والسفل والضيق والظلمة من علامات الشقاوة فلما كان المقصود من وضع كتاب الفجار في أسفل السافلين وفي أضيق المواضع إذلال الفجار وتحقير شأنهم كان المقصود من وضع كتاب الأبرار في أعلى عليين وشهادة الملائكة لهم بذلك إجلالهم وتعظيم شأنهم وفي الآية وجه آخر وهو أن المراد من الكتاب الكتابة فيكون المعنى أن كتابة أعمال الأبرار في عليين ثم وصف عليين بأنه كتاب مرقوم فيه جميع أعمال الأبرار وهو قول أبي مسلم
أما قوله تعالى كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ففيه تأويلان أحدهما أن المراد بالكتاب المرقوم كتاب أعمالهم والثاني أنه كتاب موضوع في عليين كتب فيه ما أعد الله لهم من الكرامة والثواب واختلفوا في ذلك الكتاب فقال مقاتل إن تلك الأشياء مكتوبة لهم في ساق العرش وعن ابن عباس أنه مكتوب في لوح من زبرجد معلق تحت العرش وقال آخرون هو كتاب مرقوم بما يوجب سرورهم وذلك بالضد من رقم كتاب الفجار بما يسوءهم ويدل على هذا المعنى قوله يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ يعني الملائكة الذي هم في عليين يشهدون ويحضرون ذلك المكتوب ومن قال إنه كتاب الأعمال قال يشهد ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين المقربون من الملائكة كرامة للمؤمن
إِنَّ الاٌّ بْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ عَلَى الاٌّ رَآئِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَة َ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما عظم كتابهم في الآية المتقدمة عظم بهذه الآية منزلتهم فقال إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ ثم وصف كيفية ذلك النعيم بأمور ثلاثة أولها قوله عَلَى الاْرَائِكِ يَنظُرُونَ قال القفال الأرائك الأسرة في الحجال ولا تسمى أريكة فيما زعموا إلا إذا كانت كذلك وعن الحسن كنا لا ندري ما الأريكة حتى لقينا رجلاً من أهل اليمن أخبرنا أن الأريكة عندهم ذلك
أما قوله يُنظَرُونَ ففيه ثلاثة أوجه أحدها ينظرون إلى أنواع نعمهم في الجنة من الحور العين والولدان وأنواع الأطعمة والأشربة والملابس والمراكب وغيرها قال عليه السلام ( يلحظ المؤمن فيحيط بكل ما آتاه الله وإن أدناهم يتراءى له مثل سعة الدنيا ) والثاني قال مقاتل ينظرون إلى عدوهم حين يعذبون في النار والثالث إذا اشتهوا شيئاً نظروا إليه فيحضرهم ذلك الشيء في الحال واعلم أن هذه الأوجه الثلاثة من باب أنواع جنس واحد وهو المنظور إليه فوجب حمل اللفظ على الكل ويخطر ببالي تفسير رابع وهو أشرف من الكل وهو أنهم ينظرون إلى ربهم ويتأكد هذا التأويل بما إنه قال بعد هذه الآية تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَة َ النَّعِيمِ والنظر المقرون بالنضرة هو رؤية الله تعالى على ما قال وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ(31/89)
( القيامة 23 22 ) ومما يؤكد هذا التأويل أنه يجب الابتداء بذكر أعظم اللذات وما هو إلا رؤية الله تعالى وثانيها قوله تعالى تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَة َ النَّعِيمِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المعنى إذا رأيتهم عرفت أنهم أهل النعمة بسبب ما ترى في وجوههم من القرائن الدالة على ذلك ثم في تلك القرائن قولان
أحدهما أنه ما يشاهد في وجوههم من الضحك والاستبشار على ما قال تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ ( عبس 39 38 )
والثاني قال عطاء إن الله تعالى يزيد في وجوههم من النور والحسن والبياض ما لا يصفه واصف وتفسير النضرة قد سبق عند قوله نَّاضِرَة ٌ
المسألة الثانية قرىء تَعْرِفُ على البناء للمفعول جَنَّاتِ النَّعِيمِ بالرفع
وثالثها قوله يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في بيان أن الرحيق ما هو قال الليث الرحيق الخمر وأنشد لحسان
بردى يصفق بالرحيق السلسل
وقال أبو عبيدة والزجاج الرحيق من الخمر ما لا غش فيه ولا شيء يفسده ولعله هو الخمر الذي وصفه الله تعالى بقوله لّلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ ( الصافات 47 )
المسألة الثانية ذكر الله تعالى لهذا الرحيق صفات
الصفة الأولى قوله رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ وفيه وجوه الأول قال القفال يحتمل أن هؤلاء يسقون من شراب مختوم قد ختم عليه تكريماً له بالصيانة على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان وهناك خمر آخر تجري منها أنهار كما قال وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّة ٍ لّلشَّارِبِينَ ( محمد 15 ) إلا أن هذا المختوم أشرف في الجاري الثاني قال أبو عبيدة والمبرد والزجاج المختوم الذي له ختام أي عاقبة والثالث روي عن عبدالله في مختوم أنه ممزوج قال الواحدي وليس بتفسير لأن الختم لا يكون تفسيره المزج ولكن لما كانت له عاقبة هي ريح المسك فسره بالممزوج لأنه لو لم يمتزج بالمسك لما حصل فيه ريح المسك الرابع قال مجاهد مختوم مطين قال الواحدي كان مراده من الختم بالطين هو أن لا تمسه يد إلى أن يفك ختمه الأبرار والأقرب من جميع هذه الوجوه الوجه الأول الذي ذكره القفال الصفة الثانية لهذا الرحيق قوله خِتَامُهُ مِسْكٌ وفيه وجوه الأول قال القفال معناه أن الذي يختم به رأس قارورة ذلك الرحيق هو المسك كالطين الذي يختم به رؤوس القوارير فكان ذلك المسك رطب ينطبع فيه الخاتم وهذا الوجه مطابق للوجه الأول الذي حكيناه عن القفال في تفسير قوله مَّخْتُومٍ الثاني المراد من قوله خِتَامُهُ مِسْكٌ أي عاقبته المسك أي يختم له آخره بريح المسك وهذا الوجه مطابق للوجه الذي حكيناه عن أبي عبيدة في تفسير قوله مَّخْتُومٍ كأنه تعالى قال من رحيق له عاقبة ثم فسر تلك العاقبة فقال تلك العاقبة مسك أي من شربه كان ختم شربه على ريح المسك وهذا قول علقمة والضحاك وسعيد بن جبير ومقاتل وقتادة قالوا إذا رفع الشارب فاه من آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك والمعنى لذاذة(31/90)
المقطع وذكاء الرائحة وأرجها مع طيب الطعم والختام آخر كل شيء ومنه يقال ختمت القرآن والأعمال بخواتيمها ويؤكده قراءة علي عليه السلام واختيار الكسائي فإنه يقرأ ( خاتمه مسك ) أي آخره كما يقال خاتم النبيين قال الفراء وهما متقاربان في المعنى إلا أن الخاتم اسم والختام مصدر كقولهم هو كريم الطباع والطابع الثالث معناه خلطه مسك وذكروا أن فيه تطيباً لطعمه وقيل بل لريحه وأقول لعل المراد أن الخمر الممزوج بهذه الأفاويه الحارة مما يعين على الهضم وتقوية الشهوة فلعل المراد منه الإشارة إلى قوة شهوتهم وصحة أبدانهم وهذا القول رواه سعيد بن جبير عن الأسود عن عائشة تقول المرأة لقد أخذت ختم طيني أي لقد أخذت أخلاط طيني قال أبو الدرداء هو شراب أبيض مثل الفضة يحتمون به آخر شربهم لو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد طيب ريحه
الصفة الثانية قوله تعالى وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ قال الواحدي يقال نفست عليه الشيء أنفسه نفاسة إذا ضننت به ولم تحب أن يصير إليه والتنافس تفاعل منه كأن كل واحد من الشخصين يريد أن يستأثر به والمعنى وفي ذلك فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله
واعم أن مبالغة الله تعالى في الترغيب فيه تدل على علو شأنه وفيه إشارة إلى أن التنافس يجب أن يكون في مثل ذلك النعيم العظيم الدائم لا في النعيم الذي هو مكدر سريع الفناء
الصفة الرابعة قوله تعالى وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى تسنيم علم لعين بعينها في الجنة سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه إما لأنها أرفع شراب في الجنة وإما لأنها تأتيهم من فوق على ما روي أنها تجري في الهواء مسنمة فتنصب في أوانيهم وإما لأنها لأجل كثرة ملئها وسرعته تعلو على كل شيء تمر به وهو تسنيمه أو لأنه عند الجري يرى فيه ارتفاع وانخفاض فهو التسنيم أيضاً وذلك لأن أصل هذه الكلمة للعلو والارتفاع ومنه سنام البعير وتسنمت الحائط إذا علوته وأما قول المفسرين فروى ميمون بن مهران أن ابن عباس سأل عن تسنيم فقال هذا مما يقول الله فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِى َ لَهُم مّن قُرَّة ِ أَعْيُنٍ ( السجدة 17 ) ويقرب منه ما قال الحسن وهو أنه أمر أخفاه الله تعالى لأهل الجنة قال الواحدي وعلى هذا لا يعرف له اشتقاق وهو اسم معرفة وعن عكرمة مِن تَسْنِيمٍ من تشريف
المسألة الثانية أنه تعالى ذكر أن تسنيم عين يشرب بها المقربون قال ابن عباس أشرف شراب أهل الجنة هو تسنيم لأنه يشربه المقربون صرفاً ويمزج لأصحاب اليمين
واعلم أن الله تعالى لما قسم المكلفين في سورة الواقعة إلى ثلاثة أقسام المقربون وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم إنه تعالى لما ذكر كرامة المذكورين في هذه السورة بأنه يمزج شرابهم من عين يشرب بها المقربون علمنا أن المذكورين في هذا الموضع هم أصحاب اليمين وأقول هذا يدل على أن الأنهار متفاوتة في الفضيلة فتسنيم أفضل أنها الجنة والمقربون أفضل أهل الجنة والتسنيم في الجنة الروحانية هو معرفة الله ولذة النظر إلى وجه الله الكريم والرحيق هو الابتهاج بمطالعة عالم الموجودات فالمقربون لا يشربون إلا من التسنيم أي لا يشتغلون إلا بمطالعة وجهه الكريم وأصحاب اليمين يكون شرابهم ممزوجاً فتارة يكون نظرهم إليه وتارة إلى مخلوقاته(31/91)
المسألة الثانية عينا نصب على المدح وقال الزجاج نصب على الحال وقوله يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ كقوله يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ( الإنسان 6 ) وقد مر
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَاؤُلاَءِ لَضَآلُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الاٌّ رَآئِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
اعلم أنه سبحانه لما وصف كرامة الأبرار في الآخرة ذكر بعد ذلك قبح معاملة الكفار معهم في الدنيا في استهزائهم وضحكهم ثم بين أن ذلك سينقلب على الكفار في الآخرة والمقصود منه تسلية المؤمنين وتقوية قلوبهم وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب النزول وجهين الأول أن المراد من قوله إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ أكابر المشركين كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصى بن وائل السهمي كانوا يضحكون من عمار وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المسلمين ويستهزئون بهم الثاني جاء علي عليه السلام في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا رأينا اليوم الأصلع فضحكوا منه فنزلت هذه الآية قبل أن يصل علي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
المسألة الثانية أنه تعالى حكى عنهم أربعة أشياء من المعاملات القبيحة فأولها قوله إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون أي يستهزئون بهم وبدينهم وثانيها قوله وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ أي يتفاعلون من الغمز وهو الإشارة بالجفن والحاجب ويكون الغمز أيضاً بمعنى العيب وغمزه إذا عابه وما في فلان غميزة أي ما يعاب به والمعنى أنهم يشيرون إليهم بالأعين استهزاء ويعيبونهم ويقولون انظروا إلى هؤلاء يتعبون أنفسهم ويحرمونها لذاتها ويخاطرون بأنفسهم في طلب ثواب لا يتيقنونه وثالثها قوله تعالى وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَاكِهِينَ معجبين بما هم فيه من الشرك والمعصية والتنعم بالدنيا أو يتفكهون بذكر المسلمين بالسوء قرأ عاصم في رواية حفص عنه فَكِهِينَ بغير ألف في هذا الموضع وحده وفي سائر القرآن فَاكِهِينَ بالألف وقرأ الباقون فاكهين بالألف فقيل هما لغتان وقيل فاكهين أي متنعمين مشغولين بما هم فيه من الكفر والتنعم بالدنيا وفكهين معجبين ورابعها قوله تعالى وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ أي هم على ضلال في تركهم التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب لا يدري هل له وجود أم لا وهذا آخر ما حكاه تعالى عن الكفار(31/92)
ثم قال تعالى وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ يعني أن الله تعالى لم يبعث هؤلاء الكفار رقباء على المؤمنين يحفظون عليهم أحوالهم ويتفقدون ما يصنعونه من حق أو باطل فيعبون عليهم ما يعتقدونه ضلالاً بل إنما أمروا بإصلاح أنفسهم
أما قوله تعالى فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى المعنى أن في هذا اليوم الذي هو يوم تصقع الأعمال والمحاسبة يضحك المؤمن من الكافر وفي سبب هذا الضحك وجوه أحدها أن الكفار كانوا يضحكون على المؤمنين في الدنيا بسبب ما هم فيه من الضر والبؤس وفي الآخرة يضحك المؤمنون على الكافرين بسبب ما هم فيه من أنواع العذاب والبلاء ولأنهم علموا أنهم كانوا في الدنيا على غير شيء وأنهم قد باعوا باقياً بفان ويرون أنفسهم قد فازوا بالنعيم المقيم ونالوا بالتعب اليسير راحة الأبد ودخلوا الجنة فأجلسوا على الأرائك ينظرون إليهم كيف يعذبون في النار وكيف يصطرخون فيها ويدعون بالويل والثبور ويلعن بعضهم بعضاً الثاني قال أبو صالح يقال لأهل النار وهم فيها اخرجوا وتفتح لهم أبوابها فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم فذاك هو سبب الضحك
المسألة الثانية قوله عَلَى الاْرَائِكِ يَنظُرُونَ حال من يضحكون أي يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر
ثم قال تعالى هَلْ ثُوّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ثوب بمعنى أثيب أي الله المثيب قال أوس سأجزيك أو يجزيك عني مثوب
وحسبك أن يثني عليك وتحمدي
قال المبرد وهو فعل من الثواب وهو ما يثوب أي يرجع إلى فاعله جزاء ما عمله من خير أو شر والثواب يستعمل في المكافأة بالشر ونشد أبو عبيدة ألا أبلغ أبا حسن رسولا
فما لك لا تجيء إلى الثواب
والأولى أن يحمل ذلك على سبيل التهكم كقوله ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) والمعنى كأنه تعالى يقول للمؤمنين هل جازينا الكفار على عملهم الذي كان من جملته ضحكهم بكم واستهزاؤهم بطريقتكم كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة فيكون هذا القول زائداً في سرورهم لأنه يقتضي زيادة في تعظيمهم والاستخفاف بأعدائهم والمقصود منها أحوال القيامة والله أعلم(31/93)
سورة الانشقاق
وهي عشرون وخمس آيات مكية
إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الأرض مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ
أما انشقاق السماء فقد مر شرحه في مواضع من القرآن وعن علي عليه السلام أنها تنشق من المجرة أما قوله وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا ومعنى أذن له استمع ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ( ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن ) وأنشد أبو عبيدة والمبرد والزجاج قول قعنب صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به
وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا
والمعنى أنه لم يوجد في جرم السماء ما يمنع من تأثير قدرة الله تعالى في شقها وتفريق أجزائها فكانت في قبول ذلك التأثير كالعبد الطائع الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المالك أنصت له وأذعن ولم يمتنع فقوله قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) يدل على نفاذ القدرة في الإيجاد والإبداع من غير ممانعة أصلاً وقوله ههنا وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا يدل على نفوذ القدرة في التفريق والإعدام والإفناء من غير ممانعة أصلاً وأما قوله وَحُقَّتْ فهو من قولك هو محقوق بكذا وحقيق به يعني وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع وذلك لأنه جسم وكل جسم فهو ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فإن الوجود والعدم بالنسبة إليه على السوية وكل ما كان كذلك كان ترجيح وجوده على عدمه أو ترجيح عدمه على وجوده لا بد وأن يكون بتأثير واجب الوجود وترجيحه فيكون تأثير قدرته في إيجاده وإعدامه نافذاً سارياً من غير ممانعة أصلاً وأما الممكن فليس له إلا القبول والاستعداد ومثل هذا الشيء حقيق به أن يكون قابلاً للوجود تارة وللعدم(31/94)
أخرى من واجب الوجود أما قوله وَإِذَا الاْرْضُ مُدَّتْ ففيه وجهان الأول أنه مأخوذ من مد الشيء فامتد وهو أن تزال حبالها بالنسف كما قال وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً طه 105 ) يسوي ظهرها كما قال قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً ( طه 105 106 ) وعن ابن عباس مدت مد الأديم الكاظمي لأن الأديم إذا مد زال كل انثناء فيه واستوى والثاني أنه مأخوذ من مده بمعنى أمده أي يزاد في سعتها يوم القيامة لوقوف الخلائق عليها للحساب واعلم أنه لا بد من الزيادة في وجه الأرض سواء كان ذلك بتمديدها أو بإمدادها لأن خلق الأولين والآخرين لما كانوا واقفين يوم القيامة على ظهرها فلا بد من الزيادة في طولها وعرضها أما قوله وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا فالمعنى أنها لما مدت رمت بما في جوفها من الموتى والكنوز وهو كقوله وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا ( الزلزلة 2 ) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ( الإنفطار 4 ) بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ ( العاديات 9 ) وكقوله أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاء وَأَمْواتاً ( المرسلات 26 25 ) وأما قوله وَتَخَلَّتْ فالمعنى وخلت غاية الخلو حتى لم يبق في باطنها شيء كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلو كما يقال تكرم الكريم وترحم الرحيم إذا بلغا جهدهما في الكرم الرحمة وتكلفاً فوق ما في طبعهما واعلم أن التحقيق أن الله تعالى هو الذي أخرج تلك الأشياء من بطن الأرض إلى ظهرها لكن الأرض وصفت بذلك على سبيل التوسع وأما قوله وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ فقد تقدم تفسيره إلا أن الأول في السماء وهذا في الأرض وإذا اختلف وجه الكلام لم يكن تكراراً
ياأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ
اعلم أن قوله تعالى إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ إلى قوله الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ ( الإنشقاق 6 1 ) شرط ولا بد له من جزاء واختلفوا فيه على وجوه أحدها قال صاحب الكشاف حذف جواب إذاً ليذهب الوهم إلى كل شيء فيكون أدخل في التهويل وثانيها قال الفراء إنما ترك الجواب لأن هذا المعنى معروف قد تردد في القرآن معناه فعرف ونظيره قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) ترك ذكر القرآن لأن التصريح به قد تقدم في سائر المواضع وثالثها قال بعض المحققين الجواب هو قوله فَمُلَاقِيهِ وقوله وَحُقَّتْ يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحاً ( الإنشقاق 6 ) معترض وهو كقول القائل إذا كان كذا وكذا يا أيها الإنسان ترى عند ذلك ما عملت من خير أو شر فكذا ههنا والتقدير إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله ورابعها أن المعنى محمول على التقديم والتأخير فكأنه قيل وَحُقَّتْ يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ( الإنشقاق 1 ( وقامت القيامة وخامسها قال الكسائي إن الجواب في قوله فَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ ( الإنشقاق 7 ) واعترض في الكلام قوله وَحُقَّتْ يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ والمعنى إذا السماء انشقت وكان كذا وكذا فَمَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ( الإسراء 71 ) فهو كذا ومن أوتي كتابه وراء ظهره فهو كذا ونظيره قوله تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ( البقرة 38 ) وسادسها قال القاضي إن الجواب ما دل عليه قوله إِنَّكَ كَادِحٌ كأنه تعالى قال يا أيها الإنسان ترى ما عملت فاكدح لذلك اليوم أيها الإنسان لتفوز بالنعيم أما قوله الْقُرْءانَ خَلَقَ الإِنسَانَ ففيه قولان الأول أن المراد جنس الناس كما يقال أيها الرجل(31/95)
وكلكم ذلك الرجل فكذا ههنا وكأنه خطاب خص به كل واحد من الناس قال القفال وهو أبلغ من العموم لأنه قائم مقام التخصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين بخلاف اللفظ العام فإنه لا يكون كذلك والثاني أن المراد منه رجل بعينه وههنا فيه قولان الأول أن المراد به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى أنك تكدح في إبلاغ رسالات الله وإرشاد عباده وتحمل الضرر من الكفار فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل وهو غير ضائع عنده الثاني قال ابن عباس هو أُبيّ بن خلف وكدحه جده واجتهاده في طلب الدنيا وإيذاء الرسول عليه السلام والإصرار على الكفر والأقرب أنه محمول على الجنس لأنه أكثر فائدة ولأن قوله فَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ( الإنشقاق 7 ) وَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ ( الإنشقاق 10 ) كالنوعين له وذلك لا يتم إلا إذا كان جنساً أما قوله إِنَّكَ كَادِحٌ فاعلم أن الكدح جهد الناس في العمل والكدح فيه حتى يؤثر فيها من كدح جلده إذا خدشه أما قوله إِلَى رَبّكَ ففيه ثلاثة أوجه أحدها إنك كادح إلى لقاء ربك وهو الموت أي هذا الكدح يستمر ويبقى إلى هذا الزمان وأقول في هذا التفسير نكتة لطيفة وذلك لأنها تقتضي أن الإنسان لا ينفك في هذه الحياة الدنيوية من أولها إلى آخرها عن الكدح والمشقة والتعب ولما كانت كلمة إلى لانتهاء الغاية فهي تدل على وجوب انتهاء الكدح والمشقة بانتهاء هذه الحياة وأن يكون الحاصل بعد هذه الدنيا محض السعادة والرحمة وذلك معقول فإن نسبة الآخرة إلى الدنيا كنسبة الدنيا إلى رحم الأم فكما صح أن يقال يا أيها الجنين إنك كادح إلى أن تنفصل من الرحم فكان ما بعد الانفصال عن الرحم بالنسبة إلى ما قبله خالصاً عن الكدح والظلمة فنرجوا من فضل الله أن يكون الحال فيما بعد الموت كذلك وثانيهما قال القفال التقدير إنك كادح في دنياك كدحاً تصير به إلى ربك فبهذا التأويل حسن استعمال حرف إلى ههنا وثالثها يحتمل أن يكون دخول إلى على معنى أن الكدح هو السعي فكأنه قال ساع بعملك إِلَى رَبّكَ أما قوله تعالى فَمُلَاقِيهِ ففيه قولان الأول قال الزجاج فملاق ربك أي ملاق حكمه لا مفر لك منه وقال آخرون الضمير عائد إلى الكدح إلا أن الكدح عمل وهو عرض لا يبقى فملاقاته ممتنعة فوجب أن يكون المراد ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال ويتأكد هذا التأويل بقوله بعد هذه الآية فَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ
فَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً
أما قوله تعالى فَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً
فالمعنى فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وسوف من الله واجب وهو كقول القائل اتبعني فسوف نجد خيراً فإنه لا يريد به الشك وإنما يريد ترقيق الكلام والحساب اليسير هو أن تعرض عليه أعماله ويعرف أن الطاعة منها هذه والمعصية هذه ثم يثاب على الطاعة ويتجاوز عن المعصية فهذا هو الحساب اليسير لأنه لا شدة على صاحبه ولا مناقشة ولا يقال له لم فعلت هذا ولا يطالب بالعذر فيه ولا بالحجة عليه فإنه متى طولب بذلك لم يجد عذراً ولا حجة فيفتضح ثم إنه عند هذا الحساب اليسير يرجع إلى أهله مسروراً فائزاً بالثواب آمناً من العذاب والمراد من أهله أهل الجنة من الحور العين أو من زوجاته وذرياته إذا كانوا مؤمنين فدلت هذه الآية على أنه سبحانه أعد له ولأهله في الجنة(31/96)
ما يليق به من الثواب عن عائشة رضي الله عنها قالت ( سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول اللهم حاسبني حساباً يسيراً قلت وما الحساب اليسير قال ينظر في كتابه ويتجاوز عن سيئاته فأما من نوقش في الحساب فقد هلك ) وعن عائشة قالت ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من نوقش الحساب فقد هلك ) فقلت يا رسول الله إن الله يقول فَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً قال ( ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب عذب ) وفي قوله يحاسب إشكال لأن المحاسبة تكون بين اثنين وليس في القيامة لأحد قبل ربه مطالبة فيحاسبه وجوابه أن العبد يقول إلهي فعلت المعصية الفلانية فكأن ذلك بين الرب والعبد محاسبة والدليل على أنه تعالى خص الكفار بأنه لا يكلمهم فدل ذلك على أنه يكلم المطيعين والعبد يكلمه فكانت المكالمة محاسبة
وَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ
أما قوله وَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فللمفسرين فيه وجوه أحدها قال الكلبي السبب فيه لأن يمينه مغلولة إلى عنقه ويده اليسرى خلف ظهره وثانيها قال مجاهد تخلع يده اليسرى فتجعل من وراء ظهره وثالثها قال قوم يتحول وجهه في قفاه فيقرأ كتابه كذلك ورابعها أنه يؤتي كتابه بشماله من وراء ظهره لأنه إذا حاول أخذه بيمينه كالمؤمنين يمنع من ذلك وأوتي من وراء ظهره بشماله فإن قيل أليس أنه قال في سورة الحاقة وَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ ( الحاقة 25 ) ولم يذكر الظهر والجواب من وجهين أحدهما يحتمل أن يؤتى بشماله وراء ظهره على ما حكيناه عن الكلبي وثانيها أن يكون بعضهم يعطى بشماله وبعضهم من وراء ظهره
فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً
أما قوله فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً فاعلم أن الثبور هو الهلاك والمعنى أنه لما أوتي كتابه من غير يمينه علم أنه من أهل النار فيقول واثبوراه قال الفراء العرب تقول فلان يدعوا لهفه إذا قال والهفاه وفيه وجه آخر ذكره القفال فقال الثبور مشتق من المثابرة على شيء وهي المواظبة عليه فسمي هلاك الآخرة ثبور لأنه لازم لا يزول كما قال إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ( الفرقان 65 ) وأصل الغرام اللزوم والولوع
وَيَصْلَى سَعِيراً
أما قوله تعالى وَيَصْلَى سَعِيراً ففيه مسألتان
المسألة الأولى يقال صلى الكافر النار قال الله تعالى وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ( النساء 10 ) وقال وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ( آل عمران 115 ) وقال إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( الصافات 1 ) وقال لاَ يَصْلَاهَا إِلاَّ الاْشْقَى الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( الليل 16 15 ) والمعنى أنه إذا أعطى كتابه بشماله من وراء ظهره فإنه يدعو الثبور ثم يدخل النار وهو في النار أيضاً يدعو ثبوراً كما قال دَّعَوَا هُنَالِكَ ثُبُوراً ( الفرقان 13 ) وأحدهما لا ينفي الآخر وإنما هو على اجتماعهما قبل دخول النار وبعد دخولها نعوذ بالله منها ومما قرب إليها من قول أو عمل(31/97)
المسألة الثانية قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو ويصلى بضم الياء والتخفيف كقوله لِخَزَنَة ِ جَهَنَّمَ وهذه القراءة مطابقة للقراءة المشهورة لأنه يصلى فيصلى أي يدخل النار وقرأ ابن عامر ونافع والكسائي بضم الياء مثقلة كقوله ( وتصلية جحيم ) وقوله ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ( الحاقة 31 )
إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً
أما قوله تعالى إنه كان في أهله مسروراً فقد ذكر القفال فيه وجهين أحدهما أنه كان في أهله مسروراً أي منعماً مستريحاً من التعب بأداء العبادات واحتمال مشقة الفرائض من الصلاة والصوم والجهاد مقدماً على المعاصي آمناً من الحساب والثواب والعقاب لا يخاف الله ولا يرجوه فأبدله الله بذلك السرور الفاني غماً باقياً لا ينقطع وكان المؤمن الذي أوتي كتابه بيمينه متقياً من المعاصي غير آمن من العذاب ولم يكن في دنياه مسروراً في أهله فجعله الله في الآخرة مسروراً فأبدله الله تعالى بالغم الفاني سروراً دائماً لا ينفذ الثاني أن قوله إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً كقوله وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ ( المطففين 31 ) أي متنعمين في الدنيا معجبين بما هو عليه من الكفر فكذلك ههنا يحتمل أن يكون المعنى أنه كان في أهله مسروراً بما هم عليه من الكفر بالله والتكذيب بالبعث يضحك ممن آمن به وصدق بالحساب وقد روى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر )
إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ
أما قوله إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ فاعلم أن الحور هو الرجوع والمحار المرجع والمصير وعن ابن عباس ما كنت أدرى ما معنى يحور حتى سمعت إعرابية تقول لابنتها حوري أي ارجعي ونقل القفال عن بعضهم أن الحور هو الرجوع إلى خلاف ما كان عليه المرء كما قالوا ( نعوذ بالله من الحور بعد الكور ) فعلى الوجه الأول معنى الآية أنه ظن أن لن يرجع إلى الآخرة أي لن يبعث وقال مقاتل وابن عباس حسب أن لا يرجع إلى الله تعالى وعلى الوجه الثاني أنه ظن أن لن يرجع إلى خلاف ما هو عليه في الدنيا من السرور والتنعم
بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً
ثم قال تعالى بَلَى أي ليبعثن وعلى الوجه الثاني يكون المعنى أن الله تعالى يبدل سروره بغم لا ينقطع وتنعمه ببلاء لا ينتهي ولا يزول
أما قوله إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بَصِيراً فقال الكلبي كان بصيراً به من يوم خلقه إلى أن بعثه وقال عطاء بصيراً بما سبق عليه في أم الكتاب من الشقاء وقال مقاتل بصيراً متى بعثه وقال الزجاج كان عالماً بأن مرجعه إليه ولا فائدة في هذه الأقوال إنما الفائدة في وجهين ذكرهما القفال الأول أن ربه كان عالماً بأنه سيجزيه والثاني أن ربه كان عالماً بما يعمله من الكفر والمعاصي فلم يكن يجوز في حكمته أن يهمله فلا يعاقبه على سوء أعماله وهذا زجر لكل المكلفين عن جميع المعاصي(31/98)
فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن قوله تعالى فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ فيه مسائل
المسألة الأولى أن هذا قسم وأما حرف لا فقد تكلمنا فيه في قوله تعالى لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ ( القيامة 1 ) ومن جملة الوجوه المذكورة هناك أن لا نفي ورد لكلام قبل القسم وتوجيه هذا الوجه ههنا ظاهر لأنه تعالى حكى ههنا عن المشرك أنه ظن أن لن يحور فقوله لا رد لذلك القول وإبطال لذلك الظن ثم قال بعده أقسم بالشفق
المسألة الثانية قد عرفت اختلاف العلماء في أن القسم واقع بهذه الأشياء أو يخالفها وعرفت أن المتكلمين زعموا أن القسم واقع برب الشفق وإن كان محذوفاً لأن ذلك معلوم من حيث ورد الحظر بأن يقسم الإنسان بغير الله تعالى
المسألة الثالثة تركيب لفظ الشفق في أصل اللغة لرقة الشيء ومنه يقال ثوب شفق كأنه لا تماسك لرقته ويقال للرديء من الأشياء شفق وأشفق عليه إذا رق قلبه عليه والشفقة رقة القلب ثم اتفق العلماء على أنه اسم للأثر الباقي من الشمس في الأفق بعد غروبها إلا ما يحكى عن مجاهد أنه قال الشفق هو النهار ولعله إنما ذهب إلى هذا لأنه تعالى عطف عليه الليل فيجب أن يكون المذكور أولاً هو النهار فالقسم على هذا الوجه واقع بالليل والنهار اللذين أحدهما معاش والثاني سكن وبهما قوام أمور العالم ثم اختلفوا بعد ذلك فذهب عامة العلماء إلى أنه هو الحمرة وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل ومن أهل اللغة قول الليث والفراء والزجاج قال صاحب ( الكشاف ) وهو قول عامة العلماء إلا ما يروى عن أبي حنيفة في إحدى الروايتين عنه أنه البياض وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه واحتجوا عليه بوجوه أحدها قال الفراء سمعت بعض العرب يقول عليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق وكان أحمر قال فدل ذلك على أن الشفق هو الحمرة وثانيها أنه جعل الشفق وقتاً للعشاء الأخيرة فوجب أن يكون المعتبر هو الحمرة لا البياض لأن البياض يمتد وقته ويطول لبثه والحمرة لما كانت بقية ضوء الشمس ثم بعدت الشمس عن الأفق ذهبت الحمرة وثالثها أن اشتقاق الشفق لما كان من الرقة ولا شك أن الضوء يأخذ في الرقة والضعف من عند غيبة الشمس فتكون الحمرة شفقاً أما قوله وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ فقال أهل اللغة وسق أي جمع ومنه الوسق وهو الطعام المجتمع الذي يكال ويوزن ثم صار اسماً للحمل واستوسقت الإبل إذا اجتمعت وانضمت والراعي يسقها أي يجمعها قال صاحب ( الكشاف ) يقال وسقه فاتسق واستوسق ونظيره في وقوع افتعل واستفعل مطاوعين اتسع واستوسع وأما المعنى فقال القفال مجموع أقاويل المفسرين يدل على أنهم فسروا قوله تعالى وَمَا وَسَقَ على جميع ما يجمعه الليل من النجوم ورجوع الحيوان عن الانتشار وتحرك ما يتحرك فيه الهوام ثم هذا يحتمل أن يكون إشارة إلى الأشياء كلها لاشتمال الليل عليها فكأنه تعالى أقسم بجميع المخلوقات كما قال فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ ( الحاقة 38 ) وقال سعيد بن جبير ما عمل فيه قال القفال يحتمل أن يكون ذلك هو تهجد العباد فقد مدح الله تعالى بها المستغفرين بالأسحار فيجوز أن يحلف بهم وإنما قلنا إن الليل جمع هذه الأشياء كلها لأن ظلمته كأنها تجلل(31/99)
الجبال والبحار والشجر والحيوانات فلا جرم صح أن يقال وسق جميع هذه الأشياء أما قوله وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ فاعلم أن أصل الكلمة من الاجتماع يقال وسقته فاتسق كما يقال وصلته فاتصل أي جمعته فاجتمع ويقال أمور فلان متسقة أي مجتمعة على الصلاح كما يقال منتظمة وأما أهل المعاني فقال ابن عباس إذا اتسق أي استوى واجتمع وتكامل وتم واستدار وذلك ليلة ثلاثة عشر إلى ستة عشر ثم إنه سبحانه وتعالى بعد أن ذكر ما به أقسم أتبعه بذكر ما عليه أقسم فقال لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً مِنْ طَبقٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء لَتَرْكَبُنَّ على خطاب الإنسان في يا أيها الإنسان ولتركبن بالضم على خطاب الجنس لأن النداء في قوله وَحُقَّتْ يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ ( الإنشقاق 6 ) للجنس ولتركبن بالكسر على خطاب النفس وليركبن بالياء على المغايبة أي ليركبن الإنسان
المسألة الثانية الطبق ما طابق غيره يقال ما هذا يطبق كذا أي لا يطابقه ومنه قيل للغطاء الطبق وطباق الثرى ما يطابق منه قيل للحال المطابقة لغيرها طبق ومنه قوله تعالى لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ أي حالاً بعد حال كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول ويجوز أن يكون جمع طبقة وهي المرتبة من قولهم هو على طبقات والمعنى لتركبن أحوالاً بعد أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من أهوال القيامة ولنذكر الآن وجوه المفسرين فنقول أما القراءة برفع الياء وهو خطاب الجمع فتحتمل وجوهاً أحدها أن يكون المعنى لتركبن أيها الإنسان أموراً وأحوالاً أمراً بعد أمر وحالاً بعد حال ومنزلاً بعد منزل إلى أن يستقر الأمر على ما يقضي به على الإنسان أول من جنة أو نار فحينئذ يحصل الدوام والخلود إما في دار الثواب أو في دار العقاب ويدخل في هذه الجملة أحوال الإنسان من يكون نطفة إلى أن يصير شخصاً ثم يموت فيكون في البرزخ ثم يحشر ثم ينقل إما إلى جنة وإما إلى نار وثانيها أن معنى الآية أن الناس يلقون يوم القيامة أحوالاً وشدائد حالاً بعد حال وشدة بعد شدة كأنهم لما أنكروا البعث أقسم الله أن البعث كائن وأن الناس يلقون فيها الشدائد والأهوال إلى أن يفرغ من حسابهم فيصير كل أحد إلى أعدله من جنة أو نار وهو نحو قوله بَلِ وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ( التغابن 7 ) وقوله يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ( القلم 42 ) وقوله يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ( المزمل 17 ) وثالثها أن يكون المعنى أن الناس تنتقل أحوالهم يوم القيامة عما كانوا عليه في الدنيا فمن وضيع في الدنيا يصير رفيعاً في الآخرة ومن رفيع يتضع ومن متنعم يشقى ومن شقى يتنعم وهو كقوله خَافِضَة ٌ رَّافِعَة ٌ ( الواقعة 3 ) وهذا التأويل مناسب لما قبل هذه الآية لأنه تعالى لما ذكر حال من يؤتي كتابه وراء ظهره أنه كان في أهله مسروراً وكان يظن أن لن يحور أخبر الله أنه يحور ثم أقسم على الناس أنهم يركبون في الآخرة طبقاً عن طبق أي حالاً بعد حالهم في الدنيا ورابعها أن يكون المعنى لتركبن سنة الأولين ممن كان قبلكم في التكذيب بالنبوة والقيامة وأما القراءة بنصب الياء ففيها قولان
الأول قول من قال إنه خطاب مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا التقدير ذكروا وجهين أحدهما أن يكون ذلك بشارة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالظفر والغلبة على المشركين المكذبين بالبعث كأنه يقول أقسم يا محمد لنركبن حالاً بعد حال حتى يختم لك بجميل العافية فلا يحزنك تكذيبهم وتماديهم في كفرهم وفي هذا الوجه احتمال آخر يقرب مما ذكرنا وهو أن يكون المعنى أنه يركب حال ظفر وغلبة بعد حال خوف وشدة(31/100)
واحتمال ثالث وهو يكون المعنى أن الله تعالى يبدله بالمشركين أنصاراً من المسلمين ويكون مجاز ذلك من قولهم طبقات الناس وقد يصلح هذا التأويل على قراءة من قرأ بضم الباء كأنه خطاب للمسلمين بتعريف تنقل الأحوال بهم وتصييرهم إلى الظفر بعدوهم بعد الشدة التي يلقونها منهم كما قال لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ( آل عمران 186 ) الآية وثانيها أن يكون ذلك بشارة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) بصعوده إلى السماء لمشاهدة ملكوتها وإجلال الملائكة إياه فيها والمعنى لتركبن يا محمد السموات طبقاً عن طبق وقد قال تعالى سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً ( الملك 3 ) وقد فعل الله ذلك ليلة الإسراء وهذا الوجه مروي عن ابن عباس وابن مسعود وثالثها لتركبن يا محمد درجة ورتبة بعد رتبة في القرب من الله تعالى
القول الثاني في هذه القراءة أن هذه الآية في السماء وتغيرها من حال إلى حال والمعنى لتركبن السماء يوم القيامة حالة بعد حالة وذلك لأنها أولاً تنشق كما قال إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ( الإنشقاق 1 ) ثم تنفطر كما قال إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ( الإنفطار 1 ) ثم تصير وَرْدَة ً كَالدّهَانِ ( الرحمن 37 ) وتارة كَالْمُهْلِ ( المعارج 8 ) على ما ذكر الله تعالى هذه الأشياء في آيات من القرآن فكأنه تعالى لما ذكر في أول السورة أنها تنشق أقسم في آخر السورة أنها تنتقل من أحوال إلى أحوال وهذا الوجه مروي عن ابن مسعود
المسألة الثالثة قوله تعالى عَن طَبقٍ أي بعد طبق كقول الشاعر ما زلت أقطع منهلا عن منهل
حتى أنخت بباب عبدالواحد
ووجه هذا أن الإنسان إذا صار من شيء إلى شيء آخر فقد صار إلى الثاني بعد الأول فصلحت بعد وعن معاقبة وأيضاً فلفظة عن تفيد البعد والمجاوزة فكانت مشابهة للفظة بعد
أما قوله تعالى فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى الأقرب أن المراد فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بصحة البعث والقيامة لأنه تعالى حكى عن الكافر إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ( الإنشقاق 14 ) ثم أفتى سبحانه بأنه يحور فلما قال بعد ذلك فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ دل على أن المراد فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بالبعث والقيامة ثم اعلم أن قوله فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ استفهام بمعنى الإنكار وهذا إنما يحسن عند ظهور الحجة وزوال الشبهات الأمر ههنا كذلك وذلك لأنه سبحانه أقسم بتغييرات واقعة في الأفلاك والعناصر فإن الشفق حالة مخالفة لما قبلها وهو ضوء النهار ولما بعدها وهو ظلمة الليل وكذا قوله وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ فإنه يدل على حدوث ظلمة بعد نور وعلى تغير أحوال الحيوانات من اليقظة إلى النوم وكذا قوله وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ فأنه يدل على حصول كمال القمر بعد أن كان ناقصاً إنه تعالى أقسم بهذه الأحوال المتغيرة على تغير أحوال الخلق وهذا يدل قطعاً على صحة القول بالبعث لأن القادر على تغيير الأجرام العلوية والسفلية من حال إلى حال وصفة إلى صفة بحسب المصالح لا بد وأن يكون في نفسه قادراً على جميع الممكنات عالماً بجميع المعلومات ومن كان كذلك كان لا محالة قادراً على البعث والقيامة فلما كان ما قبل هذه الآية كالدلالة العقلية القاطعة على صحة البعث والقيامة لا جرم قال على سبيل الاستبعاد فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
المسألة الثانية قال القاضي لا يجوز أن يقول الحكيم فيمن كان عاجزاً عن الإيمان فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ فلما قال ذلك دل على كونهم قادرين وهذا يقتضي أن تكون الاستطاعة قبل الفعل وأن يكونوا(31/101)
موجدين لأفعالهم وأن لا يكون تعالى خالقاً للكفر فيهم فهذه الآية من المحكمات التي لا احتمال فيها البتة وجوابه قد مر غير مرة
وَإِذَا قُرِى ءَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لاَ يَسْجُدُونَ
أما قوله تعالى وَإِذَا قُرِىء عَلَيْهِمُ الْقُرْءانُ لاَ يَسْجُدُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنهم أرباب الفصاحة والبلاغة فعند سماعهم القرآن لا بد وأن يعلموا كونه معجزاً وإذا علموا صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ووجوب طاعته في الأوامر والنواهي فلا جرم استبعد الله منهم عند سماع القرآن ترك السجود والطاعة
المسألة الثانية قال ابن عباس والحسن وعطاء والكلبي ومقاتل المراد من السجود الصلاة وقال أبو مسلم الخضوع والاستكانة وقال آخرون بل المراد نفس السجود عند آيات مخصوصة وهذه الآية منها
المسألة الثالثة روي أنه عليه السلام ( قرأ ذات يوم وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ( العلق 19 ) فسجد هو ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق فوق رؤوسهم وتصفر ) فنزلت هذه الآية واحتج أبو حنيفة على وجوب السجدة بهذا من وجهين الأول أن فعله ( صلى الله عليه وسلم ) يقتضي الوجوب لقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ والثاني أن الله تعالى ذم من يسمعه فلا يسجد وحصول الذم عند الترك يدل على الوجوب
المسألة الرابعة مذهب ابن عباس أنه ليس في المفصل سجدة وعن أبي هريرة أنه سجد ههنا وقال والله ما سجدت فيها إلا بعد أن رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يسجد فيها وعن أنس صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان فسجدوا وعن الحسن هي غير واجبة
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ
أما قوله بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فالمعنى أن الدلائل الموجبة للإيمان وإن كانت جلية ظاهرة لكن الكفار يكذبون بها إما لتقليد الأسلاف وإما للحسد وإما للخوف من أنهم لو أظهروا الإيمان لفاتتهم مناصب الدنيا ومنافعها
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ
أما قوله تعالى يُكَذّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ فأصل الكلمة من الوعاء فيقال أوعيت الشيء أي جعلته في وعاء كما قال وَجَمَعَ فَأَوْعَى ( المعارج 18 ) والله أعلم بما يجمعون في صدورهم من الشرك والتكذيب فهو مجازيهم عليه في الدنيا والآخرة
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
ثم قال تعالى فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ استحقوه على تكذيبهم وكفرهم
إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
أما قوله إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ففيه قولان قال صاحب ( الكشاف ) الاستثناء منقطع وقال الأكثرون معناه إلا من تاب منهم فإنهم وإن كانوا في الحال كفاراً إلا أنهم(31/102)
متى تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر وهو الثواب العظيم
وفي معنى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ وجوه أحدها أن ذلك الثواب يصل إليهم بلا من ولا أذى وثانيها من غير انقطاع وثالثها من غير تنغيص ورابعها من غير نقصان والأولى أن يحمل اللفظ على الكل لأن من شرط الثواب حصول الكل فكأنه تعالى وعدهم بأجر خالص من الشوائب دائم لا انقطاع فيه ولا نقص ولا بخس وهذا نهاية الوعد فصار ذلك ترغيباً في العبادات كما أن الذي تقدم هو زجر عن المعاصي والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين(31/103)
سورة البروج
عشرون وآيتان مكية
اعلم أن المقصود من هذه السورة تسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه عن إيذاء الكفار وكيفية تلك التسلية هي أنه تعالى بين أن سائر الأمم السالفة كانوا كذلك مثل أصحاب الأخدود ومثل فرعون ومثل ثمود وختم ذلك بأن بين أن كل الكفار كانوا في التكذيب ثم عقب هذا الوجه بوجه آخر وهو قوله وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ ( البروج 20 ) ذكر وجهاً ثالثاً وهو أن هذا شيء مثبت في اللوح المحفوظ ممتنع التغيير وهو قوله بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ ( لبروج 21 ) فهذا ترتيب السورة
وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ
اعلم أن في البروج ثلاثة أقوال أحدها أنها هي البروج الإثنا عشر وهي مشهورة وإنما حسن القسم بها لما فيها من عجيب الحكمة وذلك لأن سير الشمس فيها ولا شك أن مصالح العالم السفلي مرتبطة بسير الشمس فيدل ذلك على أن لها صانعاً حكيماً قال الجبائي وهذه اليمين واقعة على السماء الدنيا لأن البروج فيها واعلم أن هذا خطأ وتحقيقه ذكرناه في قوله تعالى إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَة ٍ الْكَواكِبِ ( الصافات 6 ) وثانيها أن البروج هي منازل القمر وإنما حسن القسم بها لما في سير القمر وحركته من الآثار العجيبة وثالثها أن البروج هي عظام الكواكب سميت بروجاً لظهورها وأما اليوم الموعود فهو يوم القيامة رواه أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال القفال يحتمل أن يكون المراد وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ لانشقاق السماء وفنائها وبطلان بروجها وأما الشاهد والمشهود فقد أضطرب أقاويل المفسرين فيه والقفال أحسن الناس كلاماً فيه قال إن الشاهد يقع على شيئين أحدهما الشاهد الذي تثبت به الدعاوى والحقوق والثاني الشاهد الذي هو بمعنى الحاضر كقوله عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ ( الأنعام 73 ) ويقال فلان شاهد وفلان غائب وحمل الآية على هذا الاحتمال الثاني أولى إذ لو كان المراد هو الأول لما خلا لفظ المشهود عن حرف الصلة فيقال مشهود عليه أو مشهود له هذا هو الظاهر وقد يجوز أن يكون المشهود معناه المشهود عليه فحذفت الصلة كما في قوله إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَّسْئُولاً ( الإسراء 34 ) أي مسئولاً عنه إذا عرفت هذه المقدمة فنقول إن حملنا الشهود على الحضور احتملت الآية وجوهاً من التأويل أحدها أن المشهود هو يوم القيامة والشاهد هو الجمع الذي يحضرون فيه وهو مروي عن ابن عباس(31/104)
والضحاك ويدل على صحة هذا الاحتمال وجوه الأول أنه لا حضور أعظم من ذلك الحضور فإن الله تعالى يجمع فيه خلق الأولين والآخرين من الملائكة والأنبياء والجن والإنس وصرف اللفظ إلى المسمى الأكمل أولى والثاني أنه تعالى ذكر اليوم الموعود وهو يوم القيامة ثم ذكر عقيبة وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ وهذا يناسب أن يكون المراد بالشاهد من يحضر في ذلك اليوم من الخلائق وبالمشهود ما في ذلك اليوم من العجائب الثالث أن الله تعالى وصف يوم القيامة بكونه مشهوداً في قوله فَوْيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( مريم 37 ) وقال ذالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذالِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ( هود 103 ) وقال يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ( الإسراء 52 ) وقال إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَة ً واحِدَة ً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ( يس 53 ) وطريق تنكيرهما إما ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ( التكوير 14 ) كأنه قيل وما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود وأما الإبهام في الوصف كأنه قيل وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما وإنما حسن القسم بيوم القيامة للتنبيه على القدرة إذ كان هو يوم الفصل والجزاء ويوم تفرد الله تعالى فيه بالملك والحكم وهذا الوجه اختيار ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن بن علي وابن المسيب والضحاك والنخعي والثوري وثانيها أن يفسر المشهود بيوم الجمعة وهو قول ابن عمر وابن الزبير وذلك لأنه يوم يشهده المسلمون للصلاة ولذكر الله ومما يدل على كون هذا اليوم مسمى بالمشهود خبران الأول ما روى أبو الدرداء قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة ) والثاني ما روى أبو هريرة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( تحضر الملائكة أبواب المسجد فيكتبون الناس فإذا خرج الإمام طويت الصحف ) وهذه الخاصية غير موجودة إلا في هذا اليوم فيجوز أن يسمى مشهوداً لهذا المعنى قال الله تعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ ( الإسراء 78 ) وروى ( أن ملائكة الليل والنهار يحضرون وقت صلاة الفجر فسميت هذه الصلاة مشهودة لشهادة الملائكة ) فكذا يوم الجمعة وثالثها أن يفسر المشهود بيوم عرفة والشاهد من يحضره من الحاج وحسن القسم به تعظيماً لأمر الحج روي أن الله تعالى يقول للملائكة يوم عرفة ( أنظروا إلى عبادي شعثاً غبراً أتوني من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم وأن إبليس يصرخ ويضع التراب على رأسه لما يرى من ذلك ) والدليل على أن يوم عرفة مسمى بأنه مشهود قوله تعالى وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ ( الحج 28 27 ) ورابعها أن يكون المشهود يوم النحر وذلك لأنه أعظم المشاهد في الدنيا فإنه يجتمع أهل الشرق والغرب في ذلك اليوم بمنى والمزدلفة وهو عيد المسلمين ويكون الغرض من القسم به تعظيم أمر الحج وخامسها حمل الآية على يوم الجمعة ويوم عرفة ويوم النحر جميعاً لأنها أيام عظام فأقسم الله بها كما أقسم بالليالي العشر والشفع والوتر ولعل الآية عامة لكل يوم عظيم من أيام الدنيا ولكل مقام جليل من مقاماتها وليوم القيامة أيضاً لأنه يوم عظيم كما قال لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( المطففين 6 5 ) وقال فَوْيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( مريم 37 ) ويدل على صحة هذا التأويل خروج اللفظ في الشاهد والمشهود على النكرة فيحتمل أن يكون ذلك على معنى أن القصد لم يقع فيه إلى يوم بعينه فيكون معرفاً أما الوجه الأول وهو أن يحمل الشاهد على من تثبت الدعوى بقوله فقد ذكروا على هذا التقدير وجوهاً كثيرة أحدها أن الشاهد هو الله تعالى لقوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ ( آل عمران 18 ) وقوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ ( الأنعام 19 ) وقوله أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيدٌ(31/105)
( فصلت 53 ) والمشهود هو التوحيد لقوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ أو النبوة قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وثانيها أن الشاهد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمشهود عليه سائر الأنبياء لقوله تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) ولقوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ( الفتح 8 ) وثالثها أن يكون الشاهد هو الأنبياء والمشهود عليه هو الأمم لقوله تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ ورابعها أن يكون الشاهد هو جميع الممكنات والمحدثات والمشهود عليه واجب الوجود وهذا احتمال ذكرته أنا وأخذته من قول الأصوليين هذا الاستدلال بالشاهد على الغائب وعلى هذا التقدير يكون القسم واقعاً بالخلق والخالق والصنع والصانع وخامسها أن يكون الشاهد هو الملك لقوله تعالى وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ والمشهود عليه هم المكلفون وسادسها أن يكون الشاهد هو الملك والمشهود عليه هو الإنسان الذي تشهد عليه جوارحه يوم القيامة قال يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ ( النور 24 ) وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا ( فصلت 21 ) وهذا قول عطاء الخراساني وأما الوجه الثالث وهو أقوال مبنية على الروايات لا على الاشتقاق فأحدها أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة روى أبو موسى الأشعري أنه عليه الصلاة والسلام قال ( اليوم الموعود يوم القيامة والشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة ويوم الجمعة ذخيرة الله لنا ) وعن أبي هريرة مرفوعاً قال ( المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة ما طلعت الشمس ولا غربت على أفضل منه فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب له ولا يستعيذ من شر إلا أعاذه منه ) وعن سعيد بن المسيب مرسلاً عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( سيد الأيام يوم الجمعة وهو الشاهد والمشهود يوم عرفة ) وهذا قول كثير من أهل العلم كعلي بن أبي طالب عليه السلام وأبي هريرة وابن المسيب والحسن البصري والربيع بن أنس قال قتادة شاهد ومشهود يومان عظمهما الله من أيام الدنيا كما يحدث أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وثانيها أن الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر وذلك لأنهما يومان عظمهما الله وجعلهما من أيام أركان أيام الحج فهذان اليومان يشهدان لمن يحضر فيهما بالإيمان واستحقاق الرحمة وروى أنه عليه السلام ذبح كبشين وقال في أحدهما ( هذا عمن يشهد لي بالبلاغ ) فيحتمل لهذا المعنى أن يكون يوم النحر شاهداً لمن حضره بمثل ذلك لهذا الخبر وثالثها أن الشاهد هو عيسى لقوله تعالى حكاية عنه ( فصلت 21 ) وهذا قول عطاء الخراساني وأما الوجه الثالث وهو أقوال مبنية على الروايات لا على الاشتقاق فأحدها أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة روى أبو موسى الأشعري أنه عليه الصلاة والسلام قال ( اليوم الموعود يوم القيامة والشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة ويوم الجمعة ذخيرة الله لنا ) وعن أبي هريرة مرفوعاً قال ( المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة ما طلعت الشمس ولا غربت على أفضل منه فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب له ولا يستعيذ من شر إلا أعاذه منه ) وعن سعيد بن المسيب مرسلاً عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( سيد الأيام يوم الجمعة وهو الشاهد والمشهود يوم عرفة ) وهذا قول كثير من أهل العلم كعلي بن أبي طالب عليه السلام وأبي هريرة وابن المسيب والحسن البصري والربيع بن أنس قال قتادة شاهد ومشهود يومان عظمهما الله من أيام الدنيا كما يحدث أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وثانيها أن الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر وذلك لأنهما يومان عظمهما الله وجعلهما من أيام أركان أيام الحج فهذان اليومان يشهدان لمن يحضر فيهما بالإيمان واستحقاق الرحمة وروى أنه عليه السلام ذبح كبشين وقال في أحدهما ( هذا عمن يشهد لي بالبلاغ ) فيحتمل لهذا المعنى أن يكون يوم النحر شاهداً لمن حضره بمثل ذلك لهذا الخبر وثالثها أن الشاهد هو عيسى لقوله تعالى حكاية عنه وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ( المائدة 117 ) ورابعها الشاهد هو الله والمشهود هو يوم القيامة قال تعالى قَالُواْ ياوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ( يس 52 ) وقوله ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ ( المجادلة 7 ) وخامسها أن الشاهد هو الإنسان والمشهود هو التوحيد لقوله تعالى وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 ) وسادسها أن الشاهد الإنسان والمشهود هو يوم القيامة أما كون الإنسان شاهداً فلقوله تعالى قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ( الأعراف 172 ) وأما كون يوم القيامة مشهوداً فلقوله أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ ( الأعراف 172 ) فهذه هي الوجوه الملخصة والله أعلم بحقائق القرآن(31/106)
قُتِلَ أَصْحَابُ الاٍّ خْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ
اعلم أنه لا بد للقسم من جواب واختلفوا فيه على وجوه أحدها ما ذكره الأخفش وهو أن جواب القسم قوله قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ واللام مضمرة فيه كما قال وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ( الشمس 1 ) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ( الشمس 9 ) يريد لقد أفلح قال وإن شئت على التقديم كأنه قيل قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج وثانيها ما ذكره الزجاج وهو أن جواب القسم إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ ( البروج 12 ) وهو قول ابن مسعود وقتادة وثالثها أن جواب القسم قوله إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ ( البروج 10 ) الآية كما تقول والله إن زيداً لقائم إلا أنه اعترض بين القسم وجوابه قوله قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ إلى قوله إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ ( البروج 10 4 ) ورابعها ما ذكره جماعة من المتقدمين أن جواب القسم محذوف وهذا اختيار صاحب ( الكشاف ) إلا أن المتقدمين قالوا ذلك المحذوف هو أن الأمر حق في الجزاء على الأعمال وقال صاحب ( الكشاف ) جواب القسم هو الذي يدل عليه قوله قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ كأنه قيل أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود وذلك لأن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان حتى يقتدوا بهم ويصبروا على أذى قومهم ويعلموا أن كفار مكة عند الله بمنزلة أولئك الذين كانوا في الأمم السالفة يحرقون أهل الإيمان بالنار وأحقاء بأن يقال فيهم قتلت قريش كما قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ أما قوله تعالى قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا قصة أصحاب الأخدود على طرق متباينة ونحن نذكر منها ثلاثة
أحدها أنه كان لبعض الملوك ساحر فلما كبر ضم إليه غلام ليعلمه السحر وكان في طريق الغلام راهب فمال قلب الغلام إلى ذلك الراهب ثم رأى الغلام في طريقه ذات يوم حية قد حبست الناس فأخذ حجراً وقال اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فقوني على قتلها بواسطة رمي الحجر إليها ثم رمى فقتلها فصار ذلك سبباً لإعراض الغلام عن السحر واشتغاله بطريقة الراهب ثم صار إلى حيث يبرىء الأكمه والأبرص ويشفي من الأدواء فاتفق أن عمي جليس للملك فأبرأه فلما رآه الملك قال من رد عليك نظرك فقال ربي فغضب فعذبه فدل على الغلام فعذبه فدل على الراهب فأحضر الراهب وزجره عن دينه فلم يقبل الراهب قوله فقد بالمنشار ثم أتوا بالغلام إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا الله فرجف بالقوم فهلكوا ونجا فذهبوا به إلى سفينة لججوا بها ليغرقوه فدعا الله فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا فقال للملك لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي وتقول بسم الله رب الغلام ثم ترميني به فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه ومات فقال الناس آمنا برب الغلام فقيل للملك نزل بك ما كنت تحذر فأمر بأخاديد في أفواه السكك وأوقدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها فقال الصبي يا أماه اصبري فإنك على الحق فصبرت على ذلك
الرواية الثانية روي عن علي عليه السلام أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال هم أهل الكتاب(31/107)
وكانوا متمسكين بكتابهم وكانت الخمر قد أحلت لهم فتناولها بعض ملوكها فسكر فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج فقالت له المخرج أن تخطب الناس فتقول إن الله تعالى قد أحل نكاح الأخوات ثم تخطبهم بعد ذلك فتقول بعد ذلك حرمه فخطب فلم يقبلوا منه ذلك فقالت له أبسط فيهم السوط فلم يقبلوا فقالت أبسط فيهم السيف فلم يقبلوا فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أتى فيها الذين أرادهم الله بقوله قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ
الرواية الثالثة أنه وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى فدعاهم فأجابوه فصار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا فأحرق منهم إثني عشر ألفاً في الأخاديد وقيل سبعين ألفاً وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعاً وعرضه إثنا عشر ذراعاً وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنه كان إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ بالله من جهد البلاء ) فإن قيل تعارض هذه الروايات يدل على كذبها قلنا لا تعارض فقيل إن هذا كان في ثلاث طوائف ثلاث مرات مرة باليمن ومرة بالعراق ومرة بالشام ولفظ الأخدود وإن كان واحداً إلا أن المراد هو الجمع وهو كثير من القرآن وقال القفال ذكروا في قصة أصحاب الأخدود روايات مختلفة وليس في شيء منها ما يصح إلا أنها متفقة في أنهم قوم من المؤمنين خالفوا قومهم أو ملكاً كافراً كان حاكماً عليهم فألقاهم في أخدود وحفر لهم ثم قال وأظن أن تلك الواقعة كانت مشهورة عند قريش فذكر الله تعالى ذلك لأصحاب رسوله تنبيهاً لهم على ما يلزمهم من الصبر على دينهم واحتمال المكاره فيه فقد كان مشركوا قريش يؤذون المؤمنون على حسب ما اشتهرت به الأخبار من مبالغتهم في إذاء عمار وبلال
المسألة الثانية الأخدود الشق في الأرض يحفر مستطيلاً وجمعه الأخاديد ومصدره الخد وهو الشق يقال خد في الأرض خداً وتخدد لحمه إذا صار طرائق كالشقوق
المسألة الثالثة يمكن أن يكون المراد بأصحاب الأخدود القاتلين ويمكن أن يكون المراد بهم المقتولين والرواية المشهورة أن المقتولين هم المؤمنون وروي أيضاً أن المقتولين هم الجبابرة لأنهم لما ألقوا المؤمنين في النار عادت النار على الكفرة فأحرقتهم ونجى الله المؤمنين منها سالمين وإلى هذا القول ذهب الربيع بن أنس والواقدي وتأولوا قوله فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ( البروج 10 ) أي لهم عذاب جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا إذا عرفت هذه المقدمة فنقول ذكروا في تفسير قوله تعالى قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ وجوهاً ثلاثة وذلك لأنا إما أن نفسر أصحاب الأخدود بالقاتلين أو بالمقتولين أما على الوجه الأول ففيه تفسيران أحدهما أن يكون هذا دعاء عليهم أي لعن أصحاب الأخدود ونظيره قوله تعالى قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ( عبس 17 ) قُتِلَ الْخَرصُونَ ( الذاريات 10 ) والثاني أن يكون المراد أن أولئك القاتلين قتلوا بالنار على ما ذكرنا أن الجبابرة لما أرادوا قتل المؤمنين بالنار عادت النار عليهم فقتلتهم وأما إذا فسرنا أصحاب الأخدود بالمقتولين كان المعنى أن أولئك المؤمنين قتلوا بالإحراق بالنار فيكون ذلك خبراً لادعاء
المسألة الرابعة قرىء قتل بالتشديد أما قوله تعالى النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ففيه مسائل
المسألة الأولى النار إنما تكون عظيمة إذا كان هناك شيء يحترق بها إما حطب أو غيره فالوقود اسم(31/108)
لذلك الشيء لقوله تعالى وَقُودُهَا النَّارِ وَالْحِجَارَة ُ ( البقرة 24 ) وفي ذَاتِ الْوَقُودِ تعظيم أمر ما كان في ذلك الأخدود من الحطب الكثير
المسألة الثانية قال أبو علي هذا بدل الاشتمال كقولك سلب زيد ثوبه فإن الأخدود مشتمل على النار
المسألة الثالثة قرىء الوقود بالضم أما قوله تعالى إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ففيه مسألتان
المسألة الأولى العامل في إذ قتل والمعنى لعنوا في ذلك الوقت الذي هم فيه قعود عند الأخدود يعذبون المؤمنين
المسألة الثانية في الآية إشكال وهو أن قوله هُمْ ضمير عائد إلى أصحاب الأخدود لأن ذلك أقرب المذكورات والضمير في قوله عَلَيْهَا عائد إلى النار فهذا يقتضي أن أصحاب الأخدود كانوا قاعدين على النار ومعلوم أنه لم يكن الأمر كذلك والجواب من وجوه أحدها أن الضمير في هم عائد إلى أصحاب الأخدود لكن المراد ههنا من أصحاب الأخدود المقتولون لا القاتلون فيكون المعنى إذ المؤمنين قعود على النار يحترقون مطرحون على النار وثانيها أن يجعل الضمير في عَلَيْهَا عائد إلى طرف النار وشفيرها والمواضع التي يمكن الجلوس فيها ولفظ على مشعر بذلك تقول مررت عليها تريد مستعلياً بمكان يقرب منه فالقائلون كانوا جالسين فيها وكانوا يعرضون المؤمنين على النار فمن كان يترك دينه تركوه ومن كان يصبر على دينه ألقوه في النار وثالثها هب أنا سلمنا أن الضمير في هم عائد إلى أصحاب الأخدود بمعنى القاتلين والضمير في عليها عائد إلى النار فلم لا يجوز أن يقال إن أولئك القاتلين كانوا قاعدين على النار فإنا بينا أنهم لما ألقوا المؤمنين في النار ارتفعت النار إليهم فهلكوا بنفس ما فعلوه بأيديهم لأجل إهلاك غيرهم فكانت الآية دالة على أنهم في تلك الحالة كانوا ملعونين أيضاً ويكون المعنى أنهم خسروا الدنيا والآخرة ورابعها أن تكون على بمعنى عند كما قيل في قوله وَلَهُمْ عَلَى َّ ذَنبٌ ( الشعراء 14 ) أي عندي
أما قوله تعالى وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ فاعلم أن قوله شُهُودٌ يحتمل أن يكون المراد منه حضور ويحتمل أن يكون المراد منه الشهود الذين تثبت الدعوى بشهادتهم أما على الوجه الأول فالمعنى إن أولئك الجبابرة القاتلين كانوا حاضرين عند ذلك العمل يشاهدون ذلك فيكون الغرض من ذكر ذلك أحد أمور ثلاثة إما وصفهم بقسوة القلب إذ كانوا عند التعذيب بالنار حاضرين مشاهدين له وأما وصفهم بالجد في تقرير كفرهم وباطلهم حيث حضروا في تلك المواطن المنفرة والأفعال الموحشة وأما وصف أولئك المؤمنين المقتولين بالجد دينهم والإصرار على حقهم فإن الكفار إنما حضروا في ذلك الموضع طمعاً في أن هؤلاء المؤمنين إذا نظروا إليهم هابوا حضورهم واحتشموا من مخالفتهم ثم إن أولئك المؤمنين لم يلتفتوا إليهم وبقوا مصرين على دينهم الحق فإن قلت المراد من الشهود إن كان هذا المعنى فكان يجب أن يقال وهم لما يفعلون شهود ولا يقال وهم على ما يفعلون شهود قلنا إنما ذكر لفظة على بمعنى أنهم على قبح فعلهم بهؤلاء المؤمنين وهو إحراقهم بالنار كانوا حاضرين مشاهدين لتلك الأفعال القبيحة
أما الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد من الشهود الشهادة التي تثبت الدعوى بها ففيه وجوه(31/109)
أحدها أنهم جعلوا شهوداً يشهد بعضهم لبعض عند الملك أن أحداً منهم لم يفرط فيما أمر به وفوض إليه من التعذيب وثانيها أنهم شهود على ما يفعلون بالمؤمنين يؤدون شهادتهم يوم القيامة يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( النور 24 ) وثالثها أن هؤلاء الكفار مشاهدون لما يفعلون بالمؤمنين من الإحراق بالنار حتى لو كان ذلك من غيرهم لكانوا شهوداً عليه ثم مع هذا لم تأخذهم بهم رأفة ولا حصل في قلوبهم ميل ولا شفقة
وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ شَهِيدٌ
المعنى وما عابوا منهم وما أنكروا الإيمان كقوله ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
ونظيره قوله تعالى هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بِاللَّهِ ( المائدة 59 ) وإنما قال إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ لأن التعذيب إنما كان واقعاً على الإيمان في المستقبل ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى فكأنه قيل إلا أن يدوموا على إيمانهم وقرأ أبو حيوة نَقَمُواْ بالكسر والفصيح هو الفتح ثم إنه ذكر الأوصاف التي بها يستحق الإله أن يؤمن به ويعبد فأولها العزيز وهو القادر الذي لا يغلب والقاهر الذي لا يدفع وبالجملة فهو إشارة إلى القدرة التامة وثانيها الحميد وهو الذي يستحق الحمد والثناء على ألسنة عباده المؤمنين وإن كان بعض الأشياء لا يحمده بلسانه فنفسه شاهدة على أن المحمود في الحقيقة هو هو كما قال وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 ) وذلك إشارة إلى العلم لأن من لا يكون عالماً بعواقب الأشياء لا يمكنه أن يفعل الأفعال الحميدة فالحميد يدل على العلم التام من هذا الوجه وثالثها الذي له ملك السموات والأرض وهو مالكها والقيم بهما ولو شاء لأفناهما وهو إشارة إلى الملك التام وإنما أخر هذه الصفة عن الأولين لأن الملك التام لا يحصل إلا عند حصول الكمال في القدرة والعلم فثبت أن من كان موصوفاً بهذه الصفات كان هو المستحق للإيمان به وغيره لا يستحق ذلك ألبتة فكيف حكم أولئك الكفار الجهال يكون مثل هذا الإيمان ذنباً
واعلم أنه تعالى أشار بقوله الْعَزِيزُ إلى أنه لو شاء لمنع أولئك الجبابرة من تعذيب أولئك المؤمنين ولأطفأ نيرانهم ولأماتهم وأشار بقوله الْحَمِيدِ إلى أن المعتبر عنده سبحانه من الأفعال عواقبها فهو وإن كان قد أمهل لكنه ما أهمل فإنه تعالى يوصل ثواب أولئك المؤمنين إليهم وعقاب أولئك الكفرة إليهم ولكنه تعالى لم يعالجهم بذلك لأنه لم يفعل إلا على حسب المشيئة أو المصلحة على سبيل التفضل فلهذا السبب قال وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيدٌ فهو وعد عظيم للمطيعين ووعيد شديد للمجرمين(31/110)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ
اعلم أنه سبحانه لما ذكر قصة أصحاب الأخدود أتبعها بما يتفرع عليها من أحكام الثواب والعقاب فقال إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وههنا مسائل
المسألة الأولى يحتمل أن يكون المراد منه أصحاب الأخدود فقط ويحتمل أن يكون المراد كل من فعل ذلك وهذا أولى لأن اللفظ عام والحكم عام فالتخصيص ترك للظاهر من غير دليل
المسألة الثانية أصل الفتنة الابتلاء والامتحان وذلك لأن أولئك الكفار امتحنوا أولئك المؤمنين وعرضوهم على النار وأحرقوهم وقال بعض المفسرين الفتنة هي الإحراق بالنار وقال ابن عباس ومقاتل فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ حرقوهم بالنار قال الزجاج يقال فتنت الشيء أحرقته والفتن أحجار سود كأنها محترقة ومنه قوله تعالى يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ( الذاريات 13 )
المسألة الثالثة قوله تعالى ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ يدل على أنهم لو تابوا لخرجوا عن هذا الوعيد وذلك يدل على القطع بأن الله تعالى يقبل التوبة ويدل على أن توبة القاتل عمداً مقبولة خلاف ما يروى عن ابن عباس
المسألة الرابعة في قوله فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ قولان
الأول أن كلا العذابين يحصلان في الآخرة إلا أن عذاب جهنم وهو العذاب الحاصل بسبب كفرهم وعذاب الحريق هو العذاب الزائد على عذاب الكفر بسبب أنهم أحرقوا المؤمنين فيحتمل أن يكون العذاب الأول عذاب برد والثاني عذاب إحراق وأن يكون الأول عذاب إحراق والزائد على الإحراق أيضاً إحراق إلا أن العذاب الأول كأنه خرج عن أن يسمى إحراقاً بالنسبة إلى الثاني لأن الثاني قد اجتمع فيه نوعا الإحراق فتكامل جداً فكان الأول ضعيفاً فلا جرم لم يسم إحراقاً
القول الثاني أن قوله فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ إشارة إلى عذاب الآخرة وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إشارة إلى ما ذكرنا أن أولئك الكفار ارتفعت عليهم نار الأخدود فاحترقوا بها
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد المجرمين ذكر وعد المؤمنين وهو ظاهر وفيه مسألتان
المسألة الأولى إنما قال ذالِكَ الْفَوْزُ ولم يقل تلك الدقيقة لطيفة وهي أن قوله ذالِكَ إشارة إلى إخبار الله تعالى بحصول هذه الجنات وقوله تِلْكَ إشارة إلى الجنات وإخبار الله تعالى عن ذلك يدل على كونه راضياً والفوز الكبير هو رضا الله لا حصول الجنة(31/111)
المسألة الثانية قصة أصحاب الأخدود ولا سيما هذه الآية تدل على أن المكره على الكفر بالإهلاك العظيم الأولى له أن يصبر على ما خوف منه وأن إظهار كلمة الكفر كالرخصة في ذلك روى الحسن أن مسيلمة أخذ رجلين من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لأحدهما تشهد أني رسول الله فقال نعم فتركه وقال للآخر مثله فقال لا بل أنت كذاب فقتله فقال عليه السلام ( أما الذي ترك فأخذ بالرخصة فلا تبعة عليه وأما الذي قتل فأخذ بالفضل فهنيئاً له )
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِى ءُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات أولاً وذكر وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثانياً أردف ذلك الوعد والوعيد بالتأكيد فقال لتأكيد الوعيد إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ثم إن هذا القادر لا يكون إمهاله لأجل الإهمال لكن لأجل أنه حكيم إما بحكم المشيئة أو بحكم المصلحة وتأخير هذا الأمر إلى يوم القيامة فلهذا قال إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىء وَيُعِيدُ أي إنه يخلق خلقه ثم يفنيهم ثم يعيدهم أحياء ليجازيهم في القيامة فدل الإمهال لهذا السبب لا لأجل الإهمال قال ابن عباس إن أهل جهنم تأكلهم النار حتى يصيروا فحماً ثم يعيدهم خلقاً جديداً فذاك هو المراد من قوله إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىء وَيُعِيدُ
ثم قال لتأكيد الوعد وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ فذكر من صفات جلاله وكبريائه خمسة
أولها الغفور قالت المعتزلة هو الغفور لمن تاب وقال أصحابنا إنه غفور مطلقاً لمن تاب ولمن لم يتب لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) ولأن غفران التائب واجب وأداء الواجب لا يوجب التمدح والآية مذكورة في معرض التمدح وثانيها الودود وفيه أقوال أحدها المحب هذا قول أكثر المفسرين وهو مطابق للدلائل العقلية فإن الخير مقتضى بالذات والشر بالعرض ولا بد أن يكون الشر أقل من الخير فالغالب لا بد وأن يكون خيراً فيكون محبوباً بالذات وثانيها قال الكلبي الودود هو المتودد إلى أوليائه بالمغفرة والجزاء والقول هو الأول وثالثها قال الأزهري قال بعض أهل اللغة يجوز أن يكون ودود فعولاً بمعنى مفعول كركوب وحلوب ومعناه أن عباده الصالحين يودونه ويحبونه لما عرفوا من كماله في ذاته وصفاته وأفعاله قال وكلتا الصفتين مدح لأنه جل ذكره إذا أحب عباده المطيعين فهو فضل منه وإن أحبه عباده العارفون فلما تقرر عندهم من كريم إحسانه ورابعها قال القفال قيل الودود قد يكون بمعنى الحليم من قولهم دابة ودود وهي المطيعة القياد التي كيف عطفتها انعطفت وأنشد قطرب وأعددت للحرب خيفانة
ذلول القياد وقاحا ودودا(31/112)
وثالثها ذو العرش قال القفال ذو العرش أي ذو الملك والسلطان كما يقال فلان على سرير ملكه وإن لم يكن على السرير وكما يقال ثل عرش فلان إذا ذهب سلطانه وهذا معنى متفق على صحته وقد يجوز أن يكون المراد بالعرش السرير ويكون جل جلاله خلق سريراً في سمائه في غاية العظمة والجلالة بحيث لا يعلم عظمته إلا هو ومن يطلعه عليه ورابعها المجيد وفيه قراءتان إحداهما الرفع فيكون ذلك صفة لله سبحانه وهو اختيار أكثر القراء والمفسرين لأن المجد من صفات التعالي والجلال وذلك لا يليق إلا بالله سبحانه والفصل والاعتراض بين الصفة والموصوف في هذا النحو غير ممتنع والقراءة الثانية بالخفض وهي قراءة حمزة والكسائي فيكون ذلك صفة العرش وهؤلاء قالوا القرآن دل على أنه يجوز وصف غير الله بالمجيد حيث قال بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ ورأينا أن الله تعالى وصف العرش بأنه كريم فلا يبعد أيضاً أن يصفه بأنه مجيد ثم قالوا إن مجد الله عظمته بحسب الوجوب الذاتي وكمال القدرة والحكمة والعلم وعظمة العرش علوه في الجهة وعظمة مقداره وحسن صورته وتركيبه فإنه قيل العرش أحسن الأجسام تركيباً وصورة وخامسها أنه فعال لما يريد وفيه مسائل
المسألة الأولى فعال خبر مبتدأ محذوف
المسألة الثانية من النحويين من قال وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ خبران لمبتدأ واحد وهذا ضعيف لأن المقصود بالإسناد إلى المبتدأ إما أن يكون مجموعها أو كل واحد واحد منهما فإن كان الأول كان الخبر واحد الآخرين وإن كان الثاني كانت القضية لا واحد قبل قضيتين
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة خلق الأفعال فقالوا لا شك أنه تعالى يريد الإيمان فوجب أن يكون فاعلاً للإيمان بمقتضى هذه الآية وإذا كان فاعلاً للإيمان وجب أن يكون فاعلاً للكفر ضرورة أنه لا قائل بالفرق قال القاضي ولا يمكن أن يستدل بذلك على أن ما يريده الله تعالى من طاعة الخلق لا بد من أن يقع لأن قوله تعالى فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ لا يتناول إلا ما إذا وقع كان فعله دون ما إذا وقع لم يكن فعلاً له هذه ألفاظ القاضي ولا يخفي ضعفها
المسألة الرابعة احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى لا يجب لأحد من المكلفين عليه شيء ألبتة وهو ضعيف لأن الآية دالة على أنه يفعل ما يريد فلم قلتم إنه يريد أن لا يعطي الثواب
المسألة الخامسة قال القفال فعال لما يريد على ما يراه لا يعترض عليه معترض ولا يغلبه غالب فهو يدخل أولياءه الجنة لا يمنعه منه مانع ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر ويمهل العصاء على ما يشاء إلى أن يجازيهم ويعاجل بعضهم العقوبة إذا شاء ويعذب من شاء منهم في الدنيا وفي الآخرة يفعل من هذه الأشياء ومن غيرهما ما يريد(31/113)
هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ
اعلم أنه تعالى لما بين حال أصحاب الأخدود في تأذي المؤمنين بالكفار بين أن الذين كانوا قبلهم كانوا أيضاً كذلك واعلم أن فرعون وثمود بدل من الجنود وأراد بفرعون إياه وقومه كما في قوله من فرعون وملئهم وثمود كانوا في بلاد العرب وقصتهم عندهم مشهورة فذكر تعالى من المتأخرين فرعون ومن المتقدمين ثمود والمقصود بيان أن حال المؤمنين مع الكفار في جميع الأزمنة مستمرة على هذا النهج وهذا هو المراد من قوله بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ ولما طيب قلب الرسول عليه السلام بحكاية أحوال الأولين في هذا الباب سلاه بعد ذلك من وجه آخر وهو قوله وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ وفيه وجوه أحدها أن المراد وصف اقتداره عليهم وأنهم في قبضته وحوزته كالمحاط إذا أحيط به من ورائه فسد عليه مسلكه فلا يجد مهرباً يقول تعالى فهو كذا في قبضتي وأنا قادر على إهلاكهم ومعاجلتهم بالعذاب على تكذيبهم إياك فلا تجزع من تكذيبهم إياك فليسوا يفوتونني إذا أردت الانتقام منهم وثانيها أن يكون المراد من هذه الإحاطة قرب هلاكهم كقول تعالى وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ( الفتح 21 ) وقوله وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ( الإسراء 60 ) وقوله وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ( يونس 22 ) فهذا كله عبارة عن مشارفة الهلاك يقول فهؤلاء في تكذيبك قد شارفوا الهلاك وثالثها أن يكون المراد والله محيط بأعمالهم أي عالم بها فهو مرصد بعقابهم عليها ثم إنه تعالى سلى رسوله بعد ذلك بوجه ثالث وهو قوله بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى تعلق هذا بما قبله هو أن هذا القرآن مجيد مصون عن التغير والتبدل فلما حكم فيه بسعادة قوم وشقاوة قوم وبتأذي قوم من قوم امتنع تغيره وتبدله فوجب الرضا به ولا شك أن هذا من أعظم موجبات التسلية
المسألة الثانية قرىء بَلْ هُوَ بالإضافة أي قرآن رب مجيد وقرأ يحيى بن يعمر في لوح واللوح الهواء يعني اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح المحفوظ وقرىء محفوظ بالرفع صفة للقرآن كما قلنا إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 )
المسألة الثالثة أنه تعالى قال ههنا فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ وقال في آية أخرى إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ( الواقعة 78 77 ) فيحتمل أن يكون الكتاب المكنون واللوح المحفوظ واحداً ثم كونه محفوظاً يحتمل أن يكون المراد كونه محفوظاً عن أن يمسه إلا المطهرون كما قال تعالى لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ويحتمل أن يكون المراد كونه محفوظاً من اطلاع الخلق عليه سوى الملائكة المقربين ويحتمل أن يكون المراد أن لا يجري عليه تغيير وتبديل
المسألة الرابعة قال بعض المتكلمين إن اللوح شيء يلوح للملائكة فيقرؤنه ولما كانت الأخبار والآثار واردة بذلك وجب التصديق والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(31/114)
سورة الطارق
سبع عشرة آية مكية
وهي مشتملة على الترغيب في معرفة المبدأ والمعاد
وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ
اعلم أنه تعالى أكثر في كتابه ذكر السماء والشمس والقمر لأن أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها ومغاربها عجيبة وأما الطارق فهو كل ما أتاك ليلاً سواء كان كوكباً أو غيره فلا يكون الطارق نهاراً والدليل عليه قول المسلمين في دعائهم نعوذ بالله من طوارق الليل وروي أنه عليه السلام ( نهى عن أن يأتي الرجل أهله طروقاً ) والعرب تستعمل الطروق في صفة الخيال لأن تلك الحالة إنما تحصل في الأكثر في الليل ثم إنه تعالى لما قال وَالطَّارِقِ كان هذا مما لايستغنى سامعه عن معرفة المراد منه فقال وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ قال سفيان بن عيينة كل شيء في القرآن ما أدراك فقد أخبر الرسول به وكل شيء فيه ما يدريك لم يخبر به كقوله وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَة َ قَرِيبٌ ( الشورى 17 ) ثم قال النَّجْمُ الثَّاقِبُ أي هو طارق عظيم الشأن رفيع القدر وهو النجم الذي يهتدى به في ظلمات البر والبحر ويوقف به على أوقات الأمطار وههنا مسائل
المسألة الأولى إنما وصف النجم بكونه ثاقباً لوجوه أحدها أنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه كما قيل درىء لأنه يدرؤه أي يدفعه وثانيها أنه يطلع من المشرق نافذاً في الهواء كالشيء الذي يثقب الشيء وثالثها أنه الذي يرى به الشيطان فيثقبه أي ينفذ فيه ويحرقه ورابعها قال الفراء النَّجْمُ الثَّاقِبُ هو النجم المرتفع على النجوم والعرب تقول للطائر إذا لحق ببطن السماء ارتفاعاً قد ثقب
المسألة الثانية إنما وصف النجم بكونه طارقاً لأنه يبدو بالليل وقد عرفت أن ذلك يسمى طارقاً أو لأنه يطرق الجني أي صكه
المسألة الثالثة اختلفوا في قوله النَّجْمُ الثَّاقِبُ قال بعضهم أشير به إلى جماعة النحو فقيل(31/115)
الطارق كما قيل إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( العصر 2 ) وقال آخرون أنه نجم بعينه ثم قال ابن زيد إنه الثريا وقال الفراء أنه زحل لأنه يثقب بنوره سمك سبع سموات وقال آخرون أنه الشهب التي يرجم بها الشياطين لقوله تعالى فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ( الصافات 10 )
المسألة الرابعة روى أن أبا طالب أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأتحفه بخبز ولبن فبينما هو جالس يأكل إذ انحط نجم فامتلأ ماء ثم ناراً ففزع أبو طالب وقال أي شيء هذا فقال هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله فعجب أبو طالب ونزلت السورة
واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به أتبعه بذكر المقسم عليه إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله لَّمّاً قراءتان إحداهما قراءة ابن كثير وأبي عمرو ونافع والكسائي وهي بتخفيف الميم والثانية قراءة عاصم وحمزة والنخعي بتشديد الميم قال أبو علي الفاسي من خفف كانت ءانٍ عنده المخففة من الثقيلة واللام في لَّمّاً هي التي تدخل مع هذه المخففة لتخلصها من إن النافية وما صلة كالتي في قوله فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ ( آل عمران 159 ) إِلاَّ قَلِيلٌ وتكون ءانٍ متلقية للقسم كما تتلقاه مثقلة وأما من ثقل فتكون ءانٍ عنده النافية كالتي في قوله مَا إِنَّ مَكَّنَّاكُمْ و لَّمّاً في معنى ألا قال وتستعمل لَّمّاً بمعنى ألا في موضعين أحدهما هذا والآخر في باب القسم تقول سألتك بالله لما فعلت بمعنى ألا فعلت وروى عن الأخفش والكسائي وأبي عبيدة أنهم قالوا لم توجد لما بمعنى ألا في كلام العرب قال ابن عون قرأت عند ابن سيرين لما بالتشديد فأنكره وقال سبحان الله سبحان الله وزعم العتبي أن لَّمّاً بمعنى ألا مع أن الخفيفة التي تكون بمعنى ما موجودة في لغة هذيل
المسألة الثانية ليس في الآية بيان أن هذا الحافظ من هو وليس فيها أيضاً بيان أن الحافظ يحفظ النفس عماذا أما الأول ففيه قولان الأول قول بعض المفسرين أن ذلك الحافظ هو الله تعالى أما في التحقيق فلأن كل وجود سوى الله ممكن وكل ممكن فإنه لا يترجح وجوده على عدمه إلا لمرجح وينتهي ذلك إلى الواجب لذاته فهو سبحانه القيوم الذي بحفظه وإبقائه تبقى الموجودات ثم إنه تعالى بين هذا المعنى في السموات والأرض على العموم في قوله إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ وبينه في هذه الآية في حق الإنسان على الخصوص وحقيقة الكلام ترجع إلى أنه تعالى أقسم أن كل ما سواه فإنه ممكن الوجود محدث محتاج مخلوق مربوب هذا إذا حملنا النفس على مطلق الذات أما إذا حملناها على النفس المتنفسة وهي النفس الحيوانية أمكن أن يكون المراد من كونه تعالى حافظاً لها كونه تعالى عالماً بأحوالها وموصلاً إليها جميع منافعها ودافعاً عنها جميع مضارها
والقول الثاني أن ذلك الحافظ هم الملائكة كما قال وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ً وقال عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( ق 18 17 ) وقال وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ ( الإنفطار 11 1 ) وقال لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ( الرعد 11 )(31/116)
وأما البحث الثاني وهو أنه ما الذي يحفظه هذا الحافظ ففيه وجوه أحدها أن هؤلاء الحفظة يكتبون عليه أعماله دقيقها وجليلها حتى تخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً وثانيها إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ يحفظ عملها ورزقها وأجلها فإذا استوفى الإنسان أجله ورزقه قبضه إلى ربه وحاصله يرجع إلى وعيد الكفار وتسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كقوله فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا ثم ينصرفون عن قريب إلى الآخرة فيجازون بما يستحقونه وثالثها إن كل نفس لما عليها حافظ يحفظها من المعاطب والمهالك فلا يصيبها إلا ما قدر الله عليها ورابعها قال الفراء إن كل نفس لما عليها حافظ يحفظها حتى يسلمها إلى المقابر وهذا قول الكلبي
واعلم أنه تعالى لما أقسم على أن لكل نفس حافظاً يراقبها ويعد عليها أعمالها فحينئذ يحق لكل أحد أن يجتهد ويسعى في تحصيل أهم المهمات وقد تطابقت الشرائع والعقول على أن أهم المهمات معرفة المبدأ ومعرفة المعاد واتفقوا على أن معرفة المبدأ مقدمة على معرفة المعاد فلهذا السبب بدأ الله تعالى بعد ذلك بما يدل على المبدأ
فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى الدفق صب الماء يقال دفقت الماء أي صببته وهو مدفوق أي مصبوب ومندفق أي منصب ولما كان هذا الماء مدفوقاً اختلفوا في أنه لم وصف بأنه دافق على وجوه الأول قال الزجاج معناه ذو اندفاق كما يقال دراع وفارس ونابل ولابن وتامر أي درع وفرس ونبل ولبن وتمر وذكر الزجاج أن هذا مذهب سيبويه الثاني أنهم يسمون المفعول باسم الفاعل قال الفراء وأهل الحجاز أفعل لهذا من غيرهم يجعلون المفعول فاعلاً إذا كان في مذهب النعت كقوله سر كاتم وهم ناصب وليل نائم وكقوله تعالى حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ أي مرضية الثالث ذكر الخليل في الكتاب المنسوب إليه دفق الماء دفقاً ودفوقاً إذا انصب بمرة واندفق الكوز إذا انصب بمرة ويقال في الطيرة عند انصباب الكوز ونحوه دافق خير وفي كتاب قطرب دفق الماء يدفق إذا انصب الرابع صاحب الماء لما كان دافقاً أطلق ذلك على الماء على سبيل المجاز
المسألة الثانية قرىء الصلب بفتحتين والصلب بضمتين وفيه أربع لغات صلب وصلب وصلب وصالب
المسألة الثالثة ترائب المرأة عظام صدرها حيث تكون القلادة وكل عظم من ذلك تريبة وهذا قول جميع أهل اللغة قال امرؤ القيس
ترائبها مصقولة كالسجنجل
المسألة الرابعة في هذه الآية قولان أحدهما أن الولد مخلوق من الماء الذي يخرج من صلب(31/117)
الرجل وترائب المرأة وقال آخرون إنه مخلوق من الماء الذي يخرج من صلب الرجل وترائبه واحتج صاحب القول الثاني على مذهبه بوجهين الأول أن ماء الرجل خارج من الصلب فقط وماء المرأة خارج من الترائب فقط وعلى هذا التقدير لا يحصل هناك ماء خارج من بين الصلب والترائب وذلك على خلاف الآية الثاني أنه تعالى بين أن الإنسان مخلوق مِن مَّاء دَافِقٍ والذي يوصف بذلك هو ماء الرجل ثم عطف عليه بأن وصفه بأنه يخرج يعني هذا الدافق من بين الصلب والترائب وذلك يدل على أن الولد مخلوق من ماء الرجل فقط أجاب القائلون بالقول الأول عن الحجة الأولى أنه يجوز أن يقال للشيئين المتباينين أنه يخرج من بين هذين خير كثير ولأن الرجل والمرأة عند اجتماعهما يصيران كالشيء الواحد فحسن هذا اللفظ هناك وأجابوا عن الحجة الثانية بأن هذا من باب إطلاق اسم البعض على الكل فلما كان أحد قسمي المني دافقاً أطلق هذا الاسم على المجموع ثم قالوا والذي يدل على أن الولد مخلوق من مجموع الماءين أن مني الرجل وحده صغير فلا يكفي ولأنه روي أنه عليه السلام قال ( إذا غلب ماء الرجل يكون الولد ذكراً ويعود شبه إليه وإلى أقاربه وإذا غلب ماء المرأة فإليها وإلى أقاربها يعود الشبه ) وذلك يقتضي صحة القول الأول
واعلم أن الملحدين طعنوا في هذه الآية فقالوا إن كان المراد من قوله يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ أن المني إنما ينفصل من تلك المواضع فليس الأمر كذلك لأنه إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع وينفصل عن جميع أجزاء البدن حتى يأخذ من كل عضو طبيعته وخاصيته فيصير مستعداً لأن يتولد منه مثل تلك الأعضاء ولذلك فإن المفرط في الجماع يستولي الضعف على جميع أعضائه وإن كان المراد أن معظم أجزاء المني يتولد هناك فهو ضعيف بل معظم أجزائه إنما يتربى في الدماغ والدليل عليه أن صورته يشبه الدماغ ولأن المكثر منه يظهر الضعف أولاً في عينيه وإن كان المراد أن مستقر المني هناك فهو ضعيف لأن مستقر المني هو أوعية المني وهي عروق ملتف بعضها بالبعض عند البيضتين وإن كان المراد أن مخرج المني هناك فهو ضعيف لأن الحس يدل على أنه ليس كذلك الجواب لا شك أن أعظم الأعضاء معونة في توليد المني هو الدماغ والدماغ خليفة وهي النخاع وهو في الصلب وله شعب كثيرة نازلة إلى مقدم البدن وهو التريبة فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بالذكر على أن كلامكم في كيفية تولد المني وكيفية تولد الأعضاء من المني محض الوهم والظن الضعيف وكلام الله تعالى أولى بالقبول
المسألة الخامسة قد بينا في مواضع من هذا الكتاب أن دلالة تولد الإنسان عن النطفة على وجود الصانع المختار من أظهر الدلائل لوجوه أحدها أن التركيبات العجيبة في بدن الإنسان أكثر فيكون تولده عن المادة البسيطة أدل على القادر المختار وثانيها أن اطلاع الإنسان على أحوال نفسه أكثر من اطلاعه على أحوال غيره فلا جرم كانت هذه الدلالة أتم وثالثها أن مشاهدة الإنسان لهذه الأحوال في أولاده وأولاد سائر الحيوانات دائمة فكان الاستدلال به على الصانع المختار أقوى ورابعها وهو أن الاستدلال بهذا الباب كما أنه يدل قطعاً على وجود الصانع المختار الحكيم فكذلك يدل قطعاً على صحة البعث والحشر والنشر وذلك لأن حدوث الإنسان إنما كان بسبب اجتماع أجزاء كانت متفرقة في بدن الوالدين بل(31/118)
في جميع العالم فلما قدر الصانع على جمع تلك الأجزاء المتفرقة حتى خلق منها إنساناً سوياً وجب أن يقال إنه بعد موته وتفرق أجزائه لا بد وأن يقدر الصانع على جمع تلك الأجزاء وجعلها خلقاً سوياً كما كان أولاً ولهذا السر لما بين تعالى دلالته على المبدأ فرع عليه أيضاً دلالته على صحة المعاد فقال
إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى الضمير في أنه للخالق مع أنه لم يتقدم ذكره والسبب فيه وجهان الأول دلالة خلق عليه والمعنى أن ذلك الذي خلق قادر على رجعه الثاني أنه وإن لم يتقدم ذكره لفظاً ولكن تقدم ذكر ما يدل عليه سبحانه وقد تقرر في بدائة العقول أن القادر على هذه التصرفات هو الله سبحانه وتعالى فلما كان ذلك في غاية الظهور كان كالمذكور
المسألة الثانية الرجع مصدر رجعت الشيء إذا رددته والكناية في قوله على رجعه إلى أي شيء ترجع فيه وجهان أولهما وهو الأقرب أنه راجع إلى الإنسان والمعنى أن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء وجب أن يقدر بعد موته على رده حياً وهو كقوله تعالى قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( يس 79 ) وقوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم 27 ) وثانيهما أن الضمير غير عائد إلى الإنسان ثم قال مجاهد قادر على أن يرد الماء في الإحليل وقال عكرمة والضحاك على أن يرد الماء في الصلب وروي أيضاً عن الضحاك أنه قادر على رد الإنسان ماء كما كان قبل وقال مقاتل بن حيان إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ومن الشباب إلى الصبا ومن الصبا إلى النطفة واعلم أن القول الأول أصح ويشهد له قوله يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ أي أنه قادر على بعثه يوم القيامة ثم إنه سبحانه لما أقام الدليل على صحة القول بالبعث والقيامة وصف حاله في ذلك اليوم فقال
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّة ٍ وَلاَ نَاصِرٍ
وفيه مسائل
المسألة الأولى يَوْمٍ منصوب برجعه ومن جعل الضمير في رجعه للماء وفسره برجعه إلى مخرجه من الصلب والترائب أو إلى الحالة الأولى نصب الظرف بقوله فَمَا لَهُ مِن قُوَّة ٍ أي ماله من قوة ذلك اليوم
المسألة الثانية تُبْلَى أي تختبر والسرائر ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وما أخفى من الأعمال وفي كيفية الابتلاء والاختبار ههنا أقوال
الأول ما ذكره القفال معنى الاختبار ههنا أن أعمال الإنسان يوم القيامة تعرض عليه وينظر أيضاً في الصحيفة التي كتبت الملائكة فيها تفاصيل أعمالهم ليعلم أن المذكور هل هو مطابق للمكتوب ولما كانت المحاسبة يوم القيامة واقعة على هذا الوجه جاز أن يسمى هذا المعنى ابتلاء وهذه التسمية غير بعيدة لعباده لأنها ابتلاء وامتحان وإن كان عالماً بتفاصيل ما عملوه وما لم يعملوه
والوجه الثاني أن الأفعال إنما يستحق عليها الثواب والعقاب لوجوهها فرب فعل يكون ظاهره حسناً(31/119)
وباطنه قبيحاً وربما كان بالعكس فاختبارها ما يعتبر بين تلك الوجوه المتعارضة من المعارضة والترجيح حتى يظهر أن الوجه الراجح ما هو والمرجوح ما هو
الثالث قال أبو مسلم بلوت يقع على إظهار الشيء ويقع على امتحانه كقوله وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ وقوله وَلَنَبْلُوَنَّكُم ثم قال المفسرون السَّرَائِرُ التي تكون بين الله وبين العبد تختبر يوم القيامة حتى يظهر خبرها من سرها ومؤديها من مضيعها وهذا معنى قول ابن عمر رضي الله عنهما يبدي الله يوم القيامة كل سر منها فيكون ذيناً في الوجوه وشيناً في الوجوه يعني من أداها كان وجهه مشرقاً ومن ضيعها كان وجهه أغبر
المسألة الثالثة دلت الآية على أنه لا قوة للعبد ذلك اليوم لأن قوة الإنسان إما أن تكون له لذاته أو مستفادة من غيره فالأول منفي بقوله تعالى فَمَا لَهُ مِن قُوَّة ٍ والثاني منفي بقوله وَلاَ نَاصِرٍ والمعنى ماله من قوة يدفع بها عن نفسه ما حل من العذاب وَلاَ نَاصِرٍ ينصره في دفعه ولا شك أنه زجر وتحذير ومعنى دخول من في قوله مِن قُوَّة ٍ على وجه النفي لقليل ذلك وكثيره كأنه قيل ماله من شيء من القوة ولا أحد من الأنصار
المسألة الرابعة يمكن أن يتمسك بهذه الآية في نفي الشفاعة كقوله تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ( البقرة 48 ) إلى قوله وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ الجواب ما تقدم
وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالاّرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما فرغ من دليل التوحيد والمعاد أقسم قسماً آخر أما قوله وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ فنقول قال الزجاج الرجع المطر لأنه يجيء ويتكرر واعلم أن كلام الزجاج وسائر أئمة اللغة صريح في أن الرجع ليس اسماً موضوعاً للمطر بل سمي رجعاً على سبيل المجاز ولحسن هذا المجاز وجوه أحدها قال القفال كأنه من ترجيع الصوت وهو إعادته ووصل الحروف به فكذا المطر لكونه عائداً مرة بعد أخرى سمي رجعاً وثانيها أن العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض وثالثها أنهم أرادوا التفاؤل فسموه رجعاً ليرجع ورابعها أن المطر يرجع في كل عام إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين أقوال أحدها قال ابن عباس وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ أي ذات المطر يرجع لمطر بعد مطر وثانيها رجع السماء إعطاء الخير الذي يكون من جهتها حالاً بعد حال على مرور الأزمان ترجعه رجعاً أي تعطيه مرة بعد مرة وثالثها قال ابن زيد هو أنها ترد وترجع شمسها وقمرها بعد مغيبهما والقول هو الأول أما قوله تعالى وَالاَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ فاعلم أن الصدع هو الشق ومنه قوله تعالى يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ( الروم 43 ) أي يتفرقون وللمفسرين أقوال قال ابن عباس تنشق عن النبات والأشجار(31/120)
وقال مجاهد هو الجبلان بينهما شق وطريق نافذ كما قال تعالى وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً ( الأنبياء 31 ) وقال الليث الصدع نبات الأرض لأنه يصدع الأرض فتنصدع به وعلى هذا سمي النبات صدعاً لأنه صادع للأرض واعلم أنه سبحانه كما جعل كيفية خلقة الحيوان دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد ذكر في هذا القسم كيفية خلقة النبات فالسماء ذات الرجع كالأب والأرض ذات الصدع كالأم وكلاهما من النعم العظام لأن نعم الدنيا موقوفة على ما ينزل من السماء من المطر متكرراً وعلى ما ينبت من الأرض كذلك ثم إنه تعالى أردف هذا القسم بالمقسم عليه فقال إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذا الضمير قولان
الأول ما قال القفال وهو أن المعنى أن ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم في اليوم الذي تبلى فيه سرائركم قول فصل وحق
والثاني أنه عائد إلى القرآن أي القرآن فاصل بين الحق والباطل كما قيل له فرقان والأول أولى لأن عود الضمير إلى المذكور السالف أولى
المسألة الثانية قَوْلَ فَصْلٌ أي حكم ينفصل به الحق عن الباطل ومنه فصل الخصومات وهو قطعها بالحكم ويقال هذا فصل أي قاطع للمراء والنزاع وقال بعض المفسرين معناه أنه جد حق لقوله وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ أي باللعب والمعنى أن القرآن أنزل بالجد ولم ينزل باللعب ثم قال وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ والمعنى أن البيان الفصل قد يذكر على سبيل الجد والاهتمام بشأنه وقد يكون على غير سبيل الجد وهذا الموضع من ذلك ثم قال إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وذلك الكيد على وجوه منها بإلقاء الشبهات كقولهم إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ( الأنعام 29 ) مَن يُحى ِ الْعِظَامَ وَهِى َ رَمِيمٌ ( ي س 78 ) أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً ( ص 5 ) لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) فَهِى َ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً ومنها بالطعن فيه بكونه ساحراً وشاعراً ومجنوناً ومنها بقصد قتله على ما قاله وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ ( الأنفال 30 ) ثم قال وَأَكِيدُ كَيْداً
واعلم أن الكيد في حق الله تعالى محمول على وجوه أحدها دفعه تعالى كيد الكفرة عن محمد عليه الصلاة والسلام ويقابل ذلك الكيد بنصرته وإعلاء دينه تسمية لأحد المتقابلين باسم كقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا وقال الشاعر ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وكقوله تعالى نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ( الحشر 19 ) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( النساء 142 ) وثانيها أن كيده تعالى بهم هو إمهاله إياهم على كفرهم حتى يأخذهم على غرة ثم قال فَمَهّلِ الْكَافِرِينَ أي لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل ثم إنه تعالى لما أمره بإمهالهم بين أن ذلك الإمهال المأمور به قليل فقال أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً فكرر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين من الرسول عليه الصلاة والسلام والتصبر وههنا مسائل(31/121)
المسألة الأولى قال أبو عبيدة إن تكبير رويد رود وأنشد يمشي ولا تكلم البطحاء مشيته
كأنه ثمل يمشي على ورد
أي على مهلة ورفق وتؤدة وذكر أبو علي في باب أسماء الأفعال رويداً زيداً يريد أرود زيداً ومعناه أمهله وارفق به قال النحويون رويد في كلام العرب على ثلاثة أوجه أحدها أن يكون اسماً للأمر كقولك رويد زيداً تريد أرود زيد أي خله ودعه وأرفق به ولا تنصرف رويد في هذا الوجه لأنها غير متمكنة والثاني أن يكون بمنزلة سائر المصادر فيضاف إلى ما بعده كما تضاف المصادر تقول رويد زيد كما تقول ضرب زيد قال تعالى فَضَرْبَ الرّقَابِ ( محمد 4 ) والثالث أن يكون نعتاً منصوباً كقولك ساروا سيراً رويداً ويقولون أيضاً ساروا رويداً يحذفون المنعوت ويقيمون رويداً مقامه كما يفعلون بسائر النعوت المتمكنة ومن ذلك قول العرب ضعه رويداً أي وضعاً رويداً وتقول للرجل يعالج الشيء الشيء رويداً أي علاجاً رويداً ويجوز في هذا الوجه أمران أحدهما أن يكون رويداً حالاً والثاني أن يكون نعتاً فإن أظهرت المنعوت لم يجز أن يكون للحال والذي في الآية هو ما ذكرنا في الوجه الثالث لأنه يجوز أن يكون نعتاً للمصدر كأنه قيل إمهالاً رويداً ويجوز أن يكون للحال أي أمهلهم غير مستعجل
المسألة الثانية منهم من قال أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً إلى يوم القيامة وإنما صغر ذلك من حيث علم أن كل ما هو آت قريب ومنهم من قال أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً إلى يوم بدر والأول أولى لأن الذي جرى يوم بدر وفي سائر الغزوات لا يعم الكل وإذا حمل على أمر الآخرة عم الكل ولا يمتنع مع ذلك أن يدخل في جملته أمر الدنيا مما نالهم يوم بدر وغيره وكل ذلك زجر وتحذير للقوم وكما أنه تحذير لهم فهو ترغيب في خلاف طريقهم في الطاعات والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(31/122)
سورة الأعلى
تسع عشر آية مكية
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاّعْلَى الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى
اعلم أن قوله تعالى سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى فيه مسائل
المسألة الأولى في قوله اسْمَ رَبّكَ قولان أحدهما أن المراد الأمر بتنزيه اسم الله وتقديسه والثاني أن الاسم صلة والمراد الأمر بتنزيه الله تعالى أما على الوجه الأول ففي اللفظ احتمالات أحدها أن المراد نزه اسم ربك عن أن تسمي به غيره فيكون ذلك نهياً على أن يدعى غيره باسمه كما كان المشركون يسمون الصنم باللات ومسيلمة برحمان اليمامة وثانيها أن لا يفسر أسماءه بما لا يصح ثبوته في حقه سبحانه نحو أن يفسر الأعلى بالعلو في المكان والاستواء بالاستقرار بل يفسر العلو بالقهر والاقتداء والاستواء بالاستيلاء وثالثها أن يصان عن الابتذال والذكر لا على وجه الخشوع والتعظيم ويدخل فيه أن يذكر تلك الأسماء عند الغفلة وعدم الوقوف على معانيها وحقائقها ورابعها أن يكون المراد بسبح باسم ربك أي مجده بأسمائه التي أنزلتها عليك وعرفتك أنها أسماؤه كقوله قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ ( الإسراء 110 ) ونظير هذا التأويل قوله تعالى فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ ( الواقعة 74 ) ومقصود الكلام من هذا التأويل أمران أحدهما سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى أي صل باسم ربك لا كما يصلي المشركون بالمكاء والتصدية والثاني أن لا يذكر العبد ربه إلا بأسماء التي ورد التوقيف بها قال الفراء لا فرق بين سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ وبين فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ قال الواحدي وبينهما فرق لأن معنى فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ نزه الله تعالى بذكر اسمه المنبىء عن تنزيهه وعلوه عما يقول المبطلون و سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ أي نزه الاسم(31/123)
من السوء وخامسها قال أبو مسلم المراد من الاسم ههنا الصفة وكذا في قوله تعالى وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ( الأعراف 180 ) أما على الوجه الثاني وهو أن يكون الاسم صلة ويكون المعنى سبح ربك وهو اختيار جمع من المحققين قالوا لأن الاسم في الحقيقة لفظة مؤلفة من حروف ولا يجب تنزيهها كما يجب في الله تعالى ولكن المذكور إذا كان في غاية العظمة لا يذكر هو بل يذكر اسمه فيقال سبح اسمه ومجد ذكره كما يقال سلام على المجلس العالي وقال لبيد
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
أي السلام وهذه طريقة مشهورة في اللغة ونقول على هذا الوجه تسبيح الله يحتمل وجهين الأول أن لا يعامل الكفار معاملة يقدمون بسببها على ذكر الله بما لا ينبغي على ما قال وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ الثاني أنه عبارة عن تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق به في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله وفي أسمائه وفي أحكامه أما في ذاته فأن يعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض وأما في صفاته فأن يعتقد أنها ليست محدثة ولا متناهية ولا ناقصة وأما في أفعاله فأن يعتقد أنه مالك مطلق فلا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور وقالت المعتزلة هو أن يعتقد أن كل ما فعله فهو صواب حسن وأنه لا يفعل القبيح ولا يرضى به وأما في أسمائه فأن لا يذكر سبحانه إلا بالأسماء التي ورد التوقيف بها هذا عندنا وأما عند المعتزلة فهو أن لا يذكر إلا بالأسماء التي لا توهم نقصاً بوجه من الوجوه سواء ورد الإذن بها أو لم يرد وأما في أحكامه فهو أن يعلم أنه ما كلفنا لنفع يعود إليه بل إما لمحض المالكية على ما هو قولنا أو لرعاية مصالح العباد على ما ( هو ) قول المعتزلة
المسألة الثانية من الناس من تمسك بهذه الآية في أن الإسم نفس المسمى فأقول إن الخوض في الاستدلال لا يمكن إلا بعد تلخيص محل النزاع فلا بد ههنا من بيان أن الإسم ما هو والمسمى ما هو حتى يمكننا أن نخوض في الاسم هل هو نفس المسمى أم لا فنقول وإن كان المراد من الاسم هو هذا اللفظ وبالمسمى تلك الذات فالعاقل لا يمكنه أن يقول الاسم هو المسمى وإن كان المراد من الاسم هو تلك الذات وبالمسمى أيضاً تلك الذات كان قولنا الاسم نفس المسمى هو أن تلك الذات نفس تلك الذات وهذا لا يمكن أن ينازع فيه عاقل فعلمنا أن هذه المسألة في وصفها ركيكة وإن كان كذلك كان الخوض في ذكر الاستدلال عليه أرك وأبعد بل ههنا دقيقة وهي أن قولنا اسم لفظة جعلناها اسماً لكل ما دل على معنى غير مقترن بزمان والاسم كذلك فيلزم أن يكون الاسم إسماً لنفسه فههنا الاسم نفس المسمى فلعل العلماء الأولين ذكروا ذلك فاشتبه الأمر على المتأخرين وظنوا أن الاسم في جميع المواضع نفس المسمى هذا حاصل التحقيق في هذه المسألة ولنرجع إلى الكلام المألوف قالوا الذي يدل على أن الاسم نفس المسمى أن أحداً لا يقول سبحان اسم الله وسبحان اسم ربنا فمعنى سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ سبح ربك والرب أيضاً اسم فلو كان غير المسمى لم يجز أن يقع التسبيح عليه واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لما بينا في المسألة الأولى أنه يمكن أن يكون الأمر وارداً بتسبيح الاسم ويمكن أن يكون المراد تسبيح المسمى وذكر الاسم صلة فيه ويمكن أن يكون المراد سبح باسم ربك كما يقال فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ ( الواقعة 74 ) ويكون المعنى سبح ربك بذكر أسمائه(31/124)
المسألة الثالثة روى عن عقبة بن عامر أنه لما نزل قوله تعالى فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ قال لنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اجعلوها في ركوعكم ) ولما نزل قوله سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى قال ( اجعلوها في سجودكم ) ثم روي في الأخبار أنه عليه السلام كان يقول في ركوعه ( سبحان ربي العظيم ) وفي سجوده ( سبحان ربي الأعلى ) ثم من العلماء من قال إن هذه الأحاديث تدل على أن المراد من قوله سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ أي صل باسم ربك ويتأكد هذا الاحتمال بإطباق المفسرين على أن قوله تعالى فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( الروم 17 ) ورد في بيان أوقات الصلاة
المسألة الرابعة قرأ علي عليه السلام وابن عمر سبحان ربي الأعلى الذي خلق فسوى ولعل الوجه فيه أن قوله سَبِّحِ أمر بالتسبيح فلا بد وأن يذكر ذلك التسبيح وما هو إلا قوله سُبْحَانَ رَبّى الاْعْلَى
المسألة الخامسة تمسكت المجسمة في إثبات العلو بالمكان بقوله رَبّكَ الاَعْلَى والحق أن العلو بالجهة على الله تعالى محال لأنه تعالى إما أن يكون متناهياً أو غير متناه فإن كان متناهياً كان طرفه الفوقاني متناهياً فكان فوقه جهة فلا يكون هو سبحانه أعلى من جميع الأشياء وأما إن كان غير متناه فالقول بوجود أبعاد غير متناهية محال وأيضاً فلأنه إن كان غير متناه من جميع الجهات يلزم أن تكون ذاته تعالى مختلطة بالقاذورات تعالى الله عنه وإن كان غير متناه من بعض الجهات ومتناهياً من بعض الجهات كان الجانب المتناهي مغايراً للجانب غير المتناهي فيكون مركباً من جزأين وكل مركب ممكن فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود هذا محال فثبت أن العلو ههنا ليس بمعنى العلو في الجهة مما يؤكد ذلك أن ما قبل هذه الآية وما بعدها ينافي أن يكون المراد هو العلو بالجهة أما قبل الآية فلأن العلو عبارة عن كونه في غاية البعد عن العالم وهذا لا يناسب استحقاق التسبيح والثناء والتعظيم أما العلو بمعنى كمال القدرة والتفرد بالتخليق والإبداع فيناسب ذلك والسورة ههنا مذكورة لبيان وصفه تعالى بما لأجله يستحق الحمد والثناء والتعظيم وأما ما بعد هذه الآية فلأنه أردف قوله الاْعْلَى بقوله الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى والخالقية تناسب العلو بحسب القدرة لا العلو بحسب الجهة
