الأولى وتقييده في الأخيرة حتى إذا لم يحصل الصرف في مصارفها استرجع بخلافه في الأولى ويجب تعميم الأصناف الثمانية في القسم إن أمكن بأن قسم الإمام ولو بنائبة ووجدوا لظاهر الآية سواء في ذلك زكاة الفطر وزكاة المال وإن لم يمكن بأن قسم المالك إذ لا عامل أو الإمام ووجد بعضهم كأن جعل عاملاً بأجرة من بيت المال فتعميم من وجد منهم وعلى الإمام تعميم آحاد كل صنف من الزكاة الحاصلة عنده إذ لا يتعذر عليه ذلك أو على المالك أيضاً إن انحصر الآحاد بالبلد بأن سهل عادة ضبطهم ومعرفة عددهم ووفّى بهم المال فإن أخل أحدهما بصنف ضمن وإن لم ينحصر أو لم يف بهم المال ويجب إعطاء ثلاثة فأكثر من كل صنف لذكره في الآية بصيغة الجمع وهو المراد في سبيل الله وابن السبيل الذي هو للجنس ولا عامل في قسم المالك ويجوز حيث كان أن يكون واحداً إن حصلت به الكفاية كما يستغنى عنه فيما مرّ وتجب التسوية بين الأصناف غير العامل لا بين آحاد الصنف إلا أن يقسم الإمام وتتساوى الحاجات فتجب التسوية لأنّ عليه التعميم فعليه التسوية بخلاف المالك إذا لم ينحصروا أو لم يف بهم المال ولا يجزيه نقل الزكاة من بلد وجوبها مع وجود المستحقين فيه إلى بلد آخر أو حال الحول والمال ببادية فرقت الزكاة بأقرب البلاد إليه أمّا الإمام ولو بنائبه فله نقلها ولو امتنع المستحقون من أخذها قوتلوا وشرط أخذ الزكاة من هذه الثمانية حرّية وإسلام وأن لا يكون هاشمياً ولا مطلبياً ولا مولى لهما كما بينته السنة هذا مذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه وقال الرازي وغيره: لا دلالة في الآية على قول الشافعي في أنه لا بدّ من صرفها إلى جميع الأصناف لأنه تعالى(1/1352)
جعل
(16/181)
---
جملة الصدقات لهؤلاء الأصناف وأمّا أن صدقة زيد بعينها يجب توزيعها على الأصناف كلها فلا كما أنّ قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإنّ خمسه} (الأنفعال، 41)
الآية، يوجب قسم الخمس على الطوائف من غير توزيع بالاتفاق وما ذهب إليه الشافعيّ رضي الله تعالى عنه قول عكرمة وما ذهب إليه الأئمة الثلاثة من جواز صرفها إلى صنف واحد هو قول عمر وحذيفة وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين وكل على هدى من ربهم.
فإن قيل: كيف وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ومكايدهم؟ أجيب: بأنه تعالى ذكر ذلك ليدل على أنّ هذه الأصناف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم حسماً لأطماعهم وإشعاراً باستحقاقهم الحرمان وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها فمالهم ومالها وما سلطهم على التكلم فيها وبمن قاسمها.
(16/182)
---(1/1353)
{ومنهم} أي: المنافقين {الذين يؤذون النبيّ} هذا نوع آخر من جهالات المنافقين وهو أنهم كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويعيبونه وينقلون حديثه {ويقولون} إذا نهوا عن ذلك لئلا يبلغه {هو أذن} أي: يسمع كل ما يقال له ويصدقه سمي بالجارحة للمبالغة كأنه من فرط استماعه صار جملته آلة للسماع كما يسمى الجاسوس عيناً لذلك واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال ابن عباس: نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا فقال الجلاس بن سويد وهو من المنافقين: بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فننكر ما قلنا ونحلف له فيصدقنا فيما نقول فإنّ محمداً أذن ـ أي: أذن سامعة ـ يسمع كل ما يقال له ويقبله، وقال محمد بن إسحاق: نزلت في رجل من المنافقين يقال له: نبيل بن الحرث وكان رجلاً ثائر الشعر أحمر العينين أسفع الخدين مشوّه الخلقة وقد قال صلى الله عليه وسلم «من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث» وكان ينم حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين فقيل له: لا تفعل ذلك فقال: إنما محمد أذن فمن حدثه شيئاً صدقه فنقول: ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له فيصدقنا، فنزلت. وقال الحسن: كان المنافقون يقولون: ما هذا الرجل إلا أذن من شاء صرفه حيث شاء لا عزيمة له.
ومقصود المنافقين بقولهم هو أذن ليس له ذكاء ولا بعد غور بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع فلهذا السبب سموه بأذن وقوله تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء المنافقين {أذن خير لكم} تصديق لهم بأنه أذن لكن لا على الوجه الذي ذموه به بل من حيث إنه يسمع الخير ويقبله ثم فسر تعالى ذلك بقوله تعالى: {يؤمن با} أي: يصدّق به لما قام عنده من الأدلة {ويؤمن للمؤمنين} أي: ويصدّقهم ويقبل قولهم ولا يقبل قول المنافقين.
(16/183)
---(1/1354)
فإن قيل: لم عدى فعل الإيمان بالباء إلى الله تعالى وإلى المؤمنين باللام أجيب: بأنّ الإيمان المعدى إلى الله تعالى المراد التصديق الذي هو نقيض الكفر، فعدي بالباء، والإيمان المعدي للمؤمنين معناه الاستماع منهم والتسليم لقولهم فعدي باللام كما في قوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} (يوسف، 17)
وقوله تعالى: {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه} (يوسف، 83)
وقوله تعالى: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} (الشعراء، 111)
وقوله: {آمنتم له قبل أن آذن لكم} (طه، 71)
وقرأ نافع: أذن في الموضعين بتسكين الذال، والباقون بالرفع {ورحمة} أي: وهو رحمة {للذين آمنوا منكم} أي: لمن أظهر الإيمان حيث يقبله ولا يكشف سرّه وفيه تنبيه على أنه ليس يقبل قولكم جهلاً بحالكم بل رفقاً بكم وترحماً عليكم وقرأ حمزة ورحمة بالجرّ عطفاً على خير، والباقون بالرفع، ولما بين سبحانه وتعالى كونه سبباً للخير بين أنّ كل من آذاه استوجب العذاب الأليم بقوله تعالى: {والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم} أي: مؤلم لأنه إذا كان يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم مع كونهم في غاية الخبث والخزي ثم أنهم مع ذلك يقابلون إحسانه بالإساءة وخيراته بالشرور فلا شك أنهم يستحقون العذاب الشديد من الله تعالى ثم ذكر نوعاً آخر من قبائح أفعال المنافقين بقوله تعالى:
(16/184)
---
{يحلفون با لكم} أيها المؤمنون {ليرضوكم} أي: لترضوا عنهم واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال مقاتل والكلبي: نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوا يعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم.
(16/185)
---(1/1355)
وقال قتادة والسدي: اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد ووديعة بن ثابت فوقعوا في النبيّ صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن أشر من الحمير وكان عندهم غلام من الأنصار يقال له: عامر بن قيس فحقروه وقالوا هذه المقالة فغضب الغلام وقال والله ما يقول محمد حق وأنتم أشر من الحمير ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فدعاهم فسألهم فحلفوا أنّ عامراً كذب وحلف عامر أنهم كذبة فصدّقهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فجعل عامر يدعو اللهمّ صدق الصادق وكذب الكاذب فنزلت {وا ورسوله أحق أن يرضوه} أي: بالإرضاء بالطاعة والوفاق وإنما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم لتلازمهما كقولك: إحسان زيد وإجماله نعشني وجبر مني أو أن العالم بالأسرار والضمائر هو الله تعالى وإخلاص القلب لا يعلمه إلا الله تعالى ولهذا السبب خص الله تعالى نفسه بالذكر أو لأنّ الكلام في إيذاء الرسول وإرضائه أو خبر الله أو رسوله محذوف وفي كلام البيضاوي إشارة إلى أن المذكور خبر الأوّل لأنه المتبوع وفي كلام سيبويه أنه للثاني لكونه أقرب مع السلامة من الفصل بين المبتدأ والخبر {إن كانوا} أي: هؤلاء المنافقون {مؤمنين} أي: مصدّقين بوعد الله ووعيده في الآخرة.
(16/186)
---(1/1356)
{ألم يعلموا} قال أهل المعاني: هذا خطاب لمن علم شيئاً ثم نسيه وتركه فيقال له: ألم تعلم أنه كان كذا وكذا ولما طال مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهر المؤمنين والمنافقين وعلمهم من أحكام الدين ما يحتاجون إليه خاطب المنافقين بقوله تعالى: {ألم يعلموا} أنّ من شرائع الدين التي علمهم رسولنا {أنه} أي: الشأن {من يحادد الله} أي: من يخالف الله {ورسوله} وأصل المحادّة في اللغة المخالفة والمجانبة والمعاداة واشتقاقه من الحدّ يقال: حادّ فلان فلاناً أي: صار في حدّ غير حدّه، كقولك شاقه أي: صار في شق غير شقه، ومعنى {يحادد الله} أي: يصير في حدّ غير حدّ أولياء الله تعالى بالمخالفة وقوله تعالى: {فأنّ له نار جهنم} أي: على حذف الخبر أي: فحق أنّ له نار جهنم لأنّ الفاء واقعة في جواب الشرط فتقتضي جملة و {فأنّ له نار جهنم} مفرد في موضع رفع بالابتداء وقدر خبره مقدماً لأنّ أنّ لا يبتدأ بها قال الرازي أو أنّ معناه فله نار جهنم وأنّ تكررت للتوكيد واعترض بأنّ فيه الفصل بين المؤكد والمؤكد بأجنبي ثم قال أو جواب من محذوف والتقدير ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأنّ له نار جهنم {خالداً فيها} أي: دائماً من غير انقضاء كما كانت نيته المحادة أبداً، ثم نبه على عظم هذا الجزاء بقوله تعالى: {ذلك} أي: الأمر البعيد الوصف العظيم الشأن {الخزي العظيم} أي: الهلاك الدائم.
(16/187)
---(1/1357)
{يحذر} أي: يخاف {المنافقون أن تنزل عليهم} أي: المؤمنين {سورة تنبئهم} أي: تخبرهم {بما في قلوبهم} أي: بما في قلوب المنافقين من النفاق والحسد والعداوة للمؤمنين كانوا يقولون فيما بينهم ويستهزؤن ويخافون الفضيحة بنزول القرآن في شأنهم قال قتادة: هذه السورة كانت تسمى الفاضحة والمبعثرة والمثيرة أثارت مخازيهم ومثالبهم، قال ابن عباس: أنزل الله تعالى ذكر سبعين رجلاً من المنافقين بأسمائهم وأسماء آبائهم ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة على المؤمنين لئلا يعير بعضهم بعضاً لأنّ أولادهم كانوا مؤمنين {قل} يا محمد لهؤلاء المنافقين {استهزؤا} أمر تهديد {إنّ الله مخرج} أي: مظهر {ما تحذرون} إخراجه من نفاقكم، قال ابن كيسان: نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على العقبة لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا علاها ومعهم رجل مسلم يخفيهم شأنه وتنكروا له في ليلة مظلمة فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدّروا وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم وعمار بن ياسر يقود ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذيفة يسوقها فقال لحذيفة: اضرب وجوه رواحلهم فضربها حذيفة حتى نحاها عن الطريق فلما نزل قال لحذيفة: من عرفت من القوم قال: لم أعرف منهم أحداً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنهم فلان وفلان حتى عدهم كلهم»، فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم فقال: أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيناهم الله.
(16/188)
---(1/1358)
{ولئن} اللام لام القسم {سألتهم} أي: المنافقين عن استهزائهم بك والقرآن وهم سائرون معك إلى تبوك {ليقولنّ} معتذرين {إنما كنا نخوض ونلعب} في الحديث لنقطع به الطريق ولم نقصد ذلك، قال قتادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين اثنان يستهزئان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم والقرآن والثالث يضحك قيل: كانوا يقولون: إنّ محمداً يغلب الروم ويفتح مدائنهم ما أبعده من ذلك وقيل: كانوا يقولون: إنّ محمداً يزعم أنه نزل في أصحابنا المقيمين بالمدينة قرآن وإنما هو قوله وكلامه فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: «احبسوا الركب عليّ فدعاهم وقال لهم: قلتم كذا وكذا فقال: {إنما كنا نخوض ونلعب} أي: كنا نتحدّث ونخوض في الكلام كما يفعل الركب لنقطع الطريق بالحديث واللعب» قال الله تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء المنافقين {أبا} أي: بفرائضه وحدوده وأحكامه {وآياته} أي: القرآن وسائر ما يدل على الدين الذي لا يمكن تبديله ولا يخفى على بصير ولا بصيرة {ورسوله} محمد صلى الله عليه وسلم الذي عظمته من عظمته وهو مجتهد في إصلاحكم وتشريفكم وإعلائكم {كنتم تستهزؤن} توبيخاً وتقريعاً لهم على استهزائهم بما لا يصلح الاستهزاء به وإلزاماً للحجة عليهم ولا يعبأ باعتقادهم الكاذب، ولما كان الاستهزاء بذلك كفراً قال الله تعالى:
{لا تعتذروا} أي: لا تشتغلوا باعتذاراتكم الباطلة {قد كفرتم} أي: أظهرتم الكفر بقولكم هذا {بعد إيمانكم} أي: بعد إظهار الإيمان.
(16/189)
---(1/1359)
فإن قيل: المنافقون لم يكونوا مؤمنين فكيف قال تعالى: {قد كفرتم بعد إيمانكم}؟ أجيب: بأنهم كانوا يكتمون الكفر ويظهرون الإيمان فلما حصل ذلك الاستهزاء منهم وهو كفر فقد أظهروا الكفر بعدما أظهروا الإيمان كما تقرّر {إن نعف عن طائفة منكم} أي: بإحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق {نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} أي: مصرين على النفاق والاستهزاء قال محمد بن إسحاق: الذي عفا الله عنه رجل واحد وهو مخشي بن حمير الأشجعي يقال هو الذي كان يضحك ولا يخوض وكان يمشي مجانباً لهم وكان ينكر بعض ما يسمع والعرب توقع لفظ الجمع على الواحد فتقول خرج فلان إلى مكة على الجمال والله تعالى يقول: {الذين قال لهم الناس} (آل عمران، 173)
يعني: نعيم بن مسعود فلما نزلت هذه الآية تاب من نفاقه وقال: اللهمّ إني لا أزال أسمع آية تقرأ تقشعر منها الجلود وتخفق منها القلوب اللهمّ اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت فأصيب يوم اليمامة فلم يعرف أحد من المسلمين مصرعه وقرأ عاصم نعف بالنون مفتوحة وضم الفاء ونعذب طائفة بنون مضمومة وكسر الذال وطائفة بالنصب والباقون إن يعف بياء مضمومة وتعذب بضم التاء وفتح الذال وطائلة بالرفع ثم بين تعالى نوعاً آخر من أنواع فضائحهم وقبائحهم والمقصود منه بيان أنّ إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة والأفعال الخبيثة بقوله تعالى:
(16/190)
---(1/1360)
{المنافقون والمنافقات بعضم من بعض} أي: متشابهة في النفاق والبعد عن الإيمان كإبعاض الشيء الواحد كما يقول الإنسان لغيره أنا منك وأنت مني أي: أمرنا واحد لا مباينة فيه {يأمرون بالمنكر} أي: يأمر بعضهم بعضاً بالشرك والمعصية وتكذيب النبيّ صلى الله عليه وسلم {وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم} أي: عن الإنفاق في كل خير من زكاة وصدقة وإنفاق في سبيل الله، والأصل في هذا أنّ المعطي يمد يده ويبسطها بالعطاء فقيل لمن منع وبخل قد قبض يده فقبض اليد كناية عن الشح وقوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأنا لو حملنا النسيان على الحقيقة لما استحقوا عليه ذماً لأن النسيان ليس في وسع البشر ولخبر: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» وأيضاً فهو في حق الله تعالى محال فلا بدّ من التأويل وهو من وجهين: الأوّل: معناه أنهم تركوا أمره حتى صار بمنزلة المنسي فجازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته وجاء هذا على مزاوجة الكلام كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى، 40)
الثاني: النسيان ضدّ الذكر فلما تركوا ذكر الله بالعبادة والثناء على الله ترك الله تعالى ذكرهم بالرحمة والإحسان وإنما حسن جعل النسيان كناية عن ترك الذكر لأنّ من نسي شيئاً لم يذكره فجعل اسم الملزوم كناية عن اللازم {إنّ المنافقين هم الفاسقون} أي: الكاملون في الفسق الذي هو التمرّد في الكفر والانسلاخ عن كل خير وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله تعالى به المنافقين حتى بالغ في ذمهم وقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول كرهت كسلت لأنّ المنافقين وصفوا بالكسل في قوله تعالى: {إلا وهم كسالى فما ظنك بالفسق}، ولما بين سبحانه وتعالى كثيراً من أحوال المنافقين والمنافقات وأنه نسيهم أي: جازاهم على تركهم التمسك بطاعة الله تعالى أكد هذا الوعيد وضم المنافقين إلى الكفار فيه بقوله تعالى:
(16/191)(1/1361)
---
{وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار} أي: المجاهرين في عنادهم يقال وعده بالخير وعدا وأوعده بالشر وعيداً {نار جهنم خالدين فيها} أي: مقدرين الخلود ولا شك أنّ النار المخلدة من أعظم العقوبات {هي حسبهم} أي: كافيتهم في العذاب {ولعنهم الله} أي: أبعدهم مع من أبعدهم من رحمته، ولما كان الخلود قد يتجوّز به عن الزمن الطويل فيكون بعده فرج نفى ذلك بقوله تعالى: {ولهم عذاب مقيم} أي: دائم لا ينقطع وقوله تعالى:
(16/192)
---(1/1362)
{كالذين من قبلكم} رجوع من الغيبة إلى خطاب الحضور والكاف في كالذين للتشبيه والمعنى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم شبه فعل المنافقين بفعل الكافرين الذين كانوا من قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض الأيدي عن فعل الخير والطاعة ثم إنه تعالى وصف الكفار بأنهم كانوا أشدّ من هؤلاء المنافقين قوّة وأكثر أموالاً وأولاداً بقوله تعالى: {كانوا أشدّ منكم قوّة} أي: بطشاً ومنعاً {وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم} أي: تمتعوا بنصيبهم من الدنيا باتباع الشهوات ورضوا بها عوضاً عن الآخرة والخلاق: النصيب، وهو ما خلق للإنسان وقدّر له من خير وشر كما يقال: قسم له. {فاستمتعتم بخلاقكم} أي: فتمتعتم أيها المنافقون والكافرون بخلاقكم فهو خطاب للحاضرين {كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} ذم الأوّلين باستمتاعهم بما أوتوا من حظوظ الدنيا العاجلة وحرمانهم من سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ العاجلة تمهيداً لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم، ولما بين تعالى مشابهة هؤلاء المنافقين لأولئك المتقدّمين في طلب الدنيا وفي الإعراض عن طلب الآخرة بين حصول المشابهة بين الفريقين في تكذيب الأنبياء وفي المكر والخديعة بقوله تعالى: {وخضتم} أي: ودخلتم في الباطل والكذب على الله تعالى وتكذيب رسله والاستهزاء بالمؤمنين {كالذي خاضوا} أي: كالذين خاضوا أو كالفوج الذي خاضوا هذا كله إذا جعلنا الذي موصولاً اسمياً فإن جعلناه موصولاً حرفياً أول مع صلته بمصدر أي كخوضهم والفوج الجماعة.
(16/193)
---(1/1363)
فإن قيل: أيّ فائدة في قوله تعالى: {فاستمتعوا بخلاقهم} وقوله تعالى: {كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} مغن عنه كما أغنى قوله تعالى: {كالذي خاضوا} عن أن يقال: وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا؟ أجيب: بأنّ فائدة ذلك أن يذم الأوّلين بما مرّ ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم فيكون ذلك نهاية في المبالغة كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على قبح ظلمه بقولك: أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب من غير موجب وأمّا {خضتم كالذي خاضوا} فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن بإسناده إليه عن تلك التقدمة {أولئك} أي: هؤلاء الأشقياء {حبطت} أي: بطلت {أعمالهم في الدنيا} أي: بزوالها عنهم ونسيان لذاتها {والآخرة} أي: وفي الدار الآخرة لأنهم لم يسعوا لها سعيها فلم تنفعهم أعمالهم في الدارين بل يعاقبون عليها وزاد في التنبيه على بعدهما مما قصدوا لأنفسهم من النفع بقوله تعالى: {وأولئك هم الخاسرون} أي: الذين خسروا الدنيا والآخرة والمعنى أنه كما بطل أعمال الكفار الماضين وخسروا تبطل أعمالكم أيها المنافقون وتخسرون.
وفي الالتفات إلى مقام الخطاب إشارة إلى تحذير كل سامع عن مثل هذه المقالة قال بعض كبراء التابعين: أدركت سبعين ممن أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه وذكر أنّ مالكاً رحمه الله تعالى دخل المسجد بعد العصر وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر فجلس ولم يركع فقال له صبيّ: يا شيخ قم فاركع فقام وركع ولم يحاجه بما يراه مذهباً فقيل له في ذلك فقال: خشيت أن أكون من الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونهما» وقال تعالى: {لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى} (التوبة، 54)
ينظر المنافق إلى ما يسقط فضائل أهل الفضل ويتعامى عن محاسنهم.
(16/194)
---(1/1364)
كما روي أنّ الله تعالى يبغض التارك لحسنة المؤمن الآخذ لسيئته والمؤمن الصادق يتغافل عن مساوى أهل المساوى فكيف بمعايب أهل المحاسن والمنافق يأخذ من الدين ما ينفع في الدنيا ولا يأخذ ما ينفع في العقبى ويجتنب في الدين ما يضر في الدنيا ولا يجتنب ما يضر في العقبى مما لا يضر في الدنيا.
ويذكر أن رجلاً من صلحاء المسلمين دخل كنيسة فقال لراهب فيها: دلني على موضع طاهر أصلي فيه، فقال له الراهب: طهر قلبك مما سواه وقم حيث شئت، قال المسلم: فخجلت منه.
وقوله عز من قائل:
{ألم يأتهم} فيه رجوع من الخطاب إلى الغيبة أي: ألم يأت هؤلاء المنافقين والكفار وهو استفهام بمعنى التقرير أي: قد أتاهم {نبأ} أي: خبر {الذين من قبلهم} من الأمم الماضية الذين خلوا من قبلهم كيف أهلكناهم حين خالفوا أمرنا وعصوا رسلنا، ولما شبه تعالى المنافقين بالكفار المتقدّمين في الرغبة في الدنيا وفي تكذيب الأنبياء والمبالغة في إيذائهم لرسلهم بين منهم ستة طوائف:
الأولى: {قوم نوح} أهلكوا بالطوفان.
{و} الثانية: {عاد} وهم قوم هود أهلكوا بالريح.
{و} الثالثة: {ثمود}، وهم قوم صالح أهلكوا بالرجفة.
{و} الرابعة: {قوم إبراهيم} أهلكوا بسلب النعمة وأهلك نمروذ ببعوضة سلطها الله تعالى على دماغه فقتلته.
{و} الخامسة: {أصحاب مدين} وهم قوم شعيب ويقال إنهم من ولد مدين بن إبراهيم أهلكوا بعذاب يوم الظلة.
(16/195)
---(1/1365)
{و} السادسة: {المؤتفكات} وهم قوم لوط أي: أهلها أهلكوا بأن جعل الله تعالى أعالي أرضهم سافلها وأمطر عليهم حجارة، وإنما ذكر الله تعالى هذه الطوائف الستة لأن آثارهم باقية وبلادهم بالشام والعراق واليمن وكل ذلك قريب من بلاد العرب فكانوا يمرّون عليهم ويعرفون أخبارهم وقوله تعالى: {أتتهم رسلهم} راجع إلى كل هؤلاء الطوائف {بالبينات} أي: المعجزات الباهرات والحجج الواضحات الدالة على صدقهم فكذبوهم وخالفوا أمرنا كما فعلتم أيها الكفار والمنافقون فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم فتعجل لكم النقمة كما عجلت لهم. وقرأ أبو عمرو بسكون السين والباقون بالرفع {فما كان الله ليظلمهم} بتعجيل العقوبة لهم {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} حيث عرضوها للعقاب بالكفر والتكذيب، ولما بالغ سبحانه وتعالى في وصف المنافقين بالأعمال الفاسدة والأفعال الخبيثة ثم ذكر عقبه أنواع الوعيد في حقهم في الدنيا والآخرة ذكر بعده صفات المؤمنين بقوله تعالى:
{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} في الدين واتفاق الكلمة والعون والنصرة وهذا في مقابلة قوله تعالى: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} (التوبة، 67)
(16/196)
---(1/1366)
فإن قيل: لم قال تعالى في وصف المنافقين: {بعضهم من بعض} وقال في وصف المؤمنين: {بعضهم أولياء بعض} ما الحكمة في ذلك؟ أجيب: بأنه لما كان نفاق الإتباع حصل بسبب التقليد لأولئك الأكابر لسبب مقتضى الهوى والطبيعة والعادة قال فيهم: {بعضهم من بعض} ولما كانت الموافقة الخالصة بين المؤمنين بتوفيق الله تعالى وهدايته لا بمقتضى الطبيعة وهوى النفس وصفهم بأنّ بعضهم أولياء بعض فظهر الفرق بين الفريقين وظهرت الحكمة، وقوله تعالى: {يأمرون بالمعروف} أي: بالإيمان بالله ورسوله واتباع أمره والمعروف كل ما عرف من الشرع من خير وطاعة {وينهون عن المنكر} أي: الشرك والمعاصي، والمنكر كل ما ينكره الشرع وينفر منه الطبع في مقابلة قوله تعالى في المنافقين: {يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف} {ويقيمون الصلاة} أي: المفروضة ويتمون أركانها وشروطها {ويؤتون الزكاة} أي: الواجبة عليهم في مقابلة قوله تعالى في المنافقين: {ويقبضون أيديهم} المعبر به عن البخل وقوله تعالى: {ويطيعون الله ورسوله} أي: فيما يأمرهم به في مقابلة قوله تعالى في المنافقين: {نسوا الله فنسيهم}، ولما ذكر تعالى ما وعد به المنافقين من العذاب في نار جهنم ذكر ما وعد به المؤمنين من الرحمة المستقبلة وهي ثواب الآخرة بقوله تعالى: {أولئك} أي: المؤمنون والمؤمنات الموصوفون بهذه الصفات {سيرحمهم الله} بوعد لا خلف فيه {إنّ الله عزيز} أي: غالب على كل شيء لا يمتنع عليه ما يريده {حكيم} أي: لا يقدر أحد على نقض ما يحكمه وحل ما يبرمه، ولما ذكر سبحانه وتعالى الوعد على سبيل الإجمال ذكره على سبيل التفصيل بقوله تعالى:
(16/197)
---(1/1367)
{وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار} فذكر في هذه الآية أنّ الرحمة هي هذه الأنواع المذكورة في هذه الآية أوّلها قوله تعالى: {جنات تجري من تحتها الأنهار} فهي لا تزال خضرة ذات بهجة نضرة، ولما كان النعيم لا يكمل إلا بالدوام قال تعالى: {خالدين فيها} والمراد بالجنات التي تجري من تحتها الأنهار البساتين التي يحير في حسنها الناظر لأنه تعالى قال: {ومساكن طيبة في جنات عدن} أي: إقامة وخلود وهذا هو النوع الثاني فتكون جنات عدن هي المساكن التي يسكنونها والجنات الأخر هي البساتين التي يتنزهون فيها فهذه فائدة المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه.
(16/198)
---(1/1368)
قد كثر كلام أصحاب الآثار في صفة جنات عدن فقال الحسن: سألت عمران بن الحصين عن قوله تعالى: {ومساكن طيبة} فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون داراً من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتاً من زمرّدة خضراء في كل بيت سبعون سريراً على كل سرير سبعون فراشاً على كل فراش زوجة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام وفي كل بيت سبعون وصيفة ويعطى المؤمن من القوّة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك أجمع»، وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر» أي: دار الله تعالى التي أعدها لأوليائه وأهل طاعته والمقرّبين من عباده، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قلت: يا رسول الله حدّثني عن الجنة ما بناؤها قال: «لبنة من ذهب ولبنة من فضة وبلاطها المسك الإذفر وتربتها الزعفران وحصباؤها الدر والياقوت فهي النعيم بلا بؤس والخلود بلا موت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه». وقال ابن مسعود: جنات عدن بطنان الجنة، قال الأزهري: بطنانها وسطها، وقال عطاء عن ابن عباس: هي قصر في الجنة وسقفها عرش الرحمن وهي المدينة التي فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى وسائر الجنان حولها وفيها عين التسنيم وفيها قصور الدر والياقوت والذهب فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الإذفر، وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنهما: إنّ في الجنة قصراً يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق أو شهيد أو حكم عدل.
(16/199)
---(1/1369)
وقال عطاء بن السائب: عدن نهر في الجنة قبابه على حافتيه، وقال الرازي: حاصل الكلام أنّ في جنات عدن قولين: أحدهما: أنه اسم علم لموضع معين في الجنة وهذه الأخبار والآثار تقوي هذا القول، وقال في «الكشاف»: وعدن علم بدليل قوله تعالى: {جنات عدن التي وعد الرحمن عباده} (مريم، 61)
والقول الثاني: أنه صفة الجنة.
قال الأزهري: مأخوذ من قولك: عدن بالمكان، إذا أقام به يعدن عدوناً فبهذا الاشتقاق قالوا الجنات كلها جنات عدن جعلنا الله تعالى ومن نحبه من أهلها وأحل علينا رضوانه فإنه المقصود الأعظم كما قال تعالى: {ورضوان من الله أكبر} لأنه المبدأ لكل سعادة وكرامة والمؤدّي إلى نيل الوصول والفوز باللقاء.
روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم، يقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ قال تعالى: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً» وهذا هو النوع الثالث وقرأ شعبة ورضوان بضم الراء، والباقون بالكسر {ذلك} أي: الرضوان أو جميع ما تقدّم {هو الفوز العظيم} الذي تستصغر دونه الدنيا وما فيها، ولما وصف الله تعالى المنافقين بالصفات الخبيثة وتوعدهم بأنواع العقاب وكانت عادة الله تعالى في هذا الكتاب الكريم جارية بذكر الوعد مع الوعيد لا جرم ذكر عقبه وصف المؤمنين بالصفات الشريفة الطاهرة الطيبة ووعدهم بالثواب الرفيع والدرجة العالية ثم عاد إلى شرح أحوال الكفار والمنافقين بقوله تعالى:
(16/200)
---
{يأيها النبيّ جاهد الكفار} أي: المجاهرين {والمنافقين} أي: الساترين كفرهم بظهور الإسلام.(1/1370)
فإن قيل: الآية تدلّ على وجوب مجاهدة المنافقين وهو غير جائز فإن المنافق كما مرّ من يستر كفره ويقرّ بلسانه ومن كان كذلك لم تجز محاربته ومجاهدته أجيب: بأن ليس في الآية ما يدلّ على أن ذلك الجهاد بالسيف أو باللسان أو بطريق آخر وإنما تدلّ على وجوب الجهاد مع الفريقين وكيفية تلك المجاهدة إنما تعرف من دليل آخر وقد دلت الدلائل المفصلة على أن المجاهدة مع الكفار يجب أن تكون بالسيف ومع المنافقين بالحجة والبرهان وحمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها.
قال القاضي: وهذا ليس بشيء لأنّ إقامة الحدود واجبة على من ليس بمنافق فلا يكون لها تعلق بالنفاق. ولما كان صلى الله عليه وسلم مطبوعاً على الرفق وحسن الخلق قال تعالى: {واغلظ عليهم} أي: بالانتهار والمقت في الجهادين لا تعاملهم بمثل ما عاملتهم به من اللين عند استئذانهم في القعود وهذا بخلاف ما مضى في وعيد المنافقين حيث قدمهم فقال: {المنافقون والمنافقات} فقدم في كل سياق الأليق به {ومأواهم} أي: مسكنهم في الآخرة {جهنم وبئس المصير} أي: المرجع هي.
{يحلفون} أي: المنافقون {با ما قالوا} أي: ما بلغك عنهم من السب والمفسرون ذكروا في أسباب نزول هذه الآية وجوهاً.
الأوّل: روي أنه عليه الصلاة والسلام أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المتخلفين فقال الجلاس بن سويد: لئن كان ما يقول محمد في إخواننا الذين خلفناهم بالمدينة حقاً لنحن شرّ من الحمير، فقال عامر بن قيس الأنصاريّ للجلاس: أجل والله إنّ محمداً صادق وأنت شرّ من الحمار، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحضره فحلف بالله عز وجل ما قاله فرفع عامر يده وقال: اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب فنزلت فقال الجلاس: لقد ذكر الله تعالى التوبة في هذه الآية ولقد قلت هذا الكلام وصدق عامر ثم تاب وحسنت توبته.
(16/202)
---(1/1371)
الثاني: أنها نزلت في عبد الله بن أبي لما قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وأراد به الرسول صلى الله عليه وسلم فسمع زيد بن أرقم ذلك فبلغه النبيّ صلى الله عليه وسلم فهم عمر رضي الله عنه بقتل عبد الله بن أبي فجاء عبد الله بن أبي وحلف أنه لم يقل.
الثالث: روى قتادة أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار فظهر الجهني على الغفاري فقال عبد الله بن أبي للأوس: انصروا أخاكم فو الله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فسأله فحلف بالله ما قاله فنزلت {ولقد قالوا كلمة الكفر} وهي سب النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل: هي كلمة الجلاس بن سويد، وقيل: هي كلمة عبد الله بن أبيّ {وكفروا بعد إسلامهم} أي: وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام {وهموا بما لم ينالوا} أي: من قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم عند مرجعه من تبوك توافق خمسة عشر منهم إذا تسنم العقبة أي: علاها بالليل فأخذ عمار بن ياسر بخطام ناقته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها فبينما هم كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح فالتفت فإذا قوم متلثمون فقال: إليكم إليكم يا أعداء الله، فهربوا.
وقيل: هم المنافقون هموا بقتل عامر حين ردّ على الجلاس.
(16/203)
---(1/1372)
وقيل: أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم {وما نقموا} أي: وما أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً {إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله} فإنّ أكثر أهل المدينة كانوا قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحرزون الغنيمة وبعد قدومه أخذوا الغنائم وفازوا بالأموال ووجدوا الدولة وذلك يوجب أن يكونوا محبين له مجتهدين في بذل النفس والمال لأجله وقتل للجلاس مولى فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى فالمنافقون عملوا بضدّ الواجب فوضعوا موضع شكره صلى الله عليه وسلم أن نقموا منه.