المسألة السادسة من الملحدين من قال بأن القرآن مشعر بأن للعالم ربين أحدهما عظيم والآخر أعلى منه أما العظيم فقوله فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ وأما الأعلى منه فقوله سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى فهذا يقتضي وجود رب آخر يكون هذا أعلى بالنسبة إليه
واعلم أنه لما دلت الدلائل على أن الصانع تعالى واحد سقط هذا السؤال ثم نقول ليس في هذه الآية أنه سبحانه وتعالى أعلى من رب آخر بل ليس فيه إلا أنه أعلى ثم لنا فيه تأويلات
الأول أنه تعالى أعلى وأجل وأعظم من كل ما يصفه به الواصفون ومن كل ذكر يذكره به الذاكرون فجلال كبريائه أعلى من معارفنا وإدراكاتنا وأصناف آلائه ونعمائه أعلى من حمدنا وشكرنا وأنواع حقوقه أعلى من طاعاتنا وأعمالنا
الثاني أن قوله الاْعْلَى تنبيه على استحقاق الله التنزيه من كل نقص فكأنه قال سبحانه فإنه الاْعْلَى أي فإنه العالي على كل شيء بملكه وسلطانه وقدرته وهو كما تقول اجتنبت الخمر المزيلة للعقل أي اجتنبتها بسبب كونها مزيلة للعقل(31/125)
والثالث أن يكون المراد بالأعلى العالي كما أن المراد بالأكبر الكبير
المسألة السابعة روي أنه عليه السلام كان يحب هذه السورة ويقول ( لو علم الناس علم سبح اسم ربك الأعلى لرددها أحدهم ست عشرة مرة ) وروى ( أن عائشة مرت بأعرابي يصلي بأصحابه فقرأ ( سبح اسم ربك الأعلى الذي يسر على الحبلى فأخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشاً أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ألا بلى ألا بلى ) فقالت عائشة لا آب غائبكم ولا زالت نساؤكم في لزبة ) والله أعلم
أما قوله تعالى الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى فاعلم أنه سبحانه وتعالى لما أمر بالتسبيح فكأن سائلاً قال الاشتغال بالتسبيح إنما يكون بعد المعرفة فما الدليل على وجود الرب فقال الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى واعلم أن الاستدلال بالخلق والهداية هي الطريقة المعتمدة عند أكابر الأنبياء عليهم والدليل عليه ما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ ( الشعراء 78 ) وحكى عن فرعون أنه لما قال لموسى وهرون عليهما السلام فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى مُوسَى ( طه 49 ) قال موسى عليه السلام رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ( طه 50 ) وأما محمد عليه السلام فإنه تعالى أول ما أنزل عليه هو قوله اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ( العلق 2 1 ) هذا إشارة إلى الخلق ثم قال اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ ( العلق 4 3 ) وهذا إشارة إلى الهداية ثم إنه تعالى أعاد ذكر تلك الحجة في هذه السورة فقال الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى وإنما وقع الاستدلال بهذه الطريقة كثيراً لما ذكرنا أن العجائب والغرائب في هذه الطريقة أكثر ومشاهدة الإنسان لها واطلاعه عليها أتم فلا جرم كانت أقوى في الدلالة ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى قوله خَلَقَ فَسَوَّى يحتمل أن يريد به الناس خاصة ويحتمل أن يريد الحيوان ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوهاً أحدها أنه جعل قامته مستوية معتدلة وخلقته حسنة على ما قال لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ( التين 4 ) وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه فقال فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وثانيها أن كل حيوان فإنه مستعد لنوع واحد من الأعمال فقط وغير مستعد لسائر الأعمال أما الإنسان فإنه خلق بحيث يمكنه أن يأتي بجميع أفعال الحيوانات بواسطة آلات مختلفة فالتسوية إشارة إلى هذا وثالثها أنه هيأ للتكليف والقيام بأداء العبادات وأما من حمله على جميع الحيوانات قال المراد أنه أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه من أعضاء وآلات وحواس وقد استقصينا القول في هذا الباب في مواضع كثيرة من هذا الكتاب وأما من حمله على جميع المخلوقات قال المراد من التسوية هو أنه تعالى قادر على كل الممكنات عالم بجميع المعلومات خلق ما أراد على وفق ما أراد موصوفاً بوصف الأحكام والإتقان مبرأ عن الفسخ والاضطراب
المسألة الثانية قرأ الجمهور قُدِرَ مشددة وقرأ الكسائي على التخفيف أما قراءة التشديد فالمعنى أنه قدر كل شيء بمقدار معلوم وأما التخفيف فقال القفال معناه ملك فهدى وتأويله أنه خلق فسوى وملك ما خلق أي تصرف فيه كيف شاء وأراد وهذا هو الملك فهداه لمنافعه ومصالحه ومنهم من قال هما لغتان بمعنى واحد وعليه قوله تعالى فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ بالتشديد والتخفيف(31/126)
المسألة الثالثة أن قوله قُدِرَ يتناول المخلوقات في ذواتها وصفاتها كل واحد على حسبه فقدر السموات والكواكب والعناصر والمعادن والنبات والحيوان والإنسان بمقدار مخصوص من الجثة والعظم وقدر لكل واحد منها من البقاء مدة معلومة ومن الصفات والألوان والطعوم والروائح والأيون والأوضاع والحسن والقبح والسعادة والشقاوة والهداية والضلالة مقداراً معلوماً على ما قال وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ( الحجر 21 ) وتفصيل هذه الجملة مما لا يفي بشرحه المجلدات بل العالم كله من أعلى اعليين إلى أسفل السافلين تفسير هذه الآية وتفصيل هذه الجملة
أما قوله فَهَدَى فالمراد أن كل مزاج فإنه مستعد لقوة خاصة وكل قوة فإنها لا تصلح إلا لفعل معين فالتسوية والتقدير عبارة عن التصرف في الأجزاء الجسمانية وتركيبها على وجه خاص لأجله تستعد لقبول تلك القوى وقوله فَهَدَى عبارة عن خلق تلك القوى في تلك الأعضاء بحيث تكون كل قوة مصدراً لفعل معين ويحصل من مجموعها تمام المصلحة وللمفسرين فيه وجوه قال مقاتل هدى الذكر للأنثى كيف يأتيها وقال آخرون هداه للمعيشة ورعاه وقال آخرون هدى الإنسان لسبل الخير والشر والسعادة والشقاوة وذلك لأنه جعله حساساً دراكاً متمكناً من الإقدام على ما يسره والإحجام عما يسوءه كما قال إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ( الإنسان 3 ) وقال وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ( الشمس 8 7 ) وقال السدي قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج وقال الفراء قدر فهدى وأضل فاكتفى بذكر إحداهما كقوله سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( النحل 81 ) وقال آخرون الهداية بمعنى الدعاء إلى الإيمان كقوله وَإِنَّكَ لَتَهْدِى ( الشورى 52 ) أي تدعو وقد دعى الكل إلى الإيمان وقال آخرون هدى أي دلهم بأفعاله على توحيده وجلال كبريائه ونعوت صمديته وفردانيته وذلك لأن العاقل يرى في العالم أفعال محكمة متقنة منتسقة منتظمة فهي لا محالة تدل على الصانع القديم وقال قتادة في قوله فَهَدَى إن الله تعالى ما أكره عبداً على معصية ولا على ضلالة ولا رضيها له ولا أمره بها ولكن رضي لكم الطاعة وأمركم بها ونهاكم عن المعصية واعلم أن هذه الأقوال على كثرتها لا تخرج عن قسمين فمنهم من حمل قوله فَهَدَى على ما يتعلق بالدين كقوله وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ومنهم من حمله على ما يرجع إلى مصالح الدنيا والأول أقوى لأن قوله خَلَقَ فَسَوَّى وَقَدَّرَ يرجع إلى أحوال الدنيا ويدخل فيه إكمال العقل والقوى ثم أتبعه بقوله فَهَدَى أي كلفه ودله على الدين أما قوله تعالى وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى فاعلم أنه سبحانه لما بين ما يختص به الناس أتبعه بذكر ما يختص به غير الناس من النعم فقال وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى أي هو القادر على إنبات العشب لا الأصنام التي عبدتها الكفرة والمرعى ما تخرجه الأرض من النبات ومن الثمار والزروع والحشيش قال ابن عباس المرعى الكلأ الأخضر ثم قال فجعله غثاء أحوى وفيه مسألتان
المسألة الأولى الغثاء ما يبس من النبت فحملته الأودية والمياه وألوت به الرياح وقال قطرب واحد الغثاء غثاءة
المسألة الثانية الحوة السواد وقال بعضهم الأحوى هو الذي يضرب إلى السواد إذا أصابته رطوبة وفي أحوى قولان أحدهما أنه نعت الغثاء أي صار بعد الخضرة يابساً فتغير إلى السواد وسبب ذلك(31/127)
السواد أمور أحدها أن العشب إنما يجف عند استيلاء البرد على الهواء ومن شأن البرودة أنها تبيض الرطب وتسود اليابس وثانيها أن يحملها السيل فيلصق بها أجزاء كدرة فتسود وثالثها أن يحملها الريح فتلصق بها الغبار الكثير فتسود القول الثاني وهو اختيار الفراء وأبي عبيدة وهو أن يكون الأحوى هو الأسود لشدة خضرته كما قيل مُدْهَامَّتَانِ أي سوداوان لشدة خضرتهما والتقدير الذي أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء كقوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً أي أنزل قيماً ولم يجعل له عوجاً
سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً بالتسبيح فقال سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى ( الأعلى 1 ) وعلم محمداً عليه السلام أن ذلك التسبيح لا يتم ولا يكمل إلا بقراءة ما أنزله الله تعالى عليه من القرآن لما بينا أن التسبيح الذي يليق به هو الذي يرتضيه لنفسه فلا جرم كان يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى فأزال الله تعالى ذلك الخوف عن قلبه بقوله سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي سَنُقْرِئُكَ أي سنجعلك قارئاً بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرؤه والمعنى نجعلك قارئاً للقرآن تقرؤه فلا تنساه قال مجاهد ومقاتل والكلبي كان عليه السلام إذا نزل عليه القرآن أكثر تحريك لسانه مخافة أن ينسى وكان جبريل لا يفرغ من آخر الوحي حتى يتكلم هو بأوله مخافة النسيان فقال تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى أي سنعلمك هذا القرآن حتى تحفظه ونظيره قوله وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يَقْضِى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ( طه 114 ) وقوله لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ثم ذكروا في كيفية ذلك الاستقراء والتعليم وجوهاً أحدها أن جبريل عليه السلام سيقرأ عليك القرآن مرات حتى تحفظه حفظاً لا تنساه وثانيها أنا نشرح صدرك ونقوي خاطرك حتى تحفظ بالمرة الواحدة حفظاً لا تنساه وثالثها أنه تعالى لما أمره في أول السورة بالتسبيح فكأنه تعالى قال واظب على ذلك ودم عليه فإنا سنقرئك القرآن الجامع لعلوم الأولين والآخرين ويكون فيه ذكرك وذكر قومك ونجمعه في قلبك ونيسرك لليسرى وهو العمل به
المسألة الثانية هذه الآية تدل على المعجزة من وجهين الأول أنه كان رجلاً أمياً فحفظه لهذا الكتاب المطول من غير دراسة ولا تكرار ولا كتبة خارق للعادة فيكون معجزاً الثاني أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة فهذا إخبار عن أمر عجيب غريب مخالف للعادة سيقع في المستقبل وقد وقع فكان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً أما قوله فَلاَ تَنسَى فقال بعضهم فَلاَ تَنسَى معناه النهي والألف مزيدة للفاصلة كقوله السَّبِيلاْ ( الأحزاب 67 ) يعني فلا تغفل قراءته وتكريره فتنساه إلا ما شاء الله أن ينسيكه والقول المشهور أن هذا خبر والمعنى سنقرئك إلى أن تصير بحيث لا تنسى وتأمن النسيان كقولك سأكسوك فلا تعرى أي فتأمن العرى واحتج أصحاب هذا القول على ضعف القول الأول بأن ذلك القول لا يتم إلا عند التزام مجازات في هذه الآية منها أن النسيان لا يقدر عليه إلا الله تعالى فلا يصح ورود الأمر والنهي به فلا بد وأن يحمل ذلك على المواظبة على الأشياء التي تنافي النسيان مثل الدراسة وكثرة(31/128)
التذكر وكل ذلك عدول عن ظاهر اللفظ ومنها أن تجعل الألف مزيدة للفاصلة وهو أيضاً خلاف الأصل ومنها أنا إذا جعلناه خبراً كان معنى الآية بشارة الله إياه بأني أجعلك بحيث لا تنساه وإذا جعلناه نهياً كان معناه أن الله أمره بأن يواظب على الأسباب المانعة من النسيان وهي الدراسة والقراءة وهذا ليس في البشارة وتعظيم حاله مثل الأول ولأنه على خلاف قوله لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ( القيامة 16 )
أما قوله إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ ففيه احتمالان أحدهما أن يقال هذا الاستثناء غير حاصل في الحقيقة وأنه عليه السلام لم ينس بعد ذلك شيئاً قال الكلبي إنه عليه السلام لم ينس بعد نزول هذه الآية شيئاً وعلى هذا التقدير يكون الغرض من قوله إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ أحد أمور أحدها التبرك بذكر هذه الكلمة على ما قال تعالى وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الكهف 24 23 ) وكأنه تعالى يقول أنا مع أني عالم بجميع المعلومات وعالم بعواقب الأمور على التفصيل لا أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة فأنت وأمتك يا محمد أولى بها وثانيها قال الفراء إنه تعالى ما شاء أن ينسى محمد عليه السلام شيئاً إلا أن المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير ناسياً لذلك لقدر عليه كما قال وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ( الإسراء 86 ) ثم إنا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك وقال لمحمد عليه السلام لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ مع أنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك ألبتة وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى يعرفه قدرة ربه حتى يعلم أن عدم النسيان من فضل الله وإحسانه لا من قوته وثالثها أنه تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوز رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في كل ما ينزل عليه من الوحي قليلاً كان أو كثيراً أن يكون ذلك هو المستثنى فلا جرم كان يبالغ في التثبت والتحفظ والتيقظ في جميع المواضع فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء بقاءه عليه السلام على التيقظ في جميع الأحوال ورابعها أن يكون الغرض من قوله إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ نفي النسيان رأساً كما يقول الرجل لصاحبه أنت سهيمي فيما أملك إلا فيما شاء ( الله ) ولا يقصد استثناء شيء القول الثاني أن قوله إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ استثناء في الحقيقة وعلى هذا التقدير تحتمل الآية وجوهاً أحدها قال الزجاج إلا ما شاء الله أن ينسى فإنه ينسى ثم يتذكر بعد ذلك فإذاً قد ينسى ولكنه يتذكر فلا ينسى نسياناً كلياً دائماً روى أنه أسقط آية في قراءته في الصلاة فحسب أبي أنها نسخت فسأله فقال نسيتها وثانيها قال مقاتل إلا ما شاء الله أن ينسيه ويكون المراد من الإنساء ههنا نسخة كما قال مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَة ٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا فيكون المعنى إلا ما شاء الله أن تنساه على الأوقات كلها فيأمرك أن لا تقرأه ولا تصلي به فيصير ذلك سبباً لنسيانه وزواله عن الصدور وثالثها أن يكون معنى قوله إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ القلة والندرة ويشترط أن لا يكون ذلك القليل من واجبات الشرع بل من الآداب والسنن فإنه لو نسي شيئاً من الواجبات ولم يتذكره أدى ذلك إلى الخلل في الشرع وإنه غير جائز
أما قوله تعالى إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ففيه وجهان أحدهما أن المعنى أنه سبحانه عالم بجهرك في القراءة مع قراءة جبريل عليه السلام وعالم بالسر الذي في قلبك وهو أنك تخاف النسيان فلا تخف فأنا أكفيك ما تخافه والثاني أن يكون المعنى فلا تنسى إلا ما شاء الله أن ينسخ فإنه أعلم بمصالح العبيد فينسخ حيث يعلم أن المصلحة في النسخ(31/129)
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى
ففيه مسائل
المسألة الأولى اليسرى هي أعمال الخير التي تؤدي إلى اليسر إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين فيه وجوه أحدها أن قوله وَنُيَسّرُكَ معطوف على سنقرؤك وقوله اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى اعتراض والتقدير سنقرؤك فلا تنسى ونوفقك للطريقة التي هي أسهل وأيسر يعني في حفظ القرآن وثانيها قال ابن مسعود اليسرى الجنة والمعنى نيسرك للعمل المؤدى إليها وثالثها نهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعلمه وتعمل به ورابعها نوفقك للشريعة وهي الحنيفية السهلة السمحة والوجه الأول أقرب
المسألة الثانية لسائل أن يسأل فيقول العبارة المعتادة أن يقال جعل الفعل الفلاني ميسراً لفلان ولا يقال جعل فلان ميسراً للفعل الفلاني فما الفائدة فيه ههنا الجواب أن هذه العبارة كما أنها اختيار القرآن في هذا الموضع وفي سورة الليل أيضاً فكذا هي اختيار الرسول في قوله عليه السلام ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) وفيه لطيفة علمية وذلك لأن ذلك الفعل في نفسه ماهية ممكنة قابلة للوجود والعدم على السوية فما دام القادر يبقى بالنسبة إلى فعلها وتركها على السوية امتنع صدور الفعل عنه فإذا نرجح جانب الفاعلية على جانب التاركية فحينئذ يحصل الفعل فثبت أن الفعل ما لم يجب لم يوجد وذلك الرجحان هو المسمى بالتيسير فثبت أن الأمر بالتحقيق هو أن الفاعل يصير ميسراً للفعل لا أن الفعل يصير ميسراً للفاعل فسبحان من له تحت كل كلمة حكمة خفية وسر عجيب يبهر العقول
المسألة الثالثة إنما قال وَنُيَسّرُكَ لِلْيُسْرَى بنون التعظيم لتكون عظمة المعطى دالة على عظمة العطاء نظيره قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ( يوسف 2 ) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) ( إنا أعطيناك الكوثر ( الكوثر 1 ) دلت هذه الآية على أنه سبحانه فتح عليه من أبواب التيسير والستهيل ما لم يفتحه على أحد غيره وكيف لا وقد كان صبياً لا أب له ولا أم له نشأ في قوم جهال ثم إنه تعالى جعله في أفعاله وأقواله قدوة للعالمين وهدياً للخلق أجمعين
( الكوثر 1 ) دلت هذه الآية على أنه سبحانه فتح عليه من أبواب التيسير والستهيل ما لم يفتحه على أحد غيره وكيف لا وقد كان صبياً لا أب له ولا أم له نشأ في قوم جهال ثم إنه تعالى جعله في أفعاله وأقواله قدوة للعالمين وهدياً للخلق أجمعين
فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى
فاعلم أنه تعالى لما تكمل بتيسير جميع مصالح الدنيا والآخرة أمر بدعوة الخلق إلى الحق لأن كمال حال الإنسان في أن يتخلق بأخلاق الله سبحانه تاماً وفوق التمام فلما صار محمد عليه الصلاة والسلام تاماً بمقتضى قوله وَنُيَسّرُكَ لِلْيُسْرَى ( الأعلى 8 ) أمر بأن يجعل نفسه فوق التمام بمقتضى قوله فَذَكّرْ لأن التذكير يقتضي تكميل الناقصين وهداية الجاهلين ومن كان كذلك كان فياضاً للكمال فكان تاماً وفوق التمام وههنا سؤالات(31/130)
السؤال الأول أنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى الكل فيجب عليه أن يذكرهم سواء نفعتهم الذكرى أو لم تنفعهم فما المراد من تعليقه على الشرط في قوله إِن نَّفَعَتِ الذّكْرَى الجواب أن المعلق بأن على الشيء لا يلزم أن يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء ويدل عليه آيات منها هذه الآية ومنها قوله وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ( النور 33 ) ومنها قوله وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( البقرة 172 ) ومنها قوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِنْ خِفْتُمْ ( النساء 101 ) فإن القصر جائز وإن لم يوجد الخوف ومنها قوله وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ ( البقرة 283 ) والرهن جائز مع الكتابة ومنها قوله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ والمراجعة جائزة بدون هذا الظن إذا عرفت هذا فنقول ذكروا لذكر هذا الشرط فوائد إحداها أن من باشر فعلاً لغرض فلا شك أن الصورة التي علم فيها إفضاء تلك الوسيلة إلى ذلك الغرض كان إلى ذلك الفعل أوجب من الصورة التي علم فيها عدم ذلك الأفضاء فلذلك قال إِن نَّفَعَتِ الذّكْرَى وثانيها أنه تعالى ذكر أشرف الحالتين ونبه على الأخرى كقوله سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( النحل 81 ) والتقدير فَذَكّرْ إِن نَّفَعَتِ الذّكْرَى أو لم تنفع وثالثها أن المراد منه البعث على الانتفاع بالذكرى كما يقول المرء لغيره إذا بين له الحق قد أوضحت لك إن كنت تعقل فيكون مراده البعث على القبول والانتفاع به ورابعها أن هذا يجري مجرى تنبيه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه لا تنفعهم الذكرى كما يقال للرجل ادع فلاناً إن أجابك والمعنى وما أراه يجيبك وخامسها أنه عليه السلام دعاهم إلى الله كثيراً وكلما كانت دعوته أكثر كان عتوهم أكثر وكان عليه السلام يحترق حسرة على ذلك فقيل له وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( ق 45 ) إذ التذكير العام واجب في أول الأمر فأما التكرير فلعله إنما يجب عند رجاء حصول المقصود فلهذا المعنى قيده بهذا الشرط
السؤال الثاني التعليق بالشرط إنما يحسن في حق من يكون جاهلاً بالعواقب أما علام الغيوم فكيف يليق به ذلك الجواب روي في الكتب أنه تعالى كان يقول لموسى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) وأنا أشهد أنه لا يتذكر ولا يخشى فأمر الدعوة والبعثة شيء وعلمه تعالى بالمغيبات وعواقب الأمور غير ولا يمكن بناء أحدهما على الآخر
السؤال الثالث التذكير المأمور به هل مضبوط مثل أن يذكرهم عشرات مرات أو غير مضبوط وحينئذ كيف يكون الخروج عن عهدة التكليف والجواب أن الضابط فيه هو العرف والله أعلم
سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى
ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الناس في أمر المعاد على ثلاثة أقسام منهم من قطع بصحته ومنهم من جوز وجوده ولكنه غير قاطع فيه لا بالنفي ولا بالإثبات ومنهم من أصر على إنكاره وقطع بأنه لا يكون فالقسمان الأولان تكون الخشية حاصلة لهما وأما القسم الثالث فلا خشية له ولا خوف إذا عرفت ذلك ظهر أن(31/131)
الآية تحتمل تفسيرين أحدهما أن يقال الذي يخشى هو الذي يكون عارفاً بالله وعارفاً بكمال قدرته وعلمه وحكمته وذلك يقتضي كونه قاطعاً بصحة المعاد ولذلك قال تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) فكأنه تعالى لما قال فَذَكّرْ إِن نَّفَعَتِ الذّكْرَى بين في هذه الآية أن الذي تنفعه الذكرى من هو ولما كان الانتفاع بالذكرى مبنياً على حصول الخشية في القلب وصفات القلوب مما لا اطلاع لأحد عليها إلا الله سبحانه وجب على الرسول تعميم الدعوة تحصيلاً للمقصود فإن المقصود تذكير من ينتفع بالتذكير ولا سبيل إليه إلا بتعميم التذكير الثاني أن يقال إن الخشية حاصلة للعاملين وللمتوقفين غير المعاندين وأكثر الخلق متوقفون غير معاندين والمعاند فيهم قليل فإذا ضم إلى المتوقفين الذين لهم الغلبة العارفون كانت الغلبة العظيمة لغير المعاندين ثم إن كثيراً من المعاندين إنما يعاندون باللسان فأما المعاند في قلبه بينه وبين نفسه فذلك مما لا يكون أو إن كان فهو في غاية الندرة والقلة ثم إن الإنسان إذا سمع التخويف بأنه يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ( الأعلى 12 ) وأنه لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يُحْى ِ ( الأعلى 13 ) انكسر قلبه فلا بد وأن يستمع وينتفع أغلب الخلق في أغلب الأحوال وأما ذلك المعرض فنادر وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فمن هذا الوجه كان قوله فَذَكّرْ إِن نَّفَعَتِ الذّكْرَى يوجب تعميم التذكير
المسألة الثالثة السين في قوله سَيَذَّكَّرُ يحتمل أن تكون بمعنى سوف يذكر وسوف من الله واجب كقوله سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ( الأعلى 6 ) ويحتمل أن يكون المعنى أن من خشي الله فإنه يتذكر وإن كان بعد حين بما يستعمله من التدبر والنظر فهو بعد طول المدة يذكر والله أعلم
المسألة الرابعة العلم إنما يسمى تذكراً إذا كان قد حصل العلم أولاً ثم نسيه وهذه الحالة غير حاصلة للكفار فكيف سمى الله تعالى ذلك بالتذكر وجوابه أن لقوة الدلائل وظهورها كأن ذلك العلم كان حاصلاً ثم إنه زال بسبب التقليد والعناد فلهذا أسماه الله تعالى بالتذكر
المسألة الخامسة قيل نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان وقيل نزلت في ابن أم مكتوم أما قوله تعالى
وَيَتَجَنَّبُهَا الاٌّ شْقَى الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى
فاعلم أنا بينا أن أقسام الخلق ثلاثة العارفون والمتوقفون والمعاندون وبينا أن القسمين الأولين لا بد وأن يكون لهما خوف وخشية وصاحب الخشية لا بد وأن يستمع إلى الدعوة وينتفع بها فيكون الأشقى هو المعاند الذي لا يستمع إلى الدعوة ولا ينتفع بها فلهذا قال تعالى وَيَتَجَنَّبُهَا الاْشْقَى الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكروا في تفسير النار الْكُبْرَى وجوهاً أحدها قال الحسن الكبرى نار جهنم والصغرى نار الدنيا وثانيها أن في الآخرة نيراناً ودركات متفاضلة كماأن في الدنيا ذنوباً ومعاصي متفاضلة وكما أن الكافر أشقى العصاة كذلك يصلى أعظم النيران وثالثها أن النار الكبرى هي النار السفلى وهي تصيب الكفار على ما قال تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ ( النساء 145 )(31/132)
المسألة الثانية قالوا نزلت هذه الآية في الوليد وعتبة وأبي وأنت تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لا سيما وقد بينا صحة هذا الترتيب بالبرهان العقلي
المسألة الثالثة لقائل أن يقول إن الله تعالى ذكر ههنا قسمين أحدهما الذي يذكر ويخشى والثاني الأشقى الذي يصلى النار الكبرى لكن وجود الأشقى يستدعي وجود الشقي فكيف حال هذا القسم وجوابه أن لفظة الأشقى لا تقتضي وجود الشقي إذ قد يجري مثل هذا اللفظ من غير مشاركة كقوله تعالى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ( الفرقان 24 ) وقيل المعنى ويتجنبها الشقي الذي يصلى كما في قوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم 27 ) أي هين عليه ومثل قول القائل إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتاً دعائمه أعز وأطول
هذا ما قيل لكن التحقيق ما ذكرنا أن الفرق الثلاثة العارف والمتوقف والمعاند فالسعيد هو العارف والمتوقف له بعض الشقاء والأشقى هو المعاند الذي بينا أنه هو الذي لا يلتفت إلى الدعوة ولا يصغى إليها ويتجنبها أما قوله تعالى
ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا
ففيه مسألتان
المسألة الأولى للمفسرين فيه وجهان أحدهما لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه كما قال لا يَقْضِى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا ( فاطر 36 ) وهذا على مذهب العرب تقول للمبتلي بالبلاء الشديد لا هو حي ولا هو ميت وثانيهما معناه أن نفس أحدهم في النار تصير في حلقه فلا تخرج فيموت ولا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا
المسألة الثانية إنما قيل ثُمَّ لأن هذه الحالة أفظع وأعظم من الصلى فهو متراخ عنه في مراتب الشدة أما قوله تعالى
قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى
ففيه وجهان أحدهما أنه تعالى لما ذكر وعيد من أعرض عن النظر والتأمل في دلائل الله تعالى أتبعه بالوعد لمن تزكى ويطهر من دنس الشرك وثانيهما وهو قول الزجاج تكثر من التقوى لأن معنى الزاكي النامي الكثير وهذا الوجه معتضد بقوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ( المؤمنون 2 1 ) أثبت الفلاح للمستجمعين لتلك الخصال وكذلك قوله تعالى في أول البقرة وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( البقرة 5 ) وأما الوجه الأول فإنه معتضد بوجهين الأول أنه تعالى لما لم يذكر في الآية ما يجب التزكي عنه علمنا أن المراد هو التزكي عما مر ذكره قبل الآية وذلك هو الكفر فعلمنا أن المراد ههنا قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى عن الكفر الذي مر ذكره قبل هذه الآية والثاني أن الاسم المطلق ينصرف إلى المسمى الكامل وأكمل أنواع التزكية هو تزكية القلب عن ظلمة الكفر فوجب صرف هذا المطلق إليه ويتأكد هذا التأويل بما روي عن ابن عباس أنه قال معنى تَزَكَّى قول لا إله إلا الله(31/133)
أما قوله تعالى
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى
ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكر المفسرون فيه وجوهاً أحدها قال ابن عباس ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه فصلى له وأقول هذا التفسير متعين وذلك لأن مراتب أعمال المكلف ثلاثة أولها إزالة العقائد الفاسدة عن القلب وثانيها استحضار معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأسمائه وثالثها الاشتغال بخدمته
فالمرتبة الأولى هي المراد بالتزكية في قوله قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ( الأعلى 14 )
وثانيها هي المراد بقوله وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فإن الذكر بالقلب ليس إلا المعرفة
وثالثها الخدمة وهي المراد بقوله فَصَلَّى فإن الصلاة عبارة عن التواضع والخشوع فمن استنار قلبه بمعرفة جلال الله تعالى وكبريائه لا بد وأن يظهر في جوارحه وأعضائه أثر الخضوع والخشوع
وثانيها قال قوم من المفسرين قوله قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى يعني من تصدق قبل مروره إلى العيد وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى يعني ثم صلى صلاة العيد بعد ذلك مع الإمام وهذا قول عكرمة وأبي العالية وابن سيرين وابن عمر وروي ذلك مرفوعاً إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا التفسير فيه إشكال من وجهين الأول أن عادة الله تعالى في القرآن تقديم ذكر الصلاة على ذكر الزكاة لا تقديم الزكاة على الصلاة والثاني قال الثعلبي هذه السورة مكية بالإجماع ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر أجاب الواحدي عنه بأنه لا يمتنع أن يقال لما كان في معلوم الله تعالى أن ذلك سيكون أثنى على من فعل ذلك وثالثها قال مقاتل قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ( الأعلى 14 ) أي تصدق من ماله وذكر ربه بالتوحيد في الصلاة فصلى له والفرق بين هذا الوجه وما قبله أن هذا يتناول الزكاة والصلاة المفروضتين والوجه الأول ليس كذلك ورابعها قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ليس المراد منه زكاة المال بل زكاة الأعمال أي من تطهر في أعماله من الرياء والتقصير لأن اللفظ المعتاد أن يقال في المال زكى ولا يقال تزكى قال تعالى وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ( فاطر 18 ) وخامسها قال ابن عباس وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ أي كبر في خروجه إلى العيد وصلى صلاة العيد وسادسها المعنى وذكر اسم ربه في صلاته ولا تكون صلاته كصلاة المنافقين حيث يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً
المسألة الثانية الفقهاء احتجوا بهذه الآية على وجوب تكبيرة الافتتاح واحتج أبو حنيفة رحمه الله بها على أن تكبيرة الافتتاح ليست من الصلاة قال لأن الصلاة معطوفة عليها والعطف يستدعي المغايرة واحتج أيضاً بهذه الآية على أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه وأجاب أصحابنا بأن تقدير الآية وصلى فذكر اسم ربه ولا فرق بين أن تقول أكرمتني فزرتني وبين أن تقول زرتني فأكرمتني ولأبي حنيفة أن يقول ترك العمل بفاء التعقيب لا يجوز من غير دليل والأولى في الجواب أن يقال الآية تدل على مدح كل من ذكر اسم الله فصلى عقيبه وليس في الآية بيان أن ذلك الذكر هو تكبيرة الافتتاح فلعل المراد به أن من ذكر الله بقلبه وذكر ثوابه وعقابه دعاه ذلك إلى فعل الصلاة فحينئذ يأتي بالصلاة التي أحد أجزائها التكبير وحينئذ يندفع الاستدلال(31/134)
ثم قال تعالى
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا
وفيه قراءتان قراءة العامة بالتاء ويؤكده حرف أبي أي بل أنتم تؤثرون عمل الدنيا على عمل الآخرة قال ابن مسعود إن الدنيا أحضرت وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها وإن الآخرة لغيب لنا وزويت عنا فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل وقرأ أبو عمرو يؤثرون بالياء يعني الأشقى ثم قال تعالى
وَالاٌّ خِرَة ُ خَيْرٌ وَأَبْقَى
وتمامه أن كل ما كان خيراً وأبقى فهو آثر فيلزم أن تكون الآخرة آثر من الدنيا وهم كانوا يؤثرون الدنيا وإنما قلنا إن الآخرة خير لوجوه أحدها أن الآخرة مشتملة على السعادة الجسمانية والروحانية والدنيا ليست كذلك فالآخرة خير من الدنيا وثانيها أن الدنيا لذاتها مخلوطة بالآلام والآخرة ليست كذلك وثالثها أن الدنيا فانية والآخرة باقية والباقي خير من الفاني ثم قال
إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاٍّ ولَى
واختلفوا في المشار إليه بلفظ هذا منهم من قال جميع السورة وذلك لأن السورة مشتملة على التوحيد والنبوة والوعيد على الكفر بالله والوعد على طاعة الله تعالى
ومنهم من قال بل المشار إليه بهذه الإشارة هو من قوله قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ( الأعلى 14 ) إشارة إلى تطهير النفس عن كل ما لا ينبغي أما القوة النظرية فعن جميع العقائد الفاسدة وأما في القوة العملية فعن جميع الأخلاق الذمية
وأما قوله وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ ( الأعلى 15 ) فهو إشارة إلى تكميل الروح بمعرفة الله تعالى وأما قوله فَصَلَّى ( الأعلى 15 ) فهو إشارة إلى تكميل الجوارح وتزيينها بطاعة الله تعالى
وأما قوله بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا ( الأعلى 15 ) فهو إشارة إلى الزجر عن الالتفات إلى الدنيا
وأما قوله وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( الأعلى 15 ) فهو إشارة إلى الترغيب في الآخرة وفي ثواب الله تعالى وهذه أمور لا يجوز أن تختلف باختلاف الشرائع فلهذا السبب قال إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاْولَى وهذا الوجه كما تأكد بالعقل فالخبر يدل عليه روى عن أبي ذر أنه قال قلت هل في الدنيا مما في صحف إبراهيم وموسى فقال اقرأ يا أبا ذر قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ( الأعلى 14 ) وقال آخرون إن قوله هذا إشارة إلى قوله وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ وَأَبْقَى وذلك لأن الإشارة راجعة إلى أقرب المذكورات وذلك هو هذه الآية وأما قوله لَفِى الصُّحُفِ الاْولَى فهو نظير لقوله وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاْوَّلِينَ وقوله شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ( الشورى 13 )
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
فيه قولان أحدهما أنه بيان لقوله فِى الصُّحُفِ الاْولَى ( الأعلى 18 ) والثاني أن المراد أنه مذكور في صحف جميع الأنبياء التي منها صحف إبراهيم وموسى(31/135)
روي عن أبي ذر أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كم أنزل الله من كتاب فقال مائة وأربعة كتب على آدم عشر صحف وعلى شيث خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان وقيل إن في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(31/136)
سورة الغاشية
وهي عشرون وست آيات مكية
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَة ِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَة ٌ عَامِلَة ٌ نَّاصِبَة ٌ
اعلم أن في قوله هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَة ِ مسألتين
المسألة الأولى ذكروا في الغاشية وجوهاً أحدها أنها القيامة من قوله يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ ( العنكبوت 55 ) إنما سميت القيامة بهذا الاسم لأن ما أحاط بالشيء من جميع جهاته فهو غاش له والقيامة كذلك من وجوه الأول أنها ترد على الخلق بغتة وهو كقوله تعالى أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَة ٌ مّنْ عَذَابِ اللَّهِ ( يوسف 107 ) والثاني أنها تغشى الناس جميعاً من الأولين والآخرين والثالث أنها تغشى الناس بالأهوال والشدائد القول الثاني الغاشية هي النار أي تغشى وجوه الكفرة وأهل النار قال تعالى وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ( إبراهيم 50 ) ومن فوقهم غواش ( الأعراف 41 ) وهو قول سعيد بن جبير ومقاتل القول الثالث الغاشية أهل النار يغشونها ويقعون فيها والأول أقرب لأن على هذا التقدير يصير المعنى أن يوم القيامة يكون بعض الناس في الشقاوة وبعضهم في السعادة
المسألة الثانية إنما قال ( الأعراف 41 ) وهو قول سعيد بن جبير ومقاتل القول الثالث الغاشية أهل النار يغشونها ويقعون فيها والأول أقرب لأن على هذا التقدير يصير المعنى أن يوم القيامة يكون بعض الناس في الشقاوة وبعضهم في السعادة
المسألة الثانية إنما قال هَلُ أَتَاكَ وذلك لأنه تعالى عرف رسول الله من حالها وحال الناس فيها ما لم يكن هو ولا قومه عارفاً به على التفصيل لأن العقل إن دل فإنه لا يدل إلا على أن حال العصاة مخالفة لحال المطيعين فأما كيفية تلك التفاصيل فلا سبيل للعقل إليها فلما عرفه الله تفصيل تلك الأحوال لا جرم قال هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَة ِ
أما قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَة ٌ عَامِلَة ٌ نَّاصِبَة ٌ فاعلم أنه وصف لأهل الشقاوة وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد بالوجوه أصحاب الوجوه وهم الكفار بدليل أنه تعالى وصف الوجوه بأنها(31/137)
خاشعة عاملة ناصبة وذلك من صفات المكلف لكن الخشوع يظهر في الوجه فعلقه بالوجه لذلك وهو كقوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ ( القيامة 22 ) وقوله خَاشِعَة ٌ أي ذليلة قد عراهم الخزي والهوان كما قال وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُؤُوسَهُمْ ( السجدة 12 ) وقال وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِى ّ ( الشورى 41 ) وإنما يظهر الذل في الوجه لأنه ضد الكبر الذي محله الرأس والدماغ وأما العاملة فهي التي تعمل الأعمال ومعنى النصب الدؤوب في العمل مع التعب
المسألة الثانية الوجوه الممكنة في هذه الصفات الثلاثة لا تزيد على ثلاثة لأنه إما أن يقال هذه الصفات بأسرها حاصلة في الآخرة أو هي بأسرها حاصلة في الدنيا أو بعضها في الآخرة وبعضها في الدنيا أما الوجه الأول وهو أنها بأسرها حاصلة في الآخرة فهو أن الكفار يكونون يوم القيامة خاشعين أي ذليلين وذلك لأنها في الدنيا تكبرت عن عبادة الله وعاملين لأنها تعمل في النار عملاً تتعب فيه وهو جرها السلاسل والأغلال الثقيلة على ما قال فِى سِلْسِلَة ٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً ( الحاقة 32 ) وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل بحيث ترتقي عنه تارة وتغوص فيه أخرى والتقحم في حر جهنم والوقوف عراة حفاة جياعاً عطاشاً في العرصات قبل دخول النار في يوم كان مقداره ألف سنة وناصبين لأنهم دائماً يكونون في ذلك العمل قال الحسن هذه الصفات كان يجب أن تكون حاصلة في الدنيا لأجل الله تعالى فلما لم تكن كذلك سلطها الله عليهم يوم القيامة على سبيل العقاب وأما الوجه الثاني وهو أنها بأسرها حاصلة في الدنيا فقيل هم أصحاب الصوامع من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان والمجوس والمعنى أنها خشعت لله وعملت ونصبت في أعمالها من الصوم الدائب والتهجد الواصب وذلك لأنهم لما اعتقدوا في الله ما لا يليق به فكأنهم أطاعوا ذاتاً موصوفة بالصفات التي تخيلوها فهم في الحقيقة ما عبدوا الله وإنما عبدوا ذلك المتخيل الذي لا وجود له فلا جرم لا تنفعهم تلك العبادة أصلاً وأما الوجه الثالث وهو أن بعض تلك الصفات حاصل في الآخرة وبعضها في الدنيا ففيه وجوه أحدها أنها خاشعة في الآخرة مع أنها كانت في الدنيا عاملة ناصبة والمعنى أنها لم تنتفع بعملها ونصبها في الدنيا ولا يمتنع وصفهم ببعض أوصاف الآخرة ثم يذكر بعض أوصاف الدنيا ثم يعاد ذكر الآخرة إذا كان المعنى في ذلك مفهوماً فكأنه تعالى قال وجوه يوم القيامة خاشعة لأنها كانت في الدنيا عاملة ناصبة في غير طاعة الله فهي إذن تصلى ناراً حامية في الآخرة ثانيها أنها خاشعة عاملة في الدنيا ولكنها ناصبة في الآخرة فخشوعها في الدنيا خوفها الداعي لها إلى الإعراض عن لذائذ الدنيا وطيباتها وعملها هو صلاتها وصومها ونصبها في الآخرة هو مقاساة العذاب على ما قال تعالى وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ( الزمر 47 ) وقرىء عاملة ناصبة على الشتم واعلم أنه تعالى بعد أن وصفهم بهذه الصفات الثلاثة شرح بعد ذلك كيفية مكانهم ومشربهم ومطعمهم نعوذ بالله منها
تَصْلَى نَاراً حَامِيَة ً
أما مكانهم فقوله تعالى تَصْلَى نَاراً حَامِيَة ً يقال صلى بالنار يصلى أي لزمها واحترق بها وقرىء بنصب التاء وحجته قوله إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( الصافات 163 ) وقرأ أبو عمرو وعاصم برفع التاء(31/138)
من أصيلته النار لقوله ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ( الحاقة 31 ) وقوله لِخَزَنَة ِ جَهَنَّمَ وصلوه مثل أصلوه وقرأ قوم تصلى بالتشديد وقيل المصلى عند العرب أن يحفروا حفيراً فيجمعوا فيه جمراً كثيراً ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه فأما ما يشوى فوق الجمر أو على المقلاة أو في التنور فلا يسمى مصلى وقوله حَامِيَة ً أي قد أوقدت وأحميت المدة الطويلة فلا حر يعدل حرها قال ابن عباس قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله
تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَة ٍ
وأما مشروبهم فقوله تعالى تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءانِيَة ٍ الآني الذي قد انتهى حره من الإيناء بمعنى التأخير وفي الحديث ( أن رجلاً آخر حضور الجمعة ثم تخطى رقاب الناس فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) آنيت وآذيت ) ونظير هذه الآية قوله يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ ( الرحمن 44 ) قال المفسرون إن حرها بلغ إلى حيث لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لذابت
لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ
وأما مطعومهم فقوله تعالى لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ واختلفوا في أن الضريع ما هو على وجوه أحدها قال الحسن لا أدري ما الضريع ولم أسمع فيه من الصحابة شيئاً وثانيها روى عن الحسن أيضاً أنه قال الضريع بمعنى المضرع كالأليم والسميع والبديع بمعنى المؤلم والمسمع والمبدع ومعناه إلا من طعام يحملهم على أن يضرعوا ويذلوا عند تناوله لما فيه من الخشونة والمرارة والحرار وثالثها أن الضريع ما يبس من الشبرق وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطباً فإذا يبس تحامته وهو سم قاتل قال أبو ذويب رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى
وعاد ضريعاً عاد عنه النحائص
جمع نحوص وهي الحائل من الإبل وهذا قول أكثر المفسرين وأكثر أهل اللغة ورابعها قال الخليل في كتابه ويقال للجلدة التي على العظم تحت اللحم هي الضريع فكأنه تعالى وصفه بالقلة فلا جرم لا يسمن ولا يغني من جوع وخامسها قال أبو الجوزاء الضريع السلا ويقرب منه ما روي عن سعيد بن جبير أنه شجرة ذات شوك ثم قال أبو الجوزاء وكيف يسمن من كان يأكل الشوكا وفي الخبر الضريع شيء يكون في النار شبيه الشوك أمر من الصبر وأنتن من الجيفة وأشد حراً من النار قال القفال والمقصد من ذكر هذا الشراب وهذا الطعام بيان نهاية ذلهم وذلك لأن القوم لما أقاموا في تلك السلاسل والأغلال تلك المدة الطويلة عطاشاً جياعاً ثم ألقوا في النار فرأوا فيها ماء وشيئاً من النبات فأحب أولئك القوم تسكين ما بهم من العطش والجوع فوجدوا الماء حميماً لا يروي بل يشوي ووجدوا النبات مما لا يشبع ولا يغني من جوع فأيسوا وانقطعت أطماعهم في إزالة ما بهم من الجوع والعطش كما قال وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ ( الكهف 29 ) وبين أن هذه الحالة لا تزول ولا تنقطع نعوذ بالله منها وههنا سؤالات
السؤال الأول قال تعالى في سورة الحاقة فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ( الحاقة 36 35 ) وقال ههنا لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ والضريع غير الغسلين والجواب من وجهين الأول أن النار دركات فمن أهل النار من طعامه الزقوم ومنهم من طعامه الغسلين(31/139)
ومنهم من طعامه الضريع ومنهم من شرابه الحميم ومنهم من شرابه الصديد لكل باب منهم جزء مقسوم الثاني يحتمل أن يكون الغسلين من الضريع ويكون ذلك كقوله مالي طعام إلا من الشاه ثم يقول مالي طعام إلا من اللبن ولا تناقض لأن اللبن من الشاة
السؤال الثاني كيف يوجد النبت في النار الجواب من وجهين الأول ليس المراد أن الضريع نبت في النار يأكلونه ولكنه ضرب مثله أي إنهم يقتاتون بما لا يشبعهم أو يعذبون بالجوع كما يعذب من قوته الضريع الثاني لم لا يجوز أن يقال إن النبت يوجد في النار فإنه لما لم يستبعد بقاء بدن الإنسان مع كونه لحماً ودماً في النار أبد الآباد فكذا ههنا وكذا القول في سلاسل النار وأغلالها وعقاربها وحياتها أما قوله تعالى
لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ
فهو مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع وأما المعنى ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن طعامهم ليس من جنس مطاعم الإنس وذلك لأن هذا نوع من أنواع الشوك والشوك مما يرعاه الإبل وهذا النوع مما ينفر عنه الإبل فإذن منفعتا الغذاء منتفيتان عنه وهما إماطة الجوع وإفادة القوة والسمن في البدن وثانيها أن يكون المعنى لا طعام لهم أصلاً لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنس لأن الطعام ما أشبع وأسمن وهو منهما بمعزل كما تقول ليس لفلان ظل إلا الشمس تريد نفي الظل على التوكيد وثالثها روي أن كفار قريش قالت إن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ فلا يخلو إما أن يتعنتوا بذلك الكلام كذباً فيرد قولهم بنفي السمن والشبع وإما أن يصدقوا فيكون المعنى أن طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم إنما هو من ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع قال القاضي يجب في كل طعامهم أن لا يغني من جوع لأن ذلك نفع ورأفة وذلك غير جائز في العقاب
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَة ٌ
اعلم أنه سبحانه لما ذكر وعيد الكفار أتبعه بشرح أحوال المؤمنين فذكر وصف أهل الثواب أولاً ثم وصف دار الثواب ثانياً أما وصف أهل الثواب فبأمرين أحدهما في ظاهرهم وهو قوله نَّاعِمَة ٌ أي ذات بهجة وحسن كقوله تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَة َ النَّعِيمِ ( المطففين 24 ) أو متنعمة
لِّسَعْيِهَا رَاضِيَة ٌ
والثاني في باطنهم وهو قوله تعالى لِّسَعْيِهَا رَاضِيَة ٌ وفيه تأويلان أحدهما أنهم حمدوا سعيهم واجتهادهم في العمل لله لما فازوا بسببه من العاقبة الحميدة كالرجل يعمل العمل فيجزى عليه بالجميل ويظهر له منه عاقبة محمودة فيقول ما أحسن ما عملت ولقد وفقت للصواب فيما صنعت فيثنى على عمل نفسه ويرضاه والثاني المراد لثواب سعيها في الدنيا راضية إذا شاهدوا ذلك الثواب وهذا أولى إذ المراد أن الذي يشاهدونه من الثواب العظيم يبلغ حد الرضا حتى لا يريدوا أكثر منه وأما وصف دار الثواب فاعلم أن الله تعالى وصفها بأمور سبعة(31/140)
فِي جَنَّة ٍ عَالِيَة ٍ
أحدها قوله فِى جَنَّة ٍ عَالِيَة ٍ ويحتمل أن يكون المراد هو العلو في المكان ويحتمل أن يكون المراد هو العلو في الدرجة والشرف والمنقبة أما العلو في المكان فذاك لأن الجنة درجات بعضها أعلى من بعض قال عطاء الدرجة مثل ما بين السماء والأرض
لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَة ً
وثانيها قوله لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَة ً وفيه مسألتان
المسألة الأولى في قوله لا تسمع ثلاث قراآت أحدها قرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب لاغية بالنصب والمخاطب بهذا الخطاب يحتمل أن يكون هو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأن يكون لا تسمع يا مخاطب فيها لاغية وهذا يفيد السماع في الخطاب كقوله وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ ( الإنسان 20 ) وقوله إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ ( الإنسان 19 ) ويحتمل أن تكون هذه التاء عائدة إلى وجوه والمعنى لا تسمع الوجوه فيها لاغية وثانيها قرأ نافع بالتاء المنقوطة من فوق مرفوعة على التأنيث لاغية بالرفع وثالثها قرأ ابن كثير وأبو عمرو لا يسمع بالياء المنقوطة من تحت مضمومة على التذكير لاغية بالرفع وذلك جائز لوجهين الأول أن هذا الضرب من المؤنث إذا تقدم فعله وكان بين الفعل والاسم حائل حسن التذكير قال الشاعر إن امرءاً غره منكن واحدة
بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور
والثاني أن المراد باللاغية اللغو فالتأنيث على اللفظ والتذكير على المعنى
المسألة الثانية لأهل اللغة في قوله لَاغِيَة ً ثلاثة أوجه أحدها أنه يقال لغا يلغو لغواً ولاغية فاللاغية واللغو شيء واحد ويتأكد هذا الوجه بقوله سبحانه لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً ( مريم 62 ) وثانيها أن يكون صفة والمعنى لا يسمع كلمة لاغية وثالثها قال الأخفش لاغية أي كلمة ذات لغو كما تقول فارس ودارس لصاحب الفرس والدرع وأما أهل التفسير فلهم وجوه أحدها أن الجنة منزهة عن اللغو لأنها منزل جيران الله تعالى وإنما نالوها بالجد والحق لا باللغو والباطل وهكذا كل مجلس في الدنيا شريف مكرم فإنه يكون مبرأ عن اللغو وكل ما كان أبلغ في هذا كان أكثر جلالة هذا ما قرره القفال والثاني قال الزجاج لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة والثناء على الله تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم والثالث عن ابن عباس يريد لا تسمع فيها كذباً ولا بهتاناً ولا كفراً بالله ولا شتماً والرابع قال مقاتل لا يسمع بعضهم من بعض الحلف عند شراب كما يحلف أهل الدنيا إذا شربوا الخمر وأحسن الوجوه ما قرره القفال الخامس قال القاضي اللغو ما لا فائدة فيه فالله تعالى نفى عنهم ذلك ويندرج فيه ما يؤذي سامعه على طريق الأولى
فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَة ٌ
الصفة الثالثة للجنة قوله تعالى فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَة ٌ قال صاحب الكشاف يريد عيوناً في غاية الكثرة كقوله عَلِمَتْ نَفْسٌ ( التكوير 14 ) قال القفال فيها عين شراب جارية على وجه الأرض في غير أخدود وتجري لهم كما أرادوا قال الكلبي لا أدري بماء أو غيره(31/141)
فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَة ٌ
الصفة الرابعة قوله تعالى فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَة ٌ أي عالية في الهواء وذلك لأجل أن يرى المؤمن إذا جلس عليها جميع ما أعطاه ربه في الجنة من النعيم والملك وقال خارجة بن مصعب بلغنا أنها بعضها فوق بعض فيرتفع ما شاء الله فإذا جاء ولي الله ليجلس عليها تطامنت له فإذا استوى عليها ارتفعت إلى حيث شاء الله والأول أولى وإن كان الثاني أيضاً غير ممتنع لأن ذلك بما كان أعظم في سرور المكلف قال ابن عباس هي سرر ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة في السماء
وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَة ٌ
الصفة الخامسة قوله تعالى وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَة ٌ الأكواب الكيزان التي لا عرى لها قال قتادة فهي دون الأباريق وفي قوله مَّوْضُوعَة ٌ وجوه أحدها أنها معدة لأهلها كالرجل يلتمس من الرجل شيئاً فيقول هو ههنا موضوع بمعنى معد وثانيها موضوعة على حافاة العيون الجارية كلما أرادوا الشرب وجدوها مملوءة من الشرب وثالثها موضوعة بين أيديهم لاستحسانهم إياها بسبب كونها من ذهب أو فضة أو من جوهر وتلذذهم بالشراب منها ورابعها أن يكون المراد موضوعة عن حد الكبر أي هي أوساط بين الصغر والكبر كقوله قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً
وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَة ٌ
الصفة السادسة قوله تعالى وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَة ٌ النمارق هي الوسائد في قول الجميع واحدها نمرقة بضم النون وزاد الفراء سماعاً عن العرب نمرقة بكسر النون قال الكلبي وسائد مصفوفة بعضها إلى جانب بعض أينما أراد أن يجلس جلس على واحدة واستند إلى أخرى
وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَة ٌ
الصفة السابعة قوله تعالى وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَة ٌ يعني البسط والطنافس واحدها زربية وزربي بكسر الزاي في قول جميع أهل اللغة وتفسير مبثوثة مبسوطة منشورة أو مفرقة في المجالس
أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ
اعلم أنه تعالى لما حكم بمجيء يوم القيامة وقسم أهل القيامة إلى قسمين الأشقياء والسعداء ووصف أحوال الفريقين وعلم أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك إلا بواسطة إثبات الصانع الحكيم لا جرم أتبع ذلك بذكر هذه الدلالة فقال أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ وجه الاستدلال بذلك على صحة المعاد أنها تدل على وجود الصانع الحكيم ومتى ثبت ذلك فقد ثبت القول بصحة المعاد أما الأول فلأن الأجسام متساوية في الجسمية فاختصاص كل واحد منها بالوصف الذي لأجله امتاز على الآخر لا بد وأن يكون لتخصيص مخصص وإيجاد قادر ولما رأينا هذه الأجسام مخلوقة على وجه الإتقان والإحكام علمنا أن ذلك الصانع عالم ولما علمنا أن ذلك الصانع لا بد وأن يكون مخالفاً لخلقه في نعت الحاجة والحدوث والإمكان علمنا أنه غني فهذا يدل على أن للعالم صانعاً قادراً عالماً غنياً فوجب أن يكون في غاية الحكمة ثم إنا نرى الناس بعضهم محتاجاً إلى البعض فإن الإنسان الواحد لا يمكنه القيام بمهمات نفسه بل لا بد من بلدة يكون كل واحد من أهلها مشغولاً بمهم آخر حتى يتنظم من مجموعهم مصلحة كل واحد منهم وذلك(31/142)
الانتظام لا يحسن إلا مع التكليف المشتمل على الوعد والوعيد ذلك لا يحصل إلا بالبعث والقيامة وخلق الجنة والنار فثبت أن إقامة الدلالة على الصانع الحكيم توجب القول بصحة البعث والقيامة فلهذا السبب ذكر الله دلالة التوحيد في آخر هذه السورة فإن قيل فأي مجانسة بين الإبل والسماء والجبال والأرض ثم لم بدأ بذكر الإبل قلنا فيه وجهان الأول أن جميع المخلوقات متساوية في هذه الدلالة وذكر جميعها غير ممكن لكثرتها وأي واحد منها ذكر دون غيره كان هذا السؤال عائداً فوجب الحكم بسقوط هذا السؤال على جميع التقادير وأيضاً فلعل الحكمة في ذكر هذه الأشياء التي هي غير متناسبة التنبيه على أن هذا الوجه من الاستدلال غير مختص بنوع دون نوع بل هو عام في الكل على ما قال وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 ) ولو ذكر غيرها لم يكن الأمر كذلك لا جرم ذكر الله تعالى أموراً غير متناسبة بل متباعدة جداً تنبيهاً على أن جميع الأجسام العلوية والسفلية صغيرها وكبيرها حسنها وقبيحها متساوية في الدلالة على الصانع الحكيم فهذا وجه حسن معقول وعليه الاعتماد الوجه الثاني وهو أن نبين ما في كل واحد من هذه الأشياء من المنافع والخواص الدالة على الحاجة إلى الصانع المدبر ثم نبين إنه كيف يجانس بعضها بعضاً
أما المقام الأول فنقول الإبل له خواص منها أنه تعالى جعل الحيوان الذي يقتني أصنافاً شتى فتارة يقتني ليؤكل لحمه وتارة ليشرب لبنه وتارة ليحمل الإنسان في الأسفار وتارة لينقل أمتعة الإنسان من بلد إلى بلد وتارة ليكون له به زينة وجمال وهذه المنافع بأسرها حاصلة في الإبل وقد أبان الله عز وجل عن ذلك بقوله أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ( يس 72 71 ) قال وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقّ الانفُسِ ( النحل 7 5 ) وإن شيئاً من سائر الحيوانات لا يجتمع فيه هذه الخصال فكان اجتماع هذه الخصال فيه من العجائب وثانيها أنه في كل واحد من هذه الخصال أفضل من الحيوان الذي لا يوجد فيه إلا تلك الخصلة لأنها إن جعلت حلوبة سقت فأروت الكثير وإن جعلت أكولة أطعمت وأشبعت الكثير وإن جعلت ركوبة أمكن أن يقطع بها من المسافات المديدة ما لا يمكن قطعه بحيوان آخر وذلك لما ركب فيها من قوة احتمال المداومة على السير والصبر على العطش والاجتزاء من العلوفات بما لا يجتزىء حيوان آخر وإن جعلت حملة استغلت بحمل الأحمال الثقيلة التي لا يستقل بها سواها ومنها أن هذا الحيوان كان أعظم الحيوانات وقعاً في قلب العرب ولذلك فإنهم جعلوا دية قتل الإنسان إبلاً وكان الواحد من ملوكهم إذا أراد المبالغة في إعطاء الشاعر الذي جاءه من المكان البعيد أعطاه مائة بعير لأن امتلاء العين منه أشد من امتلاء العين من غيره ولهذا قال تعالى وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ( النحل 6 ) ومنها أنى كنت مع جماعة في مفازة فضللنا الطريق فقدموا جملاً وتبعوه فكان ذلك الجمل ينعطف من تل إلى تل ومن جانب إلى جانب والجميع كانوا يتبعونه حتى وصل إلى الطريق بعد زمان طويل فتعجبنا من قوة تخيل ذلك بالحيوان أنه بالمرة الواحدة كيف انحفظت في خياله صورة تلك المعاطف حتى أن الذين عجز جمع من العقلاء إلى الاهتداء إليه فإن ذلك الحيوان اهتدى إليه ومنها أنها مع كونها في غاية القوة على العمل مباينة لغيرها في الانقياد والطاعة لأضعف الحيوانات كالصبي الصغير ومبانية لغيرها أيضاً في أنها يحمل عليها وهي باركة ثم تقوم فهذه الصفات(31/143)
الكثيرة الموجودة فيها توجب على العاقل أن ينظر في خلقتها وتركيبها ويستدل بذلك على وجود الصانع الحكيم سبحانه ثم إن العرب من أعرف الناس بأحوال الإبل في صحتها وسقمها ومنافعها ومضارها فلهذه الأسباب حسن من الحكيم تعالى أن يأمر بالتأمل في خلقتها ثم قال تعالى
وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ
أي رفعاً بعيد المدى بلا إمساك وبغير عمد
وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ
نصباً ثابتاً فهي راسخة لا تميل ولا تزول
وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ
سطحاً بتمهيد وتوطئة فهي مهاد للمتقلب عليها ومن الناس من استدل بهذا على أن الأرض ليست بكرة وهو ضعيف لأن الكرة إذا كانت في غاية العظمة يكون كل قطعة منها كالسطح وقرأ علي عليه السلام كيف خلقت ورفعت ونصبت وسطحت على البناء للفاعل وتاء الضمير والتقدير فعلتها فحذف المفعول
المقام الثاني في بيان ما بين هذه الأشياء من المناسبة اعلم أن من الناس من فسر الإبل بالسحاب قال صاحب ( الكشاف ) ولعله لم يرد أن الإبل من أسماء السحاب كالغمام والمزن والرباب والغيم والغين وغير ذلك وإنما رأى السحاب مشبهاً بالإبل في كثير من أشعارهم فجوز أن يراد بها السحاب على طريق التشبيه والمجاز وعلى هذا التقدير فالمناسبة ظاهرة أما إذا حملنا الإبل على مفهومه المشهور فوجه المناسبة بينها وبين السماء والجبال والأرض من وجهين الأول أن القرآن نزل على لغة العرب وكانوا يسافرون كثيراً لأن بلدتهم بلدة خالية من الزرع وكانت أسفارهم في أكثر الأمر على الإبل فكانوا كثيراً ما يسيرون عليها في المهامة والقفار مستوحشين منفردين عن الناس ومن شأن الإنسان إذا انفرد أن يقبل على التفكر في الأشياء لأنه ليس معه من يحادثه وليس هناك شيء يشغل به سمعه وبصره وإذا كان كذلك لم يكن له بد من أن يشغل باله بالفكرة فإذا فكر في ذلك الحال وقع بصره أول الأمر على الجمل الذي ركبه فيرى منظراً عجيباً وإذا نظر إلى فوق لم ير غير السماء وإذا نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال وإذا نظر إلى ما تحت لم ير غير الأرض فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والانفراد عن الغير حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النظر ثم إنه في وقت الخلوة في المفازة البعيدة لا يرى شيئاً سوى هذه الأشياء فلا جرم جمع الله بينها في هذه الآية الوجه الثاني أن جميع المخلوقات دالة على الصانع إلا أنها على قسمين منها ما يكون للحكمة وللشهوة فيها نصيب معاً ومنها ما يكون للحكمة فيها نصيب وليس للشهوة فيها نصيب
والقسم الأول كالإنسان الحسن الوجه والبساتين النزهة والذهب والفضة وغيرها فهذه الأشياء يمكن الاستدلال بها على الصانع الحكيم إلا أنها متعلق الشهوة ومطلوبة للنفس فلم يأمر تعالى بالنظر فيها لأنه لم يؤمن عند النظر إليها وفيها أن تصير داعية الشهوة غالبة على داعية الحكمة فيصير ذلك مانعاً عن إتمام النظر والفكر وسبباً لاستغراق النفس في محبته(31/144)
أما القسم الثاني فهو كالحيوانات التي لا يكون في صورتها حسن ولكن يكون داعية تركيبها حكم باللغة وهي مثل الإبل وغيرها إلا أن ذكر الإبل ههنا أولى لأن إلف العرب بها أكثر وكذا السماء والجبال والأرض فإن دلائل الحدوث والحاجة فيها ظاهرة وليس فيها ما يكون نصيباً للشهوة فلما كان هذا القسم بحيث يكمل نصيب الحكمة فيه مع الأمن من زحمة الشهوة لا جرم أمر الله بالتدبر فيها فهذا ما يحضرنا في هذا الموضع وبالله التوفيق
فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ
اعلم أنه تعالى لما بين الدلائل على صحة التوحيد والمعاد قال لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ وتذكير الرسول إنما يكون بذكر هذه الأدلة وأمثالها والبعث على النظر فيها والتحذير من ترك تلك وذلك بعث منه تعالى للرسول على التذكير والصبر على كل عارض معه وبيان أنه إنما بعث لذلك دون غيره فلهذا قال إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ
لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ
قال صاحب ( الكشاف ) بمصيطر بمسلط كقوله يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ( ق 45 ) وقوله أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( يونس 99 ) وقيل هو في لغة تميم مفتوح الطاء على أن سيطر متعد عندهم والمعنى أنك ما أمرت إلا بالتذكير فأما أن تكون مسلطاً عليهم حتى تقتلهم أو تكرههم على الإيمان فلا قالوا ثم نسختها آية القتال هذا قول جميع المفسرين والكلام في تفسير هذا الحرف قد تقدم عند قوله أَمْ هُمُ ( الطور 37 ) أما قوله تعالى
إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيْعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الاٌّ كْبَرَ
ففيه مسائل
المسألة الأولى في الآية قولان أحدهما أنه استثناء حقيقي وعلى هذا التقدير هذا الاستثناء استثناء عماذا فيه احتمالان الأول أن يقال التقدير فذكر إلا من تولى وكفر والثاني أنه استثناء عن الضمير في سَوَاء عَلَيْهِمْ ( الغاشية 22 ) والتقدير لست عليهم بمسيطر إلا من تولى واعترض عليه بأنه عليه السلام ما كان حينئذ مأموراً بالقتال وجوابه لعل المراد أنك لا تصبر مسلطاً إلا على من تولى القول الثاني أنه استثناء منقطع عما قبله كما تقول في الكلام قعدنا نتذكر العلم إلا أن كثيراً من الناس لا يرغب فكذا ههنا التقدير لست بمسئول عليهم لكن من تولى منهم فإن الله يعذبه العذاب الأكبر الذي هو عذاب جهنم قالوا وعلامة كون الاستثناء منقطعاً حسن دخول أن في المستثني وإذا كان الاستثناء متصلاً لم يحسن ذلك ألا ترى أنك تقول عندي مائتان إلا درهماً فلا تدخل عليه أن وههنا يحسن أن فإنك تقول إلا أن من تولى وكفر فيعذبه الله
المسألة الثانية قرىء ( ألا من تولى ) على التنبيه وفي قراءة ابن مسعود ( فإنه يعذبه )
المسألة الثالثة إنما سماه العذاب الأكبر لوجوه أحدها أنه قد بلغ حد عذاب الكفر وهو الأكبر لأن(31/145)
ما عداه من عذاب الفسق دونه ولهذا قال تعالى وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ الْعَذَابِ الاْدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاْكْبَرِ ( السجدة 21 ) وثانيها هو العذاب في الدرك الأسفل في النار وثالثها أنه قد يكون العذاب الأكبر حاصلاً في الدنيا وذلك بالقتل وسبي الذرية وغنيمة الأموال القول الأول أولى وأقرب ثم قال تعالى
إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ
وهذا كأنه من صلة قوله فَيْعَذّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الاْكْبَرَ ( الغاشية 24 ) وإنما ذكر تعالى ذلك ليزيل به عن قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حزنه على كفرهم فقال طب نفساً عليهم وإن عاندوا وكذبوا وجحدوا فإن مرجعهم إلى الموعد الذي وعدنا فإن علينا حسابهم وفيه سؤال وهو أن محاسبة الكفار إنما تكون لإيصال العقاب إليهم وذلك حق الله تعالى ولا يجب على المالك أن يستوفي حق نفسه والجواب أن ذلك واجب عليه إما بحكم الوعد الذي يمتنع وقوع الخلف فيه وإما في الحكمة فإنه لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لكان ذلك شبيهاً بكونه تعالى راضياً بذلك الظلم وتعالى الله عنه فلهذا السبب كانت المحاسبة واجبة وههنا مسألتان
المسألة الأولى قرأ أبو جعفر المدني إِيَابَهُمْ بالتشديد قال صاحب ( الكشاف ) وجهه أن يكون فيعالا مصدره أيب فيعل من الإياب أو يكون أصله أواباً فعالاً من أوب ثم قيل إيواباً كديوان في دون ثم فعل به ما فعل بأصل سيد
المسألة الثانية فائدة تقديم الظرف التشديد بالوعيد فإن إِيَابَهُمْ ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(31/146)
سورة الفجر
ثلاثون آية مكية
وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ
اعلم أن هذه الأشياء التي أقسم الله تعالى بها لا بد وأن يكون فيها إما فائدة دينية مثل كونها دلائل باهرة على التوحيد أو فائدة دنيوية توجب بعثاً على الشكر أو مجموعهما ولأجل ما ذكرناه اختلفوا في تفسير هذه الأشياء اختلافاً شديداً فكل أحد فسره بما رآه أعظم درجة في الدين وأكثر منفعة في الدنيا
أما قوله وَالْفَجْرِ فذكروا فيه وجوهاً أحدها ما روي عن ابن عباس أن الفجر هو الصبح المعروف فهو انفجار الصبح الصادق والكاذب أقسم الله تعالى به لما يحصل به من انقضاء الليل وظهور الضوء وانتشار الناس وسائر الحيوانات من الطير والوحوش في طلب الأرزاق وذلك مشاكل لنشور الموتى من قبورهم وفيه عبرة لمن تأمل وهذا كقوله وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ( المدثر 34 ) وقال في موضع آخر وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ( التكوير 18 ) وتمدح في آية أخرى بكونه خالفاً له فقال فَالِقُ الإِصْبَاحِ ( الإنعام 96 ) ومنهم من قال المراد به جميع النهار إلا أنه دل بالابتداء على الجميع نظيره وَالضُّحَى ( الضحى 1 ) وقوله وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ( الليل 2 ) وثانيها أن المراد نفسه صلاة الفجر وإنما أقسم بصلاة الفجر لأنها صلاة في مفتتح النهار وتجتمع لها ملائكة النهار وملائكة الليل كما قال تعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى ( الإسراء 78 ) أي تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار القراءة في صلاة الصبح وثالثها أنه فجر يوم معين وعلى هذا القول ذكروا وجوهاً الأول أنه فجر يوم النحر وذلك لأن أمر المناسك من خصائص ملة إبراهيم وكانت العرب لا تدع الحج وهو يوم عظيم يأتي الإنسان فيه بالقربان كأن الحاج يريد أن يتقرب بذبح نفسه فلما عجز عن ذلك فدى نفسه بذلك القربان كما قال تعالى وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ( الصافات 107 ) الثاني أراد فجر ذي الحجة لأنه قرن به قوله وَلَيالٍ عَشْرٍ ولأنه أول شهر هذه(31/147)
العبادة المعظمة الثالث المراد فجر المحرم أقسم به لأنه أول يوم من كل سنة وعند ذلك يحدث أموراً كثيرة مما يتكرر بالسنين كالحج والصوم والزكاة واستئناف الحساب بشهور الأهلة وفي الخبر أن أعظم الشهور عند الله المحرم وعن ابن عباس أنه قال فجر السنة هو المحرم فجعل جملة المحرم فجراً ورابعها أنه عنى بالفجر العيون التي تنفجر منها المياه وفيها حياة الخلق أما قوله وَلَيالٍ عَشْرٍ ففيه مسألتان
المسألة الأولى إنما جاءت منكرة من بين ما أقسم الله به لأنها ليال مخصوصة بفضائل لا تحصل في غيرها والتنكير دال على الفضيلة العظيمة
المسألة الثانية ذكروا فيه وجوهاً أحدها أنها عشر ذي الحجة لأنها أيام الاشتغال بهذا النسك في الجملة وفي الخبر ما من أيام العمل الصالح فيه أفضل من أيام العشر وثانيها أنها عشر المحرم من أوله إلى آخره وهو تنبيه على شرف تلك الأيام وفيها يوم عاشوراء ولصومه من الفضل ما ورد به الأخبار وثالثها أنها العشر الأواخر من شهر رمضان أقسم الله تعالى بها لشرفها وفيها ليلة القدر إذ في الخبر اطلبوها في العشر الأخير من رمضان وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل العشر الأخير من رمضان شد المئزر وأيقظ أهله أي كف عن الجماع وأمر أهله بالتهجد وأما قوله وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى الشفع والوتر هو الذي تسميه العرب الخسا والزكا والعامة الزوج والفرد قال يونس أهل العالية يقولون الوتر بالفتح في العدد والوتر بالكسر في الذحل وتميم تقول وتر بالكسر فيهما معاً وتقول أوترته أوتره إيتاراً أي جعلته وتراً ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ( من استجمر فليوتر ) والكسر قراءة الحسن والأعمش وابن عباس والفتح قراءة أهل المدينة وهي لغة حجازية
المسألة الثانية اضطرب المفسرون في تفسير الشفع والوتر وأكثروا فيه ونحن نرى ما هو الأقرب أحدها أن الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة وإنما أقسم الله بهما لشرفهما أما يوم عرفة فهو الذي عليه يدور أمر الحج كما في الحديث الحج عرفة وأما يوم النحر فيقع فيه القربان وأكثر أمور الحج من الطواف المفروض والحلق والرمي ويروى يوم النحر هو يوم الحج الأكبر فلما اختص هذان اليومان بهذه الفضائل لا جرم أقسم الله بهما وثانيها أن أيام التشريق أيام بقية أعمال الحج فهي أيام شريفة قال الله تعالى وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ( البقرة 203 ) والشفع هو يومان بعد يوم النحر الوتر هو اليوم الثالث ومن ذهب إلى هذا القول قال حمل الشفع والوتر على هذا أولى من حملهما على العيد وعرفة من وجهين الأول أن العيد وعرفة دخلا في العشر فوجب أن يكون المراد بالشفع والوتر غيرهما الثاني أن بعض أعمال الحج إنما يحصل في هذه الأيام فحمل اللفظ على هذا يفيد القسم بجميع أيام أعمال المناسك وثالثها الوتر آدم شفع بزوجته وفي رواية أخرى الشفع آدم وحواء والوتر هو الله تعالى ورابعها الوتر ما كان وتراً من الصلوات كالمغرب والشفع ما كان شفعاً منها روى عمران بن الحصين عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( هي الصلوات منها شفع ومنها وتر ) وإنما أقسم الله بها لأن الصلاة تالية للإيمان ولا يخفى قدرها ومحلها من العبادات وخامسها الشفع هو الخلق كله لقوله تعالى وَمِن كُلّ شَى ْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ( الذاريات 49 ) وقوله وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْواجاً ( النبأ 8 ) والوتر هو الله تعالى وقال بعض المتكلمين لا يصح أن يقال الوتر هو الله لوجوه الأول أنا بينا أن قوله وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ تقديره(31/148)
ورب الشفع والوتر فيجب أن يراد بالوتر المربوب فبطل ما قالوه الثاني أن الله تعالى لا يذكر مع غيره على هذا الوجه بل يعظم ذكره حتى يتميز من غيره وروي أن عليه الصلاة والسلام سمع من يقول الله ورسوله فنهاه وقال ( قل الله ثم رسوله ) قالوا وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إن الله وتر يحب الوتر ) ليس بمقطوع به وسادسها أن شيئاً من المخلوقات لا ينفك عن كونه شفعاً ووتراً فكأنه يقال أقسم برب الفرد والزوج من خلق فدخل كل الخلق تحته ونظيره قوله فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ ( الحاقة 39 38 ) وسابعها الشفع درجات الجنة وهي ثمانية والوتر دركات النار وهي سبعة وثامنها الشفع صفات الخلق كالعلم والجهل والقدرة والعجز والإرادة والكراهية والحياة والموت أما الوتر فهو صفة الحق وجود بلا عدم حياة بلا موت علم بلا جهل قدرة بلا عجز عز بلا ذل وتاسعها المراد بالشفع والوتر نفس العدد فكأنه أقسم بالحساب الذي لا بد للخلق منه وهو بمنزلة الكتاب والبيان الذي من الله به على العباد إذ قال عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ لَمْ يَعْلَمْ ( العلق 5 4 ) وقال عَلَّمَهُ البَيَانَ ( الرحمن 4 ) وكذلك بالحساب يعرف مواقيت العبادات والأيام والشهور قال تعالى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( الرحمن 5 ) وقال لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقّ ( يونس 5 ) وعاشرها قال مقاتل الشفع هو الأيام والليالي والوتر هو اليوم الذي لا ليل بعده وهو يوم القيامة الحادي عشر الشفع كل نبي له اسمان مثل محمد وأحمد والمسيح وعيسى ويونس وذي النون والوتر كل نبي له اسم واحد مثل آدم ونوح وإبراهيم الثاني عشر الشفع آدم وحواء والوتر مريم الثالث عشر الشفع العيون الإثنتا عشرة التي فجرها الله تعالى لموسى عليه السلام والوتر الآيات التسع التي أوتى موسى في قوله وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ ( الإسراء 101 ) الرابع عشر الشفع أيام عاد والوتر لياليهم لقوله تعالى سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَة َ أَيَّامٍ حُسُوماً ( الحاقة 7 ) الخامس عشر الشفع البروج الإثنا عشر لقوله تعالى جَعَلَ فِى السَّمَاء بُرُوجاً ( الفرقان 61 ) والوتر الكواكب السبعة السادس عشر الشفع الشهر الذي يتم ثلاثين يوماً والوتر الشهر الذي يتم تسعة وعشرين يوماً السابع عشر الشفع الأعضاء والوتر القلب قال تعالى مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ ( الأحزاب 4 ) الثامن عشر الشفع الشفتان والوتر اللسان قال تعالى وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ ( البلد 9 ) التاسع عشر الشفع السجدتان والوتر الركوع العشرون الشفع أبواب الجنة لأنها ثمانية والوتر أبواب النار لأنها سبعة واعلم أن الذي يدل عليه الظاهر أن الشفع والوتر أمران شريفان أقسم الله تعالى بهما وكل هذه الوجوه التي ذكرناها محتمل والظاهر لا إشعار له بشيء من هذه الأشياء على التعيين فإن ثبت في شيء منها خبر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو إجماع من أهل التأويل حكم بأنه هو المراد وإن لم يثبت فيجب أن يكون الكلام على طريقة الجواز لا على وجه القطع ولقائل أن يقول أيضاً إني أحمل الكلام على الكل لأن الألف واللام في الشفع والوتر تفيد العموم أما قوله تعالى وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى إِذَا يَسْرِ إذا يمضي كما قال وَالَّيْلِ إِذَا أَدْبَرَ ( المدثر 33 ) وقوله وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ( التكوير 27 ) وسراها ومضيها وانقضاؤها أو يقال سراها هو السير فيها وقال قتادة إِذَا يَسْرِ أي إذا جاء وأقبل
المسألة الثانية أكثر المفسرين على أنه ليس المراد منه ليلة مخصوصة بل العموم بدليل قوله وَالَّيْلِ إِذَا أَدْبَرَ وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ولأن نعمة الله بتعاقب الليل والنهار واختلاف مقاديرهما على(31/149)
الخلق عظيمة فصح أن يقسم به لأن فيه تنبيهاً على أن تعاقبهما بتدبيره مدبر حكيم عالم بجميع المعلومات وقال مقاتل هلي ليلة المزدلفة فقوله إِذَا يَسْرِ أي إذا يسار فيه كما يقال ليل نائم لوقوع النوم فيه وليل ساهر لوقوع السهر فيه وهي ليلة يقع السري في أولها عند الدفع من عرفات إلى المزدلفة وفي آخرها كما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقدم ضعفة أهله في هذه الليل وإنما يجوز ذلك عند الشافعي رحمه الله بعد نصف الليل
المسألة الثالثة قال الزجاج قرىء إِذَا يَسْرِ بإثبات الياء ثم قال وحذفها أحب إلي لأنها فاصلة والفواصل تحذف منها الياءات ويدل عليها الكسرات قال الفراء والعرب قد تحذف الياء وتكتفي بكسرة ما قبلها وأنشد كفاك كف ما يبقى درهما
جوداً وأخرى تعط بالسيف الدما
فإذا جاز هذا في غير الفاضلة فهو في الفاصلة أولى فإن قيل لم كان الاختيار أن تحذف الياء إذا كان في فاصلة أو قافية والحرف من نفس الكلمة فوجب أن يثبت كما أثبت سائر الحروف ولم يحذف أجاب أبو علي فقال القول في ذلك أن الفواصل والقوافي موضع وقف والوقف موضع تغيير فلما كان الوقف تغير فيه الحروف الصحيحة بالتضعيف والإسكان وروم الحركة فيها غيرت هذه الحروف المشابهة للزيادة بالحذف وأما من أثبت الياء في يسري في الوصل والوقف فإنه يقول الفعل لا يحذف منه في الوقف كما يحذف في الأسماء نحو قاض وغاز تقول هو يقضي وأنا أقضي فتثبت الياء ولا تحذف
وقوله تعالى هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ فيه مسألتان
المسألة الأولى الحجر العقل سمي به لأنه يمنع عن الوقوع فيما لا ينبغي كما سمي عقلاً ونهية لأنه يعقل ويمنع وحصاة من الإحصاء وهو الضبط قال الفراء والعرب تقول إنه لذو حجر إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها كأنه أخذ من قولهم حجرت على الرجل وعلى هذا سمي العقل حجراً لأنه يمنع من القبيح من الحجر وهو المنع من الشيء بالتضييق فيه
المسألة الثانية قوله هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ استفهام والمراد منه التأكيد كمن ذكر حجة باهرة ثم قال هل فيما ذكرته حجة والمعنى أن من كان ذا لب علم أن ما أقسم الله تعالى به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه قال القاضي وهذه الآية تدل على ما قلنا أن القسم واقع برب هذه الأمور لأن هذه الآية دالة على أن هذا مبالغة في القسم ومعلوم أن المبالغة في القسم لا تحصل إلا في القسم بالله ولأن النهي قد ورد بأن يحلف العاقل بهذه الأمور(31/150)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِى الاٌّ وْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْاْ فِى الْبِلَادِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ
واعلم أن في جواب القسم وجهين الأول أن جواب القسم هو قوله إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ وما بين الموضعين معترض بينهما الثاني قال صاحب ( الكشاف ) المقسم عليه محذوف وهو لنعذبن الكافرين يدل عليه قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إلى قوله فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ وهذا أولى من الوجه الأول لأنه لما لم يتعين المقسم عليه ذهب الوهم إلى كل مذهب فكان أدخل في التخويف فلما جاء بعده بيان عذاب الكافرين دل على أن المقسم عليه أولاً هو ذلك
أما قوله تعالى أَلَمْ تَرَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى ألم تر ألم تعلم لأن ذلك مما لا يصح أن يراه الرسول وإنما أطلق لفظ الرؤية ههنا على العلم وذلك لأن أخبار عاد وثمود وفرعون كانت منقولة بالتواترا أما عاد وثمود فقد كانا في بلاد العرب وأما فرعون فقد كانوا يسمعونه من أهل الكتاب وبلاد فرعون أيضاً متصلة بأرض العرب وخبر التواتر يفيد العلم الضروري والعلم الضروري جار مجرى الرؤية في القوة والجلاء والبعد عن الشبهة فلذلك قال أَلَمْ تَرَ بمعنى ألم تعلم
المسألة الثانية قوله أَلَمْ تَرَ وإن كان في الظاهر خطاباً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لكنه عام لكل من علم ذلك والمقصود من ذكر الله تعالى حكايتهم أن يكون زجراً للكفار عن الإقامة على مثل ما أدى إلى هلاك عاد وثمود وفرعون وقومه وليكون بعثاً للمؤمنين على الثبات على الإيمان
أما قوله تعالى بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى ذكر ههنا قصة ثلاث فرق من الكفار المتقدمين وهي عاد وثمود وقوم فرعون على سبيل الإجمال حيث قال فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ولم يبين كيفية ذلك العذاب وذكر في سورة الحاقة بيان ما أبهم في هذه السورة فقال فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَة ِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ إلى قوله وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَة ِ ( الحاقة 9 ) الآية
المسألة الثانية عاد هو عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح ثم إنهم جعلوا لفظة عاد اسماً للقبيلة كما يقال لبني هاشم هاشم ولبني تميم تميم ثم قالوا للمتقدمين من هذه القبيلة عاد الأولى قال تعالى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاْولَى ( النجم 50 ) وللمتأخرين عاد الأخيرة وأما إرم فهو اسم لجد عاد وفي المراد منه في هذه الآية أقوال أحدها أن المتقدمين من قبيلة عاد كانوا يسمون بعاد الأولى فلذلك يسمون بإرم تسمية لهم باسم جدهم والثاني أن إرم اسم لبلدتهم التي كانوا فيها ثم قبل تلك المدينة هي الإسكندرية وقيل دمشق والثالث أن إرم أعلام قوم عاد كانوا يبنونها على هيئة المنارة وعلى هيئة القبور قال أبو الدقيش الأروم قبور عاد وأنشد
بها أروم كهوادي البخث(31/151)
ومن الناس من طعن في قول من قال إن إرم هي الإسكندرية أو دمشق قال لأن منازل عاد كانت بين عمان إلى حضرموت وهي بلاد الرمال والأحقاف كما قال وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالاْحْقَافِ ( الأحقاق 21 ) وأما الإسكندرية ودمشق فليستا من بلاد الرمال
المسألة الثالثة إرم لا تنصرف قبيلة كانت أو أرضاً للتعريف والتأنيث
المسألة الرابعة في قوله إِرَمَ وجهان وذلك لأنا إن جعلناه اسم القبيلة كان قوله إِرَمَ عطف بيان لعاد وإيذاناً بأنهم عاد الأولى القديمة وإن جعلناه اسم البلدة أو الأعلام كان التقدير بعاد أهل إرم ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامع كما في قوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) ويدل عليه قراءة ابن الزبير بعاد إرم على الإضافة
المسألة الخامسة قرأ الحسن بِعَادٍ إِرَمَ مفتوحين وقرىء بِعَادٍ إِرَمَ بسكون الراء على التخفيف كما قرىء بِوَرِقِكُمْ ( الكهف 19 ) وقرىء بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ بإضافة إِرَمَ إلى ذَاتِ الْعِمَادِ وقرىء بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ بدلاً من فعل ربك والتقدير ألم تر كيف فعل ربك بعاد جعل ذات العماد رميماً أما قوله ذَاتِ الْعِمَادِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في إعرابه وجهان وذلك لأنا إن جعلنا إِرَمَ اسم القبيلة فالمعنى أنهم كانوا بدويين يسكنون الأخبية والخيام والخبار لا بد فيها من العماد والعماد بمعنى العمود وقد يكون جمع العمد أو يكون المراد بذات العماد أنهم طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة وقيل ذات البناء الرفيع وإن جعلناه اسم البلد فالمعنى أنها ذات أساطين أي ذات أبنية مرفوعة على العمد وكانوا يعالجون الأعمدة فينصبونها ويبنون فوقها القصور قال تعالى في وصفهم أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءايَة ً تَعْبَثُونَ ( الشعراء 128 ) أي علامة وبناء رفيعاً
المسألة الثانية روي أنه كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال ابني مثلها فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أصناف الأشجار والأنهار فلما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوصل إلى جنة شداد فحمل ما قدر عليه مما كان هناك وبلغ خبره معاوية فاستحضره وقص عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له ثم التفت فأبصر ابن ( أبي ) قلابة فقال هذا والله هو ذلك الرجل
أما قوله الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَادِ فالضمير في مثلها إلى ماذا يعود فيه وجوه الأول لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا أي مثل عاد في البلاد في عظم الجثة وشدة القوة كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع وكان يحمل الصخرة العظيمة فيلقيها على الجمع فيهلكوا الثاني لم يخلق مثل مدينة شداد في جميع بلاد الدنيا وقرأ ابن الزبير لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا أي لم يخلق الله مثلها الثالث أن الكناية عائدة إلى العماد أي لم(31/152)
يخلق مثل تلك الأساطين في البلاد وعلى هذا فالعماد جمع عمد والمقصود من هذه الحكاية زجر الكفار فإنه تعالى بين أنه أهلكهم بما كفروا وكذبوا الرسل مع الذي اختصوا به من هذه الوجوه فلأن تكونوا خائفين من مثل ذلك أيها الكفار إذا أقمتم على كفركم مع ضعفكم كان أولى أما قوله تعالى وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ فقال الليث الجواب قطعك الشيء كما يجاب الجيب يقال جاب يجوب جوباً وزاد الفراء يجيب جيباً ويقال جبت البلاد جوباً أي جلت فيها وقطعتها قال ابن عباس يجوبون البلاد فيجعلون منها بيوتاً وأحواضاً وما أرادوا من الأبنية كما قال وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً ( الأعراف 74 ) قيل أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة وقوله بِالْوَادِ قال مقاتل بوادي القرى
وأما قوله تعالى وَفِرْعَوْنَ ذِى الاْوْتَادِ فالاستقصاء فيه مذكور في سورة ص ونقول الآن فيه وجوه أحدها أنه سمي ذا الأوتاد لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا وثانيها أنه كان يعذب الناس ويشدهم بها إلى أن يموتوا روى عن أبي هريرة أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد وجعل على صدرها رحا واستقبل بها عين الشمس فرفعت رأسها إلى السماء وقالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ففرج الله عن بيتها في الجنة فرأته وثالثها ذي الأوتاد أي ذي الملك والرجال كما قال الشاعر
في ظل ملك راسخ الأوتاد
ورابعها روى قتادة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن تلك الأوتاد كانت ملاعب يلعبون تحتها لأجله واعلم أن الكلام محتمل لكل ذلك فبين الله تعالى لرسوله أن كل ذلك مما تعظم به الشدة والقول والكثرة لم يمنع من ورود هلاك عظيم بهم ولذلك قال تعالى الَّذِينَ طَغَوْاْ فِى الْبِلَادِ وفيه مسائل
المسألة الأولى يحتمل أنه يرجع الضمير إلى فرعون خاصة لأنه يليه ويحتمل أن يرجع إلى جميع من تقدم ذكرهم وهذا هو الأقرب
المسألة الثانية أحسن الوجوه في إعرابه أن يكون في محل النصب على الذم ويجوز أن يكون مرفوعاً على ( الإخبار أي ) هم الذين طغوا أو مجروراً على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون
المسألة الثالثة طَغَوْاْ فِى الْبِلَادِ أي عملوا المعاصي وتجبروا على أنبياء الله والمؤمنين ثم فسر طغيانهم بقوله تعالى فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ ضد الصلاح فكما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر فالفساد يتناول جميع أقسام الإثم فمن عمل بغير أمر الله وحكم في عباده بالظلم فهو مفسد ثم قال تعالى فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ واعلم أنه يقال صب عليه السوط وغشاه وقنعه وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به قال القاضي وشبهه بصب السوط الذي يتواتر على المضروب فيهلكه وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال إن عند الله أسواطاً كثيرة فأخذهم بسوط منها فإن قيل أليس أن قوله تعالى وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا دَابَّة ٍ ( النحل 61 ) يقتضي تأخير العذاب إلى الآخرة فكيف الجمع بين هاتين الآيتين قلنا هذه الآية تقتضي تأخير تمام الجزاء إلى الآخرة والواقع في الدنيا شيء من ذلك ومقدمة من مقدماته ثم قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ تقدم عند قوله كَانَتْ مِرْصَاداً ( النبأ 21 )(31/153)
ونقول المرصاد المكان الذي يترقب فيه الراصد مفعال من رصده كالميقات من وقته وهذا مثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه وعن بعض العرب أنه قيل له أين ربك فقال بالمرصاد وللمفسرين فيه وجوه أحدها قال الحسن يرصد أعمال بني آدم وثانيها قال الفراء إليه المصير وهذان الوجهان عامان للمؤمنين والكافرين ومن المفسرين من يخص هذه الآية إما بوعيد الكفار أو بوعيد العصاة أما الأول فقال الزجاج يرصد من كفر به وعدل عن طاعته بالعذاب وأما الثاني فقال الضحاك يرصد لأهل الظلم والمعصية وهذه الوجوه متقاربة
فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَهَانَنِ
اعلم أن قوله فَأَمَّا الإِنسَانُ متعلق بقوله إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( الفجر 14 ) كأنه قيل إنه تعالى لبالمرصاد في الآخرة فلا يريد إلا السعي للآخرة فأما الإنسان فإنه لا يهمه إلا الدنيا ولذاته وشهواتها فإن وجد الراحة في الدنيا يقول ربي أكرمني وإن لم يجد هذه الراحة يقول ربي أهانني ونظيره قوله تعالى في صفة الكفار يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاْخِرَة ِ هُمْ غَافِلُونَ ( الروم 7 ) وقال وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَة ٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ( الحج 11 ) وهذا خطأ من وجوه أحدها أن سعادة الدنيا وشقاوتها في مقابلة ما في الآخرة من السعادة والشقاوة كالقطرة في البحر فالمتنعم في الدنيا لو كان شقياً في الآخرة فذاك التنعم ليس بسعادة والمتألم المحتاج في الدنيا لو كان سعيداً في الآخرة فذاك ليس بإهانة ولا شقاوة إذ المتنعم في الدنيا لا يجوز له أن يحكم على نفسه بالسعادة والكرامة والمتألم في الدنيا لا يجوز له أن يحكم على نفسه بالشقاوة والهوان وثانيها أن حصول النعمة في الدنيا وحصول الآلام في الدنيا لا يدل على الاستحقاق فإنه تعالى كثيراً ما يوسع على العصاة والكفرة إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وإما يحكم المصلحة وإما على سبيل الاستدراج والمكر وقد يضيق على الصديقين لأضداد ما ذكرنا فلا ينبغي للعبد أن يظن أن ذلك لمجازاة وثالثها أن المتنعم لا ينبغي أن يغفل عن العاقبة فالأمور بخواتيمها والفقير والمحتاج لا ينبغي أن يغفل عما لله عليه من النعم التي لا حد لها من سلامة البدن والعقل والدين ودفع الآفات والآلام التي لا حد لها ولا حصر فلا ينبغي أن يقضي على نفسه بالإهانة مطلقاً ورابعها أن النفس قد ألفت هذه المحسوسات فمتى حصلت هذه المشتهيات واللذات صعب عليها الانقطاع عنها وعدم الاستغراق فيها أما إذا لم يحصل للإنسان شيء من هذه المحسوسات رجعت شاءت أم أبت إلى الله واشتغلت بعبودية الله فكان وجدان الدنيا سبباً للحرمان من الله فكيف يجوز القضاء بالشقاوة والإهانة عند عدم الدنيا مع أن ذلك أعظم الوسائل إلى أعظم السعادات وخامسها أن كثرة الممارسة سبب لتأكد المحبة وتأكد المحبة سبب لتأكد الألم عند الفراق فكل من كان(31/154)
وجدانه للدنيا أكثر وأدوم كانت محبته لها أشد فكان تألمه بمفارقتها عند الموت أشد والذي بالضد فبالضد فإذن حصول لذات الدنيا سبب للألم الشديد بعد الموت وعدم حصولها سبب للسعادة الشديدة بعد الموت فكيف يقال إن وجدان الدنيا سعادة وفقدانها شقاوة
واعلم أن هذه الوجوه إنما تصح مع القول بإثبات البعث روحانياً كان أو جسمانياً فأما من ينكر البعث من جميع الوجوه فلا يستقيم على قوله شيء من هذه الوجوه بل يلزمه القطع بأن وجدان الدنيا هو السعادة وفقدانها هو الشقاوة ولكن فيه دقيقة أخرى وهي أنه ربما كان وجدان الدنيا الكثيرة سبباً للقتل والنهب والوقوع في أنواع العذاب فربما كان الحرمان سبباً لبقاء السلامة فعلى هذا التقدير لا يجوز أيضاً لمنكر البعث من جميع الوجوه أن يقضي على صاحب الدنيا بالسعادة وعلى فاقدها بالهوان فربما ينكشف له أن الحال بعد ذلك بالضد وفي الآية سؤالات
السؤال الأول قوله فَأَمَّا الإِنسَانُ المراد منه شخصين معين أو الجنس الجواب فيه قولان الأول أن المراد منه شخصين معين فروي عن ابن عباس أنه عتبة بن ربيعة وأبو حذيفة بن المغيرة وقال الكلبي هو أبي بن خلف وقال مقاتل نزلت في أمية بن خلف والقول الثاني أن المراد من كان موصوفاً بهذا الوصف وهو الكافر الجاحد ليوم الجزاء
السؤال الثاني كيف سمي بسط الرزق وتقديره ابتلاء الجواب لأن كل واحد منهما اختبار للعبد فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع فالحكمة فيهما واحدة ونحوه قوله تعالى وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَة ً ( الأنبياء 35 )
السؤال الثالث لما قال فَأَكْرَمَهُ فقد صحح أنه أكرمه وأثبت ذلك ثم إنه لما حكى عنه أنه قال رَبّى أَكْرَمَنِ ذمه عليه فكيف الجمع بينهما والجواب لأن كلمة الإنكار هي قوله كَلاَّ فلم لا يجوز أن يقال إنها مختصة بقوله رَبّى أَهَانَنِ سلمنا أن الإنكار عائد إليهما معاً ولكن فيه وجوه ثلاثة أحدها أنه اعتقد حصول الاستحقاق في ذلك الإكرام الثاني أن نعم الله تعالى كانت حاصلة قبل وجدان المال وهي نعمة سلامة البدن والعقل والدين فلما لم يعترف بالنعمة إلا عند وجدان المال علمنا أنه ليس غرضه من ذلك شكر نعمة الله بل التصلف بالدنيا والتكثر بالأموال والأولاد الثالث أن تصلفه بنعمة الدنيا وإعراضه عن ذكر نعمة الآخرة يدل على كونه منكراً للبعث فلا جرم استحق الذم على ما حكى الله تعالى ذلك فقال وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَاذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً إلى قوله أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ( الكهف 37 35 )
السؤال الرابع لم قال في القسم الأول إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وفي القسم الثاني وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فذكر الأول بالفاء والثاني بالواو والجواب لأن رحمة الله سابقة على غضبه وابتلاءه بالنعم سابق على ابتلائه بإنزال الآلام فالفاء تدل على كثرة ذلك القسم وقبله الثاني على ما قال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( النحل 18 )
السؤال الخامس لما قال في القسم الأول فَأَكْرَمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ يجب أن يقول في القسم الثاني فأهانه فيقول رَبّى أَهَانَنِ لكنه لم يقل ذلك والجواب لأنه في قوله أَكْرَمَنِ(31/155)
صادق وفي قوله أَهَانَنِ غير صادق فهو ظن قلة الدنيا وتقتيرها إهانة وهذا جهل واعتقاد فاسد فكيف يحكي الله سبحانه ذلك عنه
السؤال السادس ما معنى قوله فقدر عليه رزقه الجواب ضيق عليه بأن جعله على مقدار البلغة وقرىء فقدر على التخفيف وبالتشديد أي قتر وأكرمن وأهانن بسكون النون في الوقف فيمن ترك الياء في الدرج مكتفياً منها بالكسرة
كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم تلك الشبهة قال كَلاَّ وهو ردع للإنسان عن تلك المقالة قال ابن عباس المعنى لم ابتله بالغنى لكرامته علي ولم أبتله بالفقر لهوانه علي بل ذلك إما على مذهب أهل السنة فمن محض القضاء أو القدر والمشيئة والحكم الذي تنزه عن التعليل بالعلل وإما على مذهب المعتزلة فبسبب مصالح خفية لا يطلع عليها إلا هو فقد يوسع على الكافر لا لكرامته ويقتر على المؤمن لا لهوانه ثم إنه تعالى لما حكى من أقوالهم تلك الشبهة فكأنه قال بل لهم فعل هو شر من هذا القول وهو أن الله تعالى يكرمهم بكثرة المال فلا يؤدون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم فقال بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو يكرمون وما بعده بالياء المنقوطة من تحت وذلك أنه لما تقدم ذكر الإنسان وكان يراد به الجنس والكثرة وهو على لفظة الغيبة حمل يكرمون ويحبون عليه ومن قرأ بالتاء فالتقدير قل لهم يا محمد ذلك
المسألة الثانية قال مقاتل كان قدامة بن مظعون يتيماً في حجر أمية بن خلف فكان يدفعه عن حقه
واعلم أن ترك إكرام اليتيم على وجوه أحدها ترك بره وإليه الإشارة بقوله الْيَتِيمَ وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ والثاني دفعه عن حقه الثابت له في الميراث وأكل ماله وإليه الإشارة بقوله تعالى وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً والثالث أخذ ماله منه وإليه الإشارة بقوله وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً أي تأخذون أموال اليتامى وتضمونها إلى أموالكم أما قوله وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ قال مقاتل ولا تطعمون مسكيناً والمعنى لا تأمرون بإطعامه كقوله تعالى إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( الحاقة 34 33 ) ومن قرأ ولا تحاضون أراد تتحاضون فحذف تاء تتفاعلون والمعنى يَحُضُّ بَّعْضُكُم بَعْضاً وَفِى لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلاَ تَحَاضُّونَ بضم التاء من المحاضة
أما قوله وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً ففيه مسائل(31/156)
المسألة الأولى قالوا أصل التراث وراث والتاء تبدل من الواو المضمومة نحو تجاه ووجاه من واجهت
المسألة الثانية قال الليث اللم الجمع الشديد ومنه كتيبة ملمومة وحجر ملموم والآكل يلم الثريد فيجعله لقماً ثم يأكله ويقال لممت ما على الخوان ألمه أي أكلته أجمع فمعنى اللم في اللغة الجمع وأما التفسير ففيه وجوه أحدها قال الواحدي والمفسرون يقولون في قوله أَكْلاً لَّمّاً أي شديداً وهو حل معنى وليس بتفسير وتفسيره أن اللم مصدر جعل نعتاً للأكل والمراد به الفاعل أي آكلاً لامّاً أي جائعاً كأنهم يستوعبونه بالأكل قال الزجاج كانوا يأكلون أموال اليتامى إسرافاً وبداراً فقال الله وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً أي تراث اليتامى لماً أي تلمون جميعه وقال الحسن أي يأكلون نصيبهم ونصيب صاحبهم فيجمعون نصيب غيرهم إلى نصيبهم وثانيها أن المال الذي يبقى من الميت بعضه حلال وبعضه شبهة وبعضه حرام فالوارث يلم الكل أي يضم البعض إلى البعض ويأخذ الكل ويأكله وثالثها قال صاحب ( الكشاف ) ويجوز أن يكون الذم متوجهاً إلى الوارث الذي ظفر بالمال سهلاً مهلاً من غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلاً لماً واسعاً جامعاً بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه كما يفعله الوراث البطالون
أما قوله تعالى وَّيُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً فاعلم أن الجم هو الكثرة يقال جم الشيء يجم جموماً يقال ذلك في المال وغيره فهو شيء جم وجام وقال أبو عمرو جم يجم أي يكثر والمعنى ويحبون المال حباً كثيراً شديداً فبين أن حرصهم على الدنيا فقط وأنهم عادلون عن أمر الآخرة
كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِى ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى
اعلم أن قوله كَلاَّ ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم أي لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا في الحرص على الدنيا وقصر الهمة والجهاد على تحصيلها والاتكال عليها وترك المواساة منها وجمعها من حيث تتهيأ من حل أو حرام وتوهم أن لا حساب ولا جزاء فإن من كان هذا حاله يندم حين لا تنفعه الندامة ويتمنى أن لو كان أفنى عمره في التقرب بالأعمال الصالحة والمواساة من المال إلى الله تعالى ثم بين أنه إذا جاء يوم موصوف بصفات ثلاثة فإنه يحصل ذلك التمني وتلك الندامة
الصفة الأولى من صفات ذلك اليوم قوله إِذَا دُكَّتِ الاْرْضُ دَكّاً دَكّاً قال الخليل الدك كسر الحائط والجبل والدكداك رمل متلبد ورجل مدك شديد الوطء على الأرض وقال المبرد الدك حط المرتفع بالبسط واندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره وناقة دكاء إذا كانت كذلك ومنه الدكان لاستوائه في الانفراش فمعنى الدك على قول الخليل كسر كل شيء على وجه الأرض من جبل أو شجر حين زلزلت فلم(31/157)
يبق على ظهرها شيء وعلى قول المبرد معناه أنها استوت في الانفراش فذهبت دورها وقصورها وسائر أبنيتها حتى تصير كالصحرة الملساء وهذا معنى قول ابن عباس تمد الأرض يوم القيامة
واعلم أن التكرار في قوله دَكّاً دَكّاً معناه دكاً بعد دك كقولك حسبته باباً باباً وعلمته حرفاً حرفاً أي كرر عليها الدك حتى صارت هباءً منثوراً واعلم أن هذا التدكدك لا بد وأن يكون متأخراً عن الزلزلة فإذا زلزلت الأرض زلزلة بعد زلزلة وحركت تحريكاً بعد تحريك انكسرت الجبال التي عليها وانهدمت التلال وامتلأت الأغوار وصارت ملساء وذلك عند انقضاض الدنيا وقد قال تعالى يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَة ُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَة ُ ( النازعات 7 6 ) وقال وَحُمِلَتِ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّة ً واحِدَة ً ( الحاقة 14 ) وقال إِذَا رُجَّتِ الاْرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً
الصفة الثانية من صفات ذلك اليوم قوله وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً
واعلم أنه ثبت بالدليل العقلي أن الحركة على الله تعالى محال لأن كل ما كان كذلك كان جسماً والجسم يستحيل أن يكون أزلياً فلا بد فيه من التأويل وهو أن هذا من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ثم ذلك المضاف ما هو فيه وجوه أحدها وجاء أمر ربك بالمحاسبة والمجازاة وثانيها وجاء قهر ربك كما يقال جاءتنا بنو أمية أي قهرهم وثالثها وجاء جلائل آيات ربك لأن هذا يكون يوم القيامة وفي ذلك اليوم تظهر العظائم وجلائل الآيات فجعل مجيئها مجيئاً له تفخيماً لشأن تلك الآيات ورابعها وجاء ظهور ربك وذلك لأن معرفة الله تصير في ذلك اليوم ضرورية فصار ذلك كظهوره وتجليه للخلق فقيل وَجَاء رَبُّكَ أي زالت الشبهة وارتفعت الشكوك خامسها أن هذا تمثيل لظهور آيات الله وتبيين آثار قهره وسلطانه مثلت حاله في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه فإنه يظهر بمجرد حضوره من آثار الهيبة والسياسة مالا يظهر بحضور عساكره كلها وسادسها أن الرب هو المربى ولعل ملكاً هو أعظم الملائكة هو مربي للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) جاء فكان هو المراد من قوله وَجَاء رَبُّكَ
أما قوله وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً فالمعنى أنه تنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس
الصفة الثالثة من صفات ذلك اليوم قوله تعالى وَجِىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ونظيره قوله تعالى وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ( الشعراء 91 ) قال جماعة من المفسرين جيء بها يوم القيامة مزمومة بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها حتى تنصب عن يسار العرش فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع قال الأصوليون ومعلوم أنها لا تنفك عن مكانها فالمراد وَبُرّزَتِ أي ظهرت حتى رآها الخلق وعلم الكافر أن مصيره إليها ثم قال يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ واعلم أن تقدير الكلام إذا دكت الأرض وحصل كذا وكذا فيومئذ يتذكر الإنسان وفي تذكره وجوه الأول أنه يتذكر ما فرط فيه لأنه حين كان في الدنيا كانت همته تحصيل الدنيا ثم إنه في الآخرة يتذكر أن ذلك كان ضلالاً وكان الواجب عليه أن تكون همته تحصيل الآخرة الثاني يتذكر أي يتعظ والمعنى أنه ما كان يتعظ في الدنيا فيصير في الآخرة متعظاً فيقول فَقَالُواْ يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَاتِ رَبّنَا ( الأنعام 27 ) الثالث يتذكر يتوب وهو مروي عن الحسن ثم قال تعالى وَأَنَّى لَهُ الذّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ( الدخان 13 )(31/158)
واعلم أن بين قوله يَتَذَكَّرُ وبين قوله وَأَنَّى لَهُ الذّكْرَى تناقضاً فلا بد من إضمار المضاف والمعنى ومن أين له منفعة الذكرى
ويتفرع على هذه الآية مسألة أصوليه وهي أن قبول التوبة عندنا غير واجب على الله عقلاً وقالت المعتزلة هو واجب فنقول الدليل على قولنا أن الآية دلت ههنا على أن الإنسان يعلم في الآخرة أن الذي يعمله في الدنيا لم يكن أصلح له وإن الذي تركه كان أصلح له ومهما عرف ذلك لا بد وأن يندم عليه وإذا حصل الندم فقد حصلت التوبة ثم إنه تعالى نفى كون تلك التوبة نافعة بقوله وَأَنَّى لَهُ الذّكْرَى فعلمنا أن التوبة لا يجب عقلاً قبولها فإن قيل القوم إنما ندموا على أفعالهم لا لوجه قبحها بل لترتب العقاب عليها فلا جرم ما كانت التوبة صحيحة قلنا القوم لما علموا أن الندم على القبيح لا بد وأن يكون لوجه قبحه حتى يكون نافعاً وجب أن يكون ندمهم واقعاً على هذا الوجه فحينئذ يكونون آتين بالتوبة الصحيحة مع عدم القبول فصح قولنا
يَقُولُ يالَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى
ثم شرح تعالى ما يقوله هذا الإنسان فقال تعالى يَقُولُ يالَيْتَنِى لَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى وفيه مسألتان
المسألة الأولى للآية تأويلات
أحدهما لَدَى َّ وَقَدْ قَدَّمْتُ في الدنيا التي كانت حياتي فيها منقطعة لحياتي هذه التي هي دائمة غير منقطعة وإنما قال لِحَيَاتِى ولم يقل لهذه الحياة على معنى أن الحياة كأنها ليست إلا الحياة في الدار الآخرة قال تعالى وَإِنَّ الدَّارَ الاْخِرَة َ لَهِى َ الْحَيَوَانُ ( العنكبوت 64 ) أي لهي الحياة
وثانيها أنه تعالى قال في حق الكافر وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ ( إبراهيم 17 ) وقال فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى ( طه 74 ) وقال وَيَتَجَنَّبُهَا الاْشْقَى الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى ( الأعلى 13 11 ) فهذه الآية دلت على أن أهل النار في الآخرة كأنه لا حياة لهم والمعنى فياليتني قدمت عملاً يوجب نجاتي من النار حتى أكون من الأحياء
وثالثها أن يكون المعنى فياليتني قدمت وقت حياتي في الدنيا كقولك جئته لعشر ليال خلون من رجب
المسألة الثانية استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الاختيار كان في أيديهم ومعلقاً بقصدهم وإرادتهم وأنهم ما كانوا محجوبين عن الطاعات مجترئين على المعاصي وجوابه أن فعلهم كان معلقاً بقصدهم فقصدهم إن كان معلقاً بقصد آخر لزم التسلسل وإن كان معلقاً بقصد الله فقد بطل الاعتزال ثم قال تعالى
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ
وفيه مسألتان(31/159)
المسألة الأولى قراءة العامة يعذب ويوثق بكسر العين فيهما قال مقاتل معناه فيومئذ لا يعذب عذاب الله أحد من الخلق ولا يوثق وثاق الله أحد من الخلق والمعنى لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب والوثاق قال أبو عبيدة هذا التفسير ضعيف لأنه ليس يوم القيامة معذب سوى الله فكيف يقال لا يعذب أحد في مثل عذابه وأجيب عن هذا الاعتراض من وجوه الأول أن التقدير لا يعذب أحد في الدنيا عذاب الله الكافر يومئذ ولا يوثق أحد في الدنيا وثاق الله الكافر يومئذ والمعنى مثل عذابه ووثاقه في الشدة والمبالغة الثاني أن المعنى لا يتولى يوم القيامة عذاب الله أحد أي الأمر يومئذ أمره ولا أمر لغيره الثالث وهو قول أبي علي الفارسي أن يكون التقدير لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه فالضمير في عذابه عائد إلى الإنسان وقرأ الكسائي لا يعذب ولا يوثق بفتح العين فيها واختاره أبو عبيدة وعن أبي عمرو أنه رجع إليها في آخر عمره لما روى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قرأهما بالفتح والضمير للإنسان الموصوف وقيل هو أبي بن خلف ولهذه القراءة تفسيران أحدهما لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه لتناهيه في كفره وفساده والثاني أنه لا يعذب أحد من الناس عذاب الكافر كقوله وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( فاطر 18 ) قال الواحدي وهذه أولى الأقوال
المسألة الثانية العذاب في القراءتين بمعنى التعذيب والوثاق بمعنى الإيثاق كالعطاء بمعنى الإعطاء في قوله أكفراً بعد رد الموت عن
وبعد عدائك المائة الرتاعا
ياأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ
اعلم أنه تعالى لما وصف حال من اطمأن إلى الدنيا وصف حال من أطمأن إلى معرفته وعبوديته فقال وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ وفيه مسائل
المسألة الأولى تقدير هذا الكلام يقول الله للمؤمن وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ فإما أن يكلمه إكراماً له كما كلم موسى عليه السلام أو على لسان ملك وقال القفال هذا وإن كان أمراً في الظاهر لكنه خبر في المعنى والتقدير أن النفس إذا كانت مطمئنة رجعت إلى الله وقال الله لها فَادْخُلِى فِى عِبَادِى وَادْخُلِى جَنَّتِى ( الفجر 30 29 ) قال ومجيء الأمر بمعنى الخبر كثير في كلامهم كقولهم إذا لم تستح فاصنع ما شئت
المسألة الثانية الاطمئنان هو الاستقرار والثبات وفي كيفية هذا الاستقرار وجوه أحدها أن تكون متيقنة بالحق فلا يخالجها شك وهو المراد من قوله وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( البقرة 260 ) وثانيها النفس الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن ويشهد لهذا التفسير قراءة أبي بن كعب يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة وهذه الخاصة قد تحصل عند الموت عند سماع قوله أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّة ِ ( فصلت 30 ) وتحصل عند البعث وعند دخول الجنة لا محالة وثالثها وهو تأويل مطابق للحقائق(31/160)
العقلية فنقول القرآن والبرهان تطابقا على أن هذا الاطمئنان لا يحصل إلا بذكر الله أما القرآن فقوله أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) وأما البرهان فمن وجهين الأول أن القوة العاقلة إذا أخذت تترقى في سلسلة الأسباب والمسببات فكلما وصل إلى سبب يكون هو ممكناً لذاته طلب العقل له سبباً آخر فلم يقف العقل عنده بل لا يزال ينتقل من كل شيء إلى ما هو أعلى منه حتى ينتهي في ذلك الترقي إلى واجب الوجود لذاته مقطع الحاجات ومنتهى الضرورات فلما وقفت الحاجة دونه وقف العقل عنده واطمأن إليه ولم ينتقل عنه إلى غيره فإذاً كلما كانت القوة العاقلة ناظرة إلى شيء من الممكنات ملتفة إليه استحال أن تستقر عنده وإذا نظرت إلى جلال واجب الوجود وعرفت أن الكل منه استحال أن تنتقل عنه فثبت أن الاطمئنان لا يحصل إلا بذكر واجب الوجود الثاني أن حاجات العبد غير متناهية وكل ما سوى الله تعالى فهو متناهي البقاء والقوة إلا بامداد الله وغير المتناهي لا يصير مجبوراً بالمتناهي فلا بد في مقابلة حاجة العبد التي لا نهاية لها من كمال الله الذي لا نهاية له حتى يحصل الاستقرار فثبت أن كل من آثر معرفة الله لا لشيء غير الله فهو غير مطمئن وليست نفسه نفساً مطمئنة أما من آثر معرفة الله لشيء سواه فنفسه هي النفس المطمئنة وكل من كان كذلك كان أنسه بالله وشوقه إلى الله وبقاؤه بالله وكلامه مع الله فلا جرم يخاطب عند مفارقته الدنيا بقوله ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً وهذا كلام لا ينتفع الإنسان به إلا إذا كان كاملاً في القوة الفكرية الإلهية أو في التجريد والتفريد