وقال ابن قتيبة معناه ليس هناك شيء ينقمون منه ولا يعيبون من الله إلا الصنيع وهذا كقول الشاعر:
*ما نقموا من بني أمية إلا ** أنهم يحلمون إن غضبوا*
وكقول النابغة:
*ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهنّ فلول من قراع الكتائب*
أي: ليس فيها عيب {فإن يتوبوا} أي: من كفرهم ونفاقهم {يك خيراً لهم} في العاجل والآجل من إصرارهم على ذلك وهذا الذي حمل الجلاس على التوبة والضمير في يك للتوبة {وإن يتولوا} أي: يعرضوا عن الإيمان والتوبة ويصروا على النفاق والكفر {يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا} بالقتل والأسر والإذلال {والآخرة} بالعذاب الأكبر الذي لا خلاص لهم منه وهو خلودهم في النار {وما لهم في الأرض} أي: التي لا يعرفون غيرها لسفول همتهم {من ولي} يحفظهم منه {ولا نصير} يمنعهم وأمّا السماء فهم أقل من أن يطمعوا منها في شيء ناصر أو غيره وأغلظ أكباداً من أن يرتقي فكرهم إلى ما بها من العجائب وما بها من الجنود واعلم أنّ هذه السورة أكثرها في شرح أحوال المنافقين ولا شك أنهم أقسام وأصناف فلهذا السبب يذكرهم الله تعالى على التفصيل فيقول تعالى: {ومنهم الذين يؤذون النبيّ} (التوبة، 61)
{ومنهم من يلمزك في الصدقات} (التوبة، 58)
(16/204)(1/1373)
---
{ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني} (التوبة/ 49)
{ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقنّ} فيه إدغام التاء في الأصل في الصاد {ولنكونن من الصالحين} قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن ثعلبة بن حاطب أبطأ عنه ماله بالشام فلحقه شدّة فحلف بالله وهو واقف ببعض مجالس الأنصار لئن آتانا الله من فضله لأصدقنّ ولأؤدّينّ منه حق الله تعالى والمشهور في سبب نزول هذه الآية أنّ ثعلبة بن حاطب الأنصاريّ قال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. فراجعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أما لك في رسول الله أسوة حسنة والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت» ثم أتاه بعد ذلك وقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطينّ كل ذي حق حقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم ارزق ثعلبة مالاً فاتخذ غنماً فنمت كما تنمى الدود حتى كثرت ونزل بها وادياً من أودية المدينة واشتغل بها حتى صار يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر ويصلي في غنمه باقي الصلوات ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة أيضاً فصار لا يشهد إلا الجمعة ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة أيضاً فصار لا يشهد لا جمعة ولا جماعة فكان إذا كان يوم الجمعة خرج يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار فذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: «ما فعل ثعلبة» فقالوا: يا رسول الله اتخذ غنماً ما يسعها واد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا ويح ثعلبة ثلاثاً» فنزلت آية الصدقة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين لأخذ الصدقة» وكتب لهما أصناف الصدقة وكيف يأخذان وقال لهما: «مرّا بثعلبة وخذا صدقاته فأتياه وسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية انطلقا حتى(1/1374)
(16/205)
---
تفرغا ثم عودا إليّ فانطلقا فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ثم رجعا إلى ثعلبة فقال كمقالته الأولى ولم يدفع إليهما شيئاً فرجعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبراه بالذي صنع ثعلبة فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال: ويحك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وسأله أن يقبل صدقته فقال: إن الله تعالى منعني من أن أقبل صدقتك، فجعل يحثو على رأسه التراب، فقال صلى الله عليه وسلم «لقد قلت لك فما أطعتني» فرجع إلى منزله وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها ثم جاء بها إلى عمر أيام خلافته فلم يقبلها فلما ولى عثمان أتاه بها فلم يقبلها وهلك ثعلبة في خلافة عثمان رضي الله عنه.
فإن قيل: العبد إذا تاب تاب الله عليه فلماذا منع الله تعالى من قبول صدقته أجيب: بأنّ الله تعالى لما قال: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} (التوبة، 103)
وكان هذا المقصود غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه فلهذا السبب امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذ تلك الصدقة ثم قال الله تعالى:
{فلما آتاهم من فضله بخلوا به} أي: منعوا حق الله تعالى منه {وتولوا} عن طاعة الله تعالى {وهم معرضون} أي: عن طاعة الله تعالى.
{فأعقبهم} أي: صير عاقبتهم {نفاقاً} متمكناً {في قلوبهم إلى يوم يلقونه} أي: الله يوم القيامة {بما أخلفوا الله ما وعدوه} أي: بسبب إخلافهم ما وعدوه من التصدق والصلاح لأنّ الجزاء من جنس العمل {وبما كانوا يكذبون} أي: يجددون الكذب دائماً مع الوعد ومنفكاً عنه فقد استكملوا النفاق عاهدوا فغدروا ووعدوا فأخلفوا وحدّثوا فكذبوا وقد قال صلى الله عليه وسلم «آية المنافق ـ أي: علامته ـ ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان».
(16/206)
---(1/1375)
{ألم يعلموا} أي: المنافقون {إنّ الله يعلم سرّهم} أي: ما أسروا في أنفسهم من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه {ونجواهم} أي: ما تناجوا بينهم من المطاعن في الدين وتسمية الصدقة جزية وتدبير منعها فكيف يجترؤن على النفاق الذي الأصل فيه الاستمرار والتناجي فيما بينهم مع علمهم بأنّ الله تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر وأنه يعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر {وإنّ الله علام الغيوب} والعلام مبالغة في العالم والغيب ما كان غائباً عن الخلق فكيف يمكن الإخفاء عنه وقوله تعالى:
{الذين} مبتدأ {يلمزون} أي: يعيبون {المطوّعين} المتنفلين {من المؤمنين} أي: الراسخين في الإيمان {في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم} أي: طاقتهم فيأتون به {فيسخرون منهم} أي: يستهزؤن بهم والخبر {سخر الله منهم} أي: جازاهم على سخريتهم {ولهم عذاب أليم} على كفرهم وهذا نوع آخر من أعمال المنافقين القبيحة وهو لمزهم لمن يأتي بالصدقات.
(16/207)
---(1/1376)
روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم وحث على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله مالي ثمانية آلاف درهم جئتك بأربعة آلاف درهم فاجعلها في سبيل الله وأمسكت أربعة آلاف لعيالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت» فبارك الله تعالى في مال عبد الرحمن حتى أنه خلف امرأتين يوم مات بلغ ثمن ماله لهما مائة وتسعين ألف درهم، وجاء عاصم بن عدي الأنصاريّ بسبعين وسقاً من تمر وجاء عثمان بن عفان بصدقة عظيمة وجاء أبو عقيل الأنصاريّ بصاع من تمر وقال: أجرت الليلة الماضية نفسي من رجل لإرسال الماء إلى نخله فأخذت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لعيالي وأتيتك بالآخر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضعه في الصدقات فلمزهم المنافقون وقالوا عبد الرحمن وعثمان ما يعطيان إلا رياء والله ورسوله لغنيان عن صاع أبي عقيل ولكن أحب أن يذكر نفسه ليعطى من مال الصدقات فنزلت، وقوله تعالى:
(16/208)
---
{أو لا تستغفر لهم} تخيير للنبيّ صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لهم وتركه قال صلى الله عليه وسلم «إني خيرت فاخترته» يعني: الاستغفار رواه البخاريّ {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم}.
(16/209)
---(1/1377)
روي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان من المخلصين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض أبيه أن يستغفر له ففعل فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام: «سأزيد على السبعين» وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم فهم من السبعين العدد المخصوص لأنه الأصل لجواز أن يكون ذلك حداً يخالفه حكم ما وراءه فبين تعالى أن المراد التكثير دون التحديد وإنما خص السبعين من العدد بالذكر لأنّ العرب كانت تستكثر السبعين ولهذا كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة رضي الله عنه سبعين تكبيرة ولأن آحاد السبعين سبع وهو عدد شريف فإن السموات سبع والأرضين سبع والأيام سبع والأقاليم سبع والبحار سبع والنجوم سبع وقد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة ونحوها في التكثير لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد أي عدّة مراتبه الأصلية والفرعية مع ذكر أول فروع فروعه وهي سبعة آحاد عشرات مئين آحاد ألوف عشرات ألوف مئين ألوف آحاد ألوف الألوف وقوله تعالى: {ذلك بأنهم كفروا با ورسوله} إشارة إلى أن اليأس من المغفرة وعدم قبول استغفارك ليس لبخل منا ولا قصور فيك بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عنها {وا لا يهدي القوم الفاسقين} أي: المتمردين في كفرهم وهو كالتنبيه على عذر النبيّ صلى الله عليه وسلم في استغفاره وهو عدم يأسهم عن إيمانهم ما لم يعلم أنهم مطبوعون على الضلالة والممنوع هو الاستغفار بعد العلم لقوله تعالى: {ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} (التوبة، 113)
{فرح المخلفون} عن غزوة تبوك {بمقعدهم} أي: بقعودهم فهو اسم للمصدر {خلاف رسول الله} هذا نوع آخر من قبائح أعمال المنافقين وهو فرحهم بالقعود وكراهتهم الجهاد والمخلف المتروك ممن مضى.
(16/210)
---(1/1378)
فإن قيل: إنهم احتالوا حتى تخلفوا فكانوا متخلفين. لا مخلفين أجيب: بأنّ من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خروجه إلى الجهاد مع المؤمنين يوصف بأنه مخلف حيث لم ينهض وأقام.
تنبيه: قوله تعالى: {خلاف} فيه قولان:
الأوّل: وهو قول الزجاج بمعنى مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار وأقاموا قال وهو منصوب لأنه مفعول له والمعنى بأن قعدوا لمخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم
والثاني: قال الأخفش: إن خلاف بمعنى خلف ومعناه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله} تعريض للمؤمنين بتحملهم المشاق لوجه الله تعالى بما فعلوا من بذل أنفسهم وأموالهم وإيثارهم ذلك على السكون والراحة وكره ذلك المنافقون وكيف لا يكرهون وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان وداعي الإيقان {وقالوا} أي: قال بعض المنافقين لبعض أو قالوا للمؤمنين تثبيطاً {لا تنفروا} أي: لا تخرجوا إلى الجهاد {في الحرّ} وكانت غزوة تبوك في شدّة الحر فأجاب الله تعالى عن هذا بقوله تعالى: {قل نار جهنم أشدّ حرّاً لو كانوا يفقهون} أي: يعلمون أنّ بعد هذه الدار داراً أخرى وأن بعد هذه الحياة حياة أخرى وأنّ هذه مشقة منقضية وتلك مشقة باقية ما تخلفوا ولبعضهم
*مسرة أحقاب تلقيت بعدها ** مساءة يوم اربها شبه الصابي*
*فكيف بأن تلقى مسرة ساعة ** وراء تقضيها مساءة أحقاب*
وقوله تعالى:
{فليضحكوا قليلاً} أي: في الدنيا {وليبكوا كثيراً} أي: في الآخرة ورد بصيغة الأمر ومعناه الإخبار بأنه ستحصل لهم هذه الحالة ودليل ذلك قوله تعالى: {جزاء بما كانوا يكسبون} أي: أن ذلك البكاء في الآخرة جزاء لهم على ضحكهم وأعمالهم الخبيث في الدنيا.
(16/211)
---(1/1379)
روي أن أهل النفاق يبكون في الآخرة في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم ففرحهم وضحكهم طول أعمارهم في الدنيا قليل بالنسبة إلى الآخرة لأنّ الدنيا فانية والآخرة باقية والمنقطع الفاني بالنسبة إلى الدائم الباقي قليل.
روي عن أنس أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس ابكوا فإن لم تستطيعوا فتباكوا فإنّ أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتنفرغ العيون حتى لو أن سفناً أجريت فيها لجرت» قال البيضاوي: ويجوز أن يكون الضحك والبكاء كنايتين عن السرور والغمّ والمراد من القلة العدم.
(16/212)
---(1/1380)
{فإن رجعك} أي: ردّك {ا} من غزوة تبوك {إلى طائفة منهم} أي: ممن تخلف بالمدينة من المنافقين وإنما قال: {إلى طائفة منهم} لأنّ منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف أو اعتذر بعذر صحيح، وقيل: لم يكن المخلفون كلهم منافقين وأراد بالطائفة المنافقين منهم {فاستأذنوك للخروج} معك إلى غزوة أخرى بعد تبوك {فقل} يا محمد لهؤلاء الذين طلبوا الخروج معك وهم مقيمون على نفاقهم {لن تخرجوا معي أبداً} أي: في سفر من الأسفار إنّ الله تعالى قد أغناني عنكم وأحوجكم إلي {ولن تقاتلوا معي عدوّاً} إخبار بمعنى النهي للمبالغة وقوله تعالى: {إنكم رضيتم بالقعود أوّل مرّة} تعليل له وكان إسقاطهم من ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم وأوّل مرة هي الخرجة إلى غزوة تبوك {فاقعدوا مع الخالفين} أي: المتخلفين عن الغزو من النساء والصبيان وغيرهم، قال الرازي: واعلم أنّ هذه الآية تدل على أن الرجل إذا ظهر له من بعض إخوانه مكر وخداع ورآه مشدّداً فيه مبالغاً في تقرير موجباته فإنه يجب عليه أن يقطع العلقة بينه وبينه وأن يحترز عن مصاحبته، ولما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بمنع المنافقين من الخروج معه إلى الغزوات إذلالاً لهم أمره بمنع الصلاة على من مات منهم إذلالاً لهم أيضاً بقوله تعالى: {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً}.
(16/213)
---(1/1381)
روي أن ابن أبي ـ رأس المنافقين ـ دعا النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه فلما دخل عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم سأله أن يصلي عليه وإذا مات يقوم على قبره ثم أرسل للنبيّ صلى الله عليه وسلم يطلب منه قميصه ليكفن فيه فأرسل إليه القميص الفوقاني فردّه وطلب الذي يلي جلده ليكفن فيه فقال عمر رضي الله عنه: لم تعطي قميصك للرجس النجس؟ فقال صلى الله عليه وسلم «إنّ قميصي لا يغني عنه من الله شيئاً وإني أؤمّل من الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب» فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما مات جاء ابنه يعرفه وكان ابنه صحابياً خالصاً صالحاً فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «صل عليه وادفنه» فقال: إن لم تصل عليه يا رسول الله لم يصل عليه مسلم فقام عليه الصلاة والسلام ليصلي عليه فقام عمر رضي الله عنه بينه وبين القبلة فنزلت هذه الآية وأخذ جبريل عليه السلام بثوب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {لا تصل على أحد منهم مات أبداً} قال عمر: فعجبت من جراءتي على النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ وهذا يدل على منقبة عظيمة من مناقب عمر رضي الله عنه وذلك أنّ الوحي ينزل وفق قوله في آيات كثيرة منها آية أخذ الفدية من أسارى بدر وقد سبق شرحه، ومنها آية تحريم الخمر، ومنها آية تحويل القبلة، ومنها آية أمر النساء بالحجاب، ومنها هذه الآية، فصار نزول الوحي على مطابقة قول عمر منصباً عالياً ودرجة رفيعة له في الدارين ولهذا قال في حقه عليه الصلاة والسلام: «لو لم أبعث لبعثت يا عمر نبياً» وإنما لم ينه صلى الله عليه وسلم عن التكفين في القميص ونهى عن الصلاة عليه لأن الضنة بالقميص كانت تخل بالكرم وكان الله تعالى أمره أن لا يردّ سائلاً بقوله تعالى: {وأما السائل فلا تنهر} (الضحى، 10)
(16/214)
---(1/1382)
ولأنّ ابنه كان بالوصف المتقدم فأكرمه النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنه ولأن الرحمة والرأفة كانت غالبة عليه صلى الله عليه وسلم ولأنها كانت مكافأة لإلباسه العباس قميصه حين كان أسر ببدر والمراد من الصلاة الدعاء للميت والاستغفار له وهو ممنوع في حق الكافر، قال الواحدي: مات في موضع جر لأنه صفة للنكرة كأنه قيل: على أحد منهم ميت، وقوله تعالى: {أبداً} متعلق بقوله: {ولا تصل} والتقدير ولا تصل أبداً على أحد منهم منعاً كلياً دائماً، وقال البيضاوي: مات أبداً يعني: الموت على الكفر فإن إحياء الكافر للتعذيب لا للتمتع فكأنه لم يحيى واختلف في تفسير قوله تعالى: {ولا تقم على قبره} فقال الزجاج: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فمنع ههنا منه قال الكلبي: لا تقم لإصلاح مهمات قبره وهو من قولهم قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره وتولاه، وقيل: لا تقم عند قبره لدفن أو زيارة والأوّل أولى لأنّ النهي للتحريم ثم إنه تعالى علل المنع من الصلاة عليه والقيام على قبره بقوله تعالى: {إنهم كفروا با ورسوله وماتوا وهم فاسقون} أي: كافرون يعني: لم يتوبوا قبل موتهم عن كفرهم فسقط بذلك ما قيل: إن الفسق أدنى من الكفر فما الفائدة في وصفهم بعد ذلك بالفسق، وأجيب أيضاً: بأنّ الكافر قد يكون عدلاً في دينه وقد يكون فاسقاً فوصف الله تعالى المنافق بالفسق بعد أن وصفه بالكفر تنبيهاً على أن طريقة النفاق طريقة مذمومة عند كل أهل العلم.
فإن قيل: كيف همّ صلى الله عليه وسلم أن يصلي على هذا المنافق مع قيام الكفر فيه وقيل: إنه صلى عليه؟ أجيب: بأنّ التكاليف مبنية على قوله صلى الله عليه وسلم «نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر» فإنه كان ظاهره الإسلام فلما أعلمه الله تعالى بذلك امتنع فلم يصل على منافق بعد ذلك ولا قام على قبره حتى قبض.
(16/215)
---(1/1383)
{ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} سبق ذكر هذه الآية في هذه السورة بعينها ولكن حصل بينهما تفاوت في ألفاظ أربعة: أوّلها: أنّ في الآية المتقدّمة {فلا تعجبك} بالفاء وههنا بالواو لأنّ الآية الأولى ذكرت بعد قوله تعالى: {ولا ينفقون إلا وهم كارهون} وصفهم بكونهم كارهين للإنفاق وإنما كرهوا ذلك الإنفاق لكونهم معجبين بكثرة تلك الأموال والأولاد فلهذ المعنى نهاه الله تعالى عن ذلك الإعجاب بفاء التعقيب وأما ههنا فلا تعلق لهذا الكلام بما قبله فجاء بحرف الواو. ثانيها: أنه قال تعالى في الآية الأولى: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} وههنا كلمة لا محذوفه لأنّ مثل هذا الترتيب يبدأ فيه بالأدون ثم يترقى إلى الأشرف فيقال: لا يعجبني أمر الأمير ولا أمر الوزير وهذا يدل على أنه كان إعجاب أولئك الأقوام بأولادهم فوق إعجابهم بأموالهم وهذه الآية تدل على عدم التفاوت بين الأمرين عندهم. ثالثها: أنه تعالى قال هناك: {إنما يريد الله ليعذبهم} وههنا قال: {إنما يريد الله أن يعذبهم} فالفائذة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام الله تعالى محال وإن ورد حرف التعليل ومعناه أنه كقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله} وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله. رابعها: أنه ذكر في الآية الأولى {في الحياة الدنيا} وههنا أسقط لفظ الحياة تنبيهاً على أن الحياة الدنيا بلغت في الخسة مبلغاً إلى أنها لا تستحق أن تسمى حياة بل يجب الاقتصار عند ذكرها على لفظ الدنيا تنبيهاً على كمال دناءتها، قال الرازي: فهذه وجوه في الفرق بين هذه الألفاظ والعالم بتحقيق القرآن هو الله تعالى.
(16/216)
---(1/1384)
فإن قيل: ما الحكمة في التكرير؟ أجيب: بأنه أشدّ الأشياء جذباً وطلباً للخواطر الاشتغال بالدنيا وهي الأموال والأولاد وما كان كذلك يجب التحذير عنه مرّة بعد أخرى في المطلوبية والمرغوبية كما أعاد تعالى قوله في سورة النساء: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لما يشاء} (النساء، 48)
مرّتين وقيل: إنما كرّر هذا المعنى لأنّ الآية الأولى في قوم منافقين لهم أموال وأولاد في وقت نزولها وهذه الآية في قوم آخرين والكلام الواحد إذا احتيج إلى ذكره مع أقوام كثيرين في أوقات مختلفة لم يكن ذكره مع بعضهم مغنياً عن ذكره مع آخرين، وقوله تعالى:
{وإذا أنزلت سورة} يحتمل أن يراد بالسورة تمامها وأن يراد بعضها أي: طائفة من القرآن وقيل: المراد بالسورة سورة براءة لأنّ فيها الأمر بالإيمان والجهاد {أن آمنوا با} أي: بأن آمنوا ويجوز أن تكون أن المفسرة {وجاهدوا مع رسوله}.
فإن قيل: كيف يأمر المؤمنين بالإيمان فإنّ ذلك يقتضي الأمر بتحصيل الحاصل وهو محال؟ أجيب: بأنّ معناه الدوام على الإيمان والجهاد في المستقبل، وقيل: هذا الأمر وإن كان ظاهره العموم لكن المراد به الخصوص وهم المنافقون أي: اخلصوا الإيمان بالله وجاهدوا مع رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما قدم الأمر بالإيمان على الأمر بالجهاد لأنّ الجهاد بغير الإيمان لا يفيد شيئاً ثم حكى الله تعالى أن عند نزول هذه السورة ماذا يقولون فقال تعالى: {استأذنك أولو الطول منهم} قال ابن عباس يعني: أهل الغنى وهم أهل القدرة والثروة والسعة من المال، وقيل: هم رؤساء المنافقين وكبراؤهم {وقالوا} أي: أولو الطول {ذرنا نكن مع القاعدين} أي: الذين قعدوا لعذر كالمرضى والزمنى، وقيل: مع النساء والصبيان ثم ذمّهم الله تعالى بقوله:
(16/217)
---(1/1385)
{رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} جمع خالفة أي: النساء اللاتي تخلفن في البيوت، وقيل: الخوالف أدنياء الناس وسفلتهم يقال: فلان خالفه قومه إذا كان دونهم وإنما خص أولو الطول بالذكر لأنّ الذم لهم لازم لكونهم قادرين على السفر والجهاد وأمّا من لا مال له ولا قدرة له على السفر فلا يحتاج إلى الاستئذان قال المفسرون: كان يصعب على المنافقين تشبيههم بالخوالف {وطبع} أي: وختم {على قلوبهم} أي: هؤلاء المنافقين {فهم لا يفقهون} أي: لا يعلمون ما في الجهاد من الفوز والسعادة وما في التخلف من الشقاوة والخذلان ولما شرح الله سبحانه وتعالى حال المنافقين من الفرار عن الجهاد بين حال الرسول والذين آمنوا معه بالضدّ منه بقوله تعالى:
{لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم} أي: بذلوا المال والنفس في طلب رضوان الله تعالى والتقرب إليه وفي قوله تعالى: {لكن} فائدة وهي تقرير أنه وإن تخلف هؤلاء المنافقون عن الغزو فقد توجه إليه من هو خير منهم وأخلص نية واعتقاداً كقوله تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً} (الأنعام، 89)، ولما وصفهم الله تعالى بالمسارعة إلى الجهاد ذكر ما حصل لهم من الفوائد والمنافع وهو أنواع: أوّلها: ما ذكره تعالى بقوله سبحانه: {وأولئك لهم الخيرات} أي: منافع الدارين النصرة والغنيمة في الدنيا والجنة والكرامة في الآخرة، وقيل: الخيرات الحور العين لقوله تعالى: {فيهنّ خيرات حسان} (الرحمن، 70)
ثانيها: ما ذكره الله تعالى بقوله: {وأولئك هم المفلحون} أي: الفائزون بالمطالب المتخلصون من العقاب والعتاب وثالثها: ما ذكره بقوله تعالى:
g
{أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم} هذا بيان ما لهم من الخيرات الأخروية.
(16/219)
---(1/1386)
{وجاء المعذرون} بإدغام التاء في الأصل في الذال أي: المعتذرون بمعنى المعذورين {من الأعراب} إلى النبي صلى الله عليه وسلم {ليؤذن لهم} في القعود لعذرهم فأذن لهم واختلف في هؤلاء المعذرين فقيل: هم أسد وغطفان قالوا: إنّ لنا عيالاً وإن بنا جهداً فائذن لنا في التخلف، وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل قالوا: إن غزونا معك أغارت أعراب طيء على أهالينا ومواشينا فقال صلى الله عليه وسلم «سيغنيني الله عنكم» وقيل: نفر من غفار اعتذروا فلم يعذرهم الله، وعن قتادة: اعتذروا بالكذب والاعتذار في كلام العرب على قسمين: يقال: اعتذر إذا كذب في عذره ومنه قوله تعالى: {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم} (التوبة، 94)
فردّ الله تعالى عيهم بقوله: {قل لا تعتذروا} (التوبة، 94)
فدلّ ذلك على فساد عذرهم وكذبهم فيه. ويقال: اعتذر إذا أتى بعذر صحيح كما في قول لبيد:
*ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر*
يريد: فقد جاء بعذر صحيح. وقيل: هو التعذير الذي هو التقصير، يقال: عذر يعذر إذا قصر ولم يبالغ فعلى هذا المعنى يحتمل أنهم كانوا صادقين في اعتذارهم وأنهم كانوا كاذبين، ومن المفسرين من قال: إنهم كانوا صادقين بدليل أنه تعالى لما ذكره قال بعده: {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} أي: في ادعاء الإيمان من منافقي الأعراب عن المجيء للاعتذار فلما فصل بينهم وميزهم عن الكاذبين دل ذلك على أنهم ليسوا كاذبين.
ويروى عن عمرو بن العلاء أنه لما قيل له هذا الكلام فقال: إن أقواماً تكلفوا عذراً بباطل فهم الذين عناهم الله تعالى بقوله: {وجاء المعذرون} وتخلف الآخرون لا لعذر ولا لشبه عذر جراءة على الله وهم المراد بقوله تعالى: {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} {سيصيب الذين كفروا منهم} أي: من الأعراب أو من المعذرين فإن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره {عذاب أليم} في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار.
(16/220)
---(1/1387)
ولما بين سبحانه وتعالى الوعيد في حق من توهم العذر مع أنه لا عذر له ذكر أصحاب الأعذار الحقيقة وبين أن تكليف الله تعالى بالغزو والجهاد عنهم ساقط بقوله تعالى: {ليس على الضعفاء} كالشيوخ ومن خلق في أصل الفطرة ضعيفاً نحيفاً {ولا على المرضى} كالزمنى والعرج والعمي {ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون} في الجهاد {حرج} أي: إثم في التخلف عنه فنفى سبحانه وتعالى عن هذه الأقسام الثلاثة الحرج فيجوز لهم أن يتخلفوا عن الغزو وليس في الآية بيان أنه يحرم عليهم الخروج لأنّ الواحد من هؤلاء لو خرج ليعين المجاهدين بقدر قدرته إما لحفظ متاعهم أو لتكثير سوادهم بشرط أن لا يجعل نفسه كلاً ووبالاً عليهم كان ذلك طاعة مقبولة ثم إنه سبحانه وتعالى شرط في جواز هذا التأخر عن الغزو شرطاً بقوله: {إذا نصحوا ورسوله} في حال قعودهم بالإيمان والطاعة في السرّ والعلانية وأن يحترزوا عن إلقاء الإرجافات وعن إثارة الفتن ويسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين الذين سافروا إما أن يقوموا بإصلاح مهمات بيوتهم وإما أن يسعوا إلى إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم فإن جملة هذه الأمور جارية مجرى الإعانة على الجهاد وقوله تعالى: {ما على المحسنين} في موضع ما عليهم لبيان إحسانهم بنصحهم مع عذرهم {من سبيل} أي: طريق إلى ذمهم أو لومهم والمعنى أنه سدّ بإحسانه طريق العتاب ومن أعظم الإحسان من شهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله مخلصاً من قلبه فإن ما عليه من سبيل في نفسه وماله لإباحة الشرع بدليل منفصل إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والمحسن هو الآتي بالإحسان ورأس أبواب الإحسان ورئيسها هو قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله {وا غفور} أي: محاء للذنوب {رحيم} أي: بجميع عباده، وفي ذلك إشارة إلى أن الإنسان محل التقصير وإن اجتهد فلا يسعه إلا العفو ولما ذكر الله سبحانه وتعالى الضعفاء والمرضى والفقراء وبين أنه يجوز لهم التخلف عن الجهاد بشرط(1/1388)
(16/221)
---
أن يكونوا ناصحين لله ورسوله وهو كونهم محسنين وأنه ليس لأحد عليهم سبيل ذكر قسماً رابعاً من المعذورين بقوله تعالى:
{ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} إلى الغزو وهم البكاؤن سبعة من الأنصار معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن مغفل وعلية بن زيد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: بدرنا بالخروج أي: أسرعنا فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا أجد ما أحملكم عليه» فتولوا وهم يبكون ولذلك سموا البكائين وقيل: هم بنو مقرن من مزينة وكانوا ثلاثة أخوة معقل وسويد والنعمان وقيل: أبو موسى وأصحابه وقيل: نزلت في العرباض بن سارية، ويحتمل أنها نزلت في كل من ذكر، وقوله تعالى: {قلت لا أجد ما أحملكم عليه} حال من الكاف في أتوك بإضمار قد وقوله تعالى: {تولوا} جواب إذا {وأعينهم تفيض} أي: تسيل {من الدمع} أي: دمعها فان، ومن للبيان كقولك: أفديك من رجل، وهو أبلغ من يفيض دمعها لأنه يدلّ على أن العين صارت دمعاً فياضاً وقوله تعالى: {حزناً} منصوب على العلة {أن لا يجدوا} أي: لئلا يجدوا محله نصب على أنه مفعول له وناصبه المفعول له الذي هو حزناً {ما ينفقون} في الجهاد ولما قال تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} قال تعالى في حق من يعتذر: {ولا عذر له}.
(16/222)
---(1/1389)
{إنما السبيل} أي: إنما يتوجه الطريق بالعقوبة {على الذين يستأذنونك} يا محمد في التخلف عنك والجهاد {وهم أغنياء} أي: قادرون على أهبة الخروج معك وقوله تعالى: {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} استئناف كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء فقيل: رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف وهم النساء والصبيان {وطبع الله على قلوبهم} فلأجل ذلك الطبع قال الله تعالى: {فهم لا يعلمون} أي: ما في الجهاد من منافع الدارين، أمّا في الدنيا فالفوز بالغنيمة والظفر بالعدو، وأمّا في الآخرة فالثواب والنعيم الدائم الذي لا ينقطع.
(16/223)
---
{يعتذرون} أي: هؤلاء المنافقون {إليكم} أي: في التخلف {إذا رجعتم} من الغزو {إليهم} بالأعذار الباطلة والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيماً له ويحتمل أن يكون له وللمؤمنين.
(16/224)
---
يروى أن الذين تخلفوا عن غزوة تبوك من المنافقين كانوا بضعة وثلاثين رجلاً فلما رجع النبيّ صلى الله عليه وسلم جاؤوا يعتذرون إليه بالباطل قال تعالى: {قل} لهم يا محمد {لا تعتذروا} بالمعاذير الباطلة {لن نؤمن لكم} أي: لن نصدّقكم فيما اعتذرتم به وقوله تعالى: {قد نبأنا} أي: أعلمنا {الله من أخباركم} أي: بعض أحوالكم التي أنتم عليها من الشرّ والفساد علة لانتفاء تصديقهم لأنّ الله تعالى إذا أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم الإعلام بأحوالهم وما في ضمائرهم من الشرّ والفساد لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم {وسيرى الله علمكم ورسوله} أي: أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه {ثم تردّون} أي: بالبعث {إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} أي: الله المطلع على ما في ضمائركم من الخيانة والكذب وإخلاف الوعد وغير ذلك من الخبائث التي أنتم عليها فيجازيكم عليه.
(16/225)
---(1/1390)
{سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم} أي: رجعتم {إليهم} من تبوك إنهم معذورون في التخلف {لتعرضوا عنهم} أي: لتصفحوا عنهم فلا تعاتبوهم {فأعرضوا عنهم} أي: فدعوهم وما اختاروا لأنفسهم من النفاق، قال ابن عباس: يريد ترك الكلام والسلام قال مقاتل: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة: «لا تجالسوهم ولا تكلموهم» قال أهل المعاني: هؤلاء طلبوا إعراض الصفح فأعطوا إعراض المقت ثم ذكر تعالى علة الإعراض بقوله: {إنهم رجس} أي: قذر لخبث باطنهم فكما يجب الاحتراز عن الأنجاس الجسمانية يجب الاحتراز عن الأرجاس الروحانية خوفاً من سريانها إلى الإنسان وحذراً من أن يميل طبع الإنسان إلى تلك الأعمال وقوله تعالى: {ومأواهم جهنم} من تمام العلة {جزاء بما كانوا يكسبون} من الأعمال الخبيثة في الدنيا واختلفوا فيمن نزلت فيه هذه الآية فقال ابن عباس: نزلت في الجد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما كانوا ثمانين رجلاً من المنافقين فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة: «لا تجالسوهم ولا تكلموهم» وقال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أبيّ حلف للنبي صلى الله عليه وسلم بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها وطلب من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يرضى عنه فأنزل الله تعالى هذه الآية ونزل.
{يحلفون لكم لترضوا عنهم} أي: يحلف لكم هؤلاء المنافقون لترضوا عنهم بحلفهم فتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم {فإن ترضوا عنهم} أي: فإن رضيتم عنهم أيها المؤمنون بما حلفوا إليكم وقبلتم عذرهم {فإنّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} لأنه تعالى يعلم ما في قلوبهم من النفاق والشك فلا يرضى عنهم والمقصود من الآية عدم الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم بعد الأمر بالإعراض عنهم وعدم الالتفات نحوهم.
ونزل في سكان البادية:
(16/226)
---(1/1391)
{الأعراب} أي: أهل البدو {أشدّ كفراً ونفاقاً} أي: من أهل الحضر لجفائهم وغلظ طباعهم وبعدهم عن أهل العلم وقلة استماعهم الكتاب والسنة واستيلاء الهواء الحار اليابس عليهم وذلك يوجب مزيد التيه والتكبر والنخوة والفخر والطيش عليهم وليسوا تحت سياسة سائس ولا تأديب مؤدّب ولا ضبط ضابط فنشؤوا كما شاؤوا ومن كان كذلك خرج على أشدّ الجهات نفاقاً ولو قابلت الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية لعرفت الفرق بين أهل الحضر وأهل البادية.
قال العلماء من أهل اللغة: يقال: رجل عربي إذا كان له نسب في العرب وجمعه العرب كما يقال: مجوسي ويهودي ثم تحذف ياء النسب في الجمع فيقال: المجوس واليهود ورجل أعرابي بالألف إذا كان بدوياً يطلب مساقط الغيث والكلأ وسواء كان من العرب أم من مواليهم ويجمع الأعرابي على الأعراب والأعاريب.
والأعرابي إذا قيل له: يا عربي فرح والعربي إذا قيل له: يا أعرابي غضب له فمن استوطن القرى العربية فهم عرب ومن نزل البادية فهم أعراب والذي يدل على الفرق بينهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: «حب العرب من الإيمان» وأما الأعراب فقد ذمّهم الله تعالى في هذه الآية.
وقيل: سموا بالعرب لأنّ ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم ولا شك أنّ اللسان العربي مختص بأنواع من الفصاحة والجزالة لا توجد في سائر الألسنة.
قال الرازي: ورأيت في بعض الكتب عن بعض الحكماء أنه قال: حكمة الروم في أدمغتهم وذلك لأنهم يقدرون على التركيبات العجيبة، وحكمة الهند في أوهامهم، وحكمة اليونان في أفئدتهم وذلك لكثرة ما لهم من المباحث العقلية، وحكمة العرب في ألسنتهم وذلك لحلاوة ألسنتهم وعذوبة عباراتهم ثم حكم الله تعالى على الأعراب بحكم آخر بقوله تعالى: {وأجدر} أي: أحق وأولى {أن} أي: بأن {لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} من الأحكام والشرائع فرائضها وسننها {وا عليم} بما في قلوب عباده {حكيم} فيما فرض من فرائضه وأحكامه.
(16/227)
---(1/1392)
{ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق} في سبيل الله تعالى {مغرماً} أي: غرامة وخسراناً والغرامة ما ينفقه الرجل وليس يلزمه لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء لا لوجه الله تعالى وابتغاء المثوبة عنده وهم أسد وغطفان {ويتربص} أي: ينتظر {بكم الدوائر} أي: دوائر الزمان أن ينقلب عليكم فيموت النبيّ صلى الله عليه وسلم ويظهر المشركون قال الله تعالى: {عليهم دائرة السوء} دعاء عليهم معترض، قال التفتازاني: بين كلامين لا في أثناء كلام ولا في آخره دعا عليهم بنحو ما دعوا به قال الله تعالى: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم} (المائدة، 64)
(16/228)
---(1/1393)
أي: يدور عليهم البلاء والحزن ولا يرون في محمد صلى الله عليه وسلم ودينه وأصحابه إلا ما يسوءهم ويكيدهم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم السين والباقون بالفتح مصدر أضيف إليه للمبالغة كقولك: رجل سوء في نقيض قولك: رجل صدق {وا سميع} لأقوالهم {عليم} بما تخفي ضمائرهم ولما بين سبحانه وتعالى أنه حصل في الأعراب من يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغرماً بين أن فيهم قوماً مؤمنين صالحين مجاهدين يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغنماً بقوله تعالى: {ومن الأعراب من يؤمن با واليوم الآخر} كبعض جهينة ومزينة فوصفهم الله تعالى بوصفين: كونهم مؤمنين بالله واليوم الآخر والمقصود التنبيه على أنه لا بدّ في جميع الطاعات من تقديم الإيمان وفي الجهاد أيضاً كذلك والثاني: ما ذكره بقوله تعالى: {ويتخذ ما ينفق قربات} جمع قربة أي: يقربه {عند الله} الذي لا أشرف من القرب عنده {و} وسيلة إلى {صلوات} أي: دعوات {الرسول} صلى الله عليه وسلم لأنه كان يدعو للمصدقين عنده بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله صلى الله عليه وسلم «اللهم صل على آل أوفى» قال تعالى: {وصل عليهم} أي: ادع لهم ولما كان ما ينفق سبباً لذلك قيل: يتخذ ما ينفق قربات وصلوات الرسول {ألا إنها} أي: نفقاتهم {قربة لهم} عند الله وهذا شهادة من الله تعالى للمؤمن المتصدّق بصحة ما اعتقد من كون نفقاته قربات عند الله وصلوات الرسول وقد أكد تعالى هذه الشهادة بحرف التنبيه وهو قوله تعالى: {ألا} وبحرف التحقيق وهو قوله تعالى: {إنها} ثم زاد في التأكيد فقال تعالى: {سيدخلهم الله في رحمته} فإن دخول السين توجب مزيد التأكيد وهذه النعمة هي أقصى مرادهم. وقرأ ورش: قربة برفع الراء والباقون بالسكون والأصل هو الضم والإسكان تخفيف {إنّ الله غفور} أي: بليغ الستر لقبائح من تاب {رحيم} بهم.
(16/229)
---(1/1394)
ولما ذكر تعالى فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وما أعدّ لهم من الثواب بين تعالى أن فوق منزلتهم منازل أعلى وأعظم منها بقوله تعالى:
{والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار} أما من المهاجرين فقال سعيد بن المسيب: هم الذين صلوا إلى القبلتين، وقال عطاء بن أبي رباح: هم أهل بدر، وقال الشعبي: هم أهل بيعة الرضوان، وقال محمد بن كعب: هم جماهير الصحابة، وقيل: هم الذين أسلموا قبل الهجرة.
واختلف في أوّل الناس إسلاماً وأوّل من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعض العلماء: أوّل من أسلم بعد خديجة علي بن أبي طالب وهذا قول جابر واختلفوا في سنه وقت إسلامه فقيل: كان ابن عشر سنين، وقيل: أقل من ذلك، وقيل: أكثر، وقيل: كان بالغاً، والأكثرون على أنه لم يكن بالغاً وقت إسلامه، وقال بعضهم: أوّل من أسلم بعد خديجة أبو بكر الصديق وهذا قول ابن عباس، وقال بعضهم: أوّل من أسلم بعد خديجة زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا قول عروة بن الزبير وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يجمع بين هذه الروايات فيقول: أوّل من أسلم من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهؤلاء أربعة سباق الخلق إلى الإسلام.
(16/231)
---(1/1395)
وأما من الأنصار فهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وهي الأولى وكانوا ستة نفر ثم العقبة الثانية من العام المقبل وكانوا اثني عشر رجلاً ثم أصحاب العقبة الثالثة وكانوا سبعين رجلاً فهؤلاء سباق الأنصار، وقيل: المراد بالسابقين الأوّلين من سبق إلى الهجرة والنصرة ويدل على هذا أنه تعالى ذكر كونهم سابقين ولم يبين لهم أنهم سابقون في ماذا فبقي اللفظ مجملاً فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما قد صاروا به مهاجرين وأنصاراً وهو الهجرة والنصرة فوجب أن يكون المراد منه السابقين الأوّلين في الهجرة والنصرة إزالة للإجمال عن اللفظ وأيضاً فإنّ الهجرة طاعة عظيمة ومرتبة عالية ومنقبة شريفة لأنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وآووه وواسوه وآووا أصحابه وواسوهم فلذلك أثنى الله تعالى عليهم ومدحهم {والذين اتبعوهم} أي: الفريقين إلى يوم القيامة {بإحسان} أي: في اتباعهم فلم يحولوا عن شيء من طريقتهم.
وقال عطاء: هم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار ويترحمون عليهم ويدعون لهم ويذكرون محاسنهم.
(16/232)
---(1/1396)
وقيل: بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأوّلين عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» والمدّ ربع الصاع والنصيف نصفه والمعنى لو أن أحداً عمل مهما قدر عليه من أعمال البرّ والإنفاق في سبيل الله ما بلغ هذا القدر الصغير من عمل الصحابة وإنفاقهم لأنهم أنفقوا وبذلوا المجهود في وقت الحاجة، وعن عمران بن حصين أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» قال عمران: فلا أدري أذكر بعده قرنين أم ثلاثاً. والقرن الأمة من الناس يقارن بعضهم بعضاً واختلفوا في مدّته من الزمان من عشر سنين إلى عشرين سنة، وقيل: من مائة إلى مائة وهذا هو المشهور وقيل: من مائة إلى مائة وعشرين سنة ثم جمعهم الله تعالى في الثواب فقال: {رضي الله عنهم} فالسابقون مرتفع بالابتداء وخبره رضي الله عنهم أي: بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم {ورضوا عنه} بما أفاض عليهم من نعمه الجليلة في الدنيا والآخرة {وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار} أي: هي كثيرة المياه فكل موضع أردته نبع منه ماء يجري منه نهر. وقرأ ابن كثير بزيادة من تحتها وبجرّ التاء بعد الحاء والباقون بغير من وفتح التاء، ثم نفى سبحانه الانقطاع بقوله تعالى: {خالدين فيها} وأكد المراد من الخلود بقوله تعالى: {أبداً} ثم استأنف مدح هذا الذي أعدّه لهم بقوله تعالى: {ذلك} أي: الأمر العالي الرتبة {الفوز العظيم} ولما شرح تعالى أحوال منافقي المدينة ثم ذكر بعده أحوال منافقي الأعراب ثم بين أن في الأعراب من هو مؤمن صالح مخلص ثم بين أن رؤساء المؤمنين من هم وهم السابقون والمهاجرون والأنصار، ذكر أنّ جماعة من حول المدينة موصوفون بالنفاق بقوله تعالى:
(16/233)
---(1/1397)
{وممن حولكم} أي: أهل بلدتكم وهي المدينة {من الأعراب منافقون} وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار كانوا نازلين حولها وقوله تعالى: {ومن أهل المدينة} عطف على خبر المبتدأ الذي هو ممن حولكم ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدأ والخبر إذا قدرت: ومن أهل المدينة قوم {مردوا على النفاق} على أن مردوا صفة موصوف محذوف كقول الشاعر:
*أنا ابن جلا وطلاع الثنايا*
أي: أنا ابن رجل جلا فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه.
وقال الزجاج: في الآية تقديم وتأخير والتقدير وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق أي: ثبتوا واستمروا فيه ولم يتوبوا عنه وأصل المرود الملاسة ومنه صرّح ممرّد وغلام أمرد {لا تعلمهم} بأعيانهم أي: يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك لفرط توقيهم ما يشكك في أمرهم ثم هددهم وبين خسارتهم بقوله تعالى: {نحن نعلمهم} أي: لا يعلمهم إلا الله تعالى ولا يطلع على سرهم غيره لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطاناً ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين لا تشك معه في إيمانهم وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروا به فلهم فيه اليد الطولى واختلفوا في تفسير قوله تعالى: {سنعذبهم مرّتين} فقال الكلبي والسدي: قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً يوم الجمعة فقال: «اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق» فأخرج من المسجد جماعة من المنافقين وفضحهم فهذا هو العذاب الأوّل والثاني عذاب القبر.
(16/234)
---(1/1398)
فإن قيل: كيف هذا مع قوله تعالى {لا تعلمهم نحن نعلمهم}؟ أجيب: بأنه تعالى أعلمه بهم بعد ذلك. وقال مجاهد: الأوّل: القتل والسبي، والثاني: عذاب القبر، وقال ابن زيد: الأوّل: المصائب في الأولاد، والثاني: عذاب الآخرة، وقال ابن عباس: الأوّل: إقامة الحدود عليهم، والثاني: عذاب القبر، وقيل: عذبوا بالجوع مرّتين، وقيل: الأول: ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم، والثاني: عذاب القبر، وقيل: الأوّل: إحراق مسجدهم مسجد الضرار، والثاني: إحراقهم بنار جهنم كما قال تعالى: {ثم يردون} أي: في الآخرة {إلى عذاب عظيم} هو النار وقوله تعالى:
(16/235)
---(1/1399)
{وآخرون} أي: وقوم آخرون مبتدأ وقوله تعالى: {اعترفوا بذنوبهم} ولم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة نعته، والخبر {خلطوا عملاً صالحاً} أي: وهو جهادهم قبل ذلك أو اعترافهم بذنوبهم أو غير ذلك {وآخر سيئاً} أي: وهو تخلفهم {عسى الله أن يتوب عليهم إنّ الله عفور رحيم} يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه نزلت في طائفة من المتخلفين عن غزوة تبوك، واختلف في عددهم فعن ابن عباس أنهم كانوا ثلاثة عشر وروي عنه أنهم كانوا خمسة وقال سعيد بن جبير: كانوا ثمانية، وقيل: كانوا ثلاثة ندموا لما بلغهم ما نزل بالمتخلفين وتابوا وقالوا: نكون في الظلال ومع النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد واللأواء فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره وقرب من المدينة قالوا: والله لنوثقنّ أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقها ويعذرنا فربطوا أنفسهم في سواري المسجد فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد على عادته في رجوعه من سفره فصلى ركعتين فرآهم فسأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا الا يحلوا أنفسهم حتى تحلهم وترضى عنهم فقال: «وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر بإطلاقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية» فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وأطلقهم وعذرهم فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا وإنما تخلفنا عنك بسببها خذها فتصدّق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا فقال عليه الصلاة والسلام: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً» فأنزل الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم} من الذنوب أو حب المال المؤدّي إلى مثله وتجري لهم مجرى الكفارة هذا قول الحسن كان يقول: ليس المراد من هذه الآية الصدقة الواجبة وإنما هي كفارة الذنب الذي صدر ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم أخذ ثلث أموالهم وتصدّق بها وأبقى لهم الثلثين ولم يأخذ الجميع لأنّ الله تعالى(1/1400)
(16/236)
---
قال: {خذ من أموالهم} والصدقة الواجبة لا يؤخذ فيها ثلث المال {وتزكيهم بها} أي: وتنمي بها حسناتهم وترفعهم إلى منازل المخلصين {وصل عليهم} أي: واعطف عليهم بالدعاء والاستغفار لهم والسنة أن يدعو آخذ الصدقة لصاحب الصدقة إذا أخذها.
وعن الشافعي رضي الله عنه أنه كان يقول أحب أن يقول الوالي عند أخذ الصدقة: أجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهوراً وبارك لك فيما أبقيت. {إن صلاتك سكن لهم} أي: تسكن إليها نفوسهم وتطمئن بها قلوبهم لأنّ روحه صلى الله عليه وسلم كانت روحاً قوية مشرقة صافية باهرة فإذا دعا صلى الله عليه وسلم لهم وذكرهم بالخير فاضت آثار من قوّة روحه الروحانية على أرواحهم فأشرقت بهذا السبب أرواحهم وصفت أسرارهم وانتقلوا من الظلمة إلى النور ومن الجسمانية إلى الروحانية فحصل لهم بذلك غاية الطمأنينة. وقرأ حفص وحمزة والكسائيّ: صلاتك بغير واو بعد اللام ونصب التاء على التوحيد، والباقون بالواو وكسر التاء على الجمع لتعدّد المدعوّ لهم.
قيل: إنّ هذه الآية كلام مبتدأ والمقصود منها إيجاب أخذ الزكوات من الأغنياء وعليه أكثر الفقهاء إذ استدلوا بهذه الآية في إيجاب الزكاة وقالوا في الزكاة: إنها طهرة {وا سميع} لأقوالهم واعترافهم ودعائك لهم {عليم} بندامتهم ونياتهم.
ولما حكى سبحانه عن القوم الذين تقدّم ذكرهم أنهم تابوا عن ذنوبهم وأنهم تصدّقوا وهناك لم يذكر إلا قوله: {عسى الله أن يتوب عليهم} وما كان ذلك صريحاً في قبول التوبة ذكر بعد ذلك أنه يقبل التوبة وأنه سبحانه يأخذ الصدقات ترغيباً لمن لم يتب في التوبة وترغيباً لكل العصاة في الطاعة بقوله تعالى:
(16/237)
---(1/1401)
{ألم يعلموا أنّ الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ} أي: يقبل {الصدقات} والضمير إما للمتوب عليهم والمراد أن يمكن في قلوبهم قبول توبتهم والاعتداد بصدقاتهم وإمّا لغيرهم والمراد به التحضيض عليها والآية وإن وردت بصيغة الاستفهام إلا أنّ المراد بها التقرير في النفس، ومن عادة العرب في إفهام المخاطب وإزالة الشك عنه أن يقولوا أما علمت أنّ من علمك يجب عليك خدمته أما علمت أن من أحسن إليك يجب عليك شكره. فبشر الله تعالى هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم ترغيباً في التوبة وبذل الصدقات وذلك أنه لما نزلت توبة هؤلاء التائبين قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم اليوم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ترغيباً في التوبة ثم زاد تأكيداً بقوله تعالى: {وأنّ الله هو التوّاب الرحيم} أي: وأن من شأنه قبول توبة التائبين والتفضل عليهم وفي هذا تعظيم أمر الصدقات وتشريفها وأن الله يقبلها من عبده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد مؤمن يتصدّق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً ولا يصعد إلى السماء إلا الطيب إلا يضعها في يد الرحمن عز وجل فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه حتى أنّ اللقمة لتأتي يوم القيامة وإنها كمثل الجبل العظيم، ثم قرأ: {أنّ الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات}».
(16/238)
---(1/1402)
{وقل اعملوا} أي: وقل لهم أو للناس يا محمد اعملوا ما شئتم {فسيرى الله عملكم} فإنه لا يخفى عليه شيء خيراً كان أو شرّاً، فيه ترغيب عظيم للمطيعين ووعيد عظيم للمذنبين فكأنه قال: اجتهدوا في العمل في المستقبل فإنّ الله تعالى يرى أعمالكم ويجازيكم عليها {و} يرى أيضاً {رسوله والمؤمنون} أعمالكم، أما رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم فبإطلاع الله إياه على أعمالكم، وأما رؤية المؤمنين فبقذف الله تعالى في قلوبهم من محبة الصالحين وبغض المفسدين {وستردّون إلى عالم الغيب والشهادة} أي: وسترجعون يوم القيامة إلى من يعلم سرّكم وعلانيتكم ولا يخفى عيه شيء من أعمال بواطنكم وظواهركم {فينبئكم} أي: فيخبركم {بما كنتم تعملون} من خير وشر فيجازيكم على أعمالكم.
واعلم أن الله تعالى قسم المتخلفين عن الجهاد ثلاثة أقسام:
أوّلهم: المنافقون الذين مردوا على النفاق.
والثاني: التائبون وهم المرادون بقوله تعالى:
{وآخرون اعترفوا بذنوبهم} وبين أنه تعالى قبل توبتهم.
والقسم الثالث: الذين بقوا موقوفين وهم المذكورون في قوله تعالى: {وآخرون} أي: من المتخلفين {مرجون} أي: مؤخرون عن التوبة.
وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بغير همز بين الجيم والواو، والباقون بهمزة مضمومة بين الجيم والواو {لأمر الله} أي: لحكم الله تعالى فيهم، والفرق بين القسم الثاني وبين هذا أن أولئك سارعوا إلى التوبة وهؤلاء لم يسارعوا إليها، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية وستأتي قصتهم عند قوله تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} تخلفوا كسلاً وميلاً إلى الراحة لا نفاقاً ولم يعتذروا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم كغيرهم فوقف أمرهم خمسين ليلة حتى نزلت توبتهم بعد {إمّا يعذبهم} بأن يميتهم من غير توبة {وإمّا يتوب عليهم} إن تابوا.
(16/239)
---(1/1403)
فإن قيل: كلمة أما وإمّا للشك والله تعالى منزه عن ذلك. أجيب: بأن الترديد بالنسبة للعباد أي: ليكن أمرهم عندكم على هذا في الخوف والرجاء فإنّ الله تعالى لا تخفى عليه خافية وفي هذا دليل على أنّ كلا الأمرين بإرادة الله تعالى {وا عليم} بأحوال عباده {حكيم} فيما يفعل بهم.
ولما ذكر تعالى أصناف المنافقين وطرائقهم المختلفة قال تعالى:
(16/240)
---
{والذين اتخذوا مسجداً} قال ابن عباس رضي الله عنه: وهم إثنا عشر رجلاً من المنافقين بنوا مسجداً {ضراراً} أي: مضارّة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء {وكفراً} أي: وتقوية للنفاق، وقال ابن عباس: يريدون به ضراراً للمؤمنين وكفراً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وقال غيره: اتخذوه ليكفروا فيه بالطعن على النبيّ صلى الله عليه وسلم والإسلام {وتفريقاً بين المؤمنين} لأنهم كانوا جميعاً يصلون بمسجد قباء فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم فيؤدّي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة {وإرصاداً} أي: ترقباً {لمن حارب الله ورسوله} وهو أبو عامر والد أبي حنظلة الذي غسلته الملائكة وكان قد ترهب في الجاهلية وتنصر ولبس المسوح فلما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة عاداه لأنه زالت رياسته وقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم ما هذا الذي جئت به؟ قال: جئت بالحنيفية دين إبراهيم عليه السلام، فقال له أبو عامر: إنا عليها، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «إنك لست عليها» فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريداً وحيداً غريباً، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «آمين» وسماه الفاسقى فلما كان يوم أحد قال أبو عامر: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ولم يزل يقاتله إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدّوا بما استطعتم من القوّة والسلاح وابنوا لي مسجداً فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمداً وأصحابه فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء(1/1404)
وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد، وقوله تعالى: {من قبل} متعلق بحارب أي: حارب من قبل أن يبنى مسجد الضرار أو باتخذوا أي: اتخذوا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف.
(16/241)
---
ولما وصف تعالى هذا المسجد بهذه الصفات الأربعة قال تعالى: {وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى} أي: وليحلفن ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى وهي الرفق بالمسلمين في التوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن المصير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المظلمة والليلة الشاتية {وا يشهد إنهم لكاذبون} في قولهم.
تنبيه: قوله تعالى: {والذين اتخذوا} محله نصب على الاختصاص كقوله تعالى: {والمقيمين الصلاة} (النساء، 162)
أو رفع على الابتداء والخبر محذوف أي: وممن ذكرنا الذين.
ولما بنى المنافقون ذلك المسجد للأغراض الفاسدة عند ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك وقالوا: يا رسول الله بنينا مسجداً لذي العلة والليلة المظلمة والليلة المطيرة والشاتية ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا فيه بالبركة فقال صلى الله عليه وسلم «إني على جناح سفر في حال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله تعالى صلينا فيه» فلما قفل أي: رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد نزل قوله تعالى:
(16/242)
---(1/1405)
{لا تقم فيه أبداً} قال ابن عباس رضي الله عنهما معناه لا تصلّ فيه أبداً، وقال الحسن: همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذهب إلى ذلك المسجد فنادى جبريل: لا تقم فيه أبداً فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشياً فقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه فخرجوا جميعاً سريعاً حتى أتوا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك: انظروني حتى أخرج لكم بنار من أهلي فدخل إلى أهله وأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه ناراً ثم خرجوا يشتدّون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فهدموه وأحرقوه وتفرّق عنه أهله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك الموضع كناسة تلقى فيه الجيف والقمامة ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيداً فريداً غريباً وقيل: كل مسجد بني مباهاة ورياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله تعالى أو بمال غير طيب فهو ملحق بمسجد الضرار.
(16/243)
---(1/1406)
وعن عطاء: لما فتح الله تعالى الأمصار على عمر رضي الله تعالى عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه وقوله تعالى: {لمسجد} اللام فيه للابتداء وقيل: لام القسم تقديره والله لمسجد {أسس} أي: وضع أساسه وقواعده {على التقوى} أي: تقوى الله تعالى {من أوّل يوم} أي: من أوّل أيام وجوده لأن من تعم الزمان والمكان أي: فأحاطت به التقوى لأنها إذا أحاطت بأوّله أحاطت بآخره {أحق} أي: أولى {أن} أي: بأن {تقوم} أي: تصلي {فيه}، واختلف في هذا المسجد الذي أسس على التقوى فقيل: هو مسجد المدينة قاله زيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري قال أبو سعيد رضي الله عنه: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه فقلت: يا رسول الله أي المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض ثم قال: «هو مسجدكم هذا مسجد المدينة»، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي» وعن أمّ سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة» أي: ثوابت، وقيل: هو مسجد قباء قاله سعيد بن جبير وقتادة أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء وهو يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وخرج يوم الجمعة ويدل على هذا قوله تعالى: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} أي: من المعاصي والخصال المذمومة طلباً لمرضاة الله تعالى عليهم {وا يحب المطهرين} أي: يثيبهم ويرضى عنهم ويدنيهم من جنابه إدناء المحب حبيبه.
(16/244)
---(1/1407)
روي أنها لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال: «أمؤمنون أنتم؟» فسكت القوم ثم أعادها فقال عمر: يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم، فقال عليه الصلاة والسلام: «أترضون بالقضاء؟» فقالوا: نعم، قال: «أتصبرون على البلاء؟» قالوا: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: «مؤمنون ورب الكعبة» فجلس ثم قال: «يا معشر الأنصار إنّ الله عز وجل قد أثنى عليكم فماذا الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟» فقالوا: يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {رجال يحبون أن يتطهروا}.
وروى ابن خزيمة في صحيحه عن ابن ساعدة إنه صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: «إنّ الله تعالى قد أحسن إليكم الثناء في الطهر وفي قصة مسجدكم فما الطهور الذي تطهرون به؟» قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا وفي حديث رواه البزار فقالوا: نتبع الحجارة بالماء فقال: «هو ذاك فعليكموه»، وقيل: كانوا لا ينامون الليل على الجنابة ويتبعون الماء إثر البول، وعن الحسن هو التطهر من الذنوب بالتوبة، وقيل: يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم فحموا عن آخرهم.
(16/245)
---(1/1408)
{أفمن أسس بنيانه} أي: بنيان دينه {على تقوى من الله ورضوان} أي: على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه {خير أم من أسس بنيانه على شفا} أي: طرف {جرف} أي: جانب {هار} أي: على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار أي: مشرف على السقوط {فانهار به} أي: سقط مع بانيه {في نار جهنم} خير وهذا تمثيل للبناء على ضدّ التقوى بما يؤول إليه والاستفهام للتقرير أي: الأوّل خير وهو مثال مسجد قباء، والثاني مثال مسجد الضرار قال الرازي: ولا نرى في العالم مثالاً أحسن مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال وحاصل الكلام إنّ أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى الله تعالى ورضوانه والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر فكان البناء الأوّل شريفاً واجب الإبقاء وكان الثاني خسيساً واجب الهدم.
قيل: حفرت بقعة في مسجد الضرار فرؤي الدخان يخرج منها، وقرأ نافع وابن عامر: أفمن أسس بضم الهمزة وكسر السين الأولى مع التشديد وضم النون قبل الهاء، والباقون بفتح الهمزة والسين مع التشديد أيضاً ونصب النون قبل الهاء، وقرأ شعبة: رضوان بضم الراء، والباقون بالكسر. ورسمت أم هنا مقطوعة من من والكلام على أسس بنيانه كالكلام على التي قبلها، وقرأ ابن عامر وشعبة وحمزة جرف بسكون الراء والباقون بالرفع، وأما شفا فلا تمال بخلاف هار فإن أبا عمرو وشعبة والكسائيّ يقرؤونه بالإمالة المحضة، وابن ذكوان بالفتح والإمالة، وورش بالإمالة بين بين، والباقون بالفتح {وا لا يهدي القوم الظالمين} أي: إلى ما فيه صلاح ونجاة.
(16/246)
---(1/1409)
{لا يزال بنيانهم الذي بنوا} أي: بناؤهم الذي بنوه وهو مصدر كالغفران والمراد هنا المبنى وإطلاق لفظ المصدر على المفعول مجاز مشهور يقال: ضرب الأمير ونسج زيد والمراد مضروبه ومنسوجه وليس بجمع خلافاً للواحدي في تجويزه أن يكون جمع بنيانه لأنه وصف بالمفرد وأخبر عنه بقوله: {ريبة} أي: شكاً {في قلوبهم} والمعنى: إنّ بناء ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم فجعل نفس ذلك البنيان ريبة وإنما جعل سبباً للريبة لأنّ المنافقين فرحوا ببناء مسجد الضرار فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخريبه عظم خوفهم في كل الأوقات وصاروا مرتابين في أنهم هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم، وقال الكلبي: صار حسرة وندامة لأنهم ندموا على بنائه، وقال السدي: لا يزال هدم بنائهم ريبة أي: حرارة وغيظاً في قلوبهم {إلا أن تقطع قلوبهم} قطعاً إمّا بالسيف وإمّا بالموت بحيث لا يبقى لهم قابلية الإدراك وقيل: التقطع بالتوبة ندماً وأسفاً {وا عليم} بأحوالهم وأحوال عباده {حكيم} في الأحوال التي يحكم بها عليهم وعلى غيرهم.
ولما تقدّم الإنكار على المتثاقلين عن النفر في سبيل الله في قوله تعالى: {ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله} الآية، ثم الحزم بالجهاد بالنفس والمال في قوله تعالى: {انفروا خفافاً وثقالاً} الآية ذكر فضيلة الجهاد وحقيقته بقوله تعالى:
{إنّ الله اشترى} أي: بعهود أكيدة ومواثيق غليظة شديدة {من المؤمنين} بالله ورسوله وبما جاء به من عند ربه {أنفسهم} التي تفرد بخلقها {وأموالهم} التي تفرد برزقها وهو يملكها دونهم وقدم النفس إشارة إلى أن المبايعة سابقة على اكتساب المال، ولما ذكر البيع أتبعه الثمن بقوله تعالى: {بأنّ لهم الجنة} مثل الله تعالى إثابتهم على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشراء.
(16/247)
---(1/1410)
وروي تاجرهم الله تعالى فأغلى لهم الثمن، وعن عمر رضي الله عنه فجعل لهم الصفقتين جميعاً، وعن الحسن أنفسنا هو خلقها وأموالنا هو رازقها.
وروي أن الأنصار لما بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفساً قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون به أنفسكم وأموالكم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة، قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت.
ومرّ أعرابي على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقرأها فقال: الأعرابي كلام من؟ قال عليه الصلاة والسلام: «كلام الله عز وجل»، فقال الأعرابي: والله بيع مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو فاستشهد.
(16/248)
---(1/1411)
وقال الحسن: اسمعوا والله بيعة رابحة وكفة راجحة بايع الله تعالى بها كل مؤمن والله ما على الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة والمراد بالأموال إنفاقها في سبيل الله وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالهم، وفي جميع وجوه البر والطاعات، وقوله تعالى: {يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون} استئناف بيان ما لأجله الشراء، وقيل: يقاتلون في معنى الأمر. وقرأ حمزة والكسائي بتقديم المقتولين على القاتلين لأنّ الواو لا تقتضي الترتيب ولأن فعل البعض قد يسند إلى الكل أي: فيقتل بعضهم ويقاتل الباقي والباقون بتقديم القاتلين وقوله تعالى: {وعداً عليه حقاً} مصدران منصوبان بفعليهما المحذوفين ثم أخبر الله تعالى بأنّ هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت {في التوراة} كتاب موسى عليه السلام {والإنجيل} كتاب عيسى عليه السلام {والقرآن} أي: قد أثبته فيهما كما أثبته في القرآن أي: الكتاب الجامع لكل ما قبله {ومن أوفى بعهده من الله} أي: لا أحد أوفى منه سبحانه لأنّ الإخلاف لا تُقدِمُ عليه الكرام من الناس فكيف بخالقهم الذي له الغنى المطلق وقوله تعالى: {فاستبشروا} فيه التفات عن الغيبة أي: فافرحوا غاية الفرح {ببيعكم الذي بايعتم به} فإنه أوجب لكم عظائم المطالب كما قال تعالى: {وذلك هو الفوز العظيم}.
(16/249)
---(1/1412)
تنبيه: هذه الآية مشتملة على أنواع من التأكيد: أوّلها: قوله تعالى: {إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم} بكون المشتري هو الله تعالى المقدّس عن الكذب والخيانة وذلك من أدل الدلائل على تأكيد هذا العهد، ثانيها: أنه تعالى عبر عن إيصاله هذا الثواب بالبيع والشراء وذلك حق مؤكد، ثالثها: قوله تعالى: {وعداً} ووعد الله تعالى حق، رابعها: قوله تعالى:{عليه} وكلمة على للوجوب، خامسها: قوله تعالى: {حقاً} وهو لتأكد التحقيق، سادسها: قوله تعالى: {في التوراة والإنجيل والقرآن} وذلك يجري مجرى إشهاد جميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل على هذه المبايعة، سابعها: قوله تعالى: {ومن أوفى بعهده من الله} وهو غاية في التأكيد، ثامنها: قوله تعالى: {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} وأيضاً هو مبالغة في التأكيد، تاسعها: قوله تعالى: {وذلك هو الفوز}، وعاشرها قوله تعالى: {العظيم} فثبت اشتمال هذه الآية على هذه الوجوه العشرة في التأكيد والتقرير والتحقيق.g
ولما ذكر تعالى في هذه الآية أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بين أنّ أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات التسعة الآتية: أولها: قوله تعالى:
(16/250)
---
{التائبون} وهو مرفوع على المدح أي: هم التائبون يعني المذكورين في قوله تعالى: {إنّ الله اشترى من المؤمنين} وقال الزجاج: لا يبعد أن يكون قوله: {التائبون} مبتدأ وخبره محذوف تقديره التائبون من أهل الجنة وإن لم يجاهدوا لقوله تعالى: {وكلا وعد الله الحسنى} أو خبره ما بعده أي: التائبون عن الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال والتائبون صيغة عموم محلاة بالألف واللام فتتناول التوبة من كل معصية والتوبة إنما تحصل عند أربعة أمور:
أوّلها: احتراق القلب عند صدور المعصية.
ثانيها: الندم على ما مضى.
(16/251)
---
ثالثها: العزم على الترك في المستقبل.(1/1413)
رابعها: أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته فإن كان غرضه منها رفع مذمّة الناس وتحصيل مدحهم أو لغرض من الأغراض الدنيوية فليس بتائب ولا بد من ردّ المظالم إلى أهلها إن كانت.
الصفة الثانية قوله تعالى: {العابدون} أي: الذين أخلصوا العبادة لله وقال الحسن: هم الذين عبدوا الله في السرّاء والضرّاء، وقال قتادة: قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم.
الصفة الثالثة قوله تعالى: {الحامدون} وهم الذين يقومون بحق شكر الله تعالى على نعمه ديناً ودنيا ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أوّل من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السرّاء والضرّاء».
الصفة الرابعة قوله تعالى: {السائحون} واختلف في المراد منهم فقال ابن مسعود وابن عباس: هم الصائمون قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصوم وقال صلى الله عليه وسلم «سياح أمّتي الصوم» وعن الحسن أنّ هذا صوم الفرض، وقيل: هم الذين يديمون الصيام، قال الأزهري: قيل للصائم سائح لأنّ الذي يسيح في الأرض متعبداً لا زاد معه كان ممسكاً عن الأكل والصائم ممسك عن الأكل فلهذا المشابهة يسمى الصائم سائحاً، وقال عطاء: السائحون الغزاة في سبيل الله تعالى.
(16/252)
---
وروي عن عثمان بن مظعون أنه قال: يا رسول الله ائذن لنا في السياحة فقال: «إنّ سياحة أمّتي الجهاد في سبيل الله» وقال عطاء: السائحون هم طلاب العلم والسياحة أمر عظيم في تكميل النفس لأنه يلقى أفاضل مختلفين فيستفيد من كل واحد فائدة مخصوصة وقد يلقى الأكابر من الناس فيستحقر نفسه في مقابلتهم وقد يصل إلى المدارسة الكثيرة فينتفع بها وقد يشاهد اختلاف أحوال أهل الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته وبالجملة فالسياحة لها أثر قوي في الدين.(1/1414)
الصفة الخامسة والسادسة: قوله تعالى: {الراكعون الساجدون} أي: المصلون وإنما عبر عن الصلاة بالركوع والسجود لأنّ بهما يتميز المصلي عن غيره بخلاف حالة القيام والقعود لأنهما حالة المصلي وغيره ولأنّ القيام أوّل مراتب التواضع لله تعالى والركوع وسطها والسجود غايتها فخص الركوع والسجود بالذكر لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية تنبيهاً على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم.