المسألة الثالثة اعلم أن الله تعالى ذكر مطلق النفس في القرآن فقال وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( الشمس 7 ) وقال تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ( المائدة 116 ) وقال فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِى َ لَهُم مّن قُوَّة َ أَعْيُنِ ( السجدة 17 ) وتارة وصفها بكونها أمارة بالسوء فقال إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَة ٌ بِالسُّوء ( يوسف 53 ) وتارة بكونها لوامة فقال بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة ِ ( القيامة 2 ) وتارة بكونها مطمئنة كما في هذه الآية واعلم أن نفس ذاتك وحقيقتك وهي التي تشير إليها بقولك ( أنا ) حين تخبر عن نفسك بقولك فعلت ورأيت وسمعت وغضبت واشتهيت وتخيلت وتذكرت إلا أن المشار إليه بهذه الإشارة ليس هو هذه البنية لوجهين الأول أن المشار إليه بقولك ( أنا ) قد يكون معلوماً حال ما تكون هذه البنية المخصوصة غير معلومة والمعلوم غير ما هو غير معلوم والثاني أن هذه البنية متبدلة الأجزاء والمشار إليه بقولك ( أنا ) غير متبدل فإني أعلم بالضرورة أني أنا الذي كنت موجوداً قبل هذا اليوم بعشرين سنة والمتبدل غير ما هو غير متبدل فإذاً ليست النفس عبارة عن هذه البنية وتقول قال قوم إن النفس ليست بجسم لأنا قد نعقل المشار إليه بقوله ( أنا ) حال ما أكون غافلاً عن الجسم الذي حقيقته المختص بالحيز الذاهب في الطول والعرض والعمق والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم وجواب المعارضة بالنفس مذكور في كتابنا المسمى بلباب الإشارات وقال آخرون بل هو جوهر جسماني لطيف صاف بعيد عن مشابهة الأجرام العنصرية نوراني سماوي مخالف بالماهية لهذه الأجسام السفلية فإذا صارت مشابكة لهذا البدن الكثيف صار البدن حياً وإن فارقته صار البدن ميتاً وعلى التقدير الأول يكون وصفها بالمجيء والرجوع بمعنى التدبير وتركه وعلى التقدير الثاني يكون ذلك الوصف حقيقاً
المسألة الرابعة من القدماء من زعم أن النفوس أزلية واحتجوا بهذه الآية وهي قوله ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ فإن هذا إنما يقال لما كان موجوداً قبل هذا البدن(31/161)
واعلم أن هذا الكلام يتفرع على أن هذا الخطاب متى يوجد وفيه وجهان الأول أنه إنما يوجد عند الموت وههنا تقوى حجة القائلين بتقدم الأرواح على الأجساد إلا أنه لا يلزم من تقدمها عليها قدمها الثاني أنه إنما يوجد عند البعث والقيامة والمعنى ارجعي إلى ثواب ربك فادخلي في عبادي أي ادخلي في الجسد الذي خرجت منه
المسألة الخامسة المجسمة تمسكوا بقوله إِلَى رَبّكَ وكلمة إلى لانتهاء الغاية وجوابه إلى حكم ربك أو إلى ثواب ربك أو إلى إحسان ربك والجواب الحقيقي المفرع على القاعدة العقلية التي قررناها أن القوة العقلية بسيرها العقلي تترقى من موجود إلى موجود آخر ومن سبب إلى سبب حتى تنتهي إلى حضرة واجب الوجود فهناك انتهاء الغايات وانقطاع الحركات أما قوله تعالى رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً فالمعنى راضية بالثواب مرضية عنك في الأعمال التي عملتها في الدنيا ويدل على صحة هذا التفسير ما روى أن رجلاً قرأ عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآيات فقال أبو بكر ما أحسن هذاا فقال عليه الصلاة والسلام ( أما إن الملك سيقولها لك ) ثم قوله تعالى
ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً فَادْخُلِى فِى عِبَادِى وَادْخُلِى جَنَّتِى
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قيل نزلت في حمزة بن عبد المطلب وقيل في خبيت بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة فقال اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو بلدتك فحول الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوله وأنت قد عرفت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
المسألة الثانية قوله ادْخُلِى فِى عِبَادِى أي انضمي إلى عبادي المقربين وهذه حالة شريفة وذلك لأن الأرواح الشريفة القدسية تكون كالمرايا المصقولة فإذا انضم بعضها إلى البعض حصلت فيما بينها حالة شبيهة بالحالة الحاصلة عند تقابل المرايا المصقولة من انعكاس الأشعة من بعضها على بعض فيظهر في كل واحد منها كل ما ظهر في كلها وبالجملة فيكون ذلك الانضمام سبباً لتكامل تلك السعادات وتعاظم تلك الدرجات الروحانية وهذا هو المراد من قوله تعالى وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( الواقعة 91 90 وذلك هو السعادة الروحانية ثم قال وذلك هو السعادة الروحانية ثم قال وَادْخُلِى جَنَّتِى وهذا إشارة إلى السعادة الجسمانية ولما كانت الجنة الروحانية غير متراخية عن الموت في حق السعداء لا جرم قال فَادْخُلِى فِى عِبَادِى فذكر بفاه التعقيب ولما كانت الجنة الجسمانية لا يحصل الفوز بها إلا بعد قيام القيامة الكبرى لا جرم قال وَادْخُلِى جَنَّتِى فذكره بالواو لا بالفاء والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(31/162)
سورة البلد
عشرون آية مكية
لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ
أجمع المفسرون على أن ذلك البلد هي مكة واعلم أن فضل مكة معروف فإن الله تعالى جعلها حرماً آمناً فقال في المسجد الذي فيها وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً وجعل ذلك المسجد قبلة لأهل المشرق والمغرب فقال وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ( البقرة 644 ) وشرف مقام إبراهيم بقوله وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ( البقرة 125 ) وأمر الناس بحج ذلك البيت فقال وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ( آل عمران 97 ) وقال في البيت وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ وَأَمْناً ( البقرة 125 ) وقال وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً ( الحج 26 ) وقال وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ وحرم فيه الصيد وجعل البيت المعمور بإزائه ودحيت الدنيا من تحته فهذه الفضائل وأكثر منها لما اجتمعت في مكة لا جرم أقسم الله تعالى بها فأما قوله وَأَنتَ حِلٌّ فالمراد منه أمور أحدها وأنت مقيم بهذا البلد نازل فيه حال به كأنه تعالى عظم مكة من جهة أنه عليه الصلاة والسلام مقيم بها وثانيها الحل بمعنى الحلال أي أن الكفار يحترمون هذا البلد ولا ينتهكون فيه المحرمات ثم إنهم مع ذلك ومع إكرام الله تعالى إياك بالنبوة يستحلون إيذاءك ولو تمكنوا منك لقتلوك فأنت حل لهم في اعتقادهم لا يرون لك من الحرمة ما يرونه لغيرك عن شرحبيل يحرمون أن يقتلوا بها صيداً أو يعضوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك وفيه تثبيت لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة وتعجيب له من حالهم في عدوانهم له وثالثها قال قتادة الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ أي لست بآثم وحلال لك أن تقتل بمكة من شئت وذلك أن الله تعالى فتح عليه مكة وأحلها له وما فتحت على أحد قبله فأحل ما شاء وحرم ما شاء وفعل ما شاء فقتل عبد الله بن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ومقيس بن صبابة(31/163)
وغيرهما وحرم دار أبي سفيان ثم قال ( إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ولم تحل إلا ساعة من نهار فلا يعضد شجرها ولا يختلي خلالها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد فقال العباس إلا الإذخر يا رسول الله فإنه لبيوتنا وقبورنا فقال إلا الإذخر )
فإن قيل هذه السورة مكية وقوله وَأَنتَ حِلٌّ إخبار عن الحال والواقعة التي ذكرتم إنما حدثت في آخر مدة هجرته إلى المدينة فكيف الجمع بين الأمرين قلنا قد يكون اللفظ للحال والمعنى مستقبلاً كقوله تعالى إِنَّكَ مَيّتٌ ( الزمر 30 ) وكما إذا قلت لمن تعده الإكرام والحباء أنت مكرم محبو وهذا من الله أحسن لأن المستقبل عنده كالحاضر بسبب أنه لا يمنعه عن وعده مانع ورابعها وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ أي وأنت غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه تعظيماً منك لهذا البيت لا كالمشركين الذين يرتكبون فيه الكفر بالله وتكذيب الرسل وخامسها أنه تعالى لما أقسم بهذا البلد دل ذلك على غاية فضل هذا البلد ثم قال وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ أي وأنت من حل هذه البلدة المعظمة المكرمة وأهل هذا البلد يعرفون أصلك ونسبك وطهارتك وبراءتك طول عمرك من الأفعال القبيحة وهذا هو المراد بقوله تعالى هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ ( الجمعة 2 ) وقال لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ ( التوبة 128 ) وقوله فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ ( يونس 16 ) فيكون الغرض شرح منصب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بكونه من هذا البلد أما قوله وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ فاعلم أن هذا معطوف على قوله لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ وقوله وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ معترض بين المعطوف والمعطوف عليه وللمفسرين فيه وجوه أحدها الولد آدم وما ولد ذريته أقسم بهم إذ هم من أعجب خلق الله على وجه الأرض لما فيهم من البيان والنطق والتدبير واستخراج العلوم وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى والأنصار لدينه وكل ما في الأرض مخلوق لهم وأمر الملائكة بالسجود لآدم وعلمه الأسماء كلها وقد قال الله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ ( الإسراء 70 ) فيكون القسم بجميع الآدميين صالحهم وطالحهم لما ذكرنا من ظهور العجائب في هذه البنية والتركيب وقيل هو قسم بآدم والصالحين من أولاده بناء على أن الطالحين كأنهم ليسوا من أولاده وكأنهم بهائم كما قال إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ وثانيها أن الولد إبراهيم وإسماعيل وما ولد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأنه أقسم بمكة وإبراهيم بانيها وإسماعيل ومحمد عليهما السلام سكانها وفائدة التنكير الإبهام المستقل بالمدح والتعجب وإنما قال وَمَا وَلَدَ ولم يقل ومن ولد للفائدة الموجودة في قوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ( آل عمران 36 ) أي بأي شيء وضعت يعني موضوعاً عجيب الشأن وثالثها الولد إبراهيم وما ولد جميع ولد إبراهيم بحيث يحتمل العرب والعجم فإن جملة ولد إبراهيم هم سكان البقاع الفاضلة من أرض الشام ومصر وبيت المقدس وأرض العرب ومنهم الروم لأنهم ولد عيصو بن إسحق ومنهم من خص ذلك بولد إبراهيم من العرب ومنهم من خص ذلك بالعرب المسلمين وإنما قلنا إن هذا القسم واقع بولد إبراهيم المؤمنين لأنه قد شرع في التشهد أن يقال ( كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ) وهم المؤمنين ورابعها روي عن ابن عباس أنه قال الولد الذي يلد وما ولد الذي لا يلد فما ههنا يكون للنفي وعلى هذا لا بد عن إضمار الموصول أي ووالد والذي ما ولد وذلك لا يجوز عند البصريين وخامسها يعني كل والد(31/164)
ومولود وهذا مناسب لأن حرمة الخلق كلهم داخل في هذا الكلام
وأما قوله تعالى لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى في الكبد وجوه أحدها قال صاحب ( الكشاف ) إن الكبد أصله من قولك كبد الرجل كبداً فهو كبد إذا وجعت كبده وانتفخت فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة ومنه اشتقت المكابدة وأصله كبده إذا أصاب كبده وقال آخرون الكبد شدة الأمر ومنه تكبد اللبن إذا غلظ واشتد ومنه الكبد لأنه دم يغلظ ويشتد والفرق بين القولين أن الأول جعل اسم الكبد موضوعاً للكبد ثم اشتقت منه الشدة وفي الثاني جعل اللفظ موضوعاً للشدة والغلظ ثم اشتق منه اسم العضو الوجه الثاني أن الكبد هو الاستواء والاستقامة الوجه الثالث أن الكبد شدة الخلق والقوة إذا عرفت هذا فنقول أما على الوجه الأول فيحتمل أن يكون المراد شدائد الدنيا فقط وأن يكون المراد شدائد التكاليف فقط وأن يكون المراد شدائد الآخرة فقط وأن يكون المراد كل ذلك
أما الأول فقوله لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ أي خلقناه أطواراً كلها شدة ومشقة تارة في بطن الأم ثم زمان الإرضاع ثم إذا بلغ ففي الكد في تحصيل المعاش ثم بعد ذلك الموت
وأما الثاني وهو الكبد في الدين فقال الحسن يكابد الشكر على السراء والصبر على الضراء ويكابد المحن في أداء العبادات
وأما الثالث وهو الآخرة فالموت ومساءلة الملك وظلمة القبر ثم البعث والعرض على الله إلى أن يستقر به القرار إما في الجنة وإما في النار
وأما الرابع وهو يكون اللفظ محمولاً على الكل فهو الحق وعندي فيه وجه آخر وهو أنه ليس في هذه الدنيا لذة البتة بل ذاك يظن أنه لذة فهو خلاص عن الألم فإن ما يتخيل من اللذة عند الأكل فهو خلاص عند ألم الجوع وما يتخيل من اللذات عند اللبس فهو خلاص عن ألم الحر والبرد فليس للإنسان إلا ألم أو خلاص عن ألم وانتقال إلى آخر فهذا معنى قوله لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ ويظهر منه أنه لا بد للإنسان من البعث والقيامة لأن الحكيم الذي دبر خلقة الإنسان إن كان مطلوبه منه أن يتألم فهذا لا يليق بالرحمة وإن كان مطلوبه أن لا يتألم ولا يلتذ ففي تركه على العدم كفاية في هذا المطلوب وإن كان مطلوبه أن يلتذ فقد بينا أنه ليس في هذه الحياة لذة وأنه خلق الإنسان في هذه الدنيا في كبد ومشقة ومحنة فإذا لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى لتكون تلك الدار دار السعادات واللذات والكرمات
وأما على الوجه الثاني وهو أن يفسر الكبد بالاستواء فقال ابن عباس في كبد أي قائماً منتصباً والحيوانات الأخر تمشي منكسة فهذا امتنان عليه بهذه الخلقة
وأما على الوجه الثالث وهو أن يفسر الكبد بشدة الخلقة فقد قال الكلبي نزلت هذه الآية في رجل من بني جمح يكنى أبا الأشد وكان يجعل تحت قدميه الأديم العكاظي فيجتذبونه من تحت قدميه فيتمزق الأديم ولم تزل قدماه واعلم أن اللائق بالآية هو الوجه الأول(31/165)
المسألة الثانية حرف في واللام متقاربان تقول إنما أنت للعناء والنصب وإنما أنت في العناء والنصب وفيه وجه آخر وهو أن قوله فِى كَبَدٍ يدل على أن الكبد قد أحاط به إحاطة الظرف بالمظروف وفيه إشارة إلى ما ذكرنا أنه ليس في الدنيا إلا الكد والمحنة
المسألة الثالثة منهم من قال المراد بالإنسان إنسان معين وهو الذي وصفناه بالقوة والأكثرون على أنه عام يدخل فيه كل أحد وإن كنا لا نمنع من أن يكون ورد عند فعل فعله ذلك الرجل
أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ
اعلم أنا إن فسرنا الكبد بالشدة في القوة فالمعنى أيحسب ذلك الإنسان الشديد أنه لشدته لا يقدر عليه أحد وإن فسرنا المحنة والبلاء كان المعنى تسهيل ذلك على القلب كأنه يقول وهب أن الإنسان كان في النعمة والقدرة أفيظن أنه في تلك الحالة لا يقدر عليه أحد ثم اختلفوا فقال بعضهم لن يقدر على بعثه ومجازاته فكأنه خطاب مع من أنكر البعث وقال آخرون المراد لن يقدر على تغيير أحواله ظناً منه أنه قوي على الأمور لا يدافع عن مراده وقوله أَيَحْسَبُ استفهام على سبيل الإنكار
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً
قال أبو عبيدة لبد فعل من التلبيد وهو المال الكثير بعضه على بعض قال الزجاج فعل للكثرة يقال رجل حطم إذا كان كثير الحطم قال الفراء واحدته لبدة ولبد جمع وجعله بعضهم واحداً ونظيره قسم وحطم وهو في الوجهين جميعاً الكثير قال الليث مال لبد لا يخاف فناؤه من كثرته وقد ذكرنا تفسير هذا الحرف عند قوله يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ( الجن 19 ) والمعنى أن هذا الكافر يقول أهلكت في عداوة محمد مالاً كثيراً والمراد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونه مكارم ويدعونه معالي ومفاخر
أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ
فيه وجهان الأول قال قتادة أيظن أن الله لم يره ولم يسأله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه الثاني قال الكلبي كان كاذباً لم ينفق شيئاً فقال الله تعالى أيظن أن الله تعالى ما رآى ذلك منه فعل أو لم يفعل أنفق أو لم ينفق بل رآه وعلم منه خلاف ما قال
أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ
واعلم أنه تعالى لما حكى عن ذلك الكافر قوله أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ( البلد 5 ) أقام الدلالة على كمال قدرته فقال تعالى أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ وعجائب هذه الأعضاء مذكورة في كتب التشريح قال أهل العربية النجد الطريق في ارتفاع فكأنه لما وضحت الدلائل جعلت كالطريق المرتفعة العالية بسبب أنها واضحة للعقول كوضوح الطريق العالي للأبصار وإلى هذا التأويل ذهب عامة المفسرين في النجدين وهو أنهما سبيلا الخير والشر وعن أبي هريرة أنه عليه السلام قال إنما هما النجدان نجد الخير ونجد الشر ولا يكون نجد الشر أحب إلى أحدكم من نجد الخير ) وهذه الآية كالآية في هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ إلى قوله فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً(31/166)
( الإنسان 3 1 ) وقال الحسن قال أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً فمن الذي يحاسبني عليه فقيل الذي قدر على أن يخلق لك هذه الأعضاء قادر على محاسبتك وروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب أنهما الثديان ومن قال ذلك ذهب إلى أنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه والله تعالى هدى الطفل الصغير حتى ارتضعها قال القفال والتأويل هو الأول ثم قرر وجه الاستدلال به فقال إن من قدر على أن يخلق من الماء المهين قلباً عقولاً ولساناً قولاً فهو على إهلاك ما خلق قادر وبما يخفيه المخلوق عالم فما العذر في الذهاب عن هذا مع وضوحه وما الحجة في الكفر بالله من تظاهر نعمه وما العلة في التعزيز على الله وعلى أنصار دينه بالمال وهو المعطي له وهو الممكن من الانتفاع به
فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَة َ
ثم إنه سبحانه وتعالى دل عباده على الوجوه الفاضلة التي تنفق فيها الأموال وعرف هذا الكافر أن إنفاقه كان فاسداً وغير مفيد فقال تعالى فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَة َ وفيه مسائل
المسألة الأولى الاقتحام الدخول في الأمر الشديد يقال قحم يقحم قحوماً واقتحم اقتحاماً وتقحم تقحماً إذا ركب القحم وهي المهالك والأمور العظام والعقبة طريق في الجبل وَعْرٌ الجمع العقب والعقاب ثم ذكر المفسرون في العقبة ههنا وجهين الأول أنها في الآخرة وقال عطاء يريد عقبة جهنم وقال الكلبي هي عقبة بين الجنة والنار وقال ابن عمرهي جبل زلال في جهنم وقال مجاهد والضحاك هي الصراط يضرب على جهنم وهو معنى قول الكلبي إنها عقبة الجنة والنار قال الواحدي وهذا تفسير فيه نظر لأن من المعلوم أن ( بني ) هذا الإنسان وغيره لم يقتحموا عقبة جهنم ولا جاوزوها فحمل الآية عليه يكون إيضاحاً للواضحات ويدل عليه أنه لما قال وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَة ُ ( البلد 12 ) فسره بفك الرقبة وبالإطعام الوجه الثاني في تفسير العقبة هو أن ذكر العقبة ههنا مثل ضربه الله لمجاهدة النفس والشيطان في أعمال البر وهو قول الحسن ومقاتل قال الحسن عقبة الله شديدة وهي مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه من شياطين الإنس والجن وأقول هذا التفسير هو الحق لأن الإنسان يريد أن يترقى من عالم الحس والخيال إلى يفاع عالم الأنوار الإلهية ولا شك أن بينه وبينها عقبات سامية دونها صواعق حامية ومجاوزتها صعبة والترقي إليها شديد
المسألة الثانية أن في الآية إشكالاً وهو أنه قلما توجد لا الداخلة على المضي إلا مكررة تقول لا جنبني ولا بعدني قال تعالى فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى ( القيامة 31 ) وفي هذه الآية ما جاء التكرير فما السبب فيه أجيب عنه من وجوه الأول قال الزجاج إنها متكررة في المعنى لأن معنى فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَة َ فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك وقوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البلد 17 ) يدل أيضاً على معنى فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَة َ ولا آمن الثاني قال أبو علي الفارسي معنى فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَة َ لم يقتحمها وإذا كانت لا بمعنى لم كان التكرير غير واجب كما لا يجب التكرير مع لم فإن تكررت في موضع نحو فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى فهو كتكرر ولم نحو لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ ( الفرقان 67 )
المسألة الثالثة قال القفال قوله فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَة َ أي هلا أنفق ماله فيما فيه اقتحام العقبة وأما الباقون فإنهم أجروا اللفظ على ظاهره وهو الإخبار بأنه ما اقتحم العقبة(31/167)
ثم قال تعالى
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَة ُ
فلا بد من تقدير محذوف لأن العقبة لا تكون فك رقبة فالمراد وما أدراك ما اقتحام العقبة وهذا تعظيم لأمر التزام الدين ثم قال تعالى
فَكُّ رَقَبَة ٍ
والمعنى أن اقتحام العقبة هو الفك أو الإطعام وفيه مسائل
المسألة الأولى الفك فرق يزيل المنع كفك القيد والغل وفك الرقبة فرق بينها وبين صفة الرق بإيجاب الحرية وإبطال العبودية ومنه فك الرهن وهو إزالة غلق الرهن وكل شيء أطلقته فقد فككته ومنه فك الكتاب قال الفراء في المصادر فكها يفكها فكاكاً بفتح الفاء في المصدر ولا تقل بكسرها ويقال كانت عادة العرب في الأسارى شد رقابهم وأيديهم فجرى ذلك فيهم وإن لم يشدد ثم سمي إطلاق الأسير فكاكاً قال الأخطل أبنى كليب إن عمى اللذا
قتلا الملوك وفككا الأغلال
المسألة الثانية فك الرقبة قد يكون بأن يعتق الرجل رقبة قد يكون بأن يعتق الرجل رقبة من الرق وقد يكون بأن يعطي مكاتباً ما يصرفه إلى جهة فكاك نفسه روى البراء بن عازب قال ( جاء أعرابي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال عتق النسمة وفك الرقبة قال يا رسول الله أوليسا واحداً قال لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها ) وفيه وجه آخر وهو أن يكون المراد أن يفك المرء رقبة نفسه بما يتكلفه من العبادة التي يصير بها إلى الجنة فهي الحرية الكبرى ويتخلص بها من النار
المسألة الثالثة قرىء ( فك رقبة ) أو إطعام والتقدير هي فك رقبة أو إطعام وقرىء ( فك رقبة أو أطعم ) على الإبدال من اقتحم العقبة وقوله وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَة ُ اعتراض قال الفراء وهو أشبه الوجهين بصحيح العربية لقوله ثُمَّ كَانَ ( البلد 16 ) لأن فك وأطعم فعل وقوله كان فعل وينبغي أن يكون الذي يعطف عليه الفعل فعلاً أما لو قيل ثم إن كان كان ذلك مناسباً لقوله فَكُّ رَقَبَة ٍ بالرفع لأنه يكون عطفاً للاسم على الاسم
المسألة الرابعة عند أبي حنيفة العتق أفضل أنواع الصدقات وعند صاحبية الصدقة أفضل والآية أدل على قول أبي حنيفة لتقدم العتق على الصدقة فيها
أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَة ٍ
فيه مسائل
المسألة الأولى يقال سغب سغباً إذا جاع فهو ساغب وسغبان قال صاحب ( الكشاف ) المسغبة(31/168)
والمقربة والمتربة مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب يقال فلان ذو قرابتي وذو مقربتي وترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب وأما أترب فاستغنى أي صار ذا مال كالتراب في الكثرة قال الواحدي المتربة مصدر من قولهم ترب يترب ترباً ومتربة مثل مسغبة إذا افتقر حتى لصق بالتراب
المسألة الثانية حاصل القول في تفسير يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَة ٍ ما قاله الحسن وهو نائم يوم محروص فيه على الطعام قال أبو علي ومعناه ما يقول النحويون في قولهم ليل نائم ونهار صائم أي ذو نوم وصوم
واعلم أن إخراج المال في وقت القحط والضرورة أثقل على النفس وأوجب للأجر وهو كقوله لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ ( البقرة 177 ) وقال وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً ( الإنسان 8 ) وقرأ الحسن ( ذا مسغبة ) نصبه بإطعام ومعناه أو إطعام في يوم من الأيام ذا مسغبة أما قوله تعالى
يَتِيماً ذَا مَقْرَبَة ٍ
قال الزجاج ذا قرابة تقول زيد ذو قرابتي وذو مقربتي وزيد قرابتي قبيح لأن القرابة مصدر قال مقاتل يعني يتيماً بينه وبينه قرابة فقد اجتمع فيه حقان يتم وقرابة فاطعامه أفضل وقيل يدخل فيه القرب بالجوار كما يدخل فيه القرب بالنسب أما قوله تعالى
أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَة ٍ
أي مسكيناً قد لصق بالتراب من فقره وضره فليس فوقه ما يستره ولا تحته ما يوطئه روى أن ابن عباس مر بمسكين لاصق بالتراب فقال هذا الذي قال الله تعالى ( فيه ) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَة ٍ واحتج الشافعي بهذه الآية على أن المسكين قد يكون بحيث يملك شيئاً لأنه لو كان لفظ المسكين دليلاً على أنه لا يملك شيئاً ألبتة لكان تقييده بقوله ذَا مَتْرَبَة ٍ تكريراً وهو غير جائز
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَة ِ
أما قوله تعالى ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ أي كان مقتحم العقبة من الذين آمنوا فإنه إن لم يكن منهم لم ينتفع بشيء من هذه الطاعات ولا مقتحماً للعقبة فإن قيل لما كان الإيمان شرطاً للانتفاع بهذه الطاعات وجب كونه مقدماً عليها فما السبب في أن الله تعالى أخره عنها بقوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ والجواب من وجوه أحدها أن هذا التراخي في الذكر لا في الوجود كقوله إن من ساد ثم ساد أبوه
ثم قد ساد قبل ذلك جده
لم يرد بقوله ثم ساد أبوه التأخر في الوجود وإنما المعنى ثم اذكر أنه ساد أبوه كذلك في الآية وثانيها أن يكون المراد ثم كان في عاقبة أمره من الذين آمنوا وهو أن يموت على الإيمان فإن الموافاة شرط الانتفاع بالطاعات وثالثها أن من أتى بهذه القرب تقربا إلى الله تعالى قبل إيمانه بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم آمن بعد ذلك بمحمد عليه الصلاة والسلام فعند بعضهم أنه يثاب على تلك الطاعات قالوا ويدل عليه ما روي ( أن حكيم بن حزام بعدما أسلم قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنا كنا نأتي بأعمال الخير في الجاهلية فهل لنا منها شيء فقال عليه السلام أسلمت على ما قدمت من الخير ) ورابعها أن المراد من قوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ تراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العنق والصدقة لأن درجة ثواب الإيمان أعظم بكثير من درجة ثواب سائر الأعمال(31/169)
أما قوله تعالى وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَة ِ فالمعنى أنه كان يوصي بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والثبات عليه أو الصبر على المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلي بها المؤمن ثم ضم إليه التواصي بالمرحمة وهو أن يحث بعضهم بعضاً على أن يرحم المظلوم أو الفقير أو يرحم المقدم على منكر فيمنعه منه لأن كل ذلك داخل في الرحمة وهذا يدل على أنه يجب على المرء أن يدل غيره على طريق الحق ويمنعه من سلوك طريق الشر والباطل ما أمكنه واعلم أن قوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَة ِ يعني يكون مقتحم العقبة من هذه الزمرة والطائفة وهذه الطائفة هم أكابر الصحابة كالخلفاء الأربعة وغيرهم فإنهم كانوا مبالغين في الصبر على شدائد الدين والرحمة على الخلق وبالجملة فقوله وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَة ِ إشارة إلى الشفقة على خلق الله ومدار أمر الطاعات ليس إلا على هذين الأصلين وهو الذي قاله بعض المحققين إن الأصل في التوصف أمران صدق مع الحق وخلق مع الخلق
ثم إنه سبحانه لما وصف هؤلاء المؤمنين بين أنهم من هم في القيامة فقال
أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَة ِ
وإنما ذكر ذلك لأنه تعالى بين حالهم في سورة الواقعة وأنهم فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ ( الواقعة 29 28 ) قال صاحب ( الكشاف ) الميمنة والمشأمة اليمين والشمال أو اليمين والشؤم أي الميامين على أنفسهم والمشائيم عليها ثم قال تعالى
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأمَة ِ
فقيل المراد من يؤتي كتابه بشماله أو وراء ظهره وقد تقدم وصف الله لهم بأنهم فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ ( الواقعة 42 ) إلى غير ذلك ثم قال تعالى
عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَة ُ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الفراء والزجاج والمبرد يقال آصدت الباب وأوصدته إذا أغلقته فمن قرأ مؤصدة بالهمزة أخذها من آصدت فهمز اسم المفعول ويجوز أن يكون من أوصدت ولكنه همز على لغة من يهمز الواو وإذا كان قبلها ضمة نحو مؤسي ومن لم يهمز احتمل أيضاً أمرين
أحدهما أن يكون من لغة من قال أوصدت فلم يهمز اسم المفعول كما يقال من أوعدت موعد
الآخر أن يكون من آصد مثل آمن ولكنه خفف كما في تخفيف جؤنة وبؤس جونة وبوس فيقلبها في التخفيف واواً قال الفراء ويقال من هذا الأصيد والوصيد وهو الباب المطبق إذا عرفت هذا فنقول قال مقاتل عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَة ُ يعني أبوابها مطبقة فلا يفتح لهم باب ولا يخرج منها غم ولا يدخل فيها روح أبد الآباد وقيل المراد إحاطة النيران بهم كقوله أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ( الكهف 29 )
المسألة الثانية المؤصدة هي الأبواب وقد جرت صفة للنار على تقدير عليهم نار مؤصدة الأبواب فكلما تركت الإضافة عاد التنوين لأنهما يتعاقبان والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(31/170)
سورة الشمس
( خمس عشرة آية مكية
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا
قبل الخوض في التفسير لا بد من مسائل
المسألة الأولى المقصود من هذه السورة الترغيب في الطاعات والتحذير من المعاصي
واعلم أنه تعالى ينبه عباده دائماً بأن يذكر في القسم أنواع مخلوقاته المتضمنة للمنافع العظيمة حتى يتأمل المكلف فيها ويشكر عليها لأن الذي يقسم الله تعالى به يحصل له وقع في القلب فتكون الدواعي إلى تأمله أقوى
المسألة الثانية قد عرفت أن جماعة من أهل الأصول قالوا التقدير ورب الشمس ورب سائر ما ذكره إلى تمام القسم واحتج قوم على بطلان هذا المذاهب فقالوا إن في جملة هذا القسم قوله يَغْشَاهَا وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا ( الشمس 5 ) وذلك هو الله تعالى فيلزم أن يكون المراد ورب السماء وربها وذلك كالمتناقض أجاب القاضي عنه بأن قوله وَمَا بَنَاهَا لا يجوز أن يكون المراد منه هو الله تعالى لأن ما لا تستعمل في خالق السماء إلا على ضرب من المجاز ولأنه لا يجوز منه تعالى أن يقدم قسمه بغيره على قسمه بنفسه ولأنه تعالى لا يكاد يذكر مع غيره على هذا الوجه فإذاً لا بد من التأويل وهو أن مَا مع ما بعده في حكم المصدر فيكون التقدير والسماء وبنائها اعترض صاحب ( الكشاف ) عليه فقال لو كان الأمر على هذا الوجه لزم من عطف قوله فَأَلْهَمَهَا ( الشمس 8 ) عليه فساد النظم
المسألة الثالثة القراء مختلفون في فواصل هذه السورة وما أشبهها نحو وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالضُّحَى وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى فقرءوها تارة بالإمالة وتارة بالتفخيم وتارة بعضها بالإمالة وبعضها بالتفخيم(31/171)
قال الفراء بكسر ضحاها والآيات التي بعدها وإن كان أصل بعضها الواو نحو تلاها وصحاها ودحاها فكذلك أيضاً فإنه لماابتدئت السورة بحرف الياء أتبعها بما هو من الواو لأن الألف المنقلبة عن الواو قد توافق المنقلبة عن الياء ألا ترى أن تلوت وطحوت ونحوهما قد يجوز في أفعالها أن تنقلب إلى الياء نحو تلى ودحى فلما حصلت هذه الموافقة استجازوا إمالته كما استجازوا إمالة ما كان من الياء وأما وجه من ترك الإمالة مطلقاً فهو أن كثيراً من العرب لا يميلون هذه الألفات ولا ينحون فيها نحو الياء ويقوى ترك الإمالة للألف أن الواو في موسر منقلبة عن الياء والياء في ميقات وميزان منقلبة عن الواو ولم يلزم من ذلك أن يحصل فيه ما يدل على ذلك الانقلاب فكذا ههنا ينبغي أن تترك الألف غير ممالة ولا ينحى بها نحو الياء وأما إمالة البعض وترك إمال البعض كما فعله حمزة فحسن أيضاً وذلك لأن الألف إنما تمال نحو الياء لتدل على الياء إذا كان انقلابها عن الياء ولم يكن في تلاها وطحاها ودحاها ألف منقلبة عن الياء إنما هي منقلبة عن الواو بدلالة تلوت ودحوت
المسألة الرابعة أن الله تعالى قد أقسم بسبعة أشياء إلى قوله قَدْ أَفْلَحَ ( الشمس 9 ) وهو جواب القسم قال الزجاج المعنى لقد أفلح لكن اللام حذفت لأن الكلام طال فصار طوله عوضاً منها
قوله تعالى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ذكر المفسرون في ضحاها ثلاثة أقوال قال مجاهد والكلبي ضوؤها وقال قتادة هو النهار كله وهو اختيار الفراء وابن قتيبة وقال مقاتل هو حر الشمس وتقرير ذلك بحسب اللغة أن نقول قال الليث الضحو ارتفاع النهار والضحى فويق ذلك والضحاء ممدوداً امتد النهار وقرب أن ينتصف وقال أبو الهيثم الضح نقيض الظل وهو نور الشمس على وجه الأرض وأصله الضحى فاستثقلوا الياء مع سكون الحاء فقلبوها وقال ضح فالضحى هو ضوء الشمس ونورها ثم سمى به الوقت الذي تشرق فيه الشمس على ما في قوله تعالى إِلاَّ عَشِيَّة ً أَوْ ضُحَاهَا ( النازعات 46 ) فمن قال من المفسرين في ضحاها ضوؤها فهو على الأصل وكذا من قال هو النهار كله لأن جميع النهار هو من نور الشمس ومن قال في الضحى إنه حر الشمس فلأن حرها ونورها متلازمان فمتى اشتد حرها فقد اشتد ضؤوها وبالعكس وهذا أضعف الأقوال واعلم أنه تعالى إنما أقسم بالشمس وضحاها لكثرة ما تعلق بها من المصالح فإن أهل العالم كانوا كالأموات في الليل فلما ظهر أثر الصبح في المشرق صار ذلك كالصور الذي ينفخ قوة الحياة فصارت الأموات أحياء ولا تزال تلك الحياة في الازدياد والقوة والتكامل ويكون غاية كمالها وقت الضحوة فهذه الحالة تشبه أحوال القيامة ووقت الضحى يشبه استقرار أهل الجنة فيها وقوله وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا قال الليل تلا يتلو إذا تبع شيئاً وفي كون القمر تالياً وجوه أحدها بقاء القمر طالعاً عند غروب الشمس وذلك إنما يكون في النصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس فإذا القمر يتبعها في الإضاءة وهو قول عطاء عن ابن عباس وثانيها أن الشمس إذا غربت فالقمر يتبعها ليلة الهلال في الغروب وهو قول قتادة والكلبي وثالثها قال الفراء المراد من هذا التلو هو أن القمر يأخذ الضوء من الشمس يقال فلان يتبع فلاناً في كذا أي يأخذ منه ورابعها قال الزجاج تلاها حين استدار وكمل فكأنه يتلو الشمس في الضياء والنور يعني إذا كمل ضوؤه فصار كالقائم مقام الشمس في الإنارة وذلك في الليالي البيض وخامسها أنه يتلوها في كبر الجرم بحسب الحس وفي ارتباط مصالح هذا العالم بحركته ولقد ظهر في علم النجوم أن بينهما من المناسبة ما ليس بين الشمس وبين غيرها(31/172)
وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا
معنى التجلية الإظهار والكشف والضمير في جلاها إلى ماذا يعود فيه وجهان أحدهما وهو قول الزجاج أنه عائد إلى الشمس وذلك لأن النهار عبارة عن نور الشمس فكلما كان النهار أجلى ظهوراً كانت الشمس أجلى ظهوراً لأن قوة الأثر وكماله تدل على قوة المؤثر فكان النهار يبرز الشمس ويظهرها كقوله تعالى لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ أي لا يخرجها الثاني وهو قول الجمهور أنه عائد إلى الظلمة أو إلى الدنيا أو إلى الأرض وإن لم يجر لها ذكر يقولون أصبحت باردة يريدون الغداة وأرسلت يريدون السماء
وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا
يعني يغشى الليل الشمس فيزيل ضوءها وهذه الآية تقوي القول الأول في الآية التي قبلها من وجهين الأول إنه لما جعل الليل يغشى الشمس ويزيل ضوءها حسن أن يقال النهار يجليها على ضد ما ذكر في الليل والثاني أن الضمير في يغشاها للشمس بلا خلاف فكذا في جلاها يجب أن يكون للشمس حتى يكون الضمير في الفواصل من أول السورة إلى ههنا للشمس قال القفال وهذه الأقسام الأربعة ليست إلا بالشمس في الحقيقة لكن بحسب أوصاف أربعة أولها الضوء الحاصل منها عند ارتفاع النهار وذلك هو الوقت الذي يكمل فيه انتشار الحيوان واضطراب الناس للمعاش ومنها تلو القمر لها وأخذه الضوء عنها ومنها تكامل طلوعها وبروزها بمجيء النهار ومنها وجود خلاف ذلك بمجيء الليل ومن تأمل قليلاً في عظمة الشمس ثم شاهد بعين عقله فيها أثر المصنوعية والمخلوقية من المقدار المتناهي والتركب من الأجزاء انتقل منه إلى عظمة خالقها فسبحانه ما أعظم شأنه
وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا
فيه سؤالات
السؤال الأول أن الذي ذكره صاحب ( الكشاف ) من أن مَا ههنا لو كانت مصدرية لكان عطف فَأَلْهَمَهَا عليه يوجب فساد النظم حق والذي ذكره القاضي من أنه لو كان هذا قسماً بخالق السماء لما كان يجوز تأخيره عن ذكر الشمس فهو إشكال جيد والذي يخطر ببالي في الجواب عنه أن أعظم المحسوسات هو الشمس فذكرها سبحانه مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمتها ثم ذكر ذاته المقدسة بعد ذلك ووصفها بصفات ثلاثة وهي تدبيره سبحانه للسماء والأرض وللمركبات ونبه على المركبات بذكر أشرفها وهي النفس والغرض من هذا الترتيب هو أن يتوافق العقل والحس على عظمة جرم الشمس ثم يحتج العقل الساذج بالشمس بل بجميع السماويات والأرضيات والمركبات على إثبات مبدىء لها فحينئذ يحظى العقل ههنا بإدراك جلال الله وعظمته على ما يليق به والحس لا ينازعه فيه فكان ذلك كالطريق إلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات إلى يفاع عالم الربوبية وبيداء كبرياء الصمدية فسبحان من عظمت حكمته وكملت كلمته
السؤال الثاني ما الفائدة في قوله وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا الجواب أنه سبحانه لما وصف الشمس بالصفات الأربعة الدالة على عظمتها أتبعه ببيان ما يدل على حدوثها وحدوث جميع الأجرام السماوية فنبه بهذه الآية على تلك الدلالة وذلك لأن الشمس والسماء متناهية وكل متناه فإنه مختص بمقدار معين مع(31/173)
أنه كان يجوز في العقل وجود ما هو أعظم منه وما هو أصغر منه فاختصاص الشمس وسائر السماويات بالمقدار المعين لا بد وأن يكون لتقدير مقدر وتدبير مدبر وكما أن باني البيت يبنيه بحسب مشيئته فكذا مدبر الشمس وسائر السماويات قدرها بحسب مشيئته فقوله وَمَا بَنَاهَا كالتنبيه على هذه الدقيقة الدالة على حدوث الشمس وسائر السماويات
السؤال الثالث لم قال وَمَا بَنَاهَا ولم يقل ومن بناها الجواب من وجهين الأول أن المراد هو الإشارة إلى الوصفية كأنه قيل والسماء وذلك الشيء العظيم القادر الذي بناها ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها والثاني أن ما تستعمل في موضع من كقوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 22 ) والاعتماد على الأول
السؤال الرابع لم ذكر في تعريف ذات الله تعالى هذه الأشياء الثلاثة وهي السماء والأرض والنفس والجواب لأن الاستدلال على الغائب لا يمكن إلا بالشاهد والشاهد ليس إلا العالم الجسماني وهو قسمان بسيط ومركب والبسيط قسمان العلوية وإليه الإشارة بقوله وَالسَّمَاء والسفلية وإليه الإشارة بقوله والاْرْضِ ( الشمس 6 ) والمركب هو أقسام وأشرفها ذوات الأنفس وإليه الإشارة بقوله وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( الشمس 7 ) أما قوله تعالى
وَالاٌّرْضِ وَمَا طَحَاهَا
ففيه مسألتان
المسألة الأولى إنما أخر هذا عن قوله وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا لقوله وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ( النازعات 30 )
المسألة الثانية قال الليث الطحو كالدحوا وهو البسط وإبدال الطاء من الدال جائز والمعنى وسعها قال عطاء والكلبي بسطها على الماء
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا
أما قوله تعالى وَنَفْسٍ وَمَا إن حملنا النفس على الجسد فتسويتها تعديل أعضائها على ما يشهد به علم التشريح وإن حملناها على القوة المدبرة فتسويتها إعطاؤها القوى الكثيرة كالقوة السامعة والباصرة والمخيلة والمفكرة والمذكورة على ما يشهد به علم النفس فإن قيل لم نكرت النفس قلنا فيه وجهان أحدهما أن يريد به نفساً خاصة من بين النفوس وهي النفس القدسية النبوية وذلك لأن كل كثرة فلا بد فيها من واحد يكون هو الرئيس فالمركبات جنس تحته أنواع ورئيسها الحيوان والحيوان جنس تحته أنواع ورئيسها الإنسان والإنسان أنواع وأصناف ورائيسها النبي والأنبياء كانوا كثيرين فلا بد وأن يكون هناك واحد يكون هو الرئيس المطلق فقوله طَحَاهَا وَنَفْسٍ إشارة إلى تلك النفس التي هي رئيسة لعالم المركبات رياسة بالذات الثاني أن يريد كل نفس ويكون المراد من التنكير التكثير على الوجه المذكور في قوله عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ وذلك لأن الحيوان أنواع لا يحصى عددها إلا الله على ما قال بعد ذكر بعض الحيوانات وَيَخْلُقُ مَالاً تَعْلَمُونَ ولكل نوع نفس مخصوصة متميزة(31/174)
عن سائرها بالفضل المقوم لماهيته والخواص اللازمة لذلك الفصل فمن الذي يحيط عقله بالقليل من خواص نفس البق والبعوض فضلاً عن التوغل في بحار أسرار الله سبحانه أما قوله تعالى
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا
فالمعنى المحصل فيه وجهان الأول أن إلهام الفجور والتقوى إفهامها وإعقالهما وأن أحدهما حسن والآخر قبيح وتمكينه من اختيار ما شاء منهما وهو كقوله وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ( البلد 10 ) وهذا تأويل مطابق لمذاهب المعتزلة قالوا ويدل عليه قوله بعد ذلك قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ( الشمس 10 9 ) وهذا الوجه مروى عن ابن عباس وعن جمع من أكابر المفسرين والوجه الثاني أنه تعالى ألهم المؤمن المتقي تقواه وألهم الكافر فجوره قال سعيد بن جبير ألزمها فجورها وتقواها وقال ابن زيد جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إياها بالفجور واختار الزجاج والواحدي ذلك قال الواحدي التعليم والتعريف والتبيين غير والإلهام غير فإن الإلهام هو أن يوقع الله في قلب العبد شيئاً وإذا أوقع في قلبه شيئاً فقد ألزمه إياه وأصل معنى الإلهام من قولهم لهم الشيء والتهمه إذا ابتلعه وألهمته ذلك الشيء أي أبلغته وهذا هو الأصل ثم استعمل ذلك فيما يقذفه الله تعالى في قلب العبد لأنه كالإبلاغ فالتفسير الموافق لهذا الأصل قول ابن زيد وهو صريح في أن الله تعالى خلق في المؤمن تقواه وفي الكافر فجوره وأما التمسك بقوله قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا فضعيف لأن المروي عن سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومقاتل والكلبي أن المعنى قد أفلحت وسعدت نفس زكاها الله تعالى وأصلحها وطهرها والمعنى وفقها للطاعة هذا آخر كلام الواحدي وهو تام وأقول قد ذكرنا أن الآيات الثلاثة ذكرت للدلالة على كونه سبحانه مدبراً للأجسام العلوية والسفلية البسيطة والمركبة فههنا لم يبق شيء مما في عالم المحسوسات إلا وقد ثبت بمقتضى ذلك التنبيه أنه واقع بتخليقه وتدبيره بقي شيء واحد يختلج في القلب أنه هل هو بقضائه وقدره وهو الأفعال الحيوانية الاختيارية فنبه سبحانه بقوله فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا على أن ذلك أيضاً منه وبه وبقضائه وقدره وحينئذ ثبت أن كل ما سوى الله فهو واقع بقضائه وقدره وداخل تحت إيجاده وتصرفه ثم الذي يدل عقلاً على أن المراد من قوله فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا هو الخذلان والتوفيق ما ذكرنا مراراً أن الأفعال الاختيارية موقوفة على حصول الاختيارات فحصولها إن كان لا عن فاعل فقد استغنى المحدث عن الفاعل وفيه نفي الصانع وإن كان عن فاعل هو العبد لزم التسلسل وإن كان عن الله فهو المقصود وأيضاً فليجرب العاقل نفسه فإنه ربما كان الإنسان غافلاً عن شيء فتقع صورته في قلبه دفعة ويترتب على وقوع تلك الصورة في القلب ميل إليه ويترتب على ذلك الميل حركة الأعضاء وصدور الفعل وذلك يفيد القطع بأن المراد من قوله فَأَلْهَمَهَا ما ذكرناه لا ما ذكره المعتزلة
قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا
أما قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا فاعلم أن التزكية عبارة عن التطهير أو عن الإنماء وفي الآية قولان أحدهما أنه قد أدرك مطلوبه من زكى نفسه بأن طهرها من الذنوب بفعل الطاعة ومجانبة المعصية(31/175)
والثاني قد أفلح من زكاها الله وقبل القاضي هذا التأويل وقال المراد منه أن الله حكم بتزكيتها وسماها بذلك كما يقال في العرف إن فلاناً يزكي فلاناً ثم قال والأول أقرب لأن ذكر النفس قد تقدم ظاهراً فرد الضمير عليه أولى من رده على ما هو في حكم المذكور لا أنه مذكور
واعلم أنا قد دللنا بالبرهان القاطع أن المراد بألهمها ما ذكرناه فوجب حمل اللفظ عليه وأما قوله بأن هذا محمول على الحكم والتسمية فهو ضعيف لأن بناء التفعيلات على التكوين ثم إن سلمنا ذلك لكن ما حكم الله به يمتنع تغيره لأن تغير المحكوم به يستلزم تغير الحكم من الصدق إلى الكذب وتغير العلم إلى الجهل وذلك محال والمفضي إلى المحال محال أما قوله ذكر النفس قد تقدم قلنا هذا بالعكس أولى فإن أهل اللغة اتفقوا على أن عود الضمير إلى الأقرب أولى من عوده إلى الأبعد وقوله فَأَلْهَمَهَا أقرب إلى قوله مَا منه إلى قوله وَنَفْسٍ فكان الترجيح لما ذكرناه ومما يؤكد هذا التأويل ما رواه الواحدي في البسيط عن سعيد بن أبي هلال أنه عليه السلام كان إذا قرأ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وقف وقال ( اللهم آت نفسي تقواها أنت وليها وأنت مولاها وزكها أنت خير من زكاها ) أما قوله تعالى
وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا
فقالوا دَسَّاهَا أصله دسسها من التدسيس وهو إخفاء الشيء في الشيء فأبدلت إحدى السينات ياء فأصل دسى دسس كما أن أصل تقضى البازي تقضض البازي وكما قالوا الببت والأصل لببت وملبي والأصل ملبب ثم نقول أما المعتزلة فذكروا وجوهاً توافق قولهم أحدها أن أهل الصلاح يظهرون أنفسهم وأهل الفسق يخفون أنفسهم ويدسونها في المواضع الخفية كما أن أجواد العرب ينزلون الربا حتى تشتهر أماكنهم ويقصدهم المحتاجون ويوقدون النيران بالليل للطارقين وأما اللئام فإنهم يخفون أماكنهم عن الطالبين وثانيها خَابَ مَن دَسَّاهَا أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم وثالثها مَن دَسَّاهَا في المعاصي حتى انغمس فيها ورابعها مَن دَسَّاهَا من دس في نفسه الفجور وذلك بسبب مواظبته عليها ومجالسته مع أهلها وخامسها أن من أعرض عن الطاعات واشتغل بالمعاصي صار خاملاً متروكاً منسياً فصار كالشيء المدسوس في الاختفاء والخمول وأما أصحابنا فقالوا المعنى خابت وخسرت نفس أضلها الله تعالى وأغواها وأفجرها وأبطلها وأهلكها هذه ألفاظهم في تفسير دَسَّاهَا قال الواحدي رحمه الله فكأنه سبحانه أقسم بأشرف مخلوقاته على فلاح من طهره وخسار من خذله حتى لا يظن أحد أنه هو الذي يتولى تطهير نفسه أو إهلاكها بالمعصية من غير قدر متقدم وقضاء سابق أما قوله تعالى
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ
أما قوله تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا قال الفراء الطغيان والطغوى مصدران إلا أن الطغوى أشبه برؤوس الآيات فاختير لذلك وهو كالدعوى من الدعاء وفي التفسير وجهان أحدهما أنها فعلت التكذيب بطغيانها كما تقول ظلمني بجراءته على الله تعالى والمعنى أن طغيانهم حملهم على التكذيب به هذا هو القول المشهور والثاني أن الطغوى اسم لعذابهم الذي أهلكوا به والمعنى كذبت بعذابها أي لم يصدقوا رسولهم فيما أنذرهم به من العذاب وهذا لا يبعد لأن معنى الطغيان في اللغة مجاوزة القدر المعتاد فيجوز(31/176)
أن يسمى العذاب الذي جاءهم طغوى لأنه كان صيحة مجاوزة للقدر المعتاد أو يكون التقدير كذبت بما أوعدت به من العذاب ذي الطغوى ويدل على هذا التأويل قوله تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَة ِ ( الحاقة 4 ) أي بالعذاب الذي حل بها ثم قال فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَة ِ ( الحاقة 5 ) فسمى ما أهلكوا به من العذاب طاغية
إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا
انبعث مطاوع بعث يقال بعثت فلاناً على الأمر فانبعث له والمعنى أنه كذبت ثمود بسبب طغيانهم حين انبعث أشقاها وهو عاقر الناقة وفيه قولان أحدهما أنه شخص معين واسمه قدار بن سالف ويضرب به المثل يقال أشأم من قدار وهو أشقى الأولين بفتوى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني يجوز أن يكونوا جماعة وإنما جاء على لفظ الوحدان لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث تقول هذان أفضل الناس وهؤلاء أفضلهم وهذا يتأكد بقوله فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا ( الشمس 14 ) وكان يجوز أن يقال أشقوها كما يقال أفاضلهم أما قوله تعالى
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَة َ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا
ففيه مسائل
المسألة الأولى المراد من الرسول صالح عليه السلام نَاقَة ُ اللَّهِ أي أنه أشار إليه لما هموا بعقرها وبلغه ما عزموا عليه وقال لهم هي نَاقَة ُ اللَّهِ وآيته الدالة على توحيده وعلى نبوتي فاحذروا أن تقوموا عليها بسوء واحذروا أيضاً أن تمنعوها من سقياها وقد بينا في مواضع من هذا الكتاب أنه كان لها شرب يوم ولهم ولمواشيهم شرب يوم وكانوا يستضرون بذلك في أمر مواشيهم فهموا بعقرها وكان صالح عليه السلام يحذرهم حالاً بعد حال من عذاب ينزل بهم إن أقدموا على ذلك وكانت هذه الحالة متصورة في نفوسهم فاقتصر على أن قال لهم نَاقَة َ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا لأن هذه الإشارة كافية مع الأمور المتقدمة التي ذكرناها
المسألة الثانية نَاقَة ُ اللَّهِ نصب على التحذير كقولك الأسد الأسد والصبي الصبي بإضمار ذروا عقرها واحذروا سقياها فلا تمنعوها عنها ولا تستأثروا بها عليها
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا
ثم بين تعالى أن القوم لم يمتنعوا عن تكذيب صالح وعن عقر الناقة بسبب العذاب الذي أنذرهم الله تعالى به وهو المراد بقوله فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا ثم يجوز أن يكون المباشر للعقر واحداً وهو قدار فيضاف الفعل إليه بالمباشرة كما قال فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ويضاف الفعل إلى الجماعة لرضاهم بما فعل ذلك الواحد قال قتادة ذكر لنا أنه أبى أن يعقرها حتى بايعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم وهو قول أكثر المفسرين وقال الفراء قيل إنهما كانا إثنين
أما قوله تعالى فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا فاعلم أن في الدمدمة وجوهاً أحدها قال الزجاج معنى دمدم أطبق عليهم العذاب يقال دمدمت على الشيء إذا أطبقت عليه ويقال ناقة مدمومة(31/177)
أي قد ألبسها الشحم فإذا كررت الإطباق قلت دمدمت عليه قال الواحدي الدم في اللغة اللطخ ويقال للشيء السمين كأنما دم بالشحم دماً فجعل الزجاج دمدم من هذا الحرف على التضعيف نحو كبكبوا وبابه فعلى هذا معنى دمدم عليهم أطبق عليهم العذاب وعمهم كالشيء الذي يلطخ به من جميع الجوانب الوجه الثاني تقول للشيء يدفن دمدمت عليه أي سويت عليه فيجوز أن يكون معنى فدمدم عليهم فسوى عليهم الأرض بأن أهلكهم فجعلهم تحت التراب الوجه الثالث قال ابن الأنباري دمدم غضب والدمدمة الكلام الذي يزعج الرجل ورابعها دمدم عليهم أرجف الأرض بهم رواه ثعلب عن ابن الأعرابي وهو قول الفراء أما قوله فَسَوَّاهَا يحتمل وجهين وذلك لأنا إن فسرنا الدمدمة بالإطباق والعموم كان معنى فَسَوَّى الدمدمة عليهم وعمهم بها وذلك أن هلاكهم كان بصيحة جبريل عليه السلام وتلك الصيحة أهلكتهم جميعاً فاستوت على صغيرهم وكبيرهم وإن فسرناها بالتسوية كان المراد فسوى عليهم الأرض
وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا
أما قوله تعالى وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا ففيه وجوه أولها أنه كناية عن الرب تعالى إذ هو أقرب المذكورات ثم اختلفوا فقال بعضهم لا يخاف تبعة في العاقبة إذ العقبى والعافية سواء كأنه بين أنه تعالى يفعل ذلك بحق وكل ما فعل ما يكون حكمة وحقاً فإنه لا يخاف عاقبة فعله وقال بعضهم ذكر ذلك لا على وجه التحقيق لكن على وجه التحقير لهذا الفعل أي هو أهون من أن تخشى فيه عاقبة والله تعالى يجل أن يوصف بذلك ومنهم من قال المراد منه التنبيه على أنه بالغ في التعذيب فإن كل ملك يخشى عاقبة فإنه يتقي بعض الاتقاء والله تعالى لما لم يخف شيئاً من العواقب لا جرم ما اتقى شيئاً وثانيها أنه كناية عن صالح الذي هو الرسول أي ولا يخاف صالح عقبى هذا العذاب الذي ينزل بهم وذلك كالوعد لنصرته ودفع المكاره عنه لو حاول محاول أن يؤذيه لأجل ذلك وثالثها المراد أن ذلك الأشقى الذي هو أحيمر ثمود فيما أقدم من عقر الناقة وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا وهذه الآية وإن كانت متأخرة لكنها على هذا التفسير في حكم المتقدم كأنه قال ( إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الاْرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الاْرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ءامَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ والله أعلم روي أن صالحاً لما وعدهم العذاب بعد ثلاث قال التسعة الذين عقروا الناقة هلموا فلنقتل صالحاً فإن كان صادقاً فأعجلناه قبلنا وإن كان كاذباً ألحقناه بناقته فأتوه ليبيتوه فدمغتهم الملائكة بالحجار فلما أبطأوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح أنت قتلتهم ثم هموا به فقامت عشيرته دونه لبسوا السلاح وقالوا لهم والله لا تقتلونه قد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث فإن كان صادقاً زدتم ربكم عليكم غضباً وإن كان كاذباً فأنتم من وراء ما تريدون فانصرفوا عنه تلك الليلة فأصبحوا وجوههم مصفرة فأيقنوا بالعذاب فطلبوا صالحاً ليقتلوه فهرب صالح والتجأ إلى سيد بعض بطون ثمود وكان مشركاً فغيبه عنهم فلم يقدروا عليه ثم شغلهم عنه ما نزل بهم من العذاب فهذا هو قوله وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(31/178)
سورة الليل
إحدى وعشرون آية مكية
( سورة الليل ) قال القفال رحمه الله نزلت هذه السورة في أبي بكر وإنفاقه على المسلمين وفي أمية بن خلف وبخله وكفره بالله إلا أنها وإن كانت كذلك لكن معانيها عامة للناس ألا ترى أن الله تعالى قال إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ( الليل 4 ) وقال فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى ( الليل 14 ) ويروى عن علي عليه السلام أنه قال ( خرجنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في جنازة فقعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقعدنا حوله فقال ما منكم نفس منفوسة إلا وقد علم الله مكانها من الجنة والنار فقلنا يا رسول الله أفلا نتكل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى ( الليل 7 5 ) فبان بهذا الحديث عموم هذه السورة
وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى
اعلم أنه تعالى أقسم بالليل الذي يأوي فيه كل حيوان إلى مأواه ويسكن الخلق عن الاضطراب ويغشاهم النوم الذي جعله الله راحة لأبدانهم وغذاء لأرواحهم ثم أقسم بالنهار إذا تجلى لأن النهار إذا جاء انكشف بضوئه ما كان في الدنيا من الظلمة وجاء الوقت الذي يتحرك فيه الناس لمعاشهم وتتحرك الطير من أوكارها والهوام من مكامنها فلو كان الدهر كله ليلاً لتعذر المعاش ولو كان كله نهاراً لبطلت الراحة لكن المصلحة كانت في تعاقبهما على ما قال سبحانه وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَة ً ( الفرقان 62 ) وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ( إبراهيم 33 ) أما قوله وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى فاعلم أنه تعالى لميذكر مفعول يغشى فهو إما الشمس من قوله وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ( الشمس 4 ) وإما النهار من قوم وَهُوَ الَّذِى وَالنَّهَارَ ( الرعد 3 ) وإما كل شيء يواريه بظلامه من قوله إِذْ وَقَبَ ) الفلق 3 ) وقوله وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى أي ظهر بزوال ظلمة الليل أو ظهر وانكشف بطلوع الشمس
وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاٍّ نثَى
وفيه مسائل(31/179)
المسألة الأولى في تفسيره وجوه أحدها أي والقادر العظيم القدرة الذي قدر على خلق الذكر والأنثى من ماء واحد وقيل هما آدم وحواء وثانيها أي وخلقه الذكر والأنثى وثالثها ما بمعنى من أي ومن خلق الذكر والأنثى أي والذي خلق الذكر والأنثى
المسألة الثانية قرأ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وَالذّكْرِ وَالاْنثَى وقرأ ابن مسعود ( والذي خلق الذكر والأنثى ) وعن الكسائي وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاْنثَى بالجر ووجهه أن يكون معنى وَمَا خَلَقَ أي وما خلقه الله تعالى أي مخلوق الله ثم يجعل الذكر والأنثى بدلاً منه أي ومخلوق الله الذكر والأنثى وجاز إضهار اسم الله لأنه معلوم أنه لا خالق إلا هو
المسألة الثالثة القسم بالذكر والأنثى يتناول القسم بجميع ذوي الأرواح الذين هم أشرف المخلوقات لأن كل حيوان فهو إما ذكر أو أنثى والخنثى فهو في نفسه لا بد وأن يكون إما ذكراً أو أنثى بدليل أنه لو حلف بالطلاق أنه لم يلق في هذا اليوم لا ذكراً ولا أنثى وكان قد لقى خنثى فإنه يخنث في يمينه
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى
هذا الجواب القسم فأقسم تعالى بهذه الأشياء أن أعمال عباده لشتى أي مختلفة في الجزاء وشتى جمع شتيت مثل مرضى ومريض وإنما قيل للمختلف شتى لتباعد ما بين بعضه وبعضه والشتات هو التباعد والافتراق فكأنه قيل إن عملكم لمتباعد بعضه من بعض لأن بعضه ضلال وبعضه هدى وبعضه يوجب الجنان وبعضه يوجب النيران فشتان ما بينهما ويقرب من هذه الآية قوله لاَ يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّة ِ ( الحشر 20 ) وقوله أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ ( السجدة 18 ) وقوله سَاء مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ( الجاثية 21 ) وقال وَلاَ الظّلُّ ( فاطر 21 ) قال المفسرون نزلت هذه الآية في أبي بكر وأبي سفيان
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى
ثم إنه سبحانه بين معنى اختلاف الأعمال فيما قلناه من العاقبة المحمودة والمذمومة والثواب والعقاب فقال لَشَتَّى فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى
وفي قوله أعطى وجهان أحدهما أن يكون المراد إنفاق المال في جميع وجوه الخير من عتق الرقاب وفك الأسارى وتقوية المسلمين على عدوهم كما كان يفعله أبو بكر سواء كان ذلك واجباً أو نفلاً وإطلاق هذا كالإطلاق في قوله وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( الأنفال 3 ) فإن المراد منه كل ذلك إنفاقاً في سبيل الله سواء كان واجباً أو نفلاً وقد مدح الله قوماً فقال وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ( الإنسان 8 ) وقال في آخر هذه السورة وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَة ٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى(31/180)
( الليل 20 17 ) وثانيهما أن قوله أَعْطَى يتناول إعطاء حقوق المال وإعطاء حقوق النفس في طاعة الله تعالى يقال فلان أعطى الطاعة وأعطى السعة وقوله وَاتَّقَى فهو إشارة إلى الاحتراز عن كل مالا ينبغي وقد ذكرنا أنه هل من شرط كونه متقياً أن يكون محترزاً عن الصغائر أم لا في تفسير قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) وقوله وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فالحسنى فيها وجوه أحدها أنها قول لا إله إلا الله والمعنى فأما من أعطى واتقى وصدق بالتوحيد والنبوة حصلت له الحسنى وذلك لأنه لا ينفع مع الكفر إعطاء مال ولا اتقاء محارم وهو كقوله أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَة ٍ إلى قوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البلد 17 14 ) وثانيها أن الحسنى عبارة عما فرضه الله تعالى من العبادات على الأبدان وفي الأموال كأنه قيل أعطى في سبيل الله واتقى المحارم وصدق بالشرائع فعلم أنه تعالى لم يشرعها إلا لما فيها من وجوه الصلاح والحسن وثالثها أن الحسنى هو الخلف الذي وعده الله في قوله وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَى ْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ ( سبأ 39 ) والمعنى أعطى من ماله في طاعة الله مصدقاً بما وعده الله من الخلف الحسن وذلك أنه قال مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( البقرة 261 ) فكان الخلف لما كان زائداً صح إطلاق لفظ الحسنى عليه وعلى هذا المعنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى أي لم يصدق بالخلف فبخل بماله لسوء ظنه بالمعبود كما قال بعضهم منع الموجود سوء ظن بالمعبود وروي عن أبي الدرداء أنه قال ( ما من يوم غربت فيه الشمس إلا وملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين اللهم أعط كل منفق خلفاً وكل ممسك تلفاً ) ورابعها أن الحسنى هو الثواب وقيل إنه الجنة والمعنى واحد قال قتادة صدق بموعود الله فعمل لذلك الموعود قال القفال وبالجملة أن الحسنى لفظة تسع كل خصلة حسنة قال الله تعالى قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ( التوبة 52 ) يعني النصر أو الشهادة وقال تعالى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَة ً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً ( الشورى 23 ) فسمى مضاعفة الأجر حسنى وقال إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى ( فصلت 50 )
وأما قوله فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى ففيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير هذه اللفظة وجوه أحدها أنها الجنة وثانيها أنها الخير وقالوا في العسرى أنها الشرك وثالثها المراد منه أن يسهل عليه كل ما كلف به من الأفعال والتروك والمراد من العسرى تعسير كل ذلك عليه ورابعها اليسرى هي العود إلى الطاعة التي أتى بها أولاً فكأنه قال فسنيسره لأن يعود إلى الإعطاء في سبيل الله وقالوا في العسرى ضد ذلك أي نيسره لأن يعود إلى البخل والامتناع من أداء الحقوق المالية قال القفال ولكل هذه الوجوه مجاز من اللغة وذلك لأن الأعمال بالعواقب فكل ما أدت عاقبته إلى يسر وراحة وأمور محمودة فإن ذلك من اليسرى وذلك وصف كل الطاعات وكل ما أدت عاقبته إلى عسر وتعب فهو من العسرى وذلك وصف كل المعاصي
المسألة الثانية التأنيث في لفظ اليسرى ولفظ العسرى فيه وجوه أحدها أن المراد من اليسرى والعسرى إن كان جماعة الأعمال فوجه التأنيث ظاهر وإن كان المراد عملاً واحداً رجع التأنيث إلى الخلة أو الفعلة وعلى هذا من جعل يسرى هو تيسير العود ( ة ) إلى ما فعله الإنسان من الطاعة رجع التأنيث إلى العود ( ة ) وكأنه قال فسنيسره للعود ( ة ) التي هي كذا وثانيها أن يكون مرجع التأنيث إلى الطريقة فكأنه قال(31/181)
للطريقة اليسرى والعسرى وثالثها أن العبادات أمور شاقة على البدن فإذا علم المكلف أنها تفضي إلى الجنة سهلت تلك الأفعال الشاقة عليه بسبب توقعه للجنة فسمى الله تعالى الجنة يسرى ثم علل حصول اليسرى في أداء الطاعات بهذه اليسرى وقوله فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى بالضد من ذلك
المسألة الثالثة في معنى التيسير لليسرى والعسرى وجوه وذلك لأن من فسر اليسرى بالجنة فسر التيسير لليسرى بإدخال الله تعالى إياهم في الجنة بسهولة وإكرام على ما أخبر الله تعالى عنه بقوله وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 24 23 ) وقوله طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ( الزمر 73 ) وقوله سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( الرعد 24 ) وأما من فسر اليسرى بأعمال الخير فالتيسير لها هو تسهيلها على من أراد حتى لا يعتريه من التثاقل ما يعتري المرائين والمنافقين من الكسل قال الله تعالى وَإِنَّهَا لَكَبِيرَة ٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ( البقرة 45 ) وقال إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( النسار 142 ) وقال مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاْرْضِ ( التوبة 38 ) فكان التيسير هو التنشيط
المسألة الرابعة استدل الأصحاب بهذه الآية على صحة قولهم في التوفيق والخذلان فقالوا إن قوله تعالى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى يدل على أنه تعالى خص المؤمن بهذا التوفيق وهو أنه جعل الطاعة بالنسبة إليه أرجح من المعصية وقوله فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى يدل على أنه خص الكافر بهذا الخذلان وهو أنه جعل المعصية بالنسبة إليه أرجح من الطاعة وإذا دلت الآية على حصول الرجحان لزم القوم بالوجوب لأنه لا واسطة بين الفعل والترك ومعلوم أن حال الاستواء يمتنع الرجحان فحال المرجوحية أولى بالامتناع وإذا امتنع أحد الطرفين وجب حصول الطرف الآخر ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض أجاب القفال رحمه الله عن وجه التمسك بالآية من وجوه أحدها أن تسمية أحد الضدين باسم الآخر مجاز مشهور قال تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) وقال فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( الإنشقاق 24 ) فلما سمى الله فعل الألطاف الداعية إلى الطاعات تيسيراً لليسرى سمى ترك هذه الألطاف تيسيراً للعسرى وثانيها أن يكون ذلك على جهة إضافة الفعل إلى المسبب له دون الفاعل كما قيل في الأصنام رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 ) وثالثها أن يكون ذلك على سبيل الحكم به والإخبار عنه والجواب عن الكل أنه عدول عن الظاهر وذلك غير جائز لاسيما أنا بينا أن الظاهر من جانبنا متأكد بالدليل العقلي القاطع ثم إن أصحابنا أكدوا ظاهر هذه الآية بما روى عن علي عليه السلام عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما من نفس منفوسة إلا وقد علم الله مكانها من الجنة والنار قلنا أفلا نتكل قال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) أجاب القفال عنه بأن الناس كلهم خلقوا ليعبدوا الله كما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) واعلم أن هذا ضعيف لأنه عليه السلام إنما ذكر هذا جواباً عن سؤالهم يعني اعملوا فكل ميسر لما وافق معلوم الله وهذا يدل على قولنا أن ما قدره الله على العبد وعلمه منه فإنه ممتنع التغيير والله أعلم
المسألة الخامسة في دخول السين في قوله فَسَنُيَسّرُهُ وجوه أحدها أنه على سبيل الترفيق والتلطيف وهو من الله تعالى قطع ويقين كما في قوله اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(31/182)
( البقرة 21 ) وثانيها أن يحمل ذلك على أن المطيع قد يصير عاصياً والعاصي قد يصير بالتوبة مطيعاً فهذا السبب كان التغيير فيه محالاً وثالثها أن الثواب لما كان أكثره واقعاً في الآخرة وكان ذلك مما لم يأت وقته ولا يقف أحد على وقته إلا الله لا جرم دخله تراخ فأدخلت السين لأنها حرف التراخي ليدل بذلك على أن الوعد آجل غير حاضر والله أعلم أما قوله تعالى
وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى
فاعلم أن ما هنا يحتمل أن يكون استفهاماً بمعنى الإنكار ويحتمل أن يكون نفياً وأما تَرَدَّى ففيه وجهان الأول أن يكون ذلك مأخوذاً من قولك تردى من الجبل قال الله تعالى وَالْمُتَرَدّيَة ُ وَالنَّطِيحَة ُ ( المائدة 3 ) فيكون المعنى تردى في الحفرة إذا قبر أو تردى في قعر جهنم وتقدير الآية إنا إذا يسرناه للعسرى وهي النار تردى في جهنم فماذا يغني عنه ماله الذي بخل به وتركه لوارثه ولم يصحبه منه إلى آخرته التي هي موضع فقره وحاجته شيء كما قال وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ ( الأنعام 94 ) وقال وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً ( مريم 80 ) أخبر أن الذي ينتفع الإنسان به هو ما يقدمه الإنسان من أعمال البر وإعطاء الأموال في حقوقها دون المال الذي يخلفه على ورثته الثاني أن تردى تفعل من الردى وهو الهلاك يريد الموت أما قوله تعالى
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى
فاعلم أنه تعالى لما عرفهم أن سعيهم شتى في العواقب وبين ما للمحسن من اليسرى وللمسيء من العسرى أخبرهم أنه قد قضى ما عليه من البيان والدلالة والترغيب والترهيب والإرشاد والهداية فقال إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى أي إن الذي يجب علينا في الحكمة إذا خلقنا الخلق للعبادة أن نبين لهم وجوه التعبد وشرح ما يكون المتعبد به مطيعاً مما يكون به عاصياً إذ كنا إنما خلقناهم لننفعهم ونرحمهم ونعرضهم للنعيم المقيم فقد فعلنا ما كان فعله واجباً علينا في الحكمة والمعتزل احتجوا بهذه الآية على صحة مذهبهم في مسائل إحداها أنه تعالى أباح الأعذار وما كلف المكلف إلا ما في وسعه وطاقته فثبت أنه تعالى لا يكلف بما لا يطاق وثانيها أن كلمة على للوجوب فتدل على أنه قد يجب للعبد على الله شيء وثالثها أنه لو لم يكن العبد مستقلاً بالإيجاد لما كان في وضع الدلائل فائدة وأجوبة أصحابنا عن مثل هذه الوجوه مشهورة وذكر الواحدي وجهاً آخر نقله عن الفراء فقال المعنى إن علينا للهدى والإضلال فترك الإضلال كما قال سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( النحل 81 ) وهي تقي الحر والبرد وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء قال يريد أرشد أوليائي إلى العمل بطاعتي وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي فذكر معنى الإضلال قالت المعتزلة هذا التأويل ساقط لقوله تعالى وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ( النحل 9 ) فبين أن قصد السبيل على الله وأما جور السبيل فبين أنه ليس على الله ولا منه واعلم أن الاستقصاء قد سبق في تلك الآية(31/183)
أما قوله تعالى
وَإِنَّ لَنَا لَلاٌّ خِرَة َ وَالاٍّ ولَى
ففيه وجهان الأول أن لنا كل ما في الدنيا والآخرة فليس يضرنا ترككم الاهتداء بهدانا ولا يزيد في ملكنا اهتداؤكم بل نفع ذلك وضره عائدان عليكم ولو شئنا لمنعناكم من المعاصي قهراً إذ لنا الدنيا والآخرة ولكننا لا نمنعكم من هذا الوجه لأن هذا الوجه يخل بالتكليف بل نمنعكم بالبيان والتعريف والوعد والوعيد الثاني أن لنا ملك الدارين نعطي ما نشاء من نشاء فيطلب سعادة الدارين منا والأول أوفق لقول المعتزلة والثاني أوفق لقولنا أما قوله تعالى
فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى لاَ يَصْلَاهَآ إِلاَّ الاٌّ شْقَى الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى
تلظى أي تتوقد وتتلهب وتتوهج يقال تلظت النار تلظياً ومنه سميت جهنم لظى ثم بين أنها لمن هي بقوله لاَ يَصْلَاهَا إِلاَّ الاْشْقَى قال ابن عباس نزلت في أمية بن خلف وأمثاله الذين كذبوا محمداً والأنبياء قبله وقيل إن الأشقى بمعنى الشقي كما يقال لست فيها بأوحد أي بواحد فالمعنى لا يدخلها إلا الكافر الذي هو شقي لأنه كذب بآيات الله وتولى أي أعرض عن طاعة الله واعلم أن المرجئة يتمسكون بهذه الآية في أنه لا وعيد إلا على الكفار قال القاضي ولا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ويدل على ذلك ثلاثة أوجه أحدها أنه يقتضي أن لا يدخل النار إِلاَّ الاْشْقَى الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى فوجب في الكافر الذي لم يكذب ولم يتول أن لا يدخل النار وثانيها أن هذا إغراء بالمعاصي لأنه بمنزلة أن يقول الله تعالى لمن صدق بالله ورسوله ولم يكذب ولم يتول أي معصية أقدمت عليها فلن تضرك وهذا يتجاوز حد الإغراء إلى أن تصير كالإباحة وتعالى الله عن ذلك وثالثها أن قوله تعالى من بعد وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى ( الليل 17 ) يدل على ترك هذا الظاهر لأنه معلوم من حال الفاسق أنه ليس بأتقى لأن ذلك مبالغة في التقوى ومن يرتكب عظائم الكبائر لا يوصف بأنه أتقى فإن كان الأول يدل على أن الفاسق لا يدخل النار فهذا الثاني يدل على أن الفاسق لا يجنب النار وكل مكلف لا يجنب النار فلا بد وأن يكون من أهلها ولما ثبت أنه لا بد من التأويل فنقول فيه وجهان الأول أن يكون المراد بقوله نَاراً تَلَظَّى ناراً مخصوصة من النيران لأنها دركات لقوله تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ ( النساء 145 ) فالآية تدل على أن تلك النار المخصوصة لا يصلاها سوى هذا الأشقى ولا تدل على أن الفاسق وغير من هذا صفته من الكفار لا يدخل سائر النيران الثاني أن المراد بقوله نَاراً تَلَظَّى النيران أجمع ويكون المراد بقوله لاَ يَصْلَاهَا إِلاَّ الاْشْقَى أي هذا الأشقى به أحق وثبوت هذه الزيادة في الاستحقاق غير حاصل إلا لهذا الأشقى واعلم أن وجوه القاضي ضعيفة
أما قوله أولاً يلزم في غير هذا الكافر أن لا يدخل النار فجوابه أن كل كافر لا بد وأن يكون مكذباً للنبي في دعواه ويكون متولياً عن النظر في دلالة صدق ذلك النبي فيصدق عليه أنه أشقى من سائر العصاة وأنه كَذَّبَ وَتَوَلَّى وإذا كان كل كافر داخلاً في الآية سقط ما قاله القاضي
وأما قوله ثانياً إن هذا إغراء بالمعصية فضعيف أيضاً لأنه يكفي في الزجر عن المعصية حصول الذم في العاجل وحصول غضب الله بمعنى أنه لا يكرمه ولا يعظمه ولا يعطيه الثواب ولعله يعذبه بطريق آخر فلم يدل دليل على انحصار طريق التعذيب في إدخال النار(31/184)
وأما قوله ثالثاً وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى فهذا لا يدل على حال غير الأتقى إلا على سبيل المفهوم والتمسك بدليل الخطاب وهو ينكر ذلك فكيف تمسك به والذي يؤكد هذا أن هذا يقتضي فيمن ليس بأتقى دخول النار فيلزم في الصبيان والمجانين أن يدخلوا النار وذلك باطل
وأما قوله رابعاً المراد منه نار مخصوصة وهي النار التي تتلظى فضعيف أيضاً لأن قوله نَاراً تَلَظَّى يحتمل أن يكون ذلك صفة لكل النيران وأن يكون صفة لنار مخصوصة لكنه تعالى وصف كل نار جهنم بهذا الوصف في آية أخرى فقال كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَة ً لّلشَّوَى
وأما قوله المراد إن هذا الأشقى أحق به فضعيف لأنه ترك للظاهر من غير دليل فثبت ضعف الوجوه التي ذكرها القاضي فإن قيل فما الجواب عنه على قولكم فإنكم لا تقطعون بعدم وعيد الفساق الجواب من وجهين الأول ما ذكره الواحدي وهو أن معنى لاَ يَصْلَاهَا لا يلزمها في حقيقة اللغة يقال صلى الكافر النار إذا لزمها مقاسياً شدتها وحرها وعندنا أن هذه الملازمة لا تثبت إلا للكافر أما الفاسق فإما أن لا يدخلها أو إن دخلها تخلص منها الثاني أن يخص عموم هذا الظاهر بالآيات الدالة على وعيد الفساق والله أعلم قوله تعالى
وَسَيُجَنَّبُهَا الاٌّ تْقَى الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لاًّحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَة ٍ تُجْزَى
معنى سيجنبها أي سيبعدها ويجعل منها على جانب يقال جنبته الشيء أي بعدته وجنبته عنه وفيه مسألتان
المسألة الأولى أجمع المفسرون منا على أن المراد منه أبو بكر رضي الله تعالى عنه واعلم أن الشيعة بأسرهم ينكرون هذه الرواية ويقولون إنها نزلت في حق علي بن أبي طالب عليه السلام والدليل عليه قوله تعالى وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( المائدة 55 ) فقوله الاْتْقَى الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى إشارة إلى ما في الآية من قوله يُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ ولما ذكر ذلك بعضهم في محضري قلت أقيم الدلالة العقلية على أن المراد من هذه الآية أبو بكر وتقريرها أن المراد من هذا الأتقى هو أفضل الخلق فإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد هو أبو بكر فهاتان المقدمتان متى صحتا صح المقصود إنما قلنا إن المراد من هذا الأتقى أفضل الخلق لقوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( الحجرات 13 ) والأكرم هو الأفضل فدل على أن كل من كان أتقى وجب أن يكون أفضل فإن قيل الآية دلت على أن كل من كان أكرم كان أتقى وذلك لا يقتضي أن كل من كان أتقى كان أكرم قلنا وصف كون الإنسان أتقى معلوم مشاهد ووصف كونه أفضل غير معلوم ولا مشاهد والإخبار عن المعلوم بغير المعلوم هو الطريق الحسن أما عكسه فغير مفيد فتقدير الآية كأنه وقعت الشبهة في أن الأكرم عند الله من هو فقيل هو الأتقى وإذا كان كذلك كان التقدير أتقاكم أكرمكم عند الله فثبت أن الأتقى المذكور ههنا لا بد وأن يكون أفضل الخلق عند الله فنقول لا بد وأن يكون المراد به أبا بكر لأن الأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله إما أبو بكر أو علي ولا يمكن حمل هذه الآية على علي بن أبي طالب فتعين حملها على أبي بكر وإنما قلنا إنه لا يمكن حملها على علي بن أبي طالب لأنه قال في صفة هذا الأتقى وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَة ٍ تُجْزَى(31/185)
وهذا الوصف لا يصدق على علي بن أبي طالب لأنه كان في تربية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه أخذه من أبيه وكان يطعمه ويسقيه ويكسوه ويربيه وكان الرسول منعماً عليه نعمة يجب جزاؤها أما أبو بكر فلم يكن للنبي عليه الصلاة والسلام عليه دنيوية بل أبو بكر كان ينفق على الرسول عليه السلام بل كان للرسول عليه السلام عليه نعمة الهداية والإرشاد إلى الدين إلا أن هذا لا يجزى لقوله تعالى مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ( الفرقان 57 ) والمذكور ههنا ليس مطلق النعمة بل نعمة تجزى فعلمنا أن هذه الآية لا تصلح لعلي بن أبي طالب وإذا ثبت أن المراد بهذه الآية من كان أفضل الخلق وثبت أن ذلك الأفضل من الأمة إما أبو بكر أو علي وثبت أن الآية غير صالحة لعلي تعين حملها على أبي بكر رضي الله عنه وثبت دلالة الآية أيضاً على أن أبا بكر أفضل الأمة وأما الرواية فهي أنه كان بلال ( عبداً ) لعبد الله بن جدعان فسلح على الأصنام فشكا إليه المشركون فعله فوهبه لهم ومائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء وهو يقول أحد أحد فمر به رسول الله وقال ينجيك أحد أحد ثم أخبر رسول الله أبا بكر أن بلالاً يعذب في الله فحمل أبو بكر رطلاً من ذهب فابتاعه به فقال المشركون ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده فنزل وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَة ٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى ( الليل 20 ) وقال ابن الزبير وهو على المنبر كان أبو بكر يشتري الضعفة من العبيد فيعتقهم فقال له أبوه يا بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك فقال منع ظهري أريد فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) في محل يَتَزَكَّى وجهان إن جعلت بدلاً من يؤتي فلا محل له لأنه داخل في حكم الصلة والصلات لا محل لها وإن جعلته حالاً من الضمير في يُؤْتِى فمحله النصب
إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الاٌّ عْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى
فيه مسائل
المسألة الأولى ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ مستثنى من غير جنسه وهو النعمة أي مَا لاِحَدٍ عِندَهُ ( الليل 19 ) نعمة إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ كقولك ما في الدار أحداً إلا حماراً وذكر الفراء فيه وجهاً آخر وهو أن يضمر الإنفاق على تقدير ما ينفق إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى كقوله وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ ( البقرة 272 )
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى بين أن هذا الاْتْقَى الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى ( الليل 18 17 ) لا يؤتيه مكافأة على هدية أو نعمة سالفة لأن ذلك يجري مجرى أداء الدين فلا يكون له دخل في استحقاق مزيد الثواب بل إنما يستحق الثواب إذا فعله لأجل أن الله أمره به وحثه عليه
المسألة الثالثة المجسمة تمسكوا بلفظة الوجه والملحدة تمسكوا بلفظة رَبّهِ الاْعْلَى وإن ذلك يقضي وجود رب آخر وقد تقدم الكلام على كل ذلك
المسألة الرابعة ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب الإمامة فقال الآية الواردة في حق علي عليه السلام إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً(31/186)
( الإنسان 10 9 ) والآية الواردة في حق أبي بكر إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى فدلت الآيتان على أن كل واحد منهما إنما فعل ما فعل لوجه الله إلا أن آية علي تدل على أنه فعل ما فعل لوجه الله وللخوف من يوم القيامة على ما قال إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً وأما آية أبي بكر فإنها دلت على أنه فعل ما فعل لمحض وجه الله من غير أن يشوبه طمع فيما يرجع إلى رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب فكان مقام أبي بكر أعلى وأجل
المسألة الخامسة من الناس من قال ابتغاء الله بمعنى ابتغاء ذاته وهي محال فلا بد وأن يكون المراد ابتغاء ثوابه وكرامته ومن الناس من قال لا حاجة إلى هذا الإضمار وحقيقة هذه المسألة راجعة إلى أنه هل يمكن أن يحب العبد ذات الله أو المراد من هذه المحبة محبة ثوابه وكرامته وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في تفسير قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ ( البقرة 165 )
المسألة السادسة قرأ يحيى بن وثاب إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ بالرفع على لغة من يقول ما في الدار أحد إلا حماراً وأنشد في اللغتين قوله وبلدة ليس بها أنيس
إلا اليعافير وإلا العيس
أما قوله وَلَسَوْفَ يَرْضَى فالمعنى أنه وعد أبا بكر أن يرضيه في الآخرة بثوابه وهو كقوله لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( الضحى 5 ) وفيه عندي وجه آخر وهو أن المراد أنه ما أنفق إلا لطلب رضوان الله ولسوف يرضى الله عنه وهذا عندي أعظم من الأول لأن رضا الله عن عبده أكمل للعبد من رضاه عن ربه وبالجملة فلا بد من حصول الأمرين على ما قال رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً ( الفجر 28 ) والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(31/187)
سورة الضحى
إحدى عشرة آية مكية
وأنا على عزم أن أضم إلى تفسير هذه السورة ما فيها من اللطائف التذكارية
وَالضُّحَى وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى
لأهل التفسير في قوله وَالضُّحَى وجهان أحدهما أن المراد بالضحى وقت الضحى وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس وتلقي شعاعها وثانيها الضحى هو النهار كله بدليل أنه جعل في مقابلة الليل كله
وأما قوله وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى فذكر أهل اللغة في سَجَى ثلاثة أوجه متقاربة سكن وأظلم وغطى أما الأول فقال أبو عبيد والمبرد والزجاج سجى أي سكن يقال ليلة ساجية أي ساكنة الريح وعين ساجية أي فائزة الطرف وسجى البحر إذا سكنت أمواجه وقال في الدعاء
يا مالك البحر إذا البحر سجى
وأما الثاني وهو تفسير سجى بأظلم فقال الفراء سجى أي أظلم وركد في طوله
وأما الثالث وهو تفسير سجى بغطى فقال الأصمعي وابن الأعرابي سجى الليل تغطيته النهار مثل ما يسجى الرجل بالثوب واعلم أن أقوال المفسرين غير خارجة عن هذه الوجوه الثلاثة فقال ابن عباس غطى الدنيا بالظلمة وقال الحسن ألبس الناس ظلامه وقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير إذا أقبل الليل غطى كل شيء وقال مجاهد وقتادة والسدي وابن زيد سكن بالناس ولسكونه معنيان أحدهما سكون الناس فنسب إليه كما يقال ليل نائم ونهار صائم والثاني هو أن سكونه عبارة عن استقرار ظلامه(31/188)
واستوائه فلا يزداد بعد ذلك وههنا سؤالات
السؤال الأول ما الحكمة في أنه تعالى في السورة الماضية قدم ذكر الليل وفي هذه السورة أخره قلنا فيه وجوه أحدها أن بالليل والنهار ينتظم مصالح المكلفين والليل له فضيلة السبق لقوله وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الأنعام 1 ) وللنهار فضيلة النور بل الليل كالدنيا والنهار كالآخرة فلما كان لكل واحد فضيلة ليست للآخر لا جرم قدم هذا على ذاك تارة وذاك على هذا أخرى ونظيره أنه تعالى قدم السجود على الركوع في قوله وَاسْجُدِى وَارْكَعِى ( آل عمران 43 ) ثم قدم الركوع على السجود في قوله ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ ( الحج 77 ) وثانيها أنه تعالى قدم الليل على النهار في سورة أبي بكر لأن أبا بكر سبقه كفر وههنا قدم الضحى لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ما سبقه ذنب وثالثها سورة والليل سورة أبي بكر وسورة الضحى سورة محمد عليه الصلاة والسلام ثم ما جعل بينهما واسطة ليعلم أنه لا واسطة بين محمد وأبي بكر فإذا ذكرت الليل أولاً وهو أبو بكر ثم صعدت وجدت بعده النهار وهو محمد وإن ذكرت والضحى أولاً وهو محمد ثم نزلت وجدت بعده والليل وهو أبو بكر ليعلم أنه لا واسطة بينهما
السؤال الثاني ما الحكمة ههنا في الحلف بالضحى والليل فقط والجواب لوجوه أحدها كأنه تعالى يقول الزمان ساعة فساعة ساعة ليل وساعة نهار ثم يزداد فمرة تزداد ساعات الليل وتنقص ساعات النهار ومرة بالعكس فلا تكون الزيادة لهوى ولا النقصان لقلى بل للحكمة كذا الرسالة وإنزال الوحي بحسب المصالح فمرة إنزال ومرة حبس فلا كان الإنزال عن هوى ولا كان الحبس عن قلى وثانيها أن العالم لا يؤثر كلامه حتى يعمل به فلما أمر الله تعالى بأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر لم يكن بد من أن يعمل به فالكفار لما ادعوا أن ربه ودعه وقلاه قال هاتوا الحجة فعجزوا فلزمه اليمين بأنه ما ودعه ربه وما قلاه وثانيها كأنه تعالى يقول انظروا إلى جوار الليل مع النهار لا يسلم أحدهما عن الآخر بل الليل تارة يغلب وتارة يغلب فكيف تطمع أن تسلم على الخلق
السؤال الثالث لم خص وقت الضحى بالذكر الجواب فيه وجوه أحدها أنه وقت اجتماع الناس وكمال الأنس بعد الاستيحاش في زمان الليل فبشروه أن بعد استيحاشك بسبب احتباس الوحي يظهر ضحى نزول الوحي وثانيها أنها الساعة التي كلم فيها موسى ربه وألقى فيها السحرة سجداً فاكتسى الزمان صفة الفضيلة لكونه ظرفاً فكيف فاعل الطاعة ا وأفاد أيضاً أن الذي أكرم موسى لا يدع إكرامك والذي قلب قلوب السحرة حتى سجدوا يقلب قلوب أعدائك
السؤال الرابع ما السبب في أنه ذكر الضحى وهو ساعة من النهار وذكر الليل بكليته الجواب فيه وجوه أحدها أنه إشارة إلى أن ساعة من النهار توازي جميع الليل كما أن محمداً إذا وزن يوازي جميع الأنبياء والثاني أن النهار وقت السرور والراحة والليل وقت الوحشة والغم فهو إشارة إلى أن هموم الدنيا أدوم من سرورها فإن الضحى ساعة والليل كذا ساعات يروى أن الله تعالى لما خلق العرش أظلت غمامة سوداء عن يسارة ونادت ماذا أمطر فأجيبت أن امطري الهموم والأحزان مائة سنة ثم انكشفت فأمرت مرة أخرى بذلك وهكذا إلى تمام ثلاثمائة سنة ثم بعد ذلك أظلت عن يمين العرش غمامة بيضاء ونادت ماذا أمطر فأجيبت أن أمطري السرور ساعة فلهذا السبب ترى الغموم والأحزان دائمة والسرور قليلاً ونادراً(31/189)
وثالثها أن وقت الضحى وقت حركة الناس وتعارفهم فصارت نظير وقت الحشر والليل إذا سكن نظير سكون الناس في ظلمة القبور فكلاهما حكمة ونعمة لكن الفضيلة للحياة على الموت ولما بعد الموت على ما قبله فلهذا السبب قدم ذكر الضحى على ذكر الليل ورابعها ذكروا الضحى حتى لا يحصل اليأس من روحه ثم عقبه بالليل حتى لا يحصل الأمن من مكره
السؤال الخامس هل أحد من المذكرين فسر الضحى بوجه محمد والليل بشعره والجواب نعم ولا استبعاد فيه ومنهم من زاد عليه فقال والضحى ذكور أهل بيته والليل إناثهم ويحتمل الضحى رسالته والليل زمان احتباس الوحي لأن في حال النزول حصل الاستئناس وفي زمن الاحتباس حصل الاستيحاش ويحتمل والضحى نور علمه الذي به يعرف المستور من الغيوب والليل عفوه الذي به يستر جميع الغيوب ويحتمل أن الضحى إقبال الإسلام بعد أن كل غريباً والليل إشارة إلى أنه سيعود غريباً ويحتمل والضحى كمال العقل والليل حال الموت ويحتمل أقسم بعلانيتك التي لا يرى عليها الخلق عيباً وبسرك الذي لا يعلم عليه عالم الغيب عيباً
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى
فيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو عبيدة والمبرد ودعك من التوديع كما يودع المفارق وقرىء بالتخفيف أي ما تركك والتوديع مبالغة في الوداع لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك والقلى البغض يقال قلاة يقليه قلى ومقلية إذا أبغضه قال الفراء يريد وما قلاك وفي حذف الكاف وجوه أحدها حذفت الكاف اكتفاء بالكاف الأولى في ودعك ولأن رؤس الآيات بالياء فأوجب اتفاق الفواصل حذف الكاف وثانيها فائدة الإطلاق أنه ما قلاك ولا ( فلا ) أحد من أصحابك ولا أحداً ممن أحبك إلى قيام القيامة تقريراً لقوله ( المرء مع من أحب )
المسألة الثانية قال المفسرون أبطأ جبريل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال المشركون قد قلاه الله وودعه فأنزل الله تعالى عليه هذه الآية وقال السدي أبطأ عليه أربعين ليلة فشكا ذلك إلى خديجة فقالت لعل رنك نسيك أو قلاك وقيل إن أم جميل امرأة أبي لهب قالت له يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك وروي عن الحسن أنه قال أبطأ على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الوحي فقال لخديجة ( إن ربي ودعني وقلاني يشكو إليها فقالت كلا والذي بعثك بالحق ما ابتدأك الله بهذه الكرامة إلا وهو يريد أن يتمها لك ) فنزل مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وطعن الأصوليون في هذه الرواية وقالوا إنه لا يليق بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن يظن أن الله تعالى ودعه وقلاه بل يعلم أن عزل النبي عن النبوة غير جائز في حكمة الله تعالى ويعلم أن نزول الوحي يكون بحسب المصلحة وربما كان الصلاح تأخيره وربما كان خلاف ذلك فثبت أن هذا الكلام غير لائق بالرسول عليه الصلاة والسلام ثم إن صح ذلك يحمل على أنه كان مقصوده عليه الصلاة والسلام أن يجربها ليعرف قدر علمها أو ليعرف الناس قدر علمها واختلفوا في قدر مدة انقطاع الوحي فقال ابن جريج اثنا عشر يوماً وقال الكلبي خمسة عشر يوماً وقال ابن عباس خمسة وعشرون يوماً وقال السدي ومقاتل أربعون يوماً(31/190)
واختلفوا في سبب احتباس جبريل عليه السلام فذكر أكثر المفسرين أن اليهود سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف فقال ( سأخبركم غداً ولم يقل إن شاء الله ) فاحتبس عنه الوحي وقال ابن زيد السبب فيه كون جرو في بيته للحسن والحسين فلما نزل جبريل عليه السلام عاتبه رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال ( أما علمت أنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ) وقال جندب بن سفيان رمى النبي عليه الصلاة بحجر في إصبعه فقال هل أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
فأبطأ عنه الوحي وروي أنه كان فيهم من لا يقلم الأظفار وههنا سؤالان
السؤال الأول الروايات التي ذكرتم تدل على أن احتباس الوحي كان عن قلى قُلْنَا أقصى ما في الباب أن ذلك كان تركاً للأفضل والأولى وصاحبه لا يكون ممقوتاً ولا مبغضاً وروى أنه عليه الصلاة والسلام قال لجبريل ( ما جثتني حتى اشتقت إليك فقال جبريل كنت إليك أشوق ولكني عبداً مأموراً ) وتلا وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ ( مريم 64 )
السؤال الثاني كيف يحسن من السلطان أن يقول لأعظم الخلق قربة عنده إني لا أبغضك تشريفاً له الجواب أن ذلك لا يحسن ابتداء لكن الأعداء إذا ألقوا في الألسنة أن السلطان يبغضه ثم تأسف ذلك المقرب فلا لفظ أقرب إلى تشريفه من أن يقول له إني لا أبغضك ولا أدعك وسوف ترى منزلتك عندي
المسألة الثالثة هذه الواقعة تدل على أن القرآن من عند الله إذ لو كان من عنده لما امتنع
وَلَلاٌّ خِرَة ُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاٍّ ولَى
واعلم أن في اتصاله بما تقدم وجوهاً أحدها أن يكون المعنى أن انقطاع الوحي لا يجوز أن يكون لأنه عزل عن النبوة بل أقصى ما في الباب أن يكون ذلك لأنه حصل الاستغناء عن الرسالة وذلك أمارة الموت فكأنه يقال انقطاع الوحي متى حصل دل على الموت لكن الموت خير لك فإن مالك عند الله في الآخرة خير وأفضل مما لك في الدنيا وثانيها لما نزل مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ( الضحى 3 ) حصل له بهذا تشريف عظيم فكأنه استعظم هذا التشريف فقيل له وَلَلاْخِرَة ُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى أي هذا التشريف وإن كان عظيماً إلا أن مالك عند الله في الآخرة خير وأعظم وثالثها ما يخطر ببالي وهو أن يكون المعنى وللأحوال الآتية خير لك من الماضية كأنه تعالى وعده بأنه سيزيده كل يوم عزاً إلى عز ومنصباً إلى منصب فيقول لا تظن أني قليتك بل تكون كل يوم يأتي فإني أزيدك منصباً وجلالاً وههنا سؤالان
السؤال الأول بأي طريق يعرف أن الآخرة كانت له خيراً من الأولى الجواب لوجوه أحدها كأنه تعالى يقول له إنك في الدنيا على خير لأنك تفعل فيها ما تريد ولكن الآخرة خير لك لأنا نفعل فيها ما نريد وثانيها الآخرة خير لك يجتمع عندك أمتك إذ الأمة له كالأولاد قال تعالى وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ(31/191)
( الأحزاب 6 ) وهو أب لهم وأمته في الجنة فيكون كأن أولاده في الجنة ثم سمى الولد قرة أعين حيث حكى عنهم هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّة َ أَعْيُنٍ ( الفرقان 74 ) وثالثها الآخرة خير لك لأنك اشتريتها أما هذه ليست لك فعلى تقدير أن لو كانت الآخرة أقل من الدنيا لكانت الآخرة خيراً لك لأن مملوكك خير لك مما لا يكون مملوكاً لك فكيف ولا نسبة للآخرة إلى الدنيا في الفضل ورابعها الآخرة خير لك من الأولى لأن في الدنيا الكفار يطعنون فيك أما في الآخرة فأجعل أمتك شهداء على الأمم وأجعلك شهيداً على الأنبياء ثم أجعل ذاتي شهيداً لك كما قال وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ( الفتح 29 28 ) وخامسها أن خيرات الدنيا قليلة مشوبة منقطعة ولذات الآخرة كثيرة خالصة دائمة
السؤال الثاني لم قال وَلَلاْخِرَة ُ خَيْرٌ لَّكَ ولم يقل خير لكم الجواب لأنه كان في جماعته من كانت الآخرة شراً له فلو أنه سبحانه عمم لكان كذباً ولو خصص المطيعين بالذكر لافتضح المذنبون والمنافقون ولهذا السبب قال موسى عليه السلام كَلاَّ إِنَّ مَعِى َ رَبّى سَيَهْدِينِ ( الشعراء 62 ) وأما محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قالذي كان معه لما كان من أهل السعادة قطعاً لا جرم قال إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ( التوبة 40 ) إذ لم يكن ثم إلا نبي وصديق وروي أن موسى عليه السلام خرج للاستسقاء ومعه الألوف ثلاثة أيام فلم يجدوا الإجابة فسأل موسى عليه السلام عن السبب الموجب لعدم الإجابة فقال لا أجيبكم ما دام معكم ساع بالنميمة فسأل موسى من هو فقال ( إني ) أبغضه فكيف أعمل عمله فما مضت مدة قليلة حتى نزل الوحي بأن ذلك النمام قد مات وهذه جنازته في مصلى كذا فذهب موسى عليه السلام إلى تلك المصلى فإذا فيها سبعون من الجنائز فهذا ستره على أعدائه فكيف على أوليائه ثم تأمل فإن فيه دقيقة لطيفة وهي أنه عليه السلام قال ( لولا شيوخ ركع ) وفيه إشارة إلى زيادة فضيلة هذه الأمة فإنه تعالى كان يرد الألوف لمذنب واحد وههنا يرحم المذنبين لمطيع واحد
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى
واعلم اتصاله بما تقدم من وجهين الأول هو أنه تعالى لما بين أن الآخرة خير له من الأولى ولكنه لم يبين أن ذلك التفاوت إلى أي حد يكون فبين بهذه الآية مقدار ذلك التفاوت وهو أنه ينتهي إلى غاية ما يتمناه الرسول ويرتضيه الوجه الثاني كأنه تعالى لما قال وَلَلاْخِرَة ُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى ( الضحى 4 ) فقيل ولم قلت إن الأمر كذلك فقال لأنه يعطيه كل ما يريده وذلك مما لا تتسع الدنيا له فثبت أن الآخرة خير له من الأولى واعلم أنه إن حملنا هذا الوعد على الآخرة فقد يمكن حمله على المنافع وقد يمكن حمله على التعظيم أما المنافع فقال ابن عباس ألف قصر في الجنة من لؤلؤ أبيض ترابه المسك وفيها ما يليق بها وأما التعظيم فالمروى عن علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس أن هذا هو الشفاعة في الأمة يروى أنه عليه السلام لما نزلت هذه الآية قال إذاً لا أرضى وواحد من أمتي في النار واعلم أن الحمل على الشفاعة متعين ويدل عليه وجوه أحدها أنه تعالى أمره في الدنيا بالاستغفار فقال أَسْتَغْفِرُ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( محمد 19 ) فأمره بالاستغفار والاستغفار عبارة عن طلب المغفرة ومن طلب شيئاً فلا شك أنه لا يريد الرد ولا يرضى به وإنما(31/192)
يرضى بالإجابة وإذا ثبت أن الذي يرضاه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) هو الإجابة لا الرد ودلت هذه الآية على أنه تعالى يعطيه كل ما يرتضيه علمنا أن هذه الآية دالة على الشفاعة في حق المذنبين والثاني وهو أن مقدمة الآية مناسبة لذلك كأنه تعالى يقول لا أودعك ولا أبغضك بل لا أغضب على أحد من أصحابك وأتباعك وأشياعك طلباً لمرضاتك وتطييباً لقلبك فهذا التفسير أوفق لمقدمة الآية والثالث الأحاديث الكثيرة الواردة في الشفاعة دالة على أن رضا الرسول عليه الصلاة والسلام في العفو عن المذنبين وهذه الآية دلت على أنه تعالى يفعل كل ما يرضاه الرسول فتحصل من مجموع الآية والخبر حصول الشفاعة وعن جعفر الصادق عليه السلام أنه قال رضاء جدي أن لا يدخل النار موحد وعن الباقر أهل القرآن يقولون أرجى آية قوله قُلْ ياعِبَادِى َ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( الزمر 53 ) وإنا أهل البيت نقول أرجى آية قوله وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى والله إنها الشفاعة ليعطاها في أهل لا إله إلا الله حتى يقول رضيت هذا كله إذا حملنا الآية على أحوال الآخرة أما لو حملنا هذا الوعد على أحوال الدنيا فهو إشارة إلى ما أعطاه الله تعالى من الظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة ودخول الناس في الدين أفواجاً والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن و ( ما ) هدم بأيديهم من ممالك الجبابرة وأنهبهم من كنوز الأكاسرة وما قذف في أهل الشرق والغرب من الرعب وتهييب الإسلام وفشو الدعوة واعلم أن الأولى حمل الآية على خيرات الدنيا والآخرة وههنا سؤالات
السؤال الأول لم لم يقل يعطيكم مع أن هذه السعادات حصلت للمؤمنين أيضاً الجواب لوجوه أحدها أنه المقصود وهم أتباع وثانيها أني إذا أكرمت أصحابك فذاك في الحقيقة إكرام لك لأني أعلم أنك بلغت في الشفقة عليهم إلى حيث تفرح بإكرامهم فوق ما تفرح بإكرام نفسك ومن ذلك حيث تقول الأنبياء نفسي نفسي أي أبدأ بجزائي وثوابي قبل أمتي لأن طاعتي كانت قبل طاعة أمتي وأنت تقول أمتي أمتي أي أبدأ بهم فإن سروري أن أراهم فائزين بثوابهم وثالثها أنك عاملتني معاملة حسنة فإنهم حين شجوا وجهك قلت ( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ) وحين شغلوك يوم الخندق عن الصلاة قلت ( اللهم املأ بطونهم ناراً ) فتحملت الشجة الحاصلة في وجه جسدك وما تحملت الشجة الحاصلة في وجه دينك فإن وجه الدين هو الصلاة فرجحت حقي على حقك لا جرم فضلتك فقلت من ترك الصلاة سنين أو حبس غيره عن الصلاة سنين لا أكفره ومن آذى شعرة من شعراتك أو جزء من نعلك أكفره
السؤال الثاني ما الفائدة في قوله وَلَسَوْفَ ولم لم يقل وسيعطيك ربك الجواب فيه فوائد إحداها أنه يدل على أنه ما قرب أجله بل يعيش بعد ذلك زماناً وثانيها أن المشركين لما قالوا ودعه ربه وقلاه فالله تعالى رد عليهم بعين تلك اللفظة فقال مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ( الضحى 3 ) ثم قال المشركون سوف يموت محمد فرد الله عليهم ذلك بهذه اللفظة فقال وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى
السؤال الثالث كيف يقول الله وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى الجواب هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام جبريل عليه السلام معه لأنه كان شديد الاشتياق إليه وإلى كلامه كما ذكرنا فأراد الله تعالى أن يكون هو المخاطب له بهذه البشارات(31/193)
السؤال الرابع ما هذه اللام الداخلة على سوف الجواب قال صاحب ( الكشاف ) هي لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة والمبتدأ محذوف تقديره ولأنت سوف يعطيك ربك والدليل على ما قلنا أنها إما أن تكون لام القسم أو لام الابتداء ولام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد فبقي أن تكون لام ابتداء ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر فلا بد من تقدير مبتدأ وخبر وأن يكون أصله ولأنت سوف يعطيك فإن قيل ما معنى الجمع بين حرفي التوكيد والتأخير قلنا معناه أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى
فيه مسائل
المسألة الأولى أن اتصاله بما تقدم هو أنه تعالى يقول أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فقال الرسول بلى يا رب فيقول انظر ( أ ) كانت طاعاتك في ذلك الوقت أكرم أم الساعة فلا بد من أن يقال بل الساعة فيقول الله حين كنت صبياً ضعيفاً ما تركناك بل ربيناك ورقيناك إلى حيث صرت مشرفاً على شرفات العرش وقلنا لك لولاك ما خلقنا الأفلاك أتظن أنا بعد هذه الحالة نهجرك ونتركك
المسألة الثانية أَلَمْ يَجِدْكَ من الوجود الذي بمعنى العلم والمنصوبان مفعولا وجد والوجود من الله والمعنى ألم يعلمك الله يتيماً فآوى وذكروا في تفسير اليتيم أمرين الأول أن عبد الله بن عبد المطلب فيما ذكره أهل الأخبار توفي وأم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حامل به ثم ولد رسول الله فكان مع جده عبد المطلب ومع أمه آمنة فهلكت أمه آمنة وهو ابن ست سنين فكان مع جده ثم هلك جده بعد أمه بسنتين ورسول الله ابن ثمان سنين وكان عبد المطلب يوصي أبا طالب به لأن عبد الله وأبا طالب كانا من أم واحدة فكان أبو طالب هو الذي يكفل رسول الله بعد جده إلى أن بعثه الله للنبوة فقام بنصرته مدة مديدة ثم توفي أبو طالب بعد ذلك فلم يظهر على رسول الله يتم البتة فأذكره الله تعالى هذه النعمة روى أنه قال أبو طالب يوماً لأخيه العباس ألا أخبرك عن محمد بما رأيت منه فقال بلى فقال إني ضممته إلي فكيف لا أفارقه ساعة من ليل ولا نهار ولا أأتمن عليه أحداً حتى أني كنت أنومه في فراشي فأمرته ليلة أن يخلع ثيابه وينام معي فرأيت الكراهة في وجهه لكنه كره أن يخالفني وقال يا عماه اصرف بوجهك عني حتى أخلع ثيابي إذ لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى جسدي فتعجبت من قوله وصرفت بصري حتى دخل الفراش فلما دخلت معه الفراش إذا بيني وبينه ثوب والله ما أدخلته فراشي فإذا هو في غاية اللين وطيب الرائحة كأنه غمس في المسك فجهدت لأنظر إلى جسده فما كنت أرى شيئاً وكثيراً ما كنت أفتقده من فراشي فإذا قمت لأطلبه ناداني ها أنا يا عم فارجع ولقد كنت كثيراً ما أسمع منه كلاماً يعجبني وذلك عند مضي الليل وكنا لا نسمي على الطعام والشراب ولا نحمده بعده وكان يقول في أول الطعام بسم الله الأحد فإذا فرغ من طعامه قال الحمدلله فتعجبت منه ثم لم أر منه كذبة ولا ضحكاً ولا جاهلية ولا وقف مع صبيان يلعبون
واعلم أن العجائب المروية في حقه من حديث بحيرى الراهب وغيره مشهورة
التفسير الثاني لليتيم أنه من قولهم درة يتيمة والمعنى ألم يجدك واحداً في قريش عديم النظير(31/194)
فآواك أي جعل لك من تأوي إليه وهو أبو طالب وقرىء فأوى وهو على معنيين إما من أواه بمعنى آواه وإما من أوى له إذا رحمه وههنا سؤالان
السؤال الأول كيف يحسن من الجود أن يمن بنعمة فيقول أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَاوَى والذي يؤكد هذا السؤال أن الله تعالى حكى عن فرعون أنه قال أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً ( الشعراء 18 ) في معرض الذم لفرعون فما كان مذموماً من فرعون كيف يحسن من الله الجواب أن ذلك يحسن إذا قصد بذلك أن يقوي قلبه ويعده بدوام النعمة وبهذا يظهر الفرق بين هذا الامتنان وبين امتنان فرعون لأن امتنان فرعون محبط لأن الغرض فما بالك لا تخدمني وامتنان الله بزيادة نعمه كأنه يقول مالك تقطع عني رجاءك ألست شرعت في تربيتك أتظنني تاركاً لما صنعت بل لا بد وأن أتمم عليك وعلى أمتك النعمة كما قال وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ ( البقرة 150 ) أما علمت أن الحامل التي تسقط الولد قبل التمام معيبة ترد ولو أسقطت أو الرجل أسقط عنها بعلاج تجب الغرة وتستحق الذم فكيف يحسن ذلك من الحي القيوم فما أعظم الفرق بين مان هو الله وبين مان هو فرعون ونظيره ما قاله بعضهم ثَلَاثَة ٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ( الكهف 22 ) في تلك الأمة وفي أمة محمد مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ( المجادلة 7 ) فشتان بين أمة رابعهم كلبهم وبين أمة رابعهم ربهم
السؤال الثاني أنه تعالى منّ عليه بثلاثة أشياء ثم أمره بأن يذكر نعمة ربه فما وجه المناسبة بين هذه الأشياء الجواب وجه المناسبة أن نقول قضاء الدين واجب ثم الدين نوعان مالي وإنعامي والثاني أقوى وجوباً لأن المالي قد يسقط بالإبراء والثاني يتأكد بالإبراء والمالي يقضي مرة فينجو الإنسان منه والثاني يجب عليك قضاؤه طول عمرك ثم إذا تعذر قضاء النعمة القليلة من منعم هو مملوك فكيف حال النعمة العظيمة من المنعم العظيم فكأن العبد يقول إلهي أخرجتني من العدم إلى الوجود بشراً سوياً طاهر الظاهر نجس الباطن بشارة منك أن تستر على ذنوبي بستر عفوك كما سترت نجاستي بالجلد الظاهر فكيف يمكنني قضاء نعمتك التي لا حد لها ولا حصر فيقول تعالى الطريق إلى ذلك أن تفعل في حق عبيدي ما فعلته في حقك كنت يتيماً فآويتك فافعل في حق الأيتام ذلك وكنت ضالاً فهديتك فافعل في حق عبيدي ذلك وكنت عائلاً فأغنيتك فافعل في حق عبيدي ذلك ثم إن فعلت كل ذلك فاعلم أنك إنما فعلتها بتوفيقي لك ولطفي وإرشادي فكن أبداً ذاكراً لهذه النعم والألطاف
وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى
أما قوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى فاعلم أن بعض الناس ذهب إلى أنه كان كافراً في أول الأمر ثم هداه الله وجعله نبياً قال الكلبي وَوَجَدَكَ ضَالاًّ يعني كافراً في قوم ضلال فهداك للتوحيد وقال السدي كان على دين قومه أربعين سنة وقال مجاهد وَوَجَدَكَ ضَالاًّ عن الهدى لدينه واحتجوا على ذلك بآيات أخر منها قوله مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 ) وقوله وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ( يوسف 3 ) وقوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) فهذا يقتضي صحة ذلك منه وإذا دلت هذه الآية على الصحة وجب حمل قوله وَوَجَدَكَ ضَالاًّ عليه وأما الجمهور من العلماء(31/195)
فقد اتفقوا على أنه عليه السلام ما كفر بالله لحظة واحدة ثم قالت المعتزلة هذا غير جائز عقلاً لما فيه من التنفير وعند أصحابنا هذا غير ممتنع عقلاً لأنه جائز في العقول أن يكون الشخص كافراً فيرزقه الله الإيمان ويكرمه بالنبوة إلا أن الدليل السمعي قام على أن هذا الجائز لم يقع وهو قوله تعالى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ( النجم 2 ) ثم ذكروا في تفسير هذه الآية وجوهاً كثيرة أحدها ما روي عن ابن عباس والحسن والضحاك وشهر بن حوشب وَوَجَدَكَ ضَالاًّ عن معالم النعمة وأحكام الشريعة غافلاً عنها فهداك إليها وهو المراد من قوله مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 ) وقوله وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ( يوسف 3 ) وثانيها ضل عن مرضعته حليمة حين أرادت أن ترده إلى جده حتى دخلت إلى هبل وشكت ذلك إليه فتساقطت الأصنام وسمعت صوتاً يقول إنما هلاكنا بيد هذا الصبي وفيه حكاية طويلة وثالثها ما روي مرفوعاً أنه عليه الصلاة والسلام قال ( ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي ضائع كاد الجوع يقتلني فهداني الله ) ذكره الضحاك وذكر تعلقه بأستار الكعبة وقوله يا رب رد ولدي محمدا
اردده ربي واصطنع عندي يداً
فما زال يردد هذا عند البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة وبين يديه محمد وهو يقول لا ندري ماذا نرى من ابنك فقال عبد المطلب ولم قال إني أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم فلما أركبته أمامي قامت الناقة كأن الناقة تقول يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف المقتدى وقال ابن عباس رده الله إلى جده بيد عدوه كما فعل بموسى حين حفظه على يد عدوه ورابعها أنه عليه السلام لما خرج مع غلام خديجة ميسرة أخذ كافر بزمام بعيره حتى ضل فأنزل الله تعالى جبريل عليه السلام في صورة آدمي فهداه إلى القافلة وقيل إن أبا طالب خرج به إلى الشأم فضل عن الطريق فهداه الله تعالى وخامسها يقال ضل الماء في اللبل إذا صار مغموراً فمعنى الآية كنت مغموراً بين الكفار بمكة فقواك الله تعالى حتى أظهرت دينه وسادسها العرب تسمي الشجرة الفريدة في الفلاة ضالة كأنه تعالى يقول كانت تلك البلاد كالمفازة ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان بالله ومعرفته إلا أنت فأنت شجرة فريدة في مفازة الجهل فوجدتك ضالاً فهديت بك الخلق ونظيره قوله عليه السلام ( الحكمة ضالة المؤمن ) وسابعها ووجدك ضالاً عن معرفة الله تعالى حين كنت طفلاً صبياً كما قال وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا ( النحل 78 ) فخلق فيك العقل والهداية والمعرفة والمراد من الضال الخالي عن العلم لا الموصوف بالاعتقاد الخطأ وثامنها كنت ضالاً عن النبوة ما كنت تطمع في ذلك ولا خطر شيء من ذلك في قلبك فإن اليهود والنصارى كانوا يزعمون أن النبوة في بني إسرائيل فهديتك إلى النبوة التي ما كنت تطمع فيها ألبتة وتاسعها أنه قد يخاطب السيد ويكون المراد قومه فقوله وَوَجَدَكَ ضَالاًّ أي وجد قومك ضلالاً فهداهم بك وبشرعك وعاشرها وجدك ضالاًّ عن الضالين منفرداً عنهم مجانباً لدينهم فكلما كان بعدك عنهم أشد كان ضلالهم أشد فهداك إلى أن اختلطت بهم ودعوتهم إلى الدين المبين الحادي عشر وجدك ضالاً عن الهجرة متحيراً في يد قريش متمنياً فراقهم وكان لا يمكنك الخروج بدون إذنه تعالى فلما أذن له ووافقه الصديق عليه وهداه إلى خيمة أم معبد وكان ما كان من حديث سراقه وظهور القوة في الدين كان ذلك المراد بقوله فَهَدَى الثاني عشر ضالاًّ عن القبلة فإنه كان يتمنى أن تجعل الكعبة قبلة له وما كان يعرف أن ذلك هل يحصل له أم لا فهداه الله بقوله فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا ( البقرة 144 ) فكأنه سمي ذلك التحير بالضلال الثالث عشر أنه حين ظهرها له جبريل عليه السلام في أول أمره ما كان يعرف(31/196)