الصفة السابعة والثامنة: وقوله تعالى: {الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر} أي: الآمرون بالإيمان والطاعة والناهون عن الشرك والمعصية ودخول الواو في والناهون عن المنكر للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة فكأنه قال: الجامعون بين الوصفين ولأنّ العرب تعطف بالواو على السبعة ومنه قوله تعالى: {وثامنهم كلبهم} (الكهف، 22)
وقوله تعالى في صفة الجنة: {وفتحت أبوابها}
(الزمر، 22)
إيذاناً بأن التعداد قد تم بالسابع من حيث أن السبعة هو العدد التامّ والثامن تعداد آخر معطوف عليه ولذلك تسمى واو الثمانية، وقيل: الموصون بهذه الصفات هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وعلى هذا يكون قوله تعالى: {التائبون} إلى قوله: {الساجدون} مبتدأ خبره هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
(16/253)
---
الصفة التاسعة: قوله تعالى: {والحافظون لحدود الله} أي: لأحكامه بالعمل بها والمقصود أنّ تكاليف الله تعالى كثيرة وهي محصورة في نوعين: أحدهما: ما يتعلق بالعبادات، والثاني: ما يتعلق بالمعاملات.(1/1415)
فإن قيل: ما الحكمة في أنّ الله تعالى ذكر تلك الصفات الثمانية على التفصيل ثم ذكر عقبها سائر أقسام التكاليف على سبيل الإجمال في هذه الصفة التاسعة؟ أجيب: بأنّ التوبة والعبادة والاشتغال بتحميد الله والسياحة والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور لا ينفك المكلف عنها في أغلب أوقاته فلهذا ذكرها الله تعالى على سبيل التفصيل، وأمّا البقية فقد ينفك المكلف عنها في أكثر أوقاته مثل أحكام البيع والشراء وأحكام الجنايات ودخل في هذه الصفة التاسعة رعاية أحوال القلوب بل البحث عنها، والمبالغة في الكشف عن حقائقها أولى لأنّ أعمال الجوارح إنما تراد لأجل تحصيل أعمال القلوب.
ثم ذكر سبحانه وتعالى عقب هذه الصفات التسعة قوله تعالى: {وبشر المؤمنين} تنبيهاً على أن البشارة في قوله تعالى: {فاستبشروا} لم تتناول إلا المؤمنين الموصفين بهذه الصفات التسعة وحذف تعالى المبشر به للتعظيم فكأنه قيل: وبشرهم بما يجل عن إحاطة الإفهام وتعبير الكلام.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى:
(16/254)
---
{ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} فقال سعيد بن المسيب عن أبيه إنه نزل في شأن أبي طالب وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم جاء لعمه أبي طالب لما حضرته الوفاة فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أمية فقال: «أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان عليه إلى تلك المقالة حتى قال أبو طالب: آخر ما كلمهم أنا على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال صلى الله عليه وسلم «والله لأستغفرن لك ما لم أنه عن ذلك» فنزل ذلك.(1/1416)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: «قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة» قال: لولا يعيرني قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك فأنزل الله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت} (القصص، 56)
الآية.
وقال بريدة لما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة أتى قبر أمّه آمنة فوقف عليه حتى حميت الشمس رجاء أن يؤذن له يستغفر لها فنزل {ما كان للنبيّ} الآية، وقال أبو هريرة: زار النبيّ صلى الله عليه وسلم قبر أمّه آمنة فبكى وأبكى من حوله وقال: استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته أن أزورها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت، وقال قتادة: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له: تستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال: استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه وهو مشرك فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.
(16/255)
---
وروى الطبراني بسنده عن قتادة قال: ذكر لنا أنّ رجالاً قالوا: يا نبيّ الله إنّ من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الرحم ويفك العاني أفلا نستغفر لهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم «والله لأستغفرنّ لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» فأنزل الله تعالى {ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعدما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} أي: بأن ماتوا على الكفر قال البيضاوي: وفيه دليل على جواز الاستغفار لأحيائهم فإنه طلب توفيقهم للإيمان وبه دفع النقض باستغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه الكافر فقال:(1/1417)
{وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه} أي: وعدها إبراهيم أباه بقوله: لأستغفرنّ لك أي: لأطلبنّ مغفرة لك بالتوفيق للإيمان فإنه يجب أي: يقطع ويمحو ما قبله، وقرأ هشام: أبراهام بالألف بعد الهاء في الموضعين، والباقون بالياء فيهما {فلما تبيّن له أنه عدو } بأن مات على الكفر أو أوحى الله تعالى إليه إنه لن يؤمن {تبرأ منه} أي: قطع استغفاره {إنّ إبراهيم لأوّاه} أي: كثير التضرع والدعاء {حليم} أي: صبور على الأذى والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار لأبيه مع صعوبة خلق أبيه عليه.
(16/256)
---
{وما كان الله ليضل قوماً} أي: يفعل بهم ما يفعل بالضالين من العقوبة لأجل ارتكابهم المنهي عنه {بعد إذ هداهم} للإسلام {حتى يبيّن لهم} بياناً شافياً لداء العمى {ما يتقون} أي: ما يجب اتقاؤه للنهي، أمّا قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهي عنه، وقيل: إنه في قوم مضوا على الأمر الأول في القبلة والخمر وغير ذلك، وفي الجملة دليل على أنّ الغافل غير مكلف {إنّ الله بكل شيء عليم} أي: بالغ العلم فهو يبيّن لكم ما تأتون وما تذرون مما يتوقف عليه الهدى وما تركه تعالى فإنما يتركه رحمة لكم لا يضل ربي ولا ينسى.
{إن الله له ملك السموات والأرض} فلا يخفى عليه شيء فهو خبير بكل ما ينفعكم أو يضرّكم {يحيي ويميت} أي: يحيي من شاء على الإيمان ويميته عليه ويحيي من شاء على الكفر ويميته عليه لا اعتراض لأحد عليه في حكمه وعبيده {وما لكم} أيها الناس {من دون الله} أي: غيره {من ولي} يحفظكم منه {ولا نصير} يمنع عنكم ضرره.(1/1418)
{لقد تاب الله} أي: أدام توبته {على النبيّ والمهاجرين والأنصار} وافتتح الله تعالى الكلام بذكر توبة النبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه كان سبب توبتهم فذكره معهم كقوله تعالى: {فأنّ خمسه وللرسول} (الأنفال، 41)
ونحوه، وقيل: هو بعث على التوبة والمعنى ما من أحد إلا وهو محتاج إلى التوبة حتى النبيّ صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار لقوله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعاً} (النور، 31)
إذ ما من أحد إلا وله مقام ينتقص دونه ما هو فيه والترقي إليه توبة من تلك النقيصة وإظهار لفضلها بأنها مقام الأنبياء والصالحين من عباده.
(16/257)
---
فائدة: اتفق القرّاء على إدغام دال قد في التاء. {الذين اتبعوه في ساعة العسرة} أي: في وقت العسرة لم يرد ساعة بعينها وكانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة والجيش يسمى جيش العسرة والعسرة الشدّة فكانت عليهم عسرة في الظهر والزاد والماء.
قال الحسن: كان العشرة منهم يخرجون على بعير واحد يتعقبونه يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك وكان زادهم التمر المسوّس والشعير المتغير وكان النفر يخرجون ما معهم إلا التمرات اليسيرة بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه فيمصها ثم يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى تأتي على آخرهم ولا يبقى من التمرة إلا النواة فمضوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين ورضي عنا بهم آمين.(1/1419)
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أنّ رقابنا ستقطع حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه ويشربه ويجعل ما بقي على كبده وحتى أن الرجل كان يذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أنّ رقبته ستقطع فقال أبو بكر: يا رسول الله إنّ الله تعالى قد عوّدك في الدعاء خيراً فادع الله تعالى قال: «أتحب ذلك؟» قال: نعم، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فلم يرجعا حتى أظلت السماء ثم سكبت فملأنا ما معنا ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر. {من بعدما كاد تزيغ} أي: قرب أن تميل {قلوب فريق منهم} أي: همّ بعضهم عند تلك العسرة العظيمة أن يفارق النبيّ صلى الله عليه وسلم لكنه صبر واحتسب ولم يرد الميل عن الدين فلذلك قال الله تعالى: {ثم تاب عليهم} لما صبروا وثبتوا وندموا على ذلك الأمر العسير.
(16/258)
---
فإن قيل: قد ذكر الله تعالى التوبة أولاً ثم ذكرها ثانياً فما فائدة التكرار؟ أجيب: بأنّ الله تعالى ذكر التوبة أوّلاً قبل ذكر الذنب تفضلاً منه وتطبيباً لقلوبهم ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرّة أخرى تعظيماً لشأنهم وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم وعفا عنهم. وقرأ حفص وحمزة: يزيغ، بالياء على التذكير لأنّ تأنيث القلوب غير حقيقي، والباقون بالتاء على التأنيث، وأدغم أبو عمرو الدال من كاد في التاء بخلاف عنه {إنه بهم رؤوف رحيم} هاتان صفتان لله تعالى ومعناهما متقارب فالرأفة عبارة عن السعي في إزالة الضرّ والرحمة عبارة عن السعي في إيصال المنفعة، وقيل: إحداهما للرحمة السابقة والآخرى للمستقبلة وقوله تعالى:
(16/259)
---(1/1420)
{وعلى الثلاثة الذين خلفوا} أي: عن غزوة تبوك وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع معطوف على الآية الأولى والتقدير لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة وعلى الثلاثة الذين خلفوا، وفائدة هذا العطف بيان قبول توبتهم، وهذه الثلاثة كلهم من الأنصار وهم المذكورون في قوله تعالى: {وآخرون مرجون لأمر الله} (التوبة، 106)
(16/260)
---
روي عن ابن شهاب الزهري قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال: وكان أعلم قومه وأوعاهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قال كعب: كان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزوة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فأخبرهم بوجهه الذي يريد فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئاً فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا فهممت أن أرتحل وأدركهم وليتني فعلت فلم يقدر لي ذلك وكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أن لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصاً في النفاق أو رجلاً ممن عذر الله تعالى من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب؟» فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه والنظر في معطفيه فقال معاذ بن جبل: بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمت عليه إلا خيراً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كعب: فلما بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه قافلاً حضرني همي وطفقت أذكر(1/1421)
الكذب وأقول بمَ أخرج به من سخطه غداً واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلّ قادماً راح عني الباطل وعرفت إني لم أخرج بشيء أبداً فيه كذب وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس وجاءه المخلفون يتعذرون إليه ويحلفون له وكانوا تسعة وثمانين رجلاً فقبل منهم صلى الله
(16/261)
---
عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم الغضبان ثم قال: تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: «ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟» قلت: بلى يا رسول الله والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطك بعذر ولقد أعطيت جزلاً ولكنني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديت كذب ترضى به عني ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ ولئن حدّثتك حديث صدق تجد
(16/262)
---(1/1422)
عليّ فيه إني لأرجو فيه عفو الله ما كان لي من عذر والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمّا هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك» فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني وقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا وقد كان كافيك لذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لهم: هل أتى هذا معي أحد؟ قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع وهلال بن أمية فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً ففيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس ولبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أثبت القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين وأطوف بالأسواق ولا يكلمني أحد وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بردّ السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسوّرت حائط أبي قتادة وهو ابن عمّ لي وأحب الناس إليّ فسلمت عليه فوالله ما ردّ عليّ السلام فقلت: يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلمني أحبّ الله ورسوله فسكت فعدت له فنشدته فسكت فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت فبينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا بنبطيّ من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه يقول: من يدلني على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى جاءني فدفع إليّ كتاباً من ملك غسان فإذا فيه: أما بعد فقد بلغني أنّ صاحبك جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك فقلت حين قرأته: وهذا أيضاً من البلاء(1/1423)
(16/263)
---
فيممت به التنور فسجرته به حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهنّ فقلت لامرأتي: إلحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله تعالى في هذا الأمر قال كعب: فجاءت امرأة هلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: إنّ هلالاً شيخ ضعيف ليس له خادم هل تكره أن أخدمه؟ فقال: اخدميه ولكن لا يقربك قالت: والله إنه ما به حركة إلى شيء والله لا يزال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا فقال بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك لأذن لك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ما يقول إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا فبينما أنا جالس على الحال الذي ذكره الله تعالى في قوله: {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت} أي: مع رحبها أي: سعتها فلا يجدون مكاناً يطمئنون إليه {وضاقت عليهم أنفسهم} أي: قلوبهم بالغم والوحشة أي: بتأخير توبتهم فلا يسعها سرور ولا أنس {وظنوا} أي: أيقنوا {أن} مخففة {لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم} أي: وفقهم للتوبة {ليتوبوا إنّ الله هو التوّاب الرحيم} إذ سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع ينادي بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجداً وعرفت أنه جاء فرج وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله تعالى علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبيّ مبشرون ورجل رحل إلي فرساً وسعى ساع من أسلم فأوفى إلى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ وكسوته إياهما والله ما أملك غيرهما يومئذٍ واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه(1/1424)
وسلم فتلقاني
(16/264)
---
الناس فوجاً فوجاً يهنؤنني بالتوبة ويقولون: ليهنك توبة الله عليك قال كعب حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني رضي الله تعالى عنه والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك» ثم تلا علينا الآية، وعن أبي بكر الوراق أنه سئل عن التوبة النصوح فقال: أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه.
ولما حكم الله بقبول توبة هؤلاء الثلاثة ذكر ما يكون كالزاجر عن مثل فعل ما مضى وهو التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد بقوله تعالى:
{يأيها الذين آمنوا اتقوا الله} أي: بترك معاصيه {وكونوا مع الصادقين} أي: مع النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أجمعين في الغزوات ولا تكونوا متخلفين عنها وجالسين مع المنافقين في البيوت وقيل: كونوا مع الذين صدقوا في الاعتراف بالذنب ولم يعتذروا بالأعذار الباطلة الكاذبة وقيل مع بمعنى من أي: وكونوا من الصادقين.
تنبيه: في الآية دلالة على فضيلة الصدق وكمال درجته ويدلّ عليه أيضاً أشياء:
منها ما روي عن ابن مسعود أنه قال: عليكم بالصدق فإنه يقرب إلى البرّ والبرّ يقرب إلى الجنة وإنّ العبد ليصدق فيكتب عند الله تعالى صدّيقاً وإياكم والكذب فإنّ الكذب يقرّب إلى الفجور والفجور يقرّب إلى النار وإنّ الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ألا ترى أنه يقال: صدقت وبررت وكذبت وفجرت.
(16/265)
---(1/1425)
ومنها ما روي أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: إني رجل أريد أن أومن بك إلا أني أحبّ الخمر والزنا والسرقة والكذب والناس يقولون إنك تحرّم هذه الأشياء ولا طاقة لي على تركها فإن قنعت مني بترك واحدة منها فعلت فقال صلى الله عليه وسلم «اترك الكذب» فقبل ذلك ثم أسلم فلما خرج من عند النبيّ صلى الله عليه وسلم عرضوا عليه الخمر فقال: إن شربت وسألني النبيّ صلى الله عليه وسلم وكذبت فقد نقضت العهد وإن صدقت أقام عليّ الحدّ فتركها ثم عرضوا عليه الزنا فجاء ذلك الخاطر فتركه وكذا في السرقة فعاد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: ما أحسن ما فعلت لما منعتني عن الكذب انسدّت أبواب المعاصي عليّ وفات الكل.
ومنها ما قيل في قوله تعالى حكاية عن إبليس {فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} (ص، 82، 83)
لأنّ إبليس إنما ذكر هذا الاستثناء لأنه لو لم يذكره لصار كاذباً في ادّعاء إغواء الكل فكأنه استنكف عن الكذب فذكر هذا الاستثناء وإذا كان الكذب شيئاً يستنكف منه إبليس لعنه الله فالمسلم أولى أن يستنكف منه.
ومنها قول ابن مسعود: الكذب لا يصلح في جدّ ولا هزل ولا أن يعد أحدكم أخاه ثم لا ينجز له اقرأوا إن شئتم وكونوا مع الصادقين.
{ما كان} أي: ما صح وما ينبغي بوجه من الوجوه {لأهل المدينة} أي: دار الهجرة ومعدن النصرة {ومن حولهم} أي: في جميع نواحي المدينة الشريفة {من الأعراب} أي: سكان البوادي وهم مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار، وقيل: عام في كل الأعراب لأنّ اللفظ عام وحمله على العموم أولى وقوله تعالى: {أن يتخلفوا عن رسول الله} أي: عن حكمه وقوله تعالى: {ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} أي: بأن يصونوها عما رضي لنفسه عليه الصلاة والسلام من الشدائد يجوز فيه النصب والجزم على أن لا ناهية.
(16/266)
---(1/1426)
روي عن أبي خيثمة أنه بلغ بستانه واستوى ونضج وله امرأة حسناء فرشت له في الظلّ وبسطت له الحصير وقربت له الرطب والماء البارد فقال: ظلّ ظليل ورطب يانع أي: ناضج وماء بارد وامرأة حسناء ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح ما هذا بخير فقام فرجل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومرّ كالريح فمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب أي: يدفعه وهو عبارة عن السرعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كن أبا خيثمة» فكان هو ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفر له {ذلك} أي: النهي عن التخلف {بأنهم} أي: بسبب إنهم {لا يصيبهم ظمأ} أي: عطش {ولا نصب} أي: تعب {ولا مخمصة} أي: مجاعة {في سبيل الله} أي: في طريق دينه {ولا يطؤن} أي: يدوسون وقوله تعالى: {موطئاً} مصدر أي: وطأ أو مكان وطء {يغيظ} أي: يغضب {الكفار} أي: وطؤهم له بأرجلهم ودوابهم {ولا ينالون من عدوّ نيلاً} أي: قتلاً أو أسراً أو غنيمة أو هزيمة أو نحو ذلك قليلاً كان أو كثيراً {إلا كتب لهم به} أي: بذلك {عمل صالح} أي: ثواب جزيل عند الله تعالى يجازيهم به {إنّ الله لا يضيع أجر المحسنين} أي: لا يترك ثوابهم وأظهر موضع الإضمار تنبيهاً على أنّ الجهاد إحسان.
تنبيه: في هذه الآية دلالة على أنّ من قصد طاعة الله تعالى كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله تعالى وكذا القول في طرف المعصية فإنّ حركته فيها كلها سيآت فما أعظم بركة الطاعة وما أكبر ذل المعصية إلا أن يغفرها الله تعالى.
وعن أبي عيسى رضي الله تعالى عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من اغبرّت قدماه في سبيل الله حرّمه الله تعالى على النار».
(16/267)
---(1/1427)
{ولا ينفقون} في سبيل الله {نفقة صغيرة} تمرة فما دونها {ولا كبيرة} أي: أكثر منها مثل ما أنفق عثمان رضي الله تعالى عنه في جيش العسرة {ولا يقطعون} أي: يجاوزون {وادياً} أي: أرضا في سيرهم مقبلين أو مدبرين {إلا كتب لهم} ذلك من الإنفاق وقطع الوادي {ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} أي: يجزيهم الله جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجل وأفضل وهو الثواب.
فائدة: الوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسبيل وهو في الأصل فاعل من ودى إذا سال ومنه الوادي وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض يقولون: لا تصلّ في وادي غيرك.
تنبيه: في الآية دليل على فضل الجهاد والإنفاق فيه ويدل عليه أشياء:
منها ما روي عن ابن مسعود قال: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة».
ومنها ما روي عن زيد بن خالد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازياً في سبيل الله فقد غزا».
ومنها ما روي عن سهل بن سعد الساعديّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها» وفي رواية وما فيها.
ومنها ما روي عن أبي سعيد الخدري أنّ رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ الناس أفضل؟ قال: «مؤمن مجاهد بنفسه في سبيل الله» قال: ثم أيّ؟ قال: «ثم رجل في شعب من الشعاب يعبد الله تعالى» وفي رواية يتقي الله ويدع الناس من شرّه وقوله تعالى:
{وما كان المؤمنون لينفروا كافة} فيه احتمالان:
الأول أنه كلام مبتدأ لا تعلق له بالجهاد.
(16/268)
---(1/1428)
والثاني أن يكون من بقية أحكام الجهاد فعلى الأوّل يقال: وما استقام لهم أن ينفروا جميعاً لنحو غزو وطلب علم كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعاً فإنه يخلّ بأمر المعاش {فلولا} أي: فهلا {نفر من كل فرقة} أي: قبيلة {منهم طائفة} أي: جماعة ومكث الباقون {ليتفقهوا} أي: ليتكلفوا الفقاهة {في الدين} ويتجشموا مشاق تحصيلها ليعرفوا الحلال من الحرام ويعودوا إلى أوطانهم {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم} أي: وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من الفقاهة إرشاد القوم وإنذارهم وتخصيصه بالذكر لأنه أهمّ وفيه دليل على أنّ التفقه والتذكير من فروض الكفاية وأنه ينبغي أن يكون غرض المتكلم فيه أن يستقيم ويقيم لا الترفع على الناس وصرف وجوههم إليه والتبسط في البلاد ليدخل في قوله صلى الله عليه وسلم «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» وفي قوله صلى الله عليه وسلم «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» وفي قوله صلى الله عليه وسلم «من سلك طريقاً يلتمس فيها علماً سهل الله تعالى له طريقاً إلى الجنة» {لعلهم يحذرون} عقاب الله تعالى بامتثال أمره ونهيه، وعلى الاحتمال الثاني يقال: إنه لما نزل في المتخلفين ما نزل سبق المؤمنين إلى النفير وانقطعوا عن التفقه فأمروا بأن ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد ويمكث الباقون يتفقهون حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر لأنّ الجدال بالحجة هو الأصل والمقصود من البعثة فيكون الضمير في ليتفقهوا ولينذروا لبواقي الفرق بعد الطوائف النافرة للغزو وفي رجعوا للطوائف ولينذروا لباقي قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا أيام غيبتهم من العلوم قال ابن عباس: فهذه مخصوصة بالسرايا والتي قبلها بالنهي عن تخلف أحد فيما إذا خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم
(16/269)
---(1/1429)
أمروا بقتال الأقرب منهم فالأقرب كما أمر صلى الله عليه وسلم أوّلاً بإنذار عشيرته الأقربين، وقد حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ثم غيرهم من عرب الحجاز ثم غزا الشام، وقيل: هم قريظة والنضير وفدك وخيبر، وقيل: الروم لأنهم كانوا يسكنون الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق وغيره وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم ما لم يضطرّوا إلى أهل ناحية أخرى {وليجدوا فيكم غلظة} أي: شدّة وصبراً على القتال والغلظة ضدّ الرقة أي: اغلظوا عليهم {واعلموا أنّ الله مع المتقين} بالعون والنصرة والحراسة.
(16/270)
---
{وإذا ما أنزلت سورة} من القرآن {فمنهم} أي: المنافقين {من يقول} أي: لأصحابه إنكاراً واستهزاءً بالمؤمنين {أيكم زادته هذه} السورة {إيماناً} أي: تصديقاً، قال الله تعالى: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً} بزيادة العلم الحاصل في تدبر السورة وانضمام الإيمان بها وبما فيها إلى إيمانهم {وهم يستبشرون} أي: يفرحون بنزولها لأنه سبب لزيادة كمالهم وارتفاع درجاتهم {وأما الذين في قلوبهم مرض} أي: شك ونفاق سمي الشك في الدين مرضاً لأنه فساد في القلب يحتاج إلى علاج كالمرض في البدن إذا حصل يحتاج إلى علاج {فزادتهم} أي: السورة أي: نزولها {رجساً إلى رجسهم} أي: كفراً بها مضموماً إلى الكفر بغيرها {وماتوا} أي: هؤلاء المنافقون {وهم كافرون} أي: وهم جاحدون لما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم قال مجاهد: في هذه الآية دليل على أنّ الإيمان يزيد وينقص، وكان عليّ رضي الله تعالى عنه يأخذ بيد الرجل والرجلين من الصحابة ويقول: تعالوا حتى نزداد إيماناً وقوله تعالى:(1/1430)
{أولا يرون} قرأه حمزة بالتاء أي: أيها المؤمنون والباقون بالياء على الغيبة أي: المنافقون {أنهم يفتنون} أي: يبتلون {في كل عام مرّة أو مرّتين} بالأمراض والقحط والحرب {ثم لا يتوبون} من نفاقهم ونقض عهودهم إلى الله تعالى {ولا هم يذكرون} أي: ولا يتعظون بما يرون من نصرته صلى الله عليه وسلم وتأييده.
(16/271)
---
{وإذا ما أنزلت سورة} فيها عيب المنافقين وتوبيخهم وقرأها صلى الله عليه وسلم {نظر بعضهم إلى بعض} أي: تغامزوا بالعيون إنكاراً لها وسخرية أو غيظاً لما فيها من عيوبهم ويريدون الهرب يقولون: {هل يراكم من أحد} أي: من المؤمنين إذا قمتم فإن لم يرهم أحد قاموا وخرجوا من المسجد وإن علموا أنّ أحداً يراهم ثبتوا على تلك الحالة {ثم انصرفوا} على كفرهم ونفاقهم وقيل: انصرفوا عن مواضعهم التي يسمعون فيها ما يكرهون وقوله تعالى: {صرف الله قلوبهم} أي: عن الهدى يحتمل الإخبار والدعاء {بأنهم} أي: بسبب أنهم {قوم لا يفقهون} أي: لسوء فهمهم وعدم تدبرهم.
(16/272)
---(1/1431)
{لقد جاءكم رسول من أنفسكم} أي: من جنسكم عربيّ مثلكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم تعرفون حسبه ونسبه، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ليس قبيلة من العرب إلا وقد ولدت النبيّ صلى الله عليه وسلم وله فيها نسب وقال جعفر بن محمد الصادق: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية من زمن آدم عليه السلام، وعن الطبرانيّ قال صلى الله عليه وسلم «إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح»، وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام» وعن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسمعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام دال قد في الجيم والباقون بالإظهار {عزيز} أي: شديد شاق {عليه ما عنتم} أي: عنتكم وإيتاؤكم المكروه وقيل: يشق عليه ضلالتكم {حريص عليكم} أي: أن تهتدوا أو على إيصال الخير إليكم {بالمؤمنين} أي: منكم ومن غيركم {رؤوف} أي: شديد الرحمة بالمطيعين {رحيم} بالمذنبين وقدّم الأبلغ وهو الرؤوف محافظة على الفواصل، وعن الحسن بن الفضل: لم يجمع الله تعالى لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم فسماه رؤوفاً رحيماً، وقال تعالى: {إنّ الله بالناس لرؤوف رحيم} وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص بمدّ الهمزة من رؤوف، والباقون بالقصر.
(16/273)
---(1/1432)
{فإن تولوا} أي: فإن أعرضوا هؤلاء الكفار والمنافقون عن الإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وناصبوك الحرب {فقل حسبي الله} أي: يكفيني الله وينصرني عليكم وإنما كان كافياً لأنه {لا إله إلا هو} فلا مكافىء له ولا رادّ لأمره ولا معقب لحكمه {عليه توكلت} أي: فلا أرجو إلا إياه ولا أخاف إلا منه لأنّ أمره نافذ في كل شيء {وهو رب العرش} أي: الكرسي {العظيم} وخصه بالذكر تشريفاً له ولأنه من أعظم مخلوقاته سبحانه وتعالى.
روي عن أبيّ بن كعب قال: آخر ما نزل من القرآن هاتان الآيتان: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} إلى آخر السورة، وقال: هما أحدث الآيات بالله عهداً وما رواه البيضاويّ رحمه الله تعالى تبعاً للكشاف من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما أنزل عليّ القرآن إلا آية آية وحرفاً حرفاً ما خلا سورة براءة وقل هو الله أحد فإنهما أنزلا عليّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة» حديث منكر ومخالف لما مرّ عن أبيّ من أنّ آخر ما نزل الآيتان، انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(16/274)
---(1/1433)
الكتاب : السراج المنير للخطيب الشربينى
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» {فآمنوا با ورسله} أي: عيسى وغيره ولا تؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض {ولا تقولوا} كما قالت النصارى: الآلهة {ثلاثة} الله وعيسى وأمه، قال تعالى: {انتهوا} عن ذلك وائتوا {خيراً لكم} من ذلك وهو التوحيد {إنما الله إله واحد} أي: لا تعدّد فيه بوجه مّا {سبحانه} تنزيهاً له {أن} أي: عن أن {يكون له ولد} أي: كما قلتم أيها النصارى، فإنّ ذلك يقتضي الحاجة ويقتضي التركيب والمجانسة، ثم علل ذلك بقوله: {له ما في السموات وما في الأرض} خلقاً وملكاً، فلا يتصوّر أن يحتاج إلى شيء منهما، ولا إلى شيء متحيّز فيهما، ولا يصح بوجه أن يكون بعض ما يملكه المالك جزأ منه وولداً له؛ لأنّ المكية تنافي البنوة، وعيسى وأمه كل منهما محتاج إلى ما في الوجود {وكفى با وكيلاً} أي: يحتاج إليه كل شيء ولا يحتاج هو إلى شيء، فهو غني عن الولد، فإنّ الحاجة إليه ليكون وكيلاً لأبيه، والله سبحانه وتعالى قائم بحفظ الأشياء كافٍ في ذلك مستغن عمن يخلفه أو يعينه.
روي أنّ وفد نجران قالوا: يا رسول الله لم تعيب صاحبنا؟ قال: «ومن صاحبكم؟» قالوا: عيسى قال: «وأيّ شيء أقول؟» قالوا: تقول إنه عبد الله قال: «إنه ليس بعار أن يكون عبداً لله» قالوا: بلى، فنزل قوله تعالى:
(2/351)
---(1/1434)
{لن يستنكف}» أي: يتكبر ويأنف {المسيح} أي: الذي زعمتم إنه إله {أن} أي: عن أن {يكون عبد الله} فإنّ عبوديته له شرف يتباهى به وإنما المذلة والاستنكاف في عبودية غيره وقوله تعالى: {ولا الملائكة المقرّبون} أي: عند الله عطف على المسيح أي: ولا تستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيداً لله، وهذا من أحسن الاستطراد ذكر للرد على من زعم إنها آلهة أو بنات الله كما ردّ بما قبله على النصارى الزاعمين ذلك المقصود خطابهم، فلا حجة فيه على أن الملائكة أفضل من الأنبياء كما زعمه بعض المعتزلة قائلاً بأنّ المعطوف أعلى درجة من المعطوف عليه.
قال الطيبي: وإنما تنهض الحجة على النصارى إذا سلموا أن الملائكة أفضل من عيسى ودونه خرط القتاد، فكيف والنصارى رفعوا درجة عيسى إلى الإلهية، فظهر أن ذكر الملائكة للاستطراد كما ردّ على النصارى وأنه من باب التتميم لا من باب الترقي اه. أو من باب الترقي في الخلق لا في المخلوق كما قاله البقاعي، قال: لأن الملائكة أعجب خلقاً من عيسى في كونهم ليسوا من ذكر ولا أنثى، ولا ما يجانس عضو البشر فكانوا لذلك أعجب خلقاً من آدم عليه الصلاة والسلام أيضاً أو في القوّة؛ لأنهم أقوى من عيسى؛ لأنهم يقتلعون الجبال ويأتون بالمياه العظيمة والعبادات الدائمة المستمرّة {ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر} أي: يطلب الكبر عن ذلك قال الراغب: الاستنكاف تكبر في أنفة والاستكبار بخلافه {فسيحشرهم} أي: المستكبرين وغيرهم {إليه جميعاً} في الآخرة بوعد لا يخلف فيجازيهم.
(2/352)
---(1/1435)
{فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} تصديقاً لإقرارهم بالإيمان {فيوفيهم أجورهم} أي: ثواب أعمالهم {ويزيدهم من فضله} أي: ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {وأما الذين استنكفوا واستكبروا} عن عبادته {فيعذبهم عذاباً أليماً} أي: مؤلماً هو عذاب النار بما وجدوا من لذاذة الترفع والتكبر {ولا يجدون لهم} أي: حالاً ولا مآلاً {من دون الله} أي: غيره {ولياً} يدفعه عنهم {ولا نصيراً} يمنعهم منه.
{يأيها الناس} أي: كافة أهل الكتاب وغيرهم {قد جاءكم برهان من ربكم} أي: حجة نيرة واضحة مفيدة لليقين التام وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأدلة القاطعة من المعجزات وغيرها {وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} أي: واضحاً في نفسه موضحاً لغيره وهو القرآن الجامع بإعجازه وحسن بيانه، فلم يبق لكم عذر ولا علة، وقيل: المراد بالبرهان المعجزات وبالنور القرآن.
{فأما الذين آمنوا با واعتصموا به فسيدخلهم} أي: بوعد لا خلف فيه {في رحمة منه} أي: ثواب عظيم هو رحمته لهم لا بشيء استوجبوه {وفضل} أي: إحسان زائد عليه {ويهديهم} أي: في الدنيا والآخرة {إليه صراطاً مستقيماً} أي: طريقاً مستقيماً وهو الإسلام والطاعة في الدنيا والجنة في الآخرة.
{س4ش176 يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَةِ? إِنِ امْرُؤٌا? هَلَكَ لَيْسَ لَهُ? وَلَدٌ وَلَهُ?? أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ? وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَآ وَلَدٌ? فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ? وَإِن كَانُو?ا? إِخْوَةً رِّجَا? وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ا?نثَيَيْنِ? يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا?? وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمُ? }
{يستفتونك} أي: في الكلالة حذف لدلالة الجواب عليه.
(2/353)
---(1/1436)
روي أن جابر بن عبد الله قال: «عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب عليّ من وضوئه فعقلت وقلت: يا رسول الله لمن الميراث وإنما يرثني كلالة» فنزل: {يستفتونك} {قل الله يفتيكم في الكلالة} وقد تقدّم معنى الكلالة وحكم الآية في أوّل السورة وفي هذه الآية بيان حكم ميراث الأخوة للأب والأم أو للأب، وقوله تعالى: {إنّ امرؤ} هو مرفوع بفعل يفسره {هلك} أي: مات {ليس له ولد} أي: ولا والد وهو الكلالة، قال الأصبهاني عن الشعبي: اختلف أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في الكلالة فقال أبو بكر: هو ما عدا الوالد، وقال عمر: ما عدا الوالد والولد ثم قال عمر: إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر وقوله تعالى: {وله أخت} يحتمل الحال والعطف والمراد بالأخت الأخت من الأبوين أو الأب لأنه جعل أخوها عصبة والذي لأم لا يكون عصبة والولد يشمل الذكر والأنثى فإنّ الأخت وإن ورثت مع البنت قد لا ترث النصف وذلك عند تعدد البنت {فلها نصف ما ترك وهو} أي: هذا الأخ للميت {يرثها} أي: إن ماتت هي وبقي هو جميع مالها {إن لم يكن لها ولد} فإن كان لها ولد ذكر فلا شيء له أو أنثى فله ما فضل عن نصيبها ولو كانت الأخت أو الأخ من الأم ففرضه السدس كما مرّ أوّل السورة {فإن كانتا} أي: الأختان {اثنتين} أي: فصاعداً لأنها نزلت في جابر وقد مات عن أخوات {فلهما الثلثان مما ترك} أي: الأخ {وإن كانوا} أي: الورثة {إخوة رجالاً ونساءً فللذكر} منهم {مثل حظ الأنثيين يبيّن الله لكم} أي: ولم يكلكم في بيانه إلى بيان غيره، وقال مرغباً مرهباً {أن} أي: كراهة أن {تضلوا} وقيل: لئلا تضلوا فحذف لا وهو قول الكوفيين، وقيل: يبيّن الله لكم ضلالكم أي: الذي من شأنكم أي: إذا خليتم وطباعكم لتحترزوا عنه وتتحروا خلافه {والله بكل شيء عليم} فهو عالم بمصالح العباد في المحيا والممات ومنه الميراث.
(2/354)
---
3 ـ أول يونس ـ آخر سورة الإسراء(1/1437)
سورة يونس
عليه السلام مكية
إلا فإن كنت في شك الآيتين أو الثلاث أو {ومنهم من يؤمن به} الآية مائة وتسع أو عشر آيات وعدد كلماتها ألف وثمانمائة واثنتان وثلاثون كلمة، وحروفها سبعة آلاف وخمسمائة وسبعة وستون حرفاً، وهي أوّل المئين، إن جعلنا براءة مع الأنفال من الطوال، وإلا فبراءة أولاهن.
{بسم الله} جامع العباد بعد تفريقهم بما له من العظمة والامتنان. {الرحمن} الذي عمهم بالإيجاد وخص منهم من شاء بالإيمان. {الرحيم} الذي خص أولياءه بالرضوان المبيح للجنان.
(3/1)
---
{الر} قال ابن عباس والضحاك و{الر} أنا الله أرى، {والمر} أنا الله أعلم وأرى. وقيل: أنا الرب لا رب غيري. وقال سعيد بن جبير: الر وحم ونون حروف اسم الرحمن. وقد سبق الكلام على حروف الهجاء أوّل البقرة، واتفقوا على أنّ {الر} وحده ليس آية، واتفقوا على أنّ قوله طه وحده آية، والفرق أنّ قوله تعالى: الر لا يشاكل كل مقاطع الآي التي بعده بخلاف قوله تعالى طه؛ فإنه يشاكل مقاطع الآي التي بعده، وقرأ قالون وابن كثير وحفص بفتح الراء والألف بعدها، وورش بين اللفظين، والباقون بالإمالة المحضة. {تلك} أي: الآيات العظيمة جدًّا التي اشتملت عليها هذه السورة أو السورة، التي تقدّمت هذه السورة أو هذه الحروف المقطعة المشيرة إلى أنَّ القرآن كلام الله تعالى قد أعجز القادرين على التلفظ بهذه الأحرف. {آيات الكتاب} أي: الذكر الجامع لكل خير وهو هذا القرآن الذي وافق كل ما فيه من القصص كلّ ما في التوراة والإنجيل من ذلك فدل ذلك على صدق الآتي به قطعاً؛ لأنه لم يكن يعرف شيئاً من الكتابين ولا جالس أحداً يعلمه. {الحكيم} أي: المحكم. وقوله تعالى:
(3/3)
---(1/1438)
{أكان للناس} أي: أهل مكة، استفهام إنكار للتعجب. وقوله تعالى: {عجباً} خبر كان، والعجب تغير النفس بما لا تعرف سببه مما خرج عن العادة، ثم ذكر الحامل على العجب؛ وهو اسم كان بقوله تعالى: {أن أوحينا} أي: إيحاؤنا {إلى رجل منهم} أي: من أهل مكة ومن قريش، وهو محمد صلى الله عليه وسلم يعرفون صدقه ونسبه وأمانته، قيل: كانوا يقولون: العجب أنّ الله تعالى لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب، وهو من فرط حماقتهم وقصور نظرهم على الأمور العاجلة، وجهلهم بحقيقة الوحي والنبوّة، وهو لم يكن صلى الله عليه وسلم يقصر عن عظمائهم فيما يعتبر فيه إلا في المال، وخفة المال أهون شيءٍ في هذا الباب، ولذلك كان أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله كذلك، وقد قال الله تعالى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى} (سبأ 37)
{أن أنذر الناس} عامّة، أي: أعلمهم مع الخوف ما أمامهم من البعث وغيره، وأن هي المفسرة؛ لأنّ الإيحاء فيه معنى القول. {وبشر الذين آمنوا} إنما عمم في الإنذار لأنه قل أن يسلم أحد من كبيرة أو صغيرة أو هفوة جليلة أو حقيرة على اختلاف الرتب وتباين المقامات، وخصص البشارة إذ ليس للكافر ما يصح أن يبشر به. {أنَّ} أي: بأنَّ. {لهم قدم} أي: سلف {صدق عند ربهم} اختلفت عبارات المفسرين وأهل اللغة في معنى قدم صدق، فقال ابن عباس: أجراً حسناً مما قدّموا من أعمالهم. وقال مجاهد: الأعمال الصالحة: صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم. وقال الحسن: عمل صالح أسلفوه يقدمون عليه. وقال عطاء: مقام صدق لا زوال له ولا بؤس فيه. وقال زيد بن أسلم: هو شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأضيف القدم إلى الصدق وهو نعته كقولهم: مسجد الجامع، وصلاة الأولى، وحب الحصيد. وقال أبو عبيدة: كل سابق في خير أو شرّ فهو عند العرب قدم. قال الشاعر:
*صل لذي العرش واتخذ قدما ** ينجيك يوم العثار والندم
(3/4)
---(1/1439)
وهو مؤنث فيقال : قدم حسنة وقدم صالحة. وقوله تعالى: {قال الكافرون إنَّ هذا لسحر مبين} قرأه نافع وأبو عمرو وابن عامر بكسر السين وسكون الحاء على أنَّ الإشارة للقرآن المشتمل على ذلك، والباقون بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء على أنّ الإشارة للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
{إنّ ربكم} الموجد لكم والمربي والمحسن هو {الله الذي خلق} أي: قدّر وأوجد {السموات والأرض} على اتساعهما، وكثرة ما فيهما من المنافع {في ستة أيام} من أيام الدنيا، أي: في قدرها؛ لأنه لم يكن ثمّ شمس، ولو شاء لخلقهما في لمحة، والعدول عنه لتعليم خلقه التثبت. فإن قيل: إنّ اليوم قد يراد به اليوم مع ليلته، وقد يراد به النهار وحده. فما المراد؟ أجيب: بأنّ الغالب في اللغة أنه مراد باليوم اليومَ بليلته، ولما أوجد سبحانه وتعالى هذا الخلق الكبير المتباعد الأقطار، الواسع الانتشار، المفتقر إلى عظيم التدبير، ولطيف التصريف والتقدير؛ عبّر سبحانه وتعالى عن عمله فيه عمل الملوك في ممالكهم بقوله مشيراً إلى عظمته بأداة التراخي: {ثم استوى} أي: عمل في تدبيره وإتقان ما فيه وإحكامه عمل المعتني بذلك. {على العرش} المتقدّم وصفه في الأعراف بالعظمة، وليست ثم للترتيب، بل كناية عن علوِّ الرتبة، وبعد منازلها، ثم بيّن ذلك الاستواء بقوله: {يدبر الأمر} كله فلا يخفى عليه عاقبة أمر من الأمور؛ لأنَّ التدبير أعدل أحوال الملك، فالاستواء كناية عنه. وقوله تعالى: {ما من شفيع إلا من بعد إذنه} تقرير لعظمته جل وعلا، وردّ على من زعم أنَّ آلهتهم تشفع لهم عند الله. وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له {ذلكم الله} أي: الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية {ربكم} أي: الذي يستحق العبادة منكم. {فاعبدوه} أي: وحّدوه ولا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان، فضلاً عن جماد لا يضرّ ولا ينفع، فإنَّ عبادتكم مع التشريك ليست عبادة، ولولا فضله لم يكن لمن زلّ أدنى زلة طاعة، وقوله(1/1440)
(3/5)
---
تعالى:{أفلا تذكرون} قرأه حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال، والباقون بالتشديد بإدغام التاء في الأصل في الذال، أي: أفلا تتفكرون أدنى تفكر فينبئكم عن أنه المستحق للربوبية، والعبادة لا ما تعبدونه.
{إليه} تعالى {مرجعكم} أي: رجوعكم بالموت والنشور حالة كونكم {جميعاً} لا يتخلف منكم أحد، فاستعدّوا للقائه. وقوله تعالى: {وعد الله} مصدر منصوب بفعله المقدّر مؤكد لنفسه؛ لأن قوله تعالى: {إليه مرجعكم} وعد من الله، وقوله تعالى: {حقاً} أي: صدقاً لا خلف فيه مصدر آخر منصوب بفعله المقدّر مؤكد لغيره، وهو ما دل عليه وعد الله. {إنه يبدأ الخلق} أي: يحييهم ابتداءً. {ثم يعيده} أي: ثم يميتهم ثم يحييهم. وفي هذا دليل على الحشر والنشر والمعاد، وصحة وقوعه، وردّ على منكري البعث ووقوعه؛ لأنّ القادر على خلق هذه الأجسام المؤلفة، والأعضاء المركبة على غير مثال سبق، قادر على إعادتها بعد تفريقها بالموت والبلى، فيركب تلك الأجزاء المتفرقة تركيباً ثانياً، ويخلق الإنسان الأوّل مرّة أخرى، فإذا ثبت القول بصحة المعاد والبعث بعد الموت؛ كان المقصود منه إيصال الثواب للمطيع، والعقاب للعاصي، وهو قوله تعالى: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط} أي: بالعدل، لا ينقص من أجورهم شيئاً. {والذين كفروا لهم شراب من حميم} وهو ماء حار قد انتهى حرّه {وعذاب أليم} أي: بالغ في الإيّلام. {بما كانوا يكفرون} أي: بسبب كفرهم.
(3/6)
---(1/1441)
{هو الذي جعل الشمس ضياءً} أي: ذات ضياء {والقمر نوراً} أي: ذا نور، وخص الشمس بالضياء؛ لأنها أقوى وآكد من النور، وخص القمر بالنور؛ لأنه أضعف من الضياء، لأنّ الشمس نيرة في ذاتها، والقمر نير بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها. وقرأ قنبل بهمزة مفتوحة ممدودة بعد الضاد، والباقون بياء مفتوحة، والضمير في قوله تعالى: {وقدّره منازل} يرجع إلى الشمس والقمر؛، أي: قدّر مسير كل واحد منهما منازل، أو قدّره ذا منازل، أو يرجع إلى القمر فقط، وتخصيصه بالذكر لسرعة مسيره ومعاينة منازله، وإناطة أحكام الشرع به، ولذلك علله بقوله تعالى: {لتعلموا عدد السنين والحساب} أي: حساب الأوقات من الأشهر والأيام في معاملاتكم وتصرّفاتكم؛ لأنّ الشهور المعتبرة في الشريعة مبنية على رؤية الأهلة، والسنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية، كما قال تعالى: {إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله} (التوبة: 36)
(3/7)
---(1/1442)
فائدة: منازل القمر ثمانية وعشرون منزلاً، وأسماؤها: السرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعوّا، والسماك، والغفر، والزباني، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، وفرغ الدلو المقدّم، وفرغ الدلو المؤخر، وبطن الحوت. وهذه المنازل مقسومة على البروج وهي اثنا عشر برجاً: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. فلكل برجٍ منزلان وثلث، فينزل القمر في كل ليلة منها منزلاً، فيستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين، وإن كان تسعاً وعشرين فليلة واحدة، فيكون انقضاء الشهر مع نزوله تلك المنازل ويكون مقام الشمس في كل منزلة ثلاثة عشر يوماً، فيكون انقضاء السنة مع انقضائها، أو انتفاع الخلق بضوء الشمس، وبنور القمر عظيم، فالشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل، وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى هذه الفصول الأربعة، وبالفصول الأربعة تنتظم مصالح هذا العالم، وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل، والنهار يكون زماناً للتكسب وللطلب، والليل يكون زماناً للراحة. {ما خلق الله ذلك} المذكور. {إلا بالحق} أي: لم يخلق ذلك باطلاً ولا عبثاً ـ تعالى الله عن ذلك ـ إظهاراً لقدرته، ودلائل وحدانيته.
ونظيره قوله تعالى في آل عمران: {ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً} (آل عمران: 191)
. وقال تعالى في سورة أخرى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا} (ص، 27)
. {يفصل} أي: يبين {الآيات} أي: الدلائل الباهرة واحدة في إثر واحدة بياناً شافياً. {لقوم يعلمون} فإنهم المنتفعون بالتأمّل فيها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص بالياء، والباقون بالنون.
(3/8)
---(1/1443)
ولما استدل سبحانه وتعالى على إثبات الإلهية والتوحيد بقوله تعالى: {إنّ ربكم الله الذي خلق السموات والأرض} (الأعراف: 54)، وثانياً بأحوال الشمس والقمر، استدل ثالثاً بقوله تعالى:
{إن في اختلاف الليل والنهار} أي: بالمجيء والذهاب، والزيادة والنقصان، ورابعاً بقوله تعالى: {وما خلق الله في السموات} من ملائكة وشمس وقمر ونجوم وغير ذلك. {و} ما خلق الله في {الأرض} من حيوان وجبال وبحار وأنهار وأشجار وغير ذلك.
فائدة: أقسام الحوادث في هذا العالم محصورة في أربعة أقسام، أحدها: الأحوال الحادثة في العناصر الأربعة، ويدخل فيها أحوال الرعد والبرق والسحاب والأمطار، ويدخل فيها أيضاً أحوال البحار والصواعق والزلازل والخسف، وثانيها: أحوال المعادن وهي عجيبة كثيرة، وثالثها: اختلاف أحوال النبات، ورابعها: اختلاف أحوال الحيوانات، وجملة هذه الأقسام الأربعة داخلة في قوله تعالى: {وما خلق الله في السموات} (يونس: 6)
. والاستقصاء في شرح هذه الأحوال لا يدخل تحت الحصر، بل كل ما ذكر العقلاء في أحوال أقسام هذا العالم فهو جزء مختصر من هذا الباب.
{لآيات} أي: دلالات على قدرته تعالى. {لقوم يتقون} الله فإنه يحملهم على التفكر والتذكر، وخصهم بالذكر؛ لأنهم المنتفعون بها. قال القفال: من تدبر في هذه الأحوال علم أنّ الدنيا مخلوقة لشقاء الناس فيها، وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم، بل جعلها لهم دار عمل، وإذا كان كذلك فلا بدّ من أمر ونهي ثم من ثواب وعقاب ليتميز المحسن عن المسيء، فهذه الأحوال في الحقيقة دالة على صحة القول بإثبات المبدأ وإثبات المعاد.
ولما أقام الله سبحانه وتعالى الدلائل القاهرة على صحة القول بإثبات الإله الرحمن، وعلى صحة القول بإثبات الإله الرحيم الحكيم، وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر؛ شرع في شرح أحوال من يكفر بها، وشرح أحوال من يؤمن بها، وقد ابتدأ بأوّلها ووصفه بأربع صفات مبتدئاً بأوّلها بقوله تعالى:
(3/9)(1/1444)
---
{إنّ الذين لا يرجون لقاءنا} أي: لا يخافونه لإنكارهم البعث، وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها، فهم مكّذبون بالثواب والعقاب والرجاء، يكون بمعنى الخوف، وبمعنى الطمع، فمن الأوّل قول العرب: فلان لايرجو فلاناً، بمعنى لا يخافه، ومنه قوله تعالى: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً} (نوح: 13)، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي:
إذ لسعته النحل لم يرج لسعها.
(3/10)
---
أي: لم يخفها. ومن الثاني قولهم: فلان يرجو فلاناً،، أي: يطمع فيه، والمعنى: لا يطمعون في ثوابنا، والصفة الثانية والثالثة: قوله تعالى: {ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها} فيعملون لها عمل المقيم فيها مع ما يشاهدونه من سرعة زوالها منهمكين في لذاتهاوزخارفها، وسكنوا فيها سكون من لا ينزع عنها، والصفة الرابعة: قوله تعالى: {والذين هم عن آياتنا} أي: دلائل وحدانيتنا {غافلون} تاركون النظر فيها، بمنزلة الغافل عن الشيء الذي لا يخطر بباله طول عمره ذكر ذلك الشيء، وبالجملة فهذه الصفات الأربعة دالة على شدّة بعدهم عن طلب الاستعداد بالسعادات الأخروية، ويحتمل أنَّ الصفة الأخيرة لفريق آخر، ويكون المراد بالأوّلين: من أنكر البعث، ولم يرد إلا الحياة الدنيا، وبالآخر: من ألهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له، ولما وصفهم الله تعالى بتلك الصفات قال:
{أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} من الشرك والمعاصي، ولما شرح أحوال المنكرين الجاحدين ذكر تعالى شرح من يؤمن بها فقال:
(3/11)
---(1/1445)
{إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات} والأعمال الصالحة عبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على ترك الدنيا وطلب الآخرة، والأعمال المذمومة مما يكون بالضدّ من ذلك. {يهديهم} أي: يرشدهم. {ربهم بإيمانهم} أي: بسبب إيمانهم إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة، أو لما يريدونه في الجنة، أو لإدراك الحقائق، كما قال صلى الله عليه وسلم «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم». وقال مجاهد: المؤمنون يكون لهم نور يمشي بهم إلى الجنة. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة حسنة، فيقول: أنا عملك. فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة، والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة، فيقول: أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار». ومفهوم ترتبِ الهداية على الإيمان، والعمل الصالح قد دلّ على أنّ سبب الهداية هو الإيمان والعمل الصالح، لكن دل منطوق قوله جل وعلا: {بإيمانهم} (يونس: 9)
. على استقلال الإيمان بالسببية، وأن العمل الصالح كالتتمة والرديف، ثم إنه تعالى لما وصفهم بالإيمان والأعمال الصالحة ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم ومراتب سعاداتهم، وهي أربعة الأولى: قوله تعالى: {تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم} أي: يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين، والأنهار تجري من بين أيديهم، ينظرون إليها من أعالي أسرتهم وقصورهم، ونظيره قوله تعالى: {قد جعل ربك تحتك سرياً} (مريم: 24) فهي ما كانت قاعدة عليه، ولكن المعنى: بين يديك، وكذا قوله: {وهذه الأنهار تجري من تحتي} (الزخرف، 51)، أي: بين يدي فكذا هنا. الثانية قوله تعالى:
(3/12)
---(1/1446)
{دعواهم فيها} قال بعض المفسرين:، أي: طلبهم لما يشتهون في الجنة أن يقولوا: {سبحانك} أي: ننزهك من كل سوء ونقيصة. {اللهمّ} أي: يا الله، فإذا ما طلبوا بين أيديهم على موائد، كل مائدة ميل في ميل، على كل مائدة سبعون ألف صحفة، في كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضها بعضاً، فإذا فرغوا من الطعام حمدوا الله تعالى، فذلك قوله تعالى: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}. وأن المراد بقوله {سبحانك اللهم} اشتغال أهل الجنة بالتسبيح والتحميد والتقديس لله تعالى، والثناء عليه بما هو أهله، وفي هذا الذكر سرورهم وابتهاجهم وكمال لذاتهم وهذا أولى، ويدل عليه ما روي عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يبولون ولا يتغوّطون ولا يتمخطون. قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس»، أي: يخرج ذلك الطعام جشاء وعرقاً.
الثالثة: قوله تعالى: {وتحيتهم} فيما بينهم وتحية الملائكة لهم {فيها} أي: الجنة {سلام} وتأتيهم الملائكة أيضاً من عند ربهم بالسلام. قال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم} (الرعد: 23، 24)
. وقال تعالى: {سلام قولاً من رب رحيم} (يس: 58)
. الرابعة: قوله تعالى: {وآخر دعواهم} أي: وآخر دعائهم. {أن الحمد لله رب العالمين} أي: أن يقولوا ذلك، وأن هي المخففة من الثقيلة، وقد ذكرنا أنَّ بعض المفسرين حمل التسبيح والتحميد على أحوال أهل الجنة بسبب المأكول والمشروب، فإنهم إذا اشتهوا شيئاً قالوا: {سبحانك اللهم} (يونس، 10)
فيحصل ذلك الشيء، فإذا فرغوا منه قالوا: {الحمد لله رب العالمين} (الفاتحة، 2)
فترتفع الموائد عند ذلك.
(3/13)
---(1/1447)
قال الرازي: وهذا القائل ما رقى نظره في دنياه وأخراه عن المأكول والمشروب، وحقيق بمثل هذا الإنسان أن يعدّ في زمرة البهائم، وأما المحققون فقد تركوا ذلك. اه. ولا تنبغي هذه المبالغة، فقد قاله البغوي، وتبعه جماعة من المفسرين. وقال الزجاج: أعلمَ اللهُ أنّ أهل الجنة يفتتحون بتعظيم الله تعالى وتنزيهه، ويختمون بشكره والثناء عليه. قال البيضاوي: المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله تعالى وكبرياءه مجّدوه ونعتوه بنعوت الجلال، ثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات، أو الله تعالى، فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام، ولما وصف الله تعالى الكفار بأنهم لا يرجون لقاء الله ورضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها، وكانوا عن آيات الله غافلين؛ بيّن أن مِنْ غفلتهم أنّ الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب جهلاً منهم وسفهاً بقوله تعالى:
{ولو يعجل الله للناس الشرّ} أي: ولو يعجل الله للناس إجابة دعائهم بالشر فيما لهم فيه مضرة ومكروه {استعجالهم بالخير} أي: كما يحبون أن يعجل لهم إجابتهم بالخير {لقضي إليهم أجلهم} أي: لأهلكهم، ولكن يمهلهم. نزلت في النضر بن الحارث حين قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم، ويدل عليه قوله تعالى: {فنذر} أي: فنترك. {الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم} أي: في تمردّهم وعتوهم. {يعمهون} أي: يتردّدون متحيرين. وقال ابن عباس: هذا في قول الرجل عند الغضب لأهله وولده: لعنكم الله، لا بارك الله فيكم. وقال قتادة: هو دعاء الرجل على نفسه وأهله وماله بما يكره أن يستجاب له فيه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«اللهم إني أخذ عندك عهداً لن تخلفنيه، إنما أنا بشر، فأيّ المؤمنين آذيته أو شتمته أو جلدته أو لعنته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقرّبه بها إليّ يوم القيامة».
(3/14)
---(1/1448)
فإن قيل: قابل التعجيل في الآية بالاستعجال، وكان مقتضى النظم أن يقابل التعجيل بالتعجيل والاستعجال بالاستعجال، أجيب: بأنَّ تقدير الكلام: ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله للخير حين استعجلوه استعجالاً كاستعجالهم بالخير، فحذف منه ما حذف لدلالة الباقي عليه، وقال في «الكشاف»: أصل هذا الكلام: ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم بالخير إلا أنه وضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم بالخير شعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم، حتى كان استعجالهم بالخير تعجيل لهم.A
ولما حكى تعالى عنهم أنهم يستعجلون في نزول العذاب، بين أنهم كاذبون في ذلك الطلب والاستعجال بقوله تعالى:
{وإذا مس الإنسان} أي: الكافر {الضرّ} أي: المرض والفقر {دعانا لجنبه} أي: على جنبه مضطجعاً {أو قاعداً أو قائماً} وفائدة التردّد تعميم الدعاء لجميع الأحوال أو لأصناف المضار، والمعنى: أنّه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه ويؤذيه فإنه يتضرّع إلى الله تعالى في إزالته عنه، وفي دفعه عنه، وذلك يدل على أنه ليس صادقاً في طلب الاستعجال {فلما كشفنا عنه ضرّه} أي: أزلنا عنه ما نزل به، {مرّ} أي: مضى على ما كان عليه من الكفر، {كأن لم يدعنا} أي: كأنه، فأسقط الضمير على سبيل التخفيف، ونظيره قوله تعالى: {كأن لم يلبثوا} (يونس، 45)
. {إلى ضرَ مسه}. قال الحسن: نسي ما كان دعا الله فيه، وما صنع الله به في إزالة ذلك البلاء عنه، وإنما حمل الإنسان في هذه الآية على الكافر؛ لأنَّ العمل المذكور لا يليق بالمسلم البتة، وقول بعضهم: كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد هو الكافر مردود، فقد قال تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} (الإنسان: 1)
. وقال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} (المؤمنون: 12)
. وقال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} (ق، 16) وأما المؤمن إذا ابتلي ببلية ومحنة، وجب عليه رعاية أمورٍ:
(3/15)
---(1/1449)
أوّلها: أن يكون راضياً بقضاء الله تعالى غير معترض بالقلب واللسان عليه، وإنما وجب عليه ذلك؛ لأنّه تعالى مالك على الإطلاق، وملك بالاستحقاق، فله أن يفعل في ملكه ما شاء، ولأنه تعالى حكيم على الإطلاق، وهو منزه عن فعل العبث، فكل ما فعله فهو حكمة وصواب، فيجب عليه الصبر وترك القلق، فإن أبقى عليه تلك المحنة فهو عدل، وإن أزالها عنه فهو فضل.
وثانيها: أنه في ذلك الوقت إن اشتغل بذكر الله تعالى، والثناء عليه بدلاً عن الدعاء، كان أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين»، ولأنّ الاشتغال بالذكر اشتغال بالحق والاشتغال بالدعاء، اشتغال بطلب حظ النفس، ولا شك أنَّ الأوّل أفضل. وثالثها:
أنه تعالى إذا أزال عنه تلك البلية وجب عليه أن يبالغ في الشكر، وأن لا يخلو عن ذلك الشكر في السراء والضراء، وأحوال الشدّة والرخاء، فهذا هو الطريق الصحيح عند نزول البلاء، وحينئذ يكون المؤمن على الضدّ من الكافر؛ لأنَّ الكافر منهمك في الشهوات، والإعراض عن العبادات. كما قال تعالى: {كذلك} أي: مثل ما زين لهؤلاء الكافرين هذا العمل القبيح. {زين للمسرفين} أي: المشركين {وما كانوا يعملون} من القبائح لإعراضهم عن الذكر واتباعهم الشهوات، وإنما سمي الكافر مسرفاً؛ لأنّه أتلف نفسه بتضييعها في عبادة الأوثان، وأتلف ماله في البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والمزين هو الله تعالى؛ لأنه مالك الملك، والخلق كلهم عبيده يتصرّف فيهم كيف شاء، وقيل: هو الشيطان وذلك بإقدار الله تعالى إياه على ذلك، وإلا فهو أخس وأحقر.
(3/16)
---(1/1450)
{ولقد أهلكنا القرون} أي: الأمم الماضية. {من قبلكم} يا أهل مكة. {لما ظلموا} أي: حين أشركوا، وقوله تعالى: {وجاءتهم رسلهم بالبينات} أي: بالحجج الدالة على صدقهم، حال من الواو وبإضمار قد أو عطف على ظلموا. {وما} أي: والحال أنهم ما {كانوا ليؤمنوا} أي: وما استقام لهم أن يؤمنوا، ولو جاءتهم كل آية لعلمه تعالى بأنهم يموتون على كفرهم، واللام لتأكيد النفي. {كذلك} أي: مثل ذلك الجزاء العظيم وهو إهلاكهم لما كذبوا رسلهم {نجزي القوم المجرمين} أي: نجزيكم يا أهل مكة بتكذيبكم محمداً صلى الله عليه وسلم فوضع المظهر موضع المضمر للدّلالة على كمال جرمهم، وأنهم أعلام فيه.
{ثم جعلناكم} أي: أيها المرسل إليهم أشرف رسلنا {خلائف} جمع خليفة {في الأرض من بعدهم} أي: استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها استخلاف من يختبر {لننظر} ونحن أعلم بكم من أنفسكم في علم الشهادة لإقامة الحجة. {كيف تعملون} من خير أو شر فنجازيكم به، وقد مرّ نظائر هذا، ومنه قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} (هود: 7)
. وقال صلى الله عليه وسلم «إنّ الدنيا خضرة حلوة، وإنّ الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون». وقال قتادة: صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا، فأروا الله من أعمالكم خيراً بالليل والنهار. قال الزجاج: وموضع كيف نصب بقوله تعملون، أي: لا معمول ننظر؛ لأنها حرف استفهام، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله؛ لأنّ له صدر الكلام فلا يتقدمه عامله، وظاهر كلامه أنّ كيف مفعول لتعملون، وجمهور النحاة على أنه حال من ضمير تعملون.
(3/17)
---(1/1451)
{وإذا تتلى عليهم} أي: وإذا قرئ على هؤلاء المشركين. {آياتنا} أي: القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد حالة كون تلك الآيات {بينات} أي: ظاهرات تدل على وحدانيتنا وصحة نبوّتك. {قال الذين لا يرجون لقاءنا} أي: لا يخافون عذابنا، ولا يرجون ثوابنا؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث بعد الموت، وكل من كان منكراً للبعث بعد الموت؛ فإنه لا يرجو ثواباً ولا يخاف عقاباً. {ائت} أي: من عندك {بقرآن} أي: كلام مجموع جامع لما نريد. {غير هذا} في نظمه ومعناه. {أو بدله} بألفاظ أخرى، والمعاني باقية، وقد كانوا عالمين بأنه صلى الله عليه وسلم مثلهم في العجز عن ذلك، ولكنهم قصدوا أن يأخذ في التغيير حرصاً على إجابة مطلوبهم، فيبطل مدعاه أو يهلك ، واختلف في هذا القائل.
(3/19)
---(1/1452)
فقال قتادة: هم مشركو أهل مكة. وقال مقاتل: هم خسمة نفر: عبد الله بن أمية الجمحي، والوليد بن المغيرة، ومكدر بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري، والعاصي بن عامر بن هشام، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت تريد أن نؤمن بك فأت بقرآن ليس فيه ترك لعبادة اللات والعزى ومناة، وليس فيه عيبها، وإن لم ينزله الله فقل أنت من عند نفسك أو بدله، فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة، أو مكان حرام حلالاً، أو مكان حلالاً حراماً، ولما كان كأنه قيل فماذا أقول لهم؟ قال الله تعالى: {قل} لهم {ما يكون} أي: ما يصح {لي} ولا يتصوّر بوجه من الوجوه {أن أبدله من تلقاء} أي: قبل {نفسي} وإنما اكتفى بالجواب عن التبديل لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء والباقون بالسكون {إن} أي: ما {أتبع إلا ما يوحى إليّ} فيما آمركم به أو أنهاكم عنه، أي: لا آتي بشيء ولا أذر شيئاً من نحو ذلك إلا متبعاً لوحي الله تعالى وأوامره، إن نسخت آية تبعت النسخ، وإن بدلت آية مكان آية تبعت التبديل، وليس إليّ تبديل ولا نسخ {إني أخاف إن عصيت ربي} أي: بتبديله {عذاب يوم عظيم} فإني مؤمن به غير مكذب ولا شاك كغيري ممن يتكلم الهذيان بما لا يخاف عاقبته في ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو لي وإني بفتح الياء، والباقون بالسكون.
(3/20)
---(1/1453)
{قل} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين طلبوا منك تغيير القرآن وتبديله {لو شاء الله ما تلوته عليكم} أي: لو شاء الله لم ينزل هذا القرآن، ولم يأمرني بقراءته عليكم {ولا أدراكم به} أي: ولا أعلمكم به على لساني. وقرأ ابن كثير بخلاف عن البزي بقصر الهمزة بعد اللام جواب لو، أي: لأعلمكم به على لسان غيري، والباقون بالمدّ المنفصل. وقوله تعالى: {فقد لبثت} أي: مكثت قراءة نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء عند التاء والباقون بالإدغام {فيكم عمراً} سنين أربعين {من قبله} أي: قبل أن يوحى إليَّ هذا القرآن لا أتلوه ولا أعلمه، ففي ذلك إشارة إلى أنّ هذا القرآن معجز خارق للعادة.
وتقريره: أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوّل عمره إلى ذلك الوقت، وكانوا عالمين بأحواله وأنه ما طالع كتاباً، ولا تتلمذ لأستاذ ولا تعلم من أحد، ثم بعد انقراض أربعين سنة على هذا الوجه، جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول، ودقائق علم الأحكام ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأوّلين، وعجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء، وكل من له عقل سليم، فإنه يعرف أن مثل هذا لا يحصل إلا بالوحي والإلهام من الله تعالى {أفلا تعقلون} أي: أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر لتعلموا أنَّ مثل هذا الكتاب العظيم على من لم يتعلم ولم يتتلمذ ولم يطالع كتاباً، ولم يمارس مجادلة، أنه لا يكون إلا على سبيل الوحي من الله تعالى، لا من مثلي، وهذا جواب عمّا دسوه تحت قولهم {ائت بقرآن غير هذا} من إضافة الإفتراء إليه.
(3/21)
---(1/1454)
تنبيه: أقام صلى الله عليه وسلم بعد أن أوحي إليه بمكة ثلاث عشرة سنة، ثم هاجر فأقام بالمدينة عشر سنين، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة. قال النووي: ورد في عمره صلى الله عليه وسلم ثلاث روايات: إحداها: أنه توفي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ستين سنة. والثانية: خمس وستون سنة. والثالثة: ثلاث وستون سنة، وهي أصحها وأشهرها، وتأوّلوا رواية ستين بأنَّ راويها اقتصر فيها على العقود، وترك الكسر، ورواية الخمس أيضاً متأوّلة، وحصل فيها اشتباه، ولما أقيمت الدلائل على أنّ هذا القرآن من عند الله وجب أن يقال: إنه ليس في الدنيا أحد أجهل ولا أظلم على نفسه من منكر ذلك كما قال تعالى: {فمن} أي: لا أحد {أظلم ممن افترى} أي: تعمد {على الله كذبا} أي: أيّ كذب كان من شريك أو ولد أو غير ذلك، وكأنّ الأصل مبنيّ على تقدير أن يكون هذا القرآن من عند الله، ولكنه وضع هذا الظاهر مكانه تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف {أو كذب بآياته} أي: دلائل توحيده فكفر بها كما فعلتم أنتم، وذلك من أعظم الكذب، وقوله تعالى: {إنه} أي: الشأن {لا يفلح} بوجه من الوجوه {المجرمون} أي: المشركون تأكيد لما سبق من هذين الوصفين
{ويعبدون} أي: هؤلاء المشركون {من دون الله} أي: غيره {ما لا يضرّهم} أي: إن لم يعبدوه {ولا ينفعهم} أي: إن عبدوه، وهو الأصنام؛ لأنها حجارة وجماد لا تضرّ ولا تنفع، والكافرون قادرون على التصرف فيها تارة بالإصلاح وتارة بالإفساد، وإذا كان العابد أصلح حالاً من المعبود كانت العبادة باطلة؛ لأنّ العبادة أعظم أنواع التعظيم، فلا تليق إلا بمن يضرّ وينفع، بأن يثيب على الطاعة، ويعاقب على المعصية، وكان أهل الطائف يعبدون اللات، وأهل مكة يعبدون العزى ومناة وهبل وإسافا ونائلة. {ويقولون هؤلاء} أي: الأصنام التي نعبدها. {شفعاؤنا عند الله} ونظيره قوله تعالى إخباراً عنهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}. (الزمر، 3)
(3/22)
---(1/1455)
وقيل: إنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر يكونون شفعاء لهم عند الله. قال الرازي: ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله.اه. ولكن تعظيمهم لهؤلاء ليس كتعظيم الكفار، وفي هذه الشفاعة قولان:
أحدهما: أنهم يزعمون أنها تشفع لهم فيما يهمهم من أمور الدنيا في إصلاح معايشهم. قاله الحسن؛ لأنهم كانوا لا يعتقدون بعث الموتى.