أهو جبريل أم لا وكان يخافه خوفاً شديداً وربما أراد أن يلقي نفسه من الجبل فهداه الله حتى عرف أنه جبريل عليه السلام الرابع عشر الضلال بمعنى المحبة كما في قوله إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ( يوسف 95 ) أي محبتك ومعناه أنك محب فهديتك إلى الشرائع التي بها تتقرب إلى خدمة محبوبك الخامس عشر ضالاًّ عن أمور الدنيا لا تعرف التجارة ونحوها ثم هديتك حتى ربحت تجارتك وعظم ربحت حتى رغبت خديجة فيك والمعنى أنه ما كان لك وقوف على الدنيا وما كنت تعرف سوى الدين فهديتك إلى مصالح الدنيا بعد ذلك السادس عشر وَوَجَدَكَ ضَالاًّ أي ضائعاً في قومك كانوا يؤذونك ولا يرضون بك رعية فقوي أمرك وهداك إلى أن صرت آمراً والياً عليهم السابع عشر كنت ضالاً ما كنت تهتدي على طريق السموات فهديتك إذ عرجت بك إلى السموات ليلة المعراج الثامن عشر ووجدك ضالاًّ أي ناسياً لقوله تعالى أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا ( البقرة 282 ) فهديتك أي ذكرتك وذلك أنه ليلة المعراج نسي ما يجب أن يقال بسبب الهيبة فهداه الله تعالى إلى كيفية الثناء حتى قال ( لا أحصي ثناء عليك ) التاسع عشر أنه وإن كان عارفاً بالله بقلبه إلا أنه كان في الظاهر لا يظهر لهم خلافاً فعبر عن ذلك بالضلال العشرون روى علي عليه السلام عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته فإني قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة لو حفظت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشبان فخرجت أريد ذلك حتى أتيت أول دار من دور مكة فسمعت عزفاً بالدفوف والمزامير فقالوا فلان ابن فلان يزوج بفلانة فجلست أنظر إليهم وضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس قال فجئت صاحبي فقال ما فعلت فقلت ما صنعت شيئاً ثم أخبرته الخبر قال ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مس الشمس ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله تعالى برسالته )
وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى
أما قوله تعالى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ففيه مسائل
المسألة الأولى العائل هو ذو العيلة وذكرنا ذلك عند قوله أَن لا تَعُولُواْ ( النساء 3 ) ويدل عليه قوله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة ً ( التوبة 28 ) ثم أطلق العائل على الفقير وإن لم يكن له عيال وههنا في تفسير العائل قولان
الأول وهو المشهور أن المراد هو الفقير ويدل عليه ما روى أنه في مصحف عبد الله ( ووجدك عديماً ) وقرىء عيلاً كما قرىء سيحات ثم في كيفية الإغناء وجوه الأول أن الله تعالى أغناه بتربية أبي طالب ولما اختلت أحوال أبي طالب أغناه ( الله ) بمال خديجة ولما اختل ذلك أغناه ( الله ) بمال أبي بكر ولما اختل ذلك أمره بالهجرة وأغناه بإعانة الأنصار ثم أمره بالجهاد وأغناه بالغنائم وإن كان إنما حصل(31/197)
بعد نزول هذه السورة لكن لما كان ذلك معلوم الوقوع كان كالواقع روي أنه عليه السلام ( دخل على خديجة وهو مغموم فقالت له مالك فقال الزمان زمان قحط فإن أنا بذلت المال ينفذ مالك فأستحي منك وإن لم أبذل أخاف الله فدعت قريشاً وفيهم الصديق قال الصديق فأخرجت دنانير وصبتها حتى بلغت مبلغاً لم يقع بصري على من كان جالساً قدامي لكثرة المال ثم قالت اشهدوا أن هذا المال ماله إن شاء فرقه وإن شاء أمسكه ) الثاني أغناه بأصحابه كانوا يعبدون الله سراً حتى قال عمر حين أسلم أبرز أتعبد اللات جهراً ونعبد الله سراً فقال عليه السلام حتى تكثر الأصحاب فقال حسبك الله وأنا فقال تعالى حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( الأنفال 64 ) فأغناه الله بمال أبي بكر وبهيبة عمر ) الثالث أغناك بالقناعة فصرت بحال يستوي عندك الحجر والذهب لا تجد في قلبك سوى ربك فربك غني عن الأشياء لا بها وأنت بقناعتك استغنيت عن الأشياء وإن الغنى الأعلى الغنى عن الشيء لا به ومن ذلك أنه عليه السلام خير بين الغنى والفقر فاختار الفقر الرابع كنت عائلاً عن البراهين والحجج فأنزل الله عليك القرآن وعلمك مالم تكن تعلم فأغناك
القول الثاني في تفسير العائل أنت كنت كثير العيال وهم الأمة فكفاك وقيل فأغناهم بك لأنهم فقراء بسبب جهلهم وأنت صاحب العلم فهداهم على يدك وههنا سؤالات
السؤال الأول ما الحكمة في أنه تعالى اختار له اليتم قلنا فيه وجوه أحدها أن يعرف قدر اليتامى فيقوم بحقهم وصلاح أمرهم ومن ذلك كان يوسف عليه السلام لا يشبع فقيل له في ذلك فقال أخاف أن أشبع فأنسى الجياع وثانيها ليكون اليتيم مشاركاً له في الاسم فيكرم لأجل ذلك ومن ذلك قال عليه السلام ( إذا سميتم الولد محمداً فأكرموه ووسعوا له في المجلس ) وثالثها أن من كان له أب أو أم كان اعتماده عليهما فسلب عنه الولدان حتى لا يعتمد من أول صباه إلى آخر عمره على أحد سوى الله فيصير في طفوليته متشبهاً بإبراهيم عليه السلام في قوله حسبي من سؤالي علمه بحالي وكجواب مريم أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( آل عمران 37 ) ورابعها أن العادة جارية بأن اليتيم لا تخفى عيوبه بل تظهر وربما زادوا على الموجود فاختار تعالى له اليتيم ليتأمل كل أحد في أحواله ثم لا يجدوا عليه عيباً فيتفقون على نزاهته فإذا اختاره الله للرسالة لم يجدوا عليه مطعناً وخامسها جعله يتيماً ليعلم كل أحد أن فضيلته من الله ابتداء لأن الذي له أب فإن أباه يسعى في تعليمه وتأديبه وسادسها أن اليتم والفقر نقص في حق الخلق فلما صار محمد عليه الصلاة والسلام مع هذين الوصفين أكرم الخلق كان ذلك قلباً للعادة فكان من جنس المعجزات
السؤال الثاني ما الحكمة في أن الله ذكر هذه الأشياء الجواب الحكمة أن لا ينسى نفسه فيقع في العجب
السؤال الثالث روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( سألت ربي مسألة وددت أني لم أسألها قلت اتخذت إبراهيم خليلاً وكلمت موسى تكليماً وسخرت مع داود الجبال وأعطيت سليمان كذا وكذا وأعطيت فلاناً كذا وكذا فقال ألم أجدك يتيماً فآويتك ألم أجدك ضالاًّ فهديتك ألم أجدك عائلاً فأغنيتك قلت بلى فقال ألم أشرح لك صدرك قلت بلى قال ألم أرفع لك ذكرك قلت بلى قال(31/198)
ألم أصرف عنك وزرك قلت بلى ألم أوتك مالم أوت نبياً قبلك وهي خواتيم سورة البقرة أم أتخذك خليلاً كما اتخذت إبراهيم خليلاً ) فهل يصح هذا الحديث قلنا طعن القاضي في هذا الخبر فقال إن الأنبياء عليهم السلام لا يسألون مثل ذلك إلا عن إذن فكيف يصح أن يقع من الرسول مثل هذا السؤال ويكون منه تعالى ما يجري مجرى المعاتبة
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ
وقرىء فلا تكهر أي لا تعبس وجهك إليه والمعنى عامله بمثل ما عاملتك به ونظيره من وجه وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( القصص 77 ) ومنه قوله عليه السلام ( الله الله فيمن ليس له إلا الله ) وروي أنها نزلت حين صاح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على ولد خديجة ومنه حديث موسى عليه السلام حين ( قال إلهي بم نلت ما نلت قال أتذكر حين هربت منك السخلة فلما قدرت عليها قلت أتعبت نفسك ثم حملتها فلهذا السبب جعلتك ولياً على الخلق فلما نال موسى عليه السلام النبوة بالإحسان إلى الشاة فكيف بالإحسان إلى اليتيم وإذا كان هذا العتاب بمجرد الصياح أو العبوسية في الوجه فكيف إذا أذله أو أكل ماله عن أنس عن النبي عليه الصلاة والسلام ( إذا بكى اليتيم وقعت دموعه في كف الرحمن ويقول تعالى من أبكى هذا اليتيم الذي واريت والده التراب من أسكته فله الجنة )
وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ
ثم قال تعالى وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ يقال نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره وفي المراد من السائل قولان أحدهما وهو اختيار الحسن أن المراد منه من يسأل العلم ونظيره من وجه عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الاْعْمَى ( عبس 1 2 ) وحينئذ يحصل الترتيب لأنه تعالى قال له أولاً أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَاوَى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ( الضحى 6 8 ) ثم اعتبر هذا الترتيب فأوصاه برعاية حق اليتيم ثم برعاية حق من يسأله عن العلم والهداية ثم أوصاه بشكر نعم الله عليه والقول الثاني أن المراد مطلق السائل ولقد عائب الله رسوله في القرآن في شأن الفقراء في ثلاثة مواضع أحدها أنه كان جالساً وحوله صناديد قريش إذ جاء ابن أم مكتوم الضرير فتخطى رقاب الناس حتى جلس بين يديه وقال علمني مما علمك الله فشق ذلك عليه فعبس وجهه فنزل عَبَسَ وَتَوَلَّى ( عبس 1 ) والثاني حين قالت له قريش لو جعلت لنا مجلساً وللفقراء مجلساً آخر فهم أن يفعل ذلك فنزل قوله وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم ( الكهف 28 ) والثالث كان جالساً فجاءه عثمان بعذق من ثمر فوضعه بين يديه فأراد أن يأكل فوقف سائل بالباب فقال رحم الله عبداً يرحمنا فأمر بدفعه إلى السائل فكره عثمان ذلك وأراد أن يأكله النبي عليه السلام فخرج واشتراه من السائل ثم رجع السائل ففعل ذلك ثلاث مرات وكان يعطيه النبي عليه السلام إلى أن قال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أسائل أنت أم بائع فنزل وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ
وَأَمَّا بِنِعْمَة ِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(31/199)
ثم قوله تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَة ِ رَبّكَ فَحَدّثْ وفيه وجوه أحدها قال مجاهد تلك النعمة هي القرآن فإن القرآن أعظم ما أنعم الله به على محمد عليه السلام والتحديث به أن يقرأه ويقرىء غيره ويبين حقائقه لهم وثانيها روي أيضاً عن مجاهد أن تلك النعمة هي النبوة أي بلغ ما أنزل إليك من ربك وثالثها إذا وفقك الله فراعيت حق اليتيم والسائل وذلك التوفيق نعمة من الله عليك فحدث بها ليقتدي بك غيرك ومنه ما روي عن الحسين بن علي عليه السلام أنه قال إذا عملت خيراً فحدث إخوانك ليقتدوا بك إلا أن هذا إنما يحسن إذا لم يتضمن رياء وظن أن غيره يقتدي به ومن ذلك لما سئل أمير المؤمنين علي عليه السلام عن الصحابة فأثنى عليهم وذكر خصالهم فقالوا له فحدثنا عن نفسك فقال مهلاً فقد نهى الله عن التزكية فقيل له أليس الله تعالى يقول وَأَمَّا بِنِعْمَة ِ رَبّكَ فَحَدّثْ فقال فإني أحدث كنت إذا سئلت أعطيت وإذا سكت ابتديت وبين الجوانح علم جم فاسألوني فإن قيل فما الحكمة في أن أخر الله تعالى حق نفسه عن حق اليتيم والعائل قلنا فيه وجوه أحدها كأنه يقول أنا غني وهما محتاجان وتقديم حق المحتاج أولى وثانيها أنه وضع في حظهما الفعل ورضي لنفسه بالقول وثالثها أن المقصود من جميع الطاعات استغراق القلب في ذكر الله تعالى فجعل خاتمة هذه الطاعات تحدث القلب واللسان بنعم الله تعالى حتى تكون ختم الطاعات على ذكر الله واختار قوله فَحَدّثْ على قوله فخبر ليكون ذلك حديثاً عند لا ينساه ويعيده مرة بعد أخرى والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(31/200)
بداية الجزء الثانى والثلاثين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32(32/2)
سورة الشرح
ثمان آيات مكية
يروى عن طاووس وعمر بن عبدالعزيز أنهما كانا يقولان هذه السورة وسورة الضحى سورة واحدة وكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة وما كانا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم والذي دعاهما إلى ذلك هو أن قوله تعالى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ كالعطف على قوله أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً وليس كذلك لأن الأول كان نزوله حال اغتمام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من إيذاء الكفار فكانت حال محنة وضيق صدر والثاني يقتضي أن يكون حال النزول منشرح الصدر طيب القلب فأنى يجتمعان
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ
استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار فأفاد إثبات الشرح وإيجابه فكأنه قيل شرحنا لك صدرك وفي شرح الصدر قولان
الأول ما روى أن جبريل عليه السلام أتاه وشق صدره وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي ثم ملأه علماً وإيماناً ووضعه في صدره
واعلم أن القاضي طعن في هذه الرواية من وجوه أحدها أن الرواية أن هذه الواقعة إنما وقعت في حال صغره عليه السلام وذلك من المعجزات فلا يجوز أن تتقدم نبوته وثانيها أن تأثير الغسل في إزالة الأجسام والمعاصي ليست بأجسام فلا يكون للغسل فيها أثر ثالثها أنه لا يصح أن يملأ القلب علماً بل(32/3)
الله تعالى يخلق فيه العلوم والجواب عن الأول أن تقويم المعجز على زمان البعثة جائز عندنا وذلك هو المسمى بالإرهاص ومثله في حق الرسول عليه السلام كثير
وأما الثاني والثالث فلا يبعد أن يكون حصول ذلك الدم الأسود الذي غسلوه من قلب الرسول عليه السلام علامة للقلب الذي يميل إلى المعاصي ويحجم عن الطاعات فإذا أزالوه عنه كان ذلك علامة لكون صاحبه مواظباً على الطاعات محترزاً عن السيئات فكان ذلك كالعلامة للملائكة على كون صاحبه معصوماً وأيضاً فلأن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
والقول الثاني أن المراد من شرح الصدر ما يرجع إلى المعرفة والطاعة ثم ذكروا فيه وجوهاً أحدها أنه عليه السلام لما بعث إلى الجن والإنس فكان يضيق صدره عن منازعة الجن والإنس والبراءة من كل عابد ومعبود سوى الله فآتاه الله من آياته ما اتسع لكل ما حمله وصغره عنده كل شيء احتمله من المشاق وذلك بأن أخرج عن قلبه جميع الهموم وما ترك فيه إلا هذا الهم الواحد فما كان يخطر بباله هم النفقة والعيال ولا يبالي بما يتوجه إليه من إيذائهم حتى صاروا في عينه دون الذباب لم يجبن خوفاً من وعيدهم ولم يمل إلى مالهم وبالجملة فشرح الصدر عبارة عن علمه بحقارة الدنيا وكما الآخرة ونظيره قوله فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً وروى أنهم قالوا يا رسول الله أينشرح الصدر قال نعم قالوا وما علامة ذلك قال ( التجافي عن الغرور والإنابة إلى دار الخلود والإعداد للموت قبل نزوله ) وتحقيق القول فيه أن صدق الإيمان بالله ووعده ووعيده يوجب للإنسان الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والاستعداد للموت وثانيها أنه انفتح صدره حتى أنه كان يتسع لجميع المهمات لا يقلق ولا يضجر ولا يتغير بل هو في حالتي البؤس والفرح منشرح الصدر مشتغل بأداء ما كلف به والشرح التوسعة ومعناه الإراحة من الهموم والعرب تسمى الغم والهم ضيق صدر كقوله وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ وههنا سؤالات
الأول لم ذكر الصدر ولم يذكر القلب والجواب لأن محل الوسوسة هو الصدر على ما قال يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ فإزالة تلك الوسوسة وإبدالها بدواعي الخير هي الشرح فلا جرم خص ذلك الشرح بالصدر دون القلب وقال محمد بن علي الترمذي القلب محل العقل والمعرفة وهو الذي يقصده الشيطان فالشيطان يجيء إلى الصدر الذي هو حصن القلب فإذا وجد مسلكاً أغار فيه ونزل جنده فيه وبث فيه من الهموم والغموم والحرص فيضيق القلب حيئنذ ولا يجد للطاعة لذة ولا للإسلام حلاوة وإذا طرد العدو في الابتداء منع وحصل الأمن ويزول الضيق وينشرح الصدر ويتيسر له القيام بأداء العبودية
السؤال الثاني لم قال أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ولم يقل ألم نشرح صدرك والجواب من وجهين أحدهما كأنه تعالى يقول لام بلام فأنت إنما تفعل جميع الطاعات لأجلي كما قال لا لِيَعْبُدُونِ وَأَقِمِ الصَّلَواة َ لِذِكْرِى فأنا أيضاً جميع ما أفعله لأجلك وثانيها أن فيها تنبيهاً على أن منافع الرسالة عائدة إليه عليه السلام كأنه تعالى قال إنما شرحنا صدرك لأجلك لا لأجلي(32/4)
السؤال الثالث لم قال أَلَمْ نَشْرَحْ ولم يقل ألم أشرح والجواب إن حملناه على نون التعظيم فالمعنى أن عظمة المنعم تدل على عظمة النعمة فدل ذلك على أن ذلك الشرح نعمة لا تصل العقول إلى كنه جلالتها وإن حملناه على نون الجميع فالمعنى كأنه تعالى يقول لم أشرحه وحدي بل أعملت فيه ملائكتي فكنت ترى الملائكة حواليك وبين يديك حتى يقوي قلبك فأديت الرسالة وأنت قوي القلب ولحقتهم هيبة فلم يجيبوا لك جواباً فلو كنت ضيق القلب لضحكوا منك فسبحان من جعل قوة قلبك جبناً فيهم وانشراح صدرك ضيقاً فيهم
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ
ثم قال تعالى وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال المبرد هذا محمول على معنى ألم نشرح لا على لفظه لأنك لا تقول ألم وضعنا ولكن معنى ألم نشرح قد شرحنا فحمل الثاني على معنى الأول لا على ظاهر اللفظ لأنه لو كان معطوفاً على ظاهره لوجب أن يقال ونضع عنك وزرك
المسألة الثانية معنى الوزر ثقل الذنب وقد مر تفسيره عند قوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ وهو كقوله تعالى لّيَغْفِرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ
وأما قوله أَنقَضَ ظَهْرَكَ فقال علماء اللغة الأصل فيه أن الظهر إذا أثقل الحمل سمع له نقيض أي صوت خفي وهو صوت المحامل والرحال والأضلاع أو البعير إذا أثقله الحمل فهو مثل لما كان يثقل عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أوزاره
المسألة الرابعة احتج بهذه الآية من أثبت المعصية للأنبياء عليهم السلام والجواب عنه من وجهين الأول أن الذين يجوزون الصغائر على الأنبياء عليهم السلام حملوا هذه الآية عليها لا يقال إن قوله الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ يدل على كونه عظيماً فكيف يليق ذلك بالصغائر لأنا نقول إنما وصف ذلك بإنقاض الظهر مع كونها مغفورة لشدة اعتمام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بوقوعه منه وتحسره مع ندمه عليه وأما إنما وصفه بذلك لأن تأثيره فيما يزول به من الثواب عظيم فيجوز لذلك ما ذكره الله تعالى هذا تقرير الكلام على قول المعتزلة وفيه إشكال وهو أن العفو عن الصغيرة واجب على الله تعالى عند القاضي والله تعالى ذكر هذه الآية في معرض الامتنان ومن المعلوم أن الامتنان بفعل الواجب غير جائز الوجه الثاني أن يحمل ذلك على غير الذنب وفيه وجوه أحدها قال قتادة كانت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذنوب سلفت منه في الجاهلية قبل النبوة وقد أثقلته فغفرها له وثانيها أن المراد منه تخفيف أعباء النبوة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها وحفظ موجباتها والمحافظة على حقوقها فسهل الله تعالى ذلك عليه وحط عنه ثقلها بأن يسرها عليه حتى تيسرت له وثالثها الوزر ما كان يكرهه من تغييرهم لسنة الخليل وكان لا يقدر على منعهم إلى أن قواه الله وقال له أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ ورابعها أنها ذنوب أمته صارت كالوزر عليه ماذا يصنع في حقهم إلى أن قال وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ فأمنه من العذاب في العاجل ووعد له الشفاعة في الآجل وخامسها معناه عصمناك عن الوزر الذي ينقض ظهرك لو كان ذلك(32/5)
الذنب حاصلاً فسمى العصمة وضعاً مجازاً فمن ذلك ما روى أنه حضر وليمة فيها دف ومزامير قبل البعثة ليسمع فضرب الله على أذنه فلم يوقظه إلا حر الشمس من الغد وسادسها الوزر ما أصابه من الهيبة والفزع في أول ملاقاة جبريل عليه السلام حين أخذته الرعدة وكاد يرمي نفسه من الجبل ثم تقوى حتى ألفه وصار بحالة كاد يرمي بنفسه من الجبل لشدة اشتياقه وسابعها الوزر ما كان يلحقه من الأذى والشتم حتى كاد ينقض ظهره وتأخذه الرعدة ثم قواه الله تعالى حتى صار بحيث كانوا يدمون وجهه و ( هو ) يقول ( اللهم اهد قومي ) وثامنها لئن كان نزول السورة بعد موت أبي طالب وخديجة فلقد كان فراقهما عليه وزراً عظيماً فوضع عنه الوزر برفعه إلى السماء حتى لقيه كل ملك وحياة فارتفع له الذكر فلذلك قال وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ وتاسعها أن المراد من الوزر والثقل الحيرة التي كانت له قبل البعثة وذلك أنه بكمال عقله لما نظر إلى عظيم نعم الله تعالى عليه حيث أخرجه من العدم إلى الوجود وأعطاه الحياة والعقل وأنواع النعم ثقل عليه نعم الله وكاد ينقض ظهره من الحياء لأنه عليه السلام كانيرى أن نعم الله عليه لا تنقطع وما كان يعرف أنه كيف كان يطيع ربه فلما جاءته النبوة والتكليف وعرف أنه كيف ينبغي له أن يطيع ربه فحيئذ قل حياؤه وسهلت عليه تلك الأحوال فإن اللئيم لا يستحي من زيادة النعم بدون مقابلتها بالخدمة والإنسان الكريم النفس إذا كثر الإنعام عليه وهو لا يقابلها بنوع من أنواع الخدمة فإنه يثقل ذلك عليه جداً بحيث يميته الحياة فإذا كلفه المنعم بنوع خدمه سهل ذلك عليه وطاب قلبه
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
ثم قال تعالى وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
واعلم أنه عام في كل ما ذكروه من النبوة وشهرته في الأرض والسموات اسمه مكتوب على العرش وأنه يذكر معه في الشهادة والتشهد وأنه تعالى ذكره في الكتب المتقدمة وانتشار ذكره في الآفاق وأنه ختمت به النبوة وأنه يذكر في الخطب والأذان ومفاتيح الرسائل وعند الختم وجعل ذكره في القرآن مقروناً بذكره وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ و أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ويناديه باسم الرسول والنبي حين ينادي غيره بالاسم يا موسى يا عيسى وأيضاً جعله في القلوب بحيث يستطيبون ذكره وهو معنى قوله تعالى سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً كأنه تعالى يقول أملأ العالم من أتباعك كلهم يثنون عليك ويصلون عليك ويحفظون سنتك بل ما من فريضة من فرائض الصلاة إلا ومعه سنة فهم يمتثلون في الفريضة أمري وفي السنة أمرك وجعلت طاعتك طاعتي وبيعتك بيعتي مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ لا تأنف السلاطين من أتباعك بل جراءة لأجهل الملوك أن ينصب خليفة من غير قبيلتك فالقراء يحفظون ألفاظ منشورك والمفسرون يفسرون معاني فرقانك والوعاظ يبلغون وعظك بل العلماء والسلاطين يصلون إلى خدمتك ويسلمون من وراء الباب عليك ويمسحون وجوههم بتراب روضتك ويرجون شفاعتك فشرفك باق إلى يوم القيامة(32/6)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً
قال تعالى فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً وفيه مسائل
المسألة الأولى وجه تعلق هذه الآية بما قبلها أن المشركين كانوا يعيرون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالفقر ويقولون إن كان غرضك من هذا الذي تدعيه طلب الغنى جمعنا لك مالاً حتى تكون كأيسر أهل مكة فشق ذلك على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى سبق إلى وهمه أنهم إنما رغبوا عن الإسلام لكونه فقيراً حقيرًا عندهم فعدد الله تعالى عليه مننه في هذه السورة وقال أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ أي ما كنت فيه من أمر الجاهلية ثم وعده بالغنى في الدنيا ليزيل عن قلبه ما حصل فيه من التأذي بسبب أنهم عيروه بالفقر والدليل عليه دخول الفاء في قوله فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً كأنه تعالى قال لا يحزنك ما يقول وما أنت فيه من القلة فإنه يحصل في الدنيا يسر كامل
المسألة الثانية قال ابن عباس يقول الله تعالى خلقت عسراً واحداً بين يسرين فلن يغلب عسر يسرين وروى مقاتل عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ( لن يغلب عسر يسرين ) وقرأ هذه الآية وفي تقرير هذا المعنى وجهان الأول قال الفراء والزجاج العسر مذكور بالألف واللام وليس هناك معهود سابق فينصرف إلى الحقيقة فيكون المراد بالعسر في اللفظين شيئاً واحداً وأما اليسر فإنه مذكور على سبيل التنكير فكان أحدهما غير الآخر وزيف الجرجاني هذا وقال إذا قال الرجل إن مع الفارس سيفاً إن مع الفارس سيفاً يلزم أن يكون هناك فارس واحد ومعه سيفان ومعلوم أن ذلك غير لازم من وضع العربية الوجه الثاني أن تكون الجملة الثانية تكريراً للأولى كما كرر قوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ويكون الغرض تقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب كما يكرر المفرد في قولك جاءني زيد زيد والمراد من اليسرين يسر الدنيا وهو ما تيسر من استفتاح البلاد ويسر الآخرة وهو ثواب الجنة لقوله تعالى قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وهما حسن الظفر وحسن الثواب فالمراد من قوله ( لن يغلب عسر يسرين ) هذا وذلك لأن عمر الدنيا بالنسبة إلى يسر الدنيا ويسر الآخرة كالمغمور القليل وههنا سؤالان
الأول ما معنى التنكير في اليسر جوابه التفخيم كأنه قيل إن مع اليسر يسراً إن مع العسر يسراً عظيماً وأي يسر
السؤال الثاني اليس لا يكون مع العسر لأنهما ضدان فلا يجتمعان الجواب لما كان وقوع اليسر بعد العسر بزمان قليل كان مقطوعاً به فجعل كالمقارن له
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ
ثم قال تعالى فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وجه تعلق هذا بما قبله أنه تعالى لما عدد عليه نعمه السالفة ووعدهم بالنعم الآتية لا جرم بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة فقال فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ أي(32/7)
فاتعب يقال نصب ينصب قال قتادة والضحاك ومقاتل إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فَانصَبْ إِلَى رَبّكَ في الدعاء وارغب إليه في المسألة يعطك وقال الشعبي إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك وقال مجاهد إذا فرغت من أمر دنياك فانصب وصل وقال عبد الله إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل وقال الحسن إذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة وقال علي بن أبي طلحة إذا كنت صحيحاً فانصب يعني اجعل فراغك نصباً في العبادة يدل عليه ما روى أن شريحاً مر برجلين يتصارعان فقال الفارغ ما أمر بهذا إنما قال الله فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وبالجملة فالمعنى أن يواصل بين بعض العبادات وبعض وأن لا يخلي وقتاً من أوقاته منها فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى
وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ
وأما قوله تعالى وَإِلَى رَبّكَ فَارْغَبْ ففيه وجهان أحدهما اجعل رغبتك إليه خصوصاً ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه وثانيها ارغب في سائر ما تلتمسه ديناً ودنيا ونصرة على الأعداء إلى ربك وقرىء فرغب أي رغب الناس إلى طلب ما عنده والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(32/8)
سورة التين
وهي ثمان آيات مكية
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَاذَا الْبَلَدِ الاٌّ مِينِ
وَالتّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَاذَا الْبَلَدِ الاْمِينِ
اعلم أن الإشكال هو أن التين والزيتون ليسا من الأمور الشريفة فكيف يليق أن يقسم الله تعالى بهما فلأجل هذا السؤال حصل فيه قولان
الأول أن المراد من التين والزيتون هذان الشيآن المشهوران قال ابن عباس هو تينكم وزيتونكم هذا ثم ذكروا من خواص التين والزيتون أشياء
أما التين فقالوا إنه غذاء وفاكهة ودواء أما كونه غذاء فالأطباء زعموا أنه طعام لطيف سريع الهضم لا يمكث في المعدة يلين الطبع ويخرج الترشح ويقلل البلغم ويطهر الكليتين ويزيل ما في المثانة من الرمل ويسمن البدن ويفتح مسام الكبد والطحال وهو خير الفواكه وأحمدها وروى أنه أهدي لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) طبق من تين فأكل منه ثم قال لأصحابه ( كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس ) وعن علي بن موسى الرضا عليهما السلام التين يزيل نكهة الفم ويطول الشعر وهو أمان من الفالج وأما كونه دواء فلأنه يتداوى به في إخراج فضول البدن
واعلم أن لها بعدما ذكرنا خواص أحدها أن ظاهرها كباطنها ليست كالجوز ظاهره قشر ولا كالتمر باطنه قشر بل نقول إن من الثمار ما يخبث ظاهره ويطيب باطنه كالجوز والبطيخ ومنه ما يطيب ظاهره دون باطنه كالتمر والإجاص
أما التين فإنه طيب الظاهر والباطن وثانيها أن الأشجار ثلاثة شجرة تعد وتخلف وهي شجرة(32/9)
الخلاف وثانية تعد وتفي وهي التي تأتي بالنور أولاً بعده بالثمر كالتفاح وغيره وشجرة تبذل قبل الوعد وهي التين لأنها تخرج الثمرة قبل أن تعد بالورد بل لو غيرت العبارة لقلت هي شجرة تظهر المعنى قبل الدعوى بل لك أن تقول إنها شجرة تخرج الثمرة قبل أن تلبس نفسها بورد أو بورق والتفاح والمشمش وغيرهما تبدأ بنفسها ثم بغيرها أما شجرة التين فإنها تهتم بغيرها قبل اهتمامها بنفسها فسائر الأشجار كأرباب المعاملة في قوله عليه السلام ( ايد بنفسك ثم بمن تعول ) وشجرة التين كالمصطفى عليه السلام كان يبدأ بغيره فإن فضل صرفه إلى نفسه بل من الذين أنثى الله عليهم في قوله وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ٌ وثالثها أن من خواص هذه الشجرة أن سائر الأشجار إذا اسقطت الثمرة من موضعها لم تعد في تلك السنة إلا التين فإنه يعيد البذر وربما سقط ثم يعود مرة أخرى ورابعها أن التين في النوم رجل خير غني فمن نالها في المنام نال مالاً وسعة ومن أكلها رزقه الله أولاداً وخامسها روى أن آدم عليه السلام لما عصى وفارقته ثيابه تستر بورق التين وروى أنه لما نزل وكان متزراً بورق التين استوحش فطاف الظباء حوله فاستأنس بها فأطعمها بعض ورق التين فرزقها الله الجمال صورة والملاحة معنى وغير دمها مسكاً فلما تفرقت الظباء إلى مساكنها رأى غيرها عليها من الجمال ما أعجبها فلما كانت من الغد جاءت الظباء على أثر الأولى إلى آدم فأطعمها من الورق فغير الله حالها إلى الجمال دون المسك وذلك لأن الأولى جاءت لآدم لا إجل الطمع والطائفة الأخرى جاءت للطمع سراً وإلى آدم ظاهرة فلا جرم غير الظاهر دون الباطن وأما الزيتون فشجرته هي الشجرة المباركة فاكهة من وجه وإدام من وجه ودواء من وجه وهي في أغلب البلاد لا تحتاح إلى تربية الناس ثم لا تقتصر منفعتها غذاء بدنك بل هي غذاء السراج أيضاً وتولدها في الجبال التي لا توجد فيها شيء من الدهنية البتة وقيل من أخذ ورق الزيتون في المنام استمسك بالعروة الوثقى وقال مريض لابن سيرين رأيت في المنام كأنه قيل لي كل اللامين تشف فقال كل الزيتون فإنه لا شرقية ولا غربية ثم قال المفسرون التي والزيتون اسم لهذين المأكولين وفيهما هذه المنافع الجليلة فوجب إجراء اللفظ على الظاهر والجزم بأن الله تعالى أقسم بهما لما فيهما هذه المصالح والمنافع
القول الثاني أنه ليس المراد هاتين الثمرتين ثم ذكروا وجوهاً أحدها قال ابن عباس هما جبلان من الأرض المقدسة يقال لهما بالسريانية طور تيناً وطور زيتاً لأنهما منبتاً التين والزيتون فكأنه تعالى أقسم بمنابت الأنبياء فالجبل بالتين لعيسى عليه السلام والزيتون الشأم مبعث أكثر أنبياء بني إسرائيل والطور مبعث موسى عليه السلام والبلد الأمين مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيكون المراد من القسم في الحقيقة تعظيم الأنبياء وإعلاء درجاتهم وثانيها أن المراد من التين والزيتون مسجدان ثم قال ابن زيد التين مسجد دمشق والزيتون مسجد بيت المقدس وقال آخرون التين مسجد أصحاب أهل الكف والزيتون مسجد إيليا وعن ابن عباس التين مسجد نوح المبني على الجودي والزيتون مسجد بيت المقدس والقائلون بهذا القول إنما ذهبوا إليه لأن القسم بالمسجد أحسن لأنه موضع العبادة والطاعة فلما كانت هذه المساجد في هذه المواضع التي يكثر فيها التين والزيتون لا جرم اكتفى بذكر التين والزيتون وثالثها المراد من التين والزيتون بلدان فقال كعب التين دمشق والزيتون بيت المقدس وقال شهر بن حوشب التين الكوفة والزيتون الشام وعن الربيع هما جبلان بين همدان وحلوان والقائلون بهذا القول إنما ذهبوا إليه لأن اليهود والنصارى والمسلمين ومشركي قريش كل واحد منهم يعظم بلدة من هذه البلاد(32/10)
فالله تعالى أقسم بهذه البلاد بأسرها أو يقال إن دمشق وبيت المقدس فيهما نعم الدنيا والطور ومكة فيهما نعم الدين
أما قوله تعالى وَطُورِ سِينِينَ فالمراد من الطُّورِ الجبل الذي كلم الله تعالى موسى عليه السلام عليه واختلفوا في سِينِينَ والأولى عند النحويين أن يكون سينين وسينا اسمين للمكان الذي حصل فيه الجبل أو ضيفاً إلى ذلك المكان وأما المفسرون فقال ابن عباس في رواية عكرمة الطُّورِ الجبل وسينين الحسن بلغة الحبشة وقال مجاهد وَطُورِ سِينِينَ المبارك وقال الكلبي هو الجبل المشجر ذو الشجر وقال مقاتل كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسينا بلغة النبط قال الواحدي والأولى أن يكون سينين اسماً للمكان الذي به الجبل ثم لذلك سمي سينين أو سيناً لحسنه أو لكونه مباركاً ولا يجوز أن يكون سينين نعتاً للطور لإضافته إليه
أما قوله تعالى وَهَاذَا الْبَلَدِ الاْمِينِ فالمراد مكة والأمين الآمن قال صاحب الكشاف من أمن الرجل أمانة فهو أمين وأمانته أن يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه ويجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول من أمنه لأنه مأمون الغوائل كما وصف بالأمن في قوله حَرَماً ءامِناً يعني ذا أمن وذكروا في كونه أميناً وجوهاً أحدها أن الله تعالى حفظه عن الفيل على ما يأتيك شرحه إن شاء الله تعالى وثانيها أنها تحفظ لك جميع الأشياء فمباح الدم عند الالتجاء إليها آمن من السباع والصيود تستفيد منها الحفظ عند الالتجاء إليها وثالثها ما روى أن عمر كان يقبل الحجر ويقول إنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقبلك ما قبلتك فقال له علي عليه السلام إما أنه يضر وينفع إن الله تعالى لما أخذ على ذرية آدم الميثاق كتبه في رق أبيض وكان لهذا الركن يومئذ لسان وشفتان وعينان فقال افتح فاك فألقمه ذلك الرق وقال تشهد لمن وافاك بالموافاة إلى يوم القيامة فقال عمر لأبقيت في قوم لست فيهم يا أبا الحسن
لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ
المراد من الإنسان هذه الماهية والتقويم تصبير الشيء على ما ينبغي أن يكون في التألف والتعديل يقال قومته تقويماً فاستقام وتقوم وذكروا في شرح ذلك الحسن وجوهاً أحدها أنه تعالى خلق كل ذي روح مكباً على وجهه إلا الإنسان فإنه تعالى خلقه مديد القامة يتناول مأكوله بيده وقال الأصم في أكمل عقل وفهم وأدب وعلم وبيان والحاصل أن القول الأول راجع إلى الصورة الظاهرة والثاني إلى السيرة الباطنة وعن يحيى بن أكثم القاضي أنه فسر التقويم بحسن الصورة فإنه حكى أن ملك زمانه خلا بزوجته في ليلة مقمرة فقال إن لم تكوني أحسن من القمر فأنت كذا فأفتى الكل بالحنث إلا يحيى بن أكثم فإنه قال لا يحنث فقيل له خالفت شيوخك فقال الفتوى بالعلم ولقد أفتى من هو أعلم منا وهو الله تعالى فإنه يقوله لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وكان بعض الصالحين يقول إلهنا أعطيتنا في الأولى أحسن الأشكال فأعطنا في الآخرة أحسن الفعال وهو العفو عن الذنوب والتجاوز عن العيوب(32/11)
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ
أما قوله تعالى ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ففيه وجهان الأول قال ابن عباس يريد أرذل العمر وهو مثل قوله يرد إلى أرذل العمر قال ابن قتيبة السافلون هم الضعفاء والزمني ومن لا يستطيع حيلة ولا يجد سبيلاً يقال سفل يسفل فهو سافل وهم سافلون كما يقال علا يعلو فهو عال وهم عالون أراد أن الهرم يخرف ويضعف سمعه وبصره وعقله وتقل حيلته ويعجز عن عمل الصالحات فيكون أسفل الجميع وقال الفراء ولو كانت أسفل سافل لكان صواباً لأن لفظ الإنسان واحد وأنت تقول هذا أفضل قائم ولا تقول أفضل قائمين إلا أنه قيل سافلين على الجمع لأن الإنسان في معنى جمع فهو كقوله وَالَّذِى جَاء بِالصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وقال وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنسَانَ مِنَّا رَحْمَة ً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ
والقول الثاني ما ذكره مجاهد والحسن ثم رددناه إلى النار قال علي عليه السلام وضع أبواب جهنم بعضها أسفل من بعض فيبدأ بالأسفل فيملأ وهو أسفل سافلين وعلى هذا التقدير فالمعنى ثم رددناه إلى أسفل سافلين إلى النار
إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
أما قوله تعالى إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فاعلم أن هذا الاستثناء على القول الأول منقطع والمعنى ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمى فلهم ثواب دائم على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله أياهم بالشيخوخة والهرم وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة وعلى تخاذل نهوضهم وأما على القول الثاني فالاستثناء متصل ظاهر الاتصال
أما قوله تعالى فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ففيه قولان أحدهما غير منقوص ولا مقطوع وثانيهما أجر غير ممنون أي لا يمن به عليهم وأعلم أن كل ذلك من صفات الثواب لأنه يجب أن يكون غير منقطع وأن لا يكون منعصاً بالمنة
فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ
ثم قال تعالى فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بِالدّينِ وفيه سؤالان
الأولى من المخاطب بقوله فَمَا يُكَذّبُكَ الجواب فيه قولان أحدهما أنه خطاب للإنسان على طريقة الالتفات والمراد من قوله فَمَا يُكَذّبُكَ أن كل من أخبر عن الواقع بأنه لا يقع فهو كاذب والمعنى فما الذي يلجئك إلى هذا الكذب والثاني وهو اختيار الفراء أنه خطاب مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى فمن يكذبك يا أيها الرسول بعد ظهور هذه الدلائل بالدين
السؤال الثاني ما وجه التعجب الجواب أن خلق الإنسان من النطفة وتقويمع بشراً سوياً وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي تم تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر دليل واضح على قدرة الخالقة على الحشر والنشر فمن شاهد هذه الحالة ثم بقي مصراً على إنكار الحشر فلا شيء أعجب منه(32/12)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ
ثم قال تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكروا في تفسيره وجهين أحدهما أن هذا تحقيق لما ذكر من خلق الإنسان ثم رده إلى أرذل العمر يقول الله تعالى أليس الذي فعل ذلك بأحكم الحاكمين صنعاً وتدبيراً وإذا ثبتت القدرة والحكمة بهذه الدلالة صح القول بإمكان الحشر ووقوعه أما الإمكان فبالنظرة إلى القدرة وأما الوقوع فبالنظر إلى الحكمة لأن عدم ذلك يقدح في الحكمة كما قال تعالى وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ والثاني أن هذا تنبيه من الله تعالى لنبيه عليه السلام بأنه يحكم بينه وبين خصومه يوم القيامة بالعدل
المسألة الثانية قال القاضي هذه الآية من أقوى الدلائل على أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخلق أفعال العباد مع ما فيها من السفه والظلم فإنه لو كان الفاعل لأفعال العباد هو الله تعالى لكان كل سفه وكل أمر بسفه وكل ترغيب في سفه فهو من الله تعالى ومن كان كذلك فهو أسفه السفهاء كما أنه لا حكمة ولا أمر بالحكمة ولا ترغيب في الحكمة إلا من الله تعالى ومن كان كذلك فهو أحكم الحكماء ولما ثبت في حقه تعال الأمران لم يكن وصفه بأنه أحكم الحكماء أولى من وصفه بأنه أسفه السفهاء ولما امتنع هذا الوصف في حقه تعالى علمنا أنه ليس خالقاً لأفعال العباد والجواب المعارضة بالعلم والداعي ثم نقول السفيه من قامت السفاهة به لا من خلق السفاهة كما أن المتحرك والساكن من قامت الحركة والسكون به لا من خلقهما والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(32/13)
سورة العلق
تسع عشرة آية مكية
زعم المفسرون أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن وقال آخرون الفاتحة أول ما نزل ثم سورة العلق
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ اعلم أن في الباء من قوله بِاسْمِ رَبّكَ قولين أحدهما قال أبو عبيدة الباء زائدة والمعنى اقرأ اسم ربك كما قال الأخطل هن الحرائر لا ربات أخمرة
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
ومعنى اقرأ اسم ربك أي أذكر اسمه وهذا القول ضعيف لوجوه أحدها أنه لو كان معناه اذكر اسم ربك ما حسن منه أن يقول ما أنا بقارىء أي لا أذكر اسم ربي وثانيها أن هذا الأمر لا يليق بالرسول لأنه ما كان له شغل سوى ذكر الله فكيف يأمره بأن يشتغل بما كان مشغولاً به أبداً وثالثها أن فيه تضييع الباء من غير فائدة
القول الثاني أن المراد من قوله اقْرَأْ أي اقرأ القرآن إذ القراءة لا تستعمل إلا فيه قال تعالى فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ وقال وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وقوله بِاسْمِ رَبّكَ يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون محل باسم ربك النصب على الحال فيكون التقدير اقرأ القرآن مفتتحاً باسم ربك أي قل باسم الله ثم اقرأ وفي هذا دلالة على أنه يجب قراءة التسمية(32/14)
في ابتداء كل سورة كما أنزل الله تعالى وأمر به وفي هذه الآية رد على من لا يرى ذلك واجباً ولا يبتدىء بها وثانيها أن يكون المعنى اقرأ القرآن مستعيناً باسم ربك كأنه يجعل الاسم آلة فيما يحاوله من أمر الدين والدنيا نظيره كتبت بالقلم وتحقيقه أنه لما قال له اقْرَأْ فقال له لست بقارىء فقال اقْرَأْ اسْمَ رَبّكَ أي استعن باسم ربك واتخذه آلة في تحصيل هذا الذي عسر عليك وثالثها أن قوله اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ أي اجعل هذا الفعل لله وافعله لأجله كما تقول بنيت هذه الدار باسم الأمير وصنعت هذا الكتاب باسم الوزير ولأجله فإن العبادة إذا صارت لله تعالى فكيف يجترىء الشيطان أن يتصرف فيما هو لله تعالى فإن قيل كيف يستمر هذا التأويل في قولك قبل الأكل بسم الله وكذا قبل كل فعل مباح قلنا فيه وجهان أحدهما أن ذلك إضافة مجازبة كما تضيف مجازية كما تضيف ضيعتك إلى بعض الكبار لتدفع بذلك ظلم الظلمة كذا تضيف فعلك إلى الله ليقطع الشيطان طمعه عن مشاركتك فقد روى أن من لم يذكر اسم الله شاركه الشيطان في ذلك الطعام والثاني أنه ربما استعان بذلك المباح على التقوى على طاعة الله فيصير المباح طاعة فيصح ذلك التأويل فيه
أما قوله رَبَّكَ ففيه سؤالان
أحدها وهو أن الرب من صفات الفعل والله من أسماء الذات وأسماء الذات أشرف من أسماء الفعل ولأنا قد دللنا بالوجوه الكثيرة على أن اسم الله أشرف من اسم الرب ثم إنه تعالى قال ههنا بِاسْمِ رَبّكَ ولم يقل اقرأ باسم الله كما قال في التسمية المعروفة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وجوابه أنه أمر بالعبادة وبصفات الذات وهو لا يستوجب شيئاً وإنما يستوجب العبادة بصفات الفعل فكان ذلك أبلغ في الحث على الطاعة ولأن هذه السورة كانت من أوائل ما نزل على ما كان الرسول عليه السلام قد فزع فاستماله ليزول الفزع فقال هو الذي رباك فكيف يفزعك فأفاد هذا الحرف معنيين أحدهما ربيتك فلزمك القضاء فلا تتكاسل والثاني أن الشروع ملزم للاتمام وقد ربيتك منذ كذا فكيف أضيعك أي حين كنت علقاً لم أدع تربيتك فبعد أن صرت خلقاً نفيساً موحداً عارفاً بي كيف أضيعكا
السؤال الثاني ما الحكمة في أنه أضاف ذاته إليه فقال بِاسْمِ رَبّكَ الجواب تارة يضيف ذاته إليه بالربوبية كما ههنا وتارة يضيفه إلى نفسه بالعبودية أسرى بعبده نظيره قوله عليه السلام ( علي مني وأنا منه ) كأنه تعالى يقول هو لي وأنا له يقرره قوله تعالى مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ أو نقول إضافة ذاته إلى عبده أحسن من إضافة العبد إليه إذ قد علم في الشاهد أن من له إبنان ينفعه أكبرهما دون الأصغر يقول هو ابني فحسب لما أنه ينال منه المنفعة فيقول الرب تعالى المنفعة تصل مني إليك ولم تصل منك إلى خدمة ولا طاعة إلى الآن فأقول أنا لك ولا أقول أنت لي ثم إذا أتيت بما طلبته منك من طاعة أو توبة أضفتك إلى نفسي فقلت أنزل على عبده قُلْ ياعِبَادِى َ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ
السؤال الثالث لم ذكر عقيب قوله رَبَّكَ قوله الَّذِى خَلَقَ الجواب كأن العبد يقول ما الدليل على أنك ربي فيقول لأنك كنت بذاتك وصفاتك معدوماً ثم صرت موجوداً فلا بد لك في ذاتك وصفاتك من خالق وهذا الخلق والإيجاد تربية فدل ذلك على أني ربك وأنت مربوبي(32/15)
خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ
أما قوله تعالى الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير هذه الآية ثلاثة أوجه أحدها أن يكون قوله الَّذِى خَلَقَ لا يقدر له مفعول ويكون المعنى أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه والثاني أن يقدر له مفعول ويكون المعنى أنه الذي خلق كل شيء فيتناول كل مخلوق لأنه مطلق فليس حمله على البعض أولى من حمله على الباقي كقولنا الله أكبر أي من كل شيء ثم قوله بعد ذلك خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ تخصيص للإنسان بالذكر من بين جملة المخلوقات إما لأن التنزيل إليه أو لأنه أشرف ما على وجه الأرض والثالث أن يكون قوله اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ مبهماً ثم فسره بقوله خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ تفخيماً لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته
المسألة الثانية احتج الأصحاب بهذه الآية على أنه لا خالق غير الله تعالى قالوا لأنه سبحانه جعل الخالقية صفة مميزة لذات الله تعالى عن سائر الذوات وكل صفة هذا شأنها فإنه يستحيل وقوع الشركة فيها قالوا وبهذا الطريق عرفنا أن خاصية الإلهية هي القدرة على الاختراع ومما يؤكد ذلك أن فرعون لما طلب حقيقة الإله فقال وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قال موسى رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ والربوبية إشارة إلى الخلالقية التي ذكرها ههنا وكل ذلك يدل على قولنا
المسألة الثالثة اتفق المتكلمون على أن أول الواجبات معرفة الله تعالى أو النظر في معرفة الله أو القصد إلى ذلك النظر على الاختلاف المشهور فيما بينهم ثم إن الحكيم سبحانه لما أراد أن يبعثه رسولاً إلى المشركين لو قال له اقرأ باسم ربك الذي لا شريك له لأبوا أن يقبلوا ذلك منه لكنه تعالى قدم ذلك مقدمة تلجئهم إلى الاعتراف به كما يحكى إن زفر لما بعثه أبو حنيفة إلى البصرة لتقرير مذهبه فلما ذكر أبو حنيفة زيفوه ولم يلتفتوا إليه فرجع إلى أبي حنيفة وأخبره بذلك فقال إنك لم تعرف طريق التبليغ لكن ارجع إليهم واذكر في المسألة أقاويل أئمتهم ثم بين ضعفها ثم قل بعد ذلك ههنا قول آخر واذكر قولي وحجتي فإذا تمكن ذلك في قلبهم فقل هذا قول أبي حنيفة لأنهم حينئذ يستحيون فلا يردون فكذا ههنا أن الحق سبحانه يقول إن هؤلاء عباد الأوثان فلو أثنيت علي وأعرضت عن الأوثان لأبوا ذلك لكن اذكر لهم أنهم هم الذين خلقوا من العلقة فلا يمكنهم إنكاره ثم قل ولا بد للفعل من فاعل فلا يمكنهم أن يضيفوا ذلك إلى الوثن لعلمهم بأنهم نحتوه فبهذا التدريج يقرون بأني أنا المستحق للثناء دون الأوثان كما قال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ثم لما صارت الإلهية موقوفة على الخالقية وحصل القطع بأن من لم يخلق لم يكن إلهاً فلهذا قال تعالى أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ودلت الآية على أن القول بالطبع باطل لأن المؤثر فيه إن كان حادثاً افتقر إلى مؤثر آخر وإن كان قديماً فإما أن يكون موجباً أو قادراً فإن كان موجباً لزم أن يقارنه الأثر فلم يبق إلا أنه مختار وهو عالم لأن التغير حصل على الترتيب الموافق للمصلحة
المسألة الرابعة إنما قال مِنْ عَلَقٍ على الجمع لأن الإنسان في معنى الجمع كقوله إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ(32/16)
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاٌّ كْرَمُ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
أما قوله تعالى اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم اقرأ أولاً لنفسك والثاني للتبليغ أو الأول للتعلم من جبريل والثاني للتعليم أو قرأ في صلاتك والثاني خارج صلاتك
المسألة الثانية الكرم إفادة ما ينبغي لا لعوض فمن يهب السكين ممن يقتل به نفسه فهو ليس بكريم ومن أعطى ثم طلب عوضاً فهو ليس بكريم وليس يجب أن يكون العوض عيناً بل المدح والثواب والتلخص عن المذمة كله عوض ولهذا قال أصحابنا إنه تعالى يستحيل أن يفعل فعلاً لغرض لأنه لو فعل فعلاً لغرض لكان حصول ذلك الغرض أولى له من لا حصوله فحينئذ يستفيد بفعل ذلك الشيء حصول تلك الأولوية ولو لم يفعل ذلك الفعل لما كان يحصل له تلك الأولوية فيكون ناقصاً بذاته مستكملاً بغيره وذلك محال ثم ذكروا في بيان أكرميته تعالى وجوهاً أحدها أنه كم من كريم يحلم وقت الجناية لكنه لا يبقى إحسانه على الوجه الذي كان قبل الجناية وهو تعالى أكرم لأنه يزيد بإحسانه بعد الجناية ومنه قول القائل
متى زدت تقصيراً تزد لي تفضلاً
كأني بالتقصير أستوجب الفضلا وثانيها إنك كريم لكن ربك أكرم وكيف لا وكل كريم ينال بكرمه نفعاً إما مدحاً أو ثواباً أو يدفع ضرراً أما أنا فالأكرم إذ لا أفعله إلا لمحض الكرم وثالثها أنه الأكرم لأن له الابتداء في كل كرم وإحسان وكرمه غير مشوب بالتقصير ورابعها يحتمل أن يكون هذا حثاً على القراءة أي هذا الأكرم لأنه يجازيك بكل حرف عشراً أو حثاً على الإخلاص أي لا تقرأ لطمع ولكن لأجلي ودع على أمرك فأنا أكرم من أن لا أعطيك ما لا يخطر ببالك ويحتمل أن المعنى تجرد لدعوة الخلق ولا تخف أحداً فأنا أكرم من أن آمرك بهذا التكيف الشاق ثم لا أنصرك
المسألة الثالثة أنه سبحانه وصف نفسه بأنه خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ وثانياً بأنه علقة وهي بالقلم ولا مناسبة في الظاهر بين لأمرين لكن التحقيق أن أول حوال الإنسان كونه علقة وهي أخس الأشياء وآخر أمره هو صيرورته عالماً بحقائق الأشياء وهو أشرف مراتب المخلوقات فكأنه تعالى يقول انتقلت من أخس المراتب إلى أعلى المراتب فلا بد لك من مدبر مقدر ينقلك من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة الشريفة ثم فيه تنبيه على أن العلم أشرف الصفات الإنسانية كأنه تعالى يقول الإيجاد والإحياء والإفدار والرزق كرم وربوبية أما الأكرم هو الذي أعطاك العلم لأن العلم هو النهاية في الشرف
المسألة الرابعة قوله بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ إشارة إلى الدلالة العقلية الدالة على كمال القدرة والحكمة والعلم والرحمة وقوله الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ إشارة إلى الأحكام المكتوبة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالسمع فالأول كأنه إشارة إلى معرفة الربوبية والثاني إلى النبوة وقدم الأول على الثاني تنبيهاً على أن معرفة الربوبية غنية عن النبوة وأما النبوة فإنها محتاجة إلى معرفة الربوبية
المسألة الخامسة في قوله عَلَّمَ بِالْقَلَمِ وجهان أحدهما أن المراد من القلم الكتابة التي(32/17)
تعرف بها الأمور الغائبة وجعل القلم كناية عنها والثاني أن المراد علم الإنسان الكتاب بالقلم وكلا القولين متقارب إذ المراد التنبيه على فضيلة الكتابة يروى أن سليمان عليه السلام سأل عفريتاً عن الكلام فقال ريح لا يبقى قال فما قيده قال الكتابة فالقلم صياد يصيد العلوم يبكي ويضحك بركوعه تسجد الأنام وبحركته تبقى العلوم على مر الليالي والأيام نظيره قول زكريا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً أخفى وأسمع فكذا القلم لا ينطق ثم يسمع الشرق والفرب فسبحانه من قادر بسوادها جعل الدين منوراً كما أنه جعلك بالسواد مبصراً فالقلم قوام الإنسان والإنسان قوام العين ولا تقل القلم نائب اللسان فإن القلم ينوب عن اللسان واللسان لا ينوب عن القلم التراب طهور ولو إلى عشر حجج والقلم بدل ( عن اللسان ) ولو ( بعث ) إلى المشرق والمغرب
عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ
أما قوله تعالى عَلَّمَ الإِنسَانَ لَمْ يَعْلَمْ فيحتمل أن يكون المراد علمه بالقلم وعلمه أيضاً غير ذلك ولم يذكر واو النسق وقد يجري مثل هذا في الكلام تقول أكرمتك أحسنت إليك ملكتك الأموال وليتك الولايات ويحتمل أن يكون المراد من اللفظين واحداً ويكون المعنى علم الإنسان بالقلم مالم يعلمه فيكون قوله عَلَّمَ الإِنسَانَ لَمْ يَعْلَمْ بياناً لقوله عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى
قال تعالى كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى وفيه مسائل
المسألة الأولى أكثر المفسرين على أن المراد من الإنسان ههنا إنسان واحد وهو أبو جهل ثم منهم من قال نزلت السورة من ههنا إلى آخرها في أبي جهل وقيل نزلت من قوله أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إلى آخر السورة في أبي جهل قال ابن عباس كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي فجاء أبو جهل فقال ألم أنهك عن هذا فزجره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أبو جهل والله إنك لتعلم أني ى كثر أهل الوادي نادياً فأنزل الله تعالى فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة َ قال ابن عباس والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله فكأنه تعالى لما عرفه أنه مخلوق من علق فلا يليق به التكبر فهو عند ذلك ازداد طغياناً وتعززاً بماله ورياسته في مكة ويروى أنه قال ليس بمكة أكرم مني ولعله لعنه الله قال ذلك رداً لقوله وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ ثم القائلون بهذا القول منهم من زعم أنه ليست هذه السورة من أوائل ما نزل ومنهم من قال يحتمل أن يكون خمس آيات من أول السورة نزلت أولاً ثم نزلت البقية بعد ذلك في شأن أبي جهل ثم أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بضم ذلك إلى أول السورة لأن تأليف الآيات إنما كان يأمر الله تعالى ألا ترى أن قوله تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ آخر ما نزل عند المفسرين م هو مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل القول الثاني أن المراد من الإنسان المذكور في هذه الآية جملة الإنسان والقول الأول وإن كان أظهر بحسب الروايات إلا أن هذا القول أقرب بحسب الظاهر لأنه تعالى بين أن الله سبحانه مع أنه خلقه من علقة(32/18)
وأنعم عليه بالنعم التي قدمنا ذكرها إذ أغناه وزاد في النعمة عليه فإنه يطغى ويتجاوز الحد في المعاصي واتباع هوى النفس وذلك وعيد وزجر عن هذه الطريقة ثم إنه تعالى أكد هذا الزجر بقوله إِنَّ إِلَى رَبّكَ الرُّجْعَى أي إلى حيث لا مالك سواه فتقع المحاسبة على ما كان منه من العمل والمؤاخذة بحسب ذلك
المسألة الثانية قوله كَلاَّ فيه وجوه أحدها أنه ردع وزجر لمن كفر بنعمة الله بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه وثانيها قال مقاتل كلا لا يعلم الإنسان إن الله هو الذي خلقه من العلقة وعلمه بعد الجهل وذلك لأنه عند صيرورته غنياً يطغى ويتكبر ويصير مستغرق القلب في حب الدنيا فلا يتفكر في هذه الأحوال ولا يتأمل فيها وثالثها ذكر الجرجاني صاحب النظم أن كَلاَّ ههنا بمعنى حقاً لأنه ليس قبله ولا بعده شيء تكون كَلاَّ رداً له وهذا كما قالوه في كَلاَّ وَالْقَمَرِ فإنهم زعموا أنه بمعنى أي والقمر
المسألة الثالثة الطغيان هو التكبر والتمرد وتحقيق الكلام في هذه الآية أن الله تعالى لما ذكر في مقدمة السورة دلائل ظاهرة على التوحيد والقدرة والحكمة بحيث يبعد من العاقل أن لا يطلع عليها ولا يقف على حقائقها أتبعها بما هو السبب الأصلي في الغفلة عنها وهو حب الدنيا والاشتغال بالمال والجاه والثروة والقدرة فإنه لا سبب لعمى القلب في الحقيقة إلا ذلك فإن قيل إن فرعون ادعى الربوبية فقال الله تعالى في حقه اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى وههنا ذكر في أبي جهل لَيَطْغَى فأكده بهذه اللام فما السبب في هذه الزيادة قلنا فيه وجوه أحدها أنه قال لموسى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى وذلك قبل أن يلقاه موسى وقبل أن يعرض عليه الأدلة وقبل أن يدعي الربوبية وأما ههنا فإنه تعالى ذكر هذه الآية تسلية لرسوله حين رد عليه أقبح الرد وثانيها أن فرعون مع كمال سلطته ما كان يزيد كفره على القول وما كان ليتعرض لقتل موسى عليها السلام ولا لإيذائه وأما أبو جهل فهو مع قلة جاهه كان يقصد قتل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإيذاءه وثالثها أن فرعون أحسن إلى موسى أولاً وقال آخراً ءامَنتُ وأما أبو جهل فكان يحسد النبي في صباه وقال في آخر رمقه بلغوا عني محمداً أني أموت ولا أحد أبغض إلي منه ورابعها أنهما وإن كانا رسولين لكن الحبيب في مقابلة الكليم كاليد في مقابلة العين والعاقل يصون عينه فوق ما يصون يده بل يصون عينه باليد فلهذا السبب كانت المبالغة ههنا أكثر
أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى
أما قوله تعالى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الأخفش لأن رآه فخذف اللام كما يقال أنكم لتطغون أن رأيتم غناكم
المسألة الثانية قال الفراء إنما قال أَن رَّءاهُ ولم يقل رأى نفسه كما يقال قتل نفسه لأن رأى من الأفعال التي تستدعي اسماً وخبراً نحو الظن والحسبان والعرب تطرح النفس من هذا الجنس فنقول رأيتني وظننتني وحسبتني فقوله أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى من هذا الباب
المسألة الثالثة في قوله اسْتَغْنَى وجهان أحدهما استغنى بماله عن ربه والمراد من الآية ليس هو الأول لأن الإنسان قد ينال الثروة فلا يزيد إلا تواضعاً كسليمان عليه السلام فإنه كان يجالس(32/19)
المساكين ويقول ( مسكين جالس مسكيناً ) وعبد الرحمن بن عوف ما طغى مع كثرة أمواله بل العاقل يعلم أنه عند الغنى يكون أكثر حاجة إلى الله تعالى منه حال فقره لأنه في حال فقره لا يتمنى إلا سلامة نفسه وأما حال الغنى فإنه يتمنى سلامة نفسه وماله ومماليكه وفي الآية وجه ثالث وهو أن سين اسْتَغْنَى سين الطالب والمعنى أن الإنسان رأى أن نفسه إنما نالت الغنى لأنها طلبته وبذلت الجهد في الطلب فنالت الثروة والغنى بسبب ذلك الجهد لا أنه نالها بإعطاء الله وتوفيقه وهذا جهل وحمق فكم من باذل وسعه في الحرص والطلب وهو يموت جوعاً ثم ترى أكثر الأغنياء في الآخرة يصيرون مدبرين خائفين يريهم الله أن ذلك الغنى ما كان بفعلهم وقوتهم
المسألة الرابعة أول السورة يدل على مدح العلم وآخرها على مذمة المال وكفى بذلك مرغباً في الدين والعلم ومنفراً عن الدنيا والمال
إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى
ثم قال تعالى إِنَّ إِلَى رَبّكَ الرُّجْعَى وفيه مسائل
المسألة الأولى هذا الكلام واقع على طريقة الالتفات إلى الإنسان تهديداً له وتحذيراً من عاقبة الطغيان
المسألة الثانية الرُّجْعَى المرجع والرجوع وهي بأجمعها مصادر يقال رجع إليه رجوعاً ومرجعاً ورجعى على وزن فعلى وفي معنى الآية وجهان أحدهما أنه يرى ثواب طاعته وعقاب تمرده وتكبره وطغيانه ونظيره قوله وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً إلى قوله إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ وهذه الموعظة لا تؤثر إلا في قلب من له قدم صدق أما الجاهل فيغضب ولا يعتقد إلا الفرح العاجل والقول الثاني أنه تعالى يرده ويرجعه إلى النقصان والفقر والموت كما رده من النقصان إلى الكمال حيث نقله من الجمادية إلى الحياة ومن الفقر إلى الغنى ومن الذل إلى العز فما هذا التعزز والقوة
المسألة الثالثة روى أن أبا جهل قال للرسول عليه الصلاة والسلام أتزعم أن من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهباً وفضة لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع دينناً ونتبع دينك فنزل جبريل وقال إن شئت فعلنا ذلك ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم مثل ما فعلنا بأصحاب المائدة فكف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الدعاء إبقاء عليهم
أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى
قوله تعالى أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى وفيه مسائل
المسألة الأولى روى عن أبي جهل لعنه الله أنه قال هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم قالوا نعم قال فوالذي يحلف به لئن رأيته لأطأن عنقه ثم إنه رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الصلاة فنكص على عقبيه فقالوا له مالك يا أبا الحكم فقال إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً شديداً وعن الحسن أن أمية بن(32/20)
خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة
واعلم أن ظاهر الآية أن المراد في هذه الآية هو الإنسان المتقدم ذكره فلذلك قالوا إنه ورد في أبي جهل وذكروا ما كان منه من التوعد لمحمد عليه الصلاة والسلام حين رآه يصلي ولا يمتنع أن يكون نزولها في أبي جهل ثم يعم في الكل لكن ما بعده يقتضي أنه في رجل بعينه
المسألة الثانية قوله أَرَأَيْتَ خطاب مع الرسول على سبيل التعجب ووجه التعجب فيه أمور أحدها أنه عليه السلام قال اللهم أعز الإسلام إما بأبي جعل بن هشام أو بعمر فكأنه تعالى قال له كنت تظن أنه يعز به الإسلام أمثله يعز به الإسلام وهو يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى وثانيها أنه كان يلقب بأبي الحكم فكأنه تعالى يقول كيف يليق به هذا اللقب وهو ينهى العبد عن خدمة ربه أيوصف بالحكمة من يمنع عن طاعة الرحمن ويسجد للأوثانا وثالثها أن ذلك الأحمق يأمر وينهى ويعتقد أنه يجب على الغير طاعته مع أنه ليس بخالق ولا رب ثم إنه ينهى عن طاعة الرب والخالق ألا يكون هذا غاية الحماقة
المسألة الثالثة قال يَنْهَى عَبْداً ولم يقل ينهاك وفيه فوائد أحدها أن التنكير في عبداً يدل على كونه كاملاً في العبودية كأنه يقول إنه عبد لا يفي العالم بشرح بيانه وصفة إخلاصه في عبوديته يروى في هذا المعنى أن يهودياً من فصحاء اليهود جاء إلى عمر في أيام خلافته فقال أخبرني عن أخلاق رسولكم فقال عمر اطلبه من بلال فهو أعلم به مني ثم إن بلالاً دله على فاطمة ثم قاطمة دلته على علي عليه السلام فلما سأل علياً عنه قال صف لي متاع الدنيا حتى أصف لك أخلاقه فقال الرجل هذا لا يتيسر لي فقال علي عجزت عن وصف متاع الدنيا وقد شهد الله على قلته حيث قال قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ فكيف أصف أخلاق النبي وقد شهد الله تعالى بأنه عظيم حيث قال وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ فكأنه تعالى قال ينهى أشد الخلق عبودية عن العبودية وذلك عين الجهل والحمق وثانيها أن هذا أبلغ في الذم لأن المعنى أن هذا دأبه وعادته فينهى كل من يرى وثالثها أن هذا تخويف لكل من نهى عن الصلاة روى عن علي عليه السلام أنه رأى في المصلى أقواماً يصلون قبل صلاة العيد فقال ما رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يفعل ذلك فقيل له ألا تنهاهم فقال أخشى أن أدخل تحت قوله أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى فلم يصرح بالنهي عن الصلاة وأخذ أبو حنيفة منه هذا الأدب الجميل حيث قال له أبو يوسف أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع اللهم اغفر لي قال يقول ربنا لك الحمد ويسجد ولم يصرح بالنهي ورابعها أيظن أبو جهل أنه لو لم يسجد محمد لي لا أجد ساجداً غيره إن محمد عد واحد ولي من الملائكة المقربين مالا يحصيهم إلا أنا وهم دائماً في الصلاة والتسبيح وخامسها أنه تفخيم لشأن النبي عليه السلام يقول إنه مع التنكير معرف نظيره الكناية في سورة القدر حملت على القرآن ولم يسبق له ذكر أَسْرَى بِعَبْدِهِ أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ
أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى
ثم قال تعالى أَرَءيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى وفيه مسائل(32/21)
المسألة الأولى قوله أَرَأَيْتَ خطاب لمن فيه وجهان الأول أنه خطاب للنبي عليه السلام والدليل عليه أن الأول وهو قوله أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والثالث وهو قوله أَرَءيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى للنبي عليه الصلاة والسلام فلو جعلنا الوسط لغير النبي لخرج الكلام عن النظم الحسن يقول الله تعالى يا محمد أرأيت إن كان هذا الكافر ولم يقل لو كان إشارة إلى المستقبل كأنه يقول أرأيت إن صار على الهدى واشتغل بأمر نفسه أما كان يليق به ذلك إذ هو رجل عاقل ذو ثروة فلو اختار الدين والهدى والأمر بالتقوى أما كان ذلك خيراً له من الكفر بالله والنهي عن خدمته وطاعته كأنه تعالى يقول تلهف عليه كيف فوت على نفسه المراتب العالية وقنع بالمراتب الدنيئة
القول الثاني أنه خطاب للكافر لأن الله تعالى كالمشاهد للظالم والمظلوم وكالمولى الذي قام بين يديه عبدان وكالحاكم الذي حضر عنده المدعى والمدعى عليه فخاطب هذا مرة وهذا مرة فلما قال للنبي أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى التفت بعد ذلك إلى الكافر فقال أرأيت يا كافر إن كانت صلاته هدى ودعاؤه إلى الله أمراً بالتقوى أتنهاه مع ذلك
المسألة الثانية ههنا سؤال وهو أن المذكور في أول الآية هو الصلاة وهو قوله أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى والمذكور ههنا أمران وهو قوله أَرَءيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى في فعل الصلاة فلم ضم إليه شيئاً ثانياً وهو قوله أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى جوابه من وجوه أحدها أن الذي شق على أبي جهل من أفعال الرسول عليه الصلاة والسلام هو هذان الأمران الصلاة والدعاء إلى الله فلا جرم ذكرهما ههنا وثانيها أن النبي عليه الصلاة والسلام كان لا يوجد إلا في أحد أمرين إما في إصلاح نفسه وذلك بفعل الصلاة أو في إصلاح غيره وذلك بالأمر بالتقوى وثالثها أنه عليه السلام كان في صلاته على الهدى وآمراً بالتقوى لأن كل من رآه وهو في الصلاة كان يرق قلبه فيميل إلى الإيمان فكان فعل الصلاة دعوة بلسان الفعل وهو أقوى من الدعوة بلسان القول
أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى
ثم قال تعالى أَرَءيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى وفيه قولان
القول الأول أنه خطاب مع الرسول عليه الصلاة والسلام وذلك لأن الدلائل التي ذكرها في أول هذه السورة جلية ظاهرة وكل أحد يعلم ببديهة عقله أن منع العبد من خدمة مولاه فعل باطل وسفه ظاهر فإذن كل من كذب بتلك الدلائل وتولى عن خدمة مولاه بل منع غيره عن خدمة مولاه يعلم بعقله السليم أنه على الباطل وأنه لا يفعل ذلك إلا عناداً فلهذا قال تعالى لرسوله أرأيت يا محمد إن كذب هذا الكافر بتلك الدلائل الواضحة وتولى عن خدمة خالقه ألم يعلم بعقله أن الله يرى منه هذه الأعمال القبيحة ويعلمها أفلا يزجره ذلك عن هذه الأعمال القبيحة والثاني أنه خطاب للكافر والمعنى إن كان يا كافر محمد كاذباً أو متولياً ألا يعلم بأن الله يرى حتى ينتهي بل احتاج إلى نهيك
أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى
أما قوله أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ففيه مسألتان
المسألة الأولى المقصود من الآية التهديد بالحشر والنشر والمعنى أنه تعالى عالم بجميع المعلومات(32/22)
حكيم لا يهمل الم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فلا بد وأن يوصل جزاء كل أحد إليه بتمامه فيكون هذا تخويفاً شديداً للعصاة وترغيباً عظيماً لأهل الطاعة
المسألة الثانية هذه الآية وإن نزلت في حق أبي جهل فكل من نهى من طاعة الله فهو شريك أبي جهل في هذا الوعيد ولا يرد عليه المنع من الصلاة في الدار المغصوبة والأوقات المكروهة لأن المنهى عنه غير الصلاة وهو المعصية ولا يرد المولى بمنع عبده عن قيام الليل وصوم التطوع وزوجته عن الاعتكاف لأن ذلك لاستيفاء مصلحته بإذن ربه لا بغضاً لعبادة ربه
كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَة ِ نَاصِيَة ٍ كَاذِبَة ٍ خَاطِئَة ٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة َ
ثم قال تعالى كَلاَّ وفيه وجوه أحدها أنه ردع لأبي جهل ومنه له عن نهيه عن عبادة الله تعالى وأمره بعبادة اللات وثانيها كلا لن يصل أبو جهل إلى ما يقول إنه يقتل محمداً أو يطأ عنقه بل تلميذ محمد هو الذي يقتله ويطأ صدره وثالثها قال مقاتل كلا لا يعلم أن الله يرى وإن كان يعلم لكن إذا كان لا ينتفع بما يعلم فكأنه لا يعلم
ثم قال تعالى لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ أو عما هو فيه لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَة ِ نَاصِيَة ٍ كَاذِبَة ٍ خَاطِئَة ٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله لَنَسْفَعاً وجوه أحدها لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار والسفع القبض على الشيء وجذبه بشدة وهو كقوله فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاْقْدَامِ وثانيها السفع الضرب أي لنلطمن وجهه وثالثها لنسودن وجهه قال الخليل تقول للشيء إذا لفحته النار لفحاً يسيراً يغير لون البشرة قد سفعته النار قال والسفع ثلاثة أحجار يوضع عليها القدر سميت بذلك لسوادها قال والسفعة سواد في الخدين وبالجملة فتسويد الوجهعلامة الإذلال والإهانة ورابعها لنسمنه قال ابن عباس في قوله سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ إنه أبو جهل خامسها لنذلنه
المسألة الثانية قرىء لنسفعن بالنون المشددة أي الفاعل لهذا الفعل هو الله والملائكة كما قال فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وقرأ ابن مسعود لأسعفن أي يقول الله تعالى يا محمد أنا الذي أتولى إهانته نظيره هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَة َ
المسألة الثالثة هذا السفع يحتمل أن يكون المراد منه إلى النار في الآخرة وأن يكون المراد منه في الدنيا وهذا أيضاً على وجوه أحدها ما روى أن أبا جهل لما قال إن رأيته يصلي لأطأن عنقه فأنزل الله هذه السورة وأمره جبريل عليه السلام بأن يقرأ على أبي جهل ويخر لله ساجداً في آخرها ففعل فعدا إليه أبو جهل ليطأ عنقه فلما دنا منه نكص على عقبيه راجعاً فقيل له مالك قال إن بيني وبينه فخلاً فاغراً فاه لو مشيت إليه لالتقمني وقيل كان جبريل وميكائيل عليهما السلام على كتفيه في صورة الأسد والثاني أن يكون المراد يوم بدر فيكون ذلك بشارة بأنه تعالى يمكن المسلمين من ناصيته حتى يجرونه إلى القتل إذا عاد إلى النهي فلما عاد لا جرم مكنهم الله تعالى من ناصيته يوم بدر روى أنه لما نزلت سورة الرحمن(32/23)
عَلَّمَ الْقُرْءانَ قال عليه السلام لأصحابه من يقرؤها منكم على رؤساء قريش فتثاقلوا مخافة أذيتهم فقام ابن مسعود وقال أنا يا رسول الله فأجلسه عليه السلام ثم قال من يقرؤها عليهم فلم يقم إلا ابن مسعود ثم ثالثاً كذلك إلى أن أذن له وكان عليه السلام يبقى عليه لما كان يعلم من ضعفه وصغر جثته ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة فافتتح قراءة السورة فقام أبو جهل فلطمه فشق أذنه وأدماه فانصرف وعيناه تدمع فلما رآه النبي عليه السلام رق قلبه وأطرق رأسه مغموماً فإذا جبريل عليه السلام يجيء ضاحكاً مستبشراً فقال يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكيا فقال ستعلم فلما ظهر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في المجاهدين فأخذ يطالع القتلى فإذا أبو جهل مصروع يخور فخاف أن تكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه ولعل هذا معنى قوله سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ثم لما عرف عجزه ولم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه فارتقى إليه بحيلة فلما رآه أبو جهل قال يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعباً فقال ابن مسعود الإسلام يعلو ولا يعلى عليه فقال أبو جهل بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إلي منه في حياتي ولا أبغض إلي منه في حال مماتي فروى أنه عليه السلام لما سمع ذلك قال ( فرعوني أشد من فرعون موسى فإنه قال ءامَنتُ وهو قد زاد عتواً ) ثم قال لابن مسعود اقطع رأسي بسيفي هذا لأنه أحد وأقطع فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله ولعل الحكيم سبحانه إنما خلقه ضعيفاً لأجل أن لا يقوى على الحمل لوجوه أحدها أنه كلب والكلب يجر والثاني لشق الأذن فيقتص الأذن بالأذن والثالث لتحقيق الوعيد المذكور بقوله لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَة ِ فتجر تلك الرأس على مقدمها ثم إن ابن مسعود لما لم يطقه شق أذنه وجعل الخيط فيه وجعل يجره إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وجبريل بين يديه يضحك ويقول يا محمد أذن بأذن لكن الرأس ههنا مع الأذن فهذا ما روى في مقتل أبي جهل نقلته معنى لا لفظاً الخاطىء معنى قوله لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَة ِ
المسألة الرابعة الناصية شعر الجبهة وقد يسمى مكان الشعر الناصية ثم إنه تعالى كنى ههنا عن الوجه والرأس بالناصية ولعل السبب فيه أن أبا جهل كان شديد الاهتمام بترجيل تلك الناصية وتطييبها وربما كان يهتم أيضاً بتسويدها فأخبره الله تعالى أنه يسودها مع الوجه
المسألة الخامسة أنه تعالى عرف الناصية بحرف التعريف كأنه تعالى يقول الناصية المعروفة عندكم ذاتها لكنها مجهولة عندكم صفاتها ناصية وأي ناصية كاذبة قولاً خاطئة فعلاً وإنما وصف بالكذب لأنه كان كاذباً على الله تعالى في أنه لم يرسل محمداً وكاذباً على رسوله في أنه ساحر أو كذاب أو ليس بنبي وقيل كذبه أنه قال أنا أكثر أهل هذا الوادي نادياً ووصف الناصية بأنها خاطئة لأن صاحبها متمرد على الله تعال قال الله تعالى لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْمُؤْمِنُونَ والفرق بين الخاطىء والمخطىء أن الخاطىء معاقب مؤاخذ والمخطىء غير مؤاخذ ووصف الناصية بالخاطئة الكاذبة كما وصف الوجوه بأنها ناظرة في قوله تعالى إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ
المسألة السادسة نَاصِيَة ٍ بدل من الناصية وجاز إبدالها من المعرفة وهي نكرة لأنها وصفت فاستقلت بفائدة(32/24)
المسألة السابعة قرىء ناصية بالرفع والتقدير هي ناصية وناصية بالنصب وكلاهما على الشتم واعلم أن الرسول عليه السلام لما أغلظ في القول لأبي جهل وتلا عليه هذه الآيات قال يا محمد بمن تهددني وأني لأكثر هذا الوادي نادياً فافتخر بجماعته الذين كانوا يأكلون حطامه فنزل قوله تعالى فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة َ وفيه مسائل
المسألة الأولى قد مر تفسير النادي عند قوله وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قال أبو عبيدة ناديه أي أهل مجلسه وبالجملة فالمراد من النادي أهل النادي ولا يسمى المكان نادياً حتى يكون فيه أهله وسمى نادياً لأن القوم يندون إليه نداً وندوة ومنه دار الندوة بمكة وكانوا يجتمعون فيها للتشاور وقيل سمي نادياً لأنه مجلس الندى والجود ذكر ذلك على سبيل النهكم أي أجمع أهل الكرم والدفاع في زعمك لينصروك
المسألة الثانية قال أبو عبيدة والمبرد واحد الزبانية زبنية وأصله من زبنية إذا دفعته وهو متمرد من إنس أو جن ومثله في المعنى والتقدير عفرية يقال فلان زبنية عفرية وقال الأخفش قال بعضهم واحده الزباني وقال آخرون الزابن وقال آخرون هذا من الجمع الذي لا واحد له من لفظه في لغة الغرب مثل أبابيل وعباديد وبالجملة فالمراد ملائكة العذاب ولا شك أنهم مخصوصون بقوة شديدة وقال مقاتل هم خزنة جهنم أرجلهم في الأرض ورؤسهم في السماء وقال قتادة الزبانية هم الشرط في كلام العرب وهم الملائكة الغلاظ الشداد وملائكة النار سموا الزبانية لأنهم يزبنون الكفار أي يدفعونهم في جهنم
المسألة الثالثة في الآية قولان الأول أي فليفعل ما ذكره من أنه يدعو أنصاره ويستعين بهم في مباطلة محمد فإنه لو فعل ذلك فنحن ندعو الزبانية الذين لا طاقة لناديه وقومه بهم قال ابن عباس لو دعا ناديه لأخذته الزبانية من ساعته معاينة وقيل هذا إخبار من الله تعالى بأنه يجر في الدنيا كالكلب وقد فعل به ذلك يوم بدر وقيل بل هذا إخبار بأن الزبانية يجرونه في الآخرة إلى النار القول الثاني أن في الآية تقديماً وتأخيراً أي لنسفعاً بالناصية وسندع الزبانية في الآخرة فليدع هو ناديه حينئذ فليمنعوه
المسألة الرابعة الفاء في قوله فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ تدل على المعجز لأن هذا يكون تحريضاً للكافر على دعوة ناديه وقومه ومتى فعل الكافر ذلك ترتب عليه دعوة الزبانية فلما لم يجترىء الكافر على ذلك دل على ظهور معجزة الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
المسألة الخامسة قرىء ستدعى على المجهول وهذه السير ليست للشك عسى من الله واجب الوقوع وخصوصاً عند بشارة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأن ينتقم له من عدوه ولعل فائدة السين هو المراد من قوله عليه السلام ( لأنصرنك ولو بعد حين )(32/25)
كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب
ثم قال فَاقِرَة ٌ كَلاَّ وهو ردع لأبي جهل وقيل معناه لن يصل إلى ما يتصلف به من أنه يدعو ناديه ولئن دعاهم لن ينفعوه ولن ينصروه وهو أذل وأحقر من أن يقاومك ويحتمل لن ينال ما يتمنى من طاعتك له حين نهاك عن الصلاة وقيل معناه ألا لا تطعه
ثم قال لاَ تُطِعْهُ وهو كقوله فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذّبِينَ وَاسْجُدْ وعند أكثر أهل التأويل أراد به صل وتوفر على عبادة الله تعالى فعلاً وإبلاغاً وليقل فكرك في هذا العدو فإن الله مقويك وناصرك وقال بعضهم بل المراد الخضوع وقال آخرون بل المراد نفس السجود في الصلاة
ثم قال وَاقْتَرِب والمراد وابتغ بسجودك قرب المنزلة منربك وفي الحديث ( أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد ) وقال بعضهم المراد اسجد يا محمد واقترب يا أبا جهل منه حتى تبصر ما ينالك من أخذ الزبانية إياك فكأنه تعالى أمره بالسجود ليزداد غيظ الكافر كقوله لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ والسبب الموجب لازدياد الغيظ هو أن الكفار كان يمنعه من القيام فيكون غيظه وغضبه عند مشاهدة السجود أتم ثم قال عند ذلك وَاقْتَرِب منه يا أبا جهل وضع قدمك عليه فإن الرجل ساجد مشغول بنفسه وهذا تهكم به واستحقار لشأنه والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(32/26)
سورة القدر
خمس آيات مكية
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ وفيه مسائل
المسألة الأولى أجمع المفسرون على أن المراد إنا أنزلنا القرآن في ليلة القدر ولكنه تعالى ترك التصريح بالذكر لأن هذا التركيب يدل على عظم القرآن من ثلاثة أوجه أحدها أنه أسند إنزاله إليه وجعله مختصاً به دون غيره والثاني أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التصريح ألا ترى أنه في السورة المتقدمة لم يذكر اسم أبي جهل ولم يخف على أحد لاشتهاره وقوله فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ لم يذكر الموت لشهرته فكذا ههنا والثالث تعظيم الوقت الذي أنزل فيه
المسألة الثانية أنه تعالى قال في بعض المواضع إِنّى كقوله إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً وفي بعض المواضع أَنَاْ كقوله إِنَّا أَنزَلْنَا فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ وأعلم أن قوله أَنَاْ تارة يراد به التعظيم وحمله على الجمع محال لأن الدلائل دلت على وحدة الصانع ولأنه لو كان في الآلهة كثرة لانحطت رتبة كل واحد منهم عن الإلهية لأنه لو كان كل واحد منهم قادراً على الكمال لاستغنى بكل واحد منهم عن كل واحد منهم وكونه مستغنى عنه نقص في حقه فيكون الكل ناقصاً وإن لم يكن كل واحد منهم قادراً على الكمال كان ناقصاً فعلمنا أن قوله أَنَاْ محمول على التعظيم لا على الجمع
المسألة الثالثة إن قيل ما معنى إنه أنزل في ليلة القدر مع العلم بأنه أنزل نجوماً قلنا فيه وجوه(32/27)
أحدهما قال الشعبي ابتداء بإنزاله ليلة القدر لأن البعث كان في رمضان والثاني قال ابن عباس أنزل إلى سماء الدنيا جملة ليلة القدر ثم إلى الأرض نجوماً كما قال فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وقد ذكرنا هذه المسألة في قوله شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ لا يقال فعلى هذا القول لم لم يقل أنزلناه إلى السماء لأن إطلاقه يوهم الإنزال إلى الأرض لأنا نقول إن إنزاله إلى السماء كإنزاله إلى الأرض لأنه لم يكن ليشرع في أمر ثم لا يتمه وهو كغائب جاء إلى نواحي البلد يقال جاء فلان أو يقال الغرض من تقريبه وإنزاله إلى سماء الدنيا أن يشوقهم إلى نزوله كمن يسمع الخبر بمجيء منشور لوالده أو أمه فإنه يزداد شوقه إلى مطالعته كما قال
وأبرح ما يكون الشوق يوماً
إذا دنت الديار من الديار وهذا لأن السماء كالمشترك بيننا وبين الملائكة فهي لهم مسكن ولنا سقف وزينة كما قال وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً فإنزاله القرآن هناك كإنزاله ههنا والوجه الثالث في الجواب أن التقدير أنزلنا هذا الذكر فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ أي في فضيلة ليلة القدر وبيان شرفها
المسألة الرابعة القدر مصدر قدرت أقدر قدراً والمراد به ما يمضيه الله من الأمور قال إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ والقدر والقدر واحد إلا أنه بالتسكين مصدر وبالفتح اسم قال الواحدي القدر في اللغة بمعنى التقدير وهو جعل لشيء على مساواة غيره من غير زيادة ولا نقصان واختلفوا في أنه لم سميت هذه الليلة ليلة القدر على وجوه أحدهما أنها ليلة تقدير الأمور والأحكام قال عطاء عن ابن عباس أن الله قدر ما يكون في كل تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى مثل هذه الليلة من السنة الآتية ونظيره قوله تعالى فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ واعلم أن تقدير الله لا يحدث في تلك الليلة فإنه تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض في الأزل بل المراد إظهار تلك الليلة المقادير للملائكة في تلك الليلة بأن يكتبها في اللوح المحفوظ وهذا القول اختيار عامة العلماء الثاني نقل عن الزهري أنه قال لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ليلة العظمة والشرف من قولهم لفلان قدر عند فلان أي منزلة وشرف ويدل عليه قوله لَيْلَة ُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ثم هذا يحتمل وجهين أحدهما أن يرجع ذلك إلى الفاعل أي من أتى فيها بالطاعات صار ذا قدر وشرف وثانيهما إلى الفعل أي الطاعات لها في تلك الليلة قدر زائد وشرف زائد وعن أبي بكر الوراق سميت لَيْلَة ِ الْقَدْرِ لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر على لسان ملك ذي قدر على أمة لها قدر ولعل الله تعالى إنما ذكر لفظة القدر في هذه السورة ثلاث مرات لهذا السبب
والقول الثالث ليلة القدر أي الضيق فإن الأرض تضيق عن الملائكة
المسألة الخامسة أنه تعالى أخفى هذه الليلة لوجوه أحدها أنه تعالى أخفاها كما أخفى سائر الأشياء فإنه أخفى رضاه في الطاعات حتى يرغبوا في الكل وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل الأسماء وأخفى في الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبة وأخفى وقت الموت ليخاف المكلف فكذا أخفى هذه(32/28)
الليلة ليعظموا جميع ليالي رمضان وثانيها كأنه تعالى يثول لو عينت ليلة القدر وأنا عالم بتجاسركم على المعصية فربما دعتك الشهوة في تلك الليلة إلى المعصية فوقعت في الذنب فكانت معصيتك مع علمك أشد من معصيتك لا مع علمك فلهذا السبب أخفيتها عليك روى أنه عليه السلام دخل المسجد فرأى نائماً فقال يا علي نبهه ليتوضأ فأيثظه علي ثم قال علي يا رسول الله إنك سباق إلى الخيرات فلم لم تنبهه قال لأن رده عليك ليس بكفر ففعلت ذلك لتخف جنايته لو أبى فإذا كان هذا رحمة الرسول فقس عليه رحمة الرب تعالى فكأنه تعالى يقول إذا علمت ليلة القدر فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر وإن غصيت فيها اكتسب عقاب ألف شهر ودفع العقاب أولى من جلب الثواب وثالثها أني أخفيت هذه الليلة حتى يجتهد المكلف في طلبها فيكتسب ثواب الاجتهاد ورابعها أن العبد إذا لم يتيقن ليلة القدر فإنه يجتهد في الطاعة في جميع ليالي رمضان على رجاء أنه ربما كانت هذه الليلة هي ليلة القدر فيباهي الله تعالى بهم ملائكته يقول كنتم تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء فهذا جده واجتهاده في الليلة المظنونة فكيف لو جعلتها معلومة لها فحينئذ يظهر سر قوله إِنِي أَعْلَمُ مَالاً تَعْلَمُونَ
المسألة السادسة اختلفوا في أن هذه الليلة هل تستتبع اليوم قال الشعبي نعم يومها كليلتها ولعل الوجه فيه أن ذكر الليالي يستبع الأيام ومنه إذا نذر اعتكاف ليلتين الزمناه بيوميهما قال تعالى وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَة ً أي اليوم يخلف ليلته وبالضد
المسألة السابعة هذه الليلة هل هي باقية قال الخليل من قال إن فضلها لنزول القرآن فيها يقول انقطعت وكانت مرة والجمهور على أنها باقية وعلى هذا هل هي مختصة برمضان أم لا روى عن ابن مسعود أنه قال من يقم الحول يصبها وفسرها عكرمة بليلة البراءة في قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ٍ مُّبَارَكَة ٍ والجمهور على أنها مختصة برمضان واحتجوا عليه بقوله تعالى شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وقال إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ فوجب أن تكون ليلة القدر في رمضان لئلا يلزم التناقص وعلى هذا القول اختلفوا في تعيينها على ثمانية أقوال فقال ابن رزين ليلة القدر هي الليلة الأولى من رمضان وقال الحسن البصري السابعة عشرة وعن أنس مرفوعاً التاسعة عشرة وقال محمد بن إسحق الحادية والعشرون وعن ابن عباس الثالثة والعشرون وقال ابن مسعود الرابعة والعشرون وقال أبو ذر الغفاري الخامسة والعشرون وقال أبي بن كعب وجماعة من الصحابة السابعة والعشرون وقال بعضهم التاسعة والعشرون أما الذين قالوا إنها الليلة الأولى ( فقد ) قالوا روى وهب أن صحف إبراهيم أنزلت في الليلة الأولى من رمضان والتوراة ليست ليال مضين من رمضان بعد صحف إبراهيم بسبعمائة سنة وأنزل الزبور على داود لثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان بعد التوراة بخمسمائة عام وأنزل الإنجيل على عيسى لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان بعد الزبور بستمائة عام وعشرين عاماً وكان القرآن ينزل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في كل ليلة قدر من السنة إلى السنة كان جبريل عليه السلام ينزل به من بيت العزة من السماء السابعة إلى سماء الدنيا فأنزل الله تعالى القرآن في عشرين شهراً في عشرين سنة فلما كان هذا الشهر هو الشهر الذي حصلت فيه هذه الخيرات العظيمة لا جرم كان في غاية الشرف والقدر والرتبة فكانت الليلة الأولى منه ليلة القدر وأما الحسن البصري فإنه قال هي ليلة سبعة عشر لأنها ليلة كانت صبيحتها وقعة بدر وأما التاسعة(32/29)
عشرة فقد روى أنس فيها خبراً وأما ليلة السابع والعشرين فقد مال الشافعي إليه لحديث الماء والطين والذي عليه المعظم أنها ليلة السابع والعشرين وذكروا فيه أمارات ضعيفة أحدها حديث ابن عباس أن السورة ثلاثون كلمة وقوله هِى َ هي السابعة والعشرون منها وثانيها روى أن عمر سأل الصحابة ثم قال لابن عباس غص يا غواص فقال زيد بن ثابت أحضرت أولاد المهاجرين وماأحضرت أولادنا فقال عمر لعلك تقول إن هذا غلام ولكن عنده ما ليس عندكم فقال ابن عباس أحب الأعداد إلى الله تعالى الوتر أحب الوتر إليه السبعة فذكر السموات السبع والأرضين السبع والأسبوع ودركات النار وعدد الطواف والأعضاء السبعة فدل على أنها السابعة والعشرون وثالثها نقل أيضاً عن ابن عباس أنه قال لَيْلَة ِ الْقَدْرِ تسعة أحرف وهو مذكور ثلاث مرات فتكون السابعة والعشرين ورابعها أنه كان لعثمان بن أبي العاص غلام فقال يا مولاي إن البحر يعذب ماؤه ليلة من الشهر قال إذا كانت تلك الليلة فأعلمني فإذا هي السابعة والعشرون من رمضان وأما من قال إنها الليلة الأخيرة قال لأنها هي الليلة التي تتم فيها طاعات هذا الشهر بل أول رمضان كآدم وآخره كمحمد ولذلك روى في الحديث يعتق في آخر رمضان بعدد ما أعتق من أول الشهر بل الليلة الأولى كمن ولد له ذكر فهي ليلة شكر والأخيرة ليلة الفراق كمن مات له ولد فهي ليلة صبر وقد علمت فرق ما بين الصبر والشكر
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَة ُ الْقَدْرِ
ثم قال تعالى وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَة ُ الْقَدْرِ يعني ولم تبلغ درايتك غاية فضلهاومنتهى علو قدرها ثم إنه تعالى بين فضيلتها من ثلاثة أوجه
لَيْلَة ُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ
الأول قوله تعالى لَيْلَة ُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير الآية وجوه أحدها أن العبادة فيها خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ليس فيها هذه الليلة لأنه كالمستحيل أن يقال إنها خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ فيها هذه الليلة وإنما كان كذلك لما يزيد الله فيها من المنافع والأرزاق وأنواع الخير وثانيها قال مجاهد كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد حتى يمسي فعل ذلك ألف شهر فتعجب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمون من ذلك فأنزل الله هذه الآية أي ليلة القدر لأمتك خير من ألف شهر لذلك الإسرائيلي الذي حمل السلاح ألف شهر وثالثها قال مالك بن أنس أرى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أعمار الناس فاستقصر أعمار أمته وخاف أن لا يبلغوا من الأعمال مثل ما بلغه سائر الأمم فأعطاه الله ليلة القدر وهي خير من ألف شهر لسائر الأمم ورابعها روى القاسم بن فضل عن عيسى بن مازن قال قلت للحسن بن علي عليه السلام يا مسود وجوه المؤمنين عمدت إلى هذا الرجل فبايعت له يعني معاوية فقال إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رأى في منامه بني أمية يطؤن منبره واحداً بعد واحد وفي رواية ينزون على منبره نزو القردة فشق ذلك عليه فأنزل الله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ إلى قوله خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ يعني ملك بني أمية قال القاسم فحسبنا ملك بني أمية فإذا هو ألف شهر طعن القاضي في هذه الوجوه فقال ما ذكر من أَلْفِ شَهْرٍ في أيام بني أمية بعيد لأنه تعالى لا يذكر فضلها بذكر ألف شهر مذمومة وأيام بني أمية كانت مذمومة(32/30)
واعلم أن هذا الطعن ضعيف وذلك لأن أيام بني أمية كانت أياماً عظيمة بحسب السعادات الدنيوية فلا يمتنع أن يقول الله تعالى إني أعطيتك ليلة هي في السعادات الدينية أفضل من تلك السعادات الدنيوية
المسألة الثانية هذه الآية فيها بشارة عظيمة وفيها تهديد عظيم أما البشارة فهي أنه تعالى ذكر أن هذه الليلة خير ولم يبين قدر الخيرية وهذا كقوله عليه السلام لمبارزة علي عليه السلام مع عمرو بن عبد ود ( العامري ) أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة فلم يقل مثل عمله بل قال أفضل كأنه يقول حسبك هذا من الوزن والباقي جزاف
واعلم أن من أحياها فكأنما عبد الله تعالى نيفاً وثمانين سنة ومن أحياها كل سنة فكأنه رزق أعماراً كثيرة ومن أحيا الشهر لينالها بيقين فكأنه أحيا ثلاثين قدراً يروى أنه يجاء يوم القيامة بالإسرائيلي الذي عبد الله أربعمائة سنة ويجاء برجل من هذه الأمة وقد عبد الله أربعين سنة فيكون ثوابه أكثر فيقول الإسرائيلي أنت العدل وأرى ثوابه أكثر فيقول إنهكم كنتم تخافون العقوبة المعجلة فتعبدون وأمة محمد كانوا آمنين لقوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ثم إنهم كانوا يعبدون فلهذا السبب كانت عبادتهم أكثر ثواباً وأما التهديد فهو أنه تعالى توعد صاحب الكبيرة بالدخول في النار وأن إحياء مائة ليلة من القدر لا يخلصه عن ذلك العذاب المستحق بتطفيف حبة واحدة فلهذا فيه إشارة إلى تعظيم حال الذنب والمعصية
المسألة الثالثة لقائل أن يقول صح عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أجرك على قدر نصبك ) ومن المعلوم أن الطاعة في ألف شهر أضق من الطاعة في ليلة واحدة فكيف يعقل استواؤهما والجواب من وجوه أحدها أن الفعل الواحد قد يختلف حاله في الحسن والقبح بسبب اختلاف الوجوه المنضمة إليه ألا ترى أن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بكذا درجة مع أن الصورة قد تنتقض فإن المسبوق سقطت عنه ركعة واحدة وأيضاً فأنت تقول لمن يرجم إنه إنما يرجم إنه زان فهو قول حسن ولو قلته للنصراني فقذف يوجب التعزيز ولو قلته للمحصن فهو يوجب الحد فقد اختلفت الأحكام في هذه المواضع مع أن الصورة واحدة في الكل بل لو قلته في حق عائشة كان كفراً ولذلك قال وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ وذلك لأن هذا طعن في حق عائشة التي كانت رحلة في العلم لقوله عليه السلام ( خذوا ثلثي دينكم من هذه الحميراء ) وطعن في صفوان مع أنه كان رجلاً بدرياً وطعن في كافة المؤمنين لأنها أم المؤمنين وللولد حق المطالبة بقذف الأم وإن كان كافراً بل طعن في النبي الذي كان أشد خلق الله غيره بل طعن في حكمة الله إذ لا يجوز أن يتركه حتى يتزوج بامرأة زانية ثم القائل بقوله هذا زان فقد ظن أن هذه اللفظة سهلة مع أنها أثقل من الجبال فقد ثبت بهذا أن الأفعال تختلف آثارها في الثواب والعقاب لاختلاف وجوهها فلا يبعد أن تكون الطاعة القليلة في الصورة مساوية في الثواب للطاعات الكثيرة والوجه الثاني في الجواب أن مقصود الحكيم سبحانه أن يجر الخلق إلى الطاعات فتارة يجعل ثمن الطاعة ضعفين فقال إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ومرة عشراً ومرة سبعمائة وتارة بحسب الأزمنة وتارة بحسب الأمكنة والمقصود الأصلي من الكل جر المكلف إلى الطاعة وصرفه عن الاشتغال بالدنيا فتارة يرجح البيت وزمزم على سائر البلاد وتارة يفضل رمضان على سائر الشهور وتارة(32/31)
يفضل الجمعة على سائر الأيام وتارة يفضل ليلة القدر على سائر الليالي والمقصود ما ذكرناه الوجه الثاني من فضائل هذه الليلة
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَة ُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ
قوله تعالى تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَة ُ وَالرُّوحُ فِيهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن نظر الملائكة على الأرواح ونظر البشر على الأشباح ثم إن الملائكة لما رأوا روحك محلاً للصفات الذميمة من الشهوة والغضب ما قبلوك فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويفسك الدماء وأبواك لما رأوا قبح صورتك في أول الأمر حين كنت منياً وعلقة ما قبلوك أيضاً بل أظهروا النفرة واستقذروا ذلك المني والعلقة وغسلوا ثيابهم عنه ثم كم احتالوا للإسقاط والإبطال ثم إنه تعالى لما أعطاك الصورة الحسنة فالأبوان لما رأوا تلك الصورة الحسنة قبلوك ومالوا إليك فكذا الملائكة لما رأوا في روحك الصورة الحسنة وهي معرفة الله وطاعته أحبوك فنزلوا إليك معتذرين عما قالوه أولاً فهذا هو المراد من قوله تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَة ُ فإذا نزلوا إليك رأوا روحك في ظلمة ليل البدن وظلمة القوى الجسمانية فحينئذ يعتذرون عما تقدم وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ
المسألة الثانية أن قوله تعالى تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَة ُ يقتضي ظاهره نزول كل الملائكة ثم الملائكة لهم كثرة عظيمة لا تحتمل كلهم الأرض فلهذا السبب اختلفوا فقال بعضهم إنها تنزل بأسرها إلى السماء الدنيا فإن قيل الإشكال بعد باق لأن السما مملوءة بحيث لا يوجد فيها موضع إهاب إلا وفيه ملك فكيف تسع الجميع سماء واحدة قلنا يقضي بعموم الكتاب على خبر الواحد كيف والمروي إنهم ينزلون فوجاً فوجاً فمن نازل وصاعد كأهل الحج فإنهم على كثرتهم يدخلون الكعبة بالكلية لكن الناس بين داخل وخارج ولهذا السبب مدت إلى غاية طلوع الفجر فلذلك ذكر بلفظ تُنَزَّلَ الذي يفيد المرة بعد المرة
والقول الثاني وهو اختيار الأكثرين أنهم ينزلون إلى الأرض وهو الأوجه لأن الغرض هو الترغيب في إحياء هذه الليلة ولأنه دلت الأحاديث على أن الملائكة ينزلون في سائر الأيام إلى مجالس الذكر والدين فلأن يحصل ذلك في هذه الليلة مع علو شأنها أولى ولأن النزول المطلق لا يفيد إلا النزول من السماء إلى الأرض ثم اختلف من قال ينزلون إلى الأرض على وجوه أحدها قال بعضهم ينزلون ليروا عبادة البشر وحدهم واجتهادهم في الطاعة وثانيها أن الملائكة قالوا وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ فهذا يدل على أنهم كانوا مأمورين بذلك النزول فلا يدل على غاية المحبة
وأما هذه الآية وهو قوله بِإِذْنِ رَبّهِمْ فإنها تدل على أنهم استأذنوا أولاً فأذنوا وذلك يدل على غاية المحبة لأنهم كانوا يرغبون إلينا ويتمنون لقاءنا لكن كانوا ينتظرون الإذن فإن قيل قوله وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ينافي قوله تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَة ُ قلنا نصرف الحالتين إلى زمانين مختلفين(32/32)
وثالثها أنه تعالى وعد في الآخرة أن الملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ فههنا في الدنيا إن اشتغلت بعبادتي نزلت الملائكة عليك حتى يدخلوا عليك للتسلم والزيارة روى عن علي عليه السلام ( أنهم ينزلون ليسلموا علينا وليشفعوا لنا فمن أصابته التسليمة غفر له ذنبه ) ورابعها أن الله تعالى جعل فضيلة هذه الليلة في الاشتغال بطاعته في الأرض فهم ينزلون إلى الأرض لتصير طاعاتهم أكثر ثواباً كما أن الرجل يذهب إلى مكة لتصير طاعته هناك أكثر ثواباً وكل ذلك ترغيب للإنسان في الطاعة وخامسها أن الإنسان يأتي بالطاعات والخيرات عند حضور الأكابر من العلماء والزهاد أحسن مما يكون في الخلوة فالله تعالى أنزل الملائكة المقربين حتى أن المكلف يعلم أنه إنما يأتي بالطاعات في حضور أولئك العلماء العباد الزهاد فيكون أتم وعن النقصان أبعد وسادسها أن من الناس من خص لفظ الملائكة ببعض فرق الملائكة عن كعب أن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة مما يلي الجنة فهي على حد هواء الدنيا وهواء الآخرة وساقها في الجنة وأغصانها تحت الكرسي فيها ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله يعبدون الله ومقام جبريل في وسطها ليس فيها ملك إلا وقد أعطى الرأفة والرحمة للمؤمنين ينزلون مع جبريل ليلة القدر فلا تبقى بقعة من الأرض إلا وعليها ملك ساجد أو قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات وجبريل لا يدع أحداً من الناس إلا صافحهم وعلامة ذلك من اقشعر جلده ورق قلبه ودمعت عيناه فإن ذلك من مصافحة جبريل عليه السلام من قال فيها ثلاث مرات لا إله إلا الله غفر له بواحدة ونجاه من النار بواحدة وأدخله الجنة بواحدة وأول من يصعد جبريل حتى يصير أمام الشمس فيبسط جناحين أخضرين لا ينشرهما إلا تلك الساعة من تلك الليلة ثم يدعو ملكاً ملكاً فيصعد الكل ويجتمع نور الملائكة ونور جناح جبريل عليه السلام فيقيم جبريل ومن معه من الملائكة بين الشمس وسماء الدنيا يومهم ذلك مشغولين بالدعاء والرحمة والاستغفار للمؤمنين ولمن صام رمضان احتساباً فإذا أمسوا دخلوا سماء الدنيا فيجلسون حلقاً حلقاً فتجمع إليهم ملائكة السماء فيسألونهم عن رجل رجل وعن امرأة امرأة حتى يقولوا ما فعل فلان وكيف وجدتموه فيقولون وجدناه عام أول متعبداً وفي هذا العام مبتدعاً وفلان كان عام أول مبتدعاً وهذا العام متعبداً فيكفون عن الدعاء للأول ويشتغلون بالدعاء للثاني ووجدنا فلاناً تالياً وفلاناً راكعاً وفلاناً ساجداً فهم كذلك يومهم وليلتهم حتى يصعدوا السماء الثانية وهكذا يفعلون في كل سماء حتى ينتهوا إلى السدرة فتقول لهم السدرة يا سكاني حدثوني عن الناس فإن لي عليكم حقاً وإني أحب من أحب الله فذكر كعب أنهم يعدون لها الرجل والمرأة بأسمائهم وأسماء آبائهم ثم يصل ذلك الخبر إلى الجنة فتقول الجنة اللهم عجلهم إلي والملائكة وأهل السدرة يقولون آمين آمين إذا عرفت هذا فنقول كلما كان الجمع أعظم كان نزول الرحمة هناك أكثر ولذلك فإن أعظم الجموع في موثق الحج لا جرم كان نزول الرحمة هناك أكثر فكذا في ليلة القدر يحصل مجمع الملائكة المقربين فلا جرم كان نزل الرحمة أكثر
المسألة الثالثة ذكروا في الروح أقوالاً أحدها أنه ملك عظيم لو التقم السموات والأرضين كان ذلك له لقمة واحدة وثانيها طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا ليلة القدر كالزهاد الذين لا نراهم إلا يوم العيد وثالثها خلق من خلق الله يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة ولا من الإنس ولعلهم خدم أهل الجنة ورابعها يحتمل أنه عيسى عليه السلام لأنه اسمه ثم إنه ينزل في مواقفة الملائك ليطلع على أمة محمد وخامسها أنه القرآن وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا وسادسها الرحمة(32/33)
قرىء لا يبَنِى َّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن بالرفع كأنه تعالى يقول الملائكة ينزلون رحمتي تنزل في أثرهم فيجدون سعادة الدنيا وسعادة الآخرة وسابعها الروح أشرف الملائكة وثامنها عن أبي نجيح الروح هم الحفظة والكرام الكاتبون فصاحب اليمين يكتب إتيانه بالواجب وصاحب الشمال يكتب تركه للقبيح والأصح أن الروح ههنا جبريل وتخصيصه بالذكر لزيادة شرفه كأنه تعالى يقول الملائكة في كفة والروح في كفة
أما قوله تعالى بِإِذْنِ رَبّهِمْ فقد ذكرنا أن هذا يدل على أنهم كانوا مشتاقين إلينا فإن قيل كيف يرغبون إلينا مع علمهم بكثرة معاصينا قلنا إنهم لا يقفون على تفصيل المعاصي روى أنهم يطالعون اللوح فيرون فيه طاعة المكلف مفصلة فإذا وصلوا إلى معاصيه أرخى الستر فلا ترونها فحينئذ يقول سبحان من أظهر الجميل وستر على القبيح ثم قد ذكرنا فوائد في نزولهم ونذكر الآن فوائد أخرى وحاصلها أنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات أشياء ما رأوها في عالم السموات أحدها أن الأغنياء يجيئون بالطعام من بيوتهم فيجعلونه ضيافة للفقراء والفقراء يأكلون طعام الأغنياء ويعبدون الله وهذا نوع من الطاعة لا يوجد في السموات وثانيها أنهم يسمعون أنين العصاة وهذا لا يوجد في السموات وثالثها أنه تعالى قال ( لأنين المذنبين أحب إلي من زجل المسبحين ) فقالوا تعالوا نذهب إلى الأرض فنسمع صوتاً هو أحب إلى ربنا من صوت تسبيحنا وكيف لا يكون أحب وزجل المسبحين إظهار لكمال حال المطيعين وأنين العصاة إظهار لغفارية رب الأرض والسموات ( وهذه هي المسألة الأولى )
المسألة الثانية هذه الآية دالة على عصمة الملائكة ونظيرها قوله وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ وقوله لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وفيها دقيقة وهي أنه تعالى لم يقل مأذونين بل قال بِإِذْنِ رَبّهِمْ وهو إشارة إلى أنهم لا يتصرفون تصرفاً ما إلا بإذنه ومن ذلك قول الرجل لامرأته إن خرجت إلا بإذني فإنه يعتبر الإذن في كل خرجة
المسألة الثالثة قوله رَّبُّهُمْ يفيد تعظيماً للملائكة وتحقيراً للعصاة كأنه تعالى قال كانوا لي فكنت لهم ونظيره في حقنا إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وقال لمحمد عليه السلام وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ ونظيره ما روى أن داود لما مرض مرض الموت قال إلهي كن لسليمان كما كنت لي فنزل الوحي وقال قل لسليمان فليكن لي كما كنت لي وروى عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه فقد الضيف أياماً فخرج بالسفرة ليلتمس ضيفاً فإذا بخيمة فنادى أتريدون الضيف فقيل نعم فقال للمضيف أيوجد عندك إدام لبن أو عسل فرفع الرجل صخرتين فضرب إحداهما بالأخرى فانشقا فخرج من إحداهما اللبن ومن الأخرى العسل فتعجب إبراهيم وقال إلهي أنا خليلك ولم أجد مثل ذلك الإكرام فماله فنزل الوحي يا خليلي كان لنا فكنا له(32/34)
أما قوله تعالى مّن كُلّ أَمْرٍ فمعناه تنزل الملائكة والروح فيها من أجل كل أمر والمعنى أن كل واحد منهم إنما نزل لمهم آخر ثم ذكروا فيه وجوهاً أحدها أنهم كانوا في أشغال كثيرة فبعضهم للركوع وبعضهم للسجود وبعضهم بالدعاء وكذا القول في التفكر والتعليم وإبلاغ الوحي وبعضهم لإدراك فضيلة الليلة أو ليسلموا على المؤمنين وثانيها وهو قول الأكثرين من أجل كل أمر قدر في تلك السنة من خير أو شر وفيه إشارة إلى أن نزولهم إنما كان عبادة فكأنهم قالوا ما نزلنا إلى الأرض لهوى أنفسنا لكن لأجل كل أمر فيه مصلحة المكلفين وعم لفظ الأمر ليعم خير الدنيا والآخرة بياناً منه أنهم ينزلون بما هو صلاح المكلف في دينه ودنياه كأن السائل يقول من أين جئت فيقول مالك وهذا الفضول ولكن قل لأي أمر جئت لأنه حظك وثالثها قرأ بعضهم مِن كُلّ امْرِىء أي من أجل كل إنسان وروى أنهم لا يلقون مؤمناً ولا مؤمنة إلا سلموا عليه قيل أليس أنه قد روى أنه تقسم الآجال والأرزاق ليلة النصف من شعبان والآن تقولون إن ذلك يكون ليلة القدر قلنا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الله يقدر المقادير في ليلة البراءة فإذا كان ليلة القدر يسلمها إلى أربابها ) وقيل يقدر ليلة البراءة الآجال والأرزاق وليلة القدر يقدر الأمور التي فيها الخير والبركة والسلامة وقيل يقدر في ليلة القدر ما يتعلق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين وأما ليلة البراءة فيكتب فيها أسماء من يموت ويسلم إلى ملك الموت
سَلَامٌ هِى َ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ
الوجه الثالث من فضائل هذه الليلة قوله تعالى سَلَامٌ هِى َ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله سلام وجوه أحدها أن ليلة القدر إلى طلوع الفجر سلام أي تسلم الملائكة على المطيعين وذلك لأن الملائكة ينزلون فوجاً فوجاً من ابتداء الليل إلى طلوع الفجر فترادف النزول لكثرة السلام وثانيها وصفت الليلة بأنها سلام ثم يجب أن لا يستحقر هذا السلام لأن سبعة من الملائكة سلموا على الخليل في قصة العجل الحنيذ فازداد فرحع بذلك على فرحع بملك الدنيا بل الخليل لما سلم الملائكة عليه صار نار نمروذ عليه بَرْداً وَسَلَامَا أفلا تصير ناره تعالى ببركة تسليم الملائكة علينا برداً وسلاماً لكن ضيافة الخليل لهم كانت عجلاً مشوياً وهم يريدون منا قلباً مشوياً بل فيه دقيقة وهي إظهار فضل هذه الأمة فإن هناك الملائكة نزلوا على الخليل وههنا نزلوا على أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثالثها أنه سلام من الشرور والآفات أي سلامة وهذا كما يقال إنما فلان حج وغزو أي هو أبداً مشغول بهما ومثله ( فإنما هي إقبال وإدبار )
وقالوا تنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بالخيرات والسعادات ولا ينزل فيها من تقدير المضار شيء فما ينزل في هذه الليلة فهو سلام أي سلامة ونفع وخير ورابعها قال أبو مسلم سلام أي الليلة سالمة عن الرياح والأذى والصواعق إلى ما شابه ذلك وخامسها سلام لا يستطيع الشيطان فيها سوءاً وسادسها(32/35)
أن الوقف عند قوله مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَامٌ فيتصل السلام بما قبله ومعناه أن تقدير الخير والبركة والسلامة يدوم إلى طلوع الفجر وهذا الوجه ضعيف وسابعها أنها من أولها إلى مطلع الفجر سالمة في أن العبادة في كل واحد من أجزائها خير من ألف شهر ليست كسائر الليالي في أنه يستحب للفرض الثلث الأول وللعبادة النصف وللدعاء السحر بل هي متساوية الأوقات والأجزاء وثامنها سلام هي أي جنة هي لأن من أسماء الجنة دار السلام أي الجنة المصوغة من السلامة
المسألة الثانية المطلع الطلوع يقال طلع الفجر طلوعاً ومطلعاً والمعنى أنه يدوم ذلك السلام إلى طلوع الفجر ومن قرأ بكسر اللام فهو اسم لوقت الطلوع وكذا مكان الطلوع مطلع قاله الزجاج أما أبو عبيدة والفراء وغيرهما فإنهم اختاروا فتح اللام لأنه بمعنى المصدر وقالوا الكسر اسم نحو المشرق ولا معنى لاسم موضع الطلوع ههنا بل إن حمل على ما ذكره الزجاج من اسم وقت الطلوع صح قال أبو علي ويمكن حمله على المصدر أيضاً لأن من المصادر التي ينبغي أن تكون على المفعل ما قد كسر كقولهم علاء المكبر والمعجز قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ فكذلك كسر المطلع جاء شاذاً عما عليه بابه والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(32/36)
سورة البينة
وهي ثمانية آيات مدنية
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَة ُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَة ً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَة ٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَة ُ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَة ُ رَسُولٌ مّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَة ً فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَة ٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَة ُ
إعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي في كتاب البسيط هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً وتفسيراً وقد تخبط فيها الكبار من العلماء ثم إنه رحمه الله تعالى لم يلخص كيفية الإشكال فيها وأنا أقول وجه الإشكال أن تقدير الآية لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُنفَكّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَة ُ التي هي الرسول ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عن ماذا لكنه معلوم إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه فصار التقدير لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول ثم إن كلمة حتى لانتهاء الغاية فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول ثم قال بعد ذلك وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَة ُ وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول عليه السلام فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والآية الثانية مناقضة في الظاهر هذا منتهى الإشكال فيما أظن والجواب عنه من وجوه أولها وأحسنها الوجه الذي لخصه صاحب الكشاف وهو أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأوثان كانوا يقولون قبل مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا ننفك عما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى(32/37)
يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل وهو محمد عليه السلام فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه ثم قال وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه لست أمتنع مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغنى فلما رزقه الله الغنى ازداد فسقاً فيقول واعظه لم تكن منفكاً عن الفسق حتى توسر وما عمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار بذكره ما كان يقوله توبيخاً وإلزاماً وحاصل هذا الجواب يرجع إلى حرف واحد وهو أن قوله لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُنفَكّينَ عن كفرهم حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَة ُ مذكورة حكاية عنهم وقوله وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ هو إخبار عن الواقع والمعنى أن الذي وقع كان على خلاف ما ادعوا وثانيها أن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة وعلى هذا التقدير يزول الإشكال هكذا ذكره القاضي إلا أن تفسير لفظة حتى بهذا ليس من اللغة في شيء وثالثها أنا لا نحمل قوله مُنفَكّينَ على الكفر بل على كونهم منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل والمعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل حتى تأتيهم البينة قال ابن عرفة أي حتى أتتهم فاللفظ لفظ المضارع ومعناه الماضي وهو كقوله تعالى مَا تَتْلُواْ الشَّياطِينِ أي ما تلت والمعنى أنهم ما كانوا منفكين عن ذكر مناقبه ثم لما جاءهم محمد تفرقوا فيه وقال كل واحد فيه قولاً آخر ردياً ونظيره قوله تعالى وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ والقول المختار في هذه الآية هو الأول وفي الآية وجه رابع وهو أنه تعالى حكم على الكفار أنهم ما كانوا منفكين عن كفرهم إلى وقت مجيء الرسول وكلمة حتى تقتضي أن يكون الحال بعد ذلك بخلاف ما كان قبل ذلك والأمر هكذا كان لأن ذلك المجموع ما بقوا على الكفر بل تفرقوا فمنهم من صار مؤمناً ومنهم من صار كافراً ولما لم يبق حال أولئك الجمع بعد مجيء الرسول كما كان قبل مجيئه كفى ذلك في العمل بمدلول لفظ حتى وفيها وجه خامس وهو أن الكفار كانوا قبل مبعث الرسول منفكين عن التردد في كفرهم بل كانوا جازمين به معتقدين حقيقته ثم زال ذلك الجزم بعد مبعث الرسول بل بقوا شاكين متحيرين في ذلك الدين وفي سائر الأديان ونظيره قوله كَانَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ والمعنى أن الدين الذي كانوا عليه صار كأنه اختلط بلحمهم ودمهم فاليهودي كان جازماً في يهوديته وكذا النصراني وعابد الوثن فلما بعث محمد عليه الصلاة والسلام اضطربت الخواطر والأفكار وتشكك كل أحد في دينه ومذهبه ومقالته وقوله مُنفَكّينَ مشعر بهذا لأن انفكاك الشيء عن الشيء هو انفصاله عنه فمعناه أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد وما انفصلت عن الجزم بصحتها ثم إن بعد المعبث لم يبق الأمر على تلك الحالة
المسألة الثانية الكفار كانوا جنسين أحدهما أهل الكتاب كفرق اليهود والنصارى وكانوا كفاراً بإحداثهم في دينهم ما كفروا به كقولهم عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ و الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وتحريفهم كتاب الله ودينه والثاني المشركون الذين كانوا لا ينسبون إلى كتاب فذكر الله تعالى الجنسين بقوله الَّذِينَ كَفَرُواْ على الإجمال ثم أردف ذلك الإجمال بالتفضل وهو قوله مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وههنا سؤالان(32/38)
السؤال الأول تقدير الآية لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين فهذا يقتضي أن أهل الكتاب منهم كافر ومنهم ليس بكافر وهذا حق وأن المشركين منهم كافر ومنهم ليس بكافر ومعلوم أن ليس بحق والجواب من وجوه أحدها كلمة من ههنا ليست للتبعيض بل للتبيين كقوله فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ وثانيها أن الذين كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام بعضهم من أهل الكتاب وذلك لأن النصارى مثلثة واليهود عامتهم مشبهة وهذا كله شرك وقد يقول القائل جاءني العقلاء والظرفاء يريد بذلك قوماً بأعيانهم يصفهم بالأمرين وقال تعالى الركِعُونَ السَّاجِدونَ الاْمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ وهذا وصف لطائفة واحدة وفي القرآن من هذا الباب كثير وهو أن ينعت قوم بنعوت شتى يعطف بعضها على بعض بواو العطف ويكون الكل وصفاً لموصوف واحد
السؤال الثاني المجوس هل يدخلون في أهل الكتاب قلنا ذكر بعض العلماء أنهم داخلون في أهل الكتاب لقوله عليه السلام ( سنوليهم سنة أهل الكتاب ) وأنكره الآخرون قال لأنه تعالى إنما ذكر من الكفار من كان في بلاد العرب وهم اليهود والنصارى قال تعالى حكاية عنهم أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا والطائفتان هم اليهود والنصارى
السؤال الثالث ما الفائدة في تقديم أهل الكتاب في الكفر على المشركين حيث قال لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ الجواب أن الواو لا تفيد الترتيب ومع هذا ففيه فوائد أحدها أن السورة مدنية فكأن أهل الكتاب هم المقصودون بالذكر وثانيها أنهم كانوا علماء بالكتب فكانت قدرتهم على معرفة صدق محمد أتم فكان إصرارهم على الكفر أقبح وثالثها أنهم لكونهم علماء يقتدي غيرهم بهم فكان كفرهم أصلاً لكفر غيرهم فلهذا قدموا في الذكر ورابعها أنهم لكونهم علماء أشرف من غيرهم فقدموا في الذكر
السؤال الرابع لم قال من أهل الكتاب ولم يقل من اليهود والنصارى الجواب لأن قوله مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يدل على كونهم علماء وذلك يقتضي إما مزيد تعظيم فلا جرم ذكروا بهذا اللقب دون اليهود والنصارى أو لأن كونه عالماً يقتضي مزيد قبح في كفره فذكروا بهذا الوصف تنبيهاً على تلك الزيادة من العقاب
المسألة الثانية هذه الآية فيها أحكام تتعلق بالشرع أحدها أنه تعالى فسر قوله الَّذِينَ كَفَرُواْ بأهل الكتاب وبالمشركين فهذا يقتضي كون الكل واحداً في الكفر فمن ذلك قال العلماء الكفر كله ملة واحدة فالمشرك يرث اليهودي وبالعكس والثاني أن العطف أوجب المغايرة فلذلك نقول الذمي ليس بمشرك وقال عليه السلام ( غيرنا كحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ) فأثبت التفرقة بين الكتابي والمشرك الثالث نبه بذكر أهل الكتاب أنه لا يجوز الاغترار بأهل العلم إذ قد حدث في أهل القرآن مثل ما حدث في الأمم الماضية
المسألة الرابعة قال القفال الانفكاك هو انفراج الشيء عن الشيء وأصله من الفك وهو الفتح(32/39)
والزوال ومنه فككت الكتاب إذا أزلت ختمه ففتحته ومنه فكاك الرهن وهو زوال الإنغلاق الذي كان عليه ألا ترى أن ضد قوله انفك الرهن ومنه فكاك الأسير وفكه فثبت أن انفكاك الشيء عن الشيء هو أن يزيله بعد التحامه به كالعظم إذا انفك من مفصله والمعنى أنهم متشبثون بدينهم تشبثاً قوياً لا يزيلونه إلا عند مجيء البينة أما البينة فهي الحجة الظاهرة التي بها يتيمز الحق من الباطل فهي من البيان أو البينونة لأنها تبين الحق من الباطل وفي المراد من البينة في هذه الآية أقوال
الأول أنها هي الرسول ثم ذكروا في أنه لم سمي الرسول بالبينة وجوهاً الأول أن ذاته كانت بينة على نبوته وذلك لأنه عليه السلام كان في نهاية الجد في تقرير النبوة والرسالة ومن كان كذاباً متصنعاً فإنه لا يتأتى منه ذلك الجد المتناهي فلم يبق إلا أن يكون صادقاً أو معتوهاً والثاني معلوم البطلان لأنه كان في غاية كمال العقل فلم يبق إلا أنه كان صادقاً الثاني أن مجموع الأخلاف الحاصلة فيه كان بالغاً إلى حد كمال الإعجاز والجاحظ قرر هذا المعنى والغزالي رحمه الله نصره في كتاب المنقذ فإذاً لهذين الوجهين سمي هو في نفسه بأنه بينة الثالث أن معجزاته عليه الصلاة والسلام كانت في غاية الظهور وكانت أيضاً في غاية الكثرة فلاجتماع هذين الأمرين جعل كأنه عليه السلام في نفسه بينة وحجة ولذلك سماه الله تعالى سِرَاجاً مُّنِيراً واحتج القائلون بأن المراد من البينة هو الرسول بقوله تعالى بعد هذه الآية رَسُولٌ مّنَ اللَّهِ فهو رفع على البدن من البينة وقرأ عبد الله رَسُولاً حال من البينة قالوا والألف واللام في قوله الْبَيّنَة ُ للتعريف أي هو الذي سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى أو يقال إنها للتفخيم أي هو الْبَيّنَة ُ التي لا مزيد عليها أو البينة كل البينة لأن التعريف قد يكون للتفخيم وكذا التنكير وقد جمعهما الله ههنا في حق الرسول عليه لسلام فبدأ بالتعريف وهو لفظ البينة ثم ثنى بالتنكير فقال رَسُولٌ مّنَ اللَّهِ أي هو رسول وأي رسول ونظيره ما ذكره الله تعالى في الثناء على نفسه فقال ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ثم قال فَعَّالٌ فنكر بعد التعريف
القول الثاني أن المراد من الْبَيّنَة ُ مطلق الرسل وهو قول أبي مسلم قال المراد من قوله حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَة ُ أي حتى تأتيهم رسل من ملائكة الله تتلوا عليهم صحفاً مطهرة وهو كقوله يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السَّمَاء وكقوله بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىء مّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَة ً
القول الثالث وهو قتادة وابن زيد الْبَيّنَة ُ هي القرآن ونظيره قوله أَوَ لَمْ تَأْتِيَهُمُ بَيّنَة ُ مَا فِى الصُّحُفِ الاْولَى ثم قوله بعد ذلك رَسُولٌ مّنَ اللَّهِ لا بد فيه من مضاف محذوف والتقدير وتلك البينة وحي رَسُولٌ مّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَة ً
أما قوله تعالى يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَة ً فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَة ٌ فاعلم أن الصحف جمع صحيفة وهي ظرف للمكتوب وفي المطهرة وجوه أحدها مَّرْفُوعَة ٍ مُّطَهَّرَة ٍ عن الباطل وهي كقوله لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ وقوله مَّرْفُوعَة ٍ مُّطَهَّرَة ٍ وثانيها مطهرة عن الذكر القبيح فإن القرآن يذكر بأحسن الذكر ويثني عليه أحسن الثناء وثالثها أن يقال مطهرة أي ينبغي أن لا يمسها إلا المطهرون كقوله تعالى فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ(32/40)
واعلم أن المطهرة وإن جرت نعتاً للصحف في الظاهر فهي نعت لما في الصحف وهو القرآن وقوله كِتَابَ فيه قولان أَحَدُهُمَا المراد من الكتب الآيات المكتوبة في الصحف والثاني قال صاحب النظم الكتب قد يكون بمعنى الحكم كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ ومنه حديث العسيف ( لأقضين بينكما بكتاب الله ) أي بحكم الله فيحتمل أن يكون المراد من قوله كُتُبٌ قَيّمَة ٌ أي أحكام قيمة أما القيمة ففيها قولانالأول قال الزجاج مستقيمة لا عوج فيها تبين الحق من الباطل من قام يقوم كالسيد والميت وهو كقولهم قام الدليل على كذا إذا ظهر واستقام الثاني أن تكون القيمة بمعنى القائمة أي هي قائمة مستقلة بالحجة والدلالة من قولهم قام فلان بالأمر يقوم به إذا أجراه على وجهه ومنه يقال للقائم بأمر القوم القيم فإن قيل كيف نسب تلاوة الصحف المطهرة إلى الرسول مع أنه كان أمياً قلنا إذا تلا مثلاً المسطور في تلك الصحف كان تالياً ما فيها وقد جاء في كتاب منسوب إلى جعفر الصادق أنه عليه السلام كان يقرأ من الكتاب وإن كان لا يكتب ولعل هذا كان من معجزاته ( صلى الله عليه وسلم )
وأما قوله تعالى وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَة ُ ففيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية سؤال وهو أنه تعالى ذكر في أول السورة أهل الكتاب والمشركين وههنا ذكر أهل الكتاب فقط فما السبب فيه وجوابه من وجوه أحدها أن المشركين لم يقروا على دينهم فمن آمن فهو المراد ومن لم يؤمن قتل بخلاف أهل الكتاب الذين يقرون على كفرهم ببذل الجزية وثانيها أن أهل الكتاب كانوا عالمين بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بسبب أنهم وجدوها في كتبهم فإذا وصفوا بالتفرق مع العلم كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف
المسألة الثانية قال الجبائي هذه الآية تبطل قول القدرية الذين قالوا إن الناس تفرقوا في الشقاوة والسعادة في أصلاب الآباء قبل أن تأتيهم البينة والجواب أن هذا ركيك لأن المراد منه أن علم الله بذلك وإرادته له حاصل في الأزل أما ظهروه من المكلف فإنما وقع بعد الحالة المخصوصة
المسألة الثالثة قالوا هذه الآية دالة على أن الكفر والتفرق فعلمهم لا أنه مقدر عليهم لأنه قال إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَة ُ ثم قال أُمُّ الْكِتَابِ أي أن الله وملائكته آتاهم ذلك فالخير والتوفيق مضاف إلى الله والشر والتفرق والكفر مضاف إليهم
المسألة الرابعة المقصود من هذه الآية تسلية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أي لا يغمنك تفرقهم فليس ذلك لقصور في الحجة بل لعنادهم فسلفهم هكذا كانوا لم يتفرقوا في السبت وعبادة العجل إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيّنَة ُ فهي عادة قديمة لهم
وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَيُؤْتُواْ الزَّكَواة َ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَة ِ
أما قوله تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَيُؤْتُواْ الزكاة وذلك دين القيمة وفيه مسائل(32/41)
المسألة الأولى في قوله وَمَا أُمِرُواْ وجهان أحدهما أن يكون المراد وَمَا أُمِرُواْ في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيفي فيكون المراد أنهم كانوا مأمورين بذلك إلا أنه تعالى لما أتبعه بقوله وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَة ِ علمنا أن ذلك الحكم كما أنه كان مشروعاً في حقهم فهو مشروع في حقنا وثانيها أن يكون المراد وما أمر أهل الكتاب على لسان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلا بهذه الأشياء وهذا أولى لثلاثة أوجه أحدها أن الآية على هذا التقدير تفيد شرعاً جديداً وحمل كلام الله على ما يكون أكثر فائدة أولى وثانيها وهو أن ذكر محمد عليه السلام قد مر ههنا وهو قوله حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَة ُ وذكر سائر الأنبياء عليهم السلام لم يتقدم وثالثها أنه تعالى ختم الآية بقوله وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَة ِ فحكم بكون ما هو متعلق هذه الآية ديناً قيماً فوجب أن يكون شرعاً في حقنا سواء قلنا بأنه شرع من قبلنا أو شرع جديد يكون هذا بياناً لشرع محمد عليه الصلاة والسلام وهذا قول مقاتل
المسألة الثانية في قوله إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ دقيقة وهي أن هذه اللام لام الغرض فلا يمكن حمله على ظاهره لأن كل من فعل فعلاً لغرض فهو ناقص لذاته مستكمل بذلك الغرض فلو فعل الله فعلاً لكان ناقصاً لذاته مستكملاً بالغير وهو محال لأن ذلك الغرض إن كان قديماً لزم من قدمه قدم الفعل وإن كان محدثاً افتقر إلى غرض آخر فلزم التسلسل وهو محال ولأنه إن عجز عن تحصيل ذلك الغرض إلا بتلك الواسطة فهو عاجز وإن كان قادراً عليه كان توسيط تلك الواسطة عبثاً فثبت أنه لا يمكن حمله على ظاهره فلا بد فيه من التأويل ثم قال الفراء العرب تجعل اللام في موضع أن في الأمر والإرادة كثيراً من ذلك قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ وقال في الأمر وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ وهي في قراءة عبد الله وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ ءانٍ عَبْدُ اللَّهِ فثبت أن المراد وما أمروا إلا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين والإخلاص عبارة عن النية الخالصة والنية الخالصة لما كانت معتبرة كانت النية معتبرة فقد دلت الآية على أن كل مأمور به فلا بد وأن يكون منوباً ثم قالت الشافعية الوضوء مأمور به في قوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ودلت هذه الآية على أن كل مأمور يجب أن يكون منوياً فيلزم من مجموع الآيتين وجوب كون الوضوء منوياً وأما المعتزلة فإنهم يوجبون تعليل أفعال الله وأحكامه بالأغراض لا جرم أجروا الآية على ظاهرها فقالوا معنى الآية وما أمروا بشيء إلا لأجل أن يعبدوا الله والإستدلال على هذا القول أيضاً قوي لأن التقدير وما أمروا بشيء إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين في ذلك الشيء وهذا أيضاً يقتضي اعتبار النية في جميع المأمورات فإن قيل النظر في معرفة الله مأمور به ويستحيل اعتبار النية فيه لأن النية لا يمكن اعتبارها إلا بعد المعرفة فما كان قبل المعرفة لا يمكن اعتبار النية فيه قلنا هب أنه خص عموم الآية في هذه الصورة بحكم الدليل العقلي الذي ذكرتم فيبقى في الباقي حجة
المسألة الثالثة قوله أُمِرُواْ مذكور بلفظ ما لم يسم فاعله وهو كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ قالوا فيه وجوه أحدها كأنه تعالى يقول العبادة شاقة ولا أريد مشقتك إرادة أصلية بل إرادتي لعبادتك كإرادة الوالدة لحجامتك ولهذا لما آل الأمر إلى الرحمة قال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وذكر في الواقعات إذا أراد الأب من ابنه عملاً يقول له أولاً ينبغي أن تفعل هذا ولا يأمره(32/42)
صريحاً لأنه ربما يرد عليه فتعظم جنايته فههنا أيضاً لم يصرح بالأمر لتخف جناية الراد وثانيها أنا على القول بالحسن والقبح العقليين نقول كأنه تعالى يقول لست أنا الآمر للعبادة فقط بل عقلك أيضاً يأمرك لأن النهاية في التعظيم لمن أوصل إليك ( أن ) نهاية الإنعام واجبة في العقول
المسألة الرابعة اللام في قوله وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ تدل على مذهب أهل السنة حيث قالوا العبادة ما وجبت لكونها مفضية إلى ثواب الجنة أو إلى البعد عن عقاب النار بل لأجل أنك عبد وهو رب فلو لم يحصل في الدين ثواب ولا عقاب البتة ثم أمرك بالعبادة وجبت لمحض العبودية وفيها أيضاً إشارة إلى أنه من عبد الله للثواب والعقاب فالمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب والحق واسطة ونعم ما قيل من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثائي ومن آثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول
المسألة الخامسة العبادة هي التذلل ومنه طريق معبد أي مذلل ومن زعم أنها الطاعة فقد أخطأ لأن جماعة عبدوا الملائكة والمسيح والأصنام وما أطاعوهم ولكن في الشرع صارت اسماً لكل طاعة الله أديت له على وجه التذلل والنهاية في التعظيم واعلم أن العبادة بهذا المعنى لا يستحقها إلا من يكون واحداً في ذاته وصفاته الذاتية والقعلية فإن كان مثل لم يجز أن يصرف إليه النهاية في التعظيم ثم نقول لا بد في كون الفعل عبادة من شيئين أحدهما غاية التعظيم ولذلك قلنا إن صلاة الصبي ليست بعبادة لأنه لا يعرف عظمة الله فلا يكون فعله في غاية التعظيم والثاني أن يكون مأموراً به ففعل اليهودي ليس بعبادة وإن تضمن نهاية التعظيم لأنه غير مأمور به والنكتة الوعظية فيه أن فعل الصبي ليس بعبادة لفقد التعظيم وفعل اليهودي ليس بعبادة لفقد الأمر فكيف يكون ركوعك الناقص عبادة ولا أمر ولا تعظيم
المسألة السادسة الإخلاص هو أن يأتي بالفعل خالصاً لداعية واحدة ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل والنكت والوعظية فيه من وجوه أحدها كأنه تعالى يقول عبدي لا تسع في إكثار الطاعة بل في إخلاصها لأني ما بذلت كل مقدوري لك حتى أطلب منك كل مقدورك بل بذلت لك البعض فأطلب منك البعض نصفاً من العشرين وشاة من الأربعين لكن القدر الذي فعلته لم أرد بفعله سواك فلا ترد بطاعتك سواي فلا تستثن من طاعتك لنفسك فضلاً من أن تستثنيه لغيرك فمن ذلك المباح الذي يوجد منك في الصلاة كالحكة والتنحنح فهو حظ استثنيته لنفسك فانتفى الإخلاص وأما الإلتفات المكروه فذا حظ الشيطان وثانيها كأنه تعالى قال يا عقل أنت حكيم لا تميل إلى الجهل والسفه وأنا حكيم لا أفعل ذلك البتة فإذاً لا تريد إلا ما أريد ولا أريد إلا ما تريد ثم إنه سبحانه ملك العالمين والعقل ملك لهذا البدن فكأنه تعالى بفضله قال الملك لا يخدم الملك لكن ( لكي ) نصطلح أجعل جميع ما أفعله لأجلك هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم فِى الاْرْضِ جَمِيعاً فاجعل أنت أيضاً جميع ما تفعله لأجلي وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ
واعلم أن قوله مُخْلِصِينَ نصب على الحال فهو تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص منابتداء الفعل إلى انتهائه والمخلص هو الذي يأتي بالحسن لحسنه والواجب لوجوبه فيأتي بالفعل لوجهه(32/43)
مخلصاً لربه لا يريد رياء ولا سمعة ولا غرضاً آخر بل قالوا لا يجعل طلب الجنة مقصوداً ولا النجاة عن النار مطلوباً وإن كان لا بد من ذلك وفي التوراة ما آريد به وجهي فقليله كثير وما أريد به غير وجهي فكثيره قليل وقالوا من الإخلاص أن لا يزيد في العبادات عبادة أخرى لأجل الغير مثل الواجب من الأضحية شاة فإذا ذبحت إثنتين واحدة لله وواحدة للأمير لم يجز لأنه شرك وإن زدت في الخشوع لأن الناس يرونه لم يجز فهذا إذا خلطت بالعبادة عبادة أخرى فكيف ولو خلطت بها محظوراً مثل أن تتقدم على إمامك بل لا يجوز دفع الزكاة إلى الوالدين والمولودين ولا إلى العبيد ولا الإماء لأنه لم يخلص فإذا طلبت بذلك سرور والدك أو ولدك يزول الإخلاص فكيف إذا طلبت مسرة شهوتك كيف يبقى الإخلاص وقد اختلفت ألفاظ السلف في معنى قوله مُخْلِصِينَ قال بعضهم مقرين له بالعبادة وقال آخرون قاصدين بقلوبهم رضا الله في العبادة وقال الزجاج أي يعبدونه موحدين له لا يعبدون معه غيره ويدل على هذا قوله وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً واحِداً
أما قوله تعالى حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَيُؤْتُواْ الزَّكَواة َ ففيه أقوال
الأول قال مجاهد متبعين دين إبراهيم عليه السلام ولذلك قال ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وهذا التفسير فيه لطيف كأنه سبحانه لما علم أن التقليد مستول على الطباع لم يستجز منعه عن التقليد بالكلية ولم يستجز التعويل على التقليد أيضاً بالكلية فلا جرم ذكر قوماً أجمع الخلق بالكلية على تزكيتهم وهو إبراهيم ومن معه فقال قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ فِى إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ فكأنه تعالى قال إن كنت تقلد أحداً في دينك فكن مقلداً إبراهيم حيث تبرأ من الأصنام وهذا غير عجيب فإنه قد تبرأ من نفسه حين سلمها إلى النيران ومن ماحين بذله للضيفان ومن ولده حين بذله للقربان بل روى أنه سمع سبوح قدوس فاستطابه ولم ير شخصاً فاستعاده فقال أما بغير أجر فلا فبذل كل ما ملكه فظهر له جبريل عليه السلام وقال حق لك حيث سماك خليلاً فخذ مالك فإن القائل كنت أنا بل انقطع إلى الله حتى عن جبريل حين قال أما إليك فلا فالحق سبحانه كأنه يقول إن كنت عابداً فاعبد كعبادته فإذا لم تترك الحلال وأبواب السلاطين أما تترك الحرام وموافقة الشياطين فإن لم تقدر على متابعة إبراهيم فاجتهد في متابعة ولده الصبي كيف إنقاد لحكم ربه مع صفره فمد عنقه لحكم الرؤبا وإن كنت دون الرجل فاتبع الموسوم بنقصان العقل وهو أم الذبيح كيف تجرعت تلك الغصة ثم إن المرأة الحرة نصف الرجل فإن الإثنتين يقومان مقام الرجل الواحد في الشهادة والإراث والرقيقة نصف الحرة بدليل إن للحرة ليلتين من القسم فهاجر كانت ربع الرجل ثم أنظر كيف أطاعت ربها فتحملت المحنة في ولادها ثم صبرت حين تركها الخليل وحيدة فريدة في جبال مكة بلا ماء ولا زاد وانصرف لا يكلمها ولا يعطف عليها قالت آلله أمرك بهذا فأومأ برأسه نعم فرضيت بذلك وصبرت على تلك المشاق
والقول الثاني المراد من قوله حُنَفَاء أي مستقيمين والحنف هو الاستقامة وإنما سمي مائل القدم أحنف على سبيل التفاؤل كقولنا للأعمى بصير وللمهلكة مفازة ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(32/44)
والقول الثالث قال ابن عباس رضي الله عنهما حجاجاً وذلك لأنه ذكر العباد أولاً ثم قال حُنَفَاء وإنما قدم الحج على الصلاة لأن في الحج صلاة وإنفاق مال الرابع قال أبو قلابة الحنيف الذي آمن بجميع الرسل ولم يستثن أحداً منهم فمن لم يؤمن بأفضل الأنبياء كيف يكون حنيفاً الخامس حنفاء أي جامعين لكل الدين إذ الحنيفية كل الدين قال عليه السلام ( بعثن بالحنيفية السهلة السمحة ) السادس قال قتادة هي الختان وتحريم نكاح المحارم أي مختونين محرمين لنكاح الأم والمحارم فقوله حُنَفَاء إشارة إلى النفي ثم أردفه بالإثبات وهو قوله وَيُقِيمُواْ الصَّلَواة َ السابع قال أبو مسلم أصله من الحنف في الرجل وهو إدبار إبهامها عن أخوانها حتى يقبل على إبهام الأخرى فيكون الحنيف هو الذي يعدل عن الأديان كلها إلى الإسلام الثامن قال الربيع بن أنيس الحنيف الذي يستقبل القبلة بصلاته وإنما قال ذلك لأنه عند التكبير يقول وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وأما الكلام في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فقد مر مراراً كثيرة ثم قال وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال المبرد والزجاج ذلك دين الملة القيمة فالقيمة نعت لموصوف محذوف والمراد من القيمة إما المستقيمة أو القائمة وقد ذكرنا هذين القولين في قوله كُتُبٌ قَيّمَة ٌ وقال الفراء هذا من إضافة النعت إلى المنعوت كقوله إِنَّ هَاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ والهاء للمبالغة كما في قوله كُتُبٌ قَيّمَة ٌ
المسألة الثانية في هذه الآية لطائف إحداها أن الكمال في كل شيء إنما يحصل إذا حصل الأصل والفرع معاً فقوم أطنبوا في الأعمال من غير إحكام الأصول وهم اليهود والنصارى والمجوس فإنهم ربما اتعبوا أنفسهم في الطاعات ولكنهم ما حصلوا الدين الحق وقوم حصلوا الأصول وأهملوا الفروع وهم المرجثة الذين قالوا لا يضر الذنب مع الإيمان والله تعالى خطأ الفريقين في هذه الآية وبين أنه لا بد من العلم والإخلاص في قوله مُخْلِصِينَ ومن العمل في قوله وَيُقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَيُؤْتُواْ الزَّكَواة َ ثم قال وذلك المجموع كله هو دِينُ القَيّمَة ِ أي البينة المستقيمة المعتدلة فكمال أن مجموع الأعضاء بدن واحد كذا هو المجموع دين واحد فقلب دينك الاعتقاد ووجهه الصلاة ولسانه الواصف لحقيقته الزكاة لأن باللسان يظهر قدر فضلك وبالصدقة يظهر قدر دينك ثم إن القيم من يقوم بمصالح من يعجز عن إقامة مصالح نفسه فكأنه سبحانه يقول القائم بتحصيل مصالحك عاجلاً وآجلاً هو هذا المجموع ونظيره قوله تعالى دِينًا قِيَمًا وقوله في القرآن قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا لأن القرآن هو القيم بالإرشاد إلى الحق ويؤيده قوله عليه السلام ( من كان في عمل الله كان الله في عمله ) وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام ( يا دنيا من خدمك فاستخدميه ومن خدمني فاخدميه ) وثانيها أن المحسنين في أفعالهم هم مثل الحق سبحانه وذلك بالإحسان إلى عبيده والملائكة وذلك بأنهم اشتغلوا بالتسبيح لخالقهم فالإحسان من الله لا من الملائكة والتعظيم والعبودية من الملائكة لا من الله ثم إن الإنسان إذا حضر عرصة القيامة فيقول الله مباهياً بهم ملائكتي هؤلاء أمثالكم سبحوا وهللوا بل في بعض الأفعال أمثالي أحسنوا وتصدقوا ثم إني أكرمكم يا ملائكتي بمجرد ما أتيتم به من العبودية وأنتم تعظموني بمجرد ما فعلت من الإحسان فأنتم صبرتم على أحد الأمرين أقاموا الصلاة أتوا بالعبودية وآتوا الزكاة أتوا بالإحسان فأنتم صبرتم على أحد الأمرين وهم صبروا على الأمرين فتتعجب الملائكة منهم وينصبون إليهم النظارة(32/45)
فلهذا قال وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ أفلا يكون هذا الدين قيماً وثالثها أن الدين كالنفس فحياة الدين بالمعرفة ثم النفس العالمة بلا قدرة كالزمن العاجز والقادرة بلا علم مجنونة فإذا اجتمع العلم والقدرة كانت النفس كاملة فكذا الصلاة للذين كالعلم والزكاة كالقدرة فإذا اجتمعتا سمي الدين قيمة ورابعها وهو فائدة الترتيب أن الحكم تعالى أمر رسوله أن يدعوهم إلى أسهل شيء وهو القول والاعتقاد فقال مُخْلِصِينَ ثم لما أجابوه زاده فسألهم الصلاة التي بعد أدائها تبقى النفس سالمة كما كانت ثم لما أجابوه وأراد منهم الصدقة وعلم أنها تشق عليهم قال ( لا زكاة في مال يحول عليه الحول ) ثم لما ذكر الكل قال وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَة ِ
المسألة الثالثة احتج من قال الإيمان عبادة عن مجموع القول والاعتقاد والعمل بهذه الآية فقال مجموع القول والفعل والعمل هو الدين والدين هو الإسلام والإسلام هو الإيمان فاداً مجموع القول والفعل والعمل هو الإيمان لأنه تعالى ذكر في هذه الآية مجموع الثلاثة ثم قال وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَة ِ أي وذلك المذكور هو دين القيمة وإنما قلنا إن الدين هو ازسلام لقوله تعالى إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ وإنما قلنا إن الإسلام هو الإيمان لوجهين الأول أن الإيمان لو كان غير الإسلام لما كان مقبولاً عند الله تعالى لقوله تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ لكن الإيمان بالإجماع مقبول عند الله فهو إذاً عين الإسلام والثاني قوله تعالى فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ فاستثناء المسلم من المؤمن يدل على أن الإسلام يصدق عليه وإذا ثبتت هذه المقدمات ظهر أن مجموع هذه الثلاثة أعني القول والفعل والعمل هو الإيمان وحينئذ يبطل قول من قال الإيمان اسم لمجرد المعرفة أو المجرد الإقرار أولهما معاً والجواب لم لا يجوز أن تكون الإشارة بقوله وَذَلِكَ إلى الإخلاص فقط والدليل عليه أنا على هذا التقدير لا نحتاج إلى الإضمار أولى وأنتم تحتاجون إلى الإضمار فتقولون المراد وذلك المذكور ولا شك أن عدم الإضمار أولى سلمنا أن قوله وَذَلِكَ إشارة إلى مجموع ما تقدم لكنه يدل على أن ذلك المجموع هو الدين القيم فلم قلتم إن ذلك المجموع هو الدين وذلك لأن الدين غير والدين القيم فالدين هو الدين الكامل المستقبل بنفسه وذلك إنما يكون إذا كان الدين حاصلاً وكانت آثاره ونتائجهة معه حاصلة أيضاً وهي الصلاة والزكاة وإذا لم يوجد هذا المجموع لم يكن الدين القيم حاصلاً لكن لم قلتم إن أصل الدين لا يكون حاصلاً والنزاع ما وقع إلا فيه والله أعلم
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَائِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّة ِ
قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّة ِ
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الكفار أولاً في قوله لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ثم ذكر ثانياً حال المؤمنين في قوله وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ أعاد في آخر هذه السورة(32/46)
ذكر كلا الفريقين فبدأ أيضاً بحال الكفار فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ واعلم أنه تعالى ذكر من أحوالهم أمرين أحدهما الخلود في نار جهنم والثاني أنهم شر الخلق وههنا سؤالات
السؤال الأول لم قدم أهل الكتاب على المشركين في الذكر الجواب من وجوه أحدها أنه عليه الصلاة والسلام كان يقدم حق الله سبحانه على حق نفسه ألا ترى أن القوم لما كسروا رباعيته قال ( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ) ولما فاتته صلاة العصر يوم الخندق قال ( اللهم املأ بطونهم وقبورهم ناراً ) فكأنه عليه السلام قال كانت الضربة ثم على وجه الصورة وفي يوم الخندق على وجه السيرة التي هي الصلاة ثم إنه سبحانه قضاه ذلك فقال كما قدمت حقي على حقك فأنا أيضاً أقدم حقك على حق نفسي فمن ترك الصلاة طول عمره لا يكفر ومن طعن في شعرة من شعراتك يكفر إذا عرفت ذلك فنقول أهل الكتاب ما كانوا يطعنون في الله بل في الرسول وأما المشركون فإنهم كانوا يطعنون في الله فلما أراد الله تعالى في هذه الآية أن يذكر سوء حالهم بدأ أولاً في النكاية بذكر من طعن في محمد عليه الصلاة والسلام وهم أهل الكتاب ثم ثانياف بذكر من طعن فيه تعالى وهم المشركون وثانيها أن جناية أهل الكتاب في حق الرسول عليه السلام كانت أعظم لأن المشركين رأوه صغيراً ونشأ فيهما بينهم ثم سفه أحلامهم وأبطل أديانهم وهذا أمر شاق أما أهل الكتاب فقد كانوا يستفتحون برسالته ويقرون بمبعثه فلما جاءهم أنكروه مع العلم به فكانت جنايتهم أشد
السؤال الثاني لم ذكر كَفَرُواْ بلفظ الفعل وَالْمُشْرِكِينَ باسم الفاعل والجواب تنبيهاً على أن أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أول الأمر لأنهم كانوا مصدقين بالتوراة والإنجيل ومقرين بمبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إنهم كفروا بذلك بعد مبعثه عليه السلام بخلاف المشركين فإنهم ولدوا على عبادة الأوثان وإنكار الحشر والقيامة
السؤال الثالث أن المشركين كانوا ينكرون الصانع وينكرون النبوة وينكرون القيامة أما أهل الكتاب فكانوا مقرين بكل هذه الأشياء إلا أنهم كانوا منكرين لنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان كفر أهل الكتاب أخف من كفر المشركين وإذا كان كذلك فكيف يجوز التسوية بين الفريقين في العذاب والجواب يقال بئر جهنام إذا كان بعيد القعر فكأنه تعالى يقول تكبروا طلباً للرفعة فصاروا إلى أسفل السافلين ثم إن الفريقين وإن اشتراكا في ذلك لكنه لا ينافي اشتراكهم في هذا القدر تفاوتهم في مراتب العذاب واعلم أن الوجه في حسن هذا العذاب أن الإساءة على قسمين إساءة إلى من أساء إليك وإساءة إلى من أحسن إليك وهذا القسم الثاني هو أقبح القمسين والإحسان أيضاً على قسمين إحسان إلى من أحسن إليك وإحسان إلى من أساء إليك وهذا أحسن القسمين فكان إحسان الله إلى هؤلاء الكفار أعظم أنواع الإحسان وإساءتهم وكفرهم أقبح أنواع الإساءة ومعلوم أن العقوبة إنما تكون بحسب الجناية فبالشتم تعزير وبالقذف حد وبالسرقة قط وبالزنا رجم وبالقتل قصاص بل شتم المماثل يوجب التعزير والنظر الشزر إلى الرسول يوجب القتل فلما كانت جناية هؤلاء الكفار أعظم الجنايات لا جرم استحقوا أعظم العقوبات وهو نار(32/47)
جهنم فإنها نار في موضع عميق مظلم هائل لا مفر عنه البتة ثم كأنه قال قائل هب أنه ليس هناك رجاء الفرار فهل هناك رجاء الإخراج فقال لا بل يبقون خالدين فيها ثم كأنه قيل فهل هناك أحد يرق قلبه عليهم فقال لا بل يذمونهم ويلعنونهم لأنهم شر البرية
السؤال الرابع ما السبب في أنه لم يقل ههنا خالدين فيها أبداً وقال في صفة أهل الثواب خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً والجواب من وجوه أحدها التنبيه على أن رحمته أزيد من غضبه وثانيها أن العقوبات والحدود والكفارات تتداخل أما الثواب فأقسامه لا تتداخل وثالثها روى حكاية عن الله أنه قال يا داود حببني إلى خلقي قال وكيف أفعل ذلك قال اذكر لهم سعة رحمتي فكان هذا من هذا الباب
السؤال الخامس كيف القراءة في لفظ البرية الجواب قرأ نافع البريئة بالهمز وقرأ الباقون بغير همز وهو من برأ الله الخلق والقياس فيها الهمز إلا أنه ترك همزه كالنبي والذرية والخابية والهمزة فيه كالرد إلى الأصل المتروك في الاستعمال كما أن من همز النبي كان كذلك وترك الهمز فيه أجود وإن كان الهمز هو الأصل لأن ذلك صار كالشيء المرفوض المتروك وهمز من همز البرية يدل على فساد قول من قال إنه من البرأ الذي هو التراب
السؤال السادس ما الفائدة في قوله هم شر البرية الجواب أنه يفيد النفي والإثبات أي هم دون غيرهم واعلم أن شر البرية جملة يطول تفصيلها شر من السراق لأنهم سرقوا من كتاب الله صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وشر من قطاع الطريق لأنهم قطعوا طريق الحق على الخلق وشر من الجهال الأجلاف لأن الكبر مع العلم يكون كفر عناد فيكون أقبح
واعلم أن هذا تنبيه على أن وعيد علماء السوء أعظم من وعيد كل أحد
السؤال السابع هذه الآية هل هي مجراة على عمومها الجواب لا بل هي مخصوصة بصورتين إحداهما أن من تاب منهم وأسلم خرج عن الوعيد والثانية قال بعضهم لا يجوز أن يدخل في الآية من مضي من الكفار لأن فرعون كان شراً منهم فأما الآية الثانية وهي الآية الدالة على ثواب المؤمنين فعامة فيمن تقدم وتأخر لأنهم أفضل الأمم
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة ِ
قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة ِ فيه مسائل
المسألة الأولى الوجه في حسن تقديم الوعيد على الوعد وجوه أحدها أن الوعيد كالدواء والوعد كالغذاء ويجب تقديم الدواء حتى إذا صار البدن نقياً انتفع بالغذاء فإن البدن غير النقي كلما عذوته زدته شراً هكذا قاله بقراط في كتاب الفصول وثانيها أن الجلد بعد الدبغ يصير صالحاً للمدارس والخف أما قبله فلا ولذلك فإن الإنسان متى وقع في محنة أو شدة رجع إلى الله فإذا نال الدنيا أعرض على ما قال فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ وثالثها أن فيه بشارة كأنه تعالى يقول لما لم يكن بد من الأمرين ختمت بالوعد الذي هو بشارة مني في أني أختم أمرك بالخير ألست كنت نجساً في(32/48)
مكان نجس ثم أخرجتك إلى الدنيا طاهراً أفلا أخرجك إلى الجنة طاهراً
المسألة الثانية احتج من قال إن الطاعات ليست داخلة في مسمى الإيمان بأن الأعمال الصالحة معطوفة في هذه الآية على الإيمان والمعطوف غير المعطوف عليه
المسألة الثالثة قال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ولم يقل إن المؤمنين إشارة إلى أنهم أقاموا سوق الإسلام حال كساده وبذلوا الأموال والمهج لأجله ولهذا السبب استحقوا الفضيلة العظمى كما قال لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ولفظة ءامَنُواْ أي فعلوا الإيمان مرة
واعلم أن الذين يعتبرون الموافاة يحتجون بهذه الآية وذلك لأنها تدل على أن من أتى بالإيمان مرة واحدة فله هذا الثواب والذي يموت على الكفر لا يكون له هذا الثواب فعلمنا أنه ما صدر الإيمان عنه في الحقيقة قبل ذلك
المسألة الرابعة قوله وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ من مقابلة الجمع بالجمع فلا يكلف الواحد بجميع الصالحات بل لكل مكلف حظ فحظ الغني الإعطاء وحظ الفقير الأخذ
المسألة الخامسة احتج بعضهم بهذه الآية في تفضيل البشر على الملك قالوا روى أبو هريرة أنه عليه السلام قال ( أتعجبون من منزلة الملائكة من الله تعالى والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من ذلك واقرؤا إن شئتم أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية )
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لوجوه أحدها ما روى عن يزيد النحوي أن البرية بنو آدم من البرا وهو التراب فلا يدخل الملك فيه البتة وثانيها أن قوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ غير مختص بالبشر بل يدخل فيه الملك وثالثها أن الملك خرج عن النص بسائر الدلائل قالوا وذلك لأن الفضيلة إما مكتسبة أو موهوبة فإن نظرت إلى الموهوبة فأصلهم من نور وأصلك من حمأ مسنون ومسكنهم دار لم يترك فيها أبوك مع الزلة ومسكنكم أرض هي مسكن الشياطين وأيضاً فمصالحنا منتظمة بهم ورزقنا في يد البعض وروحنا في يد البعض ثم هم العلماء ونحن المتعلمون ثم أنظر إلى عظيم همتهم لا يميلون إلى محقرات الذنوب ومن ذلك فإن الله تعالى لم يحك عنهم سوى دعوى الإلهية حين قال وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ أي لو أقدموا على ذنب فهمتهم بلغت غاية لا يليق بها إلا دعوى الربوبية وأنت أبداً عبد البطن والفرج وأما العبادة فهم أكثر عبادة من النبي لأنه تعالى مدح النبي بإحياء ثلثي الليل وقال فيهم يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ومرة لاَ يَسْئَمُونَ وتمام القول في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة
جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ رَبَّهُ
قوله تعالى جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ(32/49)
اعلم أن التفسير ظاهر ونحن نذكر ما فيها من اللطائف في مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المكلف لما تأمل وجد نفسه مخلوقاً من المحن والآفات فصاغه من أنجس شيء في أضيق مكان إلى أن خرج باكياً لا للفراق ولكن مشتكياً من وحشة الحبس ليرحم كالذي يطلق من الحبس يغلبه البكاء ليرحم ثم لم يرحم بل شدته القابلة ولم يكن مشدوداً في الرحم ثم لم يمض قليل مدة حتى ألقوا في المهد وشدوه بالقماط ثم لم يمض قليل حتى أسلموه إلى أستاذ يحبسه في المكتب ويضربه على التعليم وهكذا إلى أن بلغ الحلم ثم بعد ذلك شد بمسامير العقل والتكليف ثم إن المكلف يصير كالمتحير يقول من الذي يفعل في هذه الأفعال مع أنه ما صدرت عني جناية ا فلم يزل يتفكر حتى ظفر بالفاعل فوجده عالماً لا يشبه العالمين وقادراً لا يشبه القادرين وعرف أن كل ذلك وإن كان صورته صورة المحنة لكن حقيقته محض الكرم والرحمة فترك الشكاية وأقبل على الشكر ثم وقع في قلب العبد أن يقابل إحسانه بالخدمة له والطاعة فجعل قلبه مسكناً لسطان عرفانه فكأن الحق قال عبدي أنزل معرفتي في قلبك حتى لا يخرجها منه شيء أو يسبقها هناك فيقول العبد يا رب أنزلت حب الثدي في قلبي ثم أخرجته وكذا حب الأب والأم وحب الدنيا وشهواتها وأخرجت الكل أما حبك وعرفانك فلا أخرجهما من قلبي ثم إنه لما بقيت المعرفة والمحبة في أرض القلب انفجر من هذا الينبوع أنهار وجداول فالجدول الذي وصل إلى العين حصل منه الاعتبار والذي وصل إلى الأذن حصل منه استماع مناجاة الموجودات وتسبيحاتهم وهكذا في جميع الأعضاء والجوارح فيقول الله عبدي جعلت قلبك كالجنة لي وأجريت فيه تلك الأنهار دائمة مخلدة فأنت مع عجزك وقصورك فعلت هذا فأنا أولى بالجود والكرم والرحمة فجنة بجنة فلهذا قال جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ بل كأن الكريم الرحيم يقول عبدي أعطاني كل ما ملكه وأنا أعطيته بعض ما في ملكي وأنا أولى منه بالكرم والجود فلا جرم جعلت هذا البعض منه موهوباً دائماً مخلداً حتى يكون دوامه وخلوده جابراً لما فيه من النقصان الحاصل بسبب البعضية
المسألة الثانية الجزاء اسم لما يقع به الكفاية ومنه اجتزت الماشية بالحشيش الرطب عن الماء فهذا يفيد معنيين أحدهما أنه يعطيه الجزاء الوافر من غير نقص والثاني أنه تعالى يعطيه ما يقع به الكفاية فلا يبقى في نفسه شيء إلا والمطلوب يكون حاصلاً على ما قال وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ
المسألة الثانية قال جَزَآؤُهُمْ فأضاف الجزاء إليهم والإضافة المطلقة تدل على الملكية فكيف الجمع بينه وبين قوله الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَة ِ مِن فَضْلِهِ والجواب أما أهل السنة فإنهم يقولون إنه لو قال الملك الكريم من حرك أصبعه أعطيته ألف دينار فهذا شرط وجزاء بحسب اللغة وبحسب الوضع لا بحسب الاستحقاق الذاتي فقوله جَزَآؤُهُمْ يكفي في صدقه هذا المعنى وأما المعتزلة فإنهم قالوا في قوله تعالى الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَة ِ مِن فَضْلِهِ إن كلمة من لابتداء الغاية فالمعنى أن استحقاق هذه الجنان إنما حصل بسبب فضلك السابق فإنك لولا أنك خلقتنا وأعطيتنا القدرة والعقل وأزلت الأعذار وأعطيت الألطاف وإلا لما وصلنا إلى هذه الدرجة فإن قيل فإذا كان لا حق(32/50)
لأحد عليه في مذهبكم فما السبب في التزام مثل هذا الأنعام قلنا أتسأل عن إنعامه الأمسى حال عدمنا أو عن إنعامه اليومي حال التكليف أو عن إنعامه في غد القيامة فإن سألت عن الأمسى فكأنه يقول أنا منزه عن الإنتفاع والمائدة مملوءة من المنافع فلو لم أخلق الخلق لضاعت هذه المنافع فكما أن من له مال ولا عيال له فإنه يشتري العبيد والجواري لينتفعوا بماله فهو سبحانه اشترى من دار العدم هذا الخلق لينتفعوا بملكه كما روى ( الخلق عيال الله ) وأما اليومي فالنعمان يوجب الإتمام بعد الشروع فالرحمن أولى وأما الغد فأنا مديونهم بحكم الوعد والإخبار فكيف لا أفي بذلك
المسألة الرابعة في قوله عِندَ رَبّهِمْ لطائف
أحدها قال بعض الفقهاء لو قال لا شيء لي على فلان فهذا يختص بالديون وله أن يدعي الوديعة ولو قال لا شيء لي عند فلان انصرف إلى الوديعة دون الدين ولو قال لا شيء لي قبل فلان انصرف إلى الدين والوديعة معاً إذا عرفت هذا فقوله عِندَ رَبّهِمْ يفيد أنه وديعة والوديعة عين ولو قال لفلان على فهو إقرار بالدين والعين أشرف من الدين فقوله عِندَ رَبّهِمْ يفيد أنه كالمال المعين الحاضر العتيد فإن قيل الوديعة أمانة وغير مضمونة والدين مضمون والمضمون خير مما كان غير مضمون قلنا المضمون خير إذا تصور الهلاك فيه وهذا في حق الله تعالى محال فلا جرم قلنا الوديعة هناك خير من المضمون
وثانيها إذا وقعت الفتنة في البلدة فوضعت مالك عند إمام المحلة على سبيل الوديعة صرت فارغ القلب فههنا ستقع الفتنة في بلدة بدنك وحينئذ تخاف الشيطان من أن يغيروا عليها فضع وديعة أمانتك عندي فإني أكتب لك به كتاباً يتلى في المحاريب إلى يوم القيامة وهو قوله جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ حتى أسلمه إليك أحوج ما تكون إليه وهو في عرصة القيامة
وثالثها أنه قال عِندَ رَبّهِمْ وفيه بشارة عظيمة كأنه تعالى يقول أنا الذي ربيتك أولاً حين كنت معدوماً صفر اليد من الوجود والحياة والعقل والقدرة فخلقتك وأعطيتك كل هذه الأشياء فحين كنت مطلقاً أعطيتك هذه الأشياء وما ضيعتك أترى أنك إذا اكتسبت شيئاً وجعلته وديعة عندي فأنا أضيعها كلا إن هذا مما لا يكون
المسألة الخامسة قوله جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتُ فيه قولان
أحدهما أنه قابل الجمع بالجمع وهو يقتضي مقابلة الفرد بالفرد كما لو قال لأمر أتيه أو عبديه إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما كذا فيحمل هذا على أن يدخل كل واحد منهما داراً على حدة وعن أبي يوسف لم يحنث حتى يدخلا الدارين وعلى هذا إن ملكتما هذين العبدين ودليل القول الأول جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِى ءاذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ فعلى القول الأول بين أن الجزاء لكل مكلف جنة واحدة لكن أدنى تلك الجنات مثل الدنيا بما فيها عشر مرات كذا روى مرفوعاً ويدل عليه قوله تعالى وَمُلْكاً كَبِيراً(32/51)
ويحتمل أن يراد لكل مكلف جنات كما روى عن أبي يوسف وعليه يدل القرآن لأنه قال وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ثم قال وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فذكر أربعاً للواحد والسبب فيه أنه بكى من خوف الله وذلك البكاء إنما نزل من أربعة أجفان إثنان دون الإثنين فاستحق جنتين دون الجنتين فحصلت له أربع جنات لسكبه البكاء من أربعة أجفان ثم إنه تعالى قدم الخوف في قوله وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ وأخر الخوف في هذه الآية لأنه ختم السورة بقوله ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ رَبَّهُ وفيه إشارة إلى أنه لا بد من دوام الخوف أما قبل العمل فالحاصل خوف الاختلال وأما بعد العمل فالحاصل خوف الخلاف إذ هذه العبادة لا تليق بتلك الحضرة
المسألة السادسة قوله عَدْنٍ يفيد الإقامة لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً يقال عدن بالمكان أقام وروى أن جنات عدن وسط الجنة وقيل عدن من المعدن أي هي معدن النعيم والأمن والسلامة قال بعضهم إنها سميت جنة إما من الجن أو الجنون أو الجنة أو الجنين فإن كانت من الجن فهم المخصوصون بسرعة الحركة يطوفون العالم في ساعة واحدة فكأنه تعالى قال إنها في إيصال المكلف إلى مشتهياته في غاية الإسراع مثل حركة الجن مع أنها دار إقامة وعدن وإما من الجنون فهو أن الجنة بحيث لو رآها العاقل يصير كالمجنون لولا أن الله بفضله يثبته وإما من الجنة فلأنها جنة واقية تقيك من النار أو من الجنين فلأن المكلف يكون في الجنة في غاية التنعم ويكون كالجنين لا يمسه برد ولا حر لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً
المسألة السابعة قوله تَجْرِى إشارة إلى أن الماء الجاري ألطف من الراكد ومن ذلك النظر إلى الماء الجاري يزيد نوراً في البصر بل كأنه تعالى قال طاعتك كانت جارية ما دمت حياً على ما قال وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ فوجب أن تكون أنهار إكرامي جارية إلى الأبد ثم قال من تحتها إشارة إلى عدم التنغيص وذلك لأن التنغيص في البستان أما بسبب عدم الماء الجاري فذكر الجري الدائم وإما بسبب الغرق والكثرة فذكر من تحتها ثم الألف واللام في الأنهار للتعريف فتكون منصرفة إلى الأنهار المذكورة في القرآن وهي نهر الماء واللبن والعسل والخمر واعلم أن النهار والأنهار من السعة والضياء فلا تسمى الساقية نهراً بل العظيم هو الذي يسمى نهراً بدليل قوله وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِى َ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الانْهَارَ فعطف ذلك على البحر
المسألة الثامنة اعلم أنه تعالى لما وصف الجنة أتبعه بما هو أفضل من الجنة وهو الخلود أولاً والرضا ثانياً وروى أنه عليه السلام قال ( إن الخلود في الجنة خير من الجنة ورضا الله خير من الجنة
أما الصفة الأولى وهي الخلود فاعلم أن الله وصف الجنة مرة بجنات عدن ومرة بجنات النعيم ومرة بدار السلام وهذه الأوصاف الثلاثة إنما حصلت لأنك ركبت إيمانك من أمور ثلاثة اعتقاد وقول وعمل
وأما الصفة الثانية وهي الرضا فاعلم أن العبد مخلوق من جسد وروح فجنة الجسد هي الجنة الموصوفة وجنة الروح هي رضا الرب والإنسان مبتدأ أمره من عالم الجسد ومنتهى أمره من عالم العقل والروح فلا جرم ابتدأ بالجنة وجعل المنتهى هو رضا الله ثم إنه قدم رضى الله عنهم على قوله(32/52)
وَرَضُواْ عَنْهُ لأن الأزلي هو المؤثر في المحدث والمحدث لا يؤثر في الآزلي
المسألة التاسعة إنما قال رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يقل رضي الرب عنهم ولا سائر الأسماء لأن أشد الأسماء هيبة وجلالة لفظ الله لأنه هو الاسم الدال على الذات والصفات بأسرها أعني صفات الجلال وصفات الإكرام فلو قال رضي الرب عنهم لم يشعر ذلك بكمال طاعة العبد لأن المربي قد يكتفي بالقليل أما لفظ الله فيفيد غاية الجلالة والهيبة وفي مثل هذه الحضرة لا يحصل الرضا إلا بالفعل الكامل والخدمة التامة فقوله رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ يفيد تطرية فعل العبد من هذه الجهة
المسألة العاشرة اختلفوا في قوله رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ فقال بعضهم معناه رضي أعمالهم وقال بعضهم المراد رضي بأن يمدحهم ويعظمهم قال لأن الرضا عن الفاعل غير الرضا بفعله وهذا هو الأقرب وأما قوله وَرَضُواْ عَنْهُ فالمراد أنه رضوا بما جازاهم من النعيم والثواب
أما قوله تعالى ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ رَبَّهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى الخوف في الطاعة حال حسنة قال تعالى وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ ولعل الخشية أشد من الخوف لأنه تعالى ذكره في صفات الملائكة مقروناً بالإشفاق الذي هو أشد الخوف فقال هُم مّنْ خَشْية ِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ والكلام في الخوف والخشية مشهور
المسألة الثانية هذه الآية إذا ضم إليها آية أخرى صار المجموع دليلاً على فضل العلم والعلماء وذلك لأنه تعالى قال إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء فدلت هذه الآية على أن العالم يكون صاحب الخشية وهذه الآية وهي قوله ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ رَبَّهُ تدل على أن صاحب الخشية تكون له الجنة فيتولد من مجموع الآيتين أن الجنة حق العلماء
المسألة الثالثة قال بعضهم هذه الآية تدل على أن المرء لا ينتهي إلى حد يصير معه آمناً بأن يعلم أنه من أهل الجنة وجعل هذع الآية دالة عليه وهذا المذهب غير قوي لأن الأنبياء عليهم السلام قد علموا أنهم من أهل الجنة وهم مع ذلك من أشد العباد خشية لله تعالى كما قال عليه الصلاة والسلام ( أعرفكم بالله أخوفكم من الله وأنا أخوفكم منه ) والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(32/53)
سورة الزلزلة
وهي ثمان آيات مكية
إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا
إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا ههنا مسائل
المسألة الأولى ذكروا في المناسبة بين أول هذه السورة وآخر السورة المتقدمة وجوهاً أحدها أنه تعالى لما قال جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ فكأن المكلف قال ومتى يكون ذلك يا رب فقال إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا فالعالمون كلهم يكونون في الخوف وأنت في ذلك الوقت تنال جزاؤك وتكون آمناً فيه كما قال وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ وثانيها أنه تعالى لما ذكر في السورة المتقدمة وعيد الكافر ووعد المؤمن أراد أن يزيد في وعيد الكافر فقال أجازيه حين يقول الكافر السابق ذكره ما للأرض تزلزل نظير قوله يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ثم ذكر الطائفتين فقال فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ثم جمع بينهم في آخر السورة فذكر الذرة من الخير والشر
المسألة الثانية في قوله إِذَا بحثان أحدهما أن لقائل أن يقول إِذَا للوقت فكيف وجه البداية بها في أول السورة وجوابه من وجوه الأول كانوا يسألونه متى الساعة فقال إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ كأنه تعالى قال لا سبيل إلى تعيينه بحسب وقته ولكني أعينه بحسب علاماته الثاني أنه تعالى أراد أن يخبر المكلف أن الأرض تحدث وتشهد يوم القيامة مع أنها في هذه الساعة جماد فكأنه قيل متى يكون ذلك فقال إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ
البحث الثاني قالوا كلمة ءانٍ في المجوز وَإِذَا في المقطوع به تقول إن دخلت الدار فأنت(32/54)
طالق لأن الدخول يجوز أما إذا أردت التعليق بما يوجد قطعاً لا تقول إن بل تقول إذا ( نحو إذا ) جاء غد فأنت طالق لأنه يوجد لا محالة هذا هو الأصل فإن استمل على خلافه فمجاز فلما كان الزلزال مقطوعاً به قال إِذَا زُلْزِلَتِ
المسألة الثالثة قال الفراء الزلزال بالكسر المصدر والزلزال بالفتح الاسم وقد قرىء بهما وكذلك الوسواس هم الاسم أي اسم الشيطان الذي يوسوس إليك والوسواس بالكسر المصدر والمعنى حركت حركة شديدة كما قال إِذَا رُجَّتِ الاْرْضُ رَجّاً وقال قوم ليس المراد من زلزلت حركت بل المراد تحركت واضطربت والدليل عليه أنه تعالى يخبر عنها في جميع السورة كما يخبر عن المختار القادر ولأن هذا أدخل في التهويل كأنه تعالى يقول إن الجماد ليضطرب لأوائل القيامة أما آن لك أن تضطرب وتتيقظ من غفلتك ويقرب منه لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ واعلم أن زل للحركة المعتادة وزلزل للحركة الشديدة العظيمة لما فيه من معنى التكرير وهو كالصرصر في الريح ولأجل شدة هذه الحركة وصفها الله تعالى بالعظم فقال إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْء عَظِيمٌ
المسألة الرابعة قال مجاهد المراد من الزلزلة المذكورة في هذه الآية النفخة الأولى كقوله يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَة ُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَة ُ أي تزلزل في النفخة الأولى ثم تزلزل ثانياً فتخرج موتاها وهي الأثقال وقال آخرون هذه الزلزلة هي الثانية بدليل أنه تعالى جعل من لوازمها أنها تخرج الأرض أثقالها وذلك إنما يكون في الزلزلة الثانية
المسألة الخامسة في قوله زِلْزَالَهَا بالإضافة وجوه أحدها القدر اللائق بها في الحكمة كقولك أكرم التقي إكرامه وأهن الفاسق إهانته تريد ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة والثاني أن يكون المعنى زلزالها كله وجميع ما هو ممكن منه والمعنى أنه وجد من الزلزلة كل ما يحتمله المحل والثالث زِلْزَالَهَا الموعود أو المكتوب عليها إذا قدرت تقدير الحي تقريره ماروى أنها تزلزل من شدة صوت إسرافيل لما أنها قدرت تقدير الحي
وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا
أما قوله وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا ففيه مسألتان
المسألة الأولى في الأثقال قولان أَحَدُهُمَا أنه جمع ثقل وهو متاع البيت وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالاً لها قال أبو عبيدة والأخفش إذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقل لها وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها وقيل سمي الجن والإنس بالثقلين لأن الأرض تثقل بهم إذا كانوا في بطنها ويثقلون عليها إذا كانوا فوقها ثم قال المراد من هذه الزلزلة الزلزلة الأولى يقول أخرجت الأرض أثقالها يعني الكنوز فيمتلىء ظهر الأرض ذهباً ولا أحد يلتفت إليه كأن الذهب يصيح ويقول أما كنت تخرب دينك ودنياك لأجليا أو تكون الفائدة في إخراجها كما قال تعالى يَوْمٍ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ ومن قال المراد من هذه الزلزلة الثانية وهي بعد القيامة قال تخرج الأثقال يعني الموتى أحياء كالأم تلده حياً وقيل تلفظه الأرض ميتا كما دفن ثم يحييه الله تعالى والقول الثاني(32/55)
أثقالها أسرارها فيومئذ تكشف الأسرار ولذلك قال يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا فتشهد لك أو عليك
المسألة الثانية أنه تعالى قال في صفة الأرض أَلَمْ نَجْعَلِ الاْرْضَ كِفَاتاً ثم صارت بحال ترميك وهو تقرير لقوله تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وقوله يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء
وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا
أما قوله تعالى وَقَالَ الإِنسَانُ ففيه مسائل
المسألة الأولى مالها تزلزل هذه الزلزلة الشديدة ولفظت ما في بطنها وذلك إما عند النفخة الأولى حين تلفظ ما فيها من الكنوز والدفائن أو عند النفخة الثانية حين تلفظ ما فيها من الأموات
المسألة الثانية قيل هذا قول الكافر وهو كما يقولون ياوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا فأما المؤمن فيقول هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ وقيل بل هو عام في حق المؤمن والكافر أي الإنسان الذي هو كنود جزوع ظلوم الذي من شأنه الغفلة والجهالة يقول مالها وهو ليس بسؤال بل هو للتعجب لما يرى من العجائب التي لم تسمع بها الآذان ولا تطلق بها لسان ولهذا قال الحسن إنه للكافر والفاجر معاً
المسألة الثالثة إنما قال مالها على غير المواجهة لأنه يعاتب بهذا الكلام نفسه كأنه يقول يا نفس ما للأرض تفعل ذلك يعني يا نفس أنت السبب فيه فإنه لولا معاصيك لما صارت الأرض كذلك فالكفار يقولون هذا الكلام والمؤمنون يقولون وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا
أما قوله تعالى يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا فاعلم أن ابن مسعود قرأ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا وسعيد بن جبير تنبيء ثم فيه سؤالات
الأول أين مفعولاً تحدث الجواب قد حذف أولهما والثاني أخبارها وأصله تحدث الخلق أخبارها إلا أن المقصود ذكر تحديثها الأخبار لا ذكر الخلق تعظيماً
السؤال الثاني ما معنى تحديث الأرض قلنا فيه وجوه أحدها وهو قول أبي مسلم يومئذ يتبين لكل أحد جزاء عمله فكأنها حدثت بذلك كقولك الدار تحدثنا بأنها كانت مسكونة فكذا انتقاض الأرض بسبب الزلزلة تحدث أن الدنيا قد انقضت وأن الآخرة قد أقبلت والثاني وهو قول الجمهور أن الله تعالى يجعل الأرض حيواناً عاقلاً ناطفاً ويعرفها جميع ما عمل أهلها فحينئذ تشهد لمن أطاع وعلى من عصي قال عليه السلام ( أن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل عمل عمل عليها ) ثم تلا هذه الآية وهذا على مذهبنا غير بعيد لأن البنية عندنا ليست شرطاً لقبول الحياة فالأرض مع بقائها على شكلها ويبسها وقشفها يخلق الله فيها الحياة والنطق والمقصود كأن الأرض تشكو من العصاة وتشكر من أطاع الله فنقول إن فلاناً صلى وزكى وصام(32/56)
وحج في وإن فلاناً كفر وزنى وسرق وجار حتى يود الكافر أن يساق إلى النار وكان علي عليه السلام إذا فرغ بيت المال صلى فيه ركعتين ويقول لتشهدن أني ملأتك يحق وفرغك بحق والقول الثالث وهو قول المعتزلة أن الكلام يجوز خلقه في الجماد فلا يبعد أن يخلق الله تعالى في الأرض حال كونها جماداً أصواتاً مقطعة مخصوصة فيكون المتكلم والشاهد على هذا التقدير هو الله تعالى
السؤال الثالث إذ ويومئذ ما ناصبهما الجواب يومئذ بدل من إذا وناصبهما تحدث
السؤال الرابع لفظ التحديث يفيد الاستئناس وهناك لا استئناس فما وجه هذا اللفظ الجواب أن الأرض كأنها تبث شكواها إلى أولياء الله وملائكته
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا
أما قوله تعالى بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ففيه سؤالان
السؤال الأول بم تعلقت الباء في قوله بِأَنَّ رَبَّكَ الجواب بتحدث ومعناه تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها
السؤال الثاني لم لم يقل أوحى إليها الجواب فيه وجهان الأول قال أبو عبيدة أَوْحَى لَهَا أي أوحى إليها وأنشد العجاج
( أوحى لها القرار فاستقرت )
الثاني لعله إنما قال لها أي فعلنا ذلك لأجلها حتى تتوسل الأرض بذلك إلى التشفي من العصاة
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ
قوله تعالى يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ الصدور ضد الورد فالوارد الجائي والصادر والمنصرف واشتاتاً متفرقين فيحتمل أن يردوا الأرض ثم يصدرون عنها الأرض إلى عرصة القيامة ويحتمل أن يردوا عرصة القيامة للمحاسبة ثم يصدرون عنها إلى موضع الثواب والعقاب فإن قوله أَشْتَاتاً أقرب إلى الوجه الأول ولفظة الصدر أقرب إلى الوجه الثاني وقوله لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ أقرب إلى الوجه الأول لأن رؤية أعمالهم مكتوبة في الصحائف أقرب إلى الحقيقة من رؤية جزاء الأعمال وإن صح أيضاً أن يحمل على رؤية جزاء الأعمال وقوله أَشْتَاتاً فيه وجوه أحدها أن بعضهم يذهب إلى الموقف راكباً مع الثياب الحسنة وبياض الوجه والمنادى ينادي بين يديه هذا ولي الله وآخرون يذهب بهم سود الوجوه حفاة عراة مع السلاسل والأغلال والمنادي ينادي بين يديه هذا عدو الله وثانيها أشتاتاً أي كل فريق مع شكله اليهودي مع اليهودي والنصراني مع النصراني وثالثها أشتاتاً من أقطار الأرض من كل ناحية ثم إنه سبحانه ذكر المقصود وقال لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ قال بعضهم ليروا صحائف أعمالهم لأن الكتابة يوضع بين يدي الرجل فيقول هذا طلاقك وبيعك هل تراه والمرئي وهو الكتاب وقال آخرون ليروا جزاء أعمالهم وهو الجنة أو النار وإنما أوقع اسم العمل على الجزاء لأنه الجزاء وفاق فكأنه نفس العمل بل المجاز في ذلك أدخل من الحقيقة وفي قراءة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لّيُرَوْاْ بالفتح(32/57)
فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ
ثم قال تعالى فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ أي زنة ذرة قال الكلبي الذرة أصغر النمل وقال ابن عباس إذا وضعت راحتك على الأرض ثم رفعتها فكل واحد مما لزق به من التراب مثقال ذرة فليس من عبد عمل خيراً أو شراً قليلاً أو كثيراً إلا أراه الله تعالى إياه
المسألة الثانية في رواية عن عاصم يَرَهُ برفع الياء وقرأ الباقون يَرَهُ بفتحها وقرأ بعضهم يَرَهُ بالجزم
المسألة الثالثة في الآية إشكال وهو أن حسنات الكافر محبطة بكفره وسيئات المؤمن مغفورة إما ابتداء وإما بسبب اجتناب الكبائر فما معنى الجزاء بمثاقيل الذرة من الخير والشر
واعلم أن المفسرين أجابوا عنه من وجوه أحدها قال أحمد بن كعب القرظي فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا حتى يلقى الآخرة وليس له فيها شيء وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً ويدل على صحة هذا التأويل ما روى أنه عليه السلام قال لأبي بكر ( يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل الخير حتى توفاها يوم القيامة ) وثانيها قال ابن عباس ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيراً أو شراً ءلا أراه الله إياه فأما المؤمن فيغفر الله سيئاته ويثيبه بحسناته وأما الكافر فترد حسناته ويعذب بسيئاته وثالثها أن حسنات الكافر وإن كانت محبطة بكفره ولكن الموازنة معتبرة فتقدر تلك الحسنات انحبطت من عقاب كفره وكذا القول في الجانب الآخر فلا يكون ذلك قادحاً في عموم الآية ورابعها أن تخصص عموم قوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ ونقول المراد فمن يعمل من السعداء مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل من الأشقياء مثقال ذرة شراً يره
المسألة الرابعة لقائل أن يقول إذا كان الأمر إلى هذا الحد فأين الكرم والجواب هذا هو الكرم لأن المعصية وإن قلت ففيها استخفاف والكريم لا يحتمله وفي الطاعة تعظيم وإن قل فالكريم لا يضيعه وكأن الله سبحانه يقول لا تحسب مثقال الذرة من الخير صغيراً فإنك مع لؤمك وضعفك لم تضيع مني الذرة بل اعتبرتها ونظرت فيها واستدللت بها على ذاتي وصفاتي واتخذتها مركباً به وصلت إلي فإذا لم تضيع ذرتي أفأضيع ذرتكا ثم التحقيق أن المقصود هو النية والقصد فإذا كان العمل قليلاً لكن النية خالصة فقد حصل المطلوب وإن كان العمل كثيراً والنية دائرة فالمقصود فائت ومن ذلك ما روى عن كعب لا تحقروا شيئاً من المعروف فإن رجلاً دخل الجنة بإعارة إبرة في سبيل الله وإن امرأة أعانت بحبة في بناء بيت المقدس فدخلت الجنة وعن عائشة ( كانت بين يديها عنب فقدمته إلى نسوة بحضرتها فجاء سائل فأمرت له بحبة من ذلك العنب فضحك بعض من كان عندها فقالت إن فيما ترون مثاقيل الذرة وتلت هذه الآية ) ولعلها كان غرضها التعليم وإلا فهي كانت في غاية السخاوة روى ( أن ابن الزبير بعث إليها بمائة ألف وثمانين ألف درهم في غرارتين فدعت بطبق وجعلت تقسمه بين الناس فلما أمست قالت يا جارية فطوري هلمي فجاءت بخبز ويزت فقيل لها أما أمسكت النار درهماً نشتري به لحماً نفطر عليه فقالت لو ذكرتيني لفعلت(32/58)
ذلك ) وقال مقاتل نزلت هذه الآية في رجلين كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ويقول ما هذا بشيء وإنما نؤجر على ما نعطيا وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ويقول لا شيء علي من هذا إنما الوعيد بالنار على الكبائر فنزلت هذه الآي ترغيباً في القليل من الخير فإنه يوشك أن يكثر وتحذيراً من اليسير من الذنب فإنه يوشك أن يكبر ولهذا قال عليه السلام ( اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة ) والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(32/59)
سورة العاديات
إحدى عشرة آية مكية
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً
اعلم أن الضبح أصوات أنفاس الخيل إذا عدت وهو صوت ليس بصهيل ولا حمحمة ولكنه صوت نفس ثم اختلفوا في المراد بالعاديات على قولين
الأول ما روى عن علي عليه السلام وابن مسعود أنها الإبل وهو قول إبراهيم والقرظي روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ( بينا أنا جالس في الحجر إذا أتاني رجل فسألني عن العاديات ضبحاً ففسرتها بالخيل فذهب إلى عليه عليه السلام وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت فقال ادعه لي فلما وقفت على رأسه قال تفتي الناس بما لا علم لك به والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر وما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً الإبل من عرفة إلى مزدلفة ومن المزدلفة إلى منى يعني إبل الحاج قال ابن عباس فرجعت عن قولي إلى قول علي عليه السلام ) ويتأكد هذا القول بما روى أبي في فضل السورة مرفوعاً ( من قرأها أعطى من الأجر بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعاً ) وعلى هذا القول فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً أن الحوافر ترمى بالحجر من شدة العدو فتضرب به حجراً آخر فتورى النار أو يكون المعنى الذين يركبون الإبل وهم الحجيج إذا أوقدوا نيرانهم بالمزدلفة فَالْمُغِيراتِ الإغارة سرعة السير وهم يندفعون صبيحة يوم النحر مسرعين إلى منى فَأَثَرْنَ بِهِ نَفْعاً يعني غباراً بالعدو وعن محم د بن كعب النقع ما بين المزدلفة إلى منى فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً يعني مزدلفة لأنها تسمى الجمع لاجتماع الحاج بها وعلى هذا التقدير فوجه القسم به من وجوه أحدها ما ذكرنا من المنافع الكثيرة فيه في قوله أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ(32/60)
وثانيها كأنه تعريض بالآدمي الكنود فكأنه تعالى يقول إني سخرت مثل هذا لك وأنت متمرد عن طاعتي وثالثها الغرض بذكر إبل الحج الترغيب في الحج كأنه تعالى يقول جعلت ذلك الإبل مقسماً به فكيف أضيع عملكا وفيه تعريض لمن يرغب الحج فإن الكنود هو الكفور والذي لم يحج بعد الوجوب موصوف بذلك كما في قوله تعالى وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ إلى قوله وَمَن كَفَرَ
القول الثاني قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وعطاء وأكثر المحققين أنه الخيل وروى ذلك مرفوعاً قال الكلبي بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سرية إلى أناس من كنانة فمكث ما شاء الله أن يمكث لا يأتيه منهم خبر فتخوف عليها فنزل جبريل عليه السلام بخبر مسيرها فإن جعلنا الألف واللام في وَالْعَادِيَاتِ للمعهود السابق كان محل القسم خيل تلك السرية وإن جعلناهما للجنس كان ذلك قسماً بكل خيل عدت في سبيل الله
واعلم أن ألفاظ هذه الآيات تنادي أن المراد هو الخيل وذلك لأن الضبح لا يكون إلا للفرس واستعمال هذا اللفظ في الإبل يكون على سبيل الاستعارة كما استعير المشافر والحافر للإنسان والشفتان للمهر والعدول من الحقيقة إلى المجاز بغير ضرورة لا يجوز وأيضاً فالقدح يظهر بالحافر مالا يظهر بخف الإبل وكذا قوله فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً لأنه بالخيل أسهل منه بغيره وقد روينا أنه ورد في بعض السرايا وإذا كان كذلك فالأقرب أن السورة مدنية لأن الإذن بالقتال كان بالمدينة وهو الذي قاله الكلبي إذا عرفت ذلك فههنا مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى إنما أقسم بالخيل لأن لها في العدو من الخصال الحميدة ما ليس لسائر الدواب فإنها تصلح للطلب والهرب والكر والفر فإذا ظننت أن النفع في الطلب عدوت إلى الخصم لتفوز بالغنيمة وإذا ظننت أن المصلحة في الهرب قدرت على أشد العدو ولا شك أن السلامة إحدى الغنيمتين فأقسم تعالى بفرس الغازي لما فيه من منافع الدنيا والدين وفيه تنبيه على أن الإنسان يجب عليه أن يمسكه لا للزينة والتفاخر بل لهذه المنفعة وقد نبه تعالى على هذا المعنى في قوله وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة ً فأدخل لام التعليل على الركوب وما أدخله على الزينة وإنما قال صُبْحاً لأنه أمارة يظهر به التعب وأنه يبذل كل الوسع ولا يقف عند التعب فكأنه تعالى يقول إنه مع ضعفه لا يترك طاعتك فليكن العبد في طاعة مولاه أيضاً كذلك
المسألة الثانية ذكروا في انتصاب ضَبْحاً وجوهاً أحدها قال الزجاج والعاديات تضبح ضبحاً وثانيها أن يكون وَالْعَادِيَاتِ في معنى والضابحات لأن الضبح يكون مع العدو وهو قول الفراء وثالثها قال البصريون التقدير والعاديات ضابحة فقوله ضَبْحاً نصب على الحال
فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً
أما قوله تعالى فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً
فاعلم أن الإيراء إخراج النار والقدح الصك تقول قدح فأورى وقد فأصلد ثم في تفسير الآية وجوه(32/61)
أحدها قال ابن عباس يريد ضرب الخيل بحوافرها الجبل فأورت منه النار مثل الزبد إذا قدح وقال مقاتل يعني الخيل تقدحن بحوافرهن في الحجارة ناراً كنار الحباحب والحباحب اسم رجل كان بخيلاً لا يوقد النار إلا إذا نام الناس فإذا انتبه أحد أطفأ ناره لئلا ينتفع بها أحد فشبهت هذه النار التي تنقدح من حوافر الخيل بتلك النار التي لم يكن فيها نفع ومن الناس من يقول إنها نعل الحديد يصك الحجر فتخرج النار والأول أبلغ لأن على ذلك التقدير تكون السنابك نفسها كالحديد وثالثها قال قوم هذه الآيات في الخيل ولكن إبراؤها أن تهبج الحرب بين أصحابها وبين عدوهم كما قال تعالى كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ومنه يقال للحرب إذا التحمت حمى الوطيس وثالثها هم الذين يغزون فيورون بالليل نيرانهم لحاجتهم وطعامهم فَالمُورِيَاتِ هم الجماعة من الغزاة ورابعها إنها هي الألسنة توري نار العداوة لعظم ما تتكلم به وخامسها هي أفكار الرجال توري نار المكر والخديعة روى ذلك عن ابن عباس ويقال لأقدحن لك ثم لأورين لك أي لأهيجن عليك شراً وحرباً وقيل هو المكر إلا أنه مكر بإيقاد النار ليراهم العدو كثيراً ومن عادة العرب عند الغزو إذا قربوا من العدو أن يوقدوا نيراناً كثيرة لكي إذا نظر العدو إليهم ظنهم كثيراً وسادسها قال عكرمة الموريات قدحاً الأسنة وسابعها فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً أي فالمنجحات أمراً يعني الذين وجدوا مقصودهم وفازوا بمطلوبهم من الغزو والحج ويقال للمنجح في حاجته وروى زنده ثم يرجع هذا إلى الجماعة المنجحة ويجوز أن يرجع إلى الخيل ينجح ركبانها قال جرير وجدنا الأزد أكرمهم جوادا
وأوراهم إذا قدحوا زناداً
ويقال فلان إذا قدح أورى وإذا منح أورى واعلم أن الوجه الأول أقرب لأن لفظ الإيراء حقيقة في إيراء النار وفي غيره مجاز ولا يجوز ترك الحقيقة بغير دليل
فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً
أما قوله تعالى فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً يعني الخيل تغير على العدو وقت الصبح وكانوا يغيرون صباحاً لأنهم في الليل يكونون في الظلمة فلا يبصرون شيئاً وأما النهار فالناس يكونون فيه كالمستعدين للمدافعة والمحاربة أما هذا الوقت فالناس يكونون فيه في الغفلة وعدم الاستعداد وأما الذين حملوا هذه الآيات على الإبل قالوا المراد هو الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى والسنة أن لا تغير حتى تصبح ومعنى الإغارة في اللغة الإسراع يقال أغار إذا أسرع وكانت العرب في الجاهلية تقول أشرق ثبير كيما نغير أي نسرع في الإفاضة
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً
أما قوله فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً ففيه مسائل
المسألة الأولى في النقع قولان أحدهما أنا هو الغبار وقيل إنه مأخوذ من نقع الصوت إذا ارتفع(32/62)
فالغبار يسمى نقعاً لارتفاعه وقيل هو من النقع في الماء فكأن صاحب الغبار غاص فيه كما يغوص الرجل في الماء والثاني النقع الصباح من قوله عليه الصلاة والسلام ( مالم يكن نقع ولا لقلقة ) أي فهيجن في المغار عليهم صياح النوائح وارتفعت أصواتهن ويقال ثار الغبار والدخان أي ارتفع وثار القطا عن مفحصه وأثرن الغبار أي هيجنه والمعنى أن الخيل أثرن الغبار لشدة العدو في الموضع الذي أغرن فيه
المسألة الثانية الضمير في قوله به إلى ماذا يعود فيه وجوه أحدها وهو قول الفراء أنه عائد إلى المكان الذي انتهى إليه والموضع الذي تقع فيه الإغارة لأن في قوله فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً دليلاً على أن الإغارة لا بد لها من وضع وإذا علم المعنى جاز أن يكنى عما لم يجز ذكره بالتصريح كقوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ وثانيها إنه عائد إلى ذلك الزمان الذي وقعت فيه الإغارة أي فأثرن في ذلك الوقت نقعاً وثالثها وهو قول الكسائي أنه عائد إلى العدو أي فأثرن بالعدو نقعاً وقد تقدم ذكر العدو في قوله وَالْعَادِيَاتِ
المسألة الثالثة فإن قيل على أي شيء عطف قوله فَأَثَرْنَ قلنا على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه والتقدير واللائي عدون فأورين وأغرن فأثرن
المسألة الرابعة قرأ أبو حيوة فَأَثَرْنَ بالتشديد بمعنى فأظهرن به غباراً لأن التأثير فيه معنى الإظهار أو قلب ثورن إلى وثرن وقلب الواو همزة
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً
أما قوله تعالى فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال الليث وسطت النهر والمفازة أسطها وسطاً وسطة أي صرت في وسطها وكذلك وسطتها وتوسطتها ونحو هذا قال الفراء والضمير في قوله بِهِ إلى ماذا يرجع فيه وجوه أحدها قال مقاتل أي بالعدو وذلك أن العاديات تدل على العدو فجازت الكناية عنه وقوله جَمْعاً يعني جمع العدو والمعنى صرن بعدوهن وسط جمع العدو ومن حمل الآيات على الإبل قال يعني جمع مني وثانيها أن الضمير عائد إلى النقع أي وسطن بالنقع الجمع وثالثها المراد أن العاديات وسطن ملبساً بالنقع جمعاً من جموع الأعداء
المسألة الثانية قرىء نَقْعاً فَوَسَطْنَ بالتشديد للتعدية والباء مزيدة للتوكيد كقوله وَأُتُواْ بِهِ وهي مبالغة في وسطن واعلم أن الناس أكثروا في صفة الفرس وهذا القدر الذي ذكره الله أحسن وقال عليه الصلاة والسلام ( الخيل معقود بنواصيها الخير ) وقال أيضاً ( ظهرها حرز وبطنها كنز ) واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به ذكر المقسم عليه وهو أمور ثلاثة
إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ
أحدها قوله إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ قال الواحدي أصل الكنود منع الحق والخير والكنود الذي(32/63)
يمنع ما عليه والأرض الكنود هي التي لا تنبت شيئاً ثم للمفسرين عبارات فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة الكنود هو الكفور قالوا ومنه سمي الرجل المشهور كندة لأنه كند أباه ففارقه وعن الكلبي الكنود بلسان كندة العاصي وبلسان بني مالك البخيل وبلسان مضر وربيعة الكفور وروى أبو أمامة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن الكنود هو الكفور الذي يمنع رفده ويأكل وحده ويضرب عبده وقال الحسن الكنود اللوام لربه يعد المحن والمصائب وينسى النعم والراحات وهو كقوله وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبَّهُ فَقَدَّرَهُ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ
واعلم أن معنى الكنود لا يخرج عن أن يكون كفراً أو فسقاً وكيفما كان فلا يمكن حمله على كل الناس فلا بد من صرفه إلى كافر معين أو إن حملناه على الكل كان المعنى أن طبع الإنسان يحمله على ذلك إلا إذا عصمه الله بلطفه وتوفيقيه من ذلك والأول قول الأكثرين قالوا لأن ابن عباس قال إنها نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي وأيضاً فقوله أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ لا يليق إلا بالكافر لأن ذلك كالدلالة على أنه منكر لذلك الأمر
الثاني من الأمور التي أقسم الله عليها قوله وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وفيه قولان أحدهما أن الإنسان على ذلك أي على كنوده لشهيد يشهد على نفسه بذلك أما لأنه أمر ظاهر لا يمكنه أن يجحده أو لأنه يشهد على نفسه بذلك في الآخرة ويعترف بذنوبه القول الثاني المراد وإن الله على ذلك لشهيد قالوا وهذا أولى لأن للضمير عائد إلى أقرب المذكورات والأقرب ههنا هو لفظ الرب تعالى ويكون ذلك كالوعيد والزجر له عين المعاصي من حيث إنه يحصى عليه أعماله وأما الناصرون للقول الأل فقالوا إن قوله بعد ذلك وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ الضمير فيه عائد إلى الإنسان فيجب أن يكون الضمير في الآية التي قبله عائداً إلى الإنسان ليكون النظم أحسن
الأمر الثالث مما أقسم الله عليه قوله وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ الخير المال من قوله تعالى إِن تَرَكَ خَيْرًا وقوله وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً وهذالأن الناس يعدون المال فيما بينهم خيراً كما أنه تعالى سمي ما ينال المجاهد من الجراح وأذى الحرب سوءاً في قوله لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء والشديد البخيل الممسك يقال فلان شديدة ومتشدد قال طرفة أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدد
ثم في التفسيري وجوه أحدها أنه لأجل حب المال لبخيل ممسك وثانيها أن يكون المراد من الشديدة القرى ويكون المعنى وإنه لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق وهو لحب عبادة الله وشكر نعمه ضعيف تقول هو شديد لهذا الأمر وقوي له وإذا كان مطيقاً له ضابطاً وثالثها أراد إنه لحب الخيرات غير هني منبسط ولكنه شديد منقبض ورابعها قال الفراء يجوز أن يكون المعنى وإنه لحب الخير لشديد الحب يعني أنه يحب المال ويحب كونه محباً له إلا أنه اكتفى بالحب الأول عن الثاني كما قال اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ أي في يوم عاصف الريح فاكتفى بالأولى عن الثانية وخامسها قال قطرب أي إنه شديد حب الخير كقولك إنه لزيد ضروب أي أنه ضروب زيد(32/64)
أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ
واعلم أنه تعالى لما عد عليه قبائح أفعاله خوفه فقال أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى القول في بُعْثِرَ مضى في قوله تعالى وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ وذكرنا أن معنى بُعْثِرَتْ بعث وأثير وأخرج وقرىء بحثر
المسألة الثانية لقائل أن يسأل لم قال بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ ولم يقل بعثر من في القبور ثم إنه لما قال ما في القبور فلم قال إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ ولم يقل إن ربها بها يومئذ لخبيير الجواب عن السؤال الأول هو أن ما في الأرض من غير المكلفين أكثر فأخرج الكلام على الأغلب أو يقال إنهم حال ما يبعثون لا يكونون أحياء عقلاء بل بعد البعث يصيرون كذلك فلا جرم كان الضمير الأول ضمير غير العقلاء والضمير الثاني ضمير العقلاء
وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ
ثم قال تعالى وَحُصّلَ مَا فِى الصُّدُورِ قال أبو عبيدة أي ميز ما في الصدور وقال الليث الحاصل من كل شيء ما بقي وثبت وذهب سواه والتحصيل تمييز ما يحصل والاسم الحصيلة قال لبيد وكل امرىء يوماً سيعلم سعيه
إذا حصلت عند الإله الحصائل
وفي التفسير وجوه أحدها معنى حصل جمع في الصحف أي أظهرت محصلاً مجموعاً وثانيها أنه لا بد من التمييز بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحظور فإن لكل واحد ومنه قيل للمنخل المحصل وثالثها أن كثيراً ما يكون باطن الإنسان بخلاف ظاهره أما في يوم القيامة فإنه تتكشف الأسرار وتبتهك الأستار ويظهر ما في البواطن كما قال يَوْمٍ تُبْلَى السَّرَائِرُ
واعلم أن حظ الوعظ منه أن يقال إنك تستعد فيما لا فائدة لك فيه فتبني المقابرة وتشتري التابوت وتفصل الكفن وتغزل العجوز الكفن فيقال هذا كله للديدان فأين حظ الرحمنا بل المرأة إذا كانت حاملاً فإنها تعد للطفل ثياباً فإذا قلت لها لا طفل لك فما هذا الاستعداد فتقول أليس يبعثر ما في بطني فيقول الرب لك ألا يبعثر ما في بطن الأرض فأين الاستعداد وقرىء وحصل بالفتح والتخفيف بمعنى ظهر
إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ
ثم قال إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ اعلم أن فيه سؤالات
الأول أنه يوهم أن علمه بهم في ذلك اليوم إنما حصل بسبب الخبرة وذلك يقتضي سبق الجهل وهو على الله تعالى محال الجواب من وجهين أحدهما كأنه تعالى يقول إن من لم يكن عالماً فإنه يصير بسبب الاختبار عالماً فمن كان لم يزل عالماً أن يكون خبيراً بأحوالكا وثانيهما أن فائدة تخصيص ذلك الوقت في قوله فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ مع كونه عالماً لم يزل أنه وقت الجزاء وتقريره لمن الملك كأنه يقول لا حاكم(32/65)
يروج حكمه ولا عالم تروج فتواه يومئذ إلا هو وكم عالم لا يعرف الجواب وقت الواقعة ثم يتذكره بعد ذلك فكأنه تعالى يقول لست كذلك
السؤال الثاني لم خص أعمال القلوب بالذكر في قوله وَحُصّلَ مَا فِى الصُّدُورِ وأهمل ذكر أعمال الجوارح الجواب لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلب فإنه لولا البواعث والإرادات في القلوب لما حصلت أفعال الجوارح ولذلك إنه تعالى جعلها الأصل في الذم فقال قَلْبُهُ وَاللَّهُ والأصل في المدح فقال وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
السؤال الثالث لم قال وَحُصّلَ مَا فِى الصُّدُورِ ولم يقل وحصل ما في القلوب الجواب لأن القلب مطية الروح وهو بالطبع محب لمعرفة الله وخدمته إنما المنازع في هذا الباب هو النفس ومحلسها ما يقرب من الصدر ولذلك قال يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ وقال أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فجعل الصدر موضعاً للإسلام
السؤال الرابع الضمير في قوله إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ عائد إلى الإنسان وهو واحد والجواب الإنسان في معنى الجمع كقوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ثم قال إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ولولا أنه للجمع وإلا لما صح ذلك واعلم أنه بقي من مباحث هذه الآية مسألتان
المسألة الأولى هذه الآية تعدل على كونه تعالى عالماً بالجزئيات الزمانيات لأنه تعالى نص على كونه عالماً بكيفية أحوالهم في ذلك اليوم فيكون منكره كافراً
المسألة الثانية نقل أن الحجاج سبق على لسانه أن بالنصب فأسقط اللام من قوله لَّخَبِيرٌ حتى لا يكون الكلام لحناً وهذا يذكر في تقرير فصاحته فزعم بعض المشايخ أن هذا كفر لأنه قصد لتغيير المنزل ونقل عن أبي السماءل أنه قرأ على هذا الوجه والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(32/66)
سورة القارعة
إحدى عشرة آية مكية
سُورَة ٌ الْقَارِعَة ُ إِحْدَى عَشْرَة َ ءايَة ً اعلم أنه سبحانه وتعالى لما ختم السورة المتقدمة بقوله الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ فكأنه قيل وما ذلك اليوم فقيل هي القارعة
الْقَارِعَة ُ مَا الْقَارِعَة ُ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة ُ
الْقَارِعَة ُ مَا الْقَارِعَة ُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة ُ اعلم أن فيه مسائل
المسألة الأولى القرع الضرب بشدة واعتماد ثم سميت الحادثة العظيمة من حوادث الدهر قارعة قال الله تعالى وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَة ٌ ومنه قولهم العبد يقرع بالعصا ومنه المقرعة وقوارع القرآن وقرع الباب وتقارعوا تضاربوا بالسيوف واتفقوا على أن القارعة اسم من أسماء القيامة واختلفوا في لمية هذه التسمية على وجوه أحدها أن سبب ذلك هو الصيحة التي تموت منها الخلائق لأن في الصيحة الأولى تذهب العقول قال تعالى فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ وفي الثانية تموت الخلائق سوى إسرافيل ثم يميته الله ثميحييه فينفخ الثالثة فيقومون وروى أن الصور له ثقب على عدد الأموات لكل واحد ثقبة معلومة فيحيي الله كل جسد بتلك النفخة الواصلة إليه من تلك الثقبة المعينة والذي يؤكد هذا الوجه قوله تعالى مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَة ً واحِدَة ً فَإِنَّمَا هِى َ زَجْرَة ٌ واحِدَة ٌ وثانيها أن الأجرام العلوية والسفلية يصطكان اصطكاكاً شديداً عند تخريب العالم فبسبب تلك القرعة سمي يوم القيامة بالقارعة وثالثها أن القارعة هي التي تقرع الناس بالأهوال والإفزاع وذلك في السموات بالانشقاق والإنفطار وفي الشمس والقمر بالتكور وفي الكواكب بالانتثار وفي الجبال بالدك والنسف وفي الأرض بالطي والتبديل وهو قول الكلبي ورابعها أنها تقرع أعداء الله بالعذاب والخزي والنكال وهو قول مقاتل قال بعض المحققين وهذا أولى من قول(32/67)
الكلبي لقوله تعالى وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ
المسألة الثانية في إعراب قوله الْقَارِعَة ُ مَا الْقَارِعَة ُ وجوه أحدها أنه تحذير وقد جاء التحذير بالرفع والنصب تقول الأسد الأسد فيجوز الرفع والنصب وثانيها وفيه إضمار أي ستأتيكم القارعة على ما أخبرت عنه في قوله إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ وثالثها رفع بالابتداء وخبره مَا الْقَارِعَة ُ وعلى قول قطرب الخبر وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة ُ فإن قيل إذا أخبرت عن شيء بشيء فلا بد وأن تستفيد منه علماً زائداً وقوله وَمَا أَدْرَاكَ يفيد كونه جاهلاً به فكيف يعقل أن يكون هذا خبراً قلنا قد حصل لنا بهذا الخبر علم زائد لأنا كنا نظن أنها قارعة كسائر القوارع فبهذا التجهيل علمنا أنها قارعة فاقت القوارع في الهول والشدة
المسألة الثالثة قوله وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة ُ فيه وجوه أحدها معناه لا علم لك بكنهها لأنها في الشدة بحيث لا يبلغها وهم أحد ولا فهمه وكيفما قدرته فهو أعظم من تقديرك كأنه تعالى قال قوارع الدنيا في جنب تلك القارعة كأنها ليست بقوارع ونار الدنيا في جنب نار الآخرة كأنها ليست بنار ولذلك قال في آخر السورة نَارٌ حَامِيَة ٌ تنبيهاً على أن نار الدنيا في جنب تلك ليست بحامية وصار آخر السورة مطابقاً لأولها من هذا الوجه فإن قيل ههنا قال وَمَا أَدْرَاكَ وقال في آخر السورة فَأُمُّهُ ولم يقل وماأدراك ما هاوية فما الفرق قلنا الفرق أن كونها قارعة أمر محسوس أما كونها هاوية فليس كذلك فظهر الفرق بين الموضعين وثانيها أن ذلك التفصيل لا سبيل لأحد إلى العلم به إلا بأخبار الله وبيانه لأنه بحث عن وقوع الوقعات لا عن وجوب الواجبات فلا يكون إلى معرفته دليل إلا بالسمع
المسألة الرابعة نظير هذه الآية قوله الْحَاقَّة ُ مَا الْحَاقَّة ُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّة ُ ثم قال المحققون قوله الْقَارِعَة ُ مَا الْقَارِعَة ُ أشد من قوله الْحَاقَّة ُ مَا الْحَاقَّة ُ لأن النازل آخراً لا بد وأن يكون أبلغ لأن المقصود منه زيادة التنبيه وهذه الزيادة لا تحصل إلا إذا كانت أقوى وأما بالنظر إلى المعنى فالحاقة أشد لكونه راجعاً إلى معنى العدل والقارعة أشد لما أنها تهجم على القلوب بالأمر الهائل
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ
ثم قال تعالى يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ
قال صاحب الكشاف الظرف نصب بمضمر دلت عليه القارعة أي تقرع يوم يكون الناس كذا
واعلم أنه تعالى وصف ذلك اليوم بأمرين الأول كون الناس فيه كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ قال الزجاج الفراش هو الحيوان الذي يتهافت في النار وسمي فراشاً لتفرشه وانتشاره ثم إنه تعالى شبه الخلق وقت البعث ههنا بالفراش المبثوث وفي آية أخرى بالجراد المنتشر أما وجه التشبيه بالفراش فلأن الفراش(32/68)
إذا ثار لم يتجه لجهة واحدة بل كل واحدة منها تذهب إلى غير جهة الأخرى يدل هذا على أنهم إذا بعثوا فزعوا واختلفوا في المقاصد على جهات مختلفة غير معلومة والمبثوث المفرق يقال بثه إذا فرقه وأما وجه التشبيه بالجراد فهو في الكثرة قال الفراء كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضاً وبالجملة فالله سبحانه وتعالى شبه الناس في وقت البعث بالجراد المنتشر وبالفراش المبثوث لأنهم لما بعثوا يموج بعضهم في بعض كالجراد والفراش ويأكد ما ذكرنا بقوله تعالى فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً وقوله يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وقوله في قصة يأجوج ومأجوج وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ فإن قيل الجراد بالنسبة إلى الفراش كبار فكيف شبه الشيء الواحد بالصغير والكبير معاً قلنا شبه الواحد بالصغير والكبير لكن في وصفين أما التشبيه بالفراش فبذهاب كل واحدة إلى غير جهة الأخرى وأما بالجراد فبالكثرة والتتابع ويحتمل أن يقال إنها تكون كباراً أولاً كالجراد ثم تصير صغاراً كالفراش بسبب احتراقهم بحر الشمس وذكروا في التشبيه بالفراش وجوهاً أخرى أحدها ما روى أنه عليه السلام قال ( الناس عالم ومتعلم وسائر الناس همج رعاع ) فجعلهم الله في الأخرى كذلك جَزَاء وِفَاقاً وثانيها أنه تعالى إنما أدخل حرف التشبيه فقال كَالْفَرَاشِ لأنهم يكونون في ذلك اليوم أذل من الفراش لأن الفراش لا يعذب وهؤلاء يعذبون ونظيره كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
الصفة الثانية من صفات ذلك اليوم قوله تعالى وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ العهن الصوف ذو الألوان وقد مر تحقيقه عند قوله وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ والنفش فك الصوف حتى ينتفش بعضه عن بعض وفي قراءة ابن مسعود كالصوف المنفوش
واعلم أن الله تعالى أخبر أن الجبال مختلفة الألوان على ما قال وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ثم إنه سبحانه يفرق أجزاءها ويزيل التأليف والتركيب عنها فيصبر ذلك مشابهاً للصوف الملون بالألوان المختلفة إذا جعل منفوشاً وههنا مسائل
المسألة الأولى إنما ضم بين حال الناس وبين حال الجبال كأنه تعالى نبه على أن تأثير تلك القرعة في الجبال هو أنها صارت كالعهن المنفوش فكيف يكون حال الإنسان عند سماعهاا فالويل ثم الويل لابن آدم إن لم تتداركه رحمة ربه ويحتمل أن يكون المراد أن جبال النار تصير كالعهن المنفوش لشدة حمرتها
المسألة الثانية قد وصف الله تعالى تغير الأحوال على الجبال من وجوه أولها أن تصير قطعاً كما قال دُكَّتِ الاْرْضُ دَكّاً وثانيها أن تصير كثيباً مهيلاً كما قال وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَة ً وَهِى َ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ثم تصير كالعهن المنفوش وهي أجزاء كالذر تدخل من كوة البيت لا تمسها الأيدي ثم قال في الرابع تصير سراباً كما قال وَسُيّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً
المسألة الثالثة لم يقل يوم يكون الناس كالفراش المبثوث والجبال كالعهن المنفوش بل قال وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ لأن التكوير في مثل هذا المقام أبلغ في التحذير(32/69)
فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ
واعلم أنه تعالى لماوصف يوم القيامة قسم الناس فيه إلى قسمين فقال فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ واعلم أن في الموازين قولين أحدهما أنه جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله وهذا قول الفراء قال ونظيره يقال عندي درهم بميزان درهمك ووزن درهمك وداري بميزان دارك ووزن دارك أي بحذائها والثاني أنه جمع ميزان قال ابن عباس الميزان له لسان وكفتان لا يوزن فيه إلا الأعمال فيؤتى بحسنات المطيع في أحسن صورة فإذا رجح فالجنة له ويؤتى بسيئات الكافر في أقبح صورة فيخف وزنه فيدخل النار وقال الحسن في الميزان له كفتان ولا يوصف قال المتكلمون إن نفس الحسنات والسيئات لا يصح وزنهما خصوصاً وقد نقضيا بل المراد أن الصحف المكتوب فيها الحسنات والسيئات توزن أو يجعل النور علامة الحسنات والظلمة علامة السيئات أو تصور صحيفة الحسنات بالصورة الحسنة وصحيفة السيئات بالصورة القبيحة فيظهر بذلك الثقل والخفة وتكون الفائدة في ذلك ظهور حال صاحب الحسنات في الجمع العظيم فيزداد سروراً وظهور حال صاحب السيئات فيكون ذلك كالفضيحة له عند الخلائق
فَهُوَ فِى عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ
أما قوله تعالى فَهُوَ فِى عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ فالعيشة مصدر بمعنى العيش كالخيفة بمعنى الخوف وأما الراضية فقال الزجاج معناه أي عيشة ذات رضا يرضاها صاحبها وهي كقولهم لابن وتامر بمعنى ذو لبن وذو تمر ولهذا قال المفسرون تفسيرها مرضية على معنى يرضاها صاحبها
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ
ثم قال تعالى وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أي قلت حسناته فرجحت السيئات على الحسنات قال أبو بكر رضي الله عنه إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلاً وإنما خفت موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفاً وقال مقاتل إنما كان كذلك لأن الحق ثقيل والباطل خفيف
أما قوله تعالى فَأُمُّهُ هَاوِيَة ٌ ففيه وجوه أحدها أن الهاوية من أسماء النار وكأنها النار العميقة يهوى أهل النار فيها مهوى بعيداً والمعنى فمأواه النار وقيل للمأوى أم على سبيل التشبيه بالأم التي لا يقع الفزع من الولد إلا إليها وثانيها فأم رأسه هاوية في النار ذكره الأخفش والكلبي وقتادة قال لأنهم يهوون في النار على رؤوسهم وثالثها أنهم إذا دعوا على الرجل بالهلاك قالوا هوت أمه لأنه إذا هوى أي سقط وهلك فقد هوت أمه حزناً وثكلاً فكأنه قيل وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فقد هلك
فَأُمُّهُ هَاوِيَة ٌ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ
ثم قال تعالى وَمَا أَدْرَاكَ قال صاحب الكشاف هيه ضمير الداهية التي دل عليها قوله(32/70)
مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَة ٌ في التفسير الثالث أو ضمير هاوية والهاء للسكت فإذا وصل جاز حذفها والاختيار الوقف بالهاء لاتباع المصحف والهاء ثابتة فيه وذكرنا الكلام في هذه الهاء عند قوله لَمْ يَتَسَنَّهْ فَبِهُدَاهُمُ الْقَاضِيَة َ مَا أَغْنَى عَنّى مَالِيَهْ
نَارٌ حَامِيَة ٌ
ثم قال تعالى نَارٌ حَامِيَة ٌ والمعنى أن سائر النيران بالنسبة إليها كأنها ليست حامية وهذا القدر كاف في التنبيه على قوة سخونتها نعوذ بالله منها ومن جميع أنواع العذاب ونسأله التوفيق وحسن المآب رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ(32/71)
سورة التكاثر
ثمان آيات مكية
أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ
أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ فيه مسائل
المسأة الأولى الإلهاء الصرف إلى اللهو واللهو الانصراف إلى ما يدعو إليه الهوى ومعلوم أن الانصراف إلى الشيء يقتضي الإعراض عن غيره فلهذا قال أهل اللغة ألهاني فلان عن كذا أي أنساني وشغلني ومنه الحديث ( أن الزبير كان سمع صوت الرعد لهى عن حديثه ) أن تركه وأعرض عنه وكل شيء تركته فقد لهيت عنه والتكاثر التباهي بكثرة المال والجاه والمناقب يقال تكاثر القوم تكاثراً إذا تعادلوا مالهم من كثرة المناقب وقال أبو مسلم التكاثر تفاعل عن الكثرة والتفاعل يقع على أحد وجوه ثلاثة يحتمل أن يكون بين الإثنين فيكون مفاعله ويحتمل تكلف الفعل تقول تكارهت على كذا إذا فعلته وأنت كاره وتقول تباعدت عن الأمر إذا تكلفت العمى عنه وتقول تغافلت ويحتمل أيضاً الفعل بنفسه كما تقول تباعدت عن الأمر أي بعدت عنه ولفظ التكاثر في هذه الآية ويحتمل الوجهين الأولين فيحتمل التكاثر بمعنى المفاعلة لأنه كم من إثنين يقول كل واحد منهما لصاحبه أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ويحتمل تكلف الكثرة فإن الحريص يتكلف جميع عمره تكثير ماله واعلم أن التفاخر والتكاثر شيء واحد ونظير هذه الآية قوله تعالى وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ
المسألة الثانية اعلم أن التفاخر إنما يكون بإثبات الإنسان نوعاً من أنواع السعادة لنفسه وأجناس السعادة ثلاثة
فأحدها في النفس والثانية في البدن والثالثة فيما يطيف بالبدن من خارج أما التي في النفس(32/72)
فهي العلوم والأخلاق الفاضلة وهما المرادان بقوله حكاية عن إبراهيم رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وبهما ينال البقاء الأبدي والسعادة السرمدية
وأما التي في البدن فهي الصحة والجمال وهي المرتبة الثانية وأما التي تطيف بالبدن من خارج فقسمان ة أحدهما ضروري وهو المال والجاه والآخر غير ضروري وهو الأقرباء والأصدقاء وهذا الذي عددناه في المرتبة الثالثة إنما يراد كله للبدن بدليل أنه إذا تألم عضو من أعضائه فإنه يجعل المال والجاه فداء له
وأما السعادة البدنية فالفضلاء من الناس إنما يريدونها للسعادة النفسانية فإنه ما لم يكن صحيح البدن لم يتفرغ لاكتساب السعادات النفسانية الباقية إذا عرفت هذا فنقول العاقل ينبغي أن يكون سعيه في تقديم الأهم على المهم فالتفاخر بالمال والجاه والأعوان والأقرباء تفاخر بأخس المراتب من أسباب السعادات والاشتغال به يمنع الإنسان من تحصيل السعادة النفسانية بالعلم والعمل فيكون ذلك ترجيحاً لأخس المراتب في السعادات على أشرف المراتب فيها وذلك يكون عكس الواجب ونقيض الحق فلهذا السبب ذمهم الله تعالى فقال أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ ويدخل فيه التكاثر بالعدد وبالمال والجاه والأقرباء والأنصار والجيش وبالجملة فيدخل فيه التكاثر بكل ما يكون من الدنيا ولذاتها وشهواتها
المسألة الثالثة قوله أَلْهَاكُمُ يحتمل أن يكون إخباراً عنهم ويحتمل أن يكون استفهاماً بمعنى التوبيخ والتقويع أي أألهاكم كما قرىء أنذرتهم وأأنذرتهم وإذا كنا عظاماً وأئذا كنا عظاماً
المسألة الرابعة الآية دلت على أن التكاثر والتفاخر مذموم والعقل دل على إن التكاثر والتفاخر في السعادات الحقيقية غير مذموم ومن ذلك ما روى من تفاخر العباس بأن السقاية بيده وتفاخر شيبة بأن المفتاح بيده إلى أن قال علي عليه السلام وأنا قطعت خرطوم الكفر بسيفي فصار الكفر مثلة فأسلمتم فشق ذلك عليهم فنزل قوله تعالى أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة َ الْحَاجّ الآية وذكرنا في تفسير قوله تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَة ِ رَبّكَ فَحَدّثْ أنه يجوز للإنسان أن يفتخر بطاعاته ومحاسن أخلاقه إذا كان يظن أن غيره يقتدي به فثبت أن مطلق التكاثر ليس بمذموم بل التكاثر في العلم والطاعة والأخلاق الحميدة هو المحمود وهو أصل الخيرات فالألف واللام في التكاثر ليسا للاستغراق بل للمعهود السابق وهو التكاثر في الدنيا ولذاتها وعلائقها فإنه هو الذي يمنع عن طاعة الله تعالى وعبوديته ولما كان ذلك مقرراً في العقول ومتفقاً عليه في الأديان لا جرم حسن إدخال حرف التعريف عليه
المسألة الخامسة في تفسير الآية وجوه أحدها أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ بالعدد روى أنها نزلت في بني سهم وبني عبد مناف تفاخروا أيهم أكثر فكان بنو عبد مناف أكثر فقال بنو سهم عدواً مجموع أحيائنا وأمواتنا مع مجموع أحيائكم وأمواتكم ففعلوا فزاد بنو سهم فنزلت الآية وهذه الرواية مطابقة لظاهر القرآن لأن قوله حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ يدل على أنه أمر مضى فكأنه تعالى يعجبهم من أنفسهم ويقول هب أنكم أكثر منهم عدداً فماذا ينفع والزيارة إتيان الموضع وذلك يكون لأغراض كثيرة وأهمها وأولاها بالرعاية ترقيق القلب وإزالة حب الدنيا فإن مشاهدة القبور تورث ذلك على ما قال عليه السلام ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإن في زيارتها تذكرة ) ثم إنكم زرتم القبور بسبب قساوة القلب والاستغراق في(32/73)
حب الدنيا فلما انعكست هذه القضية لا جرم ذكر الله تعالى ذلك في معرض التعجيب
والقول الثاني أن المراد هو التكاثر بالمال واستدلوا عليه بما روى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أنه عليه السلام كان يقرأ أَلْهَاكُمُ وقال ابن آدم يقول مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنبت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت والمراد من قوله حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ أي حتى متم وزيارة القبر عبارة عن الموت يقال لمن مات زار قبره وزار رمسه قال جرير للأخطل
زار القبور أبو مالك
فأصبح ألأم زوارها أي مات فيكون معنى الآية ألهاكم حرصكم على تكثير أموالكم عن طاعة ربكم حتى أتاكم الموت وأنتم على ذلك يقال حمله على هذا الوجه مشكل من وجهين الأول أن الزائر هو الذي يزور ساعة ثم ينصرف والميت يبقى في قبره فكيف يقال إنه زار القبر والثاني أن قوله حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ إخبار عن الماضي فكيف يحمل على المستقبل والجواب عن السؤال الأول أنه قد يمكث الزائر لكن لا بد له من الرحيل وكذا أهل القبور يرحلون عنها إلى مكان الحساب والجواب عن السؤال الثاني من وجوه أحدها يحتمل أن يكون المراد من كان مشرفاً على الموت بسبب الكبر ولذلك يقال فيه إنه على شفير القبر وثانيها أن الخبر عمن تقدمهم وعظاً لهم فهو كالخبر عنهم لأنهم كانوا على طريقتهم ومنه قوله تعالى وَيَقْتُلُونَ وثالثها قال أبو مسلم إن الله تعالى يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعييراً للكفار وهم في ذلك الوقت قد تقدمت منهم زيارة القبور
القول الثالث حَامِيَة ٌ أَلْهَاكُمُ الحرص على المال وطلب تكثيره حتى منعتم الحقوق المالية إلى حين الموت ثم تقول في تلك الحالة أوصيت لأجل الزكاة بكذا ولأجل الحج بكذا
القول الرابع أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ فلا تلتفتون إلى الدين بل قلوبكم كأنها أحجار لا تنكسر البتة إلا إذا زرتم المقابر هكذا ينبغي أن تكون حالكم وهو أن يكون حظكم من دينكم ذلك القدر القليل من الانكسار ونظيره قوله تعالى قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ أي لا أقنع منكم بهذا القدر القليل من الشكر
المسألة السادسة أنه تعالى لم يقل أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ عن كذا وإنما لم يذكره لأن المطلق أبلغ في الذم لأنه يذهب الوهم فيه كل مذهب فيدخل فيه جميع ما يحتمله الموضع أي ألهاكم التكاثر عن ذكر الله وعن الواجبات والمندوبات في المعرفة والطاعة والتفكر والتدبر أو نقول إن نظرنا إلى ما قبل هذه الآية فالمعنى ألهاكم التكاثر عن التدبر في أمر القارعة والاستعداد لها قبل الموت وإن نظرنا إلى الأسفل فالمعنى ألهاكم التكاثر فنسيتم القبر حتى زرتموه
كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ
أما قوله تعالى كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ فهو يتصل بما قبله وبما بعده أما الأول(32/74)
فعلى وجه الرد والتكذيب أي ليس الأمر كما يتوهممه هؤلاء من أن السعادة الحقيقية بكثرة العدد والأولاد وأما اتصاله بما بعده فعلى معنى القسم أي حقاً سوف تعلمون لكن حين يصير الفاسق تائباً والكافر مسلماً والحريص زاهداً ومنه قول الحسن لا يغرنك كثرة من ترى حولك فإنك تموت وحدك وتحاسب وحدك وتقريره يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء وَيَأْتِينَا فَرْداً وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى إلى أن قال وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وهذا يمنعك عن التكاثر وذكروا في التكوير وجوهاً أحدها أنه للتأكيد وأنه وعيد بعد وعيد كما تقول للمنصوح أقول لك ثم أقول لك لا تفعل وثانيها أن الأول عند الموت حيث يقال له لا بشرى والثاني في سؤال القبر من ربك والثالث عند النشور حين ينادي المنادي فلأن شقى شقاوة لا سعادة بعدها أبداً وحين يقال وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ وثالثها عن الضحاك سوف تعلمون أيها الكفار ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ أيها المؤمنون وكان يقرؤها كذلك فالأول وعيد والثاني وعد ورابعها أن كل أحد يعلم قبح الظلم والكذب وحسن العدل والصدق لكن لا يعرف قدر آثارها ونتائجها ثم إنه تعالى يقول سوف تعلم العلم المفضل لكن التفصيل يحتمل الزائد فمهما حصلت زيادة لذة ازداد علماً وكذا في جانب العقوبة فقسم ذلك على الأحواس فعند المعاينة يزداد ثم عند البعث ثم عند الحساب ثم عند دخول الجنة والنار فلذلك وقع التكرير وخامسها أن إحدى الحالتين عذاب القبر والأخرى عذاب القيامة كما روى عن ذر أنه قال كنت أشك في عذاب القبر حتى سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول إن هذه الآية تدل على عذاب القبر وإنما قال ثُمَّ لأن بين العالمين والحياتين موتاً
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ
ثم قال تعالى كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ وفيه مسائل
المسألة الأولى اتفقوا على أن جواب لو محذوف وأنه ليس قوله لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جواب لو ويدل عليه وجهان أحدهما أن ما كان جواب لو فنفيه إثبات وإثباته نفي فلو كان قوله لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جواباً للو لوجب أن لا تحصل هذه الرؤية وذلك باطل فإن هذه الرؤية واقعة قطعاً فإن قيل المراد من هذه الرؤية رؤيتها بالقلب في الدنيا ثم إن هذه الرؤية غير واقعة قلنا ترك الظاهر خلاف الأصل والثاني أن قوله ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ إخبار عن أمر سيقع قطعاً فعطفه على مالا يوجد ولا يقع قبيح في النظم واعلم أن ترك الجواب في مثل هذا المكان أحسن يقول الرجل للرجل لو فعلت هذا أي لكان كذا قال الله تعالى لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ ولم يجيء له جواب وقال وَلَوْ تَرَى إِذَا وُقِفُواْ عَلَى رَبّهِمْ إذا عرفت هذا فنقول ذكروا في جواب لو وجوهاً أحدها قال الأخفش لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ما ألهاكم التكاثر وثانيها قال أبو مسلم لو علمتم ماذا يجب عليكم لتمسكتم به أو لو علمتم لأي أمر خلقتم لاشتغلتم به وثالثها أنه حذف الجواب ليذهب الوهم كل مذهب فيكون التهويل أعظم وكأنه قال لَوْ عَلِمْتُمُ عِلْمَ الْيَقِينِ لفعلتم مالا يوصف ولا يكتنه ولكنكم ضلال وجهلة وأما قوله لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ فاللام يدل على أنه جواب قسم محذوف والقسم لتوكيد الوعيد وأن ما أوعدا به مما لا مدخل فيه للريب وكرره معطوفاً بثم تغليظاً للتهديد وزيادة في التهويل(32/75)
المسألة الثانية أنه تعالى أعاد لفظ كلا وهو للزجر وإنما حسنت الإعادة لأنه عقبه في كل موضع بغير ما عقب به الموضع الآخر كأنه تعالى قال لا تفعلوا هذا فإنكم تستحقون به من العذاب كذا لا تفعلوا هذا فإنكم تستوجبون به ضرراً آخر وهذا التكرير ليس بالمكروه بل هو مرضي عندهم وكان الحسن رحمه الله يجعل معنى كَلاَّ في هذا الموضع بمعنى حقاً كأنه قيل حقاً لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ
المسألة الثالثة في قوله عِلْمَ الْيَقِينِ وجهان أحدهما أن معناه علماً يقيناً فأضيف الموصوف إلى الصفة كقوله تعالى وَلَدَارُ الاْخِرَة ِ وكما يقال مسجد الجامع وعام الأول والثاني أن اليقين ههنا هو الموت والبعث والقيامة وقد سمي الموت يقيناً في قوله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ولأنهما إذا وقعا جاء اليقين وزال الشك فالمعنى لو تعلمون علم الموت وما يلقى الإنسان معه وبعده في القبر وفي الآخرة لم يلهكم التكاثر والتفاخر عن ذكر الله وقد يقول الإنسان أنا أعلم علم كذا أي أتحققه وفلان يعلم علم الطب وعلم الحساب لأن العلوم أنواع فيصلح لذلك أن يقال علمت علم كذا