(3/23)
---(1/1456)
والثاني: أنهم يزعمون أنها تشفع لهم في الآخرة إن يكن بعث، قاله ابن جريج عن ابن عباس، وكأنهم كانوا شاكين فيه، وهذا من فرط جهالتهم حيث تركوا عبادة موجدهم الضارّ النافع إلى عبادة ما يعلم قطعاً أنه لا يضرّ ولا ينفع، على توّهم أنه ربما يشفع لهم. قال النضر بن الحارث: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى. وقوله تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين {أتنبئون} أي: تخبرون {الله} وهو العالم بكل شيء المحيط بكل محيط. {بما لا يعلم} أي: لا يوجد له به علم في وقت من الأوقات، استفهام إنكار تهكم بهم، وبما ادّعوه ومن المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأن الذي أنبؤوا به باطل غير منطوٍ تحت الصحة، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه. وقوله تعالى: {في السموات ولا في الأرض} تأكيد لنفيه؛ لأنّ ما لم يوجد فيهما فهو منتفٍ معدوم، وهذا على طريق الإلزام، والمقصود نفي علم الله بذلك الشفيع، وأنه لا وجود له ألبتة؛ لأنه لو كان موجوداً لكان معلوماً لله تعالى وحيث لم يكن معلوماً لله تعالى، وجب أن لا يكون معلوماً موجوداً، وهذا مثل مشهور في العرب، فإنّ الإنسان إذا أراد نفي شيء عن نفسه يقول: ما علم الله ذلك مني؛ ومقصوده أنه ما حصل ذلك الشيء منه قط ولا وقع. {سبحانه} أي: تنزيهاً له عن كل شيء فيه شائبة نقص. {وتعالى عما يشركون} ما مصدرية أو موصولة، أي: عن إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركونهم به. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب، لقوله: {أتنبئون الله} والباقون بالياء على الغيبة، فكأنه قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم قل أنت: سبحانه وتعالى عما يشركون، ويجوز أن يكون الله سبحانه و تعالى هو الذي نزه نفسه عما قالوه، فقال: سبحانه و تعالى عما يشركون. ولما أقام تعالى الدلالة القاهرة على فساد القول بعبادة الأصنام بيّن السبب في كيفية حدوث هذا المذهب الفاسد بقوله:
(3/24)
---(1/1457)
{وما كان الناس إلا أمَّة واحدة} أي: جميعاً على الدين الحق وهو دين الإسلام. وقيل على الضلال في فترة الرسل، واختلف القائلون بالأوّل أنهم متى كانوا كذلك.؟ فقال ابن عباس ومجاهد: كانوا على دين الإسلام من لدن آدم إلى أن قَتَلَ قابيلُ هابيلَ. وقال قوم: إلى زمن نوح، وكانوا عشرة قرون. ثم اختلفوا في عهد نوح فبعث الله تعالى إليهم نوحاً. وقال آخرون: كانوا على دين الإسلام من زمن نوح بعد الغرق حيث لم يذر الله على الأرض من الكافرين ديّاراً إلى أن ظهر الكفر فيهم. وقال آخرون: من عهد إبراهيم عليه السلام إلى زمن عمرو بن لحي، وهذا القائل قال: المراد من الناس في قوله تعالى: {وما كان الناس إلا أمة واحدة} العرب خاصة. {فاختلفوا} بأن ثبت بعض وكفر بعض. {ولولا كلمة سبقت من ربك} وهو تأخير الحكم إلى يوم القيامة، وقيل: تلك الكلمة هي قوله سبحانه: سبقت رحمتي غضبي. فلما كانت رحمته غالبة اقتضت تلك الرحمة الغالبة إسبال الستر على الجاهل الضال، وإمهاله إلى وقت الوجدان {لقضي بينهم} أي: الناس بنزول العذاب في الدنيا دون يوم القيامة {فيما فيه يختلفون} من الدين بإهلاك المبطل، وإبقاء المحق، وكان ذلك فصلاً بينهم {ويقولون} أي: كفار مكة {لولا} أي: هلا {أنزل عليه} أي: محمد صلى الله عليه وسلم {آية من ربه} أي: غير ما جاء به كما كان للأنبياء من الناقة والعصا واليد {فقل} يا محمد لهؤلاء الكفرة المعاندين {إنما الغيب} أي: ما غاب عن العباد أمره {لله} أي: هو المختص بعلمه، ومنه الآيات فلا يأتي بها إلا هو وإنما عليّ التبليغ {فانتظروا} أي: نزول ما اقترحتموه. وقيل نزول العذاب إن لم يؤمنوا {إني معكم من المنتظرين} أي: لما يفعل الله تعالى بكم لعنادكم وجحودكم الآيات، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر، بديعة في الآيات، رقية المسلك بين المعجزات مع عجزكم عن معارضته بتبديل أو غيره، فأيّ عناد أعظم من هذا
(3/25)
---(1/1458)
{وإذا أذقنا الناس} أي: كفار مكة {رحمة} أي: صحة وسعة {من بعد ضرّاء} أي: شدّة وبلاء {مستهم} سلط الله تعالى القحط سبع سنين على أهل مكة حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم، فأنزل عليهم المطر الكثير حتى أخصبت البلاد، وعاش الناس بعد ذلك فلم يتعظوا بذلك، بل رجعوا إلى العناد والكفر كما قال تعالى: {إذا لهم مكر في آياتنا} بالاستهزاء والتكذيب، وقيل: لا يقولون هذا من رزق الله، إنما يقولون: سُقينا بنوء كذا. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى ليصبح القوم بالنعمة ويمسيهم بها فيصبح طائفة منهم بها كافرين يقولون: مطرنا بنوء كذا» والنوء عند العرب: هي منازل القمر إذا طلع نجم سقط نظيره {قل الله} أي: قل لهم يا محمد الله {أسرع مكراً} منكم، أي: أعجل عقوبة وأشدّ أخذاً وأقدر على الجزاء. ومعنى الوصف بالأسرعية: أنه قضى بعقابهم قبل تدبيرهم مكايدهم والمكر إخفاء الكيد وهو من الله تعالى، أمّا الاستدراج أو الجزاء على المكر، فإنهم لما قابلوا نعمة الله بالمكر قابل مكرهم بأشد منه، وهو إمهالهم إلى يوم القيامة. {إن رسلنا} أي: الحفظة الكرام الكاتبين {يكتبون ما تمكرون} لأنهم وكلوا بكم قبل كونكم نطفاً، ولم يوكلوا بكم إلا بعد علم موكلهم بكل ما تفعلونه، ولا يكتبون مكركم إلا بعد اطلاعهم عليه، وأمّا هو سبحانه وتعالى فإنه إذا قضى قضاء لا يمكن أن يطلع عليه رسله إلا بإطلاعه فكيف بغيرهم، وإذا تبين أنه عالم بأمورهم وهم جاهلون بأموره علم أنه لا يدعهم يدبرون كيداً إلا وقد سبب له ما يجعله في نحورهم، وقرأ أبو عمرو بسكون السين والباقون بالرفع، ثم أخذ سبحانه وتعالى يبين ما يتضح به أسرعية مكره في مثال دال على ما في الآية قبلها؛ لأن المعنى الكلي لا يصل إلى أفهام السامعين إلا بذكر مثال جلي واضح، يكشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي فقال:
(3/26)
---(1/1459)
{هو الذي يسيركم} أي: يحملكم على السير في كل وقت تسيرون فيه لا تقدرون على الإنفكاك عنه ويمكنكم منه، {في البرّ والبحر} أي: يسبب لكم أسباباً توجب سيركم فيهما. وقرأ ابن عامر بعد الياء الأولى بنون ساكنة بعدها شين معجمة مضمومة، والباقون بسين مهملة مفتوحة بعدها ياء مكسورة مشدّدة، ولما كان العطب بسير البحر أظهر مع أنَّ السير فيه من أكبر الآيات وأوضح البينات بيّنه معرضاً عن ذكر البر بقوله تعالى:
{حتى إذا كنتم} أي: كوناً لا براح لكم منه. {في الفلك} أي: السفن، فإن قيل: كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر مع أنَّ الكون في الفلك متقدّم لا محالة على التسيير في البحر؟ أجيب: بأنه لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير، بل تقدير الكلام كأنه قيل: هو الذي يسيركم حتى إذا وقع في جملة تلك التسييرات الحصول في الفلك كان كذا وكذا، ولفظ الفلك يطلق على الواحد وعلى الجمع، فإن أريد الواحد كان كبناء قفل، أو الجمع كان كبناء حمر، والمراد هنا: الجمع لقوله تعالى: {وجرين بهم} أي: بمن فيها، وعدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح والالتفات في الكلام عن الغيبة إلى الحضور والعكس في فصيح كلام العرب. {بريح طيبة} أي: لينة الهبوب. {وفرحوا بها} أي: بتلك الريح وبالفلك الجارية بها، وقوله تعالى: {جاءتها} جواب إذا والضمير للفلك أو للريح الطيبة بمعنى تلقتها {ريح عاصف} أي: شديدة الهبوب فأزعجت سفينتهم وأساءتهم {وجاءهم الموج} أي: وجاء ركاب السفينة الموج وهو ما ارتفع وعلا من ضراب الماء في البحر. وقيل: هو شدّة حركة الماء واختلاطه. {من كل مكان} أي: يعتاد مجيء الموج منه فأرجف قلوبهم. {وظنوا أنهم أحيط بهم} أي: فظنوا أنَّ الهلاك قد أحاط بهم وسدت عليهم مسالك الخلاص، كمن أحاط بهم العدوّ {دعوا الله مخلصين} أي: من غير اشتراك به {له الدين} أي: الدعاء؛ لأنهم لا(1/1460)
(3/27)
---
يدعون حينئذٍ غيره؛ لأنَّ الإنسان في هذه الحالة لا يطمع إلا في فضل الله ورحمته ويصير منقطعاً عن جميع الخلق، ويصير بقلبه وروحه وجميع أجزائه متضرعاً إلى الله تعالى. وقوله تعالى: {لئن أنجيتنا من هذه} الشدائد التي نحن فيها وهي الريح العاصفة والأمواج الشديدة {لنكونن من الشاكرين} على إرادة القول أو مفعول دعوا؛ لأنه من جملة القول، أي: لنكونن من الشاكرين لك بالإيمان والطاعة على إنعامك علينا بانجائنا مما نحن فيه من هذه الشدّة.
{فلما أنجاهم} أي: هؤلاء الذين ظنوا أنهم أحيط بهم من الشدّة التي كانوا فيها إجابة لدعائهم {إذا هم يبغون} أي: فأجاؤوا الفساد وسارعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي {في الأرض} أي: جنسها {بغير الحق}.
فإن قيل: البغي لا يكون بحق فما معنى قوله بغير؟ أجيب: بأنه قد يكون بحقًّ كاستيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم، وإحراق زروعهم، وقطع أشجارهم، كما فعل صلى الله عليه وسلم ببني قريظة، فإنّ ذلك إفساد بحق. قال صاحب «المفردات»: البغي على ضربين: أحدهما: غير محمود وهو مجاوزة الحق إلى الباطل وإلى الشبهة ، والآخر: كفعل المسلمين ما ذكر {يا أيها الناس إنما بغيكم} أي: ظلمكم {على أنفسكم} يعود وباله عليها خاصة. قال صلى الله عليه وسلم «أسرع الخير ثواباً صلة الرحم، وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة». وروي «ثنتان يعجلهما الله تعالى في الدنيا: البغي، وعقوق الوالدين». وعن ابن عباس: لو بغى جبل على جبل لدك الباغي. وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه:
*يا صاحب البغي إنّ البغي مصرعة ** فاربع فخير فعال المرء أعدله
*فلو بغى جبل يوماً على جبل ** لاندك منه أعاليه وأسفله
(3/28)
---(1/1461)
وعن محمد بن كعب: ثلاث من كن فيه كن عليه البغي والنكث والمكر. وعلى تقدير الانتفاع بالبغي هو عرض زائل كما قال تعالى: {متاع الحياة الدنيا} أي: لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياماً قليلة، وهي مدّة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها. {ثم إلينا} بعد البعث {مرجعكم} في القيامة {فننبئكم} أي: فنخبركم {بما كنتم تعملون} في الدنيا من البغي والمعاصي فنجازيكم عليها. وقرأ حفص متاع بنصب العين على أنه مصدر مؤكد، أي: تتمتعون متاع الحياة الدنيا، والباقون بالرفع على أنه خبر بغيكم وعلى أنفسكم صلته، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: ذلك متاع الحياة الدنيا وعلى أنفسكم خبر بغيكم. ولما قال تعالى: {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا} أتبعه بمثل عجيب ضربه لمن يبغي في الأرض، ويغتر بالدنيا، ويشتدّ تمسكه بها، ويقوى إعراضه عن أمر الآخرة، والتأهب لها، بقوله تعالى:
(3/29)
---(1/1462)
{إنما مثل الحياة الدنيا} أي: حالها العجيبة في سرعة تقضيها وذهاب نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها. والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالأوّل {كماء أنزلناه} وحقق أمره وبينه بقوله تعالى: {من السماء فاختلط به} أي: بسببه {نبات الأرض} أي: اشتبك بعضه ببعض، والاختلاط: تداخل الأشياء بعضها في بعض {مما يأكل الناس} من الحبوب والثمار ونحو ذلك {و} مما يأكل {الأنعام} من الحشيش ونحوه {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها} أي: حسنها وبهجتها من النبات {وازينت} بإظهار ألوان زهرها من أبيض وأصفر وأحمر وغيرذلك من الزهور، كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزين، وأصل ازينت تزينت أبدلت التاء زاياً وأدغمت في الزاي {وظنّ أهلها} أي: أهل تلك الأرض {أنهم قادرون عليها} أي: متمكنون من تحصيل جذاذها وحصادها {أتاها أمرنا} أي: قضاؤنا من البرد والحرّ المفرط أو غيره {ليلاً أو نهاراً} أي: في الليل أو في النهار {فجعلناها} أي: زرعها {حصيداً} أي: كالمحصود بالمناجل. وقوله تعالى: {كأن} مخففة، أي: كأنها {لم تغن} أي: لم تكن {بالأمس} تلك الزروع والأشجار قائمة على ظهر الأرض، وحذف المضاف من فجعلناها ومن كأن لم تغن للمبالغة.
تنبيه: تشبيه الحياة الدنيا بهذا النبات يحتمل وجوهاً:
الأوّل أنّ عاقبة هذه الدنيا التي ينفقها المرء في باب الدنيا كعاقبة هذا النبات الذي حين عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه؛ لأنّ الغالب أنّ المتمسك بالدنيا إذا وضع قلبه عليها وعظمت رغبته فيها يأتيه الموت، وهو معنى قوله تعالى: {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} (الأنعام، 44) أي: خاسرون الدنيا، وقد أنفقوا أعمارهم فيها، وخاسرون من الآخرة مع أنهم توجهوا إليها.
(3/30)
---(1/1463)
الثاني: أنه تعالى بيّن أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبة محمودة فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها لا يحصل له عاقبة تحمد، مع أنَّ المنافع التي تحصل فيها مخلوطة بالمضار والمتاعب، فإنَّ سعادة الدنيا غير خالصة من الآفات، بل هي ممزوجة بالبليات، والاستقراء يدل عليه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم «من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق. فقيل: يا رسول الله، وما هو؟ قال: سرور يوم بتمامه». الثالث: أن مالك ذلك البستان لما عمره بإتعاب النفس، وكد الروح، وعلق قلبه على الانتفاع به، فإذا حصل ذلك السبب المهلك صار العناء الشديد الذي تحمّله في الماضي سبباً لحصول الشقاء الشديد له في المستقبل، وهو ما يحصل له في قلبه من الحسرات، فكذا حال من وضع قلبه على الدنيا، وأتعب نفسه في تحصيلها، فإذا مات وفاته كل ما فات صار العناء الذي تحمله في تحصيل أسباب الدنيا سبباً لحصول الشقاء العظيم له في الآخرة. {كذلك} أي: مثل هذا التفصيل الذي ذكرناه {نفصل الآيات} أي: نبينها {لقوم يتفكرون} لأنهم المنتفعون بها، ولما نفّر تعالى الغافلين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق رغبّهم في الآخرة بقوله تعالى:
{والله يدعو} أي: يعلق دعاءه على سبيل التجدّد والاستمرار بالمدعوين {إلى دار السلام}. قال قتادة: السلام هو الله، وداره الجنة، وسمي سبحانه وتعالى بالسلام؛ لأنه واجب الوجود لذاته، فقد سلم من الفناء والتغير، وسلم من احتياجه في ذاته وصفاته، ومن الافتقار إلى الغير، وهذه الصفة ليست إلا له سبحانه كما قال تعالى: {والله الغني وأنتم الفقراء} (محمد، 38)
وقال تعالى: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله} (فاطر، 15)
. وقيل: السلام بمعنى السلامة. وقيل: المراد بالسلام الجنة، سميت الجنة دار السلام؛ لأنّ أهلها يحيِّي بعضهم بعضاً بالسلام، والملائكة تسلم عليهم. قال الله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم} (الرعد، 32، 24)
(3/31)
---(1/1464)
ومن كمال رحمته وجوده وكرمه على عباده أن دعاهم إلى الجنة التي هي دار السلام، وفيه دليل على أنّ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؛ لأنّ العظيم لا يدعو إلا إلى عظيم، ولا يصف إلا عظيماً. وقد وصف الله تعالى الجنة في آيات كثيرة من كتابه. وعن جابر قال: جاءت ملائكة إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقالوا: إنّ صاحبكم هذا مثله كمثل رجل بنى داراً، وجعل فيها مائدة، وبعث داعياً فمن أجب الداعي دخل الدار، وأكل من المائدة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار، ولم يأكل من المائدة، والدار الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم {و} الله {يهدي من يشاء} من عباده بما يخلق في قلبه من الهداية {إلى صرط مستقيم} وهو دين الإسلام، عمّ سبحانه وتعالى بالدعوة أوّلا إظهاراً للحجة، وخص بالهداية ثانياً إظهاراً للقدرة؛ لأنَّ الحكم له في خلقه. وقال الجنيد: الدعوة عامة، والهداية خاصة، بل الهداية عامة والصحبة خاصة، بل الصحبة عامة والاتصال خاص. وقيل: يدعو بالآيات، ويهدي للحقائق والمعارف. وقيل: الدعوة لله والهداية من الله. وقال بعضهم: لا تنفع الدعوة لمن لم يسبق له من الله الهداية.
(3/32)
---(1/1465)
{للذين أحسنوا} أي: بالإيمان {الحسنى} وهي الجنة {وزيادة} وهي النظر إليه تعالى في الآخرة، كما في الحديث الصحيح: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا أن يا أهل الجنة فيكشف الحجاب فينظرون إليه فو الله ما أعطاهم الله شيئاً هو أحب إليهم منه». والزمخشري في «كشافه» قال في هذا: وزعمت المشبهة والمجبرة؛ لأنّ المعتزلة ينكرون الرؤية، ويُردّ عليهم قول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} (القيامة، 22، 23) فأثبت الله لأهل الجنة أمرين أحدهما: النضارة وهي حسن الوجوه، وذلك من نعيم الجنة. والثاني: النظر إلى الله تعالى. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الحسنى الحسنة، والزيادة عشرة أمثالها. وعن الحسن عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وعن مجاهد: الزيادة مغفرة من الله ورضوان. وعن يزيد بن شجرة: الزيادة أن تمرّ السحابة بأهل الجنة فتقول: ما تريدون أن أمطركم، فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم ، ولا مانع من أن تفسر الزيادة بذلك كله؛ إذ لا تنافي فيها والفضل واسع. {ولا يرهق} أي: يغشى {وجوههم قتر} أي: سواد {ولا ذلة} أي: كآبة وكسوف يظهر منه الانكسار والهوان. {أولئك} أي: هؤلاء الذين وصفهم الله هم {أصحاب الجنة} وقوله تعالى: {هم فيها خالدون} إشارة إلى كونها دائمة آمنة من الانقطاع ولا زوال فيها ولا انقراض، بخلاف الدنيا وزخارفها. ولما بين تعالى حال الفضل فيمن أحسن بيّن حال العدل فيمن أساء بقوله تعالى:
(3/34)
---(1/1466)
{والذين كسبوا السيئات} أي: الشرك {جزاء سيئة} منهم {بمثلها} بعدل الله من غير زيادة، وفي ذلك إشارة إلى الفرق بين السيئات والحسنات؛ لأنَّ الحسنات يضاعف ثوابها لعاملها من الواحد إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة تفضلاً منه تعالى وتكرّماً. وأما السيئة فإنه يجازي عليها بمثلها عدلاً منه تعالى {وترهقهم} أي: تغشاهم {ذلة} عكس أهل الجنة {ما لهم من الله من عاصم} أي: مانع يمنعهم من عذاب الله إذا نزل بهم {كأنما أغشيت} أي: ألبست {وجوههم قطعاً من الليل مظلماً} لفرط سوادها وظلمتها. وقرأ ابن كثير والكسائي بسكون الطاء، أي: جزء، والباقون بفتحها جمع قطعة، أي: أجزاء {أولئك} أي: هؤلاء الأشقياء {أصحاب النار هم فيها خالدون} لا يتمكنون من مفارقتها.
(3/35)
---(1/1467)
{و} اذكر {يوم نحشرهم} أي: الفريقين الناجين والهالكين، العابدين منهم والمعبودين، من كل جانب وناحية إلى موقف الحساب حال كونهم {جميعاً} لا يتخلف منهم أحد وهو يوم القيامة والحشر الجمع بكره إلى موقف واحد {ثم نقول للذين أشركوا مكانكم} أي: الزموا مكانكم لا تبرحوا منه حتى تنظروا ما يفعل بكم، وقوله تعالى: {أنتم} تأكيد للضمير المستتر في الفعل المقدّر ليعطف عليه {وشركاؤكم} أي: من كنتم تعبدونه من دون الله {فزيلنا} أي: فرّقنا {بينهم} أي: بين المشركين وشركائهم وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا، وذلك حين تبرأ كل معبود من دون الله ممن عبده، وقيل: فرّقنا بينهم وبين المؤمنين كما في آية {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} (يس، 59) والأوّل أنسب بقوله تعالى: {وقال شركاؤهم} لهؤلاء المشركين {ما كنتم إيانا تعبدون} أي: إنما كنتم تعبدون الشياطين حيث أمروكم أن تتخذوا لله أنداداً فأطعتموهم، واختلفوا في المراد بهؤلاء الشركاء. فقال بعضهم: الملائكة واستشهدوا بقوله تعالى: {ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} (سبأ، 40) . ومنهم من قال: هي الأصنام، والدليل عليه: أنّ هذا الخطاب مشتمل على الوعيد والتهديد، وذلك لا يليق بالملائكة المقرّبين، وسموا شركاء؛ لأنهم جعلوا نصيباً من أموالهم لتلك الأصنام فصيروهم شركاء لأنفسهم في تلك الأموال، ثم اختلفوا في هذه الأصنام كيف ذكرت هذا الكلام فقال بعضهم: إنّ الله تعالى خلق الحياة والعقل والنطق فيها فقدرت على ذكر هذا الكلام. وقال آخرون: إنّ الله تعالى خلق فيها الكلام من غير أن يخلق فيها الحياة حتى سمع منها ذلك الكلام. والأوّل أظهر؛ لأنّ ظاهر قوله تعالى: {وقال شركاؤهم} يقتضي أن يكون فاعل ذلك القول هو الشركاء.
(3/36)
---(1/1468)
فإن قيل: إذا أحياها الله تعالى هل يبقيها أو يفنيها؟ أجيب: بأنَّ الكل محتمل فإنّ الله تعالى يفعل في خلقه ما يشاء، وأحوال القيامة غير معلومة إلا القليل الذي أخبر الله تعالى عنه في القرآن وعلى لسان أنبيائه. وقال بعضهم: المراد بهؤلاء الشركاء كل من عبد من دون الله من إنس وملك وجنّ وشمس وقمر وصنم، وهذا أظهر، وعلى هذا والأوّل سموا شركاء؛ لأنّ الله تعالى لما خاطب العابدين والمعبودين بقوله تعالى: {مكانكم} صاروا شركاء في هذا الخطاب، ولما قال لهم شركاؤهم ذلك قالوا بل كنا نعبدكم فقال: {شركاؤهم}.
{فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم} فإنّه تعالى العالم بكنه الحال. {إن كنا عن عبادتكم لغافلين} أي: لم نأمر بها ولم نعلم بها، وعلى القول بأنها الأصنام فتقول: ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل، فإنها جمادات لا حس لها بشيء ولا شعور البتة.
تنبيه: إن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بين الخفيفة والنافية. {هنالك} أي: في ذلك الموقف من المكان العظيم الأهوال المتوالي الزلزال {تبلو} أي: تختبر {كل نفس} طائعة وعاصية {ما أسلفت} أي: ما قدّمت من عمل فتعاين نفعه وضرّه يؤدّي إلى سعادة أو شقاوة. وقرأ حمزة والكسائي بتاءين من التلاوة، أي: تقرأ ذكر ما قدّمت أو من التلو فيتبع كل شخص عمله فيقوده إلى الجنة والنار والباقون بعد التاء باء موحدة من البلوى وهو الاختبار {وردّوا إلى الله} أي: إلى جزائه إياهم عما أسلفوا فلم يكن لهم قدرة على قصد غيره. {مولاهم الحق} أي: ربهم ومتولي أمرهم على الحقيقة ولا التفات إلى سواه من تلك الأباطيل، بل انقطع رجاؤهم من كل ما يدعونه في الدنيا وهو المراد بقوله تعالى: {وضلّ عنهم} أي: ذهب وبطل وضاع. {ما كانوا يفترون} أي: يتعمدون كذبه من أنّ معبوداتهم شركاء، وتيقنوا في ذلك المقام أن توليهم لغير الله كان باطلاً غير حق. ولما بيّن فضائح عبدة الأوثان أتبعها بذكر الدلائل على فساد هذا المذهب بحجج:(1/1469)
(3/37)
---
الحجة الأولى: قوله تعالى:
{قل} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين {من يرزقكم من السماء} بالمطر {والأرض} بالنبات فانحصر الرزق في ذلك، أما من السماء فبتنزل الأمطار، وأما من الأرض فلأن الغذاء إما أن يكون نباتاً أو حيواناً، أما النبات فلا ينبت إلا من الأرض، وأما الحيوان فهو يحتاج أيضاً إلى الغذاء، ولا يمكن أن يكون غذاء كل حيوان حيواناً آخر، وإلا لزم الذهاب إلى ما لا نهاية له، وذلك محال فثبت أنّ أغذية الحيوانات يجب انتهاؤها إلى النبات، وثبت أن تولد النبات من الأرض، فثبت القطع بأنّ الأرزاق لا تحصل إلا من السماء والأرض {أمّن يملك السمع} أي: الأسماع {والأبصار} أي: من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحدّ الذي سوّياً عليه من الفطرة العجيبة. عن علي رضي الله تعالى عنه كان يقول: سبحان من بصر بشحم وأسمع بعظم وأنطق بلحم، أو جمعهما وحفظهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلائه وحفظه {ومن يخرج الحيّ من الميت} كأن يخرج الإنسان من النطفة والطائر من البيضة {ويخرج الميت من الحيّ}كأن يخرج النطفة من الإنسان والبيضة من الطائر. وقيل: المراد أن يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي ميت في الموضعين بعد الميم بكسر الياء المشدّدة، والباقون بعد الميم بسكون الياء. {ومن يدبر الأمر} أي: ومن يلي تدبير أمر الخلائق، وهو تعميم بعد تخصيص، وذلك لأنَّ أقسام تدبير الله تعالى في العالم السفلي وفي العالم العلوي وفي عالم الأرواح والأجساد أمور لا نهاية لها. وذكر كلها كالمتعذر، فلما ذكر بعض تلك الأفاصيل عقبها بالكلام الكلي ليدل على الباقي ثم بيّن تعالى أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سألهم عن مدبر هذه الأحوال {فسيقولون الله} إذ لا يقدرون على المكابرة والعناد في ذلك لفرط وضوحه، وإذا كانوا يقرّون بذلك {فقل} لهم يا محمد {أفلا تتقون} الشرك مع(1/1470)
اعترافكم بأنّ
(3/38)
---
كل الخيرات في الدنيا والآخرة إنما تحصل بفضل الله تعالى وإحسانه.
{فذالكم الله ربكم الحق} أي: الثابت ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه، وإذا ثبت أنّ هذا هو الحق وجب أن يكون ما سواه ضلالاً؛ لأنَّ النقيضين يمتنع أن يكونا حقين، وأن يكونا باطلين، فإذا كان أحدهما حقاً وجب أن يكون ما سواه باطلاً، كما قال تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} إذ لا واسطة بينهما فهو استفهام تقرير، أي: ليس بعده غيره فمن أخطأ الحق وهو عبادة الله تعالى وقع في الضلال، ولذلك سبب عنه قوله تعالى: {فأنّى} أي: فكيف ومن، أي: جهة {تصرفون} أي: تعدلون عن عبادته وأنتم تقرّون بأنّ الله هو الحق.
{كذلك} أي: كما حقت الربوبية لله تعالى أو أنّ الحق بعده الضلال، أو أنهم مصروفون عن الحق {حقت كلمة ربك} في الأزل {على الذين فسقوا} أي: تمرّدوا في كفرهم وخرجوا عن حدّ الاستصلاح. وقوله تعالى: {أنهم لا يؤمنون} بدل من الكلمة، أي: حق عليهم انتفاء الإيمان وعلم الله منهم ذلك والمراد بكلمة الله العدة بالعذاب، وهو {لأملأن جهنم} (الأعراف، 18) الآية، وأنهم لا يؤمنون تعليل بمعنى لأنهم لا يؤمنون، أو ذلك تفسير لكلمته التي حقت. وقرأ نافع وابن عامر كلمة بالألف بعد الميم على الجمع، والباقون بغير الألف بعد الميم على الإفراد.
الحجة الثانية: قوله تعالى:
(3/39)
---(1/1471)
{قل} أي: قل يا محمد لهؤلاء{هل من شركائكم} الذين زعمتموهم شركاء وأشركتموهم في أموالكم من أنعامكم وزرعكم {من يبدأ الخلق} كما بدأ به ليصح لكم ما ادّعيتم من الشركة {ثم يعيده} كما كان. فإن قيل: هم غير معترفين بالإعادة فكيف احتج عليهم تعالى بها كالابتداء في الإلزام بها؟ أجيب: بأنها لظهور برهانها وإن لم يقروا بها وضعت موضع ما إن دفعه دافع كان مكابراً رادّاً للظاهر البيّن الذي لا مدخل للشبهة فيه دلالة على أنهم في إنكارهم لها منكرون أمراً مسلماً معترفاً بصحته عند العقلاء. ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينوب عنهم في الجواب بقوله تعالى: {قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده} لأنّ لجاجهم لا يدعهم أن يعترفوا بها {فأنى} أي: فكيف {تؤفكون} عن عبادته مع قيام الدلائل. فإن قيل: ما الفائدة في ذكر هذه الحجة على سبيل السؤال والاستفهام؟ أجيب: بأنّ الكلام إذا كان ظاهراً جلياً ثم ذكر على سبيل الاستفهام كان ذلك أبلغ وأوقع في القلب.
الحجة الثالثة: قوله تعالى {قل} أي: قل يا محمد لهم {هل من شركائكم من يهدي إلى الحق} بنصب الحجج، وخلق الاهتداء، وإرسال الرسل، ولما كانوا جاهلين بالجواب الحق في ذلك أو معاندين أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب بقوله تعالى: {قل الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة {يهدي للحق} من يشاء لا أحداً ممن زعمتموه شركاء، فالاشتغال بشيء منها بعبادة أو غيرها جهل محض. قال الزجاج: يقال هديت إلى الحق، وهديت للحق بمعنى واحد. فالله تعالى ذكر هاتين اللغتين في قوله تعالى: {من يهدي إلى الحق} وفي قوله تعالى: {قل الله يهدي للحق} وقوله تعالى: {أفمن يهدي إلى الحق} أي: وهو الله تعالى {أحق أن يتبع أمّن لا يهدي} أي: يهتدي {إلا أن يهدى} أحق أن يتبع استفهام تقرير وتوبيخ، أي: الأوّل أحق {فما لكم كيف تحكمون} هذا الحكم الفاسد من اتباع من لا يستحق الاتباع، وقوله تعالى:
(3/41)
---(1/1472)
{وما يتبع أكثرهم} في تفسيره وجهان الأوّل: وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى. {إلا ظناً} لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم بل سمعوه من أسلافهم. الثاني: وما يتبع أكثرهم إلا ظناً في قولهم للأصنام آلهة، وإنها شفعاء عند الله تعالى إلا الظنّ، حيث قلدوا فيه آباءهم. قال الرازي: والقول الأول أقوى لأنا في القول الثاني نحتاج إلى تفسير الأكثر بالكل {إنَّ الظنّ لا يغني من الحق} فيما المطلوب فيه العلم {شيئاً} من الإغناء، فدلت هذه الآية على أنَّ كل من كان ظاناً في مسائل الأصول، وما كان قاطعاً لا يكون مؤمناً. فإن قيل: فقول أهل السنة: أنا مؤمن إن شاء الله يمنع من القطع فوجب أن يلزمهم الكفر أجاب الرزاي: بأنَّ هذا ضعيف من وجوه: الأوّل: أنَّ مذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه أنَّ الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل، فالشك حاصل في أنّ هذه الأعمال هل هي موافقة لأمر الله تعالى والشك في أحد أجزاء الماهية لا يوجب الشك في تمام الماهية. الثاني: أنّ الغرض من قوله إن شاء الله تعالى بقاء الإيمان عند الخاتمة.
الثالث: الغرض هضم النفس وكسرها. {إنَّ الله عليم} أي: بالغ العلم {بما يفعلون} أي: من اتباعهم الظنّ، وتكذيبهم الحق اليقين، فيجازيهم عليه. وقوله تعالى:
(3/42)
---(1/1473)
{وما كان} عطف على قوله: {ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} إلخ فهو حينئذٍ مقول القول، أي: قل لهم ذلك الكلام. {هذا القرآن} أي: الجامع لكل خير مع التأدية بأساليب الحكمة المعجزة لجميع الخلق {أن يفترى} أي: افتراء {من دون الله} أي: غيره؛ لأنّ المفترى هو الذي تأتي به البشر، وكفار مكة زعموا أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم أتى بهذا من عند نفسه، فأخبر الله تعالى أنّ هذا القرآن وحي أنزله عليه وأنه مبرأ عن الافتراء والكذب وأنه لا يقدر عليه أحد إلا الله، ثم ذكر هذا بقوله تعالى: {ولكن} أنزل {تصديق الذي بين يديه} أي: قبله من الكتب الذي أنزلها على أنبيائه كالتوراة والانجيل، فثبت بذلك أنه وحي من الله أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم وأنه معجزة له فإنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجتمع بأحد من العلماء، ثم أنه صلى الله عليه وسلم أتى بهذا القرآن العظيم المعجز، وفيه أخبار الأوّلين وقصص الماضين، وقيل تصديق الذي القرآن بين يديه من القيامة والبعث. {وتفصيل الكتاب} أي: تبيين ما كتب الله من الأحكام وغيرها {لا ريب} أي: لا شك {فيه}. وقوله تعالى: {من رب العالمين} متعلق بتصديق أو بأنزل المحذوف.
(3/43)
---(1/1474)
{أم} أي: بل {يقولون افتراه} أي: اختلقه محمد، ومعنى الهمزة فيه للإنكار {قل} أي: قل لهم يا محمد إن كان الأمر كما تقولون {فأتوا بسورة مثله} في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم، فأنتم عرب مثله في البلاغة والفطنة. فإن قيل: هل يتناول ذلك جميع السور الصغار والكبار أو يختص بالسور الكبار؟ أجيب: بأنّ هذه الآية في سورة يونس وهي مكية، فيكون المراد مثل هذه السورة؛ لأنها أقرب ما يمكن أن يشار إليه، هكذا أجاب الرازي، والأولى التناول لجميع السور؛ فإنهم لا يقدرون أن يأتوا بأقصر سورة. فإن قيل: لم قال في البقرة {بسورة من مثله} (البقرة، 23) وهنا {بسورة مثله}؟ أجيب: بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ ولم يكتب ولم يتتلمذ لأحد فقيل في سورة البقرة: {فأتوا بسورة من مثله} بناء على أنّ الضمير يرجع للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي: فليأت إنسان يساوي محمداً صلى الله عليه وسلم في عدم مطالعة الكتب وعدم الاشتغال بالعلوم بسورة تساوي هذه السورة، وحيث ظهر العجز ظهر المعجز، فهذا لا يدل على أنّ السورة في نفسها معجزة، ولكنه يدل على أن ظهور مثل هذه السورة من إنسان مثل محمد صلى الله عليه وسلم في عدم التعلم والتتلمذ معجز. ثم بيّن تعالى في هذه السورة أن تلك السورة في نفسها معجزة فإنّ الخلق وإن تتلمذوا وتعلموا وطالعوا وتفكروا لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سورة واحدة من هذه السور وهو المراد من قوله تعالى: {وادعوا من استطعتم} أي: فاستعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به {من دون الله} أي: غيره؛ فإنه تعالى وحده قادر على ذلك {إن كنتم صادقين} أي: في أني أتيت به من عندي؛ لأنَّ العاقل لا يجزم بشيء إلا إذا كان عنده منه مخرج وذلك لا يكون إلا عن دليل ظاهر وسلطان قاهر باهر.
(3/44)
---(1/1475)
تنبيه: مراتب تحدّي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن ستة: أوّلها: أنه تحداهم بكل القرآن كما قال تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} (الإسراء، 88) . ثانيها: أنه تحدّاهم بعشر سور فقال تعالى: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} (هود، 32) . ثالثها: أنه تحدّاهم بسورة واحدة كما قال تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} (البقرة، 23) . رابعها: أنه تحدّاهم بحديث مثله. خامسها: أن في تلك المراتب الأربعة كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجل يساوي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم التلمذة والتعلم، ثم في هذه السورة طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي: إنسان سواء تعلم العلوم أم لم يتعلمها. سادسها: أنّ في المراتب المتقدّمة تحدي واحد من الخلق، وفي هذه المرتبة تحدى جميعهم، وجوز أن يستعين البعض بالبعض في الاتيان بهذه المعارضة، كما قال تعالى: {وادعوا من استطعتم من دون الله} وههنا آخر المراتب فهذا مجموع الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات أنّ القرآن معجز، ثم إنَّ الله تعالى ذكر السبب الذي لأجله كذبوا بالقرآن فقال تعالى:
(3/45)
---(1/1476)
{بل كذبوا} أي: أوقعوا التكذيب الذي لا تكذيب أشنع منه مسرعين في ذلك {بما لم يحيطوا بعلمه} أي: القرآن أوّل ما سمعوه قبل أن يتدبروا آياته من غير شبهة أصلاً بل عناداً وطغياناً ونفوراً مما يخالف دينهم، فهو من باب: مَنْ جَهِلَ شيئاً عاداه، والإحاطة إدارة ما هو كالحائط حول الشيء وإحاطة العلم بالشيء العلم به من جميع وجوهه {ولما يأتهم} أي: إلى زمن تكذيبهم {تأويله} أي: تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب وعاقبة ما فيه من الوعيد حتى يتبين لهم أنه صدق أم كذب، ومعنى التوقع في لما أنه قد ظهر لهم بالآخرة إعجازه لما كرّر عليهم التحدي، فجربوا عقولهم في معارضته فصغرت وضعفت دونها، ومع هذا لم يقلعوا عن التكذيب تمرداً وعناداً {كذلك} أي: مثل تكذيبهم هذا التكذيب العظيم في الشناعة قبل تدبر المعجزة {كذب الذين من قبلهم} أي: من كفار الأمم الماضية فظلموا فأهلكناهم بظلمهم {فانظر} يا محمد {كيف كان عاقبة الظالمين} بتكذيب الرسل، أي: آخر أمرهم من الهلاك، فكذلك يهلك من كذبك من قومك، وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون الخطاب لكل فرد من الناس، والمعنى: فانظر أيها الإنسان كيف كان عاقبة من ظلم، فاحذر أن تفعل مثل فعله.
{ومنهم} أي: من قومك يا محمد، {من يؤمن به} أي: القرآن، أي: يصدق به في نفسه، ويعلم أنه حق، ولكنه يعاند بالتكذيب {ومنهم من لا يؤمن به} في نفسه لغباوته وقلة تدبره، أو منهم من يؤمن به في المستقبل بأن يتوب عن الكفر ويبدله بالإيمان، ومنهم من يصر ويستمرّ على الكفر، وإنما فسرت هذه الآية بهذين التأويلين؛ لأنّ كلمة يؤمن تصلح للحال والاستقبال {وربك أعلم بالمفسدين} أي: المعاندين على التفسير الأوّل، والمصرين على التفسير الثاني، وفي ذلك تهديد لهم.
(3/46)
---(1/1477)
{وإن كذبوك} أي: وإن كذبوك يا محمد بعد الزام الحجة {فقل} لهم {لي عملي} من الطاعة وجزاء ثوابها {ولكم عملكم} من الشرك وجزاء عقابه، أي: فتبرأ منهم فقد أعذرت، والمعنى: لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم حقاً كان أو باطلاً. {أنتم بريؤن مما أعمل وأنا برئ مما تعملون} لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم. واختلف في معنى ذلك فقيل: معنى الآية الزجر والردع. وقيل: بل معناه استمالة قلوبهم. وقال مقاتل والكلبي: هذه الآية منسوخة بآية السيف. قال الرازي: وهذا بعيد؛ لأنّ شرط الناسخ أن يكون رافعاً لحكم المنسوخ، ومدلول هذه الآية اختصاص كل واحد بأفعاله وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب، وذلك لا يقتضي حرمة القتال، وآية القتال ما رفعت شيئاً من مدلولات هذه الآية، فكان القول بالنسخ باطلاً انتهى. ولا تنبغي هذه المبالغة مع مثل من ذكر، وقد تبعهما جماعة من المفسرين.
(3/47)
---(1/1478)
ولما قسم تعالى الكفار قسمين: منهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به قسم من لا يؤمن به قسمين: منهم من يكون في نهاية البغض له والعداوة له ونهاية النفرة عن قبول دينه، ومنهم من لا يكون، كذلك، فوصف القسم الأول في قوله تعالى: {ومنهم} أي: من هؤلاء المشركين، {من يستمعون إليك} إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع بأسماعهم الظاهرة، ولا ينفعهم لشدّة عداوتهم وبغضهم لك، فإن الإنسان إذا قوي بغضه لآخر وعظمت نفرته منه صارت نفسه معرضة عن جميع جهات محاسن كلامه {أفأنت تسمع الصم} أي: أتقدر على إسماعهم {ولو كانوا} مع الصمم {لا يعقلون} أي: لأنّ الأصمّ العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دويّ الصوت، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعاً فقد تم الأمر، فكما أنك لا تقدر على إسماع الأصم الذي لا يعقل لا تقدر على إسماع من أصم الله تعالى قلبه، فإنَّ الله تعالى صرف قلوبهم عن الانتفاع بما يستمعون ولم يوفقهم لذلك، فشبههم بالصم في عدم الانتفاع بما يتلى عليهم، ثم وصف القسم الثاني في قوله تعالى:
(3/48)
---
{ومنهم من ينظرون إليك} أي: يعاينون دلائل نبوّتك ولا يصدّقونك {أفأنت تهدي العمي} أي: أتقدر على هدايتهم {ولو كانوا} مع العمى {لا يبصرون} أي: لا بصيرة لهم؛ لأنَّ الأعمى الذي في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن، فأمّا العمى مع الحمق فجهد البلاء، فلا تقدر على هداية من أعمى الله بصيرته، فهؤلاء في اليأس من أن يقبلوا أو يصدقوا كالصم والعمي الذين لا عقول لهم ولا بصائر، فلا يقدر على إسماعهم وهدايتهم إلا الله تعالى.(1/1479)
تنبيه: اختلف في أنّ السمع أفضل أو البصر فمنهم من قال: السمع، واحتج على ذلك بأمور منها تقدّمه في الآية، ومنها: أنّ القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجوانب، والقوّة الباصرة لا تدرك المرئيّ إلا من جهة واحدة، وهي المقابل، ومنها: أنّ الإنسان إنما يستفيد العلم من التعلم من الأستاذ، وذلك لا يكون إلا بقوة السمع، فاستكمال النفس بالكمالات العلمية لا يحصل إلا بقوة السمع. ومنها: أنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يراهم الناس ويسمعون كلامهم، فنبوّتهم ما حصلت بسبب ما معهم من الصفات المرئية، وإنما حصلت بسبب ما معهم من الأحوال المسموعة وهو الكلام وتبليغ الشرائع، وبيان الأحكام. ومنها: أنّ المعنى الذي يمتاز به الإنسان من سائر الحيوانات هو النطق بالكلام، وإنما ينتفع بذلك بالقوّة السامعة، فمتعلق السمع النطق الذي يحصل به شرف الإنسان، ومتعلق البصر إدراك الألوان والأشكال، وذلك أمر مشترك فيه بين الناس وبين سائر الحيوانات.
(3/50)
---(1/1480)
ومنهم من قال: البصر، واحتج بأمور منها: أن آلة القوّة الباصرة هي النور، وآلة القوّة السامعة هي الهواء، والنور أشرف من الهواء. ومنها: أنّ جمال الوجه يحصل بالبصر وبذهابه عيبه وذهاب السمع لا يورث الإنسان عيباً في جمال وجهه، والعرب تسمي: العينين الكريمتين، ولا تصف السمع بمثل هذا، وفي الحديث يقول الله تعالى: «من أذهبت كريمتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة». ومنها: أنهم قالوا في المثل المشهور: ليس وراء العيان بيان. وذلك يدل على أن أكمل وجوه الإدراكات هو الإبصار. ومنها: أنّ كثيراً من الأنبياء سمع الله، واختلفوا في أنه هل رآه منهم أحد أم لا؟ وأيضاً فإنّ موسى عليه السلام أسمعه الله تعالى كلامه من غير سبق سؤال والتماس، فلما طلب الرؤية قال: لن تراني، وذلك يدل على أنَّ حال الرؤية أعلى من حال السماع، وهذا هو الظاهر. ولما حكم تعالى على أهل الشقاوة بالشقاوة بقضائه وقدره السابق فيهم أخبر تعالى أنّ تقدير الشقوة عليهم ما كان ظلماً منه بقوله تعالى: {إنّ الله لا يظلم الناس شيئاً} أي: لأنه تعالى في جميع أحواله متفضل وعادل، فيتصرّف في ملكه كيف يشاء والخلق كلهم عبيده، وكل من تصرّف في ملكه بالفضل والعدل لا يكون ظالماً، وإنما قال تعالى: {ولكن الناس أنفسهم يظلمون} لأنّ فعلهم منسوب إليهم بسبب الكسب وإن كان قد سبق قضاء الله تعالى وقدره فيهم، ففي ذلك دليل على أنّ للعبد كسباً وأنه ليس مسلوب الاختيار كما زعمت المجبرة. وقرأ حمزة والكسائي بكسر النون مخففة ورفع السين، والباقون بنصب النون مشدّدة ونصب السين.
(3/51)
---(1/1481)
ولما وصف تعالى هؤلاء الكفار بقلّة الإصغاء وترك التدبر أتبعه بالوعيد بقوله تعالى: {ويوم يحشرهم} أي: واذكر يا محمد يوم نحشر هؤلاء المشركين لموقف الحساب، وأصل الحشر: إخراج الجماعة وإزعاجهم عن مكانهم {كأن} أي: كأنهم {لم يلبثوا} في دنياهم. والجملة في موضع الحال من ضمير نحشرهم البارز، أي: مشبهين بمن لم يلبثوا {إلا ساعة} حقيرة {من النهار} أي: يستقصرون مدّة مكثهم في الدنيا وفي القبور لهول ما يرون {يتعارفون بينهم} أي: يعرف بعضهم بعضاً إذا بعثوا ثم ينقطع التعارف لشدّة الأهوال، والجملة حال مقدّرة متعلق الظرف، والتقدير: يتعارفون يوم نحشرهم. وقوله تعالى: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله} أي: بالبعث. يحتمل وجهين: الأوّل: أن يكون على إرادة القول، أي: يتعارفون بينهم قائلين ذلك، الثاني: أن يكون كلام الله تعالى، فيكون شهادة من الله تعالى عليهم بالخسران. والمعنى: أن من باع آخرته بالدنيا فقد خسر؛ لأنه أعطى الكثير الشريف الباقي وأخذ القليل الخسيس الفاني {وما كانوا مهتدين} أي: إلى رعاية مصالح التجارة، وذلك لأنهم اغتروا بالظاهر وغفلوا عن الحقيقة، فصاروا كمن رأى زجاجة خسيسة فظنها جوهرة شريفة فاشتراها بكل ما ملكه فإذا عرضها على الناقدين خاب سعيه وفات أمله ووقع في حرقة الروع وعذاب القلب. وقوله تعالى:
(3/52)
---(1/1482)
{وإمّا} فيه إدغام إن الشرطية في ما الزائدة {نرينّك} يا محمد {بعض الذي نعدهم} به من العذاب في حياتك، وجواب الشرط محذوف، أي: فذاك {أو نتوفّينّك} قبل أن نريك ذلك الوعد في الدنيا فإنك ستراه في الآخرة وهو قوله تعالى: {فإلينا} بعد البعث {مرجعهم} فنريك هناك ما هو أقرّ لعينك وأسرّ لقلبك، وقوله تعالى: {ثم الله شهيد على ما يفعلون} فيه وعيد وتهديد لهم، أي: أنه تعالى شهيد على أفعالهم التي فعلوها في الدنيا فيجازيهم عليها يوم القيامة، ولما بيّن تعالى حال محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه بين أنّ حال كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم كذلك بقوله تعالى:
{ولكل أمة} أي: من الأمم التي خلت من قبلك {رسول} يدعوهم إلى الله تعالى، وقوله تعالى: {فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط} فيه إضمار تقديره: فإذا جاء رسولهم وبلغهم ما أرسل به إليهم فكذبه قوم وصدقه آخرون، قضي، أي: حكم وفصل بينهم بالقسط، أي: بالعدل. وفي وقت هذا القضاء والحكم بينهم قولان: أحدهما أنه في الدنيا بأن يهلك الكافرين، وينجي رسوله والمؤمنين لقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} (الإسراء، 15) والثاني في الآخرة: وذلك أنّ الله تعالى إذا جمع الأمم يوم القيامة للحساب والفصل بين المؤمن والكافر والطائع والعاصي جيء بالرسل لتشهد عليهم لقوله تعالى: {وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم} (الزمر، 69) والمراد منه: المبالغة في إظهار العدل وهو قوله تعالى: {وهم لا يظلمون} في جزاء أعمالهم شيئاً بل يجازى كل واحد على قدر عمله فكذلك يفعل بهؤلاء.
(3/53)
---(1/1483)
{ويقولون متى هذا الوعد} الذي تعدنا به يا محمد من نزول العذاب ومن قيام الساعة وإنما قالوا ذلك على وجه التكذيب والاستبعاد {إن كنتم صادقين} أي: فيما تعدونا به، وإنما قالوا بلفظ الجمع على سبيل التعظيم أو خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وإن كان كل أمة قالوا لرسولها مثل ذلك وهو الموافق لقوله تعالى: {ولكل أمّة رسول} قال الله تعالى:
{قل} أي: قل لهم يا محمد {لا أملك لنفسي ضرًّا} من مرض أو فقر أدفعه {ولا نفعاً} من صحة أو غنىً أجلبه {إلا ما شاء الله} أن يقدرني عليه، فكيف أملك لكم حلول العذاب أوقيام الساعة ولا يقدر على ذلك أحد إلا الله تعالى {لكل أمة أجل} أي: مدّة مضروبة {إذا جاء أجلهم} أي: انقضت مدّة أعمارهم {فلا يستأخرون} أي: لا يتأخرون {عنه ساعة} ثم عطف على الجملة الشرطية بكمالها {ولا يستقدمون} أي: ولا يتقدّمون، أي: ولا يستعجلون؛ فإنّ الوفاء بالوعد لابدّ منه، والسين فيهما بمعنى الوجدان، أي: لا يوجد لهم المعنى الذي منع منه الفعل، ويجوز أن يكون المعنى لا يجدون التأخر ولا التقدّم وإن اجتهدوا في الطلب، فيكون في السين معنى الطلب. وتدلّ الآية على أنَ أحداً لا يموت إلا بانقضاء أجله، وكذا المقتول لا يقتل إلا على هذا الوجه. وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى، وسهل ورش وقنبل الثانية وأبدلها أيضاً حرف مد، والباقون بالتحقيق. قال الله تعالى:
(3/54)
---(1/1484)
{قل} أي: قل لهم يا محمد أيضاً {أرأيتم إن أتاكم عذابه} الذي تستعجلون به {بياتاً} أي: في الليل بغتة كما يفعل العدوّ {أو نهاراً} أي: وقت أنتم فيه تشتغلون بطلب المعاش والكسب {ماذا} أي: أيّ شيء {يستعجل منه} أي: من عذابه وعذاب كل مكروه لا يحتمل شيء منه {المجرمون} أي: المشركون، وضع المجرمون موضع المضمر للدّلالة على أنهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من مجيء الوعيد لا أن يستعجلوا، وجملة الاستفهام متعلقة بأرأيتم، وجواب الشرط محذوف وهو تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ فيه.
{أثمَّ إذا ما وقع} أي: حل بكم {آمنتم} أي: آمنتم بالله أو العذاب وقت نزول العذاب وهو وقت اليأس، والهمزة لإنكار التأخير فلا يقبل منكم، وقوله تعالى: {آلآن} على إرادة القول، أي: قيل لهم إذا آمنوا وقت نزول العذاب آلآن {وقد كنتم به تستعجلون} تكذيباً واستهزاءً.
تنبيه: اتفق قالون مع ورش على النقل هنا، واتفق القراء كلهم على همزة الوصل التي بعد همزة الاستفهام إن فيها وجهين: وهما البدل والتسهيل. وقوله تعالى:
{ثم قيل للذين ظلموا} عطف على قيل المقدّر، أي: من، أي: قائل كان استهانة بهم. وقرأ هشام والكسائي بإشمام القاف وهو أن تضم القاف قبل الياء، والباقون بالكسر {ذوقوا عذاب الخلد} أي: الذي تخلدون فيه، والاتيان بثم إشارة إلى تراخي ذلك عن الإهلاك في الدنيا بالمكث في البرزخ أو إلى أن عذابه أدنى من عذاب يوم الدين {هل} أي: ما {تجزون إلا بما كنتم تكسبون} في الدنيا من الكفر والمعاصي {ويستنبئونك} أي: يستخبرونك يا محمد {أحق هو} أي: ما وعدتنا به من نزول العذاب وقيام الساعة وهو استفهام على جهة الإنكار والاستهزاء، قاله حيي بن أخطب لما قدم مكة {قل} لهم في جوابهم {إي وربي إنه لحق} أي: كائن ثابت لا بدّ من نزوله بكم.
(3/55)
---(1/1485)
تنبيه: أي: بمعنى نعم وهو من لوازم القسم، ولذلك توصل بواوه في التصديق فيقال: إي والله، ولا ينطقون به وحده. {وما أنتم بمعجزين} أي: بفائتين العذاب؛ لأن من عجز عن شيء فقد فاته.
(3/56)
---
{ولو أنّ لكل نفس ظلمت} أي: أشركت {ما في الأرض} من الأموال {لافتدت به} من عذاب يوم القيامة ولم ينفعها الفداء لقوله تعالى {ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} (البقرة، 48) . {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب} أي: حين عاينوه وأبصروه صاروا مبهوتين متحيرين فلم يطيقوا عنده بكاءً ولا صراخاً سوى إسرار الندم كالحال فيمن ذهب به ليصلب؛ فإنه يبقى مبهوتاً متحيراً لا ينطق بكلمة. وقيل: إنهم أخلصوا لله في تلك الندامة، ومن أخلص في الدعاء أسره، وفيه تهكم بهم وبإخلاصهم؛ لأنهم إنما أتوا بهذا الإخلاص في غير وقته، بل كان من الواجب عليهم أن يأتوا به في دار الدنيا وقت التكليف، وقيل: المراد بالإسرار الإظهار، وهو من الأضداد؛ لأنهم إنما أخفوا الندامة على الكفر والفسق في الدنيا لأجل حفظ الرياسة، وفي القيامة بطل هذا فوجب الإظهار وليس هناك تخلد. فإن قيل: أسرّوا جاء على لفظ الماضي والقيامة من الأمور المستقبلة أجيب: بأنها لما كانت واجبة الوقوع جعل الله مستقبلها كالماضي. {وقضي بينهم} أي: بين الخلائق {بالقسط} أي: بالعدل {وهم لا يظلمون}.
فإن قيل: هذه الآية مكرّرة؟ أجيب: بأنّ الأولى في القضاء بين الأنبياء وتكذيبهم وهذه عامّة. وقيل: بين المؤمنين والكفار. وقيل: بين الرؤساء والأتباع، فإنّ الكفار وإن اشتركوا في العذاب فلا بدّ أن يقضي الله تعالى بينهم؛ لأنه لا يمتنع أن يكون قد ظلم بعضهم بعضاً في الدنيا وخانه، فيكون في ذلك القضاء تخفيف عذاب بعضهم وتثقيل لعذاب الباقين؛ لأنّ العدل يقتضي أن ينصف المظلومين من الظالمين، ولا سبيل إليه إلا أن يخفف من عذاب المظلومين، ويثقل في عذاب الظالمين. وقوله تعالى:
u
(3/58)
---(1/1486)
{ألا إنّ لله ما في السموات والأرض} تقرير لقدرته تعالى على الإثابة والعقاب {ألا إنّ وعد الله} أي: ما وعد به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من البعث للجزاء ومن ثواب الطائع وعقاب العاصي {حق} لا شك فيه {ولكنّ أكثرهم} أي: الناس {لا يعلمون} أي: جاهلون عن حقيقة ذلك فهم باقون على الجهل معدودون مع البهائم لقصور عقلهم إلا ظاهراً من الحياة الدنيا.
{هو} أي: الذي يملك ما في السموات والأرض {يحيي ويميت} أي: قادر على الإحياء والإماتة لا يتعذر عليه شيء مما أراد {وإليه ترجعون} بعد الموت للجزاء وقوله تعالى: {يا أيها الناس} خطاب عامّ. وقيل: لأهل مكة {قد جاءتكم موعظة من ربكم} أي: كتاب فيه ما لكم وعليكم وهو القرآن {وشفاء} أي: دواء {لما في الصدور} أي: القلوب من داء الجهل؛ لأنّ داء الجهل أضرّ للقلب من المرض للبدن، وأمراض القلب هي الأخلاق الذميمة والعقائد الفاسدة والجهالات المهلكة، والقرآن مزيل لهذه الأمراض كلها؛ لأنّ فيه المواعظ والزواجر والتخويف والترغيب والترهيب والتحذير والتذكير، فهو الشفاء لهذه الأمراض القلبية، وإنما خص تعالى الصدر بالذكر؛ لأنه موضع القلب وغيره وهو أعز موضع في الإنسان لمكان القلب فيه {وهدى} من الضلالة {ورحمة} أي: إكرام عظيم {للمؤمنين} لأنهم هم الذين انتفعوا به دون غيرهم. واختلف في تفسيره قوله تعالى:
(3/59)
---(1/1487)
{قل بفضل الله وبرحمته} فقال مجاهد وقتادة: فضل الله: القرآن، ورحمته: ان جُعِلْنَا من أهله. وقال ابن عباس والحسن: فضل الله: الإسلام، ورحمته: القرآن. وعن أبيّ بن كعب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا {قل بفضل الله وبرحمته} فقال:«بكتاب الله والإسلام». وقال ابن عمر: فضل الله: الإسلام، ورحمته: تزيينه في قلوبنا. وقيل: فضل الله: الإسلام، ورحمته: الجنة. وقيل: فضل الله: القرآن، ورحمته: السنن. ولا مانع من أن نفسر الآية بجميع ذلك إذ لا تنافي بين هذه الأقوال. والباء في بفضل الله وبرحمته متعلقة بمحذوف يفسره ما بعده تقديره: قل فليفرحوا بفضل الله وبرحمته. {فبذلك فليفرحوا} والتكرير للتأكيد والتقرير وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحد المفعولين لدلالة المذكور عليه، والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فليفرحوا بهما. فإنه لا مفروح به أحق منهما. {هو} أي: المحدّث عنه من الفضل والرحمة {خير مما يجمعون} أي: من حطام الدنيا ولذاتها الفانية. وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة.
{قل} يا محمد لكفار مكة {أرأيتم} أي: أخبروني {ما أنزل} أي: خلق {الله لكم من رزق} وأنه تعالى جعل الرزق منزلاً؛ لأنه مقدر في السماء يحصل بأسباب منها {فجعلتم منه} أي: من ذلك الرزق {حراماً وحلالاً} وهو مثل ما ذكروه من تحريم السائبة والوصيلة والحام، ومثل قولهم: هذه أنعام وحرث حجر. ومثل قولهم: هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرّم على أزواجنا. ومثل قولهم: ثمانية أزواج من الضأن اثنين {قل} لهم يا محمد {ءآلله أذن لكم} في هذا التحريم والتحليل {أم} أي: بل {على الله تفترون} أي: تكذبون على الله بنسبة ذلك إليه
(3/60)
---(1/1488)
{وما ظن الذين يفترون} أي: يتعمدون {على الله الكذب} أي: أيّ شيء ظنهم به {يوم القيامة} أيحسبون أن لا يؤاخذهم ولا يجازيهم على أعمالهم ؟فهو استفهام بمعنى التوبيخ والتقريع والتهديد والوعيد العظيم لمن يفتري على الله الكذب {إن الله لذو فضلٍ على الناس} بنعم كثيرة لا تحصى منها: إنزال الكتب مفصلاً، فيها ما يرضيه وما يسخطه، ومنها: إرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام لبيانها بما يحتمله عقول الخلق منها، ومنها: طول إمهالهم على سوء أفعالهم، ومنها: إنعامه عليهم بالعقل، فكان شكره واجباً عليهم {ولكن أكثرهم} أي: الناس {لا يشكرون} هذه النعم ولا يستعملون العقل في دلائل الله تعالى ولا يقبلون دعوة أنبيائه، ولا ينتفعون باستماع كتب الله، وقوله تعالى:
{وما تكون} خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم {في شأن} أي: عمل من الأعمال وجمعه شؤون، والضمير في قوله تعالى: {وما تتلو منه} إمّا للشأن؛ لأنّ تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو معظم شأنه، وإمّا للتنزيل كأنه قيل: وما تتلو من التنزيل {من قرآن} لأنّ كل جزء منه قرآن، والإضمار قبل الذكر تفخيم له، وإما لله تعالى، والمعنى: وما تتلو من الله من قرآن نازل عليك، وقوله تعالى {ولا تعملون من عمل} أي: أيّ عمل كان تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رئيسهم وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم ولذلك ذكر حيث خص بما فيه فخامة وهو الشأن، وذكر حيث عمّ بقوله تعالى: من عمل،بما يتناول الجليل والحقير، وقيل: إنّ الكل داخلون في الخطابين الأوّلين أيضاً؛ لأنه من المعلوم أنه إذا خوطب رئيس القوم كان القوم داخلين في ذلك الخطاب، كما في قوله تعالى: {يا أيها النبيّ إذا طلقتم النساء} (الطلاق، 1) .
(3/61)
---(1/1489)
{إلا كنا عليكم شهودا} أي: رقباء نحصي عليكم أعمالكم؛ لأنّ الله تعالى رقيب على كل شيء وعالم بكل شيء إذ لا محدث ولا خالق ولا موجد إلا الله تعالى، فكل ما يدخل في الوجود هنا من أحوال العباد وأعمالهم الظاهرة والباطنة داخل في علمه وشاهد عليه {إذ تفيضون} أي: الله شاهد عليكم حين تدخلون وتخوضون {فيه} أي: ذلك العمل. وقيل: الإفاضة الدفع بكثرة. وقال الزجاج: إذ تنتشرون فيه، يقال: أفاض القوم في الحديث إذا انتشروا فيه {وما يعزب} أي: يغيب {عن ربك} يا محمد {من مثقال} أي: وزن {ذرّة} وهي النملة الحمراء الصغيرة خفيفة الوزن جدّاً. وقيل: المراد بها الهباء وهو الشيء المنبث الذي تراه في البيت في ضوء الشمس. وقرأ الكسائي بكسر الزاي والباقون بالضم، ومن صلة على القراءتين، وإنما قيد بقوله تعالى: {في الأرض ولا في السماء} تقريباً لعقول العامّة. فإن قيل: لم قدّم ذكر الأرض على السماء، وقدم ذكر السماء على الأرض في سورة سبأ حيث قال تعالى: {ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض} فما فائدة ذلك؟ أجيب: بأنّ الكلام هنا في حال أهلها، والمقصود منه هو البرهان على إحاطة علمه، على أنّ العطف بالواو حكمه حكم التثنية {ولا أصغر من ذلك} أي: الذرّة {ولا أكبر} أي: منها {إلا في كتاب مبين} أي: بين وهو اللوح المحفوظ. وقرأ حمزة برفع الراء من أصغر وأكبر على الابتداء والخبر، والباقون بالنصب على أنّ ذلك اسم لا وفي كتاب خبرها
{ألا إنّ أولياء الله} أي: الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة {لا خوف عليهم} من لحوق مكروه {ولا هم يحزنون} بفوات مأمول، وفسرهم بقوله تعالى:
(3/62)
---(1/1490)
{الذين آمنوا وكانوا يتقون} الله بامتثال أمره ونهيه، وهذا الذي فسر الله تعالى به الأولياء لا مزيد عليه. وعن علي رضي الله عنه: هم قوم صفر الوجوه من السهر، عمش العيون من العبر، خمص البطون من الخوا. وعن سعيد بن جبير أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل من أولياء الله تعالى؟ فقال: «هم الذين يذكر الله برؤيتهم» يعني السمت والهيئة. وعن ابن عباس: الإخبات والسكينة. وعن عمر رضي الله تعالى عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء تغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله، قالوا: يا رسول الله أخبرنا من هم؟ وما أعمالهم؟ فلعلنا نحبهم، قال: هم قوم تحابوا في الله بغير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إنّ وجوههم لنور، وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس» ثم قرأ الآية. ونقل النووي في مقدمة «شرح المهذب» عن الإمامين الشافعيّ وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما أنّ كلاً منهما قال: إذا لم تكن العلماء أولياء لله فليس لله وليّ. وذلك في العالم العامل بعلمه. وقال القشيري: من شرط الوليّ أن يكون محفوظاً كما أن من شرط النبيّ أن يكون معصوماً، فكل من كان للشرع عليه اعتراض فهو مغرور مخادع. فالوليّ هو الذي توالت أفعاله على الموافقة. ولما نفى الله عنهم الخوف والحزن زادهم فقال تعالى مبيناً لتوليته لهم بعد أن شرع بتوليتهم له:
(3/63)
---(1/1491)
{لهم البشرى} أي: الكاملة {في الحياة الدنيا وفي الآخرة} أمّا البشرى في الدنيا ففسرت بأشياء منها: الرؤيا الصالحة، فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: «البشرى هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له». وقال صلى الله عليه وسلم «ذهبت النبوة وبقيت المبشرات» وقال: «الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلماً يخافه فليتعوّذ منه وليبصق عن شماله ثلاث مرّات فإنه لا يضرّه». وقال: «الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة» ومنها: محبة الناس له، وذكرهم إياه في الثناء الحسن. وعن أبي ذرّ قال: قلت: يا رسول الله، إنّ الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال: «تلك عاجل بشرى المؤمن». ومنها: البشرى لهم عند الموت، قال تعالى: {تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة} (فصلت، 30) . وأمّا البشرى في الآخرة فتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة، وما يرونه من بياض وجوههم، وإعطاء الصحائف بأيمانهم، وما يقرؤون منها، وسلام الله تعالى عليهم كما قال تعالى: {سلامٌ قولاً من ربَ رحيم} (يس، 58) وغير ذلك من المبشرات بما بشر الله تعالى به عباده المتقين في كتابه، وعلى ألسنة أنبيائه من جنته وكريم ثوابه، فإن لفظ البشارة مشتق من خبر سار يظهر أثره في بشرة الوجه، فكل ما كان كذلك دخل في هذه الآية، ثم إنه تعالى لما ذكر صفة أوليائه وشرح أحوالهم قال تعالى: {لا تبديل} أي: بوجه من الوجوه {لكلمات الله} أي: لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده، والكلمة والقول سواء، ونظيره قوله تعالى: {ما يبدّل القول لديّ} (ق، 29) . وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين {هو الفوز العظيم} هذه الجملة والتي قبلها اعتراض لتحقق المبشر به وتعظيم شأنه، وليس من شرطه أن يقع بعده كلام يتصل بما قبله.
(3/64)
---(1/1492)
{ولا يحزنك} يا محمد {قولهم} أي: هؤلاء المشركين ، أي: لا يغمك تكذيبهم وتهديدهم وتشويرهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك، وسائر ما يتكلمون به في شأنك. وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي من أحزنه، والباقون بفتح الياء وضم الزاي وكلاهما بمعنى. وقوله تعالى: {إن العزة} أي: القوة {لله جميعاً} استئناف بمعنى التعليل، كأنه قيل: ما لي لا أحزن فقيل إن العزة لله جميعاً،، أي: أنّ الغلبة والقهر في مملكة الله لله جميعاً، لا يملك أحد شيئاً منها لا هم ولا غيرهم، فهو يغلبهم وينصرك عليهم. قال تعالى: {كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي} (المجادلة، 21) . وقال تعالى: {إنا لننصر رسلنا} (غافر، 51).
وقيل: إنّ المشركين كانوا يتعززون بكثرة أموالهم وأولادهم وعبيدهم، فأخبر الله تعالى أنَّ جميع ذلك في ملكه فهو قادر على أن يسلب جميع ذلك ويذلهم بعد العز {هو السميع} أي: البليغ السمع لأقوالهم {العليم} أي: المحيط العلم بضمائرهم وجميع أحوالهم فهو البالغ القدرة على كل شيء فيجازيهم، وهو تعليل لتفرّده بالعزة؛ لأنه تفرّد بهذين الوصفين فانتفيا عن غيره، ومن انتفيا عنه كان دون الحيوانات العجم فأنى يكون له عزة؟ فإن قيل: قوله تعالى: {إنّ العزة لله جميعاً} يضادّ قوله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} (المنافقون، 8) أجيب: بالمنع لأنّ عزة الرسول والمؤمنين كلها بالله فهي لله.