المسألة الرابعة العلم من أشد البواعث على العمل فإذا كان وقت العمل أمامه كان وعداً وعظة وإن كان بعد وفاة وقت العمل فحينئذ يكون حسرة وندامة كما ذكر أن ذا القرنين لما دخل الظلمات ( وجد خرزاً ) فالذين كانوا معه أخذوا من تلك الخرز فلما خرجوا من الظلمات وجدوها جواهر ثم الأخذون كانوا في الغم أي لما لم يأخذوا أكثر مما أخذوا والذين لم يأخذوا كانوا أيضاً في الغم فهكذا يكون أحوال أهل القيامة
المسألة الخامسة في الآية تهديد عظيم للعلماء فإنها دلت على أنه لو حصل اليقين بما في التكاثر والتفاخر من الآفة لتركوا التكاثر والتفاخر وهذا يقتضي أن من لم يترك التكاثر والتفاخر لا يكون اليقين حاصلاً له فالويل للعالم الذي لا يكون عاملاً ثم الويل له
المسألة السادسة في تكرار الرؤية وجوه أحدها أنه لتأكيد الوعيد أيضاً لعل القوم كانوا يكرهون سماع الوعيد فكرر لذلك ونون للتأكيد تقتضي كون تلك الرؤية اضطرارية يعني لو خليتم ورأيكم ما رأيتموها لكنكم تحملون على رؤيتها شئتم أم أبيتم وثانيها أن أولهما الرؤية من البعيد إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وقوله وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى والرؤية الثانية إذا صاروا إلى شفير النار وثالثها أن الرؤية الأولى عند الورود والثانية عند الدخول فيها قيل هذا التفسير ليس بحسن لأنه قال ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ والسؤال يكون قبل الدخول ورابعها الرؤية الأولى للوعد والثانية المشاهدة وخامسها أن يكون المراد لترون الجحيم غير مرة فيكون ذكر الرؤية مرتين عبارة عن تتابع الرؤية واتصالها لأنهم مخلدون في الجحيم فكأنه قيل لهم على جهة الوعيد لئن كنتم اليوم شاكين فيها غير مصدقين بها فسترونها رؤية دائمة متصلة فتزول عنكم الشكوك وهو كقوله مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ إِلَى قَوْلُهُ فَارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ بمعنى لو أعدت النظر فيها ما شئت لم تجد فطوراً ولم يرد مرتين فقط فكذا ههنا إن قيل ما فائدة تخصيص الرؤية الثانية باليقين قلنا لأنهم في المرة الأولى رأوا لهباً لا غير وفي المرة الثانية رأوا نفس الحفرة وكيفية السقوط فيها وما فيها من الحيوانات المؤذية ولا شك(32/76)
أن هذه الرؤية أجلى والحكمة في النقل من العلم الأخفى إلى الأجلى التفريع على ترك النظر لأنهم كانوا يقتصرون على الظن ولا يطلبون الزيادة
المسألة السابعة قراءة العامة لترون بفتح التاء وقرىء بضمها من رأيته الشيء والمعنى أنهم يحشرون إليها فيرونها وهذه القراءة تروي عن ابن عامر والكسائي كأنهما أرادا لترونها فترونها ولذلك قرأ الثانية ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا بالفتح وفي هذه الثانية دليل على أنهم إذا أروها رأوها وفي قراءة العامة الثانية تكرير للتأكيد ولسائر الفوائد التي عددناها واعلم أن قراءة العامة أولى لوجهين الأول قال الفراء قراءة العامة أشبه بكلام العرب لأنه تغليظ فلا ينبغي أن الجحيم لفظه الثاني قال أبو علي المعنى في لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ لترون عذاب الجحيم ألا ترى أن الجحيم يراها المؤمنون أيضاً بدلالة قوله وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا وإذا كان كذلك كان الوعيد في رؤية عذابها لا في رؤية نفسها يدل على هذا قوله إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ وقوله وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ وهذا يدل على أن لترون أرجح من لترون
ثُمَّ لَتُسْألُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ
قوله تعالى الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ فيه قولان
المسألة الأولى في أن الذي يسأل عن النعيم من هو فيه قولان
أحدهما وهو الأظهر أنهم الكفار قال الحسن لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار ويدل عليه وجهان الأول ما روى أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية قال يا رسول الله أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان من خبز شعير ولحم وبسر وماء عذب أن تكون من النعيم الذي نسأل عنه فقال عليه الصلاة والسلام إنما ذلك للكفار ثم قرأ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ والثاني وهو أن ظاهر الآية يدل على ما ذكرناه وذلك لأن الكفار ألهاهم التكاثر بالدنيا والتفاخر بلذاتها عن طاعة الله تعالى والاشتغال بشكره فالله تعالى يسألهم عنها يوم القيامة حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه سبباً لسعادتهم هو كان من أعظم أسباب الشقاء لهم في الآخرة
والقول الثاني أنه عام في حق المؤمن والكافر واحتجوا بأحاديث روى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة عن النعيم فيقال له ألم نصحح لك جسمك ونروك من المار البارد ) وقال محمود بن لبيد لما نزلت هذه السورة قالوا يا رسول الله عن أبي نعيم نسأل إنما هما الماء والتمر وسيوفنا على عواتقنا والعدو حاضر فعن أي نعيم نسأل قال ( إن ذلك سيكون ) وروى عن عمر أنه قال أي نعيم نسأل عنه يا رسول الله وقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ظلال المساكن والأشجار والأخبية التي تقيكم من الحر والبرد والماء البارد في اليوم الحار ) وقريب منه ( من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ) وروى أن شاباً أسلم في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فعلمه رسول الله سورة ألهاكم ثم زوجه رسول الله امرأة فلما دخل عليها ورآى الجهاز العظيم والنعيم الكثير خرج وقال لا أريد ذلك فسأله النبي عليه الصلاة والسلام عنه فقال ألست علمتني ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ(32/77)
وأنا لا أطيق الجواب عن ذلك وعن أنس لما نزلت الآية قام محتاج فقال هل علي من النعمة شيء قال الظل والنعلان والماء البارد وأشهر الأخبار في هذا ما روى أنه عليه الصلاة والسلام خرج ذات ليلة إلى المسجد فلم يلبث أن جاء أبو بكر فقال ما أخرجك يا أبا بكر قال الجوع قال والله ما أخرجني إلا الذي أخرجك ثم دخل عمر فقال مثل ذلك فقال قوموا بنا إلى منزل أبي الهيثم فدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الباب وسلم ثلاث مرات فلم يجب أحد فانصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فخرجت امرأته تصيح كنا نسمع صوتك لكن أردنا أن تزيد من سلامك فقال لها خيراً ثم قالت بأبي أنت وأمي إن أبا الهيثم خرج يستعذب لنا الماء ثم عمدت إلى صاع من شعير فطحنته وخبزته ورجع أبو الهيثم فذبح عناقاً وأتاهم بالرطب فأكلوا وشربوا فقال عليه الصلاة والسلام ( هذا من النعيم الذي تسألون عنه ) وروى أيضاً ( لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع عن عمره وماله وشبابه وعمله ) وعن معاذ عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أن العبد ليسأل يوم القيامة حتى عن كحل عينيه وعن فتات الطينة بأصبعه عن لمس ثوب أخيه ) واعلم أن الأولى أن يقال السؤال يعم المؤمن والكافر لكن سؤال الكافر توبيخ لأنه ترك الشكر وسؤال المؤمن سؤال تشريف لأنه شكر وأطاع
المسألة الثانية ذكروا في النعيم المسئول عنه وجوهاً أحدها ما روى أنه خمس شبع البطون وبارد الشراب ولذة النوم وإظلال المساكن واعتدال الخلق وثانيها قال ابن مسعود إنه الأمن والصحة والفراغ وثالثها قال ابن عباس إنه الصحة وسائر ملاذ المأكول والمشروب ورابعها قال بعضهم الانتفاع بإدراك السمع والبصر وخامسها قال الحسن بن الفضل تخفيف الشرائع وتيسير القرآن وسادسها قال ابن عمر إنه الماء البارد وسابعها قال الباقر إنه العافية ويروى أيضاً عن جابر الجعفي قال دخلت على الباقر فقال ما تقول أرباب التأويل في قوله ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ فقلت يقولون الظل والماء البارد فقال لو أنك أدخلت بيتك أحداً وأقعدته في ظل وأسقيته ماء بارداً أتمن عليه فقلت لا قال فالله أكرم من أن يطعم عبده ويسقيه ثم يسأله عنه فقلت ما تأويله قال النعيم هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنعم الله به على هذا العالم فاستنقذهم به من الضلالة أما سمعت قوله تعالى لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً الآية القول الثامن إنما يسألون عن الزائد مما لا بد منه من مطعم وملبس ومسكن والتاسع وهو الأولى أنه يجب حمله على جميع النعم ويدل عليه وجوه أحدها أن الألف واللام يفيدان الاستغراق وثانيها أنه ليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى الباقي لاسيما وقد دل الدليل على أن المطلوب من منافع هذه الدنيا اشتغال العبد بعبودية الله تعالى وثالثها أنه تعالى قال خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ والمراد منه جميع النعم من فلق البحر والإنجاء من فرعون وإنزال المن والسلوى فكذا ههنا ورابعها أن النعيم التام كالشيء الواحد الذي له أبعاض وأعضاء فإذا أشير إلى النعيم فقد دخل فيه الكل كما أن الترياق اسم للمعجون المركب من الأدوية الكثيرة فإذا ذكر الترياق فقد دخل الكل فيه
واعلم أن النعم أقسام فمنها ظاهرة وباطنة ومنها متصلة ومنفصلة ومنها دينية ودنيوية وقد ذكرنا أقسام السعادات بحسب الجنس في تفسير أول هذه السورة وأما تعديدها بحسب النوع والشخص فغير ممكن على ما قاله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا واستعن في معرفة نعم الله(32/78)
عليك في صحة بدنك بالأطباء ثم هم أشد الخلق غفلة وفي معرفة نعم الله عليك بخلق السموات والكواكب بالمنجمين وهم أشد الناس جهلاً بالصانع وفي معرفة سلطان الله بالملوك ثم هم أجهل الخلق وأما الذي يروى عن ابن عمر أنه الماء البارد فمعناه هذا من جملته ولعله إنما خصه بالذكر لأنه أهون موجود وأعز مفقود ومنه قول ابن السماك للرشيد أرأيت لو احتجت إلى شربة ماء في فلاة أكنت تبذل فيه نصف الملك فلا تغتر بملك كانت الشربة الواحدة من الماء قيمته مرتين أو لأن أهل النار يطلبون الماء أشد من طلبهم لغيره قال تعالى أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أو لأن السورة نزلت في المترفين وهم المختصون بالماء البارد والظل والحق أن السؤال يعم المؤمن والكافر عن جميع النعيم سواء كان مما لا بد منه ( أولاً ) وليس كذلك لأن كل ذلك يجب أن يكون مصروفاً إلى طاعة الله لا إلى معصيته فيكون السؤال واقعاً عن الكل ويؤكده ما روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ( لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل به ) فكل النعيم من الله تعالى داخل فيما ذكره عليه الصلاة والسلام
المسألة الثالثة اختلفوا في أن هذا السؤال أين يكون
فالقول الأول أن هذا السؤال إنما يكون في موقف الحساب فإن قيل هذا لا يستقيم لأنه تعالى أخبر أن هذا السؤال متأخر عن مشاهدة جهنم بقوله ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ وموقف السؤال متقدم على مشاهدة جهنم قلنا المراد من قوله ثُمَّ أي ثم أخبركم أنكم تسألون يوم القيامة وهو كقوله فَكُّ رَقَبَة ٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَة ٍ إلى قوله ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ
القول الثاني أنهم إذا دخلوا النار سئلوا عن النعيم توبيخاً لهم كما قال كُلَّمَا أُلْقِى َ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا وقال مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ ولا شك أن مجيء الرسول نعمة من الله فقد سئلوا عنه بعد دخولهم النار أو يقال إنهم إذا صاروا في الجحيم وشاهدوها يقال لهم إنما حل بكم هذا العذاب لأنكم في دار الدنيا اشتغلتم بالنعيم عن العمل الذي ينجيكم من هذه النار ولو صرفتم عمركم إلى طاعة ربكم لكنتم اليوم من أهل النجاة الفائزين بالدرجات فيكون ذلك من الملائكة سؤالاً عن نعيمهم في الدنيا والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(32/79)
سورة العصر
ثلاث آيات مكية
وَالْعَصْرِ
وَالْعَصْرِ اعلم أنهم ذكروا في تفسير العصر أقوالاً
الأول أنه الدهر واحتج هذا القائل بوجوه أحدها ما روى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه أقسم بالدهر وكان عليه السلام يقرأ والعصر ونوائب الدهر إلا أنا نقول هذا مفسد للصلاة فلا نقول إنه قرأه قرآناً بل تفسيراً ولعله تعالى لم يذكر الدهل لعلمه بأن الملحد مولع بذكره وتعظيمه ومن ذلك ذكره في هَلْ أَتَى رداً على فساد قولهم بالطبع والدهر وثانيها أن الدهر مشتمل على الأعاجيب لأنه يحصل فيه السراء والضراء والصحة والسقم والغنى والفقر بل فيه ما هو أعجب من كل عجب وهو أن العقل لا يقوى على أن يحكم عليه بالعدم فإنه مجزأ مقسم بالسنة والشهر واليوم والساعة ومحكوم عليه بالزيادة والنقصان والمطابقة وكونه ماضياً ومستقبلاً فكيف يكون معدوماً ولا يمكنه أن يحكم عليه بالوجود لأن الحاضر غير قابل للقسمة والماضي والمستقبل معدومان فكيف يمكن الحكم عليه بالوجود وثالثها أن بقية عمر المرء لا قيمة له فلو ضيعت ألف سنة ثم تبث في اللمحة الأخيرة من العمر بقيت في الجنة أبد الآباد فعلمت حينئذ أن أشرف الأشياء حياتك في تلك اللمحة فكأن الدهر والزمان من جملة أصول النعم فلذلك أقسم به ونبه على أن الليل والنهار فرصة يضيعها المكلف وإليه الإشارة بقوله وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَة ً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً ورابعها وهو أن قوله تعالى في سورة الأنعام قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُلِ اللَّهُ إشارة إلى المكان والمكانيات ثم قال وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وهو إشارة إلى الزمان والزمانيات وقد بينا هناك أن الزمان(32/80)
أعلم وأشرف من المكان فلما كان كذلك كان القسم بالعصر قسماً بأشرف النصفين من ملك الله وملكوته وخامسها أنهم كانوا يضيفون الخسران إلى نوائت الدهر فكأنه تعالى أقسم على أن الدهر والعصر نعمة حاصلة لا عيب فيها إنما الخاسر المعيب هو الإنسان وسادسها أنه تعالى ذكر العصر الذي بمضيه ينتقص عمرك فإذا لم يكن في مقابلته كسب صار ذلك النقصان عن الخسران ولذلك قال لَفِى خُسْرٍ ومنه قول القائل
إنا لنفرح بالأيام نقطعها
وكل يوم مضى نقص من الأجل فكأن المعنى والعصر العجيب أمره حيث يفرح الإنسان بمضيه لظنه أنه وجد الربح مع أنه هدم لعمره وإنه لفي خسر والقول الثاني وهو قول أبي مسلم المراد بالعصر أحد طرفي النهار والسبب فيه وجوه أحدها أنه أقسم تعالى بالعصر كما أقسم بالضحى لما فيهما جميعاً من دلائل القدرة فإن كل بكرة كأنها القيامة يخرجون من القبور وتصير الأموات أحياء ويقام الموازين وكل عشية تشبه تخريب الدنيا بالصعق والموت وكل واحد من هاتين الحالتين شاهد عدل ثم إذا لم يحكم الحاكم عقيب الشاهدين عد خاسراً فكذا الإنسان الغافل عنهما في خسر وثانيها قال الحسن رحمه الله إنما أقسم بهذا الوقت تنبيهاً على أن الأسواق قد دنا وقت انقطاعها وانتهاء التجارة والكسب فيها فإذا لم تكتسب ودخلت الدار وطاف العيال عليك يسألك كل أحد ما هو حقه فحينئذ تخجل فتكون من الخاسرين فكذا نقول والعصر أي عصر الدنيا قد دنت القيامة و ( أنت ) بعد لم تستعد وتعلم أنك تسأل غداً عن النعيم الذي كنت فيه في دنياك وتسأل في معاملتك مع الخلق وكل أحد من المظلومين يدعي ما عليك فءذا أنت خاسر ونظيره اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَة ٍ مُّعْرِضُونَ وثالثها أن هذا الوقت معظم والدليل عليه قوله عليه السلام ( من حلف بعد العصر كاذباً لا يكلمه الله ولا ينظر إليه يوم القيامة ) فكما أقسم في حق الرابح بالضحى فكذا أقسم في حق الخاسر بالعصر وذلك لأنه أقسم بالضحى في حق الرابح وبشر الرسول أن أمره إلى الإقبال وههنا في حق الخاسر توعده أن أمره إلى الإدبار ثم كأنه يقول بعض النهار باق فيحثه على التدارك في البقية بالتوبة وعن بعض السلف تعلمت معنى السورة من بائع الثلج كان يصيح ويقول ارحموا من يذوب رأسه ماله ارحموا من يذوب رأس ماله فقلت هذا معنى إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ يمر به العصر فيمضي عمره ولا يكتسب فإذا هو خاسر
القول الثالث وهو قول مقاتل أراد صلاة العصر وذكروا فيه وجوهاً أحدها أنه تعالى أقسم بصلاة العصر لفضلها بدليل قوله حَافِظُواْ عَلَى صلاة العصر في مصحف حفصة وقيل في قوله تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلواة ِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إنها صلاة العصر وثانيها قوله عليه السلام ( من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ) وثالثها أن التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار واشتغالهم بمعايشهم ورابعها روى أن امرأة كانت تصيح في سكك المدينة وتقول دلوني على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فرآها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسألها ماذا حدث قالت يا رسول الله إن زوجي غاب عني فزنيت فجاءني ولد من الزنا فألقيت الولد في دن من الخل حتى مات ثم بعنا ذلك الخل فهل لي من توبة فقال عليه السلام أما الزنا فعليك الرجم أما قتل الولد فجزاؤه جهنم وأما بيع الخل فقد ارتكبت(32/81)
كبيراً لكن ظننت أنك تركت صلاة صلاة العصر ) ففي هذا الحديث إشارة إلى تفخيم أمر هذه الصلاة وخامسها أن صلاة العصر بها يحصل ختم طاعات النهار فهي كالتوبة بها يختم الأعمال فكما تجب الوصية بالتوبة كذا بصلاة العصر لأن الأمور بخواتيمها فأقسم بهذه الصلاة تفخيماً لشأنها وزيادة توصية المكلف على أدائها وإشارة منه أنك إن أديتها على وجهها عاد خسرانك ربحاً كما قال إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وسادسها قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يكلمهم ولا يزكيهم ( عد ) منهم رجل حلف بعد العصر كاذباً ) فَانٍ قِيلَ صلاة العصر فعلنا فكيف يجوز أن يقال أقسم الله تعالى به والجواب أنه ليس قسماً من حيث إنها فعلنا بل من حيث إنها أمر شريف تعبدنا الله تعالى بها
القول الرابع أنه قسم بزمان الرسول عليه السلام واحتجوا عليه بقوله عليه السلام ( إنما مثلكم ومثل من كان قبلكم مثل رجل استأجر أجيراً فقال من يعمل من الفجر إلى الظهر بقيراط فعملت اليهود ثم قال من يعمل من الظهر إلى العصر بقيراط فعملت النصارى ثم ثال من يعمل من العصر إلى المغبر بقراطين فعملتم أنتم فغضبت اليهود والنصارى وقالوا نحن أكثر عملاً وأقل أجراً فقال الله وهل نقصت من أجركم شيئاً قالوا لا قال فهذا فضلى أوتيه من أشاء فكنتم أقل عملاً وأكثر أجراً ) فهذا الخبر دل على أن العصر هو الزمان المختص به وبأمته فلا جرم أقسم الله به فقوله وَالْعَصْرِ أي والعصر الذي أنت فيه فهو تعالى أقسم بزمانه في هذه الآية وبمكانه في قوله وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ وبعمره في قوله لَعَمْرُكَ فكأنه قال وعصرك وبلدك وعمرك وذلك كله كالظرف له فإذا وجب تعظيم حال الظرف فقس حال المظروف ثم وجه القسم كأنه تعالى يقول أنت يا محمد حضرتهم ودعوتهم وهم أعرضوا عنك وما التفتوا إليك فما أعظم خسرانهم وما أجل خذلانهم
إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ
قوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى الألف واللام في الإنسان يحتمل أن تكون للجنس وأن تكون للمعهود السابق فلهذا ذكر المفسرون فيه قولين الأول أن المراد منه الجنس وهو كقولهم كثر الدرهم في أيدي الناس ويدل على هذا القول استثناء الذين آمنوا من الإنسان والقول الثاني المراد منه شخص معين قال ابن عباس يريد جماعة من المشركين كالوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وقال مقاتل نزلت في أبي لهب وفي خبر مرفوع إنه أبو جهل وروى أن هؤلاء كانوا يقولون إن محمداً لفي خسر فأقسم تعالى أن الأمر بالضد مما توهمون
المسألة الثانية الخسر الخسران كما قيل الكفر في الكفران ومعناه النقصان وذهاب رأس المال ثم(32/82)
فيه تفسيران وذلك لأنا إذا حملنا الإنسان على الجنس كان معنى الخسر هلاك نفسه وعمره إلا المؤمن العامل فإنه ما هلك عمره وماله لأنه اكتسب بهما سعادة أبدية وإن حملنا لفظ الإنسان على الكافر كان المراد كونه في الضلالة والكفر إلا من آمن من هؤلاء فحينئذ يتخلص من ذلك الخسار إلى الربح
المسألة الثالثة إنما قال لَفِى خُسْرٍ ولم يقل لفي الخسر لأن التنكير يفيد التهويل تارة والتحقير أخرى فإن حملنا على الأول كان المعنى إن الإنسان لفي خسر عظيم لا يعلم كنهه إلا لله وتقريره أن الذنب يعظم بعظم من في حقه الذنب أو لأنه وقع في مقابلة النعم العظيمة وكلا الوجهين حاصلان في ذنب العبد في حق ربه فلا جرم كان ذلك الذنب في غاية العظم وإن حملناه على الثاني كان المعنى أن خسران الإنسان دون خسران الشيطان وفيه بشارة أن في خلقي من هو أعصى منك والتأويل الصحيح هو الأول
المسألة الرابعة لقائل أن يقول قوله لَفِى خُسْرٍ يفيد التوحيد مع أنه في أنواع من الخسر والجواب أن الخسر الحقيقي هو حرمانه عن خدمة ربه وأما البواقي وهو الحرمان عن الجنة والوقوع في النار فبالنسبة إلى الأول كالعدم وهذا كماأن الإنسان في وجوده فوائد ثم قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ أي لما كان هذا المقصود أجل المقاصد كان سائر المقاصد بالنسبة إليه كالعدم
واعلم أن الله تعالى قرن بهذه الآية قرائن تدل على مبالغته تعالى في بيان كون الإنسان في خسر أحدها قوله لَفِى خُسْرٍ يفيد أنه كالمغمور في الخسران وأنه أحاط به من كل جانب وثانيها كلمة إن فإنها للتأكيد وثالثها حرف اللام في لفي خسر وههنا احتمالان
الأول في قوله تعالى لَفِى خُسْرٍ أي في طريق الخسر وهذا كقوله في أكل أموال اليتامى إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً لما كانت عاقبته النار
الاحتمال الثاني أن الإنسان لا ينفك عن خسر لأن الخسر هو تضييع رأس المال ورأس ماله هو عمره وهو قلما ينفك عن تضييع عمره وذلك لأن كل ساعة تمر بالإنسان فإن كانت مصروفة إلى المعصية فلا شك في الخسران وإن كانت مشغولة بالمباحات فالخسران أيضاً حاصل لأنه كما ذهب لم يبق منه أثر مع أنه كان متمكناً من أن يعمل فيه عملاً يبقى أثره دائماً وإن كانت مشغولة بالطاعات فلا طاعة إلا ويمكن الإتيان بها أو بغيرها على وجه أحسن من ذلك لأن مراتب الخضوع والخشوع لله غير متناهية فإن مراتب جلال الله وقهره غير متناهية وكلما كان علم الإنسان بها أكثر كان خوفه منه تعالى أكثر فكان تعظيمه عند الإتيان بالطاعات أتم وأكمل وترك الأعلى والاقتصار بالأدنى نوع خسران فثبت أن الإنسان لا ينفك البتة عن نوع خسران
واعلم أن هذه الآية كالتنبيه على أن الأصل في الإنسان أن يكون في الخسران والخيبة وتقريره أن سعادة الإنسان في حب الآخرة والإعراض عن الدنيا ثم إن الأسباب الداعية إلى الآخرة خفية والأسباب الداعية إلى حب الدنيا ظاهرها وهي الحواس الخمس والشهوة والغضب فلهذا السبب صار أكثر الخلق مشتغلين بحب الدنيا مستغرقين في طلبها فكانوا في الخسران والبوار فإن قيل إنه تعالى قال في سورة(32/83)
التين لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ فهناك يدل على أن الابتداء من الكمال والانتهاء إلى النقصان وههنا يدل على أن الابتداء من النقصان والانتهاء إلى الكمال فكيف وجه الجمع قلنا المذكور في سورة التين أحوال البدن وههنا أحوال النفس فلا تناقض بين القولين
إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ
قوله تعالى إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
اعلم أن الإيمان والأعمال الصالحة قد تقدم تفسيرهما مراراً ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى احتج من قال العمل غير داخل في مسمى الإيمان بأن الله تعالى عطف عمل الصالحات على الإيمان ولو كان عمل الصالحات داخلاً في مسمى الإيمان لكان ذلك تكريراً ولا يمكن أن يقال هذا التكرير واقع في القرآن كقوله تعالى وَإِذَا أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وقوله وَمَلَئِكَتُهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ لأنا نقول هناك إنما حسن لأن إعادته تدل على كونه أشرف أنواع ذلك الكلي وعمل الصالحات ليس أشرف أنواع الأمور المسماة بالإيمان فبطل هذا التأويل قال الحليمي هذا التكرير واقع لا محالة لأن الإيمان وإن لم يشتمل على عمل الصالحات لكن قوله وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يشتمل على الإيمان فيكون قوله وعملواا لصالحات مغنياً عن ذكر قوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وأيضاً فقوله وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يشتمل على قوله وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ فوجب أن يكون ذلك تكراراً أجاب الأولون وقالوا إنا لا نمنع ورود التكرير لأجل التأكيد لكن الأصل عدمه وهذا القدر يكفي في الاستدلال
المسألة الثانية احتج القاطعون بوعيد الفساق بهذه الآية قالوا الآية دلت على أن الإنسان في الخسارة مطلقاً ثم استثنى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ والمعلق على الشرطين مفقود عند فقد أحدهما فعلمنا أن من لم يحصل له الإيمان والأعمال الصالحة لا بد وأن يكون في الخسار في الدنيا وفي الآخرة ولما كان المستجمع لهاتين الخصلتين في غاية القلة وكان الخسار لازماً لمن لم يكن مستجمعاً لهما كان الناجي أقل من الهالك ثم لو كان الناجي أكثر كان الخوف عظيماً حتى لا تكون أنت من القليل كيف والناجي أقل أفلا ينبغي أن يكون الخوف أشدا
المسألة الثالثة أن هذا الاستثناء فيه أمور ثلاثة أحدها أنه تسلية للمؤمن من فوت عمره وشبابه لأن العمل قد أوصله إلى خير من عمره وشبابه وثانيها أنه تنبيه على أن كل ما دعاك إلى طاعة الله فهو الصلاح وكل ما شغلك عن الله بغيره فهو الفساد وثالثها قالت المعتزلة تسمية الأعمال بالصالحات تنبيه على أن وجه حسنها ليس هو الأمر على ما يقوله الأشعرية لكن الأمر إنما ورد لكونها في أنفسها مشتملة على وجوه الصلاح وأجابت الأشعرية بأن الله تعالى وصفها بكونها صالحة ولم يبين أنها صالحة بسبب وجوه عائدة إليها أو بسبب الأمر
المسألة الرابعة لسائل أن يسأل فيقول إنه في جانب الخسر ذكر الحكم ولم يذكر السبب وفي جانب(32/84)
الربح ذكر السبب وهو الإيمان والعمل الصالح ولم يذكر الحكم فما الفرق قلنا إنه لم يذكر سبب الخسر لأن الخسر كما يحصل بالفعل وهو الإقدام على المعصية يحصل بالترك وهو عدم الإقدام على الطاعة أما الربح فلا يحصل إلا بالفعل فلهذا ذكر سبب الربح وهو العمل وفيه وجه آخر وهو أنه تعالى في جانب الخسر أبهم ولم يفصل وفي جانب الربح فصل وبين وهذا هو اللائق بالكرم
أما قوله تعالى وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ
فاعلم أنه تعالى لما بين في أهل الاستثناء أنهم بإيمانهم وعملهم الصالح خرجوا عن أن يكونوا في خسر وصاروا أرباب السعادة من حيث إنهم تمسكوا بما يؤديهم إلى الفوز بالثواب والنجاة من العقاب وصفهم بعد ذلك بأنهم قد صاروا لشدة محبتهم للطاعة لا يقتصرون على ما يخصهم بل يوصون غيرهم بمثل طريقتهم ليكونوا أيضاً سبباً لطاعات الغير كما ينبغي أن يكون عليه أهل الدين وعلى هذا الوجه قال تعالى وَأَبْكَاراً يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً فالتواصي بالحق يدخل فيه سائر الدين من علم وعمل والتواصي بالصبر يدخل فيه حمل النفس على مشقة التكليف في القيام بما يجب وفي اجتنابهم ما يحرم إذ الإقدام على المكروه والإحجام عن المراد كلاهما شاق شديد وههنا مسائل
المسألة الأولى هذه الآية فيها وعيد شديد وذلك لأنه تعالى حكم بالخسار على جميع الناس إلا من كان آتياً بهذه الأشياء الأربعة وهي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور وإنه كما يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه فكذلك يلزمه في غيره أمور منها الدعاء إلى الدين والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يحب له ما يحب لنفسه ثم كرر التواصي ليضمن الأول الدعاء إلى الله والثاني الثبات عليه والأول الأمر بالمعروف والثاني النهي عن المنكر ومنه قوله وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ وقال عمر رحم الله من أهدى إلى عيوبي
المسألة الثانية دلت الآية على أن الحق ثقيل وأن المحن تلازمة فلذلك قرن به التواصي
المسألة الثالثة إنما قال وَتَوَاصَوْاْ ولم يقل ويتواصون لئلا يقع أمراً بل الغرض مدحهم بما صدر عنهم في الماضي وذلك يفيد رغبتهم في الثبات عليه في المستقبل
المسألة الرابعة قرأ أبو عمرو بِالصَّبْرِ بشم الباء شيئاً من الحرف لا يشبع قال أبو علي وهذا مما يجوز في الوقف ولا يكون في الوصل إلا على إجراء الوصل مجرى الوقف وهذا لا يكاد يكون في القراءة وعلى هذا ما يروى عن سلام بن المنذر أنه قرأ والعصر بكسر الصاد ولعله وقف لانقطاع نفس أو لعارض منعه من إدراج القراءة وعلى هذا يحمل لا على إجراء الوصل مجرى الوقف والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(32/85)
سورة الهمزة
تسع آيات مكية
وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَة ٍ لُّمَزَة ٍ
وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَة ٍ لُّمَزَة ٍ فيه مسائل
المسألة الأولى الويل لفظة الذم والسخط وهي كلمة كل مكروب يتولون فيدعو بالويل وأصله وي لفلان ثم كثرت في كلامهم فوصلت باللام وروى أنه جبل في جهنم إن قيل لم قال ههنا وَيْلٌ وفي موضع آخر وَلَكُمُ الْوَيْلُ قلنان لأن ثمة قالوا أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فقال وَلَكُمُ الْوَيْلُ وههنا نكر لأنه لا يعلم كنهه إلا الله وقيل في ويل إنها كلمة تقبيح وويس استصغار وويح ترحم فنبه بهذا على قبح هذا الفعل واختلفوا في الوعيد الذي في هذه السورة هل يتناول كل من يتمسك بهذه الطريقة في الأفعال الرديئة أو هو مخصوص بأقوام معينين أما المحققون فقالوا إنه عام لكل من يفعل هذا الفعل كائناً من كان وذلك لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ وقال آخرون إنه مختص بأناس معينين ثم قال عطاى والكلبي نزلت في الأخنس بن شريق كان يلمز الناس ويغتابهم وخاصة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال مقاتل نزلت في الوليد بن المغيرة كان يغتاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من ورائه ويطعن عليه في وجهه وقال محمد بن إسحاق ما زلنا نسمع أن هذه السورة نزلت في أمية بن خلف قال الفراء وكون اللفظ عاماً لا ينافي أن يكون المراد منه شخصاً معيناً كما أن إنساناً لو قال لك لا أزورك أبداً فتقول أنت كل من لم يزرني لا أزوره وأنت إنما تريده بهذه الجملة العامة وهذا هو المسمى في أصول الفقه بتخصيص العام بقرينة العرف(32/86)
المسألة الثانية الهمز الكسر قال تعالى هَمَّازٍ مَّشَّاء واللمز الطعن والمراد الكسر من أعراض الناس والغض منهم والطعن فيهم قال تعالى وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وبناء فعله يدل على أن ذلك عادة منه قد ضري بها ونحوهما اللعنة والضحكة وقرىء وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَة ٍ لُّمَزَة ٍ بسكون الميم وهي المسخرة التي تأتي بالأوابد والأضاحيك فيضحك منه ويشتم وللمفسرين ألفاظاً أحدها قال ابن عباس الهمزة المغتاب واللمزة العياب وثانيها قال أبو زيد الهمزة باليد واللمزة باللسان وثالثها قال أبو العالية الهمزة بالمواجهة واللمزة بظهر الغيب ورابعها الهمزة جهراً واللمزة سراً بالحاجب والعين وخامسها الهمزة واللمزة الذي يلقب الناس بما يكرهون وكان الوليد بن المغيرة يفعل ذلك لكنه لا يليق بمنصب الرياسة إنما ذلك من عادة السقاط ويدخل فيه من يحاكي الناس بأقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا وقد حكى الحكم بن العاص مشية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنفاه عن المدينة ولعنه وسادسها قال الحسن الهمزة الذي يهمز جليسه يكسر عليه عينه واللمزة الذي يذكر أخاه بالسوء ويعيبه وسابعها عن أبي الجوزاء قال قلت لابن عباس وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَة ٍ لُّمَزَة ٍ من هؤلاء الذين يذمهم الله بالويل فقال هم المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الناعتون للناس بالعيب
واعلم أن جميع هذه الوجوه متقاربة راجعة إلى أصل واحد وهو الطعن وإظهار العيب ثم هذا على قسمين فإنه إما أن يكون بالجد كما يكون عند الحسد والحقد وإما أن يكون بالهزل كما يكون عند السخرية والإضحاك وكل واحد من القسمين إما أن يكون في أمر يتعلق بالدين وهو ما يتعلق بالصورة أو المشي أو الجلوس وأنواعه كثيرة وهي غير مضبوطة ثم إظهار العيب في هذه الأقسام الأربعة قد يكون لحاضر وقد يكون لغائب وعلى التقديرين فقد يكون باللفظ وقد يكون بإشارة الرأس والعين وغيرهما وكل ذلك داخل تحت النهي والزجر إنما البحث في أن اللفظ بحسب اللغة موضوع لماذا فما كان اللفظ موضوعاً له كان منهياً بحسب اللفظ ومالم يكن اللفظ موضوعاً له كان داخلاً تحت النهي بحسب القياس الجلي ولما كان الرسول أعظم الناس منصباً في الدين كان الطعن فيه عظيماً عند الله فلا جرم قال وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَة ٍ لُّمَزَة ٍ
الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ
ثم قال تعالى الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى الَّذِى بدل من كل أو نصب على ذم وإنما وصفه الله تعالى بهذا الوصف لأنه يجري مجرى السبب والعلة في الهمز واللمز وهو إعجابه بما جمع من المال وظنه أن الفضل فيه لأجل ذلك فيستنقص غيره
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي وابن عامر جمع بالتشديد والباقون بالتخفيف والمعنى في جمع وجمع واحد متقارب والفرق أن جَمَعَ بالتشديد يفيد أنه جمعه من ههنا وههنا وأنه لم يجمعه في يوم واحد ولا في يومين ولا في شهر ولا في شهرين يقال فلان يجمع الأموال أي يجمعها من ههنا وههنا وأما جمع بالتخفيف فلا يفيد ذلك وأما قوله مَالاً فالتنكير فيه يحتمل وجهين أحدهما أن يقال(32/87)
المال اسم لكل ما في الدنيا كما قال الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَة ُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا فمال الإنسان الواحد بالنسبة إلى مال كل الدنيا حقير فكيف يليق به أن يفتخر بذلك القليل والثاني أن يكون المراد منه التعظيم أي مال بلغ في الخبث والفساد أقصى النهايات فكيف يليق بالعاقل أن يفتخر به أما قوله وَعَدَّدَهُ ففيه وجوه أحدها أنه مأخوذ من العدة وهي الذخيرة يقال أعددت الشيء لكذا وعددته إذا أمسكته له وجعلته عدة وذخيرة لحوادث الدهر وثانيها عدده أي أحصاه وجاء التشديد لكثرة المعدود كما يقال فلان يعدد فضائل فلان ولهذا قال السدي وعدده أي أحصاه يقول هذا لي وهذا لي يلهيه ماله بالنهار فإذا جاء الليل كان يخفيه وثالثها عدده أي كثره يقال في بني فلان عدد أي كثرة وهذان القولان الأخيران راجعان إلى معي العدد والقول الثالث إلى معنى العدة وقرأ بعضهم وعدده بالتخفيف وفيه وجهان أحدهما أن يكون المعنى جمع المال وضبط عدده وأحصاه وثانيهما جمع ماله وعدد قومه الذين ينصرونه من قولك فلان ذو عدد وعدد إذا كان له عدد وافر من الأنصار والرجل متى كان كذلك كان أدخل في التفاخر
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ
ثم وصفه تعالى بضرب آخر من الجهل فقال يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ
واعلم أن أخلده وخلده بمعنى واحد ثم في التفسير وجوه أحدها يحتمل أن يكون المعنى طول المال أمله حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله يحسب أن ماله تركه خالداً في الدنيا لا يموت وإنما قال أَخْلَدَهُ ولم يقل يخلده لأن المراد يحسب هذا الإنسان أن المال ضمن له الخلود وأعطاه الأمان من الموت وكأنه حكم قد فرغ منه ولذلك ذكره على الماضي قال الحسن ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه كالموت وثانيها يعمل الأعمال المحكمة كتشييد البنيان بالآجر والجص عمل من يظن أنه يبقى حياً أو لأجل أن يذكر بسببه بعد الموت وثالثها أحب المال حباً شديداً حتى اعتقد أنه إن انتقص مالي أموت فلذلك يحفظه من النقصان ليبثى حياً وهذا غير بعيد من اعتقاد البخيل ورابعها أن هذا تعريض بالعمل الصالح وأنه هو الذي يخلد صاحبه في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخر في النعيم المقيم
أما قوله تعالى كَلاَّ ففيه وجهان أحدهما أنه ردع له عن حسبانه أي ليس الأمر كما يظن أن المال يخلده بل العلم والصلاح ومنه قول علي عليه السلام مات خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر والقول الثاني معناه حقاً لَيُنبَذَنَّ واللام في لَيُنبَذَنَّ جواب القسم المقدر فدل ذلك على حصول معنى القسم في كلا
كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِى الْحُطَمَة ِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَة ُ
أما قوله تعالى لَيُنبَذَنَّ فِى الْحُطَمَة ِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَة ُ فإنما ذكره بلفظ النبذ الدال على الإهانة لأن الكافر كان يعتقد أنه من أهل الكرامة وقرىء لنبذان أي هو وماله ولينبذن بضم الذال أي هو وأنصاره وأما الْحُطَمَة ِ فقال المبرد إنها النار التي تحطم كل من وقع فيها ورجل حطمة أي شديد الأكل يأتي على زاد القوم وأصل الحطم في اللغة الكسر ويقال شر الرعاء الحطمة يقال راع حطمة وحطم بغير هاء كأنه يحطم الماشية أي يكسرها عند سوقها لعنفه قال المفسرون الحطمة اسم من أسماء النار وهي الدركة الثانية من دركات النار وقال مقاتل هي تحطم العظام وتأكل اللحوم حتى تهجم على القلوب(32/88)
وروى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الملك ليأخذ الكافر فيكسره على صلبه كما توضع الخشبة على الركبة فتكسر ثم يرمى به في النار )
واعلم أن الفائدة في ذكر جهنم بهذا الاسم ههنا وجوه أحدها الاتحاد في الصورة كأنه تعالى يقول إن كنت همزة لمزة فوراءك الحطمة والثاني أن الهامز بكسر عين ليضع قدره فيلقيه في الحضيض فيقول تعالى وراءك الحطمة وفي الحطم كسر فالحطمة تكسرك وتلقيك في حضيض جهنم لكن الهمزة ليس إلا الكسر بالحاجب أما الحطمة فإنها تكسر كسراً لا تبقي ولا تذر الثالث أن الهماز اللماز يأكل لحم الناس والحطمة أيضاً اسم للنار من حيث إنها تأكل الجلد واللحم ويمكن أن يقال ذكر وصفين الهمز واللمز ثم قابلهما باسم واحد وقال خذ واحداً مني بالإثنين منك فإنه يفي ويكفي فكأن السائل يقول كيف يفي الواحد بالإثنين فقال إنما تقول هذا لأنك لا تعرف هذا الواحد فلذلك قال وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَة ُ
نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَة ُ
أما قوله تعالى نَارُ اللَّهِ فالإضافة للتفخيم أي هي نار لا كسائر النيران الْمُوقَدَة ُ التي لا تخمد أبداً أو الْمُوقَدَة ُ بأمره أو بقدرته ومنه قول علي عليه السلام عجباً ممن يعصى الله على وجه الأرض والنار تسعر من تحته وفي الحديث ( أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت ثم ألف سنة حتى ابيضت ثم ألف سنة حتى اسودت فهي الآن سوداء مظلمة )
الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الاٌّ فْئِدَة ِ
أما قوله تعالى الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الاْفْئِدَة ِ فاعلم أنه يقال طلع الجبل واطلع عليه إذا علاه ثم في تفسير الآية وجهان الأول أن النار تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد ولا أشد تألماً منه بأدنى أذى مماسه فكيف إذا اطلعت نار جهنم واستولت عليه ثم إن الفؤاد مع استيلاء النار عليه لا يحترق إذ لو احترق لمات وهذا هو المراد من قوله لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى ومعنى الاطلاع هو أن النار تنزل من اللحم إلى الفؤاد والثاني أن سبب تخصيص الأفئدة بذلك هو أنها مواطن الكفر والعقائد الخبيثة والنيات الفاسدة واعلم أنه روى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن النار تأكل أهلها حتى إذا اطلعت على أفئدتهم انتهت ثم إن الله تعالى يعيد لحمهم وعظمهم مرة أخرى
إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَة ٌ
أما قوله تعالى إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَة ٌ فقال الحسن مُّؤْصَدَة ُ أي مطبقة من أصدت الباب وأوصدته لغتان ولم يقل مطبقة لأن المؤصدة هي الأبواب المغلقة والإطباق لا يفيد معنى الباب
واعلم أن الآية تفيد المبالغة في العذاب من وجوه أحدها أن قوله لَيُنبَذَنَّ يقتضي أنه موضع له قعر عميق جداً كالبئر وثانيها أنه لو شاء يجعل ذلك الموضع بحيث لا يكون له باب لكنه بالباب يذكرهم الخروج فيزيد في حسرتهم وثالثها أنه قال عَلَيْهِم مُّؤْصَدَة ٌ ولم يقل مؤصدة عليهم لأن قوله عَلَيْهِم مُّؤْصَدَة ٌ يفيد أن المقصود أولاً كونهم بهذه الحالة وقوله مؤصدة عليهم لا يفيد هذا المعنى بالقصد الأول(32/89)
فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَة ِ
أما قوله تعالى فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَة ِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء في عمد بضمتين وعمد بسكون الميم وعمد بفتحتين قال الفراء عمد وعمد وعمد مثل الأديم والإدم والأدم والإهاب والأهب والأهب والعقيم والعقم والعقم وقال المبرد وأبو علي العمد جمع عمود على غير واحد أما الجمع على واحد فهو العمد مثل زبور وزبر ورسول ورسل
المسألة الثانية العمود كل مستطيل من خشب أو حديد وهو أصل للبناء يقال عمود البيت للذي يقوم به البيت
المسألة الثالثة في تفسير الآية وجهان الأول أنها عمد أغلقت بها تلك الأبواب كنحو ما تغلق به الدروب وفي بمعنى الباء أي أنها عليهم مؤصدة بعمد مدت عليها ولم يقل بعمد لأنها لكثرتها صارت كأن الباب فيها والقول الثاني أن يكون المعنى إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَة ٌ حال كونهم موثقين فِى عَمَدٍ مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص اللهم أجرنا منها يا أكرم الأكرمين(32/90)
سورة الفيل
خمس آيات مكية
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ
مُّمَدَّدَة ِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ
روى أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصخمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس وأراد أن يصرف إليها الحاج فخرج من بني كنانة رجل وتغوط فيها ليلاً فأغضبه ذلك
وقيل أججت رفقة من العرب ناراً فحملتها الريح فأحرقتها فحلف ليهدمن الكعبة فخرج بالحبشة ومعه فيل اسمه محمود وكان قوياً عظيماً وثمانية أخرى وقيل إثنا عشر وقيل ألف فلما بلغ قريباً من مكة خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى وعبأ جيشه وقدم الفيل فكانوا كلما وجهوه إلى جهة الحرم برك ولم يبرح وإذا وجهوه إلى جهة اليمن أو إلى سائر الجهات هرول ثم إن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير فخرج إليهم فيها فعظم في عين أبرهة وكان رجلاً جسيماً وسيماً وقيل هذا سيد قريش وصاحب عير مكة فلما ذكر حاجته قال سقطت من عيني جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك فألهاك عنه ذود أخذلك فقال أنا رب الإبل وللبيت رب سيمنعك عنه ثم رجع وأتى البيت وأخذ بحلقته وهو يقول
لا هم إن المرء يم
نع حله فامنع حلالك(32/91)
وانصر على آل الصلي
ب وعابديه اليوم آلك لا يغلبن صليبهم
ومحالهم عدوا محالك إن كنت تاركهم وكع
بتنا فأمر ما بدالك ويقول
يا رب لا أرجو لهم سواكا
يا رب فامنع عنهم حماكا فالتفت وهو يدعو فإذا هو بطير من نحو اليمن فقال والله إنها لطير غريبة ما هي بنجدية ولا تهامية وكان مع كل طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة وعن ابن عباس أنه رأى منها عند أم هانيء نحو قفيز مخططة بحمرة كالجزع الظفارى فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره وعلى كل حجر اسم من يقع عليه فهلكوا في كل طريق ومنهل ودوى أبرهة فتساقطت أنامله وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة فلما أتمها وقع عليه الحجر وخر ميتاً بين يديه وعن عائشة قالت ( رأيت قائد الفيل ) وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان ثم في الآية سؤالات
الأول لم قال أَلَمْ تَرَ مع أن هذه الواقعة وقعت قبل المبعث بزمان طويل الجواب المراد من الرؤية العلم والتذكير وهو إشارة إلى أن الخبر به متواتر فكان العلم الحاصل به ضرورياً مساوياً في القوة والجلاء للرؤية ولهذا السبب قال لغيره على سبيل الذم أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ لا يقال فلم قال أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ لأنا نقول الفرق أن مالا يتصور إدراكه لا يستعل فيه إلا العلم لكونه قادراً وأما الذي يتصور إدراكه كفرار الفيل فإنه يجوز أن يستعمل فيه الرؤية
السؤال الثاني لم قال أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ ولم يقل ألم تر ما فعل ربك الجواب لأن الأشياء لها ذوات ولها كيفيات باعتبارها يدل على مداومتها وهذه الكيفية هي التي يسميها المتكلمون وجه الدليل واستحقاق المدح إنما يحصل برؤية هذه الكيفيات لا برؤية الذوات ولهذا قال أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا ولا شك أن هذه الواقعة كانت دالة على قدرة الصانع وعلمه وحكمته وكانت دالة على شرف محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأن مذهبنا أنه يجوز تقديم المعجزات على زمان البعثة تأسيساً لنبوتهم وإرهاصاً لها ولذلك قالوا كانت الغمامة تظله وعند المعتزلة أن ذلك لا يجوز فلا جرم زعموا أنه لا بد وأن يقال كان في ذلك الزمان نبي ( أو خطيب ) كخالد بن سنان أو قس بن ساعدة ثم قالوا ولا يجب أن يشتهر وجودهما ويبلغ إلى حد التواتر لا حتمال أنه كان مبعوثاً إلى جمع قليلين فلا جرم لم يشتهر خبره
واعلم أن قصة الفيل واقعة على الملحدين جداً لأنهم ذكروا في الزلازل والرياح والصاعق وسائر(32/92)
الأشياء التي عذب الله تعالى بها الأمم أعذاراً ضعيفة أما هذه الواقعة فلا تجرى فيها تلك الأعذار لأنها ليس في شيء من الطبائع والحيل أن يقبل طير معها حجارة فتقصد قوماً دون قوم فتقتلهم ولا يمكن أن يقال إنه كسائر الأحاديث الضعيفة لأنه لم يكن بين عام الفيل ومبعث الرسول إلا نيف وأربعون سنة ويوم تلا الرسول هذه السورة كان قد بقي بمكة جمع شاهدوا تلك الواقعة ولو كان النقل ضعيفاً لشافهوه بالتكذيب فلما لم يكن كذلك علمنا أنه لا سبب للطعن فيه
السؤال الثالث لم قال فِعْلَ ولم يقل جعل ولا خلق ولا عمل الجواب لأن خلق يستعمل لابتداء الفعل وجعل للكيفيات قال تعالى خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ وعمل بعد الطلب وفعل عام فكان أولى لأنه تعالى خلق الطيور وجعل طبع الفيل على خلاف ما كانت عليه وسألوه أن يحفظ البيت ولعله كان فيهم من يستحق الإجابة فلو ذكر الألفاظ الثلاثة لطال الكلام فذكر لفظاً يشمل الكل
السؤال الرابع لما قال ربك ولم يقل الرب الجواب من وجوه أحدها كأنه تعالى قال إنهم لما شاهدوا هذا الانتقام ثم لم يتركوا عبادة الأوثان وأنت يا محمد ما شاهدته ثم اعترفت بالشكر والطاعة فكأنك أنت الذي رأيت ذلك الانتقام فلا جرم تبرأت عنهم واخترتك من الكل فأقول ربك أي أنا لك ولست لهم بل عليهم وثانيها كأنه تعالى قال إنما فعلت بأصحاب الفيل ذلك تعظيماً لك وتشريفاً لمقدمك فأنا كنت مربياً لك قبل قومك فكيف أترك تربيتك بعد ظهورك ففيه بشارة له عليه السلام بأنه سيظفر
السؤال الخامس قوله أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ مذكور في معرض التعجب وهذه الأشياء بالنسبة إلى قدرة الله تعالى ليست عجيبة فما السبب لهذا التعجب الجواب من وجوه أحدها أن الكعبة تبع لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأن العلم يؤدي بدون المسجد أما لا مسجد بدون العالم فالعالم هو الدر والمسجد هو الصدف ثم الرسول الذي هو الدر همزه الوليد ولمزه حتى ضاق قلبه فكأنه تعالى يقول إن الملك العظيم لما طعن في المسجد هزمته وأفنيته فمن طعن فيك وأنت المقصود من الكل ألا أفنيه وأعدمها إن هذا لعجيب وثانيها أن الكعبة قبلة صلاتك وقلبك قبلة معرفتك ثم أنا حفظت قبلة عملك عن الأعداء أفلا تسعى في حفظ قبلة دينك عن الآثام والمعاصيا
السؤال السادس لم قال أَصْحَابُ الْفِيلِ ولم يقل أرباب الفيل أو ملاك الفيل الجواب لأن الصاحب يكون من الجنس فقوله أَصْحَابُ الْفِيلِ يدل على أن أولئك الأقوام كانوا من جنس الفيل في البهيمية وعدم الفهم والعقل بل فيه دقيقة وهي أنه إذا حصلت المصاحبة بين شخصين فيقال للأدون إنه صاحب الأعلى ولا يقال للأعلى إنه صاحب الأدون ولذلك يقال لمن صحب الرسول عليه السلام إنهم الصحابة فقوله أَصْحَابُ الْفِيلِ يدل على أن أولئك الأقوام كانوا أقل حال وأدون منزلة من الفيل وهو المراد من قوله تعالى بَلْ هُمْ أَضَلُّ ومما يؤكد ذلك أنهم كلما وجهوا الفيل إلى جهة(32/93)
الكعبة كان يتحول عنه ويفر عنه كأنه كان يقول لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عزمي حميد فلا أتركه وهم ما كانوا يتركون تلك العزيمة الردية فدل ذلك على أن الفيل كان أحسن حالاً منهم
السؤال السابع أليس أن كفار قريش كانوا ملأوا الكعبة من الأوثان من قديم الدهر ولا شك أن ذلك كان أقبح من تخريب جدران الكعبة فلم سلط الله العذاب على من قصد التخريب ولم يسلط العذاب على من ملأها من الأوثان والجواب لأن وضع الأوثان فيها تعد على حق الله تعالى وتخريبها تعد على حق الخلق ونظيره قاطع الطريق والباغي والقاتل يقتلون مع أنهم مسلمون ولا يقتل الشيخ الكبير والأعمى وصاحب الصومعة والمرأة وإن كانوا كفار لأنه لا يتعدى ضررهم إلى الخلق
السؤال الثامن كيف القول في إعراب هذه الآية الجواب قال الزجاج كيف في موضع نصب بفعل لا بقوله أَلَمْ تَرَ لأن كيف من حروف الاستفهام
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ
واعلم أنه تعالى ذكر ما فعل بهم فقال أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الكيد هو إرادة مضرة بالغير على الخفية إن قيل فلم سماه كيداً وأمره كان ظاهراً فإنه كان يصرح أنه يهدم البيت قلنا نعم لكن الذي كان في قلبه شر مما أظهر لأنه كان يضمر الحسد للعرب وكان يريد صرف الشرف الحاصل لهم بسبب الكعبة منهم ومن بلدهم إلى نفسه وإلى بلدته
المسألة الثانية قالت المعتزلة إضافة الكيد إليهم دليل على أنه تعالى لا يرضى بالقبيح إذ لو رضي لأضافه إلى ذاته كقوله يَأْذَنَ لِى والجواب أنه ثبت في علم النحو أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب فلم لا يكفي في حسن هذه الإضافة وقوعه مطابقاً لإرادتهم واختيارهم
المسألة الثالثة فِى تَضْلِيلٍ أي في تضييع وإبطال يقال ضلل كيده إذا جعله ضالاً ضائعاً ونظيره قوله تعالى وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ وقيل لامرىء القيس الملك الضليل لأنه ضلل ملك أبيه أي ضيعه بمعنى أنهم كادوا البيت أولاً ببناء القليس وأرادوا أن يفتتحوا أمره بصرف وجوه الحاج إليه فضلل كيدهم بإيقاع الحريق فيه ثم كادوه ثانياً بإرادة هدمه فضلل بإرسال الطير عليهم ومعنى حرف الظرف كما يقال سعى فلان في ضلال أي سعيهم كان قد ظهر لكل عاقل أنه كان ضلال وخطأ
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ
ثم قال تعالى وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ وفيه سؤالات
السؤال الأول لم قال طَيْراً على التنكير والجواب إما للتحقير فإنه مهما كان أحقر كان صنع الله أعجب وأكبر أو للتفخيم كأنه يقول طيراً وأي طير ترمى بحجارة صغيرة فلا تخطىء المقتل
السؤال الثاني ما الأبابيل الجواب أما أهل اللغة قال أبو عبيدة أبابيل جماعة في تفرقة يقال جاءت(32/94)
الخيل أبابيل أبابيل من ههنا وههنا وهل لهذه اللفظة واحد أم لا فيه قولان الأول وهو قول الأخفش والفراء أنه لا واحد لها وهو مثل الشماطيط والعباديد لا وحد لها والثاني أنه له واحد ثم على هذا القول ذكروا ثلاثة أوجه أحدها زعم أبو جعفر الرؤاسي وكان ثقة مأموناً أنه سمع واحدها إبالة وفي أمثالهم ضغث على إبالة وهي الحزمة الكبيرة سميت الجماعة من الطير في نظامها بالإبالة وثانيها قال الكسائي كنت أسمع النحويين يقولون إبول وأبابيل كعجول وعجاجيل وثالثها قال الفراء ولو قال قائل واحد الأبابيل إيبالة كان صواباً كما قال دينار ودنانير
السؤال الثالث ما صفة تلك الطير الجواب روى ابن سيرين عن ابن عباس قال كانت طيراً لها خراطيم كخراطيم الفيل وأكل كأكف الكلاب وروى عطاء عنه قال طير سود جاءت من قبل البحر فوجاً فوجاً ولعل السبب أنها أرسلت إلى قوم كان في صورتهم سواد اللون وفي سرهم سواد الكفر والمعصية وعن سعيد بن جبير أنها بيض صغار ولعل السبب أن ظلمة الكفر انهزمت بها والبياض ضد السواد وقيل كانت خضراً ولها رءوس مثل رءوس السباع وأقول إنها لما كانت أفواجاً فلعل كل فوج منها كان على شكل آخر فكل أحد وصف ما رأى وقيل كانت بلقاء كالخطاطيف
تَرْمِيهِم بِحِجَارَة ٍ مِّن سِجِّيلٍ
ثم قال تعالى تَرْمِيهِم بِحِجَارَة ٍ مّن سِجّيلٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو حيوة يرميهم أي الله أو الطير لأنه اسم جمع مذكر وإنما يؤنث على المعنى
المسألة الثانية ذكروا في كيفية الرمي وجوهاً أحدها قال مقاتل كان كل طائر يحمل ثلاثة أحجار واحد في منقاره واثنان في رجليه يقتل كل واحد رجلاً مكتوب على كل حجر اسم صاحبه ما وقع منها حجر على موضع إلا خرج من الجانب الآخر وإن وقع على رأسه خرج من دبره وثانيها روى عكرمة عن ابن عباس قال لما أرسل الله الحجارة على أصحاب الفيل لم يقع حجر على أحد منهم إلا نفط جلده وثار به الجدري وهو قول سعيد بن جبير وكانت تلك الأحجار أصغرها مثل العدسة وأكبرها مثل الحمصة
واعلم أن من الناس من أنكر ذلك وقال لو جوزناأن يكون في الحجارة التي تكون مثل العدسة من الثقل ما يقوى به على أن ينفذ من رأس الإنسان ويخرج من أسفله لجوزنا أن يكون الجبل العظيم خالياً عن الثقل وأن يكون في ومن التينة وذلك يرفع الأمان عن المشاهدات فإنه متى جاز ذلك فليجز أن يكون بحضرتنا شموس وأقمار ولا نراها وأن يحصل الإدراك في عين الضرير حتى يكون هو بالمشرق ويرى بقعة في الأندلس وكل ذلك محال واعلم أن ذلك جائز على مذهبنا إلا أن العادة جارية بأنها لا تقع
المسألة الثالثة ذكروا في السجيل وجوهاً أحدها أن السجيل كأنه علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار كما أن سجيناً علم لديوان أعمالهم كأنه قيل بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون واشتقاقه من الإسجال وهو الإرسال ومنه السجل الدلو المملوء ماء وإنما سمي ذلك الكتاب بهذا الاسم(32/95)
لأنه كتب فيه العذاب والعذاب موصوف بالإرسال لقوله تعالى وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ وقوله فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ فقوله مّن سِجّيلٍ أي مما كتبه الله في ذلك الكتاب وثانيها قال ابن عباس سجيل معناه سنك وكل يعني بعضه حجر وبعضه طين وثالثها قال أبو عبيدة السجيل الشديد ورابعها السجيل اسم لسماء الدنيا وخامسها السجيل حجارة من جهنم فإن سجيل اسم من أسماء جهنم فأبدلت النون باللام
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ
أما قوله تعالى فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في تفسير العصف وجوهاً ذكرناها في قوله وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وذكروا ههنا وجوهاً أحدها أنه ورق الزرع الذي يبقى في الأرض بعد الحصاد وتعصفه الرياح فتأكله المواشي وثانيها قال أبو مسلم العصف التبن لقوله ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ لأنه تعصف به الريح عند الذر فتفرقه عن الحب وهو إذا كان مأكولاً فقد بطل ولا رجعة له ولا منعة فيه وثالثها قال الفراء هو أطراف الزرع قبل أن يدرك السنبل ورابعها هو الحب الذي أكل لبه وبقي قشره
المسألة الثانية ذكروا في تفسير المأكول وجوهاً أحدها أنه الذي أكل وعلى هذا الوجه ففيه احتمالان
أحدهما أن يكون المعنى كزرع وتبن قد أكلته الدواب ثم ألقته روثاً ثم يجف وتتفرق أجزاؤه شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث إلا أن العبارة عنه جاءت على ما عليه آداب القرآن كقوله كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ وهو قول مقاتل وقتادة وعطاء عن ابن عباس
والاحتمال الثاني على هذا الوجه أن يكون التشبيه واقعاً بورق الزرع إذا وقع فيه الأكال وهو أن يأكله الدود الوجه الثاني في تفسير قوله مَّأْكُولِ هو أنه جعلهم كزرع قد أكل حبه وبقي تبنه وعلى هذا التقدير يكون المعنى كعصف مأكول الحب كما يقال فلان حسن أي حسن الوجه فأجرى مأكول على العصف من أجل أنه أكل حبه لأن هذا المعنى معلوم وهذا قول الحسن الوجه الثالث في التفسير أن يكون معنى مَّأْكُولِ أنه مما يؤكل يعني تأكله الدواب يقال لكل شيء يصلح للأكل هو مأكول والمعنى جعلهم كتبن تأكله الدواب وهو قول عكرمة والضحاك
المسألة الثالثة قال بعضهم إن الحجاج خرب الكعبة ولم يحدث شيء من ذلك فدل على أن قصة الفيل ما كانت على هذا الوجه وإن كانت هكذا إلا أن السبب لتلك الواقعة أمر آخر سوى تعظيم الكعبة والجواب أنا بينا أن ذلك وقع إرهاصاً لأمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والإرهاص إنما يحتاج إليه قبل قدومه أما بعد قدومه وتأكد نبوته بالدلائل القاطعة فلا حاجة إلى شيء من ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(32/96)
سورة قريش
وهي أربع آيات مكية
لإِيلَافِ قُرَيْشٍ
لإيلاف قريش إيلافهم اعلم أن ههنا مسائل
المسألة الأولى اللام في قوله لإيلاف تحتمل وجوهاً ثلاثة فإنها إما أن تكون متعلقة بالسورة التي قبلها أو بالآية التي بعدها أولاً تكون متعلقة لا بما قبلها ولا بما بعدها أما الوجه الأول وهو أن تكون متعلقة بما قبلها ففيه احتمالات
الأول وهو قول الزجاج وأبي عبيدة أن التقدير فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ لإلف قريش أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف فإن قيل هذا ضعيف لأنهم إنما جعلوا كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ لكفرهم ولم يجعلوا كذلك لتأليف قريش قلنا هذا السؤال ضعيف لوجوه أحدها أنا لا نسلم أن الله تعالى إنما فعل بهم ذلك لكفرهم فإن الجزاء على الكفر مؤخر للقيامة قال تعالى الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وقال وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّة ٍ ولأنه تعالى لو فعل بهم ذلك لكفرهم لكان قد فعل ذلك بجميع الكفار بل إنما فعل ذلك بهم لإِيلَافِ قُرَيْشٍ ولتعظيم منصبهم وإظهار قدرهم وثانيها هب أن زجرهم عن الكفر مقصود لكن لا ينافي كون شيء آخر مقصود حتى يكون الحكم واقعاً بمجموع الأمرين معاً وثالثها هب أنهم أهلكوا لكفرهم فقط إلا أن ذلك الإهلاك لما أدى إلى إيلاف قريش جاز أن يقال أهلكوا لإيلاف قريش كقوله تعالى لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً وهم لم يلتقطوه لذلك لكن لما آل الأمر إليه حسن أن يمهد عليه الالتقاط(32/97)
الاحتمال الثاني أن يكون التقدير أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ لإِيلَافِ قُرَيْشٍ كأنه تعالى قال كل ما فعلنا بهم فقد فعلناه لإيلاف قريش فإنه تعالى جعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيراً أبابيل حتى صاروا كعصف مأكول فكل ذلك إنما كان لأجل إيلاف قريش
الاحتمال الثالث أن تكون اللام في قوله لإِيلَافِ بمعنى إلى كأنه قال فعلنا كل ما فعلنا في السورة المتقدمة إلى نعمة أخرى عليهم وهي إيلافهم رِحْلَة َ الشّتَاء وَالصَّيْفِ تقول نعمة الله نعمة ونعمة لنعمة سواء في المعنى هذا قول الفراء فهذه احتمالات ثلاثة توجهت على تقدير تعليق اللام بالسورة التي قبل هذه وبقي من مباحث هذا القول أمران
الأول أن للناس في تعليق هذه اللام بالسورة المتقدمة قولين أحدهما أن جعلوا السورتين سورة واحدة واحتجوا عليه بوجوه أحدها أن السورتين لا بد وأن تكون كل واحدة منهما مستقلة بنفسها ومطلع هذه السورة لما كان متعلقاً بالسورة المتقدمة وجب أن لا تكون سورة مستقلة وثانيها أن أبي بن كعب جعلهما في مصحفه سورة واحدة وثالثها ما روى أن عمر قرأ في صلاة المغرب في الركعة الأولى والتين وفي الثانية ألم تر ولإيلاف قريش معاً من غير فصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم القول الثاني وهو المشهور المستفيض أن هذه السورة منفصلة عن سورة الفيل وأما تعلق أول هذه السورة بما قبلها فليس بحجة على ما قالوه لأن القرآن كله كالسورة الواحدة وكالآية الواحدة يصدق بعضها بعضاً ويبين بعضها معنى بعض ألا ترى أن الآيات الدالة على الوعيد مطلقة ثم إنها متعلقة بآيات التوبة وبآيات العفو عنه من يقول به وقوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ متعلق بما قبله من ذكر القرآن وأما قوله إن أبياً لم يفصل بينهما فهو معارض بإطباق الكل على الفصل بينهما وأما قراءة عمر فإنها لا تدل على أنهما سورة واحدة لأن الإمام قد يقرأ سورتين
البحث الثاني فيما يتعلق بهذا القول بيان أنه لم صار ما فعله الله بأصحاب الفيل سبباً لإيلاف قريش فنقول لا شك أن مكة كانت خالية عن الزرع والضرع على ما قال تعالى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ إلى قوله فَاجْعَلْ أَفْئِدَة ً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ فكان أشراف أهل مكة يرتحلون للتجارة هاتين الرحتلين ويأتون لأنفسهم ولأهل بلدهم بما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب وهم إنما كانوا يربحون في أسفارهم ولأن ملوك النواحي كانوا يعظمون أهل مكة ويقولون هؤلاء جيران بيت الله وسكان حرمه وولاة الكعبة حتى إنهم كانوا يسمون أهل مكة أهل الله فلو تم للحبشة ما عزموا عليه من هدم الكعبة لزال عنهم هذا العز ولبطلت تلك المزايا في التعظيم والاحترام ولصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يتخطفون من كل جانب ويتعرض لهم في نفسهم وأموالهم فلما أهلك الله أصحاب الفيل ورد كيدهم في نحرهم ازداد وقع أهل مكة في القلوب وازداد تعظيم ملوك الأطراف لهم فازدادت تلك المنافع والمتاجر فلهذا قال الله تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ لإِيلَافِ قُرَيْشٍ رِحْلَة َ الشّتَاء وَالصَّيْفِ والوجه الثاني فيما يدل على صحة هذا القول أن قوله تعالى في آخر هذه السورة فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ الَّذِى إشارة إلى أول سورة الفيل كأنه قال(32/98)
فليعبدوا رب هذا البيت الذي قصده أصحاب الفيل ثم إن رب البيت دفعهم عن مقصودهم لأجل إيلافكم ونفعكم لأن الأمر بالعبادة إنما يحسن مرتباً على إيصال المنفعة فهذا يدل على تعلق أول هذه السورة بالسورة المتقدمة
القول الثاني وهو أن اللام في لإِيلَافِ متعلقة بقوله فَلْيَعْبُدُواْ وهو قول الخليل وسيبويه والتقدير فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش أي ليجعلوا عبادتهم شكراً لهذه النعمة واعترافاً بها فإن قيل فلم دخلت الفاء في قوله فَلْيَعْبُدُواْ قلنا لما في الكلام من معنى الشرط وذلك لأن نعم الله عليهم لا تحصى فكأنه قيل إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبده لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة
القول الثالث أن تكون هذه اللام غير متعلقة لا بما قبلها ولا بما بعدها قال الزجاج قال قوم هذه اللام لام التعجب كأن المعنى اعجبوا لإيلاف قريش وذلك لأنهم كل يوم يزدادون غياً وجهلاً وانغماساً في عبادة الأوثان والله تعالى يؤلف شملهم ويدفع الآفات عنهم وينظم أسباب معايشهم وذلك لا شك أنه في غاية التعجب من عظيم حلم الله وكرمه ونظيره في اللغة قولك لزيد وما صنعنا به ولزيد وكرامتنا إياه وهذا اختيار الكسائي والأخفش والفراء
المسألة الثانية ذكروا في الإيلاف ثلاثة أوجه أحدها أن الإيلاف هو الإلف قال علماء اللغة ألفت الشيء وألفته إلفاً وإلافاً وإيلافاً بمعنى واحد أي لزمته فيكون المعنى لإلف قريش هاتين الرحلتين فتتصلا ولا تنقطعا وقرأ أبو جعفر لإلف قريش وقرأ الآخرون لإلاف قريش وقرأ عكرمة ليلاف قريش وثانيها أن يكون هذا من قولك لزمت موضع كذا وألزمنيه الله كذا تقول ألفت كذا وألفنيه الله ويكون المعنى إثبات الألفة بالتدبير الذي فيه لطف ألف بنفسه إلفاً وآلفه غيره إيلافاً والمعنى أن هذه الألفة إنما حصلت في قريش بتدبير الله وهو كقوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ وقال وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وقد تكون المسرة سبباً للمؤانسة والاتفاق كما وقعت عند انهزام أصحاب الفيل لقريش فيكون المصدر ههنا مضافاً إلى المفعول ويكون المعنى لأجل أن يجعل الله قريشاً ملازمين لرحلتيهم وثالثها أن يكون الإيلاف هو التهيئة والتجهيز وهو قول الفراء وابن الأعرابي فيكون المصدر على هذا القول مضافاً إلى الفاعل والمعنى لتجهيز قريش رحلتيها حتى تتصلا ولا تنقطعا وقرأ أبو جعفر ليلاف بغير همز فحذف همزة الإفعال حذفاً كلياً وهو كمذهبه في يستهزءون وقد مر تقريره
المسألة الثالثة التكرير في قوله لإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ هو أنه أطلق الإيلاف أولاً ثم جعل المقيد بدلاً لذلك المطلق تفخيماً لأمر الإيلاف وتذكيراً لعظيم المنة فيه والأقرب أن يكون قوله لإِيلَافِ قُرَيْشٍ عاماً بجمع كل مؤانسة وموافقة كان بينهم فيدخل فيه مقامهم وسيرهم وجميع أحوالهم ثم خص إيلاف الرحلتين بالذكر لسبب أنه قوام معاشهم كما في قوله وَجِبْرِيلُ وفائدة ترك واو العطف التنبيه على أنه كل النعمة تقول العرب ألفت كذا أي لزمته والإلزام ضربان إلزام بالتكليف والأمر وإلزام بالمودة والمؤانسة فإنه ءذا أحب المرء شيئاً لزمه ومنه وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى كما أن الإلجاء ضربان أحدهما لدفع الضرر كالهرب من السبع والثاني لطلب النفع العظيم كمن يجد مالاً عظيماً ولا مانع من أخذه لا عقلاً ولا شرعاً ولا حساً فإنه يكون كالملجأ إلى الأخذ وكذا الدواعي التي(32/99)
تكون دون الالجاء مرة تكون لدفع الضرر وأخرى لجلب النفع وهو المراد في قوله إِيلَافِهِمْ
المسألة الرابعة اتفقوا على أن قريشاً ولد النضر بن كنانة قال عليه الصلاة والسلام ( إنا بني النضر بن كنانة لأنفقوا أمناً ولا ننتفي من أبينا ) وذكروا في سبب هذه التسمية وجوهاً أحدها أنه تصغير القرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ولا تنطلق إلا بالنار وعن معاوية أنه سأل ابن عباس بم سميت قريش قال بدابة في البحر تأكل ولا تؤكل تعلو ولا تعلى وأنشد
وقريش هي التي تكسن البح
ر بها سميت قريش قريشاً والتصغير للتعظيم ومعلوم أن قريشاً موصوفون بهذه الصفات لأنها تلي أمر الأمة فإن الأئمة من قريش وثانيها أنه مأخوذ من القرش وهو الكسب لأنهم كانوا كاسبين بتجاراتهم وضربهم في البلاد وثالثها قال الليث كانوا متفرقين في غير الحرم فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوها مسكناً فسموا قريشاً لأن التقرش هو التجمع يقال تقرش القوم إذا اجتمعوا ولذلك سمي قصي مجمعاً قال الشاعر
أبو كم قصي كان يدعى مجمعاً
به جمع الله القبائل من فهر ورابعها أنهم كانوا يسدون خلة محاويج الحاج فسموا بذلك قريشاً لأن القرش التفتيش قال ابن حرة
أيها الشامت المقرش عنا
عند عمرو وهل لذاك بقاء
إِيلَافِهِمْ رِحْلَة َ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ
قوله تعالى رِحْلَة َ الشّتَاء وَالصَّيْفِ فيه مسائل
المسألة الأولى قال الليث الرحلة اسم الارتحال من القول للمسير وفي المراد من هذه الرحلة قولان الأول وهو المشهور قال المفسرون كانت لقريش رحلتان رحلة بالشتاء إلى اليمن لأن اليمن أدفأ وبالصيف إلى الشأم وذكر عطاء عن ابن عباس أن السبب في ذلك هو أن قريشاً إذا أصاب واحداً منهم مخمصة خرج هو وعياله إلى موضع وضربوا على أنفس خباء حتى يموتوا إلى أن جاء هاشم بن عبد مناف وكان سيد قومه وكان له ابن يقال له أسد وكان له ترب من بني مخزوم يحبه ويلعب معه فشكا إليه الضرر والمجاعة فدخل أسد على أمه يبكي فأرسلت إلى أولئك بدقيق وشحم فعاشوا فيه أياماً ثم أتى ترب أسد إليه مرة أخرى وشكا إليه من الجوع فقام هاشم خطيباً في قريش فقال إنكم أجدبتم جدباً تقلون فيه وتذلون وأنتم أهل حرم الله وأشراف ولد آدم والناس لكم تبع قالوا نحن تبع لك فليس عليك منا خلاف فجمع كل بني أب على الرحلتين في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام للتجارات فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم فجاء الإسلام وهم على ذلك فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالاً ولا أعز من قريش قال الشاعر فيهم
الخالطين فقيرهم بغنيهم
حتى يكون فقيرهم كالكافي واعلم أن وجه النعمة والمنة فيه أنه لو تم لأصحاب الفيل ما أرادوا لترك أهل الأقطار تعظيمهم وأيضاً لتفرقوا وصار حالهم كحال اليهود المذكور في قوله وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الاْرْضِ أُمَمًا(32/100)
واجتماع القبيلة الواحدة في مكان واحد أدخل في النعمة من أن يكون الاجتماع من قبائل شتى ونبه تعالى أن من شرط السفر المؤانسة والألفة ومنه قوله تعالى وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ والسفر أحوج إلى مكارم الأخلاق من الإقامة القول الثاني أن المراد رحلة الناس إلى أهل مكة فرحلة الشتاء والصيف عمرة رجب وحج ذي الحجة لأنه كان أحدهما شتاء والآخر صيفاً وموسم منافع مكة يكون بهما ولو كان يتم لأصحاب الفيل ما أرادوا لتعطلت هذه المنفعة
المسألة الثانية نصب الرحل بلإيلافهم مفعولاً به وأراد رحلتي الشتاء والصيف فأفرد لأمن الإلباس كقوله كلوا في بعض بطنكم وقيل معناه رحلة الشتاء ورحلة الصيف وقرىء رحلة بضم الراء وهي الجهة
فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ
قوله تعالى فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ اعلم أن الإنعام على قسمين أحدهما دفع الضرر والثاني جلب النفع والأول أهم وأقدم ولذلك قالوا دفع الضرر عن النفس واجب أما جلب النفع ( فإنه ) غير واجب فلهذا السبب بين تعالى نعمة دفع الضرر في سورة الفيل ونعمة جلب النفع في هذه السورة ولما تقرر أن الإنعام لا بد وأن يقابل بالشكر والعبودية لا جرم أتبع ذكر النعمة بطلب العبودية فقال فَلْيَعْبُدُواْ وههنا مسائل
المسألة الأولى ذكرنا أن العبادة هي التذلل والخضوع للمعبود على غاية ما يكون ثم قال بعضهم أراد فليوحدوا رب هذا البيت لأنه هو الذي حفظ البيت دون الأوثان ولأن التوحيد مفتاح العبادات ومنهم من قال المراد العبادات المتعلقة بأعمال الجوارح ثم ذكر كل قسم من أقسام العبادات والأولى حمله على الكل لأن اللفظ متناول للكل إلا ما أخرجه الدليل وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون معنى فليعبدوا أي فليتركوا رحلة الشتاء والصيف وليشتغلوا بعبادة رب هذا البيت فإنه يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف ولعل تخصيص لفظ الرب تقرير لما قالوه لأبرهة إن للبيت رباً سيحفظه ولم يعولوا في ذلك على الأصنام فلزمهم لإقرارهم أن لا يعبدوا سواه كأنه يقول لما عولتم في الحفظ علي فاصرفوا العبادة والخدمة إلي
المسألة الثانية الإشارة إلى البيت في هذا النظم تفيد التعظيم فإنه سبحانه تارة أضاف العبد إلى نفسه فيقول يا عبادي وتارة يضيف نفسه إلى العبد فيقول وإلهكم كذا في البيت ( تارة ) يضيف نفسه إلى البيت وهو قوله فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ وتارة يضيف البيت إلى نفسه فيقول طَهّرَا بَيْتِى َ
الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنْ خوْفٍ
ثم قال تعالى الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وفي هذه الإطعام وجوه أحدها أنه تعالى لما آمنهم بالحرم حتى لا يتعرض لهم في رحلتيهم كان ذلك سبب إطعامهم بعدما كانوا فيه من الجوع ثانيها قال مقاتل شق عليهم الذهاب إلى اليمن والشام في الشتاء والصيف لطلب الرزق فقذف الله تعالى في قلوب الحبشة أن يحملوا الطعام في السفن إلى مكة فحملوه وجعل أهل مكة يخرجون إليهم بالإبل والخمر ويشترون طعامهم من جدة على مسيرة ليلتين وتتابع ذلك فكفاهم الله مؤونة الرحلتين ثالثها قال الكلبي(32/101)
هذه الآية معناها أنهم لما كذبوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) دعا عليهم فقال ( اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) فاشتد عليهم القحط وأصابهم الجهد فقالوا يا محمد ادع الله فإنا مؤمنون فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخصبت البلاد وأخصب أهل مكة بعد القحط فذاك قوله أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ ثم في الآية سؤالات
السؤال الأول العبادة إنما وجبت لأنه تعالى أعطى أصول النعم والإطعام ليس من أصول النعم فلما علل وجوب العبادة بالإطعام والجواب من وجوه أحدها أنه تعالى لما ذكر إنعامه عليهم بحبس الفيل وإرسال الطير وإهلاك الحبشة وبين أنه تعالى فعل ذلك لإيلافهم ثم أمرهم بالعبادة فكان السائل يقول لكن نحن محتاجون إلى كسب الطعام والذب عن النفس فلو اشتغلنا بالعبادة فمن ذا الذي أيطعمنا فقال الذي أطعمهم من جوع قبل أن يعبدوه ألا يطعمهم إذا عبدوها وثانيها أنه تعالى بعد أن أعطى العبد أصول النعم أساء العبد إليه ثم إنه يطعمهم مع ذلك فكأنه تعالى يقول إذا لم تستح من أصول النعم ألا تستحي من إحساني إليك بعد إساءتك وثالثها إنما ذكر الإنعام لأن البهيمة تطيع من يعلفها فكأنه تعالى يقول لست دون البهيمة
السؤال الثاني أليس أنه جعل الدنيا ملكاً لنا بقوله خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً فكيف تحسن المنة علينا بأن أعطانا ملكنا الجواب أنظر في الأشياء التي لا بد منها قبل الأكل حتى يتم الطعام ويتهيأ وفي الأشياء التي لا بد منها بعد الأكل حتى يتم الانتفاع بالطعام المأكول فإنك تعلم أنه لا بد من الأفلاك والكواكب ولا بد من العناصر الأربعة حتى يتم ذلك الطعام ولا بد من جملة الأعضاء على اختلاف أشكالها وصورها حتى يتم الانتفاع بالطعام وحينئذ تعلم أن الإطعام يناسب الأمر بالطاعة والعبادة
السؤال الثالث المنة بالإطعام لا تليق بمن له شيء من الكرم فكيف بأكرم الأكرمين الجواب ليس الغرض منه المنة بل الإرشاد إلى الأصلح لأنه ليس المقصود من الأكل تقوية الشهوة المانعة عن الطاعة بل تقوية البنية على أداء الطاعات فكأن المقصود من الأمر بالعبادة ذلك
السؤال الرابع ما الفائدة في قوله مِن جُوعٍ الجواب فيه فوائد أحدها التنبيه على أن أمر الجوع شديد ومنه قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يُنَزّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أصبح آمناً في سربه ) الحديث وثانيها تذكيرهم الحالة الأولى الرديئة المؤلمة وهي الجوع حتى يعرفوا قدر النعمة الحاضرة وثالثها التنبيه على أن خير الطعام ما سد الجوعة لأنه لم يقل وأشبعهم لأن الطعام يزيل الجوع أما الإشباع فإنه يورث البطنة
أما قوله تعالى الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن ففي تفسيره وجوه أحدها أنهم كانوا يسافرون آمنين لا يتعرض لهم أحد ولا يغير عليهم أحد لا في سفرهم ولا في حضرهم وكان غيرهم لا يأمنون من الغارة في السفر والحضر وهذا معنى قوله أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً ثانيها أنه آمنهم من زحمة أصحاب الفيل وثالثها قال الضحاك والربيع وآمنهم من خوف الجزام فلا يصيبهم ببلدتهم(32/102)
الجذام ورابعها آمنهم من خوف أن تكون الخلافة في غيرهم وخامسها آمنهم بالإسلام فقد كانوا في الكفر يتفكرون فيعلمون أن الدين الذي هم عليه ليس بشيء إلا أنهم ما كانوا يعرفون الدين الذي يجب على العاقل أن يتمسك به وسادسها أطعمهم من جوع الجهل بطعام الوحي وآمنهم من خوف الضلال ببيان الهدى كأنه تعالى يقول يا أهل مكة كنتم قبل مبعث محمد تسمون جهال العرب وأجلافهم ومن كان ينازعكم كانوا يسمون أهل الكتاب ثم أنزلت الوحي على نبيكم وعلمتكم الكتاب والحكمة حتى صرتم الآن تسمون أهل العلم والقرآن وأولئك يسمون جهال اليهود والنصارى ثم إطعام الطعام الذي يكون غذاء الجسد يوجب الشكر فإطعام الذي هو غذاء الروح ألا يكون موجباً للشكرا وفي الآية سؤالات
السؤال الأول لم لم يقل عن جوع وعن خوف قلنا لأن معنى عن أنه جعل الجوع بعيداً عنهم وهذا يقتضي أن يكون ذلك التبعيد مسبوقاً بمقاشاة الجوع زماناً ثم يصرفه عنه ومن لا تقتضي ذلك بل معناه أنهم عندما يجوعون يطعمون وحين ما يخافون يؤمنون
السؤال الثاني لم قال من جوع من خوف على سبيل التنكير الجواب المراد من التنكير التعظيم أما الجوع فلما روينا أنه أصابتهم شدة حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة وأما الخوف فهو الخوف الشديد الحاصل من أصحاب الفيل ويحتمل أن يكون المراد من التنكير التحقير يكون المعنى أنه تعالى لما لم يجوز لغاية كرمه إبقاءهم في ذلك الجوع القليل والخوف القليل فكيف يجوز في كرمه لو عبدوه أن يهمل أمرهم ويحتمل أن يكون المراد أنه أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ دون جوع الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن دون خوف ليكون الجوع الثاني والخوف الثاني مذكراً ما كانوا فيه أولاً من أنواع الجوع والخوف حتى يكونوا شاكرين من وجه وصابرين من وجه آخر فيستحقوا ثواب الخصلتين
السؤال الثالث أنه تعالى إنما أطعمهم وآمنهم إجابة لدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أما في الإطعام فهو قوله وَارْزُقْ أَهْلَهُ وأما الأمان فهو قوله اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا وإذا كان كذلك كان ذلك منة على إبراهيم عليه السلام فكيف جعله منة على أولئك الحاضرين والجواب أن الله تعالى لما قال إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قال إبراهيم وَمِن ذُرّيَتِى فقال الله تعالى لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فنادى إبراهيم بهذا الأدب فحين قال رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ قيده بقوله مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ فقال الله لا حاجة إلى هذا التقيد بل ومن كفر فأمتعه قليلاً فكأنه تعالى قال أما نعمة الأمان فهي دينية فلا تحصل إلا لمن كان تقياً وأما نعمة الدنيا فهي تصل إلى البر والفاجر والصالح والطالح وإن كان كذلك كان إطعام الكافر من الجوع وأمانه من الخوف إنعاماً من الله ابتداء عليه لا بدعوة إبراهيم فزال السؤال والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(32/103)
سورة الماعون
سبع آيات مكية
أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ
أَرَءيْتَ الَّذِى يُكَذّبُ بِالدّينِ فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ بعضهم أريت بحذف الهمزة قال الزجاج وهذا ليس بالاختيار لأن الهمزة إنما طرحت من المستقبل نحو يرى وأرى وترى فأما رأيت فليس يصح عن العرب فيها ريت ولكن حرف الاستفهام لما كان في أول الكلام سهل إلغاء الهمزة ونظيره صاح هل ريت أو سمعت براع
رد في الضرع ما قرى في العلاب
وقرأ ابن مسعود أرأيتك بزيادة حرف الخطاب كقوله قَالَ أَرَءيْتَكَ هَاذَا الَّذِى عَلَى
المسألة الثانية قوله أَرَأَيْتَ معناه هل عرفت الذي يكذب بالجزاء من هو فإن لم تعرفه فَهُوَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ
واعلم أن هذا اللفظ وإن كان في صورة الاستفهام لكن الغرض بمثله المبالغة في التعجب كقولك أرأيت فلاناً ماذا ارتكب ولماذا عرض نفسه ثم قيل إنه خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل بل خطاب لكل عاقل أي أرأيت يا عاقل هذا الذي يكذب بالدين بعد ظهور دلائله ووضوح تبيانه أيفعل ذلك لا لغرض فكيف يليق بالعاقل جر العقوبة الأبدية إلى نفسه من غير غرض أو لأجل الدنيا فكيف يليق بالعاقل أن يبيع الكثير الباقي بالقليل الفاني
المسألة الثالثة في الآية قولان أحدهما أنها مختصة بشخص معين وعلى هذا القول ذكروا(32/104)
أشخاصاً فقال ابن جريج نزلت في أبي سفيان كان ينحر جزورين في كل أسبوع فأتاه يتيم فسأله لحماً فقرعه بعصاه وقال مقاتل نزلت في العاص بن وائل السهمي وكان من صفته الجمع بين التكذيب بيوم القيامة والإتيان بالأفعال القبيحة وقال السدي نزلت في الوليد بن المغيرة وحكى الماوردي أنها نزلت في أبي جهل وروى أنه كان وصياً ليتيم فجاءه وهو عريان يسأله شيئاً من مال نفسه فدفعه ولم يعبأ به فأيس الصبي فقال له أكابر قريش قل لمحمد يشفع لك وكان غرضهم الاستهزاء ولم يعرف اليتيم ذلك فجاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والتمس منه ذلك وهو عليه الصلاة والسلام ما كان يرد محتاجاً فذهب معه إلى أبي جهل فرحب به وبذل المال لليتيم فعيرة قريش فقالوا صبوت فقال لا والله ما صبوت لكن رأيت عن يمينه وعن يساره حربة خفت إن لم أجبه يطعنها في وروى عن ابن عباس أنها نزلت في منافق جمع بين البخل والمراءاة والقول الثاني أنه عام لكل من كان مكذباً بيوم الدين وذلك لأن إقدام الإنسان على الطاعات وإحجامه عن المحظورات إنما يكون للرغبة في الثواب والرهبة عن العقاب فإذا كان منكراً للقيامة لم يترك شيئاً من المشتهيات واللذات فثبت أن إنكار القيامة كالأصل لجميع أنواع الكفر والمعاصي
المسألة الرابعة في تفسير الدين وجوه أحدها أن يكون المراد من يكذب بنفس الدين والإسلام إما لأنه كان منكراً للصانع أو لأنه كان منكراً للنبوة أو لأنه كان منكراً للمعاد أو لشيء من الشرائع فإن قيل كيف يمكن حمله على هذا الوجه ولا بد وأن يكون لكل أحد دين والجواب من وجوه أحدها أن الدين المطلق في اصطلاح أهل الإسلام والقرآن هو الإسلام قال الله تعالى إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ أما سائر المذاهب فلا تسمى ديناً إلا بضرب من التقييد كدين النصارى واليهود وثانيها أن يقال هذه المقالات الباطلة ليست بدين لأن الدين هو الخضوع لله وهذه المذاهب إنما هي خضوع للشهوة أو للشبهة وثالثها وهو قوله أكثر المفسرين أن المراد أرأيت الذي يكذب بالحساب والجزاء قالوا وحمله على هذا الوجه أولى لأن من ينكر الإسلام قد يأتي بالأفعال الحميدة ويحترز عن مقابحها إذا كان مقراً بالقيامة والبعث أما المقدم على كل قبيح من غير مبالاة فليس هو إلا المنكر للبعث والقيامة
فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ
ثم قال تعالى فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ
واعلم أنه تعالى ذكر في تعريف من يكذب الدين وصفين أحدهما من باب الأفعال وهو قوله فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ والثاني من باب التروك وهو قوله وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ والفاء في قوله فذلك للسببية أي لما كان كافراً مكذباً كان كفره سبباً لدع اليتيم وإنما اقتصر عليهما على معنى أن الصادر عمن يكذب بالدين ليس إلا ذلك لأنا نعلم أن المكذب بالدين لا يقتصر على هذين بل على سبيل التمثيل كأنه تعالى ذكر في كل واحد من القسمين مثالاً واحداً تنبيهاً بذكره على سائر القبائح أو لأجل أن هاتين الخصلتين كماأنهما قبيحان منكران بحسب الشرع فهما أيضاً مستنكران بحسب المروءة والإنسانية أما قوله يَدُعُّ الْيَتِيمَ فالمعنى أنه يدفعه بعنف وجفوة كقوله يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا وحاصل الأمر في دع اليتيم أمور أحدها دفعه عن حقه وماله بالظلم والثاني ترك المواساة(32/105)
معه وإن لم تكن المواساة واجبة وقد يذم المرء بترك النوافل لاسيما إذا أسند إلى النفاق وعدم الدين والثالث يزجره ويضربه ويستخف به وقرىء يدع أي يتركه ولا يدعوه بدعوة أي يدعوا جميع الأجانب ويترك اليتيم مع أنه عليه الصلاة والسلام قال ( ما من مائدة أعظم من مائدة عليها يتيم ) وقرىء يدعو اليتيم أي يدعوه رياء ثم لا يطعمه وإنما يدعوه استخداماً أو قهراً أو استطالة
واعلم أن في قوله يَدُعُّ بالتشديد فائدة وهي أن يدع بالتشديد معناه أنه يعتاد ذلك فلا يتناول الوعيد من وجد منه ذلك وندم عليه ومثله قوله تعالى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ سمى ذنب المؤمن لمماً لأنه كالطيف والخيال يطرأ ولا يبقى لأن المئمن كما يفرغ من الذنب يندم إنما المكذب هو الذي يصر على الذنب
أما قوله وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ففيه وجهان أحدهما أنه لا يحض نفسه على طعام المسكين وإضافة الطعام إلى المسكين تدل على أن ذلك الطعام حق المسكين فكأنه منه المسكين مما هو حقه وذلك يدل على نهاية بخله وقساوة قلبه وخساسة طبعه والثاني لا يحض غيره على إطعام ذلك المسكين بسبب أنه لا يتقد في ذلك الفعل ثواباً والحاصل أنه تعالى جعل علم التكذيب بالقيامة الإقدام على إيذاء الضعيف ومنع المعروف يعني أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد لما صدر عنه ذلك فموضع الذنب هو التكذيب بالقيامة وههنا سؤالان
السؤال الأول أليس قد لا يحض المرء في كثير من الأحوال ولا يكون آثماً الجواب لأنه غيره ينوب منابه أو لأنه لا يقبل قوله أو لمفسدة أخرى يتوقعها أما ههنا فذكر أنه لا يفعل ذلك ( إلا ) لما أنه مكذب بالدين
السؤال الثاني لم لم يقل ولا يطعم المسكين والجواب إذا منع اليتيم حقه فكيف يطعم المسكين من مال نفسه بل هو بخيل من مال غيره وهذا هو النهاية في الخسة فلأن يكون بخيلاً بمال نفسه أولى وضده في مدح المؤمنين وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَة ِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ
فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ
ثم قال تعالى فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه أحدها أنه لا يفعل إيذاء اليتيم والمنع من الإطعام دليلاً على النفاق فالصلاة لا مع الخضوع والخضوع أولى أن تدل على النفاق لأن الإيذاء والمنع من النفع معاملة مع المخلوق أما الصلاة فإنها خدمة للخالق وثانيها كأنه لما ذكر إيذاء اليتيم وتركه للحض كأن سائلاً قال أليس إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر فقال له الصلاة كيف تنهاه عن هذا الفعل المنكر وهي مصنوعة من عين الرياء والسهو وثالثها كأنه يقول إقدامه على إيذاء اليتيم وتركه للحض تقصير فيما يرجع إلى الشفقة على خلق الله وسهوه في الصلاة تقصير فيما يرجع إلى التعظيم لأمر الله فلما وقع التقصير في الأمرين فقد كملت شقاوته فلهذا قال فَوَيْلٌ واعلم أن هذا اللفظ إنما(32/106)
يستعمل عند الجريمة الشديدة كقوله وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَة ٍ لُّمَزَة ٍ ويروى أن كل أحد ينوح في النار بحسب جريمته فقائل يقول ويلي من حب الشرف وآخر يقول ويلي من الحمية الجاهلية وآخر يقول ويلي من صلاتي فلهذا يستحب عند سماع مثل الآية أن يقول المرء ويلي إن لم يغفر لي
المسألة الثانية الآية دالة على حصول التهديد العظيم بفعل ثلاثة أمور أحدها السهو عن الصلاة وثانيها فعل المراءاة وثالثها منع الماعون وكل ذلك من باب الذنوب ولا يصير المرء به منافقاً فلم حكم الله بمثل هذا الوعيد على فاعل هذه الأفعال ولأجل هذا الإشكال ذكر المفسرون فيه وجوهاً أحدها أن قوله فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ أي فويل للمصلين من المنافقين الذين يأتون بهذه الأفعال وعلى هذا التقدير تدل الآية على أن الكافر له مزبد عقوبة بسبب إقدامه على محظورات الشرع وتركه لواجبات الشرع وهو يدل على صحة قول الشافعي إن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع وهذا الجواب هو العتمد وثانيها ما رواه عطاء عن ابن عباس أنه لو قال الله في صلاتهم ساهون لكان هذا الوعيد في المؤمنين لكنه قال عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ والساهي عن الصلاة هو الذي لا يتذكرها ويكون فارغاً عنها وهذا القول ضعيف لأن السهو عن الصلاة لا يجوز أن يكون مفسراً بترك الصلاة لأنه تعالى أثبت لهم الصلاة بقوله فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ وأيضاً فالسهو عن الصلاة بمعنى الترك لا يكون نفاقاً ولا كفراً فيعود الإشكال ويمكن أن يجاب عن الاعتراض الأول بأنه تعالى حكم عليهم بكونهم مضلين نظراً ءلى الصورة وبأنهم نسوا الصلاة بالكلية نظراً إلى المعنى كما قال إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَواة ِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءونَ ويجاب عن الاعتراض الثاني بأن النسيان عن الصلاة هو أن يبقى ناسياً لذكر الله في جميع أجزاء الصلاة وهذا لا يصدر إلا عن المنافق الذي يعتقد أنه لا فائدة في الصلاة أما المسلم الذي يعتقد فيها فائدة عينية يمتنع أن لا يتذكر أمر الدين والثواب والعقاب في شيء من أجزاء الصلاة بل قد يحصل له السهو في الصلاة بمعنى أنه يصير ساهياً في بعض أجزاء الصلاة فثبت أن السهو في الصلاة من أفعال المؤمن والسهو عن الصلاة من أفعال الكافر وثالثها أن يكون معنى سَاهُونَ أي لا يتعهدون أوقات صلواتهم ولا شرائطها ومعناه أنه لا يبالي سواء صلى أو لم يصل وهو قول سعد بن أبي وقاص ومسروق والحسن ومقاتل
المسألة الثالثة اختلفوا في سهو الرسول عليه الصلاة والسلام في صلاته فقال كثير من العلماء إنه عليه الصلاة والسلام ما سها لكن الله تعالى أذن له في ذلك الفعل حتى يفعل ما يفعله الساهي فيصير ذلك بياناً لذلك الشرع بالفعل والبيان بالفعل أقوى ثم بتقدير وقوع السهو منه فالسهو على أقسام أحدها سهو الرسول والصحابة وذلك منجبر تارة بسجود السهو وتارة بالسنن والنوافل والثاني ما يكون في الصلاة من الغفلة وعدم استحضار المعارف والنيات والثالث الترك لا إلى قضاء والإخراج عن الوقت ومن ذلك صلاة المنافق وهي شر من ترك الصلاة لأنه يستهزىء بالدين بتلك الصلاة
الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ
أما قوله تعالى الَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ فاعلم أن الفرق بين المنافق والمرائي أن المنافق هو المظهر للإيمان المبطن للكفر والمرائي المظهر ما ليس في قلبه من زيادة خشوع ليعتقد فيه من يراه أنه متدين أو تقول المنافق لا يصلي سراً والمرائي تكون صلاته عند الناس أحسن(32/107)
اعلم أنه يجب إظهار الفرائض من الصلاة والزكاة لأنها شعائر الإسلام وتاركها مستحق للعن فيجب نفي التهمة بالإظهار إنما الإخفاء في النوافل إلا إذا أظهر النوافل ليقتدي به وعن بعضهم أنه رأى في المسجد رجلاً يسجد للشكر وأطالها فقال ما أحسن هذا لو كان في بيتكا لكن مع هذا قالوا لا يترك النوافل حياء ولا يأتى بها رياء وقلما يتيسر اجتناب الرياء ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على المسح الأسود ) فإن قيل ما معنى المراءاة قلنا هي مفاعلة من الإرادة لأن المرائي يرى الناس عمله وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به
واعلم أن قوله عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ يفيد أمرين إخراجها عن الوقت وكون الإنسان غافلاً فيها قوله الَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ يفيد المراءاة فظهر أن الصلاة يجب أن تكون خالية عن هذه الأحوال الثلاثة
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ
ثم لما شرح أمر الصلاة أعقبه بذكر الصلاة فقال وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ وفيه أقوال الأول وهو قول أبي بكر وعلي وابن عباس وابن الحنفية وابن عمر والحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والضحاك هو الزكاة وفي حديث أبي ( من قرأ سورة أَرَأَيْتَ غفر الله له إن كان للزكاة مؤدياً ) وذلك يوهم أن الْمَاعُونَ هو الزكاة ولأن الله تعالى ذكره عقيب الصلاة فالظاهر أن يكون ذلك هو الزكاة والقول الثاني وهو قول أكثر المفسرين أن الْمَاعُونَ اسم لما لا يمنع في العادة ويسأله الفقير والغني ينسب مانعه إلى سوء الخلق ولؤم الطبيعة كالفأس والقدر والدلو والمقدحة والغربال والقدوم ويدخل فيه الملح والماء والنار فإنه روى ( ثلاثة لا يحل منعها الماء والنار والملح ) ومن ذلك أن يلتمس جارك أن يخبز في تنورك أو يضع متاعه عندك يوماً أو نصف يوم وأصحاب هذا القول قالوا الماعون فاعول من المعن وهو الشيء القليل ومنه ماله سعته ولا معنة أي كثير و ( لا ) قليل وسميت الزكاة ماعوناً لأنه يؤخذ من المال ربع العشر فهو قليل من كثير ويسمى ما يستعار في العرف كالفأس والشفرة ماعوناً وعلى هذا التقدير يكون معنى الآية الزجر عن البخل بهذه الأشياء القليلة فإن البخل بها يكون في نهاية الدناءة والركاكة والمنافقون كانوا كذلك لقوله تعالى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وقال مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ قال العلماء ومن الفضائل أن يستكثر الرجل في منزله مما يحتاج إليه الجيران فيعيرهم ذلك ولا يقتصر على الواجب والقول الثالث قال الفراء سمعت بعض العرب يقول الماعون هو الماء وأنشدني فيه
يمج بعيره الماعون مجاً
ولعله خصه بذلك لأن أعز مفقود وأرخص موجود وأول شيء يسأله أهل النار الماء كما قال أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء وأول لذة يجدها أهل الجنة هو الماء كما قال وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ القول الرابع الْمَاعُونَ حسن الانقياد يقال رض بعيرك حتى يعطيك الماعون أي حتى يعطيك الطاعة(32/108)
واعلم أن الأولى أن يحمل على كل طاعة يخف فعلها لأنه أكثر فائدة ثم قال المحققون في الملاءمة بين قوله يُرَاءونَ وبين قوله وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ كأنه تعالى يقول الصلاة لي والماعون للخلق فما يجب جعله لي يعرضونه على الخلق وما هو حق الخلق يسترونه عنهم فكأنه لا يعامل الخلق والرب إلا على العكس فَانٍ قِيلَ لم لم يذكر الله اسم الكافر بعينه فإن قلت للستر عليه قلت لم لم يستر على آدم بل قال وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ والجواب أنه تعالى ذكر زلة آدم لكن بعد موته مقروناً بالتوبة ليكون لطفاً لأولاده أنه أخرج من الجنة بسبب الصغيرة فكيف يطمعون في الدخول مع الكبيرة وأيضاً فإن وصف تلك الزلة رفعة له فإنه رجل لم يصدر عنه إلا تلك الزلة الواحدة ثم تاب عنها مثل هذه التوبة
ولنختم تفسير هذه السورة بالدعاء إلهنا هذه السورة في ذكر المنافقين والسورة التي بعدها في صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فنحن وإن لم نصل في الطاعة إلى محمد عليه الصلاة والسلام وإلى أصحابه لم نصل في الأفعال القبيحة إلى هؤلاء المنافقين فاعف عنا بفضلك يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(32/109)
سورة الكوثر
ثلاث آيات مكية
إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ
اعلم أن هذه السورة على اختصارها فيها لطائف أحداها أن هذه السورة كالمقابلة للسورة المتقدمة وذلك لأن في السورة المتقدمة وصف الله تعالى المنافق بأمور أربعة أولها البخل وهو المراد من قوله يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ الثاني ترك الصلاة وهو المراد من قوله الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ والثالث المراءاة في الصلاة هو المراد من قوله الَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ والرابع المنع من الزكاة وهو المراد من قوله وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ فذكر في هذه السورة في مقابلة تلك الصفات الأربع صفات أربعة فذكر في مقابلة البخل قوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ أي إنا أعطيناك الكثير فأعط أنت الكثير ولا تبخل وذكر في مقابلة الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ قوله فَصْلٌ أي دم على الصلاة وذكر في مقابلة الَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ قوله لِرَبّكِ أي ائت بالصلاة لرضا ربك لا لمراءاة الناس وذكر في مقابلة وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ قوله وَانْحَرْ وأراد به التصدق بلحم الأضاحي فاعتبر هذه المناسبة العجيبة ثم ختم السورة بقوله إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ أي المنافق الذي يأتي بتلك الأفعال القبيحة المذكورة في تلك السورة سيموت ولا يبقى من دناه أثر ولا خبر وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل وفي الآخرة الثواب الجزيل
والوجه الثاني في لطائف هذه السورة أن السالكين إلى الله تعالى لهم ثلاث درجات أعلاها أن(32/110)
يكونوا مستغرقين بقلوبهم وأرواحهم في نور جلال الله وثانيها أن يكونوا مشتغلين بالطاعات والعبادات البدنية وثالثها أن يكونوا في مقام منع النفس عن الانصباب إلى اللذات المحسوسة والشهوات العاجلة فقوله الْمَاعُونَ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ إشارة إلى المقام الأول وهو كون روحه القدسية متميزة عن سائر الأرواح البشرية بالكم والكيف أمابالكم فلأنها أكثر مقدمات وأما بالكيف فلأنها أسرع انتقالاً من تلك المقدمات إلى النتائج من سائر الأرواح وأما قوله فَصَلّ لِرَبّكَ فهو إشارة إلى المرتبة الثانية وقوله وَانْحَرْ إشارة إلى المرتبة الثالثة فإن منع النفس عن اللذات العاجلة جار مجرى النحر والذبح ثم قال إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ ومعناه أن النفس التي تدعوك إلى طلب هذه المحسوسات والشهوات العاجلة أنها دائرة فانية وإنما الباقيات الصالحات خير عند ربك وهي السعادات الروحانية والمعارف الربانية التي هي باقية أبدية ولنشرع الآن في التفسير قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ اعلم أن فيه فوائد
الفائدة الأولى أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور وكالأصل لما بعدها من السور أما أنها كالتتمة لما قبلها من السور فلأن الله تعالى جعل سورة وَالضُّحَى في مدح محمد عليه الصلاة والسلام وتفصيل أحواله فذكر في أول السورة ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته أولها قوم مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وثانيها قوله وَلَلاْخِرَة ُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى وثالثها وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ثم ختم هذه السورة بذكر ثلاثة أحوال من أحواله عليه السلام فيما يتعلق بالدنيا وهي قوله أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَاوَى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى
ثم ذكر في سورة أَلَمْ نَشْرَحْ أنه شرفه بثلاثة أشياء أولها أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وثانيها وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ وثالثها وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
ثم إنه تعالى شرفه في سورة التين بثلاثة أنواع من التشريف أولها أنه أقسم ببلده وهو قوله سِينِينَ وَهَاذَا الْبَلَدِ الاْمِينِ وثانيها أنه أخبر عن خلاص أمته عن النار وهو قوله إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وثالثها وصولهم إلى الثواب وهو قوله فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
ثم شرفه في سورة اقرأ بثلاثة أنواع من التشريفات أولها اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ أي اقرأ القرآن على الحق مستعيناً باسم ربك وثانيها أنه قهر خصمه بقوله فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة َ وثالثها أنه خصه بالقربة التامة وهو وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب
وشرفه في سورة القدر بليلة القدر التي لها ثلاثة أنواع من الفضيلة أولها كونها خَيْرًا مّن أَلْفِ شَهْرٍ وثانيها نزول الْمَلَائِكَة ُ وَالرُّوحُ فِيهَا وثالثها كونها سَلاَماً حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ
وشرفه في سورة لَمْ يَكُنِ بأن شرف أمته بثلاثة تشريفات أولها أنهم خَيْرُ الْبَرِيَّة ِ وثانيها ءانٍ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتُ وثالثها رضا الله عنهم(32/111)
وشرفه في سورة إذا زلزلت بثلاث تشريفات أولها قوله يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا وذلك يقتضي أن الأرض تشهد يوم القيامة لأمته بالطاعة والعبودية والثاني قوله يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ وذلك يدل على أنه تعرض عليهم طاعاتهم فيحصل لهم الفرح والسرور وثالثها قوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ ومعرفة الله لا شك أنها أعظم من كل عظيم فلا بد وأن يصلوا إلى ثوابها ثم شرفه في سورة العاديات بأن أقسم بخيل الغزاة من أمته فوصف تلك الخيل بصفات ثلاث وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً
ثم شرف أمته في سورة القارعة بأمور ثلاثة أولها فمن ثقلت موازينه وثانيها أنهم في عيشة راضية وثالثها أنهم يرون أعداءهم في نار حامية
في شرفه في سورة الهاكم بأن بين أن المعرضين عن دينه وشرعه يصيرون معذبين من ثلاثة أوجه أولها أنهم يرون الجحيم وثانيها أنهم يرونها عين اليقين وثالثها أنهم يسألون عن النعيم
ثم شرف أمته في سورة والعصر بأمور ثلاثة أولها الإيمان إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وثانيها وعملوا الصالحات وثالثها إرشاد الخلق إلى الأعمال الصالحة وهو التواصي بالحق والتواصي بالصبر
ثم شرفه في سورة الهمزة بأن ذكر أن من همز ولمز فله ثلاثة أنواع من العذاب أولها أنه لا ينتفع بدنياه البتة وهو قوله يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ وثانيها أنه ينبذ في الحطمة وثالثها أنه يغلق عليه تلك الأبواب حتى لا يبقى له رجاء في الخروج وهو قوله إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَة ٌ
ثم شرف في سورة الفيل بأن رد كيد أعدائه في نحرهم من ثلاثة أوجه أولها جعل كيدهم في تضليل وثانيها أرسل عليهم طير أبابيل وثالثها جعلهم كعصف مأكول
ثم شرفه في سورة قريش بأنه راعى مصلحة أسلافه من ثلاثة أوجه أولها جعلهم مؤتلفين متوافقين لإيلاف قريش وثانيها أطعمهم من جوع وثالثها أنه آمنهم من خوف
وشرفه في سورة الماعون بأن وصف المكذبين بدينه بثلاثة أنواع من الصفات المذمومة أولها الدناءة واللؤم وهو قوله يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وثانيها ترك تعظيم الخالق وهو قوله عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ وثالثها ترك انتفاع الخلق وهو قوله وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ
ثم إنه سبحانه وتعالى لما شرفه في هذه السور من هذه الوجوه العظيمة قال بعدها إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ أي إنا أعطيناك هذه المناقب المتكاثرة المذكورة في السورة المتقدمة التي كل واحدة منها أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها فاشتغل أنت بعبادة هذا الرب وبإرشاد عباده إلى ما هو الأصلح لهم أما عبادة الرب فإما بالنفس وهو قوله فَصَلّ لِرَبّكَ وإما بالمال وهو قوله وَانْحَرْ وأما إرشاد عباده إلى ما هو الأصلح لهم في دينهم ودنياهم فهو قوله قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ فثبت أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور وأما أنها كالأصل لما بعدها فهو أنه تعالى يأمره بعد هذه السورة بأن(32/112)
يكفر جميع أهل الدنيا بقوله قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ومعلوم أن عسف الناس على مذاهبهم وأديانهم أشد من عسفهم على أرواحهم وأموالهم وذلك أنهم يبذلون أموالهم وأرواحهم في نصرة أديانهم فلا جرم كان الطعن في مذاهب الناس يثير من العداوة والغضب مالا يثير سائر المطاعن فلما أمره بأن يكفر جميع أهل الدنيا ويبطل أديانهم لزم أن يصير جميع أهل الدنيا في غاية العداوة له وذلك مما يحترف عنه كل أحد من الخلق فلا يكاد يقدم عليه وانظر إلى موسى عليه السلام كيف كان يخاف من فرعون وعسكره وأما ههنا فإن محمداً عليه السلام لما كان مبعوثاً إلى جميع أهل الدنيا كان كل واحد من الخلق كفرعون بالنسبة إليه فدبر تعالى في إزالة هذا الخوف الشديد تدبيراً لطيفاً وهو أنه قدم على تلك السورة هذه السورة فإن قوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ يزيل عنه ذلك الخوف من وجوه أحدها أن قوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ أي الخير الكثير في الدنيا والدين فيكون ذلك وعداً من الله إياه بالنصرة والحفظ وهو كقوله وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وقوله وقوله إِلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ومن كان الله تعالى ضامناً لحفظه فإنه لا يخشى أحداً وثانيها أنه تعالى لما قال إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ وهذا اللفظ يتناول خيرات الدنيا وخيرات الآخرة وأن خيرات الدنيا ما كانت واصلة إليه حين كان بمكة والخلف في كلام الله تعالى محال فوجب في حكمة الله تعالى إبقاؤه في دار الدنيا إلى حيث يصل إليه تلك الخيرات فكان ذلك كالبشارة له والوعد بأنهم لا يقتلونه ولا يقهرونه ولا يصل إليه مكرهم بل يصير أمره كل يوم في الازدياد والقوة وثالثها أنه عليه السلام لما كفروا وزيف أديانهم ودعاهم إلى الإيمان اجتمعوا عنده وقالوا إن كنت تفعل هذا طلباً للمال فنعطيك من المال ما تصير به أغنى الناس وإن كان مطلوبك الزوجة نزوجك أكرم نسائنا وإن كان مطلوبك الرياسة فنحن نجعلك رئيساً على أنفسنا فقال الله تعالى إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ أي لما أعطاك خالق السموات والأرض خيرات الدنيا والآخرة فلا تغتر لما لهم ومراعاتهم ورابعها أن قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ يفيد أن الله تعالى تكلم معه لا بواسطة فهذا يقوم مقام قوله وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً بل هذا أشرف لأن المولى إذا شافه عبده بالتزام التربية والإحسان كان ذلك أعلى مما إذا شافهه في غير هذا المعنى بل يفيده قوة في القلب ويزيل الجبن عن النفس فثبت أن مخاطبة الله إياه بقوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ مما يزيل الخوف عن القلب والجبن عن النفس فقدم هذه السورة على سورة قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ حتى يمكنه الاشتغال بذلك التكليف الشاق والإقدام على تكفير جميع العالم وإظهار البراءة عن معبودهم فلما امتثلت أمري فانظر كيف أنجزت لك الوعد وأعطيتك كثرة الأتباع والأشياع إن أهل الدنيا يدخلون في دين الله أفواجاً ثم إنه لما تم أمر الدعوة وإظهار الشريعة شرع في بيان ما يتعلق بأحوال القلب والباطن وذلك لأن الطالب إما أن يكون طلبه مقصوراً على الدنيا أو يكون طالباً للآخرة أما طالب الدنيا فليس له إلا الخسار والذل والهوان ثم يكون مصيره إلى النار وهو المراد من سورة تبت وأما طالب الآخرة فأعظم أحواله أن تصير نفسه كالمرآة التي تنتقش فيها صور الموجودات وقد ثبت في العلوم العقلية أن طريق الخلق في معرفة الصانع على وجهين منهم من عرف الصانع ثم توسل بمعرفتع إلى معرفة مخلوقاته وهذا هو الطريق الأشرف الأعلى ومنهم من عكس وهو طريق الجمهور(32/113)
ثم إنه سبحانه ختم كتابه الكريم بتلك الطريق التي هي أشرف الطريقين فبدأ بذكر صفات الله وشرح جلاله وهو سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثم أتبعه بذكر مراتب مخلوقاته في سورة قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ ثم ختم بذكر مراتب النفس الإنسانية وعند ذلك ختم الكتاب وهذه الجملة إنما يتضح تفصيلها عند تفسير هذه السورة على التفصيل فسبحان من أرشد العقول إلى معرفة هذه الأسرار الشريفة المودعة في كتابه الكريم
الفائدة الثانية في قوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ هي أن كلمة أَنَاْ تارة يراد بها الجمع وتارة يراد بها التعظيم
أما الأول فقد دل على أن الإله واحد فلا يمكن حمله على الجمع إلا إذا أريد أن هذه العطية مما سعى في تحصيلها الملائكة وجبريل وميكائيل والأنبياء المتقدمون حين سأل إبراهيم إرسالك فقال رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ وقال موسى رب اجعلني من أمة أحمد وهو المراد من قوله وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الاْمْرَ وبشر بك المسيح في قوله وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ
وأما الثاني وهو أن يكون ذلك محمولاً على التعظيم ففيه تنبيه على عظمة العطية لأن الواهب هو جبار السموات والأرض والموهوب منه هو المشار إليه بكاف الخطاب في قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ والهبة هي الشيء المسمى بالكوثر وهو ما يفيد المبالغة في الكثرة ولما أشعر اللفظ بعظم الواهب والموهوب منه والموهوب فيالها من نعمة ما أعظمها وما أجلها وياله من تشريف ما أعلاه
الفائدة الثالثة أن الهدية وإن كانتقليلة لكنها بسبب كونها واصلة من المهدي العظيم تصير عظيمة ولذلك فإن الملك العظيم إذا رمى تفاحة لبعض عبيده على سبيل الإكرام يعد ذلك إكراماً عظيماً لا لأن لذة الهدية في نفسها بل لأن صدورها من المهدي العظيم يوجب كونها عظيمة فههنا الكوثر وإن كان في نفسه في غاية الكثرة لكنه بسبب صدوره من ملك الخلائق يزداد عظمة وكمالاً
الفائدة الرابعة أنه لما قال أَعْطَيْنَاكَ قرن به قرينة دالة على أنه لا يسترجعها وذلك لأن من مذهب أبي حنيفة أنه يجوز للأجنبي أن يسترجع موهوبه فإن أخذ عوضاً وإن قل لم يجز له ذلك الرجوع لأن من وهب شيئاً يساوي ألف دينار إنساناً ثم طلب منه مشطاً يساوي فلساً فأعطاه سقط حق الرجوع فههنا لما قال إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ طلب منه الصلاة والنحر وفائدته إسقاط حق الرجوع
الفائدة الخامسة أنه بنى الفعل على المبتدأ وذلك يفيد التأكيد والدليل عليه أنك لما ذكرت الاسم المحدث عنه عرف العقل أنه يخبر عنه بأمر فيصبر مشتاقاً إلى معرفة أنه بماذا يخبر عنه فإذا ذكر ذلك الخبر قبله قبول العاشق لمعشوقه فيكون ذلك أبلغ في التحقيق ونفى الشبهة ومن ههنا تعرف الفخامة في قوله فَإِنَّهَا لاَ لاِوْلِى الاْبْصَارِ فإنه أكثر فخامة مما لو قال فإن الأبصار لا تعمى ومما يحقق قولنا قول الملك العظيم لمن يعده ويضمن له أنا أعطيك أنا أكفيك أنا أقوم بأمرك وذلك إذا كان الموعود به أمراً عظيماً فلما تقع المسامحة به فعظمه يورث الشك في الوفاء به فإذا أسند إلى المتكفل العظيم فحينئذ يزول ذلك الشك وهذه الآية من هذا الباب لأن الكوثر شيء عظيم قلما تقع المسامحة به فلما(32/114)
قدم المبتدأ وهو قوله أَنَاْ صار ذلك الإسناد مزيلاً لذلك الشك ودافعاً لتلك الشبهة
الفائدة السادسة أنه تعالى صدر الجملة بحرف التأكيد الجاري محرى القسم وكلام الصادق مصون عن الخلف فكيف إذا بالغ في التأكيد
الفائدة السابعة قال أَعْطَيْنَاكَ ولم يقل سنعطيك لأن قوله أَعْطَيْنَاكَ يدل على أن هذا الإعطاء كان حاصلاً في الماضي وهذا فيه أنواع من الفوائد إحداها أن من كان في الزمان الماضي أبداً عزيزاً مرعي الجانب مقضي الحاجة أشرف ممن سيصير كذلك ولهذا قال عليه السلام ( كنت نبياً وآدم بين الماء والطين ) وثانيها أنها إشارة إلى أن حكم الله بالإسعاد والإشفاء والإغناء والإفقار ليس أمراً يحدث الآن بل كان حاصلاً في الأزل وثالثها كأنه يقول إنا قد هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في الوجود فكيف نهمل أمرك بعد وجودك واشتغالك بالعبودية ا ورابعها كأنه تعالى يقول نحن ما اخترناك وما فضلناك لأجل طاعتك وإلا كان يجب أن لا نعطيك إلا بعد إقدامك على الطاعة بل إنما اخترناك بمجرد الفضل والإحسان منا إليك من غير موجب وهو إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام ( قبل من قبل لا لعلة ورد من رد لا لعلة )