(3/65)
---(1/1493)
{ألا إنّ لله من في السموات ومن في الأرض} ملكاً وخلقاً. فإن قيل: قد ذكر الله تعالى في الآية المتقدّمة {ألا إنَّ لله ما في السموات والأرض} بلفظ ما وقال هنا بلفظ من فما فائدة ذلك؟ أجيب: بأنه تعالى غلب في الآية الأولى ما لا يعقل على من يعقل لكثرته، وفي هذه غلب العاقل على غيره لشرفه، وقيل: مجموع الآيتين دال على أنّ الكل خلقه وملكه، وقيل: إنّ المراد بمن في السموات الملائكة، وبمن في الأرض الثقلان، وإنما خصهم بالذكر لشرفهم، وإذا كان هؤلاء في ملكه وتحت قهره فما لا يعقل منها أحق أن لا يكون له ندّا وشريكاً فهو كالدليل على قوله تعالى: {وما يتبع الذين يدعون} أي: يعبدون {من دون الله} أي: غيره أصناماً {شركاء} على الحقيقة وإن كانوا يسمونها شركاء ـ تعالى الله عن ذلك ـ {إنّ} أي: ما {يتبعون} في ذلك {إلا الظنّ} أي: ظنها أنها آلهة تشفع لهم وأنها تقربهم إلى الله تعالى، ثم بيّن تعالى أنّ هذا الظنّ لا حكم له بقوله تعالى: {وإن} أي: ما {هم إلا يخرصون} أي: يكذبون في ذلك، ويجوز أن يكون وما يتبع في معنى الاستفهام، أي: وأيّ شيء يتبعون، وشركاء على هذا نصب بيدعون، وعلى الأوّل بيتبع، وكان حقه {وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء} شركاء فاقتصر على أحدهما للدلالة وقوله تعالى:
(3/66)
---(1/1494)
{هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه} أي: ليزول عنكم التعب والكلال فيه بما تقاسون في نهاركم من تعب التردد في المعاش {والنهار مبصراً} أي: مضيئاً تبصرون فيه مطالب أرزاقكم ومكاسبكم تنبيه على كمال قدرته وعظيم نعمته المتوحد هو بهما ليدلهم على تفرده باستحقاق العبادة. وإضافة الإبصار إلى النهار مع أنه يبصر فيه على طريق نقل الاسم من المسبب إلى السبب، كقولهم ليل نائم؛ لأنّ الليل سبب للسكون. قال قطرب: تقول العرب: أظلم الليل، أي: صار ذا ظلمة، وأضاء النهار، أي: صار ذا ضياء. {إن في ذلك} المذكور {لآيات} أي: دلالات على وحدانيته تعالى {لقوم يسمعون} سماع اعتبار وتدبر فيعلمون بذلك أنّ الذي خلق الأشياء كلها هو الإله المعبود المتفرد بالوحدانية في الوجود، ثم ذكر الله تعالى نوعاً من أباطيل الكفار بقوله تعالى:
{قالوا} أي: اليهود والنصارى ومن زعم أنّ الملائكة بنات الله {اتخذ الله ولداً} قال الله تعالى: {سبحانه} أي: تنزيهاً له عن الولد {هو الغنيّ} عن كل أحد، وإنما يطلب الولد من يحتاج إليه، ثم بين تعالى غناه بقوله تعالى: {له ما في السموات وما في الأرض} من ناطق وصامت ملكاً وخلقاً، ولما بين تعالى بالدليل الواضح امتناع ما أضافوا إليه عطف بالإنكار والتوبيخ فقال: {إن} أي: ما {عندكم من سلطان} أي: حجة {بهذا} أي: الذي تقولونه، ثم بالغ تعالى في ذلك الإنكار عليهم بقوله تعالى: {أتقولون على الله ما لا تعلمون} حقيقته وصحته، وتضيفون إليه ما لا يجوز إضافته إليه تعالى جهلاً منكم، والاستفهام للتوبيخ.
(3/67)
---(1/1495)
{قل} يا محمد لهؤلاء الذين يختلقون على الله الكذب فيقولون عليه الباطل ويزعمون أنّ له ولداً {إنَّ الذين يفترون} أي: يتعمدون {على الله الكذب لا يفلحون} أي: لا ينجحون في سعيهم ولا يفوزون بمطلوبهم بل خابوا وخسروا، فإنهم لا ينجون من النار ولا يفوزون بالجنة، ومن الناس من إذا فاز بشيء من المطالب العاجلة والمقاصد الخسيسة ظنّ أنه قد فاز بالمقصد، والله سبحانه وتعالى أزال هذا الخيال بأن قال:
{متاع في الدنيا} وفيه إضمار تقديره: لهم متاع في الدنيا، على أنه مبتدأ خبره محذوف، ويصح أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره: افتراؤهم متاع في الدنيا يقيمون به رياستهم في الكفر أو حياتهم أو تقلبهم متاع في الدنيا وهو أيام يسيرة بالنسبة إلى طول بقائهم في العذاب {ثم إلينا مرجعهم} بالموت {ثم نذيقهم العذاب الشديد} بعد الموت {بما} أي: بسبب ما {كانوا يكفرون} ولما ذكر سبحانه وتعالى في هذه السورة من أحوال كفار قريش وما كانوا عليه من الكفر والعناد شرع بعد ذلك في قصص الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم وذكر الله تعالى منهم في هذه السورة ثلاث قصص:
القصة الأولى: قصة نوح عليه السلام المذكورة بقوله تعالى:
(3/68)
---(1/1496)
{واتل} يا محمد {عليهم} أي: كفار قريش {نبأ} أي: خبر {نوح} وذلك ليكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه أسوة ممن سلف من الأنبياء، فإنه كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع أنّ معاملة هؤلاء الكفار مع كل الرسل ما كان إلا على هذا الوجه خف ذلك على قلبه، كما يقال: المصيبة إذا عمت خفت، ولأنّ الكفار إذا سمعوا هذه القصص، وعلموا أنّ الجهال وإن بالغوا في إيذاء الأنبياء المتقدّمين، إلا أنّ الله تعالى أعلنهم بالآخرة ونصرهم وأيدهم وقهر أعداءهم؛ كان سماع هؤلاء الكفار لأمثال هذه القصص سبباً لانكسار قلوبهم ووقوع الخوف والوجل في صدورهم، ولأنّ الكلام إذا طال تقريراً في نوع من أنواع العلوم فربما حصل نوع من أنواع الملالة، فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفن من العلم إلى فن آخر شرح صدره، وطاب قلبه، ووجد في نفسه رغبة جديدة وقوّة حادثة وميلاً قوياً؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم لما لم يتعلم علماً ولم يطالع كتاباً ثم ذكر هذه القصص من غير تفاوت، ومن غير زيادة، ومن غير نقصان؛ دل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم إنما عرفها بالوحي والتنزيل ويبدل من نبأ نوح {إذ قال لقومه} وهم بنو قابيل {يا قوم إن كان كبر} أي: شق وعظم {عليكم مقامي} أي: لبثي فيكم ألف سنة إلا خمسين عاماً {وتذكيري} أي: وعظي إياكم {بآيات الله} أي: بحجته وبيناته، فعزمتم على قتلي وطردي {فعلى الله توكلت} أي: فهو حسبي وثقتي أو قيامي على الدعوة؛ لأنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم ليكون مكانهم بيناً، وكلامهم مسموعاً كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود.
{
(3/70)
---(1/1497)
فأجمعوا أمركم} أي: فاعزموا على أمر تفعلونه في أذاي بالإهلاك أو غيره {وشركاءكم} أي: وادعو شركاءكم أو الواو وبمعنى مع، أي: مع شركائكم وهي الأصنام، وإنما حثهم على الاستعانة بها بناء على مذهبهم الفاسد، واعتقادهم أنها تضرّ وتنفع مع اعتقاده أنها جماد لا تضرّ ولا تنفع تبكيتاً وتوبيخاً لهم. {ثم لا يكن أمركم} أي: الذي تقصدوني به {عليكم غمة} أي: مستوراً من غمه إذا ستره، بل أظهروه وجاهروني مجاهرة، فإنه لا معارضة لي بغير الله الذي يستوي عنده السرّ والجهر {ثم اقضوا إليّ} أي: امضوا ما في أنفسكم وافرغوا منه، يقال: قضى فلان إذا مات، ومضى وقضى دينه إذا فرغ منه. وقيل: معناه توجهوا إليّ بالقتل والمكروه. وقيل: فاقضوا ما أنتم قاضون، وهذا مثل قول السحرة لفرعون: {فاقض ما أنت قاض} أي: اعمل ما أنت عامل. {ولا تنظرون} أي: ولا تؤخرون بعد إعلامكم إياي ما أنتم عليه، وإنما قال ذلك إظهاراً لقلة مبالاته وثقته بما وعده ربه من كلامه وعصمته، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلاً {فإن توليتم} أي: أعرضتم عن تذكيري {فما سألتكم من أجر} أي: من جعل وعوض على تبليغ الرسالة، فينفركم عني وتتهموني لأجله من طمع في أموالكم، وطلب أجر على عظتكم، ومتى كان الإنسان فارغاً عن الطمع كان قوله أقوى تأثيراً في القلب {إن أجري إلا على الله} وهو الثواب الذي يثيبني به في الآخرة، أي: ما أنصحكم إلا لوجه الله تعالى لا لغرض من أغراض الدنيا. وهكذا ينبغي لكل من ينفع الناس بعلم أو إرشاد إلى طريق الله تعالى {وأمرت أن أكون من المسلمين} أي: إني مأمور بالاستسلام لكل مكروه يصل إليّ منكم لأجل هذه الدعوة، وقيل: بدين الإسلام وأنا ماض فيه غير تاركٍ له قبلتموه أو لم تقبلوه.
(3/71)
---(1/1498)
{فكذبوه} أي: أصرّوا على تكذيبه، بعدما ألزمهم الحجة، وبين أن توليتهم ليست إلا لعنادهم وتمردهم لا جرم حقت عليهم كلمة العذاب {فنجيناه} من الغرق {ومن معه في الفلك} أي: السفينة وكانوا ثمانين {وجعلناهم} أي: الذين أنجيناهم معه في الفلك {خلائف} في الأرض يخلقون الهالكين بالغرق {وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا} بالطوفان، وقوله تعالى: {فانظر} أي: أيها الإنسان أو يا محمد {كيف كان عاقبة المنذرين} تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثله وتسلية له، وهذه القصة إذا سمعها من صدّق النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن كذب به كان زجراً للمكلفين من حيث يخافون أن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نوح، وتكون داعية للمؤمنين على الثبات على الإيمان ليصلوا إلى مثل ما وصل إليه قوم نوح، وهذه الطريقة في الترغيب والتحذيرإذا جرت على سبيل الحكاية عمن تقدّم كانت أبلغ من الوعيد المبتدأ، ولهذا الوجه أكثر تعالى ذكر أقاصيص الأنبياء عليهم السلام.
{ثم بعثنا من بعده} أي: نوح {رسلاً إلى قومهم} لم يسم هنا تعالى من كان بعد نوح من الرسل، وقد كان بعده هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب صلوت الله وسلامه عليهم. {فجاؤوهم بالبينات} أي: بالمعجزات الواضحات التي تدل على صدقهم. {فما كانوا ليؤمنوا } أي: فما استقام لهم أن يؤمنوا لشدّه عنادهم وخذلان الله تعالى إياهم {بما} أي: بسبب ما {كذبوا به من قبل} أي: أنهم كانوا قبل بعثة الرسل إليهم أهل جاهلية مكذبين بالحق، فما وقع فصل بين حالتيهم بعد بعثة الرسل وقبلها كأن لم يبعث إليهم أحد {كذلك} أي: مثل ما طبعنا على هؤلاء بسبب تكذيبهم الرسل {نطبع} أي: نختم {على قلوب المعتدين} في كل زمن لكل من تعمد العدول فيما لا يحلّ له، فلا يقبل الإيمان لانهماكهم في الضلال واتباعهم المألوف. وفي أمثال ذلك دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد.
(3/72)
---(1/1499)
القصة الثانية: قصة موسى عليه السلام المذكورة بقوله تعالى:
{ثم بعثنا من بعدهم} أي: هؤلاء الرسل {موسى وهارون إلى فرعون وملئه} أي: أشراف قومه وغيرهم تبع لهم، فهو مرسل إلى الجميع {بآياتنا} التسع {فاستكبروا} عن اتباعها والإيمان بها، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبيينها ويتعظموا عن قبولها {وكانوا قوماً مجرمين} أي: كفاراً ذوي آثام عظام، فلذلك استكبروا عنها واجترؤوا عن ردّها.
{فلما جاءهم الحق} أي: جاء فرعون وقومه {من عندنا} أي: الذي جاء به موسى من عند ربه، وعرفوا أنه ليس من عند موسى وهارون لتظاهر المعجزات الظاهرات المزيحة للشك {قالوا} أي: غير متأملين له ولا ناظرين في أمره لفرط تمرّدهم {إن هذا لسحر مبين} أي: بين ظاهر يعرفه كل أحد، وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي لا يظهر إلا على كافر أو فاسق، وقوله تعالى:
{قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا} فيه حذف تقديره: أتقولون للحق لما جاءكم هو سحر أسحر هذا، فحذف السحر الأوّل اكتفاء بدلالة الكلام عليه، ثم قال أسحر هذا؟ وهو استفهام على سبيل الإنكار بمعنى أنه ليس بسحر، ثم احتج على صحة قوله تعالى فقال: {ولا يفلح الساحرون} فإنه لو كان سحراً لاضمحل ولم يبطل سحر السحرة، فقلب العصا حية، وفلق البحر معلوم بالضرورة أنه ليس من باب التمويه والتخييل، فثبت أنه ليس بسحر {قالوا} أي: قوم فرعون لموسى {أجئتنا لتلفتنا} أي: لتردّنا وتصرفنا واللفت والفتل أخوان {عما وجدنا عليه آباءنا} أي: من الدين وعبادة الأصنام، ثم قالوا لموسى وهارون {وتكون لكما الكبرياء} أي: الملك والعز {في الأرض} أي: أرض مصر. قال الزجاج: سمى الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا، وأيضاً الملوك موصوفون بالكبر، ولهذا وصف ابن الرقيات مصعباً في قوله:
*ملكه ملك رأفة ليس فيه ** جبروت منه ولا كبرياء
(3/73)
---(1/1500)
ينفي ما عليه الملوك من ذلك، ويجوز أن يقصدوا بذلك ذمهما، وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا، كما قال القبطي لموسى عليه السلام: {إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض} (القصص، 19) . {وما نحن لكما بمؤمنين} أي: بمصدقين فيما جئتما به. {وقال فرعون} لقومه إرادة للمناظرة لما أتى به موسى عليه السلام {ائتوني بكل ساحر عليم} أي: بالغ في علم السحر لئلا يفوت شيء من السحر بتأخر البعض. وقرأ حمزة والكسائي بغير ألف بين السين والحاء، وتشديد الحاء مفتوحة وألف بعدها بصيغة فعال دالّ على زيادة قلق فرعون، والباقون بألف بعد السين وتخفيف الحاء مكسورة ولا ألف بعدها.
{فلما جاء السحرة} أي: كل من في أرض مصر، منهم قالوا لموسى: إمّا أن تلقي وإمّا أن نكون نحن الملقين {قال لهم موسى ألقوا} جميع {ما أنتم ملقون} فإن قيل: كيف أمرهم بالكفر والسحر والأمر بالكفر كفر؟ أجيب:بأنه إنما أمرهم بإلقاء ما معهم من الحبال والعصيّ التي معهم ليظهر للخلق، إنما أتوا به عمل فاسد وسعي باطل لا على طريق أنه عليه السلام أمرهم بالسحر.
(3/74)
---(1/1501)
{فلما ألقوا} مامعهم من الحبال والعصيّ وخيلوا لسحرهم أعين الناس أنها تسعى {قال موسى} منكرا عليهم {ماجئتم به السحر} قرأه أبو عمرو بهمزتين الأولى همزة الاستفهام فهي مفتوحة والثانية همزة وصل، وله فيها وجهان: التسهيل والبدل، فما استفهامية مبتدأ. وجئتم به خبرها، والسحر بدل منه، وقرأ الباقون بهمزة وصل فتسقط في الوصل، أي: الذي جئتم به هو السحر لا ما سماه فرعون وقومه سحراً، ثم أخبره موسى عليه السلام بقوله: {إن الله سيبطله} أي: يهلكه ويظهر فضيحة صاحبه {إن الله لا يصلح عمل المفسدين} أي: لا يثبته ولا يقوّيه. وقول البيضاوي: وفيه دليل على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له محمول على ما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية وإلا فله حقيقة فهو حق عند أهل السنة، وهو علم بكيفية استعدادات تقتدر بها النفوس البشرية على ظهور التأثير في عالم العناصر {ويحق} أي: يثبت ويظهر {الله الحق بكلماته} أي: بقضائه ووعده الصادق لموسى عليه السلام. وقد أخبر الله تعالى في غير هذه السورة أنه كيف أبطل ذلك السحر، وذلك بسبب أن ذلك الثعبان قد تلقف تلك الحبال والعصيّ {ولو كره المجرمون}. ولما بين تعالى أن قوم موسى شاهدوا هذه المعجزات ومع ذلك لم يؤمن منهم إلا القليل كما قال تعالى:
(3/75)
---(1/1502)
{فما آمن لموسى إلا ذريّة من قومه} وإنما ذكر تعالى ذلك تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان يغتمّ بسبب إعراض القوم عنه واستمرارهم على الكفر بين تعالى أنّ له في هذا الباب بسائر الأنبياء أسوة؛ لأنّ الذي ظهر من موسى عليه السلام من المعجزات كان أمراً عظيماً، ومع ذلك فما آمن له إلا ذرية من قومه، والذرية اسم يقع على القليل، من القوم. قال ابن عباس: الذرية القليل، والهاء التي في قومه راجعة إلى موسى، أي: فما آمن من قومه إلا طائفة من ذراري بني اسرائيل، كأنه قيل إلا أولاد قومه، وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون، وإجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف. وقيل: راجعة إلى فرعون، والذرية: امرأته آسية ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه وماشطته {على خوف من فرعون وملئهم} أي: خوف منه؛ لأنه كان شديد البطش، وكان قد أظهر العداوة مع موسى، وإذا علم ميل القوم إلى موسى، كان يبالغ في إيذائهم، فلهذا السبب كانوا خائفين منه ومن أشراف قومه، والضمير لفرعون وجمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظمة؛ لأنه ذو أصحاب يأتمرون به. وقيل: المراد بفرعون آله. كما يقال ربيعة ومضر. {أن يفتنهم} أي: يصرفهم ويصدّهم عن الإيمان {وإنّ فرعون لعال} أي: متكبر قاهر {في الأرض} أي: أرض مصر {وإنه لمن المسرفين} أي: المجاوزين الحدّ، فإنه كان من أخس العبيد وادّعى الربوبية، وكان كثير القتل والتعذيب لبني إسرائيل.
{وقال موسى} لقومه {يا قوم إن كنتم آمنتم بالله} أي: صدقتم به وبآياته {فعليه توكلوا} أي: ثقوا به واعتمدوا عليه فإنه ناصر أوليائه ومهلك أعدائه {إن كنتم مسلمين} أي: مستسلمين لقضاء الله تعالى مخلصين له. وقيل: إن كنتم آمنتم بالقلب وأسلمتم بالظاهر.
{فقالوا} مجيبين له {على الله توكلنا} أي: عليه اعتمدنا لا على غيره، ثم دعوا ربهم فقالوا {ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} أي: لا تسلطهم علينا فيفتنوننا.
(3/78)
---(1/1503)
{ونجنا} أي: خلصنا {برحمتك من القوم الكافرين} أي: من أيدي قوم فرعون؛ لأنهم كانوا يستعبدونهم ويستعملونهم في الأعمال الشاقة، وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا مخلصين، لا جرم أنّ الله تعالى قبل توكلهم، وأجاب دعاءهم ونجاهم، وأهلك من كانوا يخافونه، وجعلهم خلفاء في الأرض. وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أنّ الداعي ينبغي أن يتوكل أوّلاً لتجاب دعوته. ولما شرح الله تعالى خوف المؤمنين من الكافرين وما ظهر فيهم من التوكل على الله تعالى أتبعه بأن أمر موسى وهارون عليهما السلام باتخاذ البيوت بقوله تعالى:
{وأوحينا إلى موسى وأخيه} أي: الذي طلب مؤازرته ومعاضدته {أن تبوّأا} أي: اتخذا {لقومكما بمصر بيوتاً} تسكنون فيها أو ترجعون إليها للعبادة {واجعلوا} أنتما وقومكما {بيوتكم} أي: تلك البيوت {قبلة} مصلى أو مساجد كما في قوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} (النور، 36) موجهة نحو القبلة، أي: الكعبة، وكان موسى عليه السلام يصلي إليها. وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بيوتاً وبيوتكم برفع الباء، والباقون بالخفض {وأقيموا الصلاة} فيها ذكر المفسرون في كيفية هذه الواقعة وجوهاً ثلاثة:
الأوّل: أنّ موسى عليه السلام ومن معه كانوا في أوّل أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم ويؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم كما كان المؤمنون على هذه الحالة في أوّل الإسلام بمكة.
الثاني: أنه قيل: إنه تعالى لما أرسل موسى إليهم أمر فوعون بتخريب مساجد بني اسرائيل ومنعهم من الصلاة فأمرهم الله تعالى أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفاً من فرعون.
(3/79)
---(1/1504)
الثالث: أنه تعالى لما أرسل موسى إليهم وأظهر فرعون تلك العداوة الشديدة أمر الله تعالى موسى وهارون وقومهما باتخاذ المساجد على رغم الأعداء، وتكفل الله تعالى بأن يصونهم من شرّ الأعداء، وقد خص الله تعالى موسى وهارون في أوّل هذه الآية بالخطاب بقوله تعالى: {أن تبوّأا لقومكما} لأنّ التبوء للقوم واتخاذ المعابد مما يتعاطاه رؤوس القوم للتشاور، ثم عمم هذا الخطاب فقال: واجعلوا بيوتكم قبلة؛ لأن جعل البيوت مساجد وإقامة الصلاة مما ينبغي أن يفعله كل أحد، ثم خص موسى عليه السلام في آخر الكلام بالخطاب فقال تعالى: {وبشر المؤمنين} أي: بالنصر في الدنيا والجنة في العقبى؛ لأنّ الغرض الأصلي من جميع العبادات حصول هذه البشارة، فخص الله تعالى موسى بها ليدل بذلك على أن الأصل في الرسالة هو موسى عليه السلام، وأنّ هارون عليه السلام تبع له، ثم إنّ موسى عليه السلام لما بالغ في إظهار المعجزات القاهرة الظاهرة ورأى القوم مصرّين على الجحد والعناد والإنكار أخذ يدعو عليهم، ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أوّلاً سبب إقدامه على الجرائم وكان جرمهم هو لأجل حبهم الدنيا يزكو {و} لهذا السبب {قال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه} أي: أشراف قومه على ما هم عليه من الكفر والكبر {زينة} أي: عظيمة يتزينون بها من الحلية واللباس وغيرهما من الدواب والغلمان وأثاث البيت الفاخر ونحو ذلك. {وأموالاً} أي: كثيرة من الذهب والفضة وغيرهما {في الحياة الدنيا} روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت، ثم بيّن غايتها لهم فقال مفتتحاً بالنداء باسم الرب: ليعيذه وأتباعه من مثل حالهم. {ربنا} أي: يا ربنا آتيتهم ذلك {ليضلوا} أي: في خاصة أنفسهم ويضلوا غيرهم {عن سبيلك} أي: دينك واللام للعاقبة وهي متعلقة بآتيت كقوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّا وحزناً} (القصص، 8) وقيل:(1/1505)
(3/80)
---
لام كي، أي: آتيتهم كي تفتنهم. وقيل: هو دعاء عليهم بما علم من ممارسة أحوالهم أنه لا يكون غير ذلك. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بضم الياء والباقون بالفتح {ربنا اطمس على أموالهم} أي: امسخها وغيرها عن هيئتها. قال قتادة: صارت أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم حجارة. وقال محمد بن كعب: جعل سكرهم حجارة. وقال ابن عباس: بلغنا أنّ الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحاً وأنصافاً وأثلاثاً وأرباعاً، ودعا عمر بن عبد العزيز بخريطة فيها أشياء من بقايا آل فرعون، فأخرج منها البيضة مشقوقة والجوزة مشقوقة، وإنها كالحجر. قال السدّي: مسخ الله تعالى أموالهم حجارة والنخيل والثمار والدقيق والأطعمة فكانت إحدى الآيات التسع {واشدد على قلوبهم} أي: اطبع عليها واستوثق حتى لا تنشرح للإيمان وقوله: {فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} جواب للدعاء، أو دعاء بلفظ النهي أو عطف على ليضلوا، وما بينهما دعاء معترض. وقوله تعالى: {قال قد أجيبت دعوتكما} فيه وجهان:
الأوّل: قال ابن عباس: إنّ موسى كان يدعو وهارون كان يؤمّن فلذلك قال: دعوتكما، وذلك أنّ من يقول عند دعاء الداعي آمين فهو أيضاً داع؛ لأنّ قوله آمين تأويله: استجب، فهو سائل كما أنّ الداعي سائل أيضاً.
(3/81)
---(1/1506)
الثاني: أن يكون كل منها ذكر هذا. غاية ما في الباب أن يقال: إنه تعالى حكى هذا الدعاء عن موسى بقوله تعالى: {وقال موسى ربنا} وهذا لا ينافي أن يكون هارون قد ذكر الدعاء أيضاً. وأمّا قوله تعالى: {فاستقيما} فمعناه اثبتا على الدعوة والرسالة والزيادة في الزام الحجة فقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً فلا تستعجلا. قال ابن جريج: إنّ فرعون لبث بعد هذا الدعاء أربعين سنة. {ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} أي: الجاهلين الذين يظنون أنه متى كان الدعاء مجاباً كان المقصود حاصلاً في الحال فربما أجاب الله تعالى دعاء الإنسان في مطلوبه إلا أنه إنما ربما يوصله إليه في وقته المقدور، والاستعجال لا يصدر إلا من الجهال، وهذا كما قال تعالى لنوح عليه الصلاة والسلام: {إني أعظك أن تكون من الجاهلين} (هود، 46) وهذا النهي لا يدل على أن ذلك قد صدر من موسى عليه السلام، كما أنّ قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر، 65) لا يدل على صدور الشرك منه صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن ذكوان بتخفيف النون، والباقون بتشديدها؛ لأنّ نون التوكيد تثقل وتخفف. ولما أجاب الله تعالى دعاءهما أمر بني اسرائيل وكانوا ستمائة ألف بالخروج من مصر في الوقت المعلوم، ويسر لهم أسبابه وفرعون كان غافلاً عن ذلك، فلما سمع أنهم خرجوا وعزموا على مفارقة مملكته خرج في عقبهم كما قال تعالى:
(3/82)
---(1/1507)
{وجاوزنا} أي: قطعنا {ببني اسرائيل} أي: عَبَدَنَا المخلص لنا {البحر} حتى بلغوا الشط حافظين لهم {فأتبعهم فرعون وجنوده} أي: لحقهم وأدركهم يقال: تبعه وأتبعه إذا أدركه ولحقه {بغياً وعدواً} أي: ظلماً وعدواناً. وقيل: بغياً في القول وعدواً في الفعل، فلما أدركهم فرعون قالوا لموسى: أين المخلص والمخرج، البحر أمامنا وفرعون وراءنا، قد كنا نلقى من فرعون البلاء العظيم، فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق لموسى وقومه فكان كل فرق كالطود العظيم، وكشف عنه وجه الأرض، وانتشر لهم البحر، فلما وصل فرعون إلى البحر هابوا دخوله، وكان فرعون على حصان أدهم وكان معه في عسكره ثمانمائة ألف حصان على لون حصانه، وميكائيل يسوقهم حتى لم يشذ منهم أحد، فلما خرج آخر بني اسرائيل من البحر تقدّمهم جبريل على فرس وخاض البحر، فلما وجد الحصان ريح الأنثى لم يملك فرعون من أمره شيئاً، فنزل البحر وأتبعه جنوده، حتى إذا كملوا جميعاً في البحر وهمّ أوّلهم بالخروج التطم البحر عليهم، فلما أتاه الغرق أتى بكلمة الإخلاص كما قال تعالى: {حتى إذا أدركه الغرق} أي: لحقه {قال آمنت أنه} أي: بأنه {لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل وأنا من المسلمين}. فإن قيل: إنه آمن ثلاث مرات أولها قوله: آمنت. وثانيها: قوله لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل. وثالثها: قوله وأنا من المسلمين. فما السبب في عدم القبول؟ أجاب: العلماء عن ذلك بأجوبة منها: أنه إنما آمن عند نزول العذاب، والإيمان والتوبة عند معاينة الملائكة والعذاب غير مقبول، ويدلّ عليه قوله تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} (غافر، 85) ودس جبريل في فيه من حما البحر مخافة أن تناله الرحمة وقال له {آلآن} تؤمن {وقد عصيت قبل} وضيعت التوبة في وقتها وآثرت دنياك الفانية على الآخرة الباقية {وكنت من المفسدين} بضلالك وإضلالك عن الإيمان والتوبة حتى أغلق بابها بحضور الموت(1/1508)
(3/83)
---
ومعاينة الملائكة، وإنما قال له: وكنت من المفسدين في مقابلة قوله وأنا من المسلمين، ومنها أنّ فرعون إنما قال هذه الكلمة ليتوصل بها إلى دفع ما نزل به من البلية الحاضرة، ولم يكن قصده الإقرار بوحدانية الله تعالى والاعتراف له بالربوبية، فلم ينفعه ما قال في ذلك الوقت، ومنها: أنّ فرعون كان من الدهرية المنكرين لوجود الصانع الخالق سبحانه وتعالى ولذلك قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل، فلم ينفعه ذلك لحصول الشك في إيمانه، ومثل هذا الاعتقاد الفاسد لا تزول ظلمته إلا بنور الحجة القطعية والدلائل اليقينية.
(3/84)
---(1/1509)
ومنها: ما روي في بعض الكتب أنّ بعض أقوام بني اسرائيل لما جاوزوا البحر اشتغلوا بعبادة العجل فلما قال فرعون: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل انصرف ذلك إلى العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت فكانت هذه الكلمة في حقه سبباً لزيادة الكفر، ومنها: أنّ الإيمان إنما كان يتم بالإقرار بوحدانية الله تعالى وبالإقرار بنبوّة موسى عليه السلام، وفرعون لم يقرّ بالنبوّة فلم يصح إيمانه، ونظيره أن الواحد من الكفار لو قال ألف مرّة أشهد أن لا إله إلا الله فإنه لا يصح إيمانه إلا إذا قال معه: وأشهد أنّ محمداً رسول الله فكذا هنا. ومنها: أنّ جبريل عليه السلام أتى فرعون بفتوى، ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادّعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه يقول: أبو العباس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج عن سيده الكافر بنعمته أن يغرّق في البحر، ثم أنّ فرعون لما غرق رفع جبريل عليه السلام إليه خطه. فإن قيل: فما فائدة دس جبريل في فم فرعون ذلك؛ لأنه في تلك الحالة إمّا أن يكون التكليف ثابتاً أم لا؟ فإنّ كان فكيف يمنعه من التوبة، وإن كان غير مكلف فلا فائدة في ذلك؟ أجيب: بأنَّ التكليف كان ثابتاً وجبريل عليه السلام لم يفعل ذلك من قبل نفسه فإنه عبد مأمور، والله تعالى يفعل ما يشاء كما قال تعالى: {فإنّ الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء} (فاطر، 8) . وقال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة} (الأنعام، 110) وهكذا فعل بفرعون، منعه من الإيمان عند الموت جزاء على تركه الإيمان أوّلاً، فدس الحما في فم فرعون من جنس الختم والطبع على القلب، ومن الناس من قال: قائل هذا القول هو الله تعالى؛ لأنه ذكر بعده.
(3/85)
---(1/1510)
{فاليوم ننجيك} أي: نخرجك من البحر {ببدنك} أي: جسمك الذي لا روح فيه كاملاً سوياً لم يتغير، أو نخرجك من البحر عرياناً من غير لباس، أو أنّ المراد بالبدن الدرع. قال الليث: البدن هو الدرع الذي يكون قصير الكمين، وهذا منقول عن ابن عباس قال: كان عليه درع من ذهب يعرف، به فأخرجه الله تعالى من الماء مع ذلك الدرع ليعرف {لتكون لمن خلفك} أي: بعدك {آية} أي: عبرة فيعرفوا عبوديتك ولا يقدموا على مثل فعلك. وعن ابن عباس: أنّ بعض بني اسرائيل شكوا في موته، فأخرج لهم ليروه ويشاهده الخلق على ذلك الذلّ والمهانة بعدما سمعوا منه قوله: {أنا ربكم الأعلى} ليعلموا أنّ دعواه كانت باطلة، وأن ما كان فيه من عظم الشأن وكبرياء الملك آل أمره إلى ما يرون لعصيانه ربه {وإنّ كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون} أي: لا يعتبرون بها، وهذا الكلام ليس إلا كلام الله تعالى، ولكن القول الأوّل أشهر.
{ولقد بوّأنا} أي: أنزلنا {بني اسرائيل مبوّأ صدق} أي: منزلاً صالحاً مرضياً وهو مصر والشام، وإنما وصف المكان بالصدق؛ لأنّ عادة العرب إذا مدحت شيئاً أضافته إلى الصدق، تقول العرب: هذا رجل صدق وقدم صدق، والسبب فيه أنّ الشيء إذا كان كاملاً صالحاً لا بدّ أن يصدق الظنّ فيه. وقيل: أرض الشام والفرس والأردن؛ لأنها بلاد الخصب والخير والبركة {ورزقناهم من الطيبات} أي: الحلالات المستلذات من الفواكه والحبوب والألبان والأعسال وغيرها، فأورث تعالى بني إسرائيل جميع ما كان تحت أيدي فرعون وقومه من الناطق والصامت والحرث والنسل كما قال تعالى: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها} (الأعراف/ 137) .v
(3/86)
---(1/1511)
{فما اختلفوا} أي: هؤلاء الذين فعلنا بهم هذا الفعل من بني اسرائيل في أمر دينهم {حتى جاءهم العلم} أي: جاءهم ما كانوا به عالمين، وذلك أنهم كانوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم مقرين به مجمعين على نبوّته غير مختلفين فيه لما يجدونه مكتوباً عندهم، وكانوا يخبرون بمبعثه وصفته ونعته ويفتخرون بذلك على المشركين، فلما بعث صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه، فآمن به بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه، وكفر به بعضهم بغياً وحسداً وإيثاراً لبقاء الرياسة، وأنهم ما اختلفوا في دينهم إلا من بعد ما قرؤوا التوراة وعلموا أحكامها {إن ربك} يا محمد {يقضي بينهم يوم القيامة} أي: الذي هو أعظم الأيام {فيما كانوا} أي: بأفعالهم الجبلية {فيه يختلفون} أي: فيتميز الحق من الباطل والصديق من الزنديق ويسكن كلا داره، واختلف المفسرون فيمن المخاطب بقوله تعالى:
(3/87)
---(1/1512)
{فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب} أي: التوراة {من قبلك} أي: فإنه ثابت عندهم يخبرونك بصدقه، فقيل: هو النبيّ صلى الله عليه وسلم في الظاهر، والمراد أمته كقوله تعالى: {يا أيها النبيّ اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين} (الأحزاب، 1) وقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} (الزمر، 46) . وقوله تعالى لعيسى عليه السلام: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله} (المائدة، 116) ومن الأمثلة المشهورة: إياك أعني واسمعي يا جارة، والذي يدل على صحة ذلك وجوه: الأوّل: قوله تعالى في آخر السورة: {يا أيها الناس} فبين أنّ ذلك المذكور في أوّل الآية على سبيل الرمز هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح. الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم لو كان شاكاً في نبوّة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى، وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية، الثالث: إذا قدر أن يكون شاكاً في نبوّة نفسه، فكيف يزول ذلك الشك بإخبار أهل الكتاب عن نبوّته مع أنهم في الأكثر كفار؟ فثبت أنّ الخطاب وإن كان في الظاهر معه صلى الله عليه وسلم إلا أنّ المراد هو الأمّة، ومثل هذا معتاد فإنّ السلطان إذا كان له أمير وتحت راية ذلك الأمير جمع، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص فإنه لا يوجه خطابه عليهم بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميراً عليهم ليكون ذلك أشدّ تأثيراً في قلوبهم، وقيل: الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم على حقيقته ولكن الله تعالى علم أنه صلى الله عليه وسلم لا يشك في ذلك إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام فإنه يصرّح ويقول: يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل أكتفي بما أنزلته عليّ من الدلائل الظاهرة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «لا أشك ولا أسأل أحداً منهم»، ونظير هذا قوله للملائكة: {أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} (سبأ، 40) والمقصود أن يصرّحوا بالجواب الحق ويقولوا سبحانك أنت ولينا من(1/1513)