الفائدة الثامنة قال أَعْطَيْنَاكَ ولم يقل أعطينا الرسول أو النبي أو العالم أو المطيع لأنه لو قال ذلك لأشعر أن تلك العطية وقعت معللة بذلك الوصف فلما قال أَعْطَيْنَاكَ علم أن تلك العطية غير معللة بعلة أصلاً بل هي محض الاختيار والمشيئة كما قال نَحْنُ قَسَمْنَا اللَّهِ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ
الفائدة التاسعة قال أولاً إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ ثم قال ثانياً فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ وهذا يدل على أن إعطاؤه للتوفيق والإرشاد سابق على طاعاتنا وكيف لا يكون كذلك وإعطاؤه إيانا صفته وطاعتنا له صفتنا وصفة الخلق لا تكون مؤثرة في صفة الخالق إنما المؤثر هو صفة الخالق في صفة الخلق ولهذا نقل عن الواسطي أنه قال لا أعبد رباً يرضيه طاعتي ويسخطه معصيتي ومعناه أن رضاه وسخطه قديمان وطاعتي ومعصيتي محدثتان والمحدث لا أثر له في قديم بل رضاه عن العبد هو الذي حمله على طاعته فيما لا يزال وكذا القول في السخط والمعصية
الفائدة العاشرة قال أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ولم يقل آتيناك الكوثر والسبب فيه أمران الأول أن الإيتاء يحتمل أن يكون واجباً وأن يكون تفضلاً وأما الإعطاء فإنه بالتفضل أشبه فقوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ يعني هذه الخيرات الكثيرة وهي الإسلام والقرآن والنبوة والذكر الجميل في الدنيا والآخرة محض التفضل منا إليك وليس منه شيء على سبيل الاستحقاق والوجوب وفيه بشارة من وجهين أحدهما أن الكريم إذا شرع في التربية على سبيل التفضل فالظاهر أنه لا يبطلها بل كان كل يوم يزيد فيها الثاني أن ما يكون سبب الاستحقاق فإنه يتقدر بقدر الاستحقاق وفعل العبد متناه فيكون الاستحقاق الحاصل بسببه متناهياً أما التفضل فإنه نتيجة كرم الله غير متناه فيكون تفضله أيضاً غير متناه فلما دل قوله أَعْطَيْنَاكَ على أنه تفضل لا استحقاق أشعر ذلك بالدوام والتزايد أبداً فإن قيل أليس قال سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءانَ قلنا الجواب من وجهين الأول أن الإعطاء يوجب التمليك(32/115)
والملك سبب الاختصاص والدليل عليه أنه لما قال سليمان هَبْ لِى مَلَكًا فقال هَاذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ ولهذا السبب من حمل الكوثر على الحوض قال الأمة تكون أضيافاً له أما الإيتاء فإنه لا يفيد الملك فلهذا قال في القرآن ءاتَيْنَاكَ فإنه لا يجوز للنبي أن يكتم شيئاً منه الثاني أن الشركة في القرآن شركة في العلوم ولا عيب فيها أما الشركة في النهر فهي شركة في الأعيان وهي عيب الوجه الثاني في بيان أن الإعطاء أليق بهذا المقام من الإيتاء هو أن الإعطاء يستعمل في القليل والكثير قال الله تعالى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أما الإيتا فلا يستعمل إلا في الشيء العظيم قال الله تعالى وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ مِنَّا فَضْلاً والأتي السيل المنصب إذا ثبت هذا فقوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ يفيد تعظيم حال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من وجوه أحدها يعني هذا الحوض كالشيء القليل الحقير بالنسبة إلى ما هو مدخر لك من الدرجات العالية والمراتب الشريفة فهو يتضمن البشارة بأشياء هي أعظم من هذا المذكور وثانيها أن الكوثر إشارة إلى الماء كأنه تعالى يقول الماء في الدنيا دون الطعام فإذا كان نعيم الماء كوثراً فكيف سائر النعيم وثالثها أن نعيم الماء إعطاء ونعيم الجنة إيتاء ورابعها كأنه تعالى يقول هذا الذي أعطيتك وإن كان كوثراً لكنه في حقك إعطاء لا إيتاء لأنه دون حقك وفي العادة أن المهدي إذا كان عظيماً فالهدية وإن كانت عظيمة إلا أنه يقال إنها حقيرة أي هي حقيرة بالنسبة إلى عظمة المهدي له فكذا ههنا وخامسها أن نقول إنما قال فيما أعطاه من الكوثر أعطيناك لأنه دنيا والقرآن إيتاء لأنه دين وسادسها كأنه يقول جميع ما نلت مني عطية وإن كانت كوثراً إلا أن الأعظم من ذلك الكوثر أن تبقى مظفراً وخصمك أبتر فإنا أعطيناك بالتقدمة هذا الكوثر أما الذكر الباقي والظفر على العدو فلا يحسن إعطاؤه إلا بعد التقدمة بطاعة تحصل منك فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ أي فاعبد لي وسل الظفر بعد العبادة فإني أوجبت على كرمي أن بعد كل فريضة دعوة مستجابة كذا روى في الحديث المسند فحينئذ أستجيب فيصير خصمك أبتر وهو الإيتاء فهذا ما يخطر بالبال في تفسير قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ أما الكوثر فهو في اللغة فوعل من الكثرة وهو المفرط في الكثرة قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر بم آب ابنك قالت آب بكوثر أي بالعدد الكثير ويقال للرجل الكثير العطاء كوثر قال الكميت
وأنت كثير يا ابن مروان طيب
وكان أبوك ابن الفضائل كوثراً ويقال للغبار إذا سطع وكثر كوثر هذا معنى الكوثر في اللغة واختلف المفسرون فيه على وجوه الأول وهو المشهور والمستفيض عند السلف والخلف أنه نهر في الجنة روى أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( رأيت نهراً في الجنة حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف فضربت بيدي إلى مجرى الماء فإذا أنا بمسك أذفر فقلت ما هذا قيل الكوثر الذي أعطاك الله ) وفي رواية أنس ( أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل فيه طيور خضر لها أعناق كأعناق البخت من أكل من ذلك الطير وشرب من ذلك الماء فاز بالرضوان ) ولعله إنما سمي ذلك النهر كوثراً إما إنه أكثر أنهار الجنة ماء وخيراً أو لأنه انفجر منه أنهار الجنة كما روى أنه ما في الجنة بستان إلا وفيه من الكوثر نهر جار أو لكثر الذين يشربون منها أو لكثرة ما فيها من المنافع على ما قال عليه السلام ( إنه نهر وعدنيه ربي فيه خير كثير ) القول الثاني أنه حوض والأخبار فيه مشهورة ووجه التوفيق بين هذا القول والقول الأول أن يقال لعل النهر ينصب في الحوض أو لعل الأنهار إنما تسيل من ذلك(32/116)
الحوض فيكون ذلك الحوض كالمنبع والقول الثالث الكوثر أولاده قالوا لأن هذه السورة إنما نزلت رداً على من عابه عليه السلام بعدم الأولاد فالمعنى أنه يعطيه نسلاً يبقون على مر الزمان فانظر كم قتل من أهل البيت ثم العالم ممتلىء منهم ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يعبأ به ثم أنظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام والنفس الزكية وأمثالهم القول الرابع الكوثر علماء أمته وهو لعمري الخير الكثير لأنهم كأنبياء بني إسرائيل وهم يحبون ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وينشرون آثار دينه وأعلام شرعه ووجه التشبيه أن الأنبياء كانوا متفقين على أصول معرفة الله مختلفين في الشريعة رحمة على الخلق ليصل كل أحد إلى ما هو صلاحه كذا علماء أمته متفقون بأسرهم على أصول شرعه لكنهم مختلفون في فروع الشريعة رحمة على الخلق ثم الفضيلة من وجهين أحدهما أنه يروى أنه يجاء يوم القيامة بكل نبي ويتبعه أمته فربما يجيء الرسول ومعه الرجل والرجلان ويجاء بكل عالم من علماء أمته ومعه الأولف الكثيرة فيجتمعون عند الرسول فربما يزيد عدد متبعي بعض العلماي على عدد متبعيألف من الأنبياء الوجه الثاني أنهم كانوا مصيبين لأتباعهم النصوص المأخوذة من الوحي وعلماء هذه الأمة يكونون مصيبين مع كد الاستنباط والاجتهاد أو على قول البعض إن كان بعضهم مخطئاً لكن المخطىء يكون أيضاً مأجوراً القول الخامس الكوثر هو النبوة ولا شك أنها الخير الكثير لأنها المنزلة التي هي ثانية الربوبية ولهذا قال مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وهو شطر الإيمان بل هي كالغصن في معرفة الله تعالى لأن معرفة النبوة لا بد وأن يتقدمها معرفة ذات الله وعلمه وقدرته وحكمته ثم إذا حصلت معرفة النبوة فحينئذ يستفاد منها معرفة بقية السفات كالسمع والبصر والصفات الخيرية والوجدانية على قول بعضهم تم لرسولنا الحظ الأوفر من هذه المنقبة لأنه الذكور قبل سائر الأنبياء والمبعوث بعدهم ثم هو مبعوث إلى الثقلين وهو الذي يحشر قبل كل الأنبياء ولا يجوز ورود الشرع على نسخه وفضائله أكثر من أن تعد وتحصى ولنذكر ههنا قليلاً منها فنقول إن كتاب آدم عليه السلام كان كلمات على ما قال تعالى فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ وكتاب إبراهيم أيضاً كان كلمات على ما قال وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ وكتاب موسى كان صحفاً كما قال صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى أما كتاب محمد عليه السلام فإنه هو الكتاب المهيمن على الكل قال وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ وأيضاً فإن آدم عليه السلام إنما تحدى بالأسماء المنثورة فقال أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء ومحمد عليه الصلاة والسلام إنما تحدى بالمنظوم قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ وأما نوح عليه السلام فإن الله أكرمه بأن أمسك سفينته على الماء وفعل في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما هو أعظم منه روى أن النبي عليه الصلاة والسلام ( كان على شط ماء ومعه عكرمة بن أبي جهل فقال لئن كنت صادقاً فادع ذلك الحجر الذي هو في الجانب الآخر فليسبح ولا يغرق فأشار الرسول إليه فانقلع الحجر الذي أشار إليه من مكانه وسبح حتى صار بين يدي الرسول عليه السلام وسلم عليه وشهد له بالرسالة فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يكفيك هذا قال حتى يرجع إلى مكانه فأمره النبي عليه الصلاة والسلام فرجع إلى مكانه وأكرم إبراهيم فجعل النار عليه برداً وسلاماً وفعل في حق محمد أعظم من ذلك عن محمد بن حاطب قال ( كنت طفلاً فانصب القدر علي من النار فاحترق جلدي كله فحملتني أمي إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقالت هذا ابن حاطب احترق كما ترى فتفل(32/117)
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على جلدي ومسح بيده على المحترق منه وقال أذهب البأس رب الناس فصرت صحيحاً لا بأس بي ) وأكرم موسى ففلق له البحر في الأرض وكرم محمداً ففلق له القمر في السماء ثم أنظر إلى فرق ما بين السماء والأرض وفجر له الماء من الحجر وفجر لمحمد أصابعه عيوناً وأكرم موسى بأن ظلل عليه الغمام وكذا أكرم محمداً بذلك فكان الغمام يظلله وأكرم موسى باليد البيضاء وأكرم محمداً بإعظم من ذلك وهو القرآن العظيم الذي وصل نوره إلى الشرق والغرب وقلب الله عصا موسى ثعباناً ولما أراد أبو جهل أن يرميه بالحجر رأى على كتفيه ثعبانين فانصرف مرعوباً وسبحت الجبال مع داود وسبحت الأحجار في يده ويد أصحابه وكان داود إذا مسك الحديد لان وكان هو لما مسح الشاة الجرباء درت وأكرم داود بالطير المحشورة ومحمداً بالبراق وأكرم عيسى عليه السلام بإحياء الموتى وأكرمه بجنس ذلك حين أضافه اليهود بالشاة المسمومة فلما وضع اللقمة في فمه أخبرته وأبرأ الأكمه والأبرص روى أن امرأة معاذ بن عفراء أتته وكانت برصاء وشكت ذلك إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فمسح عليها رسول الله بغصن فأذهب الله البرص وحين سقطت حدقة الرجل يوم أحد فرفعها وجاء بها إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فردها إلى مكانها وكان عيسى يعرف ما يخفيه الناس في بيوتهم والرسول عرف ما أخفاه عمه مع أم الفضل فأخبره فأسلم العباس لذلك وأما سليمان فإن الله تعالى رد له الشمس مرة وفعل ذلك أيضاً للرسول حين نام ورأسه في حجر علي فانتبه وقد غربت الشمس فردها حتى صلى وردها مرة أخرى لعلي فصلى العصر في وقته وعلم سليمان منطق الطير وفعل ذلك في حق محمد روى أن طيراً فجع بولده فجعل يرفرف على رأسه ويكلمه فقال أيكم فجع هذه بولدها فقال رجل أنا فقال أردد إليها ولدهاا وكلام الذئب معه مشهور وأكرم سليمان بمسيرة غدوة شهراً وأكرمه بالمسير إلى بيت المقدس في ساعة وكان حماره يعفور يرسله إلى من يريد فيجيء به وقد شكوا إليه من ناقة أنها أغيلت وأنهم لا يقدرون عليها فذهب إليها فلما رأته خضعت له وأرسل معاذاً إلى بعض النواحي فلما وصل إلى المفازة فإذا أسد جاثم فهاله ذلك ولم يستجر ( ىء ) أن يرجع فتقدم وقال إني رسول رسول الله فتبصبص وكما انقاد الجن لسليمان فكذلك انقادوا لمحمد عليه الصلاة والسلام وحين جاء الأعرابي بالضب وقال لا أؤمن بك حتى يؤمن بك هذا الضب فتكلم الضب معترفاً برسالته وحين كفل الظبية حين أرسلها الأعرابي رجعت تعدو حتى أخرجته من الكفالة وحنت الحنانة لفراقه وحين لسعت الحية عقب الصديق في الغار قالت كنت مشتاقة إليه منذ كذا سنين فلم حجبتني عنها وأطعم الخلق الكثير من الطعام القليل ومعجزاته أكثر من أن تحصى وتعد فلهذا قدمه الله على الذين اصطفاهم فقال وَإِذَا أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ فلما كانت رسالته كذلك جاز أن يسميها الله تعالى كوثراً فقال إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ القول السادس الكوثر هو القرآن وفضائله لا تحصى وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَة ٍ حِوَلاً قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَاتِ رَبّى القول السابع الكوثر الإسلام وهو لعمري الخير الكثير فإن به يحصل خير الدنيا والآخرة وبفواته يفوت خير الدنيا وخير الآخرة وكيف لا والإسلام عبارة عن المعرفة أو مالا بد فيه من المعرفة قال وَمِنْ يُؤْتِى الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا وإذا كان الإسلام خيراً كثيراً فهو الكوثر فإن قيل لم خصه بالإسلام مع أن نعمه عمت الكل قلنا لأن الإسلام وصل منه إلى غيره فكان عليه السلام كالأصل فيه القول الثامن(32/118)
الكوثر كثرة الأتباع والأشياع ولا شك أن له من الأتباع مالا يحصيهم إلا الله وروى أنه عليه الصلاة والسلام قال ( أنا دعوة خليل الله إبراهيم وأنا بشرى عيسى وأنا مقبول الشفاعة يوم القيامة فبيناً أكون مع الأنبياء إذ تظهر لنا أمة من الناس فنبتدرهم بأبصارنا ما منا من نبي إلا وهو يرجو أن تكون أمته فإذا هم غر محجلون من آثار الوضوء فأقول أمتي ورب الكعبة فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يظهر لنا مثلاً ما ظهر أولاً فنبتدرهم بأبصارنا ما من نبي إلا ويرجو أن تكون أمته فإذا هم غر محجلون من آثار الوضوء فأقول أمتي ورب الكعبة فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يرفع لنا ثلاثة أمثال ما قد رفع فنبتدرهم وذكر كما ذكر في المرة الأولى والثانية ثم قال ليدخلن ثلاث فرق من أمتي الجنة قبل أن يدخلها أحد من الناس ) ولقد قال عليه الصلاة والسلام ( تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط ) فإذا كان يباهي بمن لم يبلغ حد التكليف فكيف بمثل هذا الجم الغفير فلا جرم حسن منه تعالى أن يذكره هذه النعمة الجسيمة فقال الْمَاعُونَ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ القول التاسع الْكَوْثَرَ الفضائل الكثيرة التي فيه فإنه باتفاق اومة أفضل من جميع الأنبياء قال المفضل بن سلمة يقال رجل كوثر إذا كان سخياً كثير الخير وفي صحاح اللغة الْكَوْثَرَ السيد الكثير الخير فلما رزق الله تعالى أن يذكره تلك النعمة الجسيمة فيقول إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ القول العاشر الكوثر رفعة الذكر وقد مر تفسيره في قوله وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ القول الحادي عشر أنه العلم قالوا وحمل الكوثر على هذا أولى لوجوه أحدها أن العلم هو الخير الكثير قال وَعَلَّمَكَ لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً وأمره بطلب العلم فقال وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً وسمي الحكمة خيراً كثيراً فقال وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا وثانيها أنا إما أن نحمل الكوثر على نعم الآخرة أو على نعم الدنيا والأول غير جائز لأنه قال أعطينا ونعم الجنة سيعطيها لا أنه أعطاها فوجب حمل الكوثر على ما وصل إليه في الدنيا وأشرف الأمور الواصلة إليه في الدنيا هو العلم والنبوة داخلة في العلم فوجب حمل اللفظ على العلم وثالثها أنه لما قال أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ قال عقيبه فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ والشيء الذي يكون متقدماً على العبادة هو المعرفة ولذلك قال في سورة النحل أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاتَّقُونِ وقال في طه إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى فقدم في السورتين المعرفة على العبادة ولأن فاء الموجب للعبادة ليس إلا العلم القول الثاني عشر أن الكوثر هو الخلق الحسن قالوا الانتفاع بالخلق الحسن عام ينتفع به العالم والجاهل والبهيمة والعاقل فأما الانتفاع بالعلم فهو مختص بالعقلاء فكان نفع الخلق الحسن أعم فوجب حمل الكوثر عليه ولقد كان عليه السلام كذلك كان للأجانب كالوالد يحل عقدهم ويكفي مهمهم وبلغ حسن خلقه إلى أنهم لما كسروا سنه قال ( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ) القول الثالث عشر الكوثر هو المقام المحمود الذي هو الشفاعة فقال في الدنيا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وقال في الآخرة ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ) وعن أبي هريرة قال عليه السلام ( إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ) القول الرابع عشر أن المراد من الكوثر هو هذه السورة قال وذلك لأنها مع قصرها وافية بجميع منافع الدنيا والآخرة وذلك لأنها مشتملة على المعجز من وجوه أولها أنا إذا حملنا(32/119)
الكوثر على كثرة الأتباع أو على كثرة الأولاد وعدم انقطاع النسل كان هذا إخباراً عن الغيب وقد وقع مطابقاً له فكان معجزاً وثانيها أنه قال فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ وهو إشارة إلى زوال الفقر حتى يقدر على النحر وقد وقع فيكون هذا أيضاً إخباراً عن الغيب وثالثها قوله إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ وكان الأمر على ما أخبر فكان معجزاً ورابعها أنهم عجزوا عن معارضتها مع صغرها فثبت أن وجه الإعجاز في كمال القرآن إنما تقرر بها لأنهم لما عجزوا عن معارضتها مع صغرها فبأن يعجزوا عن معارضة كل القرآن أولى ولما ظهر وجه الإعجاز فيها من هذه الوجوه فقد تقررت النبوة وإذا تقررت النبوة فقد تقرر التوحيد ومعرفة الصانع وتقرر الدين والإسلام وتقرر أن القرآن كلام الله وإذا تقررت هذه الأشياء تقرر جميع خيرات الدنيا والآخرة فهذه السورة جارية مجرى النكتة المختصرة القوية الوافية بإثبات جميع المقاصد فكانت صغيرة في الصورة كبيرة في المعنى ثم لها خاصية ليست لغيرها وهي أنها ثلاث آيات وقد بينا أن كل واحدة منها معجز فهي بكل واحدة من آياتها معجز وبمجموعها معجز وهذه الخاصية لا توجد في سائر السور فيحتمل أن يكون المراد من الكوثر هو هذه السورة القول الخامس عشر أن المراد من الكوثر جميع نعم الله على محمد عليه السلام وهو المنقول عن ابن عباس لأن لفظ الكوثر يتناول الكثرة الكثيرة فليس حمل الآية على بعض هذه النعم أولى من حملها على الباقي فوجب حملها على الكل وروى أن سعيد بن جبير لما روى هذا القول عن ابن عباس قال له بعضهم إنا ناساً يزعمون أنه نهر في الجنة فقال سعيد النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه وقال بعض العلماء ظاهر قوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ يقتضي أنه تعالى قد أعطاه ذلك الكوثر فيجب أن يكون الأقرب حمله على ما آتاه الله تعالى من النبوة والقرآن والذكر الحكيم والنصرة على الأعداء وأما الحوض وسائر ما أعد له من الثواب فهو وإن جاز أن يقال إنه داخل فيه لأن ما ثبت بحكم وعد الله فهو كالواقع إلا أن الحقيقة ما قدمناه لأن ذلك وإن أعد له فلا يصح أن يقال على الحقيقة إنه أعطاه في حال نزول هذه السورة بمكة ويمكن أن يجاب عنه بأن من أقر لولده الصغير بضيعة له يصح أن يقال إنه أعطاه تلك الضيعة مع أن الصبي في تلك الحال لا يكون أهلاً للتصرف والله أعلم
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ
قوله تعالى فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ في الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله فَصْلٌ وجوه الأول أن المراد هو الأمر بالصلاة فإن قيل اللائق عند النعمة الشكر فلم قال فصل ولم يقل فاشكر الجواب من وجوه الأول أن الشكر عبارة عن التعظيم وله ثلاثة أركان أحدها يتعلق بالقلب وهو أن يعلم أن تلك النعمة منه لا من غيره والثاني باللسان وهو أن يمدحه والثالث بالعمل وهو أن يخدمه ويتواضع له والصلاة مشتملة على هذه المعاني وعلى ما هو أزيد منها فالأمر بالصلاة أمر بالشكر وزيادة فكان الأمر بالصلاة أحسن وثانيها أنه لو قال فاشكر لكان ذلك يوهم أنه ما كان شاكراً لكنه كان من أول أمره عارفاً بربه مطيعاً له شاكراً لنعمه أما الصلاة فإنه إنما عرفها بالوحي قال مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ الثالث أنه في أول ما أمره بالصلاة قال محمد عليه الصلاة والسلام كيف أصلي ولست على الوضوء فقال الله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ(32/120)
ثم ضرب جبريل بجناحه على الأرض فنبع ماء الكوثر فتوضأ فقيل له عند ذلك فصل فأما إذا حملنا الكوثر على الرسالة فكأنه قال أعطيتك الرسالة لتأمر نفسك وسائر الخلق بالطاعات وأشرفها الصلاة فصل لربك القول الثاني فصل لربك أي فاشكر لربك وهو قول مجاهد وعكرمة وعلى هذا القول ذكروا في فائدة الفاء في قوله فصل وجوهاً أحدها التنبيه على أن شكر النعمة يجب على الفور لا على التراخي وثانيها أن المراد من فاء التعقيب ههنا الإشارة إلى ما قرره بقوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ثم إنه خص محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا الباب بمزيد مبالغة وهو قوله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ولأنه قال له فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ أي فعليك بأخرى عقيب الأولى فكيف بعد وصول نعمتي إليك ألا يجب عليك أن تشرع في الشكر عقيب ذلك القول الثالث فصل أي فادع الله لأن الصلاة هي الدعاء وفائدة الفاء على هذا التقدير كأنه تعالى يقول قبل سؤالك ودعائك ما بخلنا عليك بالكوثر فكيف بعد سؤالك لكن ( سل تعطه واشفع تشفع ) وذلك لأنه كان أبداً في هم أمته واعلم أن القول الأول أولى لأنه أقرب إلى عرف الشرع
المسألة الثانية في قوله لِرَبّكَ وَانْحَرْ قولان
الأول وهو قول عامة المفسرين أن المراد هو نحر البدن والقول الثاني أن المراد بقوله وَانْحَرْ فعل يتعلق بالصلاة إما قبلها أو فيها أو بعدها ثم ذكروا فيه وجوهاً أحدها قال الفراء معناها استقبل القبلة وثانيها روى الأصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام قال لما نزلت هذه السورة قال النبي عليه الصلاة والسلام لجبريل ( ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي قال ليست بنحيرة ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع وإذا سجدت فإنه صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السموات السبع وإن لكل شيء زينة وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة ) وثالثها روى عن علي بن أبي طالب أنه فسر هذا النحر بوضع اليدين على النحر في الصلاة وقال رفع اليدين قبل الصلاة عادة المستجير العائذ ووضعها على النحر عادة الخاضع الخاشع ورابعها قال عطاء معناه اقعد بين السجدتين حتى يبدو نحرك وخامسها روى عن الضحاك وسليمان التيمي أنهما قالا انحر معناه ارفع يديك عقيب الدعاء إلى نحرك قال الواحدي وأصل هذه الأقوال كلها من النحر الذي هو الصدر يقال لمذبح البعير النحر لأن منحره في صدره حيث يبدو الحلقوم من أعلى الصدر فمعنى النحر في هذا الموضع هو إصابة النحر كما يقال رأسه وبطنه إذا أصاب ذلك منه وأما قول الفراء إنه عبارة عن استقبال القبلة فقال ابن الأعرابي النحر انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب وهو أن ينصب نحره بإزاء القبلة ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً وقال الفراء منازلهم تتناحر أن تتقابل وأنشد
أبا حكم هل أنت عم مجالد
وسيد أهل الأبطح المتناحر والنكتة المعنوية فيه كأنه تعالى يقول الكعبة بيتي وهي قبلة صلاتك وقلبك وقبلة رحمتء ونظر عنايتي فلتكن القبلتان متناحرتين قال الأكثرون حمله على نحر البدن أولى لوجوه أحدها هو أن الله تعالى كلما ذكر الصلاة في كتابه ذكر الزكاة بعدها وثانيها أن القوم كانوا يصلون وينحرون للأوثان فقيل له فصل وانحر لربك وثالثها أن هذه الأشياء آداب الصلاة وأبعاضها فكانت داخلة تحت قوله الْكَوْثَرَ فَصَلّ لِرَبّكَ فوجب(32/121)
أن يكون المراد من النحر غيرها لأنه يبعد أن يعطف بعض الشيء على جميعه ورابعها أن قوله فَصْلٌ إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله وَانْحَرْ إشارة إلى الشفقة على خلق الله وجملة العبودية لا تخرج عن هذين الأصلين وخامسها أن استعمال لفظة النحر على نحر البدن أشهر من استعماله في سائر الوجوه المذكورة فيجب حمل كلام الله عليه وإذا ثبت هذا فنقول استدلت الحنفية على وجوب الأضحية بأن الله تعالى أمره بالنحر ولا بد وأن يكون قد فعله لأن ترك الواجب عليه غير جائر وإذا فعله النبي عليه الصلاة والسلام وجب علينا مثله لقوله وَاتَّبِعُوهُ ولقوله فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وأصحابنا قالوا الأمر بالمتابعة مخصوص بقوله ( ثلاث كتبت علي ولم تكتب عليكم الضحى والأضحى والوتر )
المسألة الثالثة اختلف من فسر قوله فَصْلٌ بالصلاة على وجوه الأول أنه أراد بالصلاة جنس الصلاة لأنهم كانوا يصلون لغير الله وينحرون لغير الله فأمره أن لا يصلي ولا ينحر إلا لله تعالى واحتج من جوز تأخير بيان المجمل بهذه الآية وذلك لأنه تعالى أمر بالصلاة مع أنه ما بين كيفية هذه الصلاة أجاب أبو مسلم وقال أراد به الصلاة المفروضة أعني الخمس وإنما لم يذكر الكيفية لأن الكيفية كانت معلومة من قبل القول الثاني أراد صلاة العيد والأضحية لأنهم كانوا يقدمون الأضحية على الصلاة فنزلت هذه الآية قال المحققون هذا قول ضعيفلأن عطف الشيء على غيره بالواو لا يوجب الترتيب القول الثالث عن سعيد بن جبير صل الفجر بالمزدلفة وانحر بمنى والأقرب القول الأول لأنه لا يجب إذا قرن ذكر النحر بالصلاة أن تحمل الصلاة على ما بقع يوم النحر
المسألة الرابعة اللام في قوله لِرَبّكِ فيها فوائد الفائدة الأولى هذه اللام للصلاة كالروح للبدن فكما أن البدن من الفرق إلى القدم إنما يكون حسناً ممدوحاً إذا كان فيه روح أما إذا كان ميتاً فيكون مرمياً كذا الصلاة والركوع والسجود وإن حسنت في الصورة وطالت لو لم يكن فيها لام لربك كانت ميتة مرمية والمراد من قوله تعالى لموسى اتْلُ مَا لِذِكْرِى وقيل إنه كانت صلاتهم ونحرهم للصنم فقيل له لتكن صلاتك ونحرك لله
الفائدة الثانية كأنه تعالى يقول ذكر في السورة المتقدمة أنهم كانوا يصلون للمراءآة فصل أنت لا للرياء لكن على سبيل الإخلاص
المسألة الخامسة الفاء في قوله فَصْلٌ تفيد سببية أمرين أحدهما سببية العبادة كأنه قيل تكثير الإنعام عليك يوجب عليك الاشتغال بالعبودية والثاني سببية ترك المبالاة كأنهم لما قالوا له إنك أبتر فقيل له كما أنعمنا عليك بهذه النعم الكثيرة فاشتغل أنت بطاعتك ولا تبال بقولهم وهذيانهم
واعلم أنه لما كانت النعم الكثيرة محبوبة ولازم المحبوب محبوب والفاء في قوله فَصْلٌ اقتضت كون الصلاة من لوازم تلك النعم لا جرم صارت الصلاة أحب الأشياء للنبي عليه الصلاة والسلام فقال ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) ولقد صلى حتى تورمت قدماه فقيل له أوليس قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال ( أفلا أكون عبداً شكوراً ) فقوله ( أفلا أكون عبداً شكوراً ) إشارة إلى أنه يجب على الاشتغال بالطاعة بمقتضى الفاء في قوله فَصْلٌ(32/122)
المسألة السادسة كان الأليق في الظاهر أن يقول إن أعطيناك الكوثر فصل لنا وانحر لكنه ترك ذلك إلى قوله فَصَلّ لِرَبّكَ لفوائد إحداها أن وروده على طريق الالتفات من أمهات أبواب الفصاحة وثانيها أن صرف الكلام من المضمر إلى المظهر يوجب نوع عظمة ومهابة ومنه قول الخلفاء لمن يخاطبونهم يأمرك أمير المؤمنين وينهاك أمير المؤمنين وثالثها أن قوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ ليس في صريح لفظه أن هذا القائل هو الله أو غيره وأيضاً كلمة إنا تحتمل الجمع كما تحتمل الواحد المعظم نفسه فلو قال صل لنا لنفي ذلك الاحتمال وهو أنه ما كان يعرف أن هذه الصلاة لله وحده أم له ولغيره على سبيل التشريك فلهذا ترك اللفظ وقال فَصَلّ لِرَبّكَ ليكون ذلك إزالة لذلك الاحتمال وتصريحاً بالتوحيد في الطاعة والعمل لله تعالى
المسألة السابعة قوله فَصَلّ لِرَبّكَ أبلغ من قوله فصل لله لأن لفظ الرب يفيد التربية المتقدمة المشار إليها بقوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ويفيد الوعد الجميل في المستقبل أنه يربيه ولا يتركه
المسألة الثامنة في الآية سؤالان أحدهما أن المذكور عقب الصلاة هو الزكاة فلم كان المذكور ههنا هو النحر والثاني لما لم يقل ضحي حتى يشمل جميع أنواع الضحايا والجواب عن الأول أما على قول من قال المراد من الصلاة صلاة العيد فالأمر ظاهر فيه وأما على قول من حمله على مطلق الصلاة فلوجوه أحدها أن المشركين كانت صلواتهم وقرابينهم للأوثان فقيل له اجعلهما لله وثانيها أن من الناس من قال إنه عليه السلام ما كان يدخل في ملكه شيء من الدنيا بل كان يملك بقدر الحاجة فلا جرم لم تجب الزكاة عليه أما النحر فقد كان واجباً عليه لقوله ( ثلاث كتبت علي ولم تكتب على أمتي الضحى والأضحى والوتر ) وثالثها أن أعز الأموال عند العرب هو الإبل فأمره بنحرها وصرفها إلى طاعة الله تعالى تنبيهاً على قطع العلائق النفسانية عن لذات الدنيا وطيباتها روى أنه عليه السلام أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب فنحر هو عليه السلام حتى أعيا ثم أمر علياً عليه السلام بذلك وكانت النوق يزدحمن على رسول الله فلما أخذ على السكين تباعدت منه والجواب عن الثاني أن الصلاة أعظم العبادات البدنية فقرن بها أعظم أنواع الضحايا وأيضاً فيه إشارة إلى أنك بعد فقرك تصير بحيث تنحر المائة من الإبل
المسألة التاسعة دلت الآية على وجوب تقديم الصلاة على النحر لا لأن الواو توجب الترتيب بل لقوله عليه السلام ( ابدؤا بمابدأ الله به )
المسألة العاشرة السورة مكية في أصح الأقوال وكان الأمر بالنحر جارياً مجرى البشارة بحصول الدولة وزوال الفقر والخوف
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاٌّ بْتَرُ
قوله تعالى إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب النزول وجوهاً أحدها أنه عليه السلام كان يخرج من المسجد والعاص بن وائل السهمي يدخل فالتقيا فتحدثا وصناديد قريش في المسجد فلما دخل قالوا من الذي كنت(32/123)
تتحدث معه فقال ذلك الأبتر وأقول إن ذلك من إسرار بعضهم مع بعض مع أن الله تعالى أظهره فحينئذ يكون ذلك معجزاً وروى أيضاً أن العاص بن واثل كان يقول إن محمداً أبتر لا ابن له يقوم مقامه بعده فإذا مات انقطع ذكره واسترحم منه وكان قد مات ابنه عبد الله من خديجة وهذا قول ابن عباس ومقاتل والكلبي وعامة أهل التفسير القول الثاني روى ن ابن عباس لما قدم كعب بن الأشراف مكة أتاه جمامة قريش فقالوا نحن أهل السقاية والسدانة وأنت سيد أهل المدينة فنحن خير أم هذا الأبتر من قومه يزعم أنه خير منا فقال بل أنتم خير منه فنزل إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ ونزل أيضاً أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ والقول الثالث قال عكرمة وشهر بن حوشب لما أوحى الله إلى رسوله ودعا قريشاً إلى الإسلام قالوا بتر محمد أي خالفنا وانقطع عنا فأخبر تعالى أنهم هم المبتورون القول الرابع نزلت في أبي جهل فإنه لما مات ابن رسول الله قال أبو جهل إن أبغضه لأنه أبتر وهذا منه حماقة حيث أبغضه بأمر لم يكن باختياره فإن موت الابن لم يكن مراده القول الخامس نزلت في عمه أبي لهب فإنه لما شافهه بقوله تباً لك كان يقول في غيبته إنه أبتر والقول السادس أنها نزلت في عقبة بن أبي معيط وإنه هو الذي كان يقول ذلك واعلمأنه لا يبعد في كل أولئك الكفرة أن يقولوا مثل ذلك فإنهم كانوا يقولون فيه ما هو أسوأ من ذلك ولعل العاص بن وائل كان أكثرهم مواظبة على هذا القول فلذلك اشتهرت الروايات بأن الآية نزلت فيه
المسألة الثانية الشنآن هو البغض والشانىء هو المبغض وأما البتر فهو في اللغة استئصال القطع يقال بترته أبتره بتراً وبتر أي صار أبتر وهو مقطع الذنب ويقال الذي لا عقب له أبتر ومنه الحمار الأبتر الذي لا ذنب له وكذلك لمن انقطع عنه الخير
ثم إن الكفار لما وصفوه بذلك بين تعالى أن الموصوف بهذه الصفة هو ذلك البمغض على سبيل الحضر فيه فإنك إذا قلت زيدهو العالم يفيد أنه لا عالم غيره إذا عرفت هذا فقول الكفار فيه عليه الصلاة والسلام إنه أبتر لا شك أنهم لعنهم الله أرادوا به أنه انقطع الخير عنه
ثم ذلك إما أن يحمل على خير معين أو على جميع الخيرات أما الأول فيحتمل وجوهاً أحدها قال السدي كانت قريش يقولون لمن مات الذكور من أولاده بتر فلما مات ابنه القاسم وعبد الله بمكة وإبراهيم بالمدينة قالوا بتر فليس له من يقوم مقامه ثم إنه تعالى بين أن عدوه هو الموصوف بهذه الصفة فإنا نرى أن نسل أولئك الكفرة قد انقطع ونسله عليه الصلاة والسلام كل يوم يزداد وينمو وهكذا يكون إلى قيام القيامة وثانيها قال الحسن عنوا بكونه أبتر أنه ينقطع عن المقصود قبل بلوغه والله تعالى بين أن خصمه هو الذي يكون كذلك فإنهم صاروا مدبرين مغلوبين مقهورين وصارت رايات الإسلام عالية وأهل الشرق والغرب لعا متواضعة وثالثها زعموا أنه أبتر لأنه ليس له ناصر ومعين وقد كذبوا لأن الله تعالى هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين وأما الكفرة فلم يبق لهم ناصر ولا حبيب ورابعها الأبتر هو الحقير الذليل روى أن أبا جهل اتخذ ضيافة لقوم ثم إنه وصف رسول الله بهذا الوصف ثم قال قوموا حتى نذهب إلى محمد وأصارعه وأجعله ذليلاً حقيراً فلما وصلوا إلى دار خديجة وتوافقوا على ذلك أخرجت خديجة بساطاً فلما تصارعا جعل أبو جهل يجتهد في أن يصرعه وبقي النبي عليه الصلاة والسلام واقفاً(32/124)
كالجبل ثم بعد ذلك رماه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على أقبح وجه فلما رجع أخذه باليد اليسرى لأن اليسرى للاستنجاء فكان نجساً فصرعه على الأرض مرة أخرى ووضع قدمه على صدره فذكر بعض القصاص أن المراد من قوله إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ هذه الواقعة وخامسها أن الكفرة لما وصفوه بهذا الوصف قيل إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ أي الذي قالوه فيك كلام فاسد يضمحل ويفنى وأما المدح الذي ذكرناه فيك فإنه باق على وجه الدهر وسادسها أن رجلاً قام إلى الحسن بن علي عليهما السلام وقال سودت وجوه المؤمنين بأن تركت الإمامة لمعاوية فقال لا تؤذيني يرحمك الله فإن رسول الله رأى بني أمية في المنام يصعدون منبره رجلاً فرجلاً فساءه ذلك فأنزل الله تعالى إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ فكان ملك بني أمية كذلك ثم انقطعوا وصاروا مبتورين
المسألة الثالثة الكفار لما شتموه فهو تعالى أجاب عنه من غير واسطة فقال إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ وهكذا سنة الأحباب فإن الحبيب إذا سمع من يشتم حبيبه تولى بنفسه جوابه فههنا تولى الحق سبحانه جوابهم وذكر مثل ذلك في مواضع حين قالوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّة ٌ فقال سبحانه بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ فِى الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ وحين قالوا هو مجنون أقسم ثلاثاً ثم قال مَا أَنتَ بِنِعْمَة ِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ ولما قالوا لَسْتَ مُرْسَلاً أجاب فقال يس وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وحين قالوا لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ بَلْ رد عليهم وقال بَلْ جَاء بِالْحَقّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ فصدقه ثم ذكر وعيد خصمائه وقال إِنَّكُمْ يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ وحين قال حاكياً أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ قال وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشّعْرَ ولما حكى عنهم قوله وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ سماهم كاذبين بقوله فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً ولما قالوا مَا لِهَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاْسْوَاقِ أجابهم فقال وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الاْسْوَاقِ فما أجل هذه الكرامة
المسألة الرابعة اعلم أنه تعالى لما بشره بالنعم العظيمة وعلم تعالى أن النعمة لا تهنأ إلا إذا صار العدو مقهوراً لا جرم وعده بقهر العدو فقال إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ وفيه لطائف إحداها كأنه تعالى يقول لا أفعله لكي يرى بعض أسباب دولتك وبعض أسباب محنة نفسه فيقتله الغيظ وثانيها وصفه بكونه شانئاً كأنه تعالى يقول هذا الذي يبغضك لا يقدر على شيء آخر سوى أنه يبغضك والمبغض إذا عجز عن الإيذاء فحينئذ يحترق قلبه غيظاً وحسداً فتصير تلك العداوة من أعظم أسباب حصول المحنة لذلك العدو وثالثها أن هذا الترتيب يدل على أنه إنما صار أبتر لأنه كان شانئاً له ومبغضاً والأمر بالحقيقة كذلك فإن من عادى محسوداً فقد عادى الله تعالى لاسيما من تكفل بإعلان شأنه وتعظيم مرتبته ورابعها أن العدو وصف محمداً عليه الصلاة والسلام بالقلة والذلة ونفسه بالكثرة والدولة فقلب الله الأمر عليه وقال العزيز من أعزه الله والذليل من أذله الله فالكثرة والكوثر لمحمد عليه السلام والأبترية والدناءة والذلة للعدو فحصل بين أول السورة وآخرها نوع من المطابقة لطيف(32/125)
المسألة الخامسة اعلم أن من تأمل في مطالع هذه السورة ومقاطعها عرف أن الفوائد التي ذكرناها بالنسبة إلى ما استأثر الله بعلمه من فوائد هذه السورة كالقطرة في البحر روى عن مسيلمة أنه عارضها فقال إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر إن مبغضك رجل كافر ولم يعرف المخذول أنه محروم عن المطلوب لوجوه أحدها أن الألفاظ والترتيب مأخوذان من هذه السورة وهذا لا يكون معارضة وثانيها أنا ذكرنا أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها وكالأصل لما بعدها فذكر هذه الكلمات وحدها يكون إهمالاً لأكثر لطائف هذه السورة وثالثها التفاوت العظيم الذي يقر به من له ذوق سليم بين قوله إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ وبين قوله إن مبغضك رجل كافر ومن لطائف هذه السورة أن كل أحد من الكفار وصف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بوصف آخر فوصفه بأنه لا ولد له وآخر بأنه لا معين له ولا ناصر له وآخر بأنه لا يبقى منه ذكر فالله سبحانه مدحه مدحاً أدخل فيه كل الفضائل وهو قوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ لأنه لما لم يقيد ذلك الكوثر بشيء دون شيء لا جرم تناول جميع خيرات الدنيا والآخرة ثم أمره حال حياته بمجموع الطاعات لأن الطاعات إما أن تكون طاعة البدن أو طاعة القلب أما طاعة البدن فأفضله شيئان لأن طاعة البدن هي الصلاة وطاعة المال هي الزكاة وأما طاعة القلب فهو أن لا يأتي بشيء إلا لأجل الله واللام في قوله اقْنُتِى لِرَبّكِ يدل على هذه الحالة ثم كأنه نبه على أن طاعة القلب لا تحصل إلا بعد حصول طاعة البدن فقدم طاعة البدن في الذكر وهو قوله فَصْلٌ وأخر اللام الدالة على طاعة القلب تنبيهاً على فساد مذهب أهل الإباحة في أن العبد قد يستغني بطاعة قلبه عن طاعة جوارحه فهذه اللام تدل على بطلان مذهب الإباحة وعلى أنه لا بد من الإخلاص ثم نبه بلفظ الرب على علو حاله في المعاد كأنه يقول كنت ربيتك قبل وجودك أفأترك تربيتك بعد مواظبتك على هذه الطاعات ثم كما تكفل أولاً بإفاضة النعم عليه تكفل في آخر السورة بالذب عنه وإبطال قول أعدائه وفيه إشارة إلى أنه سبحانه هو الأول بإفاضة النعم والآخر بتكميل النعم في الدنيا والآخرة والله سبحانه وتعالى أعلم(32/126)
سورة الكافرون
ست آيات مكية
اعلم أن هذه السورة تسمى سورة المنابذة وسورة الإخلاص والمقشقشة وروى أن من قرأها فكأنما قرأ ربع القرآن والوجه فيه أن القرآن مشتمل على الأمر بالمأمورات والنهي عن المحرمات وكل واحد منهما ينقسم إلى ما يتعلق بالقلوب وإلى ما يتعلق بالجوارح وهذه السورة مشتملة على النهي عن المحرمات المتعلقة بأفعال القلوب فتكون ربعاً للقرآن والله أعلم
قُلْ ياأَيُّهَا الْكَافِرُونَ
قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ
اعلم أن قوله تعالى السَّمَاء كَطَى ّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِى َ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِى هَاذَا لَبَلَاغاً لّقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ثم كان مأموراً بأن يدعو إلى الله بالوجه الأحسن الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ولما كان الأمر كذلك ثم إنه خاطبهم بيا أيها الكافرون فكانوا يقولون كيف يليق هذا التعليظ بذلك الرفق فأجاب بأني مأمور بهذا الكلام لا أني ذكرته من عند نفسي فكان المراد من قوله قل تقرير هذا المعنى وثانيها أنه لما قيل له وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ وهو كان يحب أقرباءه لقوله قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى(32/127)
فكانت القرابة ووحدة النسب كالمانع من إظهار الخشونة فأمر بالتصريح بتلك الخشونة والتغليظ فقيل له قُلْ وثالثها أنه لما قيل له يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ فأمر بتبليغ كل من أنزل عليه فلما قال الله تعالى له قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ نقل هو عليه السلام هذا الكلام بجملته كأنه قال إنه تعالى أمرني بتبليغ كل ما أنزل علي والذي أنزل علي هو مجموع قوله قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فأنا أيضاً أبلغه إلى الخلق هكذا ورابعها أن الكفار كانوا مقرين بوجود الصانع وأنه هو الذي خلقهم ورزقهم على ما قال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ والعبد يتحمل من مولاه مالا يتحمله من غيره فلو أنه عليه السلام قال ابتداء فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ لجوزوا أن يكون هذا كلام محمد فلعلهم ما كانوا يتحملونه منه وكانوا يؤذونه أما لما سمعوا قوله قُلْ علموا أنه ينقل هذا التغليظ عن خالق السموات والأرض فكانوا يتحملونه ولا يعظم تأذيهم به وخامسها أن قوله قُلْ يوجب كونه رسولاً من عند الله فكلما قيل له قُلْ كان ذلك كالمنشور الجديد في ثبوت رسالته وذلك يقتضي المبالغة في تعظيم الرسول فإن الملك إذا فوض مملكته إلى بعض عبيده فإذا كان يكتب له كل شهر وسنة منشوراً جديداً دل ذلك على غاية اعتنائه بشأنه وأنه على عزم أن يزيده كل يوم تعظيماً وتشريفاً وسادسها أن الكفار لما قالوا نعبد إلهك سنة وتبعد آلتنا سنة فكأنه عليه السلام قال استأمرت إليه فبه فقال قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وسابعها الكفار قالوا فيه السوء فهو تعالى زجرهم عن ذلك وأجابهم وقال إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ وكأنه تعالى قال حين ذكروك بسوء فأنا كنت المجيب بنفسي فحين ذكروني بالسوء وأثبتوا لي الشركاء فكن أنت المجيب قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا وثامنها أنهم سموك أبتر فإن شئت أن تستوفي منهم القصاص فاذكرهم بوصف ذم بحيث تكون صادقاً فيه قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لكن الفرق أنهم عابوك بما ليس من فعلك وأنت تعيبهم بما هو فعلهم وتاسعها أن بتقدير أن تقول يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدونه والكفار يقولون هذا كلام ربك أم كلامك فإن كان كلام ربك فربك يقول أنا لا أعبد هذه الأصنام ونحن لا نطلب هذه العبادة من ربك إنما نطلبها منك وإن كان هذا كلامك فأنت قلت من عند نفسك إني لا أعبد هذه الأصنام فلم قلت إن ربك هو الذي أمرك بذلك أما لما قال قل سقط هذا الاعتراض لأن قوله قُلْ يدل على أنه مأمور من عند الله تعالى بأن لا يعبدها ويتبرأ منها وعاشرها أنه لو أنزل قوله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ لكان يقرؤها عليهم لا محالة لأنه لا يجوز أن يخون في الوحي إلا أنه لما قال قُلْ كان ذلك كالتأكيد في إيجاب تبليغ هذا الوحي إليهم والتأكيد يدل على أن ذلك الأمر أمر عظيم فبهذا الطريق تدل هذه الكلمة على أن الذي قالوه وطلبوه من الرسول أمر منكر في غاية القبح ونهاية الفحش الحادي عشر كأنه تعالى يقول كانت التقية جائزة عند الخوف أما الآن لما قوينا قلبك بقولنا إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ وبقولنا إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ فلا تبال بهم ولا تلتفت إليهم و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثاني عشر أن خطاب الله تعالى مع العبد من غير واسطة يوجب التعظيم ألا ترى أنه تعالى ذكر من أقسام إهانة الكفار إنه تعالى لا يكلمهم فلو قال فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ لكان ذلك من حيث أنه خطاب مشافهة يوجب التعظيم ومن حيث أنه وصف لهم بالكفر يوجب الإيذاء فينجبر الإيذاء بالإكرام أما لما قال قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فحينئذ يرجع تشريف(32/128)
المخاطبة إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وترجع الإهانة الحاصلة لهم بسبب وصفهم بالكفر إلى الكفار فيحصل فيه تعظيم الأولياء وإهانة الأعداء وذلك هو النهاية في الحسن الثالث عشر أن محمداً عليه السلام كان منهم وكان في غاية الشفقة عليهم والرأفة بهم وكانوا يعلمون منه أنه شديد الاحتراز عن الكذب والأب الذي يكون في غاية الشفقة بولده ويكون في نهاية الصدق والبعد عن الكذب ثم إنه يصف ولده بعيب عظيم فالولد إن كان عاقلاً يعلم أنه ما وصفه بذلك مع غاية شفقته عليه إلا لصدقه في ذلك ولأنه بلغ مبلغاً لا يقدر على إخفائه فقال تعالى قُلْ يا محمد لهم أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ليعلموا أنك لما وصفتهم بذلك مع غاية شفقتك عليهم وغاية احترازك عن الكذب فهو موصوفون بهذه الصفة القبيحة فربما يصير ذلك داعياً لهم إلى البراءة من هذه الصفة والاحتراز عنها الرابع عشر أن الإيذاء والايحاش من ذوي القربى أشد وأصعب من الغير فأنت من قبيلتهم ونشأت فيما بين أظهرهم فقل لهم فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ فلعله يصعب ذلك الكلام عليهم فيصير ذلك داعياً لهم إلى البحث والنظر والبراءة عن الكفر الخامس عشر كأنه تعالى يقول ألسنا بينا في سورة وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وفي سورة الكوثر إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ وأتيت بالإيمان والأعمال الصالحات بمقتضى قولنا فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ بقي عليك التواصي بالحق والتواصي بالصبر وذلك هو أن تمنعهم بلسانك وبرهانك عن عبادة غير الله فقل قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ السادس عشر كأنه تعالى يقول يا محمد أنسيت أنني لما أخرت الوحي عليك مدة قليلة قال الكافرون إنه ودعه ربه وقلاه فشق عليك ذلك غاية المشقة حتى أنزلت عليك السورة وأقسمت بالضحى وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى أنه وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى فلما لم تستجز أن أتركك شهراً ولم يطب قلبك حتى ناديت في العالم بأنه مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى أفتستجيز أن تتركني شهراً وتشتغل بعبادة آلهتهم فلما ناديت بنفي تلك التهمة فناد أنت أيضاً في العالم بنفي هذه التهمة و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا السابع عشر لما سألوا منه أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة فهو عليه السلام سكت ولم يقل شيئاً لا لأنه جوز في قلبه أن يكون الذي قالوه حقاً فإنه كان قاطعاً بفساد ما قالوه لكنه عليه السلام توقف في أنه بماذا يجيبهم أبأن يقيم الدلائل العقلية على امتناع ذلك أو بأن يزجرهم بالسيف أو بأن ينزل الله عليهم عذاباً فاغتنم الكفار ذلك السكوت وقالوا إن محمداً مال إلى ديننا فكأنه تعالى قال يا محمد إن توقفك عن الجواب في نفس الأمر حق ولكنه أوهم باطلاً فتدارك إزالة ذلك الباطل وصرح بما هو الحق و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثامن عشر أنه عليه السلام لما قال له ربه ليلة المعراج أثن علي استولى عليه هيبة الحضرة الإلهية فقال لا أحصي ثناء عليك فوقع ذلك السكوت منه في غاية الحسن فكأنه قيل له إن سكت عن الثناء رعاية لهيبة الحضرة فأطلق لسانك في مذمة الأعداء و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ حتى يكون سكوتك الله وكلامك الله وفيه تقرير آخر وهو أن هيبة الحضرة سلبت عنك قدرة القول فقل ههنا حتى إن هيبة قولك تسلب قدرة القول عن هؤلاء الكفار التاسع عشر لو قال له لا تعبد ما يعبدون لم يلزم منه أن يقول بلسانه لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ أما لما أمره بأن يقول بلسانه لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ يلزمه أن لا يعبد ما يعبدون إذ لو فعل ذلك لصار كلامه كذباً فثبت أنه لما قال له قل لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ فلزمه أن يكون منكراً لذلك بقلبه ولسانه وجوارحه ولو قال له لا تعبد ما يعبدون لزمه تركه(32/129)
أما لا يلزمه إظهار إنكاره باللسان ومن المعلوم أن غاية الإنكار إنما تحصل إذا تركه في نفسه وأنكره بلسانه فقوله له قُلْ يقتضي المبالغة في الأنكار فلهذا قال قُلْ لاَّ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ العشرون ذكر التوحيد ونفي الأنداد جنة للعارفين ونار للمشركين فاجعل لفظك جنة للموحدين وناراً للمشركين و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الحادي والعشرون أن الكفار لما قالوا نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة سكت محمد فقال إن شافهتهم بالرد تأذوا وحصلت النفرة عن الإسلام في قلوبهم فكأنه تعالى قال له يا محمد لم سكت عن الرد أما الطمع فيما يعدونك من قبول دينك فلا حاجة بك في هذا المعنى إليهم فَإِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ وأما الخوف منهم فقد أزلنا عنك الخوف بقولنا أَنَاْ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ فلا تلتفت إليهم ولا تبال بكلامهم وَقُلْ قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثاني والعشرون أنسيت يا محمد أني قدمت حقك على حق نفسي فقلت لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فقدمت أهل الكتاب في الكفر على المشركين لأن طعن المشركين في فقدمت حقك على حق نفسي وقدمت أهل الكتاب في الذم على المشركين وأنت أيضاً هكذا كنت تفعل فإنهم لما كسروا سنك قلت ( اللهم أهد قومي ) ولما شغلوك يوم الخندق عن الصلاة قلت ( اللهم املأ بطونهم ناراً ) فههنا أيضاً قدم حقي على حق نفسك وسواء كنت خائفاً منهم أو لست خائفاً منهم فأظهر إنكار قولهم وَقُلْ قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثالث والعشرون كأنه تعالى يقول قصة امرأة زيد واقعة حقيرة بالنسبة إلى هذه الواقعة ثم إنني هناك ما رضيت منك أن تضمر في قلبك شيئاً ولا تظهره بلسانك بل قلت لك على سبيل العتاب وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فإذا كنت لم أرض منك في تلك الواقعة الحقيرة إلا بالإظهار وترك المبالاة بأقوال الناس فكيف أرضى منك في هذه المسألة وهي أعظم المسائل خطراً بالسكوت قل بصريح لسانك وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ الرابع والعشرون يا محمد ألست قلت لك وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَة ٍ نَّذِيراً ثم إني مع هذه القدرة راعيت جانبك وطيبت قلبك وناديت في العالمين بأني لا أجعل الرسالة مشتركة بينه وبين غيره بل الرسالة له لا لغيره حيث قلت وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ فأنت مع علمك بأنه يستحيل عقلاً أن يشاركني غيري في المعبودية أولى أن تنادي في العالمين بنفي هذه الشركة فقل قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الخامس والعشرون كأنه تعالى يقول القوم جاؤك وأطمعوك في متابعتهم لك ومتابعتك لدينهم فسكت عن الأنكار والرد ألست أنا جعلت البيعة معك بيعة معي حيث قلت إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ وجعلت متابعتك متابعة لي حيث قلت قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ثم إني ناديت في العالمين وقلت أَنَّ اللَّهَ بَرِىء عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فصرح أنت أيضاً بذلك و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ السادس والعشرون كأنه تعالى يقول ألست أرأف بك من الولد بولده ثم العرى والجوع مع الوالد أحسن من الشبع مع الأجانب كيف والجوع لهم لأن أصنامهم جائعة عن الحياة عارية عن الصفات وهم جائعون عن العلم عارون عن التقوى فقد جربتني ألم أجدك(32/130)
يتيماً وضالاً وعائلاً ألم نشرح لك صدرك ألم أعطك بالصديق خزينة وبالفاروق هيبة وبعثمان معونة وبعلي علماً ألم أكف أصحاب الفيل حين حاولوا تخريب بلدتك ألم أكف أسلافك رحلة الشتاء والصيف ألم أعطك الكوقر ألم أضمن أن خصمك أبتر ألم يقل جدك في هذه الأصنام بعد تخريبها لِمَ تَعْبُدُ مَالاً يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً فصرح بالبراءة عنها و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ السابع والعشرون كأنه تعالى يقول يا محمد ألست قد أنزلت عليك فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ثم إن واحداً لو نسبك إلى والدين لغضبت ولأظهرت الإنكار ولبالغت فيه حتى قلن ( ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح ) فإذا لم تسكت عند التشريك في الولادة فكيف سكت عند التشريك في العبادة ا بل أظهر الإنكار وبالغ في التصريح به و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثامن والعشرون كأنه تعالى يقول يا محمد ألست قد أنزلت عليك أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ فحكمت بأن من سوى بين الإله الخالق وبين الوثن الجماد في المعبودية لا يكون عاقلاً بل يكون مجنوناً ثم إني أقسمت وقلت ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنتَ بِنِعْمَة ِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ والكفار يقولون إنك مجنون فصرح برد مقالتهم فإنها تفيد براءتي عن عيب الشرك وبراءتك عن عيب الجنون و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ التاسع والعشرون أن هؤلاء الكفار سموا الأوثان آلهة والمشاركة في الاسم لا توجب المشاركة في المعنى ألا ترى أن الرجل والمرأة يشتركان في الإنسانية حقيقة ثم القيمية كلها حظ الزوج لأنه أعلم وأقدر ثم من كان أعلم وأقدر كان له كل الحق في القيمية فمن لا قدرة له ولا علم البتة كيف يكون له حق في القيومية بل ههنا شيء آخر وهو أن امرأة لو ادعاها رجلان فاصطلحا عليها لا يجوز ولو أقام كل واحد منها بينة على أنها زوجته لم يقض لواحد منهما والجارية بين إثنين لا تحل لواحد منهما فإذا لم يحز حصول زوجة لزوجين ولا أمة بين موليين في حل الوطء فكيف يعقل عابد واحد بين معبودينا بل من جوز أن يصطلح الزوجان على أن تحل الزوجة لأحدهما شهراً ثم الثاني شهراً آخر كان كافراً فمن جوز الصلح بين الإله والصنم ألا يكون كافراً فكأنه تعالى يقول لرسوله إن هذه المقالة في غاية القبح فصرح بالإنكار وقل قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثلاثون كأنه تعالى يقول أنسيت أني لما خيرت نساءك حين أنزلت عليك قُل لاْزْواجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا إلى قوله أَجْراً عَظِيماً ثم خشيت من عائشة أن تختار الدنيا فقلت لها لا تقولي شيئاً حتى تستأمري أبويك فقالت أفي هذا استأمر أبوي بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ا فناقصة العقل ما توقفت فيما يخالف رضاي أتتوقف فيما يخالف رضاي وأمري مع أني جبار السموات والأرض قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الحادي والثلاثون كأنه تعالى يقول يا محمد ألست أنت الذي قلت من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يوقفن مواقف التهم وحتى أن بعض المشايخ قال لمريده الذي يريد أن يفارقه لا تخاف السلطان قال ولم قال لأنه يوقع الناس في أحد الخطأين وإما أن يعتقدوا أن السلطان متدين لأنه يخالطه العالم الزاهد أو يعتقدوا أنك فاسق مثله وكلاهما خطأ فإذا ثبت أنه يجب البراءة عن موقف التهم فسكوتك يا محمد عن هذا الكلام يجر إليك تهمة الرضا بذلك لاسيما وقد سبق أن الشيطان ألقى فيما بين قراءتك تلك الغرانيق العلي منها الشفاعة ترتجي فأزل عن نفسك هذه التهمة و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(32/131)
الثاني والثلاثون الحقوق في الشاهد نوعان حق من أنت تحت يده وهو مولاك وحق من هو تحت يدك وهو الولد ثم أجمعنا على أن خدمة المولى مقدمة على تربية الولد فإذا كان حق المولى المجازي مقدماً فبأن يكون حق المولى الحقيقي مقدماً كان أولى ثم روى أن علياً عليه السلام إستأذن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في التزوج بابنة أبي جهل فضجر وقال لا آذن لا آذن لا آذن أن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ويسرني ما يسرها والله لا يجمع بين بنت عدو الله وبنت حبيب الله فكأنه تعالى يقول صرحت هناك بالرد وكررته على سبيل المبالغة رعاية لحق الولد فههنا أولى أن تصرح بالرد وتكرره رعاية لحق المولى فقل قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ولا أجمع في القلب بين طاعة الحبيب وطاعة العدو الثالث والثلاثون يا محمد ألست قلت لعمر رأيت قصراً في الجنة فقلت لمن فقيل لفتى من قريش فقلت من هو فقالوا عمر فخشيت غيرتك فلم أدخلها حتى قال عمر أو أغار عليك يا رسول الله فكأنه تعالى قال خشيت غيرة عمر فما دخلت قصره أفما تخشى غيرتي في أن تدخل قلبك طاعة غيري ثم هناك أظهرت الامتناع فههنا أيضاً أظهر الامتناع و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الرابع والثلاثون أترى أن نعمتي عليك دون نعمة الوالدة ألم أربك ألم أخلقك ألم أرزقك ألم أعطك الحياة والقدرة والعقل والهداية والتوفيق ثم حين كنت طفلاً عديم العقل وعرفت تربية الأم فلو أخذتك امرأة أجمل وأحسن وأكرم من أمك لأظهرت النفرة ولبكيت ولو أعطتك الثدي لسددت فمك تقول لا أريد غير الأم لأنها أول المنعم علي فههنا أولى أن تظهر النفرة فنقول لا أعبد سوى ربي لأنه أول منعم علي فقل قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الخامس والثلاثون نعمة الإطعام دون نعمة العقل والنبوة ثم قد عرفت أن الشاة والكلب لا ينسيان نعمة الإطعام ولا يميلان إلى غير من أطعهما فكيف يليق بالعاقل أن ينسى نعمة الإيجاد والإحسان فكيف في حق أفضل الخلق قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ السادس والثلاثون مذهب الشافعي أنه يثبت حق الفرقة بواسطة الإعسار بالنفقة فإذا لم تجد من الأنصار تربية حصلت لك حق الفرقة لو كنت متصلاً بها لِمَ تَعْبُدُ مَالاً يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً فبتقدير أن كنت متصلاً بها كان يجب أن تنفصل عنها وتتركها فكيف وما كنت متصلاً بها أيليق بك أن تقرب الاتصال بها قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ السابع والثلاثون هؤلاء الكفار لفرط حماقتهم ظنوا أن الكثرة في الإلهية كالكثرة في المال يزيد به الغني وليس الأمر كذلك بل هو كالكثرة في العيال تزيد به الحاجة فقل يا محمد لي إله واحد أقوم له في الليل وأصوم له في النهار ثم بعد لم أتفرغ من قضاء حق ذرة من ذرات نعمه فكيف ألتزم عبادة آلهة كثيرة قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثامن والثلاثون أن مريم عليها السلام لما تمثل لها جبريل عليه السلام قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً فاستعاذت أن تميل إلى جبريل دون الله أفتستجيز مع كمال رجوليتك أن تميل إلى الأصنام قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ التاسع والثلاثون مذهب أبي حنيفة أنه لا يثبت حق الفرقة بالعجز عن النفقة ولا بالعنة الطارئة يقول لأنه كان قيماً فلا يحسن الإعراض عنه مع أنه تعيب فالحق سبحانه يقول كنت قيماً ولم أتعيب فكيف يجوز الإعراض عني قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الأربعون هؤلاء الكفار كانوا معترفين بأن الله خالقهم وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وقال في موضع آخر أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الاْرْضِ فكأنه تعالى يقول(32/132)
هذه الشركة إما أن تكون مزارعة وذلك باطل لأن البذر مني والتربية والسقي مني والحفظ مني فأي شيء للصنم أو شركة الوجوه وذلك أيضاً باطل أترى أن الصنم أكثر شهرة وظهوراً مني أو شركة الأبدان وذلك أيضاً باطل ون ذلك يستدعي الجنسية أو شركة العنان وذلك أيضاً باطل لأنه لا بد فيه من نصاب فما نصاب الأصنام أو يقول ليس هذه من باب الشركة لكن الصنم يأخذ بالتغلب نصيباً من الملك فكأن الرب يقول ما أشد جهلكم إن هذا الصنم أكثر عجزاً من الذبابة إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً فأنا أخلق البذر ثم ألقيه في الأرض فالتربية والسقي والحفظ مني ثم إن من هو أعجز من الذبابة يأخذ بالقهر والتغلب نصيباً مني ما هذا بقول يليق بالعقلاء قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الحادي والأربعون أنه لا ذرة في عالم المحدثات إلا وهي تدعو العقول إلى معرفة الذات والصفات وأما الدعاة إلى معرفة أحكام الله فهم الأنبياء عليهم السلام ولما كان كل بق وبعوضة داعياً إلى معرفة الذاتي والصفات قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى ِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَة ً فَمَا فَوْقَهَا ذلك لأن هذه البعوضة بحسب حدوث ذاتها وصفاتها تدعو إلى قدرة الله بحسب تركيبها العجيب تدعوا إلى علم الله وبحسب تخصيص ذاتها وصفاتها بقدر معين تدعو إلى إرادة الله فكأنه تعالى يقول مثل هذا الشيء كيف يتسحيا منه روى أن عمر رضي الله عنه كان في أيام خلافته دخل السوق فاشترى كرشاً وحمله بنفسه فرآه على من بعيد فتنكب على عن الطريق فاستقبله عمر وقال له لم تنكبت عن الطريق فقال علي حتى لا تستحي فقال وكيف أستحي من حمل ما هو غذائيا فكأنه تعالى يقول إذا كان عمر لا يستحي من الكرش الذي هو غذاؤه في الدنيا فكيف أستحي عن ذكر البعوض الذي يعطيك غذاء دينك ثم كأنه تعالى يقول يا محمد إن نمروذ لما ادعى الربوبية صاح عليه البعوض بالإنكار فهؤلاء الكفار لما دعوك إلى الشرك أفلا تصيح عليهم أفلا تصرح بالرد عليهم قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وإن فرعون لما ادعى الإلهية فجبريل ملأ فاه من الطين فإن كنت ضعيفاً فلست أضعف من بعوضة نمروذ وإن كنت قوياً فلست أقوى من جبريل فأظهر الإنكار عليهم و قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثاني والأربعون كأنه تعالى يقول يا محمد قُلْ بلسانك لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ واتركه قرضاً علي فإني أقضيك هذا القرض على أحسن الوجوه ألا ترى أن النصراني إذا قال أشهد أن محمداً رسول الله فأقول أنا لا أكتفي بهذا مالم تصرح بالبراءة عن النصرانية فلما أوجبت على كل مكلف أن يتبرأ بصريح لسانه عن كل دين يخالف دينك فأنت أيضاً أوجب على نفسك أن تصرح برد كل معبود غيري فقل قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الثالث والأربعون أن موسى عليه السلام كان في طبعه الخشونة فلما أرسل إلى فرعون قيل له فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً وأما محمد عليه السلام فلما أرسل إلى الخلق أمر بإظهار الخشونة تنبيهاً على أنه في غاية الرحمة فقيل له قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ
أما قوله تعالى قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا قد تقدم القول فيها في مواضع والذي نزيده ههنا أنهروى عن علي عليه السلام أنه قال يا نداء النفس وأي نداي القلب وها نداء الروح وقيل يا نداء الغائب وأي للحاضر وها للتنبيه كأنه يقول أدعوك ثلاثاً ولا تجيبني مرة ما هذا إلا لجهلك الخفي ومنهم من قال أنه تعالى جمع بين يا الذي هو للبعيد وأي الذي هو للقريب كأنه تعالى يقول معاملتك معي وفرارك عني يوجب(32/133)
البعد البعيد لكن إحساني إليك ووصول نعمتي إليك توجب القرب القريب وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وإنما قدم يا الذي يوجب البعد على أي الذي يوجب القرب كأنه يقول التقصير منك والتوفيق مني ثم ذكرها بعد ذلك لأن ما يوجب البعد الذي هو كالموت وأي يوجب القرب الذي هو كالحياة فلما حصلا حصلت حالة متوسطة بين الحياة والموت وتلك الحالة هي النوم والنائم لا بد وأن ينبه وها كلمة تنبيه فلهذا السبب ختمت حروف النداء بهذا الحرف
المسألة الثانية روى في سبب نزول هذه السورة أن الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وأمية بن خلف قالوا لرسول الله تعالى حتى نعبد إلهك مدة وتعبد آلهتنا مدة فيحصل مصلح بيننا وبينك وتزول العداوة من بيننا فإن كان أمرك رشيداً أخذنا منه حظاً وإن كان أمرنا رشيداً أخذت منه حظاً فنزلت هذه السورة ونزل أيضاً قوله تعالى قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ فتارة وصفهم بالجهل وتارة بالكفر واعلم أن الجهل كالشجرة والكفر كالثمرة فلما نزلت السورة وقرأها على رؤوسهم شتموه وأيسوا منه وههناسؤالات
السؤال الأول لم ذكرهم في هذه السورة بالكافرين وفي الأخرى بالجاهلين الجواب لأن هذه السورة بتمامها نازلة فيهم فلا بد وأن تكون المبالغة ههنا أشد وليس في لدنيا لفظ أشنع ولا أبشع من لفظ الكافر وذلك لأنه صفة ذم عند جميع الخلق سواء كان مطلقاً أو مقيداً أما لفظ الجهل فإنه عند التقييد قد لا يذم كقوله عليه السلام في علم الأنساب ( علم لا ينفع وجهل لا يضر )
السؤال الثاني لما قال تعالى في سورة لِمَ تُحَرّمُ يا أيها الذين كفروا ولم يذكر قل وههنا ذكر قل وذكره باسم الفاعل والجواب الآية المذكورة في سورة لم تحزم إنما تقال لهم يوم القيامة وثمة لا يكون الرسول رسولاً إليهم فأزال الواسطة وفي ذلك الوقت يكونون مطيعين لا كافرين فلذلك ذكره بلفظ الماضي وأما ههنا فهم كانوا موصوفين بالكفر وكان الرسول رسولاً إليهم فلا جرم قال قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ
السؤال الثالث قوله ههنا قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ خطاب مع الكل أو مع البعض الجواب لا يجوز أن يكون قوله لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ خطاباً مع الكل لأن في الكفار من يعبد الله كاليهود والنصارى فلا يجوز أن يقول لهم لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ولا يجوز أيضاً أن يكون قوله وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ خطاباً مع الكل لأن في الكفار من آمن وصار بحيث يعبد اللهد فإذن وجب أن يقال إن قوله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ خطاب مشافهة مع أقوام مخصوصين وهم الذين قالوا نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة والحاصل أنا لو حملنا الخطاب على العموم دخل التخصيص ولو حملنا على أنه خطاب مشافهة لم يلزمنا ذلك فكان حمل الآية على هذا المحمل أولى
لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ
أما قوله تعالى لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(32/134)
ففيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية قولان أحدهما أنه لا تكرار فيها والثاني أن فيها تكراراً أما الأول فتقريره عن وجوه أحدها أن الأول للمستقبل والثاني للحال والدليل على أن الأول للمستقبل أن لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال أن ترى أن لن تأكيد فيما ينفيه لا وقال الخليل في أن أصله لا أن إذا ثبت هذا فقوله لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ أي لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلبه منكم من عبادة إلهي ثم قال وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ أي ولست في الحال بعابد معبودكم ولا أنتم في الحال بعابدين لمعبودي الوجه الثاني أن تقلب الأمر فتجعل الأول للحال والثاني للاستقبال والدليل على أن قول وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ للاستقبال أنه رفع لمفهوم قولنا أنا عابد ما عبدتم ولا شك أن هذا للاستقبال بدليل أنه لو قال أنا قاتل زيداً فهم منه الاستقبال الوجه الثالث قال بعضهم كل واحد منهما يصلح للحال وللاستقبال ولكنا نخص أحداها بالحال والثاني بالاستقبال دفعاً للتكرار فإن قلنا إنه أخبر عن الحال ثم عن الاستقبال فهو الترتيب وإن قلنا أخبر أولاً عن الاستقبال فلأنه هو الذي دعوه إليه فهو الأهم فبدأ به فإن قيل ما فائدة الإخبار عن الحال وكان معلوماً أنه ما كان يعبد الصنم وأما الكفار فكانوا يعبدون الله في بعض الأحوال قلنا أما الحكاية عن نفسه فلئلا يتوهم الجاهل أنه يعبدها سراً خوفاً منها أو طمعاً إليها وأما نفيه عبادتهم فلأن فعل الكافر ليس بعبادة أصلاً الوجه الرابع وهو اختيار أبي مسلم أن المقصود من الأولين المعبود وما بمعنى الذي فكأنه قالا لا أعبد الأصنام ولا تعبدون الله وأما في الأخيرين فما مع الفعل في تأويل المصدر أي لا أعبد عبادتكم المبنية على الشرك وترك النظر ولا أنتم تعبدون عبادتي المبنية على اليقين فإن زعمتم أنكم تعبدون إلهي كان ذلك باطلاً لأن العبادة فعل مأمور به وما تفعلونه أنتم فهو منهي عنه وغير مأمور به الوجه الخامس أن تحمل الأولى على نفي الاعبتار الذي ذكروه والثانية على النفي العام المتناول لجميع الجهات فكأنه أولاً قال يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ رجاء أن تعبدوا الله ولا أنتم تعبدون الله رجاء أن أعبد أصنامكم ثم قال ولا أنا عابد صنمكم لغرض من الأغراض ومقصود من المقاصد البتة بوجه من الوجوه وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ بوجه من الوجوه واعتبار من الاعتبارات ومثاله من يدعو غيره إلى الظلم لغرض التنعيم فيقول لا أظلم لغرض بل لا أظلم أصلا لا لهذا الغرض ولا لسائر الأغراض القول الثاني وهو أن نسلم حصول التكرار وعلى هذا القول العذر عنه من ثلاثة أوجه الأول أن التكرير يفيد التوكيد وكلما كانت الحاجة إلى التأكيد أشد كان التكرير أحسن ولا موضع أحوج إلى التأكيد من هذا الموضع لأن أولئك الكفار رجعوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا المعنى مراراً وسكت رسول الله عن الجواب فوقع في قلوبهم أنه عليه السلام قد مال إلى دينهم بعض الميل فلا جرم دعت الحاجة إلى التأكيد والتكرير في هذا النفي والإبطال الوجه الثاني أنه كان القرآن ينزل شيئاً بعد شيء وآية بعد آية جواباً عما يسألون فالمشركون قالوا استلم بعد آلهتنا حتى نؤمن بإلهك فأنزل الله وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ثم قالوا بعد مدة تعبد آلهتنا شهراً ونعبد إلهك شهراً فانزل الله وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ولما كان هذا الذي ذكرناه محتملاً لم يكن التكرار على هذا الوجه مضراً البتة الوجه الثالث أن الكفار ذكروا تلك الكلمة مرتين تعبد آلهتنا شهراً ونعبد إلهك شهراً وتعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فأتى(32/135)
الجواب على التكرير على وفق قولهم وهو ضرب من التهكم فإن من كرر الكلمة الواحدة لغرض فاسد يجازي بدفع تلك الكلمة على سبيل التكرار استخفافاً به واستحقاراً لقوله
المسألة الثانية في الآية سؤال وهو أن كلمة مَا لا تتناول من يعلم فهب أن معبودهم كان كذلك فصح التعبير عنه بلفظ ما لكن معبود محمد عليه الصلاة والسلام هو أعلم العالمين فكيف قال وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ أجابوا عنه من وجوه أحدها أن المراد منه الصفة كأنه قال لا أعبد الباطل وأنتم لا تعبدون الحق وثانيها أن مصدرية في الجملتين كأنه قال لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي في المسقبل ثم قال ثانياً لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي في الحال وثالثها أن يكون ما بمعنى الذي وحينئذ يصح الكلام ورابعها أنه لما قال أولاً لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ حمل الثاني عليه ليتسق الكلام كقوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا
المسألة الثالثة احتج أهل الجبر بأنه تعالى أخبر عنهم مرتين بقوله وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ والخبر الصدق عن عدم الشيء يضاد وجود ذلك الشي فالتكليف بتحصيل العبادة مع وجود الخبر الصدق بعدم العبادة تكليف بالجمع بين الضدين واعلم أنه بقي في الآية سؤالات
السؤال الأول أليس أن ذكر الوجه الذي لأجله تقبح عبادة غير الله كان أولى من هذا التكرير الجواب بل قد يكون التأكيد والتكرير أولى من ذكر الحجة إما لأن المخاطب بليد ينتفع بالمبالغة والتكرير ولا ينتفع بذكر الحجة أو لأجل أن محل النزاع يكون في غاية الظهور فالمناظرة في مسألة الجبر والقدر حسنة أما القائل بالصنم فهو إما مجنون يجب شده أو عاقل معاند فيجب قتله وإن لم يقدر على قتله فيجب شتمه والمبالغة في الأنكار عليه كما في هذه الآية
السؤال الثاني أن أول السورة اشتمل على التشديد وهو النداء بالكفر والتكرير وآخرها على اللطف والتساهل وهو قوله لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِى َ دِينِ فكيف وجه الجمع بين الأمرين الجواب كأنه يقول إني قد بالغت في تحذيركم على هذا الأمر القبيح وما قصرت فيه فإن لم تقبلوا قولي فاتركوني سواء بسواء
السؤال الثالث لما كان التكرار لأجل التأكيد والمبالغة فكان ينبغي أن يقول لن أعبد ما تعبدون لأن هذا أبلغ ألا ترى أن أصحاب الكهف لما بالغوا قالوا لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلاهاً والجواب المبالغة إنما يحتاج إليها في موضع التهمة وقد علم كل أحد من محمد عليه السلام أنه ما كان يعبد الصنم قبل الشرع فكيف يعبده بعد ظهور الشرع بخلاف أصحاب الكهف فإنه وجد منهم ذلك فيما قبل
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِى َ دِينِ
أما قوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِى َ دِينِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس لكم كفركم بالله ولي التوحيد والإخلاص له فإن قيل فهل يقال إنه أذن لهم في الكفر قلنا كلا فإنه عليه السلام ما بعث إلا للمنع من الكفر فكيف يأذن فيه ولكن المقصود منه أحد أمور أحدها أن المقصود منه التهديد كقوله اعملوا ما شئتم وثانيها كأنه يقول إني نبي مبعوث(32/136)
إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني فاتركوني ولا تدعوني إلى الشرك وثالثها لَكُمْ دِينَكُمْ فكونوا عليه إن كان الهلاك خيراً لكم وَلِيُّ دِينِى لأني لا أرفضه القول الثاني في تفسير الآية أن الدين هو الحساب أي لكم حسابكم ولي حسابي ولا يرجع إلى كل واحد منا من عمل صاحبه أثر البتة القول الثالث أن يكون على تقدير حذف المضاف أي لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني وحسبهم جزاء دينهم وبالاً وعقاباً كما حسبك جزاء دينك تعظيماً وثواباً القول الرابع الدين العقوبة وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَة ٌ فِى دِينِ اللَّهِ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَى ْء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَتِلْكَ الاْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ القول الخامس الدين الدعاء فادعو الله مخلصين له الدين أي لكم دعاؤكم وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ وَإِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ ثم ليتها تبقى على هذه الحالة فلا يضرونكم بل يوم القيامة يجدون لساناً فيكفرون بشرككم وأما ربي فيقول وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامَنُواْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ أُجِيبُ دَعْوَة َ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ القول السادس الدين العادة قال الشاعر
يقول لها وقد دارت وضيني
أهذا دينها أبدأ وديني معناه لكم عادتكم المأخوذة من أسلافكم ومن الشياطين ولي عادتي المأخوذة من الملائكة والوحي ثم يبقى كل واحد منا على عادته حتى تلقوا الشياطين والنار وألقى الملائكة والجنة
المسألة الثانية قوله لَكُمْ دِينَكُمْ يفيد الحصر ومعناه لكم دينكم لا لغيركم ولي ديني لا لغيري وهو إشارة إلى قوله وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى أي أنا مأمور بالوحي والتبليغ وأنتم مأمورون بالامتثال والقبول فأنا لمافعلت ما كلفت به خرجت من عهدة التكليف وأماإصراركم على كفركم فذلك ممالا يرجع إلي منه ضرر البتة
المسألة الثانية جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المتاركة وذلك غير جائز لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به بل ليتدبر فيه ثم يعمل بموجبه والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم وصلى الله على سيدنا وعلى آله وصحبه وسلم(32/137)
سورة النصر
وهي ثلاث آيات مدنية
إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ
إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ في الآية لطائف
إحداها أنه تعالى لما وعد محمداً بالتربية العظيمة بقوله وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى وقوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ لا جرم كان يزداد كل يوم أمره كأنه تعالى قال يا محمد لم يضيق قلبك ألست حين لم تكن مبعوثاً لم أضيعك بل نصرتك بالطير الأبابيل وفي أول الرسالة زدت فجعلت الطير ملائكة ألن يكفيكم أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَة ِ ءالافٍ ثم الآن أزيد فأقول إني أكون ناصراً لك بذاتي إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ فقال إلهي إنما تتم النعمة إذا فتحت لي دار مولدي ومسكني فقال وَالْفَتْحُ فقال إلهي لكن القوم إذا خرجوا فأي لذة في ذلك فقال وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً ثم كأنه قال هل تعلم يا محمد بأي سبب وجدت هذه التشريفات الثلاثة إنما وجدتها لأنك قلت في السورة المتقدمة قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وهذا يشتمل على أمور ثلاثة أولها نصرتني بلسانك فكان جزاؤه إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وثانيها فتحت مكة قلبك بعسكر التوحيد فأعطيناك فتح مكة وهو المراد من قوله والفتح والثالث أدخلت رعية جوارحك وأعضائك في طاعتي وعبوديتي فأنا أيضاً أدخلت عبادي في طاعتك وهو المراد من قوله يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً ثم إنك بعد أن وجدت هذه الخلع الثلاثة فابعث إلى حضرتي بثلاث أنواع من العبودية تهادوا تحابوا إن نصرتك فسبح وإن فتحت مكة فاحمد وإن أسلموا فاستغفر وإنما وضع في مقابلة نَصْرُ اللَّهِ تسبيحه لأن التسبيح هو تنزيع الله عن مشابهة المحدثات يعني تشاهد أنه نصرك فإياك أن تظن أنه(32/138)
إنما نصرك لأنك تستحق منه ذلك النحر بل اعتقد كونه منزهاً عن أن يستحق عليه أحد من الخلق شيئاً ثم جعل في مقابل فتح مكة الحمد لأن النعمة لا يمكن أن تقابل إلا بالحمد ثم جعل في مقابلة دخول الناس في الدين الاستغفار وهو المراد من قوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ أي كثرة الأتباع مما يشغل القلب بلذة الجاه والقبول فاستغفر لهذا القدر من ذنبك واستغفر لذنبهم فإنهم كلما كانوا أكثر كانت ذنوبهم أكثر فكان احتياجهم إلى استغفارك أكثر الوجه الثاني أنه عليه السلام لما تبرأ عن الكفر وواجههم بالسوء في قوله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ كأنه خاف بعض القوم فقلل من تلك الخشونة فقال لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِى َ دِينِ فقيل يا محمد لا تخف فإني لا أذهب بك إلى النصر بل أجيء بالنصر إليك إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ نظيره ( زويت الأرض ) يعني لا تذهب إلى الأرض بل تجيء الأرض إليك فإن سئمت المقام وأردت الرحلة فمثلك لا يرتحل إلا إلى قاب قوسين سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ بل أزيد على هذا فأفضل فقراء أمتك على أغنيائهم ثم آمر الأغنياء بالضحايا ليتخذوها مطايا فإذا بقي الفقير من غير مطية أسوق الجنة إليه وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ لِلْمُتَّقِينَ الوجه الثالث كأنه سبحانه قال يا محمد إن الدنيا لا يصفو كدرها ولا تدوم محنها ولا نعيمها فرحت بالكوثر فتحمل مشقة سفاهة السفهاء حيث قالوا اعبد آلهتنا حتى نعبد إلهك فلما تبرأ عنهم وضاق قلبه من جهتهم قال أبشر فقد جاء نصر الله فلما استبشر قال الرحيل الرحيل أما علمت أنه لا بد بعد الكمال من الزوال فاستغفره أيها الإنسان لا تحزن من جوع الربيع فعقيبه غنى الخريف ولا تفرح بغنى الخريف فعقيبه وحشة الشتاء فكذا من تم إقباله لا يبقى له إلا الغير ومنه إذا تم أمر دنا نقصه
توقع زوالا إذا قيل تم إلهي لم فعلت كذلك قال حتى لا نضع قلبك على الدنيا بل تكون أبداً على جناح الارتحال والسفر الوجه الرابع لما قال في آخر السورة المتقدمة لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِى َ دِينِ فكأنه قال إلهي وما جزائي فقال نصر الله فيقول وما جزاء عمي حين دعاني إلى عبادة الأصنام فقال تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ فإن قيل فلم بدأ بالوعد قبل الوعيد قلنا لوجوه أحدها لأن رحمته سبقت غضبه والثاني ليكن الجنس متصلاً بالجنس فإنه قال وَلِى َ دِينِ وهو النصر كقوله يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ وثالثها الوفاء بالوعد أهم في الكرم من الوفاء بالانتقام فتأمل في هذه المجانسات الحاصلة بين هذه السور مع أن هذه السور مع أن هذه السورة من أواخر ما نزل بالمدينة وتلك السورة منأوائل ما نزل بمكة ليعلم أن ترتيب هذه السور من الله وبأمره الوجه الخامس أن في السورة المتقدمة لم يذكر شيئاً من أسماء الله بل قال ما أعبد بلفظ ما كأنه قال لا أذكر اسم الله حتى لا يستخفوا فتزداد عقوبتهم وفي هذه السورة ذكر أعظم أساميه لأنها منزلة على الأحباب ليكون ثوابهم بقراءته أعظم فكأنه سبحانه قال لا تذكر اسمي مع الكافرين حتى لا يهينوه واذكره مع الأولياء حتى يكرموه الوجه السادس قال النحويون إذاً منصوب بسبح والتقدير فسبح بحمد ربك إذا جاء نصر الله كأنه سبحان يقول جعلت الوقت ظرفاً لما تريده وهو النصر والفتح والظفر وملأت ذلك الظرف من هذه الأشياء وبعثته إليك فلا ترده علي فارغاً بل املأه من العبودية ليتحقق معنى ( تهادوا تحابوا ) فكأن محمداً عليه السلام قال بأي شيء(32/139)
أملأ ظرف هديتك وأنا فقير فيقول الله في المعنى إن لم تجد شيئاً آخر فلا أقل من تحريك اللسان بالتسبيح والحمد والاستغفار فلمافعل محمد عليه الصلاة والسلام ذلك حصل معنى تهادوا لا جرم حصلت المحبة فلهذا كان محمد حبيب الله الوجه السابع كأنه تعالى يقول إذا جاءك النصر والفتح ودخول الناس في دينك فاشتغل أنت أيضاً بالتسبيح والحمد والاستغفار فإني قلت ( لئن شكرتم لأزدينكم ) فيصير اشتغالك بهذه الطاعات سبباً لمزيد درجاتك في الدنيا والآخرة ولا تزال تكون في الترقي حتى يصير الوعد بقولي أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ الوجه الثامن أن الإيمان إنما يتم بأمرين بالنفي والإثبات وبالبراءة والولاية فالنفي والبراءة قوله لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ والإثبات والولاية قوله إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ فهذه هي الوجوه الكلية المتعلقة بهذه السورة
واعلم أن في الآية أسراراً وإنما يمكن بيانها في معرض السؤال والجواب
السؤال الأول ما الفرق بين النصر والفتح حتى عطف الفتح على النصر الجواب من وجوه أحدها النصر هو الإعانة على تحصيل المطلوب والفتح هو تحصيل المطلوب الذي كان متعلقاً وظاهر أن النصر كالسبب الفتح فلهذا بدأ يذكر النصر وعطف الفتح عليها وثانيها يحتمل أن يقال النصر كمال الدين والفتح الإقبال الدنيوي الذي هو تمام النعمة ونظير هذه الآية قوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وثالثها النصر هو الظفر في الدنيا على المنى والفتح بالجنة كماقال وَفُتِحَتْ أَبْوابُهَا وأظهر الأقوال في النصر أنه الغلبة على قريش أو على جميع العرب
السؤال الثاني أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان أبداً منصوراً بالدلائل والمعجزات فما المعنى من تخصيص لفظ النصر بفتح مكة والجواب من وجهين أحدهما المراد من هذا النصر هو النصر الموافق للطبع إنما جعل فظ النصر المطلق دالاً على هذا النصر المخصوص لأن هذا النصر لعظم موقعه من قلوب أهل الدنيا جعل ما قبله كالمعدوم كماأن المثاب عند دخول الجنة يتصور كأنه لم يذق نعمة قط وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ وثانيهما لعل المراد نصر الله في أمور الدنيا الذي حكم به لأنبيائه كقوله إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ
السؤال الثالث النصر لا يكون إلا من الله قال تعالى وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ فما الفائدة في هذا التقييد وهو قوله نَصْرُ اللَّهِ والجواب معناه نصر لا يليق إلا بالله ولا يليق أن يفعله إلا الله أو لا يليق إلا بحكمته ويقال هذا صنعة زيد إذا كان زيد مشهوراً بإحكام الصنعة والمراد منه تعظيم حال تلك الصنعة فكذا ههنا أو نصر الله لأنه إجابة لدعائهم مَتَى نَصْرُ اللَّهِ فيقول هذا الذي سألتموه
السؤال الرابع وصف النصر بالمجيء مجاز وحقيقته إذا وقع نصر الله فما الفائدة في ترك الحقيقة وذكر المجاز الجواب فيه إشارات إحداها أن الأمور مربوطة بأوقاتها وأنه سبحانه قدر لحدوث كل حادث أسباباً معينة وأوقاتاً مقدرة يستحيل فيها التقدم والتأخر والتغير والتبدل فإذا حضر ذلك الوقت وجاء ذلك الزمان(32/140)
حضر معه ذلك الأثر وإليه الإشارة بقوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ وثانيها أن اللفظ دل على أن النصر كان كالمشتاق إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأن ذلك النصر كان مستحقاً له بحكم الوعد فالمقتضى كان موجوداً إلا أن تخلف الأثر كان لفقدان الشرط فكان كالثقيل المعلق فإن ثقله يوجب الهوى إلا أن العلاقة مانعة فالثقيل يكون كالمشتاق إلى الهوى فكذا ههنا النصر كان كالمشتاق إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثالثها أن عالم العدم عالم لا نهاية له وهو عالم الظلمات إلا أن في قعرها ينبوع الجود والرحمة وهو ينبوع جود الله وإيجاده ثم انشعبت بحار الجود والأنوار وأخذت في السيلان وسيلانها يقتضي في كل حين وصولها إلى موضع ومكان معين فبحار رحمة الله ونصرته كانت آخذة في السيلان من الأزل فكأنه قيل يا محمد قرب وصولها إليك ومجيئها إليك فإذا جاءتك أمواج هذا البحر فاشتغل بالتسبيح والتحميد والاستغفار فهذه الثلاثة هي السفينة التي لا يمكن الخلاص من بحار الربوبية إلا بها ولهذا السبب لما ركب أبوك نوح بحر القهر والكبرياء استعان بقوله بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا
السؤال الخامس لا شك أن الذين أعانوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على فتح مكة هم الصحابة من المهاجرين والأنصار ثم إنه سمي نصرتهم لرسول الله نَصْرُ اللَّهِ فما السبب في أن صار الفعل الصادر عنهم مضافاً إلى الله الجواب هذا بحر يتفجر منه بحر سر القضاء والقدر وذلك لأن فعلهم فعل الله وتقريره أن أفعالهم مسندة إلى ما في قلوبهم من الدواعي والصوارف وتلك الدواعي والصوارف أمور حادثة فلا بد لها من محدث وليس هو العبد وإلا لزم التسلسل فلا بد وأن يكون الله تعالى فيكون المبدأ الأول والمؤثر الأبعد هو الله تعالى ويكون المبدأ الأقرب هو العبد فمن هذا الاعتبار صارت النصرة المضافة إلى الصحابة بعينها مضافة إلى الله تعالى فإن قيل فعلى هذا التقدير الذي ذكرتم يكون فعل العبد مفرعاً على فعل الله تعالى وهذا يخالف النصر لأنه قال إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ فجعل نصرنا له مقدماً على نصره لنا والجواب أنه لا امتناع في أن يصدر عن الحق فعل فيصير ذلك سبباً لصدور فعل عنا ثم الفعل عنا ينساق إلى فعل آخر يصدر عن الرب فإن أسباب الحوادث ومسبباتها متسلسلة على ترتيب عجيب يعجز عنإدراك كيفيته أكثر العقول البشرية
السؤال السادس كلمة إِذَا للمستقبل فههنا لما ذكر وعداً مستقبلاً بالنصر قال إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ فذكر ذاته باسم الله ولما ذكر النصر الماضي حين قال وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ لَيَقُولُنَّ فذكره بلفظ الرب فما السبب في ذلك الجواب لأنه تعالى بعد وجود الفعل صار رباً وقبله ما كان رباً لكن كان إلهاً
السؤال السابع أنه تعالى قال إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وإن محمداً عليه السلام نصر الله حين قال قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ فكان واجباً بحكم هذا الوعد أن ينصره الله فلا جرم قال إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ فهل تقول بأن هذا النصر كان واجباً عليه الجواب أن ما ليس بواجب قد يصير واجباً بالوعد ولهذا قيل وعد الكريم ألزم من دين الغريم كيف ويجب على الوالد نصرة ولده وعلى المولى نصرة عبده بل يجب النصر على الأجنبي إذا تعين بأن كان واحداً اتفاقاً وإن كان مشغولاً بصلاة نفسه ثم(32/141)
اجتمعت هذه الأسباب في حقه تعالى فوعده مع الكرم وهو أرأف بعبده من الوالد بولده والمولى بعبده وهو ولي بحسب الملك ومولى بحسب السلطنة وقيوم للتدبير وواحد فرد لا ثاني له فوجب عليه وجوب الكرم نصرة عبده فلهذا قال إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ
أما قوله تعالى وَالْفَتْحُ ففيه مسائل
المسألة الأولى نقل عن ابن عباس أن الفتح هو فتح مكة وهو الفتح الذي يقال له فتح الفتوح روى أنه لما كان صلح الحديبية وانصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أغار بعض من كان في عهد قريش على خزاعة وكانوا في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فجاء سفير ذلك القوم وأخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فعظم ذلك عليه ثم قال أما إن هذا العارض ليخبرني أن الظفر يجيء من الله ثم قال لأصحابه أنظروا فإن أبا سفيان يجيء ويلتمس أن يجدد العهد فلم تمض ساعة أن جاء الرجل ملتمساً لذلك فلم يجبه الرسول ولا أكابر الصحابة فالتجأ إلى فاطمة فلم ينفعه ذلك ورجع إلى مكة آيساً وتجهز رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المسير لمكة ثم يروى أن سارة مولاة بعض بني هاشم أتت المدينة فقال عليه السلام لها جئت مسلمة قالت لا لكن كنتم الموالي وبي حاجة فحث عليها رسول الله بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزودوها فأتاها حاطب بعشرة دنانير واستحملها كتاباً إلى مكة نسخته اعلموا أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علياً عليه السلام وعماراً في جماعة وأمرهم أن يأخذوا الكتاب وإلا فاضربوا عنقها فلما أدركوها جحدت وحلفت فسل علي عليه السلام سيفه وقال الله ما كذبنا فأخرجته من عقيصة شعرها واستحضر النبي حاطباً وقال ما حملك عليه فقال والله ما كفرت منذ أسلمت ولا أحببتهم منذ فارقتهم لكن كنت غريباً في قريش وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم فخشيبت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً فقال عمر دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر ثم خرج رسول الله إلى أن نزل بمر الظهران وقدم العباس وأبو سفيان إليه فاستأذنا فأذن لعمه خاصة فقال أبو سفيان إما أن تأذن لي وإلا أذهب بولدي إلى المفازة فيموت جوعاً وعطشاً فرق قلبه فأذن له وقال له ألم يأن أن تسلم وتوحد فقال أظن أنه واحد ولو كان ههنا غير الله لنصرنا فقال ألم يأن أن تعرف أني رسوله فقال إن لي شكاً في ذلك فقال العباس أسلم قبل أن يقتلك عمر فقال وماذا أصنع بالعزى فقال عمر لولا أنك بين يدي رسول الله لضربت عنقك فقال يا محمد أليس الأولى أن تترك هؤلاء الأوباش وتصالح قومك وعشيرتك فسكان مكة عشيرتك وأقارب و ( لا ) تعرضهم للشن والغارة فقال عليه السلام هؤلاء نصروني وأعانوني وذبوا عن حريمي وأهل مكة أخرجوني وظلموني فإن هم أسروا فبسوء صنيعهم وأمر العباس بأن يذهب به ويوقفه على المرصاد ليطالع العسكر فكانتالكتيبة تمر عليه فيقول من هذا فيقول العباس هو فلان من أمراء الجند إلى أن جاءت الكتيبة الخضراء التي لا يرى منها إلا الحدق فسأل عنهم فقال العباس هذا رسول الله فقال لقد أوتي ابن أخيك ملكاً عظيماً فقال العباس هو النبوة فقال هيهات النبوة ثم تقدم(32/142)
ودخل مكة وقال إن محمداً جاء بعسكر لا يطيقه أحد فصاحت هند وقالت اقتلوا هذا المبشر وأخذت بلحيته فصاح الرجل ودفعها عن نفسه ولما سمع أبو سفيان أذان القوم للفجر وكانوا عشرة آلاف فزع لذلك فزعاً شديداً وسأل العباس فأخبره بأمر الصلاة ودخل رسول الله مكة على راحلته ولحيته على قربوس سرجه كالساجد تواضعاً وشكراً ثم التمس أبو سفيان الأمان فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن فقال ومن تسع داري فقال ومن دخل المسجد فهو آمن فقال ومن يسع المسجد فقال من ألقى سلاحه فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ثم وقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على باب المسجد وقال لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم قال يا أهل مكة ما ترون إني فاعل بكم فقالوا خير أخ كريم وابن أخ كريم فقال اذهبوا فأنتم الطلقاء فاعتقهم فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء ومن ذلك كان علي عليه السلام يقول لمعاوية أنى يستوي المولى والمعتق يعني اعتقناكم حين مكننا الله من رقابكم ولم يقل اذهبوا فأنتم معتقون بل قال الطلقاء لأن المعتق يجوز أن يرد إلى الرق والمطلقة يجوز تعاد إلى رق النكاح وكانوا بعد على الكفر فكان يجوز أن يخونوا فيستباح رقهم مرة أخرى ولأن الطلاق يخص النسوان وقد ألقوا السلاح وأخذوا المساكن كالنسوان ولأن المعتق يخلى سبيله يذهب حيث شاء والمطلقة تجلس في البيت للعدة وهم أمروا بالجلوس بمكة كالنسوان ثم إن القوم بايعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على الإسلام فصاروا يدخلون في دين الله أفواجاً روى أنه عليه السلام صلى ثمان ركعات أربعة صلاة الضحى وأربعة أخرى شكراً لله نافلة فهذه هي قصة فتح مكة والمشهور عند المفسرين أن المراد من الفتح في هذه السورة هو فتح مكة ومما يدل على أن المراد بالفتح فتح مكة أنه تعالى ذكره مقروناً بالنصر وقد كان يجد النصر دون الفتح كبدر والفتح دون النصر كأجلاء بني النضير فإنه فتح البلد لكن لم يأخذ القوم أما يوم فتح مكة اجتمع له الأمران النصر والفتح وصار الخلق له كالأرقاء حتى أعتقهم القول الثاني أن المراد فتح خيبر وكان ذلك على يد علي عليه السلام والقصة مشهورة روى أن أستصحب خالد بن الوليد وكان يساميه في الشجاعة فلما نصب السلم قال لخالد أتتقدم قال لا فلما تقدم علي عليه السلام سأله كم صعدت فقال لا أدري لشدة الخوف وروى أنه قال لعلي عليه السلام ألا تصارعني فقال ألست صرعتك فقال نعم لكن ذاك قبل إسلامي ولعل علياً عليه السلام إنما امتنع عن مصارعته ليقع صيته في الإسلام أنه رجل يمتنع عنه علي أو كان علي يقول صرعتك حين كنت كافراً أما الآن وأنت مسلم فلا يحسن أن أصرعك القول الثالث أنه فتح الطائف وقصته طويلة والقول الرابع المراد النصر على الكفار وفتح بلاد الشرك على الإطلاق وهو قول أبي مسلم والقول الخامس أراد بالفتح ما فتح الله عليه من العلوم ومنه قوله وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً لكن حصول العلم لا بد وأن يكون مسبوقاً بانشراح الصدر وصفاء القلب وذلك هو المراد من قوله إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ ويمكن أن يكون المراد بنصر الله إعانته على الطاعة والخيرات والفتح هو انتفاع عالم المعقولات والروحانيات
المسألة الثانية إذا حملنا الفتح على فتح مكة فللناس في وقت نزول هذه السورة قولان أحدهما أن فتح مكة كان سنة ثمان ونزلت هذه السورة سنة عشر وروى أنه عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يوماً ولذلك سميت سورة التوديع والقول الثاني أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة وهو وعد لرسول الله أن ينصره على أهل مكة وأن يفتحها عليه ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ(32/143)
وقوله إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يقتضي الاستقبال إذ لا يقال فيما وقع إذا جاء وإذا وقع وإذا صح هذا القول صارت هذه الآية من جملة المعجزات من حيث إنه خبر وجد مخبره بعد حين مطابقاً له والإخبار عن الغيب معجز فإن قيل لم ذكر النصر مضافاً إلى الله تعالى وذكر الفتح بالألف واللام الجواب الأولف واللام للمعهود السابق فينصرف إلى فتح مكة
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً
قوله تعالى وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فيه مسائل
المسألة الأولى رأيت يحتمل أن يكون معناه أبصرت وأن يكون معناه علمت فإن كان معناه أبصرت كان يدخلون في محل النصب على الحال والتقدير ورأيت الناس حال دخولهم في دين الله أفواجاً وإن كان معناه علمت كان يدخلون في دين الله مفعولاً ثانياً لعلمت والتقدير علمت الناس داخلين في دين الله
المسألة الثانية ظاهر لفظ الناس للعموم فيقتضي أن يكون كل الناس كانوا قد دخلوا في الوجود مع أن الأمر ما كان كذلك الجواب من وجهين الأول أن المقصود من الإنسانية والعقل إنما هو الدين والطاعة على ما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ فمن أعرض عن الدين الحق وبقي على الكفر فكأنه ليس بإنسان وهذا المعنى هو المراد من قوله أُوْلَئِكَ كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ وقال وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ وسئل الحسن بن علي عليه السلام من الناس فقال نحن الناس وأشياعنا أشباه الناس وأعداؤنا النسناس فقبله علي عليه السلام بين عينيه وقال الله أعلم حيث يجعل رسالته فإن قيل إنهم إنما دخلوا في الإسلام بعد مدة طويلة وتقصير كثير فكيف استحقوا هذا المدح العظيم قلنا هذا فيه إشارة إلى سعة رحمة الله فإن العبد بعد أن أتى بالكفر والمعصية طول عمره فإذا أتى بالإيمان في آخر عمره يقبل إيمانه ويمدحه هذا المدح العظيم ويروي أن الملائكة يقولون لمثل هذا الإنسان أتيت وإن كنت قد أتيت ويروى أنه عليه السلام قال ( لله أفرح بتوبة أحدكم من الضال الواجد والظمآن الوارد ) والمعنى كان الرب تعالى يقول ربيته سبعين سنة فإن مات على كفره فلا بد وأن أبعثه إلى النار فحينئذ يضيع إحساني إليه في سبعين سنة فكلما كانت مدة الكفر والعصيان أكثر كانت التوبة عنها أشد قبولاً الوجه الثاني في الجواب روى أن المراد بالناس أهل اليمن قال أبو هريرة لما نزلت هذه السورة قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الله أكبر جاء نصر الله والفتح وجاء أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية وقال أجد نفس ربكم من قبل اليمن )
المسألة الثالثة قال جمهور الفقهاء وكثير من المتكلمون إن إيمان المقلد صحيح واحتجوا بهذه الآية قالوا إنه تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج وجعله من أعظم المنن على محمد عليه السلام ولو لم يكن إيمانهم صحيحاً لما ذكره في هذا المعرض ثم إنا نعلم قطعاً أنهم ما كانوا عالمين حدوث الأجساد بالدليل ولا إثبات كونه تعالى منزهاً عن الجسمية والمكان والحيز ولا إثبات كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ولا إثبات قيام المعجز التام على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولا إثبات أن قيام المعجز كيف يدل على الصدق والعلم بأن أولئك الأعراب ما كانوا عالمين بهذه الدقائق ضروري فعلمنا أن إيمان المقلد(32/144)
صحيح ولا يقال إنهم كانوا عالمين بأصول دلائل هذه المسائل لأن أصول هذه الدلائل ظاهرة بل إنما كانوا جاهلين بالتفاصيل إلا أنه ليس من شرط كون الإنسان مستدلاً كونه عالماً بهذه التفاصيل لأنا نقول ءن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان فإن الدليل إذا كان مثلاً مركباً من عشر مقدمات فمن علم تسعة منها وكان في المقدمة العاشرة مقلداً كان في النتيجة مقلداً لا محالة لأن فرع التقليد أولى أن يكون تقليداً وإن كان عالماً بمجموع تلك المقدمات العشرة استحال كون غيره أعرف منه بذلك الدليل لأن تلك الزيادة إن كانت جزأً معتبراً في دلالة هذا الدليل لم تكن المقدمات العشرة الأولى تمام الدليل فإنه لا بد معها من هذه المقدمة الزائدة وقد كنا فرضنا تلك العشرة كافية وإن لم تكن الزيادة معتبرة في دلالة ذلك الدليل كان ذلك أمراً منفصلاً عن ذلك الدليل غير معتبر في كونه دليلاً على ذلك المدلول فثبت أن العلم بكون الدليل دليلاً لا يقبل الزيادة والنقصان فأما أن يقال إن أولئك الأعراب كانوا عالمين بجميع مقدمات دلائل هذه المسائل بحيث ما شذ عنهم من تلك المقدمات واحدة وذلك مكابرة أو ما كانوا كذلك فحينئذ ثبت أنهم كانوا مقلدين ومما يؤكذ ما ذكرنا ما روى عن الحسن أنه قال لما فتح رسول الله مكة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا إذا ظفر بأهل الحرم وجب أن يكون على الحق وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل وكل من أرادهم بسوء ثم أخذوا يدخلون في الإسلام أفواجاً من غير قتال هذا ما رواه الحسن ومعلوم أن الاستدلال بأنه لما ظفر بأهل مكة وجب أن يكون على الحق ليس بجيد فعلمنا أنهم ما كانوا مستدلين بل مقلدين
المسألة الرابعة دين الله هو الإسلام لقوله تعالى إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ولقوله وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وللدين أسماء أخرى منها الإيمان قال الله تعالى فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ ومنها الصراط قال تعالى صِراطِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ومنها كلمة الله ومنها النور لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ ومنها الهدي لقوله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء ومنها العروة فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَة ِ الْوُثْقَى ومنها الحبل وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ ومنها صبغة الله وفطرة الله وإنما قال فِى دِينِ اللَّهِ ولم يقل في دين الرب ولا سائر الأسماء لوجهين الأول أن هذا الاسم أعظم الأسماء لدلالته على الذات والصفات فكأنه يقول هذا الدين إن لم يكن له خصلة سوى أنه دين الله فإنه يكون واجب القبول والثاني لو قال دين الرب لكان يشعر ذلك بأن هذا الدين إنما يجب عليك قبوله لأنه رباك وأحسن إليك وحينئذ تكن طاعتك له معللة بطلب النفع فلا يكون الإخلاص حاصلاً فكأنه يقول أخلص الخدمة بمجرد أني إله لا لنفع يعود إليك
المسألة الخامسة الفوج الجماعة الكثيرة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعدما كانوا يدخلون فيه واحداً واحداً وإثنين إثنين وعن جابر بن عبد الله أنه بكى ذات يوم فقيل له ما يبكيك فقال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( دخل الناس في دين الله أفواجاً وسيخرجون منه أفواجاً ) نعوذ بالله من السلب بعد العطاء
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوابَا(32/145)
قوله تعالى فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَا فيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى أمره بالتسبيح ثم بالحمد ثم بالاستغفار ولهذا الترتيب فوائد
الفائدة الأولى اعلم أن تأخير النصر سنين مع أن محمداً كان على الحق مما يثقل على القلب ويقع في القلب أني إذا كنت على الحق فلم لا تنصرني ولم سلطت هؤلاء الكفرة علي فلأجل الاعتذار عن هذا الخاطر أمر بالتسبيح أما على قولنا فالمراد من هذا التنزيه أنك منزه عن أن يستحق أحد عليك شيئاً بل كل ما تفعله فإنما تفعله بحكم المشيئة الإلهية فلك أن تفعل ما تشاء كما تشاء ففائدة التسبيح تنزيه الله عن أن يستحق عليه أحد شيئاً وأما على قول المعتزلة ما فائدة التنزيه هو أن يعلم العبد أن ذلك التأخير كان بسبب الحكمة والمصلحة لا بسبب البخل وترجيح الباطل على الحق ثم إذا فرغ العبد عن تنزيه الله عما لا ينبغي فحينئذ يشتغل بحمده على ما أعطى من الإحسان والبر ثم حينئذ يشتغل بالاستغفار لذنوب نفسه الوجه الثاني أن للسائرين طريقين فمنهم من قال ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله بعده ومنهم من قال ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله ولا شك أن هذا الطريق أكمل أما بحسب المعالم الحكمية فلأن النزول من المؤثر إلى الأثر أجل مرتبة من الصعود من الأثر إلى المؤثر وأما بحسب أفكار أرباب الرياضات فلأن ينبوع النور هو واجب الوجود وينبوع الظلمة ممكن الوجود فالاستغراق في الأول يكون أشرف لا محالة ولأن الاستدلال بالأصل على التبع يكون أقوى من الاستدلال بالتبع على الأصل وإذا ثبت هذا فنقول الآية دالة على هذه الطريقة التي هي أشرف الطريقين وذلك لأنه قدم الاشتغال بالخالق على الاشتغال بالنفس فذكر أولاً من الخالق أمرين أحدهما التسبيح والثاني التحميد ثم ذكروا في المرتبة الثالثة الاستغفار وهو حالة ممزوجة من الالتفات إلى الخالق وإلى الخلق
واعلم أن صفات الحق محصورة في السلب والإيجاب والنفي والإثبات والسلوب مقدمة على الإيجابات فالتسبيح إشارة إلى التعرض للصفات السلبية التي لواجب الوجود وهي صفات الجلال والتحميد إشارة إلى الصفات الثبوتية له وهي صفات الإكرام ولذلك فإن القرآن يدل على تقدم الجلال على الإكرام ولما أشار إلى هذين النوعين من الاستغفار بمعرفة واجب الوجود نزل منه إلى الاستغفار لأن الاستغفار فيه رؤية قصور النفس وفيه رؤية جود الحق وفيه طلب لما هو الأصلح والأكمل للنفس ومن المعلوم أن بقدر اشتغال العبد بمطالعة غير الله يبقى محروماً عن مطالعة حضرة جلال الله فلهذه الدقيقة أخر ذكر الاستغفار عن التسبيح والتحميد الوجه الثالث أنه إرشاد للبشر إلى التشبه بالملكية وذلك لأن أعلى كل نوع أسفل متصل بأسفل النوع الأعلى ولهذا قيل آخر مراتب الإنسانية أول مراتب الملكية ثم الملائكة ذكروا في أنفسهم وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ(32/146)
فقوله ههنا فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ إشارة إلى التشبه بالملائكة في قولهم وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وقوله ههنا وَاسْتَغْفِرْهُ إشارة إلى قوله تعالى وَنُقَدّسُ لَكَ لأنهم فسروا قوله وَنُقَدّسُ لَكَ أي نجعل أنفسنا مقدسة لأجل رضاك والاستغفار يرجع معناه أيضاً إلى تقديس النفس ويحتمل أن يكون المراد أنهم ادعوا لأنفسهم أنهم سبحوا بحمدي ورأوا ذلك من أنفسهم وأما أنت فسبح بحمدي واستغفر من أن ترى تلك الطاعة من نفسك بل يجب أن تراها من توفيقي وإحساني ويحتمل أن يقال الملائكة كما قالوا في حق أنفسهم وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قال الله في حقهم وَيَسْتَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ فأنت يا محمد استغفر للذين جاؤوا أفواجاً كالملائكة يستغفرون للذين آمنوا ويقولون رَبَّنَا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ الوجه الرابع التسبيح هو التطهير فيحتمل أن يكون المراد طهر الكعبة من الأصنام وكسرها ثم قال بِحَمْدِ رَبّكَ أن ينبغي أن يكون إقدامك على ذلك التطهير بواسطة الاستغفار بحمد ربك وإعانته وتقويته ثم إذا فعلت ذلك فلا ينبغي أن ترى نفسك آتياً بالطاعة اللائقة به بل يجب أن ترى نفسك في هذه الحالة مقصرة فاطلب الاستغفار عن تقصيرك في طاعته والوجه الخامس كأنه تعالى يقول يا محمد إما أن تكون معصوماً أو لم تكن معصوماً فإن كنت معصوماً فاشتغل بالتسبيح والتحميد وإن لم تكن معصوماً فاشتغل بالاستغفار فتكون الآية كالتنبيه على أنه لا فراغ عن التكليف في العبودية كما قال وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ
المسألة الثانية في المراد من التسبيح وجهان الأول أنه ذكر الله بالتنزه سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن فقال تنزيه الله عن كل سوء وأصله من سبح فإن السابح يسبح في الماء كالطير في الهواء ويضبط نفسه من أن يرسب فيه فيهلك أو يتلوث من مقر الماء ومجراه والتشديد للتبعيد لأنك تسبحه أي تبعده عما لا يجوز عليه وإنما حسن استعماله في تنزيه الله عما لا يجوز عليه من صفات الذات والفعل نفياً وإثباتاً لأن السمكة كما أنها لا تقبل النجاسة فكذا الحق سبحانه لا يقبل مالا ينبغي البتة فاللفظ يفيد التنزيه في الذات والصفات والأفعال والقول الثاني أن المراد بالتسبيح الصلاة لأن هذا اللفظ وارد في القرآن بمعنى الصلاة قال تعالى فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وقال فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ والذي يؤكده أن هذه السورة من آخر ما نزل وكان عليه السلام في آخر مرضه يقول ( الصلاة وما ملكت أيمانكم ) جعل يلجلجها في صدره وما يقبض بها لسانه ثم قال بعضهم عني به صلاة الشكر صلاها يوم الفتح ثمان ركعات ) وقال آخرون هي صلاة الضحى وقال آخرون صلي ثمان ركعات أربعة للشكر وأربعة الضحى وتسمية الصلاة بالتسبيح لما أنها لا تنفك عنه وفيه تنبيه على أنه يجب تنزيه صلاتك عن أنواع النقائص في الأقوال والأفعال واحتج أصحاب القول الأول بالأخبار الكثيرة الواردة في ذلك روت عائشة كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد نزول هذه السورة يكثر أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك وقالت أيضاً كان الرسول يقول كثيرا في ركوعه سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي وعنها أيضاً كان نبي الله في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلى قال سبحان الله وبحمده فقلت يا رسول الله إنك تكثر من قولة سبحان الله وبحمده قال إني أمرت بها وقرأ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وعن ابن مسعود ( لما نزلت هذه السورة كان عليه السلام يكثر أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الغفور ) وروى أنه قال ( إني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة )
المسألة الثانية الآية تدلى على فضل التسبيح والتحميد حيث جعل كافياً في أداء ما وجب عليه من شكر نعمة النصر والفتح ولم لا يكون كذلك وقوله ( الصوم لي ) من أعظم الفضائل للصوم فإنه أضافه إلى ذاته ثم إنه جعل صدف الصلاة مساوياً للصوم في هذا التشريف وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فهذا يدل على أن الصلاة أفضل من الصوم بكثير ثم إن الصلاة صدف للأذكار ولذلك قال وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وكيف لا يكون كذلك والثناء عليه مما مدحه معلوم عقلاً وشرعاً أما كيفية الصلاة فلا(32/147)
سبيل إليها إلا بالشرع ولذلك جعلت الصلاة كالمرصعة من التسبح والتكبير فإن قيل عدم وجوب التسبيحات يقتضي أنها أقل درجة من سائر أعمال الصلاة قلنا الجواب عنه من وجوه أحدها أن سائر أفعال الصلاة مما لا يميل القلب إليه فاحتيج فيها إلى الإيجاب أما التسبيح والتهليل فالعقل داع إليه والروح عاشق عليه فاكتفى بالحب الطبيعي ولذلك قال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا وثانيها أن قوله فَسَبّحْ أمر والأمر المطلق للوجوب عند الفقهاء ومن قال الأمر المطلق للندب قال إنه ههنا للوجوب بقرينة أنه عطف عليه الاستغفار والاستغفار واجب ومن حق العطف التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه وثالثها أنها لو وجبت لكان العقاب الحاصل بتركها أعظم إظهاراً لمزيد تعظيمها فترك الإيجاب خوفاً من هذا المحذور
المسألة الرابعة أما الحمد فقد تقدم تفسيره وأما تفسير قوله فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ فذكروا فيه وجوهاً أحدها قال صاحب الكشاف أي قل سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ للَّهِ متعجباً مما أراك من عجيب أنعامه أي اجمع بينهما تقول شربت الماء باللبن إذا جمعت بينهما خلطاً وشرباً وثانيها أنك إذا حمدت الله فقد سبحته لأن التسبيح داخل في الحمد لأن الثناء عليه والشكر له لا بد وأن يتضمن تنزيهه عن النقائص لأنه لا يكون مستحقاً للثناء إلا إذا كان منزهاً عن النقص ولذلك جعل مفتاح القرآن بالحمد لله وعند فتح مكة قال الحمد لله الذي نصر عبده ولم يفتتح كلامه بالتسبيح فقوله فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ معناه سبحه بواسطة أن تحمده أي سبحه بهذا الطريق وثالثها أن يكون حالاً ومعناه سبح حامداً كقولك اخرج بسلاحك أي متسلحاً ورابعها يجوز أن يكون معناه سبح مقدراً أن تحمد بعد التسبيح كأنه يقول لا يتأتى لك الجمع لفظاً فاجمعهما نية كما أنك يوم النحر تنوي الصلاة مقدراً أن تنحر بعدها فيجتمع لك الثوابان في تلك الساعة كذا ههنا وخامسها أن تكون هذه الباء هي التي في قولك فعلت هذا بفضل الله أي سبحه بحمد الله وإرشاده وإنعامه لا بحمد غيره ونظيره في حديث الإفك قول عائشة ( بحمد الله لا بحمدك ) والمعنى فسبحه بحمده فإنه الذي هداك دون غيره ولذلك روى أنه عليه السلام كان يقول ( الحمد لله على الحمد لله ) وسادسها روى السدي بحمد ربك أي بأمر ربك وسابعها أن تكون الباء صلة زائدة ويكون التقدير سبح حمد ربك ثم فيه احتمالات أحدها اختر له أطهر المحامد وأزكاها والثاني طهر محامد ربك عن الرياء والسمعة والتوسل بذكرها إلى الأغراض الدنيوية الفاسدة والثالث طهر محامد ربك عن أن تقول جئت بها كما يليق به وإليه الإشارة بقوله وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وثامنها أي ائت بالتسبيح بدلاً عن الحمد الواجب عليك وذلك لأن الحمد إنما يجب في مقابلة النعم ونعم الله علينا غير متناهية فحمدها لا يكون في وسع البشر ولذلك قال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا فكأنه تعالى يقول أنت عاجز عن الحمد فأت بالتسبيح والتنزيه بدلاً عن الحمد وتاسعها فيه إشارة إلى أن التسبيح والحمد أمر أن لا يجوز تأخير أحدهما عن الثاني ولا يتصور أيضاً أن يؤتى بهما معاً فنظيره من ثبت له حق الشفعة وحق الرد بالعيب وجب أن يقول اخترت الشفعة بردي ذلك المبيع كذا قال فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ ليقعا معاً فيصير حامداً مسبحاً في وقت واحد معاً وعاشرها أن يكون المراد سبح قلبك أي طهر قلبك بواسطة مطالعة حمد ربك فإنك إذا رأيت أن الكل من الله فقد طهرت قلبك عن الالتفات إلى نفسك وجهدك فقوله فَسَبّحْ إشارة إلى نفي ما سوى الله تعالى وقوله بِحَمْدِ رَبّكَ إشارة(32/148)
إلى رؤية كل الأشياء من الله تعالى
المسألة الخامسة في قوله وَاسْتَغْفِرْهُ وجوهأحدها لعله عليه السلام كان يتمنى أن ينتقم ممن آذاه ويسأل الله أن ينصره فلما سمع إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ استبشر لكن لو قرن بهذه البشارة شرط أن لا ينتقم لتنغصت عليه تلك البشارة فذكر لفظ الناس وأنهم يدخلون في دين الله وأمره بأن يستغفر للداخلين لكن من المعلوم أن الاستغفار لمن لا ذنب له لا يحسن فعلم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بهذا الطريق أنه تعالى ندبه إلى العفو وترك الانتقام لأنه لما أمره بأن يطلب لهم المغفرة فكيف يحسن منه أن يشتغل بالانتقام منهم ثم ختم بلفظ التواب كأنه يقول إن قبول التوبة حرفته فكل من طلب منه التوبة أعطاه كما أن البياع حرفته بيع الأمتعة التي عنده فكل من طلب منه شيئاً من تلك الأمتعة باعه منه سواء كان المشتري عدواً أو ولياً فكذا الرب سبحانه يقبل التوبة سواء كان التائب مكياً أو مدنياً ثم إنه عليه السلام امتثل أمر الرب تعالى فحين قالوا له أخ كريم وابن أخ كريم قال لهم لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ أي أمرني أن استغفر لكم فلا يجوز أن يردني وثالثها أن قوله وَاسْتَغْفِرْهُ إما أن يكون المراد واستغفر الله لنفسك أو لأمتك فإن كان المراد هو الأول فهو يتفرع على أنه هل صدرت عنه معصية أم لا فمن قال صدرت المعصية عنه ذكر في فائدة الاستغفار وجوهاً أحدها أنه لا يمتنع أن تكون كثرة الاستغفار منه تؤثر في جعل ذنبه صغيرة وثانيها لزمه الاستغفار ليصير الاستغفار جابراً للذنب الصغير فلا ينتقض من ثوابه شيء أصلاً وأما من قال ما صدرت المعصية عنه فذكر في هذا الاستغفار وجوهاً أحدها أن استغفار النبي جار مجرى التسبيح وذلك لأنه وصف الله بأنه غفار وثانيها تعبده الله بذلك ليقتدي به غيره إذ لا يأمن كل مكلف عن تقصير يقع منه في عبادته وفيه تنبيه على أنه مع شدة اجتهاده وعصمته ما كان يستغني عن الاستغفار فكيف من دونه وثالثها أن الاستغفار كان عن ترك الأفضل ورابعها أن الاستغفار كان بسبب أن كل طاعة أتى بها العبد فإذا قابلها بإحسان الرب وجدها قاصرة عن الوفاء بأداء شكر تلك النعمة فليستغفر الله لأجل ذلك وخامسها الاستغفار بسبب التقصير الواقع في السلوك لأن السائر إلى الله إذا وصل إلى مقام في العبودية ثم تجاوز عنه فبعد تجاوزه عنه يرى ذلك المقام قاصراً فيستغفر الله عنه ولما كانت مراتب السير إلى الله غير متناهية لا جرم كانت مراتب هذا الاستغفار غير متناهية أما الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد واستغفره لذنب أمتك فهو أيضاً ظاهر لأنه تعالى أمره بالاستغفار لذنب أمته في قوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فههنا لما كثرت الأمة صار ذلك الاستغفار أوجب وأهم وهكذا إذا قلنا المراد ههنا أن يستغفر لنفسه ولأمته
المسألة السادسة في الآية إشكال وهو أن التوبة مقدمة على جميع الطاعات ثم الحمد مقدم على التسبيح لأن الحمد يكون بسبب الإنعام والإنعام كما يصدر عن المنزه فقد يصدر عن غيره فكان ينبغي أن يقع الابتداء بالاستغفار ثم بعده يذكر الحمد ثم بعده يذكر التسبيح فما السبب في أن صار مذكوراً على العكس من هذا الترتيب وجوابه من وجوه أولها لعله ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلاً إلى الأخس فالأخس تنبيهاً على أن النزول من الخالق إلى الخلق أشرف من الصعود من الخلق إلى الخالق وثانيها فيه تنبيه على أن التسبيح والحمد الصادر عن العبد إذا صار مقابلاً بجلال الله وعزته صار عين الذنب فوجب الاستغفار منه وثالثها للتسبيح والحمد إشارة إلى التعظيم لأمر الله والاستغفار إشارة إلى الشفقة على خلق(32/149)
( الله ) والأول كالصلاة والثاني كالزكاة وكما أن الصلاة مقدمة على الزكاة فكذا ههنا
المسألة السابعة الآية تدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يجب عليه الإعلان بالتسبيح والاستغفار وذلك من وجوه أحدها أنه عليه الصلاة والسلام كان مأموراً بإبلاغ السورة إلى كل الأمة حتى يبقى نقل القرآن متواتراً وحتى نعلم أنه أحسن القيام بتبليغ الوحي فوجب عليه الإتيان بالتسبيح والاستغفار على وجه الإظهار ليحصل هذا الغرض وثانيها أنه من جملة المقاصد أن يصير الرسول قدوة للأمة حتى يفعلوا عند النعمة والمحنة ما فعله الرسول من تجديد الشكر والحمد عند تجديد النعمة وثالثها أن الأغلب في الشاهد أن يأتي بالحمد في ابتداء الأمر فأمر الله رسوله بالحمد والاستغفار دائماً وفي كل حين وأوان ليقع الفرق بينه وبين غيره ثم قال واستغفره حين نعيت نفسه إليه ليفعل الأمة عند اقتراب آجالهم مثل ذلك
المسألة الثامنة في الآية سؤالات أحدها وهو أنه قال إِنَّهُ كَانَ تَوبَا على الماضي وحاجتنا إلى قبوله في المستقبل وثانيها هلا قال غفاراً كما قاله في سورة نوح وثالثها أنه قال نَصْرُ اللَّهِ وقال فِى دِينِ اللَّهِ فلم لم يقل بحمد الله بل قال بِحَمْدِ رَبّكَ والجواب عن الأول من وجوه أحدها أن هذا أبلغ كأنه يقول ألست أثنيت عليكم بأنكم خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ثم من كان دونكم كنت أقبل توبتهم كاليهود فإنهم بعد ظهور المعجزات العظيمة وفلق البحر ونتق الجبل ونزول المن والسلوى عصوا ربهم وأتوا بالقبائح فلما تابوا قبلت توبتهم فإذا كنت قابلاً للتوبة ممن دونكم أفلا أقبلها منكم وثانيها منذ كثير كنت شرعت في قبول توبة العصاة والشروع ملزم على قبول النعمان فكيف في كرم الرحمن وثالثها كنت تواباً قبل أن آمركم بالاستغفار أفلا أقبل وقد أمرتكم بالاستغفار ورابعها كأنه إشارة إلى تخفيف جنايتهم أي لستم بأول من جنى وتاب بل هو حرفتي والجناية مصيبة للجاني والمصيبة إذا عمدت خفت وخامسها كأنه نظير ما يقال
لقد أحسن الله فيما مضى
كذلك يحسن فيما بقي والجواب عن السؤال الثاني من وجوه أحدها لعله خص هذه الأمة بزيادة شرف لأنه لا يقال في صفات العبد غفار ويقال تواب إذا كان آتياً بالتوبة فيقول تعالى كنت لي سمياً من أول الأمر أنت مؤمن وأنا مؤمن وإن كان المعنى مختلفاً فتب حتى تصير سمياً لي آخر الأمر فأنت تواب وأنا تواب ثم إن التواب في حق الله هو أنه تعالى يقبل التوبة كثيراً فنبه على أنه يجب على العبد أن يكون إتيانه كثيراً وثانيها إنما قيل تواباً لأن القائل قد يقول أستغفر اا وليس بتائب ومنه قوله ( المستغفر بلسانه المصر بقلبه كالمستهزىء بربه ) إن قيل فقد يقول أتوب وليس بتائب قلنا فإذاً يكون كاذباً لأن التوبة اسم للرجوع والندم بخلاف الاستغفار فإنه لا يكون كاذباً فيه فصار تقدير الكلام واستغفره بالتوبة وفيه تنبيه على أن خواتيم الأعمال يجب أن تكون بالتوبة والاستغفار وكذا خواتيم الأعمال وروى أنه لم يجلس مجلساً إلا ختمه بالاستغفار والجواب عن السؤال الثالث أنه تعالى راعى العدل فذكر اسم الذات مرتين وذكر اسم الفعل مرتين أحدهما الرب والثاني التواب ولما كانت التربية تحصل أولاً والتوابية آخراً لا جرم ذكر اسم الرب أولاً واسم التواب آخراً(32/150)
المسألة التاسعة الصحابة اتفقوا على أن هذه السورة دلت على أنه نعي لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) روى أن العباس عرف ذلك وبكى فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما يبكيك فقال نعيت إليك نفسك فقال الأمر كما تقول وقيل إن ابن عباس هو الذي قال ذلك فقال عليه الصلاة والسلام ( لقد أوتي هذا الغلام علماً كثيراً ) روى أن عمر كان يعظم ابن عباس ويقربه ويأذن له مع أهل بدر فقال عبدالرحمن أتأذن لهذا الفتى معنا وفي أبنائنا من هو مثله فقال لأنه ممن قد علمتم قال ابن عباس فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم فسألهم عن قول الله إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وكأنه ما سألهم إلا من أجلي فقال بعضهم أمر الله نبيه إذا فتح أن يستغفره ويتوب إليه فقلت ليس كذلك ولكن نعيت إليه نفسه فقال عمر ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم ثم قال كيف تلومونني عليه بعدما ترون وروى أنه لما نزلت هذه السورة خطب وقال ( إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين لقائه والآخرة فاختار لقاء الله ) فقال السائل وكيف دلت هذه السورة على هذا المعنى الجواب من وجوه أحدها قال بعضهم إنما عرفوا ذلك لما روينا أن الرسول خطب عقيب السورة وذكر التخيير وثانيها أنه لما ذكر حصول النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجاً دل ذلك على حصول الكال والتمام وذلك يعقبه الزوال كما قيل
إذا تم شيء دنا نقصه
توقع زوالاً إذا قيل تم وثالثها أنه أمره بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقاً واشتغاله به يمنعه عن الاشتغال بأمر الأمة فكان هذا كالتنبيه على أن أمر التبليغ قد تم وكمل وذلك يوجب الموت لأنه لو بقي بعد ذلك لكان كالمعزول عن الرسالة وأنه غير جائز ورابعها قوله وَاسْتَغْفِرْهُ تنبيه على قرب الأجل كأنه يقول قرب الوقت ودنا الرحيل فتأهب للأمر ونبهه به على أن سبيل العاقل إذا قرب أجله أن يستكثر من التوبة وخامسها كأنه قيل له كان منتهى مطلوبك في الدنيا هذا الذي وجدته وهو النصر والفتح والاستيلاء والله تعالى وعدك بقوله وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى فلما وجدت أقصى مرادك في الدنيا فانتقل إلى الآخرة لتفوز بتلك السعادات العالية
المسألة العاشرة ذكرناأن الأصح هو أن السورة نزلت قبل فتح مكة وأما الذين قالوا إنها نزلت بعد فتح مكة فذكر الماوردي أنه عليه السلام لم يلبث بعد نزول هذه السورة إلا ستين يوماً مستديماً للتسبيح والاستغفار وقال مقاتل عاش بعدها حولاً ونزل الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فعاش بعده ثمانين يوماً ثم نزل آية الكلالة فعاش بعدها همسين يوماً ثم نزل لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً ثم نزل وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فعاش بعدها أحد عشر يوماً وفي رواية أخرى عاش بعدها سبعة أيام والله أعلم كيف كان ذلك(32/151)
سورة المسد
خمس آيات مكية بالاتفاق
اعلم أنه تعالى قال
اعلم أنه تعالى قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ثم بين في سورة قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أن محمداً عليه الصلاة والسلام أطاع ربه وصرح بنفي عبادة الشركاء والأضداد وأن الكافر عصى ربه واشتغل بعبادة الأضداد والأنداد فكأنه قيل إلهنا ما ثواب المطيع وما عقاب العاصي فقال ثواب المطيع حصول النصر والفتح والاستيلاء في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى كما دل عليه سورة إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وأما عقاب العاصي فهو الخسار في الدنيا والعقاب العظيم في العقبى كما دلت عليه سورة تُبْتُ ونظيره قوله تعالى في آخر سورة الأنعام وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الاْرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ فكأنه قيل إلهنا أنت الجواد المنزه عن البخل والقادر المنزه عن العجز فما السبب في هذا التفاوت فقال لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتَاكُمُ فكأنه قيل إلهنا فإذا كان العبد مذنباً عاصياً فكيف حاله فقال في الجواب إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وإن كان مطيعاً منقاداً كان جزاؤه أن الرب تعالى يكون غفوراً لسيئاته في الدنيا رحيماً كريماً في الآخرة وذكروا في سبب نزول هذه السورة وجوهاً أحدها قال ابن عباس كان رسول الله يكتم أمره في أول المبعث ويصلي في شعاب مكة ثلاث سنين إلى أن نزل قوله تعالى وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ فصعد الصفا ونادى يا آل غالب فخرجت إليه غالب من المسجد فقال أبو لهب هذه غالب قد أتتك فما عندك ثم نادى يا آل لؤي فرجع من لم يكن من لؤي فقال أبو لهب هذه لؤي قد أتتك فما عندك ثم قال يا آل مرة فرجع من لم يكن من مرة فقال أبو لهب هذه لؤي قد أتتك فما عندك ثم قال يا آل مرة فرجع من لم يكن من مرة فقال أبو لهب هذه مرة قد أتتك فما عندك ثم قال يا آل كلاب ثم قال بعده يا آل قصي فقال أبو لهب هذه قصي قد أتتك فيما عندك فقال إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين وأنتم الأقربون اعلموا أني لا أملك لكم من الدنيا حظاً ولا من الآخرة نصيباً إلا أن تقولوا لا إله إلا الله فأشهد بها لكم عند ربكم فقال أبو لهب عند ذلك تباً لك ألهذا دعوتنا فنزلت السورة وثانيها روى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صعد الصفا ذات يوم وقال يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقالوا مالك قال أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدقوني قالوا بلى قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب(32/152)
شديد فقال عند ذلك أبو لهب ما قال فنزلت السورة وثالثها أنه جمع أعمامه وقدم إليهم طعاماً في صحفة فاستحقروه وقالوا إن أحدنا يأكل كل الشاة فقال كلوا فأكلوا حتى شبعوا ولم ينقص من الطعام إلا اليسير ثم قالوا فما عندك فدعاهم إلى الإسلام فقال أبو لهب ما قال وروى أنه قال أبو لهب فمالي إن أسلمت فقال ما للمسلمين فقال أفلا أفضل عليهم فقال النبي عليه الصلاة والسلام بماذا تفضلا فقال تباً لهذا الدين يستوي فيه أنا وغيري ورابعها كان إذا وفد على النبي وفد سألوا عمه عنه وقالوا أنت أعلم به فيقول لهم إنه ساحر فيرجعون عنه ولا يلقونه فأتاه وفد فقال لهم مثل ذلك فقالوا لا ننصرف حتى نراه فقال إنا لم نزل نعالجه من الجنون فتباً له وتعساً فأخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك فحزن ونزلت السورة
تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ
قوله تعالى تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ اعلم أن قوله تُبْتُ فيه أقاويل أحدها التباب الهلاك ومنه قولهم شابة أم تابة أي هالكة من الهرم ونظيره قوله تعالى وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ أي في هلاك والذي يقرر ذلك ن الأعرابي لما واقع أهله في نهار رمضان قال هلكت وأهلكت ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام ما أنكر ذلك فدل على أنه كان صادقاً في ذلك ولا شك أن العمل إما أن يكون داخلاً في الإيمان أو إن كان داخلاً لكنه أضعف أجزائه فإذا كان بترك العمل حصل الهلاك ففي حق أبي لهب حصل ترك الاعتقاد والقول والعمل وحصل وجود الاعتقاد الباطل والقول الباطل والعمل الباطل فكيف يعقل أن لا يحصل معنى الهلاك فلهذا قال تُبْتُ وثانيها تبت خسرت والتياب هو الخسران المفضي إلى الهلاك ومنه قوله تعالى وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ أي تخسير بدليل أنه قال في موضع آخر غير تخسير وثالثها تبت خابت قال ابن عباس لأنه كان يدفع القوم عنه بقوله إنه ساحر فينصرفون عنه قبل لقائه لأنه كان شيخ القبيلة وكان له كالأب فكان لا يتهم فلما نزلت السورة وسمع بها غضب وأظهر العداوة الشديدة فصار متهماً فلم يقبل قوله في الرسول بعد ذلك فكأنه خاب سعيه وبطل غرضه ولعله إنما ذكر اليد لأنه كان يضرب بيده على كتف الوافد عليه فيقول انصرف راشداً فإنه مجنون فإن المعتاد أن من يصرف إنساناً عن موضع وضع يده علي كتفه ودفعه عن ذلك الموضع ورابعها عن عطاء تبت أي غلبت لأنه كان يعتقد أن يده هي العليا وأنه يخرجه من مكة ويذله ويغلب عليه وخامسها عن ابن وثاب صفرت يداه على كل خير وإن قيل ما فائدة ذكر اليد قلنا فيه وجوه أحدها ما يرى أنه أخذ حجراً ليرمي به رسول الله روى عن طارق المحاربي أنه قال رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في السوق يقول يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ورجل خلفه يرميه بالحجارة وقد أدمى عقبيه لا تطيعوه فإنه كذاب فقلت من هذا فقالوا محمد وعمه أبو لهب وثانيها المراد من اليدين الجملة كقوله تعالى ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ومنه قولهم يداك أو كتا وقوله تعالى مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا وهذا التأويل متأكد بقوله وَتَبَّ وثالثها تبت يداه أي دينه ودنياه أولاه وعقباه أو لأن بأحدى اليدين تجر المنفعة وباوخرى تدفع المضرة أو لأن اليمنى سلاح والأخرى جنة ورابعها روى أنه عليه السلام لما دعاه نهاراً فأبى فلما جن الليل ذهب إلى داره مستناً بسنة نوح ليدعوه ليلاً كما دعاه نهاراً فلما دخل عليه قال له جئتني معتذراً فجلس النبي عليه(32/153)
السلام أمامه كالمحتاج وجعل يدعوه إلى الإسلام وقال إن كان يمنعك العار فأجبني في هذا الوقت واسكت فقال لا أومن بك حتى يؤمن بك هذا الجدي فقال عليه الصلاة والسلام للجدي من أنا فقال رسول الله وأطلق لسانه يثني عليه فاستولى الحسد على أبي لهب فأخذ يدي الجدي ومزقه وقال تباً لك أثر فيك السحر فقال الجدي بل تباً لك فنزلت السورة على وفق ذلك تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ لتمزيقه يدي الجدي وخامسها قال محمد بن إسحق يروى أن أبا لهب كان يقول يعدني محمد أشياء لا أرى أنها كائنة يزعم أنها بعد الموت فلم يضع في يدي من ذلك شيئاً ثم ينفخ في يديه ويقول تباً لكما ما آرى فيكما شيئاً فنزلت السورة
أما قوله تعالى وَتَبَّ ففيه وجوه أحدها أنه أخرج الأول مخرج الدعاء عليه كقوله قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ والثاني مخرج الخبر أي كان ذلك وحصل ويؤيده قراءة ابن مسعود وقد تب وثانيها كل واحد منهما إخبار ولكن أراد بالأول هلاك عمله وبالثاني هلاك نفسه ووجهه أن المرء إنما يسعى لمصلحة نفسه وعمله فأخبر الله تعالى أنه محروم من الأمرين وثالثها تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ يعني ماله ومنه يقال ذات اليد وَتَبَّ هو بنفسه كما يقال خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ وهو قول أبي مسلم ورابعها تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ يعني نفسه وَتَبَّ يعني ولده عتبة على ما روى أن عتبة بن أبي لهب خرج إلى الشأم مع أناس من قريش فلما هموا أن يرجعوا قال لهم عتبة بلغوا محمداً عني أني قد كفرت بالنجم إذا هوى وروى أنه قال ذلك في وجه رسول الله وتفل في وجهه وكان مبالغاً في عداوته فقال اللهم سلط عليه كلباً من كلابك فوقع الرعب في قلب عتبة وكان يحترز فسار ليلة من الليالي فلما كان قريباً من الصبح فقال له أصحابه هلكت الركاب فما زالوا به حتى نزل وهو مرعوب وأناخ الإبل حوله كالسرادق فلسط الله عليه الأسد وألقى السكينة على الإبل فجعل الأسد يتخلل حتى افترسه ومزقه فإن قيل نزول هذه السورة كان قبل هذه الوقعة وقوله وَتَبَّ إخبار عن الماضي فكيف يحمل عليه قلنا لأنه كان في معلومه تعالى أنه يحصل ذلك وخامسها تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ حيث لم يعرف حق ربه وَتَبَّ حيث لم يعرف حق رسوله وفي الآية سؤالات
السؤال الأول لماذا كناه مع أنه كالكذب إذا لم يكن له ولد اسمه لهب وأيضاً فالتكنية من باب التعظيم والجواب عن الأول أن التكنية قد تكون اسماً ويؤيذه قراءة من قرأ تبت يدا أبو لهب كما يقال علي بن أبو طالب ومعاوية بن أبو سفيان فإن هؤلاء أسماؤهم كناهم وأما معنى التعظيم فأجيب عنه من وجوه أحدها أنه لما كان اسماً خرج عن إفادة التعظيم والثاني أنه كان اسمه عبد العزي فعدل عنه إلى كنيته والثالث أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب وافقت حاله كنيته فكان جديراً بأن يذكر بها ويقال أبو لهب كما يقال أبو الشر للشرير وأبو الخير للخير الرابع كنى بذلك لتلهب وجنتيه وإشراقهما فيجوز أن يذكر بذلك تهكماً به واحتقاراً له
السؤال الثاني أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان نبي الرحمة والخلق العظيم فكيف يليق به أن(32/154)
يشافه عمه بهذا التغليظ الشديد وكان نوح مع أنه في نهاية التغليظ على الكفار قال في ابنه الكافر إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وكان إبراهيم عليه السلام يخاطب أباه بالشفقة في قوله يا أبت يا أبت وأبوه كان يخاطبه بالتغليظ الشديد ولما قال له لارْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً قال سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي وأما موسى عليه السلام فلما بعثه إلى فرعون قال له ولهرون فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً مع أن جرم فرعون كان أغلظ من جرم أبي لهب كيف ومن شرع محمد عليه الصلاة والسلام أن الأب لا يقتل بابنه قصاصاً ولا يقيم الرجم عليه وإن خاصمه أبوه وهو كافر في الحرب فلا يقتله بل يدفعه عن نفسه حتى يقتله غيره والجواب من وجوه أحدها أنه كان يصرف الناس عن محمد عليه الصلاة والسلام بقوله إنه مجنون والناس ما كانوا يتهمونه لأنه كان كالأب له فصار ذلك كالمانع من أداء الرسالة إلى الخلق فشافهه الرسول بذلك حتى عظم غضبه وأظهر العداوة الشديدة فصار بسبب تلك العداوة متهماً في القدح في محمد عليه الصلاة والسلام فلم يقبل قوله فيه بعد ذلك وثانيها أن الحكمة في ذلك أن محمداً لو كان يداهن أحداً في الدين ويسامحه فيه لكانت تلك المداهنة والمسامحة مع عمه الذي هو قائم مقام أبيه فلما لم تحصل هذه المداهنة معه انقطعت الأطماع وعلم كل أحد أنه لا يسامح أحداً في شيء يتعلق بالدين أصلاً وثالثها أن الوجه الذي ذكرتم كالمتعارض فإن كونه عماً يوجب أن يكون له الشفقة العظيمة عليه فلما انقلب الأمر وحصلت العداوة العظيمة لا جرم استحق التغليظ العظيم
السؤال الثالث ما السبب في أنه لم يقل قل تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ وقال في سورة الكافرون قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ الجواب من وجوه الأول لأن قرابة العمومة تقتضي رعاية الحرمة فلهذا السبب لم يقل له قل ذلك لئلا يكون مشافهاً لعمه بالشتم بخلاف السورة الأخرى فإن أولئك الكفار ما كانوا أعماماً له الثاني أن الكفار في تلك السورة طعنوا في الله فقال الله تعالى يا محمد أجب عنهم قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وفي هذه السورة طعنوا في محمد فقال الله تعالى أسكت أنت فإني أشتمهم تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ الثالث لما شتموك فاسكت حتى تندرج تحت هذه الآية وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وإذا سكت أنت أكون أنا المجيب عنك يروى أن أبا بكر كان يؤذيه واحد فبقي ساكتاً فجعل الرسول يدفع ذلك الشاتم ويزجره فلما شرع أبو بكر في الجواب سكت الرسول فقال أبو بكر ما السبب في ذلك قال لأنك حين كنت ساكتاً كان الملك يجيب عنك فلما شرعت في الجواب انصرف الملك وجاء الشيطان
واعلم أن هذا تنبيه من الله تعالى على أن من لا يشافه السفيه كان الله ذاباً عنه وناصراً له ومعيناً
السؤال الرابع ما الوجه في قراءة عبد الله بن كثير المكي حيث كان يقرأ أَبِى لَهَبٍ ساكنة الهاء الجواب قال أبو علي يشبه أن يكون لهب ولهب لغتين كالشمع والشمع والنهر والنهر وأجمعوا في قوله سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ على فتح الهاء وكذا قوله وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ وذلك يدل على أن الفتح أوجه من الإسكان وقال غيره إنما اتفقوا على الفتح في الثانية مراعاة لو فاق الفواصل
مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(32/155)
قوله تعالى مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ في الآية مسائل
المسألة الأولى ما في قوله مَا أَغْنَى يحتمل أن يكون استفهاماً بمعنى الإنكار ويحتمل أن يكون نفياً وعلى التقدير الأول يكون المعنى أي تأثير كان لماله وكسبه في دفع البلاء عنه فإنه لا أحداً كثر مالاً من قارون فهل دفع الموت عنه ولا أعظم ملكاً من سليمان فهل دفع الموت عنه وعلى التقدير الثاني يكون ذلك إخباراً بأن المال والكسب لا ينفع في ذلك
المسألة الثانية ما كسب مرفوع وما موصولة أو مصدرية يعني مكسوبه أو كسبه يروى أنه كان يقول إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وأولادي فأنزل الله تعالى هذه الآية ثم ذكروا في المعنى وجوهاً أحدها لم ينفعه ماله وما كسب بماله يعني رأس المال والأرباح وثانيها أن المال هو الماشية وما كسب من نسلها ونتاجها فإنه كان صاحب النعم والنتاج وثالثها مَالَهُ الذي ورثه من أبيه والذي كسبه بنفسه ورابعها قال ابن عباس مَّا كَسَبَتْ ولده والدليل عليه قوله عليه السلام ( إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ) وقال عليه السلام ( أنت ومالك لأبيك ) وروى أن بني أبي لهب احتكموا إليه فاقتتلوا فقام يحجز بينهم فدفعه بعضهم فوقع فغضب فقال أخرجوا عني الكسب الخبيث وخامسها قال الضحاك ما ينفعه ماله وعمله الخبيث يعني كيده في عداوة رسول الله وسادسها قال قتادة وَمَا كَسَبَ أي عمله الذي ظن أنه منه على شيء كقوله وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ وفي الآية سؤالات
السؤال الأول قال ههنا مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ وقال في سورة وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وما يغني عنه ماله إذا تردى فما الفرق الجواب التعبير بلفظ الماضي يكون آكد كقوله وما يغني عنه ماله إذا تردى فما الفرق الجواب التعبير بلفظ الماضي يكون آكد كقوله فما الفرق الجواب التعبير بلفظ الماضي يكون آكد كقوله مَا أَغْنَى عَنّى مَالِيَهْ وقوله أَتَى أَمْرُ اللَّهِ
السؤال الثاني ما أغنى عنه ماله وكسبه فيماذا الجواب قال بعضهم في عداوة الرسول فلم يغلب عليه وقال بعضهم بل لم يغنيا عنه في دفع النار ولذلك قال سَيَصْلَى
سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ
قوله تعالى سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى لما أخبر تعالى عن حال أبي لهب في الماضي بالتباب وبأنه ما أغنى عنه ماله وكسبه أخبر عن حاله في المستقبل بأنه سَيَصْلَى نَاراً
المسألة الثانية سَيَصْلَى قرىء بفتح الياء وبضمها مخففاً ومشدداً
المسألة الثالثة هذه الآيات تضمنت الإخبار عن الغيب من ثلاثة أوجه أحدها الإخبار عنه بالتباب والخسار وقد كان كذلك وثانيها الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده وقد كان كذلك روى أبو رافع(32/156)
مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام دخل بيتنا فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل وأسلمت أنا وكان العباس يهاب القوم ويكتم إسلامه وكان أبو لهب يخلف عن بدر فبعث مكانه العاص بن هشام ولم يتخلف رجل منهم إلا بعث مكانه رجلاً آخر فلما جاء الخبر عن واقعة أهل بدر وجدنا في أنفسنا قوة وكنت رجلاً ضعيفاً وكنت أعمل القداح ألحيها في حجرة زمزم فكنت جالساً هناك وعندي أم الفضل جالسة وقد سرنا ما جاءنا من الخبر إذا أقبل أبو لهب يجر رجليه فجلس على طنب الحجرة وكان ظهري إلى ظهره فبينا هو جالس إذ قال الناس هذا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب فقال له أبو لهب كيف الخبر يا ابن أخي فقال لقينا القوم ومنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف أرادوا وايم الله مع ذلك تأملت الناس لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة ثم قلت أولئك والله الملائكة فأخذني وضربني على الأرض ثم برك علي فضربني وكنت رجلاً ضعيفاً فقامت أم الفضل إلى عمود فضربته على رأسه وشجته وقالت تستضعفه أن غاب سيده والله نحن مؤمنون منذ أيام كثيرة وقد صدق فيما قال فانصرف ذليلاً فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته ولقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثاً ما يدفناه حتى أنتين في بيته وكانت قريش تتقي العدسة وعدواها كما يتقي الناس الطاعون وقالوا نخشى هذه القرحة ثم دفنوه وتركوه فهذا معنى قوله مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ وثالثها الإخبار بأنه من أهل النار وقد كان كذلك لأنه مات على الكفر
المسألة الرابعة احتج أهل السنة على وقوع تكليف مالا يطاق بأن الله تعالى كلف أبا لهب بالإيمان ومن جملة الإيمان تصديق الله في كل ما أخبر عنه ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن وأنه من أهل النار فقد صار مكلفاً بأنه يؤمن بأنه لا يؤمن وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال وأجاب الكعبي وأبو الحسين البصري بأنه لو آمن أبو لهب لكان لهذا الخبر خبراً بأنه آمن لا بأنه ما آمن وأجاب القاضي عنه فقال متى قيل لو فعل الله ما أخبر أنه لا يفعله فكيف يكون فجوابنا أنه لا يصح الجواب عن ذلك بلا أو نعم
واعلم أن هذين الجوابين في غاية السقوط أما الأول فلأن هذه الآية دالة على أن خبر الله عن عدم إيمانه واقع والخبر الصدق عن عدم إيمانه ينافيه وجود الإيمان منافاة ذاتية ممتنعة الزوال فإذا كان كلفه أن يأتي بالإيمان مع وجود هذا الخبر فقد كلفه بالجمع بين المتنافيين
وأما الجواب الثاني فأرك من الأول لأنا لسنا في طلب أن يذكروا بلسانهم لا أو نعم بل صريح العقل شاهد بأن بين كون الخبر عن عدم الإيمان صدقاً وبين وجود الإيمان منافاة ذاتية فكان التكليف بتحصيل أحد المتضادين حال حصول الآخر تكليفاً بالجمع بين الضدين وهذا الإشكال قائم سواء ذكر الخصم بلسانه شيئاً أم بقي ساكتاً
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَة َ الْحَطَبِ
أما قوله تعالى وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَة َ الْحَطَبِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء ومريئنه بالتصغير وقرىء حمالة الحطب بالنصب على الشتم قال صاحب الكشاف وأنا أستحب هذه القراءة وقد توسل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بجميل من أحب شتم أم جميل وقرىء بالنصب والتنوين والرفع(32/157)
المسألة الثانية أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب عمة معاوية وكانت في غاية العداوة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
وذكروا في تفسير كونها حمالة الحطب وجوهاً أحدها أنها كانت تحمل حزمة من الشوك والحسك فتنثرها بالليل في طريق رسول الله فإن قيل إنها كانت من بيت العز فكيف يقال إنها حمالة الحطب قلنا لعلها كانت مع كثرة مالها خسيسة أو كانت لشدة عداوتها تحمل بنفسها الشوك والحطب لأجل أن تليقه في طريق رسول الله وثانيها أنها كانت تمشي بالنميمة يقال الممشاء بالنمائم المفسد بين الناس يحمل الحطب بينهم أي يوقد بينهم النائرة ويقال للمكثار هو حاطب ليل وثالثها قول قتادة أنها كانت تعير رسول الله بالفقر فعيرت بأنها كانت تحتطب والرابع قول أبي مسلم وسعيد بن جبير أن المراد ما حملت من الآثام في عداوة الرسول لأنه كالحطب في تصيرها إلى النار ونظيره أنه تعالى شبه فاعل الإثم بمن يمشي وعلى ظهره حمل قال تعالى فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وقال تعالى يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ وقال تعالى وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ
المسألة الثالثة امرأته إن رفعته ففيه وجهان أحدهما العطف على الضمير في سيصلى أي سيصلي هو وامرأته وفي جيدها في موضع الحال والثاني الرفع على الإبتداء وفي جيدها الخبر
المسألة الرابعة عن أسماء لما نزلت تُبْتُ جاءت أم جميل ولها ولولة وبيدها حجر فدخلت المسجد ورسول الله جالس ومعه أبو بكر وهي تقول
مذمماً قلينا ودينه أبينا وحكمه عصينا
فقال أبو بكر يا رسول الله قد أقبلت إليك فأنا أخاف أن تراك فقال عليه السلام ( إنها لا تراني ) وقرأ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وقالت لأبي بكر قد ذكر لي أن صاحبك هجاني فقال أبو بكر لا ورب هذا البيت ما هجاك فولت وهي تقول
قد علمت قريش أني بنت سيدها
وفي هذه الحكاية أبحاث
الأول كيف جاز في أم جميل أن لا ترى الرسول وترى أبا بكر والمكان واحد الجواب أما على قول أصحابنا فالسؤال زائل لأن عند حصول الشرائط يكون الإدراك جائزاً لا واجباً فإن خلق الله الإدراك رأى وإلا فلا وأما المعتزلة فذكروا فيه وجوهاً أحدها لعله عليه السلام أعرض وجهه عنها وولاها ظهره ثم إنها كانت لغاية غضبها لم تفتش أو لأن الله ألقى في قلبها خوفاً فصار ذلك صارفاً لها عن النظر وثانيها لعل الله تعالى ألقى شبه إنسان آخر على الرسول كما فعل ذلك بعيسى وثالثها لعل الله تعالى حول شعاع بصرها عن ذلك السمت حتى أنها ما رأته
واعلم أن الإشكال على الوجوه الثلاثة لازم لأن بهذه الوجوه عرفنا أنه يمكن أن يكون الشيء حاضر ولا نراه وإذا جوزنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون عندنا فيلات وبوقات ولا نراها ولا نسمعها(32/158)
البحث الثاني أن أبا بكر حلف أنه ما هجاك وهذا من باب المعاريض لأن القرآن لا يسمى هجواً ولأنه كلام الله لا كلام الرسول فدلت هذه الحكاية على جواز المعاريض
بقي من مباحث هذه الآية سؤالان
السؤال الأول لم لم يكتف بقوله وَامْرَأَتُهُ بل وصفها بأنها حمالة الحطب الجواب قيل كان له امرأتان سواها فأراد الله تعالى أن لا يظن ظان أنه أراد كل من كانت امرأة له بل ليس المراد إلا هذه الواحدة
السؤال الثاني أن ذكر النساء لا يليق بأهل الكرم والمروءة فكيف يليق ذكرها بكلام الله ولا سيما امرأة العم الجواب لما لم يستبعد في امرأة نوح وامرأة لوط بسبب كفر تينك المرأتين فلأن لا يستعبد في امرأة كافرة زوجها رجل كافر أولى
فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ
قوله تعالى فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ قال الواحدي المسد في كلام العرب الفتل يقال مسد الحبل يمسده مسداً إذا أجاد فتله ورجل ممسود إذا كان مجدول الخلق والمسد ما مسد أي فتل من أي شيء كان فيقال لما فتل من جلود الإبل ومن الليف والخوص مسد ولما فتل من الحديد أيضاً مسد إذا عرفت هذا فنقول ذكر المفسرون وجوهاً أحدها في جيدها حبل مما مسد من الحبال لأنها كانت تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون والمقصود بيان خساستها تشبيهاً لها بالحطابات إيذاءه لها ولزوجها وثانيها أن يكون المعنى أن حالها يكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل الحزمة من الشوك فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم وفي جيدها حبل من سلاسل النار
فإن قيل الحبل المتخذ من المسد كيف يبقى أبداً في النار قلنا كما يبقى الجلد واللحم والعظم أبداً في النار ومنهم من قال ذلك المسد يكون من الحديد وظن من ظن أن المسد لا يكون من الحديد خطأ لأن المسد هو المفتول سواء كان من الحديد أو من غيره والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين(32/159)
سورة الإخلاص
أربع آيات مكية
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
قُلْ هُوَ أَحَدٌ قبل الخوض في التفسير لا بد من تقديم فصول
الفصل الأول روى أبي قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة قل هو الله أحد فكأنما قرأ ثلث القرآن وأعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من أشرك بالله وأمن بالله ) وقال عليه الصلاة والسلام ( من قرأ قل هو الله أحد مرة واحدة أعطى من الأجر كمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وأعطى من الأجر مثل مائة شهيد ) وروى ( أنه كان جبريل عليه السلام مع الرسول عليه الصلاة والسلام إذا أقبل أبو ذر الغفاري فقال جبريل هذا أبو ذر قد أقبل فقال عليه الصلاة والسلام أو تعرفونه قال هو أشهر عندنا منه عندكم فقال عليه الصلاة والسلام بماذا نال هذه الفضيلة قال لصغره في نفسه وكثرة قراءته قل هو الله أحد ) وروى أنس قال ( كنا في تبوك فطلعت الشمس مالها شعاع وضياء وما رأيناها على تلك الحالة قط قبل ذلك فعجب كلنا فنزل جبريل وقال إن الله أمر أن ينزل من الملائكة سبعون ألف ملك فيصلوا على معاوية بن معاوية فهل لك أن تصلي عليه ثم ضرب بجناحه الأرض فأزال الجبال وصار الرسول عليه الصلاة والسلام كأنه مشرف عليه فصلى هو وأصحابه عليه ثم قال بم بلغ ما بلغ فقال جبريل كان يحب سورة الإخلاص ) وروى ( أنه دخل المسجد فسمع رجلاً يدعو ويقول أسألك يا ألله يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد فقال غفر لك غفر لك غفر لك ثلاث مرات ) وعن سهل بن سعد ( جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وشكا إليه الفقر فقال إذا دخلت بيتك فسلم إن كان فيه أحد وإن لم يكن فيه أحد فسلم على نفسك واقرأ قل هو الله أحد مرة واحدة ففعل الرجل فأدر الله عليه رزقاً حتى أفاض على جيرانه ) وعن أنس ( أن رجلاً كان يقرأ في جميع صلاته قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(32/160)
فسأله الرسول عن ذلك فقال يا رسول الله إني أحبها فقال حبك إياها يدخلك الجنة ) وقيل من قرأها في المنام أعطي التوحيد وقلة العيال وكثرة الذكر لله وكان مستجاب الدعوة
الفصل الثاني في سبب نزولها وفيه وجوه الأول أنها نزلت بسبب سؤال المشركين قال الضحاك إن المشركين أرسلوا عامر بن الطفيل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا شققت عصانا وسببت آلهتنا وخالفت دين آبائك فإن كنت فقيراً أغنيناك وإن كنت مجنوناً داويناك وإن هويت امرأة زوجناكها فقال عليه الصلاة والسلام لست بفقير ولا مجنون ولا هويت امرأة أنا رسول الله أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته فأرسلوه ثانية وقالوا قل له بين لنا جنس معبودك أمن ذهب أو فضة فأنزل الله هذه السورة فقالوا له ثلثمائة وستون صنماً لا تقوم بحوائجنا فكيف يقوم الواحد بحوائج الخلق فنزلت وَالصَّافَّاتِ إلى قوله إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ فأرسلوه أخرى وقالوا بين لنا أفعاله فنزل إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ الثاني أنها نزلت بسبب سؤال اليهود روى عكرمة عن ابن عباس أن اليهود جاؤا إلى رسول الله ومعهم كعب بن الأشرف فقالوا يا محمد هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله فغضب نبي الله عليه السلام فنزل جبريل فسكنه وقال اخفض جناحك يا محمد فنزل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فلما تلاه عليهم قالوا صف لنا ربك كيف عضده وكيف ذراعه فغضب أشد من غضبه الأول فأتاه جبريل بقوله وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الثالث أنها نزلت بسبب سؤال النصارى روى عطاء عن ابن عباس قال قدم وفد نجران فقالوا صف لنا ربك أمن زبرجد أو ياقوت أو ذهب أو فضة فقال إن ربي ليس من شيء لأنه خالق الأشياء فنزلت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ قالوا هو واحد وأنت واحد فقال ليس كمثله شيء قالوا زدنا من الصفة فقال اللَّهُ الصَّمَدُ فقالوا وما الصمد فقال الذي يصمد إليه الخلق في الحوائج فقالوا زدنا فنزل لَمْ يَلِدْ كما ولدت مريم وَلَمْ يُولَدْ كما ولد عيسى وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ يريد نظيراً من خلقه
الفصل الثالث في أساميها اعلم أن كثرة الألقاب تدل على مزيد الفضيلة والعرف يشهد لما ذكرناه فأحدها سورة التفريد وثانيها سورة التجريد وثالثها سورة التوحيد ورابعها سورة الإخلاص لأنه لم يذكر في هذه السورة سوى صفاته السلبية التي هي صفات الجلال ولأن من اعتقده كان مخلصاً في دين الله ولأن من مات عليه كان خلاصه من النار ولأن ما قبله خلص في ذم أبي لهب فكان جزاء من قرأه أن لا يجمع بينه وبين أبي لهب وخامسها سورة النجاة لأنها تنجيك عن التشبيه والكفر في الدنيا وعن النار في الآخرة وسادسها سورة الولاية لأن من قرأها صار من أولياء الله ولأن من عرف الله على هذا الوجه فقد والاه فبعد محنة رحمة كما بعد منحة نعمة وسابعها سورة النسبة لما روينا أنه ورد جواباً لسؤال من قال أنسب لنا ربك ولأنه عليه السلام قال لرجل من بني سليم ( يا أخا بني سليم استوص بنسبة الله خيراً ) وهو من لطيف المباني لأنهم لما قالوا أنسب لنا ربك فقال نسبة الله هذا والمحافظة على الأنساب من شأن العرب وكانوا يتشددون على من يزيد في بعض الأنساب أو ينقص فنسبة الله في هذه السورة أولى بالمحافظة عليها وثامنها سورة المعرفة لأن معرفة الله لا تتم إلا بمعرفة هذه السورة روى جابر أن رجلاً صلى فقرأ قل هو الله أحد فقال النبي عليه الصلاة والسلام إن هذا عبد عرف ربه فسميت سورة المعرفة لذلك وتاسعها سورة الجمال قال عليه الصلاة والسلام ( إن الله جميل يحب الجمال ) فسألوه عن ذلك(32/161)
فقال أحد صمد لم يلد ولم يولد لأنه إذا لم يكن واحداً عديم النظير جاز أن ينوب ذلك المثل منابه وعاشرها سورة المقشقشة يقال تقشيش المريض مما به فمن عرف هذا حصل له البرء من الشرك والنفاق لأن النفاق مرض كما قال فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ الحادي عشر المعوذة روى أنه عليه السلام دخل على عثمان بن مظعون فعوذه بها وباللتين بعدها ثم قال ( نعوذ بهن فما تعوذت بخير منها ) والثاني عشر سورة الصمد لأنها مختصة بذكره تعالى والثالث عشر سورة الأساس قال عليه الصلاة والسلام ( أسست السموات السبع والأرضون السبع على قل هو الله أحد ) ومما يدل عليه أن القول بالثلاثة سبب لخراب السموات والأرض بدليل قوله تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الاْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ فوجب أن يكون التوحيد سبباً لعمارة هذه الأشياء وقيل السبب فيه معنى قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا الرابع عشر سورة المانعة روى ابن عباس أنه تعالى قال لنبيه حين عرج به أعطيتك سورة الإخلاص وهي من ذخائر كنوز عرشي وهي المانعة تمنع عذاب القبر ولفحات النيران الخامس عشر سورة المحضر لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت السادس عشر المنفرة لأن الشيطان ينفر عند قراءتها السابع عشر البراءة لأنه روى أنه عليه السلام رأى رجل يقرأ هذه السورة فقال أما هذا فقد برىء من الشرك وقال عليه السلام من قرأ سورة قل هو الله أحد مائة مرة في صلاة أو في غيرها كتبت له براءة من النار الثامن عشر سورة المذكرة لأنها تذكر العبد خالص التوحيد فقراءة السورة كالوسمة تذكرك ما تتغافل عنه مما أنت محتاج إليه التاسع عشر سورة النور قال الله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فهو المنور للسموات والأرض والسورة تنور قلبك وقال عليه السلام ( إن لكل شيء نور ونور القرآن قل هو الله أحد ) ونظيره أن نور الإنسان في أصغر أعضائه وهو الحدقة فصارت السورة للقرآن كالحدقة للإنسان العشرون سورة الأمان قال عليه السلام ( إذا قال العبد لا إله إلا الله دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي )
الفصل الرابع في فضائل هذه السورة وهي من وجوه الأول اشتهر في الأحاديث أن قراءة هذه السورة تعدل قراءة ثلث القرآن ولعل الغرض منه أن المقصود الأشرف من جميع الشرائع والعبادات معرفة ذات الله ومعرفة صفاته ومعرفة أفعاله وهذه السورة مشتملة على معرفة الذات فكانت هذه السورة معادلة لثلث القرآن وأما سورة قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فهي معادلة لربع القرآن لأن المقصود من القرآن إما الفعل وإما الترك وكل واحد منهما فهو إما في أفعال القلوب وإما في أفعال الجوارح فالأقسام أربعة وسورة قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لبيان ما ينبغي تركه من أفعال القلوب فكانت في الحقيقة مشتملة على ربع القرآن ومن هذا السبب اشتركت السورتان أعني قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ في بعض الأسامي فهما المقشقشتان والمبرئتان من حيث إن كل واحدة منهما تقيد براءة القلب عما سوى الله تعالى إلا أن قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ يفيد بلفظه البراءة عما سوى الله وملازمة الاشتغال بالله و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يفيد بلفظه الاشتغال بالله وملازمة الإعراض عن غير الله أو من حيث إن قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ تفيد براءة القلب عن سائر المعبودين سوى الله و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تفيد براءة المعبود عن(32/162)
كل مالا يليق به الوجه الثاني وهو أن ليلة القدر لكونها صدقاً للقرآن كانت خيراً من ألف شهر فالقرآن كله صدف والدر هو قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فلا جرم حصلت لها هذه الفضيلة الوجه الثالث وهو أن الدليل العقلي دل على أن أعظم درجات العبد أن يكون قلبه مستنيراً بنور جلال الله وكبريائه وذلك لا يحصل إلا من هذه السورة فكانت هذه السورة أعظم السور فإن قيل فصفات الله أيضاً مذكورة في سائر السور قلنا لكن هذه السورة لها خاصية وهي أنها لصغرها في الصورة تبقى محفوظة في القلوب معلومة للعقول فيكون ذكر جلال الله حاضراً أبداً بهذا السبب فلا جرم امتازت عن سائر السور بهذه الفضائل وليرجع الآن إلى التفسير
قوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن معرفة الله تعالى جنة حاضرة إذا لجنة أن تنال ما يوافق عقلك وشهوتك ولذلك لم تكن الجنة جنة لآدم لما نازع عقله هواه ولا كان القبر سجناً على المؤمن لأنه حصل له هناك ما يلائم عقله وهواه ثم إن معرفة الله تعالى مما يريدها الهوى والعقل فصارت جنة مطلقة وبيان ما قلنا أن العقل يريد أميناً تودع عنده الحسنات والشهوة تريد غنياً يطلب منه المستلذات بل العقل كالإنسان الذي له همة عالية فلا ينقاد إلا لمولاه والهوى كالمنتجع الذي إذا سمع حضور غني فإنه ينشط للانتجاع إليه بل العقل يطلب معرفة المولى ليشكر له النعم الماضية والهوى يطلبها ليطمع منه في النعم المتربصة فلما عرفاه كما أراده عالماً وغنياً تعلقا بذيله فقال العقل لا أشكر أحداً سواك وقالت الشهوة لا أسأل أحداً إلا إياك ثم جاءت الشبهة فقالت يا عقل كيف أفردته بالشكر ولعل له مثلاً ويا شهوة كيف اقتصرت عليه ولعل ههنا باباً آخر فبقي العقل متحيراً وتنغصت عليه تلك الراحة فأراد أن يسافر في عالم الاستدلال ليفوز بجوهرة اليقين فكأن الحق سبحانه قال كيف أنغص على عبدي لذة الاشتغال بخدمتي وشكري فبعث الله رسوله وقال لا تقله من عند نفسك بل قل هو الذي عرفته صادقاً يقول لي قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فعرفك الوحدانية بالسمع وكفاك مؤنة النظر والاستدلال بالعقل وتحقيقه أن المطالب على ثلاثة أقسام قسم منها لا يمكن الوصول إليه بالسمع وهو كل ما تتوقف صحة السمع على صحته كالعلم بذات الله تعالى وعلمه وقدرته وصحة المعجزات وقسم منها لا يمكن الوصول إليه إلا بالسمع وهو وقوع كل ما علم بالعقل والسمع معاً وهو كالعلم بأنه واحد وبأنه مرئي إلى غيرهما وقد استقصينا في تقرير دلائل الوحدانية في تفسير قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا
المسألة الثانية اعلم أنهم أجمعوا على أنه لا بد في سورة قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ من قل وأجمعوا على أنه لا يجوز لفظ قل في سورة تُبْتُ وأما في هذه السورة فقد اختلفوا فالقراءة المشهورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقرأ أبي وابن مسعود بغير قل هكذا هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقرأ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بدون قل هو هكذا اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ فمن أثبت قل قال السبب فيه بيان أن النظم ليس في مقدوره بل يحكي كل ما يقال له ومن حذفه قال لئلا يتوهم أن ذلك ما كان معلوماً للنبي عليه الصلاة والسلام
المسألة الثالثة اعلم أن في إعراب هذه الآية وجوهاً أحدها أن هو كناية عن اسم الله فيكون قوله الله مرتفعاً بأنه خبر مبتدأ ويجوز في قوله أَحَدٌ ما يجوز في قولك زيد أخوك قائم الثاني أن(32/163)
هو كناية عن الشأن وعلى هذا التقرير يكون الله مرتفعاً بالابتداء وأحد خبره والجملة تكون خبراً عن هو والتقدير الشأن والحديث هو أن الله أحد ونظيره قوله فَإِذَا هِى َ شَاخِصَة ٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إلا أن هي جاءت على التأنيث لأن في التفسير اسماً مؤنثاً وعلى هذا جاء فَإِنَّهَا لاَ لاِوْلِى الاْبْصَارِ أما إذا لم يكن في التفسير مؤنث لم يؤنث ضمير القصة كقوله إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً والثالث قال الزجاج تقدير هذه الآية أن هذا الذي سألتم عنه هو الله أحد
المسألة الرابعة في أحد وجهان أحدهما أنه بمعنى واحد قال الخليل يجوز أن يقال أحد إثنان وأصل أحد وحد إلا أنه قلبت الواو همزة للخفيف وأكثر ما يفعلون هذا بالواو المضمومة والمكسورة كقولهم وجوه وأجوه وسادة وأسادة والقول الثاني أن الواحد والأحد ليسا اسمين مترادفين قال الإهري لا يوصف شيء بالأحدية غير الله تعالى لا يقال رجل أحد ولا درهم أحدكما يقال رجل واحد أي فرد به بل أحد صفة من صفات الله تعالى استأثر بها فلا يشركه فيها شيء ثم ذكروا في الفرق بين الواحد والأحد وجوهاً أحدها أن الواحد يدخل في الأحد والأحد لا يدخل فيه وثانيها أنك إذا قلت فلان لا يقاومه واحد جاز أن يقال لكنه يقاومه إثنان بخلاف الأحد فإنك لو قلت فلان لا يقاومع أحد لا يجوز أن يقال لكنه يقاومه إثنان وثالثها أن الواحد يستعمل في الإثبات والأحد في النفي تقول في الإثبات رأيت رجلاً واحداً وتقول في النفي ما رأيت أحداً فيفيد العموم
المسألة الخامسة اختلف القراء في قوله أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ فقراءة العامة بالتنوين وتحريكه بالكسر هكذا أحدن الله وهو القياس الذي لا إشكال فيه وذلك لأن التنوين من أحد ساكن ولام المعرفة من الله ساكنة ولما التقى ساكنان حرك الأول منهما بالكسر وعن أبي عمرو أحد الله بغير تنوين وذلك أن النون شابهت حروف اللين في أنها تزاد كما يزدن فلما شابهتها أجريت مجراها في أن حذفت ساكنة لالتقاء الساكنين كما حذفت الألف والواو والياء لذلك نحو غزا القوم ويغزو القوم ويرمي القوم ولهذا حذفت النون الساكنة في الفعل نحو لَمْ يَكُ وَلاَ تَكُ فِى مِرْيَة ٍ فكذا ههنا حذفت في أحد الله لالتقاء الساكنين كما حذفت هذه الحروف
وقد ذكرنا هذا مستقصى عند قوله عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وروى أيضاً عن أبي عمرو أَحَدٌ اللَّهِ وقال أدركت القراء يقرؤونها كذلك وصلا على السكون قال أبو علي قد تجري الفواصل في الإدراج مجراها في الوقف وعلى هذا قال من قال فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ رَبَّنَا وَمَا أَدْرَاكَ صَبِيّاً قَالَ إِنّى عَبْدُ اللَّهِ لما كان أكثر القراء فيما حكاه أبو عمرو على الوقف أجراه في الوصل مجراه في الوقف لاستمرار الوقف عليه وكثرته في ألسنتهم وقرأ الأعمش قُلْ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ فإن قيل لماذا قيل أحد على النكرة قال الماوردي فيه وجهان أحدهما حذف لام التعريف على نية إضمارها والتقدير قل هو الله الأحد والثاني أن المراد هو التنكير على سبيل التعظيم
المسألة السادس اعلم أن قوله هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ألفاظ ثلاثة وكل واحد منها إشارة إلى مقام من مقامات الطالبين فالمقام الأول مقام المقربين وهو أعلى مقامات السائرين إلى الله وهؤلاء هم الذين نظروا إلى ماهيات الأشياء وحقائقها من حيث هي هي فلا جرم ما رأوا موجوداً سوى الله لأن الحق هو الذي لذاته(32/164)
يجب وجوده وأما ما عداه فممكن لذاته والممكن لذاته إذا نظر إليه من حيث هو هو كان معدوماً فهؤلاء لم يروا موجوداً سوى الحق سبحانه وقوله هُوَ إشارة مطلقة والإشارة وإن كانت مطلقة إلا أن المشار إليه لما كان معيناً انصرف ذلك المطلق إلى ذلك المعين فلا جرم كان قولنا هو إشارة من هؤلاء المقربين إلى الحق سبحانه فلم يفتقروا في تلك الإشارة إلى مميز لأن الافتقار إلى المميز إنما يحصل حين حصل هناك موجودان وقد بينا أن هؤلاء ما شاهدوا بعيون عقولهم إلا الواحد فقط فلهذا السبب كانت لفظة هُوَ كافية في حصول العرفان التام لهؤلاء المقام الثاني وهو مقام أصحاب اليمين وهو دون المقام الأول وذلك لأن هؤلاء شاهدوا الحق موجوداً وشاهدوا الخلق أيضاً موجوداً فحصلت كثرة في الموجودات فلا جرم لم يكن هو كافياً في الإشارة إلى الحق بل لا بد هناك من مميز به يتميز الحق عن الخلق فهؤلاء احتاجوا إلى أن يقرنوا لفظة هو فقيل لأجلهم هو الله لأن الله هو الموجود الذي يفتقر إليه ما عداه ويستغني هو عن كل ما عداه والمقام الثالث وهو مقام أصحاب الشمال وهو أخس المقامات وأدونها وهم الذين يجوزون أن يكون واجب الوجود أكثر من واحد وأن يكون الإله أكثر من واحد فقرن لفظ الأحد بما تقدم رداً على هؤلاء وإبطال لمقالاتهم فقيل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
وههنا بحث آخر أشرف وأعلى مما ذكرناه وهو أن صفات الله تعالى إما أن تكون إضافية وإما أن تكون سلبية أما الإضافية فكقولنا عالم قادر مربد خلاق وأما السلبية فكقولنا ليس بجسم ولا بجوهر ولا بعرض والمخلوقات تدل أولا على النوع الأول من الصفات وثانياً على النوع الثاني منها وقولنا الله يدل على مجامع الصفات الإضافية وقولنا أحد يدل على مجامع الصفات السلبية فكان قولنا اللَّهُ أَحَدٌ تاماً في إفادة العرفان الذي يليق بالعقول البشرية وإنما قلنا إن لفظ الله يدل على مجامع الصفات الإضافية وذلك لأن الله هو الذي يستحق العبادة واستحقاق العبادة ليس إلا لمن يكون مستبداً بالإيجاد والإبداع والاستبداد بالإيجاد لا يحصل إلا لمن كان موصوفاً بالقدرة التامة والإرادة النافذة والعلم المتعلق بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات وهذه مجامع الصفات الإضافة وأما مجامع الصفات السلبية فهي الأحدية وذلك لأن المراد من الأحدية كون تلك الحقيقة في نفسها مفردة منزهة عن أنحاء التركيب وذلك لأن كل ماهية مركبة فه مفتقرة إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته فكل مركب فهو ممكن لذاته فالإله الذي هو مبدأ لجميع الكائنات ممتنع أن يكون ممكناً فهو في نفسه فرد أحد وإذا ثبتت الأحدية وجب أن لا يكون متحيزاً لأن كل متحيز فإن يمينه مغاير ليساره وكل ما كان كذلك فهو منقسم فالأحد يستحيل أن يكون متحيزاً وإذا لم يكن متحيزاً لم يكن في شيء من الأحياز والجهاد ويجب أن لا يكون حالاً في شيء لأنه مع محله لا يكون أحداً ولا يكون محلاً لشيء لأنه مع حاله لا يكون أحداً وإذا لم يكن حالاف ولا محلاً لم يكن متغيراً البتة لأن التغير لا بد وأن يكون من صفة إلى صفة وأيضاً إذا كان أحداً وجب أن يكون واحداً إذ لو فرض موجودان واجباً الوجود لاشتركا في الوجوب ولتمايزا في التعين وما به المشاركة غير ما به الممايزة فكل واحد منهما مركب فثبت أن كونه أحداً يستلزم كونه واحداً فإن قيل كيف يعقل كون الشيء أحداً فإن كل حقيقة توصف بالأحدية فهناك تلك الحقيقة من تلك الأحدية ومجموعهما فذاك ثالث ثلاث لا أحد الجواب أن الأحدية لازمة لتلك الحقيقة فالمحكوم عليه بالأحدية هو تلك الحقيقة لا المجموع الحاصل منها ومن تلك الأحدية فقد لاح بما(32/165)
ذكرنا أن قوله اللَّهُ أَحَدٌ كلام متضمن لجميع صفات الله تعالى من الإضافيات والسلوب وتمام الكلام في هذا الباب مذكور في تفسير قوله وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ
اللَّهُ الصَّمَدُ
قوله تعالى اللَّهُ الصَّمَدُ فيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في تفسير الصَّمَدُ وجهين الأول أنه فعل بمعنى مفعول من صمد إليه إذا قصده وهو السيد المصمود إليه في الحوائج قال الشاعر ألا بكر الناعي بخير بني أسد
بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وقال أيضاً علوته بحسامي ثم قلت له
خذها حذيف فأنت السيد الصمد
والدليل على صحة هذا التفسير ما روى ابن عباس ( أنه لما نزلت هذه الآية قالوا ما الصمد قال عليه السلام هو السيد الذي يصمد إليه في الحوائج ) وقال الليث صمدت صمد هذا الأمر أي قصدت قصده والقول الثاني أن الصمد هو الذي لا جوف له ومنه يقال لسداد القارورة الصماد وشيء مصمد أي صلب ليس فيه رخاوة وقال قتادة وعلى هذا التفسير الدال فيه مبدلة من التاء وهو المصمت وقال بعض المتأخرين من أهل اللغة الصمد هو الأملس من الحجر الذي لا يقبل الغبار ولا يدخله شيء ولا يخرج منه شيء واعلم أنه قد استدل قوم من جهال المشبهة بهذه الآية في أنه تعالى جسم وهذا باطل لأنا بينا أن كونه أحداً ينافي جسماً فمقدمة هذا الآية دالة على أنه لا يمكن أن يكون المراد من الصمد هذا المعنى ولأن الصمد بهذا التفسير صفة الأجسام المتضاغطة وتعالى الله عن ذلك فإذن يجب أن يحمل ذلك على مجازه وذلك لأن الجسم الذي يكون كذلك يكون عديم الانفعال والتأثر عن الغير وذلك إشارة إلى كونه سبحانه واجباً لذاته ممتنع التغير في وجوده وبقائه وجميع صفاته فهذا ما يتعلق بالبحث اللغوي في هذه الآية
وأما المفسرون فقد نقل عنهم وجوه بعضها يليق بالوجه الأول وهو كونه تعالى سيداً مرجوعاً إليه في دفع الحاجات وهو إشارة إلى الصفات الإضافية وبعضها بالوجه الثاني وهو كونه تعالى واجب الوجود في ذاته وفي صفاته ممتنع التغير فيهما وهو إشارة إلى الصفات السلبية وتارة يفسرون الصمد بما يكون جامعاً للوجهين
أما النوع الأول فذكروا فيه وجوهاً الأول الصمد هو العالم بجميع المعلومات لأن كونه سيداً مرجوعاً إليه في قضاء الحاجات لا يتم إلا بذلك الثاني الصمد هو الحليم لأن كونه سيداً يقتضي الحلم والكرم الثالث وهو قول ابن مسعود والضحاك الصمد هو السيد الذي قد انتهى سؤدده الرابع قال الأصم الصمد هو الخالق للأشياء وذلك لأن كونه سيداً يقتضي ذلك الخامس قال السدي الصمد هو المقصود في الرغائب المستغاث به عند المصائب السادس قال الحسين بن الفضل البجلي الصمد هو الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه السابع أنه السيد المعظم الثامن أنه(32/166)
الفرد الماجد لا يقضي في أمر دونه
وأما النوع الثاني وهو الإشارة إلى الصفات السلبية فذكروا فيه وجوهاً الأول الصمد هو الغني على ما قال وَهُوَ الْغَنِى ُّ الْحَمِيدُ الثاني الصمد الذي ليس فوقه أحد لقوله وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ولا يخاف من فوقه ولا يرجو من دونه ترفع الحوائج إليه الثالث قال قتادة لا يأكل ولا يشرب وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ الرابع قال قتادة الباقي بعد فناء خلقه كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ الخامس قال الحسن البصري الذي لم يزل ولا يزال ولا يجوز عليه الزوال كان ولا مكان ولا أين ولا أواه ولا عرش ولا كرسي ولا جني ولا إنسي وهو الآن كما كان السادس قال يمان وأبو مالك الذي لا ينام ولا يسهو الثامن قال ابن كيسان هو الذي لا يوصف بصفة أحد التاسع قال مقاتل بن حبان هو الذي لا عيب فيه العاشر قال الربيع بن أنس هو الذي لا تغتريه الآفات الحادي عشر قال سعيد بن جبير إنه الكامل في جميع صفاته وفي جميع أفعاله الثاني عشر قال جعفر الصادق إنه الذي يغلب ولا يغلب الثالث عشر قال أبو هريرة إنه المستغنى عن كل أحد الرابع عشر قال أبو بكر الوراق إنه الذي أيس الخلائق من الاطلاع على كيفيته الخامس عشر هو الذي لا تدركه الأبصار السادس عشر قال أبو العالية ومحمد القرظي هو الذي لم يلد ولم يولد لأنه ليس شيء إلا سيورث ولا شيء يولد إلا وسيموت السابع عشر قال ابن عباس إنه الكبير الذي ليس فوقه أحد الثامن عشر أنه المنزه عن قبول النقصانات والزيادات وعن أن يكون مورداً للتغيرات والتبدلات وعن إحاطة الأزمنة والأمكنة والآنات والجهات
وأما الوجه الثالث وهو أن يحمل لفظ الصمد على الكل وهو محتمل لأنه بحسب دلالته على الوجوب الذاتي يدل على جميع السلوب وبحسب دلالته على كونه مبدأ للكل يدل على جميع النعوت الإلهية
المسألة الثانية قوله اللَّهُ الصَّمَدُ يقتضي أن لا يكون في الوجود صمد سوى الله وإذا كان الصمد مفسراً بالمصمود إليه في الحوائج أو بما لا يقبل التغير في ذاته لذم أن لا يكون في الوجود موجود عكذا سوى الله تعالى فهذه الآية تدل على أنه لا إله سوى الواحد فقوله اللَّهُ أَحَدٌ إشارة إلى كونه واحداً بمعنى أنه ليس في ذاته تركيب ولا تأليف بوجه من الوجوه وقوله اللَّهُ الصَّمَدُ إشارة إلى كونه واحداً بمعنى نفي الشركاء والأنداد والأضداد وبقي في الآية سؤالان
السؤال الأول لم جاء أحد منكراً وجاء الصمد معرفاً الجواب الغالب على أكثر أوهام الخلق أن كل موجود محسوس وثبت أن كل محسوس فهو منقسم فإذا مالا يكون منقسماً لا يكون خاطراً بيان أكثر الخلق وأما الصمد فهو الذي يكون مصموداً إليه في الحوائج وهذا كان معلوماً للعرب بل لأكثر الخلق على ما قال وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وإذا كانت الأحدية مجهولة مستنكرة عند أكثر الخلق وكانت الصمدية معلومة الثبوت عند جمهور الخلق لا جرم جاء لفظ أحد على سبيل التنكير ولفظ الصمد على سبيل التعريف(32/167)
السؤال الثاني ما الفائدة في تكرير لفظة الله في قوله اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ الجواب لو لم تكرر هذه اللفظة لوجب في لفظ أحد وصمد أن يردا إما نكرتين أو معرفتين وقد بينا أن ذلك غير جائز فلا جرم كررت هذه اللفظة حتى يذكر لفظ أحد منكراً ولفظ الصمد معرفاً
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ
قوله تعالى لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ فيه سؤالات
السؤال الأول لم قدم قوله لَمْ يَلِدْ على قوله وَلَمْ يُولَدْ مع أن في الشاهد يكون أولاً مولوداً ثم يكون والداً الجواب إنما وقعت البداءة بأنه لم يلد لأنهم ادعوا أن له ولداً وذلك لأن مشركي العرب قالوا الْمَلَائِكَة َ بَنَاتٍ اللَّهِ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ولم يدع أحد أن له والداً فلهذا السبب بدأ بالأهم فقال لَمْ يَلِدْ ثم أشار إلى الحجة فقال وَلَمْ يُولَدْ كأنه قيل الدليل على امتناع الولدية اتفاقنا على أنه ما كان ولداً لغيره
السؤال الثاني لماذا اقتصر على ذكر الماضي فقال لَمْ يَلِدْ ولم يقل لن يلد الجواب إنما اقتصر على ذلك لأنه ورد جواباً عن قولهم ولد الله والدليل عليه قوله تعالى أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ فلما كان المقصود من هذه الآية تكذيب قولهم وهم إنما قالوا ذلك في الماضي لا جرم وردت الآية على وفق قوله
السؤال الثالث لم قال ههنا لَمْ يَلِدْ وقال في سورة بني إسرائيل وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الجواب أن الولد يكون على وجهين أحدهما أن يتولد منه مثله وهذا هو الولد الحقيقي والثاني أن لا يكون متولداً منه ولكنه يتخذه ولداً ويسميه هذا الاسم وإن لم يكن ولداً له في الحقيقة والنصارى فريقان منهم من قال عيسى ولد الله حقيقة ومنهم من قال إن الله اتخذه ولداً تشريفاً له كما اتخذ إبراهيم خليلاً تشريفاً له فقوله لَمْ يَلِدْ فيه إشارة إلى نفي الوالد في الحقيقة وقوله لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا إشارة إلى نفي القسم الثاني ولهذا قال لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ لأن ازنسان قد يتخذ ولداً ليكون ناصراً ومعيناً له على الأمر المطلوب ولذلك قال في سورة أخرى وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِى ُّ وإشارة إلى ما ذكرنا أن اتخاذ الولد إنما يكون عند الحاجة
السؤال الرابع نفي كونه تعالى والداً ومولوداً هل يمكن أن يعلم بالسمع أم لا وإن كان لا يمكن ذلك فما الفائدة في ذكره ههنا الجواب نفي كونه تعالى والداً مستفاد من العلم بأنه تعالى ليس بجسم ولا متبعض ولا منقسم ونفي كونه تعالى مولوداً مستفاد من العلم بأنه تعالى قديم والعلم بكل واحد من هذين الأصلين متقدم على العلم بالنبوة والقرآن فلا يمكن أن يكونا مستفادين من الدلائل السمعية بقي أن يقال فلما لم يكن استفادتهما من السمع فما الفائدة في ذكرهما في هذه السورة قلنا قد بينا أن المراد من كونه أحداً كونه سبحانه في ذاته وماهيته منزهاً عن جميع أنحاء التراكيب وكونه تعالى صمداً معناه كونه واجباً لذاته ممتنع التغير في ذاته وجميع صفاته وإذا كان كذلك فالأحدية والصمدية يوجبان نفي الولدية(32/168)
والمولودية فلما ذكر السبب الموجب لانتفاء الوالدية والمولودية لا جرم ذكر هذين الحكمين فالمقصود من ذكرهما تنبيه الله تعالى على الدلالة العقلية القاطعة على انتفائهما
السؤال الخامس هل في قوله تعالى لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ فائدة أزيد من نفي الولدية ونفي المولودية قلنا فيه فوائد كثيرة وذلك لأن قوله اللَّهُ أَحَدٌ إشارة إلى كونه تعالى في ذاته وماهيته منزهاً عن التركيب وقوله اللَّهُ الصَّمَدُ إشارة إلى نفي الأضداد والأنداد والشركاء والأمثال وهذان المقامان الشريفان مما حصل الاتفاق فيهما بين أرباب الملل والأديان وبين الفلاسفة إلا أن من بعد هذا الموضع حصل الاختلاف بين أرباب الملل وبين الفلاسفة فإن الفلاسفة قالوا إنه يتولد عن واجب الوجود عقل وعن العقل عقل آخر ونفس وفلك وهكذا على هذا الترتيب حتى ينتهي إلى العقل الذي هو مدبر ما تحت كرة القمر فعلى هذا القول يكون واجب الوجود قد ولد العقل الأول الذي هو تحته ويكون العقل الذي هو مدبر لعالمنا هذا كالمولود من العقول التي فوقه فالحق سبحانه وتعالى نفي الوالدية أولاً كأنه قيل إنه لم يلد العقول والنفوس ثم قال والشيء الذي هو مدبر أجسادكم وأرواحكم وعالمكم هذا ليس مولوداً من شيء آخر فلا والد ولا مولود ولا مؤثر إلا الواحد الذي هو الحق سبحانه
وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ
قوله سبحانه وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ فيه سؤالان
السؤال الأول الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم وقد نص سيبويه على ذلك في كتابه فما باله ورد مقدماً في أفصح الكلام والجواب هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات الله واللفظ الدال على هذا المعنى هو هذا الظرف وتقديم الأهم أولى فلهذا السبب كان هذا الظرف مستحقاً للتقديم
السؤال الثاني كيف القراءة في هذه الآية الجواب قرىء كُفُواً بضم الكاف والفاء وبضم الكاف وكسرها مع سكون الفاء والأصل هو الضم ثم يخفف مثل طنب وطنب وعنق وعنق وقال أبو عبيدة يقال كفو وكفء وكفاء كله بمعنى واحد وهو المثل وللمفسرين فيه أقاويل أحدها قال كعب وعطاء لم يكن له مثل ولا عديل ومنه المكافأة في الجزاء لأنه يعطيه ما يساوي ما أعطاه وثانيها قال مجاهد لم يكن صاحبة كأنه سبحانه وتعالى قال لم يكن أحد كفؤاً له فيصاهره رداً على من حكى الله عنه قوله وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّة ِ نَسَباً فتفسير هذه الآية كالتأكيد لقوله تعالى لَمْ يَلِدْ وثالثها وهو التحقيق أنه تعالى بين لما بين أنه هو المصمود إليه في قضاء الحوائج ونفي الوسائط من البين بقوله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ على ما بيناه فحينئذ ختم السورة بأن شيئاً من الموجودات يمتنع أن يكون مساوياً له في شيء من صفات الجلال والعظمة أما الوجود فلا مساواة فيه لأن وجوده من مقتضيات حقيقته فإن حقيقته غير قابلة للعدم من حيث هي هي وأما سائر الحقائق فإنها قابلة للعدم وأما العلم فلا مساواة فيه لأن علمه ليس بضروري ولا باستدلالي ولا مستفاد من الحس ولا من الرؤية ولا يكون في معرض الغلط والزلل وعلوم المحدثات كذلك وأما القدرة فلا مساواة فيها وكذا الرحمة والجود والعدل والفضل والإحسانا واعلم أن(32/169)
هذه السورة أربع آيات وفي ترتيبها أنواع من الفوائد
الفائدة الأولى أن أول السورة يدل على أنه سبحانه واحد والصمد على أنه كريم رحيم لأنه لا يصمد إليه حتى يكون محسناً و لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ على أنه غني على الإطلاق ومنزه عن التغيرات فلا يبخل بشيء أصلاً ولا يكون جوده لأجل جر نفع أو دفع ضر بل بمحض الإحسان وقوله وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ إشارة إلى نفي مالا يجوز عليه من الصفات
الفائدة الثانية نفي الله تعالى عن ذاته أنواع الكثرة بقوله أَحَدٌ ونفي النقص والمغلوبية بلفظ الصمد ونفي المعلولية والعلية بلم يلد ولم يولد ونفي الأضداد والأنداد بقوله وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ
الفائدة الثالثة قوله أَحَدٌ يبطل مذهب الثنوية القائلين بالنور والظلمة والنصارى في التثليث والصابئين في الأفلاك والنجوم والآية الثانية تبطل مذهب من أثبت خالقاً سوى الله لأنه لو وجد خالق آخر لما كان الحق مصموداً إليه في طلب جميع الحاجات والثالثة تبطل مذهب اليهود في عزير والنصارى في المسيح والمشركين في أن الملائكة بنات الله والآية الرابعة تبطل مذهب المشركين حيث جعلوا الأصنام أكفاء له وشركاء
الفائدة الرابعة أن هذه السورة في حق الله مثل سورة الكوثر في حق الرسول لكن الطعن في حق الرسول كان بسبب أنهم قالوا إنه أبتر لا ولد له وههنا الطعن بسبب أنهم أثبتوا لله ولداً وذلك لأن عدم الولد في حق الإنسان عيب ووجود الولد عيب في حق الله تعالى فلهذا السبب قال ههنا قُلْ حتى تكون ذاباً عني وفي سورة إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ أنا أقول ذلك الكلام حتى أكون أنا ذاباً عنك والله سبحانه وتعالى أعلم(32/170)
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل الخوض في التفسير لا بد من تقديم فصلين
الفصل الأول سمعت بعض العارفين فسر هاتين السورتين على وجه عجيب فقال إنه سبحانه لما شرح أمر الإلهية في سورة الإخلاص الإخلاص ذكر هذه السورة عقيبها في شرح مراتب مخلوقات الله فقال أولا قل أعوذ برب الفلق وذلك لأن ظلمات العدم غير متناهية والحق سبحانه هو الذي فلق تلك الظلمات بنور التكوين والإيجاد والإبداع فلهذا قال قل أعوذ برب الفلق ثم قال من شر ما خلق والوجه فيه أن عالم الممكنات على قسمين عالم الأمر وعالم الخلق على ما قال ألا له الخلق والأمر الأعراف 54 وعالم الأمر كله خيرات محضة بريئة عن الشرور والآفات أما عالم الخلق وهو عالم الأجسام والجسمانيات فالشر لا يحصل إلا فيه وإنما سمي عالم الأجسام والجسمانيات بعالم الخلق لأن الخلق هو التقدير والمقدار من لواحق الجسم فلما كان الأمر كذلك لا جرم قال أعوذ بالرب الذي فلق ظلمات بحر العدم بنور الإيجاد والإبداع من الشرور الواقعة في عالم الخلق وهو عالم الأجسام والجسمانيات ثم من الظاهر أن الأجسام إما أثرية أو عنصرية والأجسام الأثرية خيرات لأنها بريئة عن الاختلال والفطور على ما قال ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور الملك 3 وأما العنصريات فهي إما جماد أو نبات أو حيوان أما الجمادات فهي خالية عن جميع القوى النفسانية فالظلمة فيها خالصة والأنوار عنها بالكلية زائلة وهي المراد من قوله ومن شر غاسق إذا وقب وأما النبات فالقوة العادية النباتية هي التي تزيد في الطول والعرض والعمق معا فهذه النباتية كأنها تنفث في العقد الثلاثة وأما الحيوان فالقوى الحيوانية هي الحواس الظاهرة والحواس الباطنية والشهوة والغضب وكلها تمنع الروح الإنسانية عن الانصباب إلى عالم الغيب والاشتغال بقدس جلال الله وهو المراد من قوله ة من شر حاسد إذا حسد ثم إنه لم يبق من السفليات بعد هذه المرتبة سوى النفس الإنسانية وهي المستعيذة فلا تكون مستعاذا منها فلا جرم قطع هذه السورة وذكر بعدها في سورة الناس مراتب درجات النفس الإنسانية في الترقي وذلك لأنها بأصل فطرتها مستعدة لأن تنتقش بمعرفة الله تعالى ومحبته إلا أنها تكون أول الأمر خالية عن هذه المعارف بالكلية ثم إنه من المرتبة الثانية يحصل فيها علوم أولية بديهية يمكن التوصل بها إلى استعلام المجهولات الفكرية ثم في آخر تلك المجهولات الفكرية من القوة إلى الفعل قوله تعالى قل أعوذ برب الناس الناس 1 إشارة إلى المرتبة الأولى من مراتب النفس الإنسانية وهي حال كونها خالية من جميع العلوم البديهية والكسبية وذلك لأن النفس في تلك المرتبة تحتاج إلى مرب يربيها ويزينها بتلك المعارف البديهية ثم في المرتبة الثانية وهي عند حصول هذه العلوم البديهية يحصل لها ملكة من الانتقال منها إلى استعلام العلوم الفكرية وهو المراد من قوله ملك الناس الناس 2 ثم في المرتية الثالثة وهي عند خروج تلك العلوم الفكرية من القول إلى الفعل يحصل الكمال(32/171)
التام للنفس وهو المراد من قوله إله الناس الناس 3 فكأن الحق يسمي نفسه بحسب كل مرتبة من مراتب النفس الإنسانية بما يليق بتلك المرتبة ثم قال من شر الوسواس الخناس الناس 4 والمراد منه القوة الوهمية والسبب في إطلاق اسم الخناس على الوهم أن العقل والوهم قد يتساعدان على تسليم بعض المقدمات ثم إذا آل الأمر إلى النتيجة فالعقل يساعد على النتيجة والوهم يخنس ويرجع ويمتنع عن تسليم النتيجة فلهذا السبب يسمى الوهم بالخناس ثم بين سبحانه أن ضرر هذا الخناس عظيم على العقل وأنه قلما ينفك أحد عنه فكأنه سبحانه بين في هذه السورة مراتب الأرواح البشرية ونبه على عدوها ونبه على ما به يقع الامتياز بين العقل وبين الوهم وهناك آخر درجات مراتب النفس الإنسانية فلا جرم وقع ختم الكتاب الكريم والفرقان العظيم عليه
الفصل الثاني ذكروا في سبب نزول هذه السورة وجوها أحدها روي أن جبريل عليه السلام أتاه وقال إن عفريتا من الجن يكيدك فقال إذا أويت إلى فراشك قل أعوذ برب السورتين وثانيها أن الله تعالى أنزلهما عليه ليكونا رقية من العين وعن سعيد بن المسيب أن قريشا قالوا تعالوا نتجوع فنعين محمدا ففعلوا ثم أتوه وقالوا ما أشد عضدك وأقوى ظهرك وأنظر وجهك فأنزل الله تعالى المعوذتين وثالثها وهو قول جمهور المفسرين أن لبيد بن أعصم اليهودي سحر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في إحدى عشرة عقدة وفي وتر دسه في بئر يقال لها ذروان فمرض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واشتد عليه ذلك ثلاث ليال فنزلت المعوذتان لذلك وأخبره جبريل بموضع السحر فأرسل عليا عليه السلام وطلحة وجاءوا به وقال جبريل للنبي حل عقدة وقرأ آية ففعل وكان كلما قرأ آية انحلت عقدة فكان يجد بعض الخفة والراحة
واعلم أن المعتزلة أنكروا ذلك بأسرهم قال القاضي هذه الرواية باطلة وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول والله يعصمك من الناس المائدة 67 وقال ولا يفلح الساحر حيث أتى طه 69 ولأن تجويزه يفضي غلى القدح في النبوة لأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى الضرر لجميع الأنبياء والصالحين ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم وكل ذلك باطل ولأن الكفار كانوا يعيرونه بأنه مسحور فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوة ولحصل فيه عليه السلام ذلك العيب ومعلوم أن ذلك غير جائز قال الأصحاب هذه القصة قد صحت عند جمهور أهل النقل والوجوه المذكورة قد سبق الكلام عليها في سورة البقرة أما قوله الكفار كانوا يعيبون الرسول عليه السلام بأنه مسحور فلو وقع ذلك لكان الكفار صادقين في ذلك القول فجوابه أن الكفار كانوا يريدون بكونه مسحورا أنه مجنون أزيل عقله بواسطة السحر فلذلك ترك دينهم فأما أن يكون مسحورا بألم يجده في بدنه فذلك مما لا ينكره أحد وبالجملة فالله تعالى ما كان يسلط عليه لا شيطانا ولا إنسيا ولا جنيا يؤذيه في دينه وشرعه ونبوته فأما في الإضرار ببدنه فلا يبعد وتمام الكلام في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة ولنرجح إلى التفسير(32/172)
سورة الفلق
خمس آيات مدنية
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ
قوله تعالى قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ فيه مسائل
المسألة الأولى في قوله قُلْ فوائد أحدها أنه سبحانه لما أمر بقراءة سورة الإخلاص تنزيهاً له عما لا يليق به في ذاته وصفاته وكان ذلك من أعظم الطاعات فكأن العبد قال إلهنا هذه الطاعة عظيمة جداً لا أثق بنفسي في الوفاء بها فأجاب بأن قال قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ أي استعذ بالله والتجيء إليه حتى يوفقك لهذه الطاعة على أكمل الوجوه وثانيها أن الكفار لما سألوا الرسول عن نسب الله وصفته فكأن الرسول عليه السلام قال كيف أنجو من هؤلاء الجهال الذين تجاسروا وقالوا فيك مالا يليق بك فقال الله قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ أي استعذ بي حتى أصونك عن شرهم وثالثها كأنه تعالى يقول من التجأ إلى بيتي شرقته وجعلته آمناً فقلت ومن دخله كان آمناً فالتجىء أنت أيضاً إلي حتى أجعلك آمناً فَقُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ
المسألة الثانية اختلفوا في أنه هل يجوز الاستعانة بالرقي والعوذ أم لا منهم قال إنه يجوز واحتجوا بوجوه أحدها ما روى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) اشتكى فرقاه جبريل عليه السلام فقال بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك والله يشفيك وثانيها قال ابن عباس كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعلمنا من الأوجاع كلها والحمى هذا الدعاء ( بسم الله الكريم أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار ومن شر حر النار ) وثالثها قال عليه السلام من دخل على مريض لم يحضره أجله فقال أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات شفى ورابعها عن علي عليه السلام قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا دخل على مريض قال ( أذهب(32/173)
البأس رب الناس اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت ) وخامسها عن ابن عباس قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعوذ الحسن والحسين يقول ( أعيذكما بكلمات الله التامة من شيطان وهامة ومن كل عين لامة ) ويقول هكذا كان أبي إبراهيم يعوذ ابنيه إسماعيل وإسحاق وسادسها قال عثمان بن أبي العاص الثقفي قدمت على رسول الله وبي وجع قد كاد يبطلني فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اجعل يدك اليمنى عليه وقل بسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد ) سبع مرات ففعلت ذلك فشفاني الله وسابعها روى أنه عليه السلام كان إذا سافر فنزل منزلاً يقول ( يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما يخرج منك وشر ما يدب عليك وأعوذ بالله من أسد وأسود وحية وعقرب ومن شر ساكني البلد ووالد وما ولد ) وثامنها قالت عائشة كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا اشتكى شيئاً من جسده قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والمعوذتين في كفه اليمنى ومسح بها المكان الذي يشتكي ومن الناس من منع من الرقي لما روى عن جابر قال نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الرقي وقال عليه السلام ( إن لله عباداً لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون ) وقال عليه السلام ( لم يتوكل على الله من اكتوى واسترقى ) وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون النهي عن الرقي المجهولة التي لا تعرف حقائقها فأما ما كان له أصل موثوق فلا نهي عنه واختلفوا في التعليق فروى أنه عليه السلام قال ( من علق شيئاً وكل إليه ) وعن ابن مسعود إنه رأى على أم ولده تميمة مربوطة بعضدها فجذبها جذباً منيعاً فقطعها ومنهم من جوزه سئل الباقر عليه السلام عن التعويذ يعلق على الصبيان فرخص فيه واختلفوا في النفث أيضاً فروى عن عائشة أنها قالت كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ينفث على نفسه إذا اشتكى بالمعوذات ويمسح بيده فلما اشتكى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وجعه الذي توفي فيه طفقت أنقث عليه بالمعوذات التي كان ينفث بها على نفسه وعنه عليه السلام ( أنه كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه وقرأ فيهما بالمعوذات ثم مسح بهما جسده ) ومنهم من أنكر النفث قال عكرمة لا ينبغي للرقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد وعن إبراهيم قال كانوا يكرهون النفث في الرقي وقال بعضهم دخلت على الضحاك وهو وجيع فقلت ألا أعوذك يا أبا محمد قال بلى ولكن لا تنفث فعوذته بالمعوذتين قال الحليمي الذي روى عن عكرمة أنه ينبغي للراقي أن لا ينفث ولا يمسح ولا يعقد فكأنه ذهب فيه إلى أن الله تعالى جعل النفث في العقد مما يستعاذ منه فوجب أن يكون منهياً عنه إلا أن هذا ضعيف لأن النفث في العقد إنما يكون مذموماً إذا كان سحراً مضراً بالأرواح والأبدان فأما إذا كان هذا النفث لإصلاح الأرواح والأبدان وجب أن لا يكون حراماً
المسألة الثالثة أنه تعالى قال في مفتاح القراءة فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ وقال ههنا أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ وفي موضع آخر وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ وجاء في الأحاديث أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ ولا شك أن أفضل أسماء الله هو الله وأما الرب فإنه قد يطلق على غيره قال تعالى ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ فما السبب في أنه تعالى عند الأمر بالتعوذ لم يقل أعوذ بالله بل قال بِرَبّ الْفَلَقِ وأجابوا عنه من وجوه أحدها أنه في قوله وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنما أمره بالاستعاذة هناك لأجل قراءة القرآن وإنما أمره بالاستعاذة ههنا في هذه السورة لأجل حفظ النفس والبدن عن السحر والمهم الأول أعظم فلا جرم ذلك هناك الاسم الأعظم وثانيها أن الشيطان يبالغ حال منعك من العبادة أشد مبالغة في إيصال الضر إلى بدنك وروحك فلا جرم ذكر الاسم(32/174)
الأعظم هناك دون ههنا وثالثها أن اسم الرب يشير إلى التربية فكأنه جعل تربية الله له فيما تقدم وسيلة إلى تربيته له في الزمان الآتي أو كان العبد يقول التربية والإحسان حرفتك فلا تهملني ولا تخيب رجائي ورابعها أن بالتربية صار شارعاً في الإحسان والشروع ملزم وخامسها أن هذه السورة آخر سور القرآن فذكر لفظ الرب تنبيهاً على أنه سبحانه لا تنقطع عنك تربيته وإحسانه فإن قيل إنه ختم القرآن على اسم الإله حيث قال مَلِكِ النَّاسِ إِلَاهِ النَّاسِ قلنا فيه لطيفة وهي كونه تعالى قال قل أعوذ بمن هو ربي ولكنه إله قاهر لوسوسة الخناس فهو كالأب المشفق الذي يقول ارجع عند مهماتك إلى أبيك المشفق عليك الذي هو كالسيف القاطع والنار المحرقة لأعدائك فيكون هذا من أعظم أنواع الوعد بالإحسان والتربية وسادسها كان الحق قال لمحمد عليه السلام قلبك لي فلا تدخل فيه حب غيري ولسانك لي فلا نذكر به أحداً غيري وبدنك لي فلا تشغله بخدمة غيري وإن أردت شيئاً فلا تطلبه إلا مني فإن أردت العلم فقل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً وإن أردت الدنيا فاسألوا الله من فضله وإن خفت ضرراً فقل أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ فإني أنا الذي وصفت نفسي بأني خالق اوصباح وبأني فالق الحب والنوى وما فعلت هذه الأشياء إلا لأجلك فإذا كنت أفعل كل هذه الأمور لأجلك أفلا أصونك عن عن الآفات والمخافات
المسألة الرابعة ذكروا في الْفَلَقِ وجوهاً أحدها أنه الصبح وهو قول الأكثرين قال الزجاج لأن الليل يفلق عنه الصبح ويفرق فعل بمعنى مفعول يقال هو أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح وتخصيصه في التعوذ لوجوه الأول أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كل هذا العالم يقدر أيضاً أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه ويخشاه الثاني أن طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرج فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظراً لطلوع الصباح كذلك الخائف يكون مترقياً لطلوع صباح النجاح الثالث أن الصبح كالبشري فإن الإنسان في الظلام يكون كلحم على وضم فإذا ظهر الصبح فكأنه صاح بالأمان وبشر بالفرج فلهذا السبب يجد كل مريض ومهموم خفة في وقت السحر فالحق سبحانه يقول قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ يعطي إنعام فلق الصبح قبل السؤال فكيف بعد السؤال الرابع قال بعضهم إن يوسف عليه السلام لما ألقى في الجب وجعت ركبته وجعاً شديداً فبات ليلته ساهراً فلما قرب طلوع الصبح نزل جبريل عليه السلام بإذن الله يسليه ويأمره بأن يدعوا ربه فقال يا جبريل ادع أنت وأؤمن أنا فدعا جبريل وأمن يوسف فكشف الله ما كان به من الضر فلما طاب وقت يوسف قال جبريل وأنا أدعو أيضاً وتؤمن أنت فسأل يوسف ربه أن يكشف الضر عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت فلا جرم ما من مريض إلا ويجد نوع خفة في آخر الليل وروى أن دعاءه في الجب يا عدتي في شدتي ويا مؤنسي في وحشتي ويا راحم غربتي ويا كاشف كربتي ويا مجيب دعوتي ويا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب ارحم صغر سني وضعف ركني وقلة حيلتي يا حي يا قوم يا ذا الجلال والإكرام الخامس لعل تخصيص الصبح بالذكر في هذا الموضع لأنه وقت دعاء المضطرين وإجابة الملهوفين فكأنه يقول قل أعوذ برب الوقت الذي يفرج فيه عن كل مهموم السادس يحتمل أنه خص الصبح بالذكر لأنه أنموذج من يوم القيامة لأن الخلق كالأموات والدور كالقبور ثم منهم من يخرج من داره مفلساً عرياناً لا يلتفت إليه ومنهم من كان مديوناً فيجر إلى الحبس ومنهم من كان ملكاً مطاعاً فتقدم إليه المراكب ويقوم الناس بين يديه كذا في يوم القيامة بعضهم مفلس عن الثواب عار عن لباس التقوى يجر إلى الملك الجبار ومن عبد كان مطيعاً لربه في الدنيا فصار ملكاً مطاعاً في العقبى(32/175)
يقدم إليه البراق السابع يحتمل أنه تعالى خص الصبح بالذكر لأنه وقت الصلاة الجامعة لأحوال القيامة فالقيام في الصلاة يذكر القيام يوم القيامة كما قال يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ والقراءة في الصلاة تذكر قراءة الكتب والركوع في الصلاة يذكر من القيامة قوله نَاكِسُواْ رُؤُوسَهُمْ والسجود في الصلاة يذكر قوله وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ والقعود يذكر قوله وَتَرَى كُلَّ أُمَّة ٍ جَاثِيَة ً فكان العبد يقول إلهي كما خلصتني من ظلمة الليل فخلصني من هذه الأهوال وإنما خص وقت صلاة الصبح لأن لها مزيد شرف على ما قال أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى أي تحضرها ملائكة الليل والنهار الثامن أنه وقت الاستغفار والتضرع على ما قال وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ القول الثاني في الفلق أنه عبارة عن كل ما يفلقه الله كالأرض عن النبات إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى والجبال عن العيون وَإِنَّ مِنْهَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانْهَارُ والسحاب عن الأمطار والأرحام عن الأولاد والبيض عن الفرخ والقلوب عن المعارف وإذا تأملت الخلق تبين لك أن أكثره عن انقلاب بل العدم كأنه ظلمة والنور كأنه الوجود وثبت أنه كان الله في الأزل ولم يكن معه شيء البتة فكأنه سبحانه هو الذي فلق بحار ظلمات العدم بأنوار الإيجاد والتكوين والإبداع فهذا هو المراد من الفلق وهذا التأويل أقرب من وجوه أحدها هو أن الموجود إما الخالق وإما الخلق فإذا فسرنا الفلق بهذا التفسير صار كأنه قال قل أعوذ برب جميع الممكنات ومكون كل المحدثات والمبدعات فيكون التعظيم فيه أعظم ويكون الصبح أحد الأمور الداخلة في هذا المعنى وثانيها أن كل موجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته والممكن لذاته يكون موجوداً بغيره معدوماً في حد ذاته فإذن كل ممكن فلا بد له من مؤثر يؤثر فيه حال حدوثه ويبقيه حال بقائه فإن الممكن حال بقائه يفتقر إلى المؤثر والتربية إشارة لا إلى حال الحدوث بل إلى حال البقاء فكأنه يقول إنك لست محتاجاً إلى حال الحدوث فقط بل في حال الحدوث وحال البقاء معاً في الذات وفي جميع الصفات فقوله بِرَبّ الْفَلَقِ يدل على احتياج كل ما عداه إليه حالتي الحدوث والبقاء في الماهية والوجود بحسب الذوات والصفات وسر التوحيد لا يصفو عن شوائب الشرك إلا عند مشاهدة هذه المعاني وثالثها أن التصوير والتكوين في الظلمة أصعب منه في النور فكأنه يقول أنا الذي أفعل ما أفعله قبل طلوع الأنوار وظهور الأضواء ومثل ذلك مما لا يتأتى إلا بالعلم التام والحكمة البالغة وإليه الإشارة بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لا إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
القول الثالث أنه واد في جهنم أوجب فيها من قولهم لما اطمأن من الأرض الفلق والجمع فلقان وعن بعض الصحابة أنه قدم الشام فرآى دور أهل الذمة وما هم فيه من خصب العيش فقال لا أبالي أليس من ورائهم الفلق فقيل وما الفلق قال بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره وإنما خصه بالذكر ههنا لأنه هو القادر على مثل هذا التعذيب اعظيم الخارج عن حد أوهام الخلق ثم قد ثبت أن رحمته أعظم وأكمل وأتم من عذابه فكأنه يقول يا صاحب العذاب الشديد أعوذ برحمتك التي هي أعظم وأكمل وأتم وأسبق وأقدم من عذابك
مِن شَرِّ مَا خَلَقَ(32/176)
قوله تعالى مِن شَرّ مَا خَلَقَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسير هذه الآية وجوه أحدها قال عطاء عن ابن عباس يريد إبليس خاصة لأن الله تعالى لم يخلق خلقاً هو شر منه ولأن السورة إنما نزلت في الاستعاذة من السحر وذلك إنما يتم بإبليس وبأعوانه وجنوده وثانيها يريد جهنم كأنه يقول قل أعوذ برب جهنم ومن شدائد ما خلق فيها وثالثها مِن شَرّ مَا خَلَقَ يريد من شر أصناف الحيوانات المؤذياب كالسباع والهوام وغيرهما ويجوز أن يدخل فيه من يؤذيني من الجن والإنس أيضاً ووصف أفعالها بأنها شر وإنما جاز إدخال الجن والإنسان تحت لفظة ما لأن الغلبة لما حصلت في جانب غير العقلاء حسن استعمال لفظة ما فيه لأن العبرة بالأغلب أيضاً ويدخل فيه شرور الأطعمة الممرضة وشرور الماء والنار فإن قيل الآلام الحاصلة عقيب الماء والنار ولدغ الحية والعقرب حاصلة بخلق الله تعالى ابتداء على قول أكثر المتكلمين أو متولدة من قوى خلقها الله تعالى في هذه الأجرام على ما هو قول جمهور الحكماء وبعض المتكلمين وعلى التقديرين فيصير حاصل الآية أنه تعالى أمر الرسول عليه السلام بأن يستعيذ بالله من الله فما معناه قلنا وأي بأس بذلك ولقد صرح عليه السلام بذلك فقال ( وأعوذ بك منك ) ورابعها أراد به ما خلق من الأمراض والأسقام والقحط وأنواع المحن والآفات وزعم الجبائي والقاضي أن هذا التفسير باطل لأن فعل الله تعالى لا يجوز أن يوصف بأنه شر قالوا ويدل عليه وجوه الأول أنه يلزم على هذا التقدير أن الذي أمر بالتعوذ منه هو الذي أمرنا أن نتعوذ به وذلك متناقض والثاني أن أفعال الله كلها حكمة وصواب وذلك لا يجوز أن يقال إنه شر والثالث أن فعل الله لو كان شراً لوصف فاعله بأنه شرير ويتعالى الله عن ذلك والجواب عن الأول أنا بينا أنه لا امتناع في قوله أعوذ بك منك وعن الثاني أن الإنسان لما تألم به فإنه يعد شراً فورد اللفظ على وفق قوله كما في قوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا وقوله فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وعن الثالث أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية ثم الذي يدل على جواز تسمية الأمراض والأسقام بأنها شرور قوله تعالى إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وقوله وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ وكان عليه السلام ( وأعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار )
المسألة الثانية طعن بعض الملحدة في قوله قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ مِن شَرّ مَا خَلَقَ من وجوه أحدها أن المستعاذ منه أهو واقع بقضاء الله وقدره أولاً بقضاء الله ولا بقدره فإن كان الأول فكيف أمر بأن يستعيذ بالله منه وذلك لأن ما قضى الله به وقدره فهو واقع فكأنه تعالى يقول الشيء الذي قضيت بوقوعه وهو لا بد واقع فاستعذ بي منه حتى لا أوقعه وإن لم يكن بقضائه وقدره فذلك يقدح في ملك الله وملكوته وثانيها أن المستعاذ منه إن كان معلوم الوقوع فلا دافع له فلا فائدة في الاستعاذة وإن كان معلوم اللاوقوع فلا حاجة إلى الاستعاذة وثالثها أن المستعاذ منه إن كان مصلحة فكيف رغب المكلف في طلب دفعه ومنعه وإن كان مفسدة فكيف خلقه وقدره واعلم أن الجواب عن أمثال هذه الشبهات أن يقال إنه لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وقد تكرر هذا الكلام في هذا الكتاب
وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ(32/177)
قوله تعالى وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ذكروا في الغاسق وجوهاً أحدها أن الغاسق هو اليل إذا عظم ظلامه من قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ ومنه غسقت العين إذا امتلأت دمعاً وغسقت الجراحة إذا امتلأت دماً وهذا قول الفراء وأبي عبيدة وأنشد ابن قيس إن هذا الليل قد غسقا
واشتكيت الهم والأرقا
وقال الزجاج الغاسق في اللغة هو البارد وسمي الليل غاسقاً لأنه أبرد من النهار ومنه قوله إنه الزمهرير وثالثها قال قوم الغاسق والغساق هو السائل من قولهم غسقت العين تغسق غسقاً إذا سالت بالماء وسمي الليل غاسقاً لانصباب ظلامه على الأرض أما الوقوب فهو الدخول في شيء آخر بحيث يغيب عن العين يقال وقب يقب وقوباً إذا دخل الوقبة النقرة لأنه يدخل فيها الماء والإيقاب إدخال الشيء في الوقبة هذا ما يتعلق باللغة وللمفسرين في الآية أقوال أحدها أن الغاسق إذا وقب هو الليل إذا دخل وإنما أمر أن يتعوذ من شر الليل لأن في الليل تخرج السباع من آجامها والهوام من مكانها ويهجم السارق والمكابر ويقع الحريق ويقل فيه الغوث ولذلك لو شهر ( معتد ) سلاحاً على إنسان ليلاً فقتله المشهور عليه لا يلزمه قصاص ولو كان نهاراً يلزمه لأنه يوجد فيه الغوث وقال قوم إن في الليل تنتشر الأرواح المؤذية المسماة بالجن والشياطين وذلك لأن قوة شعاع الشمس كأنها تقهرهم أما في الليل فيحصل لهم نوع استيلاء وثانيها أن الغاسق إذا وقب هو القمر قال ابن قتيبة الغاسق القمر سمي به لأنه يكسف فيغسق أي يذهب ضؤوه ويسود ( و ) وقوبه دخوله في ذلك الاسوداد روى أبو سلمة عن عائشة أنه أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيدها وأشار إلى القمر وقال ( استعيذي بالله من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب ) قال ابن قتيبة ومعنى قوله تعوذي بالله من شره إذا وقب أي إذا دخل في الكسوف وعندي فيه وجه آخر وهو أنه صح أن القمر في جرمه غير مستنير بل هو مظلم فهذا هو المراد من كونه غاسقاً وأما وقوبه فهو انمحاء نوره في آخر الشهر والمنجمون يقولون إنه في آخر الشهر يكون منحوساً قليل القوة لأنه لا يزال ينتقص نوره فبسبب ذلك تزداد نحوسته ولذلك فإن السحرة إنما يشتغلون بالسحر المورث للتمريض في هذا الوقت وهذا مناسب لسبب نزول السورة فإنها إنما نزلت لأجل أنهم سحروا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأجل التمريض وثالثها قال ابن زيد الغاسق إذا وقب يعني الثريا إذا سقطت قال وكانت الأسقام تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها وعلى هذا تسمى الثريا غاسقاً لانصبابه عند وقوعه في المغرب ووقوبه دخوله تحت الأرض وغيبوبته عن الأعين ورابعها قال صاحب الكشاف يجوز أن يراد بالغاسق الأسود من الحيات ووقوبه ضربة ونقبه والوقب والنقب واحد واعلم أن هذا التأويل أضعف الوجوه المذكورة وخامسها الغاسق إِذَا وَقَبَ هو الشمس إذا غابت وإنما سميت غاسقاً لأنها في الفلك تسبح فسمي حركتها وجريانها بالغسق ووقوبها غيبتها ودخلولها تحت الأرض
وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ
قوله تعالى وَمِن شَرّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ فيه مسائل
المسألة الأولى في الآية قولان الأول أن النفث النفخ مع ريق هكذا قاله صاحب الكشاف ومنهم(32/178)
من قال إنه النفخ فقط ومنه قوله عليه السلام إن جبريل نفث في روعي والعقد جمع عقدة والسبب فيه أن الساحر إذا أخذ في قراءة الرقية أخذ خيطاً ولا يزال يعقد عليه عقداً بعد عقد وينفث في تلك العقد وإنما أنت النفاثات لوجوه أحدها أن هذه الصناعة إنما تعرف بالنساء لأنهن يعقدن وينفثن وذلك لأن الأصل الأعظم فيه ربط القلب بذلك الأمر وإحكام الهمة والوهم فيه وذلك إنما يتأتى من النساء لقلة علمهن وشدة شهوتهن فلا جرم كان هذا العمل منهن أقوى قال أبو عبيدة النَّفَّاثَاتِ هن بنات لبيد بن أعصم اليهودي سحرن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وثانيها أن المراد من النَّفَّاثَاتِ النفوس وثالثها المراد منها الجماعات وذلك لأنه كلما كان اجتماع السحرة على العمل الواحد أكثر كان التأثير أشد القول الثاني وهو اختيار أبي مسلم مِن شَرّ النَّفَّاثَاتِ أي النساء في العقد أي في عزائم الرجال وآرائهم وهو مستعار من عقد الحبال والنقث وهو تليين العقدة من الحبل بريق يقذفه عليه ليصير حله سهلاً فمعنى الآية أن النساء لأجل كثرة حبهن في قلوب الرجال يتصرفن في الرجال يحولنهم من رأي إلى رأي ومن عزيمة إلى عزيمة فأمر الله رسوله بالتعوذ من شرهن كقوله إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ فلذلك عظم الله كيدهن فقال إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ
واعلم أن هذا القول حسن لولا أنه على خلاف قول أكثر المفسرين
المسألة الثالثة أنكرت المعتزلة تأثير السحر وقد تقدمت هذه المسألة ثم قالوا سبب الاستعاذة من شرهن لثلاثة أوجه أحدها أن يستعاذ من إثم عملهن في السحر والثاني أن يستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن والثالث أن يستعاذ من إطعامهن الأطعمة الرديئة المورثة للجنون والموت
وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ
قوله تعالى وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ من المعلوم أن الحاسد هو الذي تشتد محبته لإزالة نعمة الغير إليه ولا يكاد يكون كذلك إلا ولو تمكن من ذلك بالحيل لفعل فلذلك أمر الله بالتعوذ منه وقد دخل في هذه السورة كل شر يتوفى ويتحرز منه ديناً وديناً فلذلك لما نزلت فرح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بنزولها لكونها مع ما يليها جامعة في التعوذ لكل أمر ويجوز أن يراد بشر الحاسد إثمه وسماجة حاله في وقت حسده وإظهاره أثره بقي هنا سؤالان
السؤال الأول قوله مِن شَرّ مَا خَلَقَ عام في كل ما يستعاذ منه فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد الجواب تنبيهاً على أن هذه الشرور أعظم أنواع الشر
السؤال الثاني لم عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه الجواب عرف النفاثات لأن كل نفاثة شريرة ونكر غاسقاً لأنه ليس كل غاسق شريراً وأيضاً ليس كل حاسد شريراً بل رب حسد يكون محموداً وهو الحسد في الخيرات
والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(32/179)
سورة الناس
وهي ست آيات مدنية
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَاهِ النَّاسِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَاهِ النَّاسِ فيه مسائل
المسألة الأولى قرىء قُلْ أَعُوذُ بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام ونظيره فَخُذْ أَرْبَعَة ً مّنَ الطَّيْرِ وأيضاً أجمع القراء على ترك الإمالة في الناس وروى عن الكسائي الإمالة في الناس إذا كان في موضع الخفض
المسألة الثانية أنه تعالى رب جميع المحدثات ولكنه ههنا ذكر أنه رب الناس على التخصيص وذلك لوجوه أحدها أن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس فكأنه قيل أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم وهو إلهم ومعبودهم كما يستغيث بعض الموالي إذا اعتراهم خطب بسيدهم ومخدومهم ووالي أمرهم وثانيها أن أشرف المخلوقات في العالم هم الناس وثالثها أن المأمور بالاستعاذة هو الإنسان فإذا قرأ الإنسان هذه صار كأنه يقول يا رب يا ملكي يا إلهي
المسألة الثالثة قوله تعالى مَلِكِ النَّاسِ إِلَاهِ النَّاسِ هما عطف بيان كقوله سيرة أبي حفص عمر الفاروق فوصف أولاً بأنه رب الناس ثم الرب قد يكون ملكاً وقد لا يكون كما يقال رب الدار ورب المتاع قال تعالى اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ فلا جرم بينه بقوله مَلِكِ النَّاسِ ثم الملك قد يكون إلهاً وقد لا يكون فلا جرم بينه بقوله إِلَاهِ النَّاسِ لأن الإله خاص به وهو سبحانه لا يشركه فيه غيره وأيضاً بدأ بذكر الرب وهو اسم لمن قام بتدبيره وإصلاحه وهو من أوائل نعمه إلى أن رباه وأعطاه العقل فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك وهو ملكه فثنى بذكر الملك ثم لما علم أن(32/180)
العبادة لازمة له واجبة عليه وعرف أن معبوده مستحق لتلك العبادة عرف أنه إله فلهذا ختم به وأيضاً أول ما يعرف العبد من ربه كونه مطيعاً لما عنده من النعم الظاهرة والباطنة وهذا هو الرب ثم لا يزال يتنقل من معرفة هذه الصفات إلى معرفة جلالته واستغنائه عن الخلق فحينئذ يحصل العلم بكونه ملكاً لأن الملك هو الذي يفتقر إليه غيره ويكون هو غنياً عن غيره ثم إذا عرفه العبد كذلك عرف أنه في الجلالة والكبرياء فوق وصف الواصفين وأنه هو الذي ولهت العقول في عزته وعظمته فحينئذ يعرفه إلهاً
المسألة الرابعة السبب في تكرير لفظ الناس أنه إنما تكررت هذه الصفات لأن عطف البيان يحتاج إلى مزيد الإظهار ولأن هذا التكرير يقتضي مزيد شرف الناس لأنه سبحانه كأنه عرف ذاته بكونه رباً للناس ملكاً للناس إلهاً للناس ولولا أن الناس أشر مخلوقاته وإلا لما ختم كتابه بتعريف ذاته بكونه رباً وملكاً وإلهاً لهم
المسألة الخامسة لا يجوز ههنا مالك الناس ويجوز مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ في سورة الفاتحة والفرق أن قوله رَبّ النَّاسِ أفاد كونه مالكاً لهم فلا بد وأن يكون المذكور عقيبه هذا الملك ليفيد أنه مالك ومع كونه مالكاً فهو ملك فإن قيل أليس قال في سورة الفاتحة رَبّ الْعَالَمِينَ ثم قال مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ فليزم وقوع التكرار هناك قلنا اللفظ دل على أنه رب العالمين وهي الأشياء الموجودة في الحال وعلى أنه مالك ليوم الدين أي قادر عليه فهناك الرب مضاف إلى شيء والمالك إلى شيء آخر فلم يلزم التكرير وأما ههنا لو ذكر المالك لكان الرب والمالك مضافين إلى شيء واحد فيلزم منه التكرير فظهر الفرق وأيضاً فجواز القراءات يتبع النزول لا القياس وقد قرىء مالك لكن في الشواذ
مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ
قوله تعالى مِن شَرّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الوسواس اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة وأما المصدر فوسواس بالكسر كزلزال والمراد به الشيطان سمي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه نظيره قوله إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ والمراد ذو الوسواس وتحقيق الكلام في الوسوسة قد تقدم في قوله فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ وأما الخناس فهو الذي عادته أن يخنس منسوب إلى الخنوس وهو التأخر كالعواج والنفاثات عن سعيد بن جبير إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان وولى فإذا غفل وسوس إليه
الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ
قوله تعالى الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ
اعلم أن قوله الَّذِى يُوَسْوِسُ يجوز في محله الحركات الثلاث فالجر على الصفة والرفع والنصب على الشتم ويحسن أن يقف القارىء على الخناس ويبتدىء الذي يوسوس على أحد هذين الوجهين(32/181)
مِنَ الْجِنَّة ِوَالنَّاسِ
أما قوله تعالى مِنَ الْجِنَّة ِوَالنَّاسِ ففيه وجوه
أحدها كأنه يقول الوسواس الخناس قد يكون من الجنة وقد يكون من الناس كما قال شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ وكما أن شيطان الجن قد يوسوس تارة ويخنس أخرى فشيطان الإنس يكون كذلك وذلك لأنه يرى نفسه كالناصح المشفق فإن زجره السامع يخنس ويترك الوسوسة وإن قبل السامع كلامه بالغ فيه وثانيها قال قوم قوله مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ قسمان مندرجان تحت قوله في صُدُورِ النَّاسِ كأن القدر المشترك بين الجن والإنس يسمى إنساناً والإنسان أيضاً يسمى إنساناً فيكون لفظ الإنسان واقعاً على الجنس والنوع بالاشتراك والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه الجن والإنس ما روى أنه جاء نفر من الجن فقيل لهم من أنتم فقالوا أناس من الجن أيضاً قد سماهم الله رجالاً في قوله وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ فجاز أيضاً أن يسميهم ههنا ناساً فمعنى الآية على هذا التقدير أن هذا الوسواس الخناس شديد الخنث لا يقتصر على إضلال الإنس بل يضل جنسه وهم الجن فجدير أن يحذر العاقل شره وهذا القول ضعيف لأن جعل الإنسان اسماً للجنس الذي يندرج فيه الجن والإنس بعيد من اللغة لأن الجن سموا جناً لاجتنانهم والإنسان إنساناً لظهوره من الإيناس وهو الإبصار وقال صاحب الكشاف من أراد تقرير هذا الوجه فالأولى أن يقول المراد من قوله يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ أي في صدور الناس كقوله يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ وإذا كان المراد من الناس الناسي فحينئذ يمكن تقسيمه إلى الجن والإنس لأنهما هما النوعان الموصوفان بنسيان حق الله تعالى وثالثها أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس ومن الجنة والناس كأنه استعاذ بربه من ذلك الشيطان الواحد ثم استعاذ بربه من الجميع الجنة والناس
واعلم أن هذه السورة لطيفة أخرى وهي أن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة وهي أنه رب الفلق والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات وهي الغاسق والنفاثات والحاسد وأما في هذه السورة فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاثة وهي الرب والملك والإله والمستعاذ منه آفة واحدة وهي الوسوسة والفرق بين الموضعين أن الثناء يجب أن يتقدر بقدر المطلوب فالمطلوب في السورة الأولى سلامة النفس والبدن والمطلوب في السورة الثانية سلامة الدين وهذا تنبيه على أن مضرة الدين وإن قلت أعظم من مضار الدنيا وإن عظمت والله سبحانه وتعالى أعلم.
تم الكتاب ولله الحمد والمنة والفضل.(32/182)